دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين

ابن علان

مقدمة الشارح

مقدمة الشارح بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي جعل ذكره رياض الصالحين، ومناجاته غذاء أرواح الفالحين والخضوع بين يديه والتضرع إليه عزّ العارفين، والتخلق بالأخلاق المحمدية والأخلاق النبوية شأن العالمين العاملين. أحمده سبحانه على نعمه، وأسأله المزيد من فضله وكرمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تبلغ القاصد من فضله سؤله وأمله، وتنيله من بحر جوده ما قصده وأمله، ويعطيه بها من أنوار العرفان ما أشرق قلبه ونوره وكمله. وأشهد أن سيدنا ونبينا ووسيلتنا إلى ربنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وحبيبه، وخليله، المؤيد بأنواع المعجزات الباهرة، المكرم بالمكرمات الباطنة والظاهرة، الذي لا تحصى نعوته الشريفة ومناقبه، ولا تعدّ ولا تحصر آياته المنيفة ومواهبه. فإن فضل رسول الله ليس له ... حدّ فيعرب عنه ناطق بفم صلَّى اللَّه عَليه وسلَّم، وزاده فضلاً وشرفاً لديه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه ووارثيه العلماء العاملين وأحزابه، صلاة وسلاماً دائمين متلازمين دائبين بدوام ملك الله تعالى وأمداده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته، كلما ذكره ذاكر، وغفل عن ذكره غافل، أداء لبعض حقوق سيد عباده. آمين. وبعد: فهذا ما دعت إليه الحاجة من وضع تعليق لطيف، على نهج منيف، على كتاب «رياض الصالحين» تأليف شيخ الإسلام، علم الأئمة الأعلام، أوحد العلماء العاملين، والأولياء الصالحين، عين المحققين، وملاذ الفقهاء والمحدثين، وشيخ الحفاظ، وإمام أرباب الضبط المتقنين، شيخ الإسلام والمسلمين، الشيخ أبي زكريا يحيى محيي الدين بن شرف النووي الشافعي، تغمده الله برحمته، وأسكنه بحبوح جنته، وأعاد عليّ وعلى المسلمين من بركته، لما أنه قد جمع ما يحتاج إليه السالك في سائر الأحوال، واشتمل على ما ينبغي التخلق به من الأخلاق والتمسك به من الأقوال والأفعال. مغترفاً له من عباب الكتاب والسنة النبوية، ناقلاً لتلك الجواهر من تلك المعادن السنية. ولم أقف على كتابة عليه،

تكون كالدليل للسالك إليه، فاستخرت الله تعالى بالروضة الشريفة النبوية، عند سيد المرسلين، وحبيب رب العالمين، وخاتم الأنبياء والمرسلين، وإمام الخلائق أجمعين وزاده فضلاً وشرفاً لديه، في وضع هذا التعليق عليه، ليكون كالرامز إليه. والمسؤول من الله سبحانه أن يعين على إتمامه. والسداد في تحرير أحكامه، وأن يجعله مصوناً من الخطأ والخطل، محفوظاً من الزيغ والزلل، خالصاً لوجهه الكريم، ذخيرة معدة عند سيدنا ونبينا وشفيعنا سيد المرسلين، عليه أفضل الصلاة والتسليم، وهو المعين، وبه أستعين، وسميته: دليل الفالحين: لطرق رياض الصالحين قال المصنف رحمه الله تعالى:

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(بسم الله الرحمن الرحيم) أي أؤلف، والاسم: مأخوذ من السمو، وهو العلو، وا علم على الذات الواجب الوجود المستحق لجميع المحامد، والرحمن الرحيم، صفتان بنيتا للمبالغة من رحم كعلم، بعد نقله إلى فعل كشرف، أو تنزيله منزلة اللازم، والمراد من الرحمة في حقه تعالى، لاستحالة قيام حقيقتها به من الميل النفساني غايتها، وهو إرادة الإحسان والتفضل، أو نفس الإحسان مجازاً مرسلاً، من إطلاق اللازم وإرادة الملزوم، فعلى الأول تكون صفة ذات، وعلى الثاني تكون صفة فعل. (الحمد) الحمد اللفظي لغة: الثناء باللسان على الجميل الاختياري على جهة التعظيم. وعرفاً: فعل ينبىء عن تعظيم المنعم لكونه منعماً على الحامد أو غيره، فبينهما عموم وخصوص وجهي، وجملة الحمد خبرية لفظاً، إنشائية معنى. وقيل: خبرية لفظاً ومعنى. وقيل: يجوز أن تكون موضوعة شرعاً لإنشاء الحمد، وهي مفيدة لاختصاصه با تعالى، سواء أجعلت أل فيه للاستغراق كما عليه الجمهور، أم للجنس كما عليه الزمخشري، أم للعهد كما أجازه بعضهم، واللام في للاختصاص. وبدأ بالبسملة ثم بالحمدلة اقتداء بالكتاب العزيز، وعملاً بمقتضى خبر «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم» وفي رواية: «بالحمد، فهو أبتر» ، وإشارة إلى أنه لا تعارض بين الابتداءين، إذ الابتداء حقيقي وهو ما لم يسبق بشيء البتة، وإضافي وهو ما سبق بغير ما التصنيف بصدده. أو يقال: الابتداء أمر عرفي يعتبر ممتداً إلى الشروع في المقصود، فيسع أمرين فأكثر (الواحد) أي ذاتاً وصفة وفعلاً، فلا شريك له في شيء منها (القهار) أي: الذي قهر الخلائق وقسرهم بقدرته الأزلية، فلا يكون سوى مراده، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن بوجه من الوجوه (العزيز) أي الذي لا يغالب في حكمه، ولا يدافع في أمره، ولا يمانع في مراده (الغفار) أي الستار على ذنوب العصاة بعدم المؤاخذة بها، وفي التصدير بهذه الأسماء إيماء إلى أنه ينبغي أن

يكون الرجاء والخوف للإنسان أي حال الصحة بمثابة جناحي الطائر، وذلك أنه أشار إلى مقام الخوف بذكر الأسماء الثلاثة، والرجاء بالاسم الأخير والحكمة في المبالغة في المقام الأول أن من شأن النفس - لا سيما عند عدم رياضتها - الميل إلى المخالفات والمنهيات، فصدّر بذكر ما يدل على مقام الخوف، والتحذير من بطشه سبحانه ليكون قائداً للعبد إلى أبواب مولاه وإحسانه وسبباً للانزجار عن المخالفات (مكور الليل على النهار) قال الواحدي في «الوسيط» : أي يدخل هذا على هذا، والتكوير: طرح الشيء على الشيء، واكتفى بذكر تكوير الليل عن ذكر مقابله وإنما اقتصر عليه لشرفه، لأنه موسم الخيرات للسالكين ومحل الاشتغال بالذكر والصلاة والمناجاة مع رب العالمين (تذكرة) مفعول له علة للتكوير أو حال منه (لذوي القلوب) أي لأصحاب القلوب العظيمة (والأبصار) في مفردات الراغب: البصر يقال للجارية الناظرة وللقوة التي فيها ولقوة القلب المدركة، ويقال لها بالمعنى الأخير بصيرة أيضاً اهـ. وعلى كل فالعاطف هنا من عطف المغاير: أما على الأولين فواضح، وأما على الأخير فإن البصر والبصيرة اسمان لقوة القلب المدركة لا للقلب، وأتى به دون البصائر ليكون اللفظ شاملاً لكل ذلك بناء على مذهب إمامنا الشافعي رضي الله عنه، من جواز استعمال المشترك في معانيه ومراعاة للسجع المستلذ في السمع (وتبصرة) هو كالتبصير مصدر لبصر المضاعف كقدم تقدمة وتقديماً (لذوي الألباب) جمع لب: أي العقول ويجمع على ألب كبؤس على أبؤس، ونعم على أنعم. قال في «القاموس» : ويجمع على ألبب. (والاعتبار) والمراد منهم الذين يتفكرون في الآلاء ويعرفون أنها لم تخلق عبثاً وأن له سبحانه في كل مغنى معنى، وما أحسن قول من قال: لا تقل دارها بشرقي نجد كل دار للعامرية دار ولها منزل على كل ماء وعلى كل دمنة آثار فيستدلون بالآثار على عظيم الاقتدار، ويعرفون بما يرد عليهم من الأحوال أنه لهم بذلك متعرف (الذي أيقظ) أي نبه من سنة الغفلة، ففيه استعارة مكنية يتبعها استعارة تخييلية شبه الغفلة بالنوم بجامع انتفاء الكمال في كل منهما، وقد ورد في الحديث: «مثل الذي يذكر الله والذي لا يذكر الله مثل الحي والميت» . والتشبيه المضمر في النفس استعارة مكنية وإثبات الإيقاظ الذي هو من لوازم المشبه به استعارة تخييلية (من خلقه) أي:

مخلوقاته، وهو بيان لمن في قوله: (من اصطفاه) من الصفوة بتثليث الصاد وهو الخلوص: أي اختاره (فزهدهم في هذه الدار) أي في الدنيا يعني: لما أيقظهم أدركوا حقيقة الدنيا وأنها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء فزهدوا فيها وأعرضوا عن زهراتها، وأخذوا منها قدر الضرورة، وجعلوا ما وصل إليهم من ذلك من غير تطلع إليه مقدماً بين أيديهم وعند مولاهم ذخيرة (وشغلهم) بتخفيف الغين المعجمة وتشديدها للمبالغة (بمراقبته) أي بدوام نظر أنه سبحانه وتعالى ناظر لأعمالهم محيط بأقوالهم وأفعالهم فأقبلوا على إحسان العمل، وحفظوا أنفسهم من الزيغ والزلل، إذ لا يقع العصيان إلا مع الغفلة المعترية للإنسان (ومداومة) وفي نسخة وإدامة (الافتكار) أي: التفكر في مصنوعاته والاستدلال بذلك على ألوهيته وعظيم قدرته، قال تعالى: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض} (آل عمران: 190 - 191) - الآية. وفي الحديث: «تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في ذات الله» وجاء بلفظ: «تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق، فإنكم لا تقدرون قدره» وفي الحديث أيضاً مرفوعاً كما في «الكشاف» : «بينما رجل مستلق في فراشه إذ رفع رأسه إلى النجوم وإلى السماء فقال: أشهد أن لك رباً وخالقاً، اللهم اغفر لي، فنظر الله إليه فغفر له» . فقال: «لا عبادة كالتفكر» وقيل: الفكرة تذهب الغفلة، وتحدث للقلب الخشية كما يحدث الماء للزرع والنبات، وما جليت القلوب بمثل الأحزان، ولا استنارت بمثل الفكرة» . وقد روي: «أن يونس عليه السلام كان يرفع له في كل يوم مثل عمل أهل الأرض» قالوا: وإنما كان ذلك للتفكر في أمر الله الذي هو عمل القلب، لأن أحداً لا يقدر أن يعمل بجوارحه في اليوم مثل عمل أهل الأرض. انتهى ما في «الكشاف» . قال ابن عباس وأبو الدرداء: فكرة ساعة خير من قيام ليلة. قال السريّ السقطي: ساعة خير من عبادة سنة، ما هو إلا أن تحل أطناب خيمتك فتجعلها في الجنة، كذا في شرح رسالة ابن أبي زيد لداود: (وملازمة الاتعاظ) أصله الإيتعاظ بياء تحتية ساكنة بعد الهمزة المكسورة وبعدها تاء الافتعال فقلبت الياء تاء فوقية وأدغمت في تاء الافتعال على القاعدة في ذلك: أي: أنهم كلما نزل بهم فقد شيء من مال أو إنسان اتعظوا بذلك ونظروا إلى أن مآل الجمع الفناء، وأن ما نزل بأخيك كأنه قد نزل بك. فالسعيد من اتعظ بغيره وأقبل على ما فيه في المعاد أنواع خيره (و) ملازمة (الادكار)

بالمعجمة والمهملة وأصله اذتكار بمعجمة ثم فوقية، فأبدلت الفوقية لما في التلفظ بها بعد الذال المعجمة من الثقل ذالاً معجمة أو مهملة وأدغم فيها فاء الفعل، والاذكار هو الذكر بعد النسيان والتنبه بعد سنة الغفلة (ووفقهم) من التوفيق، وهو خلق القدرة على الطاعة في العبد، وهو عزيز ولذا لم يذكر في القرآن إلا في قوله تعالى: {وما توفيقي إلا با} (هود: 88) وأما قوله تعالى: {إن أردنا إلاّ إحساناً وتوفيقاً} (النساء: 62) وقوله تعالى: {يوفق الله بينهما} (النساء: 35) فمن مادة الوفاق (للدءوب) أي: المداومة والاجتهاد (في) مزاولة (طاعته والتأهب) أي: الاستعداد (لدار القرار) أي: الدار الآخرة (والحذر) بالجر عطفاً على الدءوب أو على التأهب قولان في مثله، الراجح منهما الأوّل، ما لم تقم قرينة على خلافه (مما يسخطه) أي يكون سبباً لسخطه سبحانه من المخالفات والعصيان. وفي «مفردات الراغب» : السخط من الله تعالى إنزال العقوبة اهـ. وهو بيان للمراد منه إذا وصف به الباري سبحانه: (ويوجب دار البوار) كالمفسر للسخط، ثم الذي يوجب النار هو الموت على الكفر والعياذ با تعالى، وفي نسبة الإيجاب إليه تجوّز في الإسناد، إذ الموجب لذلك بذلك هو الله سبحانه وتعالى: أما في العصيان فالصغائر المتصلة بحقوق الله تعالى مكفرة بصالح العمل ومنه اجتناب الكبائر، والمتعلقة بحق العباد لا بد من إرضاء مستحقها، والكبائر لا يكفرها إلا التوبة أو فضل الله سبحانه (و) وفقهم لـ (لمحافظة على ذلك) أي: المذكور من الدءوب في الطاعة والحذر مما يوجب السخط (مع تغاير الأحوال) أي: اختلافها، ظرف وقع حالاً من المحافظة، يعني: أن تغاير الأحوال: أي اختلافها بالخصب والجدب والرخاء والشدة والفراغ والشغل بالتجارة ونحوها من مزاولة أعمال النفس والعيال لم يؤثر في سلوكهم وإقبالهم على عبودية مولاهم من امتثال أوامره واجتناب زواجره إجلالاً له سبحانه، قال الله تعالى: {رجال

لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر ا} (النور: 37) وقال: «ليذكرنّ الله قوم على الفرش الممهدة» . وقال الشاعر: فلو قطعتني إرباً فإربا لما حن الفؤاد إلى سواكا والأحوال جمع حال يجوز تذكير لفظها وتأنيثه بأن يقال: حالة وتذكير معناها وتأنيثه، والأرجح تأنيث معناها فيقال: حال حسنة. قال الراغب في «مفرداته» : الحال ما يختص به الإنسان وغيره من أموره المتغيرة في نفسه وجسمه وشأنه والحول: ماله من القوة في أحد هذه الأصول الثلاثة (و) تغاير (الأطوار) أي: الاختلاف في الخلق والخلق كما يفهم من مفردات الراغب (أحمده) أي: أصفه بجميع صفاته إذ كل منها جميل، ورعاية جميعها أبلغ في التعظيم، قيل: وهو أبلغ من الأول لأنه حمد بجميع الصفات برعاية الأبلغية وذاك بواحد منها وهي المالكية وإن لم تراع الأبلغية بأن يراد الثناء ببعض الصفات فذلك البعض أعم من هذه الواحدة لصدقه بها وبغيرها على الكثير، فالثناء بهذا أبلغ في الجملة أيضاً، نعم الثناء بالأول من حيث تفصيله: أي تعيينه أوقع في النفس من هذا، وقيل: بل التحقيق أن الحمد بالأول أبلغ وأفضل ومن ثم قدم، بل أخذ البلقيني من إيثار القرآنـ الحمد ربّ العالمينـ بالابتداء به أنه أبلغ صيغ الحمد. وعلى الأول فآثر القرآن الجملة الإسمية لأن الحمد فيه لمقام التعليم، والتعيين فيه أولى، وجمع بين الحمد بالجملتين تأسياً بحديث: «إن الحمد نحمده» وليجمع بين ما يدل على دوام الحمد واستمراره وهو الأول وعلى تجدده وحدوثه وهو الثاني (أبلغ حمد) أي: أنهاه من حيث الإجمال لا التفصيل لعجز الخلق عنه حتى الرسل حتى أكملهم نبينا حيث قال: «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» (وأزكاه، وأشمله) أعمه (وأنماه) أكمله (وأشهد) أي: أعلم وأبين (أن لا إله) أي: لا معبود بحق (إلا ا) بالرفع وجوّز فيها النصب، وقد بسطت الكلام في ذلك في باب فضل الذكر من شرح الأذكار للمصنف رحمه الله تعالى، وأتى بها الحديث أبي داود والترمذي الصحيح «كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء» أي: القليلة البركة (البر) بفتح الموحدة. قال في «النهاية» : هو العطوف

على عباده ببرّه ولطفه، والبرّ والبار بمعنى واحد، وإنما جاء في اسم الله تعالى البرّ دون البارّ (الكريم) . قال البيضاوي: هو من صفات الذات، وا تعالى لم يزل ولا يزال كريماً، ومعناه تقدسه عن النقائص والصفات المذمومة، والنفيس يقال له: كريم، ومنه كرائم الأموال. وقيل: الكريم الدائم البقاء، الجليل الذات الجميل الصفات. وقيل: هو من صفات الأفعال، وعليه فقيل: هو من ينعم قبل السؤال ولا يحوجك إلى وسيلة ولا يبالي من أعطى ولا ما أعطى، وقيل غير ذلك مما ذكرت بعضه ثمة (الرؤوف الرحيم) الرأفة شدة الرحمة فهو أبلغ من الرحيم وأخرـ والقياس يقتضي الترقي من الأدنى للأعلى - مراعاة للسجع، وقيل: الفرق بين الرأفة والرحمة أن الرأفة إحسان مبدؤه شفقة المحسن والرحمة إحسان مبدؤه فاقة المحسن إليه، ثم الرحمة لكونها عطفاً نفسانياً يستحيل قيامها به تعالى المراد بها غايتها كما تقدم قريباً. قال ابن حجر الهيتمي: وهو مرادي إذا أطلقت لفظ ابن حجر في «شرح المشكاة» : الرأفة باطن الرحمة، والرحمة من أخص أوصاف الإرادة بناء على أنها صفة ذات: أي: إرادة الإنعام، ومنه كشف الضرّ ودفع السوء بنوع من اللطف، والرأفة بزيادة رفق ولطف، وفي الإتيان بهذه الأسماء في هذا المقام إيماء إلى أن التوفيق إلى سلوك مقام العبودية والخروج عن أوصاف البشرية من محض عطاء وكرم البرّ الكريم، ورأفة ورحمة الرؤوف الرحيم قال تعالى: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً ولكن الله يزكي من يشاء} (النور: 21) وقال من قال: لولا تعرّفهم ما كنت تعرفهم (وأشهد أن سيدنا محمداً) علم منقول من اسم المفعول المضعف، سمي به نبينا - مع أنه لم يؤلف قبل أوان ظهوره بإلهام من الله لجدّه عبد المطلب، إشارة إلى كثرة خصاله المحمودة، ورجاء أن يحمده أهل الأرض والسماء وقد حقق الله تعالى رجاءه. يميل وكما اشتملت ذاته على كمال سائر الأنبياء والمرسلين اشتمل اسمه الشريف بحساب الجمل على عدة الرسل بناء على أنهم ثلاثمائة وأربعة عشر (عبده) قدم لأنه أسنى أوصافه، ومن ثم ذكر في أفخم مقاماتهـ أسرى بعبده. نزل الفرقان على عبده. فأوحى إلى عبدهـ قال: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» أي: لا أفتخر بالسيادة، إنما فخري بعبوديته سبحانه وتعالى، ذكره العارف أبو العباس المرسي (ورسوله) هو من البشر، ذكر

أوحى إليه بشرع وأمر بتبليغه، فإن لم يؤمر فنبي فحسب، وهو أفضل من النبيّ إجماعاً لتمييزه بالرسالة التي هي على الأصح خلافاً لابن عبد السلامـ أفضل من النبوّة فيه. وزعم تعلقها بالحق يرده إلى أن الرسالة فيها ذلك مع التعلق بالخلق فهو زيادة كمال فيها (وحبيبه) الأكبر كما يشهد به حديث: «ألا وأنا حبيب الله ولا فخر» إذ محبة الله للعبد المستفادة من قوله تعالى: {يحبهم ويحبونه} على حسب معرفته به، وأعرف الناس با تعالى نبينا، فهو أحبهم له وأخصهم باسم الحبيب، وسيأتي الكلام على المحبة إن شاء الله تعالى في قوله في الحديث القدسي: «قال الله تعالى: «ومن عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب} ، ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبه» الحديث. وحبيب فعيل بمعنى مفعول من أحبه فهو محب أو من حبه يحبه بكسر الحاء فهو محبوب (وخليله) الأعظم كما يؤذن به حديث: «لو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً» وهو فعيل بمعنى مفعول أيضاً، من الخلة بالفتح: وهي الحاجة، أو بالضم، وهي تخلل المودة في القلب لا تدع فيه خلاء إلا ملأته، وقد خالل قلبه من أسرار الهيبة ومكنون الغيوب والمعرفة والاصطفاء ما لم يدع أن يطرق قلبه نظر لغيره. هكذا قال ابن حجر. ثم اقتصاده على كون فعيل فيه بمعنى مفعول لعله لكونه أنسب بمقام الأدب وأشرف، لكونه المختار للخلة التي هي غاية الأرب، وإلا ففي «النهاية» : الخليل الصديق فعيل بمعنى فاعل، وقد يكون بمعنى مفعول من الخلة بضم أوله الصداقة والمحبة التي تخللت القلب فصارت في خلاله أي باطنه. وقيل: هي تخلل المودة في القلب بحيث لا تدع فيه خلاء إلا ملأته، أو من الخلة بالفتح: وهي الحاجة والفقر اهـ. ثم الذي رجحه جمع متأخرون كالبدر الزركشي وغيره أن الخلة أرفع لأنها نهاية المحبة وغايتها. قال ابن القيم: وظن أن المحبة أرفع من الخلة وأن إبراهيم خليل ومحمداً حبيب غلط وجهل، وما احتج به لأن المحبة أرفع من الخلة من نحو حديث البيهقي أنه تعالى قال له ليلة الإسراء: «يا محمد سل تعط فقال: يا ربّ إنك اتخذت إبراهيم خليلاً، فقال: ألم أعطك خيراً من هذا؟» إلى قوله: «واتخذتك حبيباً» وإن الحبيب يصل بلا واسطة بخلاف الخليل، قال تعالى في نبينا: {فكان قاب قوسين أو أدنى} (النجم: 9) وفي إبراهيم: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض} (الأنعام: 75) والخليل

قال: {لا تخزني} (الشعراء: 87) والحبيب قيل له: {يوم لا يخزي الله النبيّ} (التحريم: 8) وغير ذلك إنما يقتضي تفضيل ذات محمد صلى الله عليه وآله وسلم على ذات إبراهيم عليه السلام مع قطع النظر عن وصفي المحبة والخلة، وهذا لا نزاع فيه، وإنما النزاع في الأفضلية المستندة إلى أحد الوصفين، والذي قامت عليه الأدلة أن استنادها إلى وصف الخلة الموجودة في كل من الخليلين أفضل، فخلة كل منهما أفضل من محبته، واختصا بها لتوفر معناها السابق فيهما أكثر من بقية الأنبياء ولكون هذا التوفر في نبينا أكثر منه في إبراهيم كانت خلته أرفع من خلة إبراهيم صلى الله عليهما وسلم اهـ. (الهادي) أي: الدالّ (إلى صراط) قال الراغب: الصراط الطريق المستقيم اهـ، فيكون قوله: (مستقيم) إما إطناباً أو جرّد لفظ الصراط وأريد منه مطلق الطريق، وفيه اقتباس من قوله تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} (الشوى: 52) وليس شرط الاقتباس إيراد اللفظ القرآني من غير تغيير، بل يحصل وإن وجد التغيير. نقله الحافظ السيوطي في أوائل حاشيته على «تفسير البيضاوي» . وقوله: (والداعي إلى دين قويم) هي الشريعة الحنيفية السمحة التي جاء بها إلى أمته أشرف الأمم إطناب لأن ما قبله بمعناه، أو من عطف العام على الخاص، لأن الهداية الدلالة بلطف والدعوة تشمل ذلك وغيره (صلوات الله وسلامه عليه) الصلاة منه تعالى رحمة مقرونة بتعظيم ولفظها مختص بالمعصوم من نبي وملك تعظيماً لهم وتمييزاً لمراتبهم عن غيرهم، والسلام هو تسليمه إياه من كل آفة ونقص والجملة خبرية لفظاً إنشائية معنى، وأتى بالصلاة بعد الحمد لحبر «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله والصلاة عليّ فهو أقطع أبتر ممحوق من كل بركة» وسنده ضعيف لكنه في الفضائل وهي يعمل فيها بذلك، وخبر «من صلى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كتاب صلت عليه الملائكة غدوة ورواحاً ما دام اسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الكتاب» نازع ابن القيم في رفعه، قال: والأشبه أنه من كلام جعفر بن محمد لا مرفوع (وعلى سائر) أي: باقي من السؤر بالهمز بقية نحو الطعام (النبيين) من تعريف النبيّ وأنه أعم من الرسول (وآل كل) أي كل واحد من النبيين فحذف المضاف إليه لدلالة السياق عليه،

وأصل آل أول بفتح الواو تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً. وقيل: أهل لتصغيره على أهيل. والصحيح جواز إضافته إلى الضمير. وآل نبينا عند الشافعي مؤمنو بني هاشم والمطلب، هذا بالنسبة لنحو الزكاة دون مقام الدعاء، ومن ثم اختار الأزهري وغيره من المحققين أنهم هنا كل مؤمن تقي لحديث فيه: «وآل إبراهيم» : إسماعيل وإسحاق وغيرهما من المسلمين من ذريته (وسائر الصالحين) وهم القائمون بحققوق الله وحقوق في العباد، فدخل الصحابة كلهم لثبوت وصف الصلاح والعدالة لجميعهم، ودخل غيرهم ممن اصنف بذلك جعلنا الله منهم. (أما بعد) كلمة يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى آخر، وأتى به تأسياً به فإنه كان يأتي بها في خطبه ونحوها كما يصح عنه بل رواها عنه اثنان وثلاثون صحابياً والمبتدىء بها قيل داود عليه السلام، فهي فصل الخطاب الذي أوتيه لأنها تفصيل بين المقدمات والمقاصد والخطب والمواعظ. قال العلقمي في حاشيته «الجامع الصغير» : وبهذا قال كثير من المفسرين وقيل: قس بن ساعدة، وقيل كعب بن لؤي، وقيل: يعرب بن قحطان، وقيل: سحبان بن وائل وعليها ففصل خطاب داود هو: «البينة على المدعى، واليمين على من أنكر» وقال المحققون فصل الخطاب: الفصل بين الحق والباطل. ويجوز في دالها الضم والفتح. منوّناً وغير منوّن ووجوه ذلك لا تخفى. لكنها منوّنا تكون على لغة من يقف على المنوّن المنصوب بالسكون وهم ربيعة، ولكون «أما» نابت عن اسم شرط هو مهما أجيبت بالفاء، إذ التقدير: مهما يكن من شيء بعد ما تقدم من الحمد والصلاة والسلام: (فقد قال الله تعالى) : عما لا يليق بشأنه، وهي جملة في محل الحال اللازمة إن أبقيت على خبريتها، وإلا فاستئنافية مسوقة لإنشاء الثناء عليه سبحانه {وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون} . قال الكواشي في «تفسيره الكبير» : أومأ تعالى إلى أنه لم يخلق ولم يرسل رسله عبثاً، وإنما خلقهم لأمر عظيم هو توحيده وطاعته مع غناه عن ذلك تفضيلاً لهم وتشريفاً، ثم هذا خاص بأهل الطاعة من الفريقين، ويؤيده أنه قرىء: {وما خلقت الجنّ والإنس من المؤمنين} وقيل: عام معناه ما خلقتهم إلا لآمرهم بالعبادة لقوله: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} (البينة: 5) وقيل المعنى: ما خلقت السعداء

من الفريقين إلا لعبادتي والأشقياء منهما إلا لمعصيتي. وقيل إلا ليعبدون: ليعرفون، لأنه لو لم يخلقهم لم يعرفوا وجوده كقوله: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ ا} وأصل العبادة الخضوع والتذلل، والمعنى: إلا ليخضعوا ويتذللوا، وكل مخلوق خاضع ذليل لقضاء الله تعالى، وقيل: إلا ليعبدون: ليوحدون، فالمؤمن يوحده في كل حال والكافر يوحده في الضراء لقوله تعالى: {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين} (العنكبوت: 65) وقال بعضهم: إلا ليعرفون ويعبدون على بساط المعرفة ليتبرّءوا من الرياء والسمعة. وقال ابن عطاء: إلا ليعرفون، وما يعرفه حقيقة من وصفه بما لا يليق به اهـ. وللزمخشري في «كشافه» في هذه الآية رمز إلى دسيسة اعتزالية نبهت عليها في «شرح الأذكار» ولما كلفهم خدمته أخبرهم أنه قد كفاهم مؤنة ما يحتاجون إليه فقال تعالى: {ما أريد منهم من رزق} أي: ما أريد أن يرزقوا أنفسهم ولا أحداً من خلقي «وما أريد أن يطعمون» يعني: أنفسهم ولا أحداً من خلقي، ونسب الإطعام إلى الله لأن الخلق عياله سبحانه، ومن أطعم عيال أحد فكأنما أطعمه (وهذا) أي القول المدلول عليه بقوله: قال الله تعالى: (تصريح بأنهم خلقوا للعبادة) أي: فقط كما يفيده الاستثناء: أي خلقوا لذلك لا لجمع الدنيا والأرزاق ونحوها مما يحتاج إليه، فإن الله تعالى قد كفاهم مؤنة ذلك، ولذا عقب هذه الآية بقوله كما تقدم: {ما أريد منهم من رزق} {فحق} أي: وجب وفي نسخة بتنوينه أي فواجب فيكون خبراً لقوله الاعتناء {عليهم الاعتناء بما خلقوا له} والاعتناء توجيه العناية إلى ما خلقوا له من معرفة الله تعالى وأداء حق العبودية {والإعراض} أي التولي، يقال: أعرض عن كذا ولي مبدياً عرضه، قال

تعالى: {وأعرض عن الجاهلين} (الأعراف: 199) كذا في «مفردات الراغب» (عن حظوظ الدنيا) أي: الترفهات المعتادة الزائدة على ما به القوام من دار تكنه وثوب يستر عورته وجريش الخبز والماء، قال: «لا حقّ لابن آدم إلا في ثلاثة: طعام يقيم به صلبه وثوب يواري به عورته، وبيت يكنه، فما زاد فهو حساب» أورده الغزالي في «الإحياء» . وقال العراقي في تخريج أحاديثه: رواه الترمذي، وقال: وجلف الخبز والماء بدل قوله: طعام يقوم به صلبه، وقال: صحيح. أما حقوق الدنيا مما ذكر فالإعراض عنه ليس بمطلوب، لكن من غير أن يشغله ذلك عن القيام بفريضة الوقت (بالزهادة) مصدر كالزهد وسيأتي تعريفه (فإنها) أي: الدنيا (دار نفاد) أي: فناء، قال الله تعالى: {إن هذا لرزقنا ما له من نفاد} (ص: 54) (لا محل إخلاد) عدل إليه عن خلود للسجع (ومركب عبور لا منزل حبور) أي: إنها مركب يتوصل بها إلى الدار الآخرة، وليست منزل الفرح والسرور. قال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» وأخرج الترمذي وغيره حديثاً فيه أنه قال: «ما لي وللدنيا/ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظلّ تحت شجرة ثم راح وتركها» (ومشرع انفصام) أي: انقطاع، (لا موطن دوام) ولا يخفى ما في عبارته من الاستعارات، وذلك أنه شبه الدنيا أولاً بالمركب الذي يتوصل به إلى المكان المراد بجامع أن كلاً منهما يتوصل لما بعده، فالدنيا لا يوصل بها إلى الآخرة إلا بالعبور فيها والمرور منها لسبقها عليها، والبلد المراد لا يوصل إليه إلا بركوب نحو الدابة. وثانياً بالمشرع: أي محل الماء بجامع الورود لكل، وأطلق عليها اسم المشبه به ففيه تشبيه بليغ (فلهذا) أي: ما ذكر (كان الأيقاظ) جمع يقظ بكسر القاف. في «النهاية» : رجل فطن ويقظ

ويقظان: إذا كان فيه معرفة وفطنة اهـ. (من أهلها) أي: الدنيا (هم العباد) وأعلاهم فيها أرباب العرفان با (وأعقل الناس فيها هم الزهاد) قال الدميري في «منظومة رموز الكنوز» : وأكيس الناس وأعقل الورى هم الذين زهدوا فيما ترى إذ نبذوا الدنيا لعلمهم بها ورغبوا في أختها لقربها (قال الله تعالى) : مبيناً حال الدنيا في زوالها وسرعة تحولها وانتقالها {إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به} أي اختلط بسبب المطر {نبات الأرض} واشتبك بعضه في بعض. ومحل {مما يأكل الناس والأنعام} حال من نبات أو صفة له {حتى إذا أخذت الأرض زخرفها} زينتها وحسنها وظهر الزهري {وازينت} بالزهر والنبات. وقرىء {وأزينت} مخففة «وازيانت» كابياضت {وظن أهلها أنهم قادرون عليها} متمكنون من تحصيل ثمارها {أتاها أمرنا} قضاؤنا {ليلاً أو نهاراً} أي في أحدهما {فجعلناها} أي فجعلنا زرعها {حصيداً} أي محصوداً {كأن لم تغن} لم تقم {بالأمس} بالزمان الماضي لا اليوم الذي قبل يومك فقط، وقرىء «يغن» بالتحتية ذكره الكواشي في «التفسير الصغير» {كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون} . قال البيضاوي: الآية في الأصل العلامة الظاهرة، وتقال للمصنوعات من حيث إنها تدل على وجود الصانع وعلمه وقدرته، ولكل طائفة من كلمات القرآن المتميزة عن غيرها بفصل، واشتقاقها من أي لأنها تبين أياً من أي، أو من أوى إليه وأصلها أية أو أوية كتمرة فأبدلت عينها على غير قياس، أو أيية أو أوية كرمكة

فأعلت، أو آئية كقاتلة فحذفت الهمزة تخفيفاً اهـ. (والآيات في هذا المعنى كثيرة) منها قوله تعالى: {واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح} (الكهف: 45) (ولقد أحسن القائل) في بيان سرعة فناء الدنيا (إن عباداً) عظمين كما يؤذن به التنوين (فطنا) بضم الفاء وفتح الطاء المهملة جمع فطن: من له عقل ونظر في العواقب (طلقوا الدنيا) كناية عن الزهد فيها وترك الاشتغال بشأنها (وخافوا الفتنا) بكسر الفاء وفتح الفوقية جمع فتنة: وهي الامتحان والاختبار كما في «النهاية» . وفي «مفردات الراغب» : الفتنة تستعمل في إدخال الإنسان النار أو فيما يحصل عنه العذاب وفي الاختبار جعلت الفتنة كالبلاء في أنهما يستعملان فيما يعتري الإنسان من شدة ورخاء، وهما في الشدة أظهر معنى وأكثر استعمالاً اهـ. والحاصل أن الفتن المترتبة على الاشتغال بالدنيا ومخالطتها كثيرة كالشره وجمع المال من غير اعتبار حله والضنة به ومنع الحق الواجب فيه والتكبر والعجب (نظروا فيها) أي: نظروا في الدنيا يعين البصيرة فعرفوا سرعة زوالها وتحولها وانتقالها «كأنك بالدنيا ولم تكن وبالآخرة ولم تزل» (فلما علموا) بجلاء البصيرة أي شهدوا ذلك وصار لهم حالاً ومذاقاً، وإلا فكل عاقل يعلم أن الدنيا دار زوال وانتقال، لكن حجبت بصائرهم غشاوة الغفلة، فمالوا إلى لذاتها مع علمهم بحقيقة ذاتها (أنها ليست لحي وطناً) أي: داراً يتوطن فيها على الأبد، لأن الإنسان في هذه الدار كالمسافر المرتحل، وقد سبق حديث: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» وقال الشاعر في المعنى: ألا إنما الدنيا كمنزل راكب أقام عشياً وهو بالصبح رائح والوطن الحقيقي هو الدار الآخرة التي لا نهاية لآخرها بإرادة الله تعالى وقدرته كما جاء في الحديث «يا أهل الجنة خلود بلا موت ويا أهل النار خلود بلا موت» . قال بعضهم: هذا هو المراد من حديث «حبّ الوطن من الإيمان» أي: فينبغي لكامل الإيمان أن يعمر وطنه

بالعمل الصالح والإحسان (جعلوها لجة) في «النهاية» : لجة البحر معظمه، والمراد أنهم جعلوها بمثابة البحر الذي يتوصل بالعبور فيه إلى المقصد، ففي العبارة تشبيه بحذف الأداة (واتخذوا صالح الأعمال) من إضافة الصفة لموصوفها (فيها) أي في اللجة (سفنا) فيه أن العمل الصالح بمثابة المركب الذي بعبر به لجة البحر، وقد جاء في الحديث أن صاحب العمل الصالح يركبه يوم القيامة قال تعالى: {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً} (مريم: 85) كما أن العمل السيء يركب صاحبه قال تعالى {وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم} (الأنعام: 31) (فإذا كان حالها ما وصفته) من الزوال وسرعة التحول والانتقال (وحالنا وما خلقنا له) عطف تفسير لما قبله. وفي نسخة بحذف العاطف قبل ما، فيكون حالنا مبتدأ أولاً. وما موصولاً اسمياً مبتدأ ثانياً، وقوله (ما قدمته) خبراً عنه وهو وما قبله خبر الأول، أو يكون «ما» تابعاً لحالنا وما بعده خبراً عما قبله، والمراد من قوله ما قدمته: أي من القيام بأعباء العبادة (فحق) أي: واجب بناء على تنوينه، وهو كذلك بالقلم بضبط محدث اليمن الشيخ «سليمان العلوي» أو فحق أي وجب وثبت (على المكلف) البالغ العاقل، سمي بذلك لأنه مأمور بما فيه كلفة (أن يذهب بنفسه مذهب الأخيار) وأن ومدخولها خبر أو فاعل حق، والأخيار: هم القائمون بما أمروا به والتاركون لما نهوا عنه جمع خير أو خير على الحذف للتخفيف كأموات جمع ميت أو ميت، كذا في إعراب «الهمداني» المسمى بـ «العقد الفريد» (ويسلك مسلك أولى) أي: أصحاب لا واحد له من لفظه بل من معناه وهو ذو، وكتبت الواو بعد همزته حال النصب والجرّ فرقاً بينه وبين إلى الجارة وحملت حالة الرفع عليهما (النهى) بضم النون جمع نهية بالضم: أي العقول والألباب، سميت بذلك لأنها تنهي صاحبها عن القبيح (والأبصار) جمع بصر بمعنى البصيرة: أي القلب. في «مفردات الراغب» يقال لقوة القلب المدركة بصيرة وبصر نحوـ {فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} (ق: 22) - وجمع البصر أبصار وجمع البصيرة بصائر، ولا يكاد يقال للجارحة بصيرة (ويتأهب) من الأهبة (لما أشرت إليه) من أداء العبودية، والإعراض عن أعراض الدنيا

الدينية (ويهتم) أي يعتني بهمته (لما نبهت عليه) من الذهاب مذهب الأخيار، وسلوك مسلك أُولي النهى والأبصار، (وأصوب طريق له في ذلك) أي: في تحصيل ذلك، وفيه رمز إلى أن طرق المشايخ وإن كان فيها بعض محدثات كالخلوات وبعض الأعمال هي صواب أيضاً لما فيها من رياضة النفوس ومجاهدتها حتى تدخل زمام العبودية وللوسائل حكم المقاصد (وأرشد ما يسلكه من المسالك) جمع مسلك مكان السلوك (والتأدّب بما صح عن نبينا) لو قال بما جاء لكان أعم، لأن الحديث الحسن كالصحيح في «الأحكام» وغيرها، والضعيف يتأدب به في فضائل الأعمال ويأخذ به في «الترغيب والترهيب» . ويمكن أن يقال ما ذكر من الضعيف وإن عمل به فيما ذكر أن العمل بما صح أصوب وأرشد. وتظهر ثمرة ذلك عند تعارض صحيح وضعيف، فالتعبد بالصحيح هو الأصوب والأرشد، والضعيف فيما يعمل به فيه من الصواب والرشاد. والحسن داخل فيما صح بأن يراد به ما يقابل الضعيف. والأدب. قال الحافظ السيوطي في «التوشيح» : هو استعمال ما يحمد قولاً وفعلاً. وقيل الأخذ بمكارم الأخلاق، وقيل الوقوف مع المستحسنات، وقيل تعظيم من فوقك والرفق بمن دونك يقال إنه مأخوذ من المأدبة وهي الدعوة إلى الطعام، سمي به لأنه يدعى إليه اهـ. والحديث الصحيح بالمعنى الشامل للحسن: ما اتصل سنده بنقل العدل الضابط له عن مثله وسلم من العلة والشذوذ، أو بنقل المغفل أو كثير الخطإ وجاء من طرق أخرى (سيد الأوّلين) حتى جميع الأنبياء والمرسلين (و) سيد (الآخرين وأكرم السابقين) من الخلق (واللاحقين) منهم: أي: أجمعهم لأنواع الخير والشرف والفضائل، فهو سيد الخلائق وأكرمهم كلهم بشهادة قوله: «أنا سيد الناس يوم القيامة» رواه البخاري، وقوله: «أنا سيد العالمين» رواه البيهقي. والعالمون وإن اختص بالعقلاء على الأصح فهم أفضل سائر الأنواع من المخلوقات، فإذا فضل هذا النوع فقد فضل سائر الأنواع بالضرورة، وقوله: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبيّ آدم فمن دونه إلا تحت لوائي» رواه الترمذي. ومن آخر هذا وصدر الأولين علمت أفضليته على آدم فقوله: «أنا سيد ولد آدم» إما للتأدب مع آدم أو لأنه علم فضل بعض بنيه عليه كإبراهيم عليه السلام، فإذا

فضل نبينا الأفضل من آدم فقد فضل آدم بالأولى، ولا ينافي التفضيل بين الأنبياء قوله تعالى: {لا تفرّق بين أحد من رسله} (البقرة: 285) ولا ما في الأحاديث الصحيحة من قوله: «لا تفضلوني» . وفي رواية «لا تخيروني على الأنبياء» . وفي أخرى «لا تخيروا بين الأنبياء» ولا تفضيل نبينا عليهم قوله في الحديث المتفق عليه: «من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب» وذلك لأن عدم التفرقة بينهم إنما هي في الإيمان بهم وبما جاءوا به. وأما النهي فإما عن تفضيل في ذات النبوّة أو الرسالة لأنهم فيها سواء، أو عن تفضيل يؤدي إلى تنقيص بعضهم أو إلى خصومة أو على التواضع منه أو قبل علمه بتفضيله عليهم وإن استبعد بأن رواية أبو هريرة وما أسلم إلا سنة سبع فيبعد أنه لم يعلمه إلا بعد هذا. وأجاب جمع كمالك وإمام الحرمين عن خبر يونس بما حاصله: إن تفضيل نبينا بالأمور الحسية كالشفاعة الكبرى وكونه تحت لوائه سائر الأنبياء والإسراء به إلى فوق سبع سموات مع النزول بيونس إلى قعر البحر معلوم بالضرورة، فلم يبق إلا النهي بالنسبة إلى القرب من الله تعالى لتوهم التفاوت فيه بين من هو فوق السموات ومن في قعر البحر، فبين أنهما حينئذٍ بالنسبة إلى القرب من الله تعالى على حد سواء لتعاليه تعالى عن الجهة والمكان علوّاً كبيراً ففيه أبلغ ردّ على الجمهوية والمجسمة. واعلم أن في حديث «أنا سيد العالمين» أبلغ رد على المعتزلة وإن وافقهم الباقلاني والحليمي في تفضيلهم الملائكة على الأنبياء، واستدلوا بما هو مردود. ومعنى تفضيل البشر عليهم أن خواصهم وهو الأنبياء أفضل من خواص الملائكة وهم جبريل وإسرافيل وميكائيل وعزرائيل وحملة العرش والمقربون والكروبيون والروحانيون، وخواصهم أفضل من عوام البشر إجماعاً بل ضرورة، وعوام البشر وهم الصلحاء دون الفسقة كما قال البيهقي وغيره أفضل من عوامهم، وقوله: (صلوات الله وسلامه عليه

وعلى سائر النبيين) فيه الصلاة على سائر الأنبياء لقوله: «صلوا على أنبياء الله ورسله فإنهم بعثوا كما بعثت» رواه الطبراني وقد قال الله تعالى: {وتعاونوا على البر} (المائدة: 2) اتباع الأمر {والتقوى} اجتناب النهي قاله الكواشي (وصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال) أي: من جملة حديث رواه مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في «صحيحه» وغيرهم، وما اعترض به على الحديث بأن في سنده من هو مردود غير مقبول: (وا في عون العبد ما كان) العبد أي مدة كونه (في عون أخيه) بقلبه أو بدنه أو ماله أو غيرها. قيل: وهذا إجمالاً لا تسع بيانه الطروس، فإنه مطلق في سائر الأحوال والأزمان، وفيه أن العبد إذا عزم على معاونة أخيه فينبغي ألا يجبن عن إنفاذ قوله وصدعه بالحق إيماناً بأن الله في عونه، وأن يأمل الإعانة بدوام هذه الإعانة، فإنه لم يقيدها بحالة خاصة، بل أخبر بأنها دائمة بدوام كون العبد في عون أخيه (و) صح أيضاً (أنه) (قال: من دل على خير فله مثل أجر فاعله) شك بعض رواته فقال: أو قال عامله.p رواه مسلم وأبو داود من حديث أبي مسعود البدري وابن حبان في «صحيحه» من حديث ابن مسعود. ورواه البزار من حديث أنس مختصراً بلفظ: الدالّ على الخير كفاعله، وا يحب إغاثة اللهفان. ذكره المنذري في «الترغيب والترهيب» (و) صح أيضاً (أنه) قال: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً) رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة كما في «الجامع الصغير» للسيوطي، وفي «مصباح الزجاجة» له أيضاً. قال البيضاوي: أفعال العباد وإن كانت غير موجبة ولا مقتضية للثواب والعقاب بذواتها إلا أن الله تعالى أجرى عادته الإلهية بربط الثواب والعقاب بها ارتباط المسببات بالأسباب، وليس للعبد تأثير في صدور الفعل عنه بوجه. فكما يترتبان على ما يباشره ويزاوله بترتب كل منهما أيضاً على ما هو سبب في فعله كالإرشاد إليه والحث عليه. ولما كانت الجهة التي بها استوجب المتسبب الأجر والجزاء غير الجهة التي استوجب بها المباشر لم ينقص أجره من أجره شيئاً. وقال الطيبي: الهدى في الحديث ما يهتدى به من الأعمال، وهو بحسب التنكير مطلق شائع في جنس ما يقال له هدى يطلق على القليل والكثير، فأعظمه هدى من دعا إلى الله وأدناه هدى من دعا إلى إماطة الأذى عن طريق المسلمين،

ومن ثم عظم شأن الفقيه الداعي المنذر حتى فضل واحد منهم على ألف عابد، لأن نفعه يعم الأشخاص والأعصار إلى يوم القيامة اهـ. وسيأتي في هذا المعنى مزيد إن شاء الله تعالى (و) صح أيضاً (أنه) (قال لعليّ) بن أبي طالب (رضي الله عنه) يوم خيبر (فوا لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) رواه الشيخان. وحمر النعم بفتح النون والمهملة: أي الإبل الحمر: أنفس أموال العرب. وهذا الخطاب باعتبار ما استقرّ عندهم من نفاسة ذلك وكرمه، وإلا فلا مناسبة بينه وبين الثواب المترتب على الهداية. وفي الحديث «لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها» (فرأيت) الفاء فصيحة أي إنه ورد الأمر بالتعاون على البرّ والتقوى في الكتاب والسنة. فرأيت (أن أجمع مختصراً) بوزن اسم مفعول أجمع، ويقال له الموجز، وهو ما قلّ لفظه وكثر معناه. ويجوز أن يقرأ بصيغة اسم الفاعل فيكون حالاً من فاعل أجمع ويكون قوله (من الأحاديث الصحيحة) ظرفاً لغواً متعلقاً بأجمع، وعلى الأوّل فهو ظرف مستقرّ صفة مختصراً: أي مختصراً كائناً من الأحاديث. والأحاديث قال في «المفاتيح» جمع أحدوثة، وهو ما يحدث به والحديث مثله، ويجوز أن يكون جمع حديث على غير قياس. وفي «الكشاف» : الأحاديث تكون اسم جمع للحديث، ومنه أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اهـ. وتعقبه أبو حيان في النهر بأن أفاعيل ليست من صيغ اسم الجمع وإنما ذكرها أصحابنا فيما شذّ من الجمع كقطيع وأقاطيع، وإذا حكموا على عباديد بأنه جمع تكسير لا اسم جمع وهو لم يلفظ له بواحد فأحاديث أخرى، فالصواب أنه جمع تكسير لما ذكرنا: أي من أحدوثة، وهو ما يتحدث به الناس على جهة الغرابة والتعجيب اهـ. والحديث المراد هنا ما يسمى بعلم الحديث رواية، وحدّه كما في «شرح البخاري» للكرماني: علم يعرف به أقوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وأحواله. قلت: وكذا تقريره وما أضيف إليه من وصف ككونه

ليس بالطويل ولا بالقصير، وأيامه كاستشهاد عمه حمزة رضي الله عنه بأحد، وكذا تعرف به أقوال وأفعال من دونه من صحابيّ وتابعيّ كما ذكره شيخ الإسلام زكريا وغيره، فكان عليه ذكره لأن الحديث يطلق على ذلك فهو غير جامع. وتعقب السيوطي هذا التعريف أيضاً بأنه غير مانع لشموله علم الاستنباط اهـ. قال الكرماني: وموضوعه ذات النبيّ من حيث أنه نبيّ. قال الشيخ زكريا: هذا مبني على تعريفه المقتضي لحصر الحديث في المرفوع. أما على القول بأنه أعمّ منه ومن الموقوف، فينبغي أن يعمم الموضوع ليشمل ذلك. وغايته الفوز بسعادة الدارين، ومراده من الصحيحة المقبولة فتشمل الحسن ولو لغيره، والضعيف المقبول في مواطنه (مشتملاً على ما) أي الذي (يكون طريقاً) أي موصلاً (لصاحبه) أي المختصر (إلى) تحصيل نعيم (الآخرة) إن لاحظته العناية وذلك هو الهدى (ومحصلاً لآدابه) أي: الصاحب، والآداب جمع أدب وسبق تعريفه قريباً: أي محصلاً لما ينبغي له استعماله مما يحمد قولاً وفعلاً (الباطنة) من نحو الإخلاص والصدق وسائر الأخلاق الحميدة (والظاهرة) من نحو إقامة الشرائع وترك المحرّمات والإتيان بالمندوبات (جامعاً للترغيب) في الأعمال الصالحة بذكر ما جاء في فضلها وثوابها من كتاب أو سنة ويعبر عنها بالتبشير (والترهيب) من الأعمال المحرمة والأخلاق الرديئة بذكر ما جاء فيها من وعيد أو ذم أو نحوه ويعبر عنه بالنذارة (وسائر أنواع آداب السالكين) من قطع العلائق وترك العوائق والإقبال على الخالق (من أحاديث الزهد) أي: الواردة بطلبه، وبيان فضله (ورياضات النفوس) أي: ما ترتاض وتنخلع بمزاولته عن طبعها الذميم، ووصفها القبيح من المجاهدات وقطع المألوفات والمعتادات من الحظوظ والشهوات، فإن النفس قبل رياضتها بمثابة الدابة الحرون لا تزداد بالعلف إلا إباء وامتاعاً عن مراد سيدها، وبعد تأديبها وتهذيبها لا تزداد بذلك إلا انقياداً للمراد ووفاقاً على سلوك طريق السداد (وتهذيب الأخلاق) أي: تنقيتها واختيار جيدها من رديئها. والأخلاق، جمع خلق بضم الخاء المعجمة واللام وبإسكانها أيضاً اسم للمعاني المدركة بالبصيرة. وعرّف بأنه ملكة تصدر عنها الأفعال بسهولة. فإن كانت حسنة فخلق حسن وإلا فسيء (وطهارات القلوب) من أدناسها كالعجب والكبر ونحوهما من الأخلاق المذمومة (وعلاجها) من أمراضها من نحو الغفلة وغلبة الاهتمام بشأن الدنيا (وصيانة الجوارح) أي: صونها عما لا يجوز لها

مزاولته ومحاولته من الأعمال (وإزالة اعوجاجها) وذلك لأن القلب إذا صلح صلح سائر الجسد، وصلاح الظاهر عنوان صلاح الباطن فمن تحلى ظاهره بحلى الشريعة، وتطهر باطنه بمياه الطريقة، فقد فاز بالحقيقة (وغير ذلك من مقاصد العارفين) كالإقبال على الخالق وقطع العلائق وترك العوائق والاشتغال به في كل حال وطلب مرضاته في سائر الأحوال، فمن وجد مولاه لم يفقد شيئاً (وألتزم فيه) أي: في هذا المختصر (أن لا أذكر إلا حديثاً صحيحاً) أي: مقبولاً فشمل الحسن ولو لغيره كما تقدم (من) الأحاديث (الواضحات) المعنى أي في الجملة، ووضوحها، لأن المصنف قصد عموم النفع بكتابه حتى للعوامّ (مضافاً إلى الكتب الصحيحة المشهورات) وهي الصحيحان وأكثر ما هنا منهما، والسنن لأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وكذا «مستدرك الحاكم» (وأصدّر الأبواب) أي: أجعل صدرها وبدءها (من القرآن العزيز) هو كلام الله تعالى المنزل على نبيه محمد بقصد الإعجاز بقدر أقصر سورة منه المتعبد بتلاوته، ومن عزّته العجز عن الإتيان بقدر أقصر سورة منه (بآيات كريمات) أي: يجيء بها مناسبة للباب لتكون كالدليل وتعود بركتها على باقي مسائل الباب، والآيات جمع آية بالمد؛ لغة بمعنى العلامة. واصطلاحاً؛ طائفة من كلمات القرآن المتميزة بفصل أي هو آخر الآية الذي يقال فيه الفاصلة، وفي أصل آية ستة أقوال قيل إنه بفتحات، وقيل بوزن كلمة تحركت الياء فيهما وانفتح ما قبلها فقبلت ألفاً، وقيل غير ذلك وقد بسط ذلك ابن الصائغ في «شرح البردة» . وكريمات، أي نفيسات ومنه كرائم الأموال (وأوشح ما يحتاج) من الكلمات (إلى ضبط) لحروفه نحو «بالفوقية» أو «بالتحتية» وبيان ما قد يشتبه من الحركات (أو شرح معنى) للفظ (خفي) لغموض دلالة اللفظ عليه، بأن يكون ذلك اللفظ مصروفاً عن ظاهره لمقتض، أو بأن يكون فيه غموض بحيث يعسر فهم معناه من مبناه إلا للعارف أو نحو ذلك (بنفائس) جمع نفيسة، وهو ما يرغب فيه من علم أو مال أو نحو ذلك، والظرف متعلق بأوشح، وقوله: (من التنبيهات) جمع تنبيه، وهو لغة: الإيقاظ، واصطلاحاً؛ إعلام بما يؤخذ مما قبله

إجمالاً، وهو في محل الصفة لنفائس. وفي العبارة تشبيه ما يعقب به متن الحديث من ضبط مبني أو بيان معنى بالوشاح، وهو كما في «النهاية» : شيء ينسج عريضاً من أديم، وربما رصع بالجواهر والخرز تشد به المرأة بين عاتقها وكشحها اهـ ففي العبارة استعارة تبعية مصرحة، وذكر النفائس ترشيح. وقوله من التنبيهات تجريد (وإذا قلت في آخر حديث) أي عقبه (متفق عليه فمعناه رواه البخاري ومسلم) لا اتفاق الأئمة، قال ابن الصلاح؛ لكن يلزم من اتفاقهما اتفاق الأئمة عليه، لأن الأمة اتفقت على تلقيهم لما روياه بالقبول (وأرجو) من الرجاء ضد اليأس، فهو تجويز وقوع محبوب على قرب واستعماله في غيره كما في {مالكم لا ترجون وقارا} (نوح: 13) أي: لا تخافون عظمته مجاز يحتاج إلى قرينة (إن) عبر بها مع أن المناسب للرجاء «إذا» إشارة إلى أنه مع رجائه ملاحظ لمقام الخوف المقتضي للتردد في التمام اللازم للمرجو (تم هذا الكتاب) الحاضر ذهناً وإن تقدم على وضع الخطبة كما ذكره المحققون وتقدمها يدل عليه صنيعه في مواضع وقد تم والحمد (أن يكون سائقاً) اسم فاعل من السوق (للمعتني) أي: لصاحب العناية (به إلى الحيرات) وهي فعل العبادات والتقرب إليه سبحانه بأنواع الطاعة (حاجزاً له) أي مانعاً للمعتنى به (عن أنواع القبائح) والرذائل كالسرقة وإخلال المروءة (والمهلكات) أي: الموقعة لصاحبها في الهلاك والعذاب كالعجب والكبر والرياء ونحو ذلك، لما اشتمل عليه هذا الكتاب من «الترغيب والترهيب» ، ومن أحاديث طهارات القلوب وعلاجها (وأنا سائل أخاً انتفع بشيء منه أن يدعو لي ولوالديّ) سأل المصنف من الإخوان وهم المؤمنون الدعاء له ولمن ذكر معه ليفوزوا بالقيام بسنة الدعاء للأخ بظهر الغيب وليحصل لهم من الفضل مثل ما دعوا به كما ورد في حديث أبي الدرداء المرفوع، وفي قوله: «سائل» ما لا يخفى من مزيد التواضع والتنزل، وفي حذف الموعود به تعميم. وأهم ما يدعي به غفران الذنوب ورضاء علاّم الغيوم (ومشايخي) جمع واحده شيخ، والمراد بالشيوخ هنا

من أخذ عنهم المصنف وإن لم يبلغوا سن الشيخوخة ويجمع شيخ على شيوخ وشيخان وشيخه بكسر الشين المعجمة وفتح التحتية وسكونها ومشيخة بوزن مسبعة وقد نظم ابن مالك بعض هذه الجموع وزاد غيرها فقال: شيخ شيوخ ومشيوخاء مشيخة شيخان أشياخ أيضاً شيخة شيخه وزاد في «القاموس» شيوخ ومشيخة بكسر الشين فيهما ومشيخاء وفي «النوادر» للحياني هؤلاء مشيخة بفتح الياء وضمها وبه يصير له اثنا عشر جمعاً. واختلف في أشاييخ فقيل جمع شيخ وقيل جمع أشياخ كأنابيب جمع أنباب. وقد بسطت الكلام في هذا المقام في حاشيتي على شرح الشيخ خالد الأزهري على «الآجرومية» (وسائر أحبابنا) أي: باقيهم. والأحباب بتكرير الموحدة جمع حبيب كشريف وأشراف، وضبطه نفيس الدين سليمان بن إبراهيم العلوي بالقلم بتشديد الموحدة بعدها مدة ثم همزة مكسورة؛ أي من أحبنا ومن أحببناه في الله تعالى بناء على جواز إطلاق المشترك على معنييه معاً (و) سائر (المسلمين) تعميم لأن الدعاء كلما كان أعم كان أتم. وقوله: (أجمعين) تأكيد للإحاطة والشمول (وعلى الله الكريم) أي: لا على غيره كما يؤذن به تقديم ما حقه التأخير (اعتمادي) هذا. وقد جعل الرضيّ الاستعلاء في نحو هذا من الاستعلاء المجازي، واللائق بالأدب عدم التعبير بالاستعلاء مطلقاً، وأن يقال معنى على في ذلك ونحوه لزوم التفويض إلى الله سبحانه فمعنى عليه اعتمادي لزمت تفويض أمري إلى الله تعالى، واللفظ قد يخرج بشهرته في الاستعمال في الشيء عن مراعاة أصل المعنى، ذكره بعض المحققين (وإليه) لا إلى غيره (تفويضي واستنادي) . في «النهاية» يقال: فوض إليه الأمر: إذا رده إليه وجعله الحاكم فيه اهـ (وحسبي ا) أي محسبي وكافي خبر قدم على مبتدئه وهو الاسم الكريم لإفادة ما ذكر وللاهتمام. وقوله: (ونعم الوكيل) معطوف إما على حسبي الخبر من باب عطف الجملة على المفرد والمخصوص على هذا بالمدح هو الإسم الكريم. أو على جملة حسبي الله من غير تقدير شيء في الجملة المعطوفة، بناء على كون تلك إنشائية معنى إذ هي لإنشاء التوكل فيكون من عطف إنشائية على مثلها، أو مع تقدير مبتدإ هوـ هو، حذف اختصاراً ولا حاجة على هذا التقدير «مقول» في جانب الخبر لأن الأصح كما قال ابن مالك جواز وقوع الجملة الطلبية خبراً من غير إضمار قول. وتقدير المبتدإ في الجملة

المعطوفة بناء على بقاء جملة حسبي الله على وضعها وهي الخبرية لفظاً ومعنى فيكون من عطف خبرية على مثلها، والمخصوص على هذا محذوف كما علم مما ذكر (ولا حول) بفتح اللام ويجوز الرفع على إهمال «لا» لتكررها (ولا قوة) بهما أو بالنصب عطفاً على محل حول إذا عملت لا فيه. والمعنى كما جاء في حديث ابن مسعود مرفوعاً «لا حول عن معصية الله ولا قوة على طاعة الله إلا بعون ا» أخرجه البزار (إلا با العزيز الحكيم) هذا هو الوارد في ختم هذه الكلمة في «الصحيح» دون ما اشتهر من ختمها بالعلي العظيم وإن جاء في رواية كما يؤذن به بعض نسخ الحصن الحصين، والعزيز: الذي لا يغالب في مراده، والحكيم من يضع الأشياء في مواضها على ما سبق في علمه.

*

بسم الله الرحمن الرحيم أي أشرع في مقصود الكتاب مستعيناً باسم الله الواجب الوجود المنعم الوهاب. 1 - باب الإخلاص الباب لغة: الفرجة التي يتوصل بها من خارج إلى داخل وبالعكس، والوجه، قيل: هو أنسب لأن الباب لا يناسب بالمعنى الأوّل إلا إن كان اسماً للجزء الأول من الطائفة المخصوصة من الكلام وليس كذلك، بل هو اسم للجميع وكونه بمعنى الوجه أوجه للاختلاف بين معنى كل باب وغيره كاختلاف الوجوه، لكن يصد عنه جمعهم له على أبواب دون بابات الذي هو جمع باب بمعنى الوجه. وعرفاً: طائفة مخصوصة من الكتاب مشتملة على فصول ومسائل غالباً، وسيأتي أنه يجوز فيه الرفع والنصب بل والجرّ على وجه الأصح خلافه. (والإخلاص) بكسر الهمزة مصدر أخلص. قال الراغب في «مفرداته» : الإخلاص التعرّي عما دون الله تعالى، اهـ. وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري: الإخلاص إفراد الحقّ سبحانه وتعالى في الطاعات بالقصد، وهو أن يريد بطاعته التقربّ إلى الله تعالى دون شيء آخر من تصنع لمخلوق واكتساب محمدة عند الناس أو محبة مدح من الخلق أو معنى من المعاني سوى التقرّب إلى الله تعالى. قال: ويصح أو يصلح أن يقال: الإخلاص تصفية العمل عن ملاحظة المخلوقين (وإحضار النية في جميع الأعمال والأقوال والأحوال البارزة) أي: الظاهرة (و) الأعمال والأقوال والأحوال (الخفية) . والنية واجبة أول كل فعل شرعي لتوقف صحته عليها، ودوام استحضارها إلى آخره سنة محبوبة، وأما التروك كترك نحو الزنى فلا يتوقف عليها، نعم لا بد في حصول الثواب من قصد الترك على وجه الامتثال، وإنما وجبت النية في الصوم مع أنه من باب التروك لأنه ملحق

بالأفعال إذ القصد منه قمع النفس عن معتاداتها وقطعها عن عاداتها. (قال الله تعالى) أي: عما لا يليق بشأنه سبحانه {وما أمروا} أي: اليهود والنصارى في التوراة والإنجيل {إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} أي: موحدين لا يعبدون سواه. قال بعضهم: الإخلاص تصفية العمل عن شوائب الكدر {حنفاء} مائلين عن جميع الأديان إلى دين الإسلام، أو حنفاء حجاجاً {ويقيموا الصلاة} أي: المكتوبة في أوقاتها {ويؤتوا الزكوة} عند وجوبها، ومخلصين وحنفاء حالان من الضمير في يعبدوا، والمعنى: وما أمروا في كتابهم إلا ليعبدوا الله بهذا الوصف {وذلك دين القيمة} أي: الملة المستقيمة أو دين الجماعة القيمة أو الهاء للمبالغة. وعن الخليل أن القيمة جمع القيم، والقيم والقائم واحد، أو المراد بدين القيمة دين الملائكة أو ملة إبراهيم، وقرىء {وذلك الدين القيمة} على تأويل الدين بالملة كذا في «التفسير الكبير» للكواشي. وقال الحافظ السيوطي في «الإكليل» : قوله تعالى: «وما أمروا إلخ» استدل به على وجوب النية في العبادات لأن الإخلاص لا يكون بدونها اهـ. (وقال تعالى) : {لن تنالوا البر} أي: لن تبلغوا حقيقة البرّ الذي هو كمال الخير، ولن تنالوا برّ الله الذي هو الرحمة والرضى والجنة، وقوله: {حتى تنفقوا مما تحبون} أي: من المال أو ما يعمه وغيره كبذل الحياة ومفاداته للناس والبذل في طاعة الله والمهجة في سبيله، روي «أنها لما نزلت جاء أبو طلحة فقال: يا رسول الله إن أحبّ أموالي بيرحاء فضعها حيث أراك الله تعالى. فقال: بخ بخ، ذاك مال رابحـ أو رائحـ وإني أرى أن تجعلها في الأقربين» . «وجاء زيد بن حارثة بفرس كان يحبها فقال: هذه في سبيلالله، فحمل عليها رسول الله أسامة، فقال زيد: إنما أردت أن أتصدق بها، فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله تعالى قد قبلها منك» وذلك يدل على أن إنفاق أحبّ الأموال على أقرب الأقارب أفضل وأن الآية تعمّ الإنفاق الواجب والمستحب. وقوله: {وما تنفقوا من شيء} محبوب أو غيره {فإن الله به عليم} فيجازيكم بحسبه. وقال تعالى: {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله

التقوى منكم} قال القرطبي: قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يلطخون البيت بدماء البدن فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك فنزلت هذه الآية، والنيل لا يتعلق بالبارىء تعالى لكنه عبر به تعبيراً مجازياً عن القبول، والمعنى لن يصل إليه. وقال ابن عباس: لن يصعد إليه. وابن عيسى: لن يصل إليه لحومها ولا دماؤها ولكن يصل إليه التقوى منكم، أي ما أريد به وجه الله فذلك الذي يقبله ويرفع إليه ويسمعه ويثيب عليه ومنه الحديث «إنما الأعمال بالنيات» اهـ. (وقال تعالى) : {قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه ا} فهو العالم بخفيات الصدور وما اشتملت عليه قال تعالى: {وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور * ألا يعلم من خلق} (الملك: 13، 14) (فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء) ولا يغيب عنه شيء سبحانه لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة. وفي الآيات تنبيه للموفق على الإخلاص وتحذير له من الرياء ولا يغترّ بخفائه ظاهراً فإن الله تعالى عالم بخفيات الأمور، لا تخفى عليه وساوس الصدور. 11 - (وعن أمير المؤمنين) أول من لقب به من الخلفاء، أما أول من لقب به مطلقاً فعبد الله بن جحش في سرية وقد بينت مستند ذلك في «أواخر شرح الأذكار» (أبي حفص) بالحاء المهملة وهو الأسد، كناه به كما في «الفتح المبين» ، وكني به لكمال شجاعته ومزيد صلابته (عمر بن الخطاب بن نفيل) بضم النون وفتح الفاء وسكون التحتية (ابن عبد العزى) بضم المهملة وتشديد الزاي بعدها ألف مقصورة (ابن رياح) بكسر الراء بعدها تحتية وبعد الألف حاء مهملة (ابن عبد ا) كذا هو في «أسد الغابة» ، وفي نسخة من التهذيب للمصنف بدل عبد اهذا عدّي (ابن قرط) بضم القاف وسكون الراء وبالطاء المهملة (ابن رزاح) بفتح الراء قيل وقد تكسر، وبعدها زاي وبعد الألف حاء مهملة (ابن

عدي) بفتح المهملة وكسر الثانية وتشديد التحتية (ابن كعب) بسكون المهملة بعدها موحدة (ابن لؤي) بضم اللام وفتح الهمزة تصغير اللأى.c قال في «المواهب اللدنية» : وهو الثور. وفي كعب يجتمع نسبه مع نسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ابن غالب القرشي العدوي رضي الله عنه) أشار المصنف إلى طريق النسبة إلى القبائل، وذلك أنه يبدأ بالأعم قبل الأخص فيقال القرشيّ الهاشميّ، ليحصل بالثاني فائدة، إذ لو ذكر الأول بعد الثاني بأن قيل الهاشميّ القرشيّ لخلا عن الفائدة إذ يلزم من كونه هاشمياً كونه قرشياً بخلاف العكس، ذكره المصنف في «تهذيبه» وغيره، قال: فإن قيل كان ينبغي ألا يذكر الأعم بل يقتصر على الأخص. فالجواب أنه قد يخفى على بعض الناس كون الهاشمي قرشياً، ويظهر هذا الخفاء في البطون الخفية كالأشهلي من الأنصار، إذ لو اقتصر على الأشهلي لم يعرف كثير من الناس أنه من الأنصار أم لا، فذكر العام ثم الخاص لدفع هذا. توهم، قال: وقد يقتصرون على الخاص وقد يقتصرون على العام، وهذا قليل اهـ روي لعمر رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسمائة وسبعة وثلاثون حديثاً، وقال أبو نعيم: أسند عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المتون سوى الطرق مائتي حديث ونيفا كذا في «التلقيح» لابن الجوزي، اتفق الشيخان منها على ستة وعشرين، وانفرد البخاري بأربعة وثلاثين، ومسلم بأحد وعشرين، وقد أعرضنا عن بسط تراجم الرجال في هذا الكتاب طلباً للإيجاز، وحذراً من الإسهاب (لا) سيما وقد ترجمنا معظم من ذكر من الصحابة هنا في «شرح الأذكار» ، واقتصرنا هنا على ذكر عدة مروياته وزمن وفاته وبعض يسير من بيان حالاته لعموم حاجة المحدث لذلك وا الموفق (قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول) : الجملة المضارعية بدل اشتمال من مفعول سمعت أو حالية تبين المضاف المحذوف وقبله أي كلامه. وأتى به مضارعاً بعد سمع الماضي: إما حكاية لحالة وقت السماع، أو لإحضار ذلك في ذهن السامع. وما ذكر من أن ثمة مضافاً محذوفاً، والجملة بعده تبين المحذوف هو المشهور. وقيل إن سمع يتعدّى لمفعولين فلا محذوف، بل أولهما رسول وثانيهما الجملة. واعترض بأن محل تعديتها لهما إذا كانت فيما يظن، وأجيب بمنع الحصر. ثم الحديث المذكور لم يرو من طريق صحيح عنه إلا من حديث عمر رضي الله عنه وإن رواه نحو عشرين صحابياً، فهو وإن أجمعوا على صحته غريب باعتبار أوله مشهور باعتبار آخره، وليس بمتواتر لفقد عدد التواتر في بعض طبقاته (إنما) هي لتقوية الحكم المذكور بعدها إتفاقاً،

ولذا وجب كونه معلوماً للمخاطب أو في منزلته، ولإفادة الحصر وضعاً حقيقة على الأصحّ عند جمهور الأصوليين خلافاً لجمهور النحاة. والحصر وبمعناه القصر: إثبات الحكم لما بعدها ونفيه عما عداه لورودها لذلك في كلامهم غالباً، والأصل الحقيقة وجواز غلبة المجاز خلاف الأصل، والقصر في الخبر من قصر المسند إليه ويعبر عنه بالموصوف في «المسند» ويعبر عنه بصفته، وهو إضافي لخروج بعض الأعمال عن اعتبار النية فيها، وفي الخبر حصر آخر هو عموم المبتدإ، إذ هو جمع محلى بأن التي للاستغراق لا للماهية، إذ المفتقر للنية إفراد العمل لا ماهيته من حيث هي ماهية إذ لا وجود لها في الخارج، ورواية «إنما العمل» المبتدأ فيها مفرد محلى بأل المذكورة فيفيد العموم وخصوص الخبر على حد صديقي زيد لعموم المضاف لمعرفة، وعلى هذا فجمع بينهما في هذه تأكيداً وسقطت إنما في رواية صحيحة إكتفاء عنها بهذا الحاصر (الأعمال) هي حركات البدن فتدخل فيها الأقوال ويتجوّز بها عن حركات النفس وأوثرت على الأفعال لئلا تتناول فعل القلب غير المحتاج للنية، كالتوحيد والإجلال والخوف لصراحة القصد به، والنية لئلا يلزم التسلسل أو الدور المحال، وأل في الأعمال قيل للعهد الذهني: أي: غير الأعمال العادية لعدم توقف صحتها على النية؛ وقيل للاستغراق كما تقدم إلا أنه إضافي، والعموم مخصوص لخروج جزئيات من الأعمال عن الاحتياج إلى النية بأدلة مقرّرة كالواجب غير المتوقف على النية من نحو قضاء دين وكفّ عن محرم، والمتوقف على النية حصول الثواب في ذلك، وهو غير ما الكلام فيه، إذ هو هل تلزم النية في صحة الترك بحيث يعصى بتركها. والتحقيق كما تقدم أنه لا تلزم النية فيه وأن المجرّد منها لاثواب فيه. وإنما يحصل بالكفّ الذي هو فعل النفس، وهو أن يقصد الترك بقصد امتثال أمر الشارع فيه. ولا تجب النية في عمل اللسان من نحو قراءة وذكر وأذان، إذ ليس شيء عادي من ذلك حتى يميز بالنية عنه، وصرّح الغزالي بحصول ثواب الذكر اللساني ولو مع الغفلة، نعم تجب في قراءة منذورة ومثلها كل ذكر نذره ليتميز الفرض من غيره (بالنيات) الباء فيه قيل للسببية والتقدير وجود الأعمال شرعاً مستقرّ أو ثابت بسببها، ويصح كونها للملابسة وكونها للمصاحبة. قال بعض المحققين: فعلى الأول هي جزء من العبادة وهو الأصح. وعلى الثاني شرط، وفيه نظر، بل كل منهما محتمل للشرطية والركنية إذ كل منهما يقارن المشروط والماهية ويكون سبباً في وجودهما، وإيضاحه أن ركن الماهية لكونه جزأها مغاير لها مغايرة الجزء للكل فتصدق عليه المصاحبة كما تصدق عليه السببية. وأما السببية

فصادقة مع الشرطية وهو واضح لتوقف المشروط على الشرط ومع الركنية لأنه بترك جزء من الماهية تنتفي الماهية اهـ. إلا أنها إذا كانت للمصاحبة تشعر باعتبار وجوب استصحابها إلى الآخر لأنه الظاهر من المعية وهذا حال الشروط، بخلافها على الملابسة فإن هذا الإشعار منتف عندها، وقال الكازروني في «شرح الأربعين» : الباء فيه للاستعانة اهـ ثم قيل لا بد من تقدير مضاف للمحصور وهو المسند إليه فقدره الأكثرون بالصحة: أي: إنما صحة الأعمال بالنيات وقدره آخرون بالكمال وقالوا تقديره إنما كمال الأعمال وقد بينت دليل القولين ورد الثاني وتأييد القول الأول في «شرح الأذكار» والأقرب كما قال بعض المحققين وقال: إنه التحقيق أنه لا حاجة لتقدير في الخبر وليس في دلالة اقتضاء بل اللفظ باق على مدلوله من انتفاء الأعمال حقيقة بانتفاء النية لكن شرعاً إذ الكلام فيه، والتقدير إنما وجودها كائن بالنية فإذا انتفت انتفى العمل ونفي الحقيقة إنما ينتفي بانتفاء شرطها أو ركنها فيفيد مذهبنا من وجوبها في كل عمل إلا ما قام الدليل على خروجه، والعام المخصوص حجة في غير ما خص منه اهـ. والنية بالتشديد مصدر أو اسم مصدر لغة: القصد. وشرعاً وهو المراد هنا خلافاً لبعض المحققين: قصد الشيء مقترناً بفعله إلا في الصوم والزكاة للعسر، فإن تراخى الفعل سمي عزماً، ثم هي بالجمع في هذه الرواية عند الشيخين. قال الحافظ السيوطي في «التوشيح» : في معظم الروايات بالنية مفرداً قيل: ووجهه أن محلها القلب وهو متحد فناسب إفرادها بخلاف الأعمال فإنها متعلقة بالظواهر فناسب جمعها اهـ. وهذه حكمة للإفراد. وإلا فهو الأصل لأنها مصدر وجمعت في هذه الرواية باعتبار أنواعها من الوجوب تارة وغيره أخرى. (وإنما لكل امرىء ما نوى) الجملة السابقة لبيان أن الأعمال لا يعتد بها شرعاً إلا بالنية الموحدة لها، وهذه الحملة لبيان أن جزاء العامل على عمله بحسب نيته من خير أو شر، وبيان أن العمل لا يجزي إلا إن عينت نيته. قلت فتختص حينئذٍ بما يعتبر في نيته التعيين من نحو صلاة الفرض والنفل المرتب، أو تعم مطلق العبادة المعتبر فيها النية ويراد أن الذي له من عمله الموجود شرعاً بالنية هو ما قصده به من وجه الله سبحانه فيثاب أو الرياء للعباد فيمنع الثواب. وقيل مفاد هذه الجملة امتناع النيابة في النية الشامل لها الجملة الأولى، وصحة نية الولي عن الصبي والأجير عن المحجوج عنه لمعنى يخصه هو عدم تأهل المنوي عنه لها فيهما، وقيل هذه الجملة مؤكدة للأولى تنبيها على سر الإخلاص وفيه أن تنبيهها على ذلك يمنع إطلاق كونها مؤكدة فعلم سر تأخير هذه الجملة، أنهما متغايرتان وأنه لولا تعقيب تلك بهذه

لأوهمت تلك صحة النية بلا تعيين وأنه يلزمها الثواب. و «ما» في ما نوى إما موصولة أو موصوفة أو مصدرية أي ما يحصل لكل امرىء أي إنسان إلا الذي نواه أو شيء نواه أو منويه، والقصر في هذه الجملة عكسه في الأولى أي قصر المسند في المسند إليه. (لطيفة) قد لمح العلامة تاج الدين السبكي إلى معنى هذه الجملة بقوله في مدح المصنف نفع الله بهما: لقيت خيراً يا نوى ووقيت من ألم النوى فلقد نشا بك عالم أخلص ما نوى وعلا سواه فضله فضل الحبوب على النوى (فمن كان هجرته) هو تفصيل لبعض الإجمال فيما قبله، والتقدير؛ إذا تقرر أن لكل امرىء منويه من طاعة وغيرها فلا بد من مثال يجمع الأعمال كلها أمرها ونهيها وذلك الهجرة إذ هي متضمنة لذلك؛ أما الكف عن المنهي فظاهر، ومن ثم قال: «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه» وأما الأمر فلأنه لا يتم بل لا يمكن الإتيان به إلا بهجرة دواعي النفس والهوى. ولتضمن الهجرة هذا الأمر العام آثر ذكرها مفرداً لها بالفاء الداخلة على الجزاء إن جعلت من شرطية أو الخبر إن جعلت موصولة لمشابهة الموصول للشرط في العموم أو تضمنه له. والهجرة لغة؛ الترك، وشرعاً؛ مفارقة دار الكفر إلى دار الإسلام خوف الفتنة، ووجوبها باق وخبر «لا هجرة بعد الفتح» المراد لا هجرة بعد فتح مكة منها لأنها صارت دار الإسلام. وحقيقتها مفارقة ما يكرهه الله إلى غيره للحديث المذكور، وكانت أول الإسلام إما من مكة إلى الحبشة أو منها ومن غيرها إلى المدينة، والمراد بها هنا مفارقة الوطن إلى غيره سواء مكة وغيرها، ولا يضر في التعميم كون الحديث له سبب خاص كما سيأتي بيانه لأن صورة السبب لا تخصص لكنها داخلة قطعاً (إلى الله ورسوله) أي: قصداً ونية، فهو كناية عن الإخلاص، والظرف هنا وفيما يأتي متعلق بهجرة إن جعلت كان تامة أو بمحذوف هو خبرها إن قدرت ناقصة (فهجرته إلى الله ورسوله) ثواباً وخيراً، فالجزاء كناية عن شرف الهجرة وكونها بمكانة عنده تعالى أو كونها مقبولة مرضية، فلا اتحاد بين الشرط والجزاء لأنهما وإن اتحدا لفظاً اختلفا معنى، وهو كاف في اشتراط تغاير الجزاء والشرط والمبتدإ والخبر وذكرت وجوهاً أخر لهذا التكرار في «شرح الأذكار» ، والمراد بكان هنا وفيما يأتي أصل الكون لا بالنظر لزمن مخصوص أو وضعها الأصلي من المضي

أو هنا من الاستقال لوقوعها في حيز الشرط، وهو يخلص الماضي للاستقبال ويقاس به الآخر للإجماع على استواء الأزمنة في الحكم التكليفي إلا لمانع (ومن كانت هجرته لدنيا) اللام للتعليل أو بمعنى إلى لقوله: «فهجرته إلى ما هاجر إليه» واستظهر الأول وحكمة التغاير في التعبير هنا باللام وثمة بإلى إفادة أن من كانت هجرته لأجل تحصيل ذلك كان هو نهاية هجرته لا يحصل له غيره. والدنيا بضم أولها وحكى كسره جمعها دنى من الدنوّ أي القرب لسبقها على الآخرة أو لدنوها إلى الزوال. قال المصنف: الأظهر أنها كل المخلوقات من الجواهر والأعراض الموجودة قبل الدار الآخرة وقد تطلق على كل جزء منها مجازاً، ثم المراد منها عرضها ومتاعها، فالتعبير بها مجاز مرسل من تسمية الشيء باسم محله كقوله تعالى: {فليدع ناديه} (العلق: 17) (يصيبها) حال مقدرة: أي: قاصداً إصابتها، وفي ذكر المصيبة عند ذكر الدنيا لطيفة ونصيحة (أو) كانت هجرته (لـ) أجل (امرأة ينكحها) أي: يتزوجها كما في رواية، من باب عطف الخاص على العام إشعاراً بأن النساء أعظم ضرراً، قال: «ما تركت بعدي فتنة أضرّ على الرجال من النساء» وتنبيهاً على سبب الحديث وإن كان لا يخصص كما تقدم. وسببه كما في «التوشيح» للحافظ السيوطي ما رواه سعيدبن منصور في «سننه» بسند على شرطهما عن ابن مسعود قال: «من هاجر يبتغي شيئاً فإنما له مثل أجر رجل هاجر ليتزوج امرأة يقال لها أم قيس فقيل له مهاجر أم قيس» : وفي «فتح الإله» : السبب ما رواه الطبراني بسند رجاله ثقات عن ابن مسعود قال: «كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها أم قيس، فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر، فهاجر فزوجها فكنا نسميه مهاجر أم قيس» قيل: واسمها قتيلة بوزن قبيلة، ولم يعين اسمه ستراً عليه وإن كان ما فعله مباحاً لما يأتي. وعلى هذا فذكر الدنيا إما زيادة على السبب تحذيراً من قصدها، أو لأن أم قيس انضم لجمالها المال فقصدهما مهاجرها، أو لأن السبب قصده نكاحها، وقصد غيره دنيا (فهجرته إلى ما هاجر إليه) الظرف متعلق بمحذوف خبر المبتدإ ويصح تعلقه بنفس المبتدإ فيكون خبره محذوفاً أي فهجرته قبيحة إذ ليست من الله في شيء وذلك حظه ولا نصيب له في الآخرة، وإيراد الموصول لإفادة التحقير وذم فاعل ما ذكر كما يشعر به السياق مع كونه مطلوبه مباحاً لأنه أظهر قصد الهجرة إلى الله وأبطن خلافه وهذا ذميم. والحكمة في

اتحاد الشرط والجزاء لفظاً في الأولى التبرّك بذكر الله ورسوله والتعظيم لهما بتكراره وبكونه أبلغ في الهجرة إليهما، إذ من سعى لخدمة ملك تعظيماً له أجزل عطاء ممن سعى لينال كسرة من مأدبة، وتركه في الثانية إظهار عدم الاحتفال بأمرهما والتنبيه على أن العدول عن ذكرهما أبلغ في مزجر عن قصدهما، فكأنه قال: إلى ما هاجر إليه، وهو حقير مهين لا يجدي. وأيضاً فأعراض الدنيا لا تنحصر فأتى بما يشملها وهو ما هاجر إليه، بخلاف الهجرة إلى الله ورسوله فإنه لا تعدد فيها، فأعيدا بلفظهما تنبيهاً على ذلك. وقال أرباب الإشارات من العارفين «إنما الأعمال بالنيات» يتعلق بما وقع في القلوب من أنوار الغيوب. والنية جعل الهمّ في تنفيذ العمل للمعمول له، وألا يسنح في السرّ ذكر غيره * وللناس فيما يعشقون مذاهب * فنية العوام في طلب الأعراض مع نسيان الفضل، ونية الجهال التحصن عن سوء القضاء ونزول البلاء، ونية أهل النفاق التزين عند الله وعند الناس، ونية العلماء إقامة الطاعات لحرمة ناصبها لا لحرمتها، ونية أهل التصوّف ترك الاعتماد على ما يظهر منهم من الطاعات، ونية أهل الحقيقة ربوبية تولد عبودية «وإنما لكل امرىء ما نوى» من مطالب السعداء، وهي الخلاص عن الدركات السفلى والفوز بالدرجات العليا، وهي المعرفة والتوحيد والعلم والطاعة والأخلاق المحمودة وجذبات الحق والفناء عن أنانيته والبقاء بهويته، أو من مقاصد الأشقياء، وهي ما يبعد عن الحق «فمن كانت هجرته» أي: خروجه من مقامه الذي هو فيه سواء كان استعداده الذي جبل عليه أو منزلاً من منازل النفس «إلى ا» لتحصيل مراضيه «ورسوله» باتباع أمره وأخلاقه «فهجرته إلى الله ورسوله» فتخرجهم العناية الإلهية من ظلمات الحدوث والفناء إلى نور الشهود والبقاء «ومن كانت هجرته إلى دنيا» أي: لتحصيل شهوة الحرص على المال والجاه والخيلاء وغيرها، فيبقى مهجوراً عن الحق في أوطان الغربة، له نار الفرقة، نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة لا نار الجحيم التي لا تحرق إلا الجلد ولا تخلص إلى القلب، انتهى كلامهم. نقله الكازروني في «شرح الأربعين» للمصنف (متفق على صحته) ثم فسره بقوله رواه إلى آخره، وكذا

رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو عوانة وابن حبان في «صحيحه» وابن خزيمة وابن الجارود والطحاوي في «شرح معاني الآثار» والبيهقي في «السنن» . ووهم ابن دحية في زعمه أن مالكاً أخرجه في «الموطإ» ، كذا في «شرح عمدة الأحكام» للقلقشندي ومن خطه نقلت (رواه إماما المحدثين) بإثبات ألف التثنية خطاً وحذفها لفظاً لالتقاء الساكن أي المقتدي بهما ورعاً وزهداً واجتهاداً في «تخريج الصحيح» وإيداعه دون غيره كتابيهما، حتى ائتمّ بهما في ذلك الأئمة الذين حذوا حذوهما (أبو عبد الله محمدبن إسماعيلبن إبراهيمبن المغيرة) بضم الميم وكسرها (ابن بردزبه) بموحدة مفتوحة فراء ساكنة فمهملة مكسورة بعدها زاي ساكنة فموحدة فهاء تأنيث وهو بالعربية الزراع. قال في «فتح الباري» : كان بردزبه المذكور مجوسياً، وكان في بخارى والٍ يقال له اليمان الجعفي، فأسلم المغيرة بن بردزبه على يديه فمن ثم قيل للبخاري الجعفي، وأما إبراهيمبن المغيرة فلم نقف على شيء من أحواله، والظاهر أنه لم ينظر في العلم، وأما إسمعيل فذكر له ابنه ترجمة في «تاريخه» وقال: إنه سمع من مالك وحمادبن زيد وابن المبارك، وذكره كذلك ابن حبان في «الطبقة الرابعة» من ثقاته، وزاد: روى عنه العراقيون اهـ (الجعفي) أي: مولاهم لما ذكر من أن جده المغيرة أسلم على يد اليمان ابن أخنس الجعفي فنسب إليه ولاء فأشار المصنف إلى أنه يقدم النسب إلى القبيلة ولو ولاء على النسب إلى البلاد عند الجمع. وعبارة «التهذيب» للمصنف: إذا جمع بين النسب إلى القبيلة والبلد قدم النسب إلى القبيلة. انتهت (البخاري) ولد ثالث عشر شوال سنة (194) أربع وتسعين ومائة، وكتب عن ابن حنبل ويحيىبن معين وخلائق يزيدون على ألف. وروى عنه مسلم خارج صحيحه وأبو زرعة والترمذي وابن خزيمة والنسائي. ومناقبه نعمة ذكرت جلة منهم في «شرح الأذكار» . توفي ليلة عيد الفطر سنة 256 ست وخمسين ومائتين، ودفن يخرتنك قرية على فرسخين من سمرقند. ومن مناقبه ما حكي عنه أنه عمي صبياً فرأى في نومه إبراهيم الخليل على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، فتفل في عينيه أو دعا له فأبصر، فمن ثم لم يقرأ كتابه. في كرب إلا فرج. ثم الحديث المذكور في سبعة مواضع من

«صحيح البخاري» (أبو الحسين مسلمبن الحجاجبن مسلم القشيري) نسبة إلى قشيربن كعببن ربيعةبن عامر ابن صعصعة قبيلة كبيرة، وقشير أيضاً بطن من أسلم، منهم سلمة بن الأكوع رضي الله عنه (النيسابوري) نسبة إلى نيسابور أحسن مدن خراسان وأجمعها للخيرات. قال الأصفهاني في «لبّ الألباب» : قيل لها ذلك لأن سابور لما رآها قال: يصلح أن يكون ها هنا مطينة. وكانت قصبا فأمر بقطع القصب وأن تبنى مدينة، فقيل نيسابور، والنيّ: القصب اهـ. ولد الإمام مسلم سنة (204) أربع ومائتين، ومات في رجب سنة (261) إحدى وستين ومائتين. وأخذ عن أحمد وحرملة وخلائق. روي عنه ساعة منهم من هو في درجته كأبي حاتم الرازي والترمذي فروى عنه حديثاً واحداً وابن خزيمة وخلائق (رضي الله عنهما في كتابيهما) المشهورين بالصحيحين المعروفين بذلك كنار على علم (اللذين) بلامين وفتح الذال المعجمة مثنى الذي وكتب بلامين فرقاً بينه وبين الذين الجمع (هما أصحّ الكتب) بلا شك ولا مرية كما أطبق عليه من بعدهما لا سيما المحدثوند حيث جعلوا الصحيح سبعة أقسام: أعلاها ما خرجاه، فما انفرد به البخاري فما انفرد به مسلم، فما كان على شرطهما، فما كان على شرط البخاري، فما كان على شرط مسلم، فما صححه معتبر وسلم من المعارض. وقول الشافعي: لا أعلم كتاباً بعد كتاب الله أصحّ من «موطإ» مالك إنما كان قبل ظهورهما. فلما ظهرا كانا بذلك أحق، والجمهور على أن ما أسنده البخاري في «صحيحه» دون التراجم والتعاليق وأقوال الصحابة والتابعين أصحّ مما في مسلم، لأنه كان أعلم منه بالفن اتفاقاً مع كون مسلم تلميذه وخريجه، ومن ثم قال الدارقطني: لولا البخاري ما راح مسلم ولا جاء، هذا وإن لم يلزم منه أرجحية المصنف إلا أنها الأصل. قال الحافظ ابن حجر في «نكته» على كتاب ابن الصلاح بعد ذكر نحو ما ذكرنا: هذا من حيث الجملة، أما من حيث التفصيل فيترجح كتاب البخاري على كتاب مسلم بأن الإسناد الصحيح مداره على اتصاله وعدالة الرواة، وكتاب البخاري أعدل رواة وأشد اتصالاً، وبيانه أن الذين انفرد لهم بالإخراج دون مسلم أربعمائة وخمسة وثلاثون رجلاً، المتكلم فيه بالضعف منهم نحو الثمانين، والذين انفرد مسلم بهم ستمائة وعشرون رجلاً، المتكلم فيهم بالضعف منهم مائة وستون رجلاً، ولا شك أن من سلم من التكلم فيه رأساً أقوى ممن تكلم فيه وإن لم يعول على ما تكلم به فيه، على أن المتكلم فيهم في

البخاري لم يكثر من تخريج أحاديثهم، بخلاف مسلم، وأيضاً فأكثرهم شيوخه الذين هو أعرف بهم من غيره لكونه لقيهم وخبرهم وخبر حديثهم، وأما المتكلم فيهم في مسلم فأكثرهم من المتقدمين الذين لم يخبرهم، وأيضاً فالبخاري غالباً إنما يخرج للمتكلم فيه في المتابعات والشواهد بخلاف مسلم. وأما ما يتعلق بالاتصال فمسلم كان مذهبه بل نقل الإجماع في أول صحيحه أن الإسناد المعنعن له حكم الاتصال إذ تعاصر المعنعن والمعنعن عنه وإن لم يثبت اجتماعهما، والبخاري لا يحمله على الاتصال حتى يثبت اجتماعهما ولو مرة واحدة، ومن ثم قال النووي: وهذا المذهب مما يرجح به كتاب البخاري قال: وإن كنا لا نحكم على مسلم بعمله بهذا المذهب في «صحيحه» لكونه يجمع طرقاً كثيرة يبعد معها وجود هذا الحكم الذي جوّزه اهـ. وجمعه لتلك الطرق هو الغالب، وفيما لم يجمع فيه طرقاً جلالته قاضية بأنه إنما جرى على الأحوط من ثبوت الاتصال انتهى ملخصاً مع يسير زيادة. وقوله: (المصنفة) اقتفى به أثر الإمام الشافعي رضي الله عنه في قوله: بعد كتابالله، ليحترز بذلك عنه أيضاً. 22 - (وعن أم المؤمنين) أي: في الاحترام والتعظيم وحرمة النكاح، دون نحو النظر والخلوة، وكذا سائر أمهات المؤمنين، وهو أب للمؤمنين في الرأفة والرحمة والمراد من نفي أبوته في الآية أبوة النسب والتبني (أم عبد ا) كناها بابن أختها أسماء «عبد ابن الزبير» وقيل بسقط لها منه، واستبعد (عائشة) الصديقة بنت أبي بكر الصديق عبد ابن أبي قحافة عثمان (رضي الله عنها) وعن أبيها وجدها، تزوّجها بمكة وهي بنت ست سنين، بعد تزوّجه بسودة بشهر، وقبل الهجرة بثلاث سنين ودخل بها في شوّال منصرفة من بدر سنة ثنتين من الهجرة، وهي بنت تسع سنين، وتوفي وهي بنت ثمان عشرة سنة، وعاشت بعده أربعين سنة، وتوفيت سنة سبع أو ثمان وخمسين لثلاث عشرة بقيت من رمضان بعد الوتر، وصلى عليها أبو هريرة لإمارته على المدينة حينئذٍ من قبل مروان، روي

لها ألفا حديث ومائتان وعشرة وقيل ألف وعشرة. اتفقا على مائة وأربعة وسبعين، وانفرد البخاري بأربعة وستين ومسلم بثمانية وستين (قالت: قال رسول الله: يغزو جيش الكعبة) في رواية مسلم: «عبث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في منامه، فقلنا له: صنعت شيئاً لم تكن تفعله؟ قال: العجب أن أناساً من أمتي يؤمون هذا البيت لرجل من قريش» وزاد في رواية أخرى: أن أم سلمة قالت ذلك أيام ابن الزبير، وفي أخرى: أن عبد ابن صفوان أحد رواة الحديث عن أم سلمة قال: وا ما هو هذا الجيش. قال القرطبي: وقد ظهر ما قال، فإن الجيش المرسل إلى ابن الزبير لم يخسف به اهـ. قال العاقولي: والأولى إجراء الحديث على إطلاقه وعدم تقييده بأحد، والكعبة مأخوذة من كعبته: ربعته، والكعبة: كل بيت مربع كذا في «القاموس» . وفي كلامهم أن إبراهيم بنى الكعبة مربعة، ولا ينافيه اختلاف بعد ما بين أركانها لأنه قليل لا ينافي التربيع، وهذا أعني كون سبب تسميتها كعبة تربيعها أوضح من جعل سببها ارتفاعها. كما سمي كعب الرجل بذلك لارتفاعه، وأصوب من جعله استدارتها إلا أن يريد قائله بالاستدارة التربيع مجازاً، أو يكون أخذ الاستدارة في الكعب سبباً لتسميته، لكنه مخالف لكلام أئمة اللغة (فإذا كانوا ببيداء) في رواية مسلم: بالبيداء. قال القرطبي: والبيداء: أرض ملساء لا شيء فيها. وفي «الصحاح» : البيداء المفازة والجمع بيد، وهل هي بيداء المدينة أو لا؟ فيه خلاف (من الأرض) في محل الصفة لبيداء (يخسف بأولهم وآخرهم) زاد الترمذي في حديث ضعيف «ولم ينج أوسطهم» . وزاد مسلم في حديث حفصة: «يخسف بأوسطهم ثم ينادي أولهم آخرهم ثم يخسف بهم فلا يبقى إلا الشريد الذي يخبر عنهم» واستغني بهذا عن تكلف الجواب عن حكم الأوسط بأن العرف يقضي بدخوله فيمن هلك، ولكونه آخراً بالنسبة للأول وأولاً بالنسبة للأخير فيدخل (قالت) عائشة متعجبة من وقوع العذاب على من لا إرادة له في القتال الذي هو سبب العقوبة (قلت: يا رسول الله كيف يخسف بأولهم وآخرهم) أي: بجملتهم (وفيهم أسواقهم) كذا للبخاري بالمهملة والقاف جمع، والمعنى: أهل أسواقهم أو السوقة منهم (و) فيهم (من ليس منهم) أي: ممن خرج بقصد القتال وإنما وافقهم في صحبة الطريق (قال) مجيباً عما سألت عنه: بأن العذاب يقع عاماً لحضور آجالهم، ثم يبعثون على نياتهم. وقد روى الشيخان عن ابن عمر مرفوعاً رضي الله عنهما «إذا أنزل الله بقوم عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على

نياتهم» (يخسف بأولهم وآخرهم) أي: بجملة القوم تابعهم ومتبوعهم لشؤم الأشرار (ثم يبعثون) ويعاملون عند الحساب (على نياتهم) فيعامل كل بقصده من الخير أو الشر. وفي الحديث: أن من كثر سواد قوم في المعصية مختاراً أن العقوبة تلزمه معهم. وفيه أن الأعمال تعتبر بنية العامل، وفيه التحذير من مصاحبة أهل الظلم ومجالستهم وتكثير سوادهم إلا لمن اضطرّ إلى ذلك (متفق عليه) ورواه أيضاً غيرهما، و (هذا) المذكور (لفظ البخاري) ولمسلم ألفاظ وهي بنحو ما ذكر، فمن ألفاظه. فقلنا: إن الطريق تجمع الناس. قال: «نعم فيهم المستنصر لذلك» أي: للمقاتلة «والمجبور» بالجيم الموحدة: أي المكره «وابن السبيل» أي: سالك الطريق معهم وليس منهم. فقال «يهلكون مهلكاً واحداً ويصدرون مصادر شتى، يبعثهم الله على نياتهم» . 33 - (وعن عائشة رضي الله عنها قال قالت النبيّ: لا هجرة) أي: من مكة (بعد الفتح) أي: فتحها، وجاء في حديث للبخاري مرفوعاً «لا هجرة بعد فتح مكة» وكان في رمضان سنة ثمان من الهجرة. وذلك أن الهجرة: أي مفارقة دار الكفر إلى دار الإسلام كانت واجبة على من بمكة فيجب على من أسلم بها أن يهاجر منها إلى المدينة لكونها كانت دار كفر فلما فتحت صارت دار إسلام، أما الهجرة من المواضع التي لا يتأتى إقامة أمر الدين فيها فهي واجبة اتفاقاً، وعلى ذلك يحمل حديث «لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار» قال الخطابي: كانت الهجرة على معنيين: أحدهما أنهم إذا أسلموا وأقاموا بين قومهم أو ذوا، فأمروا بالهجرة ليسلم لهم دينهم ويزول عنه الأذى. والآخر الهجرة من

مكة إلى المدينة لأن أهل الدين بالمدينة كانوا قليلين ضعيفين، فكان الواجب على من أسلم أن يهاجر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن حدث حادث استعان بهم في ذلك، فلما فتحت مكة استغنى عن ذلك، إذ كان معظم الخوف من أهلها، فأمر المسلمون أن يقيموا في أوطانهم ويكونوا على نية الجهاد مستعدين لأن ينفروا إذا استنفروا. قال المصنف: يتضمن الحديث على هذا القول معجزة لرسول الله، وهي أن مكة تبقى دار الإسلام لا يتصوّر منها الهجرة. قال: وقيل معنى الحديث: لا هجرة بعد الفتح، فضلها كفضل الهجرة قبل الفتح. قال تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل} (الحديد: 10) الآية اهـ (ولكن جهاد ونية) قال الطيبي: كلمة لكن تقتضي مخالفة ما بعدها لما قبلها: أي: المفارقة عن الأوطان المسماة بالهجرة المطلقة انقطعت لكن المفارقة بسبب الجهاد باقية مدى الدهر، وكذا المفارقة بسبب نية خالصة تعالى كطلب العلم والفرار بدينه ونحوه. وقال المصنف تحصيل الخبر بسبب الهجرة قد انقطع بالفتح، ولكن حصلوه بالجهاد والنية (وإذا استنفرتم) أي: طلبكم الإمام للخروج إلى الجهاد، ويحتمل العموم أي إذا استنفرتم إلى الجهاد ونحوه (فانفروا) بكسر الفاء على الأفصح ويجوز ضمها وبالأول جاء القرآن: أي أخرجوا (متفق عليه) ورواه أبو داود، وروى بعضه الإمام أحمد وابن حبان وأبو عوانة والدارمي وابن الجارود وقال الترمذي: إنه حسن صحيح. نقله العزّبن فهد في «الأربعين» التي خرّجها في الجهاد (ومعناه لا هجرة من مكة) أي بعد الفتح واجبة: لأنها وجبت منها أو لا لكونها كانت داراً للكفر وقد زال بفتحها فلا يجب منها (لأنها صارت دار إسلام) أو معناه كما يؤخذ من كلام الخطابي: لا هجرة إلى المدينة واجبة على من آمن

وأمن على دينه بعد الفتح، لأنها إنما وجبت أو لا لكون المسلمين بالمدينة يومئذٍ كانوا قليلين، فكان الواجب على من أسلم الهجرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إعانة له، واستغنى عن ذلك بعد فتح مكة لأن معظم الخوف كان من أهلها. 44 - (وعن أبي عبد الله جابربن عبد الله الأنصاري) الخزرجي السلمي بفتح اللام لنسبته إلى سلمةبن سعد. روي عنه أنه قال: «غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسع عشرة غزوة ولم أشهد بدراً ولا أحداً، منعني أبي، فلما قتل أبي لم أتخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة قط» . وعنه قال: أنا وأبي وخالي من أصحاب العقبة وكان أبوه يومئذٍ أحد النقباء. وكان جابر من أصغر الصحابة سناً. وكان من ساداتهم وفضلائهم المتحفين بحبّ رسول الله. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألف وخمسمائة وأربعون حديثاً اتفقا منها على ستين، وانفرد البخاري بستة عشر، ومسلم بمائة وستة وعشرين. توفي بالمدينة بعد أن كفّ بصره سنة ثلاث وسبعين وهو ابن أربع وتسعين سنة، وصلى عليه أبانبن عثمان، وكان والي المدينة، وجابر آخر الصحابة موتاً بالمدينة (رضي الله عنهما) أشار إلى أنه ينبغي لكل من ذكر صحابياً أبوه صحابي، أي وقد ذكره، أن يقول رضي الله عنهما (قال: كنا مع النبيّ في غزاة) هي غزوة تبوك كما صرحت به رواية البخاري الآتية. وفي «النهاية» غزا يغزو غزوا فهو غاز، والغزوة: المرّة من الغزو، والاسم الغزاة: أي: بفتح الغين، وجمع الغازي غزاة بضمها وغزى وغزىّ وغزاة كقضاة وفسق وحجيج وفساق اهـ (فقال: إنّ بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً) أي: سيراً أو في مكان سير، فهو مصدر ميمي أو اسم مكان (ولا قطعتم وادياً) فيه إشارة إلى قوله تعالى: {ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل ا} (التوبة: 120) إلى قوله: {ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون} (التوبة: 121) (إلا كانوا معكم) أي: شركوكم في الأجر كما في الرواية الثانية «وكان لهم مثل أجركم مضاعفاً» لصحة نيتهم في مباشرة كل ما باشره إخوانهم المجاهدون (حبسهم)

أي: منعهم (المرض) فلصحة النية أعطاهم الله مثل أجر المباشر. كذا في «المفهم» (وفي رواية إلا شركوكم) بكسر الراء (في الأجر) بدل قوله: إلا كانوا معكم. قال العاقولي في «شرح المصابيح» : هذا دليل على أنهم شركاء في الأجر وعلى التساوي أيضاً، لأنه إذا قال الرجل لصاحبه هذا لي ولك حمل على المساواة، ولذلك تجعل الدار بينهما نصفين إلا أنه يستدل بقوله تعالى: {لا يستوي القاعدون} (النساء: 95) الآية على ترجيح جانب الغازي على جانب القاعد، فيحمل ذلك على القاعد من غير عذر، والتساوي المفهوم من الحديث على القاعد بعذر فلا معارضة بين الآية والحديث، وسيأتي زيادة تحقيق في هذا المقام (رواه مسلم) . 55 - (ورواه البخاري عن أنس) عدل المصنف عن قوله متفق عليه مع أنهما روياه لكن باختلاف يسير في لفظه، وذلك الاختلاف لا يضر في إطلاق الإتفاق، لاختلاف صحابي الحديث عندهما. وقد اختلف في مثل ذلك هل هو مما اتفقا عليه، وبه قال ابن الجوزي وقال جمهور المحدّثين: لا يطلق اتفاقهما إلا على ما اتفقا على إخراج إسناده ومتنه معاً. نقله الحافظبن حجر في «نكته» على كتاب ابن الصلاح (قال رجعنا من غزوة تبوك) بفتح الفوقية وهي في طرف الشام من جهة القبلة بينها وبين المدينة النبوية نحو أربع عشرة مرحلة. وكانت غزوته تبوك في سنة تسع من الهجرة وهي آخر غزواته. قال الأزهري: أقام بتبوك بضعة عشر يوماً. والمشهور ترك صرف تبوك للتأنيث والعلمية، وفي رواية «صحيح البخاري» في حديث كعببن مالك: أي الآتي في باب التوبة: «لم يذكرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بلغ تبوكاً» بالصرف في جميع النسخ باعتبار إرادة الموضع (مع النبيّ) أي: صحبته (فقال: إن أقواماً) أي: رجالاً بدليل الرواية السابقة، ولأن القوم مختص بالرجال، قال تعالى: {لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم * ولا نساء من نساء} (الحجرات: 11) الآية. وقال الشاعر: أقوم آل حصن أم نساء. (خلفنا) بسكون اللام أي وراءنا، وفي نسخة بتشديدها، من التخليف أي خلفنا خلفاً (بالمدينة) علم بالغلبة على دار هجرته (ما سلكنا شعباً) بكسر الشين المعجمة أي الطريقة في الجبل كما قاله ابن

السكيت، قيل: الفرجة النافذة بين الجبلين (ولا وادياً) هو الموضع الذي يسيل فيه الماء كذا في «مفردات الراغب» (إلا وهم معنا) بفتح العين والجملة حالية (حبسهم العذر) استئناف بياني جواباً عن السؤال المقدر من حصول مثل ثواب المجاهد لهم مع قعودهم، وقد جاء السؤال مصرّحاً به في رواية أبي داود عن أنس، ولفظها: أن النبيّ قال: «لقد تركتم بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من وادٍ إلا وهم معكم، قالوا: يا رسول الله وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: حبسهم العُذر» والعذر بضم المهملة: وصف يعرض للمكلف يناسب التسهيل عليه. 66 - (وعن أبي يزيد معن) بفتح الميم وسكون المهملة آخره نون (ابن يزيدبن الأخنس) بمعجمة فنون فمهملة (رضي الله عنهم) أتى بضمير الجمع وعلل الإتيان به كذلك بقوله: (هو وأبو وجده صحابيون) أي: وما كان كذلك فينبغي أن يؤتى عند ذكرهم بالترضي عليهم بصيغة الجمع. والصحابي على الصحيح: من اجتمع بالنبيّ حال حياته مؤمناً به ولو لحظة ومات على الإيمان. قيل: وقد شهد الثلاثة بدراً. قال الكرماني: ولم يتفق ذلك لغيرهم. وقيل: لم يشهدها معن. نزل معن الكوفة ثم مصر ثم الشام وقتل بمرج راهط سنة أربع وستين في دولة مروان. ذكره ابن الجوزي في «التلقيح» فيمن له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة أحاديث، وقال: قال البرقي له حديثان اهـ. انفرد البخاري بالرواية عنه عن مسلم للحديث الآتي، وروي عنه أبو داود (قال) أي: معن من جملة حديث (كان أبي) الأولى «وكان أبي» بالواو تنبيهاً على أنه بعض حديث (يزيد) بالرفع عطف بيان لأبي أو بدل منه (خرج دنانير يتصدق بها) ظاهره صدقة تطوع (فوضعها عند رجل في المسجد) أي: وأذن له أن يتصدق بها على المحتاج إليها (فجئت) الرجل (فأخذتها) أي: باختيار منه (فأتيته) أي: أبي (بها) أي: مصاحباً لها (فقال: وا ما إياك أردت) بهذه الدنانير المتصدق

بها (فخاصمته) منتهياً (إلى رسول الله. فقال) : (لك ما نويت) أي: ثوابه (يا يزيد) لأنك نويت التصدق بها على محتاج، وابنك محتاج وإن لم تنوه (ولك ما أخذت يا معن) لكونك قبضتها قبضاً صحيحاً (رواه البخاري) . 77 - (وعن أبي إسحاق سعدبن أبي وقاص) بتشديد القاف آخره مهملة (مالك) بالجر على العطف على أبي أو بدلاً منه ويجوز قطعه عنه مرفوعاً بتقدير هو، ومنصوباً بتقدير أعني (أبن أهيب) بضم الهمزة وفتح الهاء وسكون التحتية (ابن عبد مناف) بفتح الميم (ابن زهرة) بضم الزاي (ابن كلاب) بكسر الكاف يحتمل أن يكون منقولاً عن جمع كلب، وأن يكون منقولاً عن مصدر كالب. وفي «المواهب اللدنية» : سئل أعرابيّ لم تسمون أبناءكم بشرّ الأسماء نحو كلب وذئب، وعبيدكم بأحسنها نحو مرزوق ورباح؟ فقال: إنا نسمي أبناءنا لأعدائنا وعبيدنا لأنفسنا. يريد أن الأبناء عدة للأعداء وسهام في نحورهم، فاختاروا لهم هذه الأسماء. وكلاب هذا يجتمع فيه نسب أبي النبيّ وأمه. واسم كلاب حكيم وقيل عروة (ابن مرّة) بضم الميم وتشديد الراء (ابن كعب) وهو أول من جمع يوم العروبة كانت تجتمع إليه قريش في هذا اليوم فيخطبهم ويذكرهم بمبعث النبيّ ويعلمهم أنه من ولده ويأمرهم باتباعه والإيمان به (ابن لؤيّ) بضم اللام وفتح الهمزة وتقدم ما يتعلق به أول الباب (ابن غالب القرشيّ الزهريّ رضي الله عنه) أسلم سعد قديماً. وسبب إسلامه مذكور في «شرح الأذكار» ، وكان من المهاجرين الأولين شهد بدراً وما بعدها، وكان يقال له فارس الإسلام، وهو (أحد العشرة المشهود لهم بالجنة رضي الله عنهم) وقد جمع أسماءهم غير واحد كالحافظ زين الدين العراقي فقال: وأفضل أصحاب النبي مكانة ومنزلة من بشروا بجنان سعيد زبير سعد عثمان عامر علي ابن عوف طلحة العمران وأحد الستة أصحاب الشورى، كان يحرس النبيّ في مغازيه، وجمع له النبي

أبويه فقال: «فدالك أبي وأمي أيها الغلام الحزور، اللهم سدّد رميته وأجب دعوته» . ثم قال لهم هذا خالي فليأت كل رجل بخاله. وفي هذا المقام في «شرح الأذكار» بسط فراجعه. ودعا له النبيّ بالشفاء من جرح كان به فشفي وهو أول من أراق دماً في الإسلام، وأول من رمى بسهم في سبيلالله، وأخباره في الشجاعة والشدة في دين الله واتباع السنة والزهد والورع وإجابة الدعوة والصدق والتواضع شهيرة. روي له عن النبي مائتان وسبعون حديثاً. وفي «التلقيح» لابن الجوزي مائتان وإحدى وسبعون حديثاً. وقال أبو نعيم أسند مائة حديث ونيفاً سوى الطريق. وقال البرقي: الذي حفظ عنه نحو من سبعين حديثاً اهـ. اتفق على خمسة عشر حديثاً، وانفرد البخاري بخمسة عشر، ومسلم بثمانية عشر. توفي في قصره بالعقيق على سبعة أميال من المدينة، وحمل على أعناق الرجال إلى المدينة، وصلى عليه والي المدينة مروانبن الحكم وأزواج النبيّ قيل وكان آخر المهاجرين موتاً بالمدينة ولما حضرته الوفاة دعا بخلق جبة له فقال: كفنوني فيها، فإني كنت لقيت المشركين فيها يوم بدر وكنت أخبؤها لهذا اليوم. وكانت وفاته سنة ثمان أو خمس وخمسين وله بضع وستون أو سبعون أو ثمانون أو تسعون سنة (قال: جاءني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني) فيه عيادة الكبير أتباعه، ففيه التواضع ولين الجانب (عام حجة الوداع) سميت بذلك لأنه ودعهم فيها وهو بكسر الواو ويجوز فتحها، وتسمى بحجة البلاغ، لأنه قال لهم فيها: «هل بغلت» وبحجة الإسلام، لأنها الحجة التي حجّ فيها المسلمون وليس فيها مشرك (من وجع اشتد بي) وفي رواية لهما «أشفيت منه على الموت» أي: قاربته وأشرفت عليه (فقلت، يا رسول الله إني قد بلغ بي من الوجع ما ترى) فيه جواز ذكر المريض ما يجده لغرض صحيح من نحو مداواة أو دعاء صالح أو وصية أو استفتاء عن حالة، وكراهة ذلك محمولة على ما كان على وجه التسخط ونحوه لكونه قادحاً في أجر مرضه (وأنا ذو مال) فيه دليل إباحة جمع المال، لأن هذه الصيغة لا تستعمل في العرف إلا لمال كثير (ولا يرثني) من الولد أو خواصّ الورثة وإلا فقد كان له عصبة، وقيل معناه؛ لا يرثني من أصحاب الفروض (إلا ابنة لي) اسمها عائشة ولم يكن إذ ذاك سواها، ثم جاء له بعد ذلك أولاد. وتعقب الحافظ ذلك في «الفتح» ، ثم قال؛ والظاهر أن البنت المشار إليها هي أم الحكم الكبرى، وأمها بنت شهاببن عبد ابن الحارث.t قال

الحافظ؛ ولم أر من حررّ ذلك (أفأتصدق بثلثي مالي) يحتمل أنه أراد بالصدقة الوصية، ويحتمل أنه أراد الصدقة المنجزة، وحكمهما سواء عندنا. وعند العلماء كافة لا ينفذ منهما ما زاد على ثلث التركة إلا برضى الوارث (قال لا، قلت فالشطر) أي: فالنصف بالرفع على الابتداء أي أتصدق به أو على أنه فاعل لفعل مقدر: أي أفيجوز الشطر؟ وقال في «فتح الباري» : هو بالنصب على تقدير فعل: أي أسمي أو أعين الشطر. ثم قال: ويجوز الرفع (قال لا، قلت فالثلث) بالرفع أو النصب (قال) : (الثلث) بالرفع على تقدير أنه فاعل فعل محذوف: أي يكفيك الثلث، أو خبر مبتدإ محذوف: أي المشروع الثلث، أو مبتدأ حذف خبره: أي الثلث كافيك، وبالنصب على الإغراء أو بفعل مضمر: أي أعط الثلث (والثلث كثير) بمثلثة وعليه اقتصر الشيخ زكريا في «تحفة القاري» على البخاري (أو كبير) أي: بموحدة، وقد حكاه مع ما قبله المصنف في «شرح مسلم» روايتين قال وكلاهما صحيح. قال في «فتح الباري» : المحفوظ في أكثر رواياته بالمثلثة، ومعناه كثير بالنسبة إلى ما دونه قال: وهذا محتمل أن يكون مسوقاً لبيان جواز التصدق بالثلث، وأن الأولى النقص عنه وهو ما يتبادر إلى الفهم، ومحتمل أن يكون لبيان أن التصدق بالثلث من الأكمل: أي كثير أجره أو كثير غير قليل. قال الشافعي: وهذا أولى معانيه، يعني أن الكثرة أمر نسبي اهـ. (إنك) يجوز فتح الهمزة وهو أوضح لأنه علة لما تضمنه قوله: «والثلث كثير» من أنه لا ينبغي أن يوصي بالثلث بل ينقص عنه شيئاً قليلاً، ويجوز كسرها استئنافاً، وفيه الإشارة إلى تلك العلة أيضاً (أن تذر ورثتك أغنياء) بفتح همزة أن: أي لأن تذر فمحله جرّ أو نصب على الخلاف في ذلك، أو هو مبتدأ فمحله رفع وخبره (خير) وعلى الأول فهو خبر لأن، ويجوز كسر همزة أن إن صحت به الرواية، قال ابن الجوزي: سمعناه من رواة الحديث بالكسر فإن فيه شرطية وجوابها جملة صدرها مع فاء الجواب محذوف: أي فو خير، وبصحة الرواية اندفع ما قبل حذف ذلك ضرورة (من أن تذرهم) أي: تتركهم (عالة) بتخفيف اللام فقراء (يتكففون الناس) أي: يسألونهم ما في أكفهم، ففي الحديث حثّ على صلة الأرحام والإحسان إلى الأقارب والشفقة على الورثة، وأنّ صلة القريب الأقرب أفضل من الأبعد (وإنك لن تنفق نفقة) معطوف على قوله: «إنك أن تذر» إلى آخره، وهما علة للنهي عن الوصية

بأكثر من الثلث كأنه قال: لا تفعل لأنك إن متّ تركت ورثتك أغنياء وهو خير لك، وإن عشت تصدقت وأنفقت فالأجر حاصل لك في الحالين، وعبر بتنفق مع أن اشتراط الإخلاص لا يختص به بل يجري في كل تصرّف ما لي أو فعلى تفاؤلاً، فإن الإنفاق إنما يقال فيما صرف في الخير، وغيره يقال فيه حسنى وصنيع. وقال ابن أبي جمرة: نبه بالنفقة على ما سواها من عمل البرّ (تبتغي بها وجه ا) أي: ذاته وحده كما دل عليه السياق (إلا أجرت) بالبناء للمجهول: أي آجرك الله (عليها) وفي نسخة «بها» لأنه من العمل الصالح (حتى ما تجعل في في امرأتك) حتى عاطفة، وما اسم موصول في محل نصب عطفاً على نفقة، ويجوز الرفع على أنه مبتدأ: أي إلا أجرت بالنفقة التي تبتغي بها وجه الله حتى بالشيء الذي تجعله في فم امرأتك، ففي الحديث أن الأعمال بالنيات. وإنما يثاب على عمله بنيته، وأن الإنفاق على العيال يثاب عليه إذا قصد وجه الله تعالى به. وفيه أن المباح إذا قصد به وجه الله صار طاعة ويثاب عليه؛ إذ وضع اللقمة في فم امرأته إنما يكون في العادة عند الملاعبة والملاطفة والتلذّذ بالمباح، فهذه الحالة أبعد الأشياء عن الطاعة وأمور الآخرة، ومع ذلك فقد أخبر الشارع بأن ذلك يؤجر عليه بالقصد الجميل. فغير هذه الحالة أولى بحصول الأجر إذا قصد به وجهالله. ويؤخذ منه أن الإنسان إذا فعل مباحاً من أكل أو شرب وقصد به وجه الله كالاستعانة بذلك على الطاعة وبالنوم على قيام الليل يثاب عليه. ووجه عطف جملة وإنك لن تنفق الخ» على «إنك» الأولى بيان سبب استكثار الثلث ببيان ما يتعلق به في الدنيا والآخرة: أي: لا تستقل الثلث، فإنك إذا أخرجته أثبت الثواب العظيم. وأبقيت لورثتك ما يصونون به وجوههم عن ذلّ السؤال، ومع ذلك تكون قد تداركت به ما فرطت. كما في حديث «إن الله أعطى عبده ثلث ماله في آخر عمره ليتدارك به ما فرط منه» (قال فقلت يا رسول الله أخلف) بضم الهمزة وفتح اللام المشددة، وفي نسخة من البخاري «أخلف» بهمزة الاستفهام: أي أخلف في مكة (بعد أصحابي) أي: بعد انصرافهم معك. قال القاضي عياض: قاله إما إشفاقاً من موته بمكة لكونه هاجر منها وتركها فخشي أن يقدح ذلك في هجرته أو في ثوابه، أو خشي بقاءه بمكة بعد انصراف النبي وأصحابه إلى المدينة وتخلفه عنهم بسبب المرض، وكانوا يكرهون الرجوع فيما تركوه. ولذا جاء في رواية أخرى «أخلف عن هجرته» . قال القاضي: قيل كان حكم الهجرة باقياً بعد الفتح لهذا الحديث، وقيل: إنما كان ذلك لمن هاجر قبل الفتح اهـ (قال إنك لن تخلف) أي:

بأن يطول عمرك وبقاؤك في الحياة بعد جماعات من أصحابك (فتعمل عملاً يبتغي) تقصد (به وجه ا) وحده: أي: ذاته (إلا ازددت به درجة) في الجنة (ورفعة) بكسر الراء، ففي هذا فضيلة طول العمر للازدياد من العمل الصالح، والحثّ على إرادة وجه الله تعالى بالأعمال (ولعلك أن تخلف) بأن يطول عمرك (حتى ينتفع بك أقوام) في دينهم ودنياهم (ويضربك آخرون) هذا من جملة إخباره بالمغيبات فإنه عاش حتى فتح العراق وغيره، وانتفع به قوم في دينهم ودنياهم، وتضرر به الكفار في دينهم ودنياهم، فإنهم قتلوا إلى جهنم وسبيت نساؤهم وأولادهم، وغنمت أموالهم وديارهم، وولى العراق فاهتدى على يديه خلائق بإقامة الحق فيهم من كفار ونحوهم (اللهمّ) أصله يا أ، فحذف حرف النداء وعوّض عنه الميم ولهذا امتنع الجمع بينهما في الاختيار، وبسطت الكلام في تحقيق هذه الكلمة في «شرح الأذكار» قيل: وهو الاسم الأعظم (أمض) بفتح الهمزة: أي أتمم (لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم) قال القاضي عياض: استدل به بعضهم على أن بقاء المهاجر بمكة كيف كان قادحاً في هجرته، ولا دليل فيه عندي لأنه يحتمل أنه دعا لهم دعاء عاماً أو تقدم معنى ذلك (لكن البائس) بموحدة وبالمد: أي الذي آثر البؤس، أي شدة الفقر والقلة (سعدبن خوله) بفتح الخاء المعجمة وهو زوج سبيعة الأسلمية (يرثى له) أي: يرق له ويترحم له (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن) بفتح الهمزة: أي: لأنه (مات بمكة) وهي الأرض التي هاجر منها. قال العلماء: انتهى كلام النبي إلى قوله: «لكن البائس سعدبن خولة» ، وما بعده، مدرج من الراوي قيل من سعد وقد جاء مفسراً في بعض الروايات، وقيل أكثر ما جاء من كلام الزهري. واختلف في قصة سعدبن خولة: فقيل: لم يهاجر من مكة حتى مات بها. وقيل: إنه هاجر وشهد بدراً ثم انصرف إلى مكة ومات بها، وقيل: هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية وشهد بدراً وغيرها، وتوفي بمكة في حجة الوداع سنة عشر، وقيل: توفي بمكة سنة سبع في الهدنة، خرج مختاراً من المدينة إلى مكة. فعلى القول الأول سبب بؤسه عدم هجرته. وعلى الثاني والأخير سبب بؤسه سقوط هجرته لرجوعه مختاراً بها. وعلى القول الثالث سبب بؤسه موته بمكة على أي حال كان وإن لم يكن باختياره، لما فاته من الأجر الكامل بالموت في دار هجرته، والغربة عن وطنه الذي هجره تعالى،

ذكره المصنف في «شرح مسلم» (متفق عليه) ورواه مالك في «الموطإ» وأبو داود والترمذي والنسائي كذا في «جامع الأصول» لابن الأثير. 78 - (وعن أبي هريرة) جره بالكسرة هو الأصل وصوّبه جماعة لأنه جزء علم، واختار آخرون منع صرفه كما هو شائع على ألسنة العلماء من المحدثين وغيرهم، لأن الكل صار كالكلمة الواحدة. واعترض بأنه يلزم عليه رعاية الأصل والحال معاً في كلمة واحدة بل في لفظ هريرة إذا وقعت فاعلاً مثلاً، فإنها تعرب إعراب المضاف إليه نظراً للأصل وتمنع من الصرف نظراً للحال، ونظيره خفي. وأجيب بأن الممتنع رعياتهما من جهة واحدة لا من جهتين كما هنا، وكأن الحامل عليه الخفة واشتهار هذه الكنية، حتى نسي الاسم الأصلي بحيث اختلفوا فيه وفي اسم أبيه على خمسة وثلاثين قولاً، أصحها (عبد الرحمنبن صخر رضي الله عنه) وسبب تكنيته بذلك ما رواه ابن عبد البر عنه أنه قال: «كنت أحمل يوماً هرة في كمي، فرآني النبي فقال: ما هذه؟ فقلت: هرة، فقال: يا أبا هريرة» وفي رواية إسحاق «وجدت هرة حملتها في كمي فقيل لي: ما هذه؟ فقلت: هرة، فقيل أنت أبو هريرة» روجح بعضهم الأول، وقيل غير ذلك. أسلم عام خيبر وشهدها مع رسول الله، ثم لازمه الملازمة التامة رغبة في علم راضياً بشبع بطنه، وكان يدور معه حيثما دار، ومن ثم كان أحفظ الصحابة، وقد شهد له أنه حريص على العلم والحديث. يروى عنه كما قال البخاري أكثر من ثمانمائة ما بين صحابي وتابعي، وله خمسة آلاف حديث وثلاثمائة وأربعة وسبعون حديثاً اتفقا منها على ثلاثمائة، وانفرد البخاري بثلاثة وسبعين. وكان ملازماً لسكنى المدينة، وبها توفي في سنة سبع أو ثمان أو تسع وخمسين عن ثمان وسبعين سنة، ودفن بالبقيع. وما اشتهر أن قبره بقرب عسقلان لا أصل له إنما ذاك صحابي اسمه حيدرة (قال: قال رسول الله: إن الله تعالى لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى

صوركم) أي: لا يثيبكم عليها ولا يقربكم منه ذلك كما قال تعالى: {وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً} (سبأ: 37) الآية، فمعنى نظر اهنا مجازاته وإثباته، وهذا بعينه يأتي في قوله تعالى: {ولا ينظر إليهم} (آل عمران: 77) وإلا فنظره تعالى الذي هو رؤيته للموجودات وإطلاعه عليها لا يخص موجوداً دون موجود بل يعم جميع الأشياء، إذ لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. والحاصل أن الإثابة والتقريب ليسا باعتبار الأعمال الظاهرة وإنما هي باعتبار ما في القلب كما قال: (ولكن ينظر إلى قلوبكم) وفي الحديث الاعتناء بحال القلب وصفاته بتحقيق علومه وتصحيح مقاصده وعزومه، وتطهيره عن كل وصف مذموم وتحليته بكل نعت محمود، فإنه لما كان القلب محل نظر الربّ حق على العالم بقدر اطلاع الله تعالى على قلبه أن يفتش عن صفات قلبه وأحواله لإمكان أن يكون فيه وصف مذموم يمقته الله بسببه. وفيه أن الاعتناء بإصلاح القلب وبصفاته مقدم على عمل الجوارح، لأن عمل القلب هو المصحح للأعمال الشرعية، إذا لا يصح عمل شرعي إلا من مؤمن عالم بمن كلفه، مخلص له فيما يعمله، ثم لا يكمل إلا بمراقبته تعالى فيه المعبر عنها بالإحسان، وحيث كان عمل القلب مصمماً للعمل الظاهر وعمل القلب غيب عنا فلا يقطع لذي عمل صالح بالخير، فلعل الله تعالى يعلم من قلبه وصفاً مذموماً لا يصح معه ذلك العمل، ولا لذي معصية بالشرّ فلعله سبحانه يعلم من قلبه وصفاً محموداً يغفر له بسببه، والأعمال أمارات ظنية، لا أدلة قطعية، ويترتب على ذلك عدم الغلوّ في تعظيم من رأينا عليه أفعالاً صالحة، وعدم الاحتقار لمسلم رأينا عليه أفعالاً سيئة، بل تحتقر تلك الحالة السيئة، لا تلك الذات المسيئة، فتدبر هذا فإنه نظر دقيق، لخص من المفهم للقرطبي (رواه مسلم) وابن ماجه أيضاً. 99 - (وعن أبي موسى عبد ا) بالجر عطف بيان أو بدل من أبي موسى (ابن قيس)

بفتح القاف وسكون التحتية آخره مهملة (الأشعري) نسبة إلى الأشعر قبيلة مشهورة باليمن والأشعر هو مرةبن أددبن زيدبن يشجب، وإنما قيل له الأشعر لأن أمه ولدته والشعر على بدنه، كذا في لبّ اللباب. قدم أبو موسى (رضي الله عنه) مكة على النبي قبل الهجرة فأسلم ثم هاجر، وقدم المدينة مع جعفر وأصحاب السفينة بعد خيبر، وأسهم لهم منها كمن حضرها، وقال؛ لكم أهل السفينة هجرتان، وكان لأبي موسى ثلاث هجر: إلى مكة، ثم إلى الحبشة، ثم إلى المدينة. ولاه على زبيد وعدن وساحل اليمن، وكان يكرمه ويبجله، وقال له «لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود» وولاه الولايات، وقد ذكرت جملة من أحواله في باب فضل الذكر من «شرح الأذكار» ، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثمائة وستون حديثاً اتفقا منها على تسعة وأربعين حديثاً، وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بخمسة عشر. توفي بمكة وقيل بالكوفة سنة اثنتين أو أربع وأربعين عن ستين سنة (قال سئل) بالبناء للمجهول، والسائل هو لاحق ابن ضمرة الباهلي كما في «تحفة القاري» (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يقاتل) في محل الصفة أو الحال من الرجل، لأن أل فيه جنسية فهو نظير قوله تعالى: {وأية لهم الليل نسلخ منه النهار} (يس: 37) وقال الشاعر: ولقد أمر على اللئيم يسبني فمضيت ثمت قلت لا يعنيني (شجاعة) هي الإقدام على العدو عن روية، قال الشاعر:

الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني (و) سئل عن الرجل (يقاتل حمية) بتشديد التحتية: أي: أنفة وغيره ومحاماة عن عشيرته. (و) سئل عن الرجل (يقاتل رياء) أي: ليرى الناس قتاله ومثله القتال سمعة أي ليسمع الناس، وقوله: «شجاعة» بالنصب وكذا المذكورات في الجمل المعطوفة بعده، وقد جاء في رواية «سئل عن الرجل يقاتل للذكر» الحديث؛ أي: لأن يذكر بالشجاعة؛ أي: ملاحظة لنظر الخلق ليمدحوه ويقبلوا عليه، فشجاعة وكذا المنصوبات في الجمل المعطوفة بعده مفعول له (أيّ ذلك) بالرفع مبتدأ وهو اسم استفهام وخبره (في سبيل ا) أي: كائن في طاعته (فقال رسول الله: من قاتل لتكون كلمة ا) أي: دين الإسلام، فإن الإسلام ظهر بكلام الله الذي أظهره على لسان رسول الله، وقيل: المراد من كلمة الله دعوته إلى الإسلام (هي العليا فهو في سبيل ا) يدخل في الحديث من قاتل لطلب ثواب الآخرة أو رضي الله لأنه من إعلاء كلمةالله. وحاصل الجواب أن القتال في سبيل الله قتال منشؤة القوّة العقلية لا القوة الغضبية أو الشهوانية، قال المصنف؛ في الحديث بيان أن الأعمال إنما تحسب بالنيات الصالحة، وأن الفضل الوارد في المجاهدين يختص بمن قاتل لإعلاء كلمة الله (متفق عليه) ورواه أبو داود والنسائي والترمذي. 1010 - (وعن أبي بكرة) بسكون الكاف كني بذلك لأنه تدلى ببكرة من حصن الطائف إلى النبي لما حاصر الطائف، ثالث ثلاثة وعشرين من عبيد أهل الطائف (نفيع) بضم النون وفتح الفاء وسكون التحتية آخره مهملة عطف بيان أو بدل من أبي بكرة، وقيل اسمه مسروح بمهملات، وقيل اسم أبيه ذلك (ابن الحارث) بن كلدة بفتحتين (الثقفي) نسبة لثقيف بوزن رغيف. كان أبو بكرة (رضي الله عنه) من ذوي المزايا من أصحاب رسول الله، نزل البصرة وشهد وقعة الجمل ولم يقاتل فيها واجتنب حروب الصحابة، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة واثنتان وثلاثون حديثاً، اتفقا على ثمانية منها، وانفرد البخاري بخمسة ومسلم بواحد. توفي بالبصرة سنة إحدى أو اثنتين وخمسين (أن النبي قال: إذا التقى

المسلمان بسيفيهما) قاصداً كل منهما إتلاف صاحبه (فالقاتل) بسببه مباشرته قتل صاحبه (والمقتول) لحرصه على ذلك كائنان (في النار) أي: إن لم يعف الله عنهما (قلت: يا رسول الله هذا القاتل) : أي: حكمة دخوله النار إن لم يعف الله عنه ظاهرة لأنه ظلم أخاه (فما بال المقتول) المظلوم (قال إنه) أي: المقتول (كان) عاصياً لأنه كان (حريصاً على قتل صاحبه) ففي الحديث العقاب على من عزم على المعصية بقلبه ووطن نفسه عليها، ويحمل ما جاء في الأحاديث من العفو عن الخواطر على غير ذلك بأن مر ذلك بفكره من غير استقرار ويسمى هما المعصية التي عزم عليها كما ذكر تكتب سيئة ويؤاخذ بها إن لم يعملها فإن عملها كتبت معصية ثانية، وإن تركها خوفاً من الله تعالى كتبت حسنة. وتمسك أبو بكرة بهذا الحديث في ترك القتال في الفتنة حتى نقل عنه أنه قال: لو دخل عليّ أحد حتى يقتلني لم أمنعه (متفق عليه) قال في «الجامع الصغير» ورواه أحمد وأبو داود والنسائي عن أبي بكرة، ورواه ابن ماجه عن أبي موسى. 1111 - (وعن أبي هريرة) سبقت ترجمته (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: صلاة الرجل جماعة) أي: في المسجد (تزيد على صلاته) أي: الرجل (في سوقه) سميت بذلك لأن الناس يسوقون إليها بضائعهم. أو لأنهم يقفون فيها على ساق (و) تزيد على صلاته في (بيته) جماعة كانت أو فرادي صرح به الحافظ في «الفتح» ، لكن قال المصنف: الصواب أن المراد منه صلاته في بيته وسوقه منفرداً، وقيل فيه غير هذا وهو قول باطل اهـ. وقال الحافظ: مقتضى الحديث أن الصلاة في المسجد جماعة تزيد على الصلاة في البيت جماعة وفرادى. قال ابن دقيق العيد: والذي يظهر لي أن المراد بمقابل الجماعة في المسجد الصلاة في غيره منفرداً، لكنه خرج مخرج الغالب في أن من لم يحضر الجماعة

في المسجد صلى منفرداً، قال: وبهذا يرتفع إشكال من استشكل تسوية الصلاة في البيت والسوق اهـ. ولا يلزم من حمل الحديث على ظاهره التسوية المذكورة، إذ لا يلزم من استوائهما في المفضولية عن المسجد ألا يكون أحدهما أفضل من الآخر، وكذا لا يلزم منه أن تكون الصلاة جماعة في البيت والسوق لا فضل فيها على الصلاة منفرداً، بل الظاهر أن التضعيف المذكور يختص بالجماعة في المسجد. والصلاة في البيت مطلقاً أولى منها في السوق كذلك. لما ورد من كون الأسواق محلاً للشياطين والصلاة جماعة في السوق والبيت أفضل من الإنفراد (بضعاً) بكسر الباء وفتحها وهو من الثلاثة إلى العشرة. وقيل: من ثلاث إلى تسع، وقيل: غير ذلك، والصحيح الأول. والمراد منه خمس أو ست أو سبع كما جاء مبيناً في روايات في «الصحيح» (وعشرين درجة) أي: يزيد ثواب الصلاة في الجماعة في المسجد على الصلاة في البيت والسوق هذا القدر، فيحصل له بالصلاة في المسجد ثواب أزيد من ثواب ما لو صلى تلك الصلاة بعينها منفرداً فيها بضعاً وعشرين درجة، كما ذكره ابن دقيق العيد وغيره. قال ابن الأثير: إنما قال درجة لأنه أراد الثواب من جهة العلو والارتفاع وأن تلك فوق هذه بكذا درجة لأن الدرجات إلى جهة فوق (وذلك) إشارة إلى أن الأمور المذكورة بعد علة التضعيف والتقدير، وذلك لأنه، فكأنه يقول سبب التضعيف المذكور (أن أحدهم) أي: الواحد من الرجال المدلول عليه بلفظ الرجل فأل فيه استغراقية (إذا توضأ فأحسن الوضوء) بضم الواو: أي: أسبغه وأتى بسننه وآدابه (ثم أتى المسجد) حال كونه (لا يريد) من إتيانه إياه (إلا الصلاة) أي: ثواب الصلاة في جماعة فأن فيه عهدية، وأوقع الفعل على الصلاة لأنها سبب، وليس مفهوم «ثم» وهو المهلة والتراخي مراداً بل المبادرة أولى؛ لقوله تعالى: {أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون} (المؤمنون: 61) .p وفي الحديث إشارة إلى اعتبار الإخلاص (لا ينهزه إلا الصلاة) هو بمعنى ما قبله (لم يخط) بفتح التحية وضم الطاء المهملة (خطوة) قال الحافظ في «الفتح» : ضبطناه بضم أوله،

ويجوز الفتح. قال الجوهري: الخطوة بالضم ما بين القدمين، وبالفتح المرة الواحدة. وجزم اليعمري أنها هنا بالفتح، وقال القرطبي إنها في رواية مسلم بالضم (إلا رفع) بالبناء للمجهول، ونائب الفاعل ضمير يعود إلى الرجل (بها) أي: بسببها، و (درجة) منصوب على الظرفية والدرجة بفتح الدال المرتبة والمنزلة، ثم يحتمل أن تكون حسية في الجنة، وأن تكون معنوية بمعنى ارتفاع رتبته (وحط) أي: وضع (عنه) أي: عن الرجل المذكور بأن يمحي من صحيفته (بها) أي: بسببها (خطيئة) أي: ذنب (حتى) غاية لما قبله: أي إلى أن (يدخل المسجد، فإذا دخل المسجد) منتظراً للصلاة بالنصب على الظرفية على سبيل التوسع، وإلا فحقه ألا ينصب عليها لأنها اسم مكان مختص (كان) الرجل (في الصلاة) أي: في ثوابتها. وهذا مجاز، فإن الصلاة أو ثوابها ليس ظرفاً (ما كانت الصلاة هي تحبسه) «ما» فيه مصدرية ظرفية ثم محله ما لم يصرف جلوسه في مصلاه لغرض آخر، وهل يحصل الثواب المذكور لمن نوى إيقاع الصلاة في المسجد جماعة وإن لم يوقعها فيه أم لا؟ قال القلقشندي: الظاهر الثاني. وقضية ما تقدم في حديث المخلفين عن تبوك من المعذورين من قول القرطبي إنهم يثابون كالمباشر لصدق نيتهم، أن يحصل له الثواب عند صدق النية (والملائكة) قيل: هم أجسام نورانية لطيفة قادرة على التشكل، وقيل: غير ذلك، وهل هي متحيزة أو لا؟ وهل يستقل العقل بمعرفتها أو لا؟ فيه خلاف تحقيقه في علم الكلام (يصلون على أحدكم) أي: يدعون له. وقابل صلاة الجماعة بصلاة الملائكة ليتناسب العمل والثواب. وهؤلاء الملائكة يجوز أن يكونوا الحفظة ويجوز أن يكونوا غيرهم (ما) مصدرية ظرفية أيضاً (دام في مجلسه) أي: مدة دوام كونه في مجلسه (الذي صلى فيه) أي: صلاة تامة كما قال ابن أبي جمرة. قال القلقشندي: والمراد ما دام فيه ينتظر الصلاة وقد ورد كذلك صريحاً عند مسلم، ومقتضى هذا أنه إذا انصرف عن مصلاه إلى موضع آخر في المسجد أو غيره وهو ينتظر الصلاة أنه ينقطع ذلك، وليس مراداً كما نبه عليه الحافظ في «الفتح» ، فقال الباجي: المنتظر في غير مصلاه من المسجد يكون في صلاة كالمنتظر في مصلاه، غير أن المنتظر في مصلاه يختص بصلاة الملائكة عليه (يقولون) بيان ليصلون (اللهم ارحمه، اللهم اغفر له، اللهم تب عليه) فعلم أن المراد بصلاتهم الدعاء لا الاستغفار

فقط. واستدل بالحديث على أفضلية الصلاة على غيرها من الأعمال كما ذكر من دعاء الملائكة للمصلى، وعلى تفضيل صالحي الناس على الملائكة لأنهم يكونوا في تحصيل الدرجات بعبادتهم والملائكة مشغولون بالاستغفار والدعاء لهم (ما لم يؤذ فيه) بسكون المهملة كما قاله الداودي. قال: وضبطها بعضهم بفتحها وأراد بغير ذلكالله. قيل: والمراد بالحدث في الحديث الذي ذكره البخاري الريح كما فسره أبو هريرة راوي الحديث. وقيل: المراد أعم من ذلك ويؤيده رواية مسلم هذه الجامعة بين الأذى والحدث إن لم يكن الثاني تفسيراً للأول، فإن كان تفسيراً له يؤخذ منه أن اجتناب حدث اللسان واليد من باب أولى فيهما ويؤخذ منه أن الحدث يقطع ذلك ولو استمر جالساً في مصلاه. وتأول أكثر العلماء الأذى بالغيبة والضرب فإن ذلك أعظم من أذى الحدث (متفق عليه، وهذا لفظ مسلم) ورواه مالك وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي مقطعاً، وكذا ابن ماجه والإسماعيلي وأبو عوانة وابن الجارود مختصراً والبرقاني وأبو نعيم والبيهقي وغيرهم، كذا في «شرح عمدة الأحكام» للقلقشندي (قوله) كما في نسخة (ينهزه: هو بفتح الياء والهاء) وحكي ضم الياء وكسر الهاء (وبالزاي أي يخرجه وينهضه) وفي «النهاية» : النهز الدفع، يقال نهزت الرجل أنهزه: أي: إذا دفعته، ونهز رأسه إذا حركه. 1212 - (وعن أبي العباس عبد ابن عباس) عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ابن عبد المطلب رضي الله عنهما) ولد قبل الهجرة بثلاث سنين بالشعب، وبنو هاشم محصورون فيه قبل خروجهم منه

بيسير وتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وقيل ابن خمس عشرة، وقيل ابن عشر، ويؤيد الأول ما صح عنه من قوله في حجة الوداع «وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام» وصح أنه دعا له بقوله: «اللهم فقهه في الدين وعلمه الحكمة والتأويل، اللهم علمه تأويل القرآن، اللهم بارك فيه وانشر منه واجعله من عبادك الصالحين، اللهم زده علماً وفقهاً» وثبت عنه أنه قال: «رأيت جبريل مرتين» وهذا سبب عماه في آخر عمره. وفضائله شهيرة ومناقبه كثيرة، أوردت جملة صالحة منها في كتاب فضل زمزم. روي له ألف حديث وستمائة وستون حديثاً، اتفقا منها على خمسة وتسعين، وانفرد البخاري بثمانية وعشرين، ومسلم بتسعة وأربعين. مات بالطائف ودفن بها سنة ثمان وخمسين في خلافة ابن الزبير، وقيل: سنة تسع، وصلى عليه محمدبن الحنفية وقال؛ مات رباني هذه الأمة (عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي) أي: روي عن أبي العباس أنه روى عن النبي ما يأتي حال كونه مندرجاً في الأحاديث القدسية وهي التي يرويها (عن ربه تبارك) قال البيضاوي أو تكاثر خيره، من البركة وهي كثرة الخير، أو تزايد عن كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله، فإن البركة تتضمن معنى الزيادة، وقيل: دام من بروك الطير على الماء، ومنه البركة لدوام الماء فيها، وهو لا يتصرف فيه ولا يستعمل إلا تعالى اهـ. وعلى الثاني مما قاله، فيكون قوله (تعالى) أي: تنزّه عما لا يليق به مما يقوله الجاحدون المبطلون إطناباً. ثم هذه عبارة السلف في رواية الأحاديث القدسية، فلذا آثرها المصنف، ولهم في ذلك عبارة أخرى وهي أن يقال: قال الله تعالى فيما رواه عنه رسول الله، والمعنى واحد. وقد ذكرت ما افترق فيه القرآن والحديث القدسي في «شرح الأذكار» ، وسيأتي بعضه في باب الصبر. وقيل: ليس من الأحاديث القدسية، بل المراد فيما يرويه عن فضل ربه أو حكمه أو نحو ذلك. وتعقب ذلك الجزم بأن كلا الأمرين محتمل، والأقرب إلى السياق وإلى اصطلاح السلف المذكور في رواية الأحاديث القدسية أنه منها، وقد جاء في بعض طرق الصحيحين ما يصرح بأنه منها وهو «يقول الله عزّ وجل: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها عليه بمثلها، وإن تركها لأجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، وإذا عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها، وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها، فإذا عملها فأنا أكتبها عليه بمثلها» (قال) أي: النبي، ويصحّ عوده إلىالله، وعليه فيكون من الإظهار في محل الإضمار قوله: (إن الله كتب

الحسنات والسيئات) أي: أمر الحفظة بكتابتهما، أو كتبهما في علمه على وفق الواقع منهما أو قدر مبالغ تضعيفهما (ثم بين) أي: الله تعالى، وجعل الضمير له مبني على ما مر من أن المراد بعن ربه عن حكمته أو فضله وقد علمت ما فيه، و «ثم» للترتيب الذكرى (بين ذلك) للكتبة من الملائكة حتى عرفوه واستغنوا به عن الاستفسار كل وقت كيف يكتبونه (فمن هم بحسنة) أي: أرادها وترجح فعلها عنده، فعلم منه بالأولى العزم وهو الجزم بفعلها والتصميم عليه (فلم يعملها كتبها الله عنده) هي عندية شرف ومكانة لتنزهه تعالى عن عندية المكان (حسنة) لأن الهم بالحسنة سبب إلى عملها وسبب الخير خير، أما الخطرة التي تخطر ثم تنفسخ من غير عزم ولا تصميم فليست كذلك. واستفيد من ذكر الحسنة هنا والمضاعفة فيما يأتي اختصاص المضاعفة بمن عمل دون من نوى، فهما في الأصل سواء وإن اختص العامل بالتضعيف، وقوله: (كاملة) وصف حسنة وذكر لئلا يظن أنها لكونها مجرد همّ ينقص ثوابها (وإن همّ بها) أي: بالحسنة (فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات) لأنه أخرجها من الهمّ إلى ديوان العمل، فكتب له بالهمّ حسنة ثم ضوعفت فصارت عشراً، وهذا التضعيف لازم لكل حسنة تعمل. قال الله تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} (الأنعام: 160) ثم قد تضاعف بعد لمن شاءالله. قال الله تعالى: {وا يضاعف لمن يشاء} (البقرة: 261) مضاعفة أخرى (إلى سبعمائة ضعف) علي حسب ما اقترن بها من إخلاص نيته وإيقاعها في محلها الذي هي به أولى وأحرى. وفي رواية في «الصحيحين» أيضاً «إلى تسعمائة ضعف إلاّ الصيام فإنه لي وأنا أجزي به» وفيها دليل على أن الصوم لا يعلم قدر مضاعفة ثوابه إلا الله تعالى لأنه أفضل أنواع الصبر، وقد قال تعالى: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} (الزمرة: 10) (إلى أضعاف كثيرة) وكثيرة هذه وإن كانت نكرة إلا أنها أشمل من المعرفة فتقضي لهذا أن يحسب توجيه الكثرة على أكثر ما يمكن. كتصدق بحبة برّ مثلاً

تحسب له في فضل الله تعالى أنه لو بذرها في أزكى أرض مع عناية الريّ والتعهد» ثم حصدت وبذر حاصلها في أزكى أرض كذلك وهكذا إلى يوم القيامة، جاءت تلك الحبة كأمثال الجبال الرواسي، وما ذكرته من أن التضعيف بعشرة لا بد منه لكل عامل حسنة وأن التضعيف بسبعمائة فأكثر إنما يحصل للبعض على حسب مشيئته تعالى، هو ما جزم به المصنف رحمه الله تعالى (وإن همّ بسيئة فلم يعملها) بأن ترك فعلها أو التلفظ بها لوجهه تعالى لا لنحو حياء أو خوف ذي شوكة أو عجز أو رياء، بل قيل يأثم حينئذٍ من حيث نحو الرياء، لأن تقديم خوف المخلوق على خوف الله محرم وكذا الرياء (كتبها الله عنده حسنة) لأن رجوعه عن العزم عليها خير أيّ خير فجوزي في مقابلته بحسنة، وأكدت بقوله: (كاملة) إشارة إلى نظير ما مر في كاملة في الهم بالحسنة. لا يقال نظير ما مرّ ثم إن الهمّ بالحسنة تكتب فيه حسنة أن يكون بالسيئة تكتب فيه سيئة، فإن الهمّ بالسوء من أعمال القلب. لأنا نقول؛ قد تقرّر أن الكف عنها خير أيّ خير، وهو متأخر عن ذلك الهم فيكون ناسخاً له {إن الحسنات يذهبن السيئات} (هود: 14) وعند مسلم «يقول ا؛ إنما تركها من جرّاي» أي: من أجلي وإن همّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة زاد أحمد «ولم تضاعف عليه» ويدل له قوله تعالى: {فلا يجزى إلا مثلها} (الأنعام: 160) نعم قد تعظم بشرف زمان أو مكان كالأشهر الحرم ورمضان ومكة، أو بشرف الفاعل لها وقوة معرفته با تعالى وقربه منه، فإن من عصا السلطان على بساطه أعظم جرماً ممن عصاه على بعده. ثم قوله: «إن هم الخ» فيه دليل على أن العزم لا يكتب معها، لكن أفتى قاضي القضاة ابن رزين من أئمتنا بأن من عزم عليها ففعلها ولم يتب منها أوخذ بعزمه لأنه إصرار. وتناقض فيه كلام السبكي. ورجح ولده ما يوافق كلام ابن رزين.

تنبيه: لم يقع من يوسف عليه السلام همّ بمعصية على ما قاله ابن أبي حاتم ومن وافقه ومعنى الآية عندهم: {وهمّ بها لو أن رأى برهان ربه} (يوسف: 24) ؛ أي: لولا رؤية البرهان لهمّ لكنه لم يهمّ لأنه رآه. وعلى المشهور في الآية فالهمّ الواقع منه بمعنى حديث النفس المعفوّ عنه. واعلم أن ما يقع في النفس من قصد المعصية على خمس مراتب: الأولى: الهاجس وهو ما يلقى فيها. ثم جريانه فيها وهو الخاطر. ثم حديث النفس وهو ما يقع فيها من التردد هل يفعل أو لا. ثم الهمّ وهو قصد ترجيح الفعل. ثم العزم وهو قوة ذلك القصد والجزم به. فالهاجس لا يؤاخذ به إجماعاً لأنه ليس من فعله وإنما هو شيء طرقه قهراً عليه، وما بعده من الخاطر وحديث النفس وإن قدر على دفعهما مرفوعان بالحديث الصحيح: أي: وهو قوله: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به» أي: في المعاصي القولية «أو تعمل به» أي: في المعاصي الفعلية، لأن حديثها إذا ارتفع فما قبله أولى، وهذه المراتب لا أجر فيها في الحسنات أيضاً لعدم القصد. وأما الهمّ فقد بين الحديث الصحيح أنه بالحسنة يكتب حسنة وبالسيئة لا يكتب سيئة، ثم ينظر فإن تركه كتب حسنة؛ وإن فعله كتبت سيئة واحدة. والأصح في معناه أن يكتب عليه الفعل وحده وهو معنى قوله واحدة، وإن الهمّ مرفوع، ومنه يعلم أن قوله في حديث النفس «ما لم تتكلم أو تعمل به» ليس له مفهوم حتى يقال إنها إذا تكلمت أو علمت يكتب حديث النفس، لأنه إذا كان الهم لا يكتب كما استفيد من قوله واحدة فحديث النفس أولى بذلك، كذا قال السبكي في الحلبيات وخالف نفسه في «شرح المنهاج» وتبعه ولده، وعبارته في منع الموانع هنا دقيقة، وقد نبهنا عليها في «جمع الجوامع» هي: أن عدم المؤاخذة بحديث النفس والهمّ ليس مطلقاً، بل بشرط عدم التكلم والعمل حتى إذا عمل يؤاخذ بشيئين همه وعمله، ولا يكون همه مغفوراً ولا حديث نفسه إلا إذا لم يعقبه كما هو ظاهر الحديث. ثم حكى كلام أبيه ورجح المؤاخذة. وخالفه غيره فرجح عدمها. قال وإلا يلزم أن يعاقب على المعصية عقوبتين، ونظر بأنه لا يلزم عليه ذلك لأن الهمّ حينئذٍ صار معصية أخرى. ثم قال في «الحلبيات» : وأما العزم فالمحققون على أنه يؤاخذ به، وخالف بعضهم وقال: إنه من الهم المرفوع، واستدل له بما لا يجدي. قال ابن رزين: والعزم على الكبيرة وإن كان سيئة فهو دون الكبيرة المعزوم عليها، والله أعلم (متفق عليه) .

1313 - (وعن أبي عبد الرحمن عبد ابن عمربن الخطاب رضي الله عنهما) ولد قبل البعثة بسنة، وأسلم مع أبيه بمكة وهو صغير وقيل قبله، وهاجر معه وقيل قبله، ولم يشهد بدراً، وكان عمره عام أحد أربع عشرة سنة فاستصغره، ثم بلغ في عام الخندق خمس عشرة سنة فأجازه، ثم لم يتخلف بعد عن سرية من سرايا رسول الله، وقال: لشقيقته حفصة «إن أخاك رجل صالح لو أنه يقوم الليل» فلم يترك قيامه بعده، وكان من فقهاء الصحابة ومفتيهم وزهادهم، واعتزل الفتنة فلم يقاتل مع عليّ ولا مع معاوية، وأولع بالحج أيام الفتنة وبعدها، وكان من أعلم الناس بالمناسك قيل وحجّ ستين حجة واعتمر ألف عمرة وأفتى في الإسلام ستين سنة، وحمل على ألف فرس في سبيلالله، روي له عن النبيّ ألف حديث وستمائة وثلاثون حديثاً اتفقا منها على مائة وسبعين، وانفرد البخاري بثمانين، ومسلم بأحد وثلاثين، وقد ذكرت زيادة في ترجمته في «شرح الأذكار» . مات بمكة سنة ثلاثة وسبعين شهيداً عن ستّ وثمانين سنة وسبب موته أنه سفه عليه الحجاج فقال له عبد الله: إنك سفيه مسلط، فعزّ ذلك عليه فأمر رجلاً فسمّ زج رمحه فزحمه في الطواف ووضع الزج على قدمه، فمرض أياماً وتوفي ودفن بذي طوى في مقبرة المهاجرين، وقيل بفخ (قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: انطلق ثلاثة نفر) في «النهاية» هو اسم جمع يقع على عدد مخصوص من الرجال: أي: ما بين الثلاثة إلى العشرة ولا واحد له من لفظه (ممن كان) إفراد الضمير باعتبار لفظ من (قبلكم) في الزمان (حتى آواهم) حتى فيه عاطفة والمعطوف عليه انطلق، ويحتمل كونها جارة غاية لمقدر: أي: فساروا إلى أن آواهم المبيت، وآوى بالمدّ في الأفصح لكونه معتدياً وبه جاء القرآن، قال تعالى: {وآويناهما إلى ربوة} (المؤمنون: 50) ويجوز قصره، ومصدره إيواء بوزن إكرام ومصدر القاصر أووى على وزن فعول قبل قلب الواو الثانية ياء وإدغامها في الياء بعدها وكسر الواو الأولى لمناسبة الياء والأفصح في الفعل اللازم القصر وجاء في القرآن بذلك، قال تعالى: {إذ أوى الفتية} (الكهف: 10) (المبيت) البيتوتة فاعل (إلى غار) أي: كهف وجمعه غير أن بقلب الواو الساكنة ياء لكسر ما قبلها كما في «النهاية» (فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت) بتشديد الدال (عليهم الغار) أي بابه: أي صارت على باب الغار كالسد (فقالوا: إنه الضمير للشأن

لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله تعالى) متوسلين إليه (بصالح أعمالكم) أي: بأعمالكم الصالحة، الواو من تدعوا ساكنة لأنها للجمع، والأصل بعد الإعلال تدعون حذفت النون للناصب وهو أن. قال المصنف: واستدل أصحابنا بهذا أي بقوله: «لا ينجيكم» الخ على أنه يستحبّ للإنسان الدعاء في حال كربه وفي حال الاستسقاء وغيره بصالح عمله، ويتوسل إلى الله تعالى بذلك، لأن هؤلاء فعلوه فاستجيب لهم، وذكره في معرض الثناء عليهم وجميل فضائلهم (قال رجل منهم) قدم على الرجلين بعده إشارة إلى شرف برّ الوالدين والاهتمام بشأنهما، فإن التقديم في الذكر يكون للاهتمام (اللهمّ) أي: يا أ (كان لي أبوان) فيه تغليب الأب لشرفه على الأم، فهو نظير {وكانت من القانتين} (التحريم: 12) وكان يحتمل كونها ناقصة والظرف خبراً مقدماً، وكونها تامة والظرف في محل الحال (شيخان) بفتح الشين (كبيران) في السن (وكنت) معطوف على كان قبله (لا أغبق) بفتح الهمزة وسكون الغين المعجمة وضم الموحدة وكسرها. قال المصنف: هذا الذي ذكر من ضبطه متفق عليه في كتب اللغة وكتب غريب الحديث والشروح، وقد يصفه بعض من لا أنس له فيقول بضم الهمزة وكسر الموحدة وهذا غلط. وقال الحافظ في «الفتح» ضبطوه بفتح الهمزة من الثلاثي إلا الأصيلي فضبطه من الرباعي وخطئوه اهـ: أي: كنت لا أقدم في شرب الماء (قبلهما أهلاً) أي: من زوج وولد (ولا مالاً) أي: من رقيق وخادم، والغبوق: شرب العشيّ؛ والصبوح: شرب الصباح. قال القرطبي: والحاس هو الذي يؤتى به عند انفلاق الفجر (فنأى) بتقديم الهمزة بوزن سعى وفي رواية: فناء بوزن جاء: أي بعد والنأي البعد (بي طلب الشجر يوماً) لترعى فيه المواشي (فلم أرح عليهما) بضم الهمزة وكسر الراء: أي: لم أرجع (حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما) وفي نسخة من البخاري «فحملت» (فوجدتهما

نائمين) يحتمل أن يكون وجد فيه من أفعال القلوب فنائمين مفعوله الثاني، وأن يكون بمعنى لقي فنائمين حال من المفعول (فكرهت) قال في «تحفة القاري» وفي نسخة: أي: من البخاري؛ وكرهت (أن أوقظهما وأن أغبق) بفتح أوله كما تقدم (قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثت والقدح على يدي) جملة حالية من الفاعل، وكذا قوله (أنتظر استيقاظها) ثم يحتمل أن يكون من فاعل لبث، وأن يكون من الياء في الجملة قبله وعليه فهي حال متداخلة (حتى برق الفجر) بفتح الراء وكسرها؛ أي تلألأ وظهر ضوءه (والصبية يتضاغون) جملة حالية من فاعل لبث أيضاً، ويتضاغون بالضاد والغين المعجمتين: يصيحون من الجوع، والضغاء ممدود مضموم الأول: صوت الذلة والفاقة (عند قدمي) يحتمل أن يكون بفتح الميم وتشديد الياء مثنى وحذفت النون للإضافة، وأن يكون بكسر الميم وسكون التحتية، وهو لكونه مفرداً مضافاً يؤدي مؤدى الأول، وهو عند البخاري «عند رجلي» وضبط في أصل صحيح منه بتشديد الياء وهو يؤيد الأوّل من الاحتمالين فإن قلت: نفقة الفرع مقدمة على نفقة الأصل فلم تركهم جائعين؟ قلت، قال الكرماني: لعل في شريعتهم تقديم الأصل على الفرع أولى، أو كانوا يطلبون الزائد على سدّ الرمق، والصياح لم يكن من الجوع اهـ (فاستيقظا فشربا غبوقهما) بفتح الغين (اللهم إن كنت فعلت ذلك) المذكور من السهر واللبث عليه وحمل القدح إلى قيامهما (ابتغاء وجهك) أي: ذاتك لا لغرض آخر دنيوي كما يدل عليه السياق (ففرّج عنا) بتشديد الراء دعاء من التفريج: أي: افتح، ثم هو هكذا في أصلين من الرياض، والذي في «الصحيحين» «فافرج» وقضية كلام القرطبي في «المفهم» أنه بهمزة وصل وضم الراء من الثلاثي وعبارته أفرج: افتح: والفرجة بضم الفاء من السعة، فإذا كان بمعنى الراحة قلت فيه فرجة بفتحها، وفعل كل واحد منهما فرج بالفتح والتخفيف يفرج بالضم لا غير. لكن قال الحافظ في «الفتح» : إنه بهمزة الوصل وضم الراء وبهمزة القطع وكسر الراء من الفرج والإفراج اهـ (ما نحن فيه من) كرب سد (هذه الصخرة

فانفرجت شيئاً) أي: يسيراً من الإنفراج، وهو مفعول مطلق قائم مقام قوله فرجة الوارد في رواية (لا يستطيعون الخروج) أي: (منه قال الآخر) بمد الهمزة وفتح الخاء المعجمة (اللهم إنه كان) بالتذكير للفصل بقوله: (لي) بينه وبين مرفوعه المؤنث الحقيقي، وفي نسخة «كانت» وهو (ابنة عم، كانت أحبّ الناس إلي) بتشديد الياء والياء المدغمة هي المنقلبة عن ألف إلي، والمدغم فيها ياء المتكلم (وفي رواية) أي: في «الصحيحين» «كنت أحبها كأشد» أي حباً مثل أشد (ما يحب الرجال النساء) فالكاف في كأشد صفة المصدر، وقال الكرماني هي زائدة، قال: أو المراد تشبيه محبته بأشد المحبات (فأردتها) وفي نسخة فراودتها (على نفسها) هو كناية عن طلب الجماع (فامتنعت مني) أي: من موافقتي على ما طلبته منها (حتى ألمت) أي: إلى أن نزلت (بها سنة من السنين) المقحطة: أي المجدبة التي لا تنبت فيها الأرض شيئاً (فجاءتني) عند نزول الشدة بها (فأعطيتها عشرين ومائة دينار) لا ينافي ما رواه البخاري في رواية أخرى ومسلم من أن جميع ما دفعه لها مائة دينار لأن التخصيص بالعدد لا ينفي الزائد، أو أن المائة كانت تطلبها والعشرين تبرع لها بها كرامة (على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت) أي خلّت، أو المفعول محذوف: أي: أوجدت التخلية (حتى إذا قدرت عليها) أي: بالقعود الآتي بيانه في الرواية الثانية، ويحتمل أن يكون المراد بالقدرة عليها التمكن من الوقاع بها من غير معارض منها أو من غيرها (وفي رواية) للبخاري (فلما قعدت) وعند مسلم «فلما وقعت» (بين رجليها) أي: وهي

جلسة الجماع (قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه) الفضّ بالفاء والضاد المعجمة: الكسر والفتح. ويجوز في آخر الفعل المذكور الحركات الثلاث. والخاتم كناية عن الفرج وعذرة البكارة، وحقه: التزويج المشروع: أي: لا تزل بكارتي إلا بالتزويج (فانصرفت عنها) إجلالاً سبحانه وتعالى وخوفاً منه كما يعلم مما يأتي. وقوله: (وهي أحب الناس إليّ) جملة في محل الحال مسوقة لبيان تقديم خوف الله على هوى نفسه (وتركت الذهب الذي أعطيتها) معطوف على قوله: «فانصرفت عنها» أو على الجملة الحالية فيكون فيه زيادة في مجاهدة النفس على ترك الهوى بتخلية المال (اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك) أي: طلب مرضاة ذاتك لا لغرض آخر (فافرج) يجوز في ضبطه الوجهان السابقان في كلام الحافظ (عنا ما نحن فيه) أي: من الكرب (فانفرجت الصخرة) أي: فرجة زائدة على الفرجة الأولى (غير أنهم) مع ذلك (لا يستطيعون الخروج منها) لضيقها عن ذلك (وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء) بضم الهمزة وفتح الجيم جمع أجير نحو شرفاء وشريف، وسقط لفظ «إني» في هذا المقام في بعض نسخ البخاري، وجاء في رواية في «الصحيحين» «استأجرت أجراء على فرق من الطعام» (وأعطيتهم أجرهم) أي: أجرتهم (غير رجل) بالنصب، وقوله: (واحد) وصف رجل للتأكيد ودفعاً لتوهم أن المراد منه الجنس نحو: «تمرة خير من جرادة» (ترك الذي له) أي: في ذمة المستأجر (وذهب فثمرت أجره) أي: كثرته (حتى كثرت) بضم المثلثة (منه) أي: من أجره بالتجارة فيه (الأموال) أي: أنواعها من إبل وبقر وغنم ورقيق (فجاءني) أي: ذلك الرجل الأجير (بعد حين) أي: زمن

(فقال: يا عبد الله أدّ) بحذف الياء ووقع في بعض نسخ البخاري إثباتها. قال الشيخ زكريا في «تحفة القاري» : والوجه حذفها اهـ أي: ادفع (إليّ) بتشديد الياء (أجرى، فقلت له) مخلصاً (كل ما ترى) من أنواع المال (من أجرك) وفي نسخة من البخاري «من أجلك» وهو خبر المبتدإ وقوله (من الإبل) بكسرتين أو بكسر فسكون وما بعده بيان لما قبله (والبقر) ويقال فيه باقور، سمي بذلك لأنه يبقر الأرض: أي: يشقها للحرث (والغنم والرقيق، فقال) أي: الأجير (يا عبد الله لا تستهزىء بي) فإن أجري في أصله لا يقارب ذلك وهو بسكون الهمزة (فقلت: لا أستهزىء بك، فأخذه كله فاستاقه) أي: ذلك إلى رحله ومنزله (فلم يترك) أي: يدع لي (منه شيئاً. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك) أي: طلب مرضاتك وحدك لا غيرك (فافرج) بالوجهين السابقين (عنا ما نحن فيه) أي: من الكرب (فانفرجت الصخرة) عن باب الغار (فخرجوا يمشون متفق عليه) أي: على أصل الحديث، وإلا فبيتهما اختلاف في بعض ألفاظه. قال المنذري في «الترغيب» بعد إيراده بنحو من حديث ابن عمر، رواه الشيخان والنسائي ورواه ابن حبان في «صحيحه» من حديث أبي هريرة باختصار ولفظه بنحوه، وفيه أن كلاً من الثلاثة قال: «فإن كنت تعلم أنما فعلت ذلك رجاء رحمتك وخشية عذابك فافرج عنا» وفيه عند دعاء كل من الأولين من الثلاثة «فزال ثلث الحجر» وفي الثالث «فزال الحجر، فخرجوا يتماشون» . ثم في الحديث استحباب الدعاء حال الكرب والتوسل بصالح العمل كما تقدم فيه. وفيه فضيلة برّ الوالدين وفضل خدمتهما وإيثارهما على من سواهما من الولد والزوجة، وفيه فضل العفاف أو الانكفاف عن المحرّمات. لا سيما بعد القدرة عليها والهمّ بفعلها وترك ذلك خالصاً، وفيه جواز الإجارة بالطعام وفضل حسن العهد وأداء الأمانة والسماحة في المعاملة وإثبات كرامات

2 ـــ باب التوبة

الأولياء وهو مذهب أهل الحق. ولا حجة فيه على جواز بيع الفضولية، لأن ما ذكر في شرع من قبلنا، وفي كونه حجة خلاف، وعلى تقدير الحجة فلعله استأجره بأجرة في الذمة كما أشرنا إليه ولم يسلمها له بل عرضها عليه فلم يقبلها لرداءتها، فبقيت على ملك المستأجر لأن ما في الذمة لا يتعين إلا بقبض صحيح، ثم إن المستأجر تصرف فيه لبقائه على ملكه فصح تصرفه فيه، ثم تبرع بما اجتمع منه على الأجير بتراضيهما، قال الخطابي: إنما تطوع به صاحبه تقرباً به إلى الله تعالى، ولذا توسل به للخلاص، ولم يكن يلزمه في الحكم أن يعطيه أكثر من القدر الذي استأجره عليه، فلذا حمد فعله، والله أعلم. 2 - باب التوبة 2 - باب التوبة بالرفع خبر مبتدإ محذوف: أي هذا باب، أو مبتدأ خبره محذوف: أي: باب التوبة هذا، ويجوز نصبه على تقدير: خذ باب التوبة. وهي لغة الرجوع يقال تاب وأناب وآب بمعنى رجع فالتائب إلى الله تعالى هو الراجع من شيء إلى شيء، راجع من الأوصاف المذمومة إلى الأوصاف المحمودة، راجع عما نهى الله عنه إلى أمره، وعن معصيته إلى طاعته، وعما يكرهه إلى ما يرضاه، رجوع من الأضداد إلى أسباب الوداد، ورجوع إليه تعالى بعد المفارقة، وإلى طاعته بعد المخالفة فمن رجع عن المخالفات خوفاً من عذاب الله فهو تائب، ومن رجع حياء فهو منيب، ومن رجع تعظيماً لجلال الله سبحانه فهو أوّاب. والتوبة أحسن ما قيل في معناها شرعاً: هو الرجوع من البعد عن الله إلى القرب إليه سبحانه وتعالى اهـ. ذكره الإيجي قال القرطبي: أسدّ العبارات وأجمعها في تعريفها قول بعض المحققين: هي اجتناب ذنب سبق منك مثله حقيقة أو تقديراً. (قال العلماء: التوبة واجبة من كل ذنب) ووجوبها مجمع عليه، لا فرق بين الصغائر والكبائر الظاهرة والباطنة كالحقد والحسد (فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلق بحق آدمي) عطف بيان على قوله بين العبد وبين الله سبحانه وتعالى،

وقوله: (فلها ثلاثة شروط) جواب إن الشرطية (أحدها أن يقلع) بضم أوله: أي: يكف وينقطع (عن المعصية) التي كان متلبساً بها، إذ تستحيل التوبة مع مباشرة الذنب. وهذا قد يترك اشتراطه ويحمل على من يستحيل منه وقوع مثل تلك المعصية كمن زنى فجبّ، فهذا استحال منه الإقلاع المكتسب، وكذا العزم على ألا يفعله في المستقبل لأن فعله غير ممكن منه. قال الشيخ عز الدين ابن عبد السلام في «أماليه» : لا يجب على الإنسان ترك الشيء إلا إذا كان ممكنه فعله، إذ لا تكليف بترك المستحيل (والثاني) من الشروط (أن يندم على فعلها) من حيث إنها معصية، فلو ندم عليه لا من هذه الحيثية بل لأجل تلك الوجوه الآتية في الكلام على التوبة النصوح لم يعتد بندمه ونازع الغزالي في «منهاج العابدين» له في اشتراط الندم في مفهوم التوبة، ثم قال: وقيل المراد اشتراط ما يؤدي إليه من تذكر الذنب وشؤمه وعذاب الله وعقابه ونحو ذلك، لأن هذا في قدرته ومن كسبه، وهو يترتب عليه الندم الذي هو أمر طبيعي لا قدرة له على اكتسابه، والله أعلم (والثالث أن يعزم ألا يعود إليها) أي: إلى مثلها مطلقاً (أبداً) فلا يعود التائب من الرياء إلى مثله وهو الرياء، وإلا فالمعصية التي كان تلبس بها انقضت وزالت فلا يمكن العود إليها. هذا وزاد بعضهم اشتراط عدم صحبة من ارتكب معه المعصية بعد التوبة، وأن تكون التوبة تعالى خاصة. قال ابن عبد السلام: استدرك السيف الآمدي على الناس قيداً آخر في التوبة التامة، وهو أن يكون الندم تعالى، احترازاً مما إذا قتل شخص ولده، فإنه يندم على الماضي لأجل كونه ولده. وأجيب بأن هذا ليس استدراكاً إذ الإخلاص شرط في كل عبادة، والناس يعنون بقولهم للتوبة ثلاثة أركان ما عدا الإخلاص اهـ. وأدرج ابن حجر الهيتمي هذا القيد في الشرط الأول وهو الإقلاع فقال: ترك الذنب تعالى، فلو تركه لخوف أو رياء أو غير ذلك من الأغراض التي لغير الله لم يعتد بتركه (فإن فقد أحد هذه الثلاثة) أي: واحد منها (لم تصح توبته) أي: التامة أما الناقصة فتصح مع فقد الإقلاع والعزم على عدم العود كما تقدم تمثيله، قيل: وعلى ذلك يحمل حديث «الندم توبة» وقيل: بل الحديث نظير حديث «الحج عرفة» أي: ركنها الأعظم، والله أعلم (وإن كانت المعصية) التي تريد التوبة منها (تتعلق بحق آدمي فشرطها أربعة) خبر عن قوله شرطها، وجاز الإخبار عنه بذلك لكونه مفرداً مضافاً إلى معرفة.

وهو على الصحيح حيث لا عهد للعموم الصالح للجمعية من حيث مدلول لفظه، إذ هو حينئذٍ المعنى الذي استغرقه لفظه الصالح له من غير حصر، وإن كان مدلوله في التركيب كلياً على الأصح: أي: محكوماً فيه على كل فرد مطابقة، لأنه في قوة قضايا بعدد أفراده، والصحيح فيها بناه على ظاهر كلام النحاة، وليست العبرة في مطابقة المبتدإ للخبر إلا باصطلاحهم أن مدلوله كل: أي: محكوم فيه على مجموع الأفراد من حيث هو مجموع (هذه الثلاثة) المذكورة (و) الرابع (أن يبرأ من حق صاحبها) وزاد بعضهم شرطاً خامساً وهو القول، قال: فيقول القاذف مع إبراء المقذوف: ما قلته باطل وأنا نادم عليه ولا أعود إليه، وكذا شهادة الزرو (فإن كانت) أي: المعصية المتعلقة بالآدمي (مالاً أو نحوه) من اختصاص محترم (رده إليه) أي: إلى صاحبه بعينه إن كان موجوداً أو بدله عند تلفه من قيمة أو مثل (وإن كان) أي: حق الآدمي (حد قذف ونحوه) أي: نحو القذف كالقتل والقطع قصاصاً (مكنه) أي: صاحب الحق (منه) أي: من الحد أي استيفائه منه (أو طلب عفوه) بإسقاط حقه. وظاهر كلامه توقف صحة التوبة على ما ذكر من الردّ والتمكين أي إن أمكنه ذلك، وإلا نوى ذلك إذا قدر أو طلب العفو، لكن ذهب الإمام وتبعه العز ابن عبد السلام وأقرّه المصنف إلى صحة توبته وإن لم يسلم نفسه بالنسبة لحق الله تعالى ويبقى عليه حق الآدمي وإثم الامتناع، بل قال في «الشامل» وتبعه جمع: إنه حيث ندم صحت توبته وإن لم يردّ المظلمة، وهو ظاهر فيبرأ بالنسبة لحق الله تعالى إن وجد الإقلاع، وإلاّ كردّ المغصوب ما دام باقياً وقدر عليه فلا (وإن كان) أي: حق الآدمي، وفي نسخة «كانت» أي: المعصية (غيبة) بكسر الغين المعجمة وسكون التحتية، وسيأتي ما يتعلق بها في باب من الكتاب. قيل: ومثل الغيبة القذف، وقد يقال هو داخل في مفهوم الغيبة. واعتبر بعضهم في التوبة من القذف كما مر أن يقول القاذف: ما قلته باطل وأنا نادم عليه ولا أعود إليه. وكذا شاهد الزور (استحله منها) أي: بأن يخبره بما قاله حتى يصح تحليله، لكن محل تعيين الإخبار ما لم يترتب عليه ضرر أعظم، وإلا كأن يخشى قتله بذلك مثلاً فلا. ومحل تعيين الإخبار والاستحلال إن بلغه الاغتياب وإلا كفى الاستغفار (ويجب) جمعاً عندنا معاشر أهل السنة (أن يتوب من جميع الذنوب) أي: ولو صغائر قال تعالى: {توبوا إلى الله توبة نصوحا} (التحريم: 8)

{توبوا إلى الله جميعاً} (فإن) لم يتب من الجميع بل أصرّ على بعضها (وتاب من بعضها صحبت توبته عند أهل الحق) هم أهل السنة (من ذلك الذنب) الأنسب من ذلك البعض: أي: الذي تاب منه (وبقي عليه الباقي) أي: تبعته ووجوب التوبة منه قالوا للإجماع على أن من أسلم تائباً عن كفره مع إصراره على بعض معاصيه صحّ إسلامه وتوبته لكون حقيقتها ليس إلا الرجوع والندم والعزم، وقد وجدت (وقد تظاهرت) بالظاء المعجمة، من التظاهر وهو التعاون (دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة) إضافة دلائل لما بعدها من المتعاطفات إضافة بيانية (على وجوب التوبة) متعلق بتظاهرت. (قال الله تعالى) أي: حال كونه متعالياً علوّ مكانة لا علوّ مكان متقدماً عما لا يليق به، ويصح جعلها مستأنفة، والجملة إنشائية معنى سيقت لما ذكر كما تقدم بيانهما أول الكتاب {وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون} مما وقع منكم من النظر الممنوع وغيره. وفي الآية تغليب الذكور على الإناث {لعلكم تفلحون} تنجون من ذلك بقبول التوبة منه. ولعل في الأصل للرجاء، وفي كلامه تعالى للتحقيق. قال السيوطي في «التوشيح» : كل وعد في الكتاب أو السنة فواجب الوقوع لوجوب سلامة خبر من ذكر عن الخلف. (وقال تعالى) : {استغفروا ربكم} من الشرك، ومثله من غيره، والقصر عليه لأنه الذنب المأمور بالخروج عنه (إنه كان غفاراً) المبالغة باعتبار الكمّ، فلا تحصى عدة المغفور لهم، وباعتبار الكيف فيغفر الصغائر والكبائر والفواحش {إن الله يغفر الذنوب جميعاً} (الزمر: 53) وقوله: «إنه الخ» علة للأمر قبله. وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا} اختلفت عبارات السلف

في التوبة النصوح ومرجعها إلى شيء واحد. قال عمربن الخطاب وأبيّبن كعب رضي الله عنهما: التوبة النصوح أن يتوب من الذنب ثم لا يعود إليه كما لا يعود اللبن إلى الضرع. قال الحسن البصري: هي أن يكون العبد نادماً على ما مضى مجمعاً على ألا يعود إليه، وقال الكلبي: هي أن يستغفر باللسان ويندم بالقلب ويمسك بالبدن. وقال ابن المسيب: «توبة نصوحا» تنصحون بها أنفسكم. جعلها ناصحة للتائب كضروب بمعنى ضارب، والأولون جعلوها بمعنى المفعول: أي: قد نصح فيها التائب ولم يشبها بغشّ. فهي إما بمعنى منصوح فيها كركوبة وحلوبة: أي: مركوبة ومحلوبة، أو بمعنى ناصحة: أي خالصة وصادقة قاله بعض المحققين. وقال الزرعي في «شرح المنازل» : النصح في التوبة يتضمن ثلاثة أشياء: أحدها تعميم جميع الذنوب واستغراقها بحيث لا تدع ذنباً إلا تناولته. والثاني إجماع العزم والصدق بكليته عليها بحيث لا يبقى عنده تردد ولا تلوّم ولا انتظار، بل يجمع عليها كل إرادته وعزيمته مبادراً بها. والثالث تخليصها من الشوائب والعلل القادحة في إخلاصها ووقوعها لمحض الخوف من الله تعالى وخشيته والرغبة فيما لديه والرهبة مما عنده، لا كمن يتوب لحفظ جاهه أو حرفته أو منصبه أو لحفظ حاله أو ماله أو استدعاء حمد الناس أو الهرب من ذمهم، أو نحو ذلك من العلل التي تقدح في صحتها وخلوصها تعالى، فالأول يتعلق بما يتوب منه، والثالث بما يتوب إليه، والأوسط يتعلق بذات التائب نفسه. ولا ريب أن التوبة الجامعة لما ذكر تستلزم الغفران وتتضمنه وتمحق جميع الذنوب، وهي أكمل ما يكون من التوبة. انتهى ملخصاً. 141 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: وا) فيه ندب

الحلف لتأكيد الأمر وتقويته ليبادروا إلى الإتيان بذلك (إني لأستغفر ا) أي: أطلب منه مغفرة تليق بمقامي المبرإ عن كل وصمة ذنب أو مخالفة ولو سهوا وقبل النبوة (وأتوب إليه) أي: أرجع إليه متنقلاً من شهود فرق إلى شهود جمع. ثم الجملة جواب القسم (في اليوم) وهو شرعاً: ما بين طلوع الفجر وغروب الشمس. قال السفاقسي: لم يرد ما فاؤه ياء وعينه واو إلا هذا اللفظ قيل: «ويوح» وهو من أسماء الشمس. وقيل: إنه بالموحدة (أكثر من سبعين مرة) إنما لم يحده بعدد مخصوص، لما علمت أن موجب الاستغفار والتوبة اللائقين به لا ينحصر ولأنهما يتكرارن بحسب الشهود والترقي. ثم في هذا تحريض للأمة على التوبة والاستغفار فإنه مع كونه معصوماً وكونه خير الخلائق يستغفر ويتوب سبعين مرة؛ واستغفاره ليس من الذنب بل من اعتقاده أن نفسه قاصرة في العبودية عما يليق بحضرة ذي الجلال والإكرام (رواه البخاري) وفي كتاب الأطراف بعد إخراجه لكن بلفظ «إني لأستغفر الله وأتوب إليه كل يوم مائة مرة» وأخرجه البخاري وأبو عبد الرحمن يعني النسائي وأبو عيسى يعني الترمذي، وسيأتي فيه كلام في باب الاستغفار أواخر الكتاب. 152 - (وعن الأغر) بفتح الهمزة والغين المعجمة وتشديد الراء (ابن يسار) بفتح التحتية والمهملة (المزني) ويقال الجهني، وفي الصحابة أيضاً الأغر الغفاري وجعلهما بعض الحفاظ إنساناً واحداً. وقال الحافظ نور الدين الداودي: الحق أنهم ثلاثة، وانفرد مسلم بالإخراج للأغر المزني، وكذا أخرج عنه أبو داود والترمذي (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: يا أيها الناس توبوا إلى ا) أي: ارجعوا إليه بامتثال ما أمركم به واجتناب ما نهاكم عنه، ومما أمركم به التوبة، فهي واجبة من كل ذنب ولو صغيرة إجماعاً كما تقدم (فإني أتوب) أي: أرجع رجوعاً يليق بي (إليه) أي: إلى شهوده أو إلى سؤاله أو

الحضور والصغار بين يديه (في اليوم مائة مرة. رواه مسلم) في «أواخر صحيحه» . قال في «السلاح» : ليس للأغر في الكتب الستة إلا هذا الحديث. 163 - (وعن أبي حمزة) بالحاء المهملة المفتوحة: كنى بذلك ببقلة فيها حموزة: أي: حموضة كان يحبها (أنس) بفتح أوليه (ابن مالك) بن النضر (الأنصاري) الخزرجي النجاري المدني ثم البصري (خادم رسول الله) حضراً وسفراً منذ قدم المدينة إلى أن توفي (رضي الله عنه) قال: قدم النبي إلى المدينة وأنا ابن عشر سنين ومات وأنا ابن عشرين سنة، غزا مع النبيّ ثماني غزوات، وروى الكثير، وعدة ما روى له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في «مسند» بقيّبن مخلد ألفا حديث ومائتا حديث وستة وثمانون حديثاً، اتفق الشيخان منها على مائة وثمانية وستين حديثاً، وانفرد البخاري بثمانية ومسلم بسبعين. روى عن عدة من الصحابة، وروي عنه كثير، وخرّج عنه أصحاب المسانيد. ومن كراماته معه ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عنه قال: «دخل النبي عند أم سليم: يعني أمه، فأتته بتمر وسمن فقال: أعيدوا سمنكم في سقائه وتمركم في وعائه فإني صائم، ثم قام إلى ناحية البيت يصلي غير المكتوبة، فدعا لأم سليم وأهل بيتها، فقالت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن لي خويصة، قال: وما هي؟ قالت خادمك أنس، ادع الله له، فما ترك خير آخرة ولا دنيا إلا دعا لي به: اللهم ارزقه مالاً وولداً وبارك به، قال: فإني لمن أكثر الأنصار مالاً» . وعنه قال: رزقت لصلبي سوى ولد ولدي خمسة وعشرين ومائة، وإن أرضي لتثمر في السنة مرّتين» . وكان ريحان بستانه يشم منه رائحة المسك، وقد ذكرت

زيادة في مناقبه ومآثره في «شرح الأذكار» . توفي على نحو فرسخ ونصف من البصرة في موضع يعرف بقصر أنس، وهو آخر من مات بها من الصحابة. والصحيح أنه توفي سنة ثلاث وتسعين وقد جاوز المائة. ولما مات قال مورّق العجلي: ذهب اليوم نصف العلم، وذلك أن أهل الأهواء كانوا إذا خالفونا في الحديث نقول لهم تعالوا إلى من سمعه من النبيّ (قال: قال رسول الله:) بفتح اللام جواباً للقسم المقدر: أي: وا (أفرح) أي: أشد فرحاً والمراد منه هنا استحالة قيام حقيقته، إنما هي اعتزاز وطرب يجده الإنسان من نفسه عند ظفره بعرض يستكمل به نقصانه أو يسد به خلته: أي حاجته، أو يدفع به عن نفسه ضرراً أو نقصاً بالباري سبحانهـ غايته من الرضا لأن السرور يقارنه الرضا بالمسرور بهـ أو هو تشبيه مركب عقلي من غير نظر إلى مفردات التركيب، بل تؤخذ الزبدة من المجموع فتكون غايته ونهايته، وفائدة إبرازه في صورة التشبيه تقرير المعنى في ذهن السامع؛ أو تمثيلي بأن يتوهم للمشبه الحالات التي للمشبه به وينتزع له منها ما يناسبه. فالحاصل أن المراد بقوله: «أفرح» أرضى (بتوبة عبده من) فرح (أحدكم) حال كونه قد (سقط على بعيره) قال في «النهاية» أي: يعثر على موضعه ويقع عليه كما يسقط الطائر على وكره اهـ. والمراد صادفه من غير قصد (وقد أضله) أي: ضيعه جملة حالية من الضمير في سقط فهي حال متداخلة (في أرض فلاة) من إضافة الموصوف إلى الصفة: أي: في أرض واسعة (متفق عليه. وفي رواية لمسلم) أي: انفرد بلفظها عن البخاري (أشد فرحاً بتوبة عبده) أي: رجوعه إلى طاعته وامتثال أمره (حين يتوب) أي: يرجع منتهياً (إليه) أي: يخلص في توبته بأن ينوي بها وجه الله لا غير، وبه يعلم أن قوله: (حين يتوب إليه) قيد لا بد منه لا يغني عنه قوله بتوبة عبده (من) فرح (أحدكم إذا كان) وفي نسخة «كان» (على راحلته) أي: التي يركبها من ناقة أو غيرها (بأرض فلاة) قضية كلام فتح الإله أنه بالإضافة وضبط بالقلم في أصل صحيح من الرياض بتنوين أرض (فانفلتت) أي: الراحلة (منه و) الحال أنه (عليها طعامه وشرابه) فله احتياج إليها لوجهين ركوبها، وكون زاده عليها (فأيس منها) لمبالغته في لحوقها أو في التفتيش عنها فلم يقدر عليها (فأتى شجرة فاضطجع في ظلها)

ليستريح مما حصل له من شدة التعب في مزيد الطلب حال (وقد أيس من راحلته) أي: من حصولها وحينئذٍ استسلم للموت لحضور أسبابه (فبينما) أصله بين، وما مزيدة لكفها عن الإضافة إلى المفرد (هو كذلك) أي: أيس، أو المشار إليه مفهوم من سياق الكلام: أي مستسلم (إذ هو بها قائمة عنده) وفيه على كون المشار إليه الأول الإشارة إلى أن الفرج مع الكرب واليسر مع العسر، قال تعالى: {فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا} (الشرح: 5 - 6) وقال: «لن يغلب عسر يسرين» وقال: «اشتدي أزمة تنفرجي» وعلى الثاني الإشارة إلى أن الاستسلام والخروج عن الحول والقوّة سبب لحصول المطالب وبلوغ المآرب، وليس المراد ترك مزاولة الأسباب بل ترك الركون إليها والاعتماد عليها، وا ولي التوفيق (فأخذ بخطامها) فرحاً بها فرحاً لا نهاية له. قال في «النهاية» : وخطام البعير: أي: بكسر المعجمة: أن يؤخذ حبل من ليف أو شعر أو كتان فيجعل في أحد طرفيه حلقة، ثم يشد فيه الطرف الآخر حتى يصير كالحلقة. ثم يقلد البعير به ثم يثنى على خطمه قال المصنف في «شرح مسلم» نقلاً عن الغريبين للهروي نقلاً عن الأزهري: فإذا ضفر من الأدم فهو جرير اهـ. قال في «النهاية» : أما الذي يجعل في الأنف دقيقاً فهو الزمام. وقال المؤلف نقلاً عن صاحب «المطالع» : الزمام للإبل ما يشدّ به رءوسها من حبل وسير ونحوه لتنقاد به اهـ. (ثم قال من) أجل (شدة الفرح) لدهشه بل ربما قال (اللهمّ أنت عبدي وأنا ربك) وقوله: (أخطأ من شدة الفرح) استئناف بياني، كأن قائلاً يقول ما سبب خطئه؟ فقال أخطأ: أي تجاوز الصواب وهو قوله: أنت ربي وأنا عبدك إلى ما قاله من الخطأ، من أجل شدة الفرح، لما تقرر من أنه ربما اشتد حتى منع صاحبه هذا من إدراك البدهيات فضلاً عن غيرها. وجاء في المعنى أحاديث أخر منها: ما أخرجه ابن عساكر في «أماليه» عن

أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً «أفرح بتوبة عبده من العقيم الوالد، ومن الضالّ الواجد، ومن الظمآن الوارد» ومنها ما أخرجه العباسبن تركان الهمداني في كتاب التائبين مرسلاً «أفرح بتوبة التائب من الظمآن الوارد، ومن العقيم الوالد، ومن الضالّ الواجد، فمن تاب توبة نصوحا أنسى الله حافظيه وجوارحه وبقاع الأرض كلها خطاياه وذنوبه» أوردهما السيوطي في «الجامع الصغير» . 174 - (وعن أبي موسى عبد ابن قيس الأشعري رضي الله عنه) سبقت ترجمته في باب الإخلاص (عن النبي: إن الله تعالى يبسط يده بالليل) في «المفاتيح» : بسط اليد عبارة عن الطلب، لأن عادة الناس إذا طلب أحدهم شيئاً من أحد بسط كفه، أو هو عبارة عن الجود والتنزه عن المنع، أو هو عبارة عن رحمة الله وكثرة تجاوزه عن الذنوب. وقال القرطبي في «المفهم» : هذا الحديث أجري مجرى المثل الذي يفهم منه قبول التوبة واستدامة اللطف والرحمة، وهو تنزل عن مقتضى الغني القويّ القاهر إلى مقتضى اللطيف الرءوف الغافر. وقال الطيبي: لعله تمثيل، وشبه حال إرادته تعالى التوبة من عبده وأنها مما يحبه ويرضاه بحالة من ضاع له شيء نفيس لا غنى له عنه ثم وجده مع غيره، فإنه يمد يده إليه طالباً متضرّعاً، ثم استعمله في جانب المستعار منه وهو بسط اليد مبالغة في تناهي التشبيه وادعاء أن المشبه نوع من المشبه به، وللمؤلف فيه كلام يأتي بما فيه (ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل) أي: إنه يوسع جوده وفضله على العصاة بالليل ليلهموا التوبة بالنهار وبالنهار ليلهموا التوبة بالليل، فسق ذلك الكرم والجود علة للتوبة ما دام بابها مفتوحاً. قال في «فتح الإله» لابن حجر الهيتمي عن المشكاة: وقول النووي يبسط يده كناية عن قبول التوبة. قال المازري: لأن العرب إذا رضي أحدهم الشيء بسط يده لقبوله، وإذا كرهه فقبض يده عنه، لا يناسب قوله في الحديث «ليتوب مسيء النهار إلخ» لأن المعنى عليه ينحلّ إلى أنه ينقل التوبة بالليل ليتوب مسيء النهار إلخ. وظاهر أنه ليس مراداً إذ قبوله التوبة بالليل ليس علة لتوبة مسيء النهار وعكسه، لأنه لا معنى لقبول التوبة قبل وجودها، وإنما المعنى أنه تعالى يقبلها بالليل ليتوب مسيئه، وبالنهار ليتوب مسيئه اهـ.

وقبول التوبة مستمرّ ما دام بابها مفتوحاً وإليه الإشارة بقوله: (حتى تطلع الشمس من مغربها) فحينئذٍ يغلق بابها، قال تعالى: {يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها} (الأنعام: 158) الآية، وكذا لا عبرة بالتوبة حال الغر غرة والمعاينة كما سيأتي قال تعالى: {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا} (غافر: 85) الآية (رواه مسلم) ورواه أحمد أيضاً كما في «الجامع الصغير» . 185 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه) تقدمت ترجمته في باب الإخلاص (قال: قال رسول الله: من تاب) أي: توبة صحيحة جامعة للشروط (قبل أن تطلع) بضم اللام (الشمس من مغربها) وتستمر طالعة إلى كبد السماء وحدّ الاستواء، ثم تعود لعادتها ومن يومئذٍ يغلق باب التوبة. وتردد بعض المحققين في أن هذا عام لمن وجد قبل الطلوع كذلك وبعده أو خاص بالأول لتقصيره بالتأخير دون الثاني (تاب الله عليه) أي: قبل توبته. قال المصنف: لا يجب على الله تعالى قبول التوبة إذا وجدت بشروطها عقلاً عند أهل السنة لكنه سبحانه وتعالى يقبلها كرماً منه وفضلاً، وقد عرفنا قبولها بالشرع والإجماع؛ ثم توبة الكافر من كفره مقطوع بقبولها وما سواها من أنواع التوبة هل قبولها مقطوع به أو مظنون؟ فيه خلاف لأهل السنة، اختار إمام الحرمين أنه مظنون وهو الأصح اهـ (رواه مسلم) . 196 - (وعن أبي عبد الرحمن عبد ابن عمربن الخطاب رضي الله عنهما) تقدمت ترجمته في باب الإخلاص أيضاً (عن النبي) في محل الحال أي حال كونه ناقلاً عن النبي (قال) : أي: النبيّ، ويحتمل على بعد عوده لابن عمر بيان للمنقول المرفوع

(إن الله عز) جده (وجلّ) شأنه (يقبل توبة العبد) أي: المذنب المكلف ذكراً أو أنثى كرماً منه وفضلاً كما سبق (ما لم يغرغر) أي: تصل روحه حلقومه من الغرغرة: وهي جعل الشراب في الفم، ثم يديره إلى أصل حلقومه فلا يبلعه، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن} (النساء: 18) وفسر ابن عباس حضوره بمعاينة ملك الموت وقال غيره: مراده تيقن الموت لا خصوص رؤية ملكه، لأنّ كثيراً من الناس لا يراه. وردّ بأن قوله تعالى: {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم} (السجدة: 11) يدل على أن كل أحد يراه، فمدعي العدم يلزمه الدليل عليه. قلت: وفي الاستدلال بهذا ما لا يخفى، إذ لا يلزم من توفيه لكل رؤية كل منهم له قيل: السرّ في عدم قبولها حين اليأس أن من شروطها عزمه على ألا يعود، وذلك إنما يتحقق مع تمكن التائب من الذنب وبقاء أوان الاختيار، وقال في «فتح الإله» بعد كلام قدمه: والحاصل أنه متى فرض الوصول لحالة لا تمكن الحياة بعدها عادة لا تصح منه حينئذٍ توبة ولا غيرها وهذا مراد الحديث بيغرغر ومتى لم يصل لذلك صحت منه التوبة وغيرها اهـ (رواه) الإمام الحافظ أبو عيسى محمدبن عيسى ابن سورة (الترمذي) بضم المثناة وفتحها وكسرها: نسبة إلى مدينة قديمة على طرف نهر بلخ الذي يقال له جيحون، كذا في «لبّ اللباب» للنيسابوري، وسكت عن بيان حركة ميمه وبينها السمعاني فقال بكسر الفوقية والميم وبضمهما وبفتح الفوقية وكسر الميم اهـ. قال ابن سيد الناس: المتداول بين أهل تلك المدينة فتح الفوقية وكسر الميم، والذي نعرفه قديماً كسرهما معاً، والذي يقوله المتقنون من أهل المعرفة بضمهما اهـ. وهو الإمام الحافظ أحد الأئمة الستة، قيل كفّ في آخر عمره، وقيل إنه ولد أكمه. قال ابن حبان في «الثقات» : كان ممن جمع وصنف وحفظ وذاكر. ولد سنة (209) مائتين وتسع. قال المستغفري: وتوفي في شهر رجب سنة 297 سبع وتسعين ومائتين، وهذا هو الصحيح. وقول الخليلي إنه مات بعد الثمانين رده العراقي وغيره، بل قال بعضهم

إنه باطل. ومن كمال حفظه ما ذكره المروزي عنه قال: كنت في طريق مكة وكنت كتبت جزءين من أحاديث شيخ فمر بنا ذلك الشيخ فذهبت إليه وأنا أظن أن الجزءين معي وحملت معي جزءين كنت أظنهما إياهما فسألته القراءة فأجابني، فأخذت الجزءين فإذا هما بياض فتحيرت، فجعل الشيخ يقرأ عليّ من حفظه، ثم نظر فرأى البياض في يدي فقال: أما تستحي، فقصصت عليه القصة. وقلت له أحفظه كله، فقال اقرأ، فقرأت جميع ما قرأه على الولاء ولم أخطىء في حرف منه؛ فقال: ما مرّ بي مثلك قط. ثم الحديث رواه أحمد وابن ماجه وابن حبان والحاكم والبيهقي كما في «الجامع الصغير» (وقال) يعني الترمذي (حديث حسن) إن قلت: قد قال المصنف في «خطبة الكتاب» وألتزم فيه ألاّ أذكر إلا حديثاً صحيحاً. قلت: يحتمل أن يراد من الصحيح في كلامه السابق المقبول كما تقدم فيشمل الحسن. وفي فتاوي الحافظ ابن حجر العسقلاني التي جمعها تلميذه السخاوي: (مسألة) هل يطلق الصحيح على الحسن كما صنع النووي حيث قال في رياض الصالحين وألتزم ألا أذكر إلا حديثاً صحيحاً مع ذكره فيه الحسن. (الجواب) الحسن يصح إطلاق الصحيح عليه بشرط أن يكون حسنه لذاته، بخلاف الذي حسنه لغيره فإنه لا يكون حسناً حتى ينجبر بمجيئه من طريق أخرى فصاعداً، فإن كان فرداً لم ينجبر ولا يصير حسناً، بخلاف الحسن لذاته فإنه إذا جاء من وجه آخر صح إطلاق الصحة عليه بالنظر إلى المجموع وهو حسن في حد ذاته، ومن أصحاب الحديث من أطلق الصحيح على كل ما يصلح للاحتجاج به سواء أكان من الصحيح أم من الحسن، وهذا ليس بشائع في المتأخرين، وقد نبه عليه ابن الصلاح في علوم الحديث، فلعل النووي سلك ذلك إن كان في كتابه المذكور ما هو حسن لغيره اهـ. قيل: والأولى حمل قوله السابق: وألتزم الخ على الغالب. 207 - (وعن زرّ) بكسر الزاي وتشديد الراء (ابن حبيش) بضم المهملة وفتح الموحدة وسكون التحتية آخره معجمة، وزرّ تابعي. قال في «الكشاف» : أدرك الجاهلية، سمع عمر وعلياً قال زرّ: قال لي أُبيّبن كعب: يازر ما تريد أن تدع آية إلا سألتني عنها. عاش مائة وعشرين سنة وتوفي سنة اثنتين وثمانين اهـ. (قال: أتيت صفوانبن عسال) بفتح المهملة وسكون الفاء وعسال بفتح المهملة الأولى وتشديد الثانية (رضي الله عنه) قال المصنف في «تهذيب الأسماء واللغات» : صفوان مرادي كوفي، غزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنتي عشرة غزوة. ومن مناقبه أن عبد ابن مسعود روي عنه وروى عنه جماعة من التابعين. قال ابن

الجوزي في «المستخرج المليح من التلقيح» : روي له عن النبي أحد وعشرون حديثاً (أسأله عن المسح على الخفين) استئناف بياني لسبب المجيء إليه أو حال من فاعل أتيت (فقال ما جاء بك) أي: ما حملك على المجيء (يا زرّ، فقلت ابتغاء العلم) مفعول له (فقال: إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم) حقيقة وإن لم نشاهده للقاعدة المشهورة: أن كل ما ورد وأمكن حمله على ظاهره حمل عليه ما لم يرد ما يصرفه عنه: أي تكفّ أجنحتها عن الطيران وتنزل لسماع العلم. وقيل: هو مجاز إما عن التواضع نظيرـ {واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} - أو عن المعونة وتيسير السعي في طلب العلم. والملائكة يحتمل كونهم ملائكة الرحمة ونحوهم من الساعين في مصالح بني آدم، ويحتمل أنهم كلهم. قيل: والأوّل أنسب بالمعنى الحقيقي والثاني بالمعنى المجازي (رضا) منها (بما يطلب) أي: من العلوم، ورضا مفعول له: أي لأجل الرضا الحاصل منها أو لإرضائها بما يطلب، و «ما» يحتمل أن تكون موصولة والعائد محذوف، وأن تكون مصدرية (فقلت إنه قدحك) بفتح المهملة وتشديد الكاف: أي أثر مّا، وفي نسخة حيك (في صدري المسح على الخفين) فاعل حك، وقوله: (بعد الغائط) وهو في الأصل المكان المنخسف من الأرض، سمي به الخارج للمجاورة حال أو صفة (والبول، وكنت) بفتح التاء للمخاطب حال، و (امرأ) بفتح الراء تبعاً لحركة آخره عند الكوفيين، ومنع البصريون ذلك: أي شخصاً (من أصحاب النبي، فجئت أسألك هل سمعته يذكر في ذلك شيئاً؟) والمسؤول عنه قدر مدته بدليل قوله في الجواب (قال: نعم) أي: سمعته يذكر فيه ثم بين المسموع بقوله: ( كان يأمرنا إذا كنا سفراً) بفتح المهملة وسكون الفاء جمع سافر، وقيل: اسم جمع له إذ لم ينطقوا به (أو) شك من الراوي (مسافرين) جمع مسافر، شك هل قال سفراً أو قال مسافرين (ألا ننزع) بكسر الزاي مفعول يأمرنا (خفافنا) بكسر المعجمة جمع خف بضمها (ثلاثة أيام ولياليهن) أي: فإن نزع الخف، والمراد به ظهور شيء من محل

الفرض من القدم، يبل المدة، فإن كان محدثاً توضأ وضوءاً كاملاً، وإن كان بطهر المسح لزمه غسل قدميه فقط على الصحيح، وكالنزع فيما ذكر انقضاء المدة وبطلانها بنحو شك في انقضائها وغيره مما ذكروه في «الفروع» (إلا من جنابة) وكذا في معناه مما يوجب الغسل من حيض أو نفاس؛ فيلزمه نزعه، ولو غسل القدم في باطن الخف نزع الخف ولبسه على طهارة كاملة ثم يمسح على قدميه؛ فوجوب النزع لصحة المسح لا لارتفاع الحدث وصحة الصلاة؛ وفارق الحدث الأكبر الأصغر بأنه لا يتكرر تكرره فلا يشق النزع فيه؛ وكذا يلزمه النزع فيما إذا تنجست رجله في الخف وتعذر تطهيرها فيه وبه تبطل المدة؛ و (لكن) مفادها مخالفة ما قبلها نفياً أو إثباتاً مخففاً أو مثقلاً؛ وحينئذٍ فالتقدير أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كنا سفراً أن ننزع خفافنا من الجنابة في المدة المذكورة ولكن لا ننزعها فيها (من غائط أو بول أو نوم) وزعم بعضهم رد هذه الرواية لأن ظاهرها ينافي العطف بلكن ليس في محله؛ غاية ما فيه أنها تحتاج إلى تأويل حتى توافق تلك القاعدة (فقلت: هل سمعته) أي: النبي (يذكر في الهوى) مقصوراً أي الحب؛ يقال هوى كعلم يهوى هوى (شيئاً؟ قال: نعم كنا مع النبي في سفر، فبينا) قيل: ألفه مزيدة لكفه عن الإضافة إلى المفرد كما تقدم في بينما بل لكفها عن الإضافة للجملة؛ إلا أن رفع ما بعد بينما واجب؛ وبعد بينا جائز؛ بل الأحسن جر المصدر بعدها نظراً إلى أن ألفها ملحقة لإشباع الفتحة. وشذ من قال ألفها للتأنيث وجملة (نحن عنده) في محل الجر على الإضافة على القول الأول (إذ) وذكر إذ هنا مع بينا يردّ على الحريري زعمه أن بينا لا تتلقى بها ولا بإذا بخلاف بينما. ويرد عليه الحديث الصحيح «بينا أنا نائم إذ جيء بمفاتيح الأرض فوضعت في يدي» (ناداه أعرابي) بفتح الهمزة اسم جمع؛ وهم سكان البوادي؛ والعرب يعم ذلك وسكان القرى، ونسب إلى الجمع؛ قيل: لأنه أجرى مجرى القبيلة كأنمار ولأنه لو نسب إلى الواحد أعني لفظ عرب فقيل عربيّ اشتبه المعنى؛ إذ العربيّ كل من كان من ولد إسماعيل سواء كان حاضراً أو بادياً، والأعرابيّ يختص بالأخير، وفي هذا المقام بسط أودعته في باب المساجد من «شرح الأذكار» ، وسيأتي في باب الحلم إن شاء الله تعالى (بصوت) متعلق بنادى (له جهورى) بفتح الجيم وإسكان الهاء؛ والياء فيه للنسبة، منسوب إلى جهور بصوته كما

في «النهاية» ، والجهورى الشديد العالي (يا محمد) لعله قبل تحريم ندائه باسمه، أو لم يكن يعلم ذلك لكونه ببادية بعيدة (فأجابه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحواً) مفعول مطلق: أي إجابة نحواً (من صوته) أي: في الرفع (هاؤم) قال أبو حيان في «النهر» : قال الكسائي وابن السكيت: يقال هاء للرجل وللاثنين رجلين أو امرأتين هاؤما وللرجال هاؤم وللمرأة هاء بهمزة مكسورة بغير ياء وللنساء هاؤنّ، ومعنى هاؤم: خذوا، وقد ذكرنا في «شرح التسهيل» فيها لغات. وهاؤم إن كان مدلولها تعالوا فهي متعدية للمفعول بواسطة إلى اهـ (فقلت له) أي: للأعرابيّ (ويحك) بفتح الواو والمهملة وإسكان المثناة بينهما: كلمة ترحم وتوجع تقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها، وقد تستعمل في «المدح» كما في «النهاية» (اغضض) أي: أنقص (من صوتك، فإنك عند النبيّ. وقد نهيت عن هذا) أي: عن رفع الصوت وعلوّه بين يديه (فقال) لما قام عنده من الحال المقتضي للجهر بالصوت (وا لا أغضض) أي: من صوتي، حذف لدلالة الكلام السابق عليه (فقال الأعرابيّ) سائلاً النبي (المرء) لغة في امرىء: أي الشخص، والمراد منه ما يعم المثنى والجمع لتساوي الكل في الحكم الآتي أو ما يقابلهما، وعلم حكمهما من تساويهما في مثل هذه الأحكام (يحبّ القوم) أي: الأخيار أحياءً وأمواتاً (ولما يلحق بهم) أي: في الأعمال وطرق الكمال: أي لم يعمل بعملهم، إذ لو عمله لكان منهم ومثلهم ولما لنفي الماضي المستمر فتدل على نفيه في الماضي والحال، بخلاف لم فإنها تدل على الماضي فقط (قال النبي) جواباً عن ذلك (المرء مع من أحبّ) فيه فضل حبّ الله ورسوله والأخيار أحياء وأمواتاً، ومن أفضل محبة الله ورسوله امتثال أمرهما واجتناب نهيهما والتزام الآدب الشرعية، ثم لا يلزم من كونه مع من أحبّ أن تكون منزلته وجزاؤه مثلهم من كل وجه، وقد جاء في «صحيح مسلم» حديث لأنس فيه مثل هذه البشرى، وفيه قال أنس: ما فرحنا بعد الإسلام فرحاً أشد مما فرحنا بقول النبيّ (المرء مع من أحبّ) . قال القرطبي: وإنما كان فرحهم بهذا القول عنه

أشد من فرحهم بسائر أعمال البرّ لأنهم لم يسمعوا أن في أعمال البرّ ما يحصل به ذلك المعنى من القرب من النبيّ والكون معه إلا حبّ الله ورسوله، فأعظم بأمر يلحق المقصر بالمشمر والمتأخر بالمتقدم. ولما فهم أنس أن هذا اللفظ محمول على عمومه علق به رجاءه وحقق فيه ظنه فقال: أنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر، فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بعملهم، والوجه الذي تمسك به أنس يشمل من المسلمين المحبين كل ذي نفس، فلذا تعلقت أطماعنا بذلك وإن كنا مقصرين، ورجونا رحمة الرحمن وإن كنا غير مستأهلين اهـ. (فما زال يحدثنا) إن كان من كلام صفوان كما هو الظاهر فالمحدّث لهم النبيّ، وإن كان من كلام زرّ فهو صفوان، ثم رأيت في «الترغيب» بعد أن روى قوله: «إن من قبل المغرب لباباً» مرفوعاً من طريق الترمذي، وفي رواية للترمذي وصححها أيضاً، قال: يعني زرّبن حبيش: فما برح: يعني: صفوان يحدثني حتى حدثني بأن الله عز وجلّ جعل بالمغرب باباً عرضه مسيرة سبعين عاماً للتوبة لا يغلق ما لم تطلع الشمس من قبله. وكذلك قوله تعالى: {يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها} (الأنعام: 158) الآية. وليس في هذه الروايات ولا الأولى تصريح برفعه كما صرّح به البيهقي وإسناده صحيح أيضاً اهـ. (حتى ذكر) في حديثه (باباً من المغرب مسيرة عرضه) أي بين طرفيه (أو يسير الراكب في عرضه) شكّ من الراوي (أربعين أو سبعين عاماً) لكمال سعته (قال سفيان) بتثليث السين وسكون الفاء، وهو ابن عيينة كما صرح به المزّي في أطرافه (أحد الرواة) لهذا الحديث: أي أحد رجال إسناده (قبل الشأم) بالهمز والقصر ويجوز ترك الهمز، والمد مع فتح الشين ضعيف: أي وهي غربي المدينة، وحدّها طولاً ما بين العريش والفرات وعرضاً من جبل طي من نحو القبلة إلى نحو أرض الروم وما سامت ذلك من البلاد. وقال ابن حبان: أوله نابلس وآخره العريش اهـ (خلقه الله تعالى) أي أوجده (يوم خلق) أي أوجد (السموات والأرض مفتوحاً) حال، ويحتمل أن يكون مفعولاً ثانياً لخلق بتضمينه معنى جعل (للتوبة) أي لقبولها سواء كانت من الكفر أو من الذنب (لا يغلق) ذلك الباب المترتب عليه عدم قبولها (حتى تطلع الشمس منه) أي: من المغرب، ويحتمل من ذلك

الباب. قال في «المفاتيح» : وإنما لم تقبل بعد طلوع الشمس من مغربها لأنه من علامات القيامة، فحينئذٍ كأنها ظهرت الساعة وظهور الساعة: انقضاء التكليف اهـ. (رواه الترمذي) بكسر الفوقية والميم، وقيل: بضمهما وقيل بفتح ثم كسر ميمها مع إعجام الذال: نسبة لمدينة قديمة على طرف جيحون نهر بلخ كما تقدم قريباً في ترجمته. ثم إنه روى الحديث بجملته في الدعوات وفي الزهد من قوله: «جاء أعرابيّ» إلى قوله: «المرء مع من أحبّ» وفي الطهارة: قصة المسح (وغيره) فروى النسائي في التفسير الحديث وليس فيه قصة المسح، وفي الطهارة بقصة المسح، ورواه ابن ماجه في الطهارة بقصة المسح وفي الفتن. وروى مسلم وغيره قوله: «المرء مع من أحبّ» لكن في قصة أخرى. وروى البيهقي حديث باب التوبة لكن باللفظ الذي نقلته عن «الترغيب» . قال المنذري: وإسناده صحيح (وقال) يعني: الترمذي (حديث حسن صحيح) قال الحافظ ابن حجر في شرح نخبته: إذا جمع الصحيح والحسن في وصف حديث واحد فللتردد الحاصل من المجتهد في الناقل، هل اجتمعت فيه شروط الصحة أو قصر عنها، وهذا حيث يحصل منه التفرد بتلك الرواية. قال: ومحصّل الجواب أن تردد أئمة الحديث في ناقليه اقتضى للمجتهد ألا يصفه بأحد الوصفين، بل يقول فيه حسن: أي باعتبار وصف ناقله عند قوم، صحيح باعتبار وصفه عند قوم آخرين. وغاية ما فيه أنه حذف منه حرف التردد لأن حقه أن يقول حسن أو صحيح، كما حذف منه حرف العطف في الذي بعده، وعلى هذا فما قيل فيه حسن صحيح، دون ما قيل فيه صحيح، لأن الحزم أقوى من التردد، وهذا حيث حصل التفرد، وإلا، أي: وإن لم يحصل التفرد فإطلاق الوصفين معاً على الحديث يكون باعتبار إسنادين أحدهما صحيح والآخر حسن. وعلى هذا فما قيل فيه حسن صحيح فوق ما قيل فيه صحيح فقط إذا كان فرداً، لأن كثرة الطرق تقوى اهـ. وقال الحافظ السيوطي: أو يكون المراد أنه حسن لذاته صحيح لغيره، أو أن المراد حسن باعتبار إسناده صحيح، أي أنه أصح شيء ورد في الباب، فإنه يقال أصح ما ورد كذا وإن كان حسناً أو ضعيفاً، والمراد أرجحه وأقله ضعفاً اهـ.

8 - (وعن أبي سعيد) كنية (سعدبن مالكبن سنان) بكسر السين المهملة وبنونين بينهما ألف (الخدريّ) بضم المعجمة وسكون المهملة نسبة إلى خدرة بهذا الضبط وهو الأبجر بالموحدة فالجيم، بطن من الخزرج، وقيل خدرة أو الأبجر. ثم سعد وأبوه صحابيان، استشهد أبوه في وقعة أحد، وحينئذٍ فلا يظهر إفراد الضمير في قول الشيخ (رضي الله عنه) : وكان حقه رضي الله عنهما كما هو المطلوب عند ذكر صحابي ابن صحابي، روى لأبي سعيد عن النبيّ ألف ومائة وسبعون حديثاً اتفقا منها على ستة وأربعين، وانفرد البخاري بستة عشر، ومسلم باثنين وخمسين عن حنظلةبن أبي سفيان الجمحي عن أشياخه قالوا: لم يكن أحد من أحداث الصحابة أفقه من أبي سعيد، وفي رواية: أعلم، ومناقبه كثيرة. توفي بالمدينة يوم الجمعة سنة أربع وستين، وقيل وسبعين، ودفن بالبقيع (أنّ) بفتح الهمزة ويجوز كسرها بتقدير القول (نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم - قال:) مرغباً في التوبة والإنابة إلى الله تعالى ومومئاً إلى صغر الذنب وإن عظم في جنب عفوه سبحانه (كان فيمن كان قبلكم) أي: من الأمم (رجل) اسم كان والظرف قبله حال منه، وقيل: الظرف صلة لمن الموصولة، وقوله: (قتل) خبر كان (تسعة وتسعين نفساً) أي: على وجه العدوان فهبت عليه نفحات الوصول، وآن إبان ساعة الإنابة والقبول (فسأل عن أعلم أهل الأرض) أي: في ذلك الوقت (فدل) بالبناء للمجهول (على راهب) أي: عابد من عباد بني إسرائيل (فأتاه فقال: إنه) عدل إليه عن حكاية لفظه وهو «إني» بضمير المتكلم، تنبيهاً على الأدب في حكاية مثل ذلك مما يكره النطق به فيؤتى فيه بضمير الغيبة كما قال الحاكي للفظ أبي طالب عند موته «فكان آخر ما كلمهم به أنه على ملة عبد المطلب» نبه عليه المؤلف في ذلك المقام من «شرح مسلم» (قتل تسعة وتسعين نفساً) عدواناً (فهل له من توبة؟) من مزيدة للتأكيد (فقال لا فـ) لما أوقعه في ميدان القنوط (قتله فكمل به مائة) من القتلى. قال القرطبي: وهذا من الراهب دليل على قلة علمه وعدم فطنته حيث لم يصب وجه الفتيا ولا سلك طريق التحرّز في نفسه مما صار له القتل عادة معتادة، فقد صار هذا مثل الأسد الذي لا يبالي بمن يفترسه، فكان حقه ألا يشافهه بمنع التوبة مداراة لدفع القتل عن نفسه كما يدارى الأسد الضاري

لكنه أعان على نفسه، فإنه لما آيسه من التوبة قتله بحكم سبعيته ويأسه من رحمة الله وتوبته عليه (ثم) لما لم يزل لطف الله تعالى مصاحباً لذلك القاتل بقي في نفسه الرغبة في السؤال عن حاله فما زال يحثه على هذا الأمر حتى (سأل) ثانياً (عن أعلم أهل الأرض) أي: في ذلك الزمن (فدل على رجل) أتى به توطئة لقوله: (عالم فقال) عطف على مقدر أي فأتاه فقال وحذف لذكره في نطيره (إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟) أي: مقبولة (فقال) ناطقاً بالحق والصواب، مجيباً عن السؤال، منكراً على من ينفيها عنه (نعم، ومن) استفهام إنكار أي شيء (يحول) بالحاء المهملة، أي يكون حائلاً وفاصلاً (بينه) أي التائب من الذنب (وبين التوبة) وعبر بمن تغليباً أي لا مانع بينك وبينها من شخص ولا غيره، وأتى بضمير الغائب مراعاة لحسن الأدب في الخطاب، وهو ألا يضاف ما فيه لوم ولو على سبيل الرمز للمخاطب. وقبول توبة القاتل عمداً مذهب أهل العلم وإجماعهم، ولم يخالف أحد منهم إلا ابن عباس، وما نقل عن بعض السلف من خلاف ذلك فمراد قائله الزجر والتورية لا اعتقاد بطلان توبته، وهذا الحديث ظاهر فيما قاله أهل العلم، وهو إن كان شرعاً لمن قبلنا، وفي الاحتجاج به خلاف فليس هذا من موضع الخلاف، إنما موضعه إذا لم يرد شرعنا بموافقته وتقريره، فإن ورد كان شرعاً لنا بلا خلاف، وهذا ورد شرعنا به، قال تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون} - إلى قولهـ {إلا من تاب} (68 - 70) الآية. وجاءت أحاديث كثيرة بمعنى ذلك. وأما قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها} (النساء: 93) فالصواب في معناه أن جزاءه جهنم وقد يجازى بها، وقد يجازى بغيرها، وقد لا يجازى بل يعفى عنه. كذا في «شرح مسلم» للمصنف. ثم إن العالم دلّ السائل على ما فيه نفعه بقوله: (انطلق إلى أرض كذا وكذا) اسمها بصرى، واسم القرية التي كان بها كفرة رواه الطبراني. ليفارق دار الفساد وأصحابه الذين كانوا يعينونه عليه ما داموا كذلك. قال القرطبي: وبهذا يعرف فضل العلم على العبادة، لأن الأول

غلبت عليه الرهبانية واغترّ بوصف الناس له بالعلم فأفتى بغير علم فهلك في نفسه وأهلك غيره. والثاني كان مشتغلاً بالعلم فوفق للحق فأحياه الله وأحيا به اهـ. وقوله: «كذا وكذا» كأن الراوي شك في اللفظ فكنى عنه بذلك، وهي من ألفاظ الكنايات مثل كيت وكيت، ومعناه مثل ذا، قاله في «النهاية» . وقوله: (فإن بها أناساً) بضم الهمزة (يعبدون الله تعالى فاعبد الله تعالى معهم) أتى بالمظهر والمقام للضمير استلذاذاً فذكر المحبوب محبوب (ولا ترجع إلى أرضك) أي: التي كنت بها زمن العصيان (فإنها أرض سوء) بفتح المهملة، وفيه تنبيه على وجه استبدال تلك الأرض بأرضه، وفيه الانقطاع عن إخوان السوء ومقاطعتهم ما داموا على حالهم واستبدال صحبة أهل الخير والعلم والصلاح والعبادة والورع ومن يقتدى به وينتفع بصحبته لتتأكد بذلك توبته وتقوى أوبته، فإن كل قرين يقتدي بقرينه (فانطلق) تائباً من زلته مفارقاً لمحلته قاصداً لما أمر بالرحلة إليه واستمرّ كذلك (حتى إذا نصف الطريق) بتخفيف الصاد المهملة المفتوحة: أي بلغ نصفها (أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى) قال القرطبي: هذا نصّ صريح في أن الله تعالى أطلع ملائكة الرحمة على ما في قلبه من صحة قصده إلى التوبة وحرصه عليها. وأن ذلك خفي على ملائكة العذاب حتى أخبر عنها بقوله: (وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط) بضم الطاء ظرف لاستغراق الزمن الماضي، إذ لو اطلعت على ما فيه قلبه من التوبة لما صح لها أن تقول هذا ولا أن تنازع ملائكة الرحمة في قولها إنه جاء تائباً الخ، بل كانت تشهد بما في علمها كما شهد الأولون بما تحققوه، ولما كانت شهادة ملائكة الرحمة على إثبات وملائكة العذاب على عدم، وشهادة الإثبات مقدمة فلا جرم لما حصل التنازع بين الصنفين وخرج كلاهما عن الشهادة إلى الدعاوى بعث الله إليهما ملكاً حاكماً يفصل بينهما كما قال: (فأتاهم ملك في صورة آدمي) صوّر بصورته إخفاء عن الملائكة وتنويهاً ببني آدم، وأن منهم من يصلح لأن يفصل بين الملائكة إذا تنازعوا (فجعلوه بينهم) حجة لمن قال بلزوم حكم المحكم للخصمين المتراضيين به (فقال: قيسوا ما بين الأرضين) أي: التي خرج منها والتي ذهب

إليها (فإلى أيتهما كان أدنى فهو له) أي لذلك الأدنى إليه منهما أي الجنة والعذاب (فقاسوا) أي ملائكة الصنفين (فوجدوه) أي التائب (أدنى) أي: أقرب (إلى) جهة (الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة) لكونه أقرب إلى أرض الصلاح. قال القرطبي: وفيه دليل على أن الحاكم إذا تعارضت الأقوال عنده وتعذرت الشهادة مكنة الاستدلال بالقرائن على ترجيح بعض الدعاوى نفد الحكم بذلك كما فعله سليمان عليه السلام حيث قال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما، وقال المصنف: قياس الملائكة ما بين القريتين، وحكم الملك الذي جعلوه بينهم بذلك محمول على أن الله تعالى أمرهم عند اشتباه الأمر عليهم، واختلافهم فيه أن يحكموا رجلاً ممن يمر بهم، فمرّ الملك في صورة رجل فحكم بذلك اهـ. (متفق عليه) رواه البخاري في ذكر بني إسرائيل، ومسلم في التوبة، ورواه ابن ماجه في «سننه» . قال المزي: قلت واللفظ المذكور لمسلم (وفي رواية في الصحيح) عند مسلم من حديث أبي سعيد أيضاً (فكان إلى القرية الصالحة) إسناد مجازي من إسناد الشيء إلى مكانه، كنهر جار، أي: الصالح من فيها، وفيه إيماء أن شرف المكان بشرف المكين، وما أحسن ما قيل: بسكانها تغلو الديار وترخص وقول الآخر: وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديار {أقرب بشبر} أي: بعد الأمر للقرية الصالحة بأن تقرب فلا تخالف الرواية الآتية (فجعل من أهلها) أي: الجنة فأخذه أهلها ففيه مجاز إطلاق اللازم وإرادة الملزوم (وفي رواية) أخرى (في الصحيح) هي عندهما واللفظ للبخاري (فأوحى الله تعالى) أي: أشار (إلى هذه) إلى أرض الفساد (أن تباعدي) عن ذلك الإنسان بأن ينضام بعضها لبعض (و) أوحى أي أشار (إلى هذه) أي أرض الصلاح (أن تقربي) بانبساط أجزائها وامتدادها (وقال) أي الحكم (قيسوا ما بينهما، فوجدوه إلى هذه) أي: أرض

الصلاح (أقرب بشبر) بسبب امتدادها وانبساطها والزواء تلك وانقباضها (فغفر له) فأخذته ملائكة الرحمة، ففيه مجاز كما تقدم في نظيره. قال القرطبي: يفهم منه أن الرجل كان أقرب إلى الأرض التي خرج منها، فلو تركت الأرض على حالها لقبضته ملائكة العذاب، لكن غمرته الألطاف الإلهية وسبقت له العناية الأزلية فقرّبت البعيد وألانت الحديد. ويستفاد منه أن الذنوب وإن عظمت فعفو الله أعظم منها، وأن من ألهمه الله صدق التوبة فقد سلك به طريق اللطف والقربة اهـ. (وفي رواية) أي في الصحيح أيضاً رواه مسلم (فناء) بتقديم الألف على الهمزة وفي نسخة من مسلم «نأى» بتقديم الهمزة عليها: أي: نهض مع ثقل ما أصابه من الموت (بصدره نحوها) وفيه دليل لصحبة توبته وصدق رغبته. 219 - (وعن عبد ابن كعببن مالك) بن كعب الأنصاري السلمي، أي: بفتحتين قال في «أسد الغابة» : ذكره أبو أحمد العسكري فيمن لحق بالنبي اهـ. (وكان قائد كعب رضي الله عنه من) بين (بنيه) وهم: عبد اهذا، وعبد الرحمن، وعبيد الله (حين) أي: زمن (عمي) أي: صار أعمى (قال) بيان للمرويّ عن عبد الله (سمعت كعببن مالك رضي الله عنه) شهد العقبة والمشاهد كلها إلا بدراً وتبوك، وجرح يوم أُحُد، أحد عشر جرحاً في سبيلالله، وهو أحد شعراء النبيّ المجاهدين بألسنتهم وأيديهم، وهم ثلاثة: حسان، وكعب، وابن رواحة. وكان حسان يقع في «الأنساب» ، وابن رواحة يعيرهم بالكفر، وكعب يخوفهم وقائع السيف. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانون حديثاً، اتفقا على ثلاثة منها، وانفرد البخاري بحديث مسلم بحديثين، توفي بالمدينة سنة خمسين رضي الله عنه (يحدث حديثه) مفعول مطلق أو منصوب بنزع الحافض (حين تخلف عن) الخروج مع (النبيّ) وفي نسخة: «عن رسول الله» (في غزوة تبوك) بفتح الفوقية وضم الموحدة،

يصرف إن أريد به المكان ولا يصرف أن أريد به البقعة، وكانت غزوة تبوك في التاسعة من الهجرة. قال الفناوى في «شرح الموطأ» من رواية محمدبن الحسن: قيل سميت بتبوك لأنه رأى قوماً من أصحابه يبوكون عين تبوك. أي: يدخلون فيها القدح ويحركونه ليخرج الماء، فقال: ما زلتم تبوكونها تبوكاً اهـ. (قال كعب) : بيان لحديثه (لم أتخلف عن رسول الله) في غزوة غزاها قط وعدة الغزوات التي خرج فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه سبع وعشرون، قاتل في تسعة منها بنفسه: بدر، وأحد، والمريسيع، والخندق، وقريظة، وخيبر، وفتح مكة على القول بأنها فتحت عنوة والصحيح عند أئمتنا خلافه، وحنين، والطائف. وقيل إنه قاتل بني النضير. وكانت سراياه التي بعث فيها سبعاً وأربعين سرية (إلا في غزوة تبوك) ثم استثنى من قوله: «لم أتخلف» الخ قوله: (غير أني قد تخلفت) أي: عنه (في غزوة بدر) قرية مشهورة تنسب إلى بدربن مخلدبن النضربن كنانة كان نزلها، وقيل: بدربن الحارث حافر بئرها، وقيل: بدر اسم البئر التي فيها سميت به لاستدراتها أو لصفائها ورؤية البدر فيها. وحكى الواقدي عن غير واحد من شيوخ بني غفار إنكار هذا كله، قال: وإنما هي مالنا ومنازلنا وما ملكها أحد قط يقال له: بدر، وإنما هو علم عليها كغيرها من البلاد. والسبب في ترك استثناء بدر مع تبوك بلفظ واحد كونه تخلف في تبوك مختاراً لذلك مع تقدم الطلب وقوع العتاب على من تخلف بخلاف بدر في ذلك كله فلذا غاير بين التخلفين، قاله الحافظ في «الفتح» (ولم يعاتب أحد) من المسلمين هو بفتح الفوقية مبني للمجهول، وفي رواية: «لم يعاتب أحداً» (تخلف عنه) فيها (إنما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون يريدون عير قريش) علة لعدم العتاب. والعير: الإبل التي عليها أحمالها. وذلك أن أبا سفيان كان بالشام في ثلاثين راكباً، منهم: عمروبن العاص، فأقبلوا في قافلة عظيمة فيها أموال قريش، حتى إذا كان قريباً من بدر بلغ النبي ذلك، فندب أصحابه إليهم وأخبرهم بكثرة المال وقلة الغدوّ، فلما بلغ النبيّ الروحاء أتاه الخبر عن مسير قريش ليمنعوا عن عيرهم، فكان سبب الحرب المشار إليها بقوله: (حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم) أي: من كفار قريش (على غير ميعاد) أي: موعد (ولقد شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم

ـ ليلة العقبة) أي: الليلة التي بايع النبيّ الأنصار فيها على الإسلام وأن يؤووه وينصروه، وهي العقبة التي في طرف منى التي تضاف إليها جمرة العقبة، وكانت بيعة العقبة مرتين في السنة الأولى كانوا اثني عشر، وفي السنة الثانية سبعين كلهم من الأنصار بمسجد يقرب العقبة المذكورة، وإذا أطلق ذكر العقبة فالمراد الأخيرة (حين تواثقنا) بالمثلثة بعد الألف بدل من ليلة وتواثقنا (على الإسلام) أي: تبايعنا عليه وتعاهدنا وأخذ بعضنا على بعض الميثاق، وفي بعض النسخ «توافقنا» بالفاء بدل المثلثة (وما أحبّ أن لي بها) أي بدل الليلة أو العقبة (مشهد بدر) بالنصب اسم أن، أي: ما أحبّ أني شهدت بدراً ولم أشهدها قال ذلك لما ظهر له بحسب نظره أن ليلة العقبة كانت أفضل لأنها وقعت قبل الهجرة، والمسلمون قليل والإسلام ضعيف (وإن كانت بدر أذكر) بالنصب: أي أشهر ذكراً (في الناس منها) بالفضيلة، وقد قدموا في عدّ طباق الصحابة من شهد العقبة الثانية على من شهد بدراً (فكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة) بإسكان الزاي، ويقال: غزاة بفتح المعجمة والزاي وإبدال الواو ألفاً فهما مفرداً غزوات وعن ثعلب الغزوة المرة، والغزاة عمل سنة كاملة. ذكره أو المغازي من الفتح (تبوك أني) بفتح الهمزة هي ومدخولها اسم كان (لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني) فيه تفضيل الشيء على نفسه باعتبار تعدد الزمان، كما فضل الكحل حال كونه في عين زيد مثلاً على نفسه حال كونه في عين غيره باعتبار تعدد المكان في قولهم: ما رأيت أحداً أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد (حين) أي: زمن (تخلفت عنه في تلك) الغزوة (وا ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة) بيان لكونه أيسر وكذا لكونه أقوى إن أريد به القوة العارضية الحاصلة بالأسباب، وإن أريد به القوّة في البدن فسكت عن ذكر ما يبينه

(ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد غزوة إلا ورّى بغيرها) أي أوهم، زاد أبو داود: وكان يقول: «الحرب خدعة» (حتى) غاية للتورية (كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حرّ شديد) يخاف منه الهلاك (واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً) ويقال مفازة: أي برية طويلة قليلة الماء وهو بفتح الميم، قيل: مأخوذ من فاز الرجل إذا هلك، وقيل على سبيل التفاؤل بفوزه ونجاته منها كما يقال للديغ: سليم (واستقبل عدداً كثيراً) وفي بعض نسخ الصحيح: عدواً، وكأن حكمة إعادة العامل أن هذا نوع غير معمول «استقبل» المذكور أولاً (فجلا للمسلمين أمرهم) بتخفيف اللام وتشديدها: أي كشفه وأوضحه وعرفهم ذلك من غير تورية (ليتأهبوا أهبة غزوهم) بضم الهمزة وإسكان الهاء، أي: ليستعدوا بما يحتاجون إليه في سفرهم، ثم هو كذا في نسخ الرياض بالمعجمة فالزاي، وهو كذلك في «صحيح مسلم» ، وفي «صحيح البخاري» «عدوهم» بالمهملتين وتشديد الواو (فأخبرهم بوجههم) أي: بقصده، وهو كذلك بالموحدة أوله، في بعض نسخ مسلم وفي غيره «توجههم» بالفوقية بدل الموحدة: أي مقصدهم (الذي يريد) وفي تلك «الذي يريدون» والعائد محذوف عليهما. وسبب تلك الغزوة أنه بلغه أن الروم تجمعت بالشام مع هرقل: أي لحربه، فندب الناس إلى الخروج لذلك (والمسلمون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثير) جملة حالية من فاعل غزا، وعدة من كان معه ثلاثون ألفاً، وعن أبي زرعة سبعون ألفاً، وفي رواية عنه أيضاً: أربعون ألفاً، ووجه الجمع أن من قال كانوا سبعين عدّ التابع والمتبوع ومن قال ثلاثين أو أربعين عدّ المتبوعين أو أهل القتال (ولا يجمعهم كتاب حافظ) حال متداخلة، ثم روي في «صحيح البخاري» بتنوينهما، وفي «صحيح مسلم» بالإضافة. قال ابن شهاب الزهري: (يريد) أي: كعب (بذلك) أي: بالكتاب الحافظ (الديوان) بكسر الدال على المشهور، وحكي فتحها فارسي معرب، وقيل: عربي (قال كعب: فقلّ رجل) وفي «البخاري» فما رجل (يريد أن يتغيب) أي: يغيب (إلا ظن أن ذلك سيخفى له) وقع في جميع نسخ مسلم بإسقاط «إلا» . قال

المصنف في «شرحه» : والصواب إثباتها. قال القرطبي: هي لإيجاب ما تضمنته قلّ من معنى النفي، لأن معنى قلّ رجل: ما رجل، فكأنه قال: ما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن اهـ (ما لم ينزل فيه وحي من الله عزّ وجلّ) منبه على تغيبه (وغزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الغزوة حين طابت الثمار) أي: أينعت ونضجت وآن وقت أكلها (و) طابت (الظلال) بكسر الظاء المعجمة: جمع ظل (فأنا إليها أصعر) بالمهملتين: أي: أميل، والصعر: الميل (فتجهز رسول الله، و) تجهز (المسلمون معه وطفقت) من أفعال الشروع جعلت يقال: طفق بكسر الفاء وفتحها وبإبدال الفاء بموحدة (أغدو لكي أتجهز معه فأرجع ولم أقض) شيئاً من أمري (وأقول في نفسي أنا قادر على ذلك) أي: على التجهيز (إذا أردت) أي: لسعة الوقت (فلم يزل ذلك) أي التسويف في الأمر (يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد) بكسر الجيم: أي الاجتهاد في أمر السفر وشأنه (فأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غادياً و) أصبح (المسلمون معه) أي: مصاحبين له في السفر (ولم أقض من جهازي) بفتح الجيم وكسرها: أي أهبه سفري (شيئاً ثم غدوت) أي: سرت أول النهار (فرجعت) من غدوي (ولم أقض شيئاً) أي: من جهازي (فلم يزل ذلك) أي: الغدو لقضاء الجهاز وعدم قضائه (يتمادى بي حتى أسرعوا) بالمهملات. وصحفه الكشميهني فرواه في «صحيح البخاري» «شرعوا» بحذف الهمزة وإعجام الشين (وتفارط) بفوقية ففاء وراء وطاء مهملتين (الغزو) بإعجام الغين: أي تقدم الغزاة، والفارط والفرط: المتقدم وجمعه أفراط (فهممت أن أرتحل فأدركهم فيا) قوم (ليتني فعلت) وخلصت من ورطة التخلف، وفيه الندم على ما فات من عمل البرّ، والنهي عنه على ما فات محمول على ما فات من الأعراض الفانية (ثم لم يقدر ذلك) أي: الارتحال (لي) وما لم يقدر لا يكون (فكنت إذا خرجت في الناس) أي المتخلفين من مؤمن معذور أو منافق

مغرور (بعد خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحزنني) بفتح التحتية وضم الزاي من حزن ويجوز ضم التحتية وكسر الزاي من أحزن (أن) وفي نسخة «أنى» (لا أرى لي أسوة) فاعل يحزن. والظرف في محل الحال من أسوة، وهي بضم الهمزة وقد تكسر: القدوة (إلا رجلاً مغموصاً) بإعجام الغين وإهمال الصاد أي مطعوناً (عليه) في دينه محتقراً متهماً (في النفاق) أي إظهار الإسلام وإخفاء الكفر. ولا يخفى ما اشتملت عليه هذه الجملة من الاستعارة المكنية وما يتبعها من الاستعارة التخييلية (أو رجلاً ممن عذر ا) أي: عذره الله (من الضعفاء) بيان لمن (ولم يذكرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بلغ تبوك) هكذا في «نسخ الرياض» ممنوع الصرف على إرادة البقعة. قال المصنف: وهو في أكثر نسخ «الصحيحين» تبوكاً بالصرف، وكأنه صرفه لإرادة المكان دون البقعة (فقال وهو جالس في القول بتبوك: ما فعل كعببن مالك؟ فقال رجل من بني سلمة) بكسر اللام: بطن من الأنصار، واسم ذلك الرجل عبد ابن أنيس كما قاله الواقدي في «المغازي» (يا رسول الله حبسه برداه) بضم الباء، يعني: الرداء والإزار أو الرداء والقميص، وسماهما بردين لأن الإزار والقميص قد يكونان من برد والبرود ثياب من اليمن فيها خطوط، ويحتمل أن أحدهما كان برداً وتسمينهما بردين على طريقة العمرين والقمرين (والنظر في عطفيه) بكسر المهملة الأولى: أي جانبيه، كناية عن العجب. قال القرطبي: وكأن هذا القائل كان في نفسه حقد على كعب ولعله كان منافقاً فنسب كعباً إلى الزهوّ والكبر، وكانت نسبة باطلة بدليل ردّ العدل الفاضل معاذبن جبل عليه كما قال: (فقال له معاذبن جبل رضي الله عنه بئسما) أي بئس هو قولاً (قلت، وا يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً) ففيه جواز ذمّ المتكلم بالعيب والقبيح في حق المسلم ونصرة المسلم في غيبته والرد عن عرضه. وما زعمه من احتمال نفاق القائل فيه نظر لأن عبد ابن أنيس لم يتهم بذلك. والأولى حمله على أنه صدر منه ذلك من غير فكر وروية وقصد إلى معايبه القبيحة الردية، والله أعلم بحقيقة الحال

(فسكت رسول الله) أي عن السؤال عن حال كعب، زاد مسلم على البخاري (فبينا هو على ذلك رأى رجلاً مبيضاً) بكسر التحتية اسم فاعل، من البياض: أي لابس البياض، يقال: هم المبيضة والمسودة بالكسر: أي لابسو البياض والسواد (يزول) أي يتحرك وينهض (به السراب) هو ما يظهر للإنسان في الهواجر في البراري كأنه ماء (فقال رسول الله: كن أبا خيثمة) لفظهُ لفظ الأمر ومعناه الدعاء، كما يقال أسلم: أي سلمكالله، قاله السهيلي. وقال المصنف في «شرح مسلم» : قيل معناه أنت أبو خيثمة. قال ثعلب: العرب تقول كن زيداً: أي أنت زيد. قال القاضي عياض: والأشبه عندي أنّ كن هنا للتحقيق والوجود: أي لتوجد يا هذا الشخص أبا خيثمة حقيقة، وهذا الذي قاله القاضي هو الصواب وهو معنى قول «صاحب التحرير» : تقديره اللهم اجعله أبا خيثمة اهـ. (فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري) إذا فجائية والجملة بعدها في محل جرّ بالإضافة (و) أبو خيثمة (هو الذي تصدّق بصاع التمر حين لمزه المنافقون) واللمز: الطعن. انتهت زيادة مسلم. واسم أبي خيثمة عبد ابن خيثمة، وقيل: مالكبن قيس، ولهم: أبو خيثمة صحابي آخر اسمه: عبد الرحمنبن أبي سبرة الجعفي (قال كعب: فلما أن بلغني أن رسول الله) بفتح الهمزة هي ومعمولاها فاعل بلغ (قد توجه قافلاً) أي: راجعاً (من تبوك) بالصرف وعدمه على ما تقدم (حضرني بثي) جواب للما. وعند البخاري: «حضرني همي» والبث أشد الحزن، وبه يعلم أن عطف الحزن عليه في قوله تعالى: {إنما أشكو بثي وحزني إلى ا} (يوسف: 86) من عطف العام على الخاص لا المرادف خلافاً لما في شرح «بانت سعاد» لابن هشام (فطفقت) أي: أخذت من باب أفعال المقاربة تقدمت لغاتها (أتذكر الكذب) أي ما يقبله السامع من الآتي به والجملة خبر طفق (وأقول) عطف على خبر طفق (بما) كذا هو إثبات الألف في الأصول المصححة، ومقتضى قاعدة وجوب حذف ألف ما الاستفهامية إذا جرت نحو {عم يتساءلون}

أن يكون بحذفها ولعله جاء على الاستعمال القليل: أي أقول بأي شيء من الأعذار مطابقة للواقع أم لا كما يدل عليه السياق (أخرج من سخطه) بفتحتين أو بضم فسكون أي من كراهيته لتخلفي وعدم رضاه به (غداً وأستعين) عطف على أتذكر (على ذلك) أي المخرج لي من سخطه وعدم رضاه (بكل ذي) أي: صاحب (رأي من أهلي) ثم لا يشكل ما ذكره من تذكرة الكذب والاستعانة عليه بما تقرّر من عدالة الصحابة، لأنه رأى جواز فعل ذلك لما فيه من ارتكاب أخف الضررين دفعاً لأشدهما وهو سخطه. على أن الله سبحانه وتعالى قد حفظه من فعل ذلك وسلك به عنه بصدقه أحسن المسالك (فلما قيل) أي: تحدث وليس المراد منه تضعيف المخبر عنه (أن رسول الله) بكسر الهمزة محكي بالقول، وهو نائب الفاعل لأن الإسناد لفظي: أي قيل هذا اللفظ (قد أظل) بالمعجمة المشالة أي: أقبل ودنا كأنه ألقى عليه ظله (قادماً) حال من فاعل أظل (زاح عني الباطل) أي: زال وذهب، ويقال: أزاح أيضاً والمصدر زوحاً، قاله الأصمعي، وزيحا كما في «المصباح» ، وزيحانا قاله الكسائي، والمراد بالباطل ما كان عزم عليه من التنصل من سخطه بالإخبار بغير مطابق للواقع (حتى) استئنافية أو عاطفة (عرفت أني لم أنج) بفتح الهمزة وسكون النون وضم الجيم (منه) أي من سخطه نجاة نافعة (بشيء) أي: من الكذب، وفي نسخة «بشيء فيه كذب» (أبداً) أي لا أنجو به نجاة أبدية وإن نجوت به في الحال، لكن يحصل خلافه عند كشف الله لنبيه عن حقيقة الأمر كما جرى للمنافقين، والأبد الزمن المستقبل (فأجمعت صدقه) أي: عزمت عليه، يقال أجمع أمره وعلى أمره وعزم عليه بمعنى (وأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قادماً وكان إذا قدم) بكسر الدال مضارعه يقدم بفتحها (من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين) تحية المسجد، إنما كان يفعل ذلك ليبدأ بتعظيم بيت الله قبل بيته وليقوم بشكر نعمة الله عليه في سلامته، وليس ذلك في شرعه لأمته. كذا في «المفهم» . ثم جملة «وكان» تحتمل العطف على جملة أصبح، والحالية من فاعل أصبح، (ثم

جلس للناس) أي ليسلموا عليه ويهنئوه بالسلامة (فلما فعل ذلك) أي: المذكور من صلاة التحية والجلوس للناس معتكفاً كما يومىء إليه علو مقامه فلذا دارت أفعاله بين الوجوب والندب. والاعتكاف يحصل بما زاد على الطمأنينة ولا يتوقف على الصوم (جاءه المخلفون) اسم مفعول: أي عن الخروج معه إلى تبوك. قال أبو حيان في «النهر» : لفظ المخلفون يقتضي الذم والتحقير، وهي أمكن من لفظ المتخلفين إذ هم مفعول بهم ذلك اهـ. فطفقوا (ويعتذرون إليه) من تخلفهم عنه (ويحلفون له) على ما يعتذرون به (وكانوا بضعاً وثمانين رجلاً) والبضع والبضعة بكسر الباء الموحدة وسكون المعجمة: ما بين الثلاث إلى التسع من العدد. وفي هذا الرد على منع استعماله فيما فوق العشرين، ثم منهم من اعتذر بالمرض ومنهم من اعتذر بغيره مما هو كاذب فيه (فقبل منهم علانيتهم) بتخفيف التحتية اسم مصدر من علن الأمر يعلن علوناً كدخل أو من علن يعلن علناً كطرب أي: ما أظهروه إجراء للأحكام على ظاهر (وبايعهم) بالموحدة (واستغفر لهم) أي: سأل الله غفر ذنب المتخلف عنه (ووكل) بتخفيف الكاف (سرائرهم) جمع سريرة: أي ما أخفوه من النفاق وقصد الإخبار بخلاف الواقع (إلى) علم (ا) وفي الحديث: «إنما أحكم بالظواهر وا يتولى السرائر» (حتى جئت) حتى حرف ابتداء لدخولها على الماضي، وليست حرف جر بعدها أن مضمرة خلافاً لابن مالك فقد رده عليه ابن هشام بأنه لا يعرف له فيه سلفاً، ولا عاطفة لأنها لا تعطف الجمل خلافاً لابن السيد في زعمه إجازة ذلك. قال في «المغني» : وذلك لأن شرط معطوفها أن يكون جزءاً مما قبلها أو كجزئه ولا يتأتى ذلك إلا في المفردات اهـ. وحينئذٍ فالجملة مستأنفة (فلما) الفاء فصيحة أي جئت فسلما فلما (سلمت عليه تبسم تبسم المغضب) بفتح المهملة من الأول فعل ماض جواب لما، وضمها من الثاني مصدر مفعول مطلق، والمغضب اسم مفعول: أي الغضبان، وفي التعبير به دونه إيماء إلى أن الغضب منه إنما يكون عارضاً بسبب أمر يقتضيه، وإلا فخلقه الكريم الرضى والعفو والصفح والتجاوز عما لا معصية فيه من الأمور. قال أنس: «خدمت النبي عشر سنين، فما قال لي لشيء فعلته لم فعلته، ولا لشيء تركته لم تركته» (ثم قال: تعال) بفتح اللام (فجئت) أي عقب الأمر من غير تراخ ففيه ما كان عليه الصحابة من البدار

لأداء أوامره (أمشي) جملة حالية (حتى) غاية لما قبله (جلست بين يديه فقال لي: ماذا) أي ما الذي (خلفك) أي ما كان سبب تخلفك عن الخروج معي لتبوك. وإسناد التخليف إليه مجاز عقلي (ألم تكن قد ابتعت) أي اشتريت (ظهرك) الظهر: هي الإبل التي تركب وجمعه ظهران بالضم (قلت: يا رسول الله إني وا لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج سخطه بـ) ـذكر (عذر) أبديه مورياً أو موجهاً (لقد أعطيت) بالبناء للمجهول (جدلاً) بفتح أوليه الجيم فالمهملة: أي فصاحة وقوة في الكلام وبراعة بحيث أخرج عن عهدة ما ينسب إليّ إذا أردت، ثم أكد ما قبله بقوله: (ولكني وا لقد علمت أني لئن حدثتك اليوم حديث كذب) بفتح فكسر (ترضى به عني) لفصاحته وبراعته الموهمة أنه كذلك في الواقع (ليوشكن ا) أن (يسخطك عليّ) يوشك بضم التحتية وكسر المعجمة مضارع أو شك وهو أكثر استعمالاً منه حتى أنكر الأصمعي مجيئه ماضياً، وإن كان مردوداً بمجيئه كذلك في كلامهم، وهو من أفعال المقاربة، ثم اللام في لقد علمت لام جواب القسم، وفي لئن مؤذنة بقسم مقدر أتى به تأكيداً للمقام، وقوله ليوشكن جوابه، واستغنى به عن جواب الشرط، وجملة القسم وجوابه علق عنها فعل العلم والقسم الأول وجوابه ساد مسد خبر لكن علة له، والتقدير: ولكني مع الحال المذكورة لا أفعل لعلمي بأن الله يجلي لك الأحوال ويظهر لك الصادق والكاذب من المقال، ففيه التنبيه على اجتناب المعاصي، فإنها وإن كانت قد تحلو ساعة مباشرتها بتزيين الشيطان وإغوائه إلا أنها مرة المجنى منقصة في المعنى لمن استنارت بصيرته وجليت سريرته (وإن حدثتك حديث صدق تجد) بكسر الجيم وتخفيف المهملة أي: تغضب (عليّ فيه) أي لأني ملوم بسببه واقع في المخالفة به، وهذه الجملة الشرطية معطوفة على الأولى الواقعة بعد اللام المؤذنة بالقسم. فقوله: (إني لأرجو فيه) أي: الصدق (عقبى الله عز وجل) جواب القسم، والعقبى بضم العين المهملة وسكون القاف: أي: العاقبة الحسنة أي: أرجو من الله تعالى أن يعقبني خيراً بتوبته علي وإرضاء نبيه عني، وقد حقق الله له رجاءه (وا ما كان لي من) مزيدة لاستغراق النفي

(عذر) أي: حقيقي في التخلف فأعتذر به (وا ما كنت قط) بفتح القاف وتشديد المهملة المضمومة على الأفصح (أقوى) أي في البدن (ولا أيسر) أي في المال (مني) هو المفضل عليه وتفضيل الشيء على نفسه باختلاف الزمان (حين) أي: وقت (تخلفت عنك فقال رسول الله: أما) بفتح الهمزة وتشديد الميم حرف فيه معنى الشرط والتفصيل (هذا فقد صدق فقم) الفاء فيه فصيحة: أي حيثما صدقت فقم (حتى يقضي ا) أي: يبدي في عالم الشهادة ما سبق به قضاؤه الأزلي (فيك) أي في شأنك: أي من المؤاخذة بجريرة ذنب التخلف المحرم من غير عذر أو العفو عنه أو التوبة عليه والرضى عنه لما تجرعته من مرارة الصدق الشاق عليك لما ترتب عليه فقمت (وثار) بالمثلثة: أي: وثب (رجال من بني سلمة) بفتح المهملة وكسر اللام: بطن من الأنصار (فاتبعوني فقالوا: وا ما علمناك أذنبت ذنباً) الجملة في محل المفعول الثاني لعلم (قبل هذا) التخلف (لقد عجزت) بفتح الجيم على الأفصح (في) تعليلية نحو: {لمسكم فيما أفضتم} (النور: 14) ألا تكون اعتذرت أي: بسبب عدم اعتذارك (إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما) أي: بمثل الذي (اعتذر به إليه المخلفون) فإن كان ذنباً لكونه كذباً لم تورّ (فقد كان كافيك) بالنصب خبر كان، و {ذنبك} مفعوله الثاني أو منصوب على نزع الخافض (استغفار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لك) اسم كان، وأعربه الحافظ فاعل الوصف، وعليه تكون كان تامة الوصف فاعلها والاستغفار فاعله (قال) كعب: (فوا ما زالوا يؤنبونني) بضم التحتية وفتح الهمزة ثم نون مشددة مكسورة ثم موحدة، أي يلومونني أشد اللوم (حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأكذب نفسي) أي: أقول إنها كاذبة في قول السابق ما كان لي من عذر (ثم قلت لهم: هل لقي هذا) أي الصدق في المقال وذكر الواقع الذي لمتوني به (معي من) مزيدة (أحد) فيهون عليَّ

الأمر وأجد لي مساوياً في ذلك (قالوا نعم، لقيه رجلان قالا مثل ما قلت) أي من الإخبار بانتفاء العذر المانع من الخروج (وقيل لهما مثل ما قيل لك) أي: من انتظار ظهور ما سبق به القضاء في شأنهما (قال) كعب (قلت من هما؟ قالوا) : هما (مرارة) بضم الميم وتكرار الراء (ابن الربيع العامري) هذا لفظ مسلم، قال المصنف في «شرحه» : هكذا هو في جميع نسخ «العامري» وأنكره العلماء وقالوا: هو غلط إنما صوابه «العمرى» بفتح المهملة وإسكان الميم من بني عمروبن عوف، وكذا ذكره البخاري، وكذا نسبه ابن إسحاق وابن عبد البرّ وغيرهما من الأئمة. وقال القاضي عياض: هو الصواب، ووقع عند مسلم أيضاً في النسخ «ربيعة» ووقع في البخاري «ابن الربيع» قال ابن عبد البرّ: يقال بالوجهين (وهلال) بوزن بلال (بن أمية) بن عامربن قيسبن عبد الأعلمبن عامربن كعببن واقفبن امرىء القيسبن مالكبن الأوس (الواقفي) بقاف ففاء منسوباً إلى بني واقف المذكور في النسب واسمه مالك: بطن من الأنصار (قال: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً) أي: غزوة بدر الكبرى وأهلها لهم الشرف الأعلى، ثم ما ذكره من شهودهما بدراً كذا في الصحيحين. قال ابن الجوزي في «جامع المسانيد» إنه من أوهام الزهري فلم يذكرهما أحد في البدريين، وقد سئل الشرف الدمياطي عن كلام ابن الجوزي هذا فأقرّه عليه وأيده، نقله عنه ابن السبكي في ترجمته من «الطبقات الكبرى» ، وتعقبه الحافظ في «الفتح» بأن الظاهر من صنيع البخاري أن «قد شهدا بدراً» من كلام كعب، وممن جزم بأنه شهداها الأثرم، وتعقبه ابن الجوزي ونسبه إلى الغلط فلم يصب. واستدل بعضهم لكونهما لم يشهداها بما لا دليل فيه من هجرانه لهما وترك مثل ذلك في حق حاطب وقد فعل ما فعل فقال في حقه «إنه شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر» الحديث، فلو شهداها لصفح عنهما كحاطب وليس ما يومىء إليه كلامه من عدم مؤاخذة البدري بما يعمل كذلك، وإنما صفح عن حاطب لتبين عذره في مكاتبته بخلاف كعب وصاحبيه إذ لا عذر لهما في التخلف انتهى ملخصاً. (فقلت لي فيهما أسوة) بضم الهمزة وكسرها: أي قدوة وفي العبارة تجريد إذ هما الأسوة (قال) كعب: (فمضيت) أي: مصمماً على ما وقع مني من الإخبار بالصدق (حين ذكروهما لي) بمثل ذلك (ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كلامنا أيها الثلاثة) ففيه وجوب هوان من ظهرت منه المعصية فلم يسلم عليه إلى أن يقلع وتظهر توبته. كذا في «المفهم» وأي: بالضم

والثلاثة مرفوع على الصفة لأي تبعاً للفظها ومحلها نصب على الاختصاص. حكى سيبويه عن العرب: اللهم اغفر لنا أيتها العصابة، وهذا مثله (من بين) أي دون (من) أي سائر الذي (تخلف عنه) وذلك لرفع شأن هؤلاء الكرام وإعراضه عن باقي المتخلفين لأنهم اعتذروا، ومنهم المعذور حقيقة، ومنهم المنافقون اعتذروا ظاهراً فقبل منهم ذلك لأن الأحكام الشرعية مبناها عليه، وقد فضح الله سرائرهم وأظهر للمؤمنين ضمائرهم كما يأتي آخر الحديث (قال فاجتنبنا) بفتح الموحدة (الناس) أي: صاروا لنا مجانبين (أو) شك من الراوي (قال) فـ (تغيروا لنا) عما كنا نعهده من الأنس والوداد منهم (حتى تنكرت) غاية لما قبلها وتنكرت تغيرت (لي في نفسي الأرض) فاعل تنكر والظرفان متعلقان به: أي تغيرت لي لا لغيري في نفسي، أي عندهما لا في نفس الأمر. وحاصله أن تكدر الأحوال يوهم النفس تغير الدار ويخيل إليها ما لم يقع بحال (فما هي) أي: الأرض الآن (بالأرض التي أعرف) والحاصل أنه لعظم ما اشتدّ عليه الأمر توهم أنه تغير عليه كل شيء حتى الأرض، فإنها توحشت وصارت كأنها غير الأرض التي كان يعرفها قبل ذلك (فلبثنا) أي: أقميها (على ذلك) المذكور من الانتظار لما يبدو في عالم الشهادة مما سبق به القضاء، وهجر الناس لنا (خمسين ليلة) أي: ونهاراً، وحذف اكتفاء بذكر قرينه للعلم به من السياق. (فأما) بفتح الهمزة تفصيل لبعض حاله وحال صاحبيه (صاحباي) أي: المشاركان لي في هذا الحال (فاستكانا) أي: خضعا (وقعدا في بيوتهما يبكيان) أي: على خطيئتهما ففيه بكاء الإنسان على خطيئته، وفي الحديث: «وابك على خطيئتك وليسعك بيتك» (وأما أنا فكنت أشبّ القوم) بالمعجمة فالموحدة أي: أصغرهم سناً (وأجلدهم) أي: أقواهم (فكنت أخرج) إلى المسجد وغيره (فأشهد الصلاة) أي: المفروضة (مع النبيّ) أي أشهد الجماعة في الصلوات المكتوبات (وأطوف) بفتح الهمزة وبالمهملة أي: أمشي دائراً (في الأسواق) جمع سوق، وتقدم أنها سميت بذلك لسوق الناس بضائعهم إليها، وقيل: للوقوف فيها على الساق. وتعقب باختلاف المادة، ولعل من حكمة طوفانه في الأسواق أنها من محال كرم الله

وجوده بتيسير تلك الأمور المباعة لطالبها وربح جالبها وصاحبها فتعرض في محل الرحمات والفيوض المعنوية وهي المساجد وشهوده الصلوات، وفي محل الفضل والعطايا الدنيوية وهي الأسواق لنفحات الرحمن لتعود عليه بالتوبة، ويظفر بالمرام في الأوبة، ويتنصل عما وقع فيه من الحوبة (ولا يكلمني أحد) معطوفة على وأطوف ويصح كونها في محل الحال (وآتى رسول الله) تشرفاً برؤيته، واستمطاراً للفيوض الربانية من حضرته، وإراحة القلب من ألم الكرب، ففيه أن حبه له الأكيد، لم يغيره عنه ما صدر من الأمر فيه بالتبعيد (فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة) فيه الجلوس عقب الصلاة في المصلى للذكر والدعاء ونحوهما، والجملة في محل الحال، وأتردد هل رد عليه الصلاة والسلام بلسانه على السلام (فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه) بفتح المعجمة أي: أقول هل حركهما ناطقاً (برد السلام) عليّ كما هو قضية صفحه وعفوه، والانزجار يحصل بعدوله عن الجهر بذلك إلى الإسرار (أم لا) لقضية ما صدر مني من العصيان المقتضي للهجران. وأم هنا منقطعة بمعنى بل لعدم تقدم الهمزة عليها (ثم أصلي قريباً منه) للنافلة والرواتب (وأسارقه النظر) بالمهملة والقاف: أي: أنظر إليه في خفية. ففيه أن مسارقة النظر في الصلاة وكذا الالتفات لا يبطلها (فإذا أقبلت على صلاتي أقبل علي) لما ورد من إقبال المولى سبحانه على المقبل بقلبه وقالبه على مولاهـ والمصطفى متخلق بأخلاقالله. ففيه أن الإقبال على مرضاة الله سبب لقبول أولياء الله (وإذا التفت نحوه) في صلاتي (أعرض عني) إذ الالتفات في الصلاة اختلاس من الشيطان كما ورد في الحديث مع ما ينبىء عنه من الغفلة الشاهد بها خبر «لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه» (حتى إذا طال على ذلك) ابتدائية على الصحيح على ما في المغني أو غاية لمقدر: أي استمررت متصابراً حتى إذا طال عليّ ذلك (من) بيانية لذلك (جفوة) بفتح الجيم وسكون الفاء: أي إعراض (المسلمين) ويجوز أن يكون المشار إليه ما تقدم ومن ابتدائية أو تعليلية (مشيت) واستمررت في المشي (حتى تسورت) بتشديد الواو: أي علوت سور (جدار حائط) هو البستان إذا كان عليه دائر بناء. وفي «الصحاح» : التسوّر النزول من الارتفاع ولا يكون إلا من فوق ويقال: هو الصعود إلى مكان مرتفع اهـ. وفيه جواز دخول الإنسان دار صديقه وقريبه

الذي يدل عليه ويعرف أنه لا يكره ذلك بغير إذنه بشرط أن يعلم أنه ليس هناك نحو زوجة مكشوفة (أبي قتادة) بفتح القاف الحارثبن ربعي بكسر الراء وسكون الموحدة وبالمهملة الأنصاري (وهو ابن عمي) أي بحائل، كذا قاله الكرماني. ووجهه أنهما يجتمعان في كعببن سلمة، وهو الجد الخامس لكعب والسادس لأبي قتادة وقيل: بل هو ابن عمه حقيقة وأن ربعياً والد أبي قتادة أخو مالك والد كعب (وأحب الناس إليّ) أي أكثرهم محبوبية إليّ لقرابته في النسب، أو لغير ذلك من السبب (فسلمت عليه فوا ما رد عليّ السلام) لعموم النهي عن كلام كعب وصاحبيه، ففيه عدم رد السلام على نحو المبتدع، وأن السلام كلام فيحنث به من حلف لا يكلم فلاناً فسلم عليه أو رده عليه وإن كان واجباً عليه، وإيثار طاعة الله ورسوله على مودة الصديق والقريب ونحوهما (فقلت له يا أبا قتادة أنشدك) بفتح الهمزة وضم الشين المعجمة أي أسألك (با) وأصله من النشيد وهو الصوت (هل تعلمني) أي بما تراه من الشواهد والآيات فلا ينافي ما جاء من إنكاره على سعدبن أبي وقاص في قوله: «مالك عن فلان فإني لأراه مؤمناً» فقال: «أو مسلماً» أي: إن الإيمان لكونه قلبياً لا سبيل إلى علمه والجزم به بخلاف الإسلام لتعلقه بالظاهر، ولذا أجابه أبو قتادة بقوله: الله ورسوله أعلم (أحب الله ورسوله) محبتهما طاعة أمرهما ومنها الإيمان وفعل الطاعات وترك مخالفتهما، وما أحسن ما قيل: تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمري في القياس بديع لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع (فسكت) عن الجواب لما تقدم (فعدت) له (فناشدته) أي: نشدته والإتيان به من باب المفاعلة للمبالغة (فسكت فعدت) إليه (فناشدته فقال: الله ورسوله أعلم) والإتيان به من باب المفاعلة للمبالغة (فسكت فعدت) إليه (فناشدته فقال: الله ورسوله أعلم) . قال القاضي عياض: لعل أبا قتادة لم يقصد بها تكليمه به لأنه منهي عن كلامه، وإنما قال ذلك لنفسه لما ناشده با، فقال أبو قتادة مظهراً لاعتقاده لا ليسمعه، إذ من حلف لا يكلم فلاناً فسأله عن شيء فقال: الله أعلم يريد إسماعه وجوابه حنث، فإن لم يرد ذلك فلا حنث اهـ. قال القرطبي في «المفهم» : ويحتمل أن أبا قتادة فهم أن الكلام الذي نهى عنه إنما هو المقتضي

للمباسطة وإفادة المعاني لا مثل هذا المقتضى للإبعاد والمنافرة، ألا ترى أنه لم يرد عليه السلام ولا التفت لحديثه اهـ. (ففاضت عيناي) مجاز عقلي من الإسناد للمكان نحو نهر جار، ومعنى فاضت عيناي أي: كثرت دموع عيني (وتوليت) راجعاً من حيث أتيت (حتى تسورت الجدار فبينا) بألف الإشباع، وقيل: هي كافة لبين عن الإضافة كما تقدم، وقيل أصلها بينما بما الكافة فحذفت الميم تخفيفاً (أنا أمشي في سوق المدينة) علم بالغلبة على دار هجرته، وسميت بذلك لأنها يطاع الله فيها، والدين الطاعة (إذا نبطي) بفتح النون والموحدة: الفلاح، سمي به لأنه يستنبط الماء أي: يستخرجه، وسيأتي فيه زيادة في باب النهي عن تعذيب العبد والدابة (من نبط) بفتح أوليه أي فلاحي (أهل الشأم) بالهمزة الساكنة ويجوز تخفيفها ويقال: شآم بالهمزة بوزن يمان، وهو مذكر على المشهور، وقال الجوهري: يجوز تذكيره وتأنيثه، سمي بذلك باسم سامبن نوح واسمه بالسريانية شام. وعن ابن الكلبي: سمي شاماً بشامات له حمر وسود وبيض. وقيل: سمي به لأنه عن شمال الأرض وقيل: غير ذلك، وتقدم أن حده من العريش إلى الفرات طولاً وقيل إلى باياس، وعرضاً من جبل طي من نحو القبلة إلى نحو أرض الروم وما سامت ذلك من البلاد، نقله المصنف في «التهذيب» عن الحافظ ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (ممن قدم بالطعام) حال كونه (يبيعه بالمدينة) ويصح كونها استئنافاً بيانياً (يقول) يجوز فيه ما في الذي قبله والثاني أقرب (من يدل) بضم المهملة (على كعببن مالك فطفق) أي: أخذ (الناس يشيرون له إليّ، حتى إذا جاءني دفع إليّ كتاباً من ملك غسان) بفتح المعجمة وتشديد المهملة آخره نون واسمه جبلةبن الأيهم وقيل: الحارثبن أبي سمرة (وكنت كاتباً) أي قارئاً من إطلاق اللازم وإرادة الملزوم (فقرأته فإذا فيه: أما بعد) بالبناء على الضم لحذف المضاف إليه ونية معناه (فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك) أي أعرض عنك (ولم

يجعلك الله بدار هوان) أي منقطعاً بدار تهان فيها (ولا) بدار أو حال (مضيعة) بسكون المعجمة ويجوز كسرها مع فتح الميم فيهما: أي في دار أو حال يضاع فيهما حقك: أي فإذا حصل لك ما عرض حلوله بك (فالحق) بفتح المهملة (بنا نواسك) بضم النون وكسر المهملة من المواساة، وحذفت التحتية لأنه في جواب الطلب، وفي بعض نسخ مسلم إثباتها، وهو كما قال المصنف صحيح: أي ونحن نواسيك قطعه عن جواب الأمر (فقلت حين قرأتها) أي: الكتابة المعبر عنها بالكتاب أو التأنيث باعتبار المعنى إذ هو في المعنى صحيفة (وهذه) الواقعة (أيضاً من البلاء) أي: الابتلاء ليترتب عليه ما يليق مما يصدر عنه من رسوخ قدم يحمد عليه أو أمر يوجب الندم (فتيممت) أي قصدت. ولمسلم: فتأممت وهي لغة (بها التنور) أنث الضمير في بها وفي قوله: (فسجرتها) بمهملة وجيم وراء: أي أوقدت الكتاب لما ذكر آنفاً، والتنور الذي يخبز فيه، قال في «النهاية» : يقال: إنه في جميع اللغات كذلك (حتى إذا مضت أربعون) غاية لمقدر: أي استمررت على ذلك الأمر المذكور من غير زيادة عليه حتى مضت أربعون ليلة ويوماً (من الخمسين واستلبث) أي: أبطأ وجملة استلبث (الوحي) من زيادة مسلم على البخاري (إذا) فجائية (رسول رسول الله) في رواية الواقدي: أنه خزيمةبن ثابت قال: وهو الرسول إلى هلال ومرارة بذلك (يأتيني فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرك أن تعتزل امرأتك) وفي نسخة من التوشيح للحافظ السيوطي: هي عمرة بنت جبيربن صخر اهـ. وفي نسخة من «تحفة القاري على البخاري» لشيخ الإسلام زكريا: هي عميرة بنت جبيربن صخر اهـ. وفي الأصلين المذكورين تحريف من الناسخ فليحرر. ونقل بعضهم عن الحافظ ابن حجر أن اسمها: جبرة، ثم رأيته قال في «الفتح» : هي عمرة بنت جبيربن صخربن أمية الأنصارية أمّ أولاده الثلاثة عبد الله وعبيد الله ومعبد، ويقال: اسم امرأته التي كانت عنده يومئذٍ خيرة بالمعجمة ثم التحتانية اهـ. وراجعت «أسد الغابة» لابن الأثير فلم أجد فيه ذكراً لأحد من هؤلاء الثلاثة والله أعلم. (فقلت) ما المراد من اعتزالها (أطلقها) بضم همزة الاستفهام مقدرة بدليل قوله (أم ماذا) أي ما الذي

(أفعل؟ قال لا) تطلقها (بل اعتزلها) أمر بترك مخالطتها مخالطة الزوجات من الجماع ومقدماته كما فسره بقوله (فلا تقربنها، وأرسل) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إلى صاحبيّ) بتشديد ياء المتكلم المدغم فيها ياء المثنى يأمرهما (بمثل ذلك) أي: الاعتزال المفسر بعدم قرب الزوجة (فقلت لامرأتي: الحقي) بهمزة وصل وفتح المهملة بعدها القاف (بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر) وقوله: «الحقي بأهلك» من كنايات الطلاق ولكونه لم ينوّه به لم يقع عليه (فجاءت امرأة هلالبن أمية) هي: خولة بنت عاصم قاله الحافظ ابن حجر، وقيل: اسمها عمرة بنت حبةبن صخر الأنصارية قاله ابن عبد البرّ (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت له) اللام للتبليغ (يا رسول الله إن هلالبن أمية شيخ) أي: ذو سنّ (ضائع) بالمعجمة وبعد الألف همزة ثم عين مهملة، وفسرته بقولها (ليس له خادم) أي: من يقوم بما يحتاجه من خدمة، يقع على الذكر والأنثى بلفظ واحد ويقال في المؤنث خادمة: ومنه حديث البخاري عن أبي سهل «أن امرأة أبي أسيد كانت خادمتهم في عرسهم» فإنه بالتاء في معظم الأصول (فهل تكره أن أخدمه) بضم المهملة (قال: لا) أي لا أكره أن تخدميه (ولكن) استدراك لما قد يتوهم من شمول الخدمة للتمتع بها (لا يقربنك) بضم الراء وفتح الموحدة بعدها نون توكيد، كناية عن الجماع (فقالت) لا حاجة إلى منعه من ذلك (إنه) أي الشأن. أو هلالاً (وا) جملة قسمية أتى بها لتأكيد المقال (ما به حركة) . وفي نسخة: من حركة بزيادة من، والحركات بفتحات: أي داعية تحركه (إلى شيء) من الجماع ومقدماته لما هو فيه من الكرب، ثم الجملة قسمية وجوابها خبر إن، وفي نسخة بتقديم القسم على إن، وعليه فان، واسمها وخبرها جواب القسم (ووا) يحتمل العطف على جملة القسم السابقة ويحتمل الاستئناف (ما زال يبكي) على تخلفه المتسبب عليه ما آل إليه أمره (منذ كان من أمره) أي: شأنه (ما كان) من تخلفه عن الخروج وما ترتب عليه (إلى الآن) حال الإخبار. وفي نسخة: إلى يومه هذا، وسكتت عما بعده لأنه يحتمل استمراره عليه وتركه له لما يرد عليه مما يقتضي حالاً من تلك الأحوال. قال كعب: (فقال) أي: أشار (لي بعض أهلي) لما

أمرت امرأتي بالذهاب لأهلها قال الحافظ لم أقف على اسمه (لو استأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في امرأتك) أي: في خدمتها (فقد أذن لامرأة هلالبن أمية أن تخدمه) وقد استشكل هذا بنهيه عن كلام الثلاثة. وأجيب كلام الثلاثة، وأجيب بأنه يحتمل أنه عبر عن الإشارة بالقول كما أشرت إليه، أو أن النهي كان خاصاً بالرجال والقائل كان امرأة، أو كان هذا الكلام ممن يخدم المنهيّ عن كلامه فلم يدخل في النهي. قال الحافظ في «الفتح» : لعله بعض ولده أو من النساء، ولم يقع النهي عن كلام الثلاثة للنساء اللاتي في بيوتهم، أو أن الذي كلمه كان منافقاً (فقلت لا أستأذن فيها رسول الله) وأشار إلى الفرق بين حاله وحال هلال بقوله: (وما يدريني) بضم التحتية (ماذا يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استأذنته فيها) أي: من الإذن في ذلك أو المنع منه (وأنا رجل شاب) جملة حالية من فاعل يقول، وأشار به إلى وجه احتمال منعه دون هلال لكونه رجلاً شاباً، ويحتمل الإشارة به إلى خوف الوقوع معها لو أذن له في مقامها عنده من حدة الشباب فيقع في المحذور، أو إلى أنه ليس بضائع لقدرته على خدمة نفسه (فلبثت) أي أقمت (بذلك) أي: من ذلك المذكور من إرسال الزوجة (عشر ليال) أي: مع أيامها (فكمل) بتثليث الميم: أي تمّ بضمها إلى الأربعين السابقة على الأمر باعتزال الزوجة (خمسون ليلة) ويوماً واقتصر عليها في جميع ما ذكر لأنها الأصل والنهار تابع لها (من) ابتدائية (حين) بفتح النون لإضافته إلى جملة صدرها مبني (نهى) بالبناء للمفعول: أي وقع النهي للمسلمين غير من تقدم (عن كلامنا ثم صليت صلاة الفجر صباح) منصوب على الظرفية: أي في صباح تلك الليلة المكملة (خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا) الظرف الأول حال من فاعل صلى والثاني وصف لبيت (فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر) ها (اعنا) أي: عنا أيها الثلاثة وبينها بقوله: (قد ضاقت عليّ نفسي) أي: قلبي من فرط الوحشة والغمّ بحيث لا يسعها أنس ولا سرور (وضاقت عليّ) بتشديد التحتية. وعند مسلم: وضاقت بي (الأرض بما رحبت) أي برحبها، فما مصدرية، والرحب بضم الراء وسكون

الحاء المهملتين: السعة (إذ سمعت صوت صارخ) هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه كما في «التوشيح» .c وفي «الفتح» أنه كذلك عند الواقدي وأن أبا بكر صاح: قد تاب الله على كعب، وحكاه ابن عائذ بلفظ «زعموا» . قلت: وما في «الصحيح» مقدم عليه وأنه أسلميّ (أوفى) بالفاء أي: صعد وارتفع (على سلع) بفتح السين وسكون اللام: جبل بالمدينة معروف (يقول) جاهراً (بأعلى صوته) من إضافة الصفة إلى الموصوف، وفيه المذهب للبصريين من التأويل والكوفيين من إبقائه على ظاهره (يا كعببن مالك) بنصب «ابن» وفي «كعب» الضم والفتح (أبشر) حذف المفعول لتذهب النفس في طرف السرور كل مسلك (فخررت ساجداً) سجدة الشكر على اندفاع ما كان فيه من الحال وبلوغه إلى نعمة البشرى والإقبال. وفيه أن سجدة الشكر كانت معلومة عندهم معمولاً بها فيما بينهم (وعرفت) من هذا التبشير (أنه قد جاء فرج فآذن) بالمد والقصر: أي أعلم (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس بتوبة الله علينا) أي: بتوفيقه إيانا لها أو بتبرئته إيانا عن غفلة الذنب (حين صلى صلاة الفجر) ظرف لآذن (فذهب الناس يبشروننا) بالتوبة (فذهب قبل) بكسر ففتح: أي جهة (صاحبيّ) بتشديد الياء (مبشرون) . قال الفربري في «الإقناع» : وخرج سعيدبن زيدبن عمروبن نفيل إلى هلال يبشره، فلما أخبره سجد ولقيه الناس يهنئونه فما استطاع المشي لما ناله من الضعف والحزن والبكاء حتى ركب حماراً، وبشر مرارةبن الربيع سلكانبن سلامة أو سلمةبن سلامةبن وقش فأقبل حتى توافوا، يعني: الثلاثة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اهـ. (وركض إليّ رجل) هو الزبيربن العوّام. وقال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن يكون أبا قتادة لأنه كان فارس النبيّ أي جرى جرياً شديداً (فرساً، وسعى ساع من أسلم) هو: حمزةبن عمر الأسلمي (قبلي، وأوفى) بالفاء مقصوراً. أي أشرف وطلع (على الجبل فكان الصوت) أي وصول الصوت المذكور أي صوت الأسلمي المذكور بقرينة مجيئه له وطلبه شيئاً لبشارته (أسرع من) وصول صاحب (الفرس، فلما جاءني) الأسلمي (الذي سمعت صوته

يبشرني) جملة في محل الحال ويجوز كونها مستأنفة استئنافاً بيانياً كأن قائلاً يقول فيم سمعت صوته فقال يبشرني (نزعت له ثوبيّ) بتشديد التحتية (فكسوته إياهما ببشارته) ففيه استحباب إجازة البشير بخلعة وإلا فيغيرها. والخلعة أحسن وهي المعتادة، وفيه كسوة البشير وإن لم يملك غيره، وفيه جواز إظهار الفرح بأمور الخير والدين وجواز البذل والهبات عندها (وا ما أملك غيرهما) أي: من الثياب كما في رواية ابن أبي شيبة: «فوا ما أملك ثوبين غيرهما» فلا ينافي قوله السابق «إن عندي راحلتين» وقوله الآتي: «إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة» (يومئذٍ) أي وقت كسوتي له (واستعرت ثوبين) زاذ الواقدي، من أبي قتادة (فلبستهما وانطلقت أتأمم) أي أقصد (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتلقاني الناس فوجاً) أي: جماعة (فوجاً) أي تلقوني زمرة بعد زمرة وجماعة بعد جماعة (يهنئونني بالتوبة) أي: بقبولها أو بالتوفيق لها (ويقولون لي لتهنك) بكسر النون. قال الحافظ: وزعم ابن التين شارح البخاري أنه بفتحها قال لأنه من هنىء، وفيه نظر (توبة الله عليك) فيه دليل على جواز التهنئة بأمور الخير بل على ندبها إذا كانت دينية فإنها إظهار السرور بما يسر به أخوه المسلم وإظهار المحبة وتصفية القلب بالمودة (حتى دخلت المسجد) غاية لمقدر أي فسرت وحالي ما ذكر أي من تهنئة الناس لي إلى أن دخلت المسجد، والأصح أن نصب المسجد لكونه اسم مكان مختص على التوسع (فإذا) فجائية (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس) في المسجد (حوله الناس) الظرف لغو وحوله الناس خير بعد خبر (فقام إليّ طلحةبن عبيد ا) أحد العشرة المبشرة (رضي الله عنه يهرول حتى صافحني وهنأني) فيه استحباب مصافحة القادم والقيام له إكراماً والهرولة إلى لقائه بشاشة وفرحاً. قال كعب: (وا ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره) بالرفع صفة رجل، ويجوز نصبه على الحال لتخصيصه بالوصوف بالظرف (فكان كعب لا ينساها) أي تلك الأفعال الجميلة من القيام له والهرولة والمصافحة والتهنئة (لطلحة) . قال القرطبي: أي إنها أكدت في قلبه محبته وألزمته حرمته

حتى عدها من الأيدي الجسيمة (قال كعب: فلما سلمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال) أي بعد رد السلام (وهو يبرق) بضم الراء: أي يلمع (وجهه) بالأنوار (من) تعليلية أي بسبب (السرور) بقبول الله تعالى توبتهم، ففيه ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام من الحبور عند ظفر أحد من أمته بنوع من الخيور حال من فاعل قال، ومقول القول (أبشر) بقطع الهمزة (بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك) أي سوى يوم إسلامه، وإنما لم يستثنه لأنه معلوم لا بد منه، وقيل: لا استثناء لأن يوم توبته مكمل ليوم إسلامه فهو خير من جميع أيامه وإن كان يوم إسلامه خيرها فيوم توبته المضاف إلى يوم إسلامه خير من يوم إسلامه المجرد عنها (فقلت أ) هذا المبشر به (من عندك يا رسول الله) أي: قلته اجتهاداً لأنك رأيت حصول مقصود الزجر بما وقع في هذه المدة (أم) هو وحي (من عند ا؟ قال: لا) أي: ليس من عندي (بل من عند الله عز وجل) قال في «الإقناع» بدل قوله «قال لا» قال من عند الله وتلا عليهم الآيات (وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سرّ) من أمر (استنار وجهه) أي: زاد نوراً إلى نوره. وفي «النهاية» : «كان إذا سر فكأن وجهه المرآة وكان الجدر يرى شخصها في وجهه لشدة نوره وصفائه (حتى كأن وجهه قطعة قمر) غاية لما قبله، آثر ذكر القمر لأنه يتمكن من النظر إليه ويؤنس من شاهده من غير أذى يتولد عنه بخلاف الشمس لأنها تغشى البصر وتؤذي. ثم تشبيه بعض صفاته بنحو القمر والشمس جرى على عادة الشعراء والعرب في ذلك أو على سبيل التقريب والتمثيل وإلا فلا شيء يعادل شيئاً من أوصافه. قيل: شبه وجهه في هذا الحديث بقطعة من القمر لا بكله مع أن المعهود في التشبيه الثاني لأن القصد الإشارة إلى موضع الاستنارة وهو الجبين، وفيه يظهر السرور فناسب أن يشبه ببعض القمر قالت عائشة: «مسروراً تبرق

أسارير وجهه» ولكون مراد كعب رضي الله عنه تشبيه بعض وجهه وهو جبينه إذا سر لم يشبهه بجميع القمر، وجاء في حديث آخر عنه تشبيه وجهه كله بدارة القمر فلزمه تشبيه بعضه ببعضه، وهذا أحسن مما قيل سبب الاقتصار في التشبيه على بعض القمر الاحتزاز عما فيه من السواد، لأن كون وجه التشبيه بالقمر ما فيه من الإضاءة والملاحة لا يخفى على أحد ولا يتوهم من التشبيه خلافه فلا حاجة للاحتراز (وكنا) معشر الصحابة المراقبين لمحاسن ذاته الملاحظين لأحواله (نعرف ذلك) أي: الموضع الذي يتبين فيه السرور وهو جبينه كما سبق من قول عائشة: مسوراً تبرق أسارير وجهه. وفي «البخاري» : «كان يعرف ذلك (منه) وفي نسخة «فيه» والضمير يعود إلى الوجه (فلما جلست بين يديه قلت يا رسول الله إن من) شكر (توبتي) أي: من شكر الله على توبتي أي التوفيق لها وقبولها، أو إن من علامة صدق توبتي (أن أنخلع) أي أخرج (من مالي) أي: من جميعه (صدقة) مفعول له أو مطلق على تقدير أتصدق، أوفى معنى الحال: أي متصدقاً، أو على تضمين أنخلع معنى أتصدق: أي أتصدق متقرباً بها (إلى الله تعالى وإلى رسوله) أعاد الجار للاهتمام وتنبيهاً على أن التقرب إليه مطلوب على سبيل الاستقلال. قال تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع ا} (النساء: 80) ، وقال القرطبي: أي إن على ذلك، فهي صيغة نذر والتزام، خرجت مخرج الشكر وابتغاء الثواب وأقرّه عليه النبي فكان ذلك جائزاً ولم يدخل في عموم النذر المنهي عنه، وعلى مقتضى هذا اللفظ قد وجب عليه إخراج كل ماله، لكن لما كان ذلك يؤدي إلى أن يبقى فقيراً محتاجاً وربما أفضى به إلى سؤال الناس وإلى الدخول في مفاسد، أمره بإمساك البعض كما قال كعب: (فقال رسول الله: أمسك عليك بعض مالك) أي دفعاً لضرر التصدق بكله (فهو خير لك) . قال القرطبي: البعض المأمور بإمساكه من ماله هو الأكثر والمتصدق به هو الأقل كما قال في حديث سعد: «الثلث والثلث كثير» وفيما ذكره نظر فإنه متوقف على نص يشهد به، ولا دليل في حديث سعد لما ذكره لأن ما فيه إنما هو لمن كان في حال المرض مراعاة لمصلحة الورثة، والقصد هنا دفع ضرر الحاجة والفقر، وهو قد يحصل بإبقاء الأقل من ماله أو الشطر كما وقع من عمر رضي الله تعالى عنه لما تصدق بشطر ماله وأبقى الشطر الآخر لنفسه وأهله، والحديث في مسلم وغيره. ثم رأيت في «الفتح» للحافظ أن عند أبي داود عن كعب: «إن من توبتي أن أخرج من مالي كله إلى الله ورسوله صدقة، قال: لا، قلت: نصفه؟ قال: لا، قلت: فثلثه؟ قال: نعم» ولابن مردويه من طريق ابن عيينة عن الزهري «فقال النبي: ويجزي عنك من ذلك الثلث» اهـ. وهو شاهد للقرطبي. قال المصنف في «شرح مسلم» : ولا يخالف هذا: أي قوله أمسك عليك بعض مالك تصدق أبي بكر بجميع ماله أي وقبوله له فإنه كان صابراً راضياً اهـ. (فقلت: يا رسول الله إني

أمسك سهمي الذي بخيبر) بفتح المعجمة وسكون التحتية وفتح الموحدة آخره راء مهملة غير مصروف في أكثر الأصول مراداً به البقعة (وقلت يا رسول الله إن الله تعالى إنما أنجاني) من وصمة إثم التخلف عن المأمور به (بالصدق) أي بإخباري بالخبر المطابق للواقع وإن ترتب ما ترتب (وإن من) شكر أو صدق (توبتي ألا أحدث) أي إنسان حديثاً ما في أي شأن كان (إلا صدقاً ما بقيت) أي مدة بقائي ما لم يمنع من الصدق مانع. وإلا كأن كان فيه إفساد مصلحة للمسلمين في حروبهم أو نحو ذلك فلا، وفي الحديث المحافظة على سبب التوبة (فوا ما علمت أحداً من المسلمين) عند مسلم «ما أعلم أحداً» (أبلاه ا) أي: أنعم عليه ومنه قوله تعالى: {وفي ذلكم} (البقرة: 49) - أي الإنجاء من فرعونـ {بلاء من ربكم عظيم} أي: نعمة عظمى، والبلاء يستعمل أيضاً في الشرّ كما قيل به في الآية بناء على أن المشار إليه ما فعله بهم آل فرعون من قتل الأبناء واستحياء النساء، ولكن إذا أطلق كان غالباً للشر فإذا أريد به الخير قيد كما قال في الحديث: «أحسن مما أبلاني ا» (في) ملازمة (صدق الحديث) مصدر مضاف إلى مفعوله (منذ ذكرت ذلك) الالتزام بملازمة الصدق (لرسول الله) إبلاء (أحسن مما أبلاني الله تعالى) به أي بتيسير الدوام على ذلك والوفاء بالالتزام. قال الحافظ: فيه وفي قوله الآتي: «فوا ما أنعم» والحديث إلى قوله: «أعظم من صدقي رسول الله» شاهد على أن هذا السياق يورد ويراد به نفي الأفضلية لا المساواة لأن كعباً شاركه في ذلك رفيقاه، وقد نفى أن يكون أحد حصل له أحسن مما حصل له وهو كذلك لكنه لم ينف المساواة (وا ما تعمدت كذبة) قال المصنف: بفتح الكاف وكسرها كل ذلك مع إسكان الذال، وفي «المشارق» كذبة بكسر الفاء ويقال: بفتحها وأنكر بعضها الكسر إلا إذا أراد الحالة والهيئة، وليس هذا موضعها اهـ. وهو في البخاري «كذباً» بحذف الهاء (منذ) أي من حين (قلت ذلك) الالتزام (لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومي هذا) فيه أن الخطأ

والنسيان المحترز عنهما بالعمد غير مؤاخذ به الإنسان، وهما لا ينقصان الالتزام (وإني لأرجو) من فضله تعالى (أن يحفظني الله تعالى) من الكذب (فيما بقي) لأنه تعالى كريم يستحي أن ينزع السر من أهله، قال تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} (الرعد: 11) (قال) أي كعب مبيناً للآية التي نزلت فيها التوبة عليه وعلى صاحبيه (فأنزل الله تعالى) على نبيه وهو في بيت أم سلمة حين بقي الثلث الأخير من الليل كما جاء في كتاب «التفسير من صحيح البخاري» {لقد تاب ا} أدام توبته، وهي بالنسبة إلى النبي تشريف مكانته في إعلاء رتبته، لا أنه عن ذنب صدر من حضرته لعصمته. وقال بعضهم: تاب الله {على النبي} أي تجاوز عنه {والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة} بالعين المضمومة والسين الساكنة بعدها راء مهملات أو وقتها وهي حالهم في غزوة تبوك وكان الرجلان يقتسمان التمرة والعشرة يعتقبون البعير الواحد، واشتد الحر حتى شربوا الفرث (حتى بلغ) أي: كعب في قراءته {وكونوا مع الصادقين} أي في الآيات الثلاث، وتمامها قوله تعالى {من بعد ما كاد تزيغ} (التوبة: 117) بالمثناة الفوقية والتحتية: أي تميل وتذهب {قلوب فريق منهم} عن اتباعه إلى التخلف لما هم فيه من الشدة {ثم تاب عليهم} بالثبات {إنهم بهم رؤوف رحيم} ، وتاب {على الثلاثة الذي خلفوا} (التوبة: 118) عن التوبة عليهم بقرينة {حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت} أي مع رحبها وسعتها فلا يجدون مكاناً يطمئنون إليه {وضاقت عليهم أنفسهم} قلوبهم للغمة والوحشة لتأخير توبتهم فلا يسعها سرور ولا أنس {وظنوا} أي: أيقنوا {أن لا ملجأ} يلجئون إليه {من

الله إلا إليه} (التوبة: 118) . قال في «الكشاف» : لا ملجأ من سخط الله إلا إلى استغفاره {ثم تاب عليهم} ألهمهم أسباب التوبة ووفقهم لها «ليتوبوا» / أي ليقبلها، وقيل: تاب عليهم قبل توبتهم و «ليتوبوا» أي: يداوموا عليها، وفي تفسير سورة البقرة من البيضاوي: أصل التوبة الرجوع فإذا وصف بها العبد كان رجوعاً عن المعصية إلى الطاعة وإذا وصف بها الباري تعالى أريد بها الرجوع عن العقوبة إلى المغفرة اهـ. {إن اهو التواب} على من تاب أي: يقبل توبته الصحيحة فضلاً منه وهو الرحيم. {يا أيها الذين آمنوا اتقوا ا} بترك معاصيه {وكونوا مع الصادقين} في الأيمان والعهود بأن تلزموا الصدق. (قال كعب) صرح بذكره للفصل بين سياق أحواله بذكر الآي القرآنية المنزلة في التوبة (وا ما أنعم الله عليّ من) زائدة للاستغراق (نعمة قط) أي في الزمن الماضي (بعد أن هداني للإسلام) أي دلني عليه وأوصلني له. وفي نسخة: هداني الله (أعظم) وصف لنعمة فتجوز قراءته منصوباً باعتبار محلها لزيادة من، ومجروراً باعتبار لفظها، ويجوز رفعه بتقدير هي أعظم (في نفسي من صدقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا أكون كذبته) كذا في «الصحيحين» عند جميع رواتهما إلا الأصيلي من رواة البخاري فقال: «أن أكون» وليس بشيء، والصواب الأول وتخريجه أن لا زائدة كما قال عياض وتبعه المصنف وغيره، ومعناه: أن أكون كقوله تعالى: {ما منعك ألا تسجد} (الأعراف: 12) اهـ. وهذا بناء على أنه مستأنف عما قبله وأظهر منه ما ذكره الشيخ زكريا في حاشيته على البخاري المسماة «بتحفة القارىء» من أنه بدل من صدقي: أي أن لا نافية، قال: والمعنى ما أنعم الله عليّ نعمة هي أعظم من عدم كذبي فعدم هلاكي اهـ. وكذبته بفتح الذال المخففة: أي قلت له قولاً كذباً (فأهلك) بالنصب عطف على منصوب أن، وأهلك بكسر اللام على الفصيح المشهور، وحكي فتحها وهو شاذ وضعيف (كما هلك الذين كذبوا) أي: هلاكاً كهلاك الذين كذبوا الله القول في إدعاء الإيمان من المنافقين فالمفعول الثاني محذوف. قال الراغب في «مفرداته» : يقال كذبته حديثاً، ومنهـ كذبوا الله ورسولهـ أي: القول الذي قاله فيتعدى إلى مفعولين نحو صدق في قوله تعالى:

{لقد صدق الله رسوله الرؤيا} (التوبة: 95) اهـ (فإن الله تعالى قال للذين كذبوا) أي: عنهم (حين أنزل) على النبي (الوحي شرّ ما قال) أيّ: قول، قال: ويجوز أن يكون موصولاً اسمياً (لأحد) أي: عن أحد، ثم بين ذلك القول المجمل المنزل فيهم بقوله: (فقال ا) تبارك و {تعالى سيحلفون با لكم إذا انقلبتم} رجعتم {إليهم لتعرضوا عنهم} بترك المعاتبة {فأعرضوا عنهم} فأعطوهم طلبتهم {إنهم رجس} قذر لخبث باطنهم فلا يؤثر فيهم العقاب، بخلاف المؤمن إذا فرطت منه زلة فوبخ عليها طهره التوبيخ بالتوبة منها والاستغفار {ومأواهم جهنم} يعني تكفيهم النار عتاباً فلا تتكلفوا عتابهم ( {جزاء بما كانوا يكسبون بحلفون} ) أي: با ( {لكم لترضوا عنهم} ) أي: غرضهم بالحلف طلب رضاكم لينفعهم في دنياهم ( {فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضي عن القوم الفاسقين} ) أي: عنهم، وأتى بالظاهر موضعه نداء عليهم بسوء وصفهم المقتضي لعدم رضاه عنهم: أي ولا ينفعهم رضاكم عنهم مع سخطالله، بل يكونون عرضة لعاجل عقوبته وآجلها، في «الكشاف» قيل: إنما قيل لهم ذلك لئلا يتوهم متوهم أن رضا المؤمنين يقتضي رضاء الله عنهم (قال كعب: كنا خلفنا) بالبناء للمجهول، أخص (أيخا الثلاثة) بتأخير أمرنا وبيان شأننا فلم يقض فينا بشيء (عن أمر أولئك) المعتذرين (الذين) كذبوا الله ورسوله و (قبل منهم رسول الله) عذرهم في التخلف (حين حلفوا له) إنهم صادقون فيما اعتذروا به (فبايعهم) أي: عاقدهم على الإسلام وعاهدهم عنيه (واستغفر لهم) أي بنحو: غفر الله لكم (وأرجأ) أخر (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا) فلم يقض فيه بشيء (حتى قضى الله تعالى) أي: أبرز ما سبق قضاؤه (فيه) وأنزل فيه الآية فـ (بذلك) أي: فعن ذلك التخليف (قال الله تعالى: {وعلى الثلاثة الذين خلفوا} ) هو معنى ما تقدم في تفسير الآية من قولنا خلفوا عن التوبة: أي

عن قبولها حالاً كما قبلت المعذرين وأرجأ أمر هؤلاء الثلاثة (وليس الذي ذكر) بالبناء للمجهول (مما خلفنا) أي: من تخليفنا المخبر عنه بقوله: «خلفوا» (تخلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا) عمن قبله من أولئك المعتذورين (وإرجاؤه) تأخيره (أمرنا) أي: بيانه وإيضاحه (عن) أي: عن أمر (من حلف له واعتذر إليه) من المعذين (فقبل منه) أفرد الضمير باعتبار لفظ من (متفق عليه) أي: رواه الشيخان وإن وقع بينهما اختلاف يسير في زيادة كلمة أو نقصها أو تقديم أو تأخير، وكذا أخرج الحديث أبو داود والترمذي والنسائي كما في «جامع الأصول» في كتاب الجهاد. (وفي رواية: أن النبيّ خرج) من المدينة (في غزوة تبوك يوم الخميس، وكان يحبّ أن يخرج) لسفره (يوم الخميس) في «الصحيحين» من حديث كعب «قلما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر إلا يوم الخميس» ورواه النسائي. (وفي رواية) للبخاري من حديث كعب (كان لا يقدم من سفر إلا نهاراً) ونهى عن طروق المسافر أهله ليلاً ما لم يشع خبر قدومه كأن كان في قفل ووصلوا لقرب البلد نهاراً وعلم ذلك الخبر لأهل البلد فلا بأس بالقدوم ليلاً حينئذٍ (في الضحى) لأنه أطيب ما في النهار لما فيه من حسن الهواء، وزيادة الأضواء: وخروج الناس للاجتماع واللقاء، وللتبايع ونحوه، ولذا شرعت فيه صلاة لئلا يستغرق الوقت بأمر الدنيا ويلهو بإخوانه عن إصلاح شأنه (فإذا قدم) بكسر الدال (بدأ بالمسجد) قبل دخول منزله اهتماماً به، وتعظيماً لشعائر الله تعالى، وتقديماً لحق الله تعالى على حق نفسه وأهله، وشكراً لنعمته عليه بسلامته من وعثاء السفر (فصل فيه ركعتين) تحية (ثم جلس فيه) ليسلم عليه الناس.

وفي الحديث فوائد أربعون بل أكثر: منها إباحة الغنيمة لهذه الأمة إذ قال يريدون عيراً لقريش، وفضيلة أهل بدر والعقبة، والمبايعة مع الإمام، وجواز الحلف من غير استحلاف، وتورية المقصد إذا دعت إليه ضرورة، والتأسف على ما فات من الخير، وتمني المتأسف عليه، وردّ الغيبة، وهجران أهل البدعة، وأن للإمام أن يؤدب بعض أصحابه بإمساك الكلام عنه، وترك من تاب الزوجة، واستحباب صلاة القادم، ودخوله المسجد أوّلاً، وتوجه الناس إليه عند قدومه، والحكم بالظاهر وقبول المعاذير، واستحباب البكاء على نفسه، وأن مسارقة النظر في الصلاة لا تبطلها، وفضيلة الصدق، وأن السلام ورده كلام/ وجواز دخول بستان صديقه بدون إذنه، وأن الكناية لا يقع بها الطلاق ما لم ينوه، وإيثار طاعة الله ورسوله على مودة القريب، وخدمة المرأة لزوجها، والاحتياط بمجانبة ما يخاف منه الوقوع في منهي عنه إذ كعب لم يستأذن في خدمته امرأته لذلك، وجواز إحراق ورقة فيها ذكر الله تعالى إذا كان لمصلحة، واستحباب التبشير عند تجدد النعمة واندفاع الكربة، واجتماع الناس عند الإمام في الأمور المهمة، وسروره بما يسر أصحابه، والتصدق بشيء عند ارتفاع الحزن والنهي عن التصدق بكل المال عند خوف عدم الصبر، وإجازة البشير بخلعة، وتخصيص اليمين بالنية: وجواز العارية، ومصافحة القادم، والقيام، والقيام له، واستحباب سجدة الشكر، والتزام مداومة الخير الذي انتفع به. 2210 - (وعن أبي نجيد) بضم النون وفتح الجيم وسكون التحتية آخره دال مهملة، كنى باسم ابنه نجيد (عمران) بكسر العين المهملة (ابن الحصين) بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين وإسكان التحتية بعدها نون ابن عبيدبن خلفبن عبدنهمبن حذيفةبن جهيمة بن عاضرةبن حبيشةبن كعببن عمرو، كذا قاله ابن منده وأبو نعيم. وقال أبو عمر: عبدنهمبن سالمبن عاضرة (الخزاعي) الكعبي (رضي الله عنهما) أسلم عام خيبر، وغزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوات، وبعثه عمربن الخطاب رضي الله عنه إلى البصرة ليفقه أهلها. قال محمدبن سيرين: لم نر في البصرة أحداً من أصحاب النبيّ يفضل على عمرانبن الحصين، وكان مجاب الدعوة ولم يشهد الفتنة. وروى له عن النبي مائة وثمانون حديثاً، اتفق الشيخان منها على ثمانية، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بتسعة: وكان تسلم عليه الملائكة في مرضه فاكتوى ففقد ذلك ثم عادت إليه، وكان به استسقاء طال به سنين وهو صابر عليه وشق بطنه وأخذ منه شحم وشق له سرير فبقي عليه ثلاثين سنة، ودخل

عليه رجل فقال، يا أبا نجيد وا إنه ليمنعي من عبادتك ما أرى بك، فقال: يا أخي فلا تجلس فوا إن أحبّ ذلك إليّ أحبه إلى الله تعالى، توفي بالبصرة سنة اثنتين وخمسين (أن امرأة من جهينة) وفي رواية أخرى لمسلم «جاءت امرأة من غامد» بغين معجمة وميم ودال مهملة. قال المصنف: وهي بطن من جهينة. وقال الحافظ وليّ الدين العراقي في «مبهماته» : اسمها خولة بنت خويلد وفيها نزلت آية الظهار. وفي كلام بعضهم أن آية الظهار نزلت في خولة بنت ثعلبه انتهى ملخصاً. وقال ابن النحوي في «البدر المنير» : اسم الغامدية سبيعة، وقيل أبية بنت فرج، حكاهما الخطيب في «مبهماته» . وعدها أبو موسى الأصفهاني في الصحابة (أتت رسول الله: وهي حبلى من الزنى) من تعليلية ويصح كونه ابتدائية (فقالت: يا رسول الله أصبت حدا) أي: ما يلزم به الحد فيكون مجازاً مرسلاً (فأقمه عليّ) أي: لأطهر من تبعته في الآخرة. وفي مسلم أيضاً في حديث الغامدية «قالت طهرني» قال المصنف: فيه دليل على أن الحدّ يكفر ذنب المعصية التي حد لها، وقد جاء ذلك صريحاً في حديث عبادةبن الصامت، وهو قوله: «ومن فعل شيئاً من ذلك فعوقب به في الدنيا فهو كفارته» ولا نعلم فيه خلافاً، وإنما لم تقنع بالتوبة مع أنها محصلة لغرضها من سقوط الإثم، بل اختارت الرجم لأن حصول البراءة به وسقوط الإثم متيقن على حال، لاسيما وإقامته الحدّ بأمره. وأما التوبة فتخشى ألا تكون نصوحاً أو يختل بعض شروطها فأرادت حصول البراءة بطريق متيقن دون ما يطرقه الاحتمال انتهى ملخصاً (فدعا نبيّ الله) عبر عنها بنبيّ الله أولاً برسول الله تفننا في التعبير (وليها فقال: أحسن إليها) أمره بذلك خوفاً عليها من أن تحمل أقاربها الغيرة ولحوق العار بهم على أن يؤذوها، ورحمة لها إذ تابت ولحملها، فحرص عليها معها لما في نفوس الناس من النفرة من مثلها وإسماعها الكلام المؤذي ونحو ذلك، فنهى عن ذلك كله لذلك (فإذا وضعت) حملها (فائتنى بها) ففيه تأخير حدّ الزنى عن الحامل إلى أن تضع وتسقيه اللِّبَأ لئلا يموت الجنين وهو مجمع عليه. واختلف في اعتبار استغنائه عنها بلبن غيرها فالجمهور على اعتباره، فإن كان حدها الجلد لم تجلد حتى تضع بالإجماع (ففعل) أي: ما أمره به (فأمر بها نبيّ الله) أي: بأن تهيأ للرجم لأنها كانت محصنة (فشدت عليها ثيابها) بالدال المهملة كذا في نسخ الرياض. قال المصنف في «شرح مسلم» : فشكت عليها ثيابها، كذا هو في معظم النسخ «فشكت» وفي بعضها/ «فشدت» بالدال بدل الكاف وهو بمعنى الأول اهـ. ولم يذكر عياض في مشارقه

غير الكاف قال: أي جمعت أطرافها لتستر وخللت عليها بعيدان اهـ. وقيل معناه: أرسلت عليها ثيابها، والشك الاتصال واللصوق، وإنما فعلت ذلك لئلا ينكشف ثوبها في تقلبها وتكرر اضطرابها (ثم) بعد أن شدت ثيابها (أمر بها فرجمت) في عدم تعرضه لحضوره دلالة لمذهب الشافعي وموافقيه أنه لا يلزم الإمام حضور الرجم، وكذا لا يلزم الشهود إذا ثبت بشهادتهم. وقال أبو حنيفة وأحمد، يحضر الإمام مطلقاً ويبدأ بالرجم إن ثبت بالإقرار وجاء عند النسائي: أنه رجم الغامدية ورماها بحجر. قالا: وتحضر للشهود إن ثبت بشهادتهم ويبدءون بالرجم (ثم) بعد غسلها وتكفينها (صلى) النبي (عليها) فيه دليل لمذهب الشافعي وآخرين من أن الإمام وأهل الفضل يصلون على المرجوم كما يصلي عليه غيرهم، وما قيل من أن ذكر صلاته ضعيف لكون أكثر الرواة لم يذكرها، أو من إن صلى فيه مؤول بأنه أمر بها، أو أنه أريد به المعنى الغوي: أي دعا ففاسد، لأن هذه الزيادة ثابتة في الصحيح وزيادة الثقة مقبولة، والتأويل خلاف الأصل لا يصار إليه إليه إلا إذا اضطرت الأدلة لارتكابه وليس هنا شيء من ذلك، فوجب حمله على ظاهره (فقال له عمر: تصلي عليها يا رسول الله وقد زنت؟) أي: أتصلي وهو استكشاف لحكمة صلاته عليها مع أنه وقع منها أمر يقتضي إهمال أمرها والإعراض عنها، وليس هو للإنكار (فقال) مبديا لما خفي على عمر رضي الله تعالى عنه فإنه نظر إلى ما صدر منها من الفعل القبيح وهو الزنى وغفل عما ختمت به أمرها وهو التوبة النصوح فنبهه بقوله: (لقد تابت توبة) صحيحة نصوحا (لو قسمت) بكمالها (بين سبعين) عاصياً (من أهل المدينة) أي: المنافقين الذين بها: أي لو تاب المنافقون الذين بها يومئذٍ توبة صحيحة من نفاقهم كتوبتها (لوسعتهم) أي: لكفتهم في رفع آثامهم، فإذا رفعت ذنب الكفر فما دونه أولى، ولعل هذا حكمة قوله من أهل المدينة. قال في «البدر المنير» : وعند الطبراني «لقد تابت توبة لو تابها أهل المدينة لقبل منهم» (وهل وجدت) شيئاً تبذله في مرضاة الله (أفضل) أي: أعظم (من أن جادت بنفسها) ببذلها () أي: لمرضاته (عزّ وجلّ. رواه مسلم) ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وفي الحديث بيان عظم التوبة وأنها تحبّ

الذثبّ وتلحقي التائب بمن لم يقترب شيئاً من الذنب، وتكون سبباً لحوزه أنواع الفضل. 2311 - (وعن ابن عباس وأنسبن مالك) تقدمت ترجمتهما في باب الإخلاص (رضي الله عنهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لو) ثبت (أن لابن آدم وادياً) مملوءاً (من ذهب أحبّ) وفي نسخة: لأحبّ: أي من حرصه الذي هو طبعه (أن يكون له واديان) أي: آخران كما هو الأنسب بحرصه، ويحتمل أن يراد واديان بما كان له أو لا فيكون المطلوب وادياً آخر. والأول أظهر (ولن يملأ جوفه إلا التراب) أي: إنه لا يزال حريصاً على الدنيا حتى يموت ويمتلىء جوفه من تراب قبره، وهذا حكم غالب النوع الإنساني الحرص على الدنيا، أما من لطف به وحفظ من ذلك ابتداء أو بالتوبة منه فمستثنى كما قال (ويتوب الله على من تاب) أي: إن الله تعالى يقبل التوبة من الحرص المذموم وغيره من المذمومات (متفق عليه) وفي «الجامع الصغير» للحافظ السيوطي بعد ذكر الحديث بنحوه أخرجه أحمد والشيخان والترمذي عن أنس وأحمد، والشيخان عن ابن عباس، والبخاري عن الزبير، وابن ماجه عن أبي هريرة، وأحمد عن أبي واقد، والبزار عن بريدة. وأخرج أحمد وابن حيان عن جابر مرفوعاً «لو كان لابن آدم واد من نخل لتمنى مثله ثم لتمنى مثله حتى يتمنى أودية، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب» اهـ. وفي «الديباج» للحافظ السيوطي: ورد في حديث أن الحديث المذكور كان في آخر سورة «لم يكن» فأخرج أحمد والترمذي والحاكم وصححاه عن أُبيّبن كعب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن فقرأ: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب} (البينة: 1) ، فال فرأ فيها: ولو أن ابن آدم سأل وادياً من مال فأعطيه لسأل ثانياً، ولو سأل ثانياً فأعطيه لسأل ثالثاً. ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب، وإن ذات الدين عند الحنيفية غير المشركة ولا اليهودية ولا النصرانية، ومن يفعل خيراً فلن يكفره» اهـ.

2412 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه) تقدمت ترجمته في باب الإخلاص (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يضحك الله سبحانه إلى رجلين) قال القاضي عياض: الضحك في حقه تعالى: - لاستحالة قيام حقيقته بذاته سبحانه لكون من أوصاف الحادث - مجاز عن الرضى بفعلهما والثواب عليه، وحمد فعلهما ومحبته وتلقي رسله له بذلك، لأن الضحك من أحدنا إنما يكون عند موافقة ما يرضاه وسروره بمن يلقاه. قال: ويحتمل أن يكون المراد ضحك الملائكة الذين يوجهون لقبض روحهما وإدخالهما الجنة كما يقال قتل السلطان فلاناً: أي أمر به اهـ. (يقتل أحدهما) أي: الواحد منهما (الآخر) أي: صاحبه (ثم يدخلان الجنة) ثم بين ذلك الإجمال بقوله: (يقاتل هذا) يعني المسلم (في سبيل الله) لإعلاء كلمة الله (فيقتل) أي: يقتله كافر (ثم) للترتيب في الإخبار، أو يراد بها مجرد الترتيب من غير اعتبار انضمام التراخي إليه، فلا يعتبر تراخي إسلام الكافر عن قتله ذلك المسلم بل يحصل بإسلامه عقبه (يتوب الله على القاتل فيسلم فيستشهد) عطف الفعلين بالفاء إشارة إلى حصول الهداية عقب تعلق العناية بالعبد من غير تراخ إذ لا مانع لما أراد سبحانه، وإلى أنه لا يمكث بعد إسلامه زمناً يقترف فيه شيئاً من موبقات الذنوب بل عقب إسلامه استشهد فعمل قليلاً وحاز خيراً جليلاً ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ثم لا يلزم من تساويهما في دخول الجنة تساويهما في المنزلة، فإن تفاوت مراتب الجنان على حسب تفاوت مراتب الأعمال (متفق عليه) . وفي ختم المصنف الباب بهذا الحديث إشارة إلى أن الإنسان ينبغي له أن يتوب من الذنب الذي اقترفه وإن كان كبيرة، ولا يؤيسه ذاك من رحمة الله تعالى فإن اهو التواب الرحيم، والذنب وإن عظم قدره كالكبائر وكثرة عدده إذا قوبل

3 ــ باب الصبر

بفضل الله وعفوه كان حقيراً يسيراً/ قال تعالى: {إن ربك واسع المغفرة} (النجم: 32) قال الأبوصيري: يا نفس لا تقنطى من زلة عظمت إن الكبائر في الغفران كاللمم 3 - باب الصبر أي: هذا باب بيان فضائل الصبر من الآيات والأحاديث. قال الراغب في «مفرداته» : الصبر حبس النفس على ما يقتضيه العقل أو الشرع، أو على العبد عما يقتضيان حبسها عنه اهـ. وقال ذو النون: هو التباعد عن المخالفات والسكوت من تجرع غصص البلية، وإظهار الغنى عند حلول الفقر بساحة المعيشة. قال الراغب: وربما خولف بين أسمائه بحسب اختلاف مواقعه، فإن كان حبس النفس بمصيبة سمي صبراً لا غير ويضاده الجزع، وإن كان في محاربة سمي شجاعة، ويضاده الجبن، وإن كان في نائبة مضجرة سمي رحب الصدر ويضاده الضجر، وإن كان في إمساك الكلام سمي كتماناً ويضاده الهذر، وقد سمى الله تعالى كل ذلك صبراً، قال تعالى: {اصبروا وصابروا} أي: احبسوا أنفسكم على العبادة وجاهدوا هواكم اهـ. (قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا} ) على الطاعات والمصائب وعن المعاصي (وصابروا) الكفار، أي: غالبوهم بالصبر فلا يكونوا أشد منكم (ورابطوا) أي: أقيموا على الجهاد. وفي تفسير الكواشي: قال: «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها» قال أبو سلمة: لم يكن في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزو يرابط فيه ولكنه انتظار الصلاة بعد الصلاة. (وقال تعالى: {إنما يوفى الصابرون} ) على الطاعة وما يبتلون به، وترك ذكر الفاعل

للعلم به سبحانه (أجرهم بغير حساب) أي: بغير مكيال ولا وزن. قال أبو عثمان المغربي: لا جزاء فوق جزاء الصبر. قال الكواشي في «التفسير الكبير» : المراد كل صابر على ترك أهل ووطن وعلى كل مكروه يعرض له لأجلالله. قال علي رضي الله عنه: كل مطيع يكال له كيلاً ويوزن له وزناً إلا الصابرون فإنه يحثى لهم حثياً. (وقال تعالى: {ولمن صبر} ) فلم ينتصر لنفسه بعد ظلمها ( {وغفر} ) تجاوز عن ظالمه ( {إن ذلك} ) المذكور من الصبر والغفر ( {لمن عزم الأمور} ) أي: منه فحذف للعلم به كحذفه من قولهم: السمن منوان بدرهم، والمعنى: من الأمور التي أمر الله تعالى بها. وقال بعضهم: الصبر على المكاره من علامات الأنبياء، فمن صبر على مكروه أو مصيبة ولم يجزع أورثة الله حالة الرضى، وهي من أجلّ الأحوال، ومن جزع من المصائب وشكا وكله الله إلى نفسه ولم تنفعه شكواه. (وقال تعالى: {واستعينوا} ) أي: اطلبوا المعونة على أموركم (بالصبر) أي: الحبس للنفس على ما تكره (والصلاة) أفردها بالذكر تعظيماً لشأنها، وفي الحديث «كان إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة» وقيل الخطاب لليهود لما عاقهم عن الإيمان الشره وحب الرياسه أمروا بالصبر وهو مصوم، لأنه يكسر الشهوة، والصلاة لأنها تورث الخشوع وتنفي الكبر. (وقال تعالى: {ولنبلونكم} ) اللام فيه مؤذنة بقسم قلبه، أي وا لنختبرنكم بأن نأمركم

بالجهاد ومشاق الدين فيظهر لنا منكم الطائع والعاصي (حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين) المراد بالعلم هنا لازمه من الوجود، والمعنى حتى نتبين المجاهد والصابر على دينه من غيره/ أو حتى نعلم علم ظهور. (والآيات) القرآنية (في الأمر بالصبر، و) في (بيان فضله كثيرة) اهتماماً بشأنه (معروفة) . 251 - (وعن أبي مالك الحارثبن عاصم) هذا أحد أقوال عشرة في اسمه، وقيل: كعب ابن عاصم وقيل كعببن كعب، وقيل عبيد، وقيل عبيد الله، وقيل عمرو. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في «أمالي الأذكار» : التحقيق أن أبا مالك الأشعري ثلاثة: الحارثبن الحارث وكعبابن عاصم وهما مشهوران باسمهما. والثالث هو المختلف في اسمه، وأكثر ما يرد في الروايات بكنيته وهو راوي الحديث اهـ (الأشعري) نسبة إلى الأشعر: قبيلة مشهورة من اليمن، والأشعر هو ثبتبن أددبن زيدبن يشجب، وقيل: له الأشعر لأن أمه ولدته والشعر على بدنه. قدم أبو مالك (رضي الله عنه) مع الأشعريين على النبي ويعد في «الشاميين» ، توفي في خلاقة عمر بالطاعون، وطعن هو ومعاذ وأبو عبيدة وشرحبيل ابن عتبة في يوم أحد، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعة وعشرون حديثاً روى عنه مسلم حديثين: هذا الحديث وبدأ به كتاب الطهارة من صحيحه، وحديث «أربع في أمتي من أمر الجاهلية» وروى له البخاري على الشك فقال: عن أبي مالك أو أبي عامر، وروى عنه أصحاب السنن الأربع (قال: قال رسول الله: الطهور) قال المصنف: بالضم على المختار وهو قول الأكثر اهـ. والمراد به بالضم الفعل: وبالفتح الاسم، كالسحور بالفتح اسم لما يتسحر به. وقال الخليل والأزهري: بالفتح فيهما، بل أنكر الخليل الضم، وحكى صاحب «المطالع» الضم فيهما. وقال القرطبي: إنما روي بالفتح إما على قول الخليل أو على تقدير مضاف: أي استعمال الطهور. واشتقاقه من الطهارة، وهي لغة النظافة حسية كانت أو معنوية. قال جماعة من أهل اللغة: هي حقيقة في الصورية مجاز في المعنوية، وقيل يمكن أن يقال: إنها حقيقة في القدر المشترك لرجحانه على المجاز والاشتراك. وشرعاً: فعل ما يترتب عليه إباحة أو ثواب مجرد (شطر) أي نصف

(الإيمان) أن ينتهي تضعيف أجره إلى نصف أجر الإيمان فالمراد بالإيمان حقيقته. واعترض بأن الصلاة أفضل من الوضوء ولم يرد فيها ذلك. وأجيب بالتزامه وإن لم يرد، ومفهوم الاسم ضعيف، وقيل: المراد من الإيمان الصلاة مثل ( {وما كان الله ليضيع إيمانكم} ) (البقرة: 143) وهي لا تصح إلا بطهر فكان كالشطر، ورجحه المصنف بأنه أقرب الأقوال، وأيده بعض محققي المتأخرين. وأجاب عما اعترض به عليه بكلام ذكرته في «شرح الأذكار» (والحمد) أي: هذه الجملة بخصوصها لأنها أفضل صيغ الحمد، ولذا بدىء بها الكتاب الغزيز أو هي وما يؤدي مؤداها من الثناء على الله سبحانه وتعالى بصفات كماله، ورجح بعضهم الأخير (تملأ) بالفوقية: أي هذه الكلمة بالمعنى اللغوي أو الجملة لو جسمت، أو بالتحتية: أي يملأ هذا المبنى وكذا ما أفاد مفاده لو كان جسماً (الميزان) باعتبار ثواب التلفظ بذلك مع استحضار معناه: أي الثناء على الله بالجميل الاختياري والإذعان له، والميزان المراد منه حقيقته أي ما توزن به الأعمال: إما بأن تجسم أو توزن صحائفها فتطيش بالسيئة وتثقل بالحسنة؛ وإنما ملأ ثواب هذه الجملة كفة الميزان مع سعتها المفرطة لأن معاني الباقيات الصالحات في ضمنها، ذكره العلائي في الجزء الذي ألفه في شرح هذا الحديث ولذلك قال رضي الله عنه: لو شئت أن أوقر بعيراً منها لفعلت، وذلك لأن الثناء تارة يكون بإثبات الكمال/ وتارة بنفي النقص، وتارة بالاعتراف بالعجز عن الإدراك، وتارة بالتفرد بأعلى المراتب، والألف واللام في الحمد لاستغراق جنس المدح والحمد مما علمناه وجهلناه، وإنما يستحق الإلهية من اتصف بذلك، فاندرج الجميع تحت الحمد، ذكره العلائي في أثناء كلام له (وسبحان ا) منصوب على المصدر، وقيل: اسم مصدر. وقال الزمخشري، هو علم على التسبيح وانتصب بفعل مضمر: أي أسبحه سبحان ثم نزل منزلة الفعل فسد مسده اهـ وظاهره أنه علم أضيف أو قطع عنها وأن إضافته للبيان لا للتعريف كزيد الخيل، وهذا ظاهر قول الأخفش إنه معرفة وضع لهذا المعنى، ولذا امتنع صرفه للعملية وزيادة الألف والنون، والمحققون على أن تعريفه بالإضافة. والتسبيح تنزيه الله عن السوء والنقائص وتبعيده منها (والحمد) معطوف على ما قبله: أي هاتان الكلمتان (تملآن) بالفوقية «أو» شك من الراوي «يملأ» بالتحتية: أي المذكور منهما أو

أجرهما قيل: ويحتمل أن يراد أحدهما فيكون المشكوك فيه أنهما معاً يملآن ما بين السموات والأرض أو أحدهما، أو بالفوقية، أي الكلمة الشاملة لهما. وقال العاقولي في «شرح المصابيح» : يروى بالمثناة الفوقية (ما بين) طبقات (السموات) السبع، وفي السلاح «السماء» بالإفراد وعزاه لمسلم، وكأنه باعتبار أصله، وإلا فالذي عندي بأصل مصحح «السموات» بالجمع وكذا هو في الكتب الحديثية (والأرض) أفرده، والمراد به الجمع: أي الأرضون ولعل ذلك لأن طباق الأرض متلاصقة لاخلاء بينها بخلاف طباق السموات» . قال البيضاوي في «التفسير» إنما جمع السموات وأفرد الأرض لأنها طبقات متفاصلة بالذات مختلفة في الحقيقة، بخلاف الأرضين اهـ وإنما ملأ ثواب ما ذكر ما بين المذكورات التي لا يحيط بسعتها إلا خالقها سبحانه لأن العالم كله شاهد بأن اهو خالقه والقائم بتدبيره، وبأنه لا يجوز أن يكون له فيه شريك ولا معين، وبأنه واجب الإتصاف بصفات الكمال منزه عن مشابهة المحدثات إذ الأهلية إنما تتم بذلك. قيل: وإلى هذه الشهادة يشير قوله تعالى: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} (الإسراء: 44) فسبحان اللَّه والحمد يتضمنان إثبات الرب والواحد وجميع صفات الجلال والكمال له ونفي جميع النقائص عنه، فكأنه قائلها شاهد بذلك، وعلى جميع العالم بأنه مربوب مخلوق في قهره وتدبيره لا منعم عليه ولا قادر ولا مالك بالحقيقة سواه، فله من الأجر بقدر ما شهد به من الحق فملأ أجرهما ما بين السموات والأرض، نقله العلائي عن ابن برجان في الكلام على لا إله إلاالله. قال العلائي: ويصح نقله إلى هنا (والصلاة) سيأتي معناها لغة وشرعاً إن شاء الله تعالى (نور) أي: محسوس: أي إن الصلاة نفسها تضيء لصاحبها في ظلمات الموقف بين يديه، ولم يجيء في فعل متعبد به أنه نور في نفسه سوى الصلاة، فالظاهر أن هذا النور خاص بها، وأصرح منه ما لأحمد بسند صالح عن ابن عمر، قال: «من حافظ على الصلاة كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً ولا برهاناً ولا نجاة يوم القيامة، وكان مع قارون وفرعون وهامان وأبيّبن خلف» وقيل: النور أجرها لا هي فتكون على تقدير مضاف، وقيل نور ظاهر على وجه المؤمن يوم القيامة، فالمراد بها: أي بسببها يعلو النور وجه المؤمن، فالإسناد مجازي من

الإسناد للسبب. وقيل: النور معنوي لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر وتهدي إلى الصواب، فتصد عن المهالك وتوصل إلى طريق السلامة كما يستضاء بالنور. وقيل: نور القلب بسببها لاشتمالها على ما لم يجتمع في غيرها من أعمال القلوب والألسن والجوارح فرضاً ونفلاً، فالصلاة الكاملة يحصل بها من النور الإلهي في القلب ما لا يعبر عنه. قيل: ويمكن حمل النور على جميع ما تقدم من حقيقة اللفظ ومجازه على قاعدة الشافعي (والصدقة برهان) أي: حجة على إيمان مؤديها، وقيل: على أنه لبس من المنافقين الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات، وقيل: على حبه ورسوله فإنه آثر رضاهما على المال الذي جبل على حبه، وقيل: برهان له يوم القيامة إذا سئل عن ماله فيم أنفقه؟ يقول تصدقت به وقال صاحب «التحرير» : يجوز أن المتصدق يوسم يوم القيامة بسيمى يعرف بها فتكون برهاناً له على حال ولا يسأل عن مصرف ماله، وأيد بحديث أبي داود عن عقبةبن عامر مرفوعاً «كل امرىء في ظلّ صدقته يوم القيامة حتى يقضي بين الناس» فيكون هذا الظل برهاناً على صدق إيمانه أو على إخلاصه (والصبر ضياء) قيل: المراد هنا بالصبر الأعم من الصبر على طاعة الله وعن معصيته وعلى المكاره ومنه الصوم، وقيل: المراد به صبر خاص وهو الصوم ورجحه صاحب «مطالع الأنوار» بأنه صرح به في رواية ورجحه غيره باقترانه بالصلاة والصدقة فكشفها وبين خصوصياتها وأن من استجمعها حصل له نور في (بياض) انتشر له ضياء وهو من الإضاءة انتشار النور، وهذا أكمل أحوال النور قال تعالى: {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً} (يونس: 5) وقال القرطبي، إن فسر الصبر بالصوم فالضياء النور وإن اختلف لفظهما. وإن فسر بالأعمّ فهو إضاءة عواقب الأحوال وحسنها في المآل اهـ. قال الفاكهاني، ولم أر من فرق بين الضياء والنور، وقد فسر صاحب الصحاح النور بالضياء والضياء بالنور وردّ بأن كون الضياء هو النور، لأنه خصوصية في النور وزائد عليه وأبلغ منه. قال والحاصل أن النور الحادث قد يخلق كامل الضياء كالشمس ودون ذلك كالقمر، وإنما سوّى القرطبي بينهما لئلا يلزم تفضيل الصوم على الصلاة، وليس بلازم لأن مناط الفضل ليس منحصراً بل له أسباب كثيرة واعتبارات متنوعة، فيكون المفضول فاضلاً في وقت وبالعكس اهـ (وللقرآن) أي:

كلام الله المنزل على حبيبه بقصد الإعجاز المتعبد بتلاوته (حجة لك) إن امتثلث أوامره واجتنبت نواهيه فتحتج به في المواقف التي تسأل فيها عنه كمسائل الملكين في القبر وكالمسألة عند الميزان وعند الصراط (أو) حجة (عليك) إن لم تمتثل أوامره ولم تجتنب نواهيه، وقيل: حجة لك في الدنيا وعلى المطالب الشرعية والأحكام، أو حجة عليك لخصمك المحق، فالمرجع إليه عند التنازع، وهو دال على اتباع السنة وهي على حجية القياس والكتاب والسنة دالان على حجية الإجماع فصار القرآن مرجع جميع الأحكام لكن بواسطة تارة، وبغيرها أخرى. قال الفاكهاني: والأول أظهر. وقال العلائي: والآثار شاهدة به، ثم ساق أحاديث: منها للبيهقي بسند غريب عن جابر مرفوعاً «القرآن شافع مشفع، وماحل مصدق، فمن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعلة خلفه ساقه إلى النار» ومنها عن أبي أمامة مرفوعاً «أقرءوا القرآن فإنه يأتي شفيعاً لصاحبه يوم القيامة. قال العلائي بعد إيراده حملة من الأحاديث: ورجح الزملكاني القول بذلك لهذه الآثار/ والحمل على مقتضى القولين أولى تكثيراً للفائدة. ثم لما بين فضل هذه القربات ورغب فيها وكان إعمال النفس لها يقتضي سعياً أتبع ذلك بأن أحداً لا يترك نفسه هملاً باطلة بل لا بد له من عمل يغدو له فقال: (كل الناس يغدو) أي: يبكر في مصالحه (فبائع نفسه) من الله (فمعتقها) من العذاب، وناهيك بها صفة اغتنام، إذ كان الثمن فيها دار السلام، والنظر إلى وجه الملك العلام. قال الله تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم} (التوبة: 111) الآية. وهؤلاء سعوا في خلاص نفوسهم وتوجهوا بقلبهم إلى ربهم وطلب ما عنده (أو) بائع نفسه لغير ربه من هواه أو الشيطان، فهو (موبقها) أي: مهلكها بالطرد عن ساحة الرضوان، وبالبعد والحرمان، نعوذ با من سخطه وأليم عقابه، ويحتمل أن يكون المراد ببائع مشتر: أي كلهم يسعى، فمنهم من يشتري نفسه بالأعمال الصالحة فيعتقها من العذاب، ومنهم من يعرضها للعذاب باكتساب المآثم فيوبقها. ورجح بأن نفسه ليست ملكه فيبيعها بل مملوكة مرتهنة بأعمالها حتى يخلصها. واختار القاضي عياض حمله على المعنيين: أي: من اشتراها بالأعمال الصالحة أعتقها، ومن باعها في الأعمال السيئة أوبقها، كما قيل في {ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون} (البقرة: 102) وهذا على قاعدة الشافعي في حمل

المشترك على معنييه، ورد كل جملة إلى معنى، وهو نوع من الإيجاز بديع عند أرباب البيان لخصت معظم ما ذكرته في هذا الحديث من شرحه فقط للعلامة العلائي (رواه مسلم) ورواه أحمد والدارمي في «مسنده» وأبو عوانة في «صحيحه» والترمذي في «الدعوات» من جامعه، وقال إنه حسن صحيح، والنسائي في عمل اليوم والليلة، وسها ابن عساكر وتبعه المزي فأغفلا في أطرافهما عن عزو هذا الحديث للترمذي، وأخرجه الطبراني في «معجمه الكبير» . ووقع في رواية أبي سلام عن أبي مالك الأشعري اختلاف. فمن ذكرناهم رووه عنه أبي مالك بلا واسطة، ورواه ابن ماجه وآخرون عنه عن عبد الرحمنبن غنم عن أبي مالك. قال الحافظ السخاوي في «تخريج الأربعين» للمصنف بعد كلام طويل نقله في ذلك عن شيخه الحافظ: وبالجملة فالطريق الأولى: أعني كون أبي سلام سمعه من كل منهما، وكون الصحابي في الطريقين واحداً أولى. 262 - (وعن أبي سعيد سعدبن مالكبن سنان الخدري رضي الله عنه) الأولى عنهما لما سبق في ترجمته في باب التوبة من أنه وأباه كانا صحابيين (أن ناساً) في «تفسير البيضاوي» أصله أناس لقولهم إنسان وإنس وأناسي، فحذفت الهمزة حذفها في لوقة وعوض عنها حرف التعريف ولذا لا يكاد يجمع بينهما، مأخوذ من أنس بوزن فرح لأنهم يستأنسون بأمثالهم، أو من آنس لأنهم ظاهرون مبصرون اهـ. وقيل: مقلوب نسي، وقيل مأخوذ من ناس ينوس إذا اضطرب وتحرك. قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» : لم يتعين لي أسماؤهم إلا أن النسائي روي عن أبي سعيد ما يدل على أنه منهم، وذلك أنه قال: «سرحتني أمي إلى النبي، يعني لأسأله من حاجة شديدة، فأتيته وقعدت فاستقبلني وقال: من استغنى أغناه ا» الحديث. وزاد فيه «من سأل وله أوقية فقد ألحف، فقلت:

ناقتي خير من أوقية فرجعت ولم أسأله» اهـ (من الأنصار) بفتح الهمزة اسم إسلامي علم بالغلبة على أولاد الأوس والخزرج سموا به لنصرتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (سألوا رسول الله) حذف المفعول الثاني لعدم تعلق الغرض به (فأعطاهم) أي: عقب سؤالهم ولم يتوان لما جبل عليه من مكارم الأخلاق والسماحة (ثم سألوه فأعطاهم) فتكرر منهم السؤال مرتين ومنه الإعطاء عقب كل مرة (حتى نفد) بكسر الفاء وبالدال المهملة، ففي الصحاح نفد الشيء ينفد نفاداً: فنى (ما عنده) أي: ذهب بالإنفاق جميع ما عنده (فقال) عقب نفاده تنفيراً لهم من الاستكثار مما زاد على الحاجة من الدنيا، وتحريضاً على القناعة، وحثاً على الاستعفاف. واللام في (لهم) هي لام المبالغة (حين أنفق) هو مختص بإخراج الشيء في الخير (كل شيء) معدّ للإنفاق كائن (بيده: ما يكن) كذا هو بالجزم فيما وقفت عليه من نسخ مصححة من الرياض وهو كذلك في أصل مصحح عندي من «صحيح مسلم» فتكون ما شرطية، وفي البخاري «ما يكون» بالرفع، قال الشيخ زكريا: فما موصول متضمن معنى الشرط، وجوابه على الوجهين قوله: «فلن أدخره» (عندي من) بيانية (خير فلن أدخره) بتشديد الدال المهملة، وجاء إعجامها مدغماً وغير مدغم، وأصله ادتخر فقلبت التاء دالاً على اللغة الأولى وذالاً على اللغة الثانية، والمعنى: لا أجعله ذخيرة لغيركم معرضاً (عنكم) أو فلا أخبؤه وأمنعكم إياه (ومن يستعفف) بفك الإدغام فالفعل مجزوم بالسكون لفظاً: أي من طلب العفة عن سؤال الناس والاستشراف إلى ما في أيديهم (يعفه ا) أي: يرزقه العفة فيصير عفيفاً قنوعاً. وفي «النهاية» : وقيل: الاستعفاف الصبر والنزاهة عن الشيء، يقال عفّ يعف عفة فهو عفيف، وهو بفتح الفاء لأنها أخف الحركات، أو بكسرها لأنها اوصل في التخلص من التقاء الساكنين (ومن يستغن) أي: يظهر الغناء بالتعفف عما في أيدي الناس (يغنه ا) أي: يجعله غنيّ النفس ولا غناء لا غناؤها (ومن يتصبر) أي: يتكلف الصبر على ضيق العيش وغيره من مكاره الدنيا بأن يتجرّع مرارة ذلك ولا يشكو لغير مولاه (يصبره ا) أي: يعطه من حقائق الصبر الموصلة للرضى ما يهوّن عليه كل مشق ومكدّر؛ ولشرف مقام الصبر وعلوه، لأنه جامع لمكارم الأخلاق ومعالي الصفات فلا ينال شيئاً منها إلا من تحلى به، عقبه بقوله: (وما أعطي أحد عطاء) مفعول ثان لأعطى: أي ما أعطي أحد من

خلق ولا مقام (خيراً) كذا هو بالنصب في النسخ، وفي البخاري: هو خير، وفي مسلم: خير، بحذف هو في رواية، وفي رواية بنصب خير (وأوسع من الصبر) . قال الشيخ زكريا: خيراً هنا ليس بأفعل تفضيل بل هو كقوله تعالى: {أصحاب الجنة يومئذٍ خير مستقرّاً} (الفرقان: 24) اهـ. ومعنى كونه أوسع: أن به تتسع المعارف والمشاهد والمقاصد. فإن قلت: مقام الرضى أفضل منه كما صرحوا به. قلت: هو غايته لأنه لا يعتد به إلا معه فليس أجنبياً عنه، إذ الصبر من غير رضى مقام ناقص جداً (متفق عليه) وكذا أخرجه أصحاب «السنن الأربع» ، وزاد رزين «قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه» وهذه الزيادة أخرجها مسلم والترمذي من رواية عمروبن العاص كذا في «التيسير» للديبع. 273 - (وعن أبي يحيى صهيب) بضم المهملة وفتح الهاء بعدها تحتية ساكنة فموحدة (ابن سنان) بكسر المهملة ونونين بينهما ألف ابن مالكبن عمروبن عقيلبن عامربن جندلةبن جذيمةبن كعببن سعدبن أسلمبن أوس مناةبن النمربن قاسطبن هنساءبن أفصىبن دعمى ابن جديلةبن أسدبن ربيعةبن نزار الربعي النمري. كذا نسبه الكلبي وأبو نعيم، وصدّر به ابن الأثير في «أسد الغابة» ثم حكى في نسبه قولين آخرين. كناه بأبي يحيى، وإنما قيل له الرومي لأن الروم سبوه صغيراً فابتاعه منهم كلبي، ثم قدموا به مكة فشراه عبد الله ابن جدعان منهم فأعتقه وأقام معه إلى أن هلك عبد الله. وقيل: إنه هرب من الروم لما كبر وعقل فقدم مكة وحالف ابن جدعان، ولما بعث النبيّ أسلم، وكان من السابقين إلى الإسلام. قال الواقدي: أسلم هو وعمار في يوم واحد وكان إسلامهما بعد بضعة وثلاثين رجلاً وكان من المستضعفين بمكة الذين عذبوا، وقدم المدينة مع عليّبن أبي طالب في النصف من ربيع الأول، والنبيّ في قباء لم يرم: أي لم يبرح من مكانه بعد، وآخى النبيّ بينه وبين الحارثبن الصمة، شهد المشاهد كلها مع النبي. وعن أنس مرفوعاً «السباق أربعة أنا سابق العرب، وصهيب سابق الروم، وسلمان سابق

فارس، وبلال سابق الحبش «وكان عمر محباً لصهيب حسن الظن به، حتى إنه لما ضرب أوصى أن يصلي عليه صهيب وأن يصلي بالمسلمين حتى يتفق أهل الثوري على شخص، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثون حديثاً، أخرج له مسلم ثلاثة أحاديث، ولم يخرّج له البخاري شيئاً. توفي بالمدينة سنة ثمان وثلاثين، وقيل: تسع وثلاثين وهو ابن ثلاث وسبعين ودفن بالمدينة (رضي الله عنه، قال: قال رسول الله: عجباً) مفعول مطلق: أي أعجب عجباً وتعجب ابن آدم من الشيء إذا عظم موقعه عنده وخفي عليه سببه كما في «النهاية» (لأمر المؤمن) أي: الكامل، وهو العالم با الراضي بأحكامه العامل على تصديق موعوده (إن أمره) أي: شأنه (كله) بالنصب تأكيد، وبالرفع مبتدأ خبره (له خير) والجملة خبر إن (وليس ذلك) الخبر في كل شأن (لأحد إلا المؤمن) الكامل، ووضع الظاهر موضع المضمر دفعاً للوهم وليشعر بالعلية: أي إن إيمانه الكامل سبب خيريته في كل حال (إن أصابته سرّاء) بفتح السين وتشديد الراء المهملتين: أي ما يسرّه (شكر) أي: عرف قدر نعمة مولاه فشكره (فكان) شكره (خيراً له) من السراء التي نالها لكونه ثواباً أخرويا (وإن أصابته ضرّاء) أي: ما يضرّه في بدنه أو ما يتعلق به من أهل أو ولد أو مال (صبر) واحتسب ذلك عند الله رجاء ثوابه ورضي به نظراً لكونه فعل مولاه الذي هو أرحم به (فكان) صبره في الضراء (خيراً له) لأنه حصل له بذلك خير الدارين، أما غير كامل الإيمان فإنه يتضجر ويتسخط من المصيبة فيجتمع عليه نصبها ووزر سخطه، ولا يعرف للنعمة قدرها فلا يقوم بحقها ولا يشكرها، فتنقلب النعمة في حقه نقمة وينعكس عليه الحال، نعوذ با من النقصان بعد الزيادة، ومن الحور بعد الكور (رواه مسلم) وكذا رواه الإمام أحمد من حديث صهيب أيضاً كما في «الجامع الصغير» .

284 - (وعن أنس رضي الله عنه) تقدمت ترجمته (قال: لما ثقل النبيّ) بضم القاف من شدة المرض، ورواه الديبع في «التيسير» بلفظ «لما احتضر» بالبناء للمجهول من الاختصار، لكن في أصله «جامع الأصول» كما هنا، ولعل ما عند الديبع لفظ النسائي (جعل) من أفعال الشروع (يتغشاه) أي: يغشاه (الكرب) على وزن الضرب، أي: الشدة من سكرات الموت لعلو درجته وشرف رتبته. وفي الحديث «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل» وقد أفرد بعض العارفين في هذا المعنى مؤلفاً سماه (القول الأجلّ، في حكمة كرب المصطقى عند حلول الأجل) وقد أوردته بجملته في «شرح الأذكار» (فقالت فاطمة رضي الله عنها: وا) للندبة (كرب أبتاه) قالته لما رأته حل به فتألم قلبها وباح بما فيه لسانها مع كمال صبرها ورضاها يفعل ربها/ ومثل ذلك لا يقدح في الكمال. ففي الحديث «العين تدمع، والقلب يجزع، ولا نقول إلا ما يرضي الرّب» وهذا محمول على أنها لم ترفع صوتها بذلك، وإلا لكان ينهاها، ثم عند النسائي عن ثابت بدل «واكرب أبتاه» واكرباه، والأوّل أصوب لقوله في نفس الخبر (فقال) أي: النبي (ليس على أبيك) أي: بالمظهر إيماء إلى أن سبب صدور ما تقدم من السيدة فاطمة هو البعضية، وكونه أصلاً لها (كرب بعد اليوم) أي: لا يصيبه نصب ولا وصب يجد له ألماً بعد اليوم لأنه ينتقل من دار الأكدار إلى دار الآخرة والسلامة الدائمة، إلى ما لا يعلم بأدناه من العطايا السنية والمراتب العلية فضلاً عن أعلاه، إلا من منحه وأولاه، وقد ورد «لا راحة للمؤمن دون لقاء ربه» فكيف بسيد السادات. فقد انتقل لمحل قرة عينه وراحة نفسه ودوام أنسه (فلما مات قالت) فاطمة (يا) حرف ندبة (أبتاه) بإسكان الهاء وأصله يا أبي فأبدلت الفوقية من التحتية لأنهما من الحروف الزوائد، والألف هي التي تلحق آخر الاسم عند الندبة وكذا الهاء وتسمى هاء السكت لحقت آخر المندوب للموقف عليها، ورأيته بضم الهاء في نسخ الرياض ولم يظهر لي وجهه لأن الهاء تلحق المندوب إلا في الوقف وهي فيه ساكنة وتحذف وصلاً، فالظاهر أن

الضبط المذكور من بعض الكتاب (أجاب رباً دعاه إلى لقاه يا أبتاه من) أي: الذي، وحكى الطيبي عن نسخة من المصابيح كسر الميم على أنها حرف جر، والأول أولى، وفي نسخة من الرياض حذف من (جنة الفردوس) مبتدأ. والفردوس بستان يجمع كل ما في البساتين من شجر وزهر ونبات، قيل: وهي رومية معربة، كذا في «تحفة القارىء» . وفي «الجامع الصغير» حديث «إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس فإنه سرّ الجنة» رواه الطبراني عن العرباض مرفوعاً.l والسرّ بالضم: الوسط، بمعنى الخيار لما في حديث آخر عند البخاري في كتاب الجهاد «إنه وسط الجنة، وإنه أعلى الجنة، وإن سقفه عرش الرحمن» وخبر المبتدإ قوله: (مأواه) أي: منزله، وعلى كسر الميم فهو مبتدأ خبره الظرف قبله (يا أبتاه إلى جبريل) بكسر الجيم والراء وإسكان الموحدة والتحتية بعدها لام. وهو اسم عبراني، قيل: معناه عبد الرحمن، وقيل: عبد الله. وفي جبريل أحد عشر لغة ذكرتها في أوائل «شرح الأذكار» . والظرف متعلق بقوله: (ننعاه) أي: نرفع خبره إليه لأن الإنسان يذكر ما ينزل به من الأحوال لأصحابه على وجه الإخبار عما نزل. ولا يضر في الكمال إذا لم يكن فيه تسخط من القدر الإلهي ولا تجزع بحال. قال العلقمي نقلاً عن الحافظ: زاد الطبراني في هذا الحديث «يا أبتاه من ربه ما أدناه» . ويأخذ من الحديث جواز التوجع للميت عند احتضاره مثل قول فاطمة «واكرب أبتاه» وأنه ليس من النياحة، لأنه أقرها على ذلك. وأما قولها بعد أن قبض «وا أبتاه» إلخ، فيؤخذ منه أن تلك الألفاظ إذا كان الميت متصفاً بها لا يمنع ذكره بها بعد موته، بخلاف ما إذا كانت فيه ظاهراً وهو في الباطن بخلاف ذلك، أو لا يتحقق اتصافه بها فيدخل المنع اهـ. (فلما دفن) بالبناء للمجهول (قالت فاطمة رضي الله عنها) جملة دعائية مستأنفة، وعبر عنه بالماضي تفاؤلاً بتحققه، وأعاد ذكرها لطول الكلام بينه وبين ذكرها أو لا،. ونظيره قوله تعالى: {أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون} (المؤمنون: 35) (يا أنس أطابت أنفسكم) وعند الديبع: كيف طابت أنفسكم (أن تحثوا) أي: بأن تحثوا (على) قبر (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التراب) قال الحافظ: أشارت بذلك إلى عتابهم على إقدامهم على ذلك لأنه يدل على خلاف ما عرفته فيهم من رقة قلوبهم وشدة محبتهم له، وسكت أنس عن جوابها

رعاية لها، ولسان حاله يقول: لم تطب أنفسنا بذلك إلا أنا قهرنا على فعله امتثالاً لأمره اهـ. وروي أنها أنشدت: ماذا على من شم تربة أحمد ألا يشم مدى الزمان غواليا صبت علىّ مصائب لو أنها صبت على الأيام عدن لياليا (رواه البخاري) في آخر «المغازي» من صحيحه، وكذا رواه النسائي وابن ماجه في «الجنائز» ، وأخرجه ابن ماجه أيضاً والترمذي في «الشمائل» بلفظ «لما وجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كرب الموت ما وجد قالت فاطمة: واكرب أبتاه» الحديث كذا في الأطراف. ومناسبة إيراده في باب الصبر صبره على ما هو فيه من سكرات الموت وشدائده، ورضاه بذلك وتسكين ما نزل بالسيدة فاطمة من مشاهدة ذلك بقوله: لا كرب على أبيك بعد اليوم: أي: أي فهذا التعب الشديد يحتمل لقصر زمانه، بل هو محبوب لكونه فعل الله سبحانه ولما يترتب عليه من الوصول إلى منازل الأحباب ونزل الكريم التي أعدها لنبيه، فلا يعلم أدناها فضلاً عن أعلاها غير من أولاه إياها. 295 - (وعن أبي زيد) وقيل: كنيته أبو محمد، وقيل: أبو يزيد، وقيل: أبو خارجة (أسامة) بضم الهمزة بعدها سين مهملة (ابن زيدبن حارثة) بمهملتين بينهما ألف وبعد الثانية مثلثة ابن شراحيلبن كعببن عبد العزيزبن زيدبن امرىء القيسبن عامربن النعمانبن عامربن عبدودّبن كنانةبن بكربن عوفبن عذرةبن زيد اللاتبن رفيدةبن ثوربن كلب، الكلبي نسباً، الهاشمي ولاء كما قال المصنف (مولى رسول الله) ولاء عتاقة منه على أبيه، وسرى منه لابنه (وحبه وابن حبه) بكسر الحاء فيهما: أي حبيبه. في «الصحاح» الحب: الحبيب مثل خدن وخدين اهـ. روى ابن عبد البرّ أن النبي قال: «إن أسامة لأحبّ الناس إليّ، أو من أحبّ الناس إليّ، وإني لأرجو أن يكون من صالحيكم فاستوصوا به خيراً» وفي «أسد الغابة» أن عمر رضي الله عنه لما فرض للعطاء جعل لابنه عبد الله ألفين ولأسامة خمسة آلاف، فقال له في ذلك عبد الله، فقال عمر: فضلته لأنه كان أحبّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منك، وكان أبوه أحب إليه من أبيك، زاد صاحب «الشفاء» : فقدمت حبّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (رضي الله عنهما)

الأولى رضي الله عنه لأن حارثة والد زيد صحابي أيضاً. وفي «أسد الغابة» : روى أسامةبن زيدبن حارثة «أن النبي دعا حارثة إلى الإسلام فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله» أخرجه ابن منده وأبو نعيم اهـ. وأم أسامة هي بركة الحبشية أم أيمن مولاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحاضنته، فأيمن أخو أسامة لأمه، وأمرّ أسامة على جيش فيهم عمربن الخطاب وأمره بالمسير إلى الشام فلما اشتد المرض بالنبي أوصى أن يسير جيش أسامة، فساروا بعد موته وقول ابن منده: إن النبي أمر أسامة في غزوة مؤتة غلط. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة وثمانية وعشرون حديثاً، أخرج له منها في «الصحيحين» سبعة عشرة حديثاً اتفقا منها على خمسة عشر، وانفرد البخاري بحديثين. توفي بالجرف بعد قتل عثمان وحمل إلى المدينة. قال أبو عمر: الأصح عندي أنه توفي في سنة أربع وخمسين/ وقيل: سنة ثمان، وقيل: سنة تسع وخمسين (قال) أسامة (أرسلت بنت رسول الله) هي زينب، عن أبي العاص الربيع، كما قال في مصنف ابن أبي شيبة إليه (أن ابني) الذي استظهره الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» وقال إنه الصواب أن المراد منه أمامة بنت زينب، كما ثبت في مسند الإمام أحمد بسند الحديث المذكور عند البخاري ولفظه: أتى النبيّ بأمامة بنت زينب. ولا يشكل عليه أن أمامة عاشت بعده حتى تزوجها عليّبن أبي طالب وقتل معها، لأنه ليس في حديث الباب ما يدل على أنها قبضت حينئذٍ. قال الحافظ ابن حجر: ولعل الله أكرم نبيه لامتثاله لأمر ربه وصبر ابنته، ولم يملك مع ذلك عينيه من الرحمة والشفقة بأن عافى ابنة ابنته في ذلك الوقت فعاشت تلك المدة، وهذا ينبغي أن يذكر في دلائل النبوّة اهـ. وعلى كونه صبياً ذكراً فيحتمل أنه ولد زينب، واسمه عليّ، أبو عبد اابن عثمانبن رقية، أو محسنابن عليبن فاطمة. قال الحافظ: وهذا أعني تقدير كونه ذكراً أقرب (قد احتضر) بالبناء للمجهول: أي حضرته مقدمات الموت (فأشهدنا) أي: أحضرنا (فأرسل يقرىء السلام) بضم أوله وهو مهموز والجملة المضارعية حال من فاعل أرسل (ويقول: إن ما أخذ) فلا ينبغي الجزع من أخذه لأن صاحب الحق إذا أخذ حقه لا يجزع منه، وقدم ذكر الأخذ على الإعطاء وإن كان متأخراً في الواقع اهتماماً بما يقتضيه المقام (وله ما أعطى) يعني أن الله تعالى إذا أعطى عباده شيئاً فلا يخرج بذلك الإعطاء عن ملكه بل هو باق عليه، بخلاف إعطاء المخلوق لمثله. قيل: ويحتمل أن يراد بقوله: «ما أعطى» ما أعطاه من الثواب على المصيبة أو الحياة لمن بقي بعد الموت، أو ما هو أعم

من ذلك، و «ما» في الموضعين مصدرية: أي: الأخذ والإعطاء، ويحتمل أن تكون موصولاً اسمياً فيكون العائد محذوفاً: أي: ما أخذه وما أعطاه (وكل شيء) بالرفع جملة ابتدائية معطوفة على الجملة قبلها، ويجوز النصب عطفاً على اسم إن فيستحب التأكيد عليه، وقوله كل شيء: أي: من الأخذ والإعطاء أو الأنفس أو ما هو أعم من ذلك (عنده) والراد منه عندية العلم مجازاً للملازمة بينهما (بأجل مسمى) أي: معلوم مقدر فمحال أن يتقدم عليه أو يتأخر عنه. والأجل يطلق على الجزء الأخير، وعلى مجموع العمر (فلتصبر) على مقادير الله (ولتحتسب) أي: تنو بصبرها طلب الثواب من ربها ليحسب لها ذلك من عملها الصالح (فأرسلت إليه) أي: عقب مجيء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليها كما يدل عليه العطف بالفاء التعقيبية (تقسم عليه ليأتينها) جاء في حديث عبد الرحمنبن عوف: أنها راجعته مرتين وأنه قام في ثالث مرة وكأنها ألحت في ذلك لما ترجوه من دفع ما تجده من الألم عند حضوره بركة حضوره، وقد حقق الله رجاءها، وكان امتناعه أولاً للمبالغة في إظهار التسليم لأمرالله، ولبيان الجواز في أن من دعي لمثل ذلك لا تجب عليه الإجابة، بخلاف الوليمة (فقام ومعه سعدبن عبادة ومعاذبن جبل وأُبيّبن كعب وزيدبن ثابت ورجال رضي الله عنهم) الجملة حال من فاعل قام، وجملة رضي الله عنهم مستأنفة، وقد سمي منهم غير من ذكر في غير هذه الرواية: عبادةبن الصامت وأسامة راوي الحديث وعبد الرحمنبن عوف (فرفع) بالراء مبني للمجهول، وفي الكلام حذف دلّ عليه المقام، إذ تقدير الكلام: فمشوا إلى أن وصلوا إلى بيتها واستأذنوا فأذن لهم فدخلوا فرفع (إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبيّ فأقعده) أي: وضعه (في حجره) بفتح الحاء وكسرها وسكون الجيم: الحضن (ونفسه تقعقع) بفتح التاء والقافين/ أي: تضطرب وتتحرّك زاد في رواية للبخاري «كأنها شنّ» وفي لفظ آخر «كأنها في شنة» (ففاضت عيناه) أي: النبيّ، وجاء التصريح في رواية شعبة (فقال سعد) أي: ابن عبادة مستبعداً ما رآه منه

لما يعلمه من عادته من مقاومة المصيبة بالصبر عليها ووقع عند ابن ماجه «فقال عبادةبن الصامت» والصواب ما في «الصحيح» إن ما أخذ بالترجيح وإلا فلا منافاة، لإمكان صدوره من كل منهما (يا رسول الله ما هذا) أي: فيض الدمع، وجاء في رواية «قال سعدبن عبادة أتبكي؟» زاد أبو نعيم في «المستخرج» : «وتنهي عن البكاء» (فقال) (هذه) أي: الدمعة أثر (رحمة جعلها الله في قلوب عباده) أي: بعض عباده بدليل قوله: وفي رواية «قلوب من شاء من عباده» أي: ومثل هذا الفيضان الناشيء عن حزن القلب من غير تعمد من صاحبه ولا استدعاء لا مؤاخذة عليه فيه، إنما النهي عن الجزع وعدم الصبر، أو عما كان مع نوح أو ندب (وإنما يرحم الله من عباده الرحماء) بالنصب على أن «ما» في إنما كافة وبالرفع على أنها موصولة، والرحماء جمع رحيم، وهو من صيغ المبالغة، وقضيته أن رحمته تعالى تختص بمن اتصف بالرحمة الكاملة، بخلاف من فيه رحمة ما، لكن قضية خبر أبي داود وغيره «الراحمون يرحمهم الرحمن» أنها تشمل كل من فيه رحمة ما، إذا الراحمون جمع راحم، وهذا هو الأوجه، وإنما بولغ في الأول لأن القصد به الرد على من استبعد جواز فيض الدمع، ولأن لفظ الجلالة فيه دلّ على العظمة فناسب فيه التعظيم والمبالغة، ولما كان الرحمن يدل على المبالغة في العفو ذكر مع كل ذي رحمة وإن قلت، قاله ابن الجوفي (متفق عليه) في الديبع بعد إخراج الحديث إلى قوله: «ولتحتسب» ما لفظه أخرجه الخمسة إلا الترمذي (ومعنى تقعقع) بفتح الفوقية والقافين، مضارع حذفت إحدى تاءية تخفيفاً (تتحرك وتضطرب) والقعقعة: حكاية صوت الشيء اليابس إذا حرك. 306 - (وعن صهيب) بضم المهملة وفتح الهاء وسكون التحتية مصغر، تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في الحديث الثاني من أحاديث الباب (أن) بفتح الهمزة، هي ومدخولها في

تأويل مصدر مبتدأ خبره الظرف قبله: أي: عن صهيب قول رسولالله، ويجوز الكسر على إضمار القول: أي أروي عن صهيب حال كونه قائلاً إن (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كان ملك) بكسر اللام، أي: ذو ملك بضم الميم (فيمن كان قبلكم) من الأمم السابقة (وكان له ساحر) وعند الترمذي «كان لبعض الملوك كاهن يتكهن له» أي: والروايات يفسر بعضها بعضا (فلما كبر) بكسر الموحدة: أي كبرت سنه، أما كبر بضم الموحدة ففي القدر قال تعالى: {كَبُرَت كلمة} (الكهف: 5) (قال للملك إني قد كبرت فابعث) أي: أرسل (إليّ غلاماً) زاد في رواية الترمذي «فهماً» أو قال: «فطناً» نعتان. والغلام لغة: الصبي من الفطام إلى البلوغ (أعلمه السحر) جملة مستأنفة جواباً للسؤال المقدر، وهو: ما تفعل به؟ وعند الترمذي «أعلمه علمي فإني أخاف أن أموت وينقطع عنكم هذا العلم ولا يكون فيكم من يعلمه، قال: فنظروا له على ما وصف» (فبعث إليه غلاماً يعلمه) ذكر القرطبي في «التفسير» أنّ الضحاك روى عن ابن عباس كان ملك بنجران وفي رعيته رجل له ابن/ واسم الغلام عبد ابن تامر، ثم ساق القصة بنحو ما عند مسلم (وكان في طريقه) أي: الغلام (إذا سلك) إلى الساحر (راهب) هو المتعبد من النصارى المتخلي من أشغال الدنيا التارك لملاذها بالزهد فيها الصابر على مشاقها المعتزل عن أهلها (فقعد) الغلام (إليه) أي: إلى الراهب (وسمع كلامه فأعجبه) زاد الضحاك في روايته «فدخل في دين الراهب» . وعند الترمذي «فجعل الغلام يسأل ذلك الراهب عن معبوده كلما مر به، فلم يزل حتى أخبره، فقال إني أعبد ا» (وكان) الغلام (إذا أتى) أي: أراد أن يصل (إلى الساحر مر بالراهب) لكونه في طريقه (وقعد إليه) لمحبته لنهجه (فإذا أتى الساحر) ووصل إليه (ضربه) وعند الترمذي «أن الكاهن أرسل إلى أهل

الغلام إنه لا يكاد يحضرني» (فشكا ذلك إلى الراهب فقال) أي: الراهب (إذا خشيت الساحر) لتخلفك عندي في الذهاب إليه (فقل حبسني) أي: منعني (أهلي) أي: شغلهم، وجوّز ذلك إن قيل بإسلامه واستقامته، لأنه رأى أن مصلحة تخلفه عنده تزيد على مفسدة تلك الكذبة، فهو نظير الكذب لإصلاح الخصمين، أو أنه من باب الكذب لإنقاذ المحترم من التعدي عليه بالضرب (وإذا خشيت أهلك) لتخلفك عندي في العودة من عند الساحر (فقل حبسني الساحر، فبينما هو على ذلك) المذكور من التردد بين الرجلين (إذ أتى على دابة عظيمة) عند الترمذي قال بعضهم إن تلك الدابة كانت أسداً (قد حبست الناس) أي: منعتهم من المرور لخوفهم من صولتها (فقال) الغلام (اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل؟) أي: ينكشف لي ذلك (فأخذ) الغلام (حجراً فقال اللهم إن كان أمر الراهب) أي: ما هو فيه من الشئون والأمور (أحب إليك من أمر) أي: حال وشأن (الساحر فاقتل هذه الدابة) أي: عقب وصول الحجر إليها، ليكون ذلك آية على أحبية الراهب عندك، وقوله: (حتى يمضي الناس) يصح أن يكون غاية مترتبة على السؤال وأن يكون علة له (فرماها) الغلام (فقتلها) بتلك الرمية، وإسناد القتل إليه مجاز عقلي لكونه السبب الصوري في ذلك والفاعل حقيقة هو الله سبحانه وتعالى. وفي الحديث إثبات كرامات الأولياء، وإهانة أعداء الله الأغبياء (ومضى الناس) أي: انطلقت ألسنتهم بالثناء عليه بالعلم. وعند الترمذي «ففزع الناس وقالوا قد علم هذا الغلام علماً لم يعلمه أحد» . ويحتمل أن يكون المراد فمضي الناس في تلك السبيل لزوال المانع من سلوكها (فأتى) الغلام (الراهب فأخبره) فيه وفيما بعده من جهة حكايته له وعدم إنكاره أنه لا بأس بذكر الإنسان مفاخره وحمد الناس له والثناء عليه بحضوره إذا لم يترتب عليه فتنة من نحو عجب (فقال له الراهب أي نبيّ أنت اليوم) المراد منه الحين كما في يومئذٍ (أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى) أي: من كمال اليقين وصدق الاعتقاد، وقوله: «قد بلغ إلخ» كالتعليل لما قبله (وإنك ستبتلى) بالبناء للمجهول، ثم يحتمل أن يكون هذا منه بطريق الكشف فيكون كرامة، أو بطريق الفراسة، أو بطريق العادة والتجربة، إذ من خالف الناس في منهجهم ابتلوه وآذوه (فإن

ابتليت) بالبناء للمجهول، وأتى بحرف الشك ثانياً مع تحقيقه ذلك أوّلاً وتأكيده لأن ذلك بحسب ما قام عنده مما يقتضي وقوع ذلك حتى جزم به وأخبر عما عنده منه، وما هنا باعتبار الواقع وما يبرز في عالم الشهادة: فإن الفراسة قد تخطىء، والتجربة قد تتخلف، والكشف قد يعارض، أو قصد به التخفيف عن الغلام فلا يخاطبه بجملتين تدلان يقيناً على الابتلاء لئلا يصير في الكرب قبل حلول البلاء (فلا تدل) بضم المهملة (عليّ) بتشديد الياء (وكان) أي: صار (الغلام يبرىء الأكمه) أي: يحصل البرء عقب علاجه فالإسناد إليه مجاز عقلي، والأكمه بفتح الهمزة وسكون الكاف: هو الذي ولد أعمى (والأبرص) أي: من وقع به البرص داء معروف (ويداوي الناس من سائر) أي: جميع (الأدواء) أي: الأمراض والأسقام جمع داء والجملة معطوفة على «يبرىء» الخ، عطف عام على خاص، وخصا بالذكر لأنهما داءا إعياء (فسمع) أي: به وهي ثابتة في الحديث في نسخة مصححة من التيسير للدبيع غير أني لم أر ذلك في أصله «جامع الأصول» فلعله من الكتاب (جليس للملك كان قد عمي فأتاه) أي: فأتى الجليس الغلام (بهدايا كثيرة، فقال) الجليس (ما) أي: الذي (هاهنا) أي: في هذا المكان من الهدايا كائن (لك أجمع) تأكيداً لما أو للضمير المنتقل للظرف المستقرّ، وما مبتدأ خبره لك، وهاهنا صلة الموصول، ورواه الديبع بلفظ «هي لك» ولعل نسخته من مسلم كانت كذلك (إن أنت شفيتني) أي: إن شفيتني أنت لا غيرك كما يؤذن به المقام، فإن شرطية وفعل الشرط محذوف ولما حذف انفصل الضمير المتصل به، وقوله: «شفيتني» تفسير لفعل الشرط المحذوف وجواب الشرط محذوف لدلالة سابق الكلام عليه، أي: إن شفيتني فلك جميع ما هاهنا (فقال) الغلام (إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله تعالى) بفتح حرف المضارعة فيهما، والجملة الثانية مؤكدة لمضمون ما قبلها: أي إذا كان لا يشفي أحد إلا الله فلا أشفي أحداً، إذ لا شفاء إلا شفاؤه سبحانه وحذف المفعول من يشفي لعدم تعلق الغرض به نحو: زيد يعطي ويمنع، لبيان أنه يقع منه هذان الصنفان من غير تعرض لبيان المعطي والممنوع، أو للتعميم (فإن آمنت با دعوت الله فشفاك) من عماك الحسي كما شفاك بالإيمان من عماك المعنوي (فآمن) أي: الجليس (با تعالى) عقب قول

الغلام لسبق العناية به، وليترتب عليه ما سبق ترتبه عليه في علم الله سبحانه (فشفاه ا) أي: حصل له الشفاء الموعود بترتبه على الإيمان ليزداد يقينه. وزاد الترمذي «أنه أخذ عليه العهد إن رجع إليه بصره أن يؤمن بالذي رده عليه، فقال نعم، فدعا الله تعالى فردّ عليه بصره؛ فآمن الأعمى» وما في «الصحيح» مقدم على ما في غيره عند التعارض (فأتى) الجليس (الملك) بكسر اللام (فجلس) مفضياً (إليه) جلوساً (كما كان يجلس) أي: إن جلوسه بعد شفائه مماثل لجلوسه قبل حلول دائه (فقال له الملك: من ردّ عليك بصرك) أي: إدراكك للمبصرات (قال ربي) أي: ردّه ربي، أو ربي ردّه، فالأول مراعاة للخبر، والثاني للمبتدإ (قال) يعني الملك (أو لك ربّ غيري؟) بتقدير همزة الاستفهام الإنكاري قبل العاطف: أي أو لك ربّ غيري (قال) يعني الجليس (ربي) أي: مالكي ومربيّ بألطافه (وربك) كذلك (ا) خبر عن قوله ربي، لأن المختلف فيه بينهما تعيينه ففيه قصر قلب (فأخذه فلم يزل) الملك (يعذبه) بتشديد الذال والتضعيف: إما باعتبار أنواع العذاب، أو باعتبار شدته وغلظه، ليدل على من علمه ما هو فيه (حتى) غائية (دل على الغلام فجيء بالغلام) أي: فأمر بالغلام فجيء به، وضع الظاهر موضع المضمر دفعاً لإيهامه أن المراد فأتي بالجليس (فقال له الملك أي بُنيّ) بضم الموحدة وفتح النون وكسر التحتية المشددة ويجوز فتحها أصله «بنيو» اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فأبدلت الواو ياء وأدغمت في مثلها ثم أضيف للياء فاجتمعت ثلاثة ياءات فحذفت الثالثة تخفيفاً؛ وكسرت الثانية في لغة للدلالة على المحذوفة/ وفتحت وسكنت في أخرى تخفيفاً، قاله على سبيل التلطف به أو على ما جرت به العادة من مخاطبة الكبير للصغير (قد بلغ من سحرك ما) موصول اسمي أو نكرة موصوفة (تبرىء الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل) كناية عن كثرة تصرفاته ومزيد أعماله، وفي نسخة: وتفعل ما تفعل (فقال: إني لا أشفي أحداً) رد لما يفهم من كلام الملك حيث نسب إليه إبراء المريض دون الله عز وجل، ثم أثبت الغلام ذلك وحده بقوله: (إنما يشفي الله تعالى) فهو قصر قلب وما كافة وإنما أداة حصر على الصحيح كما تقرر في

«الأصول» (فأخذه) أي: أخذ الملك الصبيّ (فلم يزل يعذبه) ليدل على من علمه ما هو فيه (حتى) غائبة أي كان غاية تعذيبه أن (دله على الراهب فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك) حذف الفاعل لعدم تعلق الغرض، ودينه هو ما دل عليه كلامه وصرح به من عبادة الله عزّ وجلّ (فأبى) أي: امتنع أشد الامتناع (فدعي بالمئشار) بالهمزة في رواية الأكثرين وهو الأفصح ويجوز تخفيف الهمزة وقلبها ياء، وروي «بالمنشار» بالنون لغتان صحيحتان، إذ يقال أشرت الخشبة ونشرتها (فوضع المنشار) بالبناء للمجهول (في مفرق رأسه) بكسر الراء: وسطه (فشقه حتى وقع شقه) على الأرض (ثم جيء بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك فأبى) أي: امتنع أشد امتناع (فوضع المئشار) بالهمزة وبالنون (في مفرق) بفتح الميم وكسر الراء: أي مكان فرق الشعر (رأسه فشقه) مستعيناً (به) أي: المنشار، واستمرّ يشقه (حتى وقع شقاه) بكسر الشين المعجمة: أي: جانباه على الأرض (ثم جيء بالغلام) ولعل تأخيره حتى يرى ما فعل بصاحبه فيرجع عما هو عليه (فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدفعه إلى نفر) بفتح أوليه اسم جمع يقع على جماعة من الرجال خاصة: ما بين الثلاثة إلى العشرة ولا واحد له من لفظه (من أصحابه) أي: الملك: أي أتباعه وخدمه أو من أصحاب الغلام، ويؤيده قوله فيما يأتي: ما فعل أصحابك فقصد به زجرهم عن أن يقعوا فيما تسبب عنه عذابه (فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا) من ألفاظ الكنايات يكنى بها عن المجهول وعما لا يراد التصريح به قاله في «النهاية» (فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه) فاتركوه، بدليل (وإلا فاطرحوه) أي: وإلا يرجع فاطرحوه، فحذف فعل الشرط لدلالة سابق الكلام عليه (فذهبوا به فصعدوا) بكسر العين المهملة (به) أي: جعلوه صاعداً أو صعدوا بسببه أو معه (الجبل فقال) الغلام (اللهم اكفنيهم بما

شئت) أي: بمشيئتك، فما مصدرية أو موصولة، أي: بالذي شئت من أنواع الكفاية إما بإهلاكهم أو بغيره (فرجف) بفتح أوليه الراء فالجيم: أي تحرك واضطرب (بهم الجبل) فسقطوا أي: بسبب اضطرابه: وفيه نصر من توكل على الله سبحانه وانتصر به وخرج عن حول نفسه وقواها (وجاء) الغلام (يمشي إلى الملك) ليريه آية الله تعالى بنصر أهل دينه لينكشف عن قلبه حجب الغواية فيرجع إلى الإيمان (فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال كفانيهم الله تعالى) وحاق سوء فعلهم بهم (فدفعه إلى نفر) آخرين (من أصحابه، فقال اذهبوا به فاحملوه في قرقور) في النهاية هي السفينة العظيمة وجمعها قراقير (وتوسطوا به البحر) أي: ليبعد الغور فيتعذر الخلاص (فإن رجع عن دينه) فاتركوه (وإلا) أي: وإلا يرجع عنه (فاقذفوه) بكسر الذال المعجمة، أي: ارموه بقوّة (فذهبوا به) حتى بلغوا وسط البحر (فقال) الغلام (اللهم اكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة) أي: انقلبت بهم (فغرقوا) يحتمل أنه كان معهم في القرقور فنجاته دونهم آية وهذا هو الأقرب/ ويحتمل أنه كان في قرقور آخر فغرق قرقورهم ونجا ما كان هو فيه (وجاء) الغلام (يمشي إلى الملك) ليريه الآيات الكبرى المرّة بعد الأخرى ليبصر ضياء الإيمان، ولكن لا تبصر أعين العميان (فقال له الملك ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله تعالى، فقال) الغلام (للملك: إنك لست بقاتلي) أي: في أي حال من الأحوال كما يقتضيه تأكيد النفي بزيادة الباء في الخبر (حتى تفعل) أي: إلا في حال أن تفعل (ما آمرك به، قال) الملك (ما هو) أي: أيّ شيء الأمر الذي تأمرني به (قال أن تجمع الناس في صعيد واحد) أي: أرض واحدة ومقام واحد (وتصلبني) بضم اللام من الصلب وهو تعليق الإنسان للقتل، وقيل: شد صلبه على خشبة، كذا في «مفردات الراغب» (على جذع) بكسر الجيم وسكون الذال المعجمة: أي عود من أعواد النخل

وجمعه جذوع (ثم خذ سهماً من كنانتي) بكسر الكاف وبنونين بينهما ألف: بيت السهام (ثم ضع السهم في كبد) بفتح فكسر، أو بفتح، أو كسر مع سكون للثاني فيهما: أي وسط (القوس ثم قل) أتى بثم لتفاوت منزلة ما بعدها وما قبلها، وهي قد تستعار لذلك كما في «الكشاف» في قوله تعالى: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} (البقرة: 199) وإلا فمقتضى المقام الإتيان بالفاء، لأن ذلك الذكر مطلوب منه عقب وضع السهم في كبد القوس بلا مهلة (باسم ا) . قال المصنف في «شرح مسلم» نقلاً عن الكتاب إنها تكتب في هذا وأمثاله بإثبات الألف بعد الموحدة. قال: وإنما تحذف إذا كانت البسملة بجملتها لكثرته كذلك فخفف بحذفها (ربّ الغلام) تمم به الغلام لئلا يوهم الملك الحاضرين أن الغلام أراد بقوله باسم الله معبود ذلك الملك أو الملك وإن كان لفظ الجلالة لم يسم به غير الله تعالى، ونظيره ما حكي عن السحرة {قالوا آمنا بربّ العالمين ربّ موسى وهرون} (الأعراف: 121 - 122) وإلا فالجلالة أعرف الأسماء ومتعلق الأوصاف الحسنى (ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك) المذكور (قتلتني) إسناد القتل إليه مجاز عقلي: أتيت بما جعله الله سبباً لقتلي، وقصد الغلام من هذا الكلام إفشاء توحيد الله تعالى بين الناس وإظهار أن لا مؤثر في شيء سواه، ولم يفطن الملك لذلك لفرط غباوته (فجمع) الملك (الناس في صعيد) مقام (واحد وصلبه) الضمير المستكن يعود للملك والبارز للغلام (على جذع ثم أخذ سهماً من كنانته) أي: كنانة الغلام (ثم وضع السهم في كبد) وتر (القوس، ثم قال: باسم الله ربّ الغلام) أي: أرميه لأقتله (ثم رماه فوقع السهم في صدغه) بضم الصاد وسكون الدال المهملتين: هو ما بين العين إلى شحمة الأذن (فوضع) الغلام (يده في) أي على (صدغه) لتألمه من السهم (فمات، فقال الناس) لما رأوا الآية العظمى الشاهدة تعالى بالوحدانية وأنه الفاعل المختار ولا فاعل سواه وأنه هو الإله (آمنا برب الغلام، فأتى) بصيغة المجهول (الملك) أي: حين وقع

فيما حذر منه من توحيد الله تعالى والإيمان به (فقيل له أرأيت) بفتح التاء: أي أخبرني (ما كنت تحذر) ما مبتدأ والجملة صلته والعائد محذوف أي تحذيره، والخبر (قد وا نزل بك حذرُك) أو ما كنت تحذر منه من إيمان الناس وقع بك، والفضل بين قد ومدخولها بالقسم للتأكيد والاهتمام الذي يقتضيه المقام (قد آمن الناس) تفسير للذي كان يحذر منه (فأمر) بالبناء للفاعل: أي الملك أو بالبناء للمفعول (بالأخدود) بضم الهمزة والدال المهملة الأولى وسكون المعجمة بينهما واو وبين الدالين (بأفواه السكك) الأفواه جمع فوه/ والسكك بكسر أوله المهمل وفتح ثانيه جمع سكة: وهي الطرق، والمراد من أفواهها أبوابها (فخدت) بضم الخاء المعجمة وتشديد المهملة أي شقت الأخاديد (وأضرم) بالبناء للمجهول (فيها) أي: في الأخدود (النيران) جمع نار (وقال) أي: الملك (من لم يرجع عن دينه) أي: الإيمان الذي صار إليه (فأقحموه) بهمزة القطع: أي ألقوه كرهاً (فيها أو) شك من الراوي (قيل له) أي: لمن لم يرجع عن دينه (اقتحم) أي: النار فالمفعول محذوف، والمراد أنه شك هل أمرهم بإلقاء من أبى، أو بأمره أن يلقى نفسه فيها (ففعلوا) أي: ما أمروا به من الأخدود وما بعده، واستمروا كذلك (حتى جاءت امرأة ومعها صبيّ لها) أي: في غير أوان الكلام كما أشار إليه المصنف، وزاد أنه كان سنه أكبر من سن صاحب المهد وإن كان صغيراً. قلت: جاء في رواية عند أبي قتيبة: أنه كان ابن سبعة أشهر، ولم يذكره صاحب «الابتهاج» . وفي «المعراج» : ذكر ابن المشاطة وشاهد يوسف وصاحب جريج وعيسى ابن مريم. وقال غيره: وقد تكلم في الصغر جماعة وبلغ عدّه لهم عشرة. ولا ينافي خبر «الصحيحين» لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة وذكر عيسى وصاحب جريج وابن المرأة التي مر عليها بامرأة يقال لها: زنت، لاحتمال أنه قاله قبل أن يعلم الزيادة، أو أن المراد من بني إسرائيل، وقد نظم الحافظ جلال الدين السيوطي أسماءهم فقال: تكلم في المهد النبيّ محمد ويحيى وعيسى والخليل ومريم ومبري جريج ثم شاهد يوسف وطفل لدى الأخدود يرويه مسلم

وطفل عليه مر بالأمة التي يقال لها تزني ولا تتكلم وماشطة في عهد فرعون طفلها وفي زمن الهادي المبارك يختم قلت: وقد نظمت أسماءهم في أبيات ستأتي إن شاء الله تعالى في باب فضل ضعفة المسلمين (فتقاعست) أي توقفت ولزمت موضعها وكرهت (أن تقع فيها) أي: في النار (فقال لها الغلام) بلسانه (يا أماه) بسكون الهاء وهي الوقف لحقت آخر المندوب المتفجع عليه (اصبري) أي: على هذا العذاب فإنه يئول إلى جزيل الثواب (فإنك على) الدين (الحق) أي: الإيمان، وفي «الكشاف» : وقيل: قال لها قعي ولا تقاعسي، وقيل ما هي إلا غميضة. فصبرت (رواه مسلم) ، وكذا رواه الترمذي، وفيه بعض اختلاف وزيادة ونقص، وقوله في الحديث: (ذروته) أي: (أعلاه، وهي بكسر الذال المعجمة وضمها) وجمعها ذرى بضم ففتح (والقرقور بضم القافين) وإسكان الراء المهملة بينهما (نوع من السفن) تقدم عن «النهاية» أنه السفينة العظيمة (وانكفأت) السفينة (أي انقلبت، وتقاعست) بالقاف والعين والسين المهملتين (توقفت وجبنت) عن ولوج الأخدود، وقضية مراعاة سياق الحديث ذكر هذه المادة آخر ما يذكر من غريب الحديث، وقد وجد كذلك في أصل قديم (والصعيد هنا) أي: في قوله: «في صعيد واحد» (الأرض البارزة) ومن هذه المادة قوله في الحديث القدسي «لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد» الحديث، وقيده بقوله هنا احترازاً عنه في نحو قوله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} (النساء: 43) فإن المراد منه التراب (والأخدود) بضم الهمزة (الشقوق) بضم أولِه جمع شق (في الأرض كالنهر الصغير، وأضرم) بالضاد

المعجمة (أوقد) وفي الحديث بيان شرف الصبر، وأنه وإن عظم في الألم وتحمل الشائد فهو سهل في جنب ما أعد لصاحبه من الثواب. وفيه فضل الثبات على الدين وإن عذب بأنواع العذاب كما وقع من بلال في أول الإسلام، وإن كان يجوز في مثل هذه الحالة الإتيان بألفاظ الكفر مع الإيمان القلبي لعذر الإكراه كما وقع من عماربن ياسر، إلا أن ما وقع من بلال أفضل لما في الحديث: «إن مسيلمة أخذ أسيرين من أصحاب النبي، فقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ فقال: رسول الله فقال: ما تقول فيّ؟ فقال: وأنت: فأرسله، وقال للآخر ما تقول في محمد؟ فقال: رسولالله، فقال: وما تقول فيّ؟ فقال: لا أدري فلم يزل يسأله وهو يجيبه بذلك حتى قطعه إرباً إرباً، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أما أحدهما فقد أخذ برخصةالله، وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئاً له» وأورد الحديث ابن كثير وغيره في تفاسيرهم. 317 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: مرّ النبيّ بامرأة تبكي عند قبر) قال في «فتح الباري» : لم أقف على اسم المرأة ولا على اسم صاحب القبر. وفي رواية مسلم ما يشعر بأنه ولدها، وصرح به في مرسل يحيىبن أبي كثير عن عبد الرزاق فقال: قد أصيبت بولدها (فقال لها اتقي الله واصبري) . وفي رواية أبي نعيم في «المستخرج» «فقال: يا أمة الله اتقي ا» . قال القرطبي: الظاهر أنها كان في بكائها قدر زائد من نوح أو غيره، ولهذا أمرها بالتقوى. قال في «فتح الباري» : ويؤيده أن في مرسل يحيىبن أبي كثير المذكور «فسمع منها ما يكره، فوقف عليها» . وقال الطيبي: قوله اتقي الله توطئة لقوله: واصبري، كأنه قال لها: خافي غضب الله إن لم تصبري واصبري ليحصل لك الثواب (فقالت إليك) اسم فعل بمعنى تنحّ وأبعد (عني فإنك لم تصب) بالبناء للمجهول (بمصيبتي) . وفي رواية للبخاري: «فإنك خلو من مصيبتي» وهو بكسر الخاء وسكون اللام. ولمسلم «ما تبالي بمصيبتي» . ولأبي يعلى من حديث أبي هريرة «أنها قالت: يا عبد الله إني الحراء الثكلى، ولو كنت مصاباً لعذرتني» (ولم تعرفه) جملة حالية أي خاطبته بذلك غير عارفة أنه النبيّ (فقيل لها: إنه النبيّ) . وفي رواية لأبي يعلى: «فمر بها رجل فقال لها: هل تعرفينه؟ قالت: لا» وللطبراني في

«الأوسط» من طريق عطية عن أنس: أن الذي سألها هو الفضلبن العباس. زاد مسلم في رواية له «فأخذها مثل الموت» أي من شدة الكرب الذي أصابها لما عرفت أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حياء منه ومهابة (فأتت) للاعتذار (باب النبي فلم تجد عنده بوابين) . قال الطيبي: فائدة هذه الجملة أنه لما قيل لها: إنه النبي، استشعرت خوفاً وهيبة في نفسها وتصورت أنه مثل الملوك له حاجب أو بواب يمنع الناس من الوصول إليه، فوجدت الأمر بخلاف ما تصوّرته (فقالت لم أعرفك) في حديث أبي هريرة: «وا ما عرفتك» (فقال) (إنما الصبر) أي الذي يحمد عليه صاحبه كل الحمد ما كان (عند الصدمة الأولى) أو عند مفاجأة المصيبة. بخلاف ما بعدها فإنه على عود الأيام يسلو، قاله الخطابي. وقال الطيبي: صدر الجواب منه بهذا عن قولها لم أعرفك على أسلوب الحكيم، كأنه قال لها: دعي الاعتذار فإني لا أغضب لغيرالله، وانظري إلى نفسك في تفويتك الثواب الجزيل بعدم الصبر عند مفاجأة المصيبة. وقال ابن المنير: فائدة جواب المرأة بذلك أنها لما جاءت طائعة لما أمرها به من التقوى والصبر معتذرة من قولها الصادر عن الحزن، بين لها أن حق هذا الصبر أن يكون في أول الحال فهو الذي يترتب عليه الثواب: أي كماله اهـ. (متفق عليه) وكذا أخرجه الترمذي والنسائي كما في «أمالي الأذكار» للحافظ ابن حجر، لكن في تيسير الوصول للديبع: أخرجه الخمسة إلا النسائي، يعني: الشيخين وأبا داود والترمذي فليحرر ذلك، (وفي رواية) أي أخرى (لمسلم تبكي على صبيّ لها) وهذه الرواية هي المشار إليها في كلام «فتح الباري» السابق المشعرة بأن صاحب القبر كان ابناً للباكية. 328 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يقول الله تعالى) هذا من الأحاديث القدسية وهي أكثر من مائة حديث جمعها بعضها في جزء كبير، والفرق بينه وبين القرآن أن القرآن اللفظ المنزل للإعجاز، والقدسي ما أخبر الله به نبيه بالإلهام أو رؤيا المنام أو غيره من كيفيات الوحي، فعبر عنه بعبارته، فلا يكون معجزاً ولا متواتراً

كالقرآن، ولذا لم يثبت له شيء من أحكامه: من حرمة حمله ومسه على المحدث، وقراءته على الجنب، وبيعه في رواية عن أحمد، وكراهته عندنا، وحصول الثواب على كل حرف منه لقارئه بعشر حسنات وغير ذلك. ثم لروايته صيغتان تقدم ذكرهما في باب الإخلاص. وما عبر به في هذه الرواية فهو قريب من العبارة الأولى وهي عبارة السلف التي عبر بها المصنف ثمة، والله أعلم (ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت) بفتح الموحدة (صفية) أي: حبيبه لأنه يصافيه وده ويخلصه محبته، فعيل بمعنى فاعل أو مفعول (من أهل الدنيا) بيان للواقع (ثم احتسبه) بأن يرجو ثوابه ويدخره عند الله تعالى وذلك ينبىء عن الصبر والتسليم (إلا الجنة) أي دخولها مع الناجين، وذلك لا ينافي الورود تحلة القسم (رواه البخاري) في كتاب الرقاق من «صحيحه» . 339ــــ (وعن عائشة رضي الله عنها) جملة دعائية مستأنفة أو خبرية في محل الحال ونظيره فيهما جملة «» وينبغي أن يراد بهما الأول منهما لإحراز ثواب الدعاء به (أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن) شأن (الطاعون) وحقيقته كما يؤخذ من الأحاديث بثر مؤلم يخرج غالباً في الآباط مع لهب واسوداد حواليه وخفقان القلب والقيء، وهو كما قال الحافظ ابن حجر: أخصّ من الوباء لأنه وخز الجنّ، والوباء المرض العام (فأخبرها أنه كان عذاباً يبعثه الله على من يشاء) في نسخة من البخاري (على من شاء) أي من كافر أو عاص بارتكاب كبيرة أو إصرار على صغيرة (وجعله رحمة للمؤمنين) قال الشيخ زكريا في حاشيته على البخاري: أي غير مرتكبي الكبائر. والتخصيص يحتاج للتوقيف (فليس من عبد يقع في الطاعون) أي به أو في بلده، أو هو من قبيل التجريد نحو: {لكم في رسول الله أسوة حسنة} (الأحزاب: 21) . وفي رواية بحذف في (فيمكث في بلده) التي وقع بها الطاعون (صابراً) على

ما نزل به أو ببلده (محتسباً) أي راجياً للأجر والثواب من الله (يعلم أنه لا يصيبه) شيء (إلا ما كتب له) العائد على ما محذوف (إلا كان له مثل أجر الشهيد) وإن مات بغير الطاعون، فإنه حيث كان موصوفاً بما أشار إليه الحديث من قصده ثواب الله ورجائه موعوده، عارفاً أنه لو وقع به فبتقديرالله. وإن صرف عنه فكذلك، وهو غير متضجر لو وقع به معتمداً على ربه في حال صحته وسقمه كان له أجر الشهيد وإن مات بغير الطاعون كما هو ظاهر الحديث، ويؤيده رواية «من مات في الطاعون فهو شهيد» ولم يقل بالطاعون/ وكذا لو وجد من اتصف بهذه الصفات ثم مات بعد انقضاء زمن الطاعون، فإن ظاهر الحديث أنه شهيد، ونية المؤمن أبلغ من عمله، أما من لم يتصف بالصفات المذكورة فإن مفهوم الحديث أنه لا يكون شهيداً وإن مات بالطاعون. ومما يستفاد من هذا الحديث أن الصابر في الطاعون المتصف بالصفات المذكورة يأمن من فتان القبر لأنه نظير المرابطة في سبيلالله، وقد صح ذلك في المرابط كما في حديث مسلم وغيره اهـ ملخصاً من «فتح الباري» (رواه البخاري) وكذا أحمد والنسائي. 3410 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: سمعت النبيّ يقول) جملة حالية عن مفعول سمعت، وأتى بها مضارعة بعد سمع: حكاية للحال الماضية (إن الله عز وجل) أي: عزّ شأنه وجل برهانه، وأتى بهما وإن كانا في المعنى متقاربين لأن مقام الثناء مقام إطناب، وهذا حديث قدسي لأنه روى عن ربه سبحانه أنه (قال) أي: بكلامه النفسي الذي هو صفة ذاته (إذا ابتليت عبدي) أي عاملته معاملة المبتلي: أي المختبر، فإن الابتلاء إنما يكون من الجاهل بعواقب الأحوال وا بكل شيء عليم، وهو يستعمل في الخير والشر (بحبيبتيه فصبر) على فقدهما محتسباً لأجرهما مدخراً له عند الله تعالى (عوّضته منهما) أي بدلهما فهو كقوله تعالى: {أرضيتم بالحيوة الدنيا من الآخرة} (التوبة: 38) (الجنة) أي: مع الفائزين أو منازل مخصوصة منهما (يريد) أي: النبي بحبيبتيه (عينيه) محضهما بذلك لأنهما أحبّ

أعضاء الإنسان إليه (رواه البخاري) وأخرج الترمذي وصححه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله: «يقول الله عز وجل: من أذهبت حبيبتيه فصبر واحتسب لم أرض له ثواباً دون الجنة» ووجه هذا الجزاء أن فاقدهما حبيس، فالدنيا سجنه حتى يدخل الجنة على ما ورد في الحديث: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» . 3511ــــ (وعن عطاء) بالمهملتين المفتوحتين والمد (ابن أبي رباح) بالراء المفتوحة وبالموحدة وبالمهملة. وفي «الكاشف» للذهبي: عطاءبن أبي رباح هو أبو محمد القرشي مولاهم المكي أحد الأعلام، روى عن عائشة وأبي هريرة، وعنه الأوزاعي وابن جريج وأبو حنيفة والليث، خرّج عنه الستة أي وغيرهم، عاش ثمانين سنة ومات سنة مائة وأربع عشرة، وقيل: خمس عشرة اهـ. وسأذكر زيادة على هذا في الكلام على ترجمته في «رجال الشمائل» أعانني الله على إتمامه (قال) عطاء (قال لي) اللام لام التبليغ (ابن عباس رضي الله عنهما: ألا) بفتح الهمزة وتخفيف اللام أداة عرض بدىء بها ليتوجه السامع لما بعدها (أريك امرأة) من الإراءة البصرية ولذا تعدت لمفعول فقط (من أهل الجنة) في محل الصفة لامرأة (فقلت بلى، قال: هذه المرأة السوداء) اسمها: سعيرة بضم المهملة الأولى وفتح الثانية وسكون التحتية الأسدية، وكنيتها: أم زفر بضم الزاي وفتح الفاء والراء آخره (أتت النبي فقالت) مخبرة عما نزل بها من غير تبرم ولا تضجر، لأن البرّ يهدي إلى البرّ، طالبة منه الدعاء برفع دائها (إني أصرع) بضم الهمزة من الصرع: علة معروفة (وإني أتكشف) من التفعل. وفي نسخة من الانفعال: أي ينكشف بعض بدني من الصرع (فادع الله لي) أي: بردع الصرع الناشىء عنه التكشف (قال إن شئت صبرت) بكسر تاء الخطاب فيهما وصبرت مفعول شاء: أي الصبر على هذا الدعاء محتسبة (ولك الجنة) . وفي نسخة: «الأجر» ، جملة حالية أفادت فضل الصبر وجواب الشرط محذوف: أي فاصبري،

ويجوز أن تكون صبرت جواب الشرط ومفعول شاء محذوف: أي إن شئت جزيل الأجر صبرت، ومثل هذا الإعراب يجري في قوله: (وإن شئت دعوت الله تعالى أن يعافيك، فقالت) مختارة للبلاء والصبر عليه لجزيل الثواب المرتب عليه (أصبر) أي على الصرع لأنه يرجع إلى النفس، ولما كان التكشف راجعاً لحق الله تعالى: إذ هي مأمورة بستر جميع البدن لكونه عورة (قالت: إني أتكشف فادع الله لي أن لا أتكشف، فدعا لها) فهي من أهل الجنة بوعد الصادق المصدوق (متفق عليه) . قيل: أحاديث الباب تشعر أن نفس المصائب لا ثواب فيها إنما الثواب على الصبر عليها والاحتساب، وقد بسطت الكلام على ذلك في باب أذكار المريض من «شرح الأذكار» . 3612ــــ (وعن أبي عبد الرحمن) كنية (عبد ابن مسعود رضي الله عنه) ابن غافل بمعجمة وفاء ابن حبيب الهذلي. وكان ابن مسعود حالف في الجاهلية عبد الحارثبن زهرية. أسلم عبد الله قديماً بمكة سادس ستة لما مر به وهو يرعى غنماً لعقبةبن أبي معيط فأراه معجزة فأسلم، ثم هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة، وشهد بدراً وبيعة الرضوان والمشاهد كلها؛ وصلى للقبلتين، وكان يكرمه ويدنيه ولا يحجبه، وكان مشهوراً بين الصحابة بأنه صاحب سرّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسواكه ونعليه وطهوره في السفر، وبشره بالجنة وقال: «رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد، وسخطت لها ما سخط لها ابن أم عبد» وكان يشبه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هديه وسمته، ولي قضاء الكوفة ومالها في خلافة عمر وصدراً من خلافة عثمان، ثم رجع إلى المدينة، ومات بها، وقيل: بالكوفة سنة اثنتين وثلاثين عن بضع وستين سنة، وصلى عليه الزبير ليلاً ودفنه بالبقيع بإيصائه له بذلك لكونه كان قد آخى بينهما. روي له ثمانمائة حديث وثمانية وأربعون حديثاً، أخرجا منها أربعة وستين، وانفرد البخاري بأحد وعشرين، ومسلم بخمسة وثلاثين (قال: كأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ

يحكي نبياً من الأنبياء) جملة حالية أتى بها بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية، وبقوله: كأني أنظر إلخ. إشارة لكمال استحضاره لها. قال مجاهد: وذلك النبيّ المحكيّ هو نوع عليه السلام، لكن تعقبه الحافظ في «الفتح» بأن ظاهر صنيع البخاري إذ أورد الحديث في أحاديث ترجمة ذكر بني إسرائيل أن النبيّ من أنبيائهم فيحمل عليه (صلوات الله وسلامه عليهم) وقوله: (ضربه قومه فأدموه) بيان للمحكيّ، ويحتمل على بعد كونه بياناً للحكاية فتكون الحكاية للفعل: أي أتى بفعل مثل فعل ذلك النبي المحكي فعله، والمحكي به ما وقع له بأحد من شج رأسه وكسر رباعيته (وهو) أي: ذلك النبيّ المحكيّ عنه، أو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) وفي هذه الجملة أنواع من الصبر والحكم: الأول: أنه مسح دمه لئلا يصيب الأرض فيحل بهم البلاء. الثاني: أنه قابل جهلهم بفضله فدعا لهم بغفران ذنب تلك الجريمة منهم إن كان الدعاء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا مطلقاً وإلا لآمنوا عن آخرهم إذهو مجاب الدعوة. الثالث: أنه اعتذر عن سوء فعلهم بعدم علمهم. ولا تنافي بين الدعاء بما ذكر إن كان من نوح، قوله: {لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً} (نوح: 26) لإمكان حمل ما في حديث الباب على ما قبل إياسه من إيمانهم وما في الآية على ما بعده (متفق عليه) وينبغي للسالك التحلي بما فيه كما روي أن جندياً ضرب بعض العارفين وهو لا يعرفه/ فقيل إنه فلان، فعاد إليه معتذراً، فقال: إبي أبرأت ذمتك ودعوت لك لما ضربتني، قال: وكيف ذاك؟ قال: لأنك كنت سبباً لدخولي الجنة فلا أكون سبباً لعذابك، فأكب على الشيخ وتاب. 3713 - (وعن أبي سعيد) الخدري سعدبن مالكبن سنان (وأبي هريرة) الدوسي عبد الرحمنبن صخر (رضي الله عنهما) حال كونهما راويين (عن النبي قال:) بيان

للمرويّ (ما يصيب) بضم أوله (المسلم) حقيقة، وخص لأن الثواب الأخروي خاص به وهو مفعول الفعل (من نصب) بفتحتين: التعب، ومن صلة، ونصب فاعله (ولا وصب) بفتحتين: وجع دائم، خاص بعد عام، لما في الوجع كذلك من الشدة المؤدية إلى التضجر والسخر بالقضاء المحبط للثواب أو الإسلام والعياذ با، أو تأكيد بعطف مترادفات أو قريبة من الترادف اهتماماً بهذا المقام الخطير، ليكون العلم بعظم الثواب مانعاً من الوقوع في ورطة خطر الضجر (ولا همّ ولا حزن) فرق بينهما بأن الأول للمستقبل والثاني للماضي، وقيل غير ذلك مما بينته في باب «أذكار المساء والصباح من شرح الأذكار» . قال وكيع: لم يسمع في الهمّ أنه كفارة إلا في هذا الحديث (ولا أذى) هو كل ما لا يلائم النفس فهو أعمّ الكل (ولا غمّ) هو أبلغ من الحزن لأنه حزن يشتد بمن قام به حتى يصير بحيث يغمى عليه (حتى) ابتدائية أو عاطفة أو بمعنى إلى الغائية بيان وتقريب لأدنى مراتب الأذى (الشوكة) بالرفع أو الجر (يشاكها) خبر أو حال، والضمير البارز هو المفعول الثاني على تقدير الجار، والنصب كذلك سماعي وهذا منه، أو على تضمين فعل متعد لاثنين: أي يذاقها، والأول مضمر نائب الفاعل يعود على المسلم من أشكته أدخلت في جسده شوكة (إلا كفر ا) استثناء من أعم الأحوال المقدرة: أي ما حصل لإنسان في حال المصيبة حال من الأحوال إلا الحالة التي يكفر الله (بها) أي: بسببها (من خطاياه) ابتدائية أو تبعيضية. قيل: وهو أولى لأن بعض الذنوب لا تكفر بذلك كحق الآدمي والكبائر (متفق عليه) وأخرجه الترمذي. وفيه أن الأمراض وغيرها من المؤذيات التي تصيب المؤمن مطهرة له من الذنوب، وأنه ينبغي للإنسان ألا يجمع على نفسه بين ضررين عظيمين: الأذى الحاصل وتفويت ثوابه، وقد ورد مرفوعاً «المصاب من حرم الثواب» (والوصب: المرض) أي: الدائم كما تقدم أو الشديد الكثير الأوجاع. قال في «الصحاح» : قد وصب الرجل يوصب فهو وصب وأوصبه الله فهو موصب. والوصب: المرض الشديد الكثير الأوجاع اهـ.

3814 - (وعن) عبد الله (ابن مسعود رضي الله عنه قال: دخلت على النبي) عائداً، وهو يوعك (بالبناء للمجهول) من الوعك، وسيأتي تفسيره في الأصل (فقلت: يا رسول الله إنك توعك) بالفوقية مبني للمفعول (وعكاً شديداً) يحتمل أنه عرف ذلك من لمس بعض أعضائه أو من ظهور الآثار عليه (قال أجل) بفتحتين وثانيه جيم وآخره لام ساكنة وتبدل الهمزة وموحدة فيقال بجل. في «الصحاح» : أجل جواب مثل نعم. قال الأخفش إلا أنه أحسن من نعم في التصديق، ونعم أحسن منه الاستفهام اهـ. (إني) بيان للإجمال في قوله أجل (أوعك) بالبناء للمجهول (كما يوعك رجلان منكم) فالكاف مفعول مطلق، واحترز بقوله منكم عن نحو الأنبياء، فإنه يحتمل أنه وإن وعك أشد من وعكهم، زيادة في علوّ درجته المقتضية لمزيد الابتلاء الشاهد به «أشدكم بلاء الأنبياء» الحديث إلا أنه لا يكون وعكه كوعك اثنين منهم اهـ. والله أعلم (قلت: ذلك) أي زيادة الوعك (أن لك) بفتح الهمزة أي لأن لك (أجرين/ قال أجل ذلك) أي تضاعف الأجر (كذلك) أي كتضاعف المرض، ثم ذكر الدليل على ترتب الثواب على أنواع البلاء عند حصول الصبر فقال (ما من مسلم) من مزيدة للاستغراق فيدخل فيه الكامل وغيره (يصيبه) بضم أوله (أذى) أي: ما يتأذى به (شوكة) بدل من أذى وذكرها لأنها أخف أنواعه، ولما كان ما فوقها تعجز العبارة عن تفصيل جميعه أجمله بقوله: (فما فوقها إلا كفّر الله به سيئاته) أي الصغائر المتعلقة بحقوق الله تعالى (كما تحط الشجرة ورقها. متفق عليه) وكذا رواه أحمد كما قال الحافظ، وكذا رواه النسائي. وأخرج ابن سعد في «الطبقات» ، والبخاري في «الأدب المفرد» ، وابن ماجه والحاكم وصححه، والبيهقي في «الشعب» عن أبي سعيد قال: «دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محموم، فوضعت يدي فوق القطيفة، فوجدت حرارة الحمّى فوق القطيفة، فقلت: «ما أشد حمّاك يا رسول الله» قال: «إنا كذلك معشر الأنبياء يضاعف علينا الوجع فيضاعف الأجر» الحديث. ذكره صاحب «المرقاة في شرح المشكاة» (والوعك) بإسكان المهملة (مغث الحمى) أي حرارتها ووهنها للبدن وإضعافها إياه. وفي «مختصر النهاية»

للسيوطي: أنه ألم الحمى (وقيل الحمى) وهذا الحديث يشهد للقول المختار من حصول الأجر على الأمراض والأعراض: أي بشرط الصبر وعدم التبرم من القدر والسخط منه، وقد بسطت هذا المقام في «شرح الأذكار» . 3915 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من يرد الله به خيراً) حالاً ومآلاً (يصب منه) إما في بدنه أو ماله أو محبوبه. وفي الحديث: «المؤمن لا يخلو من علة أو قلة أو ذلة» وإنما كان خيراً حالاً لما فيه من اللجإ إلى المولى، ومآلاً لما فيه من تكفير السيئات أو كتب الحسنات أو هما جميعاً (رواه البخاري) في صحيحه ورواه الإمام أحمد (وضبطوا) أي شراح الحديث الصحيح (يصب) المذكور في الحديث (بفتح الصاد) أي المهملة على البناء للمفعول ولم يذكر الفاعل للعلم به وأنه الله سبحانه (وكسرها) على البناء للفاعل. 4016 - (وعن أنس) بن مالك رضي الله عنه (قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يتمنينّ) بتشديد النون (أحدكم) أي الواحد منكم (الموت) وفي التعبير بيتمنى دون يسأل إيماء إلى أنه قد يكون من المستحيل لعدم مجيء حينه، فحصوله حينئذٍ محال وإن كان بأنواع السؤال. فسوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار، والمنهي عنه على وجه التنزيه تمني الموت (لضرّ) بفتح الضاء المعجمة وتضم، وضبط هنا بذلك ضد النفع (أصابه) في نفسه أو ماله أو من يلوذ به أو نحوه، لما يدل عليه من الجزع في البلاء وعدم الرضا بالقضاء، أما تمنيه شوقاً

للقاء ربّ العالمين أو شهادة في سبيل الله أو ليدفن ببلد شريف أو لخوف فتنة في الدين فلا كراهية فيه، وعليه يحمل ما جاء عن كثيرين (فإن كان) من أصابه الضرّ (لا بد) أي لا فرق ولا محالة كما في «القاموس» (فاعلاً) لتمني الموت لما قاساه من المحن الدنيوية التي لو كشف له عن حقائق اللطف فيها لرآها من «المنح الإلهية» ، ولو لم يكن فيها إلا رجوع العبد إلى مولاه، وخروجه عن حوله وقواه لكفاه، فكيف وهي سبب لتكفير الخطايا ورفع الدرجات (فليقل: اللهم) يا أ، فالميم عوض من حرف النداء؛ ولذا امتنع جمعهما إلا في ضرورة كقوله: أقول يا اللهم يا اللهما وقد بسطت الكلام فيما يتعلق بها في باب ما يقول إذا توجه إلى المسجد من «شرح الأذكار» (أحينى) بقطع الهمزة: أي أدم لي الحياة الحسية (ما كانت الحياة) المسؤولة بقوله أحيني، وما مصدرية ظرفية أي مدة كون الحياة (خيراً لي) بأن أوفق لمراضاة الله تعالى وأداء عبادته وأسلم من الخذلان والغفلة والنسيان (وتوفني) أي أمتني (إذا كانت الوفاة خيراً لي) بأن أنعكس الأمر (متفق عليه) وأخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حيان في «صحيحه» من طرق، وزاد في بعضها: «لضرّ نزل به في الدنيا» واختلف الصوفية في الأفضل: من طلب الحياة لما ورد من حديث: «طوبى لمن طال عمره وحسن عمله» ولرجاء التوبة وحسن العمل وحصول الأمل أو يطلب الموت نظراً إلى الشوق إلى الله وحصول لقياه، وقد ورد «من أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه» وخوفاً من التغير ولقاء المحن والوقوع في الفتن. والمختار التفويض والتسليم كما دل عليه الحديث الشريف. 4117 - (وعن أبي عبد ا) كنية (خباب) بفتح المعجمة وتشديد الموحدة الأولى، وقيل: كنيته أبو محمد، وقيل أبو يحيى (ابن الأرتّ) بفتح الهمزة والراء وتشديد الفوقية آخره، ابن جندلةبن سعدبن خزيمةبن كعببن زيد مناةبن تميم، فهو (رضي الله عنه) تميميّ في قول الأكثر، وقيل: خزاعي، وقال بعضهم: إنه تميمي النسب خزاعي الولاء زهري الحلف

لأن مولاته أم أنمار بنت سباع الخزاعية من حلفاء عوفبن عبد ابن عوفبن عبد الحارثبن زهرة. وهو من السابقين إلى الإسلام كان سادس ستة فيه، وعذّب في الله تعالى. قال مجاهد: أول من أظهر إسلامه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وخباب وصهيب وبلال وعمار وأم عمار، فأما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه قومه، وأما الآخرون: فألبسوهم أدرع الحديد ثم أصبروهم في الشمس فبلغ منهم الجهد ما شاء الله من حرّ الحديد والشمس. قال الشعبي: سأل عمربن الخطاب خباباً عما لقي من المشركين؟ فقال: يا أمير المؤمنين انظر إلى ظهري. فقال: ما رأيت كاليوم ظهر رجل. قال خباب: لقد أوقدت نار وسجيت عليها فما أطفأها إلا ودك ظهري. شهد بدراً والمشاهد كلها، ولما هاجر آخى بينه وبين تميم مولى حراشبن الصمة، وقيل: آخى بينه وبين جبربن عتيك. مرض خباب مرضاً شديداً. روى عن قيسبن أبي حازم قال: دخلنا على خباب وقد اكتوى سبع كيات فقال: لو ما أن رسول الله نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به. ونزل الكوفة ومات بها، وهو أول من دفن بظهر الكوفة من الصحابة، وكان موته سنة سبع وثلاثين. وقال علي رضي الله عنه لما نعى له «رحم الله خباباً، أسلم راغباً، وهاجر طائعاً، وعاش مجاهداً وابتلي في جسمه، ولم يضيع الله أجر من أحسن عملاً» وكان سنه حين موته ثلاثاً وسبعين سنة. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنان وثلاثون حديثاً اتفقا على ثلاثة منها، وانفرد البخاري باثنين ومسلم بواحد، وخرّج عنه أصحاب السنن (قال: شكونا إلى رسول الله) أي ما بنا من أذى الكفار وعذابهم بدليل قوله في الرواية الثانية «وقد لقينا من المشركين شدة» (وهو متوسد بردة له) أي: جاعلها تحت رأسه. والبرد بضم الموحدة: الشملة المخططة، وقيل كساء أسود مربع فيه صور، والبردة واحد البرد وجمعه أبراد وأبرد وبرود كما في «القاموس» ، والجملة حالية من رسول الله / وكذا قوله: (في ظل الكعبة) ، ويصح أن تكون الثانية حالاً من الضمير في متوسد فتكون متداخلة (فقلنا) بيان لشكواهم إليه (ألا) بفتح الهمزة وتخفيف اللام أداة استفتاح أو عرض (تستنصر) أي تسأل الله النصر (لنا؟ ألا تدعو لنا) أي: بذلك أو نحوه من كفهم عنا ومنعهم من أذانا (فقال) محرّضاً لهم على الصبر (قد كان من) بفتح الميم: أي الذين (قبلكم) من الأمم (يؤخذ الرجل) أي المؤمن منهم فالجملة خبر والرابط محذوف: أي

كان الذين قبلكم يؤخذ الرجل الذي آمن منهم ليعذب فيرجع عن إيمانه فما يرجع (فيحفر له في الأرض) بالبناء للمفعول والظرف نائب الفاعل وحذف الفاعل لعدم تعلق الغرض بعينه ويحتمل أنه مبني للفاعل: أي يحفر الآخذ، والظرف الثاني حال أو صلة يحفر (فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار) روى بالنون من نشرت الخشبة قال الحافظ في «الفتح» وهي أشهر في الاستعمال وبالهمزة من أشرت الخشبة بالمنشار، وبإبدالها ياء إما تخفيفاً أو من وشرت، ذكره ابن التين (فيوضع) أي المئشار (على رأسه) فيؤشر (فيجعل) أي يصير (نصفين ويمشط) أي يعذب (بأمشاط) جمع مشط، معروف (الحديد) أي يعذب بها (ما دون لحمه وعظمه) زيادة في تعذيبه ليرجع عن إيمانه. وفي نسخة من «البخاري» «ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب» و (ما يصده) أي: يمنعه أو يصرفه (ذلك) المذكور من أنواع العذاب. واستعمل فيه اسم الإشارة الموضوع للبعيد مع قربه، لأن الملفوظ به لكونه عرضاً لا يلقى زمانين كالبعيد، فأشار إليه بما يشار به للبعيد (عن دينه) والثبات عليه، وفيه مدح الصبر على العذاب على الدين، وعدم إقرار عين الكافر باللفظ بكلمة الكفر وإن كانت جائزة حينئذٍ للإكراه كما تقدم (وا) فيه الحلف من غير استحلاف، وهو مندوب لتأكيد ما يحتاج لتأكيده (ليتمن) بفتح التحتية (هذا الأمر) بالرفع فاعل يتم، وفي نسخة بضم التحتية ونصب الأمر على أنه مفعول يتم: أي ليتمنّ اهذا الأمر: أي دين الإسلام (حتى يسير) بالنصب لأنه مستقبل بالنسبة لما قبل زمن التكلم به (الراكب) التقييد به جرى على الغالب من أن المسافر يكون راكباً فلا مفهوم له، والمراد الجنس فيشمل ما فوق الواحد، أو يفهم ما فوقه من باب أولى لأنه إذا أمن الواحد مع انفراده فالعدد الأولى (من صنعاء) بالمد: مدينة عظيمة باليمن، وقيل إنها مدينة بالشام (إلى حضرموت) مدينة بقرب اليمن؛ وهو مركب مزجيّ غير مصروف لذلك وللعلمية (لا يخاف) أحداً (إلا ا) جملة حالية من فاعل يسير، والمعنى أن الإسلام يعم النواحي فيسير المسافر لا يخشى أحداً يعذبه على إيمانه ولا يفتنه في دينه فلا يخاف إلا الله سبحانه (و) لا يخاف إلا من الأسباب العادية على أموره والدنيوية فيخاف (الذئب) بكسر المعجمة بعدها تحتية بهمزة على الأصل وقد لا تهمز: سبع معروف أن يعدو (على غنمه) والسارق أن يغير على ماله ونعمه (و) تمام هذا الأمر: أي الإسلام وظهوره على سائر الأديان كائن

البتة (لكنكم تستعجلون) أي: تطلبون العجلة في الأمور ولكل شيء في علم الله أوان وإذا جاء الأوان يجيء. وقد وقع ما أخبر به المصطفى كما أخبر، فعم الإسلام وظهر وصار الراكب لا يخشى من يفتنه ويصده عن دينه: إنما يخشى بوائق الحدثان وبا المستعان، فهو من جملة علامات نبوّته، ولا يخالف هذا الحديث ما نقله ابن الأثير في «أسد الغابة» عن أبي صالح قال: «كان خباب قيناً يصنع السيوف؛ وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يألفه ويأتيه/ فأخبرت ملاوته بذلك فكانت تأخذ الحديدة الممحاة فتضعها على رأسه، فشكا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: اللهمّ انصر خباباً؛ فاشتكت مولاته أم أنمار رأسها، فكانت تعوي مثل الكلاب، فقيل لها اكتوي، فكان خباب يأخذ الحديدة المحماة فيكوي بها رأسها» اهـ. لتعدد الوقعات، واختلاف الأقوال لاختلاف الأحوال، والله أعلم. (رواه البخاري) في علامات النبوّة وفيما يأتي وفي كتاب الإكراه، ورواه أبو داود والنسائي. (وفي رواية) أي: للبخاري في باب ما لقي النبيّ وأصحابه من المشركين بمكة (وهو متوسد بردة) وفي نسخة «ببرد» أتى بها مع أنها في الرواية السابقة ليبين بها محل قوله: (وقد لقينا) أي معشر ضعفاء المسلمين (من المشركين شدة) أي: عظيمة كما يؤذن به التنوين، فكانوا يلقون بلالاً على قفاه في وقت الظهيرة ويجعلون على صدره الصخرة العظيمة، وكانوا يلقون خباباً على ظهره على النار وجعلوا سمية أم عمار بين جملين وأدخلوا في قلبها رمحاً فماتت رضي الله عنهم أجمعين، ثم هذه الشدائد التي حلت بأولئك الأماجد لكمال استعدادهم زيادة في علو درجاتهم ورفع شأنهم، وفي الحديث الشريف: «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل» وعلى قدر المقام يكون الابتلاء. وقد كانت قلوبهم راضية وأنفسهم بذلك مطمئنة، حتى لقد رد بعضهم جوار أقاربه للكفار، ورضي أن يعذب في الله ويبتلى فيه مع الأخيار، وشكواهم ليست عن تطجر ولا تبرم، وإنما هي لأنهم رأوا أن في السلام من ذلك

تفرغاً للعبادة، وتوجهاً إلى كمال السعادة، فأرشدهم المصطفى إلى أن غاية الأدب الصبر على مراد الله والرضا بقضاءالله.c لا ينعم المرء بمحبوبه حتى يرى الراحة فيما قضى 2418 - (وعن) عبد الله (بن مسعود) الهذلي وهو المراد إذا أطلق ابن مسعود (رضي الله عنه قال: لما كان يوم حنين) أي: زمن غزوتها: وهي واد بين مكة والطائف وراء عرفات، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلاً وهو معروف، وكانت وقعة حنين في شوال سنة ثمان من الهجرة عقب فتح مكة (آثر) بالمد أي: أعطى (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناساً) من المؤلفة ومن الطلقاء ومن رؤساء العرب يتألفهم (في القسمة) لغنائم هوازن (فأعطى الأقرع) بالقاف الساكنة بعدها مهملتان، لقب به لقرع كان في رأسه (ابن حابس) بالمهملة أوله وآخره وبعد الألف موحدة، وهو من سادات تميم، كان شريفاً في الجاهلية والإسلام (مائة من الإبل وأعطى عيينة) بضم المهملة وفتح التحتية الأولى (ابن حصن) بكسر المهملة الأولى وسكون الثانية بعدها نون، ابن بدر الفزاري (مثل ذلك) مفعول ثان. ويحتمل أن يكون مفعولاً مطلقاً، أي: إعطاء مثل ذلك الإعطاء، والأول أقرب (وأعطى ناساً من أشراف العرب) والطلقاء وضعفاء الإيمان (وآثرهم) أي أعطاهم عطايا نفيسة (يومئذٍ) أي: يوم حنين (في القسمة) لغنائمها تألفاً لهم، وترك أقواماً اعتماداً على ما وقر في قلوبهم من نور الإيمان وشمس العرفان. وفي الحديث الصحيح عن سعد مرفوعاً: «إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليّ منه مخافة أن يكبه الله في النار على وجهه» . والناس قال الراغب في «مفرداته» : قيل أصله أناس فحذف فاؤه لما أدخل عليه أل. قلت وتقدم مثله عن البيضاوي، والناس قد يذكر ويراد به الفضلاء دون من يتناوله اسم الناس تجوّزاً، وذلك إذا اعتبر معنى الإنسانية وهو وجود العقل والذكر وسائر القوى المختصة به فإن كل شيء عدم وصفه المختص به لا يكاد يستحق اسمه اهـ. (فقال رجل) هذا لفظ مسلم. وعند البخاري «فقال رجل من الأنصار: هذه قسمة ما أريد بها وجهالله، فقال: لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصير» . قال ابن الملقن: وقوله في البخاري: «إنه من الأنصار» غريب. قلت: قال الشيخ زكريا في «تحفة القارىء» : اسمه: معتببن قشير اهـ. وهو بضم الميم وفتح المهملة وتشديد الفوقية آخره موحدة وهو من الأنصار: أي من قبيلتهم، وهو الذي روى

عنه الزبير أنه قال: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا. أما الذي قال: اعدل يا رسول الله فاسمه ذو الخويصرة وهو أبو الخوارج، وظاهر كلام عياض في «شرح مسلم» أنه هو القائل عن النبي ما ذكر في هذا الخبر والله أعلم. فإن صح ذلك فيكون معنى قوله: إنه من الأنصار: أي حلفاً أو ولاء (وا إن هذه لقسمة ما عدل فيها وما أريد بها وجه ا) الأوجه أنه إنما ترك قتل قاتل هذا الكلام مع أن سبه كفر يقتل به فاعله، لئلا يتحدث الناس بأنه يقتل أصحابه فينفروا عن الإسلام فعامله معاملة غيره من المنافقين. قال القاضي عياض: وقد رأى الناس هذا الصنف في جماعتهم وعدوه من جملتهم، قال ابن مسعود (فقلت: وا لأخبرنّ رسول الله) ليحذر منه وليعلم ما أخفاه من حاله، وليس هذا من باب نقل المجالس وهي بالأمانة، لأن ذاك في غير نحو هذا، أما هذا فمن النصيحة ولرسوله وللمؤمنين (فأتيته فأخبرته بما قال) مما يدل على حجب بصيره قائله عن مشكاة أنواره وإلا فلو أشرق فيه بعض ذلك النور لامتلأ قلبه من الخيور وعلم أنه الطبيب الحاذق الذي يداوي كل سقيم ويذهب كل ضير وألم {ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور} . قال ابن مسعود: (فتغير وجهه) كما هو قضية طبع البشر عند حصول مؤذ للنفس (حتى كان) أي: صار (كالصرف) هذا لفظ رواية مسلم. وفي رواية البخاري في باب بدء الخلق «فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه» (ثم قال) راداً عليه ما نسبه إليه من عدم العدل (فمن يعدل) استفهام إنكار فهو في معنى ما يعدل أحد (إذا لم يعدل الله ورسوله ثم قال) مبيناً أن الصفح عن عثرات اللئام سنة قديمة في الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام (يرحم الله موسى) أتى به مع أن الأكثر من هديه في الدعاء: أي عند ذكر أحد من الأنبياء كما قيده به الدمير في الديباجة، أن يبدأ بنفسه فيقول مثلاً غفر الله لنا ولفلان، اهتماماً بشأنه لأنه ذكر في مقام المدحة له والتأسي به (قد أوذي بأكثر من هذا) أي: من أذى السفهاء والجهال له فقالوا إنه آدر: وذلك منهم غاية العتوّ ونهاية الاختلاق؛ قال العراقي في «شرح التقريب» : (فصبر) على أذاهم وقابل جهلهم بحلمه، وهو المقتبس من مشكاته كل خلق

حسن (فقلت لأجرم) مذهب الخليل وسيبونه أنهما ركبا من لا وجرم وبنيا، والمعنى: حق، وما بعدها رفع به على الفاعلية. وقال الكسائي: معناها لا صدّ ولا منع، فيكون جرام اسم لا وهو مبني على الفتح، وقيل غير ذلك، وعلى القول الأول فالتقدير: حق أن (لا أرفع إليه بعدها) أي هذه المرة (حديثاً) يقع من أولئك فيه نفثات ألسنتهم بما تخفيه صدورّهم: أي مما لا يعود بضرر على النبيّ ولا على الإسلام وإنما رأى ذلك لأنه رأى أن كلامه حصل منه بعض التعب للنبي حتى رأى أثر الغضب من تلك الحمرة في بشرته الشريفة، ومع ذلك صفح عن ذلك القائل كيلا يقول الناس إن محمداً يقتل أصحابه (متفق عليه) رواه البخاري في أبواب الخمس وفي الأنبياء وفي الدعوات وفي الأدب. ورواه مسلم في الزكاة (وقوله) في الحديث: (كالصرف هو بكسر الصاد المهملة) وسكون الراء أخوه فاء (وهو صبغ أحمر) زاد في «شرح مسلم» يصبغ به الجلود، قال ابن دريد: وقد يسمى الدم أيضاً صرفاً اهـ. 19 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إذا أراد الله يعبده) المراد عقابه (الخير عجل له) في جزاء سيئاته (العقوبة في الدنيا) ببلاء في نفسه أو بموت صديقه أو بفقد ماله ونحوه، فيكون ذلك إذا سلم من التبرّم من الأقدار كفازة لجناياته فيوافي القيامة وقد خلص من تبعة الذنب ودركه، فإن لم يكن من أرباب المخالفات ونزل به بلاء كان زيادة في درجاته، وعليه يحمل حديث: «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمتل فالأمثل» (وإذا أراد الله بعبده) المذكور (الشر) من للعقاب والعذاب (أمسك عنه) الأذى (بذنبه) الباء بمعنى فيه، أو سببية 4 يعني أن تأخير ما ذكر عنه وبقاءه في تبعات ذنبه من أسباب ذنبه، ففيه استدراجه من حيث لا يشعر (حتى يوافي به) أي: يذنبه حاملاً له على كاهله (يوم القيامة) فيجازى به، وأين جميع أهوال الدنيا ومضايقها من ساعة من عذاب النار وما فيها

من الأغلال والأنكال؟ وفي الحديث الحثّ على الصبر على ما تجري به الأقدار، وأنه خير للناس في الحال والمآل، فمن صبر فاز: ومن تبرّم بالأقدار فقدر الله لا يرد، وفات المتبرّم أعالي الدرجات وتكفير السيئات وا وليّ التوفيق. (و) عن أنس (قال النبيّ) مؤكداً لما دل عليه ما قبله مبيناً له (إن عظم) بكسر المهملة وفتح المعجمة في المعاني (الجزاء) أي الثواب في الآخرة كائن (مع عظم البلاء) فمن حلّ به خلاف ما يهواه الإنسان بالطبع من الشدائد فليفرح بها، لما فيها من التخصيص وإجزال العطاء، فإن لم يكن من أهل مقام الرضا فلا أقل من أهل مقام الصبر (وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم) لأنه لو تركهم وزهرات الدنيا ربما استغرقت فيها قلوبهم: فاستغلوا بها عن مربوبهم كما وقع ذلك للكفار وأرباب الغفلات، فمن أراد الله إقباله عليه قطع عنه العلائق وأنزل به أنواع البلايا لتقوده إلى الرجوع إلى مولاه في كل ساعة، وأي نعيم يوازي نعيم الشهود، وأي جحيم يساوي الغفلة والتبعيد (فمن رضي) بما جرى به القدر ولم يتبرم ولم يتضجر (فله الرضا) بالاختصاص الإلهي والفيض الرباني والثواب الجزيل والأجر الجميل، قال تعالى: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} (الرحمن: 60) (ومن سخط) من ذلك وتبرم من تلك المقادير (جرى المقدور) إذ لا مانع لما أراد سبحانه (وله) أي الساخط (السخط) بفتحين أو بضم فسكون: الانتقام أو إرادته، لما فيه من معارضة الأقدار الإلهية والاعتراض على الأحكام الربانية، وليس ذلك من شأن العبيد، وا يفعل ما يريد (رواه الترمذي) في «جامعه» (وقال حديث حسن) هو ما رواه العدل الضابط غير تامهما، أو المستور وانجبر وقد سلم من الشذوذ والعلة، وفي معنى حديث الباب ما أخرجه الترمذي أيضاً عن جابر قال: قال رسول الله «يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطي أهل البلاء الثواب أن لو كانت جلودهم قرضت في الدنيا بالمقاريض» .

4420 - (وعن أنس) الأخضر: وعنه (رضي الله عنه قال: كان ابن) هو الذي قال له: «يا أبا عمير ما فعل النغير؟» وحديثه ذلك عند الترمذي في «شمائله» . قيل كناه بما ذكر إشارة إلى قصر عمره. وعند ابن ماجه حديث في قصة تزويج أم سليم بأبي طلحة بشرط أن يسلم/ وقال فيه: «فكلمت فولدت غلاماً صبيحاً، فكان أبو طلحة يحبه حباً شديداً، فعاش حتى تحرّك فمرض، فحزن أبو طلحة عليه حزناً شديداً حتى تضعضع، وأبو طلحة يغدو ويروح على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فراح روحة فمات الصبيّ» (لأبي طلحة) اسمه زيدبن سهل الأنصاري، والابن أخ لأنس من أمه أم سليم (رضي الله عنه) الأولى رضي الله عنهما لأنه ذكر صحابيان الابن وأبوه (يشتكي) أي: مريض، وليس المراد أنه صدرت منه شكوى، لكن لما كان المريض يحصل منه ذلك استعمل في كل مريض (فخرج أبو طلحة) أي إلى النبي (فقبض) بالبناء للمجهول (الصبي) زاد الإسماعيلي في روايته: «فأمرت أمه أنساً أن يدعو أبا طلحة وألا يخبره بموت ابنه» (فلما رجع أبو طلحة) إلى بيته، جاء في رواية الإسماعيلي «وكان أبو طلحة صائماً» (قال ما فعل ابني) أي ما قام به من صحة أو زيادة مرض (فقالت أم سليم) بضم المهملة مصغراً. واختلف في اسمها، فقيل سهلة، وقيل رميثة ومليكة والغميصاء والرميصاء (وهي أم الصبي) جملة معترضة (هو أسكن ما كان) أي أسكن أكوانه فإنه كان في القلق والاضطراب للنزع فذهب ذلك حينئذٍ، وظن أبو طلحة أنها أرادت هو أسكن من الألم لحصول العافية وفي عبارتها التوجيه (فقربت له العشاء) بفتح المهملة ممدوداً، الطعام الذي يؤكل عند العشاء، وهو ما بين المغرب والعتمة (فتعشى ثم أصاب منها) أي جامعها. وفي رواية تأتي: «أنها تصنعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك فوقع بها» (فلما فرغ) من حاجته (قالت: واروا) أي: استروا (الصبي) بالدفن (فلما أصبح أبو طلحة أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره) أي بما عدا الجماع بدليل قوله: (فقال:

أعرستم الليلة) المراد منه هنا الوطء وسماه: إعراساً لأنه من توابع الإعراس، ولا يقال فيه بالتشديد كذا في «النهاية» : وهمزة الاستفهام مقدرة (قال: نعم) بفتح أوليه وسكون ثالثه، وبكسر ثانيه في لغة كنانة، وقد تبدل عينه حاء، حكاه النضربن شميل، وهي من حروف الجواب لتصديق مخبر أو إعلام مستخبر أو وعد طالب (قال: اللهم) أي يا أ (بارك لهما) دعا لهما بالبركة وهي النماء والزيادة (فولدت) من ذلك الوطء المدعو بالبركة فيه (غلاماً) هو عبد الله. قال أنس: (فقال لي أبو طلحة: احمله حتى تأتي به النبيّ) ليحلّ نظره الشريف عليه (وبعث معه بتمرات) بفتح الميم ليحنكه بها، والتحنيك بالتمر تفاؤل بالإيمان، لأنها ثمرة الشجرة التي شبهها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمؤمن ولحلاوتها أيضاً: (فقال) أي النبيّ، وفي الكلام حذف تقديره: فحملته حتى أتيت به النبيّ فقال (أمعه شيء؟) أي: يحنك به (قال) أنس: (نعم) بفتحتين فسكون (تمرات) مبتدأ خبره محذوف اكتفاء بذكره في السؤال: أي معه تمرات (فأخذها النبي فمضغها) لتختلط بريقه الشريف ويقدر الصبي على إساغتها، فيكون أول ما يدخل جوفه الممتضغ بريق المصطفى فيسعد ويبارك فيه (ثم أخذها) أي: التمرات الممضوغات (من فيه فجعلها في فيّ الصبيّ) أي في فمه، ولا يخفى ما فيه من الجناس التام (ثم حنكه) في «الصحاح» : حنكت الصبي وحنكته إذا مضغت تمراً أو غيره ثم دلكته بحنكه، والصبيّ محنوك ومحنك اهـ. (وسماه عبد ا) أي: وضع له هذا الاسم، ففيه فضل التسمية بذلك (متفق عليه) في «فتح الباري» : وأخرجه ابن حبان والطيالسي هذا ما اتفقا عليه. (و) زاد (في رواية للبخاري قال) سفيان (ابن عيينة) بضم المهملة وبكسرها اتباعاً للياء بعدها وفتح التحتية الأولى وسكون الثانية/ الهلالي قرين الإمام مالك من تابعي التابعين (فقال رجل من الأنصار) هو: عبايةبن رفاعة كما أخرجه سعد بن

منصور ومسددبن سعد وغيرهم، وسبق أن الأنصار لفظ إسلامي صار علماً على أولاد الأوس والخزرج الذين نصروا النبي والإسلام (فرأيت تسعة أولاد كلهم) بالرفع مبتدأ خبره جملة (قد قرءوا القرآن) ويجوز أن يكون كل تأكيد تسعة، وأتى بها لئلا يتوهم أنه رأى بعضاً دون بعض وحينئذٍ فجملة قرءوا القرآن حالية (يعني) هذا لفظ أحد الرواة عن سفيان لبيان أن الأولاد المرئيين (من أولاد عبد ا) بن أبي طلحة (المولود) من تلك الإصابة المدعو لها بالبركة. ووقع في رواية عن سفيان أنهم سبعة بتقديم السين. قال في «فتح الباري» وقيل إن في إحدهما تصحيفاً، أن المراد بالسبعة من ختم القرآن كله وبالتسعة من قرأ معظمه، وله من الولد فيما ذكر ابن سعد وغيره من علماء الأنساب إسحاق وإسماعيل وعبد الله ويعقوب وعمر والقاسم وعمارة وإبراهيم وعمير وزيد ومحمد، وأربع من البنات، ويؤخذ من قول سفيان المذكور أن في قوله: «لكما» تجوّز لأن ظاهره أنها في ولدهما من غير واسطة وإنما المراد من أولاد ولدهما المدعو له بالبركة وهو عبد الله اهـ. (وفي رواية) أخرى (لمسلم) في «صحيحه» (مات ابن لأبي طلحة من أم سليم) الظرف الأول صفة لابن والثاني محتمل لها والحالية (فقالت لأهلها) أي: لقرابتها الذين عندها وشعروا بوفاة ابنها (لا تحدثوا أبا طلحة) عند مجيئه المنزل (بـ) وفاة (ــــابنه) لئلا يتنغص عيشه وهو صائم فلا ينال حاجته من الطعام (حتى) تعليلية أو غائية (أكون أنا) تأكيد للضمير المستكن (أحدثه، فجاء فقربت إليه عشاء) عبر هنا بإلى لأنه منتهى التقريب، وفيما تقدم باللام إشارة إلى أنه مقصود بذلك العشاء مهيأ له كما أشار البيضاوي إلى نحوه في سورة يونس في تعدية يهدي بإلى تارة وباللام أخرى (فأكل وشرب ثم تصنعت له) بتحسين الهيئة بالحلي ونحوه (أحسن ما كانت تصنع) بنصب أحسن مفعول مطلق وأصل تصنع تتصنع فأدغمت إحدى التاءين في الصاد المهملة هذا إن قرىء بتشديدها، فإن كانت مخففة فإحدى التاءين محذوفة دفعاً للثقل (قبل ذلك) الوقت، وهذا يدل على كمال يقينها وقوة صبرها (فوقع بها) أي: جامعها (فلما أن) زائدة (رأت أنه قد شبع) من الطعام (وأصاب منها) بالجماع (قالت) منبهة له على أنه لا ينبغي له الحزن على موت ولده، عند اطلاعه

عليه لأنه وديعة بصدد الاسترداد (يا أبا طلحة أرأيت) أخبرني (لو) ثبت (أن قوماً) هو في الأصل جماعة الرجال، والأكثر في استعمال الشرع أن يراد به ما يشملهم والنساء، قاله الراغب في «مفرداته» (أعاروا عاريتهم) مفعول ثان لأعار (أهل بيت) مفعوله الأول (فطلبوا عاريتهم ألهم) أي: لأهل البيت المستعيرين والظرف خبر مقدم مبتدؤه (أن يمنعوهم) أي: منعهم، ويصح أن تعرب أن ومدخولها فاعلاً للظرف لاعتماده على الاستفهام (قال: لا) أي: ليس لهم منعهم لأن الإعارة إباحة منافع المعار، والمعار باق على ملك المعير فله استرداده متى شاء (قالت: فاحتسب ابنك) أي: اطلب ثواب ابنك وأجر مصيبتك فيه من الله ولا تدنسها بما يحبط الثواب فإنه كان عندك عارية استرده مالكه (قال) أنس: (فغضب) أبو طلحة (وقال) لأم سليم: (تركتني) بكسر التاء للمخاطبة (حتى إذا) وقتية (تلطخت) بفتح الفوقية واللام وتشديد الطاء المهملة وسكون المعجمة، أي تقذرت بالجماع، يقال رجل لطخ أي قذر (ثم أخبرتني) بكسر التاء (بابني) أي: بموته (فانطلق) يمشي (حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر له ذلك) أي المذكور من فعل أم سليم الدال على كمال يقينها وحسن صبرها مما يعجز عنه كثير من الرجال (فقال النبيّ) داعياً لهما بما يعود نفعه عليهما الجميل فعلهما (بارك الله لكما في ليلتكما) أي فيما فعلتماه فيها من الإعراس بأن يجعله نتاجاً طيباً وثمرة حسنة (قال) أنس: (فحملت) أم سليم إجابة لدعائه بالبركة بما كان منه قوم صالحون كما تقدم عن ابن عيينة (قال) أنس: (وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر وهي معه، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى المدينة من سفر) بفتح أوليه، سمي بذلك لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، وسفره من المدينة إنما كان لأداء النسك أو الجهاد (لا يطرقها) بضم الراء (طروقاً) بضم أوليه المهملين أي لا يأتيها ليلاً، وكل آت بالليل طارق، ونهي عن طروق المسافر أهله ليلاً لئلا يرى منهم ما قد يكرهه. وأيضاً فإذا وصلوا البلد نهاراً وسمع بهم أهلهم تصنعت المرأة لبعلها فيراها بمنظر حسن، بخلاف ما إذا فجأها وهي

شعثة ربما كان رؤياها كذلك سبباً لفراقه لها، وهذا إذا لم يترقب أهله قدومه عليهم ليلاً، وإلا كأن بلغهم خبر قدومه من أول النهار فلا بأس بالطروق حينئذٍ (فدنوا) قربوا (من المدينة فضربها المخاض) بفتح الميم وقرىء بكسرها في «الشواذ» : وهو وجع الولادة (فاحتبس عليها أبو طلحة) أي: حبس نفسه عليها لاشتغاله بشأنها (وانطلق رسول الله) في مسيره إلى المدينة. ( قال) أنس: (يقول أبو طلحة) أتى بلفظ المضارع لحكاية الحال الماضية إشارة لكمال استحضاره للقصة وإتقانه لها (إنك لتعلم يا رب) بكسر الباء دليلاً على التحتية، ويجوز فتحها على أن المحذوفة الألف المنقلبة عن الياء وضمها بناء على قطعه عن الإضافة، وجملة النداء معترضة بين الفعل، وما سد مسد مفعوليه وهو قوله: (إنه يعجبني) بضم التحتية (أن أخرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج) من المدينة لسفر (وأدخل معه) المدينة، وهو بالنصف عطف على أخرج (إذا دخل) أي: دخلها، فالمفعول محذوف لدلالة السياق عليه (وقد احتبست) أي منعت من الدخول (بما ترى) مما نزل بأم سليم، فأجاب الله دعوته وكشف كربته (قال) (قال) أنس مخبراً عن ذلك (تقول أم سليم) أي قالت أم سليم، وعدل عنه إلى المضارع لما ذكر آنفاً (يا أبا طلحة، ما أجد الذي كنت أجد) العائد محذوف التقدير أجده: أي ما أجد ألم الوضع الذي كنت أجده قبل (انطلق) أمر له لأن سبب التخفيف زال.g (قال) أنس: (فانطلقنا وضربها المخاض حين قدما) بكسر الدال: أي وقت قدوم أبي طلحة وأم سليم المدينة مع المصطفى (فولدت غلاماً) هو المسمى بعبد الله (فقالت لي أمي) أم سليم أم عبد الله المذكور فهو أخو أنس لأمه كما تقدم (يا أنس لا يرضعه) بضم التحتية وسكون المهملة على أنّ لا ناهية (أحد) أي: ليكون أول شيء يشق جوفه ويدخل أمعاءه الممزوج بريق المصطفى، فيعود عليه بخير الدارين كما ظهر أثره في هذا الغلام بتكثير بنيه الصالحين الأتقياء الفالحين قال الشاعر: نعم الإله على العباد كثيرة وأجلهن نجابة الأولاد

(حتى تغدو به) وتعرضه (على رسول الله) والغدوّ: سير أول النهار، والرواح: السير بعد الزوال، هذا هو الأصل فيهما وقد يتجوز في ذلك، ومنه حديث: «من راح إلى الجمعة في الساعة الأولى» على أحد الأقوال فيه، وعدي بعلى إشارة إلى أن القصد من الوصول به إليه عرضه ليحل عليه نظره السعيد فيفوز بالخير المديد وقد حقق الله ما أرادت (فلما أصبح) أي دخل وقت الصباح ومنه قوله تعالى: {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون} (الروم: 17) (احتملته فانطلقت) أمشي (به) منتهياً (إلى رسولالله. وذكر تمام الحديث) وفيه نحو مما في حديث السابق أنه حنكه بالتمر وسماه عبد الله. قال في «فتح الباري» : وفي الحديث فوائد: جواز الأخذ بالشدة، وترك الرخصة مع القدرة عليها، والتسلية عن المصائب، وتزين المرأة لزوجها، وتعرضها لطلب الجماع منه، واجتهادها في عمل مصالحه، ومشروعية المعاريض الموهمة إذا دعت الضرورة إليها ولم يترتب عليها إبطال حق مسلم. والحامل لأم سليم عليه المبالغة في الصبر والتسليم لأمر الله تعالى، ورجاء إخلافه عليها ما فات منها، إذ لو أعلمت أبا طلحة بالأمر في أول الحال تنكد عليه وقته ولم تبلغ الغرض الذي أرادته، فلما علم الله تعالى صدق نيتها بلغها مناها وأصلح لها ذريتها، وفيه إجابة دعوة النبيّ وأن من ترك شيئاً عوضه الله خيراً منه. وكان لأم سليم من قوّة القلب وثبات الجنان الغاية القصوى، فكانت تشهد الحرب وتداوي الجرحى اهـ. 4521 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ليس الشديد) المحمودة شديديته شرعاً (بالصرعة، إنما الشديد) الممدوحة شديديته شرعاً (الذي يملك نفسه) من الوقوع في المنهيات (عند) وجود (الغضب) وقيامه به وذلك إنما يكون لمن راض نفسه بسياسة الاتباع واقتدى بالمصطفى في سائر الأحوال، فلم يحمله الغضب على الوقوع في أسباب الهلاك في دينه. والغضب بالتحريك لغة: ضد الرضا. وسببه حصول مخالف لمراد الإنسان ممن هو دونه وتحت يده فيحصل منه تلك الحالة المقتضية لفعل ما لا يجوز من

قتل أو ضرب أو سب. فمن حفظ نفسه عن ذلك وقادها بزمام الشريعة وكظم غيظه وعفا فاز بالدرجة العليا وكان محموداً شرعاً، وإن انتقم بقدر ما أذن فيه الشرع من التأديب فلا بأس (متفق عليه) ورواه الإمام أحمد من حديث أبي هريرة أيضاً (الصرعة بضم الصاد وفتح الراء) المهملتين بعدهما مهملة مفتوحة (وأصله عند العرب من يصرع الناس كثيراً) فإن «فعلة» بضم ففتح لمن يكثر منه الفعل «وفعلة» بضم فسكون لمن يعتاد فعل ذلك الشيء به. فضحكة بوزن همزة بمعنى الفاعل: لمن يكثر الضحك من الناس، وضحكة بوزن ركبة بمعنى المفعول: لمن يكثر ضحك الناس عليه وسخريتهم به ذكره الكرماني. وقد بسطت ذلك في «شرح الأذكار» . وفي الحديث: أن مجاهدة النفس أشدّ من مجاهدة العدو. وقد ورد أن الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه لما عادوا من بعض الغزوات: «رجعتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» . 4622 - (وعن سليمانبن صرد) زاد في الأذكار فقال «الصحابي» (رضي الله عنه) وصرد بضم ففتح لأوليه وجميع حروفه مهملة، وهو خزاعي. كان اسم سليمان في الجاهلية «يسار» فسماه «سليمان» وكان خيراً ديناً فاضلاً ذا دين وعبادة وشرف في قومه. نزل للكوفة أول ما كوّفها سعد: وقتل في حرب بينت سببه في «شرح الأذكار» ، وحمل رأسه إلى مروانبن الحكم بالشام. وكان عمره حين قتل ثلاثة وتسعين سنة. روى له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة عشر حديثاً، اتفقا منها على هذا الحديث، وانفرد البخاري عنه بحديث واحد هو قوله: «اليوم نغزوهم ولا يغزونا» فليس له في «الصحيحين» سوى حديثين/ وخرّج عنه أصحاب السنن الأربع (قال: كنت جالساً مع النبي ورجلان يستبان) بفتح التحتية وسكون المهملة. وفتح الفوقية وتشديد الموحدة افتعال من السب: أي يسبّ كل منهما صاحبه (وأحدهما) . قال ابن حجر الهيثمي: قيل إنه معاذ، فإن صح وأنه ابن جبل تعين تأويل ما وقع منه من قوله: «هل بي من جنون» على أنه قاله من سورة الغضب من غير تأمل، قيل وهو الذي قال للنبي: «أوصني» الحديث الآتي، ففيه أن معاذاً كان عنده سورة من الغضب (قد أحمرّ)

بتشديد الراء (وجهه وانتفخت أوداجه) في «النهاية» : الأوداج ما أحاط بالعتق من العروق التي يقطعها الذابح واحدها ودج، وقيل الودجان: عرفان غليظان على جانبي ثغرة النحر، ومنه الحديث اهـ. (فقال رسول الله: إني لأعلم كلمة) المراد منها معناها اللغوي وهي الجمل المفيدة (لو قالها) بصدق ويقين، ويحتمل أنه علم أن ذلك الرجل لو قالها مطلقاً (لذهب عنه ما يجد) من شدة الغضب ببركة الكلمات وتأثير همته الشريفة في ذلك عنه. ثم هذا الحديث الشريف مستمد من قوله تعالى: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ با إنه سميع عليم} (الأعراف: 200) (لو قال أعوذ با من الشيطان الرجيم ذهب عنه ما يجد) من شدة الغضب وشره، والجملة بيان لما قبلها، وأعوذ: معناه ألجأ وأعتصم، والشيطان: العاتي المتمرّد، من شاط احترق، أو من شطن بعد، والرجيم فعيل بمعنى مفعول: أي المبعد من رحمةالله، واللام محذوفة من «لذهب» تفننا في التعبير (فقالوا له) أي قال الصحابة لذلك الرجل المغضب (إن النبي قال: تعوّذ با من الشيطان الرجيم) هذا منهم رواية للحديث بالمعنى، لا بخصوص اللفظ والمبنى، ففيه نص على جواز ذلك للعارف به. وفي الحديث: تتمة سكت عنها المصنف هنا وهي أنه لما قيل له ذلك قال: «وهل بي من جنون؟» وفيه أن الغضب إنما يثير ناره، ويشعل لهبة الشيطان لما يترتب عليه من الضرائر في الدين والدنيا، فلذا كان دواؤه قطع سبب مادته وهو وسواس الشيطان الرجيم بالاستعاذة منه (متفق عليه) ورواه أبو داود والترمذي والنسائي، وفي رواية لأبي داود والترمذي والنسائي من حديث معاذ «اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم» كذا في (سلاح المؤمن) . 4723 - (وعن معاذ) بضم الميم بعدها مهملة (ابن أنس رضي الله عنه) هو الجهني؛ سكن

مصر روى عنه ابنه سهل، له نسخة كبيرة عند ابنه سهل أورد منها أحمدبن حنبل في مسنده وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه والأئمة بعدهم في كتبهم، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثون حديثاً (أن النبي قال: من كظم غيظاً) تجرعه واحتمل سببه وصبر عليه. والغيظ: تغير الإنسان عند احتداده، وظاهر عموم تنكير غيظاً حصول الثواب على كظم الغيظ مع القدرة على إنفاذة وإن قلّ (وهو قادر على أن ينفذه) بضم التحتية: أي يقضي ويعمل بما يدعوه إليه: من ضرب المغتاظ منه، أو قتله أو نحوه لسطوته على المغتاظ منه بملك أو نحوه وهو قيد في حصول ثواب كظم الغيظ المذكور (دعاه الله سبحانه) تنزيهاً له عما لا يليق بشأنه (وتعالى) عن ذلك فهو كالإطناب كما سبق (على رؤوس الخلائق) تنويهاً بشأنه وإعلاماً بعلوّ مكانه (يوم القيامة) ظرف لدعاه (حتى يخيره) بضم التحتية الأولى وتشديد الثانية (من الحور) بضم المهملة وسكون الواو آخره راء: أي شديدات سواد العيون وبياضها (العين) ضخام العيون كسرت عينه بدل ضمها لمجانسة الياء/ مفرده عيناء كحمراء (ما شاء) مفعول ثان ليخير (رواه أبو داود والترمذي) ورواه ابن ماجه (وقال) يعني: الترمذي (حديث حسن) وعند ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الغضب من حديث أبي هريرة مرفوعاً: «من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيماناً» وعنده أيضاً من حديث ابن عمر «من كفّ غضبه ستر الله عورته» اهـ. وقد روي أن الحسينبن علي رضي الله عنهما كان له عبد يقوم بخدمته ويقرب إليه طهره فقرب إليه طهره ذات يوم في كوز، فلما فرغ الحسين من طهوره رفع العبد الكوز من بين يديه فأصاب فم الكوز رباعية الحسين فكسرها فنظر إليه الحسين، فقال العبد: «والكاظمين الغيظ» قال: قد كظمت غيظي فقال: «والعافين عن الناس» قال: قد عفوت عنك، قال: «وا يحب المحسنين قال: اذهب فأنت حرّ لوجه الله تعالى، قال: وما جواز عتقي، قال: السيف والدرقة فإني لا أعلم في البيت غيرهما.

4824 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً) قال الشيخ زكريا في «تحفة القارىء» هو جارية بالجيم ابن قدامة ومنه أخذ جمع أنه صحابي واعتمده الحافظ ابن حجر، وقيل: إنه تابعي. وأن ما جاء في رواية خرّجها أحمد عنه أنه سأل النبي وهم. وقيل: إنه سفيانبن عبد الله الثقفي، فقد ورد عنة أنه سأل النبي فأجابه بذلك، فرد عليه مراراً يسأله عن ذلك يقول له نبيّ الله: لا تغضب. رواه العراقي في «أماليه» وقال: إنه حسن من هذا الوجه، قال: والحديث صحيح من وجه آخر يعني به حديث البخاري هذا. قال: وإنما أوردته من حديث سفيان لفائدة كونه هو السائل، قال: وقد روينا في أحاديث عن ابن عمر وعبد ابن عمرو وأبي الدرداء وجاريةبن قدامة أن كلاً منهم سأل النبيّ عن ذلك فقال له: لا تغضب اهـ. وجاء عن جابر وجارية كذلك، وتقدم عن «شرح المشكاة» لابن حجر أنه معاذبن جبل فلعله صدر من كل منهم (قال للنبيّ: أوصني) توصية جامعة لخير الدارين كما يدل عليه التعميم بحذف المفعول. وجاء في رواية عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة: «أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ولا تكثر عليّ لعلي أعقله» (قال لا تغضب) لما كان الغضب من نزغات الشيطان ولذا يخرج الإنسان عن اعتداله فيتكلم بالباطل ويفعل المذموم قال له لما قال أوصني: لا تغضب (فردد) السائل قوله: أوصني (مراراً قال) له في جواب كل مرة (لا تغضب) ولم يزد عليه، ففيه دليل على عظم مفسدة الغضب وما ينشأ منه، وعند الخرائطي زيادة «قال الرجل السائل: ففكرت حين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فإذا الغضب يجمع الشرّ كله» . (رواه البخاري) في «صحيحه» عن حديث أبي هريرة وكذا رواه الترمذي وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه: ورواه المحاملي عن أبي سعيد وأبي هريرة، ورواه ابن حبان في «روضة العقلاء» له عن أبي هريرة أو جابر، ورواية البخاري المذكور رافعة للشك. ورواه مسدد في «مسنده» عن أبي سعيد من غير تردد، وحديث أبي هريرة صحيح، وهو من أفراد البخاري: أي بالنسبة لمسلم، وأصح من حديث أبي سعيد، وروى من حديث جابر وابن عمر وابن عمرو وأبي الدرداء وجاريةبن قدامة، وطرق الحديث استوعب جملة منها السخاوي في تخريج الأربعين التي جمعها المؤلف نفع الله به يأتي نقلها عنه ملخصاً في باب الحلم.

4925 - (وعن أبي هريرة) الأخصر وعنه (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ما يزال البلاء) بالمصائب والمتاعب نازلاً (بالمؤمن والمؤمنة في نفسه) بالمرض والفقر، والغربة، التي هي في الظاهر كربة، وإن نظرت إليها وأنها واردة إليك من أرحم الراحمين انقلبت من كونها محنة إلى كونها منحة (وولده) بالموت والمرض أو عدم الاستقامة أو نحوه مما يؤلم الوالد بحسب الطبع البشري (وماله) بالتلف ببعض الأسباب من حرق أو سرقة أو نحو ذلك (حتى) غاية لنزول البلاء بأرباب الإيمان، أي إن البلاء لا يزال بالإنسان، أي: الصابر كما يدل عليه لفظ المؤمن والمؤمنة المحمول عن الفرد الكاملـ إلى أن يغفر الله له به الخطايا فـ (ـــيلقى) أي المبتلي ليشمل كلاً منهما (اتعالى) ولقاء الله كناية عن الموت (وما عليه خطيئة) أي ذنب جملة حالية، وقوله خطيئة ظاهر عمومه شمول الكبائر والتبعات، فإن ثبت ذلك وأنه مراد فذلك من محض فضل الكريم الجواد، إذ صالح العمل ومنه الصبر والاحتساب إنما يكفر الصغائر المتعلقة بحقوق الله تعالى (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) يحتمل أن يكون على تقدير واو العطف إن كان له إسنادان أحدهما صحيح والآخر حسن، وأن يكون على تقدير «أو» إن كان سنده فرداً. واختلف في حاله وقد تقدم بسط هذا المقام في باب التوبة، والحديث رواه أيضاً مالك. 5026 - (وعن) عبد الله (بن عباس رضي الله عنهما قال: قدم) بكسر الدال (عيينة) بضم أوله المهمل وفتح التحتية الأولى ووسكون الثانية بعدها نون فهاء (ابن حصين) بكسر فسكون للأوليه المهملتين الفزاري. أسلم يوم الفتح وقيل قبله، وكان من المؤلفة قلوبهم ومن الأعراب الجفاة، ارتدّ وأتي به أسيراً إلى الصديق فأسلم فأطلقه، فقدم ابن حصين المدينة (فنزل على ابن أخيه الحرّ) بضم الحاء وتشديد الراء المهملتين (ابن قيس) بن حصن الفزاري

صحابي، وهو الذي تمارى مع ابن عباس في صاحب موسى الذي سأل موسى السبيل إليه، فقال ابن عباس: هو الخضر، فسأل عنه أبياً فذكر فيه خبراً مرفوعاً كما قال ابن عباس، وقد أخرجه كذلك البخاري في كتاب العلم من «صحيحه» (وكان) الحرّ (من النفر) بفتح أوليه: الناس كلهم أو ما دون العشرة من الرجال وجمعه أنفار كذا في «مختصر القاموس» (الذين يدنيهم) بضم أوله: أي يقربهم (عمر) بن الخطاب (رضي الله عنه) لكونه من الفقهاء القراء (وكان القراء) جمع قارىء، والمراد منهم القارىء للقرآن المتفهم لمعانيه. فإن عبادتهم حينئذٍ كانت كذلك حتى لقد قرأ عمر رضي الله عنه البقرة في سبع سنين لذلك (أصحاب) أي ملازمي (مجلس عمر رضي الله عنه) لينبهوه إذا سها ويذكروه إذا نسي (ومشاوريه) يحتمل أن يكون بالفوقية بعد الراء المهملة فيكون معطوفاً على مجلس، ويحتمل أن يكون بالتحتية جمع مذكر سالم فيكون معطوفاً على أصحاب (كهولاً كانوا أو شباناً) الكهل: الذي جاوز الثلاثين ووخطه الشيب. قال ابن فارس: قال المبرّد: هو ابن ثلاث وثلاثين سنة. وفي «تحفة القارىء» : سن الشباب خمس وثلاثون سنة، وسن الكهولة خمسون سنة، وسن الشيخوخة ستون سنة اهـ، وبه يعلم أن الثلاث والثلاثين ابتداء الكهولة وتستمرّ إلى الخمسين وما قبل ذلك من بعد البلوغ فسن الشباب. والشبان بضم المعجمة وتشديد الموحدة آخره نون جمع شاب، وفي نسخة بفتح أوليه وآخره موحدة أيضاً (فقال عيينة لابن أخيه يا ابن أخي لك وجه) أي: جاه (عند هذا الأمير) أي: عمربن الخطاب رضي الله عنه (فاستأذن لي) أمر: أي اسأل لي الإذن في الدخول (عليه، فاستأذن) أي الحر لعيينة (فأذن له عمر) أي: لعيينة في الوصول إليه (فلما دخل) معطوف على مقدر: أي فدخل فلما دخل (قال هي) بكسر الهاء وسكون التحتية كلمة تهديد، وقيل: هي ضمير وثم محذوف: أي: هي داهية. وفي البخاري هيه بهاء السكت في آخره، وفي أخرى منه: إيه بالهمز بدل الهاء وهما بمعنى كما قال ابن الأثير، فمعناهما بلا تنوين زدني من الحديث المعهود وبالتنوين من أيّ حديث كان (يا ابن الخطاب فوا ما تعطينا الجزل) بالنصب مفعول به أو مطلق: أي ما تعطينا الشيء الكثير أو العطاء الكثير وأصل الجزل ما عظم من الخطب. وكأنه أراد أنه

يستأثر به عن مستحقيه (ولا تحكم فينا بالعدل) وهو ما جاء به الكتاب والسنة نصاً أو استنباطاً (فغضب عمر رضي الله عنه) أي: لما رماه به من منع المال عن مستحقه من الأنام وعدم العدل في الأحكام (حتى هم) بتشديد الميم: أي أراد (أن يوقع به) بضم التحتية وكسر القاف والمفعول محذوف: أي شيئاً من العقوبة وذلك لجفائه وسوء أدبه معه (فقال له) : أي لعمر، وقدمه على الفاعل اهتماماً به (الحر: يا أمير المؤمنين) تقدم أوّل الكتاب أنه أوّل من لقب به من الخلفاء (إن الله تعالى قال لنبيه) محرّضاً له على الحلم والصفح: أي ولكم في رسول الله أسوة حسنة (خذ العفو) التيسير من أخلاق الناس ولا تبحث عنها. وفي البخاري: عن عبد ابن الزبير «ما نزلت {خذ العفو وأمر بالعرف} (الأعراف: 199) إلا في أخلاق الناس» . وفي رواية قال: «أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ العفو من أخلاق الناس» وكذا في «جامع الأصول» ( {وأمر بالعرف} ) أي المعروف ( {وأعرض عن الجاهلين} ) فلا تقابلهم بسفههم. روي أنه «لما نزلت هذه الآية قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجبريل: ما هذا؟ قال: لا أدري حتى أسأل؛ ثم رجع فقال: إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك» ذكره البغوي في تفسيره بلا سند. قال جعفر الصادق: ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه (وإن هذا من الجاهلين) المأمور بالصفح عنهم والتجاوز عن سوء فعلهم، والخطاب له يدخل في حكمه أمته إلا ما قام الدليل على اختصاصه به (وا ما جاوزها) أي الآية (عمر) أي ما خرج عما تضمنته من الصفح والتجاوز (حين تلاها) الحر (عليه) (وكان وقافاً عند) حدود (كتاب ا) كناية عن امتثاله لها والاهتمام بأمرها وعدم تجاوز ذلك، والوقاف بالتشديد للثاني من الوقوف كذا في «النهاية» (رواه البخاري) في التفسير وفي الاعتصام. 5127 - (وعن) عبد الله (بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنها ستكون)

تحصل (بعدي) أي: بعد وفاتي بمدة كما يومىء إليه السين (أثرة) بالمثلثة والراء اسم مصدر استأثر، أو اسم مصدر آثر يؤثر: أي يستأثر عليكم: أي يفضل غيركم في نصيبه من الفيء، والاستئثار الانفراد بالشيء (وأمور تنكرونها) كما وقع من تأخير الصلوات وبعض المنكرات (قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟) نفعله حينئذٍ (قال: تؤدون) بضم الفوقية وفتح الهمزة وتشديد المهملة: أي تعطون (الحق الذي) كتب (عليكم) من الانقياد لهم وعدم الخروج عليهم (وتسألون الله الذي لكم) من الحق في بيت مال المسملين: أي تطلبون منه ذلك وهو يسخر قلوبهم لأداء ذلك أو يعوّضكم عنه/ ولا يجوز لكم الخروج عليهم لمنع أداء الحق الواجب عليهم وما نقل عن بعض السلف من الخروج على ولاة زمنه فذاك اجتهاد له. وفي الحديث الصبر على المقدور، والرضا بالقضاء حلوه ومرّه، والتسليم لمراد الرب العليم الحكيم (متفق عليه) رواه البخاري في علامات النبوّة وفي الفتن، ورواه مسلم في المغازي، ورواه الترمذي في «جامعه» وقال: حسن صحيح (والأثرة) بفتح أوليه ويقال الأثرة بضم الهمزة وبالكسر وسكون المثلثة، وكالحسنى. كذا في «مختصر القاموس» (الانفراد بالشيء) أي: الاختصاص به أو ببعضه (عمن له فيه حق) فهو منع المستحق من نصيبه مثلاً أو من بعضه. 5228 - (وعن أبي يحيى) كني بابنه يحيى، وقيل: كنيته أبو عيسى كناه بها النبيّ، وقيل: أبو عتيك، وقيل: أبو حضير وقيل: أبو عمرو (أسيدبن حضير) وسيأتي ضبط هذين الاسمين. وأسيدبن حضير (رضي الله عنه) أنصاري أوسي أشهلي، أسلم قبل سعدبن معاذ على يد مصعببن عمير بالمدينة بعد العقبة الأولى وقيل الثانية، وكان الصديق يكرمه ولا يقدم عليه أحداً ويقول إنه لا خلاف عنده، وشهد العقبة الثانية وكان نقيباً لبني عبد الأشهل، واختلف في شهوده بدراً، وشهد أحداً وما بعدها. آخى بينه وبين زيد بن

حارثة، وكان من أحسن الصحابة صوتاً بالقرآن، وكان أحد العقلاء الكمل أصحاب الرأي. وأخرج في «أسد الغابة» عن أبي هريرة أن النبي قال: «نعم الرجل أسيدبن حضير» روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية عشر حديثاً؛ قاله ابن حزم في «سيرته» ، اتفقا منها على حديث واحد وهو هذا، وانفرد البخاري عنه بحديث آخر أخرجه تعليقاً. توفي أسيد في شعبان سنة عشرين، وحمل عمر رضي الله عنه السرير حتى وضعه بالبقيع وصلى عليه، وكان قد أوصى إلى عمر في وفاء دينه فوجد عليه أربعة آلاف دينار فسده من ثمر نخله، باعه بذلك أربع سنين (أن رجلاً من الأنصار) . قال الشيخ زكريا: قيل هو أسيدبن حضير الراوي اهـ. قال السيوطي: ولا بد أن الراوي يبهم نفسه كما سيأتي في حديث أبي سعيد في قصة الرقية بالفاتحة (قال: يا رسول الله ألا) بفتح الهمزة وتخفيف اللام أداة عرض (تستعملني) أي تصيرني عاملاً في بلاد ونحوها (كما استعملت فلاناً) هو: عمروبن العاص (وفلاناً) أي: استعمالاً كاستعمال فلان وفلان. قال ابن السراج: لفظ فلان يكنى به عن اسم سمي به المحدّث عنه خاص بالناس غالباً، يقال في النداء يافل بحذف الألف والنون وقد يحذفان في غير النداء ضرورة، ويقال في غير الناس الفلان والفلانة بأن هذا ما ذكره الجوهري. قال المصنف في «التهذيب» : ورد عن أبي يعلى في «مسنده» بإسناد على شرط مسلم عن ابن عباس قال: «ماتت شاة لسودة بنت زمعة فقالت: يا رسول الله ماتت فلانة، تعني: الشاة» الحديث. قال: كذا هو في النسخ المعتمدة فلانة من غير أل، وهذا تصريح بجوازه فهما لغتان اهـ. (فقال إنكم) أي: يا معشر الأنصار (ستلقون بعدي أثرة) تقدم ما فيه من اللغات والمعنى المراد منه (فاصبروا) على استئثارهم عليكم بما تستحقونه (حتى تلقوني على الحوض) أي: إلى الموت الكائن بعد البعث منه لقاؤهم له على الحوض. فإن قلت: ما وجه المناسبة بين قوله: «إنكم ستلقون الخ» وما سأله من العمل. قلت: لعله أن من شأن العامل الاستئثار إلا من عصمالله، فأشفق عليه من أن يقع فيما يقع فيه بعض من يأتي بعده من الملوك/ فيستأثر على ذوي الحقوق ويمنعهم منه، وهذا من جملة معجزاته فقد وقع كما أخبر. وفي الحديث إيماء إلى أن الخلافة بعده لا تكون فيهم؛ وقد أوصى عليهم (متفق عليه وأسيد بضم الهمزة) وفتح السين المهملة وسكون التحتية آخره دال مهملة (وحضير بالحاء المهملة المضمومة فضاد معجمة مفتوحة) عرف

الحاء ونكر الضاد تفننا في التعبير، وبعد الضاد تحتية ساكنة فراء مهملة. 5329 - (وعن أبي إبراهيم) وقيل: أبو معاوية، وقيل: أبو محمد (عبد ابن أبي أوفى) واسم أبي أوفى علقمةبن خالدبن الحارثبن أبي أسيدبن رفاعةبن ثعلبةبن هوازنبن أسلم الأسلمي، هو وأبوه صحابيان (رضي الله عنهما) بايع عبد الله بيعة الرضوان وشهد خيبر وما بعدها من المشاهد. ولم يزل بالمدينة حتى قبض رسول الله، ثم تحوّل إلى الكوفة وهو آخر من توفي بها من أصحاب النبيّ. أخرج ابن الأثير في «أسد الغابة» عنه «أنه سئل عن أكل الجراد فقال: غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ست غزوات نأكل الجراد» روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة وتسعون حديثاً، اتفقا منها على عشرة، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بواحد. توفي عبد الله بالكوفة سنة ستّ وقيل: سبع وثمانين بعد ما كفّ بصره رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أيامه) أي أيام غزواته وحروبه وهو متعلق بقوله الآتي «انتظر» (التي لقي فيها العدو) وتقدم في باب التوبة أن عدد المغازي التي خرج لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه سبع وعشرون، قاتل في تسع منها بنفسه تقدم بيانها ثمة. والعدوّ بفتح العين فضم الدال المهملتين وتشديد الواو: يطلق على الواحد والجمع، والمراد منه الكفار (انتظر) أي أخر قتالهم (حتى إذا مالت الشمس) عن كبد السماء إلى جهة المغرب هو وقت الزوال، أي كان يؤخر القتال إلى ميل الشمس ليبرد الوقت على المقاتلة، ويخفّ عليهم حمل السلاح التي يؤلم حملها في شدّة الهاجرة، وقيل بل كان يفعل ذلك لانتظار هبوب ريح النصر التي نصر بها، وفي حديث عند أبي داود «كان ينتظر حتى تزول الشمس وتهب رياح النصر» (قام فيهم) وحتى لبيان غاية الانتظار: أي ما زال منتظراً إلى ميل الشمس وقام جواب إذا والظرف حال من الضمير في قام أي قام فيهم منبهاً لهم

على ما فيه صلاحهم (فقال: يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدوّ) زاد في رواية «فتضربوا رقابهم ويضربوا رقابكم» وحكمة النهي كما قاله ابن بطال أن المرء لا يعلم مآل أمره وهو نظير سؤال العافية في الفتن. وقال للصديق «لأن أعافى فأشكر أحبّ إليّ من أن أبتلى فأصبر» وقيل: إنما نهي عنه لما فيه من صورة الإعجاب والاتكال على القوّة والوثوق بها وقلة الاهتمام بأمر العدو، وكل ذلك مباين للاحتياط والأخذ بالحزم. زاد المصنف: وهو نوع بغى وقد وعد الله من بغى عليه بالنصر. وقيل: إن ذلك للخوف من إدالة العدوّ على المسلمين وظفره بهم، وقد جاء في هذا الحديث: «فإنهم ينصرون كما تنصرون» وفي هذا المحل بسط تام في «شرح الأذكار» فراجعه (واسألوا الله العافية) قال المصنف: كثرت الأحاديث في الأمر بسؤال العافية وهي من الألفاظ المتناولة لدفع جميع الآفات في البدن في الظاهر والباطن في الدين والدنيا والآخرة (فإذا لقيتموهم) أي: العدو (فاصبروا) على قتالهم ولا تجبنو عن حربهم فإنه تعالى مع الصابرين بالمعونة وقد وعد جنده بالظفر فقال: {وإن جندنا لهم الغالبون} (الصافات: 173) ففيه الحثّ على الصبر وهو من أهم المطلوب في الجهاد (واعلموا أن الجنة تحت ظلال) بكسر الظاء المعجمة جمع ظل (السيوف) أي حاصلة بها. قال التوربشتي: معناه ثواب الله والسبب الموصل إلى الجنة عند الضرب بالسيف ومشي المجاهد في سبيل الله فاحضروا بصدق نية واثبتوا. وقال القرطبي: هذا من الكلام النفيس البديع الذي جمع ضروب البلاغة من جزالة اللفظ وعذوبته وحسن استعارته وشمول المعاني الكثيرة مع الألفاظ المقبولة الوجيزة بحيث تعجز الفصحاء اللسن البلغاء عن إيراد مثله وأن يأتوا بنظيره وشكله. فإنه استفيد منه مع وجازته الحضّ على الجهاد والإخبار بالثواب عليه، والحضّ على مقاربة العدو واستعمال السيوف والاعتماد عليها، واجتماع المقاتلين حين الزحف بعضهم ببعض حتى تكون سيوفهم بعضها يقع على العدو ويرتفع عليهم حتى كأن السيوف أظلت الضاربين بها، ويعني: أن الضارب بالسيف في سبيل الله يدخل الجنة بذلك، وهذا كما قال في الحديث الآخر: «الجنة تحت أقدام الأمهات» ويعني: أن من بر أمه وقام بحقها دخل الجنة (ثم قال) : داعياً بالنصر، وقدم الثناء عليه تعليماً للأدب فيه، وهو أن يقدم الداعي أمام دعائه ذكر بعض أسمائه تعالى وأوصافه مما يناسب حاجته ومطلوبه،

لأنه () مطلوبه هنا النصرة وهي من آثار القدرة، والمذكور يناسبها: أي مناسبة (اللهم) يا (منزل الكتاب) أل فيه للجنس والكتب المنزلة إلى الدنيا بتخفيف الزاي ويجوز تشديدها مائة وأربعة: ستون صحف شيث، وثلاثون صحف إبراهيم، وعشر صحف موسى قبل التوراة، والتوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان. ويجوز أن تكون أل للعهد؛ والمراد به القرآن، وفي ذكره إيماء إلى وعده بنحو قوله: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} (الأنبياء: 105) ولذا جاء عنه «لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده» (ومجرى السحاب) بإثبات واو العطف، ووقع في بعض نسخ الحصن حذفها، والذي في الصحيح إثباتها (وهازم الأحزاب) الطوائف من الكفار الذين تحزّبوا على رسول الله، واحده حزب بالكسر. وكانت وقعة الأحزاب في السنة الخامسة من الهجرة، وقيل في الرابعة منها، وإنما خصت بالذكر لأن هزمهم فيها مع كثرة عددهم وعددهم إنما كان بحض القدرة الإلهية، لا دخل فيه لمباشرة الأسباب، بخلاف باقي الحروب فإنه كان عقب مقابلتهم، بل وأعجب من ذلك أن هزمهم كان بما يستراح به الشيء عادة، وهي ريح الصبا التي تستريح بها النفوس ويرتاح بها المأنوس، فكان ذلك لهم دافعاً ولكيدهم مانعاًـ {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً} (الأحزاب: 25) ، (اهزمهم) أي: القوم المحاربين حينئذٍ، أي اغلبهم (وانصرنا عليهم) أي: عجل به، وإلا فرسل اهم المنصورون، وجند اهم الغالبون، وخص الدعاء عليهم بما ذكر دون الإهلاك لأن فيه سلامة نفوسهم، وقد يكون فيها رجاء لإسلامهم بخلاف الإهلاك. وفي الحديث استعمال السجع في الدعاء. وقال المصنف وغيره: والسجع المذموم في الدعاء هو المتكلف؛ لأنه يذهب الخشوع والخضوع والإخلاص، ويلهي عن الضراعة والافتقار وفراغ القلب. أما ما حصل بلا كلفة ولا إعمال فكر لكمال فصاحة الداعي ونحو ذلك، أو لكونه محفوظاً فلا بأس به، بل هو حسن اهـ. وفي الحديث الدعاء حال الشدائد والخروج من الحول والقوّة وذلك من أعظم الأسباب لبلوغ المآرب ونيل المطالب. وفي الحديث: «لا حول ولا قوّة إلا با دواء من تسعة وتسعين داء أيسرها الهم» والله أعلم. وفي فعله جمع بين الحقيقة والشريعة، فالشريعة أخذه العدة من السلاح وغيره والخروج للقتال وتحريض الصحابة على ذلك، والحقيقة هي دعاؤه وإظهاره للافتقار وتعلقه بربه، وكذا كان عليه الصلاة والسلام يفعل

4 ـــ باب في الصدق

في جميع أموره يبالغ في امتثال الحكمة ثم بعد ذلك يرجع إلى الحقيقة فيتعلق با تعالى ويردّ الأمر إليه (متفق عليه) ورواه أحمد وأبو داود وقال العارف با ابن أبي جمرة: قيل في الحديث دليل للصوفية في المجاهدة التي يأخذون بها أنفسهم في كل ممكن يمكنهم بالمال وبالأيدي وبالألسنة، لأنه إذا فعل ذلك في الجهاد الأصغر فكيف به في الجهاد الأكبر؟ وكيفيته في الجهاد الأكبر ألا يتصرّف في شيء من ذلك إلا باتباع أمر الله تعالى واجتناب نهيه. وفيه أيضاً دليل لهم في كونهم يطلبون العافية لأنفسهم ولا يعرضون بأنفسهم إلى المجاهدة التي لا قدرة لهم عليها إلا أن يضطروا إلى ذلك فيفعلونه للاضطرار، لأنه نهى عن تمني لقاء العدوّ في الجهاد الأصغر، وأمر بطلب العافية، فكيف به في الجهاد الأكبر فعلى هذا فشأن المرء أن يطلب العافية في كل الأشياء ولا يعرض نفسه لشيء وهو لا يقدر عليه اللهم إلا إن أتاه أمر وفاجأه فوظيفته إذ ذاك الصبر والتثبت والأدب فيما أقيم فيه اهـ. 4 - باب في الصدق قال العلامة ابن أبي شريف في «حواشي شرح العقائد» : الصدق استعمله الصوفية بمعنى استواء السرّ والعلانية والظاهر والباطن، بألا تكذب أحوال العبد أعماله، ولا أعماله أحواله، وجعلوا الإخلاص لازماً أعم، فقالوا: كل صادق مخلص، وليس كل مخلص صادقاً اهـ. وفي «شرح رسالة القشيري» للشيخ زكريا: سئل الجنيد أهما واحد أم بينهما فرق؟ فقال: بينهما فرق: الصدق أصل والإخلاص فرع، والصدق أصل كل شيء، والإخلاص لا يكون إلا بعد الدخول في الأعمال، والأعمال لا تكون مقبولة إلا بهما اهـ. (قال الله عزّ) أي غلب على مراده (وجلّ) عما لا يليق بشأنه، ويجوز فيهما من

الحالية والاستئناف ما سبق في جملة تعالى ( {يا أيها الذين آمنوا اتقوا ا} ) بترك معاصيه ( {وكونوا مع الصادقين} ) (التوبة: 119) في الإيمان والعهود بأن تلزموا الصدق، وقال بعضهم: مع الصادقين المقيمين على منهاج الحق. وقال بعضهم: مع من ترتضي حاله سراً وإعلاناً ظاهراً وباطناً. وقال بعضهم: {وكونوا مع الصادقين} أي الذين لم يخالفوا الميثاق الأول فإنها أصدق كلمة. قال أبو سليمان: الصحبة على الصدق والوفاء تنفي كل علة في المصطحبين إذا قاما وثبتا على منهاج الصدق، لأن الله تعالى يقول: {اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} . (وقال تعالى) : في تعدد محاسن الأوصاف التي قيل بأنها التي ابتلى بها إبراهيم ( {والصادقين} ) في الإيمان ( {والصادقات} ) (الأحزاب: 35) فيه، وقيل في القول والعمل. (وقال تعالى: {فلو صدقوا ا} ) في الإيمان والطاعة ( {لكان} ) الصدق ( {خيراً لهم} ) (محمد: 21) . وأما الأحاديث النبوية: 541 - (فـ) الحديث (الأول عن) عن عبد الله (بن مسعود) بن غافل الهذلي (رضي الله عنه عن النبيّ) حال كونه قد (قال إن الصدق) أي تحريه في الأقوال (يهدي) بفتح أوله، أي يرشد ويوصل (إلى البر) أي العمل الصالح الخالص من كل مذموم. والبر: اسم جامع للخير كله، وقيل البرّ الجنة، ويجوز أن يتناول العمل الصالح والجنة، كذا قال المصنف. وفيه أن التفسير البرّ هنا بالجنة يأباه قوله: (وإن البر يهدي إلى الجنة) فالتفسير

الأول هنا متعين (وإن الرجل) أل فيه الجنس، وذكره لأنه الأشرف وإلا فذلك جار في المرأة أيضاً (ليصدق) أي يلازمه ويتحرّاه وفي رواية في الصحيح «ليتحرّى الصدق» (حتى يكتب عند الله صديقاً) من أبنية المبالغة. وهو من يتكرّر منه الصدق حتى يصير سجية له وخلقاً (وإن الكذب يهدي) يوصل (إلى الفجور) الأعمال السيئة (وإن الفجور يهدي) يوصل (إلى النار) لأن المعاصي يقود بعضها إلى بعض، وهي سبب الورود إلى النار (وإن الرجل ليكذب) وفي رواية في الصحيح «ليتحرّى الكذب» (حتى يكتب عند الله كذاباً) أي: يحكم له بتحقق مبالغة الكذب منه وأنها الصفة المميزة له مبالغاً في كذبه فهو ضد الصدّيق. قال المصنف: ومعنى يكتب هنا: يحكم له بذلك ويستحق الوصف بمنزلة الصديقين وثوابهم، أو بصفة الكاذبين وعقابهم. والمراد إظهار ذلك للمخلوقين، إما بأن يكتبه في ذلك ليشتهر بحظه من الصفتين في الملإ الأعلى، وإما بأن يلقى ذلك في قلوب الناس وألسنتهم كما يوضع له القبول أو البغضاء، وإلا فقد الله سبحانه وتعالى وكتابه السابق قد سبق بكل ذلك اهـ. قال القرطبي: حق على كل من فهم عن الله أن يلازم الصدق في الأقوال، والإخلاص في الأعمال، والصفاء في الأحوال، فمن كان كذلك لحق بالأبرار، ووصل إلى رضا الغفار، وقد أرشد تعالى إلى ذلك كله بقوله عند ذكر أحواله الثلاثة التائبين {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} (الأحزاب: 35) والقول في الكذب المحذر عنه على الضد من ذلك اهـ. (متفق عليه) ورواه بنحوه من حديث ابن مسعود أحمد والبخاري في «الأدب» والترمذي، وفي أوله عندهم «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإياكم والكذب» الحديث. 552 - (الثاني: عن أبي محمد الحسن) كناه وسماه بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ابن عليبن أبي طالب رضي الله عنهما) أمه فاطمة الزهراء، رضي الله عنها. قال أبو أحمد العسكري سماه

النبيّ الحسن، وكناه أبو محمد. قال: ولم يكن هذا الاسم يعرف في الجاهلية. ثم روي عن ابن الأعرابي عن المفضل قال: إن الله حجب اسم الحسن والحسين حتى سمى بهما النبي ابنيه، قال: قلت فالذين باليمن؟ قال: ذاك حسن بإسكان السين وحسين بفتح الحاء وكسر السين. ولد منتصف رمضان سنة ثلاث من الهجرة على الأصح، ومات مسموماً من زوجته بإرشاد يزيدبن معاوية لها على ذلك على ما قيل سنة أربع أو خمس أو تسع وأربعين أو خمسين أو إحدى وخمسين أو ثمان وخمسين، ودفن بالبقيع وصلى عليه سعيدبن العاص، وقبره مشهور فيه، ويكفيك في فضله الحديث الصحيح: «أن النبيّ كان يخطب فرقي إليه الحسن، فأمسكه والتفت إلى الناس ثم قال: «إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» فكان كذلك. فإنه لما استخلف بعد موت أبيه وخرج لقتال معاوية وعرف أنه لا يخلص الأمر لأحد حتى يقتل جمع كثير من الجانبين، امتثل إشارة جده، ورغب عن الخلافة ونزل عنها لمعاوية وسلمها له طوعاً وزهداً وحقناً لدماء المسلمين وأموالهم على شروط وفى له معاوية بمعظمها. ومناقبه كثيرة وفضائله جملة شهيرة، وهو من الحكماء الكرماء الأسخياء. روي له عن النبي ثلاثة عشر حديثاً، وروى له أصحاب السنن الأربعة (قال حفظت من رسول الله: دع) أمر ندب لأن توقي الشبهات مندوب على الأصح (ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة) وعند ابن حبان: «فإن الخير طمأنينة، وإن الشرّ ريبة» وهو كالتمهيد لما قبله، والتقدير: إذا وجدت نفسك ترتاب في الشيء فاتركه، فإن نفس المؤمن جبلت على أنها تطمئن إلى الصدق وتنفر من الكذب وإن لم تعلم أن الذي اطمأنت إليه كذلك في نفس الأمر، وإذا جبلت على ذلك فعليك أن تأخذ برغبتها ورهبتها إذا جربت منها الإصابة كما هو شأن كثير من النفوس الصافية، لأن الله أطلعهم على حقائق الوجود وهم في أماكنهم بإلغاء ما يحبّ. قال بعضهم: لما علم الله أن قلب المؤمن الكامل ذي النفس الزكية المطهرة من رديء أخلاقها يميل ويطمئن إلى كل كمال، ومنه كون القول أو الفعل صدقاً أو حقاً، وينفر من كون أحدهما كذباً أو باطلاً، جعل ميله وطمأنينته علامة واضحة على الحل. وانزعاجه ونفرته علامة على الحرام وأمر في الأول بمباشرة الفعل، وفي الثاني: بالإعراض عنه ما أمكن اهـ. (رواه الترمذي) ورواه ابن حبان في «صحيحه» والحاكم (وقال) الترمذي: (حديث حسن صحيح) ولا يضرّ توقف أحمد في أبي الجوز رواية عن الحسن، فقد وثقه النسائي

وابن حبان، وبه يندفع قول بعضهم: إنه مجهول لا يعرف، وقد أخرجه أحمد أيضاً عن أنس، والطبراني عن ابن عمر مرفوعاً، وبه يردّ قول الدارقطني: إنما يروى هذا من قول ابن عمر. وروي عن الإمام مالك من قوله: وروي بإسناد ضعيف عن أبي هريرة عن النبيّ أنه قال لرجل: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فقال وكيف لي بالعلم بذلك؟ قال: إذا أردت أمراً فضع يدك على صدرك، فإن القلب يضطرب للحرام ويسكن للحلال، وإن المسلم الورع يدع الصغيرة مخافة الكبيرة» زاد الطبراني «قيل له فمن الورع؟ قال: الذي يقف عند الشبهة» (قوله) (يريبك بفتح الياء) التحتية (وضمها) والفتح أفصح وأشهر، من راب وأراب: بمعنى شك. وقيل: راب لما تتيقن فيه الريبة، وأراب لما تتوهم منه (ومعناه) أي معنى قوله: دع ما يريبك الخ (اترك) ندباً (ما تشك في حله واعدل إلى ما لا تشك فيه) أي في حله، قيل: وهذا نظير ما في الحديث الآخر «ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه» وحاصله التنزه عن الشبه وورد صافي الحلال البين. 563 - (الثالث عن أبي سفيان صخر) بفتح المهملة فسكون المعجمة بعدها راء مهملة (ابن حرب) ابن أميةبن عبد شمسبن عبد مناف القرشي الأموي المكي (رضي الله عنه) ولد قبل الفيل بعشر سنين، وأسلم ليلة الفتح وكان من المؤلفة، ثم حسن إسلامه. وشهد حنيناً وأعطاه من غنائمها مائة بعير وأربعين أوقية، وأعطى لابنيه يزيد ومعاوية، فقال أبو سفيان: «وا إنك لكريم فداك أبي وأمي، ولقد حاربتك فنعم المحارب كنت، ولقد سالمتك فنعم المسالم أنت، فجزا الله خيراً» ثم شهد الطائف وفقئت عينه يومئذٍ وفقئت عينه الأخرى يوم اليرموك، استعمله النبي على نجران، فمات النبي وهو عليها. روي له حديث هرقل بطوله، أخرج الشيخان الحديث بطوله عنه المذكور بعضه هنا، فأخرجه البخاري كذلك في بدء الوحي وفي الجهاد، وأخرجه في الإيمان والجهاد ببعضه، وفي التفسير والاستئذان مختصراً، وأخرجه مسلم في المغازي بتمامه. ورواه أبو داود مختصراً، وكذا الترمذي وقال: حسن صحيح، ورواه النسائي بتمامه. انتهى ملخصاً من «الأطراف» للمزي، مات بالمدينة سنة إحدى أو اثنتين وثلاثين وله ثمان وثمانون أو ثلاث وتسعون سنة. وصلى عليه عثمان رضي الله عنه (في حديثه الطويل في قصة هرقل) بكسر

الهاء وفتح الراء وسكون القاف: وهو ملك الروم؛ ولقبه قيصر كما يلقب ملك الفرس بكسرى: أي في قصته لما كتب إليه يدعوه للإسلام فأرسل إلى من بالشام من قريش وكان أقربهم منه أبا سفيان، وكان ذلك في سنة ستّ من الهجرة (قال هرقل) متعرّفاً أحوال النبيّ (فماذا يأمركم؟) يدل على أن الرسول من شأنه أن يأمر قومه والأصل ماذا يأمركم به (يعني: النبيّ) هذا مدرج لبيان المستفهم عنه (قال أبو سفيان: قلت يقول: عبدوا الله وحده) فيه أن للأمر صيغة معروفة لأنه أتى بقول: اعبدوا الله في جواب ما يأمركم، وهو من أحسن الأدلة، لأن أبا سفيان من أهل اللسان وكذا الراوي عنه ابن عباس، بل هو من أفصحهم، وقد رواه عنه مقراً له (لا تشركوا به شيئاً) كذا هو في «الرياض» بحذف الواو وهي في رواية المستملي فيكون تأكيداً لقوله وحده/ وفي رواية لهما بإثباتها فيكون كالعطف التفسيري. قال البرماوي: قوله: اعبدوا الله الخ هو والجملتان بعده بمعنى. وقال الشيخ زكريا: متلازمات، قالا: وبالغ أبو سفيان في ذلك لأنه أشدّ الأشياء عليه والإبعاد منها أهم، أو أنه فهم أن هرقل من الذين يقولون من النصارى بالإشراك، فأراد تنفيره من دين التوحيد (واتركوا ما يقول آباؤكم) أي: مقولهم أو ما يقوله آباؤكم، وهي كلمة جامعة لترك ما كانوا عليه في الجاهلية، وإنما ذكر الآباء تنبيهاً على عذرهم في مخالفتهم له لأن الآباء قدوة عند الفريقين: أي: عبدة الأوثان والنصارى (ويأمرنا بالصلاة) أي بإقامتها (والصدق) وهي في رواية للبخاري «الصدقة» بدل «الصدق» ورجحها السراج البلقيني. قال الحافظ ابن حجر: ويقوّيها رواية المؤلف، يعني: البخاري في التفسير للزكاة. قلت: وكذا هو عند مسلم قال: واقتران الصلاة بالزكاة معتاد في الشرع، ويرجحها أيضاً أنهم كانوا يستقبحون الكذب، فذكر ما لم يألفوه أولى. قلت: وفي الجملة ليس الأمر بذلك ممتنعاً كما في أمرهم بوفاء العهد وأداء الأمانة، وقد كان من مألوفاتهم، وقد ثبتا عند المؤلف في الجهاد من رواية أبي ذرّ عن شيخيه الكشميهني والسرخسي قال: «بالصلاة والصدق والصدقة» وفي قوله: «ويأمرنا» بعد قوله: «يقول اعبدوا ا» إشارة إلى المغايرة بين الأمرين فيما يترتب على مخالفتهما، إذ مخالف الأول كافر، والثاني عاص اهـ. (والعفاف) الكف عن المحارم وخوارم المروءة. قال في المحكم: العفة الكف عما لا يحل ولا يجمل (والصلة) أي: صلة الأرحام وكل

ما أمر الله أن يوصل وذلك بالبرّ والإكرام وحسن المراعاة (متفق عليه) . 574 - (الرابع عن أبي ثابت) بالمثلثة وبعد الألف موحدة فمثناة (وقيل) يكنى: بـ (ــــأبي سعيد) وقيل: بأبي سعد (وقيل) (بأبي الوليد) بفتح الواو وكسر اللام، وقيل: أبي عبد الله (سهل) بفتح أوله المهمل وسكون ثانيه (ابن حنيف) بضم المهملة ففتح النون فسكون التحتية آخره فاء (وهو بدري) مدني (رضي الله عنه) شهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله، وثبت يوم أحد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما انهزم الناس، وكان بايعه في يومئذٍ على الموت، ثم صحب سهل علياً فاستخلفه على المدينة حين سار إلى البصرة، وشهد معه صفين، وولاه بلاد فارس فأخرجه أهلها، فاستعمل عليهم زيادبن أبيه فصالحوه وأدوا الخراج. مات سهل بالكوفة سنة ثمان وثلاثين وصلى عليه عليّ وكبر ستاً وقال: إنه بدريّ. يروى له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعون حديثاً، اتفق الشيخان منها على أربعة، وانفرد مسلم باثنين، وخرّج له أصحاب السنن الأربع (قال: قال رسول الله: من سأل الله تعالى الشهادة) أي أنالته إياها (بصدق) أي حال كونه صادقاً في سؤالها (بلغه ا) بنيته الصادقة (منازل الشهداء) العليا (وإن مات على فراشه) ففي الحديث أن صدق القلب سبب لبلوغ الأرب، وأن من نوى شيئاً من عمل البرّ أثيب عليه وإن لم يتفق له عمله، كما تقدم في حديث: «إن بالمدينة لرجالاً، ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم حبسهم العذر» . قال المصنف: ففي الحديث استحباب طلب الشهادة واستحباب نية الخير (رواه مسلم) قال الحافظ ابن حجر في «أمالي الأذكار» : وأخرجه أبو عوانة وأبو داود والنسائي وابن

ماجه، وفي «الجامع الصغير» : أخرجه مسلم والأربعة/ ومثله في «التيسير» للديبع فقال: أخرجه الخمسة. 585 - (الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: غزا نبيّ من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) قال السيوطي في «التوشيح» : هو يوشعبن نون (فقال لقومه لا يتبعني) في الخروج للحرب (رجل ملك بضع امرأة) بضم الباء وسكون المعجمة يطلق على الفرج والنكاح والجماع (وهو يريد أن يبني بها ولما) بتشديد الميم (يبن) أي يدخل (بها) وكان عادة العرب إذا دخل الزوج على المرأة بنى عليها قبة من شعر ونحوه، فأطلق البناء وأريد به الدخول من إطلاق اللازم وإرادة الملزوم (ولا أحد بنى بيوتاً ولم يرفع سقوفها) أي لم يتمّ عملها (ولا أحد اشترى غنماً) أي: حوامل بدليل ما بعده (أو خلفات وهو ينتظر أولادها) ويحتمل أن هذا خاص بالإبل، وأن شراء الغنم عذر في التخلف لاشتغال قلب صاحبها بها وإن لم تكن حوامل لضعفها وحاجتها إلى القائم بأمرها ولا كذلك الإبل. قال القرطبي: نهى النبي قومه عن اتباعه على أحد هذه الأحوال، لأن أصحابها يكونون متعلقي النفوس بهذه الأسباب فتضعف عزائمهم وتفتر رغباتهم في الجهاد والشهادة وربما يفرط ذلك التعلق فيفضي إلى كراهة الجهاد وأعمال الخير؛ ومقصود هذا النبي تفرغهم من العوائق والاشتغال إلى تمني الشهادة بنية صادقة وعزم حازم ليحصلوا على الحظّ الأوفر والأجر الأكبر اهـ. (فغزا فدنا من القرية) وقع في جميع نسخ مسلم «أدنى رباعياً» . قال المصنف: وهو إما أن يكون تعدية لدنا: أي قرب. فمعناه أدنى جيوشه وجموعه للقرية؛ وإما أن يكون أدنى بمعنى حان، أو قرب فتحها، من قولهم: أدنت الناقة: إذا حان نتاجها ولم يقولوه في غير الناقة اهـ. قال القرطبي: والذي يظهر لي أن هذا من باب أنجد وأغار فيكون معنى أدنى دخل في الموضع الداني منها اهـ. ومنه يعلم أن اللفظ المذكور للبخاري، والقربة: هي أريحاء (صلاة العصر أو قريباً من ذلك، فقال للشمس: إنك) وعند مسلم «أنت» (مأمورة) أي مسخرة بأمر الله عزّ وجلّ (وأنا مأمور) أي

مسخر كذلك وكذا جميع الكائنات غير أن أمر الجمادات أمر تسخير وتكوين وأمر العقلاء أمر تكليف (اللهم احبسها علينا، فحبست) معجزة له، وقد حبست لنبينا في قصة الإسراء وفي حفر الخندق. قال القاضي عياض: وقد اختلف هل ردت على أدراجها أو وقفت أو بطئت حركاتها؟ وعلى كل فهو من معجزات النبوّة (حتى فتح الله عليه) البلاد، وفي نسخة «فتح عليه» بالبناء للمفعول (فجمع الغنائم، فجاءت: يعني النار لتأكلها فلم تطعمها) وعند مسلم «فجمعوا ما غنموا، فأقبلت النار لتأكله فلم تطعمه» وهذه كانت عادة الأنبياء في الغنائم أن يجمعوها فتجيء نار من السماء فتأكلها فيكون ذلك علامة قبولها وعدم الغلول فيها، فلما جاءت هذه النار فلم تأكلها علم أن فيها غلولاً. قال الكرماني: وعبر بلم تطعمها دون لم تأكلها للمبالغة، إذ معناه لم تذق طعمها كما في قوله تعالى: (ومن لم يطعمه) (فقال: إن فيكم غلولاً) بضم أوليه المعجمة فاللام: الخيانة في المغنم (فليبايعني من كل قبيلة رجل) لعسر مبايعة كل واحد واحد لكمال كثرتهم فإنهم كانوا نحو سبعين ألفاً كما ذكره بعضهم (فلزقت يد رجل) منهم (بيده) إعلاماً بأنه ممن غلّ قومه، فلذا قال (فقال: إن فيكم) القبيلة التي منها ذلك الرجل (الغلول فلتبايعني قبيلتك) أي كل فرد منهم (فلزقت يد رجلين أو ثلاثة) وكان علامة الغلول عندهم التصاق يد الغالّ (بيده فقال) النبيّ (فيكم) أي: عندكم (الغلول فجاء) أي الغالّ المذكور (برأس مثل رأس بقرة من الذهب) بيان لرأس (فوضعها) في جملة الغنيمة (فجاءت النار) المؤذن أكلها بالقبول (فأكلتها فلم تحل الغنائم) بفتح الفوقية وكسر الحاء المهملة على البناء للمفعول (لأحد قبلنا) من سائر الأنبياء والأمم السابقين (ثم أحل الله لنا الغنائم) أي للنبيّ كما في الحديث الآخر: «وأحلت لي الغنائم ولم تحلّ لأحد قبلي» ولأمته ولم

تحلّ لأحد غيرهم أصلاً (رأى) علم (ضعفنا) في الأبدان (وعجزنا) عن قوى الأعمال (فأحلها) أي: الغنائم (لنا) أورده الديبع في «التيسير» بلفظ: «ثم أحلّ الله لنا الغنائم لما رأى عجزنا وضعفنا فأحلها لنا» وقال أخرجاه، وقوله فأحلها يحتمل أن يكون جواب لما دخلت فيه الفاء كما أجازه بعض النحاة، ويحتمل أن جوابها محذوف لدلالة ما قبلها عليه وما بعد الفاء معطوف (متفق عليه الخلفات بفتح الخاء المعجمة وكسر اللام جمع خلفة) بفتح الخاء وكسر اللام أيضاً ويجمع على خلف كذلك بحذف الهاء كما في «مختصر القاموس» وعلى خلائف كما في «مختصر النهاية» (وهي الناقة الحامل) كذا في النهاية وغيرها، وقال القرطبي: هي الناقة التي دنا ولادها. 596 - (السادس عن أبي خالد حكيم) بفتح المهملة وكسر الكاف (ابن حزام) بكسر المهملة بعدها الزاي، وهذا الضبط في كل ما جاء على هذه الصورة من أسماء قريش، وما جاء منه في أسماء الأنصار فهو بالمهملتين المفتوحتين. وابن خويلدبن أسدبن عبد العزّىبن قصي، القرشي الأسدي (رضي الله عنه) ولد في الكعبة ولم يتفق ذلك لغيره (وهو من مسلمة الفتح) وكان من أشراف قريش ووجوهها في الجاهلية والإسلام، وكان من المؤلفة، أعطاه يوم حنين مائة بعير، ثم حسن إسلامه ولم يصنع شيئاً من المعروف في الجاهلية إلا صنع مثله في الإسلام، وكانت بيده دار الندوة فباعها من معاوية بمائة ألف درهم، فقال له ابن الزبير: بعث مكرمة قريش، فقال حكيم: ذهبت المكارم إلا التقوى، وتصدق بثمنها، وحج في الإسلام ومعه مائة بدنة قد جللها بالجرة أهداها، ووقف فيها بمائة وصيف بعرفة في أعناقهم أطواق الفضة منقوش فيها عليها عتقاء الله عن حكيمبن حزام، وأهدى ألف شاة وكان جواراً، كفّ قبل موته، وعاش مائة وعشرين سنة نصفها في الجاهلية ونصفها في الإسلام، ونظر فيه ابن الأثير في «أسد الغابة» ، وتوفي سنة أربع وخمسين أيام

معاوية وقيل سنة ثمان وخمسين. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعون حديثاً، أخرج منها الشيخان أربعة أحاديث اتفقا عليها، وسأتي إن شاء الله في باب القناعة والاقتصاد مزيد في ترجمته (قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيعان) بتشديد التحتية (بالخيار) بكسر الخاء المعجمة: اسم من الاختيار والتخيير، وهو طلب خير الأمرين من الفسخ والإجازة (ما لم يتفرّقا) . قال الفضلبن سلمة: افترقا بالكلام وتفرقا بالأبدان (فإن صدقا) فيما يخبران به البائع في المبيع والمشتري في الثمن قدراً وصفة، وأن الثمن انتهت الرغبات فيه إلى كذا، ويخبر بما يترتب عليه تفاوت الرغبات من عيب ونحوه (وبينا) البائع ما في المبيع والمشتري ما في الثمن من غش وشبهة قوية قامت قرائن أحوال أحدهما أنه إذا اطلع على مثلها لا يأخذه (بورك لهما في بيعهما) وشرائهما بتسيهل الأسباب المقتضية لزيادة الربح، من كثرة الراغبين وحسن المعاملين ومنع الخيانة في المبتاع والحسد والعداوة المقتضية للخسران (وإن كتما) ما في السلعة من العيوب ونحوها (وكذبا) فيما يمدحانها (محقت) ذهبت وتلفت (بركة بيعهما) فلم يحصلا منه إلا على مجرّد التعب (متفق عليه) وكذا أخرجه أصحاب السنن الأربع غير ابن ماجه/ وفي رواية: «فإن صدقا البيعان وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما فعسى أن يربحا ربحاً ما، ويمحقا بركة بيعهما، اليمين الفاجرة منفقة للسلعة ممحقة للربح» أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، كذا في التيسير مع تصرف يسير. فائدة: كما أن التاجر إذا صدق في سلعته ولم يغش بورك له في معاملته، كذلك العبد إذا صدق في معاملته مع ربه ولم يغش في أداء حق عبوديته برياء أو سمعة أو نظر لعمله بورك له في تلك المعاملة وأعطى أمله {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} (التوبة: 111) ولكون صدق المعاملة مبنياً على كمال المراقبة تارة ومحصلاً له أخرى كما تقدم «وإن البرّ يهدي إلى الجنة» عقب باب الصدق به فقال:

5 ـــ باب المراقبة

5 - باب المراقبة هو أحد مقامي الإحسان المشار إليه في حديث جبريل الآتي بقوله: «فإن لم تكن تراه فإنه يراك» وفي الحديث: عن عبادةبن الصامت قال: قال رسول الله: «أفضل إيمان المرء أن يعلم أن الله معه حيث كان» وما أحسن ما قيل: كأنّ رقيباً منك يرعى خواطري وآخر يرعى ناظري وجناني وقال ابن عطاء في الحكم: إلهي عميت عين لا تراك عليها رقيباً. (قال الله تعالى:) مخاطباً لنبيه ( {الذي يراك حين تقوم} ) إلى الصلاة ( {وتقلبك} ) في أركان الصلاة قائماً وقاعداً وراكعاً وساجداً ( {في الساجدين} ) أي المصلين. وقال الواسطي: في أصلاب الأنبياء والمرسلين. وقيل: تقلب سرك في القربة، فإن السجود محل القربة والاقتراب. وقيل: في الآية إشارة إلى أن من لزم الإقبال عليه بنحو الصلاة سارعت إليه العناية به، ومن خصوصياته أنه كان يرى من خلفه، والآية محتملة لإفادة هذه الخصوصية. (وقال تعالى: {وهو معكم} ) بعلمه ( {أينما كنتم} ) لا يحجبه مكان ولا يخفى عليه شأن، قال تعالى: ( {وأسرّوا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق} ) . (وقال تعالى: {إن الله لا يخفى عليه شيء} ) كائن ( {في الأرض ولا في السماء} ) لعلمه بما يقع في العالم من كليّ وجزئي، وخصهما بالذكر لأن الحس لا يتجاوزهما، وقيل: فيه لا يخفى عليه شيء فطالعوا همومكم أن تكون خالية عن الأهواء والشبه وطالعوا أسراركم

لا يكون فيها شيء غير الحق والتعلق به فإنه لا يخفى عليه شيء. وقال جعفر في قوله تعالى: {إن الله لا يخفى عليه شيء} لا يطلعنّ عليك فيرى في قلبك سواه فيمقتك. (وقال تعالى: {إن ربك لبالمرصاد} ) يرصد أعمال العباد لا يفوته منها شيء: (وقال تعالى: {يعلم} ) أي: الله ( {خائنة الأعين} ) بمسارقتها النظر إلى محرم ( {وما تخفي الصدور} ) أي: القلوب، قيل: فيه إشارة إلى التذكير بصغائر الذنوب فكيف بالكبائر، وأنه تعالى يعلم البواطن: أي ومن علم ذلك علم الظواهر بالقياس العادي. (والآيات في الباب كثيرة معلومة) كقوله تعالى: {وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين} (وأما الأحاديث) جمع أحدوثة بمعنى الحديث، ويجوز أن يكون جمع حديث على غير قياس كما تقدم أي: الأحاديث النبوية. 601 - (فالأول) منها (عن عمربن الخطاب رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم) بينما كبينا ظرفا زمان، فيهما معنى المفاجأة ومعنى الشرط، ولذا استدعيا جواباً، وأصلهما بين التي هي ظرف بمعنى وسط دخلت عليها ما الكافة عن الجرّ وأشبعت أخرى فتحة النون فصارت ألفاً، والعامل فيها هنا معنى المفاجأة في قوله:

(إذا طلع علينا رجل) والمعنى: وقت حضورنا في أشرف مجلس فاجأنا عند طلوع ذلك الرجل. قال ابن جني: عامل بينا محذوف، وطلع عامل في إذ بناء على عدم إضافتها إليه. وقال الشلوبين: عامل بينا محذوف وإذ بدل منه، والجملة في محل جر بإضافة إذ إليها. وقيل: إذ مبتدأ خبره ذات يوم: أي طلوع ذلك الرجل وقع بين تلك الأحوال، وذات يوم ظرف. ويجوز أن يكون «ذات» صلة: أي نحن عنده يوماً. والإتيان بها للتوكيد ورفع توهم أنه تجوز باليوم عن مطلق الزمان. وقوله إذا طلع هو مستعار من طلعت الشمس لا يذكر إلا فيما له شأن كما حققه في «الكشاف» في قوله تعالى: {أطلع الغيب} (مريم: 78) (شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى) بضم التحتية بالبناء للمجهول وبفتح النون للمتكلم ومعه غيره مبني للفاعل (عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد) معناه التعجب المتضمن لدعوى كونه ملكاً، إذ لو كان غريباً لكان عليه أثر السفر وشعثه ولو كان مدنياً لعرفوه واستدل به على ندب حسن الهيئة.I قال بعض المحققين: طلوعه كذلك يقوي معنى قولهم: حسن الأدب في الظاهر عنوان حسن الأدب في الباطن، ولذا استحب التزين في الجمعة والعيد، وشديد صفة لرجل، وأل في المضاف إليه أغنت عن الضمير العائد منه إليه، والأصل شديد بياض ثيابه شديد سواد شعره، اختار قوله: «ولا يعرفه منا أحد» على قوله: لا نعرفه لأنه آكد في تنكيره (حتى جلس إلى النبي) قيل: يتعلق بمحذوف تقديره استأذن وأتى حتى جلس. قال العاقولي في «شرح المصابيح» : وفيه نظر، لأن الكلام مستقيم من دون هذا التقدير، لأن معنى طلع علينا أتانا، والاستئذان لا حاجة للملك إليه بل معنى المفاجأة يدل على عدمه اهـ. وفيه أن الاستئذان للدنوّ، وقد جاء التصريح به عند النسائي من حديث أبي هريرة وأبي ذرّ، فدكر القصة إلى أن قال: السلام عليكم يا محمد، فرد عليه السلام، فقال: أدنو يا محمد؟ قال: ادنه، فما زال يقول: أدنو، مراراً ويقول: ادنه حتى وضع يديه على ركبتي النبي واستئذانه ليعمي أمره على القوم (فأسند ركبتيه) أي: جبريل (إلى ركبتيه) أي: إلى ركبتي النبي زيادة في التقريب الباعث على التنبيه على أنه إنما جاء لأمر كلي (ووضع كفيه على فخذيه) أي فخذي نفسه كما هو الأدب وهي جلسة المتعلم بين يدي المعلم. قال

العاقولي: فلا معنى لقول من قال إنه وضع يديه على فخذي النبي، وإن كان شأن تقريبه يقتضي ذلك، وفيه أن ذلك القول جاء التصريح به عند النسائي فله وجه وجيه. ومن ثم قال السيد معين الدين الصفوي: إنه أقوى دليلاً. قال: بل هو الوجه لأنه حينئذٍ يكون على نسق قوله ركبتيه إلى ركبتيه، لأن اتكاء الركبة والجلوس إليه ليسا من شأن الأدب المطلوب من المتعلم، فأشعرت تلك الهيئة بأنها ليست هيئة تلميذ بل هيئة معلم مهتم بشأن التعليم ووضع الكف على الفخذين طريق المتعلمين وبينهما بون وإن أمكن أن يقال هذا وجه آخر لتعجب الحاضرين كما في السؤال والتصديق. وقال جدي: رجوع الضمير في هذه الرواية إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى لتتفق مع رواية النسائي اهـ. (وقال: يا محمد) ناداه باسمه مع قوله تعالى: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً} (النور: 63) زيادة في التغريب عند افتتاح الخطاب بالمسألة، على أن الملائكة ليسوا داخلين في مثل ذلك الخطاب (أخبرني عن الإسلام) هو والإيمان لاعتبار التلازم بين مفهوميهما شرعاً، فلا يعتبر في الخارج إيمان شرعاً بلا إسلام ولا عكسه، متحدان ما صدقا في الشرع مختلفان مفهوماً، فكل مؤمن شرعاً مسلم كذلك، وكل مسلم مؤمن، فما دلّ عليه حديث جبريل من اختلافهما هو باعتبار المفهوم، إذ مفهوم الإسلام الشرعي الانقياد بالأفعال الظاهرة الشرعية. والإيمان في الشرع التصديق بالقواعد الشرعية، على أنه قد يتوسع الشرع فيهما فيستعمل كل واحد منهما في مكان الآخر، كإطلاق الإيمان على الأعمال الظاهرة في حديث: «الإيمان بضع وسبعون باباً، أدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأرفعها قول لا إله إلا ا» على أحد الوجوه في ذلك: وسيأتي ما فيه في باب الدلالة على كثرة طرق الخير، وإطلاق الإسلام على التصديق القلبي في قوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} (آل عمران: 19) . قال القرطبي: وهذا الإطلاق من باب التجوّز والتوسع، وإذا حقق ذلك زاح كثير من الإشكال الناشىء من هذا الاستعمال (فقال رسول الله: أن تشهد أن لا إله إلا ا) خبر لمبتدأ محذوف: أي الإسلام أن تشهد حذف لقرينة وجوده في السؤال، والمراد أن يقول ذلك بلسانه المتمكن من النطق فهو معتبر في الإسلام، فمن صدق بمضمونها ولم يأت بها مع عدم مانع من النطق فليس بمسلم ولا مؤمن. وحكى المصنّف الإجماع عليه في «شرح مسلم» ، لكن حكى غيره قولاً أنه مؤمن عاص بترك النطق بها ولا يعتبر النطق بها بالعربية على الصحيح مع التصديق القلبي

بمضمونها، فقوله تشهد أي تقرّ وتبين، وأن مخففة من الثقيلة لتقدم ما يدل على العلم عليها وبدليل عطفها عليها في (وأن محمداً رسول الله) ولا في: «لا إله إلا ا» هي النافية للجنس نصاً ومحلها مع اسمها رفع بالابتداء واسم الله تعالى خبر لها، وعن الزمخشري الاسم الكريم مبتدأ والنكرة خبر على القاعدة ثم قدم الخبر ثم أدخل النفي عليه والإيجاب على المبتدأ وركب لا مع الخبر. وقد بسطت الكلام على إعراب هذه الكلمة في باب فضل الذكر من «شرح الأذكار» . وحكم الإسلام في الظاهر يثبت بالشهادتين. قال ابن الصلاح: وإنما أضيف إليهما الصلاة ونحوها لكونها أظهر شعائر الإسلام وأعظمها وبقيامه بها يتمّ استسلامه وانقياده، وتركه لها يشعر بانحلال قيد انقياده، فالمقصود من ذكر الأركان الخمسة في الحديث بيان كمال الإسلام وتمامه، فلذلك ذكر هذه الأمور مع الشهادتين، أما أصل الإسلام فالشهادتان كافيتان فيه. (وتقيم) بالنصب عطف على تشهد خلافاً لمن زعم رفعه وما بعده استئنافاً إيماء إلى أن الإسلام يكفي في حصوله الشهادتان وحدهما، وتقدم أن المذكور في الحديث الإسلام الكامل (الصلاة) أي: تعدل أركانها أو تديم إقامتها. والصلاة لغة الدعاء بخير. وشرعاً أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم بشرائط مخصوصة غالبة، وأصلها فعلة بفتحات ولامها واو، واختار بعض المحققين أنها مأخذوة من الصلا: عرق متصل بالظهر يفترق من عند عجب الذنب ويمتد منه عرقان في كل ورك عرق يقال لهما: الصلوان، فإذا ركع المصلي انحنى صلاه وتحرك، ومنه سمي ثاني خيل السباق مصلياً لأنه يأتي مع صلوى السابق. وعلم مما مر أنها بمعنى الدعاء حقيقة لغوية مجاز عرفي علاقته تشبيه الداعي في تخشعه ورغبته بالمصلي (وتؤتي الزكاة) الواجبة في الأنواع الواجبة هي فيها المقررة في كتب الفقه. والزكاة لغة النماء والتطهير. وشرعاً اسم للمخرج من ذلك (وتصوم) من الصوم. وهو لغة الإمساك. وشرعاً: إمساك مخصوص (رمضان) صريح في عدم كراهة ذلك مطلقاً وهو الأصح، وسمي شهر الصوم بذلك لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها كما جاء ذلك في خبر مرفوع (وتحج البيت) أي: تقصده بنسك حج أو عمرة إذ الأصح وجوبها على أنه جاء عند ابن حبان زيادة: «وتعتمر وتغتسل من الجنابة وأن تتم الوضوء» وقال: وتفرّد بهذه الزيادة سليمان التيمي.

والحج لغة القصد. وشرعاً قصد الكعبة للنسك. والبيت علم بالغلبة على الكعبة كالنجم للثريا (إن استطعت إليه سبيلاً) صح عند الحاكم وغيره أنه فسر السبيل في الآية: «بالزاد والراحلة» لكن ضعفه آخرون. وسبيلاً منصوب على التمييز وإنما قيد الحج بالاستطاعة مع أن ما مرّ مقيد بها أيضاً اتباعاً للنظم القرآني فإنه لم يقيد بهذا اللفظ غيره، أو إشارة إلى أن فيه من المشاقّ ما ليس في غيره. وأيضاً فعدم الاستطاعة في الحج يسقط وجوبه من أصله بخلافه في نحو الصلاة فإنما يسقط وجوب الأداء فقط دون أصل الوجوب (قال) جبريل (صدقت) قال عمر: (فعجبنا له) أي: منه أو لأجله (يسأله ويصدقه) إذ السؤال يدلّ على عدم علم السائل والتصديق يدل على علمه، وجملة يسأله في محل الحال. تنبيه: الإسلام له في الشرع إطلاقان: يطلق على الأعمال الظاهرة كما في هذا الحديث، وعلى الاستسلام والانقياد، والتلازم بينه وبين الإيمان اعتبار لما صدق شرعاً إنما هو باعتبار المعنى الثاني، وأما باعتبار المعنى الأول فالإيمان ينفك عنه، إذ قد يوجد التصديق والاستسلام الباطني بدون الأعمال المشروعة؛ وأما الإسلام بمعنى الأعمال المشروعة فلا يمكن أن ينفك عنه الإيمان لاشتراطه لصحتها وهي لا تشترط لصحته خلافاً للمعتزلة (قال) جبريل (فأخبرني عن الإيمان) هو لغة مطلق التصديق من آمن بوزن أفعل لا فاعل وإلا لجاء مصدره فعالاً، وهمزته للتعدية كأن المصدق جعل الغير آمنا من تكذيبه، أو للصيرورة كأنه صار ذا أمن من أن يكذبه غيره. ويضمن معنى أعترف وأقرّ فيعدي بالياء كما في الحديث. وأذعن فيعدي باللام نحو {فآمن له لوط} (العنكبوت: 26) . وشرعاً التصديق بالقلب فقط: أي: قبوله وإذعانه لما علم بالضرورة أنه من دين محمد، وتعريفه بما ذكر هو قول جمهور الأشاعرة وعليه الماتريدية. وقيل: يشترط أن ينضمّ لذلك إقرار اللسان وعمل سائر الجوارج فيكفر من أخلّ بواحدة من هذه الثلاثة وهو مذهب الخوارج فلا صغيرة عندهم. وقيل يعتبر ضمها إليه على وجه التكميل لا الركنية وهو مذهب المحدثين. وقيل: تصديق بالجنان وإقرار باللسان واشتهر عن أصحاب أبي حنيفة وبعض محققي الأشاعرة، لأن التصديق لما اعتبر بكل منهما كان كل منهما جزءاً من مفهوم الإيمان، لكن تصديق القلب ركن لا يحتمل السقوط، وتصديق اللسان يسقط بنحو خرس أو إكراه، واستدل لركنيته عند القدرة بخبر «حتى يقولوا أو يشهدوا، لا إله إلا ا» وردّ بأنه لا يدل لخصوصية

وكنية القول التي النزاع فيها، بل كما يحتملها يحتمل أنه شرط لإجراء أحكام الإسلام، وما تقدم عن المصنف من نقله اتفاق أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين، على أن من آمن بقلبه ولم ينطق بلسانه مع قدرته كان مخلداً في النار، فقد اعترض بأنه لا إجماع على ذلك وبأن لكل من الأئمة الأربعة قولاً بأنه مؤمن عاص بترك التلفظ، بل الذي عليه جمهور الأشاعرة وبعض محققي الحنفية أن الإقرار باللسان إنما هو شرط لإجراء الأحكام الدنيوية فحسب (قال) مفسراً للإيمان بذكر متعلقاته، ولم يفسر لفظه بل أعاده بقوله: (أن تؤمن) لأنه كان معروفاً عندهم أنه لغة مطلق التصديق وشرعاً التصديق بالأمور المعلومة من الدين بالضرورة، فمن تلك المتعلقات التي يجب الإيمان بها الإيمان (با) أي: بأنه تعالى واحد في ذاته وصفاته وأفعاله لا شريك له في الألوهية وهي استحقاق العبادة، منفرد بخلق الذوات بصفاتها وأفعالها وبقدم ذاته وصفاته الذاتية وبأن ذاته له صفات واجبة لها قديمة وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام، وهذه الصفات ليست أعراضاً ولا عين ذاته ولا غيرها بناء على أن الغيرين ما ينفك أحدهما عن الآخر. والحاصل أنه يجب الإيمان بأنه تعالى متصف بكل كمال منتزه عن كل وصف لا كمال فيه، واجب الوجود لذاته منفرد باستحقاق العبودية على العاملين (وملائكته) جمع ملك نظراً إلى أصله الذي هو ملاك مفعل من الألوكة: أي الرسالة والتاء زيدت فيه لتأكيد معنى الجمع أو لتأنيث الجمع، وقدم الملائكة على الكتب مراعاة للترتيب الواقع لأنه تعالى أرسل الملك بالكتاب إلى الرسل، ولا حجة فيه لتفضيلهم عليهم وإلا للزم تفضيلهم على الكتب ولا قائل به: أي فيجب الإيمان بأنهم عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، والملائكة باعتبار الأحوال والأعمال أقسام ذكرتهم في أوائل «شرح الأذكار» (وكتبه) أي: بأنها كلام الله تعالى الأزليّ القديم القائم بذاته المنزه عن الحرف والصوت؛ وبأنه تعالى أنزلها على بعض رسله بألفاظ حادثة في ألواح أو على لسان الملك، وبأن كل ما تضمنته حق وصدق، وبأن بعض أحكامها نسخ وبعضها لم ينسخ. قال الزمخشري وغيره: وهي مائة كتاب وأربعة كتب: خمسون

على شيث، وثلاثون على إدريس، وعشرة على آدم، وعشرة على إبراهيم، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وهو مخالف في التفصيل لما تقدم، وذلك هو الذي ذكره السمرقندي وغيره (ورسله) أي بأنه أرسلهم إلى الخلق لهدايتهم وتكميل معاشهم ومعادهم، وأيدهم بالمعجزات الدالة على صدقهم، فبلغوا عنه رسالته وبينوا للمكلفين ما أمروا ببيانه، وأنه يجب احترام جميعهم ولا يفرّق بين أحد منهم في الإيمان به، وأنه تعالى نزههم عن كل وصمة ونقص، فهم معصومون من الكبائر والصغائر قبل النبوة وبعدها على المختار بل هو الصواب. وأخرج الإمام أحمد في «مسنده» عن أبي ذرّ قال: «قلت: يا رسول الله كم وفاء عدد الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، أرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جماً غفيراً» (واليوم الآخر) وهو يوم القيامة، وصف بذلك لأنه لا ليل بعده، ولأنه آخر أيام الدنيا. وفي رواية: «والبعث الآخر» ووصفه بالآخر تأكيد كأمس الدابر: أي بوجوده وما اشتمل عليه من الحساب والميزان والصراط والجنة والنار وغير ذلك مما نطق به الكتاب والسنة الثابتة (وتؤمن بالقدر خيره وشره) أي: أن الجميع بتقدير الله ومشيئته، وأعاد العامل ومتعلقه تنبيهاً على الاهتمام بالتصديق به، لأنه موضع مزلة أقدام الضعفاء الراكنين إلى مشاهدة ظواهر أفعال البشر، وأكده بالإبدال منه فقال خيره وشرّه وفي رواية لمسلم «وبالقدر كله» لأن البدل توضيح مع توكيد لتكرار العامل. وحقيقة الإيمان بالقدر الاعتراف بأن جميع أفعال العباد مخلوقة تعالى وأنها مرادة له وأنها مكتسبة للعبد. والقضاء عند الأشعرية إرادته الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه فما لا يزال. والقدر إيجاده إياها على قدر مخصوص وتقدير معين في ذواتها وأفعالها، أو انقضاء علمه أزلاً بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال، والقدر إيجاده إياه على ما يطابق العلم. واعلم أن الإيمان بالقدر على قسمين: أحدهما: الإيمان بأنه تعالى سبق في علمه ما يفعله العباد من خير وشرّ وما يجازون به وأنه كتب ذلك عنه وأمضاه وأن أعمال العباد تجري على ما سبق في علمه وكتابه. ثانيهما: أنه تعالى خلق أفعال عباده كلها من خير وشرّ، وهذا القسم تنكره القدرية كلهم والأول لا ينكره إلا غلاتهم (قال: صدقت، قال، فأخبرني عن الإحسان) قال القرطبي: أل فيه للعهد الذهني وهو الذي قال فيه تعالى: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} (الرحمن: 60) {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين} (البقرة: 195) فلما تكرّر الإحسان في القرآن وترتب عليه هذا الثواب

العظيم سأل عنه جبريل ليعلمهم بعظيم ثوابه وكمال رفعته اهـ. وهو مصدر أحسنت كذا إذا حسنته وكملته متعدياً بالهمزة وبحرف الجر، أو أحسن متعدياً بحرف الجر فقط كأحسنت إليه: إذا فعلت معه ما يحسن فعله والمراد هنا الأول إذ حاصله راجع إلى إتقان العبادة بأدائها على وجهها المأمور به مع رعاية حقوق الله تعالى ومراقبته واستحضار عظمته وجلاله ابتداء واستمراراً. وهو على قسمين: أحدهما: غالب عليه مشاهدة الحق كما (قال) الإحسان (أن تعبد ا) من «عبد» أطاع، والتعبد التنسك، والعبودية الخضوع والذل (كأنك تراه) قيل: أصلة كأنك تراه ويراك، فحذف الثاني لدلالة الأول عليه، وهذا من جوامع كلمه، لأنه جمع فيه مع وجازته بيان مراقبة العبد ربه في إتمام الخضوع والخشوع وغيرهما في جميع الأحوال والإخلاص له في جميع الأعمال والحثّ عليهما مع بيان سببهما الحامل عليهما. والثاني: من لا ينتهي إلى تلك الحالة لكن يغلب عليه أن الحق مطلع عليه ومشاهد له، وقد بينه بقوله: (فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وهذا من جوامع الكلم أيضاً: أي فإن لم تكن تراه فلا تغفل فإنه يراك، وما أحسن ما قيل: إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عليّ رقيب وقوله: كأنك مفعول مطلق أو حال من الفاعل، ثم هذان الحالان هما ثمرتا معرفة الله تعالى وخشيته، ومن ثم عبر بها عن العمل في خبر «الإحسان أن تخشى الله كأنك تراه» فعبر عن المسبب باسم السبب توسعاً (قال: صدقت) وأخر الإحسان عما قبله، لأنه غاية كما لهما بل والمقوّم لهما، إذ بعدمه يتطرق إلى الإسلام بمعنى الأعمال الظاهرة الرياء والشرك، وإلى الإيمان النفاق فيظهره رياء أو خوفاً، ومن ثم قال تعالى: {بلى من أسلم وجهه وهو محسن} (البقرة: 112) {ثم اتقوا وآمنوا * ثم اتقوا وأحسنوا} (المائدة: 93) فشرطه فيهما (قال فأخبرني عن الساعة) أي: عن زمن وجود يوم القيامة، سمي بذلك مع طول زمنه اعتباراً بأوله فإنها تقوم بغتة، أو لسرعة حسابها أو على العكس لطولها، أو لأنها على طولها عند الله كساعة من الساعات عندنا (قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل) بل كلانا سواء في عدم العلم بالزمن المعين لوجودها، وقيل: هذا كان أولاً، ثم أطلعه الله عليها وأمره

بكتمها، نقله السيوطي في أنموذج اللبيب عن أهل الحق، وعبر بما ذكره في الجواب لتتأكد فائدة التعميم في استواء كل سائل ومسؤول في عدم العلم بوقت وقوعها المعين، وفيه أنه ينبغي للمفتي إذا سئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم. قال بعض السلف إذا أخطأ العالم لا أدري أصيبت مقاتله. فائدة: وقع هذا السؤال والجواب بين عيسىبن مريم وجبريل، لكن عيسى كان سائلاً وجبريل كان مسؤولا. أخرج الحميدي في أفراده عن الشعبي قال: «سأل عيسىبن مريم جبريل عن الساعة فانتفض بأجنحته وقال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» ذكره السيوطي في «التوشيح» (قال: فأخبرني عن أماراتها) بفتح الهمزة: أي: أشراطها وعلاماتها الدالة على اقترابها، وربما روي أماراتها (قال: أن تلد الأمة) أي: القنة وأل فيها للماهية، وكذا ما يأتي بعد دون الاستغراق لعدم اطراد ذلك في كل أمة (ربتها) أي: سيدتها، وفي رواية «ربها» أي: سيدها، وفي أخرى «بعلها» بمعنى ربها، كناية إما عن كثرة التسري اللازمة لاستيلائنا على بلاد الكفرة حتى تلد السرية بنتاً أو ابناً لسيدها فيكون ولدها سيدها كأبيه؛ فالعلامة استيلاؤنا على بلادهم وكثرة الفتوح والتسري، أو عن كثرة بيع المستولدات لفساد الزمان حتى تشتري المرأة أمها وتسترقها جاهلة أنها أمها فتكون العلامة غلبة الجهل الناشىء عنها الممنوع منه (وأن ترى الحفاة) جمع حاف بالمهملة وهو من لا نعل برجليه (العراة) جمع عار وهو من لا شيء على جسده. وفي رواية والحفاة: أي الخدمة، أل هنا وإن احتملت الاستغراق إلا أن العادة القطعية دالة على تخصيصه، وأن كل واحد منهم لا يحصل له ذلك، فالأولى كون أل للماهية (العالة) بتخفيف اللام جمع عائل وهو الفقير؛ من عال افتقر، أعال كثرت عياله (رعاء) بكسر أوله وبالمد جمع راع، ويجمع أيضاً على رعاة بضم أوله وهاء آخره مع القصر، والرعي الحفظ (الشاء) الغم واحده شأن بالهاء كشجر وشجرة، وخص مطلق الرعاء لأنهم أضعف الناس ورعاء الشاء لأنهم أضعف الرعاء، ومن ثم قيل راية رعاء الشاء أنسب بالسياق من رعاء الإبل، فإنهم أصحاب فخر وخيلاء وليسوا عالة ولا فقراء غالباً. ويجاب بأن فخرهم إنما هو بالنسبة لرعاء الشاء لا لغير الرعاء، فالقصد حاصل بذكر مطلق الرعاء ولكنه برعاء الشاء أبلغ (يتطاولون في البنيان) وهو كناية عن إسناد الأمر لغير أهله وصيروره الأسافل من ضعفاء أهل البادية الغالب عليهم الفقر ملوكاً أو كالملوك حتى يشرئبون لانقلاب الأحوال واتساع الدنيا عليهم بعد ضيقها إلى تشييد المباني وهدم

أركان الدين بعدم العمل بآي المثاني. وفي الحديث «من أشراط الساعة أن توضع الأخيار وترفع الأشرار» وفي حديث آخر مرفوعاً وهما صحيحيان «لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكعبن لكع» أي: لئيم ابن لئيم وفي حديث آخر «إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة» ولبعضهم: c إذ عز في الدنيا الأذلاء واكتست أعزتها ذلاً وساد مسودها هناك فلا جادت سماء بصوبها ولا أمرعت أرض ولا أخضرّ عودها واقتصر في الجواب على أمارتين مع شمول السؤال الأكثر، ومع أن لها أمارات أخر صغاراً وعظاماً كالدجال والمهدي وعيسى وغير ذلك مما ألف في استقصائه كتب مدونة تحذيراً للحاضرين وغيرهم عنهما لاقتضاء الحال ذلك، ولعل منهم من تعاطى شيئاً منهما فزجره عنه، وإن قلنا إن جعل الشيء أمارة للساعة لا يدل على ذمة لأن معناه كما هو ظاهر أنه لا يستلزم ذلك، وإلا فالغالب أنه ذم (ثم انطلق) أي: جبريل (فلبثت) زماناً (ملياً) بتشديد الياء: أي كثيراً، من الملوين الليل والنهار. أما المهموز فمن الملاءة أي اليسار. وهو هكذا بتاء المتكلم، وفي نسخة من مسلم «فلبث» بحذفها، يعني أقام النبي بعد انصرافه حيناً، وعلى الأول فهو إخبار من عمر عن نفسه. وجاء في رواية أبي داود والترمذي وغيرهما «فلبثت ثلاثاً» وظاهره، أنه ثلاث ليال، وفي رواية أبي عوانة «فلبثنا ليالي فلقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ثلاث» ولابن حبان «بعد ثالثة» ولابن منده «بعد ثلاثة أيام» وقد ينافيه خبر البخاري «فأدبر الرجل، فقال النبي: ردّوه، فأخذوا يردونه فلم يجدوا شيئاً، فقال: هذا جبريل» . وأجيب بأنه يحتمل أن عمر لم يحضر قوله هذا بل كان قد قام، فأخبر به بعد ثلاث. (ثم قال: يا عمر أتدري من السائل) فيه ندب تنبيه العالم تلامذته والكبير من دونهم على فوائد العلم وغرائب الوقائع طلباً لنفعهم وتيقظهم (قلت: الله ورسوله أعلم) فيه ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من حسن الأدب معه يرد العلم إلى الله وإليه، وأنه ينبغي لمن سئل عما لا يعلم أن يقول ذلك كما تقدمت الإشارة إليه (قال: فإنه جبريل اسم أعجمي سرياني فيه لغات عديدة بينتها ونظمتها وأوردتها في أوائل «شرح الأذكار» . قيل: معناه عبد الله، وقيل: عبد الرحمن، والفاء في قوله: «فإنه» جواب شرط مقدر: أي أما إنكم حيث لم تسألوا عن الرجل وفوضتم الأمر إلى الله ورسوله فإنه جبريل، على تأويل الإخبار: أي:

تفويضكم هو سبب الإخبار لكم بأنه جبريل؛ وقرينة الشرط قوله: «اورسوله أعلم» وظاهر رواية البخاري أنه لم يعرفه إلا في آخر الأمر، وورد «ما جاءني في صورة لم أعرفه إلا في هذه المرة» وفي رواية ابن حبان «والذي نفسي بيده ما شبه عليّ منذ أتاني قبل مرّته هذه وما عرفته حتى ولى» ورواه كذلك ابن خزيمة، وأما رواية النسائي «وإنه لجبريل نزل في صورة دحية الكلبي» فوهم من الراوي وشذوذ مخالف للمحفوظ في باقي الروايات، فإن دحية معروف عندهم، وقال عمر «ما يعرفه منا أحد» . وفيه دليل على أن الله مكن الملك أن يتمثل فيما شاء من الصور البشرية، وقد كان يتمثل جبريل للنبي في صورة دحية، ولم يره على صورته الأصلية غير مرتين كما صح الحديث بذلك (أتاكم يعلمكم) بسبب سؤاله، وإسناد التعليم إليه مجاز، إذ المعلم بالحقيقة النبي (دينكم) أي: قواعده أو كليات دينكم. وفي رواية ابن حبان «يعلمكم أمر دينكم فخذوا عنه» ففيه أن الدين مجموع الإسلام والإيمان والإحسان، ولا ينافيه أن الإسلام وحده يسمى ديناً كما في آية «إن الدين عند الله الإسلام» لأنه كما يطلق على هذا المجموع يطلق على هذا الفرد بالاشتراك أو بالحقيقة والمجاز أن التواطؤ أو غير ذلك. وحكمة مجيء جبريل لتعليمهم أنهم كانوا أكثروا السؤال على النبيّ، فنهاهم كراهية لما قد يقع من سؤال تعنت أو تجهيل، فألحوا فزجرهم، فخافوا وأحجموا واستسلموا امتثالاً، فلما صدقوا في ذلك أرسل لهم من يكفيهم المهمات، ومن ثم قال لهم: «هذا جبريل أراد أن تعلموا إذ لم تسألوا» (رواه مسلم) فهو من أفراده عن البخاري، فلم يخرج البخاري عن عمر فيه شيئاً، ورواه الأربعة إلا الترمذي وأخرجاه عن أبي هريرة. وهو حديث متفق على عظم موقعه وكثرة أحكامه. قال القاضي عياض: وقد اشتمل على جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الإيمان وأعمال الجوارح وإخلاص السرائر والتحفظ من آفات الأعمال، حتى إن علوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه. قال القرطبي: فيصلح هذا الحديث أن يقال فيه إنه أمّ السنة لما تضمنه من جمل علم السنة، كما سميت الفاتحة أمّ القرآن لما تضمنته من جمل معاني القرآن اهـ. ومن ثم: قيل لو لم يكن في السنة كلها غير هذا الحديث لكان وافياً بأحكام الشريعة لاشتماله على جملها مطابقة وعلى تفصيلها تضمناً، فهو جامع لها علماً ومعرفة وأدباً ولطفاً، ومرجعه من القرآن والسنة كل آية تتضمن ذكر الإسلام أو

الإيمان أو الإحسان أو الإخلاص أو المراقبة أو نحو ذلك (ومعنى أن تلد الأمة ربتها) بالمثناة الفوقية (أي سيدتها، ومعناه) أعاده تأكيداً لطول الكلام بين معنى الذي هو مبتدأ وخبره أعني (أن تكثر السراري) وذلك ناشىء عن الاستيلاء على بلاد الكفار، فيكون الاستيلاء هو العلامة عليها كما تقدم (حتى تلد الأمة السرية) فعلية من السرّ وهو الخفية لخلفاء أمرها بالنسبة إلى الأزواج (بنتاً لسيدها وبنت السيد في معنى السيد، وقيل غير ذلك) من ذلك أنه كناية عن عقوق الأولاد لأمهاتهم، فيعاملونهم معاملة السيدة لأمتها من الإهانة والسبّ ويستأنس له برواية «وأن تلد المرأة» وبحديث «لا تقوم الساعة حتى يكون الولد غليظاً» وقيل: إنه كناية عن كثرة بيع السراري حتى يتزوّج الإنسان أمه وهو لا يدري، وهذا بناء على رواية بعلها أي زوجها وقيل: غير ذلك (والعالة) بتخفيف اللام جمع عائل (الفقراء، وقوله: ملياً) بتشديد الياء (أي زمناً طويلاً، وكان ذلك) الزمن كما جاء عند أبي داود والترمذي وغيرهما (ثلاثاً) ظاهره من الليالي، ويحتمل أن يكون من الأيام وحذفت التاء لحذف المعدود فهو كحديث «وأتبعه ستاً من شوال» ويؤيده رواية ابن منده السابقة. 612 - (الثاني عن أبي ذرّ) بتشديد الراء (جندب) بضم الجيم وسكون النون وتثليث الدال المهملة وآخره موحدة (ابن جنادة) بكسر الجيم وبالنون وإهمال الدال، وقيل: برير ابن جندب، وقيل: جندببن عبد الله، وقيل: جندببن السكن، وعلى كل فهو غفاري يجتمع مع النبيّ في كنانة. روي عنه أنه قال: «أنا رابع الإسلام» ويقال «خامس الإسلام» أسلم بمكة قديماً. وخبر إسلامه في «صحيح مسلم» ثم رجع إلى قومه ثم هاجر إلى المدينة، ووصفه في عدة أحاديث بأنه أصدق الناس لهجة، وهو أوّل من حيا النبيّ بتحية

الإسلام، وقال عليّ في حقه «وعاء مليء علماً، ثم أوكىء عليه فلم يخرج من شيء حتى قبض» روي له عن النبيّ مائتا حديث وأحد وثمانون حديثاً، اتفقا منها على اثني عشر حديثاً، وانفرد البخاري بحديثين ومسلم بسبعة عشر. مات بالربذة سنة إحدى أو اثنتين وثلاثين (وأبي عبد الرحمن معاذبن جبل) الأنصاري أسلم وعمره ثمان عشرة سنة، وشهد العقبة وبدراً والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث وسبعة وخمسون حديثاً، اتفقا على حديثين منها، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بواحد، وورد أنه قال: «أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذبن جبل» وأنه قال: «يا معاذ إني أحبك، فقال: وأنا أحبك وا يا رسولالله، قال: فلا تدع أن تقول في دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» وأنه قال: «يأتي معاذ يوم القيامة بين يدي العلماء برتوة» أي: رمية بسهم، وقيل: بحجر، وقيل: بميل، وقيل: حد البصر. وفضائله كثيرة وقد ذكرت جملة منها في ترجمته في «شرح الأذكار» . مات بناحية الأردن في طاعون عمواس: بفتح أولية قرية بين الرملة والقدس، نسب إليها لأنه أول ما ظهر منها سنة ثماني عشرة وهو ابن ثلاث وقيل: أربع وقيل ثمان وثلاثين سنة، وقبره بغور بيسان في شرقيه (رضي ا) تعالى (عنهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:) أي: لكل منهما: لأبي ذر لما أسلم ولمعاذ لما انطلق إلى اليمن وقد جاء التصريح بذلك (اتق ا) أمر من التقوى وهي امتثال أوامره تعالى واجتناب نواهيه، وهذا على حد قوله تعالى: {اتقوا ا} أي: غضبه، وهو أعظم ما يتقي لما ينشأ عنه من العقاب الدنيوي والأخرويـ ويحذركم الله نفسهـ (حيثما كنت) أي: في أي مكان كنت حيث يراك الناس وحيث لا يرونك اكتفاء بنظره تعالى قال تعالى: {إن الله كان عليكم رقيبا} ( النساء: 1) ومن ثم قال لأبي ذر «أوصيك بتقوى الله في سرائرك وعلانيتك» وهذا من جوامع كلمة، فإن التقوى وإن قلّ لفظها جامعة لحقوقه تعالى، إذ هي اجتناب كل منهيّ عنه وفعل كل مأمور به، فمن فعل ذلك فهو من المتقين الذين شرفهم الله تعالى في كتابه بأنواع من الكمالات يأتي ذكرها أول باب التقوى إن شاء الله تعالى (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) وجه مناسبتها لما قبلها أن العبد مأمور بالتقوى في كل حال، ولما كان ربما يفرط إما بترك بعض المأمورات أو فعل بعض المنهيات

وذلك لا ينافي وصف التقوى كما دل عليه نظم سياقـ أعدت للمتقينـ إلى أن قال في وصفهمـ {والذين إذا فعلوا فاحشة} (آل عمران: 135) إلخ. أمره بما يمحو به ما فرّط فيه، وهذا الحديث على حد {إن الحسنات يذهبن السيئات} (هود: 114) وظاهر قوله «تمحها» وقوله تعالى: {يذهبن السيئات} أن الحسنة تمحو السيئة من الصحف. وقيل: عبر به عن ترك المؤاخذة بها فهي موجودة فيها بلا محو إلى يوم القيامة، وهذا تجوّز يحتاج لدليل وإن نقله القرطبي في «تذكرته» . وقال بعض المفسرين: إنه الصحيح عند المحققين. ثم هذا في الصغائر المتعلقة بحق الله تعالى، أما الكبائر فلا يكفرهاـ على الصحيحـ إلا التوبة بشروطها، وحينئذٍ يصح إدخالها في الحديث بأن يراد بالسيئة ما يعمّ الكبيرة، وبالحسنة ما يشمل التوبة منها، وأما التبعات فلا يكفرها إلا إرضاء أصحابها (وخالق الناس بخلق حسن) جماعة ينحصر كما ذكر عن الترمذي وغيره في طلاقة الوجه لهم وكفّ الأذى عنهم وبذل المعروف إليهم. وقال بعضهم: هو أن تفعل معهم ما تحبّ أن يفعلوه معك، فتجتمع القلوب ويتفق السرّ والعلانية، وحينئذٍ يأمن كيد الكائد، وذلك جماع الخير وملاك الأمر. وقد جاءت أحاديث كثيرة في مدح الخلق الحسن وسيأتي بعضها (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) زاد المصنف في الأربعين وفي بعض النسخ، يعني نسخ الجامع: حسن صحيح. وأشار بهذا إلى اختلاف نسخ الترمذي في «التحسين والتصحيح» ، فقد يوجد عقب حديث في بعضها حسن، وفي بعضها صحيح، وفي أخرى حسن صحيح، وفي أخرى حسن غريب، وسبب ذلك اختلاف الرواة عنه والضابطين لكتابه. ثم تحسينه لهذا الحديث مقدم على ترجيح الدارقطني إرساله للقاعدة المقررة أن المسند لزيادة علمه يقدم على المرسل. وأما تصحيحه في تلك النسخة فيوافقه قول الحاكم إنه على شرط الشيخين، لكن وهم بأن ميموناً أحد رواته لم يخرّج له البخاري شيئاً ولم يصح سماعه من أحد من الصحابة فلم يوجد فيه شرط البخاري فحكمه بأنه على شرط الشيخين من تساهله المعروف. قال السخاوي: ودونه حكم العراقي عليه في «أماليه» بالصحة. ويؤيد تحسين الترمذي له أنه ورد لهذا الحديث طرق متعددة، فرواه أحمد والبزار والطبراني والحاكم والبيهقي وابن

عبد البرّ وغيرهم من طرق يفيد مجموعها الحسن له، ففي «الجامع الصغير» للسيوطي أن الحديث رواه أحمد والترمذي والحاكم والبيهقي عن أبي ذر وأحمد والترمذي والبيهقي عن معاذبن جبل وابن عساكر عن أنس. وذكر السخاوي في «تخريج أحاديث الأربعين» أن الأصح كون الحديث مسند أبي ذّر، وإلى ذلك أشار البيهقي ثم بسط في بيان ذلك. 623 - (الثالث عن) عبد الله (بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبيّ) أي: على دابته كما جاء في رواية، ففيه جواز الإرداف على الدابة إن أطاقته. وقد تتبعت الذين أردفهم النبي معه على دابته فبلغت بهم فوق الأربعين وجمعتهم في جزء سميته (تحفة الأشراف بمعرفة الإرداف) . وقد نظمت اسم جماعة منهم وأوردته آخر ذلك الجزء وها هو: لقد أردف المختار طه جماعة فسنّ لنا الإرداف إن طاق مركب أبو بكر عثمان عليّ أسامة سهيل سويد جبرئيل المقرب صفية والسبطان ثم ابن جعفر معاذ وقيس والشريد المهذ وآمنة مع خولة وابن أكوع وزيد أبو ذر سما ذاك جندب معاوية زيد وخوّات ثابت كذاك أبو الدرداء في العدّ يكتب وأبناء عباس وابن أسامة صديّبن عجلان حذيفة صاحب كذلك جافيهم أبو هرّ من روى ألوفاً من الأخبار تروي وتكتب وعد من الإرداف ياذا أسامة هو ابن عمير ثم عقبة يحسب وأردف غلماناً ثلاثاً كذا أبو إياس وأنثى من غفار تقرب وأردف شخصاً ثم أردف ثانياً وما سميا فيما روى يا مهذب أولئك أقوام بقرب نبيهم لقد شرفوا طوبى لهم يا مقرب (يوماً) أي: في ساعة منه كما يدل عليه تنكيره (فقال: يا غلام) بضم الميم لأنه نكرة مقصودة، وتقدم أنه هو الصبيّ من حين يفطم إلى البلوغ، وسنه إذ ذاك كان نحو عشر سنين (إني أعلمك كلمات) ينفعك الله بهن كما في رواية أخرى وذكره ذلك ليتنبه السامع فيشتد شوقه ويلقي سمعه فيقع في نفسه فيكمل نفعه. وجاء بها بصيغة القلة ليؤذنه بأنها قلية اللفظ فيسهل حفظها، ومنونة إيذانا بعظم خطرها ورفعة حملها، وتأهيله لهذه الوصايا الرفيعة

المقدار الجامعة من العلوم والمعارف ما يفوق الحصر دليل على أنه علم ما يؤول إليه أمر ابن عباس من العلم والمعرفة وكمال الأخلاق وحسن الأحوال (احفظ ا) بملازمة تقواه، واجتناب نواهيه، وما لا يرضاه (يحفظك) يالجزم، في نفسك وأهلك، ودنياك ودينك لاسيما عند الموت، إذ الجزاء من جنس العمل، ومنه {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} (البقرة: 40) وهذا من جوامع كلمه فقد جمعت سائر أحكام الشريعة قليلها وكثيرها (احفظ ا) بما ذكر (تجده تجاهك) أي: تجده معك بالحفظ والإحاطة والتأييد والإعانة حيثما كنت فتأنس به وتغنى به عن خلقه، فهو كالتأكيد لما قبله، وهو من المجاز البليغ لاستحالة الجهة التي هي مدلول «تجاه» عليه تعالى، وتجاه بضم التاء وأصله وجاه بضم الواو وكسرها فأبدلت فوقية كما في تراث: ومعناه أمام كما جاء في ذلك الرواية الآتية: أي: تجده معك بالحفظ فهو نظير {إن الله مع المتقين} (التوبة: 36) ونحوه، إذ هي معية معنوية لا ظرفية، وخص الإمام من بين باقي الجهات الستّ بالذكر إشعاراً بشرف المقصد وبأن الإنسان مسافر إلى الآخرة والمسافر إنما يطلب أمامه لا غير، فكأنّ المعنى: تجده حيثما توجهت وتيممت من أمر الدنيا والآخرة (إذا سألت) أي: أردت السؤال (فاسأل ا) أن يعطيك مطلوبك قال تعالى: {واسئلوا الله من فضله} (النساء: 32) ولا تسأل غيره فإن خزائن الوجود بيده تعالى وأزمتها إليه * إذ لا قادر ولا معطي ولا متفضل غيره * فهو حق أن يقصد ويسأل، ولا فائدة في سؤال الخلق إذ لا يملكون نفعاً ولا ضراً لأنفسهم فضلاً عن غيرهم، وما أحسن قول الأستاذ أبي الحسن الشاذلي: أيست من نفع نفسي لنفسي؟ فكيف لا أيأس من نفع غيري لنفسي، ورجوت الله لغيري، فكيف لا أرجوه لنفسي، وإنما يميل القلب إلى المخلوق ويركن إليه لضعف يقينه ووقوعه في الغفلة عن حقائق الأشياء، وبقدر بعده من مولاه يكون ركونه لمن سواه. ولما نجا من تلك الهوة وتيقظ من تلك الغفلة أصحاب التوكل واليقين أعرضوا عن السوري، وأنزلوا جميع حوائجهم بباب كرم وجود المولى، لأنه المتكفل لكل متوكل بما يحب ويتمنى، قال تعالى: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} (الطلاق: 3) (وإذا استعنت) أي: طلبت الإعانة على أمر من أمور الدارين (فاستعن با) لأنه القادر على كل

شيء وغيره عاجز عن كل شيء، فمن أعانه تعالى فهو المعان ومن خذله فهو المخذول، ومن ثم كانت «لا حول ولا قوّة إلا با» كنزاً من كنوز الجنة لتضمنها براءة النفس من حولها وقوتها، إلى حوله وقوّته. وكتب الحسن إلى عمربن عبد الغزيز: لا تستعن بغيره تعالى يكلك الله إليه. (واعلم أن الأمة) المراد بها هنا سائر المخلوقين كما صرحت به رواية أحمد «فلو أن الخلق جميعاً أرادوك الخ» . وأما مدلولها وضعاً فالجماعة وأتباع الأنبياء، والرجل الجامع للخير المقتدي به. والدين والملة نحو {إنا وجدنا آباءنا على أمة} (الزخرف: 23) والزمان نحو {وادكر بعد أمة} (يوسف: 45) والرجل المنفرد بدينه الذي لم يشركه فيه أحد كقوله: «يبعث زيدبن عمرو بن نفيل أمة وحده» فالأمة لفظ مشترك ومن جملة معانيه الأم كهذه أمة زيد أي أم زيد (لو اجتمعت) لو هنا بمعنى إن، إذ المعنى على الاستقبال، ونكتة العدول أن اجتماعهم على الإمداد من المستحيلات بخلاف اجتماعهم على الأذى فإنه ممكن (على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن) عبر بها بدل لو تفننا في التعيير (اجتمعوا على أن يضرّوك بشيء لم يضرّوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك) كما يشهد له قوله تعالى: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو، وإن يردك بخير فلا رادّ لفضله} (يونس: 107) والمعنى: وحد الله في لحوق الضرّ والنفع، فهو الضار النافع ليس معه أحد في ذلك لما تقرّر أنه القادر لا سواه، فأزمة المخلوقات بيده يتصرف فيها بما يشاء، فهذا تقرير وتأكيد لما قبله من توحيد الله تعالى في لحوق النفع والضرّ على أبلغ برهان وأوضح بيان، وحثّ على التوكل والاعتماد على الله سبحانه وتعالى في جميع الأمور، وعلى شهود أنه الفاعل المختار النافع الضار. وغيره ليس له من ذلك شيء، وعلى الإعراض عما سواه. وفي بعض الكتب الإلهية «وعزّتي وجلالي لأقطعن أمل من يؤمل غيري، ولألبسنه ثوب المذلة عند الناس، ولأحجبنه عن قربي، ولأبعدنه عن وصلي، ولأجعلنه متفكراً حيران، يؤمل غيري في الشدائد، والشدائد بيدي وأنا الحيّ القيوم، ويطرق بالفكر أبواب غيري وبيدي مفاتيح الأبواب، وهي مغلقة وبابي مفتوح لمن دعاني» (رفعت الأقلام) أي: تركت الكتابة بها لفراغ

الأمر وانبرامه (وجفت) بالجيم بالبناء للمفعول (الصحف) التي فيها تقادير الكائنات كاللوح المحفوظ، أي فرغ من الأمر وجفت كتابته فلم يمكن أن يكتب فيها بعد ذلك تبديل أو نسخ لما كتب من ذلك واستقرّ، لأنها أمور ثابتة لا تبدّل ولا تغير عما هي عليه، فذلك كناية عن تقدم كتابة المقادير كلها والفراغ منها من أمد بعيد، وهذا من أحسن الكنايات وأبلغها، وقد دل الكتاب والسنة على ذلك، فمن علم ذلك وشهده بعين بصيرته هان عليه التوكل على خالقه والإعراض عما سواه (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) . قال السخاوي في «تخريج أحاديث الأربعين» : حديث حسن وبين ذلك، ثم قال: وبالجملة فالحديث ثابت من حديث الليلة وغيره ممن قدمناه، ولذا أورده الضياء في المختارة من هذا الوجه بل صححه العراقي في «أمياله» تبعاً للترمذي، وقال ابن منده: إسناده مشهور ورواته ثقات اهـ.g وقد أورده جماعة من طرق عن ابن عباس، وجاء أنه وصاه بذلك، وعن علي وأبي سعيد رواه العسكري في كتاب الأمثال، وسهل ابن سعد رواه ابن مردويه، وعبد ابن جعفر رواه ابن عاصم في السنة. وقد خرّج طرقها كلها السخاوي؛ وقال: قال أبو جعفر العقيل، كل أسانيد هذا الحديث لينة وبعضها أصلح من بعض، وليس هذا بجيد. فحديث ابن عباس حسن جيد، وأصح طرقه رواية حنش كما صرح به ابن منده وغيره وهي التي أخرج الترمذي الحديث من طريقها (وفي رواية غير الترمذي) وهو عبدبن حميد في «مسنده» لكن بإسناد ضعيف، وقد رواه أحمد بإسنادين منقطعين ولفظه أتمّ من حديث عبدبن حميد وقد أوردته في «شرح الأذكار» (احفظ الله تجده أمامك، تعرف) بتشديد الراء: أي: تحب (إلى الله في الرخاء) بالدأب في الطاعات والإنفاق في وجوه القرب والمثوبات حتى تكون متصفاً عنده بذلك معروفاً به (يعرفك في الشدة) بتفريجها عنك وجعله لك من كل ضيق فرجاً ومن كل هم مخرجاً بواسطة ما سلف منك من ذلك التصرف. وقيل: إنه على حذف مضاف: أي تعرف إلى ملائكة الله في الرخاء بالتزام طاعته تعالى والتزام عبوديته يعرفك في الشدة بواسطة شفاعتهم عنده في تفريج كربك وغمك. وتعقب بأنه تكلف فالأول أولى. ومعرفة العبد ربه ضربان: عامة وهي الإقرار بوحدانيته وربوبيته والإيمان به. وخاصة وهي الانقطاع إليه والأنس به والطمأنينة بذكره والحياء منه وشهوده في

كل حال. ومعرفة الله تعالى كذلك عامة، وهي علمه بعباده واطلاعه على أعمالهم وخاصة وهي محبته لعبده وتقريبه إليه وإجابة دعائه وإنجاؤه من الشدائد، فلا يظفر بهذه الخاصة إلا من تحلى بتلك الخاصة (واعلم أن ما أخطأك) من المقادير فلم يصل إليك (لم يكن) مقدراً عليك (ليصيبك) أي: محال أن يصيبك لأنه بان بأنه أخطأك أنه مقدر على غيرك. وفيه مبالغة من وجوه من حيث دخول اللام المؤكدة للنفي على الخبر وتسليط النفي على الكينونة وسرايته في الخبر (وما أصابك) منها (لم يكن) مقدراً على غيرك (ليخطئك) وإنما هو مقدر عليك إذ لا يصيب الإنسان إلا ما قدر عليه، ومعنى ذلك أنه فرغ مما أصابك وأخطأك من خير أو شرّ، فما إصابته لك محتومة لا يمكن أن يخطئك، وما أخطأك فسلامتك منه محتومة فلا يمكن أن يصيبك لأنها سهام صائبة وجهت من الأزل فلا بد أن تقع مواقعها، وما أحسن ما قيل: جرى قلم القضاء بما يكون فسيان التحرك والسكون فلم يبق سوى التوكل على الله سبحانه والسكون تحت جري المقادير، وما أحسن ما قيل: ولما رأيت القضا جارياً بلا شك فيه ولا مرية توكلت حقاً على خالقي وأسلمت نفسي مع الجرية ففي الحديث تقرير وحضّ على تفويض الأمور كلها إلى الله تبارك وتعالى مع شهود أنه الفاعل لما يشاء، وأن ما قضاه وأبرمه لا يمكن أن يتعدّى حدّه المقدر له، وهذا راجع إلى قوله تعالى: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبزأها} (الحديد: 22) ثم مدار هذه الوصية على هذا الأصل إذ ما قبله وما بعده مفرع عليه وراجع إليه، فإن من علم أنه لن يصيبه إلا ما كتب له وأن اجتهاد الخلق كلهم بخلاف المقدور لا يفيد شيئاً البتة علم أن الله وحده هو الضارّ النافع فأفرده بالطاعة وحفظ حدوده وخافه ورجاه وأحبه، وأفرده بالاستعانة والسؤال له والتضرّع إليه والرضا بقضائه في حالة الشدة والرخاء (واعلم) تنبيه على أن شأن هذه الدار لاسيما مع الصالحين الأخيار كثرة الأعراض والأنصاب، فينبغي الصبر للظفر بجزيل الثواب والرضا بالقضاء والقدر (أن النصر) من الله

للعبد على جميع أعداء دينه ودنياه كائن (مع الصبر) على طاعة الله وعن معصيته، وقيل: الصبر على نكياتهم وعدم انتصار مثهم لنفسه (وأن الفرج) وهو كما في «الصحاح» : الخروج من الغمّ اهـ حاصل سريعاً (مع الكرب) هو الغم الذي يأخذ بالنفس فلا دوام للكرب، وحينئذٍ فينبغي لمن نزل به ذلك أن يكون صابراً محتسباً راجياً سرعة الفرج مما نزل به حسن الظن بمولاه في جميع أموره، فإنه أرحم به من كل راحم إذ هو أرحم الراحمين (وأن مع العسر يسرا) كما نطق به قوله تعالى: {فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا} (الشرح: 5، 6) ومن ثم ورد عنه «لن يغلب عسر يسرين» أي: لأن النكرة إذا كررت كانت الثانية غير الأولى، والمعرفة إذا أعيدت كانت الثانية عين الأولى غالباً فيهما، وليست الآية من غير الغالب خلافاً لمن فهم ذلك فقال: وفي الآية عسران: أيضاً عسر الدنيا ومعه يسر، وعسر الآخرة ومعه يسر، ولا ينافي وقوع العسر لنا، كما صرحت به هذه الآية عدم وجود وقوعه كما صرح به قوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} (البقرة: 185) لاختلاف المراد بالعسرين، لأن المثبت هو العسر في العوارض الدنيوية التي تطرق العبد بما لا يلائم نفسه كضيق الأرزاق ونحوها، والمنفي هو العسر بالتكليف بالأحكام الشاقة كما قال تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (الحج: 78) ثم اليسر السهولة، ومنه اليسار لأنه تسهل به الأمور، والعسر نقيضه. وفي «الصحاح» : كل ثلاثي أوله مضموم ووسطه ساكن فمن العرب من يثقله ومنهم من يخففه. وما تقرر في «مع» في محالها الثلاث من أنها على بابها هو الظاهر إذ أواخر أوقات الصبر والكرب والعسر هي أول أوقات النصر والفرج واليسر، فقد تحققت المقارنة بينها. ومن لطائف اقتران الفرج بالكرب واليسر بالعسر أن الكرب إذا اشتد وتناهى أيس العبد من جميع المخلوقين وتعلق قلبه با وحده وهذا هو حقيقة التوكل، وقد قال تعالى: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} (الطلاق: 3) والحديث بطريقيه أصل عظيم في مراقبة الله ومراعاة حقوقه والتفويض لأمره والتوكل عليه وشهود توحيده وتفرده وعجز الخلائق كلهم وافتقارهم إليه.

634 - (الرابع: عن أنس رضي الله عنه قال) : مخاطباً للمتساهلين في الأعمال (إنكم لتعملون أعمالاً) تستهونونها لعدم نظركم إلى عظم المعصي بها (هي) لذلك (أدقّ في أعينكم من الشعر) استخفافاً بها (كنا نعدها) لكمال الخشية الناشئة عن كمال المعرفة با الحاصلة بحلول نظر النبيّ (على عهد) زمن (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الموبقات) وهذا كما جاء في الخبر الآخر «لا تنظر إلى صغر الخطيئة وانظر إلى عظم من عصيت» وفي الخبر الآخر «المؤمن يرى ذنبه كأنه صخرة يخاف أن تقع عليه، والكافر يرى ذنبه كأنه ذباب يمر على أنفه» . وفي الحديث كمال مراقبة القوم تعالى وكمال استحيائهم منه، حتى إنهم يرون تلك الأمور التي استهون غيرهم الوقوع فيها مهلكات لهم لعظم شهودهم جلال الله تعالى وعظمته. أحيا الله قلوبنا من موت الغفلة بمنته (رواه البخاري، وقال) أي: البخاري (الموبقات) بضم الميم (المهلكات) وفيه أن الإنسان ينبغي له أن يحذر من صغار الذنوب فلعلها تكون المهلكة له في دينه، كما يحترز من يسير السموم خشية أن يكون فيها حتفه. 645 - (الخامس: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ قال: إن الله تعالى يغار، وغيرة الله أن يأتي المرء ما حرّم الله عليه) أي: منعه أن يأتي ذلك (متفق عليه) ورواه أحمد والترمذي كلهم بزيادة «والمؤمن يغار» ورواه بإسقاطها البخاري (والغيرة بفتح الغين) المعجمة وسكون التحتية بعدها راء مهملة (وأصلها) في وضع اللغة (الأنفة) بفتح أولية، أي الامتناع من الضيم ونحوه، وفي «شرح مسلم» «أصلها المنع» والرجل غيور على أهله يمنعهم من التعلق بأجنبيّ بنظر أو غيرة، ومعنى غيره الله تعالى: منعه الناس من الفواحش:

أي: وسائر المحرمات كما في حديث الباب، لكن الغيرة في حق الناس يقارنها تغير حال الإنسان وانزعاجه، وهذا مستحيل في حق الله تعالى اهـ. 656 - (السادس: عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع) كلام (النبيّ يقول) : تقدم أن جملة يقول بدل اشتمال من مفعول سمع، أو جملة حالية من المفعول المحذوف الذي قدرته وأتي به مضارعاً بعد سمع الماضي، إما حكاية لحال وقت السماع أو لإحضار ذلك في ذهن السامع (إن ثلاثة من بني إسرائيل) أي: أولاد يعقوببن إسحاقبن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليهم (أبرص) أي: به وضح، وهو بالنصب بدل من ثلاثة وخبر إن محذوف: أي: أقصّ عليكم شأنهم، ولو روي بالرفع لكان على القطع، والفاء في «فأراد ا» لتعقيب المفسر للمجمل، ويصح عند من جوّز دخول الفاء في خبر إن أن يكون الخبر الجملة بعدها وكذا على حذفها كما في نسخه (وأقرع) أي: من ذهب شعر رأسه من آفة (وأعمى) العمى عدم البصر عما من شأنه أن يكون بصيراً (فأراد الله أن يبتليهم) أي: يعاملهم معاملة المبتلي المختبر، وإلا فعلمه أزليّ شامل للموجود والمعدوم قبل وجوده (فبعث) أرسل (إليهم ملكاً) بفتح اللام في صورة إنسان (فأتى) الملك (الأبرص) بدأ به ثم بالأقرع اهتماماً بالتسجيل عليهما وتعجيلاً للانتقام، وقدم الأبرص لأن داءه أقبح وأشنع ولونه أعظم (فقال) له (أي شيء أحبّ إليك؟ قال: لون حسن) بالتنوين على الوصف (و) كذا (جلد حسن) لم يقتصر على طلب اللون الحسن، لأن جلد البرص يحصل له من التقلص والتشنج والخشونة ما يزيد به قبح صاحبه وعاره، فلم يكف طلب حسن اللون عن طلب حسن الجلد (ويذهب) عطف على ما قبله بتقدير أن (عني) الداء (الذي قد قذرني) بكسر الذال: أي تباعد عني وكرهني (الناس) أي: بسببه، والعائد محذوف: أي به. قال الكرماني: وفي نسخة «قذروني» على لغة أكلوني البراغيث قال: (فمسحه) الملك أي أمرّ يده عليه (فذهب عنه قذره) أي: سبب قذره وهو البرص الذي كان به (وأعطى لوناً حسناً وجلداً حسناً، قال) الملك له (فأي المال) معروف وتصغيره مويل

والعامة تقول مويل بتشديد الياء كذا في «الصحاح» (أحبّ إليك؟ قال: الإبل) بكسرتين وتسكن الموحدة تخفيفاً، أي الجمال: اسم يقع على الواحد والجمع وليس بجمع ولا اسم جمع، كذا قال ابن سيده. وقال الجوهري: ليس لها واحد من لفظها، وهي مؤنثة لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كانت لغير الآدميين فالتأنيث لها لازم، وإذا صغرتها أدخلتها التاء فقلت أبيلة وغنيمة ونحو ذلك (أو قال البقر. شك الراوي) اسمه إسحاقبن عبد الله، أي شك هل سمع الإبل أو البقر، والمرجح الإبل لكونه اقتصر عليها في قوله: «فأعطي ناقة عشراء» ويؤيده الاقتصار في الأقرع على البقر لا غير فتعين الإبل للأبرص. وكذا قيل. لكن في رواية للبخاري في أبواب بني إسرائيل: هو شك في ذلك أن الأبرص والأقرع قال أحدهما الإبل وقال الآخر البقر اهـ. وبها يعلم أن الاقتصار في الأقرع على البقر من الراوي وإلا فالشك فيه كما قبله، ويؤيد أنها الإبل أيضاً سؤال الملك له بعيراً وهذا كله بعد الشك (قال فأعطى) بالبناء للمفعول (ناقة عشراء فقال بارك ا) أي: أوقع (لك) البركة، وهو يحتمل أن يكون دعاء منه له بذلك، وأن يكون إخباراً به (فيها) أي في هذه الناقة (قال فأتى الأقرع) أي: عقب تمام ما يتعلق بالأبرص كما تشعر به الفاء (فقال: أيّ شيء أحبّ إليك؟ قال: شعر حسن) بالتنوين على الوصف (ويذهب عني هذا) الداء أي القرع (الذي قد قذرني الناس) أي: بسببه (قال: فمسحه) الملك، يحتمل أن يكون مسح محل الداء فقط وهو الأقرب، وأن يكون مسح جميع بدنه لتعمه بركته (فذهب عنه) القرع (وأعطى شعراً حسناً قال) الملك له (فأيّ المال أحب إليك؟) أي: من جميع الأموال، أي: أيها تحب أن يكون لك منها؟ (قال: البقر) اسم جنس يقال على الذكر والأنثى، وإنما دخلته الهاء للفرق بين الواحدة والجمّع، والباقر جماعة البقر مع رعاتها، وأهل اليمن يسمون البقرة باقورا (فأعطي بقرة حاملاً) لم يقل حاملة لاختصاص هذا الوصف بالمؤنث كحائض وطالق وإنما يحتاج إليها للفرق في نحو قائم وقائمة (وقال: بارك الله لك فيها) أي: في هذه البقرة (قال: فأتى الأعمى فقال: أيّ شيء أحبّ إليك؟ قال: أن يرد الله إليّ

بصري) أي: القوّة المودعة في العينين التي بها تدرك المبصرات (فأبصر) بضم الهمزة (به الناس) أي: أراهم ببصري، أي بعيني رأسي (قال: فمسحه) أي: أمرّ يده على عينيه، ويحتمل على جميع بدنه، والأول أقرب كما تقدم في «نظيره» (فردّ الله إليه بصره) أي: القوّة المدركة المذكورة (قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم) أي: أحبه إليّ، فهو مبتدأ محذوف الخبر، أو الأحبّ إليّ الغنم فيكون خبر مبتدأ محذوف. وفي «الصحاح» : الغنم اسم مؤنث موضوع للجنس يقع على الذكور والإناث، وإذا صغرتها ألحقتها التاء فقلت غنيمة، لأن أسماء الجموعـ إلى آخر ما تقدم يقال خمس من الغنم ذكور فيؤنث العدد وإن عنيت الكباش، لأن العدد يجري في تذكيره وتأنيثه على اللفظ لا على المعنى، والإبل كالغنم في جميع ما ذكرناه، كذا نقله عنه الدميري في حياة الحيوان (فأعطي) بالبناء للمجهول (شاة) المفعول الثاني لأعطى ومفعوله الأول نائب الفعل المضمر في الفاعل (والداً) أي: ذات ولد، وقيل حاملاً. وفي «جامع الأصول» : هي التي قد عرف منها كثرة الولد والنتاج (فأنتج هذان) سيأتي أنه بالبناء للفاعل لكن في «الصحاح» : للعرب أحرف لا يتكلمون بها إلا على سبيل المفعول وإن كان بمعنى الفاعل مثل قولهم: زهى الرجل وعنى بالأمر ونتجت الناقة والشاة وأشباهها اهـ والمشار إليهما صاحبا الإبل والبقر (وولد) بتشديد اللام (هذا) أي: صاحب الغنم (فكان لهذا واد) أي: ملؤه (من الإبل، ولهذا واد من البقر) من عطف معمولين على معمولي عامل واحد وهو جائز اتفاقاً، وقوله من الإبل في محل الصفة لواد، ويجوز أن يكون حالاً لتخصيصه بتقديم الخبر (ولهذا واد من الغنم قال: ثم إنه) أي: الملك (أتى الأبرص) متصوراً (في صورته) أي: التي كان عليها (وهيئته) من رذالة الملبس، وقيل: الضمير في صورته وهيئته يرجعان للملك: أي: جاءه بعد أن صار معافى غنياً في الصورة التي قد جاءه فيها وهو بضد ذلك فدعا له فذهب عنه (فقال رجل مسكين) بكسر الميم من المسكنة: الحاجة خبر مبتدإ محذوف أي أنا رجل محتاج (قد انقطعت بي) الباء للتعدية (الحبال) الرواية المشهورة بالمهملة والموحدة كما سيأتي في الأصل واحده

حبل: وهو المستطيل من الرمل. وقيل الأسباب في طلب الرزق. قال القرطبي: وهذا أوقع التفسيرين. وفي رواية لمسلم «الحيال» بالتحتية من الحيلة، ومن رواه بالجيم والموحدة كبعض رواة البخاري ففيه بعد، بل قال بعضهم: إنه قد صحف (في سفري) ظرف لغو متعلق بانقطعت، أو ظرف مستقرّ حال من الضمير المجرور (فلا بلاغ لي) البلاغ: ما يتبلغ ويتوصل به إلى الشيء المطلوب: أي لا وصول لي لما أريده (اليوم إلا با) أي: إيجاده وتيسيره (ثم بك) لكونك مظهراً للخير يجري على يديك، وثم هي هنا للترتيب في التنزل، ولم يقل وبك دفعاً لإيهام التشريك، ولذا كان الإتيان بثم هو الأدب المتأكد كما يأتي، وهذا من الملك من المعاريض التي يقصد بها التوصل إلى إفهام المقصود من غير أن يراد حقيقتها كما في قول إبراهيم صلى الله على نبينا وعليه وسلم: هذا ربي، وهذه أختي (أسألك) أي: أقسم عليك مستعطفاً (بـ) ا (الذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن) بفتح المهملتين، أي بعد الابتلاء في اللون والجلد (والمال) أي: بعد الابتلاء بالفقر (بعيراً) هو اسم يقع على الذكر والأنثى، وهو من الإبل بمنزلة الإنسان من الناس، والجمل بمنزلة الرجل، والناقة بمنزلة المرأة والقعود بمنزلة الفتى، والقلوص بمنزلة الجارية، وإنما يقال له بعير إذا أجذع والجمع أبعرة وأباعر وبعران (أتبلغ) بتشديد اللام: أي من البلغة: وهي الكفاية (به) كذا رواية الكشميهني في البخاري وعند غيره في «عليه» أي بعيراً أكتفى به أو حال كوني عليه (في سفري فقال) الأبرص (الحقوق كثيرة) أي: علىّ فلا فاضل عن الحاجة لأعطيك إياه فانظر غيري (فقال) الملك (إنه) أي الشأن (كأني) بتشديد النون (أعرفك) الظاهر أن كأنّ فيه للتحقيق وهو معنى أثبته الكوفيون وذكره ابن هشام في «المغني» ، قال العلوي: وهو التحقيق، وأنشدوا عليه: وأصبح بطن مكة مقشعراً كأن الأرض ليس بها هشام أي: لأن الأرض؛ وقال ابن السيد في «شر شواهد الجمل» : جرت عادة النحويين أن

يجعلوا كأن للتشبيه حيث وقعت، وليس ذلك بصحيح إنما تكون تشبيهاً محضاً إذا وقع في الخبر اسم ممثل به اسمها ويكون الخبر أرفع من الاسم أو أحط منه نحو: كأن زيداً ملك، أو كأن عمراً حمار. أما إذا كان خبرها فعلاً أو ظرفاً أو مجروراً أو صفة من صفات اسمها فإنها يدخلها حينئذٍ معنى الظن والحسبان نحو: كأن زيداً قائم أو في الدار، فلست تشبه زيداً بشيء هاهنا، وإنما تظن أنه قائم أو في الدار انتهى بلفظه. لكن الذي صححه ابن مالك وأبو حيان والرضي وغيرهم ما ذهب إليه الجمهور من أن التشبيه لا يفارقها، وأن ما أوهم خلافه مؤول (ألم) استفهام تقريري (تكن أبرص تقذرك) بفتح الذال المعجمة: أي: تكرهك (الناس) أي: فعافاك الله (فقيراً) أي: محتاجاً (فأعطاك ا؟ فقال إنما ورثت) بتشديد الراء مبني للمفعول وبتخفيفها مبني للفاعل (هذا المال كابراً عن كابر) أي: كبيراً عن كبير في العزّ والشرف: أي: ورثته عن أبي وجدي. وحاصله إنكار تلك الحال ودعوى أنه نشأ في تلك الأحوال فهي غير متجددة عليه، وهذا من إنكار النعم وكفر المنعم، حمله عليه البخل، وحق العبد ألا يزال لنعم مولاه شاكراً ولأحواله التي كان عليها وآل إليها ذاكراً. وفي الحوض المورود للشيخ عبد الوهاب الشعراني: أخذ علينا العهود إذا حصل لنا ضخامة وقيام ناموس بين الناس ألا ننسى صفتنا التي كنا عليها قبل من الثياب الخلقة وخدمة الناس وضيق المعيشة ونحو ذلك، وذلك لنعرف الله بالنعم، فإن من نسي حاله أيام صغره قلّ شكره، وربما قال: نحن بحمد الله نشأنا في الضخامة أباً عن جدّ ليوهم من لم يعرفه أن حاله لم يزل كذلك. وقد دخل شخص على معنبن زائدة فقال له: أتذكر إذ قميصك جلد شاة وإذ نعلاك من جلد البعير فقال معن: أذكر والحمد رب العالمين. فقال: Y فقد جلّ الذي أعطاك ملكاً وعلمك الجلوس على السرير فقال: جل ربي وعز. فقال: فجد لي يابن ناقصة بمال فإني قد عزمت على المسير فأمر له بمال جزيل وشكر له تذكيره الحالة التي لعله نسيها اهـ. وقال القرطبي: حمل هذا القائل بخله على نسيان منة الله تعالى وجحد نعمه وعلى الكذب، ثم أورثه ذلك سخطه

الدائم وذلك بشؤم البخل، واعتبر بحال الأعمى لما اعترف بشكر النعم، وسخت نفسه بما ثبتها الله عليه وشكر فعله رضي الله عنه كما يأتي (فقال) الملك (إن كنت كاذباً في دعواك) وأتى بأن الموضوعة للشك في الشرط مع أنه جازم به مماشاة ومساجلة، أو أنّ «إن» فيه بمعنى إذ (فصيرك ا) بتشديد الياء التحتية (إلى ما كنت) قال (وأتى الأقرع في صورته) التي يقذرها الناس (وهيئته) التي يحقرونها لرثاثتها، وسقطت هذه المعطوفة عند صاحب المشكاة في روايته المعزوّة للصحيحين. قال شارحهما ابن حجر: لم يقل هنا وهيئته اختصاراً أو إشارة إلى شدة لؤم الأبرص وغباوته، فإنه مع كونه أتى له في صورته وهيئته التي أتاه عليها أولاً وحصل له منه ما حصل من الشفاء والغنى أنكر معرفته وتجاهل به وتفاخر عليه بأنه إنما جاءه المال من أبيه، فضم إلى كذبه قبائح تنبىء عن أنه انتهى في اللؤم والحمق إلى غاية لم يصلها غيره (فقال له) الملك (مثل ما قال لهذا) الأبرص (وردّ) الأقرع (عليه مثل ما ردّ هذا) الأبرص (فقال) الملك (إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت) عليه من القرع والفقر: قال (وأتى الأعمى) متشكلاً (في صورته) أي: في صورة آدمي أعمى (وهيئته فقال) الملك (رجل) أي: صورة، إذ الملائكة لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة (مسكين وابن سبيل) أي: مسافر سمي به لملازمته السبيل كما سمي القاطع ابن الطريّق، ويحتمل أنه أراد أنه ضيف وسمي به لأن السبيل تظهر به (انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا با ثم بك، أسألك بالذي ردّ عليك بصرك) أي: القوة الباصرة المدرك بها المبصرات (شاة أتبلغ بها في سفري، فقال) ذلك الرجل متذكراً نعم الله تعالى عليه وحسن حاله بعد بؤسه (قد كنت أعمى فردّ الله إليّ) بتشديد الياء وفي نسخة «عليّ» (بصري فخذ ما شئت) أي: من المال (ودع ما شئت) منه (فوا لا أجهدك) بفتح الهاء وهذه رواية مسلم (اليوم بشيء) أي: في ردّ شيء (أخذته) علة لعدم الإجهاد: أي: لا أشق عليك الله أو للأخذ، وشتان ما بين هذا وقول ذينك «الحقوقـ أي الموانع من

الإعطاءـ كثيرة» فلا يمكن أن أعطيك شيئاً وإن قل (فقال) الملك (أمسك مالك فإنما ابتليتم) أي: امتحنتم: أي: عاملكم الله العالم بجميع الأمور معاملة المبتلى المختبر ليترتب على عملكم أثره إذ الجزاء إنما جعله الله مرتباً على ما يبدو في عالم الشهادة لا على ما سبق في علمه (فقد رضي عنك وسخط) بالبناء للمجهول (على صاحبيك) والرضا والسخط المراد بهما في حقه تعالى لازمهما مجازاً مرسلاً إما عن إرادة الإثابة والتعذيب فيكونان صفتي ذات، أو التعذيب والإثابة نفسهما فيكونان صفتي فعل (متفق عليه) وانفرد به الشيخان عن باقي أصحاب الكتب الستة (والناقة العشراء بضم العين) المهملة (وفتح الشين) المعجمة (وبالمد: هي الحامل) كذا أطلقه وهو قول، وقيل: الحامل التي أتي عليها من حملها عشرة أشهر من يوم طرقها الفحل وهي من أنفس الإبل. وفي «مختصر القاموس» : والعشراء من النوق التي مضى لحملها عشرة أشهر أو ثمانية، وهي كالنفساء من النساء جمعه عشروات وعشار اهـ. ( قول أنتج بالبناء للفاعل) هو شاذ قليل لأنه لم يسمع من هذه المادة إلا نتج مبني للمفعول، والنتاج: الأولاد، والنتج والإنتاج: تولى الولادة (وفي رواية فنتج) بالبناء للفاعل كذلك و (معناه تولى نتاجها) الأقرب أن معناه ولد الإبل والبقر، ومعنى ولد الغنم: أي: صيرها والدة أي منسوبة للولادة نحو فسقت الرجل نسبته للفسق، والناتج للناقة كالقابلة للمرأة. وقوله: ولد هذا هو بتشديد اللام: أي: تولى ولادتها وهو بمعنى أنتج في الناقة (فالمولد والناتج والقابلة بمعنى) وهي المتولية للولادة (لكن) في عرف الاستعمال (خص هذا) أي: الناتج (للحيوان) هو الإبل والبقر (وذاك) أي: المولد (لغيره) أي: الغنم والقابلة لبني آدم (قوله انقطعت بي الحبال، هو بالحاء المهملة والباء الموحدة) أي: الأسباب (قوله لا أجهدك) بالجيم والهاء وهي رواية مسلم (معناه لا أشق عليك في ردّ شيء) فهو على حذف مضاف (تأخذه) بأن أنزعه منك (أو تطلبه من

مالي) بأن أمنعه. قال القرطبي: قال صاحب «الأفعال» : جهدته وأجهدته: بالغت في مشقته وقيل معنى أجهدك: لا أقلل لك فيما تأخذه. والجهد ما يعيش به المقل، ومنه: {والذين لا يجدون إلا جهدهم} (التوبة: 79) (وفي رواية البخاري) وهي عند ابن ماهان كما قال القرطبي (لا أحمدك بالحاء المهملة والميم) وبلا النافية (ومعناه لا أحمدك بترك شيء تحتاج إليه) فهو على تقدير المضاف وذلك لطيب نفسي بما تأخذه (كما قال) أي: الشاعر: ليس على طول الحياة ندم أي: على فوات طولها. قال الشاعر: أتوب إليك يا مولاي مما عليّ به تواترت الذنوب وأما عن هوى ليلى وتركي زيادتها فإني لا أتوب أي: وعدم تركي زيارتها. قال الكرماني في «شرح البخاري» : أو أنه من قولهم فلان بتحمد أي يمتن. يقال من أنفق ماله على نفسه فلا يتحمد به على الناس. قال: وروي «لأحمدك» بالام فقط قبل المضارع من الحمد. 667 - (السابع عن أبي يعلى) بفتح التحتية وسكون المهملة (شدادبن أوس) بفتح الشين المعجمة وتشديد الدال الأولى (رضي الله عنه) وأوس بفتح الهمزة وسكون الواو آخره سين مهملة ابن ثابتبن المنذربن حرامبن عمروبن زيدبن مناةبن عديبن عمروبن مالكبن النجار الأنصاري، وهو ابن أخي حسانبن ثابت الجامع بين العلم والعمل والحلم. مات بفلسطين سنة ثمان وخمسين، وهو ابن خمس وسبعين سنة. وقال المصنف في «التهذيب» : مات ببيت المقدس قبره بظاهر باب الرحمة باق إلى الآن اهـ. وروي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسون حديثاً أخرجا له حديثين انفرد بأحدهما البخاري وبالآخر مسلم (عن النبي قال: الكيس) العاقل (من دان نفسه) أي: حاسبها ومنعها مستلذاتها وشهواتها التي فيها

هلاك دينها (وعمل لما بعد الموت) من القبر وما بعده صالح العمل المؤنس له في الوحدة والوحشة، وما أحسن ما قيل: با يا نفس اسمعي واعقلي مقالة قد قالها ناصح لا ينفع الإنسان في قبره إلا التقى والعمل الصالح (والعاجز) التارك لما يجب فعله بالتسويف (من أتبع) بإسكان الفوقية (نفسه هواها) أي: جعلها تابعة لما تهواه مؤثرة لشهواتها معرضة عن صالح الأعمال لكونه على خلاف ما تدعو إليه النفس (وتمنى على ا) الفوز في الآخرة. فالحاصل أن الحزم الإتيان بواجب العبودية من أداء الخدمة، ومحاسبة النفس حذر مجاوزة الحدود وعدم الالتفات إلى ذلك بالقلب والركون إليه، بل يكون اعتماده مع ذلك على فضل مولاه سبحانه. وأما ترك أداء مقام العبودية فذلك من رعونات النفس الخفية لاسيما إن أوقعها في ميدان شهواتها الذي فيه هلكها ومحقها (رواه الترمذي) وكذا رواه أحمد وابن ماجه والحاكم (وقال) الترمذي (حديث حسن) ورواه البيهقي من حديث أنس في «الجامع الصغير» (قال الترمذي وغيره) من العلماء (معنى دان نفسه: حاسبها) حكاه في «النهاية» بقيل فسره هو بقوله: أي: أذلها واستعبدها، والحساب من جملة معاني الدين ذكره في «القاموس» . وفي «الكشاف» في قوله تعالى: {إنا لمدينون} (الصافات: 53) أو معناه لمسوسون أي مربوبون من الدين بمعنى السياسة ومنه حديث «الكيس من دان نفسه» اهـ. 678 - (الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من حسن إسلامٍ المرء) «من» فيه تبعيضية أو ابتدائية وتقديم الخبر لكون التركيب من قبيل: على التمرة مثلها

زبدا. وحسن الإسلام عبارة عن كماله، وهو أن تستقيم نفسه في الإذعان لأمر الله تعالى والاستسلام لأحكامه، وهو علامة شرح الصدر بنور الرّب (تركه ما لا يعنيه) أي: ما لا يريده ولا يحتاج إليه ولا ضرورة إليه فيه ولا ينفعه بكون عيشه بدونه ممكناً، وذلك يشمل الأفعال الزائدة والأقوال الفاضلة، فينبغي ألا يشتغل إلا بما فيه صلاحه معاشاً ومعاداً بتحصيل ما لا بد منه في قوام البدن وبقاء النوع الإنساني، ثم بالسعي في الكمالات العلمية والفضائل العلية، التي هي وسيلة لنيل السعادة الأبدية، والفوز بالنعم السرمدية، وأن يعرض عما عدا ذلك: وذلك إنما يكون بالمراقبة ومعرفة أنه فيما يأتيه بمرأى ومسمع من الله سبحانه وتعالى، وأنه لا يخفى عليه شيء من شأنه. قال معروف: علامة مقت الله للعبد أن تراه مشتغلاً بما لا يعنيه، فإنّ من اشتغل بما لا يعنيه فاته ما يعنيه. وقال الغزالي: حدّ ما لا يعنيك في الكلام أن تتكلم بما لو سكت عنه لم تأثم ولا تتضرّر حالاً ولا مآلاً، قال: فإن شغلت بما لا يعنيك فإنك مضيع زمانك ومحاسب على عمل لسانك، إذ تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ولو صرفته في الذكر والدعاء ربما انفتح لك من نفحات الله ما يعظم جدواه، ومن قدر على أن يأخذ كنزاً من كنوز الجنة وأخذ بدله بدرة كان خاسراً، وما أحسن ما قيل: اغتنم ركعتين في ظلمة الليـ ــــل إذا كنت فارغاً مستريحاً وإذا ما هممت بالحوض في البا طل فاجعل مكانه تسبيحاً وقول الحافظ أبي إسماعيل البخاري كما عزاه إليه الحاكم في تاريخه. اغتنم في الفراع فضل ركوع فعسى أن يكون موتك بغته كم صحيح تراه من غير سقم ذهبت نفسه الصحيحة فلته وقلت في المعنى: واغتنم في الحياة حسب اقتدار طاعة الله كي تفوز بقربه لا تسوّف إلى غد كم صحيح مات في الحال من تقلب قلبه (حديث حسن رواه الترمذي وغيره) فرواه ابن ماجه وابن حبان في «صحيحه»

6 ـــ باب في التقوى

والقضاعي في «مسند الشهاب» . وعن أبي داود قال: أقمت بطرسوس فاجتهدت في «المسند» فإذا هو أربعة آلاف حديث، ثم نظرت فإذا مدارها على أربعة وذكر هذا منها اهـ. 689 - (التاسع: عن عمر رضي الله عنه عن النبيّ قال: لا يسأل) بالبناء للمجهول (الرجل فيم) بحذف ألف ما الاستفهامية لجرها بفي، أي: بأيّ سبب (ضرب امرأته) لاحتمال أن يكون السبب مما يستحيا من ذكره كالامتناع من التمكين، بل يترك ذلك إليه وإلى مراقبته لولاه إلا إن احتاج الأمر إلى جريان الأحكام والرفع إلى الحكام فتبين الأمور (رواه أبو داود وغيره) فرواه الإمام أحمد، والحديث صحيح كما صرّح به ابن حجر الهيثمي في كتابه (تنبيه الأخيار) . ولما كانت نتيجة مراقبة العبد لمولاه في سائر الأحوال وأنه بمرأى منه لا يخفى عليه شيء، من شأنه امتثال الأوامر واجتناب النواهي وذلك هو التقوى، عقبها بها فقال: 6 - باب في التقوى أصلها «وقوى» بكسر أوله وقد يفتح من الوقاية أبدلت تاء كتراث وتخمة: وهي ما يستر الرأس، فهي اتخاذ وقاية تقيك مما تخافه وتحذره؛ فتقوى العبد أن يجعل بينه وبين ما يخشاه وقاية تقيه منه، وهي امتثال أوامره تعالى واجتناب نواهيه بفعل كل مأمور به وترك كل منهي عنه حسب الطاقة، من فعل ذلك فهو من المتقين الذين شرفهم الله تعالى في كتابه بالمدح والثناء {وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} (آل عمران: 186) وبالحفظ من الأعداء {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً} (آل عمران: 120) وبالتأكيد والنصرة {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} (النحل: 128) وبالنجاة من الشدائد والرزق من الحلال ( {ومن

يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} ) (الطلاق: 2، 3) قال أبو ذر «قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية ثم قال: يا أبا ذرّ لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم» وبإصلاح العمل وغفران الذنب {اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا * يصح لكم أعمالك ويغفر لكم ذنوبكم} (الأحزاب: 70، 71) وبكلفين من الرحمة والنور {اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به} (الحديد: 28) وبالقبول {إنما يتقبل الله من المتقين} (المائدة: 27) وبالإكرام والإعزاز عند الله تعالى {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (الحجرات: 13) وبالنجاة من النار {ثم ننجي الذين اتقوا} (مريم: 72) وبالخلود في الجنة {أعدت للمتقين} (آل عمران: 133) وبغاية ذلك القصوى وهي محبة الله تعالى وموالاته، وانتفاء الخوف والحزن، وحصول البشارة في الدنيا والآخرة والفوز العظيم {إن الله يحب المتقين} (التوبة: 7) {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون * لهم البشرى في الحيوة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم} (يونس: 62 - 64) ولو لم يكن في التقوى سوى هذه الخصلة لكفت «وفي أوائل تفسير البيضاوي: للتقوى ثلاث مراتب: (الأولى) التوقي عن العذاب المخلد بالتبري عن الشرك وعليه قوله تعالى: {وألزمهم كلمة التقوى} (الفتح: 26) (والثانية) التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم، وهو المتعارف باسم التقوى في الشرع وهو المعنى بقوله تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا} (الأعراف: 96) (والثالثة) أن يتنزه عما يشغل سره عن الحق ويتبتل إليه بشراشره: وهو التقى الحقيقي المطلوب بقوله تعالى: {اتقوا الله حق تقاته} (آل عمران: 102) . ثم قال في قوله تعالى: {اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون} (البقرة: 21) نبه به على أن التقوى منتهى درجات السالكين وهو التبري من كل شيء سوى الله تعالى اهـ فحمله على المقام الأكمل من مراتبها. وفي كتاب «التقوى» لابن أبي الدنيا والحليلة وغيرهما أنه قيل لأبي الدرداء: إنه ليس أحد له بيت في الأنصار إلا وقد قال شعراً فقال: وأنا قد قلت

فاسمعوه: يريد المرء أن يعطي مناه ويأبى الله إلا ما أرادا يقول المرء فائدتي ومالي وتقوى الله أولى ما استفادا وقلت في شرف التقوى: عليك بالتقوى لرب الورى فخير أمر المرء تقواه واله عن المال ففيه الأذى ولست والرحمن تقواه (قال الله تعالى) : {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} سبق الكلام فيها في باب الصدق (قال تعالى) : {اتقوا الله حق تقاته} (آل عمران: 102) بأن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، أخرجه الحاكم مرفوعاً، وعن أنس: «لا يتقي الله العبد حق تقاته حتى يحزن من لسانه» . (وقال تعالى) : {فاتقوا الله ما استطعتم} وهذه الآية المقيد فيها أمر التقوى بالاستطاعة (مبنية للمراد من) الآية (الأولى) الخالية من ذلك التقييد، وذلك بأن يقال المراد أن يطاع فلا يعصى بحسب الاستطاعة وكذا ما بعده. وقال ابن الجوزي: قال ابن عقيل: ليست منسوخة، لأن قوله ما استطعتم بيان لحق تقاته وأنه بحسب الطاقة: فمن سمى بيان المراد نسخاً فقد أخطأ، وهذا في تحقيق الفقهاء تفسير مجمل وبيان مشكل، وذلك أن القوم ظنوا أن ذلك تكليف ما لا يطاق، فأزال الله إشكالهم وبين أني لم أرد بحق تقاته ما ليس في الطاقة اهـ. وقيل: إنها منسوخة بهذه، قال السيوطي في «تفسيره» ، وفي الإكليل بعد أن ذكر تفسيرها بما سبق «فقالوا» يا رسول الله فمن يقوى على هذا؟ فنسخ بقوله: {فاتقوا الله ما استطعتم} اهـ. قال بعض المحققين وينبغي أن لا نسخ إذ لا يصار إليه إلا بشروط لم توجد كما يعلم من محله. وقال ابن الجوزي في «عمدة العالم الراسخ في المنسوخ والناسخ» : في الآية قولان: أحدهما: أنها منسوخة ثم نقل في ذلك آثاراً، وقال بعده: وإلى هذا ذهب الربيع بن أنس

وابن زيد ومقاتلبن سلمان؛ ومن نصر هذا القول قال: حق تقاته هو القيام له بجميع ما يستحقه من طاعته واجتناب معصيته، قال: وهذا أمر يعجز الخلائق فكيف بالواحد؟ فوجب أن تكون منسوخة وأن يعلق الأمر بالاستطاعة. والقول الثاني: أنها محكمة؛ ومن نصر هذا القول قال: حق تقاته هو اجتناب ما نهى عنه وامتثال ما أمر به، ولم ينه عن شيء ولا أمر به إلا وهو داخل تحت الطاقة؟ فقد فهم الأولون من الآية تكليف ما لا يطاق فحكموا بالنسخ، وقد رد عليهم قوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} (البقرة: 286) وأما قوله: {حق تقاته} فالحق بمعنى الحقيقة اهـ. وفي «شرح الأربعين» لابن حجر الهيثمي: إنما يتم هذا: أي كون هذه الآية تفسيراً لتلك على تفسير حق تقاته بامتثال أمره واجتناب نهيه، أما على المشهور من تفسيره بأن يذكر فلا ينسى الخ فالأوجه النسخ، فإن هذه لما نزلت تحرجت الصحابة منها فقالوا أينا يطبق ذلك فنزلت تلك اهـ. وبقولي «وذلك بأن يقال الخ» اندفع ما قاله من أن الأوجه النسخ، ونزولها عقب تحرجهم من تلك لا يستلزم النسخ فتأمل، ولذا جرى هو في مكان على موافقة المصنف وترجيح ما قاله من غير تقييد بما ذكر، وكأن وجهه أن يقيد ما في تفسيرها المشهور بحسب الطاقة. (وقال تعالى) : {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا} صواباً ( {يصلح لكم أعمالكم} ) يتقبلها أو يوفقكم للأعمال الصالحة ( {ويغفر لكم ذنوبكم} ) (الأحزاب: 70) بجعلها مكفرة باستقامتكم في القول والعمل (والآيات في الأمر بالتقوى كثيرة معلومة. وقال تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا} ) من كرب الدنيا والآخرة ( {ويرزقه من حيث لا يحتسب} ) يخطر بباله. في «تفسير البيضاوي» : يروي «أن سالمبن عوفبن مالك الأشجعي أسره العدو، فشكا أبوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: اتق الله وأكثر قول لا حول ولا

قوّة إلا با» ففعل، فبينا هو في بيته إذ قرع ابنه الباب ومعه مائة من الإبل غفل عنه العدوّ فاستاقها. وفي رواية: إذ رجع ومعه غنيمات ومتاع. قلت: روى الثعلبي الثاني وفيه «أنه جاء بأربعة آلاف شاة» . والبيهقي في «الدلائل» الأول. قال الحافظ ابن حجر في «تخريج أحاديث الكشاف» : وأخرج الحاكم عن جابر قال: «نزلت هذه الآية في رجل من أشجع كان فقيراً خفيف ذات اليد كثير العيال. فأتى رسول اا فسأله، فقال له: اتق الله واصبر، فلم يلبث إلا يسيرا حتى جاء ابن عم له بغنم كان العدو أصابوه» فذكر نحو حديث عوف السابق مختصراً، وفي سنده من تكلم فيه اهـ.g (وقال الله تعالى: {إن تتقوا ا} ) بالأمانة وغيرها ( {يجعل لكم فرقانا} ) بينكم وبين ما تخافون فتنجون ( {ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم} ) (الأنفال: 29) ذنوبكم (والآيات في الباب كثيرة معلومة) وقد سبق جملة منها أول الباب. (وأما الأحاديث) النبوية: 691 - (فـ) الحديث (الأول: منها عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله من أكرم الناس) ؟ قال المصنف في «شرح مسلم» : أصل الكرم كثرة الخير، فلما سئل أيّ الناس أكرم؟ أخبر بأكرم الكرم وأعمه (فقال: أتقاهم) ، فإن من كان متقياً كان كثير الخير في الدنيا صاحب الدرجات العليا في الآخرة اهـ. وقال بعضهم: الكريم هو المتقي وهو المنقطع عن الأكوان (فقالوا ليس عن هذا) الكرم (نسأل، قال فـ) أكرم الناس (يوسف) بتثليث السين مع الهمزة وتركه، فإنه جمع خيري الدارين وشرفهما فإنه مع كونه (نبيّ الله ابن نبيّ ا) يعقوب (ابن نبيّ ا) إسحاق (ابن خليل ا) إبراهيم، انضم إليه شرف علم الرؤيا وتمكنه فيه ورياسة الدنيا وملكها بالسيرة الجميلة وإحاطته

للرعية وعموم نفعه إياهم وشفقته عليهم، وما ذكر من تكرير ابن نبي الله مرتين هو كذلك في بعض روايات البخاري وهو الأصل، ووقع في رواية مسلم وبعض روايات البخاري «نبيّ الله ابن نبيّ الله ابن خليل ا» وهذه الرواية مختصرة من تلك الرواية/ إذ هو يوسفبن يعقوببن إسحاق ابن إبراهيم (قالوا: ليس عن هذا) أيضاً (نسألك) . ففهم حينئذٍ أن مرادهم قبائل العرب (قال: فعن معادن العرب تسألوني؟) قالوا نعم وسكت عنه لدلالة السياق عليه فقال خيارهم بكسر الخاء المعجمة (في الجاهلية) ما قبل الإسلام، سموا بذلك لكثرة جهالتهم (خيارهم في الإسلام) أي: إن أصحاب المروءات ومكارم الأخلاق في الجاهلية هم أصحابها في الإسلام وهم الخيار (إذا فقهوا) أي: صاروا فقهاء عالمين بالأحكام الشرعية الفقهية. قال القاضي عياض: قد تضمن الحديث في الأجوبة الثلاثة أن الكرم كله عمومه وخصوصه مجمله ومفصله إنما هو بالدين من التقوى والنبوّة والاعتراف بها الإسلام مع الفقه (متفق عليه. وفقهوا بضم القاف على المشهور، وحكي كسرها) يقال فقه بضم القاف: إذا صار ذا سجية، وبكسرها بمعنى فهم. وفي «شرح مسلم» : الفقه في اللغة بمعنى الفهم، يقال فقه يفقه كفرح يفرح. أما الفقه الشرعي فقال صاحب «العين» والهروي وغيرهما: يقال منه فقه بضم القاف. وقال ابن دريد بكسرها كالأول، وقد روي فقه في دين الله بالوجهين، والمشهور الضم اهـ. أي: علموا أحكام الشرع ظاهره أصولاً وفقها وسلوكاً، ولا شك أن ذلك أكمل الأنواع، والجامع بين الجميع هو الإنسان الكامل. 702 - (الحديث الثاني) من أحاديث الباب (عن أبي سعيد الخدري رضي الله عن النبي قال: إن الدنيا حلوة خضرة) بفتح المعجمة الأولى وكسر الثانية. قال في «النهاية» :

الخضر نوع من البقول ليس من أحرارها وجيدها، فشبه الدنيا للرغبة فيها والميل إليها بالفاكهة الحلوة الخضرة، فإن الحلو مرغوب فيه من حيث الذوق، والأخضر مرغوب فيه من حيث النظر، فإذا اجتمعا زادت الرغبة. وفيه إشارة إلى عدم بقائها وهو من التشبيه المطوي فيه الأداة. قيل: والفرق بين هذا النوع والاستعارة أن هذا لا يتغير حسنه إذا ظهرت الأداة، فإن قولك: المال خضرة في الحسن كقولك المال كالخضرة، ولا كذلك الاستعارة فإن قولك: رأيت أسداً يرمي، ليس كقولك: رأيت رجلاً كأسد، ذكره العاقولي (وإن الله مستخلفكم فيها) بكسر اللام: أي: جعلكم خلفاء في الدنيا: أي: أنتم بمنزلة الوكلاء فيها. وقيل معناه: جعلكم خلفاء ممن كان قبلكم، فإنها لم تصل إلى قوم إلا بعد آخرين (فينظر) أي: فيعلم علم مشاهدة وعيان (كيف تعملون) من إنفاقها في مراضيه فتثابون، أو في مساخطه فتأثمون، فإن الجزاء إنما يترتب على ما يبدو في عالم الشهادة من الأعمال كما تقدم، أو فينظر كيف تعملون: أي: أتعتبرون بحالهم وتتدبرون في مآلهم (فاتقوا الدنيا) أي: اجتنبوا فتنتها واحذروا أن تميلكم محبتها والاغترار بها عن أوامر الله تعالى واجتناب مناهيه فيها (واتقوا النساء) أي: اجتنبوا الافتتان بهن: أي: أن يمنعكم التمتع بهن لاستيلاء محبتهن عن القيام بأداء حقوق العبودية والتقرّب إلى مراضي الله تعالى، فإن بمقدار محبة السوي والركون إليه البعد عن المولى، ويدخل فيهن كما قال المصنف الزوجات وهن أكثر فتنة لدوام فتنتهن وابتلاء أكثر الناس بهن (فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء) أي: بسببهن، فهو كحديث «عذبت امرأة في هرة» قال شارح «الأنوار السنية» يحتمل أن يكون إشارة إلى قصة هاروت وماروت، لأنهما فتنا بسبب امرأة من بني إسرائيل. ويحتمل أن يكون إشارة إلى قصة بلعامبن باعوراء لأنه إنما هلك بمطاوعة زوجته. وبسببهن هلك كثير من الفضلاء (رواه مسلم) . 713 - الحديث (الثالث عن) عبد الله (بن مسعود رضي الله عنه أن النبي كان يقول اللهم) أصله يا أفحذف حرف النداء وعوّض عنه الميم كما تقدم (إني أسألك

الهدى) بضم الهاء: الرشاد (والتقوى) وفي نسخة «والتقى» : امتثال الأوامر واجتناب النواهي (والعفاف) أي: التنزه عما لا يباح والكف عنه (والغنى) أي: غنى النفس والاغتناء عن الناس وعما في أيديهم، والمسؤول له زيادة ذلك. وفيه شرف هذه الخصال، وفيه الخضوع واللجأ للكريم الوهاب في سائر الأحوال (رواه مسلم) ورواه الترمذي وابن ماجه. 724 - الحديث (الرابع عن أبي طريف) بفتح الطاء وكسر الراء المهملتين وسكون التحتية بعدها فاء (عدي) بفتح أوله فكسر ثانيه المهملتين فتشديد الياء (ابن حاتم) بالحاء المهملة والفوقية المكسورة، العلم المضروب به المثل في الجود (الطائي) نسبة إلى طيىء بوزن سيد، واسمه جلهمة، وسمي طيئاً لأنه أول من طوى أي بنى المناهل، وقيل: لغير ذلك، وهو ابن عدي ابن سعيدبن الحشرجبن امرىء القيسبن عديبن أخرمبن ربيعةبن جرولبن ثغلبن عمرو ابن الغوثبن طيىءبن أددبن زيدبن يشجببن عريببن زيدبن كهلانبن سبأ كذا في عجالة المبتدي للحازمي. وقد عدىّ (رضي الله عنه) على النبيّ سنة تسع في شعبان، وقيل: سنة عشر وكان نصرانياً، وقيل: بل أسر المسلمون أخته سفانة بنت حاتم فأسلمت وعادت إليه، فأخبرته ودعته إلى رسول الله، فأسلم وحسن إسلامه. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستة وستون حديثاً، اتفقا على ثلاثة منها، وانفرد مسلم بحديثين. ولما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم على الصديق وقت الردّة بصدقة قومه، وثبت على الإسلام ولم يرتدّ وثبت قومه معه، وكان جواداً شريفاً في قومه معظماً عندهم وعند غيرهم. روي عنه أنه قال: ما دخل عليّ وقت صلاة إلا وأنا مشتاق إليها. وكان يكرمه إذا دخل عليه، وكان يفتّ للنمل الخبز ويقول: إنهن جارات ولهن حق، شهد صفين مع علىّ. توفي سنة سبع، وقيل: تسع وستين، وله مائة وعشرون سنة. قيل: مات بالكوفة أيام المختار، وقيل: مات بقرقيسا، والأول أصح (قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من حلف على يمين) الحلف هو اليمين كما تقول حلف يحلف حلفا، وأصلها العقد بالعزم والنية فخالف بين اللفظين وقال: حلف على يمين تأكيداً. وقال القرطبي: اليمين المحلوف عليه. (ثم رأى أتقى منها) أي: من

يمينه التي التزمها في ترك أمر (فليأت التقوى) وحاصله أن من حلف على ترك فعل شيء أو فعله فرأى غيره خيراً من التمادي على اليمين وأتقى كأن حلف ليتركنّ الصلاة أو ليشربنّ المسكر وجب عليه الحنث والإتيان بما هو التقوى من فعل المأمور به وترك المنهيّ عنه، فإن حلف على ترك مندوب أو فعل منهي عنه نهي كراهة ندب له الحنث، ومثله حديث مسلم أيضاً «من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه» (رواه مسلم) . (الخامس عن أبي أمامة) بضم الهمزة (صدي) بضم الصاد ففتح الدال المهملتين وتشديد الياء، ويقال الصدي بأل ولم يذكره الحاكم في كتابه إلا بها (ابن عجلان) بفتح المهملة وسكون الجيم وابن والبة بالموحدة ابن رباح بكسر الراء ابن الحارثبن معنبن مالكبن أعصربن سعد ابن قيس عيلان بالمهملة ابن مضربن نزاربن معدبن عدنان. قال المصنف في «التهذيب» : ويقال في نسبه غير هذا (الباهلي) كان (رضي الله عنه) من مشهوري الصحابة. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائتا حديث وخمسون حديثاً، روى البخاري خمسة منها/ ومسلم ثلاثة، وخرّج عنه أصحاب السنن. سكن مصر ثم حمص وتوفي بها سنة إحدى، وقيل: سنة ست وثمانين. وهو آخر من مات من الصحابة في البلدان المتفرقة فقال: آخر من مات من الصحابة أبو الطفيل موته بمكة سهلبن عبد الله بالمدينة وأنسبن مالك بالبصرة ومات بالشام أبو قرصافه وابن أبي أوفى الحمام وافه بكوفة واليمن اذكر أبيضاً وبخراسان بريدة قضى ولم تنم مائة إلا وقد ماتوا ولم يبق على الأرض أحد رأى بعينيه النبي المصطفى فاحفظ لنظمي ذا تنال الشرفا

قلت: ويزاد عليه: وآخر الصحب بحمص ماتا أبو أمامة وذا قد فاتا وفي كتاب «اليواقيت الفاخرة» : أن آخر من مات بالمدينة السائببن يزيد، يعرف بابن أخت النمر، أدرك النبي صغيراً وروي عنه وتوفى سنة إحدى وتسعين وهو ابن ثمان وثمانين اهـ. وكذا في «التقريب» للحافظ أن السائب آخر من مات من الصحابة بالمدينة (قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب في حجة الوداع) بكسر الحاء على الأفصح وفتح الواو اسم مصدر من التوديع، وبكسرها مصدر وادع، سميت بذلك لأنه ودع الناس فيها. وفيه جواز تسميتها بذلك من غير كراهة (فقال: اتقوا ا) بدأ به لأنه الأساس لتناوله فعل سائر المأمورات وترك سائر المناهي، وعطف عليه ما بعده من عطف الخاص على العام اهتماماً به واعتناء بشأنه، ويحتمل أن عطف قوله: «وأطيعوا أمراءكم» من عطف المغاير من حيث أن أظهر مقاصد التقوى انتظار الأمور الأخروية (وصلوا خمسكم) أي: الفروض الخمسة (وصوموا شهركم) أي: شهر رمضان، وأضيف للأمة لما يسبغ عليهم فيه من الفيوض الإلهية من عتق الرقاب وجزيل الثواب. وفي الحديث «رجب شهرالله، وشعبان شهري، ورمضان شهر الأمة» (وأدّوا زكاة أموالكم) في الخلافيات «وأدوا زكاتكم طيبة بها نفوسكم، وحجوا بيت ربكم» (وأطيعوا أمراءكم) وفي رواية «ذا أمركم» فيما ليس فيه معصية الله تعالى، وفي ذلك انتظام الأحوال المتوصل به إلى قوام المعاش والاستعداد للمعاد (تدخلوا) بالجزم في جواب الأمر (جنة ربكم. رواه الترمذي في آخر كتاب الصلاة، وقال: حديث حسن صحيح) ورواه ابن حبان والحاكم. ولما كان من ثمرات التقوى العرفان الذي به تنجلي الأمور، والنور الذي تنشرح به

7 ـــ باب في اليقين

الصدور، ومن انشرح صدره واستنار قلبه بشهود التوحيد وأنه لا شريك له في ملكه ولا في شيء من أفعاله، تيقن أن لا حول له ولا قوّة، وأنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً، فخرج عما في نفسه من التدابير، وألقى نفسه مع جري المقادير، ففاز كما جاء في الحديث الشريف «لا حول ولا قوة إلا با كنز من كنوز الجنة» وظهر بهذا أن التوكل واليقين من ثمرات التقوى فلذا عقبها بهما فقال: 7 - باب في اليقين

قال السيد في كتاب «تعريفات العلوم» : اليقين في اللغة: العلم الذي لا شك معه. وفي الاصطلاح: اعتقاد الشيء أنه كذا مع اعتقاد أنه لا يمكن إلا كذا، وهو مطابق للواقع غير ممكن الزوال. وعند أهل الحقيقة رؤية العيان بقوة الإيمان لا بالحجة والبيان، وقيل: مشاهدة الغيوب بصفاء القلوب وملاحظة الأسرار بمحافظة الأفكار (والتوكل) عرفه الشيخ العارف با أبو مدين بقوله في حكمه: التوكل وثوقك بالمضمون استبدالك الحركة بالسكون. وعرّفه غيره بقوله: اعتمادك على مولاك ورجوعك إليه، وخروجك عن حولك وقوّتك وانطراحك بين يديه. وقيل: اكتفاؤك بعلم الله فيك عن تعلق القلب بسواه، ورجوعك في كل الأمور إلىالله. عباراتنا شتى وحسنك واحد وكل إلى ذاك الجمال يشير كذا في «شرح الحكم» المذكورة لعمي الشيخ العارف با أحمدبن علان الصديقي. وفي «شرح مسلم» للمصنف، اختلفت عبارات السلف والخلف في حقيقة التوكل، فحكى الإمام أبو جعفر الطبري وغيره عن طائفة من السلف أنهم قالوا: لا يستحق اسم التوكل إلا من لم يخالط قلبه خوف غير الله من سبع أو عدوّ حتى لا يطلب الرزق ثقة بضمان الله رزقه. وقالت طائفة: هو الثقة با والإيقان بأن قضاءه نافذ، واتباع سنة نبيه والسعي فيما لا بد منه من مطعم ومشرب، والتحرّز من العدوّ كما فعله الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. قال القاضي عياض: وهذا المذهب هو اختيار الطبري وعامة الفقهاء، والأول مذهب بعض المتصوفة وأصحاب علم القلوب والإشارات. وذهب المحققون منهم إلى نحو

مذهب الجمهور، ولكن لا يصح عندهم التوكل مع الالتفات والطمأنينة إلى الأسباب، بل فعل الأسباب سنة الله وحكمته والثقة بأنها لا تجلب نفعاً ولا تدفع ضرّاً والكل منالله، هذا كلام القاضي. وقال القشيري: اعلم أن التوكل محله القلب وأما الحركة بالظاهر فلا تنافي توكل القلب بعد ما تحقق العبد أن التقدير من فعل الله عزّ وجلّ، فإن تعسر شيء فبتقديره، وإن تيسر شيء فبتيسيره. وقال سهلبن عبد الله التوكل في الاسترسال مع الله على ما يريد. وقال أبو عثمان الحيري: التوكل الاكتفاء با تعالى مع الاعتماد عليه اهـ. (قال الله تعالى: {ولما رأى المؤمنون الأحزاب} ) من الكفار ( {قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله} ) من الابتلاء والنصر ( {وصدق الله ورسوله} ) في الوعد ( {وما زادهم} ) ذلك ( {إلا إيماناً} ) تصديقاً بوعد الله ( {وتسليماً} ) لأمره. (وقال تعالى: {الذين} ) بدل من الذين قبله أو نعت له ( {قال لهم الناس} ) أي: نعيمبن مسعود الأشجعي ( {إن الناس} ) أبا سفيان وأصحابه ( {قد جمعوا لكم} ) الجموع ليستأصلوكم ( {فاخشوهم} ) ولا تأتوهم ( {فزادهم} ) ذلك القول ( {إيماناً} ) تصديقاً با ويقيناً ( {وقالوا: حسبنا ا} ) كافنا أمرهم ( {ونعم الوكيل} ) المفوض إليه الأمر هو، وخرجوا مع النبيّ فوافوا سوق بدر الذي كان واعد النبيّ كفار قريش يوم أحد عليه، وألقى الله الرعب في قلب أبي سفيان وأصحابه فلم يأتوا، وكان مع الصحابة تجارات فباعوا وربحوا، قال تعالى: ( {فانقلبوا} ) رجعوا من بدر ( {بنعمة من الله وفضل} ) بسلامة وربح ( {لم يمسهم سوء} ) من قتل أو جرح ( {واتبعوا رضوان ا} ) بطاعته وطاعة رسوله في الخروج ( {وا ذو فضل عظيم} ) على أهل طاعته، وقد بسطت الكلام في هذه الآية في كتاب الجهاد من «شرح الأذكار» .

(وقال تعالى: {وتوكل} ) فيه إشارة لشرف الموكل، وأوجبه بعضهم مطلقاً، والظاهر وجوبه باعتبار لا مطلقاً. أما التوكل بطرح الأسباب والاكتساب فهو من شأن أهل الكمال وهو المندوب، وفي «المفهم» للقرطبي: المتوكلون على حالين: الحال الأول حال المتمكن في التوكل فلا يلتفت إلى شيء من الأسباب بقلبه ولا يتعاطاها إلا بحكم الأمر. والحال الثاني حال غير المتمكن، وهو الذي يقع له الالتفات إلى الأسباب أحياناً غير أنه يدفعها عن نفسه بالطرق العلمية والبراهين القطعية والأزواق الحالية، فلا يزال كذلك إلى أن يرقيه تعالى بجوده إلى مقام المتمكنين ويلحقه بدرجات العارفين اهـ. ( {على الحيّ الذي لا يموت} ) فيه إشارة إلى أن من توكل على غير الله فقد ضاع لأن الغير يموت؛ والعاقل لا ينبغي له أن يتوكل على من يموت ويفنى. وقال بعضهم: الاعتماد على الغني غايته الفقر، والاعتماد على القوّة آخره الضعف، والاعتماد على الخلق هو طريق الخذلان، ومن اعتمد على سوى الله وتوكل على غيره فقد ضيع وقته وخاب سعيه، لأن الحيّ الذي لا تجري عليه فنون العوارض دعاك إليه بألطف دعواه فقال {وتوكل على الحي الذي لا يموت} . ( {وقال تعالى: وعلى ا} ) لا على غيره ( {فليتوكل المؤمنون} ) إذ هو الحي القيوم. (وقال تعالى) : {فإذا عزمت} ) على إمضاء ما تريد بعد المشاورة ( {فتوكل على ا} ) أي: ثق به لا بالمشاورة (والآيات في الأمر بالتوكل كثيرة معلوماً) . (وقال تعالى:) في فضل التوكل وثمراته ( {ومن يتوكل على ا) فهو حسبه} أي: كافيه

(وقال تعالى) : {إنما المؤمنون} ) أي: الكاملو الإيمان ( {الذين إذ ذكر ا} ) أي وعيده ( {وجلت} ) خافت ( {قلوبهم} ) وقيل: «إذ ذكر الله وجلت قلوبهم» فزعت لذكره استعظاماً له وتهيباً من جلاله ( {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً} ) تصديقاً، وإسناد الزيادة للآيات من الإسناد للسبب ( {وعلى ربهم يتوكلون} ) يفوضون أمرهم إليه ولا يخشون ولا يرجون إلا إياه (والآيات في فضل التوكل) وثمراته (كثيرة معروفة) . (وأما الأحاديث) النبوية في فضل التوكل: 741 - (فـ) الحديث (الأول) منها (عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: عرضت) بالبناء للمفعول (عليّ) بتشديد التحتية (الأمم) وفيه كمال شرفه وعرض جميع الأمم عليه صلوات الله وسلامه عليه، ولعل من حكمة ذلك ما قيل إنه مبعوث لجميع بني آدم من آدم فمن دونه، والأنبياء إنما هم نوّاب عنه في تبليغ الشرائع لأولئك الأمم، وهذا العرض يحتمل أن يكون مناماً ورؤيا الأنبياء وحي أو في اليقظة ليلة الإسراء أو غيرها، وا يكرم نبيه بما شاء (فرأيت) أبصرت إن كانت يقظة أو رؤىً حلمية إن كانت مناماً (النبي) أل فيه للماهية أي المتصف بالنبوة، ويظهر أن المراد به الرسول (ومعه الرهيط) بضم المهملة وفتح الهاء وسكون التحتية آخره طاء مهملة أيضاً. وفي «مختصر القاموس» الرهط ويحرك قوم الرجل وقبيلته، أو من ثلاثة أو سبعة إلى عشرة أو ما دون العشرة وما فيهم امرأة، ولا واحد له من لفظه، جمعه أرهط وأرهاط وأراهط. قلت: الرهط من الرجال ما دون العشرة، وقيل: إلى الأربعين اهـ والجملة في محل الحال لتصديرها بالواو بناء على أن رأى الحلمية لا تنصب مفعولين وأن المنصوب الثاني بعدها في محل الحال وهو الذي رجحه ابن هشام في بعض كتبه (والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي) حال كونه (ليس معه أحد) . فإن قلت: النبي هو المخبر عن الله للخلق فأين الذين أخبرهم؟

قلت: ربما أخبر ولم يؤمن به أحد ولا يكون معه إلا المؤمن (إذ رفع) بالبناء المفعول (لي سواد) أي: أشخاص وهو كما في «مختصر القاموس» : الشخص، ومن البلدة قراها والعدد الكثير من أهلها، ومن الناس عامتهم اهـ. 5 ولذا قال القرطبي: أي: أشخاص كثيرة ويجمع على أسودة (عظيم) لكثرته (فظننت أنهم) أي: السواد الذي هو الأشخاص وباعتباره جمع الضمير العائد إليه (أمتي فقيل لي هذا) أي: السواد العظيم (موسى وقومه) أي: أمته المؤمنون (ولكن انظر إلى الأفق) بضم الهمزة والفاء وبسكونها كما في «الصحاح» ، وعبارته: الآفاق النواحي الواحد أفق، وأفق مثل عسر وعسر انتهت، وبالقاف: الناحية. وجوزّ الحافظ السيوطي أن يكون الأفق واحداً وجمعاً كالفلك ويجمع أيضاً على آفاق (فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي انظر إلى الأفق الآخر فإذا سواد عظيم) أي: غير السواد الأول إذ النكرة إذا أعيدت كانت الثانية غير الأولى غالباً (فقيل لي هذه) أي: مجموع السوادين العظيمين (أمتك) أي: المؤمنون كما تقدم نظيره (ومعهم سبعون ألفاً) يحتمل أن يكون معناه ومن أمتك غير هؤلاء سبعون ألفاً، ويحتمل أن يكون معناه وفي جملة هذه الأسودة سبعون ألفاً (يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب) ويؤيد الاحتمال الثاني رواية البخاري في «صحيحه» (هذه أمتك، ويدخل الجنة من هؤلاء سبعون ألفاً) فالسبعون ألفاً من أمته بلا شك. وعذاب بفتح المهملة وبالذال المعجمة، وفي نسخة عقاب بكسر المهملة وبالقاف، وجملة يدخلون الجنة الخ صفة أو حال من سبعون لتخصيصه بالظرف قبله. فإن قلت: هل يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب وإن كانوا أصحاب معاصي ومظالم؟ قلت: الذين كانوا بهذه الأوصاف الأربعة المذكورة في الحديث لا يكونون إلا عدولاً مطهرين من الذنوب أو ببركة هذه الصفات يغفر الله لهم ويعفو عنهم (ثم نهض) قبل بيان السبعين المذكورين (فدخل منزله فخاض) بالحاء والضاد المعجمتين: أي تكلم (الناس) والمراد منهم الصحابة وتناظروا (في) تعيين (أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب) وفي البخاري «فأفاض الناس» وهو بمعناه يقال أفاض الناس في

الحديث إذ تباحثوا فيه وناظروا عليه وتناظروا. وفي الحديث إباحة المناظرة في العلم والمباحثة في نصوص الشرع على جهة الاستفادة وإظهار الحق (فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله) أي: السابقون الذين صحبوه وقاموا بنصرة الدين وهجروا الأهل والأوطان لذلك (وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا) بالبناء للمفعول (في الإسلام) أي: وإن لم يرهم وفضلهم ما أشاروا إليه بقولهم (فلم يشركوا با) فيه دليل على شرف المسلم أصالة على من كان كافراً ثم أسلم، ويدل له ما ذكره الفقهاء في تقديم من دخل آباؤه في الإسلام على من تأخر آباؤه في الدخول فيه في الإمامة (وذكروا أشياء) من الاحتمالات في التعيين (فخرج عليهم رسول الله) أو عقب خضوهم في ذلك كما تشعر به الفاء إراحة لهم من الخوض فيما لا سبيل لهم لمعرفته إلا من جهته (فقال ما الذي تخوضون فيه؟ فأخبروه، فقال: هم الذين لا يرقون ولا يسترقون) أي: يطلبون الراقية لهم من الغير. وقد اختلف العلماء في هذا المقام مع ورود السنة فعلاً وإذناً بجواز الرقية والاسترقاء. والذي رجحه المصنف والقرطبي وغيرهما من ذلك ما قاله الخطابي وغيره أن المراد ترك ذلك توكلاً ورضاً بقضاء الله تعالى وبلائه، قال الخطابي: وهذه من أرفع درجات المتحققين بالإيمان. قال: وإلى هذا ذهب جماعة سماهم. قال المصنف: وحاصله أن هؤلاء كمل تفويضهم إلى الله تعالى فلم يسعو في دفع ما أوقعه بهم، ولا شك في رجحان هذه الحال وفضيلة صاحبها. وأما تطببه فلبيان الجواز اهـ. وقال القرطبي: الرقى والاسترقاء ما كان منه برقيا الجاهلية أو بما لا يعرف فواجب اجتنابه على سائر المسلمين واجتنابه حاصل من أكثرهم، فلا يكون اجتناب ذلك هو المراد هنا ولا اجتناب الرقى بأسماء الله تعالى، وبالمرويّ عن رسول الله، لأن ذلك التجاء إلى الله تعالى، قال: ويظهر لي - والله أعلم - أن المقصود اجتناب رقى خارج عن القسمين كالرقيا بأسماء الملائكة والأنبياء والصالحين كما يفعله كثير ممن يتعاطى الرقيا، فهذا ليس من قسم المحظور الذي يعم اجتنابه، ولا من قبيل الرقيا التي فيها اللجأ إلى الله تعالى، فهذا القسم المتوسط يلحق بما

يجوز فعله، غير أن تركه أولى من حيث إن الرقى بذلك تعظيم وفيه تشبيه للرقي به بالرقى بأسمائه تعالى وكلماته، فينبغي اجتنابه كاجتناب الحلف بغير الله تعالى اهـ. (ولا يتطيرون) أي: يتشاءمون بالطيور ونحوها مما يتشاءم به: أي: لا يرجعون عما عزموا عليه عند وجود ما جرت به عادة الجاهلية من التطير به والوقوف عن الفعل منه من الجوائح والسوانح وسيأتي في هذا بسط (وعلى ربهم) لا على غيره في سائر أحوالهم (يتوكلون) وهؤلاء هما القائمون بأعلى مقام التوكل بترك الأسباب وعدم معاطاتها رضا بتصرف المولى فيهم، واكتفاء بتدبيره تعالى عن تصرّف كلّ وتدبيره (فقام عكاشةبن محصن) بكسر الميم وسكون المهملة الأولى وفتح الثانية، ابن حرثان بضم المهملة وسكون مهملة بعدها مثلثة وبعد الألف نون، ابن قيسبن مرةبن كثيربن غنمبن داودبن أسدبن خزيمة (الأسدي) بفتح أوّليه والمهملتين حليف بني عبد شمس، وكان عكاشة من أفاضل الصحابة وخيارهم وشجعانهم، له ببدر المقام المشهور، وذلك أنه ضرب بالسيف في الكفار حتى انقطع، فأعطاه جزل حطب، فأخذه فهزه في يده فعاد سيفاً صارماً، فقاتل به حتى فتح الله على المسلمين، وكان ذلك السيف يسمى العون، ولم يزل عنده يشهد المشاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قتل عكاشة وهو معه، وقتل في قتال أهل الردة في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، قتله طليحةبن خويلد الأسدي، هذا قول أهل السير. وقال سليمان التيمي: أرسله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني أسد سرية فقتله طليحة. قال ابن الأثير: وهو وهم، وإنما قاله لقرب الحادثة من عهد رسول الله، وكان عكاشة يوم توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن أربع وأربعين سنة. وكان من أجمل الرجال اهـ. وقال «منا خير فارس في العرب، قالوا: ومن هو يا رسول الله؟ قال: عكاشةبن محصن» رضي الله عنه، ولقوّة يقينه وشدة حرصه على الخير ورغبته فيما عند الله تعالى سبق الصحابة كلهم (فقال: ادع الله لي أن يجعلني منهم، فقال: أنت منهم) يحتمل كونه منهم لدعائه له بذلك، ويحتمل لكونه كان موصوفاً بتلك الأوصاف الجميلة، ويحتمل أنه أوحى إليه بأنه منهم وفي جملة، والله أعلم بحقيقة الحال، ثم رأيت الكرماني نقل الأول قولاً عن بعضهم (ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال) له لما لم يكن عنده ما عند عكاشة من تلك الأحوال الشريفة (سبقك بها) أي: في الفضل بالدعوة إلى منزلة أصحاب هذه الأوصاف (عكاشة) وكره أن يقول له:

لست من أهل هذه الطبقة لأنه لكمال فضله لا يواجه أحداً بما يكره، فجاء بكلام موف للغرض، وفيه التعريض بالمراد. قال الكرماني: قيل: يحتمل أن يكون سبقك عكاشة بوحي أنه يجاب فيه ولم يحصل ذلك للآخر، وقال القرطبي: لئلا يطلب كل مثل ما طلب عكاشة، فسدّ الباب بحسن ذلك الجواب. وهذا أولى مما قيل كان ذلك الرجل منافقاً لوجهين: أحدهما: أن الأصل في الصحابة الإيمان والعدالة فلا يظن بأحد منهم خلاف الأصل ولا يسمع منه ذلك إلا بالنقل الصحيح. 752 - والثاني: أنه قلّ أن يصدر مثل هذا السؤال من منافق، إذ لا يصدر غالباً عن تصديق صحيح ويقين بما عند الله تعالى اهـ. قلت: قد صرح الخطيب بأن ذلك الرجل سعدبن عبادة كما نقله عنه الكرماني وبه يبطل ذلك القول (متفق عليه) ورواه أحمد بنحوه وليس فيه ذكر عكاشة (والرهيط بضم الراء) المهملة أوله وسكون التحتية (تصغير رهط) بفتح فسكون (وهم دون عشرة أنفس) سبق بيان الأقوال فيه والخلاف في ذلك (والأفق: الناحية والجانب) عطف مرادفـ ففي «الصحاح» الجانب الناحية وكذا الجنبة (وعكاشة بضم العين) المهملة (وتشديد الكاف) قال في «القاموس» : بوزن رمانة (وبتخفيفها) قال القرطبي: قال ثعلب: وقد تخف. قلت: ولعله منقول من عكاشة بالتخفيف: اسم لبيت النمل، أو مأخوذ من عكش الشعر يعكش: إذا التوى اهـ. (والتشديد أفصح) . الحديث الثاني: (عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً) منصوب على المصدرية، وقيل: على الحالية: كلمة تقال للاتفاق بين الشيئين معنى ويمكن الاستغناء بأحدهما عن الآخر، وقد ثبت نطقه بها كما في «صحيح البخاري ومسلم» وغيرهما، وقد بسطت الكلام فيها في باب فضل الذكر من «شرح الأذكار» . والمعنى هنا: أروي الحديث الثاني رجوعاً للرواية، أو حال كوني راجعاً للرواية عن ابن عباس (أن رسول الله) بفتح الهمزة في

تأويل مصدر مبتدأ مخبر عنه بالظرف السابق (كان يقول: اللهم) أي: يا أ (لك) لا لغيرك كما يؤذن به تقديم الظرف (أسلمت) قال ابن عبد البرّ: استسلمت لحكمك وأمرك وسلمت ورضيت آمنت وصدقت وأيقنت اهـ (وبك) أي: بذاتك وما يجب لها من أوصاف الكمال (آمنت) أي: صدقت (وعليك توكلت) ركنت إليك في سائر الأمور وخرجت عن تدبيري لنفسي وحولي وقوّتي، اكتفاء بما سبقت به الإرادة وجرت به الأقدار (وإليك أنبت) من الإنابة: الرجوع، وتختص بالرجوع إلى الخير كما في «التمهيد» لابن عبد البرّ: أي: رجعت إلى عبادتك والإقبال على ما يقرّب منك. وقيل: رجعت بالتوبة واللجأ والذلة والمسكنة، وقيل: رجعت إليك في تدابير الأمور وتصاريفها فيكون بمعنى «وعليك توكلت» (وبك) أي: بما أعطيتني من البرهان والحجج القولية، أو بالنصرة ونحوها من الحجج الفعلية (خاصمت) أعداء الدين فقصمت ظهورهم بالبراهين القوية وقطعت دابرهم بالسيوف والرماح السمهرية (اللهم إني أعوذ) أعتصم وألتجيّ (بعزتك) أي: بقوتك وقدرتك وسلطانك وغلبتك (لا إله إلا أنت) جملة معترضة لتأكيد العزة والاعتصام بحبله تعالى: وقوله: (أن تضلني) أصله من أن تضلني متعلق بأعوذ، وحذف الجار من إن وأن: قياس مطرد، وتضلني بضم الفوقية من الإضلال (أنت الحي) على الدوام (القيوم) بفتح القاف وتشديد التحتية القائم بتدبير الخلق وحفظه (الذي لا يموت) بالتحتية نظراً لكونه صلة للذي، وبالفوقية نظراً لضمير الخطاب قبله وهو كالتأكيد لما قبله، لأن من شأن القائم بالتدبير والحفظ ألا يموت، لأن من لا يحفظ حياة نفسه كيف يحفظ حياة غيره (والجن) أي: الشامل للملك (والإنس) وأتباعهم من الحيوانات والحشرات (يموتون) فيه تنبيه على سبب التوكل عليه ورد الأمر إليه دون غيره وهو أن غيره يموت: ويضمحلّ شأنه ويفوت، والتوكل إنما هو على الحيّ الذي لا يموت، فمن اعتزّ بغير الله ذلّ، ومن اهتدى بغير هدايته ضلّ، ومن اعتصم با تعالى وتوكل عليه: عزّ وجلّ (متفق عليه) ورواه النسائي أيضاً (وهذا) المذكور (لفظ مسلم) في روايته (واختصره البخاري) . فقال: عن ابن عباس أن النبي كان يقول: «أعوذ بعزتّك

لا إله إلا أنت، أنت الذي لا تموت والجن والإنس يموتون» . 763 - الحديث (الثالث عن ابن عباس رضي الله عنهما) قال القارىء في «شرح الحصن الحصين» : إنه موقوف خلاف ما أورده الشيخ، يعني ابن الجزري. قلت: وكأنه لما رأى أن الحديث في حكم المرفوع سكت عليه اعتماداً على أنه مرفوع في بعض طرقه اهـ (قال: حسبنا الله ونعم الوكيل) تقدم الكلام في معناها أول الكتاب (قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار) في تفسير القرطبي: قال ابن إسحاق بعد ذكر المنجنيق وما هيئوه من الحطب: فضجت السموات والأرض ومن فيهن من الملائكة وجميع الخلق إلا الثقلين ضجة واحدة: ربنا إبراهيم ليس في أرضك أحد يعبدك غيره فأذن لنا في نصرته، فقال تعالى: إذا استعان بشيء منكم أو دعاه فلينصره فقد أذنت له في ذلك، وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه، فلما أرادوا إلقاءه في النار أتاه خازن الماء وهو في الهواء فقال: يا إبراهيم إن أردت أخمدت النار بالماء، فقال: لا حاجة لي فيك، فأتاه ملك الريح فقال: لو شئت طيرت النار، فقال لا، ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: «اللهم أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض، ليس أحد يعبدك غير حسبي الله ونعم الوكيل» ثم ذكر باقي القصة (وقالها محمد حين قالوا) أي: قال الناس له ( {إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} ) قضية هذا أن يكون «الذين» الواقع أول الآية وضمائر الجمع بعده مما أريد به الواحد وهو النبيّ، فيكون نظير قوله تعالى: {أم يحسدون الناس} فإن المراد منه النبي، وكذلك الناس في قوله تعالى: {قال لهم الناس} فإن المراد منه كما تقدم أول الباب نعيمبن مسعود، لكن تقدم أول الباب أن المراد من الذين وما بعده الصحابة وذلك الذي ذكره السيوطي في تكملته لتفسير الجلال المحلي ولا مخالفة، فلعل ابن عباس اقتصر عليه لأنه الأصل المتبوع (رواه

البخاري) والنسائي أيضاً (وفي رواية له) أي: البخاري (عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان آخر قول إبراهيم صلى ا) على نبينا و (عليه) وعلى سائر النبيين (وسلم) هكذا ينبغي أن يقال عند ذكر باقي الأنبياء (حين ألقي في النار: حسبي ا) أي: بالإفراد، وقد جاء ذلك عن ابن إسحاق في السيرة كما تقدم: فحسبي أي: كافيّ الله (ونعم الوكيل) فهو من عطف الجملة الخبرية على مثلها، قال السيوطي في «التوشيح» لأبي نعيم في «المستخرج» إنها أول ما قاله، فلعلها أول شيء قاله وآخر شيء قاله. وقد بسطت الكلام في إعرابها وما فيه في أوائل «شرح الأذكار» وذكرت خلاصته أوائل هذا الشرح. 774 - الحديث (الرابع: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: يدخل الجنة) ظاهره مع الفائزين كما يدل عليه سياقه في مقام المدح لهم، وإلا فجميع أهل الإيمان يدخلون الجنة بوعد الله الذي لا يخلف (أقوام) جمع واحده قوم. وفي «مفردات الراغب» كما تقدم: القوم جماعة الرجال في الأصل دون النساء ولذا قال تعالى {لا يسخر قوم من قوم * ولا نساء من نساء} (الحجرات: 11) وفي عامة القرآن أريد به الرجال والنساء اهـ. وظاهر أن ما نحن فيه من قبيل الثاني (أفئدتهم) في «مختصر القاموس» : الفؤاد القلب مذكراً، أو هو ما يتعلق بالمرء من كبد ورئة وقلب وجمعه أفئدة اهـ. وفي كتاب الإيمان من «شرح مسلم» للمصنف: المشهور أن الفؤاد هو القلب، وقيل: الفؤاد داخل القلب: أي: الطبقة القابلة للمعاني من العلوم وغيرها (مثل أفئدة الطير) جمع طائر ويقع على الواحد وجمعه طيور وأطيار (رواه مسلم) ورواه أحمد (قيل: معناه) أقوام (متوكلون) ففي الحديث الآتي «لو اتكلتم على الله حق اتكاله لرزقكم كما يرزق الطير» . وفيه إشارة إلى أنها لما لم تتسبب للأرزاق بتدابيرها يسر الله وصول الرزق إليها مع ضعفها وقلة حيلتها (وقيل: قلوبهم رقيقة) أي: فهي أسرع فهماً وقبولاً للخير وامتثالاً له.

785 - الحديث (الخامس: عن جابربن عبد الله رضي الله عنه) وتقدمت ترجمته في باب الإخلاص (أنه غزا مع النبي) تقدم في باب التوبة عدة غزواته وسراياه وما حارب فيه بنفسه وهذه رواية عنه بالمعنى، وإلا فإنما قال غزوت بتاء المتكلم (قبل نجد) هو لغة: ما ارتفع من الأرض، وهي هنا اسم خاص لما دون الحجاز، والمراد بها ذات الرقاع وكانت في السنة السادسة (فلما قفل) بفتح أوليه، القاف والفاء: أي: رجع من سفره (رسول الله، قفل) أي: جابر (معه) أي: مع النبي، وفي نسخة «معهم» أي: مع النبي وصحبه المجاهدين معه التابعين له (فأدركتهم القائلة) أي: الظهيرة، في «الصحاح» وقد تكون بمعنى القيلولة أيضاً: وهي النوم في الظهيرة (في واد كثير العضاه) بكسر العين المهملة وبالضاد المعجمة (فنزل رسول الله) أي: صار في المنزل وترك السير للحر (وتفرّق الناس عنه يستظلون بالشجر) يستترون بها كما في «الصحاح» علة لتفرقهم عنه في ذلك المكان حتى انفرد ووصل إليه ذلك العدوّ الذي لولا عصمة الله لنبيه لتفك به (ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت سمرة فعلق) بالتشديد (بها سيفه ونمنا نومة) علة لما تقدم أيضاً والنوم من تعب السفر مع حرّ الشمس ولذا استحبت القيلولة (فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعونا، وإذا عنده أعرابي) منسوب للأعراب وهم سكان البوادي، والعرب يعمهم ويعم سكان القرى كما تقدم، وهذا الأعرابي من بني محارب الذين خرج لحربهم في غزوة ذات الرقاع. قال العلماء: اسمه غورث بغين معجمة وثاء مثلثة والغين مضمومة ومفتوحة. وحكى القاضي عياض الوجهين ثم قال: الصواب الفتح، قال: وضبطه بعض رواة البخاري بالعين المهملة والصواب المعجمة. والخطابي قال: هو غورث أو غويرث على التصغير والشك وهو غورثبن الحارث. قال القاضي: وجاء في حديث آخر مثل هذا الخبر وسمي فيه الرجل دعثور، كذا في «شرح مسلم» للمصنف. قال ابن سيد الناس في عنوان الأثر: وذلك في غزوة ذي قرد اهـ. لكن في البخاري كما يأتي أنها في ذات الرقاع، وكذا قال ابن النحوي في «شرح البخاري» وفي «شرح الشفاء» لابن أقبرس أن قصة غورث معه في ذات الرقاع في السنة الرابعة، وقد أسلم بعد هذا وصحب النبيّ

اهـ. فلعلها تعددت، فيجمع بين الأقوال بتعدد الغزوة وتعدد الأعرابي. وقضية كلام البخاري في «المغازي» من صحيحه أن ذات الرقاع يقال لها ذو قرد، والله أعلم (فقال: إن هذا اخترط عليّ سيفي وأنا نائم) وفي سيرة ابن سيد الناس عن جابر «أن النبيّ كان جالساً وأن السيف كان في حجره فقال: يا محمد انظر إلى سيفك هذا؟ قال نعم، فأخذه واستله ثم جعل يهزّه ويهمّ بقتل النبيّ فيكبتهالله، ثم قال: يا محمد أما تخافني؟ قال: ما أخاف منك، قال: وفي يدي السيف، قال لا، يمنعني الله منك» الحديث، وظاهر أن ما في «الصحيح» مقدم على ما في غيره (فاستيقظت) أي: عقب اختراطه قبل تمكنه من الفتك به، ويحتمل أن يكون بعد تمكنه من الفتك به وعصم الله تعالى نبيه وكبت عدوّه (وهو في يده صلتا) حال (وقال) أي: الأعرابي مخاطباً للنبي (من يمنعك مني) استفهام يتضمن النفي كأنه قال: لا مانع لك مني، ظن لقصور نظره أن السيف هو القاتل، ولم يدر أن اهو الفاعل وأنه يحول بين المرء وقلبه (فقلت: ا) أي: يمنعني منك فيكون مبتدأ محذوف الخبر بقرينة وجوده في السؤال، ويحتمل أن يكون التقدير: يمنعني الله فيكون فاعلاً حذف عامله لما ذكر فيما قبله (ثلاثاً) الظاهر أنه قيد في الجواب فقط، وكأنه أعاد هذا اللفظ ثلاثاً تلذذاً به، ولغلبة توحيده وكمال شهوده لم ينزعج قلبه الشريف، بل كان على حاله المنيف في أن قرّة عينه في مشاهدته لمولاه ومناجاته، ويحتمل أنه كرّر قوله: «من يمنعك» فكرر قوله: «ا» في جوابه. وقد وقع في نسخة من البخاري «من يمنعك مني من يمنعك مني» فكرّرها مرتين (و) من كرم أخلاقه (لم يعاقبه) ففيه العفو والحلم ومقابلة السيئة بالحسنة (وجلس) أي: النبيّ من اضطجاعه الذي كان عليه حال نومه، فيكون حالاً من مفعول يدعونا، وعليه اقتصر الشيخ زكريا، أو جلس الأعرابي من قيامه الذي كان عليه حال اختراط السيف لأمته (متفق عليه) في السيرة لابن سيد الناس عن جابر أن في ذلك نزل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ همّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم} (المائدة: 2) الآية (في رواية) للبخاري (قال جابر: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذات الرقاع) أي: بغزوة ذات الرقاع، وسميت بذلك لأنهم رفعوا فيها راياتهم، ويقال ذات

الرقاع شجرة بذلك الموضع، وقيل: لأن أقدامهم نقبت فكانوا يلفون عليها الخرق، وقيل: بل الجبل الذي نزلوا عليه كانت أرضه ذات ألوان تشبه الرقاع، وسيأتي هذه مع زيادة في سبب التسمية وبيان تاريخ الغزوة في باب القناعة إن شاء الله تعالى (فإذا أتينا) معطوف على كنا (على شجرة ظليلة) أي: ذات ظل كثيف لتراكم أغصانها وكثرة أوراقها (تركناها لرسول الله) لأنه السيد المقدم (فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معلق بالشجرة) جملة حالية (فاخترطه) أي: سله بسرعة (فقال: تخافني) أي: أتخافني (فقال) (لا) أي: لا أخافك لعلمه بأن الفاعل المختار هو الواحد القهار، فقام الحرف مقام جملة الجواب بقرينة وجود ما يدل عليه في السؤال (قال) الأعرابي (فمن يمنعك مني؟) أي: بالحيلولة بيني وبين ما أريد من الفتك (قال: ا) أي: الله يمنعني منك ويحول بينك وبين ما تريد (وفي رواية أبي بكر الإسماعيلي في «صحيحه» ) وكذا أخرجه أبو عوانة من حديث جابر المستخرج على صحيح البخاري (فقال) أي: الأعرابي (من يمنعك مني؟ قالالله، فسقط السيف من يده، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السيف فقال) للأعرابي (من يمنعك؟) أي: من البشر أي لا مانع لك الآن (مني، فقال: كن خير آخذ) أي: بأن تعفو وتصفح وتقابل السيئة بالحسنة (فقال: تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله) فـ (قال لا، ولكن) استدراك مما قد يوهمه عدم إسلامه من شهوده مع محاربيه فنفى ذلك بقوله ولكن (أعاهدك أني لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك) فرأى المصلحة في العفو عنه رجاء إسلام قومه وإقبالهم على حضرته الشريفة لما يسمعون بمحاسن هذه الأخلاق وكمال هذا الكرم فيسمعون منه ما يكون سبب إسلامهم وسعادتهم الأبدية (فخلى سبيله) أي: منّ عليه وأطلقه من غير فداء. وفي قصة دعثور الذي استظهر ابن سيد الناس وابن النحوي أنها وهذه قصة

واحدة «أن جبريل دفع في صدره فوقع السيف من يده، ثم أسلم ثم جاء قومه يدعوهم إلى الإسلام» . ولعله قال: هذا المذكور هنا من امتناعه من الإسلام أولاً، ثم شرح الله صدره في المجلس بحلول نظر المصطفى وملاحظته له فأسلم. وسكت عن ذلك رواة الصحيح، إما نسياناً أو لسبب آخر وذكره غيرهم، ويقربه قوله (فأتى أصحابه) أي: قومه الذين كان تعاقد معهم على الفتك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فقال: جئتكم من عند خير الناس) خلقاً وخلقاً، ويكفيك في شرف خلقه وكماله قوله تعالى: {وإنك لعلي خلق عظيم} (القلم: 4) وسئلت السيدة عائشة عن خلقه فقالت: كان خلقه القرآن (قوله قفل) بالقاف والفاء (أي رجع) من السفر. (العضاة) بكسر العين المهملة والضاد المعجمة الواحدة عضه فالهاء أصلية وقيل عضهة وقيل عضاهة فحذفت الهاء الأصلية كما حذفت من الشفة ثم ردت في العضاه كما ردت في الشفاه؛ وقد يقال عضة مثل عزة ثم يجمع على عضوات، ويقرأ العضاه بالهاء وقفاً ووصلاً، لأن جمعه جمع تكسير وليس بجمع سلامة، فهو مثل شفاه وشياه، كذا في «التوضيح» على الجامع الصحيح لابن النحوي (الشجر الذي له شوك، والسمرة بفتح السين) المهملة (وضم الميم) وبعدها راء جمعه سمر (الشجرة من الطلع) بفتح المهملة أوله وسكون اللام بعد مهملة: وهو العوسج (وهي) أي: الطلح والتأنيث بالنظر إلى الخير: أي: قوله (العظام) أي: الكبار (من شجر العضاه، واخترط السيف: أي سله) قال ابن النحوي بسرعة (وهو في يده صلتاً: أي مسلولاً وهو بفتح الصاد) المهملة (وضمها) وسكون اللام فيهما. قال في «جامع الأصول كالنهاية والصحاح» : الصلت المشهور، يقال أصلت السيف: إذا شهرته اهـ: أي إن فعله من الثلاثي المزيد. وفي كتاب الأفعال لابن القوطية صلت الشيء برز، وأصلت الشيء أبرزته.

796 - الحديث (السادس عن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لو) تحقق (أنكم تتوكلون) بفتح الهمزة: أي لو تحقق توكلكم (على الله حق توكله) بأن تعتمدوا عليه في سائر الأحوال وتروا أن الخير بيده ومن عنده (لرزقكم كما يرزق الطير) أل فيه للجنس (تغدو خماصاً) بكسر الخاء المعجمة وبعد الألف صاد مهملة جمع خميص: وهو الضامر البطن وخماصاً حال: أي: خالية الأجواف من القوت (وتروح بطانا) بكسر الموحدة جمع بطين: وهو العظيم البطن وهو حال أيضاً (رواه الترمذي) وأحمد وابن ماجه والحاكم في «المستدرك» (وقال) الترمذي (حديث حسن) قال المصنف (معناه) أي: معنى الحديث المذكور (تذهب أول النهار خماصاً: أي: ضامرة البطن من الجوع) فمعنى الغدوّ: الذهاب أول النهار، والرواح ضده ولذا قال في معنى قوله: «وتروح بطانا» (وترجع آخر النهار بطاناً: أي ممتلئة البطون) قال السيوطي في قوت المغتدى: قال البيهقي في «شعب الإيمان» : ليس في هذا الحديث دلالة على القعود عن الكسب، بل فيه ما يدل على طلب الرزق، لأن الطير إذا غدت فإنها تغدو لطلب الرزق، وإنما أراد والله أعلم: لو توكلوا على الله تعالى في ذهابهم ومجيئهم وتصرفهم ورأوا أن الخير بيده ومن عنده لم ينصرفوا إلا سالمين غانمين كالطير تغدو خماصاً وتعود بطاناً، لكنهم يعتمدون على قوتهم وجلدهم ويغشون ويكذبون ولا ينصحون، وهذا خلاف التوكل اهـ. 807 - الحديث (السابع عن أبي عمارة) بضم العين المهملة وتخفيف الراء ويقال أبو عمرو ويقال أبو الطفيل (البراء) بفتح الموحدة وتخفيف المهملة والمد هذا هو الصحيح المشهور عند طوائف من أهل الحديث والتاريخ والأسماء واللغة وغيرهم، قال المصنف في «التهذيب» ، وحكي فيه القصر أيضاً (ابن عازب) بالمهملة أوله وبعد الألف زاي فموحدة ابن

الحارثبن عديبن مخدعةبن حارثةبن الحارثبن الخزرجبن عمروبن مالكبن الأوس الأنصاري الأوسي الحارثي المدني، أبو عازب صحابي ذكره ابن سعد في «الطبقات» ، فلهذا قال المصنف (رضي الله عنهما) استصغر البراء يوم بدر، وأول مشاهدة أحد، وشهد بيعة الرضوان. وفي البخاري عن البراء «جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة مهاجراً حتى قرأت {سبح اسم ربك الأعلى} (الأعلى: 1) في سور مثلها من المفصل» . روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثمائة حديث وخمسة أحاديث، اتفقا على اثنين وعشرين حديثاً منها، وانفرد البخاري بخمسة عشر: ومسلم بستة. نزل الكوفة وبها توفي في زمن مصعببن الزبير رضي الله عنهما (قال: قال رسول الله: يا فلان) تقدم الكلام فيه أواخر باب الصبر هو أسيدبن حضير كما نقله المصنف في «مبهماته» عن الخطيب (إذا أويت) بالقصر على الأرجح لأنه قاصر: أي: انضممت (إلى فراشك) وقد بسطت الكلام فيه في باب ما يقول إذا استيقظ من منامه من «شرح الأذكار» (فقل: اللهم إني أسلمت نفسي) بسكون الياء وتفتح: أي: ذاتي (إليك) أي: أسلمت وجعلت نفسي منقادة لك طائعة لحكمك راضية بقضائك قانعة بقدرك (ووجهت وجهي إليك) أي: أقبلت بذاتي إليك مستسلماً راضياً قانعاً وهو مع ما قبله كالإطناب (وفوضت أمري إليك) أي: توكلت في جميع شئوني الدنيوية والأخروية عليك وجعلتها راجعة إليك (وألجأت) أي: أسندت (ظهري إليك) أي: إلى حفظك، لما علمت أنه لا سند يتقوى به سواك. قال الطيبي: في الجملة إشارة إلى أنه بعد تفويض أمره الذي هو مفتقر إليه وبه معاشه وعليه مدار أمره ملتجىء إليه مما يضرّه ويؤذيه من الأسباب الداخلة والخارجة (رغبة) أي: طمعاً في ثوابك (ورهبة) أي: خوفاً من عقابك (إليك) متعلق برغبة كقوله: علفتها تبناً وماء بارداً. كما قاله الكرماني. وقيل: بل تنازع فيه ما قبله بمعنى: إني في حالة الرغبة والرهبة لا أرجع إلا إليك، وقوله: (لا ملجأ) بهمزة مفتوحة: أي: مستند ولا من يلتجىء إليه، وقيل: لا مخلص ولا مفرّ (ولا منجا) غير مهموز. وقال الحافظ ابن حجر: الأصل في ملجأ الهمز وفي منجا عدمه، لكن لما جمعا جاز أن يهمزا وأن يترك الهمز منهما للازدواج وأن يبقى كل على حاله ويجوز التنوين مع القصر فتصير خمسة أوجه. قلت:

وكذا يجوز التنوين مع الهمز: أي: إن لم تعمل «لا» فإن أعملتها فلا تنوين مهموزاً كان أو لا (منك) قال الكرماني: تنازعه ما قبله إن كانا مصدرين وإن كانا اسمي مكان فلا، إذ اسم المكان لا يعمل (إلا إليك) أي: لا ملجأ منك إلى أحد إلا إليك، ولا منجا إلا إليك، فهو كقوله تعالى: {كلالاً وزر إلى ربك يومئذٍ المستقر} (القيامة: 11، 12) فالجملة استئناف لما قبله بطريق الاستثناف البياني. ونصب رغبة ورهبة على العلة لما تقدم أي إن إسلام نفسي الخ معلل بالرغبة والرهبة. قال الطيبي: إنه بطريق اللفّ والنشر المرتب: أي فوضعت أمري طمعاً في ثوابك وألجأت ظهري من المكاره: إليك خوفاً من عقابك، وهو معنى صحيح بديع، ولا يظهر قول ابن حجر في «شرح المشكاة» إنه خلاف الصواب كما بينته مع الفرق بين الرهبة والخوف والخشية والوجل في «شرح الأذكار» . وقيل: منصوبان على الحال: أي: راغباً وراهباً، وقيل: على الظرفية: أي: في زمن تساوي الطمع والخوف الذي هو شأن أرباب الكمال، ففي الحديث «لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا» (آمنت بكتابك الذي أنزلت) قيل: الإضافة في كتابك للعهد: أي القرآن بقرينة المقام، والإيمان به إيمان بسائر الكتب، ويؤيده قوله: (ونبيك) من غير مراعاة الجار ووقع في «المصابيح» بإعادته (الذي أرسلت) أي: أرسلته لكافة الناس بشيراً ونذيراً، ويجوز أني راد من الكتاب والنبي الجنس (فإنك إن متّ) بكسر الميم وضمها كما قرىء بهما في السبع إلا أن تثبت رواية بأحدهما فيوقف عندها، ثم هو على كسرها على لغة من قال مات يمات كخاف يخاف، وعلى ضمها على لغة من قال مات يموت كقال يقول فهو بهما مبني للفاعل، ويجوز كونه على أحدهما مبنياً للفاعل وعلى الآخر مبنياً للمفعول (من ليلتك) مع اعتقاد مضمون هذا الكلام الذي أتيت به (مت على الفطرة) أي: على الإيمان الذي فطر الله عليه عباده قال تعالى: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} (الروم: 30) وهذا كما قال في الحديث الآخر «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة» وهما إن تساويا في فطرة الإسلام فبين الفطرتين ما بين الحالتين ففطرة الطائفة المذكورة في هذا الخبر فطرة المقربين وفطرة الثانية فطرة أصحاب اليقين ذكره القرطبي (وإن أصبحت) حيا (أصبت خيراً) أي: أجراً عظيماً وثواباً جزيلاً (متفق

عليه) ورواه أصحاب السنن الأربعة (وفي رواية في «الصحيحين» عن البراء قال: قال لي) ولا ينافي ما تقدم للجمع بوقوع الخطاب بذلك له تارة ولأسيد أخرى (رسول الله: إذا أتيت مضجعك) بفتح أوله وثالثه: أي: مكان اضطجاعك (فتوضأ وضوءك) أي: مثله (للصلاة) في غسل الأعضاء بنية (ثم اضطجع على شقك) بكسر الشين المعجمة وتشديد القاف: أي: جانبك (الأيمن) وذلك لشرف الأيمن، ولأنه يصير القلب حينئذٍ متعلقاً فلا يغتبط بالنوم فيكون سبباً لقلة النوم والقيام بالليل (وقل: فذكر نحوه) أي: بمعناه، ويقال مثله فيما لو كان بمبناه. هذه عادة المحدّثين إذا أوردوا الحديث بإسناد ثم بإسناد آخر (ثم قال) (واجعلهن آخر ما تقول) أي: من الدعوات. 818 - الحديث (الثامن: عن أبي بكر الصديق) بكسر المهملة وتشديد الثانية، وهو أول من لقب بذلك في الإسلام وغلبت الكنية عليه وعلى أبيه. لقب بذلك لمبادرته لتصديق النبي، وقيل: لقب به صبيحة الإسراء لمبادرته لتصديق النبي فيه. ويلقب بعتيق أيضاً من العتاقة: وهي الحسن لعتاقة وجهه أو لعتاقة نسبه، وقيل: من العتق لأن أمه كان لا يعيش لها ولد، فلما ولدته استقبلت به الكعبة فقالت: اللهمّ هذا عتيقك، أو لأن الله تعالى عتقه من النار كما جاء ذلك في حديث مرفوع لعائشة عند الترمذي (عبد الله بن عثمان) أبي قحافة (بن عامربن عمرو) بفتح المهملة، ويكتب بالواو حالتي الرفع والخفض لتلا يشتبه بعمر كزفر (ابن كعب) بفتح الكاف وسكون المهملة آخره موحدة (ابن سعد) بفتح المهملة الأولى وسكون المهملة الثانية (ابن تيم) بفتح الفوقية وسكون التحتية (ابن مرة) بضم الميم وتشديد الراء المهملة: محل اجتماعه مع النبي في نسبه الكريم (ابن

كعببن لؤي) بضم اللام وفتح الهمزة مصغر اللأي (ابن غالب القرشي التيمي) بدأ بالأول لأنه الأصل وعقبه بما بعده لأنه شعبة منه، وتقدم في أول باب الإخلاص أن القاعدة في مثله ذكر الأعم ثم الأخص لتحصل بالثاني فائدة لم تحصل من الأول، ولو عكس لم تحصل (رضي الله عنه) الأولى عنهما لقوله: (هو وأبوه وأمه) أم الخير سلمى بنت صخر التيمية بنت عم أبيه (صحابة) ولم يتفق لأحد من الصحابة ما اتفق له من إسلام أبويه وبنيه وبعض بنيهم وصحبة الجميع (رضي الله عنهم) أسلم لما دعاه إلى الإسلام ولم يتلعثم ولم يتردد. وهو أول من أسلم من الرجال الأحرار البالغين بلا خلاف، وتأخر إسلام أبيه إلى يوم الفتح ويكفيك في فضله قوله: «إن من أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته» رواه البخاري وفضائله كثيرة ومناقبه شهيرة وقد أفردت بالتأليف، وقال في فضله حسانبن ثابت: إذا تذكرت شجواً من أخي ثقة فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا خير البرية أتقاها وأفضلها بعد النبي وأولاها بما حملا والثاني التالي المحمود مشهده وأول الناس منهم صدقّ الرسلا روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث واثنان وأربعون حديثاً، اتفقا على ستة أحاديث منها، وانفرد البخاري بأحد عشر ومسلم بواحد. وتوفي رضي الله تعالى عنه بين المغرب والعشاء من ليلة الثلاثاء لثمان بقين من شهر جمادي الأولى سنة ثلاث عشرة عن ثلاث وستين سنة، وحمل على السرير الذي كان ينام عليه النبي، وصلى عليه عمربن الخطاب تجاه المنبر النبوي وكبر عليه أربعاً، ودفن بجانب قبر النبيّ (قال: نظرت إلى أقدام المشركين) الذين خرجوا يقصون أثر النبيّ لما هاجر ويلتمسون محله الذي هو فيه (ونحن في الغار) هو ثقب في الجبل عظيم كالكهف، وهو الغار المذكور في قوله تعالى {إذ هما في الغار} (التوبة: 40) قال قتادة: هو غار في جبل بمكة يقال له ثور. واختلف في التفاضل بينه وبين غار حراء، فقال الفيروزآبادي في كتاب الصلاة والبشر: إن غار ثور أفضل،

لأن الله تعالى ذكره في القرآن وحمى فيه سيد ولد عدنان. وقال بعض المتأخرين: غار حراء أفضل لأنه اختاره للتعبد وفيه بدء الوحي (وهم) يعني المشركين (على رءوسنا) في طلبنا فأعماهم الله * وكيف تبصر الشمس مقلة عمياء * (فقلت: يا رسول الله لو) وقع (أن أحدهم نظر) موضع (تحت قدمه لأبصرنا) أي: من خلال أغصان الشجر وبيت العنكبوت التي كانت على باب الغار الذي دخلا منه وهو الباب الضيق، أما الباب المتسع فإنما شقّ له لما قال له الصديق: لو ولجوا علينا الغار ما كنا نصنع؟ فقال: كنا نخرج من هاهنا، وأشار بيده المباركة إلى الجانب الآخر ولم يكن فيه شقّ، فانفتح فيه للحين باب بقدرة الله تعالى. ذكره الحافظ تقي الدينبن فهد في كتاب «أقطاف النور مما ورد في ثور» (فقال) (ما ظنك) أي: ما تظن (يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما) بالنصر والمعونة والكلاءة والحفظ أيصيبهما ضيم؟ وهذا استفهام تقريري، وفيه تسكين لما حصل للصديق حينئذٍ من الاضطراب (متفق عليه) ورواه الترمذي. وفي الحديث تنبيه على أن من توكل على مولاه كفاه وحماه من سائر عداه. فائدة: في كتاب «اقتطاف النور» بسنده إلى الواحدي أنه أخرج عن غالببن عبد الله القرفستاني عن أبيه عن جده قال: «شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لحسانبن ثابت: قلت في أبي بكر شيئاً؟ قل حتى أسمع، قال فقلت: وثاني اثنين في الغار المنيف وقد طاف العدا به إذ أصعد الجبلا وكل حب رسول الله قد علموا من الخلائق لم يعدل به رجلاً قال: فتبسم رسول الله» اهـ. 829 - الحديث (التاسع: عن أم سلمة) بفتح المهملة واللام كنية لها بابنها

سلمةبن أبي سلمة (واسمها هند) على الصحيح المشهور، بل قال الحافظ العسقلاني في أطراف مسند الإمام أحمد بلا خلاف: أي: معتبر، فلا يشكل بما قيل إن اسمها «رملة» لأنه ضعيف بالمرة، فقد قال ابن الأثير في «أسد الغابة» : إنه ليس بشيء (بنت أبي أمية) بضم الهمزة وفتح الميم وتشديد التحتية (حذيفة) وقيل: سهل، وقيل: زهير، وقيل: هشامبن المغيرةبن عمروبن مخزوم القرشية (المخزومية) أم المؤمنين (رضي الله عنها) تزوّجها بعد وفاة زوجها أبي سلمة سنة أربع، وخيرها بين أن يسبع لها ويسبع لنسائه وأن يثلث لها ويدور عليهن فاختارت التثليث، وهي أول من هاجرت إلى الحبشة وزوجها جميعاً فولدت ثمة زينب وسلمة وعمر ودرة. ويقال إنها أول ظعينة دخلت المدينة مهاجرة، وكانت من أجمل النساء، روي لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثمائة حديث وثمانية وسبعون حديثاً؛ اتفقا على ثلاثة عشر منها، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بثلاثة عشر، وماتت سنة اثنتين وستين، وقيل: سنة ستين، وقيل: إحدى وستين، وصححه ابن عساكر وقيل: أربع وستين، وقيل: تسع وخمسين، ودفنت بالبقيع وعمرت فعاشت تسعين سنة، وهي آخر أمهات المؤمنين وفاة رضي الله عنها (أن النبيّ كان إذا خرج) أي: أراد الخروج، وقيل: بل هو على حقيقته: أي: عقب الخروج (من بيته قال) هو جواب إذا. ولفظ أبي داود «ما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بيتي إلا رفع طرفه إلى السماء فقال: اللهم إني أعوذ بك الخ» وليس عنده قوله: (بسم ا) أي: أتحصن. قال السمين الحلبي: إنما تحذف ألها حيث يضاف الاسم للجلالة، وإذا أضيف لغيرها لم تحذف، هذا هو المشهور وعليه اقتصر المؤلف في «شرح مسلم» ونقله عن الكتاب من أهل العربية. قال الشيخ جلال الدين السيوطي: وحكي عن الكسائي والأخفش جواز حذفها إذا أضيفت إلى غير الجلالة. وقال الفراء: هذا باطل، ولا يجوز أن تحذف إلا مع اسم الله تعالى اهـ (توكلت على ا) وعلى في هذا المقام للتفويض مجازاً عن الاستعلاء، وقيل: المراد من توكلت على الله طلب الاستعلاء با تعالى على كل مرام لتصحبه إعانته ولطفه وتحفظه من غير قصور (اللهم) يا أ (إني أعوذ) أعتصم وألتجىء (بك) بقدرتك وعزتك من (أن أضل) يفتح أوله وكسر الضاد المعجمة: أي: أغيب عن معالي الأمور بارتكاب نقائصها فأبوء بالقصور عن أداء مقام العبودية، من ضلّ الماء في اللبن: غاب (أو أضلّ) بضم ففتح مبني للمجهول: أي: يضلني غيري (أو أزلّ) بفتح فكسر للزاي: أي: أنزل عن الطريق المستقيمة إلى هوة ضدها غلبة الهوى أو الإعراض عن

أسباب التقوى والإنهماك في تحصيل الدنيا، من زلت قدمه: وقع من علو إلى هبوط. والمزلة المكان المزلق الذي لا تثبت عليه الرجل وبه يظهر أن في استعمال أزل هنا نوع تشبيه (أو أزلّ) بضم ففتح: أي يستولي عليّ من يزلني عن المقام العلي إلى السفساف الدني، أو بضم فكسر: أي: من أن أوقع غيري في مهواة الزلل: أي: المعاصي والخلل (أو أظلم) بفتح فسكون فكسر: أي: أظلم غيري: من الظلم وضع الشيء في غير محله أو التصرّف في حق الغير (أو أظلم) بضم فسكون ففتح أي: أظلم من أحد من العباد (أو أجهل) أي: أجهل الحق الواجب عليّ (أو يجهل عليّ) أي: بأن أحمل على شيء ليس من خلقي، وفي الحديث «من استجهل مؤمناً فعليه إثمه» أي: حمله على شيء ليس من خلق المؤمنين فأغضبه فإثمه على ذلك المحرج له لذلك (حديث صحيح) . قال الحافظ ابن حجر العسقلاني وصححه الحاكم من طريق ابن مهدي وقال: إنه على شرط الشيخين. ونوزع بأن في سنده انقطاعاً، فإن الشعبي لم يسمع من أم سلمة. قال الحافظ: ولعل من صححه سهل الأمر لكون الحديث في «الفضائل» (رواه أبو داود والترمذي وغيرهما) فرواه أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم في «المستدرك» (بأسانيد صحيحة، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وهذا) أي: المذكور من قوله: «اللهم إني أعوذ بك أن أضلّ إلخ» وإلا ففيه زيادة إلا. «رفع طرفه إلى السماء» ونقص قوله: «بسم الله توكلت على ا» (لفظ) رواية (أبي داود) وقد أوضح ذلك في كتاب «الأذكار» له، وعبارته بعد أن أورده بمثل اللفظ المذكور هنا: هكذا في رواية أبي داود أن أضل وكذا الباقي بلفظ التوحيد. وفي رواية الترمذي «أعوذ بك من أن نزلّ» وكذا الباقي بلفظ الجمع. وفي رواية أبي داود «ما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بيتي إلا رفع طرفه إلى السماء فقال: اللهمّ إني أعوذ بك الخ» وفي رواية غيره «كان إذا خرج من بيته قال» : كما ذكرناه والله أعلم اهـ. فيه يعلم أن لفظ أبي داود المشار إليه إنما هو إفراد الكلمات فقط وإلا فقوله «من بيته» وزيادة قوله: «بسم الله توكلت على ا» ليست فيه،

وقد بسطت الكلام في هذا المحل وبينت اختلاف ألفاظه عند كل من رواية أصحاب السنن الأربعة في «باب ما يقول حال خروجه من بيته» من «شرح الأذكار» . 8310 - (العاشر: عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من قال يعني إذا خرج من بيته) لفظ أبي داود: «إذا خرج الرجل من بيته فقال» (بسم ا) أي: أتحصن (توكلت على ا) أي: فوضت أمري إليه وعولت في سائر الأحوال عليه. (لا حول) وفي نسخة بإثبات الواو قبلها، ويجوز في حول الفتح على إعمال لا والرفع على إهمالها (ولا قوّة) بالنصب عطفاً على محل حول إن أعملت الأولى. وبالفتح على إعمال الثانية. وبالرفع على أهمالهما كما سبق بيانه آخر الخطبة (إلا با) ومعناها: لا حول عن المعاصي إلا بعصمةالله، ولا قوة على طاعة الله إلا با. قال عليه الصلاة والسلام: «كذا أخبرني جبريل عن الله تعالى» وفي «فتح المشكاة» للقارىء: أحسن ما ورد في معناه عن ابن مسعود قال: «كنت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلتها، فقال: تدري ما تفسيرها؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: لا حول عن معصيةالله، ولا قوّة على طاعة الله إلا بعون ا» أخرجه البزار، ولعل تخصيصه بالطاعة والمعصية لأنهما أمران مهمان في الدين اهـ (يقال له) الجملة خبر الموصول الأسمي، والقائل يحتمل أن يكون الله أو ملك (هديث وكفيت ووقيت) وهي بالبناء للمجهول في محل نائب الفاعل لأنه أريد منها اللفظ: أي: باستعانتك باسمه تعالى وتحصنك به هديت للصراط المستقيم وكفيت كل مهم دنيوي وأخروي، ووقيت: أي: حفظت من شرّ كل عدوّ وبواسطة صدقك في تفويض جميع الأمر لبارئه، وسلبك الحول والقوّة عن كل أحد، وإثباتهما له تعالى (وتنحى) بفتح أوليه وتشديد المهملة (عنه) أي: مال عن جهته وطريقه (الشيطان) فلا سبيل له إليه لكونه هدي ووقي من سائر الأعادي، وكفي الهموم الخفايا والبوادي (رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم) فرواه ابن حبان في «صحيحه» ولفظ الحديث للترمذي. وقاعدة المحدثين في مثله تقديم ذكر من خرّجه باللفظ وتأخير من خرجه بنحو ما ذكروه، ولعل تقديم أبي داود لكونه مقدماً في الرتبة. (وقال الترمذي: حديث حسن) وفي نسخة صاحب «السلاح» : حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه اهـ. ونسخ الترمذي مختلفة في مثل هذا كثيراً، فلذا اعتبر في اعتماد الأصل منه تعداد الوصول المقابل هو بها.

ويحتمل أن المصنف أسقط لفظة غريب لذلك أو لعدم تعلق غرضه بذكرها لأنها لا تقدح في العمل (زاد أبو داود فيقول يعني) تفسير من بعض الرواة لمرجع هو المستتر في «يقول» العائد للشيطان المذكور في قوله: وتنحى عنه الشيطان (الشيطان) بالنصب مفعول يعني وأل فيه عهدية (لشيطان آخر) يريد إغواء قائل هذا الذكر ولم يسمع ما قاله وما قيل له أو سمعه وأراد التمرّد (كيف) يتيسر (لك) أن تظفر (برجل قد هدي) وجملة قد هدي وكذا ما عطف عليه من قوله: (وكفي ووقي) في محل الصفة لرجل وجملة «كيف لك الخ» مقول القول. وحاصل المراد أنه يقول الشيطان لشيطان آخر: كيف يتيسر لك الظفر بإغواء رجل موصوف بأنه أعطي هذه الهبات. وفي «الترغيب» للمنذري والسلاح: فيقول شيطان بحذف اللام منه، فيكون فاعلاً وحذف المقول له ليعم. وعلم الشيطان حصول هذا المعنى لقائل هذا الذكر من الأمر العام، وهو أن من ذكره تعالى بهذه الكلمات المرغب فيها منه أعطي ذلك، أو بسماعه من الملك إن كان هو القائل لذلك كما تقدم في احتمال. فائدة: في «الجامع الصغير» للسيوطي إيراد الحديث السابق عن أم سلمة من حديث بريدة باللفظ المذكور هنا، وزاد بعد قوله: «توكلت على الله لا حول ولا قوّة إلا با» وزاد في آخره «أو أبغي أو يبغى عليّ» وقال: رواه الطبراني من حديث بريدة، وبه يعلم أن حديث أنس هذا قطعة من الحديث قبله اقتصر كل من رواته على ما ذكره وترك الباقي إما نسياناً أو لسبب آخر، والله أعلم. 8411 - (الحادي عشر: عن أنس رضي الله عنه قال: كان أخوان) لم أقف على من سماهما (على عهد) أي: زمن حياة (رسول الله، فكان أحدهما يأتي مجلس النبي) ويلازمه ليتلقى من معارفه ويأخذ من أقواله وأفعاله (والآخر يحترف) افتعال من الحرفة: وهي الصناعة وجهة الكسب (فشكا المحترف أخاه) في ترك الاحتراف (إلى النبي فقال) مسلياً له

8 ـــ باب في الاستقامة

وفي انفراده بالاحتراف ترك أخيه الأسباب (فلعلك ترزق به) أي: فلعل قيامك بأمره سبب لتيسير رزقك، لأن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. وفي الحديث أيضاً «وهل ترزقون» أو قال: «تنصرون إلا بضعفائكم» وفيه تنبيه على أن من انقطع إلى الله واكتفى بتدبيره عن تدبير نفسه وسكن تحت جري مقاديره كفاه مهماته. وفي الحديث «تكفل الله لطالب العلم بالرزق» أي: بتيسير وصوله إليه لما خرج عن حاجة نفسه وأقبل على باب مولاه واكتفى به عن أفعال نفسه، وإلا فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها (رواه الترمذي بإسناد) هو رجال الطريق الموصلة إلى المتن (على شرط مسلم) أي: إنهم روى عنهم مسلم في «صحيحه» ، وهذا هو المراد بقولهم على شرط الشيخين مثلاً (يحترف) المذكور في الخبر معناه (يكتسب ويتسبب) أي: يتعاطى الأسباب التي أبرزتها الحكمة ستراً للتصرفات الإلهية. 8 - باب في الاستقامة في «مفردات الراغب» : استقامة الإنسان لزومه للمنهج المستقيم نحو {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} اهـ. وقال بعض العارفين: مرجع الاستقامة إلى أمرين صحة الإيمان با واتباع ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظاهراً وباطناً. وقال عمر رضي الله عنه: الاستقامة أن تقوم على الأمر والنهي ولا تروغ عنه روغان الثعلب. (قال الله تعالى: {فاستقم كما أمرت} ) الخطاب فيه للنبي، يعني فاستقم يا محمد على دين ربك والعمل به والدعاء إليه كما أمرك ربك، والأمر فيه للتأكيد لأن النبيّ كان على الاستقامة لم يزل

عنها، فهو كقولك للقائم: قم حتى آتيك: أي: دم على ما أنت عليه من القيام حتى آتيك. وفي «تفسير القرطبي» أن الذي شيبه من سورة هود قوله: «فاستقم كما أمرت» وقال: روي عن عبد الرحمن السلمي قال: سمعت أبا علي الشنوي يقول: رأيت النبي في المنام فقلت: يا رسول الله روي عنك أنك قلت «شيبتني هود، فقال: نعم، فقلت له: ما الذي شيبك منها: قصص الأنبياء وهلاك الأمم؟ قال لا، ولكن قوله: {فاستقم كما أمرت} اهـ. (وقال تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} ) على التوحيد وغيره مما وجب عليهم (تتنزّل عليهم الملائكة) عند الموت (أن) أي: أو بأن (لا تخافوا) من الموت وما بعده (ولا تحزنوا) على ما خلفتم من أهل وولد فنحن نخلفكم فيهم ( {وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون. نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا) أي: حفظتكم (وفي الآخرة} ) أي: نكون معكم فيها حتى تدخلوا الجنة ( {ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم} ) قيل: في إضافتها إليهم إشارة إلى تنعم أنفسهم التي ذاقت المرارة في الدنيا وانظر إلى {تشتهي} وإلى قوله: {تدعون} في قوله: ( {ولكم فيها ما تدعون} ) أي: تطلبون، فإن فيه إشارة إلى تفاوت المرات، ولا يخفى أن ذلك مما تذهب فيه النفس كل مذهب ( {نزلاً} ) رزقاً مهيئاً منصوب بجعل مقدراً ( {من غفور رحيم} ) وهو الله تعالى، وإذا كان هذا النزل وهو الكرامة المعجلة فكيف بالمؤجلة، رزقنا الله تعالى اتباع الكتاب والسنة وختم لنا بالحسنى بمنه آمين. (وقال تعالى) : {إن الذين قالوا ربنا ا} ) أي: آمنوا به ووحدوه ( {ثم استقاموا} ) اعتدلوا على ذلك وداموا عليه إلى أن يتوفاهم الله عليه، والمراد الاستقامة على التوحيد الكامل واتباع الكتاب والسنة ( {فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. أولئك أصحاب الجنة} ) بفضل الله تعالى،

قال: «لن يدخل أحدكم الجنة بعمله» . الحديث (خالدين فيها) حال مقدرة (جزاء) منصوب على المصدرية بفعله المقدر: أي: يجزون جزاء (بما كانوا يعملون) . 581 - (وعن أبي عمرو) بفتح العين المهملة (وقيل أبي عمرة) بزيادة تاء في آخره (سفيان) بضم السين على الأفصح وهو بتثليث السين (ابن عبد الله الثقفي رضي الله عنه) معدود من أهل الطائف/ كان عاملاً عليه لعمر حين عزل عنه عثمانبن أبي العاص ونقله إلى البحرين. وروى له مسلم هذا الحديث والترمذي والنسائي وابن ماجه (قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام) أي: في دينه وشريعته (قولاً) جامعاً لمعاني الدين واضحاً في نفسه بحيث لا يحتاج إلى تفسير غيرك أعمل عليه وأكتفي به، بحيث (لا أسأل) أي: لا يحوجني لما اشتمل عليه من بديع الإحاطة والشمول ونهاية الإيضاح والظهور إلى أن أسأل (عنه أحداً غيرك، قال: قل آمنت با) أي: جدد إيمانك متذكراً بقلبك ذاكراً بلسانك مستحضراً تفاصيل معاني الإيمان الشرعي التي مرت في حديث جبريل (ثم استقم) على عمل الطاعات والانتهاء عن جميع المخالفات إذ لا تتأتى الاستقامة مع شيء من الاعوجاج فإنها ضده، والحديث على وفاق الآية قبله (رواه مسلم) وأخرجه أحمد والدارمي وابن حبان في «صحيحه» والطبراني في «الكبير والضياء» في «المختارة» والحاكم في «مستدركه» للبيهقي في شعب الإيمان والخرائطي في مكارم الأخلاق وغيرهم، قال المصنف: هذا أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام. 862 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: قاربوا وسددوا، واعلموا أنه) أي: الشأن (لن ينجو أحد منكم من الله بعمله، قالوا: ولا أنت) أي: ولا تنجو بعملك

فحذف الفعل فانفصل الضمير، ويحتمل أن يكون ولا أنت ناج بعملك فيكون مبتدأ محذوف الخبر (قال: ولا أنا) أي: ولا أنجو، أو ولا أنا ناج بالعمل (إلا أن يتغمدني) أي: يغمرني (ابرحمة منه وفضل) ويلبسنيها ويغمرني بها ومنه غمدت السيف وأغمدته: أي: جعلته في غمدة وسترته به. قال المصنف في «شرح مسلم» : مذهب أهل السنة أنه لا يثبت بالعقل ثواب ولا عقاب ولا حكم شرعي، ولا يثبت ذلك كله إلا بالشرع. ومذهبهم أن الله تعالى لا يجب عليه شيء، بل الدنيا والآخرة ملكه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فلو عذب المطيعين جميعهم وأدخلهم النار لكان عدلاً منه ولو نعم الكافرين وأدخلهم الجنة كان له ذلك، ولكنه أخبر وخبره صدق أنه لا يفعل هذا، بل يغفر للمؤمنين ويدخلهم الجنة برحمته ويعذب الكافرين ويدخلهم النار عدلاً منه. وفي هذا الحديث دليل ظاهر لما قلناه من أنه لا يستحق أحد الثواب والجنة بطاعته. وأما قوله تعالى: {ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} (النحل: 32) ونحوها من الآيات الدالة على أن الأعمال يدخل بها الجنة، فهي لا تعارض هذه الأحاديث، بل معنى الآيات أن دخول الجنة بسبب الأعمال، ثم التوفيق للأعمال والهداية للإخلاص فيها وقبولها برحمة الله وفضله، فصحّ أنه لم يدخل الجنة أحد بمجرد العمل وهو مراد الأحاديث. ويصح أن يقال: إنه دخل بالأعمال المسببة عن الفضل: أي: بسببها وهي من الرحمة اهـ ملخصاً. وأشار العارف با تعالى ابن أبي جمرة إلى جواب آخر حاصله أن الأعمال أسباب عادية كسائر الأسباب التي هي من مقتضيات الحكمة ولا تأثير لها في دخول الجنة، فالنفي باعتبار التأثير بمعنى أن الذي يؤثر في دخول الجنة في الحقيقة إنما هو الله تعالى لا الأعمال، فإنما هي مجرد أسباب صورية اقتضتها الحكمة الإلهية والإسناد إليها تارة باعتبار أنها سبب صوري، وسيأتي في باب بيان طرق الخير أجوبة أخرى. قال ابن أبي جمرة: وفي الحديث دلالة على أنه ليس أحد من الخلق يقدر على توفية حق الربوبية على ما يجب لها. يؤخذ ذلك من قوله: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» فإذا كان هو وهو خير البشر وصاحب المقامات العلا لا يقدر على ذلك فالغير أحرى وأولى. وإذا تأملت ذلك من جهة النظر تجده مدركاً حقيقة لأنه إذا طالبنا بشكر النعم التي أنعم علينا عجزنا عنه بالقطع ومنها ما لا نعرفه كما قال: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} (ابراهيم: 34) فكيف غير ذلك من أنواع التكليفات فما بقي إلا ما أخبر به الصادق وهو التغمد بالفضل والرحمة (رواه مسلم.

والمقاربة: القصد الذي لا غلوّ فيه) أي: مجاوزة المأمور به والزيادة فيه (ولا تقصير) أي إخلال بشيء منه (والسداد) بفتح الأولى (الاستقامة والإصابة) قال بعضهم: السداد هو الإصابة في الأقوال والأعمال والمقاصد، والإصابة في جميعها: هي الاستقامة (ويتغمدني: يلبسني ويسترني) هو مثل يتغمدني في التعدي بالباء وإن كان لا يلزم من ترادف معنى الفعلين توافقهما في الاستعمال والصلة كصلى فإنه بمعنى دعا، ومع هذا فالأول يعدى بعلى في الخير والثاني لا يعدى بها إلا في الشرّ. (قال العلماء: معنى الاستقامة) المطلوبة الممدوحة بالكتاب والسنة (لزوم طاعة الله تعالى) ويلزم من ذلك ترك منهياته (قالوا) أي: العلماء (وهي من جوامع الكلم) هو أن يكون اللفظ قليلاً والمعنى جزيلاً وهو ما أعطيه (وهي) أي الاستقامة (نظام الأمور) . قال بعض العلماء: الاستقامة هي الدرجة القصوى التي بها كمال المعارف والأحوال وصفاء القلوب في الأعمال وتنزيه العقائد عن سفاسف البدع والضلال. قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: من لم يكن مستقيماً في حاله ضاع عمله وخاب جده، ونقل أنه لا يستطيعها إلا الأكابر لأنها الخروج عن المألوفات ومفارقة الرسوم والعادات والقيام بين يدي الله تعالى على حقيقة الصدق، ولعزتها أخبر أن الناس لن يطيقوها، فقد أخرج أحمد «استقيموا ولن تطيقوا» .

9 ـــ باب في التفكر

9 - باب في التفكر أي إجالة الفكر (في عظيم مخلوقات الله تعالى) كالعرش والكرسي والسماء والأرض، ففي الحديث: «ما السماء والأرض وما بينهما في العرش إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض» وعظم المخلوق يدل على كمال الخالق وعظمته (و) التفكر في (فناء الدنيا) واضمحلالها وتلاشي أمرها، قال تعالى: {واضرب لهم مثل الحيوة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذره الرياح} (الكهف: 45) ليبعثه ذلك على الزهد فيها والإعراض عن غرورها والإقبال على الآخرة، ففي الحديث: «كونوا أبناء الآخرة ولا تكونوا أبناء الدنيا» فإن رفع الله قدره وخلصه عن السوى وخصصه بالتخلص للمولى فتلك الغاية القصوى (و) التفكر في (أهوال الآخرة) وشدائدها كما قال تعالى: {يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى} (الحج: 2) وقال تعالى: {يوماً يجعل الولدان شيباً} (المزمل: 17) ليبعثه ذلك على التقوى وطاعة المولى فينجو من كرب الدارين ويجزى بالإحسان قال تعالى: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} (الرحمن: 6) (وسائر أمورهما) أي أمور الدنيا وأنها جميعها ثانية، وأهوال الآخرة وأنها شديدة (وتقصير) أمل (النفس) بذكر الموت (وتهذيبها) من الأخلاق السيئة بتذكر أهوال الآخرة وشدة عقابها (وحملها على الاستقامة) بتذكر النفس وما ورد من الوعد الصادق في الطاعة من الثواب بمحض الفضل، وعلى المعصية من العقاب بطريق العدل، وهذا إنما يبلغه العبد بتأييد الله سبحانه وتعالى وتوفيقه لاتباع الكتاب والسنة، فإن ظفر بشيخ مرشد مربّ موصل للمريد إلى طريق الحق بتهذيب النفس من رعونتها وتحليتها بأنواع العبادات فذلك أعلى، وإلا فما لا يدرك كله لا يترك كله، (قال تعالى) : {قل إنما أعظكم بواحدة} ) هي ( {أن تقوموا} )

بالانتصاب في الأمر والنهوض فيه بالهمة () أي لأجله (مثنى) أي اثنين اثنين ( {وفرادى} ) أي واحداً واحداً ( {ثم تتفكروا} ) أي: في السموات والأرض فتعلموا أن خالقهما واحد، فعلى هذا تم الكلام بقوله «تتفكروا» وقوله: {ما بصاحبكم من جنة} (سبأ: 46) ابتداء كلام، وهذا أحد قولين في الآية للمفسرين. 6 والثاني: أن المراد التفكر في شأن النبيّ بأن يتفكروا أي يتفكر كل منهم في ذلك ويعرض كل فكرته على صاحبه لينظر فيه نظر متصادقين متناصفين لا يميل به اتباع الهوى، وبأن يتفكر الواحد أيضاً بعدل ونصف هل رأينا في هذا الرجل جنوناً قط أو كذباً، وقد علمتم أن محمداً ما به من جنة، بل علمتموه أرجح قريش عقلاً وأوزنهم حلماً وأحدّهم ذهناً وأجمعهم لما يحمد عليه الرجال، فإذا علمتم ذلك كفاكم أن تطالبوه بآية، فإذا أجابها تبين أنه صادق فيما جاء به (وقال تعالى: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات} ) (آل عمران: 190) لدلائل واضحة على وجود الصانع ووحدته وكمال علمه وقدرته ( {لأولي الألباب} ) العقول المجلوة عن شوائب الحسّ والوهم، ولعل الاقتصار على هذه الثلاثة في هذه الآية لأن مناط الاستدلال هو التغير، وهذه متعرضة لجملة أنواعه، فإنه إما أن يكون في ذات الشيء كتغير الليل والنهار، أو جزئه كتغير العناصر يتبدل صورها، أو الخارج عنه كتغير الأفلاك بتبدل أوضاعها. وعن عائشة رضي الله عنها عن النبيّ: «ويل لمن قرأها ولم يفكر فيها» رواه ابن حبان وغيره ( {الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم} ) أي: يذكرون دائماً على الحالات كلها قائمين وقاعدين ومضطجعين، وقيل: معناه، يصلون على الهيئات الثلاث حسب طاقتهم ( {ويتفكرون في خلق السموات والأرض} ) استدلالاً واعتباراً، وهو أفضل العبادات. أخرج ابن حبان عن عليّ قال: قال «لا عبادة كالتفكر» أي: لأنه المخصوص بالقلب والمقصود من الخلق.

وأخرج الثعلبي بسند فيه من لا يعرف عن رأسه فنظر إلى السماء والنجوم فقال: أشهد أن لك رباً وخالقاً اللهم اغفر لي، فنظر الله إليه فغفر له» وعن ابن عباس وأبي الدرداء «فكرة ساعة خير من قيام ليلة» . وقال الحسن ابن أبي الحسن: الفكرة مرآة المؤمن ينظر فيها إلى حسناته وإلى سيئاته. وقال سرّي السقطي الفكرة خير من عبادة سنة، ما هو إلا أن تحلّ أطناب خيمتك فتحطها في الجنة. وفي «تفسير ابن عطية» : حدثني أبي عن بعض علماء المشرق قال: كنت بائتاً بمسجد في مصر فصليت العتمة، فرأيت رجلاً قد اضطجع مسجى بكسائه حتى أصبح وصلينا تلك الليلة وسهرنا، فلما أقيمت صلاة الصبح قام ذلك الرجل فاستقبل القبلة وصلى مع الناس، فاستعظمت جرأته في الصلاة بغير وضوء، فلما فرغت الصلاة خرج فتبعته لأعظه، فلما دنوت منه سمعته يقول: مسنجز الجسم غائب حاضر منتبه القلب صامت ذاكر منقبض في العيون منبسط كذاك من كان عارفاً فاكر يبيت في ليله أخا فكر فهو مدى الليل نائم ساهر وانصرفت عنه، قال فقلت إنه ممن يعبد الله بالفكرة اهـ. ( {ربنا ما خلقت هذا باطلاً} ) حال من فاعل يتفكرون على إرادة القول: أي يتفكرون قائلين ذلك و «هذا» إشارة إلى المتفكر فيه أو الخلق على أنه أريد به المخلوق من السموات والأرض أو إليهما لأنهما في معنى المخلوق. والمعنى: ما خلقته عبثاً ضائعاً من غير حكمة بل لحكم عظيمة من جملتها أن يكون مبدءاً لوجود الإنسان وسبباً لمعاشه ودليلاً يدله على معرفتك ويحثه على طاعتك لينال الحياة الأبدية والسعادة السرمدية في جوارك ( {سبحانك} ) تنزيهاً لك من العبث وخلق الباطل وهو اعتراض (الآيات) يحتمل أن يكون إلى قوله: {إنك لا تخلف الميعاد} (آل عمران: 194) ويحتمل أن يكون إلى آخر السورة والأول أقرب، وكرّر في الدعاء «ربنا» خمس مرات مبالغة في الابتهال ودلالة على استقلال المطالب وعلو شأنها. وفي الآثار: «من حزبه أمر فقال خمس مرات «ربنا» أنجاه الله مما يخاف وأعطاه ما أراده، ثم قرأ هذه الآيات» (وقال تعالى: {أفلا ينظرون} ) نظر اعتبار ( {إلى الإبل كيف خلقت} ) خلقاً دالاً على كمال

قدرته وحسن تدبيره حيث خلقها لحمل الأثقال إلى البلاد النائية، فجعلها عظيمة باركة للحمل ناهضة بالحمل منقادة لمن قادها طوال الأعناق لتبوء بالأوقار، ترعى كل نابت وتحتمل العطش إلى عشر فصاعداً، ليتأتى بها قطع البراري والمفاوز مع ما لها من منافع أخرى، ولذا خصت بالذكر لبيان الآيات المنبثة في الحيوانات التي هي أشرف المركبات وأكبرها صنعاً، ولأنها أعجب ما عند العرب من هذا النوع، وقيل لامراد بها السحاب على الاستعارة ( {وإلى السماء كيف رفعت} ) بلا عمد ( {وإلى الجبال كيف نصبت} ) فهي راسخة لا تميل ( {وإلى الأرض كيف سطحت} ) بسطت حتى صارت مهاداً. والمعنى: أفلا ينظرون إلى أنواع المخلوقات من البسائط والمركبات ليتحققوا كمال قدرة الخالق فلا ينكروا اقتداره على البعث؛ ولذلك عقب به أمر المعاد ورتب عليه الأمر بالتذكير فقال ( {فذكر} ) (الغاشية: 17 - 20) . وفي «تفسير ابن عادل» : إن قيل ما المناسبة بين هذه الأشياء؟ فالجواب قال الزمخشري: من فسر الإبل بالسحاب فالمناسبة ظاهرة وذلك تشبيه ومجاز، ومن حملها على الإبل فالمناسبة بينها وبين السماء والأرض والجبال من وجهين: أحدهما: أن القرآن نزل بلغة العرب وهم أهل أسفار، والمسافر قد يخلو بنفسه لفقد من يصحبه، وشأن الإنسان إذا انفرد الإقبال على التفكر في الأشياء فإذا فكر فأول ما يقع نظره على الجمل الذي هو راكبه، فإذا هو منظر جميل جمع أموراً تدل على كمال قدرته سبحانه وإن نظر إلى ما فوق فإلى السماء، أو إلى تحت فالأرض، أو إلى الجانب فالجبال، فكأنه تعالى أمره بالنظر وقت الخلوة والانفراد حتى لا تحمله داعية الكبر والحسد على ترك النظر. الثاني: أن جميع المخلوقات دالة على الصانع، إلا أن منها ما هو مشتهى للنفس كحسن الصور واللباس والنزهة فهذه استحسانها قد يمنع من كمال النظر فيها، ومنها ما لا حظّ فيه للشهوة فأمر بالنظر فيها إذ لا مانع من إكمال النظر فيها اهـ. (وقال تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا} ) أي: إلى تقلب الأحوال بأبناء الدنيا واضمحلالهم بعد وجودهم

10 ـــ باب في المبادرة أي المسارعة (إلى) فعل (الخيرات

فيها، وتلاشي أمرهم بعد كمال قوّتهم صورة فيعرفون أن الحيّ القيوم هو الله وأن غيره فان، فلا يركنوا إلى الدنيا ولا يغتروا بزهواتها ولا يقبلوا على مستلذاتها وشهواتها ويغفلوا عما خلقوا له من عبادة مولاهم وطاعته اللذين بهما كمال المرء وسعادته (الآية) بالنصب: أي إقرإ الآية، أو بالرفع: أي الآية إلى آخرها معلومة، أو المستدل به الآية فهو مبتدأ أو خبر (والآيات في الباب كثيرة. ومن الأحاديث الحديث السابق) عن شدادبن أوس في باب المراقبة « (الكيس من دان نفسه) وعمل لما بعد الموت» فإن محاسبته لها وعدم تركها هملا إنما ينشأ عن تفكره في الدنيا وزوالها وفي نفسه وانتقالها كأنك بالدنيا ولم تكن وبالآخرة ولم تزل، فيحاسب نفسه فيمنعها عما لا ينبغي ويحليها بما يرضىالله، وبا التوفيق. 10 - باب في المبادرة أي المسارعة (إلى) فعل (الخيرات وحثّ) أي: حض (من توجه لخير على الإقبال عليه) أي: على التوجه (بالجدّ) بالعزم على الأمر والإتيان به (من غير تردد) في ذلك (قال تعالى: {فاستبقوا الخيرات} ) سارعوا إليها (وقال تعالى) : {وسارعوا} ) بادروا ( {إلى مغفرة من ربكم} ) أي: الأعمال الموجبة للمغفرة بالوعد الصادق، أو إلى التوبة، أو إلى أداء الفرائض، أو إلى الهجرة (و) إلى ( {جنة عرضها السموات والأرض} ) أي: كعرضها أي: سعتها كذلك،

وخص العرض بالذكر لأن طول كل شيء غالباً أكثر من عرضه هذا عرضها، وأما طولها فلا يعلمه إلاالله، وهذا على التمثيل لا أنها كالسموات والأرض لا غير بل كعرض السموات والأرض عند ظنكم (الآية) أي أتم الآية، يعني: {أعدت للمتقين} وهو وقف تامّ وما بعده من الآيات وصف للمتقين المعدّ لهم الجنة في علم الله من فضله. 871 - (وأما الأحاديث: فالأول عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: بادروا بالأعمال فتناً) أي: ائتوا بالعمل الصالح وابتدروا إليه قبل ظهور المانع منه من الفتن، فهو قريب من حديث «اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك» ثم وصف الفتن المانعة من كمال العمل أو من أصله بأنها (كقطع) بسكر ففتح جمع قطعة: أي: طائفة من (الليل المظلم) أي: كلما ذهب ساعة منه مظلمة عقبتها ساعة مثل ذلك. قال في «النهاية» : أراد فتنة سوداء تعظيماً لشأنها اهـ. وفي الحديث إشارة إلى تتابع الفتن المضلة أواخر الزمان وكلما انقضى منها فتنة أعقبتها أخرى. وقانا الله من الفتن بمنه وكرمه (يصبح الرجل مؤمناً) أي: باقياً على إيمانه الذي كان عليه (ويمسي) بضم التحتية فيه وفي يصبح (كافراً) يحتمل الكفران بالنعم لما يداخله من المعاصي المبعدة من ساحة الشكر. ويحتمل الكفر الحقيقي، قال القرطبي: ولا يمتنع حمله على ذلك لأن الفتن إذا تراكمت أفسدت القلب وأورثته القسوة والغفلة التي هي سبب الشقاء. (ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً. يبيع دينه بعرض) بفتح الراء: أي: متاع وحطام (من الدنيا) استئناف بياني: أي: أن سبب كفره بيعه: أي أخذه العرض في مقابلة دينه، بأن يأخذ أو يستحل مال أخيه المسلم أو يستحلّ الربا والغشّ أو نحوه مما أجمع على تحريمه وعلم من الدين بالضرورة. قال القرطبي: ففي الحديث التمسك بالدين (رواه مسلم) ورواه أحمد

والترمذي كما في «الجامع الصغير» ، وزاد في آخر الحديث «يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل» . 882 - (الثاني: عن أبي سروعة بكسر السين المهملة وفتحها) وإهمال الراء والعين (عقبة ابن الحارث) بن عامربن نوفلبن عبد منافبن قصي القرشي النوفلي (رضي الله عنه) وما ذكره المصنف من أنه أبو سروعة قول أهل الحديث ومصعب الزبيري. وأهل النسب يقولون: إن عقبة أخو أبي سروعة وإنهما أسلما معاً يوم الفتح. قال ابن الأثير: وهو الأصح روى له البخاري ثلاث أحاديث (قال: صليت وراء النبيّ بالمدينة) علم بالغلبة على مهاجره والنسبة إليها مدني (العصر) هذا بناء على أنها اسم للصلاة، وعلى كونها اسماً للوقت فهو على تقدير المضاف: أي: صلاة العصر (فسلم ثم قام مسرعاً) لعل تراخي القيام عن السلام مع مبادرته في الأثر وإسراعه أنه إنما تذكر، وحينئذٍ وفي رواية «فقام» (فتخطى رقاب الناس) أي: قطع الصفوف حال جلوس الناس، أما وهم قيام فيقال له خرق الصفوف (إلى بعض حجر نسائه) متعلق بتخطي، وحجر بضم الحاء وفتح الجيم جمع حجرة: اسم للمنزل (ففزع) بوزن علم، من الفزع الخوف: أي: خاف (الناس من سرعته) في السير إلى تلك الحجرة، وعادته أن يمشي هوناً، وعادتهم الفزع إذا رأوا منه غير ما يعهدون خشية أن ينزل فيهم شيء يسوءهم (فخرج عليهم، فرأى أنهم قد عجبوا من سرعته) في خروجه من الحجرة (فقال: ذكرت شيئاً من تبر) بكسر الفوقية وسكون الموحدة، وفي رواية «وأنا في الصلاة» . وعليه فثم في قوله ثم قام مستعارة من الفاء (عندنا فكرهت أن يحبسني) أي: يشغلني التفكر فيه عن التوجه والإقبال على الله تعالى. وفهم بعضهم معنى آخر فقال: إن تأخير الصدقة يحبس صاحبها يوم القيامة (فأمرت بقسمته) وفي رواية فقسمته، وفيه جواز الاستنابة مع القدرة على المباشرة (رواه البخاري) وترجم له باب: من صلى بالناس فذكر

حاجة فتخطاهم (وفي رواية له: كنت خلفت في البيت تبراً من الصدقة فكرهت أن أبيته) من التبييت: أي: أتركه عندي ولا أدفعه لمستحقه ففيه المبادرة لأداء القربات وفعل الخيرات (والتبر قطع) بكسر القاف ففتح المهملة (ذهب أو فضة) هذا قول لبعضهم، والذي قال الجوهري: إنه الذهب فقط، فلذا قال في «فتح الباري» : التبر الذهب إذا لم يصفّ ولم يضرب. وأطلقه بعضهم على جميع جواهر الأرض قبل أن يصاغ أو يضرب حكاه ابن الأنباري عن الكسائي، وكذا أشار إليه ابن دريد. وقيل: هو المكسور حكاه ابن سيده. 893 - (الثالث: عن جابر) أي: ابن عبد الله (رضي الله عنه قال: قال رجل للنبيّ يوم أحد) قال الخطيب: هو عمروبن الحمامبن الجموحبن حرام الأنصاري، وقيل: غيره لأنه كانت قصته هذه يوم بدر لا يوم أحد نقله المصنف في «مهماته» (أرأيت) بفتح الفوقية: أي أخبرني (إن قتلت) أي في سبيل الله (فأين أنا) أي: فأين أصير حذف الفعل فانفصل مرفوعه (قال: في الجنة، فألقى تمرات) أي: قليلات (كن في يده) كان يأكل منهن ولم يطمئن للأكل مسارعة للجهاد، ثم لم يرض بالصبر مدة أكل تلك الحباب مسارعة للخيرات واستباقاً لمرضاة الله عليه (ثم قاتل حتى قتل. متفق عليه) وفي أخرى عنه: «لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل» رواه مسلم من حديث أنس. وذكر ابن عقبة في «مغازيه» أنه أول من قتل يومئذٍ من المسلمين. وفي كتاب «مفتاح البلاد في فضائل الغزو والجهاد» تأليف جدي الشيخ محمد علان الصديقي البكري سبط آل الحسن، روى الحاكم عن أنس: «أن رجلاً أسود أتى النبي فقال: يا رسول الله إني رجل أسود اللون منتن الريح لا مال لي، فإن أنا قاتلت هؤلاء حتى أقتل فأين أنا؟

قال في الجنة، فقاتل حتى قتل، فأتاه النبيّ فقال: بيض الله وجهك وطيب ريحك وأكثر مالك» الحديث اهـ. 904 - (الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل) قال في «فتح الباري» : لم أقف على اسمه، ويحتمل أنه أبو ذرّ، ففي «مسند أحمد» «أنه سأل أي الصدقة أفضل» لكن في الجواب «جهد من مقلّ أو سرّ إلى الفقير» وكذا في «مسند عبدبن حميد» : أن أبا ذرّ سأل فأجيب (إلى النبي فقال: يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجراً) . في رواية: «أي الصدقة أفضل؟» (قال: أن تصدق) بتشديد الصاد والدال المهملتين وأصله تتصدق بتاءين فأدغمت إحداهما في الصاد (وأنت صحيح شحيح) . قال الخطابي: الشحّ أعم من البخل، وكأنّ الشحّ جنس والبخل نوع، وأكثر ما يقال البخل في أفراد الأمور والشحّ عام. وقيل: هو الذي كالوصف اللازم ومن قبيل الطبع، قال: فمعنى الحديث: أنّ الشحّ غالب في حالة الصحة، فإذا سمح فيها وتصدق كان أصدق في نيته وأعظم لأجره، بخلاف من أيس من الصحة ورأى مصير المال لغيره، فإن صدقته حينئذٍ ناقصة بالنسبة إلى حال الصحة والشح ورجاء البقاء وخوف الفقر اهـ. وفي «فتح الباري» قال صاحب «المنتهى» الشحّ بخل مع حرص. وقال صاحب «المحكم» : الشحّ بثليث الشين والضم أعلم. وقال صاحب «الجامع» : كان الفتح في المصدر والضم في الاسم تخشى أي: تخاف ولهذا الفعل ستة مصادر نظمها ابن مالك فقال: خشيت خشياً ومخشاة ومخشية وخشية وخشاء ثم خشيانا (الفقر) أي: إن أنفقت لوسوسة الشيطان بذلك قال تعالى: {الشيطان يعدكم الفقر} (البقرة: 268) (وتأمل) بضم الميم (الغنى) أي: تطمع به (ولا تمهل) بالإسكان على أنه نهي والرفع على أنه نفي ويجوز النصب قاله في «فتح الباري» : أي لا تؤخر الصدقة (حتى إذا بلغت) أي: الروح (الحلقوم) أي: قاربت بلوغه، إذ لو بلغته حقيقة لم تصح وصية ولا

صدقة ولا شيء من تصرفاته بالاتفاق، ولم يجر للروح ذكر اكتفاء بدلالة السياق كالآية (قلت) ليأسك من الحياة أوصيت (لفلان) بما هو (كذا و) أوصيت (لفلان) بما هو (كذا وقد كان لفلان كذا) الظاهر أن هذا من باب الإقرار لا الوصية. وقال الخطابي: فلان الأول والثاني الموصى له، وفلان الأخير الوارث قال يريد: يعني النبي أنه إذا صار للوارث إن شاء أبطله وإن شاء أجازه. وقال غيره: يحتمل أن يكون المراد من الجميع الموصى له، وإنما دخل كان في الثالث إشارة إلى تقدير المقدر له في الأزل بذلك. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون الثالث المورث أو الموصى له. قال الحافظ: ويحتمل أن يكون بعضها وصية وبعضها إقراراً، وقد وقع في رواية ابن المبارك «قلت: اصنعوا لفلان كذا وتصدقوا لفلان بكذا» اهـ ملخصاً. قيل: وهذا من باب التسجيل عليه: أي إذا كان طمعك في الحياة أوجب لك كتمان الحق اللازم لك إلى أن أيست منها، فما أقررت به إلا الآن ولم تقر به قبل، فأولى أن يوجب لك الطمع تأخير الصدقة إلى الآن، فاحذر ذلك فإنك يؤخذ من مالك حيث لا ينفعك التحسر ولا يفيدك الندم (متفق عليه) ورواه أبو داود والترمذي والنسائي. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «لأن يتصدق المرء في حياته بدرهم خير له من أن يتصدق بمائة عند موته» رواه أبو داود. وقال الحافظ في «فتح الباري» : أخرجه الترمذي بإسناد حسن وصححه ابن حبان: (الحلقوم) بضم الحاء المهملة وسكون اللام وبالقاف قال في «النهاية» : والميم أصلية، وقيل: إنه مأخوذ من الحلق، فالواو والميم زائدتان (مجرى) بضم الميم وسكون الجيم محل جريان (النفس) بفتح النون والفاء (والمريء) بفتح الميم وكسر الراء المهملة مهموز ممدود، (مجرى الطعام والشراب) من الحلق وجمعه مرؤ كسرير وسرر.

915 - (الخامس عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ سيفاً يوم أحد) بضم أوليه: جبل معروف بالمدينة كانت عنده الغزوة المعروفة (فقال: من يأخذ مني هذا) أي: السيف مطلقاً عن التقييد (فبسطوا) بموحدة فمهملتين (أيديهم) أي: مدوها لأخذه (كل إنسان منهم يقول أنا) آخذه (أنا) آخذه والتكرار باعتبار التعدد في معنى كل (قال) (فمن يأخذه بحقه) . قال القرطبي: يعني بهذا الحق أن يقاتل بذلك السيف إلى أن يفتح الله على المسلمين أو يموت (فأحجم القوم) لما فهموا ذلك (فقال أبو دجانة) بضم الدال المهملة وبالجيم وبعد الألف نون واسمه: سماكبن خرشةبن لودان الأنصاري مشهور بكنيته (رضي الله عنه) شهد بدراً وأحداً ودافع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ هو ومصعببن عمير وكثرت فيه الجراحات وقتل مصعب واستشهد أبو دجانة يوم اليمامة. قال أبو عمرو: إسناد حديث الحرر المنسوب إليه فيه ضعف، وقيل: إنه موضوع والأول أشهر (أنا آخذه بحقه) أي: بعد أن قال: «يا رسول الله وما حقه؟ فقال: أن تضرب به في وجه العدوّ حتى ينحني، فقال أنا آخذه (فأخذه) فقام بشرطه ووفى بحقه (فقلق) أي: شق (به هام) بتخفيف الميم، أي رؤوس (المشركين) وفي «سيرة ابن سيد الناس» عن الزبير أنه قال: «وجدت في نفسي حين سألت النبي السيف فمنعنيه وأعطاه أبا دجانة، فقلت، وا لأنظرنّ ما يصنع فاتبعته فأخذ عصابة حمراء فعصب بها رأسه؛ فقالت الأنصار، أخرج أبو دجانة عصابة الموت، وهكذا كان يقول إذا عصب بها. فخرج وهو يقول: أنا الذي عاهدني خليلي ونحن بالسفح لدى النخيل ألا أقوم الدهر في الكيول أضرب بسيف الله والرسول فجعل لا يلقى أحد إلا قتله رواه مسلم، وقوله أحجم القوم قال في «شرح مسلم» ، هو بحاء ثم جيم كذا في معظم الأصول، وفي بعضها بتقديم الجيم على الحاء، وادعى القاضي عياض أنه الرواية ولم يذكر غيره، قال: لكنهما لغتان، ومعناهما تأخروا وكفوا،

وهو بمعنى قول المصنف هنا (توقفوا وفلق به: أي شق) به (هام المشركين أي: رؤوسهم) قال الشاعر: ويضرب بالسيوف رؤوس قوم أزيلت هامهن عن المقيل المقيل: أصول الأعناق. 926 - (السادس: عن الزبير) بضم الزاي وفتح الموحدة وسكون التحتية (ابن عدي) بفتح فكسر للمهملتين وتشديد الياء. قال الذهبي في «الكاشف» : الزبيربن عدي الهمداني اليامي نسبة إلى بني يامة قاضي الري يروي عن أنس، ثقة ففيه مات سنة إحدى وثلاثين ومائة روى عنه الستة اهـ (قال: أتينا أنسبن مالك رضي الله عنه) أي: بالبصرة (فشكونا إليه ما نلقى من الحجاج) بفتح المهملة وتشديد الجيم الأولى ابن يوسف الثقفي عامل عبد الملكبن مروان على الحجاز ثم على العراق (فقال اصبروا) أي على ما تلقون منه (فإنه لا يأتي زمان إلا والذي بعده شرّ منه) أي فينبغي للإنسان أن يبادر لصالح الأعمال وإن لحقته المتاعب والمشاق والأتعاب ولا يترقب الخلوّ عن ذلك، فما يأتي بعد أشد في ذلك مما في الزمان الذي كان فيه، لأن الزمان لا يزال في البعد عن مكشاة النبوّة والقرب من البدع والفتن، فلا يمضي زمن فيه نقص لشيء من السنن أو ابتلاء بشيء من المحن إلا والذي بعده أشد منه في ذلك، بأن يعتقد أن تلك السنة التي تركت أولاً للتمادي على تركها والجهل بها بدعة، أو يصيبه من الكروب ما يتهوّن معه ما سلف له من الخطوب/ وفي الحديث الشريف «في كل عام ترذلون» وقال الشاعر: يا زماناً بكيت منه فلما صرت في غيره بكيت عليه قال الشيخ عبد الوهاب الشعراني في «المواثيق والعهود» : جرت عادة الله تعالى بالابتلاء

بالمصيبة ثم بأشد منها، وذلك ليتدرج العبد من الأخفّ إلى الأشد، إذ لو فاجأه الأشد ابتداء ربما عجز عن حمله بخلافه بعد التدرّج من الأخف إليه. ولا يشكل على ما ذكره وجود زمان عمربن عبد العزيز بعد زمان الحجاج، لما روي أن الحسن البصري سئل عن ذلك؟ فقال: لا بد للناس من زمان يتنفسون فيه. وفي «التوشيح» : حمل الأكثر حديث الباب على الأكثر الأغلب. وأجاب آخرون بأن المراد تفضيل مجموع كل عصر على مجموع العصر الذي بعده، فإن زمن الحجاج كان فيه كثير من الصحابة وقد انقرضوا في زمن عمربن عبد العزيز، والزمن الذي فيه الصحابة خير من الزمن الذي بعده اهـ. وحاصل الأمر أن الوقت سيف إن لم تقطعه بصالح العمل: وانتظرت الفراغ من سائر الأتعاب، قطعك وذهب عليك أنفس الأشياء بلا فائدة، وا المستعان، ويستمر توارد الأهوال وتعاقب الأحوال عليكم (حتى تلقوا ربكم) فلا راحة للمؤمن دون لقاء ربه. ولا يشكل على هذا الحديث حديث النسائي «أمتى كالمطر لا يدرى أولها خير أم آخرها» لأن ما في حديث الباب باعتبار الزمان كما تقدم وذلك باعتبار أهله، وعطايا الله تعالى غير مختصة بزمن دون زمن، فكم وجد في الأزمنة الأخيرة من هو خير من كثير ممن تقدم في الأزمنة: كالأئمة العلماء العاملين الذين لا يزالون على الحق ظاهرين، وكالأولياء والصالحين الذين بهم يرفع البلاء عن العالمين وتدرّبهم البركات وينتظم بهم شمل الأوقات (سمعته) أي: ما حدثتكم به (من نبيكم) أضافه إليهم ليخف عنهم ألم ما يكابدونه من المشاق (. رواه البخاري) وفي الأربعين للماليني عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «لا يزداد الأمر إلا شدة، والدنيا إلا إدباراً، والناس إلا شحاً، ولا مهديّ إلا عيسى ابن مريم، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس» . 937 - (السابع: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: بادروا) سابقوا: أي اسبقوا بالاشتغال (بالأعمال) الصالحة (سبعاً) من الأحوال الطارئة المشغلة واهتموا بالأعمال الصالحة قبل حصولها وحذف التاء لكون المعدود مؤنثاً أو لحذفه (هل تنتظرون إلا فقراً

منسياً) أي: أنه لما ينال النفس منه من الغم ينشأ عنه النسيان (أو غنى مطغياً) لصاحبه وملهياً له عن القيام بأنواع حتى العبودية (أو مرضاً مفسداً) للعقل أو البدن مانعاً من أداء العبادة أو من كمالها، ومن ثم ورد «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ» (أو هرماً مفنداً) قال في «النهاية» : الفند في الأصل: الكذب، وأفند تكلم بالفند، ثم قالوا للشيخ إذا هرم قد أفند لأنه يتكلم بالمنحرف من الكلام عن سنن الصحة، وأفنده الكبر إذا أوقعه في الفند. قال العاقولي: ولا يقال امرأة مفندة لأنها لم تكن في شبيبتها صاحبة رأي فتفند في كبرها (أو موتاً مجهزاً) بضم الميم وسكون الجيم وكسر الهاء آخره زاي: أي سريعاً يقال أجهز على الجريح يجهز: إذا بأسرع قتله، كأنه يريد به الموت الفجأة أو الاخترام في الشباب (أو الدجال) فهو (شرّ غائب ينتظر) لما فيه من شدة الفتنة التي لا ينجو منها إلا من عصمه الله (أو الساعة فالساعة) أي: عذابها/ وأعادها بلفظها تفخيماً لشأنها (أدهى) أعظم بلية (وأمرّ) أشد مرارة من عذاب الدنيا وأهوالها (رواه الترمذي، وقال: حديث حسن) ورواه الحاكم في «المستدرك» . 948 - (الثامن: عنه) أي: عن أبي هريرة (رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم خيبر:) بوزن جعفر، وكانت في السنة السابعة (لأعطينّ هذه الراية رجلاً يحبّ الله ورسوله) بالنصب. ومحبة العبد ورسوله: هو الإيمان بهما واتباع ما جاء به (يفتح الله على يديه) أي: بعض حصون خيبر، وكان كذلك بعد إرسالها مع رجلين من كبار الصحابة وما كان الفتح على أيديهما ففيه معجزة للنبيّ حيث أخبر عن مغيب فكان كما أخبر به كما سيأتي (قال عمر رضي الله عنه: ما أحببت الإمارة) بفتح الهمزة وكسرها (إلا يومئذٍ) ليس حبه لها لذاتها إنما

هو لكونها علامة لحب ذلك الأمير تعالى اللازمة لحبّ الله تعالى (له) قال تعالى: {يحبهم ويحبونه} (المائدة: 54) ولحصول الفتح على يديه (فتساورت) أي: تطاولت له كما جاء في رواية لمسلم أيضاً (رجاء أن أدعى لها) بالبناء للمفعول (فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليّبن أبي طالب رضي الله عنه فأعطاه إياها وقال: امش ولا تلتفت) لئلا يشغلك ذلك الالتفات عن كمال التوجه (حتى يفتح الله عليك) أي: واصبر على الجهاد واترك الالتفات إلى أن يفتح الله عليك، ويحتمل أن تكون حتى تعليلية ويكون علم كونه علة لذلك بالوحي (فسار عليّ) أي: عقب الأمر مبادراً للجهاد (شيئاً) أي: من السير فهو مفعول مطلق (ثم وقف ولم يلتفت) لئلا يخالف نهيه عنه، وفهم منه عليّ رضي الله عنه ظاهره من الالتفات يمنة ويسرة، فلذا لم يلتفت بعينه مع أنه يحتاج إليه للخطاب وإن كان يحتمل أن يكون المراد من ترك الالتفات كما قال المصنف الحث على الإقدام والمبادرة إلى ما أمر به، وأن يكون المراد لا تتصرف بعد لقاء عدوك حتى يحصل الفتح، ففيما فعله عليّ رضي الله عنه الأخذ بظاهر الأمر وترك الوجوه المحتملات إذا خالفت الظاهر (فصرخ) أي: رفع صوته (يا رسول الله على ماذا) مركب بمعنى على أيّ شيء (أقاتل الناس؟ قال: قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) سكت فيه عن ذكر أداء الجزية. وفي الحديث الدعاء إلى الإسلام قبل القتال. ومذهبنا ومذهب آخرين إن كان القوم ممن لم تبلغهم دعوة الإسلام وجب إنذارهم قبل القتال أو من غيرهم فلا، ولذا قال (فإذا فعلوا ذلك) فيه إطلاق الفعل على القول: أي إذا تلفظوا بهذه الكلمة (فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها) أي: فيؤخذ بذلك كالنفس بالنفس والزكوات (وحسابهم على ا) أي يكفّ عن قتالهم بنطقهم بذلك، وأما ما بينهم وبين الله تعالى فإن صدقوا وآمنوا بالقلب نفعهم ذلك في الآخرة ونجوا من العذاب كما نفعهم في الدنيا، وإلا فلا ينفعهم بل يكونون منافقين من أهل النار

11 ـــ باب في المجاهدة

(رواه مسلم. قوله فتساورت هو بالسين المهملة) وبالراء المهملة أيضاً (أي وثبت متطلعاً) لها أي حصرت عليها حتى أظهرت وجهي وتصديت له ليرى مكاني فلعله يوليني. 11 - باب في المجاهدة مفاعلة من الجهد: أي الطاقة فإن الإنسان يجاهد نفسه باستعمالها فيما ينفعها حالاً ومآلاً، وهي تجاهده بما تركن إليه بحسب طبعها وجبلتها من ضد ذلك، ولكون المجاهدة مع النفس التي بين جنبي الإنسان وهي لا تخرج ولا تنفك عنه كان هذا الجهاد الأكبر وجهاد العدو الخارج الجهاد الأصغر. (قال تعالى) : {والذين جاهدوا فينا} ) قال بعض العارفين: هذه الآية صفوة هذه السورة. ومن جملة المجاهدات مجاهدة النفس بالصبر عند الابتلاء ليعقب ذلك أنس الصفاء وينزع عنه لباس الجفاء. وفي الحديث: «إن ابتلاء المؤمن يذهب عنه درنه» ( {لنهدينهم سبلنا} ) أتى بلام الابتداء أو لام جواب القسم المقدر المسند إلى الحق سبحانه إشارة إلى أنه تعالى يتولى الهداية بنفسه للمجاهدين فيه، وأنه ينعم عليهم بكمال النعمة والجزاء، ولم يقل سبيلي إشارة إلى الإمناح بكثرة المعارف، ولطائف الشهود ودوامه، وانهلال سحب الأفضال ( {وإن الله لمع المحسنين} ) المحسن من يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإنه سبحانه يراه، فإن كان هكذا كان له من شريف المعية ما أشار إليه بقوله: {وإن الله لمع المحسنين} وقد ورد من حديث أبي هريرة عن النبي: «أنا جليس من ذكرني، وأما مع عبدي إذا ذكرني وتحركت بي شفتاه» قال الزركشي في «الدرر» : رواه البيهقي.

(وقال تعالى) : {واذكر اسم ربك} ) بالتوحيد والتعظيم: أي دم على ذلك ( {وتبتل إليه} ) في العبادة ( {تبتيلاً} ) مصدر بتل، جيء به رعاية للفواصل وهو ملزوم التبتل، وأيضاً فهو أبلغ منه في المعنى لزيادة المبنى، وقيل إن تبتل في الآية بمعنى بتل (أي انقطع إليه) عما سواه انقطاعاً، وقيل أخلص إخلاصاً، وقيل توكل توكلاً. قال بعضهم التبتل: رفض الدنيا بما فيها والتماس ما عندالله. (وقال تعالى: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} ) أي الموت. (وقال تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره} ) أي ير ثوابه، ففيه تشويق لتقديم العمل الصالح بين يديه ليجد جزاءه عند قدومه عليه (وقال تعالى: {وما تقدموا لأنفسكم من خير} ) بيان لما ( {تجدوه عند اهو خيراً} ) مما خلفتم ( {وأعظم أجراً} ) وهو فصل وما بعده وإن لم يكن معرفة يشبهها لامتناعه من التعريف لاقترانه بمن، ولا يجوز الجمع بينه وبين أل. والمعنى ما أخرجتم خير لكم وأعظم أجراً عند الله مما ادخرتم، قال: «أيكم مال وارثه أحبّ إليه من ماله، قالوا يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه، قال: اعلموا ما تقولون، قالوا: ما نعلم إلا ذلك يا رسولالله، قال: ما منكم من أحد إلا مال وارثه أحبّ إليه من ماله؟ قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: إنما مال أحدكم ما قدم، ومال وارثه ما أخر» . (وقال تعالى: {وما تفعلوا من خير} ) إنفاق أو غيره ( {فإن الله به عليم} ) فمجاز عليه، (والآيات) القرآنية (في الباب) أي باب المجاهدة (كثيرة معلومة. وأما الأحاديث:) النبوية.

951 - (فـ) الحديث (الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إن الله تعالى قال: من عادى) من المعاداة: ضد الموالاة (لي) حال من قوله (ولياً) قدر من تأخير وكان قبل صفة أو ظرف لغو متعلق بالوصف قدم اهتماماً به، وهو من تولى الله بالطاعة والتقوى فتولاه الله بالحفظ والنصرة، من الولي: وهو القرب والدنوّ، فالوليّ هو القريب من الله تعالى لتقرّبه إليه باتباع أوامره واجتناب نواهيه، والإكثار من نوافل العبادات مع كونه لا يفتر عن ذكره، ولا يرى غيره بقلبه لاستغراقه في نور معرفته، فلا يرى إلا دلائل قدرته ولا يسمع إلا آياته ولا ينطق إلا بالثناء عليه ولا يتحرّك إلا في طاعته، وهذا هو المتقي قال تعالى: {إن أولياؤه إلا المتقون} (الأنفال: 34) (فقد آذنته) بالمد (بالحرب) أي: أعلمته بأني محارب له، أي: أعامله معاملة المحارب من التجلي عليه بمظاهر الجلال والعدل والانتقام. ومن عامله الحق بذلك فإنه لا يفلح، فهو من التهديد في الغاية القصوى، إذ غاية تلك المحاربة الإهلال، فهي من المجاز البليغ، وكأن المعنى فيه ما اشتملت عليه تلك المعاداة من المعاندة تعالى بكراهة محبوبه، والوعيد لمن عادى ولياً من أجل ولايته وقربه من الله تعالى، وذلك كإيذاء من ظهرت أمارات ولايته باتباع الكتاب والسنة، إما بإنكارها عناداً أو حسداً، أو بعدم الجري على ما ينبغي له من التأدب معه، أو بنحو سبه وشتمه من سائر أنواع الإيذاء التي لا مسوغّ لها شرعاً مع علم متعاطيها بذلك. أما منازعة الوليّ في محاكمة أو خصومة راجعة لاستخراج حق أو كشف غامض فلا يدخل في هذا الوعيد، فقد جرى نوع ما من الخصومة بين أبي بكر وعمر وبين عليّ والعباس وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين مع أن الكل أولياء الله تعالى. وإذا علم ما في معاداة الوليّ من الوعيد والتهديد علم ما في موالاته من جسيم الثواب وباهر التوفيق والهداية والقرب والتأييد (وما تقرّب إليّ عبدي) إضافته للتشريف المؤذن بمزيد الرفعة والتأهل لعليّ المقامات (بشيء أحبّ إليّ من) أداء (ما افترضت) به (عليه) عيناً كان أو كفاية كالصلاة وأداء الحقوق إلى أربابها وبرّ الوالدين ونحو ذلك من

الأمور الواجبات، لأن الأمر بها جازم فيتضمن أمرين: الثواب على فعلها، والعقاب على تركها، بخلاف النفل، فلذا كان الفرض أكمل وأحب إلى الله وأشدّ تقرّباً. وروي أن ثواب الفرض يفضل ثواب النفل بسبعين درجة؛ وبالجملة فالفرض كالأس والنفل كالبناء على ذلك الأس، (وما يزال عبدي) إضافته لما تقدم (يتقرّب) وفي رواية: «يتحبب» (إليّ بالنوافل) أي: بالتطوعات من جميع أصناف العبادات ظاهرها كقراءة القرآن إذ هو من أعظم ما يتقرب به، وكالذكر وكفى في شرفه قوله تعالى: ( {فاذكروني أذكركم} ) (البقرة: 152) وباطنها كالزهد والورع والتوكل والرضا وغير ذلك من سائر أحوال العارفين سيما محبة أولياء الله تعالى وأحبائه فيه ومعاداة أعدائه فيه (حتى أحبه) بضم أوله والفعل منصوب. ومحبة الله تعالى للعبد كما تقدم توفيقه لما يرضيه عنه، وإثابته ومعاملته بالإحسان، فعلم أن إدامة النوافل بعد أداء الفرائض، إذ من غير أدائها لا يعتد بالنوافل كما يشير إليه تأخير هذه وتقديم تلك، تفضي إلى محبة الله تعالى للعبد وصيرورته من جملة أوليائه الذين يحبهم ويحبونه. ويؤخذ من سياق الحديث أن الوليّ إما أن يتقرّب بالفرائض بأن لا يترك واجباً ولا يفعل محرماً أو بها مع النوافل وهذا أكمل وأفضل. ولذا خص بالمحبة السابقة والصيرورة الآتية، وأنه لا سبيل إلى ولاية الله تعالى ومحبته سوى طاعته التي جاء بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما سواها باطل (فإذا أحببته كنت) أي صرت حينئذٍ (سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر) بضم أوله وكسر ثالثه (به، ويده التي يبطش) بفتح أوله وكسر ثالثه أو ضمه (بها ورجله التي يمشي بها) . قال بعض المحققين: التحقيق أن هذه الصيرورة مجاز أو كناية عن نصرة الله تعالى لعبده المتقرّب إليه بما ذكر، وتأييده وإعانته له وتوليه في جميع أموره، حتى كأنه تعالى نزّل نفسه من عبده منزلة الآلات والجوارح التي بها يدرك ويستعين، ولذا جاء في رواية أخرى «فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي» أي أنا الذي أقدرته على هذه الأفعال وخلقتها فيه فأنا الفاعل لذلك لا أنه يخلق أفعال نفسه: أي سواء الجزئيات والكليات، وهذا يردّ على المعتزلة في زعمهم أن العبد يخلق أفعاله الجزئيات. وزعم الحلولية والاتحادية بقاء هذا الكلام على حقيقته وأنه تعالى عين عبده أو حالّ فيه ضلال وكفر إجماعاً، وما وقع في عبارات بعض العارفين مما يوهم ذلك فليس مراداً لهم،

وفهم ذلك منه من قصور فهم الناظر، وإلا فهم مطهرون من ذلك الاعتقاد الفاسد كما طهرهم الله تعالى بكمال محبته من سائر المفاسد (ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) مما يخاف، وهذه عادة الحبيب مع محبوبه، ولا يحصى عدد من حصل له ذلك فوقع له مطلوبه وذهبت عنه كروبه من صالحي الأمة، فلا نطيل بذكره خصوصاً وسيأتي في أثناء الكتاب بعضه. وفي هذا الوعد المحقق المؤكد بالقسم إيذان بأن من تقرب إليه بما مرّ لا يردّ دعاؤه، وقد لا يجاب الوليّ إلى سؤاله لعلمه تعالى أن الخير له في غيره مع تعويضه له خيراً منه إما في الدنيا أو في الآخرة (رواه البخاري) وزاد بعد قوله «لأعيذنه» «وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته» والتكلم في بعض رواته غير مقبول، وانفرد به البخاري عن باقي الكتب الستة، ورواه ابن حبان في «صحيحه» وأبو داود خارج السنن فيما رواه عنه ابن الأعرابي، ورواه أبو نعيم في «الحلية» والبيهقي في «الزهد» وابن عدي في «الكامل» وآخرون. وقد روي الحديث من طريق عائشة وميمونة وعليّ وأنس وحذيفة ومعاذبن جبل وابن عباس وغيرهم، وطريق كل لا تخلو عن مقال، إلا الطريق إلى حذيفة فإن إسناده حسن لكن حديثه غريب جداً (آذنته) بالمد (أعلنته) هذا معنى آذنته، وقوله: (بأني محارب له) هذا معني بالحرب، وقوله: (استعاذني روي بالنون) أي: طلبني أعيذه فيكون متعدياً (وبالباء) الموحدة: أي اعتصم وتحصن بي. 96 - (الثاني: عن أنس رضي الله عنه عن النبي فيما يرويه عن ربه عز وجل) أي: فهو من الأحاديث القدسية وقد تقدم في باب الإخلاص فيها بعض البيان، والفرق بينها وبين القرآن أنه معجز ويتعلق الثواب بتلاوته ولا تجوز روايته بالمعنى ولا مسّ ما كتب فيه، ولا حمله مع الحدث ولا كذلك هذه الأحاديث (قال) أي: الربّ سبحانه أو النبيّ راوياً له عن ربه (إذا تقرّب العبد إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإذا تقرّب إليّ ذراعاً تقرّبت إليه) وفي

نسخة منه (باعاً، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة) كذا في النسخ بحذف الواو من إذا الأولى. والظاهر إثباتها ليدل على أن المذكور بعض حديث أوله: «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ ذكرته في ملإ خير منه، وإذا تقرّب إليّ الخ» ثم هذا من باب التمثيل في الجانبين.w قال الكرماني: قامت البراهين القطعية على استحالة هذه الإطلاقات على الله تعالى، فهي إذن على سبيل التجوّز. والمعنى من أتى شيئاً من الطاعات ولو قليلاً قابلته عليه بأضعاف من الإثابة والإكرام، وكلما زاد في الطاعة زدته في الثواب، وإن كان إتيانه بالطاعة على التأني تكون كيفية إتياني بالثواب على السرعة، فالغرض أن الثواب راجع على العمل مضاعف عليه وإطلاق النفس والتقرّب والهرولة وهي من الإسراع ونوع من العدو عليه تعالى، إنما هو مجاز على سبيل المشاكلة أو على طريق الاستعارة أو على قصد إرادة لوازمها، وهو من الأحاديث الدالة على كرم أكرم الأكرمين. اللهم ارزقنا حظاً وافراً منه آمين (رواه البخاري) . قال ابن الجزري في «الحصن» بعد أن أورد صدر الحديث إلى قوله: «خير منه» تم الحديث، ورمز إليه أنه رواه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه، وفي «مختصر جامع الأصول» للديبع أخرجه الشيخان والترمذي وسكت عن الباقي، ولعلهما روياه بالمعنى والبخاري بخصوص هذا المبنى. 97 - (الثالث: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله) وفي نسخة النبي (: نعمتان) أي: عظيمتان. قال ابن الخازن: أي ما يتنعم به الإنسان. وقال الطيبي: الحالة الحسنة التي يكون عليها الإنسان كالجلسة، وقيل: النعمة عبارة عن المنفعة المفعولة على وجه الإحسان إلى الغير. ونعمتان مبتدأ وخبره (مغبون فيهما) من الغبن وهو الشراء بأضعاف الثمن، أو البيع بدون ثمن المثل وهو وصف، و (كثير من الناس) نائب فاعله أو مبتدأ وخبره مغبون وفيهما ظرف لغو، والجملة الخبر، والرابط ضمير الوصف وأفرد باعتبار لفظ كثير (الصحة والفراغ) بدلان من نعمتان بدل مفصل من مجمل شبه المكلف بالتاجر

والصحة: أي في البدن، والفراغ: أي من العوائق عن الطاعة برأس المال لأنهما من أسباب الأرباح ومقدمات نيل النجاح، فمن عامل الله تعالى بامتثال أوامره وابتدر الصحة والفراغ يربح، ومن لا ضاع رأس ماله ولا ينفعه الندم (رواه البخاري) ورواه الترمذي وابن ماجه. 98 - (الرابع: عن عائشة رضي الله عنها أن النبيّ كان يقوم) أي: بالتهجد (من الليل) أي: بعضه وهو السدس الرابع والخامس غالباً (حتى تفطر) بفتح المثناة والفاء وتشديد المهملة وأصله تتفطر، وهو كذلك في رواية الأصيلي كما في «فتح الباري» : أي تتشقق (قدماه) وعند النسائي: «حتى تزلع قدماه» بزاي وعين مهملة. وللبخاري في رواية: «حتى تورّمت قدماه» . ولا مخالفة بين هذه الروايات، فإنه إذا حصل النفخ والورم حصل الزلع والتشقق (فقلت له: لم تصنع هذا) الأمر الشاق (يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟) . قال العارف با ابن أبي جمرة في أثناء كلام له على حديث: «لن يدخل أحدكم الجنة بعمله» ما لفظه: لا يخطر بخاطر أحد أن الذنوب التي خبر الله تعالى أنه بفضله غفرها للنبي من قبيل ما نقع نحن فيها، معاذالله، لأن الأنبياء معصومون من الكبائر بالإجماع، ومن الصغائر التي فيها رذائل. أما الصغائر التي ليس فيها رذائل ففيها خلاف بين العلماء الأكثر على أنهم معصومون منها كما عصموا من الكبائر، وهو الحق لأن رتبتهم جليلة، إنما ذلك من قبيل توفية ما يجب للربوبية من الإعظام والإكبار والشكر، ووضع البشرية وإن رفع قدرها حيث رفع فإنها تعجز عن ذلك بوضعها لأنها من جملة المحدثات، وكثرة النعم على الذي رفع قدره أكثر من غيره فتضاعفت الحقوق عليه فحصل العجز، فالغفران لذلك اهـ وهو من النفاسة بمكان، وسيأتي في باب أداء الأمانة إن شاء الله تعالى كلام نفيس للقاضي عياض في عصمة الأنبياء وتفصيل الخلاف في ذلك (قال أفلا) الفاء للسببية عن محذوف التقدير: أترك التهجد فلا (أحبّ أن أكون عبداً شكوراً) والمعنى: أن المغفرة سبب لكون

التهجد شكراً فكيف أتركه. قال القرطبي: ظن من سأله عن سبب تحمله المشقة في العبادة أنه إنما يعبد الله خوفاً من الذنب وطلباً للمغفرة والرحمة، فمن تحقق غفران الله تعالى له لا يحتاج لذلك، فأفادهم أن لذلك سبباً آخر هو الشكر على المغفرة وإيصال النعمة لمن لا يستحق عليه منها شيئاً. والشكر: الاعتراف بالنعمة والقيام بالخدمة، فمن كثر منه سمي شكوراً، ومن ثم قال سبحانه: {وقليل من عبادي الشكور} (سبأ: 13) اهـ. ثم الأخذ بهذا الحال من مشاقّ الأعمال إنما يطلب ممن لا يفضي به ذلك إلى الملال كما هو شأنه، فإنه كان لا يملّ من عبادة ربه وإن أضرّ بدنه، وقد جاء عنه «وجعلت قرّة عيني في الصلاة» . أما من يفضي به لذلك فلا، ففي الحديث: «اكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا» (متفق عليه) أي على أصل المعنى لا على خصوص الراوي والمبنى بدليل قوله: (هذا) أي: المذكور عن عائشة بهذا اللفظ (لفظ البخاري ونحوه) أي: بمعناه (في الصحيحين) الذي يعبر عنه بالمتفق عليه (من رواية المغيرةبن شعبة) وكذا رواه من رواية الترمذي والنسائي وابن ماجه كما في «الجامع الصغير» . 99 - (الخامس: عن عائشة) الأخصر عنها (رضي الله عنها) وكأنه عدل إليه لئلا يتوهم أن المغيرة اسم امرأة والضمير لأقرب مذكور (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل العشر) أي: الأخير من رمضان كما يأتي في كلامه، وأوله الحادي والعشرون وآخره آخر رمضان (أحيا الليل) بأنواع الطاعات ومحل النهي عن قيام الليل كله الوارد في حديث عبد ابن عمر فيمن داوم على ذلك جميع ليالي السنة لأنه مضرّ بالبدن والعقل (وأيقظ أهله) للصلاة تنبيهاً لهم على فضل تلك الأوقات واغتنام صالح العمل فيها. وروى الترمذي من حديث زينب بنت أم سلمة: «لم يكن النبي إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحداً من أهل بيته يطيق القيام إلا أقامه» (وجدّ) أي اجتهد في العبادة زيادة على العادة، وذلك لأن فيه ليلة القدر التي هي خير من

ألف شهر (وشدّ المئزر. متفق عليه) ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه كما في «الجامع الصغير» أيضاً. (والمراد العشر الأواخر من شهر رمضان) وقد صرح بهذا في حديث علي عند ابن أبي شيبة والبيهقي من طريق عاصمبن ضمرة عنه، وتقدم مبتداه ومنتهاه (والمئزر) بكسر الميم وفتح الزاي وسكون التحتية (الإزار: وهو) أي: شد المئزر لا الإزار كما قد يتبادر (كناية عن اعتزال النساء) هذا ما جزم به عبد الرزاق عن الثوري. واستشهد عليه بقول الشاعر: قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم عن النساء ولو باتت بأطهار وذكر ابن أبي شيبة عن أبي بكربن عياش نحوه: (وقيل) هو قول الخطابي كما في «فتح الباري» (المراد) منه (تشميره للعبادة) على سبيل المجاز المرسل لعلاقة الإطلاق والتقييد (يقال شددت لهذا الأمر مئزري: أي تشمرت وتفرّغت له) قال في «فتح الباري» : يحتمل أن يريد به الجد في العبادة كما يقال: شددت لهذا الأمر مئزري: أي تشمرت له، ويحتمل أن يراد التشمير للعبادة والاعتزال معاً. ويحتمل أن يراد حقيقته والمجاز كمن يقول طويل النجاد لطويل القامة وهو طويل النجاد حقيقة، فيكون المراد شد مئزره حقيقة فلم يحله واعتزل النساء وشمر للعبادة. قال: وقد وقع في رواية عن عاصمبن ضمرة المذكور «شدّ مئزره واعتزل النساء» فعطفه بالواو فيتقوّى الاحتمال الأول اهـ. 100 - (السادس: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: المؤمن القويّ) هو من لا يلتفت إلى الأسباب لقوّة باطنه بل يثق بمسبب الأسباب. وقال المصنف: هو من له صدق رغبة في أمور الآخرة فيكون أكثر إقداماً على العبادات. وقيل: المؤمن

القويّ من صبر على مجالسة الناس وتحمل أذاهم وعلمهم الخير والإرشاد. وقال القرطبي: القويّ البدن والنفس الماضي العزيمة الذي يصلح للقيام بوظائف العبادات من الحجّ والصوم والأمر بالمعروف وغير ذلك مما يقوم به الدين (خير) أفعل تفضيل، حذفت ألفه تخفيفاً (وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف) يعلم المراد به من المراد بضده (وفي كل) بالتنوين: أي من المؤمن القوي والمؤمن الضعيف (خير) لاشتراكهما في أصل الإيمان وخير هنا مصدر: وهو خلاف الشر (احرص) أي: استعمل الحرص والاحتياط (على) تحصيل (ما ينفعك) من أمر دينك ودنياك التي تستعين بها على صيانة دينك وعيالك ومكارم الأخلاق ولا تفرط في ذلك (واستعن با) أي: اطلب المعونة منه وتوكل عليه ولا تعتمد على حركاتك ولا على أسبابك بل الجأ في كل الأمور إليه وتوكل عليه، فمن أعانه أعين، وما أحسن قول بعض العارفين: إذا لم يعنك الله فيما تريده فليس لمخلوق إليه سبيل وإن هو لم يرشدك في كل مسلك ضللت ولو أن السماك دليل (ولا تعجز) بكسر الجيم على الأفصح: أي لا تفرط في طلب ذلك وتتعاجز عنه تاركاً للحكمة الإلهية متكلاً على القدرة فتنسب للتقصير وتلام على التفريط شرعاً وعادة (وإن أصابك شيء) من المقدورات (فلا تقل لو أني فعلت) كذا (كان كذا وكذا) كناية عن مبهم، والجملة جواب لو، فيكون فيه ركون إلى العادات وربط للمسببات بأسبابها العادية وغفلة عن حقائق الأمور هو أن كل شيء بقدر مقدور فلذا قال (ولكن) بسكون النون (قل قدر ا) . قال البرهان العلوي: ومن خطه نقلت هو بفتح أوليه المخفقين ورفع الراء، هكذا رأيت في نسخة الرزندي وسماعي «قدر» يعني بصيغة الماضي المعلوم (وما شاء) أي: ما شاءه الله (فعل) لا رادّ لمراده وهو على كل شيء قدير. ففيه التنبيه على الدواء عند وقوع المقدور وذلك بالتسليم لأمر الله والرضا بقدرالله، والإعراض عن الالتفات لما مضى وفات بألا يقول: لو أني فعلت كذا لكان كذا، لأن ذلك يئول به إلى الخسران، من توهم أن التدبير يعارض سوابق المقادير، وهذا عمل الشيطان كما قال (فإن لو) بسكون الواو على الحكاية: أي إذا ذكرت على سبيل معارضة القدر، أو مع اعتقاد أن ذلك المانع لو

ارتفع لوقع خلاف المقدور (تفتح عمل الشيطان) أي وساوسه المفضية بصاحبها للخسران، أما إذا أتى بلو على وجه التأسف على ما فات من الخير وعلم أنه لن يصيبه إلا ما قدر الله تعالى فليس بمكروه، وفيه حديث «لو استقبلت من أمري ما استدبرت» الحديث: (رواه مسلم) ورواه أحمد وابن ماجه كما في «الجامع الصغير» . 101 - (السابع: عنه) أي عن أبي هريرة رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: حجبت) بالمهملة فالجيم مبني للمفعول والتاء في آخره للتأنيث (النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره) . قال القرطبي: هو من الكلام البليغ الذي انتهى في البلاغة نهايته، وذلك أنه مثل المكاره بالحفاف: أي في رواية مسلم الآتية، وبمعناها الحجاب وهو الدائر بالشيء المحيط به الذي لا يتوصل إلى ذلك الشيء إلا بعد أن يتخطى، وفائدة هذا التمثيل أن الجنة لا تنال إلا بقطع مفاوز المكاره وبالصبر عليها، وأن النار لا ينجي منها إلا بترك الشهوات وفطام النفس عنها. وقال المصنف: معناه لا يوصل إلى الجنة إلا بارتكاب المكاره من الجهد في الطاعات والصبر عن الشهوات، كما لا يصل المحجوب عن الشيء إلا بهتك حجابه والتجاوز عنه، ويوصل إلى النار باتباع الشهوات. والمراد ما كان محرماً منها لا المباح منها، فلا يدخل في ذلك لكن الإكثار منه مكروه مخافة أن يقسي القلب ويكسل عن الطاعة (متفق عليه) في المعنى ومعظم المبنى بدليل قوله (وفي رواية مسلم: حفت) بضم المهملة وتشديد الفاء (بدل حجبت) وبه يندفع اعتراض الصاغاني في «المشارق» على القضاعي حيث قال: بعد أن رواه بلفظ حجبت وقال: متفق عليه. رواية القضاعي حفت.

قال ابن مالك في شرحها: قال النووي: المذكور في «الصحيحين» حجبت لاحفت اهـ. وهو نقل عجيب عن المصنف ولعله سهو من قلم الناسخ، وإلا فهذا اللفظ رواية مسلم (وهو) أي: حفت و (بمعناه) أي: حجبت: أي معناهما واحد (أي بينه وبينها) أي النار في الأول والجنة في الثاني (هذا الحجاب فإذا فعله) وخرق الحجاب (دخلها) . 102 - (الثامن: عن أبي عبد الله حذيفة) بضم المهملة وفتح الذال المعجمة وسكون التحتية بعدها فاء (ابن) حسيل بكسر المهملة الأولى وسكون الثانية، ويقال له: حسيلي بالتصغير، ولقبه (اليمان) لقب به لحلفه الأنصار وهم من اليمن، وإلا فهو عبسي بفتح المهملة فسكون الموحدة نسبة إلى عبسبن يعيصبن بنت غطفان ثم ابن قيس عيلان بالمهملة ابن مضر (رضي الله عنهما) أسلم حذيفة وأبوه وشهدا أحداً وقتل اليمان يومئذٍ بأيدي المسلمين غلطاً، ونادى حذيفة حينئذٍ أبي عباد الله أبي أبي، فما احتجزوا عنه حتى قتلوه. فقال حذيفة: يغفر الله لكم؛ ووهب دمه للمسلمين. وكان حذيفة أحد الرقباء النجباء وأحد الفقهاء أهل الفتوى وصاحب سرّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنافقين، والمختص بأخبار الفتن المستقبلة ما ظهر منها وما بطن، وله مقامات محمودة في الجهاد من أعظمها ليلة الأحزاب وخبره فيها مشهور، وأبلى في الفتوح، وحمدت مشاهده، وكان فتح همدان والدينور على يديه، وشهد فتح الجزائر، ولاه عمر المدائن، وقال عمر لأصحابه يوماً تمنوا فتمنوا، فقال عمر: لكني أتمنى رجالاً مثل أبي عبيدة ومعاذبن جبل وحذيفةبن اليمان أستعملهم في طاعة الله تعالى. روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث ونيفاً، اتفقا منها على اثني عشر، وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بسبعة عشر. توفي بالمدينة سنة ستّ وثلاثين بعد قتل عثمان بأربعين ليلة (قال: صليت مع النبي) أي في صلاة التهجد، ففيه وفي حديث ابن مسعود الآتي الاقتداء في النافلة وتطويل صلاة الليل (ذات ليلة، فافتتح سورة البقرة) فيه إطلاق ذلك بلا كراهة، وقيل: إنما يقال السورة التي تذكر فيها البقرة (فقلت يركع عند المائة) منها، وكان القياس في رسم مائة أن تكتب الهمزة بصورة التحتية لانكسار ما قبلها لكنها رسمت بهذه الصورة لئلا تلتبس بصورة منه إذا لم تنقط، وأصلها حتى حذفت لامها وعوض عنها هاء التأنيث (ثم مضى) في قراءتها بعد تمام المائة (فقلت: يصلي بها في ركعة

فمضى فقلت: يركع بها) فأكملها (ثم افتتح النساء فقرأها) إلى آخرها (ثم افتتح آل عمران فقرأها) . قال القاضي عياض: فيه دليل لمن يقول إن ترتيب السور اجتهادي وليس بتوقيفي: بل وكله إلى أمته وهو قول مالك وجمهور العلماء، واختاره ابن الباقلاني وقال: إنه أصح القولين مع احتمالها. قال: والذي يقول إن ترتيب السور ليس بواجب في الكتابة ولا في الصلاة ولا في الدرس ولا في التلقين، وإنه لم يكن من النبيّ في ذلك نص ولا حد تحرم مخالفته، ولذا اختلف في ترتيب المصاحف قبل مصحف عثمان. قال: وأما على قول من يقول: إنه بتوقيف من النبي حدده لهم كما استقرّ في مصحف عثمان، وإنما اختلفت المصاحف قبل أن يبلغهم التوقيف والعرض الأخير فتؤول النساء ثم آل عمران هنا على أنه كان قبل التوقيف في الترتيب وكانت هاتان السورتان هكذا في مصحف أبيّ. قلت قال بعض المتأخرين: أو إنه فعله لبيان الجواز. قال الباقلاني: ولا خلاف أنه يجوز للمصلي أن يقرأ في الركعة الثانية بسورة قبل التي قرأها في الأولى، إنما يكره ذلك في ركعة ولمن يتلو في غير صلاة، وقد أباحه بعضهم وتأوّل نهي السلف عن قراءة القرآن منكوساً على من يقرأ من آخر السورة إلى أولها، قال: ولا خلاف أن ترتيب آيات كل سورة بتوقيف من الله سبحانه وتعالى على ما هي الآن في المصحف، وهكذا نقلته الأمة عن نبيها اهـ باختصار يسير (يقرأ مترسلاً) أي: مرتلاً بتبيين الحروف وأداء حقها (إذا مرّ بآية فيها تسبيح) نحو: {سبح اسم ربك} (الأعلى: 1) (سبح، وإذا مرّ بسؤال سأل، وإذا مرّ بتعوّذ تعوّذ) فيه دليل لاستحباب هذه للقارىء وهي سنة له مطلقاً (ثم ركع فجعل) من أفعال الشروع (يقول) في ركوعه (سبحان ربي العظيم) وكرّر ذلك التسبيح فيه وبه قال بعض الأئمة، ولم يأخذ أئمتنا بقضية التكرير فيه وفيما يأتي بل قالوا: أقل التسبيح مرّة وأقل الكمال ثلاث وأكثره إحدى عشرة، واقتضى صريح كلامهم عدم سن الزيادة على ذلك، فإن الذي ذكروه وهو ما واظب عليه، وما في هذا الحديث وقع نادراً فلم يغيروا به ما علم واستقرّ من أحواله (فكان ركوعه) في الطول (نحواً) أي: قريباً (من قيامه) في القراءة قبله (ثم) رفع

رأسه و (قال) عند رفعه (سمع الله لمن حمده) أي تقبله منه (ربنا لك الحمد ثم قام) أي: دام في القيام بعد الرفع من الركوع (قياماً طويلاً مما ركع) أي: من ركوعه، أخذ منه ما اختاره المصنف أن الاعتدال والجلوس بين السجدتين ركنان طويلان، لكن المذهب أنهما قصيران لأنهما مقصودان لغيرهما لا لذاتهما. وقد يجاب بأن القرب من الركوع أمر نسبيّ؛ فليس فيه نص على أنه طوّل أكثر من التطويل المشروع عندنا وهو ما يسع أذكاره الواردة فيه وقدر قراءة الفاتحة (ثم سجد فقال) في سجوده (سبحان ربي الأعلى) وكرره، والحكمة في جعل العظيم في الركوع والأعلى في السجود أن الأعلى لكونه أفعل تفضيل أبلغ من العظيم، والسجود أبلغ في التواضع من الركوع، فجعل الأبلغ للأبلغ (فكان سجوده قريباً من قيامه. رواه مسلم) . 103 - (التاسع: عن) عبد الله (بن مسعود رضي الله عنه قال: صليت مع النبي ليلة) أي: التهجد في ليلة فهي منصوبة على الظرفية (فأطال) أي: القيام طولاً كثيراً زائداً على العادة كما سيأتي مستنده (حتى هممت) بفتح الميم الأولى (بأمر سوء) بإضافة أمر إلى سوء كذا في «فتح الباري» . وقال بعض شراح «الشمائل» بالإضافة وعدمها وفتح السين وضمها، ولعل اقتصار الحافظ على ما هو الرواية. وفي «الصحاح» : المفتوح مصدر نقيض المسرة والمضموم اسم، وساغت الإضافة إلى المفتوح كرجل سوء، ولا يقال سوء بالضم اهـ. وقوله ولا يقال الخ ردّ بالقراءة المتواترةـ دائرة السوءـ بالضم، ويردّ بأن ما فيه في إضافة الاسم الجامد وما فيها بإضافة المصدر وبينهما فرق ظاهر (قيل: وما هممت به؟ قال: أن أجلس وأدعه) . قال المصنف: فيه أنه ينبغي الأدب مع الأئمة والكبار بألا يخالفوا بقول ولا فعل ما لم يكن

حراماً. واتفق العلماء على أنه إذا شق على المقتدي في فريضة أو نافلة القيام وعجز عنه جاز له القعود، وإنما لم يقعد ابن مسعود تأدباً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اهـ. 5 وفي «فتح الباري» : في الحديث دليل على اختيار النبيّ تطويل صلاة الليل، وقد كان ابن مسعود قوياً محافظاً على الاقتداء بالنبي، وما همّ بالقعود إلا بعد طول كثير ما اعتاده. قال: وفي الحديث أن مخالفة الإمام في أفعاله معدودة في العمل السيء، وفيه تنبيه على جواز استفادة معرفة ما أبهم من الأقوال وغيرها، لأن أصحاب ابن مسعود ما عرفوا مراده من قوله هممت بأمر سوء حتى استفهموه عنه فلم ينكر عليهم استفهامهم عنه اهـ (متفق عليه) ورواه الترمذي في «الشمائل» . 104 - (العاشر: عن أنس رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يتبع الميت) أي: يصحبه إلى قبره (ثلاثة أهله وماله وعمله) بالرفع بدل من الفاعل (فيرجع اثنان ويبقى واحد) أجمله ثم فصله بقوله على سبيل الاستئناف البياني (يرجع أهله وماله ويبقى عمله) ليكون أقرّ في النفس وأمكن لأنها يجيئها التفصيل وقد تطلبته واشتاقت إليه. وفي الحديث: الحثّ على تحسين العمل ليكون أنيسه في قبره (متفق عليه) والسياق للبخاري. 105 - (الحادي عشر: عن) عبد الله (بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله: الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله) الشراك بكسر الشين المعجمة وبالراء وآخره كاف: أحد سيور

النعل التي تكون في وجهه ويختلّ المشي بفقده كفقد الشسع بمعجمة ثم مهملتين: السير الذي يدخل فيه أصبع الرجل. قال ابن مالك: ووجه الأقربية أن يسيراً من الطاعة قد يكون سبباً لدخول الجنة ومثله من المعصية في النار كما قال: (والنار مثل ذلك) . قال في «فتح الباري» : قال ابن بطال: في الحديث أن الطاعة موصلة إلى الجنة، وأن المعصية مقرّبة إلى النار، وأنهما قد يكونان في أيسر الأشياء، وفي هذا المعنى «إن الرجل ليتكلم بالكلمة» الحديث، فينبغي للمرء ألا يزهد في قليل من الخير أن يأتيه، ولا في قليل من الشرّ أن يجتنبه: فإنه لا يعلم الحسنة التي يرحمه الله بها، ولا السيئة التي يسخط عليه بها. وقال ابن الجوزي: معنى الحديث أن تحصيل الجنة سهل بتصحيح القصد وفعل الطاعة، والنار كذلك بموافقة الهوى وفعل المعصية اهـ. وقال السعد الكازروني في «شرح المشارق» : أراد قرب الجنة لمن كان كافراً فأسلم، وقرب النار لمن عكس، وكذا لمن أتى بالكبائر (رواه البخاري) ورواه أحمد. 106 - (الثاني عشر: عن أبي فراس) بكسر الفاء وبالمهملتين بينهما ألف (ربيعة) بوزن قبيلة (ابن كعب) ابن مالك (الأسلمي) الحجازي (خادم رسول الله) حضراً وسفراً (ومن أهل الصفة) بضم المهملة وتشديد الفاء: محل سقف آخر المسجد يأوي إليه الفقراء الذين ليس لهم عريف (رضي الله عنه) . قال أبو نعيم: كان من أحلاس المسجد ومن الملازمين لخدمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وله بأهل الصفة اتصال، ثم روي عنه قال: كنت أبيت على باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعطيه الوضوء فأسمعه من الهويّ بالليل يقول: «سمع الله لمن حمده» وللهويّ من الليل يقول: «الحمد رب العالمين» ذكره ابن الجوزي في «المستخرج» المليح من التنقيح في باب من روى عن النبي اثني عشر حديثاً. وقال: قال البرقي: له أربعة أحاديث. قلت: وقد انفرد مسلم عن البخاري فأخرج له هذا الحديث، وروى عنه أصحاب السنن الأربعة: توفي بعد الحرّة سنة ثلاثة وستين (قال: كنت أبيت مع رسول الله) على باب بيته لأداء خدمته كما قال (فآتيه) بالمد (بوضوئه) بفتح الواو: الماء المعدّ للوضوء

بضمها (وحاجته) أي: ما يحتاج إليه من لباس وغيره (فقال: سلني) حاجة أتحفك بها في مقابلة خدمتك لأن هذا شأن الكرام ولا أكرم منه. ويؤخذ من إطلاقه السؤال أن الله تعالى مكنه من إعطاء كل ما أراد من خزائن الحق، ومن ثم أعدّ أئمتنا من خصائصه أن يخص من شاء بما شاء: كجعله شهادة خزيمة بشاهدين رواه البخاري، وإباحة النياحة لأم عطية في آل فلان خاصة رواه مسلم. (فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة) أي: أن أكون معك فيها قريباً منك متمتعاً بنظرك وقربك حتى لا أفارقك، فلا يشكل حينئذٍ بأن منزله: الوسيلة وهي خاصة به عن سائر الأنبياء فلا يساويه في مكانه منها نبيّ مرسل فضلاً عن غيرهم لأن المراد أن تحصل له مرتبة من مراتب القرب التام إليه فكنى عن ذلك بالمرافقة (فقال أو) تسأل (غير ذلك) لأنه أهون فأو عاطفة ويصح فتح الواو فالهمزة للاستفهام داخلة على فعل دل عليه السياق: أي أترجع عن سؤالك هذا لأنه مشتق لا تطيقه ولا تسأل غيره مما هو أهون منه (قلت: هو) أي مسئولي (ذاك) الذي ذكرته لا غيره فلا أرجع عنه وإن كان مشقاً، وعبر عنه بذلك الموضوع للبعيد ليدله على بعد هذه المرتبة وعزتها وأنها لا تحصل بالهويني، فعدل عنها السائل إلى «ذاك» الدالة على القرب بالنسبة لذلك ليعلم بأنه مصمم على أن مسئوله غير مستبعد له على امتثال كل ما يؤمر به لأجله، فلما علم صدقه وقوة عزمه (قال) له (أعني) حينئذٍ (على نفسك) المتخلفة بطبعها عن السعي في نيل المعالي لميلها إلى الدعة والرفاهية والشهوات والبطالات، وفي قوله: «أعني» إشارة إلى أنه كان مجتهداً أي اجتهاده في اصلاحه كغيره وأنه الطبيب الساعي في شفائه، والطبيب يحتاج لمساعدة المريض بتعاطيه ما يصفه له (بكثرة السجود) المحصل لنيل مرتبة القرب المطهر للنفس عن خبائثها المخرج لها عن شهواتها وعاداتها، وببعدك عن هذه النقائص المؤدي إلى دوام المراقبة يحصل الرقي إلى المرافقة والمجاورة. وفي «شرح المشكاة» لابن حجر: فمن كثرة سجوده حصلت له تلك الدرجة العلية التي لا مطمع في الوصول إليها بمزيد الزلفى عند الله في الدنيا بكثرة السجود المومأ إليه

بقوله تعالى: {واسجد واقترب} (العلق: 19) فكل سجدة فيها قرب مخصوص لتكفلها بالرقى إلى درجة من درجات القرب وهكذا حتى ينتهي إلى درجة المرافقة لحبيبه، فنتج من هذا الذي هو على منوال قوله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم ا} (آل عمران: 31) أن القرب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يحصل إلا بالقرب من الله تعالى، وأن القرب من الله تعالى لا ينال إلا بالقرب من رسوله. فالقربان متلازمان لا انفكاك لأحدهما عن الآخر البتة: ومن ثم أوقع تعالى متابعة رسوله بي تلك المحبتين ليعلمنا أن محبة العبد ومحبته للعبد متوقفتان على متابعة رسوله اهـ (رواه مسلم) وأحمد ابن حنبل. 107 - (الثالث عشر: عن أبي عبد الله، ويقال) في كنيته (أبو عبد الرحمن ثوبان) بفتح المثلثة وسكون الواو بعدها موحدة وبعد الألف نون ابن بحدد، وقيل: ابن جحدد (مولى رسول الله) . قال الكازروني في «شرح المشارق» : كان (رضي الله عنه) من اليمن، قيل: إنه حكمي من حكمبن سعد العشيرة، وقيل: من النمر، وقيل: من السرة: موضع بين مكة واليمن أصيب سبياً فمرّ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعتقه، وقيل: اشتراه فأعتقه، فلم يزل مع النبي حتى قبض وتحول إلى حمص، له بها دار ضيافة: مات بها سنة أربع وخمسين في زمن معاوية، وجميع مروياته ثمانية وعشرون حديثاً اهـ. انفرد مسلم بالإخراج عنه عن البخاري فأخرج له عشرة أحاديث ذكره ابن الجوزي وغيره (قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: عليك) اسم فعل بمعنى خذ، والباء في (بكثرة السجود) زائدة لازمة (فإنك لن تسجد) مخلصاً (سجدة) أي: في ضمن ركعة أو لنحو تلاوة أو شكر، وإلا فالتعبد بالسجدة المنفردة غير مشروع (إلا رفعك الله بها درجة) أيّ درجة (وحط عنك بها خطيئة) أيّ: خطيئة. وسبب رواية ثوبان لهذا الحديث أن معدانبن طلحة قال: «أتيت ثوبان فقلت: أخبرني بعمل أعمل به يدخلني الله به الجنة، أو قال: بأحبّ الأعمال إلىالله، فسكت، ثم سأله فسكت، ثم سأله الثالثة فقال: سألت عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: عليك فذكره، وفي آخره: فلقيت أبا الدرداء فسألته فقال لي مثل ما قال ثوبان» (رواه مسلم) قال في «الجامع الصغير» : ورواه

أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ثوبان وأبي الدرداء. وهذان الحديثان ظاهران في أن تكثير السجود أفضل من طول القيام، وهو أحد مذاهب ثلاثة في ذلك، أصحها أن تطويل القيام أفضل، وقد بسطت الكلام في ذلك في كتاب الصلاة من شرح الأذكار. 108 - (الرابع عشر: عن أبي صفوان) بفتح المهملة وسكون الفاء، وقيل: أبو بسر (عبد ابن بسر الأسلمي) قال الكازروني في «شرح المشارق» «المازني» وجرى عليه العامري في «الرياض» لكن في «أسد الغابة» بعد أن نقل ذلك عن ابن منده قال: وهذا لا يستقيم: فإن سليمان أخو مازن وليس لعبد الله حلف في سليم حتى ينسب إليهم بالحلف. كان (رضي الله عنه) ممن صلى للقبلتين، ووضع يده على رأسه ودعا له وقال: يعيش هذا الغلام قرناً فعاش مائة سنة، وقال: لا يموت حتى يذهب هذا الثؤلول من وجهه فلم يمت حتى ذهب الثؤلول من وجهه» قال ابن الأثير: صحب النبي هو وأبوه وأمه وأخوه عطية وأخته الشماء، وحينئذٍ فكان حق المصنف أن يقول رضي الله عنهما. وفي «التقريب» للحافظ ابن حجر: صحابي صغير له ولأبيه صحبة، توفي سنة ثمان وثمانين عن أربع وتسعين سنة، وقيل: مات بحمص، وهو آخر من مات بها بل بالشام من الصحابة سنة ست وتسعين عن مائة سنة، وروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسين حديثاً، أخرج له البخاري حديثاً، ومسلم آخر (قال: قال رسول الله: خير الناس) أي: أفضلهم (من طال عمره وحسن عمله) فاكتسب في طول الأيام ما يقرّبه إلى مولاه ويوصله إلى رضاه، وحسن العمل الإتيان به مستوفياً للشروط والأركان والمكملات (رواه الترمذي وقال حديث حسن) وكذا رواه أحمد. وفي بعض النسخ: رواه مسلم والترمذي، وهو من غلط النساخ (بسر بضم الباء) أي: الموحدة، وكان الإتيان بذلك أولى لبعده عن الاحتمال في الصورة الخطية أهي الموحدة أم المثناة الفوقية أم التحتية (وبالسين المهملة) وراء.

109 - (الخامس عشر: عن أنس رضي الله عنه قال: غاب عمي) أي: أخو والدي؛ إذ هو أنسبن مالكبن النضر وعمه (أنسبن النضر رضي الله عنه عن قتال بدر) الإضافة لأدنى ملابسة: أي الكائن فيها، وبدل المحل المعروف، قيل سمي باسم بئر ثم، وقيل: لغير ذلك (فقال) متحسراً (يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتل المشركين) صفة قتال والعائد محذوف أي فيه (لئن) اللام موطئة للقسم المحذوف أي وا لئن، و (ا) فاعل لفعل محذوف هو فعل الشرط وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه (أشهدني) أحضرني (قتال المشركين) يحتمل أن يكون مضافاً لفاعله، وأن يكون مضافاً لمفعوله، وحذف الضمير الدال عليه تنزيهاً له أن يذكر في مقابلتهم (ليرين الله ما أصنع) جواب القسم والنون للتوكيد. قال القرطبي في «المفهم» : هذا الكلام يتضمن أنه ألزم نفسه إلزاماً مؤكداً هو الإبلاغ في الجهاد والانتهاض فيه والإبلاغ في بذل ما يقدر عليه، ولم يصرح بذلك مخافة ما يتوقع من التقصير في ذلك وتبرياً من حوله وقوته، ولذا قال في رواية: «فهاب أن يقول غيرها» ومع ذلك نوى بقلبه وصمم على ذلك بصحيح قصده ولذا سماه الله عهداً فقال: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} (الأحزاب: 23) اهـ (فلما كان يوم أحد) برفع يوم على أن «كان» تامة وبنصبه على الظرفية والمعنى: يوم قتال أحد، أو أراد باليوم الوقعة (انكشف المسلمون) بما وقع لهم من ترك منازلهم التي أنزلهم النبي فيها حال النصافّ للحرب ونهاهم عن التحول عنها فلما انكسر المشركون وانهزموا نزل بعض أولئك الأقوام عن تلك المنازل فكان في المخالفة سبب انهزامهم. (فقال) أنس: (اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء: يعني أصحابه) المسلمين من الفرار (وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء: يعني المشركين) من قتال النبي ومن معه من المؤمنين (ثم تقدم) إلى القتال (فاستقبله سعدبن معاذ) منهزماً (فقال يا سعد) يجوز ضمه وفتحه، لأنه وصف بقوله: (ابن معاذ) ويتعين

نصب ابن لأنه مضاف (الجنة) بالنصب: أي أريد، والرفع: أي مطلوبي (ورب النضر) بفتح النون وإسكان المعجمة: يعني أباه، وكل ما كان على هذه الصورة معرفاً فبالضاد المعجمة، ومنكراً فبالمهملة (إني أجد ريحها) أي: الجنة (من دون أحد) أي من مكان أقرب منه، يحتمل أن يكون على الحقيقة وأنه وجد ريحها، ويجوز أن يكون أراد أنه استحضر الجنة التي أعدت للشهيد فتصور أنها في ذلك الموضع الذي يقاتل فيه، فيكون المعنى: إني لأعلم أن الجنة تكتسب في هذا الموضع فاشتاق لها (قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع) أي: أن أصنع ما صنع، ورواية مسلم: «فقاتلهم حتى قتل» وهي ظاهرة كما قال القرطبي في أنه قاتلهم وحده، فيكون فيه دليل على جواز ذلك بل على ندبه اهـ. (قال أنس: فوجدنا به بضعاً) بكسر الباء وسكون الضاد المعجمة ما بين الثلاث إلى التسع، وقيل: ما بين الواحد إلى العشر. وسيأتي بسط الكلام فيه في باب بيان كثرة طرق الخير (وثمانين ضربة بالسيف، أو) هي: للتنويع (طعنة برمح، أو رمية) بفتح الراء المهملة: واحدة الرمي (بسهم، ووجدناه قد قتل) بالبناء للمجهول لعدم العلم بعين قاتليه (ومثل) بتشديد المثلثة (به المشركون) حتى خفي على أهله (فما عرفه أحد) منهم (إلا أخته) أي: أخت أنسبن النضر، وهي الربيع بضم الراء وفتح الباء الموحدة وتشديد التحتية (ببنانه) أي بأصابعه ومنه قوله تعالى: {أن نسوّي بنانه} (القيامة: 4) وفي رواية بشامته: (قال أنس: كنا نرى) بضم النون بمعنى نظن (أو نظن) شك من الراوي في لفظ أنس وإن كان معناهما واحداً، ففيه مزيد الاحتياط في الرواية. وعند مسلم: فكانوا يرون الخ: يعني به أن الصحابة كانوا يظنون (أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه) وقيل: أنزلت في السبعين. وهم أهل العقبة الثانية الذين بايعوه أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم فوفوا بذلك، قاله الكلبي، وقيل غير ذلك، والآية: ( {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} ) أو إلى قوله: {وما بدلوا تبديلا} (الأحزاب: 23) أي استمروا على ما التزموا ولم يقع منهم نقض فيما أبرموا

(متفق عليه) ورواه الترمذي (ليرين الله روي بضم الياء) التحتية (وكسر الراء) المهملة (أي ليظهرن الله ذلك) الذي أصنعه من الجهاد في سبيله (للناس، وروي بفتحهما ومعناه ظاهر) وفي نسخة من البخاري «ليراني ا» إبقاء ألف الفعل على أصلها وحذف نون التوكيد وإبقاء نون الوقاية عكس الرواية الأولى ومعناه كمعنى الرواية الثانية والله أعلم. 110 - (السادس عشر: عن أبي مسعود عقبةبن عمرو الأنصاري البدري) سكن بدراً ولم يشهد وقعتها على الصحيح عند جماعة من أصحاب «المغازي» والمحدثين، لكن الذي جرى. عليه البخاري في «صحيحه» أنه شهدها، ورجحه الحافظ في «فتحه» ، وشهد العقبة الثانية. روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث وحديثين، اتفقا على سبعة منها، وانفرد البخاري بواحد، ومسلم بتسعة، توفي بعد عليّ (رضي الله عنه قال: لما نزلت آية الصدقة) قال في «فتح الباري» كأنه يشير إلى قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} (التوبة: 103) الآية (كنا نحامل على ظهورنا) سيأتي معناه. وقال الخطابي: يريد نكلف الحمل بالأجرة لنكتسب ما نتصدق به، وفي رواية أخرى للبخاري «انطلق أحدنا إلى السوق يتحامل» (فجاء رجل) هو عبد الرحمنبن عوف (فتصدق بشيء كثير) كان ثمانية آلاف درهم أو أربعة آلاف درهم، وقيل: أربعون أوقية من الذهب (فقالوا مراء) اسم فاعل، من المراءاة: وهي العمل ليراه الناس فيكتسب منهم غرضاً دنيوياً (وجاء رجل) هو أبو عقيل، وقيل: غيره (فتصدق بصاع) هو أربعة أمداد نبوية فيكون خمسة أرطال وثلثا بغدادية، وكان تحصيله له بأن أجر نفسه على النزع من البئر بالحبل بصاعين من تمر، فذهب بصاع لأهله وتصدق بالآخر (فقالوا: إن الله لغنيّ عن صاع هذا) . سمي من اللامزين في «مغازي الواقدي» : معتببن قشير وعبد الرحمنبن نبتل بنون

ومثناة فوقية مفتوحتين بينهما موحدة ساكنة ثم لام كذا في «فتح الباري» . فنزل: الذين مبتدأ وخبره سخر الله منهم ( {يلمزون} ) أي: يعيبون ( {المطوّعين} ) بتشديد الطاء المهملة وأصله المتطوعين أدغمت التاء في الطاء: أي: المتنفلين ( {من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم} ) (التوبة: 79) طاقتهم فيأتون به (الآية) إلى قوله: {ولهم عذاب أليم} (البقرة: 10) (متفق عليه) ورواه النسائي وابن مردويه وغيرهم (ونحامل بضم النون وبالحاء المهملة) وكسر الميم (أي: يحمل أحدنا على ظهره بالأجرة) طلباً لتحصيل ما يتوصل به إلى الصدقة (ويتصدق بها) طلباً لمرضاة الله تعالى. فالصيغة للمبالغة، ففيه أن العبد يطيع مولاه جهده وطاقته وحسب قدرته واستطاعته. 111 - (السابع عشر: عن سعيدبن عبد العزيز) التنوخي، مفتي دمشق وعالمها، قرأ على ابن عامر وسمع مكحولاً وسأل عطاء لما حج. قال أحمد هو والأوزاعي عندي سواء. كان بكاءً خوافاً، سئل فقال: ما قمت إلى صلاة إلا مثلت لي جهنم. وقال أبو مسهر: سمعته يقول: مالي كتاب. وقال سفيان: ثقة ثبت، مات سنة سبع وستين ومائة من أبناء الثمانين، روى له مسلم وأصحاب السنن الأربعة (عن ربيعة) بوزن قبيلة (ابن يزيد) القصير، يكنى ربيعة بأبي شعيب. وهو فقيه أهل دمشق مع مكحول. قال فرجبن فضالة: كان يفضل على مكحول. استشهد بأفريقية سنة اثنتي عشرة ومائة، روى له الستة (عن أبي إدريس الخولاني) بفتح

الخاء المعجمة وسكون الواو نسبة لخولان قبيلة نزلت بالشام واسمه عائذ الله قال سعيدبن عبد العزيز: كان عالم أهل الشام بعد أبي الدرداء، ولد يوم حنين. ومات سنة ثمانين، روى له الستة ذكر هذا الذهبي في «الكاشف» (عن أبي ذرّ جندب) بضم الجيم وفتح الدال (ابن جنادة) وتقدمت ترجمته (رضي الله عنه) أبو باب المراقبة (عن النبيّ فيما يروى) عن جبريل كما في الأذكار وغيرها وهو كذلك في بعض طرقه كما نبه عليه الحافظ العلائي (عن الله تبارك) قال في «الصحاح» : أي بارك مثل قاتل وتقاتل، إلا أن فاعل يتعدى وتفاعل لا يتعدى (وتعالى) وهذا من الأحاديث القدسية وسبق الفرق بينها وبين القرآن في باب الصبر (أنه قال: يا عبادي) بكسر أوله وتخفيف ثانيه وهو أحد جموع لفظ: عبد، وله عشرون جمعاً ذكرتها نظماً في أول «شرح الأذكار» . وهو هنا وفيما يأتي وفي نظائره يتناول الأحرار والأرقاء من الذكور، وكذا من النساء إجماعاً لكن لا وضعاً بل بقرينة التكليف ( {إنّي حرّمت الظلم على نفسي} ) . قال ابن القيم: تحريم الله الفعل على نفسه يستلزم عدم وقوعه، ثم قال: وإذا كان معقولاً من الإنسان أن يأمر نفسه وينهاها كما قال تعالى: {إن النفس لأمارة بالسوء} (يوسف: 53) وكما قال: {ونهى النفس عن الهوى} (النازعات: 40) مع كونه تحت أمر غيره، فالآمر الناهي الذي ليس فوقه آمر ولا ناه كيف يستحيل في حقه أن يحرم على نفسه أو يكتب عليها فيحرم على نفسه بنفسه ويكتب على نفسه ولا يلتفت إلى ما قيل في ذلك من التأويلات الباطلة، اهـ ملخصاً. وقد نقلت كلامه برمته في أواخر «شرح الأذكار» ، وهو يقتضي أن الظلم متصورّ منه تعالى إلا أنه منع منه نفسه، فلا يفعله عدلاً منه وتنزّهاً عنه. قال جمع: واعترض بأنه إن أراد جوازه بناء على تفسيره بما هو ظلم عند العقل لو خلي نفسه من حيث عدم مطابقته لقضيته فله نوع احتمال، والجمهور على استحالة تصوّر الظلم في حقه تعالى، إذ هو لغة: وضع الشيء في غير محله. وعرفاً: التصرف في حق الغير بغير حق، أو مجاوزه الحد، وهو بمعنييه محال في حقه تعالى، إذ ليس فوقه من يطيعه تعالى حتى يحدّ له حداً فيقال إنه جاوزه، ولا حق لأحد معه سبحانه، بل هو الذي خلق المالكين وأملاكهم وتفضل عليهم بها وحدّ لهمّ حدوداً وحرم وأحل، فلا حاكم يتعقبه ولا حق بترتب عليه، تعالى عن ذلك، ولاستحالته في حقه تعالى. قال بعضهم: سمى تقدسه عن

الظلم تحريماً لمشابهته. الممنوع في تحقق العدم. قيل: قضية هذا الحديث جواز إطلاق لفظ النفس عليه تعالى. قال بعضهم: وهو ظاهر حيث كان من باب المقابلة كما هنا، إذ المعنى: حرمته على نفسي فنفوسكم بالأولى كما أفاده قوله: (وجعلته بينكم محرماً) أما إطلاقه في محل لا مقابلة فيه فلا يظهر جوازه لإبهامه حقيقة النفس وهي محال عليه تعالى. وقيل: يجوز إطلاقه عليه بناء على أنه مأخوذ من النفاسة، ولا يشكل على الأول إطلاق الذات عليه تعالى في قول حبيب رضي الله عنه عند إرادة قتله: وذلك في ذات الإله، لأن ذات الشيء حقيقته فلا إشعار فيها بحدوث، بخلاف لفظ النفس فإن يشعر بالتنفس والحدوث، فامتنع إطلاقه عليه إلا في مقام المقابلة، إذ هو قرينة ظاهرة على أن المراد به في حقه تعالى غير حقيقته وما يتبادر منه. وأيضاً ففي إطلاقه عليه تعالى من غير مقابلة إبهام شمول قوله تعالى: {كل نفس ذائقة الموت} ( آل عمران: 185) له، تعالى الله عن ذلك (وجعلته بينكم محرّماً) أي: حكمت بتحريمه عليكم وهذا مجمع عليه في كل ملة لاتفاق سائر الملل على مراعاة حفظ الأنفس فالأنساب فالأعراض فالعقول فالأموال. والظلم قد يقع في هذه أو بعضها، وأعلاه الشرك. قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} (لقمان: 13) وهو المراد بالظلم في أكثر الآيات، ثم يليه المعاصي على اختلاف أنواعها (فلا تظالموا) بفتح التاء وتخفيف الظاء على الأشهر، وروي بتشديدها ففيه حذف إحدى التاءين وإدغامها في الظاء: أي: لا يظلم بعضكم بعضاً، وهذا توكيد لقوله: ( {وجعلته بينكم محرّماً} ) وزيادة في تغليظ تحريمه (يا عبادي) كرّر النداء زيادة في تشريفهم ولذا أضافهم إليه وتنبيهاً على فخامة ما بعده، وجمعه لإفادة الاستغراق (كلكم ضالّ) أي: غافل عن الشرائع قبل إرسال الرسل، أو ضال عن الحق لو ترك ونفسه (إلا من هديته) من الضلال بالتوفيق للإيمان بما جاءت به الرسل على المعنى الأول أو للوصول إلى الحق بالنظر الموصل إلى معرفة الله تعالى وامتثال ما جاء من عنده على المعنى الثاني وعلى كل من المعنيين فلا ينافي حديث «كل مولود يولد على الفطرة» لأن ذلك ضلال ضارىء على الفطرة الأولى كما يرشد إليه حديث «خلق الله الخلق على معرفته فاغتالهم الشيطان» والأصح أن المراد من معنى خبر «كل مولود الخ» : أن كل مولود يخلق متهيئاً للإسلام، فمن كان أبواه أو أحدهما مسلماً استمرّ عليه في أحكام الدارين. وإن كانا كافرين جرى عليه حكمهما فيتبعهما في أحكام الدنيا وهذا معنى «فيهوّدانه

ونصرانه» أي: يحكم له بحكمهما في الدنيا فإذا بلغ مستمراً على الكفر حكم له به فيهما. واختلف أيضاً فيمن مات صغيراً، والأصح أنه في الجنة. والحاصل أن الإنسان مفطور على قبول الإسلام والتهيؤ له بالقوّة، لكن لا بد أن يتعلمه بالفعل فإنه قبل التعليم جاهل، قال تعالى: {وا أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً} (النحل: 78) فمن هداه سبب له من يعلمه الهدى فصار مهدياً بالفعل بعد أن كان مهدياً بالقوة، ومن خذله والعياذ با قيض له من يعلمه ما يغير فطرته بأمر بتهوّد أو تنصر أو تمجس. قال المصنف: وفي هذا دليل لمذهب أصحابنا. وسائر أهل السنة أن المهتدي هو من هداه الله وبهدي الله اهتدى وبإرادة الله تعالى ذلك، وأنه سبحانه أراد هداية بعض عباده وهم المهتدون، ولم يرد هداية الآخر ولو أرادها لاهتدى، قال تعالى: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا} (يونس: 99) (فاستهدوني) اطلبوا مني الهداية بمعنى الدلالة على طريق الحق والإيصال إليها معتقدين أنها لا تكون إلا من فضلي (أهدكم) أنصب لكم أدلة ذلك الواضحة وأوصل من شئت إيصاله في سابق العلم القديم الأزلي. وحكمة طلبه تعالى منا السؤال للهداية إظهار الافتقار منا والإذعان والإعلام بأنه لو هداه قبل أن يسأله لربما قال: إني أوتيته على علم عندي فيضلّ بذلك، فإذا سأل ربه فقد اعترف على نفسه بالعبودية ولمولاه بالربوبية، وهذا مقام شريف لا يتفطن له إلا الموفقون. وهذا البيان طريق حصول النفع الديني ودفع الضرر من ذلك، وقدمه اهتماماً واحتفالاً بشأنه (يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته) لأن الناس كلهم عبيد لا ملك لهم في الحقيقة، وخزائن الرزق بيده، فمن لم يطعمه بفضله بقي جائعاً بعدله، إذ ليس عليه إطعام أحد، فقوله تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} (هود: 6) التزام منه تفضلاً، لا أنه عليه واجب بالأصالة، ولا يمنع نسبة الإطعام إليه ما يشاهد من ترتب الأرزاق على أسبابها الظاهرة من أنواع الكسب لأنه تعالى المقدر لتلك الأسباب الظاهرة بقدرته وحكمته الباطنة، فالجاهل محجوب بالظاهر عن الباطن، والعارف الكامل لا يحجبه ظاهر عن باطن ولا عكسه بل يعطي كل مقام حقه (فاستطعموني) أي: سلوني واطلبوا مني الطعام (أطعمكم) أي: أيسر لكم أسباب تحصيله إذ العالم جماده وحيوانه مطيع تعالى

طاعة العبد لسيده، فتصرّفاته تعالى في العالم عجيبة لمن تدبرها، فيسخر السحاب لبعض الأماكن، ويحرّك قلب فلان لإعطاء فلان، ويحوج فلان لفلان، وفيه تأديب للفقراء كأنه قال: لا تطلبوا النعمة من غيري فإن من تستطعمونهم أنا الذي أطعمهم فاستطعموني أطعكم (يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم) وفي هذا جميعه أوفي تنبيه وأظهر على افتقار سائر خلقه تعالى إليه وعجزهم عن جلب منافعهم ودفع مضارّهم إلا أن ييسر لهم ما ينفعهم ويدفع عنهم ما يضرّهم، فلا حول ولا قوة إلا با ولا تمسك إلا بسببه، وهذان مثالان لدفع الضرر الدنيوي وجلب النفع في ذلك، واقتصر عليهما لكمال حاجة الإنسان إليهما. (يا عبادي إنكم تخطئون) . قال المصنف بضم التاء، وروي بفتحها وفتح الطاء، يقال خطىء يخطأ: إذا فعل ما يأثم به فهو خاطىء، ومنه قوله تعالى: {واستغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين} (يوسف: 97) ويقال في الإثم أيضاً أخطأ فهما صحيحان اهـ. والمخاطب بهذا هنا غير معصوم (بالليل والنهار) هو من باب المقابلة لاستحالة وقوع الخطأ من كل منهم ليلاً ونهاراً (وأنا أغفر الذنوب جميعاً) ما عدا الشرك والذي لا يشاء مغفرته، قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء: 48) وفي اعتراض هذه الجملة مع التأكيد فيها بشيئين: أل الاستغراقية، وجميعاً المفيد كل منهما العموم غاية الرجاء للمذنبين حتى لا يقنط منهم أحد من رحمة الله تعالى لعظم ذنبه (فاستغفروني أغفر لكم) أصل الغفر: الستر فغفر الذنب: ستره ومحو أثره وأمن عاقبته، وحكمة التوطئة لما بعد الفاء بما قبلها بيان أن غير المعصوم والمحفوظ لا ينفك غالباً عن المعصية، فحينئذٍ يلزمه أن يجدد لكل ذنب ولو صغيرة توبة وهي المرادة هنا من الاستغفار، إذ ليس فيه مع عدمها كبير فائدة، وشتان بين ما يمحوه بالكلية وهو التوبة النصوح وبين ما يخفف عقوبته أو يؤخرها إلى أجل، وهو مجرد الاستغفار (يا عبادي إنكم

لن تبلغوا ضري فتضرونيّ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني) لما قام من الإجماع والبرهان على أنه تعالى منزّه مقدس غنيّ بذاته لا يمكن أن يلحقه ضرّ ولا نفع، فهو تعالى إن أحسن إلى عباده بغاية وجوه الإحسان غير محتاج إلى مكافأتهم بجلب نفع أو دفع ضرّ، ومن ثم قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات: 56) ونفع عباداتهم إنما يعود عليهم كما قال تعالى: (من عمل صالحاً فلنفسه) ومحبته تعالى لها وفرحة بها لكمال رحمته بهم ورأفته عليهم. وما اقتضاه ظاهر الحديث من أن لضره ونفعه غاية لكن لا يبلغها العباد متروك بما دل عليه الإجماع والبرهان من غناه المطلق، أو أنه من باب على لا حب لا يهتدي بمناره أي: لا منار له فيتهدي به. والمعنى: لا يتعلق بي ضرّ ولا نفع فتضروني أو تنفعوني، لأنه تعالى غنيّ مطلق والعبد فقير مطلق (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم) سموا بذلك لظهورهم أو أنهم يؤنسون (وجنكم) سموا به لاجتنانهم أي اختفائهم (كانوا على) تقوى (قلب اتقى رجل واحد منكم) وفي نسخة «على أتقى قلب رجل» وكذا قرينة الآتي، قيل: أراد به هنا محمداً (ما زاد ذلك في ملكي شيئاً) أي: لا يعود نفع ذلك إلى الله بأن يزيد في ملكه، بل نفعه قاصر على فاعله (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على) فجور (أفجر قلب رجل واحد) أي: على صورته، لما قيل إن المراد إبليس لعنهالله، وفي ترك الخطاب هنا تنبيه على أن الأدب فيه أن لا يضاف المكروه للمخاطب (ما نقص ذلك) العصيان (من) كمال (ملكي شيئاً) ففي ذلك إشارة إلى أن ملكه تعالى على غاية الكمال، لا يزيد بطاعة جميع الخلق وكونهم على أكمل صفات البر والتقوى، ولا ينقص بمعصيتهم، لأنه تعالى الغنيّ المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله، الكامل فلا نقص يلحقه بوجه (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد) أي: أرض واحدة ومقام واحد (فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك)

أي: إعطاء كل سائل مسئوله (مما عندي) من الخزائن الإلهية (إلا كما ينقص المخيط) هو بكسر فسكون ففتح: الإبرة (إذا أدخل البحر) وهو في رأي العين لا ينقص شيئاً من البحر، فكذا الإعطاء من الخزائن الإلهية لا ينقصها شيئاً البتة، لأنها من رحمته وكرمه وهما صفتان قديمتان ولا نهاية لهما، والنقص مما لا يتناهى محال بخلافه مما يتناهى، كالبحر وإن جلّ وعظم وكان أكبر المرئيات في الأرض، بل قد يؤخذ العطاء الكثير من المتناهي ولا ينقص، كالنار والعلم تقتبس منهما ما شاء الله ولا ينقص منهما شيء، بل قد يزيد العلم على الإعطاء، فعلم أن قوله: «إلا كما ينقص المخيط» الخ، ليس المراد منه حقيقته وإنما هو تمثيل يقرب إلى الفهم ليعلم منه أنه لا ينقص في تلك الخزائن البتة، لا لعدم نقص ماء البحر من غرز المخيط، فالجامع بين المشبه والمشبه به عدم النقص من حيث المشاهدة الصورية، فهما وإن افترقا في أنا إذا نظرنا إليهما بعين الحقيقة وجدنا البحر ينقص بهذا الشيء الحقير المأخوذ منه الذي لا يدرك لنا، وتلك الخزائن لا ينقصها شيء مما أفاضه الله تعالى منها من حين خلق السموات والأرضين إلى انقضاء هذا العالم، ثم من حين بعثه إلا ما لا نهاية له، لما تقرّر من استحالة نقص ما لا يتناهى، وفي هذا تنبيه وأيّ للخلق على إدامتهم لسؤاله تعالى مع إعظام الرغبة وتوسيع المسألة فلا يختصر سائل بل يسأل ما أحب، لما تقرّر أن خزائن النعم سحاء الليل والنهار لا ينقصها الإعطاء وإن جلّ وعظم. وقيل: إن ذلك إشارة إلى النعمة المخلوقة وهي يتصوّر فيها النقص كالبحر. ونقص استعمل لازماً كنقص المال ومتعدياً كما هنا، إذ مفعول الماضي والمضارع محذوف بدليل السياق. (يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها) أي: أضبطها (لكم) بعلمي وملائكتي الحفظة واحتيج إليهم معه لا لنقصه عن الإحصاء بل ليكونوا شهداء بينه وبين خلقه، وقد يضم إليهم شهادة الأعضاء زيادة في العدل، والحصر المستفاد من إنما هو بالنسبة لجزاء العمل، أي: لا جزاء ينقسم إلى خير وغيره إلا عن عمل يكون سبباً له فلا ينافي المزيد عليه الثابت بالنص في قوله تعالى: {ولدينا مزيد} (ق: 35) وبالإجماع لأنه ليس في حديث الباب تعرض لذلك بنفي ولا إثبات، وقد صحت فيه نصوص أخرى لا تعارض لها فوجب الأخذ بها (ثم أوفيكم إياها) أي: جزاءها في الآخرة على حد {وإنما توفون أجوركم يوم

القيامة} (آل عمران: 185) فلما حذف المضاف انقلب المجرور منفصلاً منصوباً، أو في الدنيا أيضاً لما روي أن النبيّ فسر ذلك بأن المؤمنين يجازون بسيئاتهم في الدنيا ويدخلون الجنة بحسناتهم (فمن وجد خيراً) أي: ثواباً ونعيماً بأن وفق لأسبابهما أو حياة طيبة هنيئة مريئة (فليحمد ا) على توفيقه للطاعات التي ترتب عليها ذلك الخير والثواب فضلاً منه ورحمة، وعلى إسدائه ما وصل إليه من عظيم المبرّات، فإن أريد بذلك الآخرة فقط كان الأمر والنهي في ذلك بمعنى الإخبار: أي: من وجد خيراً حمد الله عليه، ومن وجد غيره لام نفسه حيث لا ينفع الملام. وجاء في آيات الإخبار عن أهل الجنة بأنهم يحمدون الله وعن أهل النار بأنهم يلومون أنفسهم (ومن وجد غير ذلك) أي: شراً ولم يذكره بلفظه تعليماً لنا كيفية الأدب في النطق بالكتابة عما يؤذي، ومثله ما يستقبح ويستحي من ذكره، وإشارة إلى أنه إذا اجتنب لفظه فكيف الوقوع فيه، وإلى أنه تعالى حيّ كريم يحبّ الستر ويغفر الذنب فلا يعاجل بالعقوبة ولا يهتك الستر (فلا يلومن إلا نفسه) فإنها آثرت شهواتها ومستلذاتها على رضا مولاها: فاستحقت أن يعاملها بمظهر عدله، وأن يحرمها مزايا جوده وفضله، نسأل الله العافية من ذلك، وأن يمن علينا بالسلامة من خوض غمرة هذه المهالك، إلى أن نلقاه آمنين، مبشرين بقربه ورضاه آمين. ووجه ختم الحديث بهذه الجملة التنبيه على أن عدم الاستقلال بالإطعام والستر لا يناقض التكليف بالفعل تارة وبالترك أخرى، لأنا وإن علمنا أن لا نستقل لكننا نحس بالوجدان للفرق بين الحركة الاضطرارية كحركة المرتعش والاختيارية كحركة التسليم، فهذه التفرقة راجعة إلى ممكن محسوس مشاهد وأمر معتاد يوجد مع الاختيار دون الاضطرار، وهذا هو مورد التكليف المعبر عنه بالكسب فلا تناقض ولا تعسف. والحاصل أن المعاصي التي ترتب عليها العقاب وإن كانت بقدر الله وخذلانه فهي بكسب العبد فليلم نفسه لتفريطه بالكسب القبيح (قال سعيد) بن عبد العزيز (كان أبو إدريس إذا حدث بهذا الحديث جثا) بالمثلثة بعد الجيم، أي: جلس (على ركبتيه) تعظيماً له وإجلالاً (رواه مسلم) وهو حديث عظيم رباني مشتمل على قواعد عظيمة في أصول الدين وفروعه وآدابه ولطيف الغيوب وغيرها، وقد ختم به المصنف أذكاره وبينت في «شرحه» حكمة ذلك، وقد أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد والترمذي، وقد بسطت الكلام ثمة على بيان

12 ـــ باب الحث بالمثلثة: أي: الحض (على الازدياد)

مخرّجيه واختلافهم في رواياتهم بما فيه بسط وطول (وروينا عن الإمام أحمد ابن حنبل قال: ليس لأهل الشام حديث أشرف من هذا الحديث) . قال السخاوي في «تخريج الأربعين» الحديث التي جمعها المصنف، وكذا قال أبو مسهر نفسه فيما حدث أبو الحسن على ابن إسحاق البحري المادراني عن أبي بكر محمدبن إسحاق الصغاني: شيخ مسلم فيه عنه. 12 - باب الحث بالمثلثة: أي: الحض (على الازدياد) افتعال من الزيادة وأبدلت المثناة الفوقية دالاً لوقوعها بعد الزاي (من الخير) أي: الطاعات والبر الموصلة إلى مرضاة الله عزّ وجل (في أواخر العمر) لأنه أوان الختام وبحسنه تحصل ثمرات الطاعات وبركات الحسنات. (قال الله تعالى: {أو لم نعمركم} ) هو استفهام توبيخ وتقرير ( {ما يتذكر فيه من تذكر} ) ما موصولة: أي: المدة التي يتذكر فيها المتذكر، ويجوز أن تكون نكرة موصوفة: أي: تعميراً أو زمناً يتذكر فيه من تذكر ( {وجاءكم النذير} ) . قال البيضاوي: عطف على معنى «أو لم نعمركم» فإنه للتقرير كأنه قيل: عمرناكم وجاءكم النذير. (قال ابن عباس والمحققون) من المفسرين (معناه أو لم نعمركم ستين سنة، ويؤيده الحديث الذي سنذكره) أول أحاديث الباب (إن شاء الله تعالى) وعند ابن أبي حاتم عن عطاء مرفوعاً «إذا كان يوم القيامة قيل: أين أبناء الستين، وهو العمر الذي قال الله تعالى فيه: أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر» وكذا

رواه ابن جرير والطبراني من طرق بعضها ضعيف كذا في أخبار الأعمال لابن فهد (وقيل: معناه) أو لم نعمركم (ثماني عشرة سنة) قال ابن الجوزي في «زاد المسير» ، قاله عطاء ووهب ابن منبه وأبو العالية وقتادة اهـ. قال قتادة: طول العمر حجة، فنعوذ با أن نغترّ بطول العمر قد نزلت هذه الآية: وإن فيم لابن ثماني عشرة سنة (وقيل: أربعين سنة قاله الحسن) أي: البصري ومحمدبن السائي (والكلبي ومسروق) بن سعيد، سمي بذلك لأنه سرق في صغره (ونقل) ذلك (عن ابن عباس أيضاً) أخرجه ابن جرير عن مجاهد عنه قال: العمر الذي أعذر الله إلى ابن آدم أربعون سنة، واختاره ابن جرير ونقله غيره، وكأنه أخذه من قوله تعالى: {حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة} (الأحقاف: 15) (ونقلوا أن أهل المدينة كانوا إذا بلغ أحدهم أربعين سنة) تخلى عن العلائق والعوائق، و (تفرّغ للعبادة) وإلى هذا المعنى رمز بعضهم بقوله: إذا العشرون من شعبان ولت فواصل شرب ليلك بالنهار ولا تشرب بأقداح صغار فقد ضاق الزمان عن الصغار قال القرطبي في «التفسير» : قال ابن مالك: أدركت أهل العلم ببلدنا وهم يطلبون الدنيا والعلم ويخالطون الناس حتى إذا بلغوا أربعين سنة تركوا المخالطة واشتغلوا بالعبادة حتى يأتيهم الموت (وقيل: هو البلوغ) أي: سنه. وهذا القول نقله البغوي والخازن في «التفسير» ولم يعينا قائله، وسنه عند إمامنا الشافعي خمس عشرة سنة وعند الإمام أبي حنيفة ثماني عشرة سنة. أما الاحتلام وإمكانه فهو بعد استكمال التسع، ويمكن حمل كلام المصنف عليه لو قيل به. (وقوله تعالى) : {وجاءكم النذير} . (قال ابن عباس والجمهور) أي: جمهور العلماء ومنهم زيدبن علي وابن زيد، حكاه عنهما القرطبي ومنهم السريّ وهو الصحيح عن قتادة فيما رواه شيبان عنه أنه قال: احتج عليهم بالعمر والرسل وهو اختيار ابن جرير وهو

الأظهر فقال هؤلاء: النذير «هو النبيّ» قال القرطبي: لأن الله تعالى بعثه بشيراً ونذيراً إلى عباده قطعاً لحجتهم، قال: لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل (وقيل) : هو (الشيب قاله) ابن عباس و (عكرمة و) سفيان (بن عيينة وغيرهما) كوكيع والحسينبن الفضل والفراء والطبري ذكره القرطبي. قلت: واقتصر عليه البخاري في كتاب الرقاق من «صحيحه» ، قال: والشيب نذير لأنه يأتي في سنّ الاكتهال، وهو علامة لمفارقة سن الصبا الذي هو سن اللهو واللعب، قال: رأيت الشيب من نذر المنايا لصاحبه، وحسبك من نذير 112 - (والله أعلم) (وأما الأحاديث) النبوية. (فـ) الحديث (الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ قال: أعذر الله إلى امرىء) أي: شخص (أخر) بتشديد المعجمة (أجله حتى بلغ ستين سنة. رواه البخاري. قال العلماء: معناه) أزال عذره فـ (لم يترك له عذراً) يعتذر به في ترك صالح الأعمال (إذ أمهله هذه المدة) فالهمزة للسلب (يقال) في كلام العرب (أعذر الرجل) بالرفع (إذا بلغ الغاية في العذر) . قال الحافظ العسقلاني: الأعذار إزالة العذر، والمعنى: أنه لم يبق له اعتذار كأن يقول: لو مدّ لي في الأجل لفعلت ما أمرت به، وإذا لم يكن له عذر في ترك الطاعة مع تمكنه منها بالعمر الذي حصل له فلا ينبغي له حينئذٍ إلا الاستغفار والطاعة والإقبال على الآخرة بالكلية ونسبة الإعذار إلى الله تعالى مجازية، والمعنى: أن الله لم يترك للعبد سبباً للاعتذار يتمسك به. والحاصل أنه تعالى لا يعاقب إلا بعد حجة. وقال التوربشتي: ومنه قولهم: أعذر من أنذر: أي: أتى بالعذر وأظهره وهذا مجاز من القول، فإن العذر لا يتوجه

على الله وإنما يتوجه له على عبيده، وحقيقة المعنى فيه أن الله تعالى لم يترك للعبد شيئاً في الاعتذار يتمسك به اهـ. 113 - (الثاني: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان عمر رضي الله عنه يدخلني مع أشياخ بدر) أحد جموع شيخ، وقد ذكرتها في أول هذا الشرح، والمراد منه ذوو الأسنان من الصحابة البدريين وهم من أفاضل الصحابة وأكارمهم: أي: يدخله معهم في المشورة والمهمات وإدخاله معهم مع كبر سنهم لكبر قدره بما عنده من العلوم والمعارف، وقد كان يسمى البحر لسعة علمه (فكأن) بتشديد النون (بعضهم) قال ابن النحوي: هو عبد الرحمنبن عوف كما صرح به البخاري في موضع آخر (وجد) غضب (في نفسه) من ذلك (فقال) له (لم) بتحريك الميم وهي ما الاستفهامية حذفت ألفها لأنها جرت وحقها أن ترسم بهاء السكت بعد الميم لأنها يوقف عليها كذلك (تدخل) بضم الفوقية وكسر الخاء المعجمة، وفي نسخة «يدخل» بفتح التحتية وضم المعجمة (هذا معنا، ولنا أبناء مثله) في السن، ويحتمل أن يكون في لقيّ النبي أيضاً بالنسبة لبعضهم (فقال عمر: إنه من حيث علمتم) أي: من بيت النبوّة ومنبح العلوم ومصدر الآراء السديدة، ثم أراد زيادة بيان لشرفه بكثرة علمه المقتضي لتقدمه (فدعاني ذات يوم فأدخلني معهم، فما رأيت) علمت بقرائن الأحوال، وفي أصل متعمد من «صحيح البخاري» «فما أريته» بصيغة المجهول واتصل الضمير به أي ظننته (أنه دعاني يومئذٍ إلا ليريهم) بضم التحتية الأولى: أي: يعلمهم (مني) ما أستحق به الإدخال مع الشيوخ البدريين، زاد في رواية ابن سعد «فقال: أما إني سأريكم اليوم منه ما تعرفون به فضله» (فقال: ما تقولون في قوله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح} (النصر: 1) ، فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد ا) بفتح النون والميم (ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا) جعل هذا القائل

الخطاب بالسورة شاملاً لجميع الأمة (وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً، فقال لي) عمر (أكذلك) أي: كما يقول هؤلاء مما ذكر (تقول يابن عباس؟ فقلت لا) أي: لا أقول ذلك (قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمه الله له) أي: للنبيّ: أي: إن المراد من السورة تنبيهه على ما يعرف به قرب أجله وعلى ما يأتي به حينئذٍ (قال تعالى: {إذا جاء نصر ا} ) نبيه على أعدائه ( {والفتح} ) فتح مكة، وقيل: المراد جنس نصر الله المؤمنين وفتح مكة وسائر البلاد عليهم ( {ورأيت} ) أي: أبصرت ( {الناس يدخلون في دين ا} ) أي: الإسلام ( {أفواجا} ) جماعات بعد ما كان يدخل فيه واحد بعد واحد وذلك بعد فتح مكة (وذلك) أي: النصر وما بعده (علامة) قرب انتهاء (أجلك) . قال البيضاوي في «التفسير» : لعل ذلك لدلالتها على تمام الدعوة وكمال أمر الدين، فهي كقوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} (المائدة: 3) أو لأن الأمر بالاستغفار ينبه على دنوّ الأجل: أي: لأنه يكون في خواتم الأمور، ولذا كان يستغفر بعد صلاته، وإذا خرج من الخلاء وإذا أفاض ولذا سميت سورة التوديع. والأكثر على أن هذه السورة نزلت قبل فتح مكة وأنه نعي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - اهـ. قال أبو حيان في «النهر» : قيل: نزلت في أيام التشريق بمنى في حجة الوداع فعاش بعدها ثمانين يوماً. وفي «شرح البخاري» لابن النحوي بعد نقله عنبن التين أنها لعلها نزلت جميعاً، أي: كاملة منصرفه من حنين، قاله الواحدي، قال: وعاش بعد نزولها سنتين، قال: وهو غريب كأنه تصحيف، والذي رواه غيره ستين يوماً. قال في «فتح الباري» : وسئلت عن قول «الكشاف» : إن سورة النصر نزلت في حجة الوداع أيام التشريق فكيف صدرت بإذا الدالة على الاستقبال؟ فأجبت بتضعيف ما نقله، وعلى تقديم صحته فالشرط لم يكمل بالفتح، لأن مجيء الناس أفواجاً لم يكن كمل فبقية الشرط مستقبل. قال: وقد أجاب الطيبي عن هذا السؤال بجوابين: أن إذا بمعنى إذ، وبأن كلام الله تعالى قديم. قال الحافظ: وفي كل

من الجوابين نظر اهـ. قال الإيجي: وقيل: إن فتح مكة أم الفتوح والدستور لما يكرون بعده من الفتوحات فهو وإن كان متحققاً في نفسه لكنه مترقب باعتبار ما يدل عليه (فسبح بحمد ربك) أي: متلبساً (واستغفره إنه كان توّاباً) على العباد، وكان بعد نزول هذه السورة يكثر من قوله: «سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي» وفي رواية «أستغفرك وأتوب إليك» كما يأتي في الحديث عقبه (فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول. رواه البخاري) والترمذي، أي: فأشار إلى أن سبب تقديمه له على إخوانه وأقرانه هو سعة علمه وكمال فهمه، وأن التقدم بالمعنى المقتضي له وإن صغر السن: ما أحسن ما قيل: فكم من صغير لاحظته عناية من الله فاحتاجت إليه الأكابر 114 - (الثالث، عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة بعد أن نزلت) بالبناء للفاعل، وفي نسخة أنزلت بزيادة الهمزة أوله مبنياً للمفعول (عليه سورة إذا جاء نصر الله والفتح) وتسمى سورة النصر (إلا يقول فيها) أي: في ركوعها وسجودها كما يأتي في الحديث بعده (سبحانك) أي: تنزيهاً لك عما لا يليق بك من كل نقص، وسبحان منصوب على أنه واقع موقع المصدر بفعل محذوف تقديره: سبحت سبحانك، ولا يستعمل إلا مضافاً وهو مضاف إلى المفعول: أي: سبحتك، ويجوز أن يكون مضافاً للفاعل: أي: نزهت نفسك كما تقدم (اللهم) يا أ (وبحمدك) الواو للحال ومتعلق الظرف محذوف: أي: متلبساً بحمدك من أجل توفيقك لي، وقيل: عاطفة لجملة على جملة: أي: أنزهك وأتلبس بحمدك، وقيل: زائدة: أي: أسبحك مع ملابسة حمدك: وقدم التسبيح على التحميد لأنه تنزيه عن النقائص، والحمد ثناء بصفات الكمال، والتخلية مقدمة على التحلية (اللهم اغفر لي) أي: ما هو نقص بالنظر إلى عليّ مقامي وإن لم يكن ذنباً في نفس الأمر، إذ الأنبياء

معصومون من الذنب مطلقاً كما تقدم، وتقدم وجه آخر في بيان المطلوب غفرانه (متفق عليه. وفي رواية في «الصحيحين» عنها) أيضاً (كان رسول الله) الأصح كما نقله المصنف في «شرح مسلم» عن المحققين والأكثرين من الأصوليين أنّ «كان» في مثل هذا المقام لا تفيد التكرار. وقال ابن الحاجب: تفيده وكذا ابن دقيق العيد لكن قال عرفاً وهو واضح (يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا) أي: يا ربنا، أو بدل من قوله اللهم، لا وصف له، لأن الميم تمنع منه عند سيبويه (وبحمدك اللهم اغفر لي) وتقدم وجه عدم أخذ الفقهاء بقضية هذا الحديث حيث قالوا: إنه يقول في الركوع: سبحان ربي العظيم، وفي السجود: سبحان ربي الأعلى، دون ما ذكر في هذا الحديث من أن ما ذكروه هو ما واظب عليه طول عمره وغيره مما ضمه إليه تارة واقتصر عليه أخرى، كان في بعض الأوقات (يتأول) بفتح التحتية والفوقية والهمزة وتشديد الواو (القرآن، معنى) قولها (يتأول القرآن أي) أي: هذه تفسيرية وما بعدها عطف بيان لما قبلها أو بدل منه فلا يظهر موقعها فإن قوله: (يعمل ما أمر به في القرآن في قوله: فسبح بحمد ربك واستغفره) خبر عن «معنى» لا بدل من قولها يتأول القرآن، إلا أن يخص كون ما بعدها عطف بيان أو بدلاً بما إذا كان مفرداً كما أشرت إليه في شرح نظمي قواعد الإعراب، وقوله: «في قوله الخ» بدل بعض من كل. وقال الحافظ العسقلاني: معنى يتأول القرآن يخص عمومه ببعض الأحوال. (وفي رواية لمسلم عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول قبل أن يموت) أي: بعد نزول هذه السورة (سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك) هذا من مزيد خضوعه لربه وانطراحه بين يديه ورؤية التقصير في أداء مقام العبودية وحق الربوبية مما هو ذنب بالنظر إلى عليّ مقامه ورفعة مرتبته. وهذا الحديث والذي بعده فيه إبقاء الأمر في الآية على التعميم وعدم التأول بالتخصيص السابق، وهو لا يخالفه للإكثار منه في الصلاة وخارجها. وفي جمعه بين الاستغفار والتوبة احتياط، لأن الاستغفار محتمل لكل من لمعنيين، ويقرب حمله على

التوبة قوله: {إنه كان توّاباً} (النصر: 3) وفيه دليل لمن قال بجواز حمل اللفظ على معنييه دفعة واحدة (قالت عائشة: قلت يا رسول الله ما هذه الكلمات التي أراك حد تقولها؟) في محل الحال من مفعول أحدثتها (قال جعلت) بالبناء للمفعول (لي علامة في أمتي فإذا رأيتها) بصرتها أو عرفتها (قلتها) والعلامة المذكورة هي (إذا جاء نصر الله والفتح لي آخر السورة) ويحتمل أن قوله: «إذا جاء نصر الله الخ» في محل رفع تابع لعلامة على أنه عطف بيان أو بدل، ويجري هذان الوجهان في نظيره الآتي (وفي رواية له) أي: لمسلم (عنها) وروا أبو نعيم في «مستخرجه» إلا أنه قال: سبحان ربي، وليس فيه وأتوب إليه (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر من قول: سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه، قالت: قلت يا رسول الله أراك) أي: أبصرك حال كونك (تكثر من قولك سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه، فقال: أخبرني ربي أني سأرى علامة في أمتي فإذا رأيتها أكثرت) بضم التاء فيهما (من قول سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه) أي: وإكثار ذلك عند رؤيا العلامة إما باعتبار عظم النعمة المرتب عليها ذلك المقتضى للتكثير زيادة في العظم، أو باعتبار صيغة التفعيل في سبح وهي للكثرة واستحبّ ذلك فيما عطف عليه لاقترانه به ولقوله: {إنه كان توابا} المعلل به طلب الاستغفار (فقد رأيتها) ثم بين العلامة بقوله: ( {إذا جاء نصر الله والفتح} فتح مكة {ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره

إنه كان توّابا} ) . 115 - (الرابع: عن أنس رضي الله عنه قال: إن الله عزّ) غلب فلا يغالب على مراده (وجل) عما لا يليق بشأنه (تابع الوحي على رسول الله) فيه الإظهار في مقام الإضمار إشارة إلى كمال التشريف له وتبركاً بذكر اسمه تعالى وتلذذاً به (قبيل) بالتصغير (وفاته) وذلك لتكمل الشريعة ولا يبقى مما يوحي إليه به شيء (حتى) غاية للمبالغة (توفي) بالبناء للمجهول (أكثر ما كان الوحي) أي: وقت أكثريته ولما تكامل ما أريد إنزاله للعالم مما به انتظام معاشهم ومعادهم قال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} (المائدة: 3) فتوفي بعده بأشهر (متفق عليه) . 116 - (الخامس: عن جابر) بن عبد الله (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: يبعث) بالبناء للمفعول (كل عبد) والمراد منه المكلف ولو حراً وامرأة كما تقدم (على ما مات عليه) حتى يبعث صاحب المزمار ومزماره في يده، ففيه تحريض للإنسان على حسن العمل وملازمة السنن المحمدي في سائر الأحوال والإخلاص تعالى في الأقوال والأعمال، ليموت على تلك الحالة الحميدة فيبعث كذلك. وفي ختم المصنف هذا الباب بهذا الحديث كمال الحسن، فإنه محرّض على تحسين العمل والازدياد من الطاعات في سائر الأوقات لاحتمالها

13 ـــ باب في بيان كثرة طرق الخير

للموت، وفي أواخر العمر وسنّ الكبر وحال المرض أولى، فالحديث المذكور واسطة العقد وختامه مسك (رواه مسلم) ورواه ابن ماجه. 13 - باب في بيان كثرة طرق الخير وتنويعها ليدوم نشاط السالك وجده في المعاملات، فإذا ملَّ من عمل اشتغل بغيره فأنفق أوقاته في مرضاة مولاه. (قال الله تعالى: {وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم} (البقرة: 215) وقال تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره} ) (الزلزلة: 7) تقدم الكلام فيهما في باب المجاهدة. (وقال تعالى: {من عمل صالحاً} ) وجه دلالة الآيات على كثرة أعمال البرّ أن في كل منها نكرة في سياق الشرط وهي كذلك للعموم. والأصح أن العموم في قوة قضايا كلية تعددت بتعدد أفرادها ( {فلنفسه} ) أي: فنفع عمله لها (والآيات) القرآنية (في الباب) أي: باب تعدد طرق الخير (كثيرة) . (وأما الأحاديث) النبوية في هذا المعنى (فكثيرة جداً) بالكسر: أي: بلغت النهاية في الكثرة، وأكد ذلك بقوله: (وهي غير منحصرة) مبالغة في الكثرة، وهذا فيه تجوّز كما لا يخفي (فنذكر طرفاً منها) أي: جانباً. 117 - الحديث الأول: (عن أبي ذر جندببن جنادة رضي الله عنه قال: قلت يا

رسول الله أي الأعمال أفضل؟) أي: أكثر ثواباً عند الله تعالى (قال: الإيمان با) إذ جزاؤه الخلود في الجنان ورضا الرحمن ولا شيء فوق ذلك (والجهاد في سبيله) لإعلاء كلمته. قال تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} (التوبة: 111) (فقلت: أيّ الرقاب أفضل؟) أي: أكثر ثواباً لمن أعتقها (قال: أنفسها) بفتح الفاء: من النفاسة (عند أهلها) أي: أرفعها وأجودها، يقال مال نفيس: أي: مرغوب فيه (وأكثرها ثمناً) عندهم لأن ذلك أحبّ إليهم وقد قال تعالى: {لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون} (آل عمران: 92) قال المصنف: وهذا إذا أراد أن يعتق رقبة، أما لو كان معه ألف درهم وأمكنه أن يشتري بها رقبتين مفضولتين ورقبة نفيسة مثمنة قال: فتنتان أفضل، وهذا بخلاف الأضحية فإن التضحية بسمينة أفضل منها بشاتين دونها في السمن، لأن القصد من الأضحية اللحم ولحم السمين أوفر، ومن العتق تكميل حال الشخص وتخليصه من الرق، فتخليص جماعة أفضل من تخليص واحد اهـ ملخصاً. وقال الحافظ في «الفتح» : الذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، قرب شخص واحد إذا عتق انتفع بالعتق وانتفع به أضعاف ما يحصل من النفع بعتق أكثر عدداً منه، وربّ محتاج إلى كثرة اللحم لتفرقته على المحاويج الذين ينتفعون به أكثر مما ينتفع هو بطيب اللحم. والضابط أنه مهما كان أكثر نفعاً كان أفضل سواء قلّ أو كثر اهـ. (قلت: فإن لم أفعل) أي: ما ذكر من الجهاد والعتق لا الإيمان لأنه شرط لنيل الثواب في الآخرة على صالح الأعمال: أي: فإن لم أقدر على ذلك فأطلق الفعل وأراد القدرة. وللدارقطني في «الغرائب» بلفظ «فإن لم أستطع» (قال: تعين صانعاً) بتنزيل المضارع منزلة المصدر أو بتقدير أن قبل الفعل: أي: فالأفضل إعانة صانع، فهو كقوله: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه (أو تصنع) أي: صنعك (لأخرق) بالمعجمة فالراء فالقاف. قال المصنف في «شرح مسلم» : هو الذي ليس بصانع يقال رجل أخرق وامرأة خرقاء، فإن كان صانعاً حاذقاً قيل: رجل صنع بفتح الصاد والنون، وامرأة صناع بفتح الصاد (قلت: يا رسول الله

أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟) المذكور من الإعانة والصنع أو مطلق العمل المأمور بالتعبد به: أي: أخبر إن عجزت عن فعل ذلك فما الطريق الموصل إلى تزايد الثواب على شيء مما أقدر عليه؟ (قال: تكفّ شرك عن الناس) قاصداً سلامة الناس من ذلك لامتثال أمر الله تعالى بذلك، وهذا شرط في حصول الأجر هنا (فإنها) أي: الخصلة أو الكفّ، وأنث الضمير نظراً لتأنيث الخبر (صدقة منك على نفسك. متفق عليه) وهذا لفظ مسلم ولفظ البخاري «قال: فقلت فأيّ الرقاب أفضل؟ قال: أغلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها» الحديث، وأعلاها بالمهملة عند الأكثر وبالمعجمة عند آخرين، ولفظ البخاري بدل قوله: «أرأيت إن ضعفت عن العمل إلخ» فإن لم أفعل، قال: تدع الناس من الشرّ فإنها صدقة تتصدق بها على نفسك» (الصانع) في قوله: تعين صانعاً (بالصاد المهملة) وبالنون بعد الألف (هذا) الضبط (هو) الصحيح عند العلماء كما في «شرح مسلم» (المشهور) أي: بينهم في الضبط لصحته وإلا فالأكثر على أنه بالمعجمة كما ذكره في «شرح مسلم» أيضاً؛ وأشار إليه هنا بقوله: (وورد ضائعاً بالمعجمة) والهمزة بعد الألف (أي ذا) أي: صاحب (ضياع) بكسر الضاد من الضيعة: الفقر والحاجة (من) تعليلية (فقر أو عيال أو نحو ذلك) وهذا تفسير له على الرواية الثانية. قال القاضي عياض: روايتنا في هذا من طريق هشام أولاً بالمعجمة تعين ضائعاً من جميع طرقنا عن مسلم في حديث هشام والزهري إلا من رواية أبي الفتح السمرقندي عن عبد الغافر الفارسي فإن شيخنا أبا بحر حدثنا عنه بالمهملة وهو صواب الكلام لمقابلته بالأخرق وإن كان المعنى من جهة معونة الضائع أيضاً صحيحاً لكن صحت الرواية هنا عن هشام بالصاد المهملة، وكذا رويناه في «صحيح البخاري» .j قال ابن المديني: الزهري يقول الصانع بالمهملة، ويرى أن هشاماً صحف في قوله ضائعاً بالمعجمة. وقال الدارقطني عن معمر: كان الزهري يقول صحف هشام، قال الدارقطني وكذلك رواه أصحاب هشام عنه بالمعجمة وهو تصحيف، والصواب ما قاله الزهري، هذا كلام القاضي عياض. وقال الشيخ أبو عمروبن الصلاح: قوله: في رواية هشام تعين صانعاً هو بالمهملة والنون في أصل الحافظين: أبي عامر العبدري، وأبي القاسمبن عساكر، قال: وهذا هو الصحيح في نفس الأمر، ولكنه ليس رواية هشامبن عروة، وإنما روايته بالمعجمة، وكذا

جاء مقيداً من غير هذا الوجه في كتاب مسلم ونسب الزهري هشاماً إلى التصحيف كما تقدم اهـ ما ذكره المصنف في «شرح مسلم» ملخصاً. وقال الحافظبن حجر في «الفتح» : هو عند جميع رواة البخاري بالضاد المعجمة وبعد الألف تحتية كما جزم به عياض وغيره، وكذا هو في رواية مسلم إلا في رواية السمرقندي كما قاله عياض أيضاً، وجزم الدارقطني وغيره بأن هشاماً رواه هكذا دون من رواه عن أبيه. فإذا تقرّر هذا فقد خبط من قال من شراح البخاري إنه بالصاد المهملة والنون، فإن هذه الرواية لم تقع في شيء من طرقه. وروى الدارقطني من طريق معمر عن هشام هذا الحديث بالضاد المعجمة. قال معمر: كان الزهري يقول: صحف هشام وإنما هو بالصاد المهملة والنون. قال الدارقطني: وهو الصواب لمقابلته بالأخرق وهو الذي ليس بعامل ولا يحسن العمل. وقال عليبن المديني: يقولون إن هشاماً صحف فيه ورواية معمر عن الزهري عند مسلم كما تقدم، وهي بالمهملة والنون، وعكس السمرقندي فيها أيضاً كما نقله عياض، وقد وجهت رواية هشام بأن المراد بالضائع ذو الضياع من فقر أو عيال فترجع إلى معنى الأول اهـ. (والأخرض الذي لا يتقن ما يحاول فعله) هو بمعنى ما تقدم عن «شرح مسلم» لأن من لا يتقن الصنعة ليس بصانع. 118 - (الثاني: عن أبي ذرّ أيضاً أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يصبح على كل سلامى) أي: كل عظم ومفصل (من أحدكم) إذا أصبح سليماً من الآفات باقياً على الهيئة التي تتم بها منافعه وأفعاله (صدقة) عظيمة شكراً تعالى على عظيم منته، على أن الصدقة تدفع البلاء، فبوجودها عن أعضائه يرجى دوام اندفاع البلاء عنها، و «على» في الخبر لتأكيد الندب وهو مراد من عبر بالوجوب في قوله: التقدير تصبح الصدقة واجبة على كل سلامى، إذ كل من الصدقات وما ناب عنها من صلاة الضحى ليس واجباً حقيقة: أي: يأثم بتركه (فكل تسبيحة

صدقة) الفاء فيه تفصيلية لإجمال الصدقة قبله، وبه استغنى عن تعداد المفاصل بناء على أنها المراد من السلامى كما يأتي. وأيد بأنه روى أحمد وأبو داود عن بريدة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «في الإنسان ثلاثمائة وستون مفصلاً، فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منه صدقة، قال: ومن يطيق ذلك يا نبي ا؟ قال: النخاعة في المسجد تدفنها صدقة، والشيء تنحيه عن الطريق صدقة، فإن لم تجد فركعتا الضحى تجزيك» وروى مسلم نحوه عن عائشة رضي الله عنها الحديث الآتي بعد هذا (كل تحميدة) أي: ثناء على الله تعالى بأوصافه العلية نحو الحمد (صدقة، وكل تهليلة) أي: قول: لا إله إلا الله (صدقة، وكل تكبيرة) أي: قول الله أكبر (صدقة، وأمر) بالجر عطف على مدخول كل (بالمعروف) ما أمر به الشرع (صدقة، ونهي عن منكر) وهو ما أنكره الشرع (صدقة) وحكمة إسقاط كل قبل أمر ونهي مع أنهما نوعان غير ما قبلهما: الإشارة إلى ندرة وقوعهما بالنسبة إلى ما قبلهما لاسيما المعتزل عن الناس، ويصح رفع أمر ونهي عطفاً على كل وخبرهما معطوف على خبرها وحينئذٍ فيكون من عطف معمولين على معمول عاملين مختلفين، أو كل منهما مبتدأ خبره ما بعده والواو لعطف الجمل أو استئنافية، لأن هذا نوع غير ما قبله، إذ هو فيما تعدى نفعه وما قبله نفعه قاصر وسوّغ الابتداء به مع نكارته تخصيصه بالعمل في الظرف بعده، ونكر إيذاناً بأن كل فرد من أفرادهما صدقة، ولو عرفا لاحتمل أن المراد الجنس أو فرد معهود فلا يفيد النص على ذلك، ثم سكت في الحديث عن التعرّض للصدقة الحقيقية أي إخراج المال تقرّبا إلى الله تعالى لوضوحها، بخلاف ما ذكر في الخبر فإن في تسميته صدقة وإجزائه عن الصدقة الحقيقية المتبادر إرادتها من ظاهر الخبر خفاء، وسيأتي أن هذا الإطلاق مجازي، وبيان علاقة المجاز في حديث أبي ذرّ المذكور بعد في الباب، وليس المراد حضر أنواع الصدقة بالمعنى الأعم فيما ذكر في الخبر بل التنبيه على ما بقي منها، ويجمعها كل ما فيه نوع نفع للنفس أو غيرها (ويجزىء) قال العراقي في «شرح التقريب» : يجوز فتح أوله بغير همز آخره وضمه مع همزه، فالفتح من جزى يجزي أي كفى، والضم من الإجزاء وبهما ضبط في هذا الحديث اهـ. (من ذلك) أي: عما ذكر أو بدله (ركعتان يركعهما من) صلاة

(الضحى) وظاهر الخبر إجزاؤهما عما ذكر قبله وإن تمكن منه، لكن في خبر عند أبي داود تقييد الإجزاء عن ذلك بعدم الوجدان. وجمع بأن ما في خبر أبي داود محمول على الحال الأكمل والعمل الأفضل، إذ لا يبعد أن يكون الإتيان بثلثمائة وستين صدقة أفضل من ركعتي الضحى وإن كانت الصلاة أفضل الأعمال وما في خبر الباب بالنسبة لأصل الاكتفاء؛ وظاهر أن الذي تقوم ركعتا الضحى مقامه من الأمر بالمعروف وقرينه إنما هو المندوب كأن قام بالفرض منه غير وكان في كلامه تأكيد لذلك الأمر وتقوية له، وأما الواجب فلا تقوم الركعتان مقامه ولا ترفعان عنه إثم الترك. وفي الحديث عظم فضل صلاة الضحى لتحصيلها هذا الثواب الجزيل وقيامها مقام هذه الأفعال، فينبغي المداومة عليها، وكان سبب قيامها مقام ذلك لاشتمال الركعتين على جميع ما تقدم حتى الأخيرين إذ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولا منع من تخصيص ذلك بصلاة الضحى دون نحو ركعتي الفجر على ما قاله الوليّ العراقي، وإن كان المعنى المذكور موجوداً فيهما لأن للشارع نظراً خاصاً في الأعمال باعتبار أوقاتها وأمكنتها، ولعل من جملة وجوه اختصاصها بذلك بمحضها للشكر بخلاف نحو الرواتب فإنها لجبر نقص الفرائض فلم يتمحض فيها القيام بالشكر على تلك النعم الباهرة (رواه مسلم) وأخرجه أبو داود والنسائي وأبو عوانة وابن خزيمة وابن حبان (السلامى بضم السين المهملة وتخفيف اللام وفتح الميم) في «النهاية» أنها جمع سلامية: وهي الأنملة من أنامل المفصل، وقيل: جمعه ومفرده واحد ويجمع على سلاميات اهـ (المفصل) بكسر أوله وفتح ثالثه المهمل، وتفسيرها بالمفصل لوروده في محل السلامى، والمراد بها العضو وعليه اقتصر في «الأذكار» . وفي «النهاية» : قيل: هي التي بين كل مفصلين من أصابع الإنسان، وقيل: كل عضو مجوّف من عظام الإنسان، وقيل: إن آخر ما يبقى فيه المخ من البعير إذا عجف السلامى والعين، وقيل: غير ذلك. وظاهر أن ما ذكر في بيان معناه لغة، وإلا فالمراد منه هنا كما قال المصنف في «شرح مسلم» سائر عظام البدن ومفاصله، وكذا قال العراقي وأيده بخبر مسلم «خلق الإنسان على ستين وثلاثمائة مفصل، ففي كل مفصل صدقة» وسيأتي فيه زيادة في باب الإصلاح بين الناس. 119 - (الثالث: عنه رضي الله عنه قال: قال النبيّ: عرضت) بالبناء للمفعول (عليّ) بتشديد الياء

(أعمال أمتي حسنها وسيئها) بدل مما قبله بدل مفصل من مجمل (فوجدت) أي: رأيت (في محاسن أعمالها الأذى) كالحجر والشوك (يماط) بالبناء للمفعول: أي: ينحى (عن الطريق) لئلا يؤذي المارة، ففيه التنبيه على فضل كل ما نفع الناس أو أزال عنهم ضرراً (ووجدت في مساويء) بفتح الميم: أي: سيئات (أعمالها) السيئة، فهو من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف (النخاعة) قال في «مختصر النهاية» : وهي البزقة التي تخرج من أصل الفم مما يلي النخاع؛ والنخامة: البزقة التي تخرج من أقصى الحلق من مخرج الخاء المعجمة اهـ. (تكون في المسجد) في محل الصفة أو الحال لأن أل في النخاعة للماهية (فلا تزال) بدفن أو كشط، قال المصنف: ظاهره أن الذمّ لا يختص بصاحب النخاعة وإن كان إثمه أكثر بل يدخل فيه هو وكل من رآها ولا يزيلها. فائدة: قال ابن رسلان: سمعت من بعض المشايخ أنه ينبغي لمن أزال قذاة أو أذى عن طريق المسلمين أن يقول عند أخذه لإزالتها: لا إله إلاالله، ليجمع بين أدنى شعب الإيمان وأعلاها وهي كلمة التوحيد، وبين الأفعال والأقوال، وإذا اجتمع القلب مع اللسان كان ذلك أكمل (رواه مسلم) في «الجامع الصغير» بعد إيراده كذلك إلا أنه قال: «ورأيت في سيء أعمالها النخاعة في المسجد فلم تدفن» رواه أحمد ومسلم وابن ماجه. 120 - (الرابع عنه: أن أناساً) هذا أصل ناس وتحذف همزته ويعوض عنها أل ولذا لا يجمع بينهما وهو اسم جمع كرجال، إذ لم يثبت فعال في أبنية الجمع، مأخوذ من أنس كعلم لأنهم يأنسون بأمثالهم، أو أنس كضرب لأنهم ظاهرون مبصرون. واختار صاحب «القاموس» أن لفظ الناس قد يقع على الجن أيضاً ونوزع فيه، وذكر المصنف في «الأربعين» وصف الناس بأنهم من أصحاب النبيّ وسكت عن ذلك هنا لعلمه من السياق، فإن سؤالهم له المتفرّع على اجتماعهم مسلمين به وهو المراد من الصحابي، يدل عليه (قالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور) لكثرة أعمالهم (فإنهم يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم

ويتصدقون بفضول أموالهم) أي: بأموالهم الفاضلة عن كفايتهم وقيدوا بذلك بياناً لفضل الصدقة؛ فإنها بغير الفاضل عن الكفاية لمن لا قدرة له على الصبر إما مكروهة أو محرمة على التفصيل المقرر في محله، وقولهم المذكور غبطة ومنافسة فيما يتنافس فيه المتنافسون من طلب مزيد الخير ومنتهاه لشدة حرصهم على العمل الصالح ورغبتهم فيه، ولما فهم منه ذلك (قال) : لهم جواباً وجبراً لخاطرهم وتقريراً لأنهم ربما ساووا الأغنياء (أو ليس) أي: أتقولون ذلك؟ فالهمزة للإنكار وليس بمعنى لا: أي: لا تقولوه فإنه (قد جعل الله لكم ما تصدقون) بتشديد الصاد والدال كما هو الرواية: أي: ما تتصدقون فأدغمت إحدى التاءين في الصاد وقد تحذف إحداهما فتخفف الصاد (به، إنّ) لكم (بكل تسبيحة) أي: قول «سبحان ا» أي: بسببها كقوله تعالى: {وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون} (الزخرف: 72) (صدقة) ولا تنافي الحديث السابق في باب الاستقامة «لن يدخل أحدكم الجنة بعمله» الحديث لما تقدم فيه، أو لأن الآية في نيل الدرجات فهي بسبب الأعمال وتفاوتها، وذلك الحديث في أصل دخول الجنة فهو لمحض الفضل إذ لا يكافئه عمل، أو أن الإسلام هو المتكفل بدخول الجنة وهو محمل الآية، وبقية الأعمال سبب في نيل درجاتها لا في دخولها وهو محمل الحديث (وكل) بجره وكذا ما بعده عطفاً على ما قبله أو رفعه استئنافاً (تكبيرة) أي: قول «اأكبر» (صدقة) بنصبه كالذي بعده عطفاً على ما قبله ورفعه استئنافاً (وكل تحميدة) أي: قول «الحمد» (صدقة مسوّغ الابتداء مع نكارته وإيثارها على تعريفه (بالمعروف) عرفه إشارة إلى تقرره وثبوته وأنه مألوف (صدقة، ونهي عن منكر) نكره إشارة إلى أنه في حيز العدم والمجهول الذي لا إلف للنفس به: أي: عن المنهي عنه شرعاً بشرطه ككونه مجمعاً على تحريمه أو يعتقده الفاعل (صدقة) وتسمية ما ذكر وما يأتي صدقة مجاز لمشابهتها لها: أي: أن لهذه الأشياء أجراً كأجر الصدقة في الجنس، لأن الجميع صادر عن رضا الله تعالى مكافأة على طاعته إما في القدر أو الصفة، فيتفاوت بتفاوت مقادير

الأعمال وصفاتها وغاياتها وثمراتها. وقيل: معناه: أنها صدقة على نفسه، وتأخير الأمر والنهي عما قبلهما من باب الترقي لوجوبهما عيناً أو كفاية بخلافه. ولا شك أن الواجب بقسميه أفضل من النفل لحديث البخاري السابق «وما تقرّب إليّ عبدي بأفضل من أداء ما افترضته عليه» قيل: في الحديث إيماء إلى أن الصدقة للقادر عليها لتعدي نفعها أفضل من هذه الأذكار، ويؤيده أن العمل المتعدي نفعه أفضل من القاصر غالباً وإلى أن تلك الأذكار إذا حسنت النية فيها ربما يساوي أجرها أجر الصدقة بالمال سيما في حق العاجز عنها (وفي) سببية بمعنى الباء الموحدة كهي في حديث «عذبت امرأة بالنار في هرّة» أي: بسبب هرّة ويحتمل بقاؤها على الظرفية لكن يتجوزّ، كأن البضع لما ترتب عليه الثواب الآتي صار له كالظرف (بضع) بضم الموحدة وسكون الضاد المعجمة آخره عين مهملة: أي: فرج أو جماع (أحدكم) لحليلته (صدقة) إذا قارنته نية صحيحة كإعطاف نفسه أو زوجته عن نحو نظر أو فكر أو همّ محرم، أو قضاء حقها من معاشرتها بالمعروف المأمور به، أو طلب ولد يوحد الله تعالى أو يتكثر به المسلمون، أو يكون له فرطاً إذا مات بصبره على مصيبته، فعلم أن في النية الصالحة ما يصير المباضعة صدقة على المسملين باعتبار ما ينشأ عنها من وجود ولد صالح يحمي بيضة الإسلام أو يقوم ببيان العلوم الشرعية والأحكام. ويستفاد من الحديث أن جميع أنواع فعل الخير والمعروف والإحسان صدقة، ويوافقه خبر مسلم «كل معروف صدقة» وخبر ابن ماجه والبزار «ما من يوم ولا ليلة ولا ساعة إلا فيها صدقة يمنّ بها على من يشاء من عباده، وما منّ الله على عبد مثل أن يلهمه ذكره» (قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟) استبعدواـ نظراً إلى أن الأجر إنما يحصل غالباً في عبادة شاقة على النفس مخالفة لهواهاـ حصوله بفعل هذا المستلذ (قال: أرأيتم) أي: أخبروني (لو وضعها في حرام أكان عليه وزر) أي: إثم، وتقدير الكلام «قالوا نعم» وسكت عنه لظهوره، وجاء في رواية أحمدبن حنبل وأحمدبن منيع وغيرهما لهذا الحديث عن أبي ذرّ التصريح بذلك. قال «قلت: نصيب شهوتنا وتؤجر؟ قال: أرأيت إن وضعته في غير حقه ما كان عليك وزر؟ قال: قلت بلى، قال: فتحتسبون بالشرّ ولا تحتسبون بالخير» قال: (فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) بالرفع وروي بنصبه وهما ظاهران وظاهر الخبر

حصول الأجر بوطء حليلته مطلقاً لكن في خبر عند الإمام أحمد تقييد ذلك بما تقدم من النية الصالحة. وفي الحديث دليل لجواز القياس سيما قياس العكس المذكور فيه وهو إثبات ضد الحكم لضد الأصل كإثبات الوزر المضاد للصدقة للزنى المضاد للوطء المباح: أي: كما يأثم في ارتكاب الحرام ويؤجر في فعل الحلال ومخالفة بعض الأصوليين في قياس العكس ضعيفة وأهل الظاهر في القياس من أصله أو في غير الجلي منه مخالف لما أطبق عليه العلماء كافة من جوازه مطلقاً بشرطه المقرر في الأصول (رواه مسلم) ورواه أحمد وأبو داود والنسائي وأبو عوانة والطبراني والبيهقي وطرقهم مختلفة بينها السخاوي في «تخريج الأربعين» التي جمعها المؤلف، وهو حديث عظيم لاشتماله على قواعد نفيسة من قواعد الدين (الدثور) بضم الدال المهملة (بالثاء المثلثة الأموال) الكثيرة (واحدها دثر) بفتح فسكون يوصف به الواحد وما فوقه، يقال مال دثر وأموال دثر. 121 - (الخامس: عنه) رضي الله عنه (قال: قال لي النبيّ: لا تحقرنّ) بكسر القاف أي: تستقل (من المعروف شيئاً) فتتركه لقلته فقد يكون سبب الوصول إلى مرضاة الله تعالى كما في الحديث «وإن العبد ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات» رواه أحمد والبخاري من حديث لأبي هريرة مرفوعاً (ولو) كان ذلك المعروف (أن تلقي أخاك بوجه طلق) بفتح المهملة وكسر اللام (رواه مسلم) وفي رواية لمسلم أيضاً «طليق» بزيادة ياء وهما بمعنى: أءَ: بوجه ضاحاك مستبشر، وذلك لما فيه من إيناس الأخ المؤمن ودفع الإيحاش عنه وجبر خاطره، وبذلك يحصل التأليف المطلوب بين المؤمين. 122 - (السادس: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: كل سلامى) أي:

مفصل وجزء (من الناس عليه) أي: على صاحبه: أي: الإنسان المكلف حق مؤكد في أداء شكر سلامة ذلك (صدقة) بعدد المفاصل، وذكر الضمير مع أنه عائد على سلامى المؤنثة باعتبار العضو أو المفصل، أو على أنه عائد على صاحب مقدر قبل سلامى لا لرجوعه لكل كما قيل به لأنها بحسب ما تضاف إليه وهي هنا أضيفت لمؤنث فلو رجع إليها لأنث (كل يوم تطلع) بضم اللام (فيه الشمس) أتى به دفعاً لتوهم الاكتفاء في أداء شكر نعم هذه الأعضاء بالإتيان بما في حديث مرة، فنبه على أن ذلك مطلوب من الإنسان كل يوم شكراً لسلامتها فيه (تعدل) بالفوقية في محل المبتدأ، وكذا الفعلان الآتيان بعده بالوجهين السابقين في قوله تعين صانعاً: أي: عدلك (بين الاثنين) المتهاجرين أو المتخاصمين أو المتحاكمين بأن تحملهما لكونك حاكماً أو محكماً أو مصلحاً بالعدل والإنصاف والإحسان بالقول والفعل على الصلح الجائز، وهو كما في الحديث الذي لا يحلّ حراماً ولا يحرّم حلالاً (صدقة) عليهما لوقايتهما مما يترتب على الخصام من قبيح الأقوال والأفعال، ومن ثم عظم فضل الصلح وجاز الكذب فيه مبالغة في وقوع الألفة بين المسلمين (وتعين الرجل) أي: إعانتك إياه (في دابته فتحمله عليها أو) للتنويع (ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة) وهي كل ذكر ودعاء للنفس والغير وسلام عليه وثناء عليه بحق ونحو ذلك مما فيه سرور السامع واجتماع القلوب وتألفها، وكذا سائر ما فيه معاملة الناس بمكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال، ومنه ما في حديث أبي ذرّ المذكور آنفاً «لا تحقرن من المعروف شيئاً» الخ (صدقة) لصاحبها. (وبكل خطوة) بفتح المعجمة المرة الواحدة وبضمها ما بين القدمين (تمشيها إلى الصلاة صدقة) فيه مزيد الحثّ على حضور الجماعات والمشي إليها وعمارة المساجد بها إذ لو صلى في بيته فاته ذلك. (وتميط) بضم أوله (الأذى) أي: إماطته (عن الطريق) يذكر ويؤنث ويقال لها السبيل والصراط (صدقة) على المسلمين، وأخرت هذه لأنها أدون مما قبلها كما يشير إليه الخبر الآتي: «وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» وحمل الأذى على المظالم ونحوها والطريق على طريقه تعالى وهو شرعه وأحكامه تكلف بعيد، بل قوله فيما يأتي «وأدناها إماطة الأذى» الخ صريح في رده،

لأن الإماطة بهذا المعنى من أفضل الشعب لا أدناها. ثم شرط الثواب على هذه الأعمال خلوص النية فيها وفعلها وحده، قال تعالى: {إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً} (النساء: 114) وقال بعد أن ذكر جملاً من أعمال البرّ «والذي نفسي بيده ما من عبد يعمل بخصلة منها يريد بها ما عند الله إلا أخذت بيده يوم القيامة حتى يدخل الجنة» رواه ابن حبان في «صحيحه» وبهذا يردّ ما ورد عن الحسن وابن سيرين أن أفعل المعروف يؤجر عليه وإن لم تكن فيه نية (متفق عليه. ورواه أحمد وأبو عوانة وأبو نعيم في «مستخرجيهما» والطبراني في «مكارم الأخلاق» وابن حبان في «صحيحه» وغيرهم) . (ورواه) أي: الحديث (مسلم أيضاً) أي: انفرد به عن البخاري (من رواية عائشة رضي الله عنها) بنحوه وحديثها (قالت: قال رسول الله: إنه) أي: الشأن (خلق) بالبناء للمجهول للعمل بالفاعل وروايته كذلك في أصل مصحح، ويحتمل أن يكون الضمير المنصوب عائداً تعالى لدلالة المقام عليه ويضبط الفعل حينئذٍ بالبناء للفاعل إلا أن تثبت رواية بأحدهما فيرجع إليها (كل إنسان من) بيانية (بني آدم) غير منصرف للعلمية ووزن الفعل بناء على أنه عربي، وهو الذي نقله المصنف عن أبي منصور الجواليّقي، أو لها وللعجمة بناء على أنه أعجمي (على ستين وثلاثمائة مفصل) أي: عظم كما جاء في رواية البزار قال: «للإنسان ثلاثمائة وستون عظماً» الحديث. (فمن كبر ا) بنحو الله أكبر (وحمد ا) بكسر الميم بنحو الحمد (وهلل ا) أي: قال لا إله إلا الله أو إلا هو (وسبح ا) بنحو سبحان الله (واستغفر ا) أي: سأله غفر الذنب بنحو قوله أستغفر الله أو اللهم اغفر لي (وعزل حجراً عن) كذا في النسخ المصححة وهو الذي في «الصحيح» ، وفي نسخة من الرياض «على» ومكتوب عليها «صح» فإن صحت به رواية فحروف الجرّ تنوب مناب بعض عند الكوفيين، وعلى المنع من ذلك كما هو مذهب البصريين فالتضمين شريعة مورودة (طريق الناس، أو عز شوكة أو عظماً عن طريق الناس) أعاد قوله أو عزل

وقوله عن طريق الناس اهتماماً بشأن التنحية لما فيها من إبعاد الضرر عن الناس وعموم النفع للمارة فيها، وذكر الأكثر ضرراً وهو الحجر والأقل وهو الشوكة تنبيهاً على أن فضل تنحية المؤذي عن الطريق يحصل بتنحية ما عظم ضرره فيها وما كان دون ذلك (وأمر) بصيغة الماضي معطول على مدخول من ثم هو في بعض النسخ هكذا بالواو وفي بعض بأو وهو الأنسب بما قلبه (بمعروف أو نهي عن منكر عدد الستين والثلثمائة) أي: من أتى بهذا العدد ولو من مجموع أنواع الطاعات بأن أتى من كل نوع بطاعة حتى وصل لهذا القدر (فإنه يمسي) بضم الياء التحتية (يومئذٍ وقد زحزح) أي: باعد (نفسه عن النار) بالتقرّب لمولاه بأنواع الطاعات، وشكر ما أنعم به عليه من إيجاد تلك الأعضاء سالمة، وقد سبق أنه يجزي عن ذلك كله ركعتا الضحى، وفي حديث آخر «تكف شرّك الخ» ، وهو يفيد أنه يكفيه ألا يفعل شيئاً من الشرّ ويلزم من ذلك القيام بالواجبات وترك جميع المحرمات، وهذا هو الشكر الواجب وهو كاف في شكر هذه النعم وغيرها. أما الشكر المستحبّ فبالزيادة على ذلك بنوافل العبادات القاصرة كالأذكار، والمتعدية كالبذل والإعانة، وليس المراد من الحديث حصر أنواع الصدقة بالمعنى الأعم فيما ذكر فيه بل التنبيه به على ما بقي منها، ويجمعها كل ما فيه نفع للنفس أو للغير. 123 - (السابع: عنه) أي: عن أبي هريرة رضي الله عنه (عن النبيّ قال: من غدا) هو في الأصل السير أول النهار (إلى المسجد) طلباً لأداء صلاة فيه أو اعتكاف أو قراءة أو درس علم طلباً لمرضاة الله (أو راح) هو في الأصل السير آخر النهار (أعد) بتشديد الدال: أي: هيأ (اله) ثواب عمله من محض فضله (في الجنة نزلاً) بضمتين (كلما) منصوب عن الظرفية وما متصلة بكل في الرسم حينئذٍ (غدا أو راح. متفق عليه) ورواه أحمد (والنزل)

بضمتين (القوت) أي: ما يقتات به (والرزق) وهو ما ينتفع به ولو محرماً (وما) أي الذي (يهيأ) بضم التحتية الأولى: يعدّ (للضيف) من الكرامة والمراد هنا المعنى الأخير فإنه أبلغ في التكريم. 124 - (الثامن: عنه) رضي الله عنه (قال: قال رسول الله: يا نساء المسلمات) بنصب نساء وجرّ المسلمات من إضافة الصفة إلى الموصوف. قال البلجي: وبهذا: أي نصب الأوّل وجرّ الثاني رويناه عن جميع شيوخنا بالمشرق، وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة أو الأعم إلى الأخص، وهو عند الكوفيين لا حذف فيه اكتفاء بتغاير اللفظين وهو جائز على ظاهره. وعند البصريين يقدر فيه محذوف وتقديره هنا: يا نساء الأنفس المسلمات أو الجماعات؛ وقيل تقديره، يا فاضلات المسلمات كما يقال: هؤلاء رجال القوم: أي ساداتهم، ويجوز فيه رفع نساء، قال الحافظ في «الفتح» : قال السهيلي وغيره: جاء برفع الهمزة على أنه منادى مفرد، ويجوز في المسلمات الرفع على أنه صفة على اللفظ على معنى يا أيها النساء المسلمات. قلت: قال الباجي وكذا يرويه أهل بلدنا والنصب على أنه صفة على الموضع وكسر التاء علامة النصب. وأنكر عبد البرّ رواية الإضافة، ورده ابن السيد بأنها قد صحت نقلاً وساعدتها اللغة فلا معنى للإنكار. وقال ابن بطال: يمكن تخريج يا نساء المسلمات بالإضافة على تقدير بعيد كأنه قال: يا نساء الأنفس المسلمات، والمراد بالأنفس الرجال، ووجه بعده أن يصير مدحاً للرجال وهو إنما خاطب النساء، قال: إلا أن يراد بالأنفس الرجال والنساء معاً وأطال في ذلك وتعقبه ابن التين (لا تحقرنّ جارة) أسدت (لجارتها) شيئاً من المعروف فتمتنع منه لقلته (ولو) كان (فرسن شاة) كناية عن القلة، ويحتمل أن يكون نهياً للمعطاة: أي لا تحتقر المعطاة الشيء القليل بل تشكر ذلك، ففي الحديث «لا يشكر الله من لا يشكر الناس» (متفق عليه، قال) أبو نصر إسماعيل بن

حماد (الجوهري) الإمام في النحو واللغة والصرف صاحب «الصحاح» ، توفي لاختلاط أصابه ووسواس بسبب غريب، وذلك أنه أخذ مصراعي باب وضمهما إلى جنبيه وشدهما بخيط ونهض للطيران من سطح داره فرمى بنفسه فمات سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، وله شعر منه قوله: لو كان لي بد من الناس قطعت حبل الناس بالياس العز في العزلة لكنه لا بد للناس من الناس (الفرسن) قال القاضي عياض في «المشارق» : بكسر الفاء والسن. قال في «فتح الباري» : ونونه أصلية وقيل زائدة: قال السيوطي في «مختصر النهاية» : هو عظم قليل اللحم (من البعير كالحافر من الدابة) أي: ذوات الأربع كالحمار والبغل (قال: وربما استعير) أي: الفرسن فاستعمل (في الشاة) كما في الحديث، والذي لها إنما هو الظلف. قال المصنف في «شرح مسلم» : قالوا أي أهل اللغة: ولا يقال: أي الفرسن إلا في الإبل ومرداهم أن أصله مختص بالإبل ويطلق عليه في الغنم استعارة، وهذا النهي عن الاحتقار نهي للمعطية المتصدقة والمهدية، ومعناه: لا تمتنع جارة من الصدقة والهدية لجارتها لاستقلالها واحتقارها الموجود عندها، بل تجود بما تيسر وإن كان قليلاً كفرسن شاة فهو خير من العدم، قال تعالى: {فمن يعمل مثال ذرّة خيراً يره} وقال: «اتقوا النار ولو بشق تمرة» وقال القاضي: وهذا التأويل هو الظاهر وهو تأويل مالك لإدخاله هذا الحديث في «باب الترغيب» في الصدقة. قال: ويحتمل أن يكون نهياً للمعطاة عن الاحتقار. قال الحافظ في «فتح الباري» : وحمله على الأعمّ من ذينك أولى اهـ. و «لو» في الحديث مثلها في الحديث الآخر «اتقوا النار ولو بشق تمرة» قال ابن هشام في «المغني» في ذكر معاني «لو» وذكر ابن هشام اللخمي وغيره أنها تجيء للتقليل، قال: ومثل له بقوله تعالى {ولو على

أنفسكم} (النساء: 135) قال: وفيه نظر قال ابن أقبرس: لعل النظر في خصوص مثاله لا في إفادتها معنى التقليل في نحو «ولو بشق تمرة، ولو خاتماً من حديد» اهـ. 125 - (التاسع: عنه) أي: أبي هريرة رضي الله عنه (عن النبيّ قال: الإيمان بضع) بكسر الباء وقد تفتح سيأتي معناها (وسبعون) أي: شعبة، ولذا صح الإخبار عنه بستة وسبعون وهي غيره ضرورة مغايرة الجزء للكل، وبه يعلم ما في قول المصنف: الحديث نصّ في إطلاق اسم الإيمان على الأعمال اهـ. وحاصله أن التقدير شعب الإيمان (أو) شك من الراوي، والشك المذكور عند مسلم وكذا عند البخاري من طريق أبي ذرّ الهروي كما نقله العيني، وعليه فقول المصنف متفق عليه في محله (بضع وستون) ورجح بعضهم رواية «وستون» بأنها المتيقنة وما عداها مشكوك فيه، وصوّب القاضي الأولى بأنها التي في سائر الأحاديث ولسائر الرواة، ورجحها جماعة منهم المصنف بأن فيها زيادة ثقة فتقبل، واعترضه الكرماني بأن زيادة الثقة أن يزاد لفظ في الرواية، وإنما هذا اختلاف روايتين مع عدم التنافي بينهما فى المعنى إذ ذكر الأقلّ لا ينافي الأكثر، أو أنه أخبر أولاً بالستين ثم أعلم بزيادة فأخبر بها. ويجاب بأن هذا متضمن للزيادة كما اعترف به الكرماني فصحّ ما قاله المصنف، نعم اعترض عليه بأن من زادها لم يستمر على الجزم بها لاسيما مع اتحاد المخرج، ثم هذا العدد. قيل: المراد به التكثير والمبالغة، وعليه فهي ترجع إلى أصل واحد وهو تكميل النفس بصلاح المعاش المؤدي إلى تحسين المعاد. وذلك بأن يعتقد الحق ويستقيم في العمل ولذا قال لسفيان الثقفي حين قال له «قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك، قال قل آمنت با ثم استقم» وأيد بعضهم أن المراد التكثير بأنه لو أراد التحديد لم يبهم، قال: فذكر البضع للترقي لأن الشعب لا نهاية لها لكثرتها. وقال آخرون: بل المراد حقيقة العدد ويكون النص وقع أولاً على البضع والستين لكونه الواقع ثم تجددت العشرة الزائدة فنص عليها، وبهذا يجاب عن اختلاف الروايات. فيقال بتقدير صحة الجمع لعله نطق بأقلها ثم أعلم بأزيد منها وهكذا، والإبهام فيه لا دليل فيه لاحتمال أنه اتكل على أفهام السامعين مع ذكر المراتب الآتية في الحديث التي

إذا حقق النظر في المقايسة بها أدرك ذلك، إلا أن هذا صعب الاتقاء رفيع الذرا. ولاختلاف النظر في تلك المقايسة اختلف تعداد قوم من العلماء لبقية تلك الشعب ولم ينالوا بخوض غمر تفاصيلها بيان تلك التفاصيل على الحقيقة مع خطر التعيين واحتمال أنه لم يصادف مراده كابن حبان وغيره ممن يأتي النقل عنه (شعبة) بضم أوله المعجم وسكون ثانيه المهمل وبالموحدة. قال الحافظ ابن حجر: لم يتفق من عد الشعب على نمط واحد، وأقربها إلى الصواب طريقة ابن حبان فإنه قال: عددت كل طاعة عدها الله تعالى في كتابه والنبيّ في سنته، فإذا هي تسع وسبعون لا تزيد ولا تنقص، فعلمت أنه المراد، وقد نقلها كذلك الكازروني في «شرح المشارق» ، وبين كل ما جاء من الكتاب والسنة ولم يعز ذلك إليه، وهو محتمل لتواردهما على عد ذلك وإن كان فيه بعد، وأن يكون ناقلاً عنه وترك العزو إليه مع كونه الأولى للاتفاق على مقتضاه، وضبطها كل من البيضاوي والكرماني بطريقة. قال الحافظ: وقد رأيتها تتفرّع عن أعمال القلب وأعمال اللسان وأعمال البدن. فأعمال القلب: المعتقدات والنيات وتشتمل على أربع وعشرين خصلة: الإيمان با ويدخل فيه الإيمان بذاته وصفاته وتوحيده وبأنه ليس كمثله شيء واعتقاد حدوث ما دونه، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشرّه، والإيمان باليوم الآخر ويدخل فيه المسألة في القبر والبعث والنشور والحساب والميزان والصراط والجنة والنار، ومحبة الله والحبّ والبغض فيه، ومحبة النبيّ واعتقاد تعظيمه ويدخل فيه الصلاة عليه واتباع سنته، والإخلاص ويدخل فيه ترك الرياء والنفاق، والتوبة والخوف والرجاء والشكر والصبر والرضا بالقضاء والتوكل والرحمة، والتواضع ويدخل فيه توقير الكبير ورحمة الصغير وترك التكبر والعجب وترك الحسد وترك الحقد وترك الغضب. وأعمال اللسان تشتمل على سبع خصال: التلفظ بالتوحيد، وتلاوة القرآن، وتعلم العلم وتعليمه؛ والدعاء والذكر ويدخل فيه الاستغفار واجتناب اللغو. وأعمال البدن: تشتمل على ثمان وثلاثين خصلة: منها ما يختص بالأعيان وهي خمس عشرة. التطهر حساً وحكماً ويدخل فيه اجتناب النجاسة وستر العورة والصلاة فرضاً ونفلاً والزكاة كذلك وفك الرقاب والجود ويدخل فيه إطعام الطعام وإكرام الضيف والصيام فرضاً ونفلاً والحج والعمرة كذلك والطواف والاعتكاف والتماس ليلة القدر. والفرار بالدين ويدخل فيه الهجرة من دار الكفر والوفاء بالنذر والتحري في الأيمان وأداء الكفارات، ومنها ما يتعلق بالاتباع وهي ست خصال: التعفف بالنكاح والقيام بحقوق العيال وبر الوالدين، ومنه اجتناب العقوق وتربية الأولاد وصلة الرحم وطاعة

السادة والرفق بالعبيد. ومنها ما يتعلق بالعاملة وهي سبع عشرة: القيام بالإمرة مع العدل ومتابعة الجماعة وطاعة أولى الأمر، والإصلاح بين الناس ويدخل فيه قتال الخوارج والبغاة، والمعاونة على البر ويدخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود والجهاد ومنه المرابطة وأداء الأمانة، ومنه أداء الخمس والقرض مع وفائه وإكرام الجار وحسن المعاملة، ومنه جمع المال من حله وإنفاق المال في حقه، وفيه ترك التبذير والإسراف ورد السلام وتشميت العاطس وكف الضرر عن الناس واجتناب اللهو وإماطة الأذى عن الطريق. فهذه تسع وستون خصلة ويمكن عدها تسعاً وسبعين باعتبار أفراد ما ضم بعضه إلى بعض. وقال الحافظ السيوطي في «حاشية سنن أبي داود» بعد أن رجح رواية بضع وسبعون وأنه لا يلتفت إلى الشك فإن غيره من الثقات قد جزم بأنه بضع وسبعون ورواية من جزم أولى. قال: ومقصود الحديث أن الأعمال الشرعية تسمى إيماناً وأنها منحصرة في ذلك العدد غير أن الشرع لم يعين ذلك العدد لنا ولا فضله. وقد تكلف بعض المتأخرين ذلك فتصفح خصال الشريعة وعددها حتى انتهى بها في زعمه إلى ذلك العدد، ولا يصح له ذلك لأنه يمكن الزيادة على ما ذكره والنقصان منه ببيان التداخل. والصحيح ما صار إليه أبو سليمان الخطابي وغيره أنها منحصرة في علم الله وعلم رسوله وموجودة في الشريعة مفصلة فيها، غير أن الشرع لم يوقفنا على أشخاص تلك الأبواب ولا عين لنا عددها ولا كيفية انقسامها، وذلك لا يضرنا في علمنا بتفاصيل ما لكفنا به من شريعتنا ولا في عملنا كل مفصل مبين في جملة الشريعة، فما أمرنا بالعمل به عملنا وما نهينا عنه انتهينا وإن لم نحط بحصر أعداد ذلك اهـ (فأفضلها) هي خبر لشرط محذوف: أي: إذا كان الإيمان ذا شعب متفاوتةٍ فأفضلها (قول لا إله إلا ا) لإنبائها عن التوحيد المتعين على كل مكلف والذي لا يصح غيره من الشعب إلا بعد صحته فهو الأصل المبني عليه سائرها (وأدناها) أدونها مقداراً، من الدنوّ بمعنى القرب ولذا استعمل في مقابلة الأعلى (إماطة) بالمهملة: أي إزالة (الأذى) أي: المؤذي وإن خف كشوكة أو حجر، وفي رواية «إماطة العظم» (عن الطريق) ووجه كونها أدناها إنها لدفع أدنى ضرر يتوقع حصوله لأحد من الناس (والحياء) بالمد، وهو لغة تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به ويذم عليه، أو انحصار النفس خوف ارتكاب القبائح وفي الشرع: خلق يبعث على اجتناب القبيح شرعاً ويمنع من التقصير في حق ذي الحق (شعبة) عظيمة كما يومىء إليه التنكير (من الإيمان) لتكلفه بحصول سائر الشعب

لأنه يحجز صاحبه عن المعاصي، إذا الحييّ يخاف فضيحة الدارين فينزجر عن كل معصية ويمتثل كل طاعة، وأرفع الحياء الحياء من الله وهو ألا يراك حيث نهاك، وإنما ينشأ هذا من مراقبة ثابتة للحق والمعرفة به وهي مقام الإحسان. والإيمان لا يخرج عن فعل المأمور واجتناب المنهي، فلذا أفرد الحياء بالذكر لأن رتبته متوسطة بين الأعلى والأدنى. ولما أشار إلى أعلى الشعب وأوسطها وأدناها ترك بيان الباقي للعلم به بالمقايسة إلى أحد تلك الثلاثة، فمن عرف تلك المقايسة فواضح، ومن لا فيلزمه الإيمان بعموم العدد وإن لم يعرف جميع أفراده، كما يجب الإيمان بالملائكة وإن جهلت أعيانهم وأسماؤهم، كذا في «شرح المشكاة» لابن حجر. وقال الدميري: إنما جعله بعض الإيمان. وسيأتي في الحياء وفضله بسط (متفق عليه) فيه نظر فإن قوله: «فأفضلها قول لا إله إلاالله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» لمسلم فقط، فيؤول كلامه على أن أصل الحديث بدون هذه الزيادة فيهما، وقد تنبه لذلك الحافظ السيوطي في «الجامع الصغير» فقال بعد إيراده باللفظ المذكور: أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجه، ووقع لصاحب «المشكاة» كما وقع للمصنف واعترضه شارحها الشيخ ابن حجر المكي بما ذكر. ثم الإخبار عن الإيمان بأنه كذا وكذا شعبة من باب إطلاق الأصل وهو الإيمان على الفرع وهو الأعمال، والحقيقة أنها تنشأ عنه لا أنها هو (والبضع من ثلاثة إلى تسعة) تقديم التاء: أي: ما بينها هذا هو الأشهر وفيه حديث مرفوع «البضع ما بين الثلاث إلى التسع» رواه الطبراني وابن مردويه عن نياربن مكرم، وقيل: ما بين الثلاثة، وقيل: اثنين والعشرة، وقيل: من واحد إلى تسعة. وفي «القاموس» : هو ما بين الثلاث إلى التسع أو إلى الخمس، أو ما بين الواحد إلى الأربعة، أو من أربع إلى تسع، أو هو سبع، وإذا جاوزت لفظ العشر ذهب البضع، لا يقال بضع وعشرون أو يقال ذلك اهـ (والشعبة) في اللغة (القطعة) والغصن من الشجر وفرع كل أصل، وأريد بها في هذا الحديث الخصلة أو الجزء: أي: الإيمان ذو خصال أو أجزاء متعددة. 126 - (العاشر: عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: بينما رجل يمشي بطريق) أي: فيها (اشتدّ عليه

العطش فوجد بئراً فنزل فيها فشرب) منها (ثم خرج فإذا) للمفاجأة (كلب يلهث) يدلع لسانه من العطش؛ وليس غيره من الحيوان كذلك (يأكل الثرى) أي: التراب الندى، قال الحافظ في «فتح الباري» يجوز أن تكون الجملة خبراً ثانياً وأن تكون حالاً، وفي «شرح مسلم» للمصنف يقال: لهث بفتح الهاء وكسرها يلهث بفتحها واللهاث بضم اللام ورجل لهثان وامرأة لهثى، هو الذي أخرج لسانه من شدة العطش اهـ. (من) تعليلة (العطش) وأكله للثرى لقربه من الماء في التبريد (فقال الرجل) أخذ منه قرينة أكله الثرى الذي لا يكون منه إلا من العطش (لقد بلغ هذا الكلب) بالنصب في النسخ المصححة وكذا ضبطه الزركشي وشيخ الإسلام زكريا في «تحفته» (من) ابتدائية (العطش مثل) فاعل بلغ (الذي كان بلغ بي) منه (فنزل البئر فملأ خفه) ساقط من رواية البخاري، وكذا قوله حتى رقى (ثم أمسك بفيه حتى رقى) بكسر القاف على اللغة الفصيحة المشهورة، ويقال رقى وهي لغة طيىء (فسقي الكلب فشكر الله له) قال العارف با ابن أبي جمرة: هل الشكر من الكلب أو من الله لعبده؟ وإذا قلنا: إن الشكر يكون بالقول أو بالحال، احتمل والقدرة صالحة، فإذا قلنا إن الشكر من الله تعالى لعبده فيكون الشكر بمعنى القبول، فكأنه يقول: قبل الله عمله وأثابه بالجنة عليه اهـ. وعلى الوجه الأخير اقتصر المصنف في «شرح مسلم» (فغفر له) وفي الحديث «إن أفضل القرب الخير المتعدي» فإنه إذا جوزي بهذا الجزاء الحسن على هذا الفعل اليسير مع هذا الحيوان المندوب إلى قتله بشرطه فكيف به مع من هو صالح؟ وفيه دليل على التحضيض على فعل البرّ وإن قل، إذ لا يدري فيم تكون السعادة، وفيه دليل على أن الإخلاص هو الموجب لكثرة الأجر، إذ حال الرجل كان كذلك إذ هو في البرية ولم يره أحد حال سقيه وكان مخلصاً في ذلك العمل، وفيه دليل على أن إكمال الأجر يكون بإكمال العمل يؤخذ من قوله في رواية «فسقى الكلب حتى أرواه» فبإكمال ريه أكمل الله نعمته عليه، ويؤخذ من الخبر إفساد بعض الأمتعة إذا ترتب عليه الثواب الأخروي، ألا ترى إلى غرفه الماء بالخف المفسد له عادة، لكن لما كان في ذلك صلاح آخرته فهو في صلاح.l ويؤخذ منه تعب الفاضل للمفضول إذا احتاج المفضول إليه إذ تعب الرجل للكلب. ونوع

الإنسان أفضل من باقي الحيوان؛ كذا يؤخذ ملخصاً من «بهجة النفوس» للعارف ابن أبي جمرة (قالوا: يا رسول الله) لما ذكر لهم هذه القصة وحرّضهم على صنيع المعروف وإن قلّ، فإن المقصود من ذكره لقصص من مضي التحريض على الفعل للمدوح والنهي عن ضده وغير ذلك من الفوائد، إذ العبث لا يقع منه (وإن لنا في) سببية (البهائم) أي: بسببها (أجراً فقال في كل) أي: في إرواء كل (كبد رطبة أجر) والرطوبة كناية عن الحياة فإن الميت يجفّ جسمه وكبده، وقيل: الكبد إذا ظمئت ترطبت، ففي الحديث الإحسان إلى الحيوان المحترم وهو ما لا يؤمر بقتله، فيحصل بسقيه والإحسان إليه الأجر سواء كان حرّاً أو مملوكاً له أو لغيره، أما المأمور بقتله فيمتثل أمر الشرع في قتله (متفق عليه، وفي رواية للبخاري: فأدخله الله الجنة) أي: إبتداء مع الناجين وهي لازمة للرواية السابقة إذ من غفر له دخلها كذلك (وفي رواية لهما: بينما كلب يطيف) بضم التحتية (بركية) لظمئه (قد) للتقريب (كاد يقتله العطش) لاشتداده به (إذ رأته بغيّ) بفتح الموحدة وكسر المعجمة وتشديد التحتية: أي: زانية، والبغاء الزنا، ولا تنافي بين كون الفاعل هنا امرأة، وفي الحديث قبله رجلاً لاحتمال تعدد القصة (من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقها) بضم الميم وفتح القاف، قيل: خفها فارسي معرب، وقيل: الذي يلبس فوق الخف ويقال له الجرموق (فاستقت له فسقته) أي: حتى روى (فغفر) بالبناء للمفعول (لها به، الموق: الخف، ويطيف: يدور) قال في «شرح مسلم» بضم الباء، يقال طاف وأطاف: إذا دار حوله (والركية) بفتح الراء المهملة وكسر الكاف وشد التحتية (وهي البئر) مطلقاً، وقيل: قبل أن تطوي. 127 - (الحادي عشر: عنه عن النبي قال: لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة) أي: يتنعم فيها

بملاذها (في شجرة قطعها من ظهر الطريق) أي: بسبب قطعه لها (كانت تؤذي المسلمين) ففيه فضل إزالة الأذى عن الطريق وقد تقدم أنه من شعب الإيمان، وفيه فضيلة كل ما نفع المسلمين وأزال عنهم ضرراً (رواه مسلم) . (وفي رواية له) أي: لمسلم من حديث أبي هريرة مرفوعاً (مرّ رجل بغصن شجرة على ظهر طريق: فقال: وا لأنحينّ) من التنحية: الإزالة: أي: لأزيلنّ هذا (أي) : المضر (عن) طريق (المسلمين لا يؤذيهم) أي: إرادة أن لا يؤذيهم (فأدخل الجنة) بالبناء للمفعول، وظاهر هذا الخبر دخوله الجنة بمجرد نيته للفعل الجميل؛ ويحتمل أنه فعل ذلك وترك ذكره الراوي إما سهواً وإما لأمر آخر (وفي رواية لهما) عن أبي هريرة مرفوعاً (بينما رجل) بالرفع لكف بين عن الإضافة للمفرد لها (يمشي بطريق) أي: فيه (وجد غصن شوك على الطريق فأخره) بتشديد الخاء المعجمة: أي: نجاه عن الطريق، وفي نسخة فأخذه بتخفيف المعجمة وبالذال المعجمة: أي: أخذه من الطريق إذهاباً لضرره (فشكر الله له) ذلك الفعل اليسير: أي: قبله منه (فغفر) بالبناء للفاعل (له) . 128 - (الثاني عشر: وعنه قال: قال رسول الله: من توضأ فأحسن الوضوء) بإسباغه والإتيان بآدابه وسننه (ثم أتى الجمعة) أي: إلى المسجد لصلاتها وهي بضم الجيم والميم وسكونها وقد تفتح، سميت بذلك لاجتماع الناس لها (فاستمع) الخطبة (وأنصت) عن الكلام المباح (غفر له) صغائر (ما بينه وبين الجمعة الماضية) قال بعض أصحابنا: والمراد بما بينهما من صلاة الجمعة

وخطبتها إلى مثل ذلك الوقت من الجمعة الثانية فيكون سبعة أيام بلا زيادة ولا نقص (و) يضم إليها (زيادة) عليها ذنوب (ثلاثة أيام) فتكفر ذنوب عشرة أيام. قال العلماء: معنى المغفرة له ما بين الجمعتين وثلاثة أيام أن الحسنة بعشر أمثالها، وصار يوم الجمعة الذي فعل فيه هذه الأفعال الجميلة في معنى الحسنة التي تجعل بعشر أمثالها (ومن مسّ الحصى) وفي معناه سائر العبث في حال الخطبة (فقد لغا) ففي الحديث، إشارة إلى الحثّ على إقبال القلب والجوارح على الخطبة، والمراد من اللغو الباطل المذموم المردود (رواه مسلم) . 129 - (الثالث عشر: عنه أن رسول قال: إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن) شك من الراوي في أيهما لفظه وإن كان يلزم من تحقق أحدهما شرعاً تحقق الآخر (فغسل وجهه) الفاء تفصيلية (خرج من وجهه كل خطيئة) صغيرة متعلقة بحق الله تعالى (نظر إليها) أي: إلى سببها إطلاقاً لاسم المسبب على السبب مبالغة وكذا البواقي (بعينه) قال القرطبي: هذه عبارة مستعارة المقصود بها الإعلام بتكفير الخطايا ومحوها، وإلا فليست الخطايا أجساماً حتى يصح منها الخروج. وفي «قوت المغتذي» للسيوطي بعد نقل مثله عن ابن العربي: وأقول بل الظاهر حمله على الحقيقة وذلك أن الخطايا تؤثر في الباطن والظاهر سواداً يطلع عليه أرباب الأحوال والمكاشفات والطهارة تزيله، ثم استشهد لتأثير الخطايا بأحاديث ثم قال بعد نقل حديث تأثير خطايا المشركين في الحجر الأسود حتى صار أسود ما لفظه: فإذا أثرت الخطايا في الحجر ففي فاعلها أولى؛ فإما أن يقدر خرج من وجهه سواد كل خطيئة: أي: السواد الذي أحدثته، وإما أن نقول إن الخطيئة نفسها تتعلق بالبدن على أنها جسم لا عرض بناء على إثبات عالم المثال، وأن ما هو في هذا العالم عرض له صورة في عالم المثال، وقد حققت ذلك في تأليف مستقل (مع الماء أو مع آخر قطر الماء) أو للشك من الراوي في أي اللفظين قاله، ويدلك على أنها للشك زيادة مالك «أو نحو ذلك» قيل: وخصت العين بالذكر مع أن في الوجه الفم والأنف لأنها طليعة القلب ورائده فأغنت عن

غيرها. واعترض بأن كونها طليعة لا ينتج الجواب عن تخصيص خطيئتها بالمغفرة، فالذي يتجه في الجواب أن سبب التخصيص أن كلاً من الفم والأنف له طهارة مخصوصة خارجة عن طهارة الوجه فكانت متكلفة بإخراج خطاياه، بخلاف العين فإنها ليس لها طهارة إلا في غسل الوجه، فحطت خطيئتها عند غسله دون غيرها (فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كانت) اسمها ضمير الشأن (بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها) أي: مشت إليها أو مشت المشية (رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقياً من الذنوب) الصغائر المذكورة (رواه مسلم) ومالك في «الموطأ» . 130 - (الرابع عشر: عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهنّ) من الصغائر المتعلقة بحقوق الله تعالى (إذا اجتنبت الكبائر) قال الحافظ وليّ الدين العراقي: استند العلماء في تقييد الذنوب المكفرة بالعمل الصالح بالصغائر لهذا الحديث فجعلوا التقييد فيه مقيداً للإطلاق في غيره اهـ ملخصاً. ونظر فيه ابن دقيق العيد. وحكى ابن التين فيه خلافاً فقال: اختلف هل يغفر الله له بهذه المذكورات الكبائر إذا لم يصرّ عليها أم لا يغفر له سوى الصغائر؟ قال: وهذا كله لا يدخل فيه مظالم العباد، وقال القرطبي: لا بعد في أن يكون بعض الأشخاص تغفر له الكبائر والصغائر بحسب ما يحضره من الإخلاص ويراعيه من الإحسان والآداب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء اهـ. قلت: وقد سبق إلى ذلك ابن العربي وجزم به فقال: لو وقعت الطهارة باطناً بتطهير القلب عن أوصاب المعصية، وظاهراً باستعمال الماء على الجوارح بشرط الشرع،

واقترنت به صلاة جرّد فيها القلب عن علائق الدنيا وطر الخواطر، واجتمع الفكر على آخر العبادة كما انعقد عليه إحرامها واستمرّ الحال حتى خرج بالتسليم عنها، فإن الكبائر تغفر، وكذلك كان وضوء السلف اهـ. والذي عليه جمهور العلماء أن صالح العمل لا يكفر الكبائر إنما يكفرها التوبة أو فضل الله تعالى. قال المصنف: وقد يقال إذا كفر الوضوء فماذا تكفر الصلوات؟ وإذا كفرت الصلوات فماذا تكفر الجمعات؟ ورمضان وغيرها مما ورد فيه ذلك؟ فالجواب ما أجاب به العلماء أن كل واحد من هذه المذكورات صالح للتكفير، فإن وجد ما يكفره من الصغائر كفره، وإن لم يصادف كبيرة ولا صغيرة كتبت له به حسنات ورفعت له به درجات، وإن صادف كبيرة أو كبائر ولم يصادف صغيرة رجونا أن يخفف عنه منها. واعترضه ابن سيد الناس في قوله: «رجونا» إلخ بأن هذا موقوف على التوقيف لا مجال فيه لغيره. قال السيوطي: استشكل بأن الصغائر مكفرة باجتناب الكبائر، وحينئذٍ فما الذي تكفره الصلوات؟ والتحقيق في الجواب ما أشار إليه البلقيني أن الناس أقسام: من لا ذنب له مطلقاً وهذا له رفع الدرجات؛ ومن له صغائر بلا إصرار فهي المكفرة باجتناب الكبائر إلى موافاة الموت على الإيمان، ومن له صغائر مع الإصرار فهي التي تكفر بصالح الأعمال؛ ومن له كبائر وصغائر فالمكفر بصالح العمل الصغائر فقط؛ ومن له كبائر فقط فيكفر منها على قدر ما كان يكفر من الصغائر اهـ. قال شيخ الإسلام زكريا: فإن قلت: يلزم من جعل الصغائر مكفرة بالمذكورات عند اجتناب الكبائر اجتماع سببين على سبب واحد وهو ممتنع. قلت: لا مانع من ذلك في الأسباب المعروفه لأنها علامات لا مؤثرات كما في اجتماع أسباب الحدث اهـ. وقوله: «إذا اجتنبت الكبائر إلخ» قال العلقمي في «حاشيته» على «الجامع الصغير» : قال شيخنا يعني السيوطي: قال النووي: معناه أن الذنوب كلها تغفر إلا الكبائر فإنها لا تغفر، وليس معناه أن الذنوب تغفر ما لم تكن كبيرة، فإن كانت فلا يغفر شيء، فإن هذا وإن كان محتملاً فسياق الأحاديث يأباه (رواه مسلم) ورواه أحمد والترمذي. 131 - (الخامس عشر: عنه قال: قال رسول الله: ألا) بتخفيف اللام أداة استفتاح ليتنبه السامع لما

بعدها (أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا) أي: من ديوان الحفظة أو يمحو بمعنى يغفر (ويرفع به الدرجات) أي: المنازل في الجنة (قالوا لي) هي لإيجاب النفي المذكور في السؤال: أي: دلنا على ذلك يا رسول الله (قال: إسباغ الوضوء) أي: استيعاب أعضائه بالغسل والمسح مع استيفاء آدابه ومكملاتها (على) بمعنى مع (المكاره) جمع مكره بفتح الميم من الكره: المشقة والألم (وكثرة الخطا إلى المساجد) فيه فضل الدار البعيدة عن المسجد على القريبة، ويؤيده الخبر الآتي «دياركم تكتب آثاركم» ولا ينافيه عده من شؤم الدار بعدها من المسجد، لأن بعدها وإن كان فيه شؤم من حيث إنه قد يؤدي إلى تفويت، لكن فيه فضل عظيم إذا توجه منها إلى الصلاة بالمسجد، فشؤمها وفضلها باعتبارين فلا تنافي (وانتظار الصلاة) أي: وقتها أو جماعتها (بعد الصلاة) منفرداً أو في جماعة وذلك بأن يجلس في المسجد أو في بيته أو سوقه أو شغلته لانتظارها وذلك لتعلق فكره وقلبه بها، فهو دائم الحضور والمراقبة غير ملته عن أفضل العبادات البدنية بشيء (فذلكم) عدل إليه عن هذا الذي هو القياس للدلالة على بعد منزلته وعظمها (الرباط) لا غيره كما أفاده تعريف الجزءين الدال على الحصر لكنه إضافي: أي: ما ذكرت من تلك الثلاث هو المستحق لاسم الرباط، والرباط الحقيقي وهو ملازمة الثغر لحفظ عورة المسلمين لا يستحق ذلك الاسم بالنسبة إليها لما فيها من أعظم القهر لأعدى عدوّ الإنسان وهي نفسه الأمارة بالسوء، وقمع شهواتها وقلع مكائد الشيطان من جميع أجزائها، فإن هذه الأعمال تسد طرق الشيطان والهوى عن النفس وتقهرها وتمنعها من قبول الوسواس والشهوات، فكانت هي الرباط الحقيقي وهو الجهاد، وفي هذا أعظم تأييد لخبر «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» أي: من جهاد العدوّ إلى جهاد النفس، إذ جهاد الكفار إنما شرع بالخروج عن النفس والأولاد والأموال لإعلاء كلمة الله تعالى مع تكميل النفس بخروجها عن مألوفاتها ومستلذاتها، لكنه لا يدوم زمنه بل يكون برهة وتنقضي، وهذه الأعمال دائمة وذلك التكميل موجود فيها بزيادة (رواه مسلم) وعند مالك «فذلكم الرباط فذلكم الرباط» وردّد مرتين، وفي رواية الترمذي ثلاثاً. وحكمته مزيد تقرير ذلك والاهتمام بشأنه المرة بعد المرة.

132 - (السادس عشر: عن أبي موسى الأشعري) تقدمت ترجمته أول باب الإخلاص (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من صلى البردين) بفتح الموحدة وسكون الراء تثنية برد، والمراد صلاة الفجر والعصر كما سيأتي، زاد مسلم في روايته «يعني العصر والفجر» قال الحطابي: سميا بردين لأنهما يصليان في بردي النهار وهما طرفاه حين يطيب الهواء وتذهب شدة الحرّ (دخل الجنة) قال العلقمي: قال القزاز في وجه تخصيص هذين الوقتين ما حاصله: من موصولة لا شرطية، والمراد من صلاهما أول فرض الصلاة ثم مات قبل فرض الخمس، فإنها فرضت أولاً ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي ثم فرضت الخمس، قال: فهو خبر عن ناس مخصوصين لا عموم فيه. قلت: ولا يخفى ما فيه من التكلف. والأوجه أن من شرطية، وقوله: دخل الجنة جواب الشرط، وعدل إليه عن المضارع إرادة التأكيد في وقوعه بجعل ما سيقع كالواقع اهـ. وعلى الأوجه فوجه تخصيصها بالذكر أن وقت الصبح يكون عند النوم ولذته، ووقت العصر يكون عند الاشتغال بتتمات أعمال النهار وتجارته وتهيئة العشاء، ففي صلاته لهما مع ذلك دليل على خلوص النفس من الكسل ومحبتها للعبادة، ويلزم من ذلك إتيانه بجميع الصلوات الأخر، وأنه إذا حافظ عليهما كان أشد محافظة على غيرهما، فالاقتصار عليهما لما ذكر لا لإفادة أن من اقتصر عليهما بأن أتى بهما دون باقي الخمس يحصل له ذلك لأنه خلاف النصوص، وقيل: المراد بالبردين الصبح والعشاء. ووجه تخصيص العشاء أن في وقتها يكثر النعاس فيثقل البدن بواسطته مع الامتلاء بالعشاء فتتعطل الحركة فتشق الصلاة، وأسبابها حينئذٍ مشقة ظاهرة، فمن صلاها مع ذلك استحق دخول الجنة من غير سابقة عذاب (متفق عليه. البردان، الصبح والعصر) . 133 - (السابع عشر، عنه قال، قال رسول الله: إذا مرض العبد) قال في «الصحاح» : المرض

السقم اهـ. وفي «المصباح» مرض الحيوان مرضاً من باب تعب، والمرض حال خارجة عن الطبع ضارّ بالطبع، ويعلم من هذا أن الآلام والأورام أعراض عن المرض (أو سافر) أي: في غير معصية. قال الجوهري: السفر قطع المسافة وفي «المصباح» سفر الرجل سفراً من باب ضرب فهو سافر والجمع سفر مثل راكب وركب والاسم السفر بفتحتين: وهو قطع المسافة، يقال إذا خرج للارتحال أو لقصد موضع فوق مسافة العدوى سفر. وقال بعض المصنفين، أقل السفر يوم انتهى. والحديث شامل لطويل السفر وقصيره بأن يخرج لضيعة أو إلى مكان لا تلزمه فيه الجمعة لعدم سماعه النداء، ولا يخالف قول المصباح إن أهل العرف لا يسمونه سفراً فإن المراد سفراً طويلاً (كتب له) من البر (مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً) وعند أبي داود «كأصلح ما كان يعمل وهو صحيح مقيم» قال ابن بطال: هذا في أمر النوافل، أما صلاة الفرض فلا تسقط بسفر أو مرض (رواه البخاري) ورواه أحمد وغيره. ويؤخذ من الحديث تأييد من ذهب إلى أن الأعذار في ترك الجماعة مسقطة للحرج محصلة للفضيلة خلافاً للمصنف في الأخير، وحمل كلام المصنف على من لم يعتد ملازمتها مع عدم العذر أو لم ينوها لولا العذر وكلام غيره على ما إذا نواها وكان معاداً لها. 134 - (الثامن عشر، عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله: كل معروف) أي: كل ما يفعل من أعمال البر والخير (صدقة) أي: ثوابه كثوابها فإطلاقها على ذلك بطريق الاستعارة كما تقدم (رواه البخاري) وأحمد (ورواه مسلم) وأحمد وأبو داود (من حديث حذيفة رضي الله عنه) فلا يقال فيه متفق عليه، لأن الشيخين لم يتفقا على سنده وإن اتفقا على معناه ومبناه. 135 - (التاسع عشر: وعنه قال: قال رسول الله: ما من مسلم يغرس غرسا) بالفتح مصدر (إلا كان

ما أكل منه) أي: مما غرسه (له صدقة) يعني يحصل للغارس ثواب التصدق بالمأكول إن لم يضمنه الآكل (وما سرق منه له صدقة) يعني يحصل له مثل ثواب صدقة المسروق، وليس المعنى أن المأخوذ صار ملكاً للآخذ كما لو تصدق به عليه (ولا يرزؤه) بفتح التحتية وراء مهملة ثم زاي ثم همزة، وسيأتي أن معناه ينقصه (أحد إلا كان له صدقة. رواه مسلم. وفي رواية له) أي: لمسلم عن جابر (لا يغرس المؤمن غرساً ولا يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان) أي: على وجه التصدق عليه والإكرام، أو بطريق الغصب ما لم يؤدّ بدله (ولا) تأكل منه أو تتلفه (دابه) لعل المراد منها كل ما يدب على الأرض لكونه أعم (ولا طير) قيل: إنه اسم جمع لطائر، وقيل: جمع له كصحب وصاحب (إلا كان) أي: المأكول (له) في محل الحال و (صدقة) خبر كان، ويستمر ما استمرت هي أو ما تولد منها (إلى يوم القيامة) قال الأبي: ولا يبعد أن يدوم له الثواب وإن انتقل الملك إلى غيره إلى يوم القيامة وهذا ممكن في الغراس. قلت: قال ابن العربي: من سعة كرم الله تعالى أن يثيب على ما بعد الحياة كما يثيب على ذلك في الحياة وذلك في ستة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو غرس، أو زرع، أو الرباط. فللمرابط ثواب عمله إلى يوم القيامة. قلت: ولا يختص حصول هذه الصدقات بمن باشر الغرس أو الزراعة، بل يتناول من استأجر لعمل ذلك والصدقة حاصلة حتى فيما عجز عن جمعه كالسنبل المعجوز عنه بالحصد فيأكل منه حيوان فإنه مندرج تحت مدلول الحديث. (وفي رواية له) عن جابر أيضاً (لا يغرس) بالرفع (المسلم غرساً ولا يزرع) أي: المسلم (زرعاً) والغرس في الأشجار (فيأكل) بالنصب في جواب النفي (منه) أي: من ثمرة ما ذكر (إنسان ولا دابة ولا شيء) أي: من طائر وجنىّ فهو أعم من الروايات قبله (إلا كانت) أي: الزروع والمغروسات فالتأنيث لذلك أو نظراً إلى تأنيث الخبر (له صدقة. وروياه) أي: الشيخان (من رواية أنسبن مالك) . قال المصنف: وقد اختلف العلماء في أطيب المكاسب وأفضلها، فقيل التجارة، وقيل: الصنعة باليد، وقيل: الزراعة وهو الصحيح. وفي الحديث أن الثواب في الآخرة مختص بالمسلمين وأن الإنسان يثاب على ما سرق

من ماله أو أتلفته دابة أو طائر أو نحوهما (قوله) في الحديث (يرزؤه: أي ينقصه) .c 136 - (العشرون: عنه قال: أراد بنو سلمة) بكسر اللام: قبيلة معروفة من الأنصار، قال ابن عبد البرّ في كتاب «الأنسابّ» : إنه سلمةبن سعدبن الخزرج: وقال الكازروني في «شرح المشارق» : قبيلة منسوبة إلى سلمةبن سعدبن عليبن أسدبن سادرةبن زيدبن جثمبن الخزرج ابن حارثة، وهم بطن من الأنصار (أن ينتقلوا) من منزلهم الذي كانوا به وكان بعيداً من المسجد النبوي (قرب المسجد) لخلوه كما صرح به في رواية في مسلم (فبلغ ذلك) أي: إرادتهم التحوّل (النبي فقال لهم: إنه) الضمير للشأن (بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد، فقالوا: نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك، فقال: بني سلمة) بحذف حرف النداء (دياركم) منصوب على الإغراء: أي: الزموا دياركم ولا تنتقلوا إلى قرب المسجد (تكتب) بالجزم جواب الشرط المقدر (آثاركم) أي: آثار أقدامكم وخطاكم من الجمعة والجماعة (رواه مسلم) . (وفي رواية) لمسلم عن جابر «فنهانا رسول الله» (فقال: إن لكم بكل خطوة) تقدم أنه بضم الخاء ما بين القدمين وبفتحها: المرة من الخطوات (درجة) أي: في الجنة (ورواه البخاري أيضاً بمعناه من رواية أنس) ولفظ روايته قال: قال النبي: «يا بني سلمة، ألا تحتسبون آثاركم» . (وبنو سلمة بكسر اللام) والنسبة إليها السلمي بفتح أوّليه من تغيير النسب

(قبيلة معروفة من الأنصار) وآثارهم بالمد (خطاهم) بضم الخاء جمع خطوة: أي: خطواتهم في ذهابهم إلى المسجد للجمعة والجماعة. 137 - (الحادي والعشرون: عن أبي المنذر) بضم الميم وسكون النون بعدها ذال معجمة فراء مهملة، وهذه الكنية كناه بها رسول الله، ويكنى بأبي الطفيل ولده، كناه بها عمربن الخطاب (أبيّ) بضم الهمزة وفتح الموحدة وتشديد التحتية (ابن كعب) بن قيس ابن عبيدبن عبد يزيدبن معاويةبن عمروبن مالكبن النجار. واسم النجار تيم اللات، وقيل: تيمالله، وسمي بالنجار قيل لأنه اختّن بالقدوم، وقيل: لأنه ضرب وجه زوجته بالقدوم فنجره، ابن ثعلبةبن عمروبن الخزرج الأكبر الأنصاري الخزجي النجاري القارئي المدني (رضي الله عنه) شهد أبيّ العقبة الثانية في السبعين من الأنصار، وشهد بدراً وغيرها من المشاهد مع رسول الله. روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث وأربعة وستين حديثاً، اتفقا منها على ثلاثة، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بسبعة، وله فضائل كثيرة. ومن أسناها حديث الصحيحين عن أنس «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ على أبيّبن كعب سورة {لم يكن الذين كفروا} (البينة: 1) وقال: أمرني الله عزّ وجل أن أقرأ عليك» وهي منقبة عظيمة لم يشاركه فيها غيره. توفي بالمدينة ودفن بها، قيل: سنة ثلاثين في خلافة عثمان، قال أبو عثمان الأصفهاني: وهو الصحيح. وقال ابن عبد البرّ: الأكثر على أنه مات في خلافة عمر، كذا نقل ملخصاً من «التهذيب للمصنف» (قال: كان رجل) لم أر من سماه (لا أعلم رجلاً أبعد) الناس منزلاً (من المسجد منه، وكان لا تخطئه) بضم الفوقية: أي: تفوته (صلاة، فقيل له. أو فقلت له) شك من الراوي عن أبيّ، ويحتمل أن يكون منه بأن نسي أيهما كان لطول الزمان (لو) للتمني فلا تحتاج لجواب، ويحتمل أن تكون شرطية وحذف جوابها: أي: لكان أحسن لفهمه من السياق (اشتريت حماراً تركبه في) الليلة (الظلماء وفي الرمضاء فقال ما يسرني) أي: يعجبني (أن منزلي إلى جنب المسجد) لما يفوت بالقرب من أجر تعدد الخطا المرتب على بعد الدار منه (إني أريد أن يكتب) بالبناء للمفعول، ويحتمل أن يكون مبنياً للفاعل (لي) أجر (ممشاي)

أي: مشيي فهو مصدر ميمي (إلى المسجد، و) أجر (رجوعي إلى أهلي) منه (إذا رجعت) فيه إثبات الثواب في الرجوع من الصلاة كما في الذهاب إليها (فقال رسول الله: قد جمع الله لك) لصحة نيتك وحسن قصدك (ذلك) أي: الذي رجوت (كله) تأكيد معنوي (رواه مسلم) . (وفي رواية) لمسلم (إن لك) أي: عند الله أجر (ما احتسبت) أي: عملته من تكثير الخطا في الذهاب إلى المساجد احتساباً (الرمضاء) بالمد (الأرض التي أصابها الحر الشديد) حتى حميت من ذلك. 138 - (الثاني والعشرون: عن أبي محمد) وقيل: أبو عبد الرحمن، وقيل: أبو نصير بضم النون (عبد ابن عمروبن العاص) بن وائلبن هاشمبن سعيد مصغراً ابن سهمبن عمروبن هصيصبن كعببن لؤّيبن غالب القرشي السهمي الزاهد العابد الصحابي ابن الصحابي (رضي الله عنهما) بينه وبين أبيه في السن ثنتا عشرة سنة، أسلم قبل أبيه وكان كثير العلم مجتهداً في العبادة تلاّء للقرآن. وكان أكثر الناس أخذاً للحديث والعلم عن رسول الله. ثبت في «الصحيح» عن أبي هريرة قال: ما كان أحد أكثر حديثاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني إلا عبد ابن عمرو، كان يكتب ولا أكتب. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعمائة حديث، اتفقا على سبعة عشر منها، وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بعشرين. وإنما قلت الرواية عنه مع كثرة ما حمل لأنه سكن مصر وكان الواردون إليها لأخذ العلم قليلين، بخلاف أبي هريرة فإنه استوطن المدينة وهي مقصد المسلمين من كل جهة روي عنه قال: حفظت عن النبيّ ألف مثل، وأنه قال: لخير أعمله اليوم أحبّ إليّ من مثليه مع رسول الله، لأنا كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تهمنا الآخرة ولا تهمنا الدنيا، وإنا اليوم مالت بنا الدنيا. توفي بمصر سنة ثلاث، وقيل: خمس وستين، وقيل: بمكة سنة ستّ وستين، وقيل:

بالطائف سنة خمس وخمسين. وقيل: ثمان وستين، وقيل: ثلاث وسبعين وهو ضعيف. كان عمره اثنتين وسبعين سنة رضي الله عنه وسيأتي ما يتعلق بياء «للعاصي» إثباتاً وحذفاً في باب تحريم الظلم (قال: قال رسول الله: أربعون خصلة) بفتح المعجمة وسكون المهملة: أي: نوعاً من البرّ (أعلاها) في المرتبة (منحة) بكسر الميم وسكون النون وفتح المهملة: وهي العطية وأصلها عطية الناقة أو الشاة، ويقال: لا يقال منيحة إلا للناقة وتستعار للشاة. قال إبراهيم الحربي: يقولون منحتك الناقة، أغرستك النخلة أعمرتك الدار أخدمتك العبد، كل ذلك هبة منافع كذا في «فتح الباري» . وقال في أواخر باب الهبة من الفتح: أربعون مبتدأ أعلاهن مبتدأ ثان ومنيحة خبر الثاني والجملة خبر الأول اهـ. وفي نسخة «منيحة» بوزن عظيمة (العنز) بفتح المهملة وسكون النون بعدها زاي معروفة وهي واحدة المعز والجمع أعنز وعنوز وعناز (ما من) زائدة لتأكيد العموم واستغراقه (عامل) أي: وهو مسلم (يعمل خصلة) وفي نسخة بخصلة بزيادة باء (منها رجاء) ممدود مفعول لأجله (ثوابها) من الله تعالى (وتصديق) منصوب أيضاً (موعودها) أي: ما وعد به فيها. فالإضافة لأدنى ملابسة (إلا أدخله الله بها) أي: بسبب قبوله عمله بفضله ومنه (الجنة) فدخولها بفضله لا بعمله مع الفائزين. وتمام الحديث كما في البخاري «قال حسان: فعددنا ما دون منيحة المعز من رد السلام وتشميث العاطس وإماطة الأذى عن الطريق ونحوه فما استطعنا أن نبلغ خمس عشرة خصلة» اهـ. قال الحافظ العسقلاني: قال ابن بطال ما ملخصه: ليس في قول حسان ما يمنع من وجدان ذلك، وقد حض على أبواب من أبواب الخير والبرّ لا تحصى كثرة، ومعلوم أنه كان عالماً بالأربعين المذكورة وإنما لم يذكرها لمعنى هو أنفع لنا من ذكرها وذلك خشية أن يكون التعيين لها مزهداً في غيرها من أنواع البرّ. قال: وقد بلغني أن بعضهم تطلبها فوجدها تزيد على الأربعين، فمما زاده: إعانة الصانع والصنعة لأخرق وإعطاء شسع النعل والستر على المسلم والذبّ عن عرضه وإدخال السرور عليه والتفسح له في المجلس والدلالة على الخير والكلام الطيب والغرس والزرع والشفاعة وعيادة المريض والمصافحة والمحبة في الله والبغض لأجله والمجالسة والتزاور والنصح والرحمة وكلها في الأحاديث الصحيحة، وفيها ما قد ينازع في كونه دون منيحة العنز، وحذفت مما ذكر أشياء

تعقب ابن المنير بعضها وقال: إن الأولى ألا يعتني بعدّها لما تقدم. وقال الكرماني: جميع ما ذكره رجم بالغيب ثم من أين عرف أنها أدنى من المنحة. قلت: وإنما أردت بما ذكرته منها تقريب الخمس عشرة التي عدها حسانبن عطية وهي إن شاء الله لا تخرج عما ذكرته ومع ذلك فأنا موافق لابن بطال في إمكان تتبع أربعين خصلة من خصال الخير أعلاها منيحة العنز، وموافق لابن المنبر في ردّ كثير مما ذكره ابن بطال مما هو ظاهر أنه فوق المنحة اهـ كلام الحافظ (رواه البخاري) ورواه أبو داود أيضاً (المنيحة) بوزن عظيمة (أن يعطيه إياها ليأكل لبنها ثم يردها إليه) هذا أحد معنييها كما سيأتي في باب الكرم والجود عن أبي عبيد. 139 - (الثالث والعشرون: عن عدّيبن حاتم الطائي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: اتقوا النار) بأن تتخذوا ما يقيكم من عذابها من صالح العمل والصدقة ولو كان التصديق (بشق) بكسر الشين المعجمة: أي: نصف (تمرة) قال السيوطي في «مختصر النهاية» . شق كل شيء: نصفه. وقال ابن مالك هنا ببعض تمرة وتجوّز بالشق عنه (متفق عليه) ورواه النسائي من حديث عدّي أيضاً، ورواه أحمد عن عائشة والبزار والطبراني في «الأوسط» والضياء والبزار عن النعمانبن بشير وعن أبي هريرة والطبراني في «الكبير» عن ابن عباس وعن أبي أمامة، كذا في «الجامع الصغير» للسيوطي (وفي رواية لهما) أي: للشيخين (عنه) أي: عن عدي (قال: قال رسول الله: ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه) بالكلام النفسي القائم بذاته عزّ وجلّ ويسمعه كما يريد الله كما سمعه الكليم (ليس بينه) أي: الله (وبينه) أي: المكلم (ترجمان) بضم الفوقية وتفتح: الذي يترجم الكلام من لغة إلى أخرى والألف والنون زائدتان. قال ابن ملك: والمراد هنا الرسول لأن الله تعالى لا يخفى عليه شيء فيكون كلامه في الآخرة بالوحي لا بالرسول (فينتظر العبد أيمن منه) أي: في الجانب الأيمن (فلا

يرى إلا ما قدم) من صالح عمله (وينظر أشأم) بالهمزة (منه) أي: في الجانب الأيسر (فلا يرى إلا ما قدم) من سيء عمله (وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء) بكسر الفوقية: أي حذاء (وجهه، فاتقوا النار) باتخاذ صالح العمل وقاية منها (ولو) كان الاتقاء (بشق تمرة، فإن لم يجد) شيئاً يتقي به النار (فـ) ليتق منها (بكلمة طيبة) أي: بقول حسن يطيب به قلب المسلم. 140 - (الرابع والعشرون: عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إن الله ليرضى عن العبد أن) بفتح الهمزة: أي في أن (يأكل الأكلة) بفتح الهمزة كما سيأتي وأتى ببناء المرة فيه وفيما بعده إشعاراً بأنه يستحق الحمد على النعمة وإن قلت (فيحمده عليها) يحصل أصل السنة بقوله الحمد، وسيأتي في باب آداب الطعام بيان أكمله. قال ابن ملك: من السنة ألا يرفع صوته بالحمد عند الفراغ من الأكل إذا لم يفرغ جلساؤه كيلا يكون منعاً لهم (أو يشرب) بالنصب (الشربة فيحمده عليها. رواه مسلم) ورواه أحمد والترمذي والنسائي كما في «الجامع الصغير» (الأكلة بفتح الهمزة) المرة من الأكل حتى يشبع كذا قاله الجوهري (وهي الغدوة) بفتح المعجمة وسكون المهملة: اسم للمأكول أو النهار (أو العشوة) المأكلول آخره. 141 - (الخامس والعشرون: عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله: على كل مسلم) حق

متأكد كل يوم (صدقة) شكراً لنعم الله تعالى التي لا تعد ولا تحد، فالمراد منها هنا العموم البدلي وإن كانت في سياق الإثبات، ويدل له ورود التصريح به في الرواية السابقة «كل سلامى من الناس عليه صدقة» وقد تقدم في خبر «الصحيحين» أنها ثلاثمائة وستون. وعند أحمد وأبي داود مرفوعاً «في الإنسان ثلاثمائة وستون مفصلاً، فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منه، قالوا: ومن يطيق ذلك يا نبي ا؟ قال: النخاعة في المسجد فيدفنها، والشيء ينحيه عن الطريق، فإن لم يجد فركعتا الضحى تجزيه صدقة» كما تقدم (قال أرأيت) بفتح التاء: أي: أخبرني (إن لم يجده) أي: ما يتصدق به من المال (قال: يعمل بيديه فينفع نفسه) بعمله: أي: بثمنه أو بأجره أو بثمره (ويتصدق) منه، ففيه الحثّ على اكتساب ما تدعو إليه حاجة الإنسان من طعام وشراب وملبس ليصون وجهه عن الغير وما يتصدق به ليكتسب الثواب الجزيل بالقصد الجميل (قال: أرأيت إن لم يستطع) العمل المذكور ليتصدق منه (قال: يعين ذا الحاجة الملهوف) قال المصنف: الملهوف عند أهل اللغة يطلق على المتحسر وعلى المضطر، وإعانته أن يحمله على دابته أو يعينه على حمل متاعه عليها أو يوصل حاجة لمن لا يقدر على إيصالها من ذي سلطان ونحوه «وا في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» (قال: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: يأمر بالمعروف أو الخير) شك من الراوي (قال: أرأيت إن لم يفعل) أي: وهو معذور في ترك ذلك أو كان الأمر بذلك المعروف ليس مفروضاً على الكفاية (قال: يمسك) بضم الياء: أي: يمسك نفسه ويحبسها (عن الشر) بألا يفعل شيئاً منه فيلزم من ذلك القيام بجميع الواجبات وترك المحرمات، ومنه: أي: من الشرّ ترك الفرائض (فإنها) أي: هذه الخصلة (صدقة) منه على نفسه لسلامتها من الهلاك، وعلى غيره لكف الشرّ عنه، بل هذا هو الشكر الواجب الكافي في شكر هذه النعم وغيرها، أما الشكر المستحب فبأن يزيد على ذلك بنوافل الطاعات القاصرة كالأذكار والمتعدية كالصدقة والإعانة (متفق عليه) .

14 ـــ باب في الاقتصاد

14 - باب في الاقتصاد أي: التوسط (في) أداء (العبادة) إبقاء على النفس ودفعاً للملل عنها. ونفس الإنسان في الطريق المعنوي كدابة في الطريق الحسي؛ فكما أنه إذا جد على دابته الحسية وكدها بالأحمال الثقيلة وقطع المسافات الطويلة انقطعت به في أثناء الطريق ولم يصل إلى مقصده، وإذا رفق بها وماشاها وصل إلى المراد وهان عليه ببلوغه لمقصده ما لقيه من مشقة السفر كذلك هنا، قال ابن رسلان في «شرح سنن أبي داود» : قال الحسن: نفوسكم مطاياكم فأصلحوا مطاياكم توصلكم إلى ربكم، فمن وفى النفس حقها من المباح بنية صالحة كالتقوى به على صالح العمل ومنعها من شهواتها وحظها كان مأجوراً في ذلك كما قال معاذ: إني احتسبت نومتي كما احتسبت قومتي، ومتى قصر في حقها حتى ضعفت وتضررت كان ظالماً لها، وإلى هذا أشار النبيّ بقوله لعبد ابن عمرو «إنك إذا فعلت ذلك نفهت له النفس وهجمت له العين» ومعنى نفهت بكسر الفاء: أعيت وكلت، هجمت العين: غارت. وقال لأعرابي جاءه وأسلم ثم أتاه من عام قابل وقد تغير فلم يعرفه فلما عرفه سأله عن حاله فقال: «ما أكلت بعدك طعاماً بنهاري، فقال: ومن أمرك أن تعذب نفسك؟» فمن عذب نفسه بأن حملها على ما لا تطيق من الصيام ونحوه فربما أثر ذلك في ضعف بدنه وعقله فيفوته من الطاعات أكثر مما حصله بتعذيب نفسه بالصيام ونحوه اهـ. والعبادة غاية الذلل فهي أبلغ من العبودية إذ هي إظهار التذلل. (قال الله تعالى: {طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} (طه: 1، 2) . وقال الله تعالى: {يريد الله بكم اليسر} ) (البقرة: 185) بسكون المهملة، وقرىء بضمها لغتان وكذلك العسر كما تقدم ذلك ( {ولا يريد بكم العسر} ) هو بمعنى «يريد الله بكم اليسر» كررت تأكيداً، قال القرطبي في «التفسير» : قال مجاهد والضحاك: اليسر الفطر في السفر، والعسر الصوم فيه؛ والوجه عموم اللفظ في جميع أمور

الدين كما قال تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (الحج: 78) روي عنه «دين الله يسر» وقال «يسروا ولا تعسروا» واليسر من السهولة، ومنه اليسار للغني، وسميت اليسر تفاؤلاً، أو لأنه يسهل له الأمل بمعاونتها لليمنى اهـ. 1421 - (وعن عائشة رضي الله عنها أن النبيّ دخل عليها وعندها امرأة قال من هذه؟ قالت: هذه فلانة) قال المصنف في «المبهمات» : قال الخطيب: هي الحولاء بنت ثويببن حبيببن أسدبن عبد العزى (تذكر) بفتح الفوقية والفاعل عائشة. وفي «مسند الحسن» بن سفيان: هذه فلانة وهي أعبد أهل المدينة. وفي «مسند أحمد» : لا تنام تصلي، وروي يذكر بالبناء للمفعول وبالتحتية: أي: يذكرون (من صلاتها) أي: أنها كثيرة، وروي فذكر بفاء فضم المعجمة فكسر الكاف (قال) إشارة إلى كراهة ذلك خشية الملل والفتور على فاعله فينقطع عن العبادة التي التزمها فيكون رجوعاً عما بذل لربه من نفسه (مه) كلمة زجر: بمعنى اكفف، ما ذكر من كونه زجراً عن ذلك هو ما اقتصر عليه في «فتح الباري» . قال السيوطي في «التوشيح» : ويحتمل أن يكون زجراً لعائشة عن مدحها المرأة بذلك (عليكم من العمل بما تطيقون) الدوام عليه (فوا) أتى به لتأكيد الأمر، ويسن الحلف لمثل ذلك (لا يمل الله حتى تملوا) بفتح الميم في الموضعين، والملال: استثقال الشيء ونفور النفس عنه بعد محبته، وهو محال على الله تعالى، فإطلاقه عليه من باب المشاكلة نحو {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى: 40) قال السيوطي: هذا أحسن محامله. وفي بعض طرقه عن عائشة «كلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل» أخرجه ابن جرير في «تفسيره» : أي: لا يقطع ثوابه ويتركه اهـ. قال الحافظ العسقلاني في «فتح الباري» : في بعض طرق حديث ابن جرير ما يدل على أنه مدرج من قول بعض الرواة اهـ. قال القرطبي وجه المجاز فيما ذكر أن الله تعالى لما كان يقطع ثوابه عمن قطع العمل ملالاً عبر عن ذلك بالملل تسمية للشيء باسم سببه هذا بناء على إبقاء «حتى» على مدلولها من انتهاء الغاية، وقيل بتأويلها. فالمعنى: لا يمل الله إذا مللتم، وهو مستعمل في كلام العرب يقولون: لا أفعل

كذا حتى يشيب الغراب، ومنه قولهم: البليغ لا ينقطع حتى ينقطع خصومه، لأنه لو انقطع حين ينقطعون لم يبق له عليهم مزية. وهذا المثال أشبه مما قبله، لأن شيب الغراب ليس ممكناً عادة بخلاف الملل من العابد. وقال المازري: حتى بمعنى الواو؛ والمعنى: أن الله لا يملّ وتملون، فنفاه تعالى عنه وأثبته لهم. وقيل: حتى بمعنى حين، والأولى أليق وأجري على القواعد وهو أنه من باب المقابلة اللفظية (وكان أحب الدين إليه) عند المستملي «إلى ا» وهو يدل على أن الضمير في إليه تعالى.g والأكثر على أنه لرسوله، ولا منافاة بينهما فإن ما كان أحبّ إلى الله كان أحبّ إلى رسوله (ما داوم صاحبه عليه) قال ابن العربي: معنى المحبة من الله تعالى تعلق الإرادة بالثواب: أي: أكبر الأعمال ثواباً أدومها. قال المصنف: بدوام القليل تستمر الطاعة بالذكر والمراقبة والإخلاص والإقبال على الله بخلاف الكثير الشاق حتى ينمو القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافاً كثيرة اهـ. قال ابن الجوزي: إنما أحبّ العمل الدائم، لأن مداوم الخير ملازم للخدمة، وليس من لازم وقتاً في كل يوم كمن لازم يوماً وانقطع شهراً، ولأنه بتركه العمل بعد دخوله فيه كان كالمعرض بعد الوصل فهو متعرّض للذم والعضل اهـ ملخصاً (متفق عليه) . و (مه) بسكون الهاء إذا كان النهي عن أمر معين وبكسرها منونة إذا كان عن غير معين (كلمة نهي وزجر. ومعنى لا يمل ا) أي: المعنى لا مدلول اللفظ لما قد عرفت، وكأنه أشار إلى ذلك بالإتيان بأي في قوله: (أي: لا يقطع ثوابه عنكم وجزاء أعمالكم ويعاملكم معاملة المالّ حتى تملو فتتركوا، فينبغي لكم) إذا عرفتم ما يترتب على العمل الشاق من الانقطاع (أن تأخذوا ما تطيقون الدوام عليه) من العمل الصالح وإن قلّ (ليدوم ثوابه) عليه (لكم و) يستمر (فضله عليكم) لدوام تفضله بجعله سبباً له. 1432 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط) قال شيخ الإسلام زكريا في «تحفة

القاري» على «صحيح البخاري» : يعني ثلاثة رجال: عليّبن أبي طالب وعبد ابن عمرو ابن العاص، وعثمانبن مظعون. وإلا فالرهط لغة: من ثلاثة إلى عشرة اهـ (إلى بيوت أزواج النبي يسألون) يجوز أن يكون صفة للثلاثة وأن يكون حالاً لها (عن عبادة النبيّ) أي: عن قدرها ليتمسكوا بها ويقتدوا به في أفعاله فأخبروا بها (فلما أخبروها) فالفاء عاطفة على مقدر (تقالوها) بتشديد اللام المضمومة تفاعل من القلة: أي: عدوها قليلة، قال الأبي في «شرح مسلم» : إنما تقالوها بالنسبة إلى فهمهم، وربّ قليل عند شخص كثير في نفسه. وكان الشيخ يعني ابن عرفة يقول: الضمير إنما هو عائد على أعمالهم لاستكثارهم عمله، وهذا يرده أنه في البخاري حين تقالوه (قالوا: وأين نحن من النبيّ؟) أي: بيننا وبينه بون بعيد ومسافة طويلة، فإنا على صدد التفريط وسوء العاقبة وهو معصوم (وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر) قال تعالى: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} (الفتح: 2) وهذا كناية عن تشريفه وتكميله، وإلا فلا ذنب يصدر منه لعصمته من الذنوب مطلقاً على سائر أحواله، وتقدم وجه آخر (فقال أحدهم) وعند مسلم بعضهم (أما) حرف شرط فيه معنى التوكيد (أنا فأصلي الليل أبداً) أي: أحييه بالقيام ولا أنام شيئاً منه (وقال الآخر) بفتح الخاء المعجمة (وأنا أصوم الدهر) أي: ما عدا يومي العيد وأيام التشريق لحرمة صومها (ولا أفطر) في شيء من أيامه (وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً) يحتمل أنه زهد فيه لكونه من المستلذات ولما يرى من أن النكاح شاغل عن كمال الجد في العبادة. قال الجنيد: ما رأينا من تزوّج فبقي على حاله (فجاء رسول الله) أي: أعلم بما قالوه فجاء (فقال: أنتم) بحذف ألف الاستفهام التقريري: أي: أأنتم (الذين قلتم كذا وكذا) ويحتمل أنه أوحي له بما قالوه ولم يعلمه به أحد من البشر فأخبر به معجزة، وتقدير الكلام: فقالوا نعم إذ الاستفهام يقتضيه، ويحتمل ألا يكون على الاستفهام ويكون لينبئهم على علمه بكلامهم فيكون من

قبيل ما يسمى عند علماء المعاني بلازم فائدة الخبر والأول أقرب (أما) بتخفيف الميم أداة استفتاح (وا إني لأخشاكم وأتقاكم له) لما جمع الله له من علم اليقين مع المعرفة القلبية واستحضار العظمة الإلهية ما لم يجتمع لأحد سواه وأراد ردّ ما بنى عليه القوم أمرهم حيث أعلمهم أنه مع كونه بالغاً في الخشية أعلاها وفي العبادة منتهاها لم يفعل ما أرادوا فعله. ولو كان أحب إلى الله مما هو عليه من الاقتصاد لفعله. والخشية: خوف مقرون بمعرفة فهي أخص من الخوف إذ هو توقع العقوبة على مجاري الأنفاس واضطراب القلب من ذلك المخوف. وقيل: الخوف حركة والخشية سكون، ألا ترى أن من رأى عدوّاً له حالة استقراره في محل يصل إليه فيه تحرّك للهرب منه وهي حالة الخوف، ومن رآه حالة استقراره في محل لا يصل إليه سكن وهي الخشية. قال السيوطي في «مرقاة الصعود» : قال الشيخ عز الدينبن عبد السلام: في الحديث إشكال لأن الخوف والخشية حالة تنشأ عن ملاحظة شدة النقمة الممكن وقوعها بالخائف، وقد دل القاطع على أنه عليه الصلاة والسلام غير معذب فكيف يتصوّر منه الخوف، فكيف أشد الخوف؟ قال: والجواب أن الذهول جائز عليه، عليه الصلاة والسلام، فإذا حصل الذهول عن موجبات نفي العقاب حدث الخوف. وقد يقال: إن إخباره بشدة الخوف وعظم الخشية عظم بالنوع لا بكثرة العدد: أي: إذا صدر منه الخوف ولو في زمن فرد كان أشد من خوف غيره اهـ (لكني أصوم) تارة (وأفطر) تارة أخرى (وأصلي) أي: أتهجد في بعض الليل. أداء لحق العبودية (وأرقد) أداء لحق النفس (وأتزوّج النساء، فمن رغب) أي: أعرض (عن سنتي) طريقتي (فليس مني) من هذه، تسمى اتصالية: أي: ليس متصلاً بي ليسمى قريباً مني، والسنة مفرد مضاف إلى معرفة فتعم على الراجح وتشمل الشهادتين وأركان الإسلام، فيكون الراغب عن ذلك مرتداً. وقال المطرزي في «شرح المصابيح» : يعني من ترك ما أمرت به من أحكام الدين فرضاً أو سنة على سبيل الاستخفاف بي وعدم الالتفات إليّ فليس مني لأنه كافر، أما من تركه لا عن استخفاف بل عن الكسل لم يكن كافراً، وحينئذٍ فقوله: «ليس مني» أي: من المقتدين بي والعاملين بسنتي اهـ (متفق عليه) واللفظ للبخاري وعند مسلم نحوه. قال الأُبِّي: وما دلت عليه

الأحاديث من راجحية النكاح هو أحد قولين، وهذا حين كان في النساء المعونة على الدين والدنيا وقلة التكلف والشفقة على الأولاد، أما في هذه الأزمنة فنعوذ با من الشيطان، ومن النسوان، فوا الذي لا إله إلا هو لقد حلت العزلة والعزبة بل ويتعين الفرار منهن، فلا حول ولا قوة إلا با اهـ. 1443 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبيّ قال: هلك المتنطعون قالها) أي: هذه الجملة وكررها (ثلاثاً) تأكيداً في النهي عنه، وكان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثة لتفهم عنه رواه البخاري و (رواه مسلم) وأحمد وأبو داود. (المتنطعون) جمع متنطع اسم فاعل من التنطع بتقديم الفوقية على النون (المتعمقون المشددون في غير موضع التشديد) وقال الحطابي: المتنطع المتعمق في الشيء المتكلف البحث عنه على مذاهب أهل الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم. وقال في «النهاية» : المغالون في الكلام المتكلمون بأقصى حلوقهم، مأخوذ من النطع وهو الغار الأعلى من الفم، ثم استعمل في كل تعمق قولاً وفعلاً. قال العاقولي: يدخل في هذا الذم ما يكون القصد فيه مقصوراً على اللفظ ويجيء المعنى تابعاً للفظ، أما بالعكس فهو الممدوح، وهو أن يدع الرجل نفسه تجري على سجيتها فيما يروم التعبير عنه من المعاني كما قال: أرسلت نفسي على سجيتها وقلت ما قلت غير محتشم 1454 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: إن الدين) أل فيه للعهد: أي: دين الإسلام (يسر) قال الكرماني: معناه إما ذو يسر أو أنه يسر على سبيل المبالغة نحو زيد عدل: أي: لشدّة اليسر وكثرته فيه كأنه نفسه. وقال الطيبي: يسر خبر إن وضع موضع المفعول مبالغة (ولن يشادّ الدين إلا غلبه) قال الطيبي: بناء المفاعلة في يشادّ ليس للمغالبة بل للمبالغة نحو طارقت النعل وهو من جانب المكلف. قلت: والمعنى لا يتعمق أحد

في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع عن عمله كله أو بعضه. ويحتمل أن يكون للمبالغة على سبيل الاستعارة والمستثنى منه أعم الأوصاف: أي: لم يحصل ويستقرّ ذلك المشاد على وصف من الأوصاف إلا على أنه مغلوب (فسددوا) الفاء جواب شرط مقدر: أي: إذا بينت لكم ما في المشادة من الوهن فسدوا: أي: الزموا السداد، وهو التوسط من غير إفراط ولا تفريط. قال أهل اللغة: السداد التوسط (وقاربوا) أي: إن لم تستطيعوا العمل بالأكمل فاعملوا ما يقرب منه، وقد تقدم في آخر باب الاستقامة في الأصل معنى السداد والمقاربة (وأبشروا) بالثواب على العمل الدائم وإن قل (واستعينوا) على تحصيل العبادات (بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة) قال في «التوشيح» بالضم، قال في «مختصر القاموس» و «الفتح» : فاقتصار «التوشيح» على الضم لأنه الرواية الصحيحة كما في «المشارق» للقاضي عياض. قال: ويقال بفتح الدال: أي: مع سكون اللام وفتحها (رواه البخاري. وفي رواية له) من حديث أبي هريرة (سددوا وقاربوا واغدوا وروحوا وشيء من الدلجة) أي: مضموم إلى الغدوة والروحة (القصد) بالنصب على الإغراء: أي: الزموا التوسط في الأمر من غير إفراط ولا تفريط أو مفعول (تبلغوا) جواب الشرط المقدر: أي: إن تفعلوا ذلك على وجه القصد والمقاربة تبلغوا القصد من مرضاة ربكم ودوام القيام بعبوديته، وإن تعاطيتم المشاقّ ربما مللتم فانقطعتم (قوله الدين) قال صاحب «المطالع» هو في أكثر الروايات (مرفوع على) أنه مفعول (ما) أي: فعل (لم يسم فاعله) «ويشاد» عليه مبني للمفعول (وروي منصوباً) بإضمار الفاعل للعلم به. ونقل العلقمي عن المصنف أنه قال: إن هذه أكثر الروايات قال: قال الحافظ ابن حجر: وجمع بينه وبين كلام صاحب «المطالع» بأنه بالنسبة إلى رواية المغاربة والمشارقة (وروي: لن يشادّ الدين أحد) أي: بالتصريح بالفاعل، قال الحافظ: رواه هكذا ابن السكن، وكذا هو في طرق الحديث عند الإسماعيلي وأبي نعيم وغيرهم، قال الزركشي: وليس في الدين على هذه الرواية إلا النصب (وقوله إلا غلبه: أي: غلبه الدين) بالرفع فالضمير المرفوع المستكن يرجع إليه (وعجز ذلك المشاد عن مقاومة الدين لكثرة طرقه)

أي: ولا يمكن القيام بكلها في كل وقت لأن الوقت لا يقبل عملين، وليس للإنسان في جوفه من قلبين (والغدوة) بفتح الغين المعجمة المرة من (سير أول النهار) الذي هو الغدو (و) كذا (الروحة) فهي المرة من سير (آخر النهار) المسمى بالرواح ففي العبارة تجوّز وتسامح. قال السيوطي: الغدو سير أول النهار، والغدوة أي بالفتح المرة منه، وبالضم ما بين صلاة الغدوة وطلوع الشمس اهـ (والدلجة) السير (آخر الليل) هذا قول بعض أهل اللغة، واقتصر في «مختصر القاموس» على أنه سير الليل كله، وقد بسط ذلك القاضي عياض فقال في «المشارق» : اختلف أرباب اللغة في هذا: أي: في أدلج بالتشديد والتخفيف وفي الإدلاج بسكون الدال وتشديدها مكسورة هل يستعمل ذلك كله في الليل كله أو بينها اختلاف؛ فقيل إن ذلك كله يستعمل في سير الليل كله والدلجة بفتح الدال وضمها سواء فيهما، وأنهما لغتان، وأكثرهم يقول ادّلج بتشديد الدال: سار آخر الليل، وأدلج بتخفيفها: الليل كله، يقال ساروا دلجة: أي: ساعة من الليل، والدلج بفتح اللام، والإدلاج بسكون الدال، والدلجة بفتح الدال: سير الليل كله، والإدلاج بتشديد الدال، والدلجة بضم الدال: سير آخره. وفي الهجرة: فيدلج من عندهما سحراً اهـ. (وهذا) أي: قوله استعينوا الخ (استعارة) بأن شبه استعانة السالك في استعماله في سلوكه أوقات النشاط المقرّبة لوصوله لغاية سلوكه باستعانة المسافر السفر الحسي بسيره في هذه الأوقات التي تنشط فيها الدواب وتقطع فيها المسافات التي يقرب بقطعها من المقصد، ثم سرت الاستعارة منه إلى الفعل فهي استعارة مصرحة تبعية (وتمثيل) بأن شبه ما يقع من السالك من الاستراحة وقتها والتعبد أوقات النشاط والفراغ بحلول المسافر تارة وارتحاله في أوقات النشاط أخرى في الوصول إلى المقصد، فالواو في كلامه بمعنى أو الاستعارة في الوجه الأخير للمجموع، ويحتمل أن يكون مراد المصنف أن ذلك استعارة تمثيلية، والله أعلم (ومعناه: استعينوا على طاعة الله تعالى بالأعمال في وقت نشاطكم) هذا يرجع إلى الغدوة والروحة (وفراغ قلوبكم) يرجع للدلجة (بحيث تستلذون الطاعة) وإن كانت شاقة في ذاتها لمزيد النشاط وصفاء القلب مما يشغله عن استجلاء محاسن الطاعة (ولا تسأمون) لنشاطكم وفراغ قلوبكم (وتبلغون مقصودكم) من أداء العبودية حسب الطاقة (كما أن المسافر الحاذق يسير في هذه الأوقات) لنشاط الدواب ببرد الهواء فيقطع فيها من المسافرة ما لا يقطعه في أطول منها من باقي

الأوقات (ويستريح هو ودابته في غيرها فيصل المقصود بلا تعب، والله أعلم) . 1465 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: دخل النبي) زاد مسلم (المسجد فإذا حبل ممدود بين الساريتين) من سواريّ المسجد وكأنهما كانا معهودين بين المخاطبين، وعند مسلم «ساريتين» بالتنكير (فقال: ما هذا الحبل) أي: ما سبب مده بهذا المكان (قالوا) أي: الحاضرون (هذا حبل لزينب) قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: جزم كثير من الشارحين تبعاً للخطيب في «مبهماته» أنها بنت جحش ولم أر ذلك في شيء من الطرق صريحاً، ثم نقل ما قد يؤخذ منه ذلك فقال من جملته: وأخرجه أبو داود عن شيخين له، فقال عن أحدهما زينب بنت جحش، وعن الآخر حمنة بنت جحش، فهذه قرينة في كون زينب هي بنت جحش. وروي أحمد عن أنس أنها حمنة بنت جحش، ولعل نسبه الحبل إليهما باعتبار أنه ملك لإحداهما والأخرى المتعلقة به. قال: وقد تقدم أن كلاً من بنات جحش تدعي زينب فيما قيل، فالحبل لحمنة وأطلق عليها زينب باعتبار اسمها الآخر. وعند ابن خزيمة في «صحيحه» «فقالوا الميمونة بنت الحارث» وهي رواية شاذة، وقيل: يحتمل تعدد القصة. وزاد مسلم لزينب تصلي» (فإذا فترت) بفتح الفوقية: أي: كسلت عن القيام في الصلاة، ووقع في مسلم: كسلت أو فترت بالشك (تعلقت به، فقال النبي: «حلوه ليصلّ أحدكم نشاطه) بفتح النون (فإذا فتر فليرقد. متفق عليه) قال الحافظ ابن حجر: فيه الحثّ على الاقتصاد في العبادة

والنهي عن التعمق فيها والأمر بالإقبال عليها بنشاط، وفيه إزالة المنكر باللسان واليد، وفيه جواز تنفل النساء في المسجد. 1476 - (وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا نعس أحدكم) بفتح العين في الماضي وضمها وفتحها في المضارع وغلطوا من ضم عين الماضي، والنعاس: مقدمة النوم، وعلامته سماع كلام الحاضرين وإن لم يفهم معناه (وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم) في رواية النسائي فلينصرف، والمراد به التسليم من الصلاة بعد تمامها فرضاً كانت أو نفلاً، فالنعاس سبب للنوم وللأمر به ولا يقطع الصلاة بمجرد النعاس، وحمله المهلب على ظاهره فقال: إنما أمره بقطع الصلاة لغلبة النوم عليه، فدل على أنه إذا كان النعاس أقل من ذلك فلا قطع (فإن أحد) أي: الواحد منكم إذا صلى وهو ناعس غاير بين لفظي النعاس فعبر أولاً بلفظ الماضي، وهنا بلفظ الوصف تنبيهاً على أنه لا يكفي وجود أدنى نعاس وتقضيه في الحال بل لا بد من ثبوته بحيث يفضي إلى عدم درايته بما يقول وعدم علمه بما يقرأ. فإن قلت: هل بين قوله: «نعس أحدكم وهو يصلي» وقوله: «صلى وهو ناعس» فرق؟ قلت: أجيب بأن الحال قيد في الكلام والقصد في الكلام ماله القيد، فالقصد في الأول غلبة النعاس لا الصلاة لأنه العلة في الأمر بالرقاد فهو المقصود الأصلي في التركيب، وفي الثاني صلاة لا النعاس لأنها العلة في الاستغفار فهي المقصود في التركيب، إذ تقدير الكلام: إذا صلى أحدكم وهو ناعس يستغفر (لا يدري لعله يذهب يستغفر) أي: يقصد الاستغفار (فيسبّ نفسه) أي: يدعو عليها، وهو بالرفع عطفاً على يستغفر، والنصب جواباً لـ «لعل» وجعل العارف با ابن أبي جمرة علة النهي خشية أن يوافق ساعة إجابة، والترجي في لعل عائد على المصلى لا إلى المتكلم به: أي لا يدري أمستغفر أم ساب مترجياً للاستغفار وهو في الواقع بضد ذلك. قال الطيبي: والنصب أولى لأن المغني لعله يطلب من الله الغفران لذنبه ليصير مزكى/ فيتكلم بما يجلب الذنب فيزيد العصيان على العصيان فكأنه سبّ نفسه. قال: ومفعول لا يدري محذوف: أي: لا يدري ما يفعل وما بعده مستأنف بياني، والفاء في فيسبّ للسببية كالكلام فيـ فالتقطه آل

فرعون ليكون لهم عدوّاً - (متفق عليه) . ورواه مالك وأبو داود والترمذي وابن ماجه كما في «الجامع الصغير» . 1487 - (وعن أبي عبد ا) ويقال أبو خالد (جابربن سمرة) بضم الميم ابن جنادة ابن جندببن حجيربن رباببن حبيببن سواءة، بضم السين والمد، بن عامر ابن صعصعة ابن بكربن هوازنبن منصوربن عكرمةبن خصفةبن قيس عيلان بالمهملة ابن مضربن نزاربن معدّابن عدنان (السوائي) هو وأبوه صحابيان (رضي الله عنهما) روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث وستة وأربعون حديثاً، اتفقا على حديثين، وانفرد مسلم بثلاثة وعشرين، توفي سنة ستّ وستين (قال: كنت أصلي مع النبيّ الصلوات) . وفي رواية لمسلم «وا لقد صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر من ألفي صلاة» (فكانت صلاته قصداً) أي: يأتي بمكملاتها ومسنونها من غير طول ولا قصر (وخطبته) أي: للجمعة وغيرها (قصدا) إذ هو لما أوتي من جوامع الكلم كان يجمع المعاني الكثيرة في الألفاظ اليسيرة ولم يبالغ في الإيجاز لأنه بصدد البيان والمبالغة فيه تؤدي إلى خلاف ما هو بصدده غالباً (رواه مسلم. قوله قصداً: أي: بين الطول والقصر) بكسر ففتح. 1498 - (وعن أبي جحيفة) بضم الجيم وفتح المهملة وسكون التحية بعدها فاء ثم هاء

(وهببن عبد ا) وقيل: ابن وهب السوائي بضم المهملة وتخفيف الواو والمد: نسبة إلى سواءة ابن عامربن صعصعة المذكور في نسب جابربن سمرة، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة وأربعون حديثاً اتفقا على حديثين منها، وانفرد البخاري بحديثين ومسلم بثلاثة توفي النبي وأبو جحيفة صبيّ لم يبلغ الحلم، وكان عليبن أبي طالب يكرمه ويحبه ويثق به وجعله على بيت المال بالكوفة، نزل الكوفة ابتنى بها داراً، وتوفي بها سنة اثنتين وسبعين (رضي الله عنه قال: آخى) بالمد والخاء المعجمة من المؤاخاة والمعاهدة على التناصر والقيام بحقوق الدين (النبي بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء) عويمر الأنصاري لما آخى بين المهاجرين والأنصار، وذلك بعد قدومه المدينة بخمسة أشهر والمسجد يبنى كذا قيل.g وتعقب بأن سلمان إنما أسلم بعد وقعة أحد، وأول مشاهدة الخندق وأجيب بأن التاريخ المذكور هو ابتداء تاريخ الأخوة بين من ذكر، ثم كان يؤاخي بين من يأتي بعد ذلك وهلم جرا، وليس باللازم أن تقع المؤاخاة دفعة واحدة حتى يرد ما ذكر (فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء) الكبرى واسمها خيرة بفتح المعجمة وسكون التحتية بنت حدرد صحابية بنت صحابي، ماتت قبل أبي الدرداء (متبذلة) بفتح المثناة والموحدة وتشديد المعجمة: أي: لابسة ثياب البذلة بكسر الموحدة وسكون المعجمة: وهي المهنة وزناً ومعنىً، والمعنى: أنها تاركة للبس ثياب الزينة، وعند الكشميهني بتقديم الموحدة والتخفيف والمعنى واحد (فقال لها: ما شأنك) زاد الترمذي في روايته: أم الدرداء متبذلة (قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا) وفي رواية الدارقطني «في نساء الدنيا» وزاد فيه ابن خزيمة «يصوم النهار ويقوم الليل» (فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً) على وجه القرى والكرامة فقال بعد أن قرب الطعام (له) أي: لسلمان (كل فإني صائم، قال) سلمان (ما أنا بآكل) زاد الباء لتأكيد النفي (حتى تأكل) وغرضه أن يصرف أبا الدرداء عن رأيه فيما يصنعه من جهد نفسه في العبادة وغير ذلك مما شكته إليه امرأته (فأكل) إكراماً له فإفطاره لعذر فيثاب عليه (فلما كان الليل) في رواية ابن خزيمة وغيره «ثم بات عنده/ فلما

كان الليل» أي: أوله ذهب أبو الدرداء يقوم، فقال له سلمان (ثم فنام، ثم ذهب يقوم فقال نم، فلما كان من آخر الليل) أي: عند السحر وكذا هو في رواية ابن خزيمة. وعند الترمذي «فلما كان عند الصبح» والدارقطني «فلما كان في وجه الصبح» (قال سلمان: قم الآن، فصليا) في رواية الطبراني «فقاما فتوضأ ثم ركعا ثم خرجا إلى الصلاة» (فقال له سلمان) مرشداً إلى حكمة الاقتصاد وترك الغلوّ في العبادة (إن لربك عليك حقاً) من العبادة (وإن لنفسك عليك حقاً) من الطعام الذي تقوم به بنيتها والمنام الذي يحصل به صحتها (ولأهلك) أي: زوجك (عليك حقاً) هو إتيانها وقضاء وطرها، زاد الترمذي وابن خزيمة «ولضيفك عليك حقاً» زاد الدارقطني فصم وأفضل وصل ونم وأت أهلك» وذلك كالتفسير لقوله هنا (فأعط كل ذي حق حقه لي) أي: أبو الدرداء (النبي، فذكر ذلك له) في رواية الترمذي «فأتيا بالتثنية» وعند الدارقطني «ثم خرجا إلى الصلاة، فدنا أبو الدرداء ليخبر النبي بالذي قال له سلمان، فقال له: يا أبا الدرداء إن لجسدك عليك حقاً» مثل ما قال سلمان، ففي هذه الرواية أن النبي أشار إليهما بأنه علم بطريق الوحي ما جرى بينهما، فيحتمل الجمع بأنه كاشفهما بذلك أولاً ثم أطلعه أبو الدرداء على صورة الحال (فقال النبي: صدق سلمان) وعند الطبراني مرسلاً قال: «كان أبو الدرداء يحيي ليلة الجمعة ويصوم يومها، فأتاه سلمان» فذكر القصة مختصرة وزاد في آخرها فقال النبي: «عويمر. سلمان أفقه منك» اهـ. وعويمر هو اسم أبي الدرداء. وفي رواية لأبي نعيم «فقال النبيّ: «لقد أوتي سلمان علماً» . قال الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر ما شرحنا به الحديث ملخصاً: وفي الحديث من الفوائد مشروعية المؤاخاة فيالله، وزيارة الإخوان فيه والمبيت عندهم، وجواز مخاطبة الأجنبية للحاجة، والنصح للمسلم وتنبيه من غفل، وفيه فضل قيام آخر الليل، وفيه جواز النهي عن المستحبات إذا خشي أن ذلك يفضي إلى السآمة والملل وتفويت الحقوق المطلوبة الواجبة أو المندوبة الراجح فعلها على فعل المستحب المذكور. والوعيد الوارد فيمن نهى مصلياً عن الصلاة مخصوص بمن نهاه ظلماً وعدواناً، وفيه كراهية الحمل على النفس في العبادة، وفيه جواز الفطر من صوم التطوع. ثم أطال الحافظ في بيان الخلاف في

ذلك وفي لزوم القضاء (رواه البخاري) وغيره ممن تقدمت الإشارة إليه. 1509 - (وعن أبي محمد عبد ابن عمروبن العاص) قال المصنف: أكثر ما يأتي في كتب الحديث والفقه بحذف الياء وهو لغة، والصحيح الفصيح إثباتها، ولا اغترار بوجوده في كتب الحديث أو أكثرها بحذفها اهـ. وفي «شرح المشكاة للقاري» : الأصح عدم ثبوت الياء إما تخفيفاً أو بناء على أنه أجوف ويدل عليه ما في «القاموس» : الأعياص من قريش أولاد أمية بن عبد شمس: العاص وأبو العاص وأبو العيص اهـ. فعليه لا يجوز كتابة العاص ولا قراءته بالياء لا وصلاً ولا وقفاً، إذ هو معتل العين خلاف ما يتوهمه بعض الناس من أنه اسم فاعل من عصى فيجوز إثباتها وحذفها وصلاً ووقفاء بناء على أنه معتل اللام اهـ (رضي الله تعالى عنهما قال: أخبر) بالبناء للمفعول (النبي إني أقول: وا لأصومنّ النهار) أي: كل نهار قابل للصوم ليخرج يوم العيد وأيام التشريق (ولأقومنّ الليل) أي: جميعه (ما) مصدرية ظرفية (عشت) أي: مدة عيشتي: أي حياتي (فقال رسول الله) أي: لي (أنت الذي تقول ذلك؟) أي: أأنت بتقدير همزة الاستفهام التقريري والمشار إليه قوله لأصومن الخ (فقلت له: قد قلته بأبي أنت وأمي) أي: مفدي بهما (يا رسول الله: قال: فإنك لا تستطيع ذلك) . قال الحافظ العسقلاني: يحتمل أن يريد لا تطيقه في الحالة الراهنة لما علمه من أنه يتكلف ذلك ويدخل به على نفسه المشقة ويقوته به ما هو أهم منه، ويحتمل أنه يريد لا تطيقه في المستقبل لما سيأتي أنه بعد أن كبر وعجز قال: يا ليتني قبلت رخصة النبي، فكره أن يوظف على نفسه شيئاً من العبادة ثم يعجز عنه فيتركه لما تقرّر من ذم ذلك (فصم وأفطر ونم وقم) لتقوى بالفطر والنوم على الصوم والقيام ولذا كان الأفضل صيام داود وقيامه

الآتيان (وصم من الشهر ثلاثة أيام) هذا تفصيل لما أجمله في قوله فصم وأفطر: أي: فصيام الثلاث من الشهر كصيامه (فإن الحسنة بعشر أمثالها) هذا أقل درجات المضاعفة، وتضعيف الحسنات من خصائص هذه الأمة نبه عليه القرافي، وظاهر الحديث أن ذلك يحصل بصيام: أي: ثلاثة كانت من الشهر، وقد اختلفت الأخبار في أفضلها (وذلك) أي: صيام الثلاث من كل شهر لكون الحسنة بعشر أمثالها (مثل صيام الدهر) في أصل الثواب لا فيه مع المضاعفة المرتبة على صيامه بالفعل لئلا يلزم مساواة ثواب الأقل من الأعمال للأكثر منها مع التساوي في سائر الأوصاف، وقواعد الشرع تأباه. قال في «فتح الباري» : ومع ذلك فيصدق على فاعل ذلك أنه صام الدهر مجازاً (قلت: إني أطيق) عملاً (أفضل من ذلك) أي: أكثر ثواباً من صوم ثلاث أيام وهو الزيادة في الصوم المرتب عليها الزيادة في الثواب لما عندي من القوى وفي مسلم عنه «إني لأقوى من ذلك» وعند مسلم «إن بي قوة» وعنده أيضاً «إني أجدني أقوى من ذلك» (قال: فصم يوماً وأفطر يومين) قال القلقشندي: وقع في بعض طرق الحديث زيادة قبل هذا وهي «فصم من كل شهر ثلاثة أيام» وهي على شرط مسلم وفي بعض طرقه عند الشيخين «أما يكفيك من كل شهر ثلاثة أيام؟ قلت يا رسولالله، قال خمساً، قلت يا رسول الله قال سبعاً، قلت يا رسولالله، قال تسعاً، قلت يا رسولالله، قال أحد عشر، قلت يا رسولالله، فقال النبي: لا صوم فوق صوم داود شطر الدهر صيام يوم إفطار يوم» فهذا يدل على أن الزيادة وقعت بالتدريج فذكر بعض الرواة ما لم يذكره الآخر (قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك، قال: صم يوماً وأفطر يوماً، فذلك صيام داود عليه السلام وهو أعدل الصيام) لأن النفس تكتسب في يوم الفطر من القوي ما يجبر به ما لحقها من وهن الصوم فتدوم على العمل، ولفظ أعدل لمسلم (وفي رواية) للبخاري (وهو أفضل الصيام) أي: صيام التطوّع فهو أفضل من صوم الدهر كما قاله المتولي وغيره خلافاً لما أفتى به ابن عبد السلام، والسرّ في ذلك أن صوم الدهر قد يفوت به حق مفروض فيكون حراماً، أو مندوب آكد من الصيام فيكون مكروهاً، وقد لا يفوت به شيء من ذلك فيباح لأنه

قد لا يشق الاعتياد بخلاف صوم يوم وفطر يوم. قال الشيخ زكريا في «تحفة القاري» : إن قلت إذا صادف فطره يوم الإثنين أو الخميس وكانت عادته صومهما هل يحصل له فضيلة صومهما؟ قلت: الظاهر حصولها لأن عدوله إلى صوم داود إنما كان لعذر وهو طلب الأفضلية فهي تجبر ما فات بالإفطار. (قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك، فقال رسول الله: لا أفضل من ذلك) هو لعبد الله وغيره على قول المتولي لما تقدم. وعلى قول آخرين إنّ سرد الصوم أفضل منه، فهو محمول على أن المراد لا أفضل منه في حق عبد ابن عمرو لما علمه من حاله ضعفه في مآله، واستدل له بأن النبيّ لم ينه حمزةبن عمرو عن سرد الصوم ويرشده إلى صوم يوم وفطر يوم، ولو كان أفضل في حق كل الناس لأرشده إليه وبينه له، إذ التأخير للبيان عن وقت الحاجة لا يجوز. وقال الحافظ ابن حجر: قوله: «لا أفضل من ذلك» ليس فيه نفي المساواة صريحاً، لكن قوله في حديث عبد ابن عمرو عند البخاري «أحبّ الصيام إلى الله صيام داود» يقتضي ثبوت الأفضلية المطلقة. ورواه الترمذي عن ابن عمرو بلفظ «أفضل الصيام صيام داود» وكذا رواه مسلم ومقتضاه أن تكون الزيادة على ذلك من الصوم مفضولة (قال عبد ا) بعد كبره ومشقة ما سأل الإزدياد فيه من النبي حتى زادة حين كاد أن يعجز عنه ولم يعجبه أن يتركه لالتزامه فتمنى الأخذ بالرخصة والأخف فقال (و) الله (لأن أكون قبلت الثلاثة الأيام) بالنصب عطف بيان على الثلاثة أو بدل والجر فيه ضعيف نحو الثلاثة الأثواب (التي قال رسول الله) أي: أشار أولاً بها وبالاقتصار عليها إبقاء على النفس (أحب إلي من أهلي ومالي) قال في «فتح الباري» : ومع عجزه وتمنية الأخذ بالرخصة لم يترك العمل بما التزمه، بل صار يتعاطى فيه نوع تخفيف كما في رواية ابن خزيمة من طريق حصين، فكان عبد الله حين ضعف وكبر يصوم تلك الأيام كذلك يصل بعضها إلى بعض ثم يفطر بعدد تلك الأيام ليقوى بذلك، وكان يقول: لأن أكون قبلت الرخصة أحبّ إليّ مما عدل به، لكني فارقته على أمر أكره أن أخالفه إلى غيره. وقوله: «ولأن أكون» الخ رواه مسلم (وفي رواية) للبخاري (ألم أخبر أنك تصوم النهار) أي: كل يوم قابل للصوم فأل فيه للاستغراق (وتقوم الليل) أي: كل الليل على الدوام

(قلت: بلى يا رسول الله) سيأتي في مسلم: ولم أرد بذلك إلى الخير (قال) تنبيهاً على طريق الرفق والسداد (لا تفعل لما في ذلك من كمال المشقة المفضي بثقل الطاعة على النفس ونفرتها منه وربما ملتها فانقطعت عنها بخلاف الرفق فإنه يدوم به الأمر، ويحسن به الشأن (صم وأفطر ونم وقم، فإن لجسدك عليك حقا) قال المهلب: حق الجسد أن يترك فيه من القوة ما يستديم به العمل إذ إجهاد النفس في العبادة قاطع لها عن الدوام كما تقدم «ولن يشادّ الدين إلا غلبه» (وإن لعينك) هذه رواية الكشميهني بالإفراد وعند غيره لعينيك بالتثنية (عليك حقاً) وهو النوم قدر ما ينكسر به سورة السهر (وإن لزوجك عليك حقاً) حق الأهل أن يبقى في نفسه قوّة يمكن معها الجماع، فإنه حق للمرأة تطالب به عند بعض العلماء، وإذا عجز عن ذلك بالعنة وضربت المدة ولم يأتها جاز لها الفسخ (وإن لزورك) أي: ضيفك (عليك حقاً) وحقه خدمته وتأنيسه بالأكل معه، والزور الضيف والرجل يأتيه زائراً والواحد والإنثان والثلاثة، المذكر والمؤنث فيه بلفظ واحد لأنه مصدر وضع موضع الأسماء مثل قوم صوم، ويحتمل أن يكون جمع زائر كركب وراكب (وإن بحسبك) الباء زائدة والسين ساكنة أي كافيك (أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام) وللكشميهني في كل شهر (فإذا) بتنوين الذال وهي التي يجاب بها وإن وكذا لو صريحاً أو تقديراً وإن هنا مقدرة كأنه قيل إن صمتها فإذاً (ذلك صوم الدهر) مثل أصل ثواب صومه كما تقدم وروي بغير تنوين وهي للمفاجأة. قال الحافظ في «فتح الباري» : وفي توجيهها هنا تكلف. قال الشيخ زكريا: والتقدير إن صمت ثلاثة أيام من كل شهر فاجأك عشر أمثالها (فشددت) على نفسي في عدم قبول هذه الرخصة (فشدد) بالبناء للمفعول (عليّ) في زيادة العمل، ثم بين ذلك بقوله: (قلت يا رسول الله إني أجد قوّة) تحتمل الزيادة على صوم الثلاثة في كل شهر (قال: صم صيام داود) عليه السلام (ولا تزد عليه) لعظم فضله (قلت: وما كان صيام داود) ما خبر كان مقدم عليها لأنه لكونه اسم استفهام له الصدارة (قال: نصف الدهر) أي: على سبيل التقريب وإلا فيوما العيد وأيام التشريق زائدة في عدد أيام الفطر على عدد أيام الصوم (فكان عبد الله يقول بعد

ما كبر) بكسر الموحدة: أي: في السنّ وشقّ عليه ثقل العمل ولم يتمكن من تركه لما تقدم (يا) قوم وقيل: إن «يا» للتنبيه (قبلت رخصة النبي) بالتخفيف يصوم الثلاث. (وفي رواية) لمسلم (ألم أخبر) بالبناء للمفعول (أنك تصوم الدهر وتقرأ القرآن) أي: تختم المجتمع منذ حينئذٍ (في كل ليلة، فقلت: بلى يا رسول الله) أي: أنا أفعل ذلك الذي أخبرت به، وليس المراد إثبات أنه أخبر بذلك (ولم أرد بذلك) أي: بصيامي المتتابع وقيامي (إلا الخير) أي: إما ثواب الله تعالى وإما أداء عبوديته والقيام بما يجب لربوبيته (قال) وفي نسخة قيل: «فصم صوم داود زيادة» بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام، قلت: يا رسول الله إني أطيق أفضل من ذلك، قال: فإن لزوجك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً ولجسدك عليك حقاً، قال: (فصم صوم داود فإنه كان أعبد الناس) أي: غير النبي؛ إذ المتكلم لا يدخل في عموم كلامه ولا يلزم من ذلك أن يكون أفضلهم بعد النبي، لأن التفضيل بأعلى المراتب وأعلى المنازل موهبة من الله تعالى: {يختص برحمته من يشاء} (آل عمران: 74) وحذف لمصنف ما أوردناه من الحديث وهو عند مسلم اكتفاء بما قدمه (واقرأ القرآن) أي: اختم متهجداً به (في) ليالي (كل شهر، قلت: با نبيّ الله إني أطيق أفضل من ذلك) أي: المذكور من الصوم للثلاثة الأيام والقراءة في الشهر (قال: فاقرأه في عشرين) ليلة قال: (قلت يا نبيّ الله إني أطيق أفضل من ذلك، قال: فاقرأه في عشر) أي: من الليالي (قال قلت: يا نبيّ الله إني أطيق أفضل من ذلك) وفي نسخة: أكثر من ذلك (قال: فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك) سيأتي في كتاب الفضائل الخلاف في بيان مدة الختم للقرآن واختلاف ذلك بحسب الأحوال، وأن هذا محمول على حال من كان له بعض الاشتغال بحيث يمنعه عن الإكثار من التلاوة أو من التأمل في معانيها عند الإكثار منها (فشددت) بطلب الزيادة

(فشدد عليّ) بها (وقال لي النبي) من باب الإخبار بالمغيبات مما يئول إليه حاله من العجز والضعف (إنك لا تدري لعلك يطول بك عمرك) فتعجز عن القيام بمشاق العبادات ولعل معلقة لتدري عن مفعوليه (قال) ابن عمرو (فصرت إلى الذي قال لي النبيّ) أي: من قوله: «لعلك يطول عمرك» وذلك من معجزاته (فلما كبرت) بكسر الموحدة (وددت) بكسر الدال المهملة (أني كنت قبلت رخصة) تخفيف (النبي) في كل من الصيام والقيام. (وفي رواية) أي: لمسلم (وإن لولدك) بفتحتين مفرداً وبضم فسكون جمعاً (عليك حقاً) أن تكتسب لهم وتنفق عليهم. (وفي رواية) لهما أنه قال له (لا صام من صام الأبد) يحتمل أن يكون على وجه الدعاء، وقيل: إنه محمول على حقيقته أي بأن صام جميع أيام السنة ولم يفطر أيام العيد والتشريق/ وبهذا أجابت عائشة رضي الله عنها واختاره ابن المنذر وآخرون، لكن تعقب بأنه يدل على أنه ما أجر ولا أثم، وصائم تلك الأيام لا يقال فيه ذلك، والأظهر كما قال بعض شراح مسلم أنه محمول على من تضرّر به، ويؤيده أن النهي لعبد ابن عمرو وقد عجز في آخر عمره كما تقدم، فنهى ابن عمرو لعلمه بحاله في مآله، ولذا أقرّ حمزةبن عمرو الأسلمي على صيام الدهر لعلمه بقدرته بلا ضرر. وقيل: إنه إخبار بأنه ما صام: أي ما وجد من مشقته ما يجدها غيره، وتعقبه الطيبي بأنه مخالف لسياق الحديث، ألا تراه كيف نهاه أولاً عن صيام الدهر ثم حثه على صيام ثلاثة أيام من كل شهر ثم حثه على صيام داود؟ والأولى أن يكون خبراً عمن لم يتمثل أمر الشرع (قاله) أي: هذا اللفظ وكرره (ثلاثاً) تنفيراً لابن عمرو من صوم الدهر لعلمه بمآله. (وفي رواية) لهما أيضاً، ورواه أحمد أيضاً (أحبّ الصيام إلى الله تعالى) أي: أكثر ما يكون محبوباً، واستعمال أحبّ بمعنى محبوب قليل، لأن الأكثر في أفعل التفضيل أن يكون من فعل الفاعل، ونسبة المحبة في الصيام والصلاة إلى الله تعالى على معنى إرادة الخير لفاعلهما أو كثرة الثواب فيهما (صيام داود وأحبّ الصلاة إلى الله صلاة داود) أي: أحبّ أوقات القيام للصلاة وقت صلاة داود لما جاء في الحديث الآخر «وأحبّ القيام قيام داود» (كان ينام نصف الليل) ليستريح

البدن من تعب أعمال النهار (ويقوم ثلثه) بضمتين: وهو الوقت الذي يتجلى فيه الربّ سبحانه ويقول: «هل من سائل هل من مستغفر» (وينام سدسه) بضمتين، ونومه ليستريح من نصب القيام وبما ذكر يعلم أن مراد البيضاوي من قوله في سورة (ص) وكان يعني داود يقوم نصف الليل اهـ بيان وقت ابتداء يقظته لامدتها (وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً) ليجبر بالغذاء فيه الضعف الحاصل من الصوم قبله، وإنما كان هذا أحبّ لأنه أخذ بالرفق على النفوس التي تخشى منها السآمة التي هي سبب ترك العبادة وا يحبّ أن يوالي فضله ويديم إحسانه، ولأن فيه إبقاء لقوى النفس التي تستعين بها على أداء العبادات ومجاهدة الكفار، ولذا قال (وكان لا يفرّ إذا لاقى) العدوّ في الحرب لقوة نفسه بما أبقى فيها. وزاد النسائي «وإذا وعد لم يخلف» ولم يرها الحافظ العسقلاني لغيره ومناسبتها بالمقام الإشارة إلى أن سبب النهي خشية أن يعجز عن الذي التزمه فيكون كمن وعد وأخلف. (وفي رواية) هي للبخاري في «التفسير» «أنكحني أبي امرأة ذات حسب» بفتح المهملتين بعدهما موحدة وهو الشرف بالآباء وما يعده الإنسان من مفاخرهم. وقيل الحسب: الفعل الحسن للرجل ولآبائه (وكان يتعاهد كنته) قال القاضي عياض في «المشارق» : بفتح الكاف (أي امرأة ولده) هذا بيان للمراد بالكنة في هذا الحديث، وأما هي لغة فامرأة ابن الرجل وامرأة أخيه (فيسألها عن بعلها) بفتح الموحدة وسكون المهملة زوجها (فتقول له) شاكية في معرض الثناء والشكر (نعم الرجل) أي: هو فالمخصوص بالمدح محذوف لدلالة ما قبله عليه (من) بيانية (رجل لم يطأ لنا فراشاً) كناية عن المضاجعة والنوم معها على الفراش (ولم يفتش لنا كنفاً) أي: لم يكشف لنا ستراً عبرت لذلك عن امتناعه عن الجماع.d قال ابن النحوي: وبخط الدمياطي لم يدخل يده معها كما يدخل الرجل يده مع زوجته داخل إزارها؛ قال وأكثر ما يروى بفتح أوليه، من الكنف وهو الجانب تعني أنه لم يقربها (منذ أتيناه/ فلما طال ذلك عليه) أي: على أبيه (ذكر ذلك للنبي) يحتمل أن يكون سكوته عن ذلك أول ما ذكرته له لأنه رآها راضية بذلك، فلما كرر عليها السؤال تخوّف أن يتعلق بولده فيكون عليها حتى تذكره (فقال القني) بفتح

القاف أمر من لقي (به فلقيته بعد ذلك) الأمر. قال في «فتح الباري» : زاد النسائي وابن خزيمة وغيرهما من طريق أخرى عن مجاهد: أي: عن عبد ابن عمرو «فوقع على أبي فقال: زوجتك امرأة فعضلتها وفعلت وفعلت؛ قال: فلم ألتفت إلى ذلك لما كانت لي من القوة، فذكر للنبي فقال القني معه» . وفي رواية لأحمد من الوجه «ثم انطلق إلى النبيّ فشكاني» وعند البخاري من طريق أبي المليح عن ابن عمرو قال: «ذكر للنبي صومي، فدخل عليّ فألقيت له وسادة» وعند البخاري أيضاً عن ابن عمرو «بلغ النبي أني أسرد الصوم وأصلي الليل فإما أرسل إليّ وإما لقيته. قال الحافظ: ويجمع بينهما بأن تكون توجه بأبيه إلى النبي فكلمه من غير أن يستوعب ما يريد في ذلك ثم أتاه إلى بيته زيادة في التأكيد (فقال) النبي (لي كيف تصوم؟ قلت: كل يوم، قال: وكيف تختم؟ قلت: كل ليلة، وذكر نحو ما سبق، وكان) عبد الله بعد كبره (يقرأ على بعض أهله السبع) بضم أوليه (الذي يقرؤه بالليل) أي: يريد قراءته به (يعرضه) بكسر الراء (من النهار ليكون) لقرب عهده به (أخف) قراءة (عليه بـ) ـصلاة (الليل) كان (إذا أراد أن التقوّي أفطر أياماً وأحصى) أي عدّ ما أفطر وهو خمسة عشر يوماً متوالية (وصام) أياماً (مثلهن) في العدد (كذلك) أي: متوالية (كراهة أن يترك شيئاً فارق عليه) أي: على الالتزام بالقيام به (النبي كل هذه الروايات) في حديث ابن عمروبن العاص (صحيحة معظمها في الصحيحين وقليل منها في أحدهما) وتقدمت الإشارة إلى البيان في ذلك. 15110ــــ (وعن أبي ربعى) بكسر الراء وسكون الموحدة وكسر المهملة وشد التحتية

(حنظلةبن الربيع) وقيل: ربيعة والأول أكثر ابن ضبعيبن رباحبن الحارثبن مخاشنبن معاويةبن شريفبن جروةبن أسيدبن عمروبن تميم التميمي (الأسيدي) بضم الهمزة (الكاتب) قيل له ذلك لأنه (أحد كتاب رسول الله) وذكرهم ابن سيد الناس اليعمري في سيرته فقال: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعامربن فهيرة وخالد وأبان ابنا سعيدبن العاصبن أبي أجيحة، وذكر شيخنا أبو محمد الدمياطي أخاهما سعيداً وعبد ابن الأرقم الزهري وحنظلةبن الربيع الأسيدي وأبيبن كعب: وهو من كتب له من الأنصار وثابتبن قيسبن شماس وزيدبن ثابت وشرحبيلبن حسنة ومعاويةبن أبي سفيان والمغيرةبن شعبة وعبد ابن زيد وجريمبن الصلت والزبيربن العوام وخالدبن الوليد والعلاءبن الخضرمي وعمروبن العاص وعبد ابن رواحة ومحمدبن سلمة وعبد ابن عبد ابن أبي ومعيقيببن أبي فاطمة وعبد ابن سعدبن سرح العامري، وهو أول من كتب له من قريش ثم ارتد فنزلت فيه {ومن أظلم فمن افترى على الله كذباً} (الأنعام: 21) قلت: ثم أسلم يوم الفتح ولم ينقم عليه شيء بعد إسلامه، ومات ساجداً، وذكر في كتابه أيضاً طلحة ويزيدبن أبي سفيان والأرقمبن أبي الأرقم والزهري والعلاءبن عقبة وأبا أيوب الأنصاري وخالدبن زيد وبريدةبن الحصيب والحصينبن نمير وأبا سلمة المخزومي وعبد ابن عبد الأسد وحويطببن عبد العزى وأبا سفيانبن حرب وحاطببن عمرو. وروينا من طريق أبي داود عن ابن عباس قال: السجيل كانت لرسول الله. وذكر ابن دحية فيهم رجلاً من بني النجار غير مسمى قال: كان يكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم تنصر، فلما مات لم تقبله الأرض انتهى كلام ابن سيد الناس ملخصاً. قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحنظلة إلى أهل الطائف أتريدون الصلح أم لا؟ فلما توجه إليهم قال: ائتموا بهذا وأشباهه، ثم انتقل إلى قرقسا فمات بها. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أحاديث، تفرد به مسلم عن البخاري وأخرج له هذا الحديث (قال لقيني أبو بكر رضي الله عنه فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نافق حنظلة) أي: خاف على نفسه النفاق لما

كان يحصل له من الخوف في مجلس النبي ويظهر عليه فتح كمال المراقبة والفكر والإقبال على الآخرة، فإذا خرج واشتغل بما سيأتي ذهب عنه ذلك، وأصل النفاق إظهار ما يكتم خلافه من الشرّ (قال) على وجه التعجب مما قلت: (سبحان ا) أي: تنزيهاً (ما تقول) أي: تأمله وانظر فيه وما استفهامية مفعول مقدم لتقول (قلت) أي في بيان سبب قولي نافق حنظلة (نكون عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرنا بالجنة والنار كأنا) نراهما (رأى عين) كذا قال القرطبي إنه قيده بالنصب، وقال القاضي: ضبطناه بالرفع: أي كانا ذوو رأي عين: أي بحال من يراهما، قال: ويصح النصب على المصدر (فإذا خرجنا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عافسنا) سيأتي ضبطه ومعناه مارسنا (الأزواج والأولاد والضيعات) جمع ضيعة بالضاد المعجمة: وهو معاش الرجل من مال أو حرفة أو صناعة (فنسينا كثيراً) أي: إذا خرجنا واشتغلنا بهذه الأمور ذهب منا ذلك الحال الذي كان ونحن عند النبي وسماع موعظته ومشاهدته (قال أبو بكر رضي الله عنه: فوا إنا لنلقي مثل هذا) . قال القرطبي: في هذا رد على من زعم دوام مثل ذلك الحال ولا يعرجون بسببها على أهل ولا مال. ووجه الردّ أن أبا بكر أفضل الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم القيامة، ومع ذلك فلم يدع خروجه عن جبلة البشر، ولا ما هو من خاصة الملك من تعاطى دوام الذكر وعدم الفترة. قال: وعلى الجملة فسنة الله في هذا العالم الإنسان جعل تمكينهم في قلوبهم ومشاهدتهم في مكابدتهم. وسرّ ذلك أن هذا العالم متوسط بين عالمي الملائكة والشياطين، فمكن الملائكة في الخير بحيث يفعلون ما يؤمرون و «يسبحون الليل والنهار لا يفترون» ، ومكن الشياطين في الشر والإغواء بحيث لا يفعلون ما يؤمرون، وجعل هذا العالم الإنساني متلوّناً فيمكنه ويلونه ويغنيه ويبقيه ويشهده ويفقده وإليه أشار صاحب الشفاعة بقوله: «ولكن يا حنظلة ساعة وساعة» وقال في حديث أبي ذرّ «وعلى العاقل أن يكون له ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفكر فيها في صنع الله إليه، وساعة يخلو فيها لحاجته من مطعم ومشرب» هكذا الكمال وما عداه ترّهات وخيال. والله أعلم (فانطلقت أنا وأبو بكر) سائرين (حتى دخلنا على رسول الله؛ فقلت: نافق حنظلة يا رسولالله، فقال: وما ذاك؟) أي: الذي نافق به. (قلت: يا رسول الله إنا نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة فكأنا

رأي عين) أي فيحصل لنا من ذلك كمال الخوف والمراقبة والتفكر في المآل والإقبال على الآخرة (فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً) أي فيذهب عنا غالب تلك الأحوال السنية، فخشي حنظلة أن يكون اختلاف هذا الحال من النفاق؛ فأعلمه النبي أنه ليس مكلفاً بالدوام على الحال الذي يكون عليه عنده، وأن ذلك الاختلاف ليس نفاقاً (فقال رسول الله: والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عليه عندي) من المراقبة والتفكير في المآل والإقبال على الله تعالى (وفي الذكر) . قال القرطبي: هكذا صحت الرواية بالواو العاطفة للظرف الثاني على الظرف الأول، فيفيد أن مصاحفة الملائكة المذكورة في قوله: (لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم) موقوفة على حصول حالتين لنا على حال مشاهدة الجنة والنار مع ذكر الله تعالى ودوام ذلك، فيعنيـ والله أعلم - أن التمكن إنما هو أن يشاهد الأمور كلها با، فإذا شاهد الجنة مثلاً لم يحجبه ما شاهد من نعيمها وحسنها عن رؤية الله تعالى؛ بل لا يلتفت إليها من حيث هي جنة، بل من حيث إنها هي محل القرب من الله تعالى ومحل رؤيته ومشاهدته، فيكون فرقه في جمعه وعطاؤه في منعه، ومن كان هكذا ناسب الملائكة في معرفتها فبادرت إلى إكرامه ومشافهته وإعظامه ومصافحته. والمسئول من الكريم المتعال أن يمنحنا من صفاء هذه الأحوال (ولكن يا حنظلة ساعة) أي لأداء العبودية (وساعة) للقيام بما يحتاجه الإنسان قاله (ثلاث مرات) وكرره للتأكيد ودفع ما وقع في نفسه أن ذلك من النفاق (رواه مسلم) . قال البخاري في كتاب «الإخبار بفوائد الأخبار» : حال العبد هو مقامه في سرّه وشهوده بقلبه وصفته ومعناه، وما كان ذلك فإنها تكون لازمة له لا ينتقل عنها في حال ولا يزول عنها بمعنى، وأما كونهم عند النبي على ما كانوا عليه فإن تلك مواجيد، والمواجيد تجيء وتذهب، لأنها عوارض تثبت في الأسرار من خارج. قال بعض العارفين الكبار: الوجد مقرون بالزوال والمعرفة ثابتة لا تزول، قال: فالحال الذي يجدونه في أسرارهم، عند كونهم عنده خلاف المعهود، ثم يزول عنهم إذا رجعوا من عنده فكأن الذي يجدونه

عنده هو سلطان الحق وقوة سرّ النبي ألا ترى إلى قول أنس رضي الله عنه: ما نفضنا أيدينا من دفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أنكرنا قلوبنا، وذلك لأن سلطان النبوّة زال عنهم، وهو كان يقهر الأعداء ويجذب الأولياء، فمن قهره للأعداء قصته مع أبي جهل في أمره بالوفاء بثمن الجمال لصاحبها فوفاه بها في حضرته، والذي يجده أصحاب النبيّ عنده جذب الحق وقوة سرّ النبي وسلطانه كان يصرفهم عن الأشياء ويأخذهم عنها ويجذبهم منها من غير أن يكون ذلك حالة لهم، فإذا خرجوا من عنده رجعوا إلى أحوالهم من النظر إلى الأولاد والشغل بالأموال، فأخبرهم أن الذي يجدونه عنده لو كان حالهم ومقامهم لصافحتهم الملائكة، ولم تصافحهم وهم عنده لأنها لم تكن حالهم، ولكنها كانت حالة سلطان الحق، ولو كان الذي يجدونه حالهم لكانت ثابتة لهم، لأنها لو كانت حالهم لكانت موهبة لهم من الله تعالى عزّ وجل والكريم لا يعود في هبته ولا يسلب كرامته اهـ (قوله) في الكنية أبي (ربعي هو بكسر الراء) أي المهملة وتقدم ضبط باقي حروفه (والأسيدي) المذكور في نسب حنظلة ضبطوه بوجهين. قال المصنف: في «شرح مسلم» أصحهما وأشهرهما (بضم الهمزة وفتح السين) المهملة (وبعدها ياء) تحتية (مشددة مكسورة) والثاني كذلك إلا أنه بإسكان التحتية، ولم يذكر القاضي عياض إلا هذا وهو منسوب إلى بني أسيد بطن من تميم. وفي كتاب «تقييد المهمل» لأبي علي الحياني: الأسيدي بضم الهمزة وفتح السين وتخفيف الياء الأولى وقد شددها قوم، يقال ذلك لكل من ينسب إلى أسيدبن عمروبن تميم، ومنهم حنظلةبن الربيع الأسيدي صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعرف بالكاتب اهـ (قوله عافسنا هو بالعين والسين المهملتين) وقيل السين فاء. قال الهروي: وغيره معناه حاولنا ذلك ومارسناه واشتغلنا به، كذلك في «شرح مسلم» ، وقريب منه قوله هنا (عالجنا) أي الضيعات (ولاعبنا) أي: الأولاد والزوجات ففيه لفّ ونشر مشوّش، وهذا أنسب برواية الخطابي. فإنه روى هذا الحرف «عانسنا» بالنون بدل الفاء وفسره بلاعبنا وكأن المصنف إنما فسره بذلك لأنه جاء عن حنظلة في رواية في مسلم فقال بدل عافسنا الخ ضاحكت الصبيان ولاعبت المرأة، فأراد تفسير الروايات بالروايات ورواه القتيبي عانشنا بالنون والشين المعجمة وفسره بعانقنا، والأول المذكور في الأصل. قال المصنف: هو

المعروف وهو أعمّ (والضيعات) بالضاد المعجمة وسكون التحتية أسباب (المعاش) من حرفة ونحوها كما تقدم، سميت بذلك لأنها تحفظ صاحبها من الضياع. 15211 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينا رسول الله) وفي نسخة النبي (يخطب إذ) وفي نسخة: إذا (هو برجل قائم فسأل عنه) أي: عن اسمه وعن سبب قيامه (فقالوا: هذا أبو إسرائيل) وهو كنية، واسمه: يسير مصغر يسر ضد العسر، وهو أنصاري (نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد) ضد القيام (ولا يستظلّ) ضد كونه في الشمس أي بارزاً لها وصرح بهما تأكيداً (ولا يتكلم) أي: بغير الذكر (ويصوم، فقال النبي: مروه فليتكلم) أي: فليس النذر بالسكوت قربة من شريعتنا (وليقعد) أي: في غير الصلاة، وإلا فمن نذر القيام في صلاة النفل لزمه (وليستظلّ وليتمّ صومه) إذ الصوم قربة «ومن نذر أن يطيع الله فليطعه» بخلاف أخواته. (رواه البخاري) . قال ابن رجب في شرحه للحديث الخامس من الأربعين للمصنف: من تقرّب إلى الله تعالى بعمل لم يجعله الله ورسوله قربة إلى الله فعمله باطل مردود عليه، ثم قال: وليس كل ما كان قربة في عبادة يكون قربة في غيرها مطلقاً، فقد رأى النبي رجلاً قائماً في الشمس، الحديث. وقد روى أن ذلك كان في يوم جمعة عند سماع خطبة النبي وهو على المنبر، فنذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظلّ ما دام يخطب إعظاماً لسماع خطبته، ولم يجعل النبيّ ذلك قربة يوفي بنذره، مع أن القيام عبادة في مواضع أخر كالصلاة، والأذان والدعاء بعرفة، والبروز للشمس قربة للمحرم، فدل على أنه ليس كل ما كان قربة في عبادة يكون قربة في غيرها: أي كما توهمه الناذر بل إنما يتبع في ذلك الوارد به الشريعة في مواضعها اهـ.

15 ـــ باب في المحافظة على الأعمال الصالحة وترك التهاون بها والتساهل فيها

15 - باب في المحافظة على الأعمال الصالحة وترك التهاون بها والتساهل فيها وقد أحسن المصنف في تعقيب هذا الباب لما قبله لأن الحاصل من هذا الباب الترغيب في ملازمة العبادة والطريق الموصل إلى ذلك الاقتصاد فيها، لأن التشديد قد يؤدي إلى ترك العبادة المذموم كما تقدم، وقد سبق المصنف لهذا الترتيب الحافظ البخاري، فعقب باب ما يكره من التشديد في العبادة الذي عبر عنه المصنف هنا بالاقتصاد فيها بباب ما يكره من ترك قيام الليل لمن كان يقومه الذي عبر عنه المصنف هنا بباب المحافظة على الأعمال، فاستحسنه الحافظ ابن حجر لما ذكرناه آنفاً. (قال الله تعالى) : {ألم يأن} ) يحن ( {للذين آمنوا} ) أنزلت في شأن الصحابة لما أكثروا المزاح ( {أن تخشع قلوبهم لذلك الله وما نزل} ) بالتشديد والتخفيف ( {من الحق} ) القرآن ( {ولا يكونوا} ) معطوف على تخشع ( {كالذين أوتوا الكتاب من قبل} ) هم اليهود والنصارى ( {فطال عليهم الأمد} ) الزمن بينهم وبين أنبيائهم ( {فقست قلوبهم} ) (الحديد: 16) لم تلن لذكر الله تعالى. (وقال تعالى) : ( {وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفه ورحمة ورهبانية} ) (الحديد: 27) هي رفض النساء واتخاذ الصوامع. قال الكواشي: ورهبانية ليست معطوفة إنما هي منصوبة بفعل مضمر يفسره المظهر تقديره: وابتدعوا رهبانية. قال: وجوّز بعضهم عطفاً على ما قبلها وجعل ابتدعوها صفة تقديره، وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة تلخيصه وفقناهم للتراحم اهـ ( {ابتدعوها} ) من قبل أنفسهم ( {ما كتبناها عليهم} ) ما أمرناهم

بها ( {إلا} ) لكن فعلوها ( {ابتغاء رضوان ا} ) وابتغاء رضوانه امتثال أمره واجتناب نهيه ( {فما رعوها حق رعايتها} ) إذ تركها كثير منهم وكفروا بدين عيسى ودخلوا في دين ملكهم وبقي على دين عيسى قليل منهم. قال: «من آمنى بي وصدقني فقد رعاها حق رعايتها، ومن لم يؤمن فأولئك هم الهالكون» أورده الكواشي وقال قبل حكاية هذا القول: والمعنى: لم يرع مبتدعو الرهبانية حق رعايتها كما يراعى الناذر نذره بأن قصروا فيما ألزموا به أنفسهم من الطاعات. قال الكواشي: في الآية تنبيه المؤمنين على أن من أوجب على نفسه شيئاً لم يكن واجباً عليه لزمه إتمامه ولا يتركه فيستحق اسم الفسق اهـ. (وقال تعالى) : ( {ولا تكونوا كالتي نقضت} ) أفسدت ( {غزلها} ) ما غزلته ( {من بعد قوّة} ) إحكام له وربط ( {أنكاثاً} ) (النحل: 92) حال أو ثاني مفعول نقض لتضمينه معنى الجعل أو مفعول مطلق لنقضت جمع نكث. وهو ما ينكث: أي يحلّ إحكامه وهي امرأة حمقاء من مكة واسمها ريطة بنت سعدبن زيد مناةبن تميم، ويقال هي من قريش، وتوفيت بالجعرانة قاله السهيلي، كانت تغزل في طول يومها ثم تنقضه. قال الخازن: والمعنى أن هذه المرأة لم تكفّ عن العمل ولا حين عملت كفت عن النقض فكذلك من نقض عهده، لا تركه ولا حين عاهد وفى به. (وقال تعالى) : ( {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} ) تقدم الكلام فيها في باب المجاهدة. (وأما الأحاديث) النبوية: 1531ــــ (منها حديث عائشة: وكان أحبّ الدين إليه ما داوم صاحبه عليه، وقد سبق) مع

شرحه (في الباب قبله) أي باب الاقتصاد في العبادة. 1542 - (وعن عمربن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من نام عن حزبه) بكسر المهملة وسكون الزاي، قال القاضي عياض: أصله النوبة من ورد الماء ثم نقل إلى ما يجعله الإنسان على نفسه من صلاة وقراءة وغيرها، ورواه ابن ماجه «جزئه» بضم الجيم وبهمزة بدل الموحدة. وعند النسائي حزبه أو جزئه بالشك (من الليل أو عن شيء منه، فقرأه) . قال البيضاوي: يحتمل أن الاقتصار عليها في الذكر لكونها أفضل الأذكار فباقي الأذكار مثلها، ويحتمل أن يكون لاختصاصها بالثواب المذكور لقوله كتب له الخ، ويحتمل أن يكون على سبيل المثال، فمثله كما ورد من قول أو فعل اهـ. وإلى الوجه الأخير يومىء كلام القاضي عياض السابق وعليه جرى العاقولي في «شرح المصابيح» فقال: أي لوفائه ورده فأتى به (ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر) أي: في هذا الوقت الذي من شأن الناس الغفلة فيه عن العبادة (كتب له كأنما قرأه من الليل) أي أثبت أجره إثباتاً مثل إثباته عند قراءته له من الليل. قال المصنف: في الخبر دلالة على المحافظة على الأوراد، قال القرطبي: وهذه الفضيلة إنما تحصل لمن غلبه نوم أو عذر منعه من القيام به مع أن نيته القيام به، وظاهره أن له أجره مكملاً مضاعفاً وذلك لحسن نيته وصدق تلهفه وتأسفه وهو قول بعض شيوخنا. وقال بعضهم ويحتمل أن يكون غير مضاعف إذ التي يصليها ليلاً أكمل وأفضل، والظاهر الأول اهـ (رواه مسلم) قال المنذري في «الترغيب» : ورواه أصحاب السنن الأربعة وابن خزيمة في «صحيحه» .

1553 - (وعن عبد ابن عمروبن العاص رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله: يا عبد الله لا تكن مثل فلان) . قال الحافظ العسقلاني: لم أقف على تسميته في شيء من الطرق، وكأنّ إبهام مثل هذا لقصد الستر عليه، وقال: لا ينبغي أن يبالغ في الفحص عن تسمية من وقع في حقه ما يذمّ به. ويحتمل أنه يقصد شخصاً معيناً وإنما أراد تنفير عبد الله مع الصنع المذكور (كان يقوم الليل) وهذه رواية الأكثر بإسقاط «من» وهي مرادة وهي مذكورة عند بعض رواة البخاري وعليها شرح الحافظ (ثم ترك قيام الليل) . قال في «الفتح» نقلاً عن ابن العربي: في الحديث استحباب الدوام على ما اعتاده المرء من خير من غير تفريط. ويستنبط منه كراهة قطع العبادة وإن لم تكن واجبة (متفق عليه) . 1554 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فاتته الصلاة من الليل) أي: التهجد (من) سببيه (وجع أو غيره) كغلبة نوم أو عذر أهم منه (صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة) قال ابن حجر في «شرح المشكاة» : جبراً لفضيلة قيام الليل لا قضاء له، إذ ليست صلاة الليل منه في العدد كذلك، والقضاء لا يزيد على عدد الأداء، والدليل على مشروعية قضاء النافلة حديث أبي داود، قال: وسنده حسن خلافاً لتضعيف الترمذي له: «من نام عن وتره أو سننه فليصلّ إذا ذكره» اهـ (رواه مسلم) من جملة حديث كما في «المشكاة» ، وروى هذه الجملة الترمذي في «الشمائل» .

16 ـــ باب في الأمر بالمحافظة على السنة

16 - باب في الأمر بالمحافظة على السنة أي ما جاء به من أقوال وأفعال وأحوال (وآدابها) تقدم معنى الآداب أول الكتاب، والأدب كالسنة في أصل الطلب إلا أنه دونها في التأكد، ذكره المصنف في «الروضة» . (قال الله تعالى) : ( {وما آتاكم} ) أعطاكم ( {الرسول} ) من الفيء وغيره ( {فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} ) قال السيوطي في «الإكليل» : في الآية وجوب امتثال أوامره ونواهيه، قال العلماء: وكل ما ثبت عنه يصح أن يقال فيه إنه في القرآن أخذاً من هذه الآية: (وقال تعالى: {وما ينطق} ) بما يأتيكم به ( {عن الهوى} ) هوى نفسه ( {إن} ) ما ( {هو إلا وحي يوحى} ) إليه. (وقال تعالى) : ( {قل} ) أي: للكافرين القائلين ما نعبد الأصنام إلا حباً ليقرّبونا إليه ( {إن كنتم تحبون افاتبعوني يحببكم ا} ) بمعنى أن يثيبكم ( {ويغفر لكم ذنوبكم} ) تقدم في باب المجاهد في حديث: «أعني على نفسك بكثرة السجود» أن محبة الله ملازمة لحبّ رسوله وبالعكس، وأنهما متوقفتان على اتباع الرسول. (وقال تعالى) : ( {لقد كان لكم في رسول الله أسوة} ) بضم الهمزة وكسرها ( {حسنة} ) أي اقتداء به ( {لمن} ) بدل من لكم ( {كان يرجو ا} ) يخافه ( {واليوم الآخر} ) يوم القيامة، وتقدم وجه لتسميته بالآخر في حديث جبريل في الإسلام والإيمان

والإحسان. (وقال تعالى) : ( {فلا وربك} ) لا زائدة ( {لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر} ) اختلط ( {بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً} ) ضيقاً أو شكاً ( {مما قضيت} ) به ( {ويسلموا} ) ينقادوا لحكمك ( {تسليماً} ) من غير معارض، وسيأتي فيها مزيد في باب وجوب الانقياد لحكم الله تعالى. (وقال تعالى) : {فإن تنازعتم} ) اختلفتم ( {في شيء فردوه إلى الله والرسول} . (قال العلماء: معناه إلى الكتاب والسنة) لفّ ونشر مرتب، وكون المراد من قوله والرسوله سنته وهو بعد وفاته، أما في حياته فعلى ظاهر الآية كما في الجلالين وغيره. (وقال تعالى) : {من يطع الرسول} ) فيما أمر به ( {فقد أطاع ا} ) لأن الله أمر بطاعته واتباعه. (وقال تعالى) : {وإنك لتهدي} ) لتدعو بالوحي إليك ( {إلى صراط} ) طريق ( {مستقيم} ) دين الإسلام. (وقال تعالى) : {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} ) أي: الله فإن الأمر له في الحقيقة أو لارسول فإنه المقصود بالذكر، وعلى الوجه الثاني فيه مناسبة الآية للباب ( {أن تصيبهم فتنة} ) محنة في الدنيا ( {أو يصيبهم عذاب أليم} ) في الآخرة. (وقال تعالى:) مخاطباً لأمهات المؤمنين ( {واذكرن ما يتلى في بيوتكم من آيات ا} ) القرآن ( {والحكمة} ) السنةـ (والآيات في الباب) أي: في باب المحافظة على السنة والاقتداء به واتباعه كثيرة.

(وأما الأحاديث) النبوية في ذلك: 156 - (فالأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال) لما خطب وقال: {يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا} ، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها مراراً، فقال رسول الله: «لو قلت نعم لوجب ولما استطعتم» ثم قال: (دعوني) أي: من كثرة السؤال ولفظ مسلم «ذروني» (ما تركتكم) «ما» فيه ظرفية مصدرية وآثر تركتكم على وذرتكم ماضي يذر، لأن العرب لا تستعمله إلا في الشعر. قال سيبويه: اغتناء عنه بترك، وقال غيره: لما كانت الواو ثقيلة وكان في هذا الكلام بمعناه فعل لا واو فيه أنفوه، حكاهما القرطبي في تفسير سورة هود من تفسير الكبير وكذا ودع. وقيل: بل استعمل ودع قليلاً، ومنه قوله تعالى: {ما ودعك ربك} (الضحى: 3) على قراءة التخفيف شاذاً، وحديث: «دعوا الحبشة ما ودعوكم» ومعنى قوله: ذروني الخ: لا تكثروا الاستفصال عن المواضع التي تفيد بوجه ظاهر وإن صلحت لغيره كما في «فحجوا» فإنه وإن أمكن أن يراد به التكرار ينبغي أن يكتفي منه بما يصدق عليه اللفظ وهو المرة الواحدة فإنها مفهومة من اللفظ قطعاً وما زاد مشكوك فيه فيعرض عنه، ولا يكثر السؤال لئلا يقع الجواب بما فيه التعب والمشقة كما وقع لبني إسرائيل فخاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أمته من مثل ذلك ومن ثم قال: (إنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم) وعند مسلم: «فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم» بالرفع لأنه أبلغ في ذم الاختلاف إذ لا يتقيد حينئذٍ بالأكثرية بخلاف لو جرّ (على أنبيائهم) استفيد منه تحريم الاختلاف وكثرة المسائل من غير ضرورة، لأنه توعد عليه بالهلاك، والوعيد عن الشيء دليل تحريمه بل كونه كبيرة، ووجهه في الاختلاف أنه سبب تفرق القلوب ووهن الدين، وذلك حرام فسببه المؤدي إليه حرام، وفي كثرة السؤال إنه من غير ضرورة مشعر بالتعنت أو مفض إليه وهو حرام أيضاً (فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه) دائماً على كل تقدير ما دام منهياً عنه حتماً في الحرام وندباً في المكروه إذ لا يمتثل النهي إلا بترك جميع جزئياته، وإلا صدق عليه أنه عاص أو مخالف، وأيضاً فترك المنهي عنه هو استصحاب حال عدمه والاستمرار على حال عدمه وليس في ذلك ما لا يستطاع حتى

يسقط التكليف به، وكون الداعي للمعصية قد يقوى حتى لا يستطاع الكفّ عنها نادر لا يعوّل عليه، وخرج بقوله ما دام الخ نحو أكل الميتة للمضطر وشرب المسكر لإساغة اللقمة لعدم النهي عنه حينئذٍ (وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) أي: أطقتم لأن فعله هو إخراجه من العدم إلى الوجود، وذلك متوقف على شروط وأسباب كالقدرة على الفعل ونحوها وبعضها يستطاع وبعضها لا يستطاع فكان التكليف بما يستطاع منه لأن الله تعالى أخبر أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها. قال المصنف: وهذا الحديث موافق لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (التغابن: 116) ولتوقف المأمور به على فعل بخلاف المنهي عنه فإنه كف محض، قال في ذاك (فأتوا منه ما استطعتم) وفي هذا (فاجتنبوه) وهذا من قواعد الإسلام المهمة، ومما أوتيه من جوامع الكلم، لأنه يدخل فيه ما لا يحصى من الأحكام وبه أو بالآية الموافقة له يخص عموم قوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (الحشر: 7) وحديث أحمد في «مسنده» عن عبد ابن عمرو مرفوعاً من جملة حديث قال فيه: «انظروا الذي أمرتم به فاعملوا به، والذي نهيتم عنه فانتهوا عنه» فمن عجز عن ركن أو شرط لنحو وضوء أو صلاة أو قدر على غسل أو مسح بعض أعضاء الوضوء أو التيمم أو على بعض الفاتحة أو إزالة بعض المنكر أتى بالممكن وصحت عبادته (متفق عليه) ورواه أحمد وقال: «فأتمروا ما استطعتم» وله طرق عن أبي هريرة ورواه الترمذي وأبو عوانة وابن حبان، وقد بسط طرقه وتخاريجه الحافظ السخاوي في تخاريج الأربعين للمصنف. 157 - (الثاني: عن أبي نجيح) بفتح النون وكسر الجيم وسكون التحتية بعدها مهملة (العرباض) بكسر المهملة وسكون الراء وبعدها موحدة وآخره ضاد معجمة وأصله الطويل (ابن سارية) بمهملتين بينهما ألف وبعد الراء تحتية خفيفة السلمي من أهل الصفة وهو أحد البكائين، وكان يقول إنه رابع الإسلام (رضي الله عنه) في «التهذيب» للمصنف. قال محمدبن عوف الحمصي: كل واحد من العرباضبن سارية وعمروبن عنبسة كان يقول: أنا رابع الإسلام. أي رابع من أسلم، ولا يدرى أيهما أسلم قبل صاحبه اهـ. نزل الشام وسكن حمص ومات في فتنة ابن الزبير رضي الله عنهما ويقال سنة خمس وسبعين. قال ابن

حزم في آخر «سيرته» روي له عن النبي أحد وثلاثون حديثاً، روى له أصحاب السنن الأربع (وقال: وعظنا رسول الله) أي: بعد صلاة الصبح كما جاء في رواية أخرى (موعظة) من الوعظ، وهو النصح والتذكير بالعواقب وتنوينها للتعظيم: أي موعظة جليلة، وجاء في رواية موعظة (بليغة وجلت) بكسر الجيم أي: خافت (منها) أي: من أجلها ويصح أن تكون لابتداء الغاية (القلوب) وكان المقام للتخويف فأتى بذلك لمناسبته (وذرقت) بفتح المعجمة والراء من باب ضرب: سالت (منها العيون) أي دموعها، وأخر هذا عما قبله لأنه إنما ينشأ عنه غالباً (فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع) كأنّ وجه فهمهم لذلك مزيد مبالغته في تخويفهم وتحذيرهم على ما كانوا يألفون منه قبل، فظنوا أن ذلك لقرب موته ومفارقته لهم إذ المودع يستقصي ما لا يستقصي غيره في القول والفعل، ففيه جواز تحكيم القرائن والاعتماد عليها في بعض الأحيان لأنهم فهموا توديعه بقرينة إبلاغه في الموعظة أكثر من العادة (فأوصنا) أي: وصية جامعة كافية (قال: أوصيكم بتقوى ا) جمع في هذا كل ما يحتاج إليه من أمور الآخرة، لما مر أن التقوى امتثال الأوامر واجتناب النواهي وتكاليف الشرع لا تخرج عن ذلك (والسمع والطاعة) جمع بينهما تأكيداً للاعتناء بهذا المقام، ومن ثم خصة بالذكر عاطفاً له على ما يشمله وغيره وهو التقوى فهو من عطف الخاص على العام لمزيد الاهتمام، ويحتمل أنه من عطف المغاير من حيث إنّ أظهر مقاصد التقوى انتظام الأمور الأخروية، والإمامة أظهر مقاصدها انتظام الأمور الدنيوية، ومن ثم قال عليّبن أبي طالب رضي الله عنه: إن الناس لا يصلحهم إلا إمام عادل أو فاجر (وإن تأمر عليكم عبد) هو من باب ضرب المثل بغير الواقع على سبيل الفرض والتقدير وإلا فهو لا تصح ولايته، أو من باب الإخبار بالمغيبات: أي إن نظام الشريعة يختلّ حتى توضع الولاية في غير أهلها، الأمر بالطاعة إيثار لأخف الضررين (وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً) فيه من معجزاته الإخبار بما يقع بعده من كثرة الاختلاف وغلبة المنكر، وقد كان عالماً به جملة وتفصيلاً، لما صح أنه كشف له عما يكون إلى أن يدخل أهل الجنة والنار منازلهم، ولم يكن يبينه لكل أحد وإنما كان يحذر منه على العموم، وكان يلقي بعض التفاصيل إلى الخصوص كحذيفة وأبي هريرة (فعليكم) الزموا حينئذٍ التمسك

(بسنتي) أي طريقتي وسيرتي القويمة التي أنا عليها مما فصلته لكم من الأحكام الاعتقادية والعملية الواجبة والمندوبة وغيرها، وتخصيص الأصوليين لها بالمطلوب طلباً غير جازم اصطلاح طارىء قصدوا به التمييز بينها وبين الفرض (وسنة) أي: طريقة (الخلفاء الراشدين المهديين) وهم أبو بكر فعمر فعثمان فعليّ فالحسن رضي الله عنهم وعن بقية الصحابة أجمعين، فإن ما عرف عن هؤلاء أو عن بعضهم أولى بالاتباع من بقية الصحابة إذا وقع بينهم الخلاف فيه ومحل تقليد الصحابة بالنسبة للمقلد الصرف في تلك الأزمنة القريبة من زمنهم. أما في زمننا فقال بعض أئمتنا: لا يجوز تقليد غير الأئمة الأربعة. الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد لأن هؤلاء عرفت مذاهبهم واستقرّت أحكامها وخدمها تابعوهم وحرروها فرعاً فرعاً وحكماً حكماً فقلّ أن يوجد فرع إلا وهو منصوص لهم إجمالاً أو تفصيلاً، بخلاف غيرهم فإن مذاهبهم لم تحرر وتدوّن كذلك فلا يعرف لها قواعد يتخرج عليها أحكامها، فلم يجز تقليدهم فيما حفظ عنهم منها لأنه قد يكون مشترطاً بشروط أخرى وكلوها إلى فهمها من قواعدهم، فقلت الثقة بخلوّ ما حفظ عنهم من قيد أو شرط فلم يجز التقليد حينئذٍ (عضوا عليها بالنواجذ) سيأتي معناها، والمعنى: عضوا عليها بجميع الفم احترازاً من النهش وهو الأخذ بأطراف الأسنان، فهو إما مجاز بليغ فيه تشبيه المعقول بالمحسوس، أو كناية عن شدة التمسك بالسنة والجد في لزومها كفعل من أمسك بنواجذه شيئاً وعض عليه لئلا ينزع منه، لأن النواجذ محدودة فإذا عضت على شيء نشبت فيه فلا يتخلص. وقيل معناه الأمر بالصبر على ما يصيبه من العض في ذات الله كما يفعله المتألم مما أصابه من الألم (وإياكم ومحدثات الأمور) كلاهما منصوب بفعل مضمر أي: باعدوا أنفسكم واحذروا الأخذ بالأمور المحدثة في الدين واتباع غير سنن الخلفاء الراشدين (فإن) ذلك بدعة وإن (كل بدعة) وهي لغة المخترع على غير مثال سابق. وشرعاً ما أحدث على خلاف أمر الشارع، ودليله الخاص أو العام (ضلالة) لأن الحق فيما جاء به الشرع فما لا يرجع إليه يكون ضلالة، إذ ليس بعد الحق إلا الضلال، والمراد بالضلالة هنا ما ليس له أصل في الشرع وإنما حمل عليه مجرد الشهوة أو الإرادة، بخلاف محدث له أصل في الشرع إما بحمل النظر على النظير أو بغير ذلك فإنه حسن، إذ هو سنة الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين فمنشأ الذم في البدعة ليس مجرد لفظ محدث أو بدعة بل ما اقترن به

من مخالفته للسنة ورعايته للضلالة، ولذا انقسمت البدعة إلى الأحكام الخمسة، لأنها إذا عرضت على القواعد الشرعية لم تخل عن واحد منها، فمن البدع الواجبة على الكفاية تعلم العلوم المتوقف عليها فهم الكتاب والسنة والتي فيها حفظ الشريعة، لأن حفظها واجب على الكفاية فيما زاد على التعين ولا يتأتى حفظها إلا بذلك فوجب. ومن البدع المحرّمة مذاهب سائر أهل البدع المخالفة لما عليه أهل السنة والجماعة. ومن المندوبة كل إحسان لم يعهد في الصدر الأول كإحداث نحو الربط والمدارس والكلام في دقائق التصوف. ومن المكروهة زخرفة المساجد وتزويق المصاحف، ومن المباحة التوسع في لذيذ المآكل والمشارب؛ فعلم أن قوله: «وكل بدعة ضلالة» عام أريد به خاص إذ سنة الخلفاء الراشدين منها مع أنا أمرنا باتباعها لرجوعها إلى أصل شرعي وكذا سنتهم عام أريد به خاص، إذ لو فرض خليفة راشد سنّ سنة لا يعضدها دليل شرعي امتنع اتباعها، ولا ينافي ذلك رشده لأنه قد يخطىء المصيب ويزيغ المستقيم يوماً ما (رواه) أحمد والدارمي في «مسنديهما» . ورواه عن أحمد (أبو داود) في «سننه» (و) كذا (الترمذي وقال: حديث صحيح) وفي الأربعين للمصنف: وقال حديث حسن، وفي نسخة من كل من الرياض والأربعين: وقال صحيح حسن. وبالنسخة الثانية يعلم أن المصنف اقتصر على أحد الوصفين في كل من الكتابين، ويحتمل أن النسخ عنده مختلفة في ذلك فنقل عن كل من النسخ في كتاب، والله أعلم بالصواب. ورواه ابن ماجه وأبو نعيم وقال: حديث جيد من صحيح الشاميين. وأخرجه الحاكم بنحوه في «مستدركه» وكذا أخرجه الطبراني في «الكبير» والبغوي في «معجم الصحابة» ، وله طرق كثيرة واختلاف في ألفاظه ورواياته، وقد بسطها السخاوي في «تخريج الأربعين» التي جمعها المصنف ثم قال: وبالجملة فقد قال الترمذي: إنه حسن صحيح، وقال الحاكم: إنه صحيح على شرط الشيخين وصححه ابن حبان، بل وعزى شيخنا: يعني الحافظ ابن حجر تصحيحه لابن خزيمة اهـ (النواجذ بالذال المعجمة: الأنياب) كذا اقتصر عليه القاضي عياض في «المشارق» (وقيل: الأضراس) ومن هذا قوله في الحديث «حتى بدت نواجذه» . قال القاضي عياض في «المشارق» : وهي الأضراس، وقيل: الضواحك، والنواجذ

أيضاً: أواخر الأسنان وهي أضراس العقل اهـ: أي: الذي يدل نباتها على الحلم وهي من فوق وأسفل من كل من الجانبين، فللإنسان أربع. وأشار في «النهاية» إلى أنه المشهور، واقتصر عليه السيوطي فقال في «مختصر النهاية» : النواجذ أواخر الأضراس واحده ناجذ اهـ وبهذا المعنى فسر جمع النواجذ هنا. 158 - (الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كل أمتي) أي: أمة الدعوة (يدخلون الجنة إلا من أبى) بفتح الموحدة، أي: امتنع، قال العلقمي: قال الحافظ: ظاهره أن العموم مستمرّ لأن كلاً منهم لا يمتنع من دخول الجنة فلذلك (قيل: ومن يأبى) أي: يمتنع من دخولها (فقال) (من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى) قال: فبين به أن إسناد الامتناع إليهم عن الدخول مجاز عن الامتناع عن سببه وهو عصيان الرسول والموصوف بالإباء وهو الامتناع إن كان عن أصل الدخول في الإسلام فكافر لا يدخل الجنة البتة، وإن كان بعد الدخول فيه فالمراد منعه عن الدخول فيها من الفائزين اهـ. وقال العاقولي: لما كان المرتكب للمعصية كالرادّ لما دل على تحريمها من الكتاب والسنة أطلق عليه لفظ الإباء وأريد به استحقاقه النار وضعاً للسبب موضع المسبب قال الجوهري: الإباء بالكسر أي: والهمزة الممدوة، ويقال إباءة (رواه البخاري) . 158 - (الرابع: عن أبي مسلم) بصيغة اسم الفاعل من الإسلام (وقيل) : يكنى بـ (أبي إياس) ففيه حذف الجار وإبقاء عمله ومثله سماعي وهو بكسر الهمزة بعدها تحتية ويقال أبو عامر (سلمة) بفتح أوّليه (ابن عمروبن الأكوع) واسمه سنانبن عبد ابن قشيربن خزيمةبن مالك بن سلامانبن أسلم الأسلمي (رضي الله عنه) شهد بيعة الرضوان بالحديبية، وبايع

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ ثلاث مرات في أول الناس وأوسطهم وآخرهم، وكان شجاعاً رامياً محسناً خيراً فاضلاً، غزا مع النبي سبع غزوات. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعة وسبعون حديثاً، اتفقا على ستة عشر، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بتسعة، وكان يسكن المدينة، ثم بعد قتل عثمان خرج إلى الربذة فسكن بها، ثم عاد قبل وفاته إلى المدينة وتوفي بها سنة أربع وسبعين وهو ابن ثمانين سنة (أن رجلاً) . قال المصنف في «المبهمات» : قال الخطيب: هو بسر ابن راعي العير بفتح المهملة وسكون التحتية الأشجعي ونقله كذلك في «شرح مسلم» وقال ذكره أبو نعيم وابن منده وابن ماكولا وآخرون، وهو صحابي مشهور عده هؤلاء وغيرهم في الصحابة (أكل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشماله) تكبراً (فقال: كل بيمينك) أمر ندب على المعتمد والدعاء الآتي عليه لقصده مخالفة السنة النبوية (قال: لا أستطيع، قال) : (لا استطعت) دعاء عليه لمخالفته الحكم الشرعي بلا عذر كما قال الراوي مبيناً لذلك مدرجاً له بآخر الحديث (ما منعه) من متابعة السنة (إلا الكبر) ولا يدل مجرد الكبر والمخالفة على نفاقه كما قال المصنف، بل هو معصية إن كان الأمر في قوله: «كل بيمينك» أمر إيجاب.c وأخذ القاضي عياض من ذلك نفاقه رده المصنف بما ذكر. ومحل النهي عن الأكل بالشمال حيث لا عذر يمنع من الأكل باليمين من مرض أو قطع وإلا فلا كراهة حينئذٍ (فما رفعها إلى فيه) إجابة لدعوته لاستحقاقه لها بقصده السابق (رواه مسلم) وأخرجه أحمد وابن حبان ورواه الحافظ ابن حجر في «أمالي الأذكار» من طريق الدارمي وقال: «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبصر رجلاً وفي آخره» : «فما وصلت يمينه إلى فيه بعد» . 160 - (الخامس: عن أبي عبد الله النعمان) بضم النون وسكون العين (ابن بشير) بفتح الموحدة وكسر المعجمة وسكون التحتية ابن سعدبن ثعلبةبن جلاس بضم الجيم وتخفيف اللام كذا قيده عبد الغني المقدسي وغيره. وقال ابن ماكولا: هو خلاس بفتح الخاء المعجمة وتشديد اللام ابن بدربن مالكبن ثعلبةبن كعببن الخزرج الأنصاري هو وأبوه صحابيان

رضي الله عنهما شهد أبوه العقبة الثانية وبدراً وأحداً والمشاهد كلها مع رسول الله. وهو أول أنصاري بايع أبا بكر رضي الله عنه، واستشهد مع خالدبن الوليد بعين التمر سنة اثنتي عشرة من الهجرة بعد انصرافه من اليمامة. وأما النعمان فولد على رأس أربعة أشهر من الهجرة، وهو أول مولود من الأنصار بعد الهجرة. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة وأربعة عشر حديثاً، اتفقا على خمسة منها، وانفرد البخاري بحديث ومسلم بأربعة قتل النعمان بالشام بقرية من قرى حمص في ذي الحجة سنة أربع وستين. وقال ابن أبي خيثمة سنة ستين، كذا نقل من «التهذيب» للمصنف ملخصاً، سكن النعمان الشام ثم ولي أمره الكوفة (قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لتسوُّن صفوفكم) بضم الفوقية وفتح المهملة وضم الواو وتشديد النون، قال البيضاوي: هذه اللام هي التي يتلقى بها القسم، والقسم هنا مقدر ولذا أكده بالنون المشددة وتسوية الصفوف اعتدال القائمين بها على سمت واحد (أو) عاطفة بفتح فسكون: أي: ليكونن منكم التسوية أو (ليخالفنّ الله بين وجوهكم) أي: إن لم تسووا. واختلف في هذا الوعيد، فقيل هو على حقيقته، والمراد تشويه الوجه بتحويل خلقه عن موضعه بجعله موضع القفا، أو تغيير صورة الإنسان وتحويلها إلى صورة أخرى أو نحو ذلك، ويؤيد حمله عليها حديث أبي أمامة «لتسونّ الصفوف أو لتطمسنّ الوجوه» رواه أحمد وفي إسناده ضعف، ولذا قال ابن الجوزي: إنه مثل الوعيد في قوله: {من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها} (النساء: 47) وقيل: إنه محمول على المجاز، قال المصنف: معناه يوقع بينكم العداوة والبغضاء واختلاف القلوب، كما تقول: تغير وجه فلان: أي: ظهر لي من وجهه كراهية، لأن مخالفتهم في الصفوف مخالفة في الظواهر، واختلاف الظواهر سبب لاختلاف البواطن، ويؤيده رواية أبي داود في حديث النعمان هذا «أو ليخالفنّ الله بين قلوبكم» والحاصل أن الوجه إن حمل على العضو المخصوص فالمخالفة إما بحسب الصورة الإنسانية أو جعل القدام وراء، وإن حمل على ذات الشخص: فالمخالفة بحسب المقاصد، أشار إلى ذلك الكرماني. قال الحافظ: ويحتمل أن يراد بالمخالفة في الجزاء فيجازي المسويّ بخير ومن لا يسوي بشرّ (متفق عليه) . (وفي رواية لمسلم) عن النعمان (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسوي صفوفنا

حتى كأنما يسوي بها القداح) قال المصنف: بكسر القاف هو خشب السهام واحدها قدح بكسر القاف معناه: يبالغ في تسويتها حتى تصير كأنما يقوّم بها السهام لشدة استوائها واعتدالها (حتى رأى أنا قد عقلنا) بفتح المهملة والقاف أي فهمنا (عنه، ثم خرج يوماً) للصلاة بالقوم (فقام حتى كاد يكبر) تكبير التحرم (فرأى) عطف على خرج أي أبصر (رجلاً) حال كونه (بادياً صدره) أي: ظاهراً خارجاً عن سمته (فقال: عباد الله لتسوُّن صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم) قال المصنف: فيه الحثّ على تسويتها، وفيه جواز الكلام بين الإقامة والدخول في الصلاة، وهذا مذهبنا ومذهب جماهير العلماء ومنعه بعض العلماء والصواب الجواز، وسواء كان لمصلحة الصلاة أو لغيرها أو لا لمصلحة. 161 - (السادس: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: احترق بيت بالمدينة على أهله من الليل) أي فيه: في «مغني اللبيب» في معاني «من» أنها تكون مرادفة في نحو قوله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} (الجمعة: 9) اهـ قال المراد في الجني الداني، وهو منقول عن الكوفيين، ومن حججهم قول الشاعر: عسى سائل ذو حاجة إن منعته من اليوم مسئولاً إن أيسر في غد قال: ويحتمل أن تكون من «فيه» تبعيضية على حذف مضاف أي بعض مسئولات اليوم اهـ (فلما حدث) بالبناء للمفعول: أي: أخبر (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشأنهم قال: إن هذه النار عدوّ لكم، فإذا نمتم) قال في «المصباح» : نام ينام من باب تعب. نوماً ومناماً فهو نائم والجمع نوّم على الأصل ونيم على لفظ الواحد ونيام أيضاً ويتعدى بالهمز والتضعيف اهـ. والنوم: زوال الشعور من القلب لاسترخاء أعصاب الدماخ بسبب رطوبات الأبخرة الصاعدة إليه من المعدة،

والنعاس مقدمته (فأطفئوها) بقطع الهمزة (عنكم) قال القرطبي: الأمر في الحديث للإرشاد، قال: وقد يكون للندب، وجزم المصنف بأنه للإرشاد لكونه لمصلحة دنيوية. وتعقب بأنه قد يفضي إلى مصلحة دينية وهي حفظ النفس المحرم قتلها والمال المحرم تبذيره. وقال الطبري: إذا بات الواحد في بيت ليس فيه غيره وفيه نار فعليه أن يطفئها قبل نومه أو يفعل بها ما يأمن معه الاحتراق، وإن كان في البيت جماعة فإنه يتعين على بعضهم وأخصهم بذلك آخرهم نوماً، فمتى فرّط في ذلك كان مخالفاً للسنة. قال المصنف: والحديث عام يدخل فيه نار السراج وغيره، أما القناديل المسرجة وغيرها إذا أمن الضرر كما هو الغالب فالظاهر أن لابأس به اهـ ملخصاً من «فتح الباري» (متفق عليه) ورواه ابن ماجه. 162 - (السابع: عنه قال: قال رسول الله: إن مثل) بكسر فسكون ويقال مثل بفتحتين، وهو في اللغة النظير ثم استعمل في كل صفة أو حال فيها غرابة وهي المراد هنا أي إن صفة (ما بعثني الله به من الهدى والعلم) قال ابن ملك: ذكر في العوارف الهدى وجدان القلب موهبة العلم من الله ويجوز أن يكون المراد منهما شيئاً واحداً (كمثل غيث أصاب أرضاً) قيل: فيه تشبيه متعدد، فشبه العلم بالغيث لأنه يحيى القلب الميت إحياء المطر البلد اليابس، وفي التعبير بالغيث دون المطر لطيفة، إذ الغيث مطر محتاج إليه يغيث الناس عند قلة المياه، وقد كان الناس متحيرين قبل بعثته حتى أغاثهم الله بوابل علومه؛ وشبه من ينتفع به بالأرض الطيبة، وشبه من يحمله ولم ينتفع به بالأرض الصلبة الماسكة للماء فينتفع به الناس وشبه من يحمله ولا ينتفع به بالقيعان. وقال ابن ملك: الأولى أنه تشبيه مركب لتوقف أوله على آخره، ألا ترى أنه وصف الغيث بقوله: «أصاب أرضاً» فعلم أنه تشبيه واحد وهو تشبيه الوحي النازل من السماء إلى من ظهر نفعه، وإلى من لم يظهر بالغيث النازل من السماء إلى الأرض ظهر نفعه فيها أو لم يظهر (فكانت منها) حال (طائفة) أي: قطعة (طيبة قبلت الماء وأنبتت

الكلأ) مهموز مقصور: وهو المرعى (والعشب الكثير) قال المصنف: العشب والخلى والكلأ والحشيش كلها اسم للنبات، لكن الحشيش مختص باليابس، والعشب والخلى بالقصر مختصان بالرطب، والكلأ بالهمز يقع على اليابس والرطب. قال ابن ملك: فيكون عطف العشب عليه عطف الخاص على العام للاهتمام بشأنه، وقيل: الكلأ مختص أيضاً بالرطب إلا أنه ما يتأخر نباته ويقل، والعشب ما يتقدم نباته ويكثر ولهذا وصف العشب بالكثير اهـ. وقال الخطابي وابن فارس: الخلى يقع على اليابس وهذا شاذ ضعيف. وفي «شرح المشارق» للكازروني بعد أنّ ذكر أنهما بمعنى. وقيل: الكلأ اليابس. والعشب الذي ابتدأ فيه اليبوسة: وقيل: العشب الرطب، وقيل: الكلأ النبات والعشب الرطب، وعطف الأخص على الأعم جائز إذ كان بحيث يهتم بأفراده (وكانت) وفي نسخة وكان (منها أجادب) بالجيم والدال المهملة جمع أجدب وهي الأرض التي لا تنبت كذا قال ابن ملك، وكأنه باعتبار القياس، وإلا فقد نقل المصنف عن ابن بطال وصاحب «المطالع» وآخرين أنه جمع جدب بفتح الدال المهملة على غير قياس كما قالوا في حسن جمعه محاسن، والقياس أن محاسن جمع محسن. قال المصنف. قال القاضي عياض: لم يرد هذا الحرف في مسلم ولا في غيره إلا بالدال المهملة، من الجدب ضد الخصب وعليه شرح الشارحون، وكأنه قصد الرد على الخطابي حيث ذكر في اللفظ وجوهاً وجعلها روايات مقبولة وهي أخاذات بالخاء والذال المعجمتين جمع أخاذة وهي الغدران وأحادب بالحاء والدال المهملتين، قال: وليس بشيء. وروي أجارد بالجيم والراء والدال، قال: وهو صحيح المعنى إن ساعدته الرواية، ومعناه: متجردة من النبات جمع أجرد (أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان) جمع قاع: وهي الأرض المستوية، وقيل: الملساء، وقيل: التي لا نبات فيها قال المصنف وهذا هو المراد في الحديث (لا تمسك ماء) ولما كان بعض القيعان قد ينبت كلأ نفاه بقوله: (ولا تنبت كلأ، فذلك) إشارة إلى ما ذكر من الأنواع الثلاثة وشروع في بيان موارد المثل الثلاثة، فمثل الطائفة الأولى القابلة للماء المنبتة للكلأ (مثل من فقه في دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله به فعلم) بكسر اللام (وعلَّم) بتشديد اللام (ومثل من لم يرفع بذلك رأساً) هذا مثل الطائفة الثانية التي أمسكت الماء ولم تنبت به شيئاً، فنفع الله الناس بها ولم تنتفع هي به، وهذا كعالم لم يعمل بعلمه وعلم غيره

وعدم رفع رأسه بالعلم كناية عن عدم الانتفاع به لعدم العمل به (و) مثل من (لم يقبل هدى الله الذي أرسلت به) هذا مثل الطائفة الثالثة التي لا تمسك الماء ولا تنبت الكلأ، ومثل هذه الطائفة رجل فات عنه التعلم والتعليم، ولا يخفى أن عدم قبول الهدى مستلزم لعدم النفع بالعلم لا في نفسه ولا في غيره (متفق عليه) لكن السياق لمسلم (فقه بضم القاف على المشهور) في الرواية قاله صاحب «العين» والهروي وغيرهما (وقيل: بكسرها) قاله ابن دريد (أي: صار فقيهاً) عالماً بالأحكام الشرعية. أم الفقه بالمعنى اللغوي فهو فقه بكسر القاف لا غير، والضم والكسر روايتان والمشهور الضم، قاله المصنف. وقد تقدم في باب التقوى ذكر هذين الوجهين كما في الفقه بمعنى علم أحكام الشعر، وكان الأخصر الاكتفاء بذلك. 163 - (الثمن: عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله: مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً فجعل الجنادب) قال المصنف: وفي رواية الدوابّ (والفراش يقعن فيها) لعدم إدراكهن بما يضرهن (وهو) أي: الرجل (يذبهن) بالمعجمة وتشديد الموحدة، أي: يمنعهن رحمة بهن (عنها) لما يعلمه من أن حتفهم بها (وأنا آخذ) روي بوجهين أحدهما اسم فاعل بكسر الخاء وتنوين الذال والثاني فعل مضارع ذكرهما المصنف وقال: هما صحيحان والأول أشهر (بحجزكم) جمع حجزة بضم المهملة وبعدها جيم ثم زاي، وهي معقد الإزار والسراويل (عن النار وأنتم تفلتون) روي بوجهين فتح أوله وتشديد اللام وبضم الفوقية وسكون الفاء وكسر اللام المخففة وكلاهما صحيح، يقال أفلت مني وتفلت: إذا نازعك الغلبة والهرب ثم غلب وهرب، ومقصود الحديث أنه شبه تساقط الجاهلين والمخالفين بمعاصيهم وشهواتهم في نار الآخرة وحرصهم على الوقوع في ذلك مع منعه إياهم وقبضه

على موضع المنع منهم بتساقط الفراش في نار الدنيا لهواه وضعف تمييزه، وكلاهما حريص على هلاك نفسه ساغ في ذلك لجهله (رواه مسلم) ورواه أحمد كما في «الجامع الصغير» . (الجنادب) جمع جندب بضم الدال وفتحها والجيم مضمومة فيهما، والثالثة حكاها عياض بكسر الجيم وفتح الدال (نحو الجراد) وهو الصرصار. قال أبو حاتم: الجندب على خلقه الجراد له أربعة أجنحة كالجراد وأصغر منها يطير ويصرّ بالليل صرّاً شديداً، وقيل: غيره (والفراش هو المعروف) قال في «شرح مسلم» : قال الخليل: هو الذي يطير كالبعوض، وقال غيره: ما تراه كصغائر البق يتهافت في النار، ولذا قال المصنف (الذي يقع في النار، والحجز جمع حجزة: وهي معقد الإزار والسراويل) . 164 - (التاسع: عنه) أي: عن جابر (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر) بالبناء للفاعل (بلعق الأصابع) إما يلعقها بنفسه أو يلعقها غيره ممن لا يتقذر بذلك من زوجة وجارية وولد ومن في معناه كتلميذ يعتقد بركته ويود التبرك به (و) لعق (الصحفة) وذلك لكسر النفس بالتواضع (قال) منبهاً على علة الأمر بذلك (فإنكم لا تدرون في أية) أي: أيّ طعامكم كما في الرواية بعده (البركة) قال المصنف: الطعام الذي يحضر الإنسان فيه بركة ولا يدري أن تلك البركة فيما أكل أو فيما بقي على أصابعه أو فيما بقي في أسفل القصعة أو في اللقمة الساقطة، فينبغي أن يحافظ على هذا كله لتحصيل البركة، والمراد بالبركة هنا ما يحصل به التغذية وتسلم عاقبته من أذى ويقوى على طاعة الله تعالى أو غير ذلك (رواه مسلم) . (وفي رواية له) عن جابر (إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها) ولا يدعها كما يفعله بعض المترفين استكباراً (فليمط) بضم التحتية. قال الجوهري حكى أبو عبيد ماطه وأماطه: نجاه وقال الأصمعي: أماطه لا غير أي لينح ويزل (ما كان) أي: حصل (بها) أي: فيها أو الباء للإلصاق أو الملابسة (من أذى) أي: مستقذر من غبار وتراب، فإن وقعت على موضع نجس تنجست ولا بد من

غسلها إن أمكن، فإن تعذر أطعمها حيواناً ولا يتركها للشيطان (وليأكلها ولا يدعها) يتركها (للشيطان) قيل: إنه مأخوذ من شطن بمعنى بعد، وقيل: من شاط بمعنى احترق، وأل يحتمل كونها للجنس أو للعهد الذهني أي إبليس. وفي الحديث إثبات الشياطين وأنهم يأكلون (ولا يمسح يده بالمنديل) قال المصنف: هو معروف وهو بكسر الميم. قال ابن فارس في «المجمل» لعله مأخوذ من المندل وهو النعل، وقال غيره: مأخوذ من الندل وهو الوسخ لأنه يندل به، قاله أهل اللغة: تندلت بالمنديل. قال الجوهري: ويقال أيضاً تمندلت، وأنكر الكسائي تمندلت (حتى يلعق) بفتح التحتية (أصابعه) محافظة على البركة (فإنه لا يدري في أي طعامه البركة) . فائدة: قال العلقمي في «حاشية الجامع الصغير» : قال شيخ شيوخنا: يعني الحافظ العسقلاني: وقع من حديث كعببن عجرة عند الطبراني في «الأوسط» صفة لعق الأصابع ولفظه «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل بأصابعه الثلاث بالإبهام والتي تليها والوسطى، ثم رأيته يلعق الثلاث قبل أن يمسحها الوسطى ثم التي تليها ثم الإبهام» قال شيخنا في «شرح الترمذي» : كأن السرّ فيه أن الوسطى أكثر تلويثاً لأنها أطول فيبقى فيها من الطعام أكثر من غيرها ولأنها لطولها أول ما ينزل في الطعام، أو أن الذي يلعق يكون بطن كفه إلى جهة وجهه، فإذا ابتدأ الوسطى انتقل إلى السبابة على جهة يمينه وكذلك الإبهام اهـ. (وفي رواية له) عن جابر أيضاً (إن الشيطان يحضر أحدكم عند شأنه كله) وفي نسخة «عند كل شيء من شأنه» فيه التحذير منه والتنبيه على ملازمته للإنسان في جميع أحواله وتصرفاته، فينبغي أن يتأهب ويحترز منه ولا يغترّ بما يزينه له (حتى) غاية لملازمته (يحضره عند، طعامه فإذا سقطت من أحدكم لقمة فليمط ما كان بها من أذى فليأكلها ولا يدعها للشيطان) وسيأتي زيادة في معاني هذه الأحاديث في كتاب آداب الطعام إن شاء الله تعالى. 165 - (العاشر: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بموعظة) تقدم في

حديث النوّاس معنى الموعظة وأن تنوينها للتعظيم ( {فقال: يا أيها الناس إنكم محشورون} ) بعد البعث (إلى الله عزّ وجلّ حفاة) جمع حاف من لا نعل برجله (عراة) عن الثياب (غرلاً) بضم المعجمة وسكون الراء: أي قلفاً. والغرلة: القلفة ( {كما بدأنا أول خلق نعيده} ) بعد إعدامه والكاف متعلقة بنعيد وضميره عائد لأول وما مصدرية ( {وعداً علينا} ) منصوب بوعدنا مقدر قبله وهو مؤكد لمضمون ما قبله ( {إنا كنا فاعلين} ) ما وعدنا، وذكره استدلالاً على إعادة كل مخلوق بجميع أجزائه (ألا) بتخفيف اللام أداة استفتاح وما بعدها مقدر وعطف عليه قوله: (وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم) إن قلت: هذا يدل على أن إبراهيم أفضل. قلت: لا يلزم من اختصاص النبي بفضيلة كونه أفضل مطلقاً، أو المراد غير المتكلم بذلك قاله الكرماني. قال السيوطي في «التوشيح» : قيل: الحكمة في ذلك أنه ألقي في النار عرياناً، وقيل: لأنه أول من لبس السراويل وقد جبر عن هذا السبق بكونه يكسي حلتين كما في حديث ذكره البيهقي. قال القرطبي (ألا وإنه) أي: الشأن (سيجاء) بالبناء للمفعول (برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال) بكسر الشين والمراد جهة النار. قال ابن النحوي: لعلهم منافقون، وقيل هم مسلمون قصروا في بعض الحقوق، وسيأتي معنى قوله مرتدين على الوجهين (فأقول: يا ربّ هم أصحابي) رواية البخاري في «التفسير» «فأقول يا رب ارحم أصحابي» قال السيوطي في «التوشيح» : هو للأكثر مصغر، وللكشميهني غير مصغر. قال الخطابي: فيه إشارة إلى قلة عدد من وقع لهم ذلك، وإنما وقع ذلك لبعض جفاة الأعراب ولم يقع لأحد من الصحابة المشهورين اهـ. قلت: ويحتمل أن المراد بقوله أصحابي: أي من أمتي التابعين لملتي. فالصحبة مجازية ومعرفته لهم حينئذٍ برؤية نحو الغرّة والتحجيل مما تختص به هذه الأمة، وهذا أنسب بقوله في أول الحديث «برجال من أمتي دون أصحابي» (فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) أبهم ولم يعين تفخيماً لشأنه وبيانه بعد ليكون أدلّ على قيام العدل وقوام الحجة عليهم (فأقول) مسلماً الأمر الله (كما قال

العبد الصالح) يعني عيسىبن مريم (وكنت عليهم شهيداً) أي: رقيباً أمنعهم مما يقولون ( {ما دمت فيهم} {فلما توفيتني كنت أنت الرقيب} ) الحفيظ ( {عليهم} ) على أعمالهم ( {وأنت على كل شيء} ) من قولي لهم وقولهم بعدي وغير ذلك ( {شهيد} ) مطلع عالم به ( {إن تعذبهم} ) أي: من دام على الكفر منهم ( {فإنهم عبادك} ) وأنت مالكهم متصرف فيهم كيف شئت لا اعتراض عليك ( {وإن تغفر لهم} ) أي: لمن آمن منهم ( {فإنك أنت العزيز} ) الغالب على أمره ( {الحكيم} ) في صنعه كذا في «تفسير الجلالين» . وظاهر التشبيه في قوله كما قال العبد الصالح الخ أن هذا القول كان من عيسى على جهة التسليم وأنه قد علم من آمن منهم، فقوله: {إن تعذبهم} أي: على كفرهم وفريتهم السابقة فهم مستحقون لذلك، ولا اعتراض عليك لأنك تصرّفت في عبادك {وإن تغفر لهم} أي: لمن تاب منهم، أشار إليه ابن النحوي. قال: وقيل علم عيسى أنهم يعصون بعده، فقال: {وإن تغفر لهم} أي: ما أحدثوه من المعاصي (فيقال لي) بيان لما أحدثوا (إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم) قال القاضي عياض: هذا لصحة من تأول أنهم أهل الردة، ولذا قال فيهم سحقاً سحقاً، ولا يقول ذلك في مذنبي أمته بل يشفع لهم ويهتم بأمرهم. وقيل هؤلاء صنفان: أحدهما عصاة مرتدون عن الاستقامة لا عن الإسلام وهؤلاء مبدلون الأعمال الصالحة بالسيئة، والثاني مرتدون إلى الكفر حقيقة ناكصون على أعقابهم اهـ «ومنذ» هنا ظرف (متفق عليه. غرلاً) بضم فسكون جمع أغرل (أي: غير مختونين) . 166 - (الحادي عشر: عن أبي سعيد) وقيل أبو عبد الرحمن، وقيل أبو زياد (عبد ابن مغفل) بضم

الميم وفتح المعجمة وتشديد الفاء ابن عبد غنم، وقيل: ابن عبدنهمبن عفيفبن أسحمبن ربيعةبن عذار، وقيل: ابن عديبن ثعلبةبن ذؤيب، وقيل: زويدبن سعدبن عدابن عثمانبن عمروبن أدّبن طابخةبن إلياسبن مضربن نزال المزني البصري «ومزينة» امرأة عثمان بن عمرو ونسبوا إليها، وعبد الله (رضي الله عنه) من أهل بيعة الرضوان، قال عبد الله: إني لممن رفع أغصان الشجرة عن رسول الله. سكن المدينة ثم تحول إلى البصرة وكان أحد البكائين الذين نزل فيهم قوله تعالى: {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم} (التوبة: 92) الآية، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة وأربعون حديثاً، اتفقا على أربعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بآخر. توفي بالبصرة سنة ستين، وقيل: سنة تسع وخمسين، وصلى عليه أبو برزة الأسلمي لوصيته بذلك (قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخذف) بفتح المعجمة الأولى وسكون الثانية وبالفاء: رمى الحصى بالسبابة والإبهام بأن يضعها على أحدهما ويرميها بالآخر وقال على سبيل الاستئناف لبيان سبب النهي (إنه لا يقتل الصيد ولا ينكأ) بالهمزة: أي لا يقتل (العدو) ولا يجرحه (وإنه يفقأ) بالفاء والقاف والهمزة: أي يقلع (العين) قال المصنف: قال القاضي: كذا رويناه. قال: وفي بعض الروايات «ينكى» بفتح التحتية وكسر الكاف غير مهموز. قال القاضي: وهو أوجه هنا لأن المهموز إنما هو من نكأت القرحة وليس هذا موضعه إلا على تجوّز وإنما هذه النكاية، يقال نكيت العدو وأنكيته نكاية ونكأت بالهمز لغة فيه، قال: فعلى هذه اللغة تتوجه رواية شيوخنا (ويكسر السن) أي: إنه ضرر لا نفع فيه (متفق عليه. وفي رواية لمسلم: أن قريباً لابن مغفل خذف فنهاه) عنه (وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الخذف وقال: إنها لا تصيد صيداً) أي: الخذفة لا يحصل في الصيد كما لا يحصل منها مصلحة في الحرب (ثم أعاد) القريب الخذف بعد سماع ذلك (فقال: أحدثك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه ثم عدت تخذف)

وتخالف السنة (لا أكلمك أبداً) قال المصنف، فيه هجران أهل البدع والفسوق ومنابذي السنة مع العلم وأنه يجوز هجرانه دائماً، والنهي عن الهجران فوق ثلاثة أيام إنما هو فيمن هجر لحظ نفسه ومعايش الدنيا. أما أهل البدع ونحوهم فهجرانهم دائم، وهذا الحديث مما يؤيده مع نظائر له كحديث كعببن مالك السابق. 167 - (الثاني عشر: عن عابس) بموحدة مكسورة ثم مهملة (ابن ربيعة) النخعي الكوفي ثقة مخضرم من كبار التابعين كذا في «التقريب» للحافظ (قال: رأيت عمربن الخطاب رضي الله عنه يقبل الحجر الأسود ويقول: إني أعلم) في رواية أخرى للبخاري «أما وا إني لأعلم» (أنك حجر لا تضرّ ولا تنفع) أي: إلا بإذنالله. قال في «فتح الباري» : وقد روى الحاكم من حديث أبي سعيد «أن عمر لما قال هذا قال له عليّبن أبي طالب: إنه يضر وينفع، وذكر أن الله تعالى لما أخذ المواثيق على ولد آدم كتب ذلك في رقّ وألقمه الحجر» وقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يؤتي يوم القيامة بالحجر الأسود وله لسان ذلق يشهد لمن استلمه بالتوحيد» وفي إسناده راو ضعيف جداً. وقد روي أن عمر رفع قوله ذلك إلى النبي أخرجه ابن عباس قال: «رأيت عمر قبَّل الحجر ثلاثاً ثم قال: إنك حجر لا تضرّ ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك، ثم قال عمر: رأيت النبي فعل مثل ذلك» قال الطبراني: إنما فعل ذلك لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام، فخشي عمر أن يظن الجهال أن استلام الحجر من باب تعظيم الأحجار كما كانت الجاهلية تعتقده في الأوثان (ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك) في قول عمر هذا التسليم للشارع في أمور الدين وحسن الاتباع فيما لم يكشف عن معانيه، وهي قاعدة عظيمة في اتباع النبي فيما يفعله

ولو لم نعلم الحكمة فيه، وفيه دفع ما وقع لبعض الجهال من أن في الحجر خاصية ترجع إلى ذاته، وفيه بيان السنن بالقول والفعل وأن الإمام إذا خشي على أحد من فعله فساد اعتقاد أن يبادر إلى بيان الأمر (متفق عليه) زاد مسلم في رواية له «ولكن رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بك حفياً» ولم يذكر «يقبلك» . كذا في «تجريد الأصول» للبارزي. باب في وجوب الانقياد أي: الاستسلام ظاهراً والرضا باطناً (لحكم الله وما يقوله من دعى) بالبناء للمفعول (إلى ذلك) أتى باسم الإشارة الموضوع للبعيد موضع الضمير تفخيماً لشأنه (وأمر بمعروف أو نهى) بالبناء لذلك أيضاً (عن منكر) . (قال الله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} ) تقدم الكلام على ما يتعلق بمعناها في أول الباب قبله، وقد حكى السيوطي في «أسباب النزول» له خلافاً في سبب نزولها، فقيل في تخاصم الزبير والأنصاري في سراح الحرة: فأمر الزبير أن يسقي ثم يرسل الماء إلى جاره، فقال الأنصاري: يا رسول الله أن كان ابن عمتك؟ الحديث. قال الزبير: فما أحسب هذه الآيات إلاّ نزلت في ذلك {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} . أخرجه

الأئمة الستة وقيل: في تخاصم الزبير وحاطببن أبي بلتعة في ماء، فقضى أن سقى الأعلى ثم الأسفل. أخرجه ابن أبي حاتم. وقيل: سببه اختصام رجلين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقضى بينهما، فقال الذي قضى عليه: ردّنا إلى عمر، فأتيا إليه فقال الرجل: قضى لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذا فقال ردنا إلى عمر، فقال أكذلك؟ قال: نعم، قال نعم: مكانكما حتى أخرج إليكما فأقضى بينكما، فخرج إليهما مشتملاً على سيفه، فضرب الذي قال ردّنا إلى عمر فقتله، فأنزل الله الآية. قال السيوطي: أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي الأسود مرسلاً، وهو غريب في إسناده ابن لهيعة، وله شاهد أخرجه رحيم في «تفسيره» عن ضمرة اهـ ملخصاً. (وقال تعالى: {إنما كان قول المؤمنين} ) أي: القول اللائق لهم ( {إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا} ) بالإجابة ( {وأولئك} ) حينئذٍ ( {هم المفلحون} ) الناجون (وفيه من الأحاديث) النبوية (حديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور في أول الباب قبله) هو قوله: «دعوني ما تركتكم» الخ (وغيره من الأحاديث فيه) أي: في معنى الحديث المذكور من طاعة الله ورسوله ظاهراً وباطناً. 1681 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت) بالبناء للفاعل (على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آية: {ما في السموات وما في الأرض} ) خلقاً وملكاً ( {وإن تبدوا} ) تظهروا ( {ما في أنفسكم} ) من السوء والعزم عليه ( {أو تخفوه} ) تسرّوه ( {يحاسبكم} ) يجزكم ( {به ا} ) يوم القيامة (الآية) أي إلى قوله: {وا على كل شيء قدير} (البقرة: 284) ومنه محاسبتكم وجزاؤكم (اشتد ذلك على

أصحاب رسول الله، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم بركوا جثياً على الركب) بضم ففتح كما هي عادة الخائف الوجل (فقالوا أي) : بفتح الهمزة وسكون التحتية حرف لنداء القريب (رسول الله كلفنا) بالبناء للمفعول (من الأعمال ما نطيق) الإتيان به (الصلاة والصيام والجهاد والصدقة) بالنصب بدل مفصل من مجمل ويجوز فيه الرفع على القطع (وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها) قال المصنف: قال المازري: يحتمل أن يكون إشفاقهم وقولهم لا نطيقها لكونهم اعتقدوا أنهم يؤاخذون بما لا قدرة لهم على دفعه من الخواطر التي لا تكتسب، فلهذا رأوه من قبيل ما لا يطاق. وعندنا أن تكليف ما لا يطاق جائز عقلاً. واختلف هل وقع التعبد به في الشريعة أم لا؟ (قال) مخوّفاً لهم من قطيعة العصيان وقطيعة امتناع قبول الأوامر (أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين) من اليهود والنصارى (من قبلكم) في محل الحال أو الصفة ( {سمعنا} ) قولك ( {وعصينا} ) أمرك ( {بل قولوا} {سمعنا} ) ما أمرتنا به سماع قبول ( {وأطعنا} ) أمرك اغفر ( {غفرانك} ) أو نسألك غفرانك يا ( {ربنا} ) وحذف أداة النداء لعله إيماء إلى أنه ينبغي للداعي أن يكون في كمال الحضور حتى كأنه في حضرة الحق سبحانه، ومن كان كذلك لا ينادي ( {وإليك} ) لا إلى غيرك ( {المصير} ) الرجوع (فلما اقترأها) أي: قرأها (القوم) أي: آية {ما في السموات} (وذلت) أي: انقادت بالاستسلام (بها ألسنتهم أنزل الله في إثرها) بكسر فسكون وبفتحتين أي عقب نزولها من غير فاصل (آمن) صدّق (الرسول بما أنزل إليه من ربه) وهو القرآن (والمؤمنون) معطوف عليه، وقيل مبتدأ خبره (كل آمن) وتنوين كل للعوض أي كل واحد منهم آمن (با وملائكته وكتبه ورسله)

رتبهم كذلك لترتبهم في الوجود على ذلك الترتيب ( {لا نفرّق} ) أي: يقولون لا نفرّق في الإيمان بالرسل (بين أحد من رسله) بأن نؤمن ببعض ونكفر ببعض كفعل اليهود والنصارى ( {وقالوا سمعنا} ) ما أمرنا به سماع قبول ( {وأطعنا} ) أمرك ( {غفرانك ربنا وإليك المصير} ) الرجع بالبعث. قال القرطبي المفسر وهو تلميذ القرطبي شارح «مختصر مسلم» كما نقل عنه في آخر سورة النمل: لما تقرّر الأمر على أن {قالوا سمعنا وأطعنا} مدحهم الله تعالى وأثنى عليهم في هذه الآية ورفع المشقة في الخواطر عنهم، وهذه ثمرة الطاعة والانقطاع إلى الله تعالى كما جرى لبني إسرائيل ضد ذلك من ذمهم وتحملهم المشاق من الذلة والمسكنة والجلاء كما قالوا سمعنا وعصينا، وهذه ثمرة العصيان والتمرد على الله والعياذ با (فلما فعلوا ذلك) أي: قالوا ما أمروا بقوله من قوله سمعنا وأطعنا (نسخها الله تعالى فأنزل الله {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} ) قال المصنف بعد نقل عن القاضي عياض بيان وجه النسخ الذي توقف فيه المازري: وقد اختلف الناس في هذه الآية، فأكثر المفسرين من الصحابة ومن بعدهم على ما تقدم فيها من النسخ، وأنكره بعض المتأخرين قال لأنه خبر ولا يدخل النسخ الأخبار، وليس كما قال هذا المتأخر فإنه وإن كان خبراً فهو خبر عن تكليف ومؤاخذة بما تكن النفوس والتعبد بما أمرهم النبي بذلك وأن يقولوا سمعنا وأطعنا، وهذه أقوال وأعمال اللسان والقلب، ثم نسخ ذلك عنهم برفع الحرج والمؤاخذة. وروي عن بعض المفسرين أن معنى النسخ هنا إزالة ما وقع في قلوبهم من الشدة والفرق من هذا الأمر، فأزيل عنه بالآية الأخرى واطمأنت نفوسهم، وهذا القائل يرى أنهم لم يلزموا ما لا يطيقون لكن ما يشق عليهم من التحفظ من خواطر النفس وإخلاص الباطن فأشفقوا أن يكلفوا من ذلك ما لا يطيقون فأزيل عنهم هذا الإشفاق وبين أنهم لم يكلفوا إلا وسعهم، وعلى هذا لا حجة فيه لجواز تكليف ما لا يطاق إذ ليس فيه نص على تكليفه. وذهب بعضهم إلى أن الآية محكمة في إخفاء اليقين والشك للمؤمنين والكافرين فيغفر للمؤمنين ويعذب الكافرين، هذا آخر كلام القاضي. وذكر الإمام الواحدي الخلاف في معنى الآية ثم

قال: والمحققون يختارون أن تكون الآية محكمة غير منسوخة اهـ. وقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} أي: ما تسعه قدرتها. قال القرطبي في «المفهم» : الوسع الطاقة والجهد، وهذا خبر من الله تعالى أنه لا يأمرنا أي من وقت نزول الآية إلا بما نطيقه ويمكننا إيقاعه عادة وهو الذي لم يقع في الشريعة غيره ويدل على ذلك تصفحها. وقد حكى الإجماع عليه. قال تلميذه في «التفسير» : وبذلك انكشفت الكربة على المسلمين في تأولهم أمر الخواطر إنما الخلاف في جواز ذلك عقلاً، فمنهم من جوّزه ومنهم من منعه ( {لها ما كسبت} ) من الخير أي ثوابه ( {وعليها ما اكتسبت} ) من الشرّ: أي وزره، ولا يؤاخذ أحد بذنب أحد ولا بما لم يكسبه مما وسوسته به نفسه. وعبر في الحسنة باللام من حيث هي مما يفرح بكسبه ويسرّ المرء بها فيضاف إلى ملكه، وفي السيئة بعلى من حيث هي أوزار متحملات صعبة. وقال ابن عطية في «تفسيره» : وعبر بالكسب في الحسنة لأنها تكتسب بلا تكلف لكون مكتسبها على جادة أمر الله ورسم شرعه، وبالاكتساب في السيئة لأن كاسبها يحتاج إلى خرق حجاب نهي الله ويتخطاه اهـ ملخصاً. قولوا: ( {ربنا لا تؤاخذنا} ) بالعقاب ( {إن نسينا أو أخطأنا} ) أي: تركنا الصواب لا عن عمد كما آخذت به من قبلنا (قال نعم) أي: قد فعلت، وقد رواه ابن عباس بهذا اللفظ بدل قوله نعم. رواه مسلم. قال القرطبي: فيه دليل على أنهم ينقلون الحديث بالمعنى. والأصح جوازه من العالم بمواقع الألفاظ وأن ذلك لا يجوز لمن بعد الصدر الأول لتغير اللغات وتباين الكلمات. قولوا ( {ربنا} ) استجب ذلك ( {ولا تحمل علينا إصراً} ) مرا يثقل علينا حمله ( {كما حملته على الذين من قبلنا} ) أي: من

18 ـــ باب في النهي عن البدع ومحدثات الامور

بني إسرائيل في قتل النفس في التوبة وإخراج ربع المال في الزكاة وقرض موضع النجاسة (قال نعم) أي: قد فعلت ( {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة} ) قوة ( {لنا به} ) من التكاليف والبلاء ( {قال نعم} . {واعف عنا} ) امح عنا ذنوبنا ( {واغفر لنا وارحمنا} ) في الرحمة زيادة على المغفرة (أنت مولانا) سيدنا ومتولي أمرنا ( {فانصرنا على القوم الكافرين} ) بإقامة الحجة والغلبة في قتالهم. فإن شأن المولى أن ينصر مواليه على الأعداء، قال القرطبي في «التفسير» : خرج هذا مخرج التعليم للخلق كيف يدعون روي عن معاذبن جبل «أنه كان إذا فرغ من قراءة هذه السورة قال آمين» قال ابن عطية: هذا يظن به أنه رواه عن النبي، فإن كان كذلك فكمال، وإن قال بقياس على سورة الحمد من حيث هناك دعاء وهنا دعاء فحسن اهـ (رواه مسلم) . 18 - باب في النهي عن البدع ومحدثات الامور بكسر ففتح (ومحدثات الأمور) أي: التي ليست على قواعد الشرع ولا فيها يؤيدها. (قال الله تعالى: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} ) إذ هما ضدان وبترك أحدهما يقع الآخر، والحق ما جاء به الكتاب والسنة نصاً أو استنباطاً. وفي أحكام القرآن للسيوطي: سئل مالك عن شهادة اللاعب بالشطرنج والنرد أيجوز؟ قال: أما من أدمنها فلا لقول الله {فماذا بعد الحق إلا الضلال} فهذا كله من الضلال اهـ. (وقال تعالى: {ما فرطنا في

الكتاب من شيء} ) قال الخازن في «تفسيره» : يعني اللوح المحفوظ لأنه يشتمل على أحوال المخلوقات، وقيل: المراد بالكتاب القرآن أي إنه مشتمل على جميع الأحوال اهـ. (وقال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} - أي الكتاب والسنة) لف ونشر مرتب، وتقدم الكلام في معناها في باب الأمر بالمحافظة على السنة. (وقال تعالى: {وأن هذا} ) الذي وصيتكم به ( {صراطي مستقيماً} ) حال ( {فاتبعوه ولا تتبعوا السبل} ) الطرق المخالفة له ( {فتفرق} ) فيه حذف إحدى التاءين ( {بكم عن سبيله} ) أي: دينه. وفي الآية التفات من المتكلم إلى الغيبة. (وقال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر ذنوبكم} ) سبق الكلام عليها في الباب المذكور (والآيات في الباب) أي: النهي عن البدع (كثيرة معلومة وأما الأحاديث) النبوية في ذلك فكثيرة جداً بكسر الجيم صفة مصدر محذوف أي كثرة جداً: أي تامة مبالغة فيها (وهي مشهورة) عن علماء السنة المشتغلين بها (فنقتصر على) إيراد (طرف) بفتح أوليه المهملين أي جانب (منها) . 1691 - (عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله: من أحدث) أي: ابتدع

(في أمرنا) أي: ديننا (هذا) أي: دين الإسلام (ما) أي: الذي أو شيئاً (ليس منه بأن لم يشهد له أصل من أصوله) ، فلا ينافي ما تقدم من أن من البدع ما هو واجب ومنها ما هو مندوب (فهو رد) أي: مردود لا يلتفت إليه من إطلاق المصدر على اسم المفعول كالخلق على المخلوق. قال المصنف: هذا الحديث مما ينبغي حفظه وإشهاره في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به لذلك. وقال الحافظ العسقلاني: هذا الحديث معدود من أصول الدين وقاعدة من قواعد. وقال الطوفي: هذا الحديث يصح أن يسمى نصف أدلة الشرع (متفق عليه) ورواه أبو داود وابن ماجه كما في «الجامع الصغير» . (وفي رواية لمسلم) ورواها أحمد أيضاً عن عائشة قال الشيخ نفيس الدين سليمان العلوي ومن خطه نقلت على نسخة له من هذا الكتاب: هذه الرواية في مسلم قد ذكرها البخاري في «صحيحه» تعليقاً بصيغة الجزم ذكرها في كتاب البيوع في باب النجس وفي باب «إذا اجتهد العالم أو الحاكم» وقد ذكره المصنف في «الأربعين» له فقال رواه البخاري ومسلم اهـ وما ذكره عن كتاب الأربعين للمصنف لم أجده فيه كما قال، بل الذي فيه الاقتصار على العزو إلى مسلم كما هنا (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا) أي: أمر الدين (فهو ردّ) وهذا أعم من اللفظ الأول فيحتج به في إبطال جميع العقود المنهية وعدم وجود ثمراتها المترتبة عليها وفي ردّ المحدثات ورد جميع المنهيات إذ ليست من أمر الدين، ويستفاد منه أن حكم الحاكم لا يغير ما في باطن الأمر لقوله: «أمرنا» أي أمر الدين، وفيه أن الصلح الفاسد ينتقض والمأخوذ عليه مستحق. 1702 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب) خطبة لأمر يقتضيها من تحذير عن منهي أو تخويف من عقوبة (احمرت) بتشديد الراء (عيناه وعلا صوته واشتد غضبه) لما يتجلى عليه من بوارق الجلال ولوامع أضواء الأنظار وشهود أحوال أمته وتقصير

أكثرهم في امتثال ما يصدر عنه، ومن ثم مثل جابر حاله في إنذاره بمجيء القيامة وقرب وقوعها وتهالك الناس فيما يؤذيهم بحال من ينذر قومه عند غقلتهم بجيش قريب منه يقصد الإحاطة بهم بغتة من كل جانب بحيث لا يقرب منهم أحد فقال: (حتى كأنه منذر جيش) أي: مخبر بجيش العدو الذي يخاف (يقول) في إنذاره لهم فهو صفة منذر (صبحكم) العدو مغيراً عليكم (ومساكم) كذلك فاحتفظوا منهـ فكما أن هذا لشدة اعتنائه بحال قومه يرفع صوته وتحمرّ عيناه ويشتدّ غضبه من تغافلهم عما يستأصلهم ويهلكهم كذلك حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لشدة حرصه على أمته وعظم رأفته ورحمته بهم وخوفه عليهم من الساعة وأهوالها، ومن ثم عقب ذلك جابر بقوله عطفاً على كأنه (ويقول بعثت أنا) أكد به ليصح العطف (والساعة كهاتين) بالرفع والنصب قال المصنف: والمشهور النصب على المفعول معه. قال القاضي عياض: يحتمل أنه تمثيل لمقاربتهما وأنه ليس بينهما أصبع أخرى، كما أنه لا نبيّ بينه وبين الساعة، ويحتمل أنه لتقريب ما بينهما من المدة كنسبة التقارب بين الأصبعين تقريباً لا تحذيراً (ويقرن) بضم الراء على المشهور الفصيح وحكي كسرها (بين أصبعيه) تثنية أصبع وفيه عشر لغات تثليث الهمزة والموحدة والعاشرة أصبوع (السبابة) سميت بذلك لأنهم كانوا يشيرون بها عند السب (والوسطى، ويقول: أما بعد) فيه استحباب قولها في خطب الوعظ والجمع والعيد وغيرها وكذا في خطب الكتب المصنفة واختلف في أول من تكلم بها وتقدم بسطه في خطبة الكتاب (فإن خير الحديث كتابالله، وخير الهدي محمد) قال العلقمي: هو بضم الهاء وفتح الدال فيهما وبفتح الهاء وسكون الدال أيضاً كذا جاءت الرواية بالوجهين. وقال القاضي عياض: روينا في مسلم بالضم وفي غيره بالفتح، وفسره النووي على رواية الفتح بالطريق: أي أحسن الطرق طريقه، وعلى رواية الضم بالدلالة والإرشاد وهو الذي يضاف إلى الرسل والقرآن والعباد، قال تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} (الشورى: 52) وقال تعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوام} (الإسراء: 9) أما الهداية بمعنى اللطف والتأييد فتفرد بها سبحانه ومنه قوله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} (القصص: 56) اهـ ملخصاً (وشرّ الأمور محدثاتها) أي: ما

لم يكن معروفاً في كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا أصل له فيها. وروي شرّ كما قال الطيبي بالنصب عطف على اسم وإن وبالرفع على محل إن مع اسمها (وكل بدعة ضلالة) هذا عام مخصوص كما تقدم في حديث العرباضبن سارية في باب المحافظة على السنة (ثم يقول: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه) هو موافق لقوله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} (الأحزاب: 2) أي أحق. قال أصحابنا: كان النبيّ إذا احتاج إلى طعام أو غيره وجب على صاحبه بذله له، وجاز له أخذه من مالكة المضطرّ له، وهذا وإن جاء له إلا أنه لم يقع (من ترك مالاً فلأهله) الوارثين له وإن استغرقوا فما بقي من فرضهم إليه (ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإليّ وعليّ) . قال الحافظ: هذا تفسير لقوله «أنا أولى بكل مؤمن من نفسه» قال أهل اللغة: الضياع بفتح الضاد المعجمة العيال. قال ابن قتيبة: أصله مصدر ضاع يضيع ضياعاً، المراد من ترك أطفالاً وعيالاً ذوي ضياع، فأوقع المصدر موقع الاسم كما تقول: من مات وترك فقراء اهـ. قال بعضهم: وإن كسرت الضاد كان جمع ضائع كجائع وجياع. قال السيوطي: قال أبو البقاء: هو بفتح الضاد وهو في الأصل مصدر وليس للكسر هنا معنى اهـ. وقوله: «وعليّ» بتشديد الياء: أي: قضاء ذلك الدين، فقيل كان يقتضيه تكرماً، قال المصنف: والأصح أنه كان واجباً عليه، وهل هو من خصائصه أو واجب على الإمام بعده كذلك من بيت المال إن لم يكن ثمة أهم منه؟ وقوله: «وإليّ» أي: الضياع، ففي الحديث لف ونشر غير مرتب (رواه مسلم) قال في «الجامع الصغير» : ورواه أحمد والنسائي وابن ماجه، كلهم من حديث جابر. ــــ (وعن العرباضبن سارية رضي الله عنه حديثه السابق) بالرفع مبتدأ خبره الظرف قبله (في باب المحافظة على السنة) .

19 ـــ باب في ثواب من سن سنة حسنة

19 - باب في ثواب من سن سنة حسنة بأن كانت قواعد الشرع تمدح ذلك. (و) عقاب (من سن سنة) أي طريقة: (سيئة) بأن كانت على خلاف ما تقدم (قال الله تعالى) في مدح المؤمنين بذكر بعض أوصاف محامدهم ( {والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجاً وذرياتنا قرّة أعين} ) لنا بأن نراهم مطيعين لك. قال بعضهم: في هذا القول منهم إشارة إلى أنه لما كمل نفعهم أحبوا أن يعود ذلك على أتباعهم، وبدءوا بالزوجات للإشارة إلى أن في مدحهم صلاحاً للأبناء لأن من شأنهم أن يأتوا على نعت أبويهم. قيل: أفضل سعادة المرء أن يؤتى ولداً نجيباً. والدعاء من الآباء للأبناء وإن كان لغيرهم أي الأبناء فهو في الحقيقة صلاح للآباء، لأن العبد يؤتى يوم القيامة في صحيفته حسنة فيقول من أين لي هذه؟ فتقول الملائكة: من استغفار ولدك «وقالت طائفة: إن الولد إذا عمل طاعة كتب ضعفها لأبويه ( {واجعلنا للمتقين إماماً} ) في الخير. (وقال تعالى: {وجعلناهم أئمة} ) يقتدي بهم في الخير ( {يهدون} ) الناس ( {بأمرنا} ) . 1711 - (وعن أبي عمرو وجرير) بفتح الجيم وكسر أولى الراءين بينهما تحتية ساكنة (ابن عبد ا) بن جابربن مالكبن نضربن ثعلبة البجلي الأحمسي بالمهملتين الكوفي (رضي الله عنه) وبجيلة، وهي بنت صعيربن سعد العشيرة أم أنمار بنت أوس نسبوا إليها: قال ابن قتيبة قدم جرير على النبي سنة عشر من الهجرة في رمضان فبايعه وأسلم. وكان عمر يقول: جرير يوسف هذه الأمة، وكان طويلاً يصل إلى سنام البعير، وكان نعله ذراعاً نزل الكوفة ثم تحول إلى أفريقيا ومات بها سنة إحدى وخمسين. وقيل: أقام بالجزيرة وتوفي بها

سنة أربع وخمسين. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث: اتفقا على ثمانية منها، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بستة: ومناقبه كثيرة، ومن مستظرفاتها أنه رضي الله عنه اشترى له وكيله فرساً بثلاثمائة درهم، فرآها جرير فتخيل أنها تساوي أربعمائة درهم، فقال لصاحبها: أتبيعها بأربعمائة درهم؟ قال نعم، ثم تخيل أنها تساوي خمسمائة، ثم ستمائة ثم سبعمائة ثم ثمانمائة، فاشتراها بثمانمائة. وذكرها المصنف في «التهذيب» وغيره (قال: كنا في صدر) أول (النهار عند رسول الله) نتشرف برؤياه ونستمطر الفيوض الإلهية من سحب محياه (فجاءه قوم عراة) جمع عار (مجتابي النمار) حال وسيأتي ضبطهما ومعناهما، قال المصنف: أي: خرقوها وقوروا وسطها (أو) شك من الراوي: أي قال مجتابي النمار أو قال مجتابي (العباء) وهو بفتح العين المهملة وبالموحدة والمد جمع عباءة وعباية لغتان (متقلدي السيوف عامتهم) بتشديد الميم: أي معظمهم (من) قبيلة (مضر بل كلهم من مضر) أي: مقصورون عليها لا يتجاوزونها إلى غيرهم (فتمعر) بتشديد العين المهملة: أي تغير (وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رأى بهم من الفاقة) أي: شدة الاحتياج من عدم مواساة الأغنياء لهم بما يدفع ضررهم كما هو الواجب عليهم، إذ يجب على الكفاية على مياسير المسلمين دفع ضرر المحتاجين بإطعام الجائع وإكساء العاري وهؤلاء كذلك ولم يبادر الأغنياء إلى سد فاقتهم، فهذا سبب التمعر لا مجرد رؤية الفاقة بهم لأنها شأن الصالحين من الأمة (فدخل) أي: منزله (ثم خرج) منه (فأمر بلالاً فأذن وأقام فصلى) أي: الظهر لأن الإقامة مختصة بالفريضة وأول فريضة بعد صدر النهار الظهر (ثم خطب فقال: يا أيها الناس) الآية مكية والخطاب لأهل مكة إلا أن لفظ الناس عام والحكم بعده غير مقصور عليهم (اتقوا ربكم) أي: عقابه، بأن تطيعوه (الذي خلقكم من نفس واحدة) آدم (إلى آخر الآية) وهو (إن الله كان عليكم رقيبا) حافظاً لأعمالكم فيجازيكم عليها: أي: لم يزل متصفاً بذلك، ووجه مناسبتها لما هو

فيه أن فيها اتحاد الناس في خلقهم من نفس واحدة ثم الأمر باتقاء الأرحام على قراءة النصب وقرنه باتقاء الله الدال على أن صلتها من الله تعالى بمكان. وختمها بقوله: {رقيبا} ما تحمل كل غني على سد خلة المحتاج لاسيما الرحم، لأن من رأى شقيقه ورحمه في غاية الحاجة ولم يصله كان قاطعاً لرحمه وقرابته غير متق ولا مستحضر لكونه رقيبا عليه (و) قال (الآية التي في آخر الحشر) وهي قوله تعالى: ( {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد} ) وفيها غاية الحث على ما في التي قبلها (تصدق) خبر بمعنى الأمر وهو أبلغ لدلالته على الوقوع: أي: ليتصدق (رجل) نكرة وضع موضع الجمع المعرف كما اقتضاه السياق فأفاد العموم، ومن ثم كرر من هنا من غير عاطف فقال: (من ديناره: من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره) أي: ورجل من درهمه وهكذا (حتى قال: ولو بشق تمرة) أي: ليتصدق ولو كان بشق تمرة ومن للجنس: أي: ببعض ما عنده من هذا الجنس تبعيضية ومجرورها والظرف في محل الحال أو إبتدائية متعلقة بتصدق: أي: من دينار له وإن احتاجه لأن الإيثار في ذلك شأن الكمل، قال تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} (الحشر: 9) (فجاء رجل من الأنصار بصرة) رواه مسلم كذا مبهماً في كتاب الزكاة، وعين أنها في ورق في روايته في كتاب العلم آخر صحيحه (كادت كفه تعجز) بكسر الجيم (عنها بل) إضراب مفيد للتأكيد والتحقيق (قد عجزت ثم تتابع) بمثناتين فوقيتين وبعد الألف (الناس) أي: في إتيان كل بما قدر عليه (حتى رأيت كومين من طعام وثياب) هو بفتح الكاف وضمها. قال القاضي: ضبطه بعضهم بالفتح وبعضهم بالضم، قال ابن سراج: هو بالضم اسم لما كوم وبالفتح المرة الواحدة، قال: والكومة بالضم: الصبرة والكوم العظيم من كل شيء؛ والكوم: المكان المرتفع كالرابية. قال القاضي: والفتح هنا أولى لأن مقصوده الكثرة والتشبيه بالرابية (حتى رأيت وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتهلل) أي: يستنير ويضيء لما حصل عنده

من الفرح باغتناء أولئك المحتاجين ومبادرة أصحابه إلى الامتثال (كأنه مذهبة) سيأتي ضبطه وأن المراد منه على القولين الصفاء والاستنارة (فقال رسول الله: من سن في الإسلام سنة حسنة) أي: طريقة مرضية، وإن لم يكن حسنها بالنص بل بالاستنباط بأن دعا لفعلها بقول أو فعل أو أعان عليها أو فعلها فاقتدى به في فعلها (فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده) أي: ومثل أجره فتم مضاف وإنه لما تسبب في إيجاده جعل كأنه العامل لها المأجور بها ففي الكلام تجوّز (من غير أن ينقص من أجورهم شيء) فاعل ينقص: أي: إن حصول أجر مثل الفاعل لها لدلالته عليها لا يدخل به شيء من النقص في أجورهم (ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة) معصية وإن قلَّت بأن فعلها فاقتدى به فيها أو دعا إليها أو أعان عليها (كان عليه وزرها) أي: وزر عملها (ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء) وذلك لأن فعل المكلفين وإن كان غير موجب ولا متقض لثواب ولا عقاب بذاته إلا أن الله تعالى أجرى عادته الإلهية بربطهما به ارتباط المسبب بالسبب وليس للعبد تأثير في صدور الفعل عنه بوجه/ فكما يترتب كل منهما على ما يباشره بترتب على ما هو السبب فيه بنحو إرشاد أو أمر، فلما انفكت جهة المباشرة عن جهة جزاء الدلالة لم ينقص أجر الدالّ من أجر المباشر شيئاً. وعلم من الحديث أن له من مضاعفة الثواب بحسب مضاعفة أعمال أمته ما لا يحيط به عقل ولا يحده حد؛ وذلك أن له مثل ثواب أصحابه بالنسبة لما عملوه وما دلوا عليه من بعدهم المضاعف لهم ثوابه إلى يوم القيامة، وهكذا في كل مرتبة من مراتب المبلغين عنه عند انقضاء الأمة ومنه يعلم عظيم فضل كل أهل مرتبة المتضاعف المتعدد بتعدد من بعدهم، فتأمله لتعلم فضل السلف على الخلف والمتقدمين على المتأخرين، كذا في «فتح الإله» . قال المصنف: وفي هذا: أي: من سن سنة حسنة الخ تخصيص قوله: «كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» وقد تقدم انقسام البدعة إلى خمسة أقسام. (رواه مسلم) في كتاب الزكاة والعلم من صحيحه. (قوله مجتابي النمار هو) بضم الميم و (بالجيم وبعد الألف موحدة والنمار) بكسر النون (جمع نمرة بفتح فسكر

وهي كساء من صوف مخطط) ومعناها قاطعيها كما قال (ومعنى مجابيها: لابسيها) حال كونهم (قد خرقوها) أي: محل جيوبها (في رءوسهم) ونصب لابسيها الخبر عن «معنى» لمشاكلة المفسر المفسر (والجوب) المأخوذ منه مجتاب المذكور (القطع) ، ومنه قوله تعالى: {وثمود الذين جابوا الصخر بالواد} : أي: (نحتوه وقطعوه) واتخذوه بيوتاً بالوادي وادي القرى (وقوله تمعر هو بالعين المهملة) المشددة (أي تغير) من قولهم مكان أمر: أي: أجدب (وقوله: رأيت كومين) ضبط كما تقدم عن القاضي (بفتح الكاف وضمها) وتقدم عنه أن الأول هو الراجح (أي صبرتين) بضم صاد المهملة اسم للمجموع من الطعام (قوله: كأنه مذهبة) بضم الميم و (بالذال المعجمة) الساكنة (وفتح الهاء وبالباء الموحدة، قال القاضي عياض) في «المشارق» (وغيره) من الأئمة (وصحفه بعضهم فقال: مدهنة بدال مهملة) ساكنة (وبضم الهاء وبالنون) المفتوحة (وكذا ضبطه الحميدي) بل لم يذكر «في» بين الصحيحين غير هذه الرواية إن صحت، المدهن: الإناء الذي يدهن فيه. وهو أيضاً اسم للنقرة في الجبل التي يستنقع فيها ماء المطر فشبه صفاء وجهه الكريم بصفاء هذا الماء وصفاء هذا الدهن (والصحيح المشهور) قال المصنف في «شرح مسلم» : قال القاضي: والصواب (هو الأول) وهو المعروف في الروايات، وذكر في «تفسيره» على هذا وجهين: أحدهما معناه فضة مذهبة فهو أبلغ في حسن الوجه وإشراقه، والثاني شبهه في حسنه ونوره بالمذهبة من الجلود وجمعها مذاهب: وهو شيء كانت العرب تصنعه من جلود وتجعل فيه خطوطاً مذهبة يرى بعضها إثر بعض (والمراد به على الوجهين) أي: ضبطه بالنون والباء وبالمهملة والنون

20 ـــ باب في الدلالة على الخير

(الصفاء والاستنارة) . 1722 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي قال: ليس من) زائدة لتأكيد استغراق النفي (نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول) وهو قابيل القاتل لأخيه هابيل حين تزوج كل منهما بأخته التي مع الآخر في بطن واحدة، وكان شريعة آدم عليه السلام أن بطون حواء كانت بمنزلة الأقارب الأباعد. وحكمته تعذر التزوج فاقتضت مصلحة بقاء النسل تجويز ذلك فحينئذٍ قتل قابيل هابيل لأن زوجته كانت أجمل فأدى به حسده إلى قتله، وهذا لا يمنع السبب المذكور في الآية لإمكان أن سبب القتل به هذا الحسد/ وأفهم قوله الأول أنه أول أولاد آدم، فإنهما أول قاتل ومقتول من ولد آدم (كفل) بكسر الكاف وسكون الفاء: أي: نصيب (من) إثم (دمها لأنه كان أول من سن القتل) ففعله بأخيه فكل من فعله بعده مقتد به ولو بواسطة أو وسائط (متفق عليه) قال زين العرب في «شرح المصابيح» إن قلت هذا مناف لقوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} (الأنعام: 164) قلت: كل واحدة من النفسين المباشرة والمتسببة وازرة إثمها اهـ. وقد تقدم بسطه في الكلام على الحديث قبله. 20 - باب في الدلالة على الخير بتثليث الدال المهملة والأفصح الفتح (على خير) ديني أو دنيوي ليس فيه كراهة دينية

(والدعاء إلى هدى أو ضلالة) أي: في ثواب الأولين وعقاب الأخير. (قال الله تعالى: {وادع إلى ربك} ) أي: ادع الناس إلى ربك بتوحيده وعبادته. وفيها الأمر بالدعاء سواء أسمع أم لا. وفي ذلك إشارة إلى أنه ينبغي الذكر وإن لم ينفع. (وقال تعالى: {ادع} ) الناس يا محمد ( {إلى سبيل ربك} ) دينه ( {بالحكمة} ) بالقرآن ( {والموعظة الحسنة} ) مواعظه أو القول الرفيق. (وقال تعالى: {وتعاونوا على البرّ} ) فعل ما أمرتم به ( {والتقوى} ) ترك ما نهيتم عنه، وهذا الأمر عام في سائر الطاعات، فرض في الفروض، مندوب في المندوب. (وقال تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير} ) فيه إشارة إلى أن الدعاة إلى الحق والخير أفضل للأمة ولذا ميزهم بالذكر، وفي قوله: و «منكم» إشارة إلى أنه لا يكون سائر الناس في رتبة بل يتفاوتون، إذ يكون العالم والأعلم والفاضل والأفضل. 1731 - (وعن أبي مسعود عقبةبن عمرو الأنصاري البدري) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب المجاهدة (قال: قال رسول الله: من دلّ على خير فله مثل أجر فاعله) بسببه كما في مسلم عن أبي مسعود قال: «جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني أبدع بي فاحملني، قال: ما عندي، قال رجل: يا رسول الله أنا أدله على من يحمله، فقال رسول الله: من دلّ على خير» الخ، وقوله: «أبدع بي» بضم الهمزة وسكون الموحدة آخره مهملتان أي هلكت راحلتي وانقطع بي، وروي بدع بضم الموحدة وتشديد الدال. قال عياض وغيره: وليس بمعروف في اللغة؛ وقوله: «من دل» الخ قال المصنف: المراد أن له ثواباً مثل ما أن لفاعله ثواباً، ولا يلزم أن يكون قدرهما سواء اهـ. وذهب بعضهم إلى أن المثلية في أصل

الثواب دون التضعيف المزيد للعامل. واختار القرطبي أنه مثله حتى في التبعيض قال: لأن الثواب على الأعمال إنما هو بفضل من الله فيعطيه لمن يشاء على أيّ شيء صدر منه، خصوصاً إذا صحت النية التي هي أصل الأعمال في طاعة عجز عن فعلها لمانع منع منها، فلا بعد في مساواة أجر ذلك العامل لأجر ذلك القادر الفاعل أو يزيد عليه. قال: وهذا جارٍ في كل ما ورد مما يشبه ذلك كحديث «من فطر صائماً فله مثل أجره» اهـ. قلت: وحديث الترمذي الذي فيه «ورجل ليس عنده شيء من الدنيا وتمنى أنه لو كان ذلك لأنفقه فيما أنفقها فيه من الخيرات صاحبه فهما في الأجر سواء أو كما قال» . والحديث الآتي فيه يشهد ظاهرهما لما قاله القرطبي (رواه مسلم) تقدم في شرح خطبة الكتاب بيان من خرّجه والحديث عقبه زيادة على مسلم. 1742 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من دعا إلى هدى) أي: من أرشد غيره إلى فعل خير عظيم كثير أو ترك ضده كإماطة الأذى عن الطرق أو أمره به أو أعانه عليه (كان له من الأجر مثل أجور من تبعه) فعمل بدلالته أو امتثل (لا ينقص ذلك) الأجر العظيم المعطي للدالّ على دلالته (من أجورهم) المعطاة على أعمالهم (شيئاً) لاختلاف جهة الجزاء كما تقدم بسطه في الباب قبله وهو لازم تارة ومتعد أخرى، وقد استعمل بهما في الحديث واستعمل قاصراً في الحديث السابق عن جرير في الباب قبله كما تقدم باقي هذا الحديث (ومن دعا إلى ضلالة) أي: من أرشد غيره إلى فعل إثم وإن قلّ أو أمره به أو أعانه عليه (كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه) عليها وامتثل أمره فيها (لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً. رواه مسلم) وغيره ممن تقدم ثمة.

1753 - (وعن أبي العباس) وقيل: أبو يحيى (سهلبن سعد) بن مالكبن خالدبن ثعلبة ابن حارثةبن عمروبن الخزرجبن ساعدةبن كعببن الخزرج الأنصاري (الساعديّ رضي الله عنه) كان اسمه حزناً فسماه النبيّ سهلاً. قال الزهري سمع سهل من النبيّ، وكان له في وفاة النبيّ خمس عشرة سنة، وتوفي بالمدينة سنة ثمان وثمانين وقيل سنة إحدى وتسعين. قال ابن سعد: وهو آخر من مات بالمدينة من أصحاب النبي ليس فيه خلاف، وقال غيره: بل فيه الخلاف كذا في «التهذيب» للمصنف. قلت: ويؤيد الخلاف الذي نقله المصنف ما تقدم في باب التقوى من «اليواقيت الفاخرة» أن آخر من مات بالمدينة السائببن يزيد المعروف بابن أخت النمر. توفي سنة إحدى وتسعين، وروي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث وثمانية وثمانون حديثاً، اتفقا على ثمانية وعشرين، وانفرد البخاري بأحد عشر (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم خيبر) جرت عادة العرب الكناية بيوم كذا عن غزوته سواء كانت في يوم أقل أو أكثر، هذا المقال صدر منه في بعض أيام تلك الغزوة فإنها كانت أياماً (لأعطينّ الراية غدا رجلاً يفتح الله على يديه) والتنوين في رجل للتعظيم، وأبدل منه ما يزيد في تعظيمه قوله: (يحب الله ورسوله) بالنصب (ويحبه الله ورسوله) أي: جامع للوصفين حائز للشرفين المتلازمين {يحبهم ويحبونه} {رضي الله عنهم ورضوا عنه} وتقدم أن المراد من محبة الله للعبد توفيقه لمرضاته وإنابته، والمراد من محبة العبد ورسوله امتثال أوامرهما واجتناب مناهيهما (فبات الناس يدوكون) يخوضون (ليلتهم) أي: فيها (أيهم يعطاها) بالبناء للمفعول (فلما أصبح الناس غدواً) هو السير أول النهار، والرواح: السير آخره هذا أصلهما، وقد يستعمل كل في موضع الآخر (على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم يرجو) الإفراد باعتبار لفظ كل قال في «مغني اللبيب» إذا أضيفت كل إلى معرفة فقالوا: يجوز مراعاة لفظها ومراعاة معناه وقد اجتمعا في قوله تعالى: {إن كل من في السموات والأرض إلا آتى الرحمن عبداً لقد أحصاهم} (مريم: 93 - 94) والصواب أن الضمير لا يعود إليها من خبرها إلا مفرداً مذكراً على لفظها نحو {وكلهم آتيه} وقوله: «كلكم راع» وأماـ لقد أحصاهمـ فجملة

أجيب بها القسم المقدر وليست خبراً عن كل وضميرها راجع لمن ومن معناه الجمع اهـ (أن يعطاها) ورجاؤها ذلك لا لذات الراية إنما هو لشرف صاحبها من كونه محباً تعالى ورسوله محبوباً لهما (فقال: أين عليبن أبي طالب؟ فقيل: يا رسول الله هو يشتكي عينيه) أي: بالرمد كما جاء في رواية أخرى (قال: فأرسلوا إليه) إن كان فاعل قال ضمير يعود إلى النبي كما يقتضيه السياق فيكون قوله: «فأرسلوا إليه» بصيغة الأمر مرفوعاً، وإن كان فاعله يعود إلى الراوي ففي الكلام اختصار، فقال أرسلوا إليه فأرسلوا إليه، ولم أقف فيه على ضبط (فأتى) بالبناء للمفعول (به فبصق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عينيه ودعا له) أي: بالعافية (فبرىء) عقب ذلك حالاً معجزة له وكرامة بإجابة دعوته فزال الوجع وآثاره (حتى كأن) بتخفيف النون: أي: كأنه (لم يكن به وجع) فيهما (فأعطاه الراية فقال: يا رسول الله أقاتلهم) أي: أؤقاتلهم بتقدير همزة الاستفهام قبل الفعل وحذفها دفعاً لثقل توالي همزتين (حتى يكونوا مثلنا) في الإسلام ويدخلوا في الدين (قال: انفذ) بضم الفاء وبالذال المعجمة: أي: امض (على رسلك) أي: على هينتك ولا تعجل وأصله السكون والثبات (حتى تنزل بساحتهم) هي الناحية والفضاء بين دور الحي (ثم) أي: بعد وصولك لها (ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق ا) الواجب (فيه) من الأعمال البدنية كالصلاة والصيام، والمالية كالزكاة والجامعة لهما كالحج والعمرة. وتمسك بهذا الحديث قوم فقالوا: يجب الدعاء قبل القتال. والصحيح أنه مخصوص بمن لم تبلغه الدعوة لأن النبي أغار على بني المصطلق وهو غادون (فوا لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً) أي: ينقذه من الكفر والضلال بدلالتك له على الإسلام والهدى (خير لك من حمر النعم) أي: من أن تكون لك، وحمر النعم: هي الإبل الحمر وهي أنفس أموال العرب،

ويضربون بها المثل في نفاسة الشيء وأنه ليس هناك أعظم منه، وتشبيه أمور الآخرة بأعراض الدنيا إنما هو للتقريب إلى الأفهام، وإلا فذرّة من الآخرة الباقية خير من الدنيا بأسرها وأمثالها معها لو تصورت كما سبق في الكلام على شرح هذه الجملة مع بيان من رواها في آخر شرح خطبة الكتاب. وفي الحديث بيان فضل العلم والدعاء إلى الهدى وسن الدعاء إلى الهدى وسن السنن الحسنة (متفق عليه) وحديث عليّ تقدم في باب المبادرة «إلى الخيرات» من حديث مسلم فلا زيادات فيه هنا (قوله: يدوكون) بالدال المهملة (أي: يخوضون ويتحدثون) قال المصنف: وفي بعض نسخ مسلم «يذكرون» بالذال المعجمة وبالراء، و (قوله رسلك) بالجر على الحكاية (بكسر الراء وفتحها) وسكون السين فيهما (لغتان والكسر أفصح) وعليه اقتصر ابن الأثير في «النهاية» فقال الرسل بالكسر: الهينة والتأني، قال الجوهري: يقال افعل كذا وكذا على رسلك: أي: اتئد فيه كما يقال على هينتك. 1764 - (وعن أنس رضي الله عنه أنّ فتى من أسلم) أبي القبيلة وهو كما قال الحازمي في كتاب الأنساب: أسلمبن أفصىبن حارثةبن عمروبن عامربن عويمربن عمر، كذا ساقه البرقي. وقال خليفةبن خياط: أسلمبن أفصىبن حارثةبن امرىء القيسبن ثعلبةبن المازنبن الأزدبن الغوث، وهم خلق كثير من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من العلماء ورواة الحديث اهـ. قلت وعلى القول الثاني جرى الأصفهاني في كتاب «لبّ الألباب مختصر كتاب الأنساب» للسمعاني (قال: يا رسول الله إني أريد الغزو وليس معي ما أتجهز به) الجهاز: ما يحتاج إليه المسافر (قال: ائت فلاناً فإنه كان قد تجهز) للغزو (فمرض) فتأخر له. ففيه الدلالة على الخير، وفيه أن من نوى صرف شيء في خير وتعذر عليه استحب له بذله في خير آخر ولا يلزمه ذلك إلا بالنذر (فأتاه فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ

21 ـــ باب في التعاون على البر والتقوى

يقرئك) بضم التحتية (السلام ويقول لك: أعطني الذي تجهزت به) أي: إعانة لي على الخير (فقال) مسارعاً لامتثال أمر المصطفى (يا فلانة) كناية عن اسم المرأة، وقد تقدم بسط فيه عن «التهذيب» للمصنف (أعطيه الذي تجهزت به) أي: من الراحلة والزاد وغيره مما هيأه مما يحتاجه المسافر (ولا تحبسي) تؤخري (منه شيئاً، فوا لا تحبسين) في نسخة بحذف النون، فإن ثبتت رواية خرجت على أنها لمناسبة ما قبلها كما خرّج على ذلك قوله: «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا» الحديث على أن حذف النون لغير الجازم والناصب لغة حكاها المصنف وغيره (منه شيئاً فيبارك) بالنصب (الك فيه) لأنه تصرف فيه على خلاف رضا مالكه وهواه، لأنه أمر بدفعه أجمع لمن أرسله النبي، فإذا خالفت وحبست منه بعض الشيء تستكثره له لا يبارك لها فيه (رواه مسلم) . وفي الحديث دلالته لذلك المنقطع على ذلك الذي تجهز ثم ترك للمرض، ففيه مناسبة الترجمة. 21 - باب في التعاون على البر والتقوى (قال الله تعالى: {وتعاونوا} ) أي: ليعن بعضكم بعضاً ( {على} ) اكتساب ( {البر} ) قال ابن عباس: متابعة السنة ( {والتقوى} ) وتقدم في الباب قبله فوائد في الآية. (وقال تعالى: {والعصر} ) الدهر؛ أو ما بعد الزوال، أو صلاة العصر، أو زمان رسول الله، أقسم به كما أقسم

بمكانه تنبيهاً بذلك على أن زمانه أفضل الأزمان وأشرفها، وجواب القسم ( {إن الإنسان} ) أل فيه للاستغراق ( {لفي خسر} ) أي: خسران ونقصان في تجارة لأن تجارة الإنسان عمره، فإذا ضاعت الساعة منه في معصية فهو الخسران المبين الظاهر، أو في طاعة فلعل غيرها أفضل وهو قادر على الإتيان به، فكان في فعل غير الأفضل تضييع وخسران، فبان بذلك أنه لا ينفك إنسان عن خسران ( {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} ) فليسوا في خسر، وكل ما مر من عمر الإنسان في طاعة الله فهو في صلاح وخير. وما كان بضده فهو فساد وهلاك ( {وتواصوا} ) أي أوصى بعضهم بعضاً ( {بالحق} ) أي: الإيمان والتوحيد، وقيل: القرآن والعمل بما فيه ( {وتواصوا بالصبر} ) على الطاعة وعن المعصية. قال الخازن: وقيل أراد أن الإنسان إذا عمر في الدنيا وهرم ففي نقص وتراجع، إلا الذين آمنوا فإن الله يكتب أجورهم ومحاسن أعمالهم التي كانوا يعملونها في شبابهم وصحبتهم وهي مثل قوله تعالى: {ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون} (التين: 5 - 6) اهـ (قال الإمام) : هو لغة: من يقتدى به. وفي عرف الشرع من يقتدى به في الخير (الشافعي) عالم قريش المحمول عليه «لا تسبوا قريشاً، فإن عالمها يملأ الأرض علماً» محمدبن إدريسبن العباسبن عثمانبن شافعبن السائببن عبيدبن عبد يزيدبن هاشمبن المطلببن عبد مناف جد النبي، لقي النبي وهو مترعرع، وأسلم أبوه يوم بدر بعد أن أسر بها وفدى نفسه. ولد الشافعي بغزة على الأصح سنة خمسين ومائة ثم حمل إلى مكة ونشأ بها، وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين والموطأ وهو ابن عشر، وتفقه على مسلمبن خالد المعروف بالزنجي لشدة شقرته من أسماء الأضداد، وأذن له في الإفتاء وهو ابن خمس عشرة سنة، ثم رحل إلى مالك ولازمه مدة، ثم قدم بغداد سنة خمس وتسعين ومائة فأقام بها سنتين، فاجتمع عليه علماؤها ورجع كثير منهم عن مذاهب كانوا عليها إلى مذهبه وصنف بها كتابه القديم، ثم عاد إلى مكة فأقام بها شهراً، ثم خرج إلى مصر ولم يزل بها ناشراً للعلم ملازماً للاشتغال بجامعها العتيق إلى أن ماتـ وهو قطب الوجود يوم الجمعةـ سلخ رجب سنة أربع ومائتين ودفن بعد العصر من يومه. ومناقبه كثيرة أفردت بالتآليف في مجلدات. ومن شعر الشافعي (رحمه ا) : أمتّ مطامعي فأرحت نفسي فإن النفس ما طمعت تهون

وأحييت القنوع وكان ميتاً ففي إحيائه عرضي مصون إذا طمع يحل بقلب عبد علته مهانة وعلاه هون (كلاماً) مفعول، قال: وجاز عمله فيه مع أنه مفرد، وينصب القول الجمل لأنه يؤدي مؤداها ولم أقف على لفظه المذكور، ولم يذكر المصنف من خرّجه عنه حتى يرجع إليه (معناه أن الناس أو) للتردد (أكثرهم في غفلة عن تدبر) مقاصد (هذه السورة) وما هي مؤدية ومنبهة بشرفه من التواصي بالحق والصبر ومن عمل البر، وخسران من لم يكن كذلك. 1771 - (وعن أبي عبد الرحمن) وقيل: أبو طلحة، وقيل: أبو زرعة (زيدبن خالد الجهني) بضم الجيم نسبة إلى جهينة. قال الحازمي: جهينةبن زيدبن ليثبن سودبن أسلمبن لحافبن قضاعة قبيلة عظيمة منها بشر كثير من الصحابة اهـ. سكن زيد (رضي الله عنه) المدينة وشهد الحديبية وكان معه لواء جهينة يوم الفتح. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد وثمانون حديثاً، اتفقا على خمسة منها، وانفرد مسلم بثلاثة. توفي بالمدينة وقيل بالكوفة وقيل بمصر سنة ثمان وخمسين وهو ابن خمس وثمانين سنة، وقيل غير ذلك ذكره المصنف في «التهذيب» (قال: قال نبي الله: من جهز غازياً في سبيل ا) أي: هيأ أسباب السفر له إعانة على الخير (فقد غزا) . قال ابن حبان: معناه أنه مثله في الأجر وإن لم يغز حقيقة (ومن خلف) بالخاء المعجمة المفتوحة وبتخفيف اللام المفتوحة أيضاً (غازياً) في سبيل الله (في أهله بخير) بأن قام بما يحتاجون إليه (فقد غزا) وفي رواية لابن حبان: «من جهز عازياً في سبيل الله أو خلفه في أهله كتب الله له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجره شي» (متفق عليه) ورواه ابن ماجه من حديث ابن عمر بلفظ: «من جهز غازياً حتى يستقلّ كان له مثل أجره حتى يموت أو يرجع» . قال العلقمي: أفادت هذه الرواية فائدتين: أن الوعد المذكور

مرتب على إتمام التجهيز وهو المراد بقوله حتى يستقل، وأنه يستوي معه في الأجر إلى أن تنقضي تلك الغزوة اهـ. ثم قال في أثناء كلام: لكن من يجهز الغازي بماله مثلاً وكذا من يخلفه فيمن يتركه بعده يباشر شيئاً من المشقة أيضاً، فإن الغازي لا يتأتى منه الغزو إلا بعد أن يكفي ذلك العمل فصار كأنه يباشر معه الغزو، بخلاف من اقتصر على النية مثلاً أي: حصل له أجر سبب الغزو، وهذا الأجر يحصل بكل جهاز سواء قليله وكثيره، ولكل خالف في أهله بخير من قضاء حاجة لهم أو إنفاق عليهم أو ذبّ عنهم أو مساعدتهم في أمرهم، ويختلف قدر الثواب بقلة ذلك وكثرته. قلت: وبه يعلم أن ما أفاده حديث ابن ماجه من ترتبت الأجر على تمام التجهيز المراد به كمال الأجر ودوامه المشار إليه بقوله حتى يرجع إليه لا أصله، فهو حاصل بما فعل من التجهيز وإن قل. 1782 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث) أي: أراد أن يبعث (بعثاً إلى بني لحيان) بكسر اللام وفتحها والكسر أشهر، بطن (من هذيل) إذ هو لحيانبن هذيلبن مدركةبن إلياسبن مضر. قال المصنف في «شرح مسلم» واتفق العلماء على أن بني لحيان كانوا في ذلك الوقت كفاراً، فبعث إليهم بعثاً يغزوهم (فقال) لذلك البعث (لينبعث من كل رجلين أحدهما) مراده كما قال المصنف من كل قبيلة نصب عددها (والأجر) أي مجموع الحاصل للغازي والخالف له بخير (بينهما) فهو بمعنى قوله في الحديث قبله: «ومن خلف غازياً فقد غزا» وأما حديث مسلم: «أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير كان له مثل نصف أجر الخارج» . فقال القرطبي: لفظة نصف تشبه أن تكون مقحمة: أي مزيدة من بعض الرواة. وقال العلقمي: لا حاجة لدعوى زيادتها بعد ثبوتها في الصحيح. والذي يظهر في توجيهها أنها إنما أطلقت بالنسبة إلى مجموع الثواب الحاصل للغازي والخالف له بخير، فإن الثواب إذا قسم بينهما نصفين كان لكل منهما مثل ما للآخر فلا تعارض بين الحديثين. قلت: إلا أنه على هذا التوجيه يكون فيه حذف، وعلى توجيه القرطبي تكون فيه زيادة والله أعلم. ثم قوله والأجر بينهما محمول على ما إذا خلف المقيم الغازي في أهله بخير كما تقدم في الحديث قبله وصرح به باقي الأحاديث (رواه مسلم) .

1793 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقي) في حجة الوداع (ركباً) بفتح الراء وسكون الكاف جمع راكب كصحب وصاحب (بالروحاء) بالمهملتين: محل بقرب المدينة (فقال) بعد أن سلم عليهم كما في حديث أبي داود (من القوم) . قال ابن رسلان: فيه السلام على الركب المسافرين إذا لقيهم وإن لم يعرفهم، وأن الذي يسلم يكون كبير القوم، وأن من لقي غيره لا يكلمه قبل أن يسلم عليه، وكذا لا يجيب من كلمه قبل أن يسلم لحديث: «السلام قبل الكلام» (قالوا المسلمون) فيه دليل على إطلاق ذلك ولا يحتاج إلى فصله بقوله إن شاء الله خوفاً من سوء الخاتمة أي لأن الأصل بقاء الفصل وإن كان الإتيان بها نظراً لذلك أفضل (فقالوا من أنت) وعند أبي داود «من أنتم» . قال القاضي عياض: يحتمل أن يكون هذا اللقاء كان ليلاً فلم يعرفوه، ويحتمل كونه نهاراً لكنهم لم يروه قبل ذلك لعدم هجرتهم فأسلموا في بلدانهم ولم يهاجرو قبل ذلك (فقال أنا) وفي رواية أبي داود فقالوا (رسول الله فرفعت إليه امرأة صبياً) زاد أبو داود «فأخذت بعضده فأخرجته من محفتها» (فقالت يا رسول الله) كما في أبي داود (ألهذا) وعند أبي داود «هل لهذا» (حج) أي: يصح له (قال: نعم) فيه حجة للشافعي، والجمهور على انعقاد حج الصبي وإن كان غير مميز، إذ من يخرج من المحفة بعضده لا تمييز له، فيحرم عنه الوليّ إن كان غير مميز ويخير بين ذلكـ والإذن للصبي إن كان مميزاً فيثاب الصبي عليه في الحالين وإن كان لا يجزيه عن حجة الإسلام بل يقع تطوعاً (ولك أجر) أي ويثبت لك الأجر، وبسبب الحمل وتجنيبه المحرم وفعل ما يفعله المحرم. أما الإحرام عنه، فإن كانت وصية أو قيمة صح وإلا فلا، ولا أجر لها في الإحرام عنه حيئذٍ، أما أجر حجة فيكتب له مع سائر ما يعمله من الطاعات من طواف وسعي وطهارة وصلاة وغيرها من الطاعات ولا يكتب له معصية بالإجماع (رواه مسلم) وأبو داود. 1804 - (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي أنه قال: الخازن) لمال غيره

22 ـــ باب في النصيحة

بإذنه (المسلم الأمين) أي: في ذلك المال الذي أمر بإعطائه وإن خان في غيره قبل أو بعد فيما يظهر من القواعد، لأن سبق المعصية أو تأخرها فيما لا تعلق له بما أطاع فيه لا يقتضي نقص ثواب ما أطاع فيه (الذي ينفذ) بفاء مكسورة مثقلة ومخففة (ما أمر به) أي: بإعطائه (فيعطيه كاملاً موفراً) تأكيد بعد تأكيد لما غلب على الخزان من الطمع فيما أمروا بإعطائه والنقص عنه (طيبة به نفسه) بأن لا يحسد المعطي ولا يظهر له من العبوس وتقطيب الوجه ما يكدر خاطره، ونبه على ذلك لأن أكثر الخزان غلب عليهم البخل بمال غيرهم فهم أبخل البخلاء (فيدفعه إلى الذي أمر) بالبناء للمفعول (له) راجع للذي (به) راجع للمال (أحد المتصدقين) فيكتب له بتلك الشروط الأربعة ثواب من ثواب الصدقة، لكنه يقل ويكثر بحسب تعبه وبشاشته ورفقه في الإعطاء (متفق عليه) ورواه أحمد وأبو داود والنسائي عن أبي موسى كذا في «الجامع الصغير» . (وفي رواية) لهما (الذي يعطي ما أمر به) وعليها اقتصر صاحب «المشكاة» وقال: متفق عليه (وضبطوه) أي: المحدثون (المتصدقين بفتح القاف مع كسر النون على التثنية) أي: على أنه مثنى وعلى هذا اقتصر في «شرح مسلم» وعليه فهما هو وبازل الصدقة (وعكسه) أي: كسر القاف وفتح النون (على الجمع) الصحيح المذكر السالم وهو جنس الخازن وجنس المتصدق أو أطلق الجمع وأريد به الإثنان مجازاً (وكلاهما) أي: الضبطين (صحيح) باعتبار المعنى كما عرفت. 22 - باب في النصيحة قال الفاكهاني في شرح الأربعين الحديث التي جمعها المصنف: النصيحة كلمة

جامعة معناها حيازة الخير للمنصوح له، يقال: إنها من وجيز الأسماء ومختصر الكلام وأنه ليس في كلام العرب كلمة مفردة تستوفي العبارة عن معنى هذه الكلمة، كما قالوا في الفلاح ليس في كلام العرب كلمة أجمع لخير الدارين منها، وهي مأخوذة من نصح الرجل ثوبه: إذا خاطه شبه فعل لاناصح فيما يتحراه للمنصوح له بسد الخياط خلل الثوب وإصلاحه. وقيل: إنها مأخوذة من نصحت العسل: إذا صفيته من الشمع، شبه تخليص القول من الغش بتخليص العسل من الخلط اهـ. (قال الله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} ) ففي التعبير بالأخوة المقتضية للنظر في مصالحة وما ينفعه إيماء إلى نصحه. (وقال تعالى: إخباراً) أي: مخبراً (عن نوح) على نبينا و (عليه وسلم) أي: عما قاله لقومه ( {وأنصح لكم} ) . قال السملي في «الحقائق» : قال بعضهم: أنصح لكم أدلكم على طريق رشدكم. وقال شاه الكرماني: علامة النصيحة ثلاثة: اغتمام القلب بمصائب المسلمين، وبذل النصح لهم، وإرشادهم إلى مصالحهم وإن جهلوا وكرهوه. (و) قال تعالى مخبراً (عن) قول (هود) لقومه ( {وأنا لكم ناصح} ) أي فيما آمركم به من عبادة الله وترك ما سواه ( {أمين} ) على تبليغ الرسالة وأداء النصح. والأمين: الثقة على ما أؤتمن عليه. حكى الله عن نوح بصيغة الفعل وعن هود بصيغة اسم الفاعل. قال الخازن في «لباب التأويل» : والفرق أن صيغة الفعل تدل على تجدده ساعة بعد ساعة، فكان نوح يدعو قومه ليلاً ونهاراً كما أخبر الله تعالى عنه بذلك، فلما كان ذلك من عادته ذكره بصيغة الفعل. وأما هود فلم يكن كذلك بل كان يدعوهم وقتاً دون وقت فلذا ذكر بصيغة الوصف، وفي الآية جواز مدح النفس والثناء عليها في مواضع الضرورة إلى مدحها. 181 - (وأما الأحاديث) النبوية النصيحة (فـ) ـــكثيرة: (فالأول: عن أبي رقية) كني بابنة له لم يولد له

غيرها (تميمبن أوس) بن خارجةبن سودبن جذيمةبن دراعبن عديبن الحارثبن مرةبن أددبن زيدبن يشجببن عريببن زيدبن كهلانبن سبأبن يشجببن يعرببن قحطان (الداري) نسبة إلى جده الدار ويقال فيه الديري نسبة إلى دير كان يتعبد فيه، أسلم تميم (رضي الله عنه) سنة تسع وسكن المدينة ثم انتقل إلى الشام ونزل بيت المقدس بعد قتل عثمان. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية عشر حديثاً، روى له مسلم حديثاً واحداً، وروى عنه باقي الستة إلا البخاري: وهذا الحديث من أفراد مسلم وليس لتميم فيه سوى هذا الحديث، وقد قيل هذا الحديث عليه مدار الإسلام، وقيل: أحد أرباع الإسلام وصحح بعضهم الأول. وقد روي عنه، وهذه منقبة شريفة تدخل في رواية الأكابر عن الأصاغر كذا في «شرح الأربعين» للفاكهاني (أن النبي قال: الدين النصيحة) أي: هي عماد الدين وقوامه كقوله «الحج عرفة» فهو من الحصر المجازي دون الحقيقي: أي إنه أريد المبالغة في مدح النصيحة حتى جعلت كل الدين وإن كان الدين مشتملاً على خصال كثيرة غيرها (قلنا لمن؟) يؤخذ منه مراجعة المتعلم للعالم عند الإبهام والإلتباس (قال) . قال الخطابي: النصيحة تنصرف إلى الإيمان به، ونفي الشريك عنه، وترك الإلحاد في صفاته وأسمائه، ووصفه بصفات الكمال، وتنزيهه عن جميع النقائص، والقيام بطاعته واجتناب معصيته. والحبّ فيه والبغض فيه، وموالاة من أطاعه ومعاداة من عصاه، وجهاد من كفر به، والاعتراف بنعمه وشكره عليها، والإخلاص في جميع الأمور، والدعاء إلى جميع الأوصاف المذكورة والحث عليها، والإخلاص في جميع الأمور، والدعاء إلى جميع الأوصاف المذكورة والحث عليها، والتلطف بالناس ومن أمكن منهم علمها. قال الخطابي: حقيقة هذه الأوصاف راجعة إلى العبد في نصحه نفسه، فا غنيّ عن نصح الناصحين (ولكتابه) . قال العلماء: النصيحة له الإيمان بأنه كتاب الله وتنزيله، لا يشبه شيئاً من كلام الخلق ولا يقدر عليه أحد منهم، ثم تعظيمه وتلاوته حق تلاوته وتحسينها والخشوع عندها وإقامة حروفه في التلاوة، والذبّ عنه لتأول المحرفين، والتصديق بما فيه والوقوف مع أحكامه، وتفهم علومه وأمثاله، والاعتناء بمواعظه والتفكر في عجائبه، والعمل بمحكمه، والتسليم لمتشابهه، وللبحث عن عمومه وخصوصه وناسخه ومنسوخه، ونشر علومه والدعاء إليه وإلى ما ذكرنا من نصيحته (ولرسوله) ونصيحته: تصديقه على الرسالة والإيمان به، وطاعته في أوامره ونواهيه، ونصرته حياً وميتاً، ومعاداة من عاداه وموالاة من والاه، وإعظام حقه وتوقيره، وإحياء طريقته وسنته، وبثّ دعوته ونشر سنته، واستفادة علومها والتفقه في معانيها، والدعاء إليها والتلطف في تعليمها وإعظامها وإجلالها، والتأدب عند قراءتها، والإمساك عن الكلام فيها بغير علم،

وإجلال أهلها لانتسابهم إليها، والتخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه، ومحبة آله وأصحابه، وبغض أهل البدع في السنة والمتعرضين لأحد من الصحابة (ولأئمة المسلمين) وهي بمعاونتهم على الحق وطاعتهم وأمرهم به، وتنبيههم وتذكيرهم برفق ولطف، وإعلامهم بما غفلوا عنه ولم يبالغوا من حقوق المسلمين، وترك الخروج عليهم، وتألف قلوب المسلمين لطاعتهم، وألا يغرّوا بالثناء الكاذب عليهم ويدعى لهم بالصلاح، هذا كله بناء على أن المراد بهم الخلفاء وغيرهم ممن يقوم بأمر المسلمين، وهذا هو المشهور، وحكاه الخطابي. ثم قال: وقد يتأول ذلك على الأئمة الذين هم علماء الدين، ومن نصيحتهم قبول ما رووه وتقليدهم في الأحكام وإحسان الظن بهم (وعامتهم) أي: من عدا ولاة الأمر ونصيحتهم بإرشادهم لمصالحهم في دنياهم وأخراهم، وإعانتهم عليه بالقول والفعل، وستر عوراتهم وسد خلاتهم، ودفع المضارّ عنهم وجلب المنافع إليهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر برفق، وأن يحبّ لهم ما يحبّ لنفسه، ويذبّ عن أنفسهم وأموالهم وأعراضهم بالقول والفعل، ويحثهم على التخلق بجميع ما ذكرنا من أنواع النصيحة، وقد كان في السلف من تبلغ به النصيحة إلى الإضرار بدنياه. قال ابن بطال: وهذا الحديث يدل على أن النصيحة تسمى ديناً وإسلاماً، وأن الدين يقع على العمل كما يقع على القول، والنصيحة فرض يجزى فيه من قام به ويسقط عن الباقين، وهي لامةٌ على قدر الحاجة إذا علم الناصح أنه يقبل نصحه ويطاع أمره وأمن على نفسه المكروه، فإذا خشي أذًى فهو في سعة اهـ (رواه مسلم) . قال السخاوي في تخريج الأربعين الحديث: ورواه الإمامان الشافعي وأحمدبن حنبل وأخرجه النسائي وابن خزيمة في «صحيحه» وله طرق كثيرة. 182 - و (الثاني: عن جريربن عبد الله رضي الله عنه) البجلي تقدمت ترجمته في باب المحافظة على السنة (قال: بايعت النبي على إقام الصلاة) أصله إقامة فحذفت التاء عند الإضافة تخفيفاً، والمراد الإتيان بالمكتوبات مستكملة الفرائض والسنن والآداب (وإيتاء الزكاة) المفروضة (والنصح) بضم النون مصدر نصح، يقال: نصحته ونصحت له وباللام أفصح

نصحاً ونصاحة، والنصح بفتح النون مصدر نصحت الثوب خطته (لكل مسلم) وتقدم في ترجمته من وفائه بما التزم من النصح زيادته لصاحب الفرس حتى بلغ به ثمانمائة درهم وكان أولاً رضى بما قل من ذلك بكثير بذلاً للنصيحة (متفق عليه) . 183 - و (الثالث: عن أنس رضي الله عنه عن النبي قال: لا يؤمن أحدكم) إيماناً كاملاً (حتى يحب لأخيه) من الخيرات والطاعات. وفي رواية النسائي: «حتى يحب لأخيه من الخير» . قال السخاوي: وهي زيادة صحيحة لأنها خارجة من مخرج «الصحيحين» بل هي على شرطهما، وأخرجها ابن منده في كتاب الإيمان له اهـ (ما يحب لنفسه) . قال ابن الصلاح: وهذا قد يعدّ من الصعب الممتنع وليس كذلك، إذ معناه لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحبّ لأخيه في الإسلام ما يحبّ لنفسه، والقيام بذلك يحصل بأن يحب له حصول مثل ذلك من جهة لا يزاحمه فيها بحيث لا ينقص النعمة على أخيه شيئاً من النعمة عليه وذلك سهل على القلب السليم، وإنما يعسر على القلب الدغل عافانا الله من ذلك آمين. قال أبو الزناد: ظاهر الحديث التساوي وحقيقته التفضيل، لأن الإنسان يحبّ أن يكون أفضل الناس، وإذا أحبّ لأخيه مثله فقد دخل في جملة المفضولين. وفي الحديث من الفقه أن المؤمن مع المؤمن ينبغي أن يكون كالنفس الواحدة، فيحبّ لأخيه ما يحب لنفسه من حيث إنها نفس واحدة. وفي الحديث الصحيح: «المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو واحد تداعى له سائر الجسد بالحمى» (متفق عليه) . قال السخاوي: وأخرجه أبو داود الطيالسي في «مسنده» والدارمي وعبد في «مسنديهما» وابن ماجه في «سننه» وأبو عوانة في «مستخرجه» وابن حبان في «صحيحه» وهو عند الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: إنه صحيح اهـ.

23 ـــ باب في الأمر بالمعروف

23 - باب في الأمر بالمعروف من الفرائض والسنن والآداب ومحاسن الأخلاق المحمودة شرعاً، فالأمر بالمعروف أمر بكل فعل يعرف بالشرع والعقل حسنه، وهذا الشطر من الترجمة تقدمت الترجمة في معناه بباب الدلالة على الخير (والنهي عن المنكر) ضد المعروف كترك واجبٍ أو فعل حرامٍ صغيرةً كان أو كبيرةً. (قال الله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير} ) كل ما يرغب فيه من الأفعال الحسنة وقيل: كناية عن الإسلام وتقدم الكلام على ما يتعلق بها في باب الدلالة على الخير والدعاء إليه ويزاد على ذلك. قال الخازن «من» في قوله: {منكم} للبيان لا للتبعيض، لأن الله أوجب ذلك على كل الأمة في قوله له: {كنتم خير أمة} وعلى هذا فمعنى الآية: كونوا أمة دعاةً إلى الخير آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، ومن قال بهذا القول يقول: إن الأمر والنهي المذكورين فرض كفاية إذا قام بها واحد سقط عن الباقين. وقيل من للتبعيض لأن في الأمة من لا يقدر على ذلك لعجز أو ضعف فحسن إدخال لفظة من، وقيل: إنهما يختصان بأهل العلم وولاة الأمر فعليه فالمعنى: ليكن بعضكم آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر ( {وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} ) أي: الناجون الفائزون نجوا من النار وفازوا بالجنة، والمفلح: الظافر بالمطلوب الذي انفتحت له وجوه الظفر ولم تستغلق عليه. (وقال تعالى: {كنتم} ) يا أمة محمد في علم الله ( {خير أمة أخرجت للناس} ) وبين وجه شرفها على الأمم الماضين بقوله: (تأمرون بالمعروف وتنون عن المنكر) فمن تحقق فيه هذا الوصف فهو من أفضل الأمة. (وقال تعالى: {خذ العفو وأمر

بالعرف وأعرض عن الجاهلين} ) تقدم الكلام فيها في قصة عينيةبن حصن مع عمر رضي الله عنه في أواخر باب الصبر، وسيأتي فيها مزيد إن شاء الله تعالى في باب توقير العلماء في قصة الحر نفسها ذكرها المصنف ثانياً ثمة. (وقال تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} ) قال السلمي في «الحقائق» : أي: أنصار يتعاونون على العبادة ويتبادرون إليها، وكل واحد منهم يشد ظهر صاحبه ويعينه على سبيل نجاته: ألا ترى النبيّ يقول: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا» وقال: «المؤمنون كالجسد الواحد» وقال أبو بكر الوراق: المؤمن يوالي المؤمن طبعاً وسخية اهـ. وقال الخازن: لما كان نفاق الأتباع وكفرهم حصل بتقليد المتبوعين به وبمقتضى الطبيعة قال فيهم «بعضم من بعض» ولما كانت الموافقة الحاصلة بين المؤمنين بتسديد الله وتوفيقه لا بمقتضى الطبيعة وهوى النفس وصفهم بأن بعضهم أولياء بعض ( {يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} ) ضد وصف المنافقين، والجملة محتملة للحالية والوصفية لأن أل في الموضعين للجنس ومحتملة لكونها خبراً بعد خبر. (وقال تعالى) : ( {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود} ) قال في الخازن: قال أكثر المفسرين: هم أصحاب السبت لما اعتدوا واصطادوا في السبت فقال داود: اللهم العنهم واجعلهم قردة فمسخوا كذلك، وقصتهم في سورة الأعراف ( {وعيسى ابن مريم} ) قال: وهم كفار أصحاب المائدة لما أكلوا وادخروا ولم يؤمنوا قال: اللهم العنهم واجعلهم خنازير فمسخوا كذلك. وقيل: إن داود وعيسى بشراً بمحمد ولعنا من يكفر به ( {ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} ) أي: اللعن بسبب عصيانهم واعتدائهم، ثم فسر الاعتداء بقوله: ( {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه} ) أي: لا ينهي بعضهم بعضاً عن المنكر، وقيل: عن معاودة منكر فعلوه ولا عن الإصرار فيه (لبئس ما كانوا يفعلون) اللام فيه لام

القسم: أي: أقسم لبئس ما كانوا يفعلون، يعني من ارتكاب المعاصي والعدوان. (وقال تعالى) : ( {وقل الحق من ربكم} ) الحق ما يكون من جهة الله تعالى إلا ما يقتضيه الهوى، ويجوز أن يكون الحق خبر مبتدأ محذوف ومن ربكم حال أو صفة ( {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} ) أي: لا أبالي بإيمان من آمن وكفر من كفر. وفي «الحقائق» للسلمي قال ابن عطاء الله: أظهر الحق للخلق سبيل الحق وطريق الحقيقة، فمن سألك فيه بالتوفيق ومعرض عنه بالخذلان. فمن شاء الحق له الهداية هداه لطريق الإيمان، ومن شاء له الإضلال سلك به مسلك الكفر والضلال البعيد. (وقال تعالى) : ( {فاصدع} ) أي: اجهر ( {بما تؤمر} ) . (وقال تعالى) ( {أنجينا} ) كذا في نسخة مصححة منه بزيادة الفاء في أوله والتلاوة بحذفها، ورأيتها مكشوطة من أصل فلا أدري ذلك من المصنف أو من التعرض للأصول بتغييرها، وقد وقع مثل ذلك في «صحيح البخاري» وحق مثله أن يقال فيه كذا وصوابه أو والتلاوة كذا و {أنجينا الذين} جواب لما من قوله: {لما نسوا ما ذكروا به أنجينا} ( {الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا} ) بالاعتداء ( {بعذاب بئيس} ) شديد فعيل من بؤس يبؤس: إذا اشتد وفيه قراءة أخرى ( {بما كانوا يفسقون} ) بسبب فسقهم (والآيات في الباب) أي: باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (كثيرة معلومة) . 184 - (وأما الأحاديث: فالأوّل: عن أبي سعيد) سعدبن مالكبن سنان (الخدري) وسبقت ترجمته (رضي الله عنه) في باب التوبة (قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما رأى) أي: علم إذ لا

يشترط في وجوب الإنكار رؤية البصر بل المدار على العلم أبصر أم لا (منكم) معشر المكلفين القادرين المسلمين فهو خطاب لجميع الأمة حاضرها بالمشافهة وغائبها بطريق التبع (منكراً فليغيره) وجوباً بالشرع على الكفاية إن علم بذلك أكثر من واحد وإلا فهو فرض عين. ووجوبه بالكتاب والسنة (بيده) إن توقف تغييره عليها كتكسير أواني الخمر وآلات اللهو بشرطه الآتي (فإن لم يستطع) الإنكار بيده، بأن خشي لحاق ضرر ببدنه أو أخذ مال، وليس من عدم الاستطاعة مجرد الهيبة، وعلى ذلك حمل خبر الترمذي وغيره «ألا لا يمنعنّ رجلاً هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه» (فبلسانه) أي: يقوله للمرتجي نفعه من نحو صياح واستغاثة وأمر من يفعل ذلك وتوبيخ وتذكير با وأليم عقابه مع لين وإغلاظ حيثما يكون أنفع، ولا فرق في وجوب الإنكار بين أن يكون الآمر ممتثلاً ما أمر به مجتنباً ما نهي عنه أو لا، ولا بين كون كلامه مؤثراً أو لا، وظاهر كلام المصنف الإجماع على ذلك فقول بعض بسقوط الوجوب عند العلم بعدم التأثير أخذاً من أحاديث تصرح بذلك ليس فيه محله، ولا بين كون الآمر ولياً أو غيره إجماعاً أخذاً بعموم «من» الشامل لذلك جميعه، نعم إن خشي من ترك استئذان الإمام مفسدة راجحة أو مساوية من انحرافه عليه بأن افتيات عليه لم يبعد وجوب استئذانه حينئذٍ. ويشترط لجواز الإنكار ألا يؤدي إلى شهر سلاح، فإن أدى إلى ذلك فلا يكون للعامة بل يربط بالسلطان، وشرطه وجوبه تارة وجوازه أخرى ألا يخاف على نفس ونحو عضو ومال له أو لغيره وإن قل، مفسدة فوق مفسدة المنكر الواقع، وإيجاب بعض العلماء الإنكار بكل حال وإن فعل المنكر وقبل منه غلوّ مخالف لظاهر هذا الحديث وغيره ولا حجة له فيما احتج به. وإذا جاز التلفظ بكلمة الكفر عند الخوف أو الإكراه كما في الآية فليجز ترك الإنكار لذلك بالأولى، لأن الترك دون الفعل في القبح، ألا يغلب على ظنه أن المنهي يزيد فيها هو فيه عناداً، وأن يكون المنكر مجمعاً عليه أو يعتقد فاعله حرمته أو حله، أو ضعفت شبهته كنكاح المتعة، ولا ينافي ما تقرر من الوجوب قوله تعالى: {عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} (المائدة: 105) لأنه سئل عنها، فقال: «ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، فإذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك» الحديث. ففيه تصريح بأن الآية محمولة على ما إذا عجز المنكر، ولا شك في سقوط الوجوب حينئذٍ، على أن معناها عند المحققين أنكم إذا فعلتم ما كلفتم به

لا يضركم تقصير غيركم، ومما كلفنا به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا لم يمتثلهما المخالف فلا عتب حينئذٍ لأن الواجب الأمر والنهي لا القبول (فإن لم يستطع) ذلك بلسانه (فبقلبه) ينكره بأن يكره ذلك ويعزم أن لو قدر عليه بقول أو فعل أزاله لأنه يجب كراهة المعصية فالراضي بها شريك لفاعلها وهذا واجب على كل أحد بخلاف اللذين قبله، فعلم من الحديث وما تقرر فيه وجوب تغيير المنكر بأيّ طريق أمكن، وفي أواخر الباب الأوّل من كتاب «الأنوار القدسية في قواعد الصوفية» للشعراني كان يقال: إن كان ولا بد للمريد من إزالة المنكر فليتوجه إلى الله تعالى بقلبه ويزيل ذلك المنكر الذي رآه، إما يمنع الزاني من الزنى أو الشارب من الخمر ونحو ذلك، ولا ينسب إلى ساكت قول، هكذا كان سورة تغيير المرسلين الصادقين المنكر في قديم الزمان، وقد خالف قوم فغيروا بيدهم أو لسانهم فسحبوا لبيت الوالي وضربوا وحبسوا وازدادوا للمنكر منكراً. وقد كان سيدي إبراهيم المتبولي يقول: تغيير المنكر باليد للولاة ومن قاربهم، وبالقول للعلماء العاملين، وتغييره بالقلب لأرباب القلوب (وذلك) أي: الإنكار بالقلب للعجز عنه بغيره (أضعف الإيمان) أي: أقله ثمرة. وفي رواية «وهو أضعف الإيمان» وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل، ومنه يستفاد أن عدم إنكار القلب للمنكر دليل على ذهاب الإيمان منه، ومن ثم قال ابن مسعود: هلك من لم يعرف بقلبه المعروف والمنكر: أي: لأن ذلك فرض كفاية لا يسقط عن أحد بحال. والرضا به من أقبح المحرمات وإن كان ذلك أقل ثمرة (رواه مسلم) وأبو داود وابن ماجه في «سننهما» وأحمد وعبد في «مسنديهما» وأبو يعلى وابن أبي الدنيا وغيره ذكره السخاوي في «تخريج الأربعين» حديثاً التي جمعها المؤلف وبسط في بيان طرق الحديث. قيل: وهذا الحديث يصلح أن يكون ثلث الإسلام لأن الأحكام ستة: الواجب والمندوب، والمباح، وخلاف الأولى، والمكروه، والحرام. والمستفاد منه حكم الأول وهو أنه يجب الأمر منه، والأخير وهو أنه يجب النهي عنه. وعبر بعضهم بأنه نصفه وبينه بأن أعمال الشريعة إما معروف يجب الأمر به، أو منكر يجب النهي عنه: أي وهو إنما بين الثاني وهو غير سديد، لأن ما عدا الأول والثاني لا يجب الأمر به ولا النهي عنه، على أنه كما بين الثاني: أعني وجوب النهي عن المنكر بين الأول، لأن المنكر يشمل ترك الواجب وفعل الحرام، فتغيير الأول بالأمر بالواجب والثاني بالنهي عن الحرام، فعليه كان المناسب أن يقال إنه كل الإسلام لا نصفه.

185 - و (الثاني: عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما من) مزيدة لاستغراق النفي (نبي) أي: رسول، إذ هو المحتاج للإعانة على تبليغ ما أمر به. قال القرطبي: ونعني بذلك غالب الرسل لا كلهم بدليل قوله في الحديث الآخر «ويأتي النبي ومعه الرجل والرجلان، ويأتي النبي وليس مه أحد» فهذا العموم وإن كان مؤكداً بمن مخصوص بما ذكرناه اهـ (بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون) بالحاء المهملة وتخفيف الواو قال الأزهري وغيره، هم خلصان الأنبياء وأصفياؤهم. والخلصان: الذين نقوا من كل عيب وقال غيره: هم أنصارهم، وقيل: المجاهدون، وقيل: الذين يصلحون للخلافة بعدهم، وقيل: هم المختصون المفضلون (وأصحاب) قال القرطبي في «المفهم» : جمع صحب كفرح وأفراح قاله الجوهري، وقال غيره: هو عند سيبويه جمع صاحب كشاهد وأشهاد لا جمع صحب، لأن فعلاً لا يجمع على أفعال إلا في ألفاظ معدودة وليس هذا منها. والصحبة: الخلطة والملابسة على جهة المحبة، يقال صحبه يصحبه صحبة بالضم وصحابة بالفتح، وجمع الصاحب صحب كراكب وركب، وصحبة كفاره وفرهة، وصحاب كجائع وجياع، وصحبان كشاب وشبان (يأخذون بسنته) أي: بطريقه وشريعته (ويقتدون) يتأسون (بأمره ثم) أتى بها لتراخي رتبة المعطوف بها عما قبله (إنها) أي: القصة كذا اقتصر عليه المصنف في «شرح مسلم» ، وقال القرطبي: هكذا الرواية بهاء التأنيث فقط وهي عائدة على الأمة أو على الطائقة التي هي في معنى الحواريين (تخلف) بضم اللام أي تحدث (من بعدهم خلوف) بضم الخاء جمع خلف بإسكان اللام وهو الخالف بشرّ، أما بفتح اللام فهو الخالف بخير، هذا هو الأشهر. قال وجماعة أو جماعات من أهل اللغة منهم أبو زيد: يقال كل واحد منهما بالفتح والإسكان، ومنهم من جوّز الفتح في الشرّ ولم يجوّز الإسكان في الخير، وفي «الصحاح» : الخلف ما جاء من بعد؛ يقال هو خلف سوء وخلف صدّق من الله بالتحريك إذا قام مقامه. قال الأخفش: هما سواء منهم من يحرك ومنهم من يسكن فيهما جميعاً إذا أضاف، ومنهم من يقول خلف صدق بالتحريك ويسكن الآخر ويريد بذلك الفرق بينهما اهـ (يقولون ما لا يفعلون) أي: يتشبعون بما لم يعطوا من طاعة أو حال أو مقام (ويفعلون ما لا يؤمرون) أي: يفعلو خلاف المأمور به من المنكرات التي لم يأت بها

الشرع (فمن جاهدهم بيده) إذا توقف إزالة المنكر عليه ولم يترتب عليه مفسدة أقوى منه كانشقاق العصى المترتب على الخروج على ولي الأمر الذي هو أعظم مفسدة من المنكر (فهو مؤمن) كامل الإيمان (ومن جاهدهم بلسانه) بأن أنكر به واستعان بمن يدفعه (فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه) والاستعانة على إزالته با سبحانه (فهو مؤمن) وتتفاوت مراتب كمال الإيمان بتفاوت ثمراته (وليس وراء ذلك) أي: كراهة المنكر بالقلب (من الإيمان حبة خردل) كنى بها عن نهاية القلة، وذلك لأن الرضا بالكفر الذي هو من جملة المعاصي كفر، وبالعصيان الناشيء عن غلبة الشهوة نقصان من الإيمان أيّ نقصان. وقال القرطبي: الإيمان هنا بمعنى الإسلام، والمراد أن آخر خصال الإيمان المتعينة على العبد وأضعفها الإنكار بالقلب ولم يبق بعدها رتبة أخرى (رواه مسلم) . 186 - و (الثالث: عن أبي الوليد) بفتح الواو وكسر اللام وسكون التحتية (عبادة) بضم المهملة وتخفيف الموحدة والدال المهملة بينهما ألف (ابن الصامت) بن قيسبن أصرمبن فهربن ثعلبةبن غنمبن سالمبن عوفبن عمروبن الخزرج الأنصاري الخزرجي، شهد عبادة (رضي الله عنه) العقبة الأولى والثانية مع رسول الله، وشهد بدراً وأحداً والخندق وبيعة الرضوان وسائر المشاهد، وكان أحد النقباء ليلة العقبة، وكان نقيباً على قوافل بني عوفبن الخزرج، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين أبي مرثد الغنوي، واستعمله النبي على الصدقات: وكان يعلم أهل الصفة القرآن، ولما فتح الشام أرسله عمر ومعاذاً وأبا الدرداء ليعلموا الناس القرآن بالشام ويفهموهم، فأقام عبادة بحمص ومعاذ بفلسطين وأبو الدرداء بدمشق ثم صار عبادة إلى فلسطين. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة وأحد وثمانون حديثاً، اتفقا منها على ستة، وانفرد البخاري بحديثين ومسلم بآخرين. قال الأوزاعي: أول من ولى قضاء فلسطين عبادة، وكان فاضلاً خيراً جميلاً طويلاً جسيماً، توفي ببيت المقدس، وقيل: بالرملة سنة أربع وثلاثين وهو ابن ثنتين وسبعين سنة، وقيل: توفي سنة خمس وأربعين، والأوّل أصح وأشهر كذا في «التهذيب» (قال: بايعنا) بسكون المهملة وبفتحها: أي عاهدنا

(رسول الله) بالنصب والرفع؛ وأطلق على المعاهدة المبايعة لأن كلاً من المتعاهدين يمد يده للآخر لأخذ العهد كما أن كلاً من المتبايعين يمدّ يده لصاحبه. وقيل: سميت مبايعة لما فيها من المعاوضة لما وعدهم الله من عظيم الجزاء قال تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} (التوبة: 111) (على السمع والطاعة) لولاة الأمر (في العسر واليسر) بضم أوليهما وضم الأول وسكون الثاني لغتان فيما كان على هذا الوزن كما في «الصحاح» وتقدمت الإشارة إليه (والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا) معطوف على السمع: أي: بايعنا على استئثار الأمراء بحظوظهم وتخصيصهم إياها بأنفسهم. قال المصنف: أي بايعناه على الطاعة فيما يشقّ وتكرهه النفوس وغيرها مما ليس بمعصية، فإن كانت معصية فلا سمع ولا طاعة كما جاء في أحاديث أخر فيحمل المطلق عليها، وثمرة الطاعة في جميع ما ذكر اجتماع كلمة المسلمين فإن الخلاف سبب لفساد أمر الدين، والأثرة بفتح الهمزة والثاء المثلثة، ويقال بضم الهمزة وكسرها وسكون الثاء فيهما ثلاث لغات حكاهن في «المشارق» وغيره وهي كما سيأتي في الأصل: الاستئثار والاختصاص بأمور الدنيا. قال القرطبي: وكأن هذا القول خاص بالأنصار، وقد ظهر أثر ذلك يوم حنين حيث آثر النبي قريشاً بالفىء ولم يعط الأنصار منه شيئاً، وفيه تنبيه على أن الخلافة في غيرهم وقد صرح به في قوله: (وعلى أن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا) من ذي الأمر (كفراً بواحاً) هكذا هو لمعظم الرواة وفي معظم النسخ، وهو من باح الرجل بالشيء يبوح به بوحاً وبواحاً: إذا أظهره، وفي بعضها براحا بالراء. قال القرطبي: وهي رواية أبي جعفر، من قولهم برح الخفاء: أي ظهر. قال ثابت: ورواه النسائي بواحاً وبووحاً وهي بمعناه ما زادت من المبالغة. قال المصنف: والراد بالكفر هنا المعاصي (عندكم فيه من الله تعالى برهان) أي: حجة بينة وأمر لا شك فيه: أي: بل تعلمونه من دينالله. ومعنى الحديث: لا تنازعوا ولاة الأمور في أمورهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكراً محققاً تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم وقوموا بالحق حيثما كنتم. وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام

بالإجماع وإن كانوا فسقة، وعلى هذا تظاهرت النصوص. وحمل القرطبي الكفر على ظاهره فقال: معناه إلا أن تروا كفراً عندكم من الله فيه برهان: أي: حجة بينة وأمر لا شك فيه يحصل به اليقين أنه كفر، فحينئذٍ يجب أن يخلع من عقدت له البيعة اهـ (وعلى أن نقول الحق) بأن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر (أينما كنا) أي: في كل مكان وزمان (لا نخاف في الله لومة لائم) أي: لا نداهن في ذلك أحداً ولا نخافه ولا نلتفت إلى الأئمة، ففيه القيام بالمعروف والنهي عن المنكر (متفق عليه) ورواه مالك والنسائي، وليس عندهما «إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان (المنشط والمكره بفتح ميميهما) وثالثهما مصدران ميميان (أي: في السهل والصعب) كأنه تفسير مراد، وإلا ففي «النهاية» المنشط مفعل من النشاط وهو الأمر الذي تنشط له النفس وتحنّ إليه وتؤثر فعله وهو مصدر بمعنى النشاط؛ وقال في محل آخر منها حديث عبادة «بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنشط والمكره» يعني المحبوب والمكروه وهما مصدران (والأثرة: الاختصاص بالمشترك) على التشريك فيه وقد سبق بيانها في باب الصبر (بواحاً بفتح الموحدة بعدها واو) خفيفة (ثم ألف ثم حاء مهملة) هذه رواية المعظم كما تقدم (أي: ظاهراً لا يحتمل تأويلاً) . 187 - و (الرابع: عن النعمانبن بشير) صحابي ابن صحابي كما تقدم في ترجمته فلذا قال (رضي الله عنهما عن النبي قال: مثل) بفتحتين وبكسر فسكون، وهي هنا تشبيه حال مركبة بمركبة: أي: صفة (القائم في حدود ا) بإقامتها والذبّ عن المحارم، ووقع هكذا على الصواب في كتاب الشركة من البخاري، ووقع في كتاب الشهادات «مثل المداهن» بضم فسكون: أي: المحابي في حدودالله، والمراد به كالمداهن من يراءي ويضيع الحقوق ولا

يغير المنكر، وهو وهم كما قاله الحافظ في «الفتح» ، لأن المداهن في الحدود الواقع فيها (والواقع فيها) أي: مرتكبها واحد والقائم مقابله. ووقع عند الإسماعيلي أيضاً «مثل الواقع في حدود الله والناهي عنها» وهو المثل المضروب فإنه لم يقع فيه إلا ذكر فرقتين فقط، لكن إن كان المداهن مشتركاً في الذم مع الواقع صار بمنزلة فرقة واحدة. وبيان وجود الفرق الثلاث في المثل المضروب أن الذين أرادوا غرق السفينة بمنزلة الواقع في حدودالله، ثم من عداهم إما منكر وهو القائم، وإما ساكت وهو المداهن (كمثل قوم استهموا على سفينة) فأخذ كل واحد منهما سهماً منها بالقرعة وذلك لاشتراكهم فيها بملك أو إجارة، والقرعة إنما تقع بعد التعديل، ثم يقع التشاحّ في الأقضية فتقع القرعة لقطع النزاع (فصار بعضهم أعلاها) لخروج سهمه بالقرعة (و) صار (بعضهم أسفلها) لذلك والجملة معطوفة على الجملة قبلها ويجوز جعلها مستأنفة، وكل من أعلى وأسفل منصوب على الظرف المكاني والمتعلق هو الخبر (فكان الذين) صاروا (في أسفلها) بالاستفهام (إذا استقوا من الماء مرّوا) سالكين (على من) صار (فوقهم) أعلى السفينة بحكم الاستفهام (فقالوا) لما رأوا تأذي أهل فوق من مرورهم/ ففي الشهادات من البخاري: فتأذوا به: أي بالمارّ عليهم حالة السقي (لو) وقع (أنا خرقنا في نصيبنا) من السفينة (خرقاً) نصل به إلى الماء (ولم نؤذ) بمرورنا (من فوقنا، فإن تركوهم) أي: ترك أهل العلوّ أهل السفل (وما أرادوا) الواو للمصاحبة أي تركوهم مصاحبين ما أرادوا فعله من غير منع منه (هلكوا جميعاً) لأن شؤم ذلك الفعل والغلبة من الماء على السفينة المغرق لها ولهم أمر عام لهم أجمعين (وإن أخذوا على أيديهم) أي: منعوهم مما أرادوه من الخرق (نجوا) أي: الآخذون في أنفسهم (ونجوا) بالتشديد: أي: ونجوا المأخوذين (جميعاً) حال من فاعل الفعلين معاً من الغرق، وهكذا إقامة الحدود يحصل بها النجاة لمن أقامها وأقيمت عليه وإلا هلك العاصي بالمعصية والساكت بالرضا بها. ففي الحديث استحقاق العقوبة على العموم بترك الأمر بالمعروف (رواه البخاري) هذا اللفظ في كتاب الشركة، ورواه في كتاب الشهادات بلفظ آخر في معناه، ورواه الترمذي في كتاب الشهادات بلفظ آخر في معناه، ورواه الترمذي في كتاب الفتن من جامعه وقال حسن صحيح (القائم في حدود الله: معناه المنكر لها) على من تعداها (القائم في دفعها وإزالتها)

على من وقع فيها (والمراد بالحدود) على هذا (ما نهى الله عنه) من المحرمات ولو صغائر، أو القائم بالحدود على من فعل ما يقتضيه، والمراد من الحدود على هذا الجلد للزاني وللقاذف ونحو ذلك. والثاني خاص بوليّ الأمر، والأول عام لسائر أرباب الإيمان بشرطه (واستهموا) معناه (اقترعوا) وكانت القرعة في الجاهلية بسهام معروفة، وأطلق الاستهام وأريد به الاقتراع وهو استعمال شائع في السنة. 188 - و (الخامس: عن أم المؤمنين) احتراماً وإجلالاً (أم سلمة) بفتح أوليه (هند) هذا هو الصحيح كما تقدم مع ترجمتها في باب التوكل (بنت أبي أمية) بضم ففتح فتشديد التحتية مصغراً كنية (حذيفة) بضم المهملة وفتح المعجمة فسكون التحتية بعدها فاء مفتوحة فهاء (رضي الله عنها) حال كونها رواية (عن النبي أنه قال) : من باب الإخبار عن المغيب فكان كما أخبر به فهو من معجزاته (إنه) أي: الشأن (يستعمل عليكم أمراء) أي: تجعل الملوك عليكم أمراء عمالاً (فتعرفون) أي: بعض أعمالهم لموافقتها ما عرف من الشرع (وتنكرون) بعضها لمخالفته ذلك. وفي «المشكاة والمصابيح» يستعمل عليكم أمراء تعرفون وتنكرون» بحذف الفاء، قال العاقولي: هما صفتان لأمراء والعائد محذوف: أي: تعرفون بعض أفعالهم وتنكرون بعضهم (فمن كره) بقلبه المنكر ولم يقدر على الإنكار لخوف سطوتهم (فقد برىء) من الإثم بإنكاره الباطني لأنه قائم بما يجب عليه من تغييره بقلبه (ومن) قدر على الإنكار باليد أو باللسان فـ (أنكر) عليهم ذلك (فقد سلم) بإنكاره من العقاب الأخروي. وفي «المصابيح» «فمن أنكر فقد برىء، ومن كره فقد سلم» قال العاقولي: قوله فقد برىء: أي: قام بما وجب عليه فبرىء من الواجب؛ وقوله: فقد سلم أي بإنكاره الباطني وكراهة المنكر وسلم من الإثم لأنه قائم بما يجب عليه تغييره بقلبه اهـ. (ولكن من رضي) فعلهم بقلبه (وتابع) في العمل به فهو الذي لم تبرأ ذمته ولم يسلم من إثم لمشاركته لهم فيه ورضاه به، وحذف الخبر من هذه الجملة لدلالة الحال وسياق الكلام على أن هذا القسم ضد ما أثبته لقسيميه (قالوا: يا

رسول الله ألا نقاتلهم) أي: حينئذٍ (قال لا) أي: لا تقاتلوهم (ما أقاموا فيكم الصلاة) وإنما منع من مقاتلتهم مدة إقامتهم الصلاة التي هي عنوان الإسلام، والفارق بين الكفر والإسلام حذراً من تهيج الفتن واختلاف الكلمة وغير ذلك مما يكون أشد نكارة من احتمال نكرهم والمضارة على ما ينكر منهم (رواه مسلم) في «المغازي» من طرق مدارها على الحسن عن ضبةبن محصن العتري البصري عن أم سلمة، ورواه أبو داود في السنة، ورواه الترمذي في «الفتن» وقال: حسن صحيح، كذا في «الأطراف» للمزي ملخصاً. (معناه) أي: قوله في الحديث «من كره فقد برىء» (من كره بقلبه) المنكر (ولم يستطع) لخوفه على نفسه أو ماله منهم (إنكاراً بيد ولا لسان) فأنكر بقلبه (فقد برىء من الإثم) لسقوطهما عند حنيئذٍ (وأدى وظيفته) المخاطب بها (ومن أنكر) لقدرته على ذلك باليد أو اللسان (بحسب) قدر (طاقته) وقوّة شوكته (فقد سلم من) تبعة (هذه المعصية) أي: ترك إنكار المنكر لعدم العقاب على ذلك والسؤال عنه (ومن رضي بفعلهم المنكر وتابعهم) عليه بفعل ذلك (فهو العاصي) أي الآثم. 189 - (السادس: عن أم المؤمنين) جلالة واحتراماً (أم الحكم) كنية (زينب بنت جحش) بفتح الجيم وسكون الحاء المهملة وبعدها شين معجمة، وهو بن رباببن معمربن صبر ابن مرةبن كثيربن غنمبن دودانبن أسيدبن خزيمة الأسدية أخت عبد ابن حجش (رضي الله عنها) أمها أميمة بنت عبد المطلب عمة النبيّ، أسلمت زينب قديماً وهاجرت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتزوجها في سنة خمس، قاله قتادة والواقدي وآخرون. روى ابن سعد أنه تزوجها لهلال ذي القعدة سنة خمس من الهجرة وهي بنت خمس وثلاثين سنة، وقيل: سنة ثلاث، وكانت قبله تحت زيدبن حارثة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم طلقها فاعتدت، ثم زوجها الله

من رسوله وأنزل فيها {فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها} (الأحزاب: 37) وكانت تفتخر على نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول: زوّجني الله من السماء، ومناقبها كثيرة ذكر المصنف جملة منها في «التهذيب» ، وفيه أنها توفيت سنة عشرين، وقيل: توفيت سنة إحدى وعشرين. وأجمع أهل السير أنها أول نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موتاً بعده ودفنت بالبقيع وصلى عليها عمربن الخطاب، وهي أول امرأة جعل عليها النعش أشارت به أسماء. روي لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد عشر حديثاً، خرّج منها في «الصحيحين» حديثان اتفقا عليهما (أن النبي) بكسر همزة إن على إضمار القول وبفتحها على إضمار أخبرت مثلاً (دخل عليها فزعاً) بفتح فكسر. والفزع الذعر والفرق (يقول) جملة حالية (لا إله إلا ا) أتى بها للتعجب من الأمر الواقع بعدها وتعظيم شأنه كالإتيان بسبحان في قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده} (الإسراء: 1) (ويل) بفتح أوله وسكون التحتية. في «الصحاح» : ويل كلمة مثل ويح إلا أنها كلمة عذاب اهـ. وفي «تحفة القارىء» وهي كلمة تقال عند الحزن (للعرب) هم خلاف العجم الأعراب سكان البوادي خلاف الحاضرة وخصص بهم لأن معظم مفسدتهم راجع إليهم (من شرّ) الظاهر أن التنوين فيه للتعظيم (قد اقترب) زمنه (فتح) بالبناء للمفعول (اليوم من ردم) بفتح فسكون (يأجوج ومأجوج) أي: سدهما، يقال ردمت الثلمة: أي: سددتها وهما بالهمز وتركه وبهما قرىء في السبع والجمهور على تركه (مثل هذه) أي: الحلقة المبينة في قوله: (وحلق) بتشديد اللام (بأصبعيه) فيه عشر لغات بتثليت الهمزة والباء والعاشرة أصبوع (الإبهام والتي تليها) بدل من قوله أصبعيه بدل مفصل من مجمل، فيجوز فيه الإتباع والقطع لأنه استوفى العدة. قال في «تحفة القارىء» : أي: جعل السبابة في أصل الإبهام وضمهما حتى لم يبق بينهما إلا خلل يسير، ومعناه عند الحساب تسعون كما في الرواية الأخرى للبخاري من حديث أبي هريرة مرفوعاً «فتح الله من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وعقد بيده تسعين» قلت: وقع عند مسلم: وعقد سفيان بيده عشرة، وهي مخالفة للرواية المذكورة هنا والأخرى التي عند أبي هريرة، لأن عقد التسعين أضيق من العشرة. قال المصنف: قال القاضي: لعل حديث أبي هريرة متقدم وأراد قدر الفتح بعده. قال: أو يكون المراد التقريب بالتمثيل لا حقيقة التحديد

(فقلت: يا رسول الله أنهلك) بكسر اللام وحكي فتحها، قال المصنف: وهو ضعيف أو فاسد (وفينا الصالحون) أي: وبهم يدفع البلاء ويزال العناء (قال نعم) أي: تهلكون والحال ما ذكر (إذا كثر) بفتح فضم المثلثة (الخبث) هو بفتح المعجمة والموحدة وفسره الجمهور بالفسوق والفجور، وقيل: بالزنى خاصة، وقيل: أولاد الزنى.d قال المصنف: والظاهر أنه المعاصي مطلقاً. ومعنى الحديث أن الخبث إذا كثر فقد يحصل الهلاك العام وإن كثر الصالحون، ففيه بيان شؤم المعصية والتحريض على إنكارها (متفق عليه) رواه البخاري في أحاديث الأنبياء وفي باب الفتن، ورواه مسلم في الفتن، ورواه الترمذي وقال: حسن صحيح، والنسائي في «التفسير» ، وابن ماجه في «الفتن» . واتفق في سند الحديث لطيفة توالي ثلاثة من الصحابة زينب بنت أم سلمة عن أم حبيبة بنت أبي سفيان عن زينب بنت جحش وهذا عند جميع من ذكر، إلا أن في رواية البخاري وأخرى لمسلم بإسقاط أم حبيبة، كذا لخص من «الأطراف» للمزي. 190 - و (السابع: عن أبي سعيد) سعدبن مالكبن سنان (الخدري رضي الله عنه) ناقلاً (عن النبي قال) : أي: النبي فتكون الجملة مستأنفة لبيان المقول، ويحتمل أن يكون الضمير فيه يعود لأبي سعيد وهناك قال مقدر بعده حذف خطأ اختصاراً يعود إلى النبي (إياكم) هي للتحذير حذف العامل وجوباً والأصل أحذركم (والجلوس) بالنصب (في الطرقات) وعند ابن حبان على الصعدات بضمتين جمع صعد كذلك جمع صعيد كطريق وطرق وزناً ومعنىً. وزعم ثعلب أن المراد بالصعدات وجه الأرض اهـ والطريق تذكر تؤنث، ويلحق بالطريق ما في معناها من الجلوس في الحوانيت، وفي الشبابيك المشرفة على المارة حيث يكون في غير العلوّ، والنهي للتنزيه لئلا يضعف الجالس عن أداء الحق الذي عليه (فقالوا: يا رسول الله مالنا من مجالسنا) أي: بالطرقات (بد) بضم الموحدة وتشديد المهملة: أي فرقة، وقوله: (نتحدث فيها) استئناف بياني لعدم قدرتهم على تركها

أي: بالخيور الدنيوية والأخروية، فإن مجالسهم كانت مصونة عما لا يعنيهم من المباحات (فقال رسول الله: فإذا أبيتم إلا المجلس) مصدر ميمي بمعنى الجلوس، وعند البخاري إلا المجالس بالجمع، وأل فيه للعهد، والاستثناء فيه مفرغ: أي: إذا أبيتم سائر الأفعال إلا الجلوس في الطرقات، وفي رواية للبخاري: قال الحافظ: إنها لأكثر الرواة «فإذا أتيتم إلى المجالس» بالفوقية بدل الموحدة وبإلى التي للغاية بدل إلا، وفيه رواية «أبيتم إلا» بالموحدة وأداة الاستثناء للكشميهني، قال: وكذا وقع في الاستئذان وهو الصواب (فأعطوا الطريق حقه) أي: ما يطلب فيه من الآداب، وفي التعبير به إشارة إلى تأكد تلك الأمور والاهتمام بها والإضافة للملابسة (قالوا) قال الحافظ في «الفتح» : القائل هو أبو طلحة، وهو مبين في رواية مسلم، وحينئذٍ ففي إطلاق الجمع على الواحد مجاز وأنه من القائلين (وما حق الطريق) المطلوب ممن جلس فيه (قال: غض البصر) أي: كفه عن النظر (وكف الأذى) أي: الامتناع عن أذى المارة، وقال الحافظ في «فتح الباري» : أشار بالأول إلى السلامة من التعرّض للفتنة بمن يمرّ عليه من امرأة ونحوها، وبالثاني إلى السلامة من الاحتقار والغيبة وبقوله: ورد السلام إلى إكرام المار (والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) إلى استعمال جميع ما يشرع (متفق عليه) رواه البخاري في «المظالم» وفي الاستئذان، ورواه مسلم في الاستئذان واللبس، ورواه أبو داود في الأدب، كذا في «الأطراف» للمزي ملخصاً. قال العلقمي: زاد أبو داود في الخصال المطلوبة لمن جلس على الطريق إرشاد ابن السبيل، وتشميت العاطس إذا حمد. زاد سعيدبن منصور: وإغاثة الملهوف. زاد البزار: وأعينوا على الحمولة. زاد الطبراني: وأعينوا المظلوم واذكروا الله كثيراً. وفي حديث أبي طلحة: وحسن الكلام. وعند الترمذي: وأفشوا السلام، وعند الطبراني: وأهدوا الأغبياء والغبي بالمعجمة والموحدة. قال في «النهاية» : القليل الفطنة، ومجموع ما في هذه الأحاديث أربعة عشر وقد نظمها شيخنا في

أربعة أبيات فقال: جمعت آداب من رام الجلوس على الـ ــــطريق من قول خير الخلق إنساناً أفش السلام وأحسن في الكلام وشم ت عاطساً وسلاماً رد إحساناً في الحمل عاون ومظلوماً أعن وأغث لهفان هد سبيلاً واهد حيراناً بالعرف مروانه عن منكره وكف أذى وغض طرفاً وأكثر ذكر مولانا قلت: والأبيات للحافظ ابن حجر كما صرح به السيوطي في مرقاة الصعود، وليست للسيوطي كما قد يتوهم من قوله شيخنا، ولعله شيخ شيخنا، فحذف شيخ من القلم أو من الكاتب. وفي حديث مالكبن التيهان زيادة: وأرشدوا الأعمى. رواه إسحاقبن راهويه وابن أبي شيبة، ومدار سنديهما على موسىبن عبيد الربذي وهو ضعيف، كذا في «مختصر إتحاف المهرة» للأبوصيري تلميذ الحافظ زين الدين العراقي. 191 - و (الثامن: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى) أي: أبصر (خاتماً) فيه لغات جمعها الحافظ ابن حجر في قوله: خذ نظم عدّ لغات الخاتم انتظمت ثمانياً ما حواها قط نظام خاتام خاتم ختم خاتم وختا م خاتيام وخيتوم وخيتام والهمز مع فتح خاء تاسع وإذا شاع القياس أتم العشر خاتام واقتصر المصنف في «شرح مسلم» على أربع منها فتح التاء وكسرها وخيتام وخاتام، وجعل الحافظ الأخيرة في النظم بطريق القياس وكلام المصنف المذكور يخالفه (من ذهب في يد رجل) لم أقف على اسمه وراجعت «المبهمات» للمصنف فما تعرض له ولا في «شرح مسلم» (فنزعه فطرحه) فيه إزالة المنكر باليد للقادر عليها (وقال) محذراً من ذلك معيناً لعظم إثمه (يعمد أحدكم إلى جمرة من نار) الأولى حمل مثله مما ورد في الكتاب أو السنة ولا يحيله العقل على ظاهره أي: أن هذا الخاتم قطعة نار في الآخرة، وإنه محمول على المجاز: أي: يئول بلابسه لعظيم إثمه على أن يجعل النار في محله، لأن الجزاء يكون على قدر الذنب وحسبه (فيجعلها في يده) أي: في أصبعه مجاز مرسل من إطلاق الكل وإرادة الجزء

كقوله تعالى: {يجعلون أصابعهم في آذانهم} (البقرة: 19) والمجعول الأنملة لا الأصبع كله. ولما كانت زينتها زينة لليد عبر به. قال وفي هذا التصريح بأن النهي عن خاتم الذهب للتحريم اهـ. قلت: قد يؤخذ منه أنه من الكبائر لشدة الوعيد فيه وكذلك معيارها على الصحيح (فقيل: للرجل بعد ما ذهب رسول الله) أي: انصرف من المجلس (خذ خاتمك) وقوله: (انتفع به) استئناف لبيان علة الأخذ: أي: ببيع أو هبة أو جعله لمن يحل له استعماله من امرأة (فقال لا وا لا آخذه أبداً وقد طرحه رسول الله) . قال المصنف: هذا منه فيه المبالغة في امتثال أمر النبي واجتناب نهيه وعدم الترخص فيه بالتأويلات الضعيفة، وهذا الرجل ترك خاتمه على سبيل الإباحة لمن أراد أخذه من الفقراء أو غيرهم وحينئذٍ يجوز أخذه لمن شاء، فإذا أخذه جاز تصرفه ولو كان صاحبه أخذه لم يحرم عليه الأخذ والتصرف فيه بالبيع وغيره، ولكن تورّع عن أخذه وأراد الصدقة به على من يحتاج إليه لأن النبي لم ينهه عن التصرف فيه بكل وضع وإنما نهاه عن لبسه، وبقي ما سواه من تصرفه على الإباحة اهـ. (رواه مسلم) في اللباس. وفي مختصر إتحاف المهرة عن سالم عن رجل من قومه من أشجع قال: «دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليّ خاتم من ذهب، فأخذ جريدة فضرب بها في كفي فقال: اطرح هذا، فطرحته ثم دخلت عليه بعد ما ألقيته فقال لي: ما فعل الخاتم؟ قلت طرحته، قال: لم آمرك أن تطرحه إنما أمرتك أن تنتفع به ولا تطرحه» رواه أبو بكربن أبي شيبة وابن حنبل اهـ. قلت: وهو قريب من الحديث المذكور في مسلم. 192 - (التاسع: عن أبي سعيد الحسن) بن بشار (البصري) بتثليث الموحدة منسوب إلى البصرة الأنصاري مولاهم زيدبن ثابت، وقيل: مولى جميلبن قطبة، وأمه اسمها خيرة مولاة لأم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها. ولد الحسن لسنتين بقيتا من خلافة عمربن الخطاب قالوا: فربما خرجت أمه في شغل فيبكي فتعطيه أم سلمة ثديها فيدرّ عليه فيرون تلك الفصاحة من ذلك. رأى طلحةبن عبيد الله وعائشة ولم يصح له سماع منهما. وقيل: إنه

لقي عليبن أبي طالب، وأيده الشيخ ابن حجر الهيتمي في «معجمه» ، وقيل: يصح وعليه جرى جمهور المتأخرين. قال المصنف في «التهذيب» : روينا عن الفضيلبن عياض قال: سألت هشام ابن حسان: كم أدرك الحسن من أصحاب رسول الله؟ قال: مائة وثلاثين، قلت: وابن سيرين؟ قال: ثلاثين. وروينا عن الحسن قال: غزونا غزوة إلى خراسان معنا فيها ثلاثمائة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث. ولم يصح للحسن سماع من أبي هريرة، ومن حكم الحسن ما ذكره الشافعي في «المختصر» في قول الله عزّ وجل: {وشاورهم في الأمر} (آل عمران: 159) قال الحسن: كان غنياً عن مشاورتهم، ولكن أراد أن يستنّ به الحكام بعده، وقال في قوله تعالى: {ففهمناها سليمان} (الأنبياء: 79) لولا هذه الآية لرأيت الحكام هلكوا، أثنى على هذا بصوابه وعلى هذا باجتهاده اهـ. ومن كلامه كما في «أحاسن المحاسن» : يابن آدم إنك لا تصيب حقيقة الإيمان حتى لا تعيب الناس بعيب هو فيك حتى تبدأ بصلاح ذلك العيب من نفسك، فإذا فعلت ذلك لم تصلح عيباً إلا وجدت عيباً آخر، فإذا فعلت ذلك كان شغلك في خاصة نفسك، وأحبّ العباد إلى الله من كان كذلك (أن عائذ) بالعين المهملة وبعد الألف همزة بعدها معجمة (ابن عمرو) بن هلال المزني، أبا هبيرة البصري، صحابي شهد الحديبية وبايع تحت الشجرة (رضي الله عنه) وهو أخو رافعبن عمرو، وتوفي في ولاية عبيد ابن زياد سنة إحدى وستين. قال ابن الأثير: كان عائذ من صالحي الصحابة، سكن البصرة وابتنى بها داراً، وتوفي بها في إمارة عبيد ابن زياد أيام يزيدبن معاوية، وأوصى أن يصلي عليه ابن زياد، وروى عنه الحسن ومعاويةبن قسرة وعامر الأحول وغيرهم اهـ: قال الذهبي في «التهذيب» : روى حشرجبن عبد ابن حشرجبن عائذ المزني عن أبيه عن جده أن عائذبن عمرو كان يركب السروج المنمرة ويلبس الخزّ لا يرى بذلك بأساً، وقد زوّج في غزاة واحدة أربعين رجلاً من مزينة كل امرأة على ألف وصيف. قال ثابت البناني: أوصى عائذ أن يصلي عليه أبو برزة الأسلمي وذلك في إمرة عبيد ابن زياد اهـ. وكذا قال ابن الجوزي في «المستخرج» المليح وزاد: قال ابن حزم في آخر سيرته: روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية أحاديث أخرج له الشيخان ثلاثة أحاديث: أحدها للبخاري موقوف عليه، وآخران لمسلم وشاركهما عنه النسائي (دخل علي عبيد ا) بضم المهملة وفتح الموحدة وسكون التحتية (ابن زياد) ابن أبيه (فقال) يعظه (أي) بفتح فسكون: حرف لنداء القريب (بنيّ) بضم الموحدة

وفتح النون وتشديد التحتية مفتوحة ومكسورة، وقد بينت وجههما في باب ما يقول إذا دخل بيته من «شرح الأذكار» ، وأتي به من باب الرفق في الوعظ ليسمع ويمتثل (إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول) : جملة في محل الحال على حكاية الحال الماضية (إن شر الرعاء) بكسر الراء والمد، ويقال بضمها وبالهاء بعد الألف بدل الهمز جمع راع (الحطمة) بضم المهملة الأولى وفتح الثانية. قال المصنف: قالوا هو العنيف في رعيته لا يرفق بها في سوقها ومرعاها بل يحطمها في ذلك وفي سقيها، وغيره: ويزحم بعضها ببعض بحيث يؤذيها ويحطمها (فإياك) منصوب على التحذير (أن نكون منهم) فتهوى بتلك المذمة (فقال) ابن زياد (له) أي: لعائذ (اجلس فإنما أنت من نخالة) بضم النون وبعدها معجمة (أصحاب رسول الله) النخالة هنا استعارة من نخالة لدقيق وهي قشوره وهي والحتافة والحسافة بمعنى واحد (فقال) عائذ مستبعداً أن يكون في الصحابة من يستعار لهم النخالة التي لا يعبأ بها (وهل كانت فيهم) أي: الصحابة (نخالة) وهم الذين اختارهم الله لصحبة نبيه وشرّفهم باقتباس أنواره. وإذا سخر الإله أناساً لسعيد فكلهم سعداء (إنما كانت النخالة) أي: السقط (بعدهم) أي: بعد قرنهم (وفي غيرهم) أما هم فكلهم سادة قادة يكفيك في فضلهم حديث «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» ولا يضرّ ضعفه لأنه يعمل به في هذا المقام (رواه مسلم) في «المغازي» . 193 - (العاشر: عن حذيفة) بن اليمان (رضي الله عنه عن النبي قال: والذي نفسي بيده) أتي به لتأكيد الأمر بعده، والقسم يسن لمثل ذلك (تأمرنّ) بضم الراء والفاعل ضمير لجماعة

محذوف بعدها لالتقاء الساكنين والضم دليل عليه، والخطاب لأمة الموجودين حقيقة ومن سيأتي بطريق التبع (بالمعروف) شرعاً (ولتنهون) بضم واو الجماعة ولام الفعل محذوف قبلها لالتقاء الساكنين والفتح دليل عليه ولم تقلب واو الضمير ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها لعروض حركتها (عن المنكر أو) عاطفة: أي: ليكون أحد الأمرين: إما امتثال ما أمرتم به من الأمر والنهي، أو وقوع ما أنذرتم به في قوله: (ليوشكنّ ا) بضم التحتية مضارع أوشك من أفعال المقاربة (أن يبعث عليكم عقاباً منه) بجور الولاة أو تسليط العداة أو غيره من البلاء (ثم تدعونه) برفع ذلك (فلا يستجاب لكم) لكون الحكمة الإلهية جعلته جزاء لما فرطتم فيه من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفيه أن المنكر إذا لم ينكر عمّ شؤمه وبلاؤه فاعله وغيره، وتقدم حديث «أنهلك وفينا الصالحون» وأن إنكاره على قدر ما يتمكن منه دافع لذلك (رواه الترمذي) في «الفتن» (وقال حديث حسن) . 194 - (الحادي عشر: عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي قال: أفضل الجهاد) من الفضل زيادة الثواب (كلمة عدل) أي: حق (عند سلطان) أي: ذي أمر (جائر) سيأتي شرحه في الحديث بعده (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن) قال السيوطي في «الجامع الصغير» : ورواه أحمد وابن ماجه والطبراني والبيهقي من حديث أبي أمامة وأحمد والترمذي والبيهقي في الشعب أيضاً عن طارقبن شهاب. 195 - (الثاني عشر: عن أبي عبد الله طارق) بمهملة أوله وبعد الألف راء مهملة بعدها قاف (ابن شهاب) بكسر المعجمة أوله وآخره موحدة، ابن عبد شمس أو عبد الله (البجلي) بفتحتين

نسبة إلى بجيلة، وتقدم بيانها في ترجمة جرير البجلي في باب النهي عن البدع (الأحمسي) بالمهملتين نسبة لأحمسبن الغوثبن أنماربن أرءاسبن عمروبن الغوثبن كهلان. قال الحازمي: وإلى أحمس هذا ينسب جماعة من الصحابة والتابعين (رضي الله عنه) أدرك الجاهلية وصحب النبي، وغزا في زمن أبي بكر وعمر ثلاثاً وثلاثين أو ثلاثاً وأربعين غزوة. روى عن الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة، سكن الكوفة. وتوفي سنة اثنتين وقيل: سنة ثلاث وثمانين. روي له في أبي داود والنسائي أحاديث عن النبي عد منها الحافظ المزي في «الأطراف» خمسة، وسادساً رواه ابن مسعود عن النبي (أن رجلاً سأل النبي وقد وضع رجله في الغرز) جملة حالية من مفعول سأل كما هو المتبادر (أيّ الجهاد أفضل؟) أي: أكثر ثواباً (قال كملة حق) وفي نسخة «كلمة عدل» أي: من أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ردّ عن محترم من نفس أو مال أو نحو ذلك (عند سلطان جائر) وإنما كان أفضل الجهاد لأنه يدل على كمال يقين فاعله وقوة إيمانه وشدة إيقانه حيث تكلم بتلك الكلمة عند ذلك الأمير الجائر المهلك عادة بجوره وظلمه ولم يخف منه ولا من جوره وبطشه، بل باع نفسه من الله وقدم أمر الله وحقه على حق نفسه، وهذا بخلاف المجاهد للقرن فإنه ليس في المخاطرة كمخاطرة من تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر (رواه النسائي) في البيعة والمنشط (بإسناد صحيح) رواه عن إسحاقبن منصور عن ابن مهدي عن سفيان عن علقمةبن مرثد عنه به قاله المزي في «الأطراف» (الغرز) المذكور في الحديث (بغين معجمة مفتوحة ثم راء ساكنة ثم زاي وهو) لغة (ركاب كور الجمل) أي: محل الركوب من الكور. في «الصحاح» : الكور بالضم الرحل بأداته جمعه أكوار وكيران (إذا كان من جلد أو خشب، وقيل: لا يختص بجلد وخشب) بل هو الكور مطلقاً مثل الركاب للسرج.

196 - (الثالث عشر: عن) عبد الله (بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إن أول ما دخل النقص) ما مصدرية: أي: أول دخوله (على بني إسرائيل) في دينهم (أنه) أي: الشأن (كان الرجل يلقى الرجل) الفاعل معصية (فيقول) معطوف على يلقى (يا هذا اتق ا) أي: اجعل امتثال أمره واجتناب نهيه وقاية لك من عذابه (ودع) اترك (ما تصنع) من المعاصي (فإنه) أي: ما تصنعه (لا يحل لك) لكونه من المحرمات (ثم يلقاه من الغد وهو على حاله) في المعصية (فلا يمنعه ذلك) أي: وجدان صاحبه ملازماً على المحرمات التي نهى عنها من (أن يكون أكيله) أي: مواكله (وشريبه) أي: مشاربه (وقعيده) أي: مقاعده: أي لا يمنعه ملازمة صاحب لما نهاه الله عنه وحرمه عليه من مصاحبته ومداخلته ومباسطته وهو مأمور بمهاجرته حينئذٍ وترك ولائه إلا أن خاف محذوراً فيداريه ولا يباسطه ويداخله (فلما فعلوا ذلك) المذكور، وأتى فيه باسم الإشارة الموضوع للبعيد تفخيماً لما أتوا به وتشيعاً له، أو لأن اللفظ لما لم يبق زمانين صار كالبعيد فأشير إليه بما يشار به إلى البعيد (ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال) مستدلاً على عموم اللعنة لجميعهم بقوله تعالى: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسىبن مريم} قال أبو حيان في «النهر» : قال ابن عباس: لعنوا بكل لسان على عهد موسى في التوراة وعلى عهد داود في الزبور وعلى عهد عيسى في الإنجيل ولعن مبنى للمفعول حذف فاعله فيجوز أن يكون الفاعل غيره تعالى كالأنبياء، والمراد باللسان الجارحة لا اللغة أي الناطق بلعنتهم هو لسان داود وعيسى (ذلك) أي: اللعن كائن (بما عصوا) أي: بسبب عصيانهم، وذكر هذا على سبيل التوكيد، وإلا فقد فهم سبب اللعنة بإسنادها إلى من تعلق بهذا الوصف الدالّ على العلية وهو {الذين كفروا} تقول كما رجم الزاني، فتعلم أن سبب رجمه الزنى، كذلك اللعن سببه الكفر، ولكن أكد بذكره ثانياً في قوله: {بما عصوا} أو ما مصدرية أي بعصيانهم

( {وكانوا يعتدون} ) يجوز أن يكون معطوفاً على عصوا فيكون داخلاً في صلة «ما» أي: بعصيانهم وكونهم معتدين ويجوز أن يكون إخباراً من الله تعالى أن شأنهم الاعتداء ( {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه} ) ظاهره التفاعل بمعنى الاشتراك: أي: لا ينهي بعضهم بعضاً، وذلك أنهم جمعوا بين فعل المنكر والتجاهر به وعدم النهي عنه والمعصية إذا فعلت وقدّرت على العبد ينبغي أن يسترها، فإذا فعلت جهرة وتواطئوا على عدم إنكارها أو ما في معناها مما ذكر عن بني إسرائيل في الخير كان ذلك تحريضاً على فعلها وسبباً مثيراً لإفشائها ( {لبئس ما كانوا يفعلون} ) تعجب من سوء فعالهم مؤكد باللام. قال في «الكشاف» : يا حسرة على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهي عن المنكر وقلة عنايتهم به، كأنه ليس من خلة الإسلام مع ما يتلون من كتاب الله تعالى وما فيه من المبالغات في هذا الباب (ترى) بصرية ويحتمل أن تكون قلبية ( {كثيراً منهم} ) أي: بني إسرائيل ( {يتولون الذين كفروا} ) قيل: المراد به كعببن الأشرف وأصحابه الذين استجاشوا المشركين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( {لبئس ما قدمت لهم أنفسهم} ) أي: لبئس سبباً قدموه ليردوا عليه يوم القيامة ( {أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون} ) هو المخصوص بالذم، والمعنى موجب سخط الله والخلود في العذاب أو علة الذم، والمخصوص محذوف: أي: لبئس شيئاً ذلك لأن كسبهم السخط والخلود كذا في البيضاوي تبعاً «للكشاف» . وتعقبه في الإعراب الأول في «النهر» بأنه لا يأتي على مذهب سيبويه من أن «ما» معرفة تامة بمعنى الشيء فعليه فالجملة بعد صفة للمخصوص المحذوف والتقدير: ولبئس الشيء شيئاً قدمت لهم أنفسهم فيكون على هذا «أن سخط» في موضع رفع على البدل من المخصوص المحذوف أو على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي: هو أن سخط ( {ولو كانوا يؤمنون با والنبي} ) يعني نبيهم. وإن كانت الآية في المنافقين فالمراد نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ( {وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء} ) إذ الإيمان الصحيح يمنع ذلك ( {ولكن كثيراً منهم} ) من ذلك الكثير ( {فاسقون} ) خارجون عن دينهم أو تمردوا في النفاق: أي: وقليل منهم قد آمن (ثم قال) : (كلا) حقا (وا لتأمرنّ) بضم الراء (بالمعروف) شرعاً (ولتنهونّ) بفتح الهاء وضم واو الجمع الفاعل (عن المنكر) شرعاً (ولتأخذنّ) بضم الذال

دليلاً على الواو المحذوفة لالتقاء الساكنين (على يد الظالم) بمنعه باليد من الظلم، وإن عجزتم فباللسان (ولتأطرنه) بكسر الطاء وضم الراء: أي: لتردنه (على الحق) أداء وأخذاً (أطرا) بفتح الهمزة وأصل الأطر العطف. قال في «النهاية» : ومن غريب ما يحكى فيه عن نفطويه أنه قال بالظاء المعجمة من باب ظأر، ومنه الظئر المرضعة، وجعل الكلمة مقلوبة فقدم الهمزة على الظاء (ولتقصرنه على الحق) أداء وأخذاً (قصراً) أي: لتحبسنه عليه حبساً وتمنعنه من مجاوزته: أي: ليكونن منكم ما ذكر (أو ليضربنّ الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم) فأو لأحد الأمرين: أي: ليكونن منكم ما أمرتم به، أو ليكونن منكم ما حذرتم منه عند عدم فعل ذلك (رواه أبو داود) في «الملاحم» (والترمذي) في «التفسير» وابن ماجه في «الفتن» (وقال) أي: الترمذي (حديث حسن هذا) اللفظ المذكور (لفظ) رواية (أبي داود) فالإضافة إليه للملابسة (ولفظ) رواية (الترمذي) من حديث ابن مسعود (فقال) أي: ابن مسعود (قال رسول الله: لما) وجودية (وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم) عنها (فلم ينتهوا) عنها فكان على العلماء هجرهم وبغضهم فيه فلم يفعلوا ذلك بل حالفوهم كما قال (فجالسوهم في مجالسهم وآكلوهم بالمد وشاربوهم) أي: جلسوا معهم وأكلوا وشربوا (فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم) أبعدهم (على لسان داود) بن إيشا (وعيسىبن مريم ذلك) المذكور من اللعنة وضرب القلوب بعضها ببعض (بما عصوا وكانوا يعتدون) تقدم نظيره وظاهر جريانه هنا وظاهر أنه على تقدير كون «وكانوا» خارجاً عن صلة «ما» فيكون من كلام النبي لبيان أن الاعتداء وصفهم وشأنهم (فجلس رسول الله) تعظيماً للأمر الصادر منهم وتنبيهاً على فخامة شأنه ليتوجه إليه السامع (وكان متكئاً) يحتمل أن يكون على تكاة وأن يكون على مرفقه والجملة حالية بتقدير قد (فقال لا) أي: لا يكفي مجرد النهي باللسان مع القدرة على المنع باليد والقصر على الحق (والذي

نفسي بيده) أي: بقدرته (حتى تأطروهم) أي: العصاة (على الحق أطراً. قوله تأطروهم) بالهمز وكسر الطاء المهملة (أي: تعطفوهم) وأصل: الأطر العطف (ولتقصرنه) بضم الصاد المهملة (أي لتحبسنه) والقصر: الحبس ومنه قوله تعالى: {حور مقصورات في الخيام} (الرحمن: 72) . 197 - (الرابع عشر: عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا أيها الناس) بضم السين إتباعاً للفظ: أي بتشديد الياء وهي وصلة لنداء ما فيه أل والناس اسم جنس وهو من ألفاظ العموم إذا حلى بأل كما هنا (إنكم تقرءون هذه الآية) ثم بينها بقوله: ( {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم} ) أي: وتتوهمون منها أن الإنسان إذا فعل ما أمر به وترك ما نهي عنه في نفسه ورأى غيره بضد ذلك فلم يأمره ولم ينهه لا حرج عليه وليس كذلك، وفي رواية زيادة «وتضعونها على غير موضعها» (وإني سمعت رسول الله) كذا في النسخ بالواو وفي «المصابيح» : «فإني» بالفاء، قال العاقولي: الفاء فيه فصيحة تدل على محذوف كأنه قال: إنكم تقرءون هذه الآية وتجزون على عمومها وليس كذلك، فإني سمعت رسول الله (يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم) يفعل الظلم ومنه المعصية (فلم يأخذوا على يديه) بأن يمنعوه من ذلك باليد إن قدروا وإلا فباللسان، فإن عجزوا بأن خافوا على نفس محرمة أو مال أو أن يقع المنكر عليه في منكر أشد مما أراد فعله فلا حرج عليهم؛ فقوله: (أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه) يقع على الظالم لظلمه وعلى غيره لإقراره عليه وقد قدر على منعه، أما المعذور فلا يتناوله بفضل اهذا المحذور {لا يكلف الله نفساً إلا

24 ـــ باب تغليظ عقوبة من أمر بمعروف أو نهي عن منكر وخالف قوله

وسعها} (البقرة: 44) والجملة خبر إن، والآية على هذا البيان عامة شاملة جميع الناس فيجب العمل بذلك. قال العاقولي: والقول الصحيح أن الآية ليست مخالفة لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ المعنى: لا يضركم تقصير غيركم بعد سماع ذلك منكم فقد أديتم الواجب عليكم اهـ (رواه أبو داود) في «الملاحم» (والترمذي) في «الفتن» (والنسائي) في «التفسير» وابن ماجه في «الفتن» (بأسانيد صحيحة) قال المزي: رواه أبو داود عن وهببن منبه عن خالد الطحان وعن عمروبن عوف عن هشيم كلاهما عن إسماعيلبن أبي خالد الطحان عن قيسبن أبي حازم عن الصديق، ورواه الترمذي في «الفتن» عن أحمدبن منيع ومحمدبن بشار فرفعهما كلاهما عن يزيدبن هارون عن إسماعيل نحوه وقال: هكذا روى غير واحد نحو حديث يزيد، ورفعه بعضهم ووقفه بعضهم، وأعاد حديث ابن منيع في «التفسير» عن عقبةبن عبد الله عن ابن المبارك وابن ماجه في «الفتن» عن أبي بكر ابن أبي شيبة عن عبد ابن نمير وأبي أسامة ثلاثتهم عن إسماعيل نحوه اهـ. فمدار سند الحديث عند الثلاثة الذين ذكرهم المصنف على إسماعيل فإسناد الحديث واحد، ولعل قول المصنف الأسانيد بالنسبة لأصحاب الكتب الثلاثة إلى إسماعيل، والله أعلم. 24 - باب تغليظ عقوبة من أمر بمعروف أو نهي عن منكر وخالف قوله بالرفع (فعله) بالنصب أي كان أمره مخالفاً لفعله، ويجوز العكس. (قال الله تعالى) عما لا يليق بشأنه علوّاً كبيراً معيراً لليهود قال في «النهر» : وبنو

إسرائيل وإن كانوا المخاطبين بالآية إلا أنها عامة في المعنى ( {أتأمرون الناس} ) استفهام توبيخ وتقريع (بالبرّ) فعل الخير من صلة رحم وإحسان وطاعة الله تعالى ( {وتنسون أنفسكم} ) تتركونها من ذلك البرّ ( {وأنتم تتلون الكتاب} ) تقرءونه عالمين بما انطوى عليه فكيف امتثلتموه بالنسبة إلى غيركم وخالفتموه وأنتم تتلونه، وهي حالية أبلغ من المفرد، والكتاب: التوراة والإنجيل وفيهما النهي عن هذا الوصف الذميم ( {أفلا تعقلون} ) تنبيه على أن ما صدر منهم خارج عن أفعال العقلاء، إذ مركوز في العقل أن الإنسان إذا لم يحصل مصلحة نفسه كيف يحصل لغيره ولاسيما مصلحة يكون فيها نجاته، والفاء للعطف وكان الأصل تقديمها لكن الهمزة لها صدر الكلام فقدمت على الفاء، هذا مذهب سيبويه والنحاة. وذهب الزمخشري إلى أن الفاء واقعة موضعها ويقدر بين الهمزة والفاء فعلاً يصح العطف بالفاء عليه، وحكم الواو وثم حكم الفاء فيما ذكر. وقد رجع الزمخشري في بعض تصانيفه إلى موافقة الجماعة اهـ من النهر ملخصاً. (وقال تعالى) : ( {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون} ) قال البيضاوي: روي أن المسلمين قالوا: لو علمنا أحبّ الأعمال إلى الله لبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا، فأنزل الله تعالى {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله} فولوا يوم أحد فنزلت. ولم مركبة من لام الجر وما الاستفهامية، والأكثر على حذف ألفها مع حرف الجر لكثرة استعمالهما معاً واعتناقهما في الدلالة على المستفهم عنه ( {كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} ) المقت: أشد البغض وهو نصب على التمييز للدلالة على أن قولهم لهذا مقت خالص كبير عند من يحقر دونه كل عظيم مبالغة في المنع عنه. (وقال تعالى إخباراً) مخبراً (عن شعيب) بن منكيلبن يشجببن مدينبن إبراهيم الخليل (صلى ا) على نبينا و (عليه) وعلى سائر النبيين (وسلم) وفيه الصلاة على كل نبي، وقد ورد مرفوعاً «صلوا على

أنبياء الله فإنهم أرسلوا كما أرسلت» رواه الطبراني وما ذكرته من نسب شعيب هو ما نقله المصنف في «التهذيب» عن الثعلبي عن عطاء وغيره. وقال ابن الجوزي في «شذوذه» : هو شعيببن عنقاءبن بويببن مدينبن إبراهيم ( {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} ) أي: وما أريد أن آتي بما أنهاكم عنه لأستبد به، فلو كان صواباً لأثرته ولم أعرض عنه فضلاً عن أني أنهي عنه، يقال خالفت زيداً إلى كذا: إذا قصدته وهو مولّ عنه، وخالفته عنه: إذا كان الأمر بالعكس. 1981 - (وعن أبي زيد أسامةبن زيدبن حارثة) الصحابي ابن الصحابي ابن الصحابي (رضي الله عنهما) الأولى عنهم لما ذكر من أن جدّه صحابي أيضاً وقد تقدم التنبيه على ذلك في باب الصبر (قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يؤتى بالرجل) أل فيه للجنس (يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه) أي: تخرج أمعاؤه من جوفه، والاندلاق بالقاف: خروج الشيء من مكانه (فيدور) ذلك الرجل (بها) أي: فيها (كما يدور الحمار في الرحى) كأنه أراد أن الرجل يدور فتلتف عليه أمعاؤه فيبقى هكذا يدور وهي تدور عليه عبرة ونكالاً، والأظهر أن المراد أنه يدور بسبب ألم خروجها منه حوله دوران الحمار حول الرحى بسببها، اللهم ربنا قنا عذاب النار (فيجتمع إليه أهل النار) أي: الذين بها ونسبتهم إليها باعتبار هذه الملابسة متعجبين من دخوله النار وقد كان يأمرهم بما يبعدهم منها (فيقولون: يا فلان) كناية عن اسمه (مالك؟) مبتدأ وخبر (ألم تك تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟) ومن شأن الآمر أن يفعل ما يأمر به والناهي أن يترك ما نهى عنه، وفعل المعروف وترك المنكر مانع بالوعد الذي لا يخلف عن دخول النار (فيقول بلى) جواب عن قولهم ألم تك الخ، وبين المقتضى لحلوله بالنار بقوله: (كنت آمر بالمعروف ولا آتية، وأنهى عن المنكر وآتيه) فشدد عليه الأمر لعصيانه مع العلم المقتضي للخشية والمباعدة عن المخالفة، وا غالب على

25 ـــ باب الأمر بأداء الأمانة إلى صاحبها

أمره، ولا حول ولا قوّة إلا با (متفق عليه) رواه البخاري في صفة النار وفي «الفتن» ، ورواه مسلم في آخر الكتاب. (قوله تندلق هو بالدال المهملة: ومعناه تخرج، والأقتاب) بالقاف والفوقية وبعد الألف موحدة (الأمعاء) جمع معي (واحدها) أي: مفردها (قتب) قال العاقولي: بكسر القاف وسكون الفوقية هذا قول الكسائي فيما نقله عنه الجوهري قال: قال أبو عبيدة: القتب ما انحوى من البطن وهي الحوايا، وأما الأمعاء فهي الأقصاب اهـ. 25 - باب الأمر بأداء الأمانة إلى صاحبها (قال الله تعالى) : {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} ) قال في «النهر» بعد أن نقل أن سبب نزول الآية قصة مفتاح الكعبة. وعن ابن عباس وغيره: نزلت في الأمراء وأن يؤدوا الأمانة فيما أئتمنهم الله من أمر رعيته. ومناسبتها لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر وعد المؤمنين وذكر عمل الصالحات نبه على هذين العملين الشريفين اللذين من اتصف بهما كان أحرى أن يتصف بغيرهما من الأعمال الصالحة: فأحدهما ما يختص به الإنسان فيما بينه وبين غيره وهو أداء الأمانة. والثاني ما يكون بين اثنين من الفصل بينهما بالحكم العدل الخالي عن الهوى، وهر من الأعمال العظيمة التي أمر الله بها رسله وأنبياءه والمؤمنين. ولما كانت الترتيب الصحيح أن يبدأ الإنسان بنفسه في جلب المصالح ودفع المضار ثم يشتغل بحال غيره، أمر بأداء الأمانة ثم بعده بالأمر بالحكم بالحق. (وقال تعالى) : {إنا عرضنا الأمانة} ) قال في «النهر» : الظاهر أنها كل ما يؤمن عليه من أمر ونهي وشأن

من دين ودنيا، فالشرع كله أمانة والظاهر عرض الأمانة أي الأوامر والنواهي ( {على السموات والأرض والجبال} ) فتثاب إن أحسنت وتعاقب إن أساءت ( {فأبين أن يحملنها وأشفقن منها} ) وذلك بإدراك خلقه الله تعالى فيها وهو غير مستحيل، إذ قد سبح الحصى في كفه، وحنّ إليه الجذع، وكلمته الذراع، فيكون العرض والإباء والإشفاق على هذا حقيقة. قال ابن عباس: أعطيت الجمادات فهما وتمييزاً فخيرت في الحمل وذكر الجبال مع أنها من الأرض لزيادة قوتها وصلابتها تعظيماً للأمر، وقيل: المراد الإشارة إلى كمال عظمها وأنها بحيث لو عرضت على هذه الأجرام العظام وكانت ذات شعور وإدراك لأبين أن يحملنها وأشفقن منها (وحملها الإنسان) مع ضعف بنيته ورخاوة قوته، لا جرم فإن لاراعي لها والقائم بحقوقها بخير الدارين (إنه كان ظلوما) وصفه به لكونه تاركاً أداء الأمانة (جهولاً) بكنه عاقبتها. وفي الآية وجوه أخر ذكر بعضها القاضي البيضاوي. 1991 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: آية) بالمد. واختلف في وزنها على ستة أقوال تقدم في شرح خطبة الكتاب أنه ذكرها ابن الصائغ في «شرح البردة» : أي: علامة (المنافق) أي: علامة نفاقه الدالّ على قبح نيته وفساد طويته (ثلاث) أي: خصال، وأفرد الآية على إرادة الجنس، أو أن العلامة إنما تحصل باجتماع الثلاث، ويؤيد الأول أنه جاء في «صحيح أبو عوانة» «علامات المنافق ثلاث» . فإن قيل: ظاهر الحديث الحصر في الثلاث، وقد جاء في الحديث الآخر «أربع من كنّ فيه كان منافقاً خالصاً» . فالجواب ما قاله القرطبي: لعله تجدد له من العلم بخصالهم ما لم يكن عنده. وقال الحافظ العسقلاني: لا منافاة بين الخبرين لأنه لا يلزم من عدّ الخصلة كونها علامة، على أن في رواية لمسلم في حديث أبي هريرة ما يدل على عدم الحصر، فإن لفظه: من علامة المنافق ثلاث، فيكون أخبر ببعضها في وقت وببعضها في وقت آخر (إذا حدث كذب) الجملة خبر بعد خبر أو بدل مما قبله بدل مفصل من مجمل بتقدير سبق العطف على الإبدال وهذه الخصلة أقبح الثلاث

(وإذا وعد) يخير (أخلف) أي: لم يف وبوعده. ووجه المغايرة بين هذه وما قبلها أن الإخلاف قد يكون بالفعل وهو غير الكذب الذي هو وصف القول، ثم محله فيمن عزم على الخلف حال الوعد، أما لو عزم على الوفاء حال الوعد ثم شنعته الأقدار من ذلك فلا يكون فيه آية النفاق نقله السيوطي وغيره، ولا يلزم مما ذكر وجوب الوفاء بالوعد، لأن ذم الإخلاف إنما هو من حيث تضمنه الكذب المذموم لأنه عزم على الإخلاف في حال الوعد على أن علامة النفاق لا يلزم تحريمها، إذ المكروه لكونه يجر إلى الحرام يصح أن يكون علامة على الحرام، ونظيره أشراط الساعة فإن منها ما ليس بمحرم (وإذا أؤتمن خان) وخص هذه الخصال بالذكر لاشتمالها على المخالفة التي عليها مبني النفاق من مخالفة السرّ العلن. والكذب الإخبار على خلاف الواقع، وحق الأمانة أن تؤدي إلى أهلها والخيانة مخالفة لها، والإخلاف في الوعد ظاهر ولذا صرح بأخلف (متفق عليه) روياه في كتاب الإيمان ورواه الترمذي والنسائي. (وفي رواية) هي لمسلم فقط (وإن صام وصلى) أي: وإن عمل عمل المؤمنين من الصوم والصلاة وغيرهما من العبادات، وهذا الشرط اعتراض بين الآيات المجملة ومفسرها المفصل وارد للمبالغة لا يستدعي الجواب، وتسمى إن فيه وصلية والواو الداخلة عليها قيل حالية، وعليه جرى السعد التفتازاني في المطول، وقيل: عاطفة. وفي رواية «وإن صلى وصام وحج واعتمر وقال إني مسلم» (وزعم أنه مسلم) أي: كامل الإسلام. قال القرطبي: ظاهر الحديث أن من كانت فيه عدة الخصال الثلاث صار في النفاق الذي هو الكفر الذي قال فيه مالك: النفاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الزندقة عندنا اليوم، وليس الأمر على مقتضى هذا الظاهر لما قررناه أول كتاب الإيمان: أي: من أن المعاصي لا تخرج الإنسان عن الإيمان. ولما استحال حمل هذا الحديث على ظاهره على مذهب أهل السنة اختلف العلماء فيه على أقوال: فقيل المراد من النفاق نفاق العمل: أي صفاتهم الفعلية. ووجه ذلك أن من فيه هذه الصفات كان ساتراً لها ومظهراً لنقائضها صدق عليه اسم منافق. أو قيل الحديث محمول على من غلبت عليه هذه الخصال واتخذها عادة ولم يبال بها تهاوناً واستخفافاً بأمرها، فإن من كان هكذا كان فاسد الاعتقاد غالباً فيكون منافقاً.

وقيل: إن هذه الخصال كانت علامة المنافق في زمنه، فإن أصحاب النبيّ كانوا مجتنبين لهذه الخصال بحيث لا تقع منهم ولا تعرف فيما بينهم، وبهذا قال ابن عباس وابن عمرو، روي عنهما ذلك في حديث «أنهما أتيا يسألانه عن هذا الحديث فضحك النبي وقال: مالكم ولهن إنما خصصت بهن المنافقين أنتم من ذلك برآء» ذكر الحديث بطوله القاضي عياض، قال: وإلى هذا صار كثير من التابعين والأئمة اهـ. 2002 - (وعن حذيفةبن اليمان) بضم المهملة وفتح المعجمة وسكون التحتية بعدها فاء كما تقدم مع ترجمته (رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثين) يعني في الأمانة وإلا فروايات حذيفة كثيرة، وعنى بالحديثين قوله: حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال والثاني قوله: ثم حدثنا عن رفع الأمانة (قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر) وقوع (الآخر) الأول من الحديثين (حدثنا أن الأمانة) قال المصنف: الظاهر أن المراد بها التكليف الذي كلف الله به عباده والعهد الذي أخذه عليهم وهي التي في قوله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة} وقال صاحب «التحرير» : هي عين الإيمان، فإذا استمكنت من قلب العبد قام حينئذٍ بأداء التكاليف واغتنم ما يرد عليه منها وجد في إقامتها (قد نزلت) بالفطرة (في جذر) سيأتي ضبطه ومعناه في الأصل (قلوب الرجال) أي: في أصلها (ثم نزل القرآن) شفاء من أدواء الجهل مزيحاً لظلم الشبه (فعلموا) أي: علموها (من القرآن) بآية {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض} (وعلموا) أي: علموها (من السنة) بالحديث المذكور.u والحاصل أن الأمانة كانت لهم بحسب الفطرة وحصلت لهم أيضاً بطريق الكسب من الكتاب والسنة (ثم حدثنا) هو الحديث الثاني كما تقدم (عن رفع الأمانة) من العالم (فقال: ينام الرجل النومة) المرة من النوم (فتقبض الأمانة من قلبه) لسوء فعل منه تسبب عنه ذلك قال الله تعالى: {إن الله لا يغير ما يقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} (الرعد: 11) ويحتمل أن ذلك لانتهاء

مدتها فيالعالم (فيظل أثرها مثل الوكت) قال الهروي: هو الأثر اليسير، وعليه اقتصر المصنف فيما سيأتي. وقال غيره: هو سواد يسير، وقيل: هو لون يحدث مخالفاً للون الذي كان قبله (ثم ينام النومة فتقبض لأمانة) أي: أثرها التام المشبه بالوكت (من قلبه فيظل أثرها) الباقي (مثل أثر المجل) والمجل (كـ) أثر (جمر دحرجته على رجلك فنفط) بكسر الفاء، وذكر مع أن الرجل مؤنثة لإرادة العضو (فتراه) أي: النفط (منتبراً) أي: مرتفعاً افتعال من النبر الارتفاع، ومنه المنبر: ويجوز كون الظرف بدلاً من قوله: «مثل أثر المجل» وخالف بين لفظي أداة التشبيه تحاشياً عن نقل التكرار وجملة (وليس فيه شيء) حالية (ثم) قصد بيان كيفية دحرجة الجمر على الرجل وتنفطها منه فـ (أخذ حصاة فدحرجه على رجله) . قال المصنف: هكذا وقع في أكثر الأصول فدحرجه وهو صحيح: أي: دحرج المأخوذ. وفي رواية «فأخذ حصى فدحرجه» قال المصنف: هكذا ضبطناه وهو ظاهر، وما سلكته من أن الوكت ثم المجل هنا الأثران الباقيان من أثر الأمانة هو ظاهر اللفظ، لكن قال صاحب «التحرير شرح مسلم» : معنى الحديث أن الأمانة تزول عن القلوب شيئاً فشيئا، فإذا زال أول جزء منها زال نوره وخلفه ظلمة كالوكت وهو أعراض لون مخالف اللون الذي قبله، فإذا زال شيء آخر صار كالمجل وهو أثر محكم لا يكاد يزول إلا بعد مدة، وهذه الظلمة فوق التي قبلها ثم شبه زوال ذلك النور بعد وقوعه في القلب وخروجه بعد استقراره فيه واعتقاب الظلمة إياه بجمر يدحرجه على رجله حتى يؤثر فيها ثم يزول الجمر ويبقى النفط وأخذه الحصاة ودحرجته إياها أراد به زيادة البيان والإيضاح والله أعلم، وما فسرناه به أظهر والعلم عند الله تعالى (فيصبح الناس) بعد تلك النومة التي رفع فيها الأمانة (يتبايعون فلا يكاد) أي: يقارب (أحد) منهم (يؤدي الأمانة) فضلاً عن أدائها بالفعل (حتى) غائية (يقال) لعزة هذا الوصف وشهرة ما تيصف به (إن في بني فلان رجلاً أميناً) ذا أمانة (حتى يقال للرجل ما أجلده) على العمل (ما أظرفه) من الظرف (ما أعقله) أي: ما أشد يقظته وفطانته (وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان) فضلاً عن الأمانة التي هي من شعبه (ولقد أتى عليّ)

بتشديد التحتية (زمان وما أبالي أيكم بايعت) المراد المبايعة المعروفة ونقل عياض وصاحب «التحرير» أن المراد عقد بيعة الخلافة وغيرها من التحالف في أمور الدين قال المصنف: هذا خطأ من قائله. وفي الحديث مواضع تبطله، منها قوله: ولئن كان يهودياً أو نصرانياً، ومعلوم أن اليهودي والنصراني لا يعاقد على شيء من أمور الدين اهـ والجملة حالية، وعائد أي محذوف، أي: لا أبالي بالذي بايعته لعملي بأن الأمانة لم ترتفع وأن في الناس وفاء بالعهد، فكنت أقدم على مبايعة من لقيت غير باحث عن حاله وثوقاً بالناس وأمانتهم فإنه وا (لئن كان مسلماً ليردنه) بفتح الدال (عليَّ دينه) لما يحمله على أداء الأمانة لأهلها وترك الخيانة (وإن كان نصرانياً أو يهودياً) ليس عنده من الإيمان ما يحمله على أداء الأمانة لأهلها (ليردنه عليَّ ساعيه) أي: الوالي عليه: أي يقوم بالأمانة فيستخرج حقي منه (وأما اليوم) فقد ذهبت الأمانة إلا القليل فلذا قال: (فما كنت أبايع منكم إلا فلاناً وفلاناً) يعني أفراداً أعرفهم وأثق بهم. قال الكرماني: إن قلت رفع الأمانة ظهر في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما وجه قول حذيفة: وأنا أنتظر الثانية. قلت: المنتظر هو الرفع بحيث يبقى أثرها مثل المجل ولا يصح الاستثناء بمثل فلاناً وفلاناً، وهذا الحديث من أعلام النبوة (متفق عليه) رواه البخاري في «الرقاق» و «الفتن» والاعتصام، ورواه مسلم في «الإيمان» ، ورواه الترمذي وابن ماجه في «الفتن» كذا في «الأطراف» للمزي (قوله: جدر بفتح الجيم) قال المصنف: وكسرها لغتان. قال القاضي عياض: مذهب الأصمعي في الحديث فتح الجيم وأبو عمرو بكسرها وإسكان الذال المعجمة مع الوجهين في الجيم (وهو أصل الشيء، والوكت) بوزن الفلس (بالناء المثناة الأثر اليسير، والمجل: بفتح الميم وإسكان الجيم وفتحها لغتان حكاهما صاحب «التحرير» والمشهور الإسكان فلذا اقتصر عليه المصنف هنا، يقال مجلت يده بكسر الجيم تمجل بفتحها مجلاً بفتحها أيضاً ومجلت بفتح الجيم تمجل بضمها مجلاً بإسكانها لغتان مشهورتان وأمجلها غيره. قال أهل اللغة والغريب: المجل (تنفط في اليد ونحوها من أثر عمل) بفأس أو نحوها وتصير كالقبه فيه ماء قليل. (قوله

منتبراً) اسم فاعل: أي: مرتفعاً (قوله ساعيه: الوالي عليه) . 2013 - (وعن حذيفة وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله: يجمع) بالبناء للفاعل ومرجع الضمير هو الله تعالى وقد صرح به في نسخة، وقوله: (تبارك) أي: بارك (وتعالى) علواً معنوياً عما لا يليق بشأنه جملة في محل الحال و (الناس) مفعول: بجمع أي: يجمعهم بعد البعث بأرض المحشر (فيقوم المؤمنون) أي: دون الكفار، ويحتمل أن يكون معهم المنافقون ثم يميزوا عند المرور على الصراط (حتى تزلف) بضم الفوقية وسكون الزاي وفتح اللام: أي: تقرب (لهم الجنة) قال تعالى: {وأزلفت الجنة للمتقين} (فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا استفتح لنا الجنة) أي: اسأل لنا من الله فتحها لندخلها (فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم) . قال المصنف في باب إثبات الشفاعة من «شرح مسلم» : اعلم أن العلماء من أهل الفقه والأصول وغيرهم اختلفوا في جواز المعاصي على الأنبياء. وقد لخص القاضي عياض مقاصد المسألة فقال: لا خلاف أن الكفر عليهم بعد النبوة ليس بجائز بل هم معصومون منه. واختلف فيه قبل النبوة والصحيح أنه لا يجوز؛ وأما المعاصي فلا خلاف أنهم معصومون من كل كبيرة. واختلف هل ذلك بطريق العقل أو الشرع؟ فقال الأستاذ أبو إسحاق ومن معه: ذلك ممتنع من متقضى دليل المعجزة. وقال القاضي أبو بكر الباقلاني ومن وافقه: ذلك من طريق الإجماع. وذهب المعتزلة إلى أن ذلك من طريق العقل، وكذلك اتفقوا على أن كل ما كان طريقه الإبلاغ في القول فهم معصومون فيه على كل حال. أما ما كان من طريق الإبلاغ في الفعل فذهب

بعضهم إلى العصمة فيه رأساً وأن السهو والنسيان لا يجوز عليهم فيه، وتأولوا أحاديث السهو في الصلاة، وهذا مذهب الأستاذ أبي المظفر الإسفراييني من أئمتنا الحراسانيين المتكلمين وغيره من مشايخ المتصوفة. وذهب بعض المحققين وجماهير العلماء إلى جواز ذلك ووقوعه منهم وهذا هو الحق، ثم لا بد من تنبيههم عليه وذكرهم إياه إما في الحين على قول جمهور المتكلمين، وإما قبل وفاتهم على قول بعضهم ليبينوا حكمه قبل انخرام مدتهم وليصح تبليغهم ما أنزل إليهم، وكذا لا خلاف أنهم معصومون من الصغائر التي تزري بفاعلها أو تحط منزلته أو تسقط مروءته. واختلفوا في وقوع غيرها من الصغائر؛ فذهب جماعة من أهل التحقيق والنظر من الفقهاء والمتكلمين من أئمتنا إلى عصمتهم من الصغائر كعصمتهم من الكبائر، فإن منصب النبوة يجلّ عن مواقعتها وعن مخالفة الله عمداً، وتكلموا على الآيات والأحاديث الواردة في ذلك وتأولوها، وأن ما ذكر عنهم في ذلك إنما هو فيما كان منهم عن تأويل أو سهو أو من غير إذن من الله تعالى في أشياء أشفقوا من المؤاخذة بها وهذا المذهب هو الحق، وأنه لو صح منهم ذلك لم يلزمنا الاقتداء بأفعالهم وإقرارهم وكثير من أقوالهم، ولا خلاف في الاقتداء بذلك، وإنما اختلاف العلماء في أنه واجب أو مندوب أو مباح أو يفرق بين القرب وغيرها. قال القاضي: وقد بسطنا القول في هذا الباب في كتاب «الشفاء» وبلغنا فيه المبلغ الذي لا يوجد في غيره، وتكلمنا على الظواهر في ذلك بما فيه كفاية اهـ. قلت: وقد ألف في عصمة الأنبياء وتأويل الآيات الظاهرة في خلاف ذلك الصابوني البخاري كتاباً حافلاً (لست بصاحب ذلك) أي: لست صاحب التشريف بهذا المقام المنيف. قال القاضي عياض: هذا المنقول عن آدم وغيره من الأنبياء يقولونه تواضعاً وإكباراً بما يسألونه. وقد يكون فيه إشارة إلى أن هذا المقام ليس له بل لغيره، وكل واحد منهم يدل على الآخر حتى ينتهي الأمر إلى صاحبه، ويحتمل أنهم علموا أن صاحبها محمد معيناً وتكون إحالة كل واحد منهم على الآخر على تدريج الشفاعة في ذلك إلى نبينا. قال: وفيه تقديم ذوي الأسنان والآباء على الأبناء، والحكمة في إلهامهم سؤال آدم والبدء به ثم من بعده واعتذار كل بأنه ليس أهل ذلك ليظهر كمال شرفه على سائر الرسل، إذ لو جاءوا إليه وأجابهم وأجيب لهم لم يظهر كمال التمييز إذ كان احتمال أن هذا الأمر له ولغيره من الرسل، فلما تأخر كل عن ذلك وتقدم هو له علم أنه السيد المقدم (اذهبوا إلى نبي الله إبراهيم خليل الرحمن) أصل الحلة الاختصاص والاستصفاء، وقيل: أصلها الانقطاع إلى من خاللت، مأخوذة من الخلة: الحاجة؛ تسمى إبراهيم بذلك لأنه قصر حاجته على الله

تعالى. وقيل: الحلة صفاء المودة التي توجب تخلل الأسرار؛ وقيل: معناه المحبة والإلطاف، هذا كلام القاضي عياض. قال المصنف: وقال ابن الأنباري: معناه المحبّ الكامل المحبة والمحبّ الموفي بحقيقة المحبة اللذان ليس في حبهما نقص ولا خلل. قال الواحدي: هذا القول هو الاختيار لأن الله عزّ وجلّ خليل إبراهيم وإبراهيم خليلالله، ولا يجوز أن يقال الله تعالى خليل إبراهيم من الخلة التي هي الحاجة، والله أعلم (فيقول إبراهيم: لست بصاحب ذلك) المقام (وإنما كنت خليلاً من وراء وراء) قال المصنف: قال صاحب «التحرير» : هذه كلمة تذكر على سبيل التواضع: أي: لست بتلك الدرجة الرفيعة. وقد وقع لي فيه معنى مليح: هو أن معناه أن المكارم التي أعطيتها كانت بسفارة جبريل (اعمدوا) اقصدوا (إلى موسى فإنه كلمه الله تكليماً) فحصل له السماع بلا واسطة، وكرّر وراء لكون نبينا حصل له السماع بغير واسطة وحصل له الرؤية فقال إبراهيم: أنا وراء موسى الذي هو وراء محمد، هذا كلام صاحب «التحرير» . قال المصنف: وأما ضبط وراء وراء فالمشهور فيه الفتح بلا تنوين، ويجوز عند أهل العربية بناؤهما على الضم، وقد جرى في كلام بين الحافظ أبي الخطاببن دحية والإمام أبي اليمن الكندي، فرواه ابن دحية بالفتح وادعى أنه الصواب. وأنكره الكندي وادعى أن الضم هو الصواب ولذا قال أبو البقاء: الصواب الضم لأن التقدير من وراء ذلك أو من وراء شيء آخر. قلت: قال القرطبي: الأولى بنيت على الضم لقطعها عن الإضافة لفظاً، وأما الثانية فيحتمل أن تكون كالأولى على تقدير حذف «من» لدلالة الأولى عليها: ويحتمل أن يكون الثانية تأكيداً لفظياً للأولى، ويجوز أن تكون بدلاً منها أو عطف بيان اهـ. قال: فإن صح الفتح قبل، وتكون الكلمة مؤكدة كشذر مذر وسقطوا بين بين فركبهما وبناهما على الفتح فإن ورد منصوباً منوّناً جاز جوازاً جيداً. قال المصنف: ونقل الجوهري عن الأخفش أنه يقال: لقيته من وراء، مرفوع على الغاية كقولك من قبل ومن بعد، قال الشاعر: إذا أنا لم أومن عليك ولم يكن لقاؤك إلا من وراء وراء بضمها، والله أعلم. وقال القرطبي في «المفهم» : صحيح الرواية فيه بالمد والفتح في الهمزتين، ونقل عن أصل شيخه أبي الصبر أيوب أنه من وراء وراء، بتكرير وراء وفتح الهمزة فيهما. قال: قد اعتنى بهذا الكتاب يعني صحيح مسلم أتم الاعتناء قال:

وحينئذٍ فيحتمل أن وراء قطعت عن الإضافة ولم يقصد قصد مضاف بعينه فصارت كأنها اسم علم وهي مؤنثة، قال الجوهري: إنها مؤنثة لأنهم قالوا في تصغيرها ورية، وعلى هذا فهمزتها ليست للتأنيث ولأن ألف التأنيث لا تقع ساكنة اهـ (فيأتون موسى فيقول: لست بصاحب ذلك) المقام (اذهبوا إلى عيسى) قال البيضاوي في «التفسير» : عيسى معرّب أيسوع، وجعله مشتقاً من العيس وهو بياض تعلوه حمرة تكلف لا طائل تحته (كلمة ا) بفتح فكسر على الأفصح، وأطلق ذلك على عيسى لأنه وجد بأمره تعالى وهو قوله: «كن» دون أب، فشابه البدعيات التي هي عالم الأمر ذكره البيضاوي. وقال الحافظ ابن حجر: قيل: له ذلك إشارة إلى أنه حجة الله على عباده إذ أوجده من غير أب وأنطقه في غير أوان وأحيا الموتى على يده وقيل: سمي كلمة الله لأنه أوجده بقوله: «كن» فلما كان بكلامه سمي به كما يقال سيف الله وأسدالله، وقيل: لما قال في صغره {إني عبد ا} (مريم: 30) اهـ. (وروحه) قيل: سمي بذلك لأنه يحيي الأموات أو القلوب، وقيل: إنه على تقدير مضاف، والمعنى: أنه ذو روح من الله عزّ وجلّ لا بتوسط ماء يجري مجرى الأصل والمادة له (فيقول عيسى) أي: بعد أن يأتوا إليه ويسألوه ذلك. ففي الكلام مطوي يدل عليه السياق (لست بصاحب ذلك) المقام والباء مزيدة للتأكيد (فيأتون محمداً) أي: لدلالة عيسى عليه الصلاة والسلام لهم على ذلك كما جاء في الروايات الأخرى، ففيه مطوي دلّ عليه ما تقدم، وثم مطويّ أيضاً تقديره: فيقولون يا رسول الله استفتح لنا الجنة مثلاً أو اشفع لنا في الإراحة من طول المواقف كما جاء في الروايات الأخرى (فيقوم) أي: إلى تحت العرش ويسجد تحته ويفتح عليه بمحامد يحمد الله بها حينئذٍ لم يفتح عليه بها قبل (فيؤذن له) في الشفاعة (وترسل) بضم الفوقية أوله مبيناً للمجهول (الأمانة والرحم) بفتح الراء وكسر المهملة: أي: القرابة التي تطلب صلتها شرعاً (فيقومان) بالمثناة الفوقية (جنبتي الصراط) بفتح الجيم وسكون النون وفتح الموحدة والفوقية: أي: جانبيه. قال المصنف وإرسالهما لعظم أمرهما وكبر موقعهما فيصوران شخصين على الصفة التي يريدها الله تعالى. قال: وقال صاحب «التحرير» : في الكلام اختصار والسامع فهم أنهما يقومان ليطالبا من يريد الجواز بحقهما (فيمر

أولكم) أيها المخاطبون، والمراد الأمة وهم أولها وأولاها بالفضل (كالبرق) أي: كمرّ البرق (قال) أي: أحد الروايين عن النبي (بأبي وأمي) أي: أنت مفدى بهما (أي شيء كمرّ البرق) أي: ما معناه وكيف سرعته (قال ألم تروا) بفتح التاء تبصروا (كيف يمرّ) أي: آتيا (ويرجع) آتيا (في طرفة عين) أي: وقوع الجفن على الجفن المسمى برمش البصر وهو زمن يسير جداً. وفي «الصحاح» : وطرف بصره بطرف طرفاً: إذا أطبق أحد جفنيه على الآخر الواحدة من ذلك طرفة، يقال أسرع من طرفه عين اهـ. وفي «الكشاف» في قوله تعالى: {أنا آتيك به قبل يرتدّ إليك طرفك} (النمل: 40) ويجوز أن يكون هذا مثالاً لاستقصار مدة المجيء به كما تقول لصاحبك افعل ذلك في لحظة وفي ردة طرف وما أشبه ذلك تريد السرعة، وفي «تفسير البيضاوي» وهذا غاية في الإسراع وملل فيه اهـ (ثم) للتراخي في الرتبة أي ثم الفرقة التي تلي الفرقة الأولى (كمر الريح ثم) الفرقة التالية لها (كمرّ الطير وأشد الرجال) بالجيم جمع راجل قال: هو الصحيح المعروف المشهور. ونقل القاضي أنه في رواية ابن ماهان بالحاء. قال القاضي: وهما متقاربان في المعنى، وشدها: عدوها البالغ وجريها (تجري بهم أعمالهم) قال المصنف: هو كالتفسير لقوله: «فيمر أولكم كالبرق» والمعنى: أنكم في سرعة السير على حسب المراتب والأعمال (ونبيكم) لكمال شفقته ومزيد عنايته بنا معشر أمته (قائم على الصراط) لتنجو به أمته من المخاوف وتصرف به عنها أنواع المكاره والمتالف (يقول) لما في المرور على الصراط من الأحوال وزلّ بعض الأقدام، وهو حال بناء على مجيئه من المبتدأ وهو ما عليه سيبويه، أو خبر بالجملة بعد الخبر بالمفرد، ويجوز أن يكون استئنافاً بيانياً جواباً لسؤال تقديره ما يكون منه حال قيامه يومئذٍ فأجيب بقوله يقول (ربّ) حذف حرف النداء لأن المقام لعظم هو له مقام الإيجاز. وفي رواية لمسلم في حديث آخر في المعنى «ودعوى الرسل يومئذٍ اللهم» (سلم سلم) ولعله تارة يقول ربّ وتارة يقول اللهم سلم سلم. وفي نسخة: ربّ سلم بإعادة لفظ ربّ قال المصنف: فيه أن الدعاء يكون بحسب المواطن فيدعو في كل موطن بما يليق به. وسلم بفتح أوله المهمل وتشديد

اللام المسكورة (حتى تعجز) بكسر الجيم (أعمال العباد) بالمتخلفين عن الإسراع في الصراط: أي: تضعف أعمالهم الصالحة عن سرعة المرور بهم عليه فيبطئون في السير وحيت في الخبر غائبة: أي يتفاوت الإسراع بحسب تفاوت الأعمال إلى أن تصل لمرتبة عجز الأعمال عن الإسراع بصاحبها، لكن فيها قوة حمله على السير وإلى أن تضعف فوق ذلك كما قال: (وحتى يجيء الرجل لا يستطيع السير) أي: على الصراط (إلا زحفاً) لفقد قوة العمل الحاملة على السير، والمراد من الزحف السير على الإست. قال السيوطي في «الدرر» : زحف الرجل انسحب على إسته اهـ. قلت: وفي رواية لمسلم «حتى يمرّ آخرهم يسحب سحباً» (وفي حافتي الصراط) بتخفيف الفاء أي جانبيه (كلاليب) جمع كلوب بفتح الكاف وضم اللام المشددة وهو حديدة معقوفة الرأس يعلق عليها اللحم ويرسل في التنور. وقال صاحب «المطالع» : هي خشبة في رأسها عقافة حديد، وقد تكون حديداً كلها ويقال لها أيضاً كلاب اهـ (معلقة) أي: بالصراط (مأمورة بأخذ من أمرت) بالبناء للمفعول ونائب الفاعل يعود إلى الكلاليب و (به) متعلق بأمرت يحتمل أن يكون على حقيقته بأن خلق لها إدراك وأمرت بأخذ من أمرت به. ويحتمل أن يكون على تصغيرها لأخذ من يؤخذ بها، ثم الواو في «وفي حافتي» يحتمل أن تكون واو الحال، ويحتمل العطف/ «ومعلقة مأمورة» الظاهر أنهما مرفوعان صفة لكلاليب، وكذا هو مضبوط في الأصل ولو نصبا على الحال المترادفة أو المتداخلة لجاز لتخصيص الكلاليب بتقديم خبرها الظرف إلا أن صحت الرواية بالرفع (فمخدوش) أي: بشيء مما يعلق به في الصراط (ناج) أي: من النار، وهو بمعنى قوله في الروايات الأخرى: «ومخدوش مرسل» فالمراد نجاته من العذاب الذي حل فيه قسيمه المذكور في قوله (ومكردس في النار) . الله وقال المصنف: كذا وقع في هذا الحديث «مكردس» بالراء ثم الدال المهملتين، والذي في باقي الروايات مكدوس بضم الدال المهملة بعدها واو قال: وهو قريب من معنى المكردس «ومكردس» بالسين المهملة في الأصول ومعناه كون الأشياء بعضها على بعض، ومنه تكردست الدابة في سيرها: إذا ركب بعضها بعضاً. ونقل القاضي عياض هذه الرواية عن أكثر الرواة ثم قال: ورواه العذري بالشين المعجمة ومعناه السوق (والذي نفس أبي هريرة بيده) أي: بقدرته وإرادته، وهذا مدرج من كلام أبي هريرة متصل

بآخر الحديث، وجواب القسم (إن قعر جهنم لسبعون خريفاً) . قال المصنف في «شرح مسلم» : هو في الأصول بالواو، وهذا ظاهر وفيه حذف وتقديره: إن مسافة قعر جهنم سير سبعين خريفاً. ووقع في معظم الأصول والروايات لسبعين بالياء وهو صحيح أيضاً؛ أما على مذهب من يحذف المضاف ويبقي المضاف إليه على جره فيكون التقدير: سير سبعين خريفاً، وأما على أن قعر مصدر يقال قعرت الشيء: إذا بلغت قعره، ويكون «سبعين» ظرف زمان وفيه خبر إن: التقدير: إن بلوغ قعر جهنم لكائن في سبعين خريفاً. والخريف سنة اهـ. قلت: وهو فيما وقفت عليه من نسخ الرياض بالياء التحتية وقد علمت وجهه، وسيأتي إن شاء الله تعالى في كتاب الصيام نكتة تسمية السنة بالخريف (رواه مسلم) في آخر كتاب الإيمان من «صحيحه» وانفرد به البخاري وأصحاب السنن (قوله) في الحديث (وراء وراء هو بالفتح فيهما) على أنهما ظرفان ركبا فبنيا على الفتح تخفيفاً، ومثله قول العرب: هو يأتينا صباح مساء، وأما وجه النصب والتنوين اللذين قال فيهما المصنف إن وردت بهما الرواية جاز جوازاً جيداً فهو أن كلاً منهما ظرف (وقيل بالضم بلا تنوين) بناء على أنه من أسماء الغايات لحذف المضاف إليه ونية معناه (ومعناه لست بـ) صاحب (تلك الدرجة الرفيعة) وتقدم بسط الكلام في ذلك. قال صاحب «التحرير» : (وهي كلمة تذكر على سبيل التواضع) : أي: لست بتلك الدرجة (وقد بسطت معناها في شرح صحيح مسلم) وقد قدمته عنه وذيلته بفوائد عن القرطبي (والله أعلم) . 2024 - (وعن أبي خبيب: «بضم الخاء المعجمة» ) أي: وفتح الموحدة وسكون التحتية بعدها موحدة كنية عبد ابن الزبير، كني: بأكبر أولاده. قال العلقمي في «حاشية الجامع الصغير» : وله ثلاث كنى ذكرها البخاري في التاريخ وآخرون: أبو خبيب، وأبو بكر، وأبو بكير بالتصغير

اهـ. وقال الحافظ ابن حجر، كان يكنيه بأبي خبيب من لا يريد تعظيمه، لأنه كني في الأول بكنية جده لأمه الصديق اهـ (عبد ابن الزبير) بضم الزاي وفتح الموحدة وسكون التحتية بعدها راء (ابن العوام) بن خويلدبن أسدبن عبد العزىبن قصي (القرشي الأسدي) المكي المدني الصحابي ابن الصحابي (رضي الله عنهما) أمه ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر الصديق، وأبوه الزبير أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وحواريّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجدته صفية عمة النبيّ ورضي الله عنها، وعمة أبيه حذيجة بنت خويلد أم المؤمنين، وخالته عائشة أم المؤمنين، وهو أول مولود ولد للمهاجرين إلى المدينة بعد الهجرة، وفرح المسلمون بولادته فرحاً شديداً لأن اليهود كانوا يقولون قد سحرناهم فلا يولد لهم فأكذبهم الله تعالى، وحنكه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتمرة لاكها، فكان ريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول شيء دخل جوفه، وكناه أبا بكر بكنية جده الصديق وسماه عبد الله باسمه، ولد بعد عشرين شهراً من الهجرة وقيل في السنة الأولى. وكان صوّاماً قوّاماً طول الليل، وصولاً للرحم، عظيم الشجاعة. بويع له بالخلافة لما مات يزيدبن معاوية وأطاعه أهل اليمن والحجاز والعراق وخراسان، وجدد عمارة الكعبة، وبقي في الخلافة إلى أن حصره الحجاجبن يوسف الثقفي بمكة أول ليلة من ذي الحجة سنة اثنتين وسبعين، وحجّ الحجاج بالناس ولم يزل محاصره إلى أن قتله شهيداً يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين، وقيل في نصف جمادى الآخر، وقيل سنة اثنتين وسبعين، والمشهور الأول، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة وثلاثون حديثاً، اتفقا على ستة، وانفرد مسلم بحديثين. فائدة: قال المصنف في «التهذيب» : عبد ابن الزبير هو أحد العبادلة الأربعة، وهم ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وابن عمروبن العاص، قاله أحمدبن حنبل وسائر المحدثين وغيرهم. قيل لأحمدبن حنبل: وابن مسعود؟ ليس هو منهم. قال البيهقي: لأنه تقدمت وفاته وهؤلاء عاشوا طويلاً حتى احتيج إلى علمهم، فإذا اتفقوا على شيء قيل هذا قول العبادلة، ويلحق بابن مسعود فيما ذكر سائر المسلمين بعبد الله من الصحابة وهو نحو مائتين وعشرين. وقول الجوهري في «صحاحه» ابن مسعود أحد العبادلة وأخرج ابن العاص غلط نبهت عليه لئلا يغترّ به اهـ. زاد في «المبهمات» له: وكيف يعارض بقوله قول الإمام أحمد وغيره اهـ. وفي العبادلة أقوال أخر ذكرها السخاوي في «شرح ألفية الحديث» ، قال: وممن جرى على عدّ ابن مسعود من العبادلة ابن هشام النحوي في «التوضيح» . قلت: لكن أول اللقاني عبارة «التوضيح» بما تنبو عنه عبارته. وحاصله أن مراده بالعبادلة المفهومون من تلك الأسماء لا

العبادلة المشهورون، قال: فلا يرد أن ابن مسعود ليس من العبادلة، تأمل (قال لما وقف الزبير يوم الجمل) أي: الوقعة المشهورة التي كانت بين عليبن أبي طالب ومن معه وبين عائشة ومن معها ومن جملتها الزبير، ونسبت الوقعة إلى الجمل لأن يعلىبن أمية الصحابي المشهور كان معهم، فأركب عائشة على جمل عظيم اشتراه بمائة دينار وقيل: بثمانين وقيل: بأكثر فوقف به في الصف، فلم يزل الذين معها يقاتلون حول الجمل حتى عقر الجمل فوقعت عليهم الهزيمة، وكان ذلك في جمادى الأولى أو الآخرة سنة ستّ وثلاثين. واسم ذلك الجمل عسكر (دعاني فقمت إلى جنبه) الفاء فيه عاطفة على محذوف: أي: فأجبته فأتيت فقمت إلى جانبه (فقال: يا بني) بكسر الياء المشددة وفتحها، ذكره المرادي في «شرح الخلاصة» ، وذكر المصنف في أواخر كتاب الأدب من «شرح مسلم» جواز إسكان الياء قال: وبالحركتين قرىء في السبع، وقرأ بعضهم بإسكانها وبني بضم الموحدة وفتح النون مصغر، وقد بسطت الكلام فيه في باب «ما يقول إذا دخل بيته» من «شرح الأذكار» (إنه لا يقتل) بالبناء للمفعول (اليوم إلا ظالم أو مظلوم) . قال ابن التين: لأنهم إما صحابي متأول فهو مظلوم، وإما غير صحابي قاتل لأجل الدنيا فهو ظالم. قال الكرماني: إن قيل جميع الحروب كذلك. فالجواب أنها أول حرب وقعت بين المسلمين. قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن تكون «أو» للشك من الراوي، وأن الزبير إنما قال أحد اللفظين أو للتنويع: أي لا يقتل اليوم إلا ظالم بمعنى أنه ظن أن الله يعجل للظالم منهم العقوبة أو لا يقتل اليوم إلا مظلوم، إما لاعتقاده أنه كان مصيباً وإما لأنه سمع ما سمع عليّ من الحديث المرفوع «بشر قاتل ابن صفية بالنار» رواه أحمد وغيره بإسناد صحيح، ووقع عند الحاكم من طريق أخرى في هذا الحديث مختصراً عن هشامبن عروة عن الزبير قال: «وا لئن قتلت لأقتلنّ مظلوماً، وا ما فعلت وما فعلت» يعني: أشياء من المعاصي، ثم كان خروج الزبير وطلحة وغيرهما من كبار الصحابة مع عائشة لطلب قتلة عثمان وإقامة الحدّ عليهم لا لقتال عليّ، لأنه لا خلاف أنه كان أحقّ بالإمامة من جميع أهل زمانة وكانت قتلة عثمان لجئوا إلى عليّ فرأى أنه لا يسلمهم للقتل حتى تسكن الفتنة وتجري الأمور على ما أحبّ، فكان ما جرى به القلم من الأمور التي قدرت فوقعت؛ ولذا قال الزبير لما رأى شدة الأمر وأنهم لا ينفصلون إلا عن قتال (وإني لا أراني) بضم الهمزة: أي لا أظنني (إلا سأقتل اليوم مظلوماً) . قال الحافظ ابن حجر: ويجوز فتحها بمعنى الاعتقاد، وذلك الأمر قد تحقق لأنه قتل غدراً بعد أن ذكّره

عليّ فانصرف عن القتال، فنام بمكان ففتك به رجل من بني تميم يقال له: ابن جرموز بضم الجيم والميم بينهما راء مهملة ساكنة وآخرى زاي، وكان ذلك بوادي السباع. وروى الحاكم من طريق متعددة أن علياً ذكرّ الزبير بأن النبيّ قال له: «لتقاتلنّ علياً وأنت له ظالم» فرجع لذلك منصرفاً (وإن من أكبر همي لديني) وفي رواية غثام: «انظر يا بني ديني فإنه لا أدع شيئاً أهمّ منه عليّ» (أفترى) أي: تظن (أن ديننا يبقى من مالنا شيئاً) قاله استكثاراً لما عليه وإشفاقاً من دينه. وفيه الوصية عند الحرب لأنها من أسباب الموت كركوب البحر (ثم قال: يا بنيّ بع ما لنا واقض) بهمزة وصل (ديني وأوصى بالثلث) أي ثلث ماله: أي الفاضل عن قضاء الدين (وثلثه) أي ثلث الثلث (لبنيه يعني لبني عبد ا) . قال الكرماني وتبعه الشيخ زكريا: أوصى بالثلث الفاضل مطلقاً وبثلث الثلث لحفدته أولاد عبد الله اهـ. وقال الحافظ: فسر وصيته: أي بالثلث وثلثه بقوله (قال) أي الزبير (فإن فضل) بفتح الضاد المعجمة أي بقي (من مالنا بعد قضاء الدين شيء فثلثه لبنيك) والثلث بضمتين. قال الحافظ: وضبطه بعضهم بتشديد اللام بصيغة الأمر من التثليث وهو أقرب. ووقع في المصابيح للدماميني: وأوصى بالثلث من ثلثه لبنيه، قال الدماميني: إنما أوصى بثلث الثلث لبني ولده عبد الله، فالضمير في بنيه عائد إليه، ثم بنى عليه استشكال قوله فإن فضل فثلثه لبنيك بأن مقتضاه صرف الثلث الفاضل لولده عبد الله، وسبق منه التصريح بأن الموصى به لهم ثلث الثلث. وأجاب بأن المراد فإن فضل بعد الدين شيء يصرف لجهة الوصية فثلثه لولدك اهـ. والذي شرح عليه الحافظ وأوصى بالثلث وثلثه بالواو (قال عبد ا) بن الزبير (فجعل يوصيني بدينه ويقول: يا بنيّ إن عجزت) بفتح الجيم أفصح من كسرها (عن قضاء شيء منه فاستعن عليه بمولاي) أي: با عزّ وجلّ وعنه كمال الوثوق بالمولى والاستعانة به في كل حال (فوا ما دريت) أي عرفت (ما أراد) أي: بقوله استعن عليه بمولاي، إذ هو يحتمل ما ذكر أولاً، ويحتمل ولاء الحلف وولاء العتاقة: أي بالذين أعتقهم ونحو ذلك، إذ لفظ المولى مشترك

بين عدة معان كالناصر وابن العم والمعتق والعتيق والحليف وقد ذكرها في «النهاية» (حتى قلت) مستفسراً (يا أبت) بكسر التاء الفوقية وفتحها (من مولاك؟ قال: ا) أي: الله مولاي فالخبر محذوف، ويجوز أن يكون المبتدأ محذوفاً ولفظ الجلالة خبر (قال) عبد الله (فوا ما وقعت في كربة) بضم الكاف وسكون الراء: الحزن الذي يأخذ بالنفس ويجمع على كرب (من) تعليلية، ويحتمل كونها للابتداء (دينه إلا قلت: يا مولى الزبير اقض عنه دينه فيقضيه) أي: يسهل ما يحصل به القضاء. وفيه أن من استعان بمولاه في الأمور فهو المعان (قال: فقتل) بالبناء للمجهول (الزبير ولم يدع) يترك (ديناراً ولا درهماً إلا أرضين) استثناء منقطع، وأرضين بفتح الراء قاله الدماميني فهو جمع أرض بسكونها جمع تكسير (منها الغابة) بغين معجمة وباء موحدة: أرض عظيمة شهيرة من عوالي المدينة. وقال الحافظ ابن حجر: كذا وقع فيه «منها» بالإفراد وصوابه «منهما» وهذا منه يقتضي أن أرضين مثنى أرض فيكون بسكون الراء وفتح الضاد، وبه يتعقب ضبط الدماميني بفتح الراء: فإن القول ما قالت حذام خصوصاً وقد ذكر الدماميني أنه في «المصابيح» لم يجد ما يستضيء به فيها مما يضبط به الروايات للغربة وفقد الكتب وأرباب الفن (وإحدى عشرة داراً بالمدينة ودارين بالبصرة) بتثليث الموحدة وإسكان الصاد وتحرك بفتحة وبكسرة كما في «القاموس» : وهو اسم لبلدة مشهورة مصّرها عمربن الخطاب (وداراً بالكوفة) بلدة معروفة مصّرها عمر أيضاً. قال المصنف في «التهذيب» : قيل سميت بذلك لاستدارتها، تقول العرب: رأيت كوفاناً وكوفة: للرمل المستدير، وقيل: لاجتماع الناس من قول العرب تكوّف الرمل: إذا ركب بعضه بعضاً، وقيل: لأن طينها خالطه حصى وكل ما كان كذلك فهو كوفة. قال الحازمي وغيره: ويقال للكوفة كوفان بضم الكاف وإسكان الواو آخره نون، وذكر ابن قتيبة في غريبه في كوفان ضم الكاف وفتحها (وداراً بمصر) ممنوع الصرف على الأفصح الذي جاء فيه القرآن للعلمية والتأنيث، وهي البلد المعروف، وحدها طولاً من برقة التي في جنوب البحر الرومي إلى أيلة، وعرضاً من مدينة أسوان وما سامتها من الصعيد الأعلى إلى رشيد وما حاذاها من مساقط النيل في البحر الرومي، سميت بذلك باسم من سكنها أولاً مصربن

ينصربن سامبن نوح. ثم بعد بيان مخلفات أبيه المستبعد بل الحال لولا إعانة الله برفع أسعارها قضاء ذلك الدين الكثير الذي عليه من ذلك استأنف مبيناً لوجه دين الزبير ولجمع ذلك القدر الذي عليه بقوله (وإنما كان دينه الذي كان عليه أنّ) بفتح الهمزة (الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه فيقول الزبير: لا) أي: لا أستودعه وذلك لما يعلم من نفسه من مزيد الكرم فيخشى أن ينفق لما تعوّده من الكرم من المال المودع عنده، وإن كان مثل ذلك لا يصدر منه لكنه سد الذريعة وقفل الباب من أصله، وأن ومعمولاها خبر كان الأولى واسم كان الثالثة ضمير يعود للرجل وخبره جملة يأتيه (ولكن هو سلف) بفتح أوليه: أي قرض، وقوله: (إني أخشى عليه الضيعة) أي: الضياع جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لعدوله عن قبول استيداعه إلى استسلافه، والضياع المتخوف يحتمل أن يكون خشية إنفاقه على مستحق لما اعتاده من الكرم كما تقدم وأن يكون باختلاس مختلس أو سرقة سارق، فيضيع على صاحبه لعدم ضمان الزبير حينئذٍ وقد وضعه في حرز مثله فأراد حفظ مال المستودع واستقراره في ذمته. وقال الحافظ: وكأن غرضه بذلك أنه كان يخشى على المال أن يضيع فيظن به التقصير في حفظه؛ فرأى أن يجعله مضموناً ليكون أوثق لصاحب المال وأبقى لمروءته. زاد ابن بطال: وليطيب ربح ذلك المال. وروى الزبيربن بكار أن كلاً من عثمان وعبد الرحمنبن عوف ومطيعبن الأسود وأبي العامربن الربيع وعبد ابن مسعود والمقدادبن عمرو أوصى إلى الزبيربن العوام (وما ولي إمارة) أي ولاية وهو بكسر الهمزة كذا ضبطه الشيخ زكريا في «تحفة القارىء» لكن في «مختصر القاموس» مصدر أمر علينا إمارة: إذا ولي مثلث الهمزة اهـ (قط) بفتح القاف وضم الطاء المهملة ظرف لاستغراق النفي فيما مضى (ولا جباية) بكسر الجيم: استخراج الأموال من مظانها كما في «النهاية» (ولا خراجاً) أي: خراج أرض، فلا ينافي ما رواه الزبيربن بكار، قال: كان للزبير ألف مملوك يؤدون إليه الخراج، وروى مثله يعقوببن سفيان من وجه آخر (ولا شيئاً إلا أن يكون في غزوة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو مع أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم) . قال الحافظ ابن حجر: مراده أن كثرة ماله ما حصلت من هذه الجهات المقتضية لظن السوء بأصحابها، بل كان كسبه الغنيمة ونحوها. قال الحافظ:

هو متصل بإسناد الحديث المذكور (قال عبد الله: فحسبت) بفتح السين المهملة وبباء موحدة وكان ذلك بعد موته شهيداً (ما كان عليه من الدين فوجدته ألفي ألف ومائتي ألف، فلقي حكيم) بالرفع فاعل وهو بفتح الحاء المهملة وكسر الكاف (ابن حزام) بكسر المهملة وبالزاي، وكل ما كان في قريش فهو بهذا الضبط، وما كان رسمه في نسب الأنصار بهذه الصورة فبفتح أوليه المهملين. قال المصنف في أول «شرح مسلم» : وحزامبن خويلدبن أسدبن عبد العزي فهو ابن عمر الزبير (عبد ابن الزبير فقال: يا ابن أخي) خاطبه بذلك لصغر سنه بالنسبة إليه، إذ كان لحكيم من العمر حينئذٍ نحو مائة عام وعبد الله نحو الأربعين (كم) استفهامية وتمييزها محذوف أي: كم ألفاً أو نحو ذلك (على أخي من الدين؟ فكتمته وقلت: مائة ألف) . قال ابن بطال: إنما كتمه لئلا يستعظم حكيم ما استدانه فيظن به عدم الحزم وبعبد الله عدم الوفاء بذلك فينظر إليه بعين الاحتياج إليه، فلما استعظم حكيم أمر مائة ألف كما قال عنه (فقال حكيم: وا ما أرى) بضم الهمزة: أي أظن (أموالكم تسع هذه) أي: الديون، احتاج عبد الله أن يذكر له الجميع ويعرفه أنه قادر على وفائه (فقال عبد الله: أرأيتك) بفتح التاء المثناة الفوقية: أي: أخبرني والكاف حرف خطاب أكد به الضمير (إن كانت) أي: الديون (ألفي ألف ومائتي ألف) . قال ابن بطال: ليس في قول مائة ألف وكتمانه ما فوقها كذب لأنه إخبار ببعض الواقع وسكوت عن الباقي وهو صادق. قال الحافظ: لكن من يعتبر بمفهوم العدد يراه إخباراً بغير الواقع، ولذا قال ابن التين في كتمان عبد الله ما كان على أبيه بعض تجوز اهـ. (قال: ما أراكم) بضم الهمزة: أي أظنكم ويجوز فتحها أي: ما أعتقدكم (تطيقون هذا، فإن عجزتم عن شيء منه فاستعينوا بي) . قال الحافظ ابن حجر: روى يعقوببن سفيان من طريق عبد ابن المبارك أن حكيمبن حزام بذل لعبد ابن الزبير مائة ألف إعانة له على وفاء دين أبيه فامتنع، فبذل له مائتي ألف فامتنع إلى أربعمائة ألف، ثم قال له: لم أرد منك هذا، ولكن تنطلق معي إلى عبد ابن جعفر، فانطلق به وبعبد ابن عمر يستشفع بهم، فلما دخلوا عليه قال: أجئت بهؤلاء تستشفع بهم

عليّ؟ هي لك: لا أريد ذلك، قال: فأعطني بها نعليك هاتين أو نحوهما، قال: لا أريد، قال: فهي عليك إلى يوم القيامة، قال لا قال: فحكمك، قال: أعطيك بها أرضاً، فقال نعم، فأعطاه فرغب فيها معاوية فاشتراها بأكثر من ذلك (قال: وكان الزبير قد اشترى الغابة بسبعين ومائة ألف، فباعها عبد الله بألف ألف وستمائة ألف) كأنه قسمها ستة عشر سهماً بدليل أنه قال بعد ذلك لمعاوية: إنها وقّمت كل سهم بمائة ألف (ثم قال فقال من كان له على الزبير شيء) أي: من الدين (فليوافنا بالغابة، فأتاه عبد ابن جعفر) أي: ابن أبي طالب (وكان له على الزبير أربعمائة ألف، فقال لعبد ا) أي ابن الزبير (إن شئتم تركتها لكم) أي آل الزبير: أي ورثته (فقال عبد ا) أي: ابن الزبير (لا) أي: لا نريد ذلك (قال: فإن شئتم جعلتموها فيما تؤخرون) من الديون (إن أخرتم) أي شيئاً منها (فقال عبد الله لا، قال: فاقطعوا) بفتح الطاء المهملة ووصل الهمزة وبقطع الهمزة وكسر الطاء أي: اجعلوا (لي قطعة) من الغابة فـ (ــــقال عبد ا) بن الزبير (لك من هاهنا إلى هاهنا) . قال العلقمي في حاشية «الجامع الصغير» : روي أن ابن الزبير قال لابن جعفر: أحبّ لا يحضرني وإياك أحد، فانطلق فمضي معه فأعطاه أرضاً خراباً وشيئاً لا عمارة فيه وقوّمه عليه، حتى إذا فرغ قال ابن جعفر لغلامه، ألق لي مصلى في هذا المكان، فألقاه في أغلظ موضع فصلى فيه ركعتين وسجد طويلاً يدعو، فلما قضى ما أراد من الدعاء قال لغلامه: احفر في موضع سجودي، فحفر فإذا عين فوّارة قد أنبطها، فقال له ابن الزبير: أقلني، فقال له: أما دعائي فقد أجابه الله ولا أقيلك، فصار ما أخذه أعمر مما في أيدي آل الزبير (فباع عبد الله منها) أي: الغابة والدور لا من الغابة وحدها لما تقدم أن الدين ألفا ألف ومائتا ألف فإنه باع الغابة بألفي ألف وستمائة ألف (فقضى عنه دينه) الذي كان التزم ابن الزبير بعد موت أبيه (وأوفاه) أصحابه (وبقي منها) أي: الغابة (أربعة أسهم ونصف فقدم على معاوية) أي: في خلافته كما جزم به الحافظ ابن حجر، وأن ذلك كان بعد مدة انتظار أرباب الديون وما اتصل به من تأخير

القسمة لاستبراء بقية من له دين (وعنده عمروبن عثمان) بن عفان (والمنذربن الزبير) بن العوام (وعبد ابن زمعة) بفتح الزاي وسكون الميم وبعدها مهملة (فقال له معاوية: كم قوّمت الغابة؟) برفع الغابة، فقومت مبني للمجهول ونصبها مع بنائه للمعلوم (فقال: كل سهم) بالرفع والنصب: أي: قوم أو قومت كل سهم (مائة) بالنصب على نزع الخافض: أي بمائة ألف (قال: كم بقي منها؟ قال: أربعة أسهم ونصف؟ فقال المنذر: قد أخذت منها سهماً بمائة ألف، وقال عمروبن عثمان: قد أخذت منها سهماً بمائة ألف، وقال عبد ابن زمعة: قد أخذت منها سهماً بمائة ألف، فقال معاوية: كم بقي) بكسر القاف (منها) كما في نسخة: أي: الغابة أو السهام الباقية وهو أقرب (فقال) أي: عبد ابن الزبير، ويحتمل أن يكون غيره (سهم ونصف) أي: الباقي ذلك فالمبتدأ محذوف أو بقي منها ذلك فيكون فاعل فعل مقدر (فقال: قد أخذته بخمسين ومائة ألف، قال) ابن الزبير (وباع عبد ابن جعفر نصيبه) من السهام في الغابة (من معاوية بستمائة ألف) فربح مائتي ألف (فما فرغ ابن الزبير من قضاء دينه) الذي عرفه وضبطه (قال بنو الزبير) وهم: عبد الله وعروة والمنذر وأمهم أسماء بنت أبي بكر، وعمر وخالد وأمهما بنت خالدبن سعيدبن العاص، ومصعب وحمزة وأمهما الرباب بنت أنيف، وعبيدة وجعفر وأمهما زينب بنت بشر وزينب وأمها أم كلثوم بنت عقبة وباقي أولاد الزبير ماتوا قبله (اقسم بيننا ميراثنا، قال: وا لا أقسم بينكم حتى أنادي بالموسم) بفتح الميم وكسر المهملة وسكون الواو بينهما (أربع سنين: ألا) بتخفيف اللام (من كان له دين على الزبير فليأتنا فلنقضه، فجعل كل سنة ينادي في الموسم) أي بقوله: «من كان له دين

على الزبير فليأتنا نقضه» .Y قال الحافظ ابن حجر: ومثل هذا يتوقف على إجازة جميع الورثة، وإلا فمن طلب القسمة بعد وفاء الدين الذي وقع العلم به وصمم على ذلك أجيب إليها ولم يتربص به انتظار شيء يتوهم، فإذا ثبت دين بعد ذلك استعيد منه بقدره. والذي يظهر أن ابن الزبير إنما اختار التأخير أربع سنين لأن المدن الواسعة التي يؤتى الحجاز من جهتها إذ ذاك كانت أربعاً: اليمن والعراق والشام ومصر، فبنىٍ على أن كل قطر لا يتأخر أهله في الغالب عن أكثر من ثلاثة أعوام فيحصل استيعابهم في مدة الأربع، ومنهم في طول المدة من يبلغ الخبر من وراءهم من الأقطار، واختار الموسم لأنه يجمع الناس من الآفاق (فلما مضى أربع سنين) فيه تجوّز لأنه إن عد موسم سنة ست وثلاثين فلم تؤخر ذلك إلا ثلاث سنين ونصفاً وإن لم يعده فقد أخر ذلك أربع سنين ونصفاً ففيه إلغاء الكسر أو جبره (قسم) بعد الدين الوصية (بينهم ودفع الثلث) أي الموصى به (وكان للزبير أربع نسوة) أي: مات عنهن وهن أم خالد والرباب وزينب قيل: وعاتكة بنت زيد أخت سعيدبن زيد أحد العشرة، وأما أسماء وأم كلثوم فكان طلقهما، وقيل: أعاد أسماء وطلق عاتكة فقتل وهي في عدته فصولحت عن ربع الثمن بثمانين ألفاً (فأصاب كل امرأة ألف ألف ومائتا ألف) هذا باعتبار أصل نصيب كل منهن ورد عليهم الباقي من سهم المصالحة أربعمائة ألف اقتسمنها بينهن. قال الحافظ أبو عبد الله البخاري صاحب الصحيح (فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف) . قال ابن بطال وعياض وغيرهما: هذا غلط في الحساب. قال الكرماني: لأنه إذا كان الثمن أربعة وثمانمائة ألف فالجميع ثمانية وثلاثون ألف ألف وسبعة آلاف ألف وستمائة ألف، وإن اعتبرته مع الدين فهو خمسون ألف ألف وتسعة آلاف ألف وثمانمائة ألف، فعلى التقادير كلها الحساب غير صحيح. ثم قال الكرماني: قلت لعل الجميع عند وفاته هذا المقدار الذي قاله البخاري ثم زاد من غلة أمواله في هذه الأربع سنين إلى ستين ألف ألف إلا مائتي ألف اهـ. وحاصله أن ما ذكره من نصيب كل من الزوجات باعتبار ما يجمع من غلال الأموال في السنين الأربع، وما ذكره من الجملة باعتبار حالة الموت والله أعلم. قال الحافظ ابن حجر بعد نقله عن الحافظ شرف الدين الدمياطي: وهذا توجيه في غاية الحسن لعدم تكلفه ولتبقية الرواية الصحيحة على وجهها، وقد تلقاه الكرماني فذكره ملخصاً ولم ينسبه لقائله ولعله من توارد الخواصر والله أعلم اهـ. قلت: رأيت بخط

26 ـــ باب تحريم الظلم والأمر برد المظالم

الحافظ نجم الدينبن فهد في تذكرته نقلاً عن خط الدمياطي ما يخالف ما نقله عنه في «الفتح» ولفظه: روى ابن سعد في «الطبقات» حديث الزبير هذا بنحو حديث البخاري وطوّله، غير أنه خالفه في موضع واحد وهو قوله: أصاب كل امرأة من نسائه ألف ألف ومائتا ألف على دينه ووصيته وورثته، وإنما يصح قسمتها أن لو كان لكل امرأة ألف ألف فيكون الثمن أربعة آلاف ألف، فتصح قسمة الورثة من اثنين وثلاثين ألف ألف ثم يضاف إليها الثلث ستة عشر ألف ألف فتصير الجملتان ثمانية وأربعين ألف ألف، ثم يضاف إليها الدين ألفا ألف ومائتا ألف فصارت الجملة كلها خمسين ألف ألف ومائتا ألف ومنها تصح. ورواية ابن سعد تصح من خمسة وخمسين ألف ألف، ورواية البخاري تصح من تسعة وخمسين ألف ألف وثمانمائة ألف، فيجوز أن يكون المراد بقوله فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف قيمة تركته عند موته، لا ما زاد عليها بعد موته من غلة الأرضين والدور في مدة أربع سنين قبل قسمة التركات. ويدل عليه ما رواه الواقدي عن أبي بكربن سبرة عن هشام عن أبيه قال: كان قسمة ما ترك الزبير على أربعين ألف ألف. وروى ابن سعد عن القعنبي عن ابن عيينة قال: قسم ميراث الزبير على أربعين ألف ألف. وذكر الزبيربن بكار في بني عدي عاتكة بنت زيد زوج الزبير، وأن عبد ابن الزبير بعث إليها بثمانين ألف درهم فقبضتها وصالحت عليها، وبين قول الزبير هذا وقول غيره بون بعيد، والعجب منه مع سعة علمه وتنفيره عنه كيف خفي عليه توريث آبائه وأحوال تركاتهم اهـ. قلت: لا عجب فإنها صولحت عن ربع الثمن بما دفع إليها لا أن ذلك ربع ثمن مال الزبير حتى يخالف كلام غيره، والله أعلم (رواه البخاري) في أبواب فرض الخمس. 26 - باب تحريم الظلم والأمر برد المظالم هو لغة: وضع الشيء في غير محله. وشرعاً: التصرف في حق الغير بغير حق، أو مجاوزة الحد (والأمر برد المظالم) بأعيانها إن بقيت فإن تلفت فيبدلها من مثل في المثلى والقيمة في المقوم (إلى أصحابها) إن بقوا وإلا فللوارث، فإن فقد المستحق ولو بانقطاع

خبره بحيث أيس من حياته أرسلها لقاض أمين ولو غير قاضي بلده فيما يظهر، فإن تعذر تصدق بها على الفقراء بنية الغرم إذا وجده كما في الوديعة أو تركها عنده، وبحث الإسنوي أنه يتخير بين وجوه المصالح كلها وهو ظاهر، وإلى ترجيحه يومىء كلام العزّبن جماعة وغيره وزاد: إن له التصرف لنفسه من نفسه إن وجد فيه شرطه، وعليه يدل كلام الغزالي في «نطيره» ، قال: ويجب عليه فيه الاقتصار على الأمر الوسيط، وقيد ابن جماعة ذلك بعلمه بالأحكام الشرعية. قال ابن حجر الهيتمي: وظاهر أنه غير شرط، وإنما شرط تصرفه فيه علمه بجواز صرفه إليه. وكنفسه عياله الذين تلزمه مؤنتهم. (قال الله تعالى) شأنه عما لا يليق ( {ما للظالمين من حميم} ) قريب مشفق ( {ولا شفيع يطاع} ) ولا شفيع يشفع ووضع الظالمين موضع «هم» للدلالة على اختصاص هذا الأمر بهم وأنه لظلمهم. (وقال تعالى) : {وما للظالمين من ولي ولا نصير} ) كذا فيما وقفت عليه من نسخ الرياض والتلاوة {والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير} أي يدعهم الله بغير وليّ ولا نصير في عذابه، وفي سورة الحج {وما للظالمين من نصير} فلعل زيادة «من وليّ» من قلم الناسخ وتحريف النقلة. (وأما الأحاديث) النبوية (فمنها حديث أبي ذرّ) جندببن جنادة الغفاري (المتقدم في آخر باب المجاهدة) وبه ختم ذلك الباب. 2031 - (وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: اتقوا الظلم) أي: اجتنبوا ظلم

العباد ومنهم النفس، وظلمها بمنعها حقها أو إعانتها على معصية الله وإطاعتها فيها (فإن الظلم ظلمات يوم القيامة) . قال القاضي عياض: هو على ظاهره، فيكون ظلمات على صاحبه لا يهتدي يوم القيامة بسبب ظلمه في الدنيا، كما أن المؤمن يسعى بنور هو مسبب عن إيمانه في الدنيا، قال تعالى: {يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم} (الحديد: 12) اهـ. قيل ويحتمل أن الظلمات هنا الشدائد وبه فسر قوله تعالى: {قل من ينجيكم من ظلمات البرّ والبحر} (الأنعام: 63) ويحتمل أنها عبارة عن الأنكال والعقوبات. قال الطيبي: قوله على ظاهره يوهم أن قوله ظلمات هنا ليس مجازاً بل حقيقة، لكنه مجاز لأنه حمل المسبب على السبب، فالمراد ظلمات حقيقة مسببة عن الظلم، والفرق بين الشدائد والأنكال أن الشدائد كائنة في العرصات قبل دخول النار والأنكال بعد دخولها اهـ. وقال ابن الجوزي: الظلم يشتمل على معصيتين: أخذ حق الغير بغير حق، ومبارزة الرب بالمخالفة والمعصية فيه أشد من غيرها، لأنه لا يقع غالباً إلا بالتضعيف الذي لا يقدر على الانتصار وإنما ينشأ من ظلمة القلب لأنه لو استنار القلب بنور الهدى لاعتبر (واتقوا الشح) هو بالشين المعجمة وهي مثلثة والضم أعلى، والشحّ أشد البخل، وقيل: البخل مع الحرص، وقيل: البخل في أفراد الأمور، والشحّ عام. وقيل: البخل بالمال والشحّ به وبالمعروف (فإن الشحّ أهلك من كان قبلكم) أي: من الأمم والهلاك فيه محتمل للهلاك المعنوي والهلاك الحسي ويؤيده قوله: (حملهم على أن سفكوا دماءهم) أي: قتل بعضهم بعضاً كما قتل ذلك الإسرائيلي ابن عمه الذي يرثه استعجالاً للإرث حتى كشف الله أمره بقصة البقرة واستحلوا محارمهم. قال المظهري في «المفاتيح» : يعني لحرصهم على جمع المال الحرام يقتل بعضهم بعضاً لأخذ أموالهم (واستحلوا محارمهم) أي: اتخذوا ما حرم الله من نسائهم حلالاً: أي فعلوا بهن الفاحشة، وأقرب منه أنهم احتالوا إلى بيع ما حرم الله تعالى عليهم أكله كالشحوم جملوها فباعوها، وكالصيد يوم السبت فحفروا للصيد حفائر لينحبس فيها السمك يومئذٍ فيأخذوه بعد، ففيه تقبيح التحليل للحرام بما لم يرد الإذن للتخلص به من الحرام كبيع العينة، أخذاً من أمره لبلال أن يبيع التمر الرديء بالدراهم ويشتري بالدراهم الجيد من التمر ونهاه عن شراء مدّ جيد بمدين من الرديء (رواه مسلم) . قال السيوطي في «الجامع الصغير» ورواه

أحمد والبخاري في الأدب، وروى قوله: «الظلم ظلمات يوم القيامة» البخاري ومسلم والترمذي من حديث ابن عمر مرفوعاً. 2042 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لتؤدن الحقوق) بضم الفوقية وفتح الهمزة وتشديد الدال المفتوحة لاتصال نون التوكيد المباشرة بها فعل مبني للمجهول واللام في أوله مؤذنة بقسم مقدر لتأكيد المقام وحذف الفاعل به: أي وا ليؤدنّ الله الحقوق (إلى أهلها) مستحقها (يوم القيامة حتى) غاية في إيفاء الحق: أي إلى أن (يقاد للشاة الجلحاء) بفتح الجيم وسكون اللام بعدها مهملة وبعدها ألف ممدودة: هي الجمّاء التي لا قرن لها (من الشاة القرناء) . قال المصنف: هذا تصريح بحشر البهائم يوم القيامة وإعادتها كما يعاد أهل التكليف من الآدميين وكما يعاد الأطفال والمجانين، وعلى هذا تظاهرت دلائل الكتاب والسنة، قال تعالى: {وإذا الوحوش حشرت} (التكوير: 5) وإذا ورد لفظ الشرع ولم يمنع من إجرائه على ظاهره عقل ولا شرع وجب حمله على ظاهره. قال العلماء: وليس من شرط الحشر والإعادة المجازاة والعقاب والثواب. وأما القصاص من القرناء للجلحاء فليس من قصاص التكليف إذ لا تكلف عليها بل هو قصاص مقابلة اهـ (رواه مسلم) قال السيوطي في «الجامع الصغير» : ورواه أحمد والبخاري في «الأدب المفرد» والترمذي. 2053 - (وعن) عبد الله (بن عمر) بن الخطاب (رضي الله عنهما قال: كنا نتحدث بحجة) بفتح الحاء وكسرها (الوداع) بكسر الواو وفتحها، وسميت بذلك لأن النبيّ ودّعهم فيها، وتسمى حجة البلاغ لقوله: «هل بلغت» وتسمى حجة الإسلام إذ لا مشرك فيها، قاله ابن النحوي في «التوضيح على الجامع الصغير» (والنبيّ بين أظهرنا) جملة في محل الحال أي جالس بيننا مستظهراً لا مستخفياً يقال بين أظهرنا وظهرانينا بمعنى بيننا (ولا ندري

أي: نعرف (ما حجة الوداع) أي: ما وجه تسميتها به. قال في «التوشيح» : كأنه شيء ذكره النبي فتحدثوا به، وما فهموا أن المراد بالوداع وداع النبي حتى وقعت وفاته بعد ذلك بقليل فعرفوا بذلك، وأشار إلى ذلك بما تضمنه قوله: (حتى حمد ا) بالنصب على المفعولية وتقديمه للاختصاص (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأثنى عليه) يحتمل أن يكون من عطف الرديف وأن يكون من عطف المغاير أي: حمد الله بأوصاف الكمال وأثنى عليه بتنزيهه عما لا يجوز عليه (ثم ذكر المسيح) بفتح الميم وكسر السين المهملة مخففة وبالحاء المهملة (الدجال) أي: المبالغ في الكذب بادعائه الإحياء والإماتة وغيرهما مما يقطع كل عاقل فضلاً عن مؤمن بكذبه فيه، والمسيح إذا أطلق ينصرف لسيدنا عيسى عليه السلام ويطلق على الدجال لكن مقيداً به كما هنا. وقال أبو داود: إنه في الدجال بتشديد السين وفي عيسى بتخفيفها والأول هو المشهور. وقيل يقال في كل منهما بالتشديد والتخفيف، ولقب به الدجال قيل لأنه ممسوح العين فإن إحدى عينيه ممسوحة، وقيل لأن أحد شقي وجهه خلق ممسوحاً لا عين ولا حاجب فيه، وقيل لأنه ممسوح من كل خير: في مبعود ومطرود، وعلى كل حال فهو فعيل بمعنى مفعول، وقيل: بل هو بمعنى فاعل، ولقب به لأنه يمسخ معظم الأرضين: أي يقطعها في أيام معدودة. وقيل: إنه بالخاء المعجمة ونسب قائله إلى التصحيف. وقال ابن دحية في «مجمع البحرين» : إنه خطأ، وقيل: إنه مسيح بوزن مسكن بكسر ثالثة. وقال أبو عبيدة: أظنه بالشين المعجمة كما تنطق به اليهود ثم عرّب (فأطنب في) بيان (ذكره) محذراً من فتنته لعظمها (وقال: ما بعث ا) أي: أرسل (من نبيّ) أي رسول إذ هو الذي ينذر قومه ومن مزيدة لاستغراق العموم (إلا أنذر أمته) منه وأعلمهم ببعض أوصافه (أنذره نوح) أي: أنذر منه نوح قومه (والنبيون من بعده) أممهم ففيه حذف المفعول وجملة أنذر نوح لتفصيل ما قبلها (وإنه إن يخرج فيكم) إذ لا أمة بعدكم ولا بد من خروجه، فإذا لم يخرج في الأمم السابقة فلم يبق إلا خروجه في هذه الأمة بعدكم ولا بد من خروجه، فإذا لم يخرج في الأمم السابقة فلم يبق إلا خروجه في هذه الأمة (فما) شرطية: أي فأي شيء (خفي عليكم من) للتبعيض أي بعض (شأنه فليس يخفى عليكم، أن ربكم ليس بأعور) أن ومعمولاها فاعل يخفى لكن رأيته مضبوطاً بالقلم في أصل مصحح بكسر الهمزة ولعل الإسناد للجملة: أي لا يخفى

عليكم مضمون هذا الكلام من انتفاء النقائص عن الباري جل وعز (إنه) يعني: الدجال وهي ومعمولاها بدل من إن الأولى أو استئناف قال الكرماني (أعور عين اليمنى) بالجر من إضافة الموصوف إلى صفته وتأويله عند البصريين أعور عين صفحة وجهه اليمنى (كأن عينه عنبة) بكسر العين وفتح النون والموحدة، لا يخفى ما فيه من المحسن البديعي، وهو الجناس الخطي المسمى بالجناس المصحف ومنه حديث «ارفع إزارك فإنه أتقى وأنقى وأبقى» (طافية) بلا همز أي: بارزة من طفا الشيء يطفو: إذا علا على غيره، وشبهها بالعنبة التي تقع في العنقود بارزة عن نظائرها (ألا) بفتح الهمزة وتخفيف اللام حرف استفتاح يتنبه لما بعده ( {إن الله حرّم عليكم دماءكم وأموالكم} ) يقدر في الأول سفك وفي الثاني أخذ لأن الذوات لا تحرم (كحرمة يومكم هذا) أي: يوم النحر (في بلدكم هذا) أي حرم مكة، قيل: المشبه به أخفض رتبة من المشبه وهو خلاف القاعدة. والجواب: أن تحريم اليوم والبلد كان ثابتاً في نفوسهم مقرراً عندهم بخلاف الأنفس والأموال، فكانت الجاهلية تستبيحها، فورد التشبيه بما هو مقرّر عندهم ومناط التشبيه ظهوره عند السامع (ألا) بتخفيف اللام (هل بلغت) والمستفهم منه الأمة الحاضرون وحذف المفعول ليعم: أي هل بلغتكم ما أمرت بإبلاغه إليكم (قالوا نعم: قال اللهم) أي يا أفحذف حرف النداء وعوض عنه الميم المشددة هذا هو الصحيح كما تقدم (اشهد) على شهادتهم بالتبليغ إليهم كيلا ينكر منكر ذلك يوم القيامة (ثلاثاً) أي قاله ثلاث مرات، وكان يكرر ما يحتاج للتكرير ثلاثاً كما جاء في الصحيح/ «وكان إذا تكلم بكلام أعاده ثلاثاً ليفهم منه» (ويلكم) بفتح الواو وسكون التحتية وفتح اللام. قال في «الصحاح» : ويل كلمة مثل ويح إلا أنها كلمة عذاب، يقال ويله وويلك، وتقول ويل لزيد، فالنصب على إضمار الفعل. قال في مادة ويح: كأنك قلت ألزمه الله ويلاً أو ويحاً أو نحو ذلك والرفع على الابتداء هذا إذا لم تضف، فإن أضفت فليس إلا النصب لأنك لو رفعته لم يكن له خبر اهـ (أو) شك من الراوي: أي قال (ويحكم) وفي الصحاح أيضاً ويح كلمة رحمة «وويل» كلمة عذاب، قال اليزيدي: هما بمعنى واحد (انظروا لا ترجعوا) أي: لا تصيروا. قال ابن مالك في «توضيحه» : مما خفي على أكثر النحاة استمال رجع كصار معنى وعملاً ومنه هذا الحديث: أي: لا تصيروا (بعدي كفاراً) أي كالكفار فهو تشبيه أو من باب التغليظ فهو مجاز، والمراد معناه

اللغوي وهو التستر بالأسلحة، وفيه عشرة أقوال حكاها السيوطي وحكاها عنه تلميذه العلقمي في آخر حاشيته على «الجامع الصغير» ، والأولى أنه على ظاهره، وأنه نهى عن الارتداد وأوله الخوارج بالكفر الذي هو الخروج عن الملة إذ كل معصية عندهم كفر (يضرب بعضكم رقاب بعض) . قال القاضي عياض: الرواية بالرفع، كذا رواه المتقدمون والمتأخرون وهو الصواب، وبه يصح المقصود هنا، وضبطه بعض العلماء، وهو إحالة للمعنى والصواب الضم اهـ. وفي «شرح المشارق» لابن ملك: يضرب بالرفع فيه وجوه: أحدها أن تكون الجملة صفة للكفار: أي لا ترجعوا بعدي كفاراً متصفين بهذه الصفة، يعني: يضرب بعضكم رقاب بعض. الثاني أن يكون حالاً من ضمير لا ترجعوا: أي لا ترجعوا كفاراً حال ضرب بعضكم رقاب بعض. فعلى الأول يجوز أن يكون المعنى: لا ترجعوا بعدي عن الدين فتصيروا مرتدين مقاتلين يضرب بعضكم بعضاً بغير حق على وجه التحقيق، وأن يكون المعنى: لا ترجعوا كالكفار المقاتل بعضهم بعضاً على وجه التشبيه بحذف أداته. وعلى الثاني يجوز أن يكون معناه: لا تكفروا حال ضرب بعضكم رقاب بعض لأمر يعرض نبيكم باستحلال القتل بغير حق، وأن يكون المعنى: لا ترجعوا حال المقاتلة كالكفار في تهييج الشرّ وإثارة الفتن بغير إشفاق منكم بعضكم على بعض في ضرب الرقاب، وروي بجزم الباء على أنه بدل من ترجعوا، ومعناه: لا يضرب بعضكم رقاب بعض كفعل الكفار، ويجوز أن يكون جزاء لشرط مقدر على مذهب الكسائي: أي فإن رجعتم يضرب بعضكم رقاب بعض اهـ. وقريب منه قول مغلطاي: من جزم أوّله على الكفر، ومن رفع لا يجعله متعلقاً بما قبله بل حالاً أو مستأنفاً. (رواه البخاري) بجملته في كتاب المغازي من حديث ابن وهب عن عمربن محمدبن زيدبن عبد ابن عمر عن أبيه محمدبن زيد عن جده عبد ابن عمر ورواه مختصراً في مواضع أخر منه من طريق أخرى (وروى مسلم بعضه) في كتاب الإيمان وهو عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي أنه قال في حجة الوداع «ويحكم «أو قال ويلكم» لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» قال الحافظ المزي في «الأطراف» : ورواه أبو داود في «السنة» والنسائي في «المحاربة» وابن ماجه في «الفتن» مختصراً اهـ.

2064 - (وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من ظلم قيد) بكسر القاف وسكون التحتية وبالدال المهملة: أي قدر (شبر من الأرض) وذكر الشبر إشارة إلى استواء القليل والكثير في الوعيد المدلول عليه بقوله (طوّقه) بالبناء للمجهول أي طوقه الله (من سبع أرضين) بفتح الراء ويجوز إسكانها، قال الخطابي: قوله طوقه له وجهان: أحدهما: أن معناه كلف نقل ما ظلم منها في القيامة إلى المحشر ويكون كالطوق في عنقه لا أنه طوق حقيقة. والثاني: أن معناه أنه يعاقب بالخسف إلى سبع أرضين فيكون كل أرض في تلك الحالة طوقاً في عنقه اهـ.v قال الحافظ ابن حجر: ويؤيد الثاني رواية ابن عمر في البخاري بلفظ: «خسف به إلى سبع أرضين» ، وقيل: معناه كالأول، لكن بعد أن ينقل جميعه يجعل كله في عنقه طوقاً ويعظم قدر عنقه اهـ. حتى يسمع ذلك كما ورد في غلظ جلد الكافر ونحو ذلك ويحتمل وهو الوجه الرابع أن المراد بقوله: طوقه أن يكلف أن يجعل له طوقاً ولا يستطيع ذلك فيعذب بذلك كما جاء في حق «من كذب في منامه كلف أن يعقد بين شعيرتين» ويحتمل وهو الوجه الخامس أن يكون التطويق الإثم، والمراد أن الظلم المذكور لازم له في عنقه ومنه قوله تعالى: {ألزمناه طائره في عنقه} (الإسراء: 13) وبالوجه الأول جزم أبو الفتح القشيري وصححه البغوي ويحتمل أن تتنوع هذه الصفات لصاحب هذه الجناية، أو تنقسم أصحاب هذه الجناية فيعذب بعضهم بهذا وبعضهم بهذا بحسب قوة المسندة وضعفها اهـ (متفق عليه) قال السيوطي في «الجامع الصغير» : أخرجه الشيخان وابن ماجه عن عائشة وعن سعيدبن زيد اهـ. وذكره المزي في «الأطراف» من حديث سعيدبن زيد وقال: أخرجه البخاري في «المظالم» ، ولم يذكر مسلماً وابن ماجه فيمن خرّجه والله أعلم. 2075 - (وعن أبي موسى) الأشعري (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إن الله يملي)

بضم التحتية: أي يمهل (للظالم) ولا يعاجله بالعقوبة (فإذا أخذه) أي: عاقبه بذنبه لم يكد بفلته أي لم يكد يخلصه: أي إذا أهلكه لا يرفع عنه الهلاك أبداً: أي: إن كان كافراً فإن حمل الظلم على أعم من الشرك حمل كل على ما يليق به. قال في «الفتح» : وهذا أولى من قول بعضهم: معنى «لم يفلته» لم يؤخره لأنه يتبادر منه أن الظالم إذا صرف عن منصبه وأهين لا يعود إلى غيره، والمشاهد في بعضهم بخلاف ذلك، والأولى حمله على ما ذكرناه اهـ. وقريب منه قول الكرماني: «لم يفلته» لم يخلصه لكثرة مظالمه، والنفي على التأبيد إن كان منها الكفر، وإن كان مؤمناً لم يخلصه مدة طويلة. وفي رواية «لم يفلته» بحذف يكد (ثم قرأ) مستدلاً لذلك قوله تعالى: ( {وكذلك} ) أي: مثل المذكور في الآي قبلها ( {أخذ ربك} ) قال البيضاوي: وقرىء أخذ بالفعل فيكون محل الكاف: أي: التي في قوله وكذلك النصب على المصدر ( {إذا أخذ القرى} ) أي: أهلها ( {وهي ظالمة} ) حال من القرى وهي في الحقيقة لأهلها لكنها لم أقيمت مقامه أجريت عليها، وفائدتها الإشعار بأنهم أخذوا لظلمهم وإنذار كل ظالم لنفسه أو غيره من وخامة الظلم ( {إن أخذه أليم شديد} ) موجع غير مرجوّ الخلاص عنه، وهو مبالغة ومحمول على التهديد والتحذير، وأجراها المعتزلة على ظاهرها في سائر العصاة (متفق عليه) ورواه الترمذي وابن ماجه. 2086 - (وعن معاذ) بضم الميم بعدها عين مهملة ثم ألف بعدها ذال معجمة ابن جبل الأنصاري (رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله) أي: أميراً على اليمن، وذلك أواخر سنة تسع عند منصرفه من تبوك، رواه الواقدي، ولم يزل على اليمن إلى أن قدم في عهد عمر فتوجه إلى الشام فمات بها في طاعون عمواس (فقال: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب) يعني

به اليهود والنصارى لأنهم كانوا في اليمن أكثر من مشركي العرب وأغلب، وإنما نبهه على هذا ليتهيأ لمناظرتهم ويعد الأدلة لإفحامهم لأنهم أهل علم سابق بخلاف المشركين وعبدة الأوثان (فادعهم) أي: أولاً (إلى شهادة أن لا إله إلاالله، و) إلى شهادة (أني رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك) أي: بالنطق بكلمتي التوحيد، قال القرطبي: وهذا الذي أمر النبي به معاذاً هو الدعوة قبل القتال التي كان يوصي بها النبي أمراءه وقد اختلف في حكمها، وعلى هذا ففي الحديث حجة لمن يقول أول الواجبات التلفظ بكلمتي الشهادة مصدقاً بها. وقد اختلف في أول الواجبات على أقوال كثيرة، والذي عليه أئمة الفتوى ومن بهم المقتدي كمالك وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم من السلف أن أول الواجبات على كل مكلف الإيمان التصديقي الحزمي الذي لاريب معه الله ورسله وكتبه وما جاءت به الرسل كيفما حصل ذلك الإيمان وبأي طريق إليه يوصل. وأما النطق باللسان فمظهر لما استقر في القلب من الإيمان وسبب ظاهر ترتب عليه أحكام الإسلام، ولا حجة في الخبر لمن قال بعدم مخاطبة الكفار بالفروع أخذاً من أمرهم بها بعد إطاعتهم إلى النطق بالشهادتين، لأن ذلك يحتمل أنه إنما قدم لكون الإيمان شرطاً مصححاً للأعمال الفرعية لا للخطاب بالفروع، إذ لا يصح فعلها إلا بتقدم وجوده، ويصح الخطاب بالإيمان وبالفروع معاً في وقت واحد وإن كانت في الوجود متعاقبة، قال القرطبي: وهذا الاحتمال أظهر مما تمسكوا به، ولو لم يكن أظهر فهو مساوٍ له، فيكون ذلك الخطاب مجملاً بالنسبة إلى هذا الحكم، أو أن النبي إنما رتب هذه القواعد ليبين الأهم فالأهم، والله أعلم اهـ ملخصاً (فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في) مجموع (كل يوم وليلة) «وإن» هنا وفيما بعد شرطية «وهم» فاعل فعل محذوف وجوباً دل عليه ما بعده فهو نظير: {وإن أحد من المشركين استجارك} (التوبة: 6) فالجواب جملة «فأعلمهم» (فإن هم أطاعوا لذلك) بالإقرار بالوجوب والعزم على فعلها (فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة) أي: زكاة كما في رواية مسلم، وسميت صدقة لأنها تدل على صدق إيمان باذلها (تؤخذ من أغنيائهم) أي: من أموالهم. وعند مسلم «تؤخذ من أموالكم» قال المصنف: ويستدل بلفظ «من أموالهم» على أنه إذا امتنع من دفع

الزكاة أخذت من ماله بغير اختياره، وهذا الحكم لا خلاف فيه، ولكن هل تبرأ ذمته ويجزئه في الباطن؟ وجهان لأصحابنا (فترد) وعند مسلم: وترد (على فقرائهم) واستدل به مالك على أن الزكاة لا تجب قسمتها على الأصناف المذكورين في الآية، وأنه يجوز للإمام صرفها إلى صنف واحد من الأصناف المذكورين في الآية إذا رآه نظراً ومصلحة دينية، قاله القرطبي. قال ابن دقيق العيد: وفيه يحث لاحتمال أن يكون ذكر الفقراء لكونهم الغالب في ذلك وللمطابقة بينهم وبين الأغنياء (فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم) منصوب بفعل مضمر لا يجوز إظهاره. قال ابن قتيبة: لا يجوز حذف الواو، والكرائم جمع كريمة: أي: نفيسة، ففيه ترك أخذ خيار المال. والنكتة فيه أن الزكاة لمواساة الفقراء فلا يناسب ذلك الإجحاف بمال الأغنياء إلا أن رضوا بذلك (واتق دعوة المظلوم) . قال الحافظ ابن حجر: أي: تجنب الظلم لئلا يدعو عليك المظلوم، وفيه التنبيه على المنع من جميع الظلم. والنكتة في ذكره عقب المنع من أخذ الكرائم الأشارة إلى أن أخذها ظلم. وقال بعضهم: «واتق» عطف على عامل «إياك» المحذوف وجوباً فالتقدير: اتق نفسك أن تتعرض للكرائم، أو أشار بالعطف إلى أن أخذ الكرائم ظلم، ولكنه فيه إشارة إلى التحذير عن الظلم مطلقاً (فإنه) قال القرطبي: الرواية الصحيحة بضمير المذكر على أن يكون ضمير الأمر والشأن، ويحتمل أنه يعود على مذكر الدعوة فإن الدعوة دعاء. ووقع في بعض النسخ: أي: من مسلم «فإنها» بهاء التأنيث، وهو عائد على لفظ الدعوة (ليس بينها وبين الله حجاب) أي: ليس لها صارف يصرفها ولا مانع، والمراد أنها مقبولة وإن كان عاصياً كما جاء في حديث أبي هريرة عند أحمد «دعوة المظلوم مستجابة، وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه» وإسناده حسن، وليس المراد أن حجاباً يحجبه عن الناس. قال الطيبي: فقوله اتق دعوة المظلوم تذييل لاشتماله على الظلم الخاص سن أخذ الكرائم وعلى غيره، وقوله: فإنه تعليل للاتقاء وتمثيل للدعاء كمن يقصد دار السلطان مظلوماً فلا يحجب. قال ابن العربي: إلا أنه وإن كان مطلقاً فهو مقيد بالحديث الآخر «إن الداعي على ثلاث مراتب: إما أن يعجل له ما طلب، وإما أن يدخر له أفضل منه وإما أن يدفع عنه من السوء مثله» وهذا كما قيد مطلق قوله تعالى: {أمن يجيب المضطرّ إذا دعاه} (النمل: 62) بقوله: {فيكشف ما تدعون إليه إن

شاء} (الأنعام: 41) . فائدة: لم يقع في الحديث ذكر الصوم والحج مع أن بعث معاذ كان أواخر الأمر كما تقدم. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني نقلاً عن شيخه شيخ الإسلام: يعني سراج الدين البلقيني: إذا كان الكلام في بيان الأركان لم يخل الشارع منها بشيء كحديث ابن عمر «بني الإسلام على خمس» أما إذا كان في الدعاء إلا الإسلام اكتفى بالأركان الثلاثة الشهادة والصلاة والزكاة، ولو كان بعد وجوب فرض الصوم والحج كقوله تعالى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتو الزكوة} (التوبة: 5) في الموضعين من «براءة» مع أن نزولها بعد فرض الصوم والحج قطعاً وكحديث ابن عمر «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاالله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة» وغير ذلك من الأحاديث، قال والحكمة في ذلك أن الأركان الخمسة اعتقادي وهو الشهادة وبدنيّ وهو الصلاة وماليّ وهو الزكاة، فاقتصر في الدعاء إلى الإسلام عليها ليفرع الركنين الآخرين عليها، فإن الصوم بدنيّ مخص والحج بدني مالي، وأيضاً فكلمة الإسلام هي الأصل وهي شاقة على الكفار، والصلوات شاقة لتكررها، والزكاة شاقة لما في جبلة الإنسان من حبّ المال، فإذا أذعن لهذه الثلاثة كان ما سواها أسهل عليه بالنسبة إليها اهـ (متفق عليه) فأخرجه البخاري في كتاب الزكاة وفي التوحيد وفي مواضع أخر من صحيحه بأسانيد، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان، وأخرجه أبو داود في الزكاة وأخرجه الترمذي في الزكاة بتمامه وفي البرّ «دعوة المظلوم» حسب، وقال حسن صحيح، والنسائي وابن ماجه في الزكاة كذا لخص من كتاب «الأطراف» للمزي. 2097 - (وعن أبي حميد) بضم الحاء المهملة وفتح الميم وسكون التحتية بعدها مهملة (عبد الرحمنبن سعد الساعدي رضي الله عنه) قال الذهبي في «تجريد الصحابة» : أبو حميد الساعدي

هو: عبد الرحمنبن عمروبن سعد، وقيل: المنذربن سعد. زاد ابن الأثير: ابن مالك بن خالدبن ثعلبةبن حارثةبن عمروبن الخزرج، زاد المصنف في «التهذيب» : ابن ساعدة بن كعببن الخزرج، ويقال ابن عمروبن سعدبن المنذربن مالك يعدّ في أهل المدينة، توفي آخر خلافة معاوية. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة وعشرون حديثاً اتفق الشيخان على ثلاثة منها، وانفرد البخاري بحديث ومسلم بآخر (قال: استعمل النبي رجلاً من الأزد) . قال الحازمي في «عجلة المبتدي» : والأزد اسمه داود، ويقال دراءبن الغوثبن مالك بن رددبن كهلانبن سبأبن يشجببن يعرببن قحطان، وإليه جماع الأنصار، وكان أنسبن مالك يقول: إن لم نكن من الأزد فلسنا من الناس، وجاء في الحديث «الأزد جرثومة العرب» وجاء ذكرهم في غير حديث والثناء عليهم عن أنس عن النبي «الأزد أسد الله في الأرض، يريد الناس أن يضعوهم ويأبى الله إلا أن يرفعهم، وليأتينّ على الناس زمان يقول الرجل: يا ليتني كان أبي أزديا، يا ليتني كانت أمي أزدية» هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ويقال فيه الأسد بالسين المهملة بدل الزاي اهـ ملخصاً (يقال له ابن اللتبية) بضم اللام وإسكان المثناة الفوقية بعدها موحدة فتحتية مشددة نسبة لبني لتب بطن من الأسد. قال المصنف في «التهذيب» : ويقال فيه ابن اللتبية بفتح الفوقية وابن الأتبية بالهمزة وإسكان التاء وليسا بصحيحين، والصواب الأول، واسم هذا الرجل عبد الله كذا في «التهذيب» . وقال الذهبي في «التجريد» : يقال اسمه عبد الله (على الصدقة) أي: الزكاة (فلما قدم) بكسر الدال (قال هذا لكم) معشر المسلمين (وهذا أهدي) بالبناء للمجهول (إليّ، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر) بكسر الميم وسكون النون وفتح الموحدة من النبر وهو الارتفاع (فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد) بالبناء على الضم: أي: بعد ما ذكر من الحمد والثناء (فإني أستعمل الرجل منكم) أي: أجعله (على العمل مما) من العمل الذي (ولاني ا) العائد ضمير المفعول محذوف أي ولانية الله: أي جعل لي التصرف فيه من الزكوات والغنائم (فيأتي) أي: من عمله (فيقول لكم وهذا هدية أهديت لي) هذا الكلام المنكر على العامل لم يصرح باسم القائل، لأن مراده التحذير من مثل ذلك سواء فيه القائل أوّلا

وغيره وهذا من مزيد فضله وحسن خلقه (أفلا جلس في بيت أبيه أو) قال ابن حجر الهيثمي: للشك أو للتنويع (بيت أمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقاً) في قوله: «هذا أهدي إليّ» إذ ظاهره أنه أهدي له لذاته، وإنما أهدي إليه لولايته عليهم ففيه كما قال العاقولي تعيير له وتحقير لشأنه وتعريض بأنه لولا هذه الولاية لكان فقيراً محتاجاً لا يلتفت إليه، فالهدية إليه ليست لذاته بل لتوليته عليهم، وفي الحديث دليل على حرمة هدايا العمال مطلقاً (وا) أتى به تأكيداً للأمر (لا يأخذ أحد منكم) معاشر العمال على الأعمال (شيئاً) مما يعطاه وهو عامل (بغير حق إلا لقي الله يحمله يوم القيامة) زاد في رواية في «الصحيحين» على رقبته: فإن قلت: الذي في الآية {وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم} (الأنعام: 13) قلت: الظهور تشمل ما هو قريب منها أو الآية في أوزار الكافرين، وهذا في أوزار المؤمنين، أو ذاك في مطلق الأوزار وهذا في عامل الزكاة فقط تمييزاً لها لمزيد قبحها باعتبار أن فيها حقين: حقاً تعالى، وحقاً للآدمي فلا أعرفنّ أحداً منكم لقي الله حال كونه (يحمل بعيراً له رغاء) بضم الراء وبعدها غين معجمة وبعدها ألف ممدودة: صوت الإبل يقال رغا يرغو (أو بقرة لها خوار) بضم الخاء المعجمة وتخفيف الواو وآخره راء: صوت البقرة (أو شاة تيعر) بمثناة فوقية فمثناة تحتية فعين مهملة مكسورة ومفتوحة، ومعناه تصحيح، ومصدره اليعار، وهو صوت الشاة. وحكمة تلك الأصوات من تلك المحمولات الزيادة في تحقيره وفضيحته (ثم رفع يديه حتى) غاية لمحذوف: أي: وبالغ في الرفع إلى أن (رأينا عفرة إبطية) بضم العين المهملة وفتحها والفاء ساكنة فيهما: أي: بياضهما الذي ليس بالناصح بل فيه شيء كلون الأرض مأخوذ من عفرة الأرض وهو وجهها وذلك في إبطية إما باعتبار ما يرى من البعد أو لوجود شعر بفرض أن ثم شعراً، وفي روايات غير هذا الحديث التعبير ببياض إبطيه، ولعله باعتبار النظر إليهما من قرب مع عدم الشعر بهما فلا تنافي بين الروايتين. قال الحافظ زين الدين العراقي: والقول بأن من خصائصه عدم نبات الشعر بإبطيه لم يثبت ما يدل له، ورواية «بياض إبيطيه» معارضة براوية «عفرة إبطيه» نعم من خصائصه أن لا ريح لإبطيه (ثم

قال) بعد تمام الرفع إلى ما ذكر (اللهم هل بلغت. متفق عليه) ورواه أبو داود في «الخراج» ، قاله المزي في «الأطراف» . 2108 - (وعن أبي هريرة رضي الى عنه عن النبي قال: من كانت عنده مظلمة) بفتح الميم وضم اللام (لأخيه من عرضه) في محل الحال بيان لمظلمة (أو من شيء) من عطف العام على الخاص فتدخل فيه اللطمة ونحوها، وفي رواية الترمذي «من عرض أو مال» ؛ والعرض كما في «الصحاح» : النفس يقال أكرمت عنه عرضي: أي: صنت عنه نفسي، وفلان نقي العرض: أي: برىء من أن يشتم أو يعاب. وقد قيل عرض الرجل حسبه اهـ. وقال في «التوشيح» : العرض بالكسر موضع المدح والذم من الإنسان سواء كان نفسه أو سلفه (فليتحلله منه اليوم) أي: في الدنيا (من قبل ألا يكون) يوجه (دينار ولا درهم) أي: يوم القيامة. قال العسقلاني: وثبت ذلك في رواية على ابن الجعد عن ابن أبي ذئب عن الإسماعيلي (إن كان له) أي: لمن عنده المظلمة (عمل صالح أخذ) يحتمل أن يكون بالبناء للفاعل: أي صاحب المظلمة وأن يكون بالبناء للمفعول: أي أمر الله أن يؤخذ (منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات) مفهوم الجمع غير مراد: أي وإن لم تكن له حسنة، إذ من له حسنة داخل في العمل الصالح، فلا يكون من أفراد هذا القسم القسيم لذلك (أخذ) بالبناء للمفعول (من سيئات صاحبه) أي: وهو صاحب المظلمة (فحمل عليه) أي: على الظالم. (رواه البخاري) قال الحافظ ابن حجر: وهذا الحديث قد أخرج مسلم معناه من وجه آخر وهو أوضح سياقاً من هذا ولفظه «المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام

وزكاة» يعني الحديث الآتي أواخر الباب. ولا تعارض بين هذا وبين قوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} (الأنعام: 164) لأنه إنما يعاقب بسبب فعله وظلمه: ولم يعاقب بغير جناية منه بل بجنايته، فقوبلت الحسنات بالسيئات على ما اقتضاه عدل الله في عباده اهـ. 2119 - (وعن عبد ابن عمروبن العاص رضي الله عنهما) قال المصنف: العاص أكثر ما يأتي في كتب الحديث والفقه بحذف الياء وهي لغة، والصحيح الفصيح العاصي بإثبات الياء، ولا اعتبار بوجودها في كتب الحديث أو أكثرها بحذفها اهـ. وقال الهروي في «المرقاة» : الأصح عدم ثبوت الياء إما تخفيفاً أو بتاء على أنه أجوف، ويدل عليه ما في «القاموس» : الأعياص من قريش أولاد أميةبن عبد شمسبن العاص وأبو العاص والعيص وأبو العيص، فعليه لا يجوز كتابة العاص بالياء ولا قراءته بها لا وفقاً ولا وصلاً فإنه معتل العين، بخلاف ما يتوهمه بعض الناس أنه اسم فاعل معتل اللام من عصى، فحينئذٍ يجوز إثبات الياء وحذفها وقفاً ووصلاً بناء على أنه معتل اللام اهـ (عن النبي قال: المسلم) أي: الكامل الإسلام، قال المصنف: وليس المراد نفي أصل الإسلام عمن لم يكن بالصفة المذكورة في قوله: (من سلم المسلمون من لسانه ويده) بل هذا كما يقال العلم ما نفع أو العالم زيد: الكامل أو المحبوب فكله على التفضيل لا الحصر، ثم ذكر المسلمين هنا خرج مخرج الغالب لأن محافظة المسلم على كف الأذى عن أخيه أشد، ولأن الكفار بصدد أن يقاتلوا وإن كان فيهم من يجب الكفّ عنه والإتيان بجمع التذكير للتغليب، فإن المسلمات يدخلن في ذلك: وخص اللسان بالذكر لأنه المعبر عما في النفس واليد لأن أكثر الأفعال بها، والحديث عام بالنسبة إلى اللسان دون اليد لأنه يمكنه القول في الماضين والموجودين والحادثين بعد، بخلاف اليد، نعم يمكن أن يشارك اللسان في ذلك بالكتابة وإن أثرها في ذلك لعظيم، ويستثنى من ذلك شرعاً تعاطى الضرب باليد في إقامة الحدود والتعازير على المسلم المستحق لذلك. وفي التعبير باللسان دون القول نكتة، فيدخل فيه من أخرج لسانه على سبيل الاستهزاء، وفي ذكر اليد دون غيرها من الجوارح نكتة فيدخل فيها اليد المعنوية كالاستيلاء على حق الغير بغير حق. فائدة: كمال الإسلام والمسلم متعلق بخصال أخر كثيرة، وإنما خص ما ذكر لما

دعا إليه من الحاجة الخاصة (والمهاجر) من الهجر: وهو الترك وهو بمعنى المهاجر، وإن كان لفظ المفاعلة يقتضي وقوع فعل من اثنين لكنه هنا للواحد كالمسافر. ويحتمل أن يكون هنا على بابه لأن من لازم كونه هاجراً وطنه مثلاً أنه مهجور منه. والهجرة ضربان: ظاهرة وهي الفرار بالدين من الفتن، وباطنة وهي ترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء وهو ما أشار إليه بقوله: (من هجر ما حرم ا) وكأن المهاجرين خوطبوا بذلك لئلا يتكلوا على مجرد النحول من دارهم حتى يمتثلوا أوامر الشرع ونواهيه، ويحتمل أن يكون هذا القول وقع بعد انقطاع الهجرة، قاله لما فتحت مكة تطييباً لقلب من لم يدرك ذلك: أي: إن حقيقة الهجرة يحصل لمن هجر ما نهي الله عنه فاشتملت هاتان الجملتان على جوامع معاني الكلم والحكم (متفق عليه) قال في «الجامع الصغير» : ورواه أبو داود والنسائي. 21210 - (وعنه) أي: عن عبد ابن عمرو (كان على ثقل رسول الله) الثقل بفتح المثلثة والقاف: العيال وما يثقل حمله من الأمتعة (رجل يقال له كركرة) قال الحافظ ابن حجر الواقدي: إنه كان أسود يمسك دابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القتال. وروي أبو سعد النيسابوري في شرف المصطفى أنه كان نوبيا أهداه له هوذةبن علي الحنفي صاحب اليمامة فأعتقه. وذكر البلاذري أنه مات في الرق. واختلف في ضبطه فذكر عياض أنه بفتح الكافين. وبكسرهما قال النووي، إنما اختلف في كافه الأولى، أما الثانية فمكسورة اتفاقاً. وقد أشار البخاري إلى الخلاف في ذلك (فمات فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو في النار) أي: يعذب على معصيته، أو المراد هو في النار إن لم يعف الله عنه (فذهبوا ينظرون إليه) أي: إلى السبب الذي قد يحال عليه العذاب (فوجدوا عباءة) قال القاضي عياض في «المشارق» : العباء ممدود، قال ابن دريد: العباء كساء معروف والجمع أعبية، وقال الخليل: العباءة ضرب من الأكسية فيه خطوط سود، وأدخله الزبيدي في حرف الباء وغير المهموز. وقال غيره: العباءة لغة فيه،

ويقال كل كساء فيه خطوط فهو عباءة (قد غلها) الغلول هنا: الخيانة في المغنم، قال ابن قتيبة: سمي بذلك لأن آخذه يغله في متاعه: أي يخفيه فيه، ونقل المصنف الإجماع على أنه من الكبائر. قال الحافظ ابن حجر: وفي الحديث تحريم قليل الغول وكثيره (رواه البخاري) في كتاب الجهاد وأخرجه ابن ماجه فيه أيضاً. 21311 - (وعن أبي بكرة) بفتح الموحدة وسكون الكاف كنى بذلك لأنه دلى نفسه ببكرة من حصن الطائف لما حاصرهم النبيّ كما تقدم (نفيع) بضم النون وفتح الفاء وسكون التحتية بعدها مهملة (ابن الحارث رضي الله عنه عن النبيّ قال) : في خطبة يوم النحر في حجة الوداع (إن الزمان) هو عند المتكلمين من أهل السنة مقارنة متجدد موهوم لمتجدد معلوم إزالة للإبهام من الأول لمقارنة الثاني، والمراد بالزمان هنا السنة كما يدل عليه قوله على وجه الاستئناف لبيان ذلك: السنة اثنا عشر شهراً، وإن الزمان (قد استدار) هو كدار الطواف حول الشيء والعود إلى الموضع الذي ابتدأ منه وهو المراد من قوله (كهيئته) أي: استدارة مثل هيئته وهي صورة شكله وحالته التي كان عليها (يوم خلق الله السموات والأرض) أي: النيرين فيهما لأن حقيقة الزمان المشتمل على الأعوام والشهور والأيام إنما وجدت من حين خلق النيرين، وأما قبل ذلك فالأمر فيه كهو في الجنة، إذ ما فيها لا يسمى زماناً: أي: إن الزمان عاد في انقسامه إلى الأعوام والعام في انقسامه إلى الأشهر المعودة إلى الموضع الذي اختار الله وضعه عليه (السنة اثنا عشر شهراً) جملة مستأنفة كما تقدم لبيان الاستدارة المذكورة (منها أربعة حرم ثلاث) حذف التاء هنا دون أربع تغليباً لليالي هنا وللأيام ثمة، أو إيماء إلى جواز تأنيث العدد وتذكيره عند حذف المعدود (متواليات) هي (ذو القعدة) بفتح القاف وقد تكسر وقد يحذف «ذو» منه ومما بعده (وذو الحجة) بالكسر وقد تفتح (والمحرم) بصيغة المفعول (ورجب مضر) عطف على ثلاث وأضيف إلى مضر بوزن عمر

وضاده معجمة لأنها كانت تحافظ على تحريمه أشد من سائر العرب (الذي بين جمادي وشعبان) زيادة تأكيد في بيانه لعظم شأنه وإزاحة للريب الحادث فيه من النسىء وأنه عاد كما كان بين جمادي وشعبان، فأشار بهذا الحديث إلا بطلان النسىء الذي كانت تفعله العرب في الجاهلية، وذلك أنهم إذا احتاجوا إلى الحرب في شهر محرم استحلوه وأخروا حرمته للشهر بعده ونادوا بذلك في قبائل العرب وجعلوا حساب الحج تابعاً لذلك، مثلاً إذا احتاجوا للحرب في رجب جعلوه حلالاً وجعلوا شعبان رجباً وبنوا عليه حساب حجهم، فاتفق في ذلك العام الذي وقع فيه حجة الوداع استدارة الزمن على الوضع الأصلي، فكان آخر ذلك العام ذا الحجة في نفس الأمر وأوّل ما بعده المحرم، فأشهر هذا الكلام في هذا المقام في ذلك الجمع العام إبط لا للنسىء كي يذيع إبطاله ولا يرجع إليه بوجه، والراجح أن الاستدارة من سنة فتح مكة ولذا أمر عتاباً أن يحج بالناس في تلك السنة والصديق أن يحج بهم في السنة التاسعة ولولا ذلك لكان الحج باطلاً لوقوعه في غيره زمنه، والشارع لا يأذن فضلاً عن أن يأمر في تعاطي نسك باطل، والله أعلم (أيّ شهر هذا) الاستفهام فيه لتقرير حرمة الشهر في نفوسهم فيصح بناء ما سيذكره عليها (قلنا: الله ورسوله أعلم) فيه مراعاة الأدب وتوقف عما لا يعلم الغرض من السؤال عنه (فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه) أي: توهموا أن طول سكوته لتردده في وضع اسم مناسب له غير اسمه المشهور يضعه عليه بدله وما ذكر في الاستفهام وجوابهم فسكت الخ يجري في نظيره الآتي (قال: أليس) أي: اسمه (ذا الحجة) وما قدرناه هو ما يدل عليه السياق (قلنا بلى) أي: هو ذو الحجة (قال: أي: بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فكست حتى ظنتا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس) أي: هذا المكان (البلدة) وفي نسخة البلد (الحرام) وجه تخصيص مكة بها مع شمولها لسائر البلدان فصار علماً عليها بالغلبة، الإشارة إلى أنها البلدة الجامعة لسائر الفضائل المتفرقة في غيرها مع زيادات لا توجد في غيرها (قلنا بلى، قال: فأي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟

قلنا بلى، قال: فإن دماءكم) الفاء فيه فصيحة: أي: فإذا علمتم ما ذكر فتيقظوا إلى حرم أخرى هي أعظم منها وهي الدماء وما بعدها، وتقدم أن وجه التشبيه مع أنها في الحرمة أفضل من المشبه به كون المشبه به أشهر، وتشبيه ما لم يشتهر وإن كان أفضل بما اشتهر وإن كان مفضولاً واقع جعل منه قوله صلّ على محمد كما صليت على إبراهيم، ولاحتياج المقام إلى التأكيد زاد فيه فأتى بإن المفيدة له وبدأ بالدماء، مع أن الأعراض أخطر لأن الابتلاء بها أكثر وخطرها أكبر، ومن ثم كان أكبر الكبائر بعد الشرك القتل على الأصح (وأموالكم) قدمها على الأعراض لأن ابتلاء الناس بالجناية فيها أكثر (وأعراضكم) قال في «فتح الإله» المراد منه تحريم التعرض للإنسان بما يعير أو ينقص به في نفسه أو أحد من أقاربه، بل يحلق به كل من له به علقة بحيث يئول تنقيصه أو تعييره إليه، وهذا أعم من قول النهاية: العرض موضع المدح والذم من الإنسان سواء كان في نفسه أو في سلفه اهـ ملخصاً (عليكم حرام كحرمة يومكُمْ هذا) أي: المعصية فيه حال كون اليوم على جهة التجوز (في بلدكم هذا) وحرمة المعصية بها عظيمة إجماعاً إنما اختلف في تضاعفها كالحسنات وعدمه والراجح عدمه كما لاكيفا كما يدل عليه عموم قوله تعالى: {ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها} (الأنعام: 160) ولا مخصص له (في شهركم هذا) وهو لعظم شرفه تعظم المعصية فيه (وستلقون ربكم) في الدار الآخرة ناظرين إليه على وجه منزه من الحلول والاتحاد والجهة والتحيز والإحاطة بالذات الأعلى (فيسألكم عن أموالكم) وفي نسخة «أعمالكم، والنار عن شمائلكم والجنة عن أيمانكم، والموازين قد نصبت، والصراط قد نصب على متن جهنم، والرسل شعارهم يومئذٍ سلم سلم/ والشهود الجوارح والحاكم الأعظم قد تجلى وغضب غضباً لم يغضب قبله ولا بعده مثله» (ألا) أداة استفتاح فلما حذرتم وبين لكم (لا ترجعوا) أي: لا تصيروا (بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) تقدم الكلام عليه في الثالث من أحاديث الباب (ألا ليبلغ) بتشديد اللام وتخفيفها والتبليغ واجب عيناً على من انحصر فيه وإلا فكفاية (الشاهد منكم) لما قلته العالم به سماعاً أو رواية (الغائب) عنه بأن لم يحصل علمه (فلعل بعض من يبلغه) بالبناء للمجهول ونائب فاعله الضمير المستتر والبارز مفعول له

ثان: أي: فلعل المبلغ لجودة فهمه وقوّة استعداده وتوجهه لذلك الأمر (أن يكون أوعى له) أي: أفهم لمعناه (من بعض من سمعه) فيستفيد من الخبر الذي يبلغه ويفيد الناس ما لا يحصل لمن سمعه مني، لا لقصور فهمه عنه بل لاشتغاله عنه بما هو أهم منه من الجهاد الأعظم الذي وقع لأكثر الصحابة بعده، فلا يقال: كيف يكون في التابعين أو من بعدهم من هو أعلم من الصحابي؟ وهو كان إذا وقع نظره الكريم للبدوي والخلف صار ينطق بالحكمة لوقته وعدوا ذلك من خصائصه العلية، ولا يعترض بالمنافقين لأن الكلام فيمن لا مانع فيه للتلقي من الحضرة النبوية وأولئك فيهم موانع صيرتهم كالجماد. ويمكن أن يقال: قد يكون في المفضول مزية ليست في الفاضل، فنحن وإن قلنا بالأصح إن جميع الصحابة أفضل ممن بعدهم يجوز أن يكون عند غير الصحابي من الفهم والاستنباط ما ليس عنده وإن كان الصحابي أفضل وأجلّ بمراتب، وهذا أوفق بظاهر قوله: «فلعل من يبلغه» الخ، ثم ذكر بعض ثمرات التبليغ ومنها انتشار العلم وعموم النفع به وحفظه على توالي الأزمة إلى قبيل القيامة كما أخبر به (ثم قال: ألا هل بلغت) أي: ما أمرت به (ألا هل بلغت) والتكرير للتأكيد (قلنا: نعم) أي: بلغت الرسالة والأمانة، فقد بلغ الرسالة والأمانة ونصح الأمة وكشف الغمة وجاهد في الله حق جهاده، فجزاه الله خير ما جزى نبياً عن أمته ورسولاً عن قومه وأفضل على كل ما هو له أهل (ثم قال: اللهم اشهد. متفق عليه) قال المزي: ورواه النسائي، زاد الحافظ في «النكت الظراف» : ورواه أبو داود في كتاب الحج وابن ماجه في «السنة من سننه» اهـ. 21412 - (وعن أبي أمامة) بضم الهمزة وميمين بينهما ألف (إياس) بكسر الهمزة بعدها تحتية وآخره سين مهملة (ابن ثعلبة) بفتح المثلثة وسكون المهملة وبعد اللام موحدة هذا هو المشهور في اسمه. وقال أبو حاتم الرازي: اسمه عبد ابن ثعلبة، ويقال ثعلبةبن عبد الله، ذكره المصنف في «شرح مسلم» ، الأنصاري (الحارثي) أحد بني الحارثبن الخزرج، وقيل: إنه بلوى، وهو حليف بني حارثة، وهو ابن أخت بردةبن دينار (رضي الله عنه) قال

الذهبي في «التجريد» : روي له ثلاثة أحاديث. قلت: ذكر ابن حزم في سيرته وابن الجوزي في «المستخرج» المليح أبا أمامة الحارثي فيمن له حديثان، وانفرد مسلم عن البخاري بالرواية عنه فروي له حديث الباب، توفي منصرف النبيّ من أحد فصلى عليه. قال ابن الأثير في «أسد الغابة» : على أن الصحيح أنه لم تكن وفاته مرجع النبي من أحد، وإنما كانت وفاة أمه عند منصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر، فأراد الخروج معه فمنعه مرضها من شهود بدر. ومما يقوي أنه لم يقتل بأحد أن مسلماً يروي في «صحيحه» بإسناده عن عبد ابن كعب عن أبي أمامةبن ثعلبة «من اقتطع حق مسلم» الحديث، فلو كان مات بأحد لكان منقطعاً: أي: لأن عبد ابن كعب لم يدرك النبيّ ولم يخرّجه مسلم في «الصحيح» اهـ. قال المصنف في «شرح مسلم» : ولقد أحسن أبو البركات الجزري المعروف بابن الأثير في كتاب معرفة الصحابة حيث أنكر هذا القول في وفاته (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من اقتطع) أي: أخذ (حق امرىء مسلم بيمينه) دخل فيه من حلف على غير مال كجلد ميتة وسرجين وغير ذلك من النجاسات التي ينتفع بها، وكذا سائر الحقوق التي ليست بمال كحد القذف ونصيب الزوجة في القسم، والتقييد بالمسلم لا يدل على عدم تحريم مال الذمي، بل إنما يدل على هذا الوعيد المذكور في قوله: (فقد أوجب الله له النار وحرّم عليه الجنة) فاقتطاع مال الذمي حرام؛ لكن لا يلزم أن تكون فيه هذه العقوبة العظيمة، هذا على مذهب من يقول بالمفهوم، أما من لا يقول بالمفهوم فلا يحتاج إلى تأويل، ثم قوله: «فقد أوجب ا» الخ محمول على المستحل لذلك وقد مات كذلك فإنه يكفر ويخلد في النار، ومعناه: أنه استحق هذا ويجوز العفو عنه وحرّم عليه دخول الجنة أول وهلة مع الفائزين، قاله المصنف، قال: وهذا الوعيد لمن مات قبل التوبة: أما من تاب توبة صحيحة فندم على فعله وردّ الحق إلى صاحبه فقد سقط عنه الإثم (فقال) أي: أبو أمامة، ويحتمل أن يكون فقال بعض من حضر (وإن كان) أي: المقتطع (شيئاً يسيراً يا رسولالله، فقال) (وإن كان قضيباً من أراك) قال المصنف: هكذا هو في بعض الأصول أو أكثرها، يعني وإن قضيت بالرفع، وفي كثير منها «وإن قضيبا» على أنه خبر كان المحذوفة أو أنه مفعول الفعل محذوف تقديره: وإن اقتطع اهـ والأراك: شجر معروف يستاك بأعواده بل هو أفضل ما يستاك به كما سيأتي إن شاء الله تعالى في باب فضل السواك، وما أحسن قول من قال:

با إن جزت بوادي الأراك وقبلت أغصانه الخضر فاك فابعث إلى المملوك من بعضها فإنني وا مالي سواك (رواه مسلم) قال المزي: ورواه النسائي وابن ماجه. 21513 - (وعن عديّ) بفتح أول مهملية وكسر ثانيهما (ابن عميرة) بفتح العين المهملة وكسر الميم، قال المصنف: لم يأت هذا الاسم في الرجال إلا بفتح العين، وجاء في النساء بالفتح والضم، وعميرة هو ابن زرارة، أبو زرارة الكندي، ذكر له الحافظ المزي في الأطراف ثلاثة أحاديث، انفرد مسلم بالرواية عنه دون البخاري فروي هذا الحديث عنه (رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من استعملناه منكم على عمل) من جمع مال الزكاة أو الغنائم أو نحو ذلك (فكتمنا) بميم مفتوحة والفاعل مستتر يعود إلى من وأفرده باعتبار لفظها، وقوله: (مخيطاً) بكسر الميم وسكون المعجمة: هو الإبرة (فما فوقه) في الصغر، وهذا في الكلام كقولك أتراه قصيراً؟ فيقول القائل أو فوق ذلك: أي: هو أقصر مما ترى (كان) أي: المكتوم المدلول عليه بقوله كتمنا نظير {أعدلوا هو أقرب للتقوى} (المائدة: 8) (غلولاً) بضم الغين المعجمة (يأتي به يوم القيامة) يحمله كما تقدم في أحاديث الباب وفي رواية أبي داود «فهو غلّ يأتي به يوم القيامة» قال ابن رسلان: الغلّ الحديدة التي يجمع بها يد الأسير إلى عنقه يأتي به يوم القيامة إلى المحشر وهو حامل له كما ذكر مثله في الغالّ، ويحتمل أن يكون الغلّ في يده يوم القيامة في جهنم. وفيه وعيد شديد وزجر أكيد في الخيانة من العامل في القليل والكثير وأنه من الكبائر العظام اهـ. وعلى رواية مسلم ففيه أن ما أخفاه العامل غلول والغلوم حرام وإن قل، وهو من الكبائر ويجب عليه رده بالإجماع؛ فإن كان قد غله من الغنيمة وتفرق الجيش وتعذر إيصال حق كل واحد إليه ففيه خلاف للعلماء، وقال الشافعي وطائفة: يجب تسليمه للإمام كسائر الأموال الضائعة وقال ابن مسعود وابن عباس ومعاوية

والحسن والزهري ومالك والثوري والليث وأحمد والجمهور: يدفع خمسه إلى الإمام ويتصدق بالباقي (فقام إليه رجل أسود من الأنصار كأني أنظر إليه) لم أر من ذكر اسمه لا المصنف في «شرح مسلم» ولا ابن رسلان في «شرح سنن أبي داود» (فقال: يا رسول الله اقبل عني عملي) . قال ابن رسلان: النزول عن العمل الذي هو ولاية لا يحتاج إلى قبول، بل لو قال عزلت نفسي انعزل، فيحمل هذا على الاستئذان فإن فيه نوع استشارة (قال: ومالك) كذا هو في الرياض وكذا رأيته في أصل من «صحيح مسلم» بالظرف خبر عن ما الاستفهامية، لكن قال ابن رسلان في «سنن أبي داود» بعد أن ذكر لفظه: «وما ذلك» اسم إشارة مقرون بكاف الخطاب وقبلها اللام، ولفظ مسلم «وما ذاك» أي: بحذف اللام: أي وأيّ شيء لك داع (قال: سمعتك تقول كذا وكذا) من ألفاظ الكنايات مثل كيت وكيت، ومعناه مثل ذا، ويكنى بها عن المجهول وعما لا يراد التصريح به كما في «النهاية» وقد تقدم (قال: وأنا أقوله الآن: من استعملناه منكم على عمل) يدخل فيه القضاء والحسبة وسائر الأعمال (فليجىء بقليله وكثيره) اللام في فليجىء لام الأمر، وهذا كما قال القرطبي يدل على أن العامل لا يقتطع منه شيئاً لنفسه أجرة ولا غيرها ولا لغيره إلا أن يأذن له الإمام الذي تلزمه طاعته. قال ابن رسلان: ويدخل في عموم ما أهدي له الحديث ابن اللتبية، إذ لو كان في بيت أمه لم يهد له، وما تحت يده من صدقة فرض ونفل، فمتى اقتطع منه شيئاً خانه في أمانته وولايته (فما أوتي) بالبناء للمفعول (عنه انتهى) أعطى (منه أخذ) بالبناء للفاعل: أي: امتنع العامل عن أخذه. قال ابن رسلان: فيذكر العامل الجهات التي قبض منها المال وصفتها، فيأخذ ما جاز أخذه ويترك ما لم يجز أخذه بل يرده على دافعه ويفعل ما تقتضيه الشريعة، وهذا ما ظهر لي ولم يتكلم عليه النووي ولا القرطبي (رواه مسلم) في كتاب الجهاد وأبو داود في كتاب الأقضية. 21614 - (وعن عمربن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم خيبر) يجوز فيها الصرف

باعتبار المكان ومنعه باعتبار البقعة، وعدم الصرف أكثر في ألسنة المحدّثين، وكانت وقعة خيبر سنة ست من الهجرة عقب مرجعهم من الحديبية، ثم ما ذكر من أنها خيبر بالمعجمة أولها والراء آخرها هو الصواب. وذكر القاضي عياض أن أكثر رواة «الموطأ» رووه هكذا، وأن بعضهم رواه حنين بالحاء المهملة والنون، والله أعلم (أقبل نفر) اسم جمع يقع على جماعة من الرجال خاصة ما بين الثلاثة إلى العشرة ولا واحد له من لفظه، كذا في «النهاية» (من أصحاب النبيّ فقالوا: فلان) قال ابن السراج: كناية عن اسم يسمى به المحدث عنه خاص غالباً كما تقدم (شهيد وفلان شهيد حتى مرّوا على رجل) يحتمل أن يكون المراد انتهوا في الذكر، ويحتمل أن يكون المراد المرور عليه ميتاً والأول أقرب (فقالوا) عنه (فلان شهيد. فقال النبيّ: كلا) أي: انته وانزجر عن هذا القول والحكم له بالشهادة المتضمنة الحكم له بالسعادة الأبدية والمنازل العلية الشاهد بذلك قوله تعالى: {بل أحياء عند ربهم} (آل عمران: 169) الآية. (إني رأيته في النار في بردة) بضم الموحدة: ثوب مخطط (غلها) أي: أخذها من الغنيمة قبل أن تقسم (أو) شك الراوي (عباءة) تقدم في الباب ضبطها (رواه مسلم) في كتاب الإيمان، ورواه الترمذي في السير من جامعه بنحوه «قيل: يا رسول الله إن فلاناً استشهد قال: كلا» الحديث، وقال: حسن صحيح. 21715 - (وعن أبي قتادة) بالقاف فالمثناة الفوقية (الحارثبن ربعي) بكسر الراء وسكون الموحدة وكسر العين المهملة ابن بلرمةبن حناسبن عبيدبن غنمبن كعببن سلمة ابن سعد الأنصاري الخزرجي السلمي، فارس رسول الله، وقيل: اسمه النعمان (رضي الله عنه) اختلف في شهوده بدراً وشهد أحداً وما بعدها من المشاهد كلها، أصابه سهم بوجهه يوم ذي قرد فبصق على محله النبي، فما ضرب عليه بعد قط ولا قاح، ودعا له في

ذلك اليوم فقال: «اللهم بارك في شعره وبشره» وفي سفر آخر قال له: «حفظك الله كما حفظت نبيه» أخرجه أبو داود. توفي سنة أربع وخمسين، قيل: بالمدينة وقيل بالكوفة في خلافة عليّ فصلى عليه عليّ فكبر سبعاً. وعن الشعبي أن علياً كبر عليه ستاً، قال: وكان بدرياً، روي هل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة وسبعون حديثاً، اتفقا منها على أحد عشر، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بثمانية (عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه) بفتح الهمزة وكسرها كما سبق (قام فهم) أي: خطيباً (فذكر لهم) أي: بعد حمد الله والثناء عليه (أن الجهاد في سبيل الله) أي: لإعلاء كلمة الله كما يدل عليه قوله في سبيل الله (والإيمان با) والواو لمطلق الجمع، فلا يرد ما قد يتوهم من أن محل الاعتبار بصالح العمل تقدم الإيمان عليه (أفضل الأعمال) أما بالنظر إلى المجموع فهو على إطلاقه، وكذا بالنظر إلى الأفراد بالنظر إلى الإيمان؛ وأما بالنسبة إلى الجهاد فبالنسبة إلى ذلك الوقت أو هو على تقدير من، وهذا يجري فيما ورد في الحديث أنه أفضل الأعمال، وهو من أفضلها كالصلاة أوّل الوقت ونحو ذلك. قال القرطبي: وإنما قرن الجهاد بالإيمان هنا في الأفضلية ولم يجعله من مباني الإسلام في حديث ابن عمر لأنه لا يتمكن من إقامة تلك المباني على تمامها وكمالها ولم يظهر دين الإسلام على الأديان كلها إلا بالجهاد، فكأنه أصل في إقامته والإيمان أصل في تصحيح المباني فجمع بين الأصلين في الأفضلية (فقام رجل فقال: أرأيت) بفتح التاء أي أخبرني (إن قتلت) بالبناء للمجهول (في سبيل ا) أي: لإعلاء كلمة الله واستغنى عنه لظهور «إنما الأعمال بالنيات» ولما تقدم (تكفر) مبني للمجهول والهمزة قبله مقدرة: أي أتكفر (عني خطاياي) يشمل ما يتعلق بحق الله وما يتعلق بحق العباد (فقال له رسول الله: نعم) بفتح أوليه حرف جواب (إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر) أي: على ملاقاة القرن وجراحات السيوف وطعن الرماح وغير ذلك من أتعاب الحرب (محتسب) أي: مخلص تعالى، فإذا قاتل لمعصية أو لغنيمة أو لصيت فلا يحصل له ما ذكر في الخبر من الثواب ولا غيره (مقبل غير مدبر) أي: على وجه الفرار، أما لو أدبر ليكرّ على العدو بعد أو ليأتي بالفئة فالظاهر حصول الثواب المذكور، ويحتمل على بعد أن ذلك مسقط للإثم لا محصل للأجر والله أعلم. وجواب إن

الشرطية محذوف اكتفاء بوجوده في السؤال (ثم قال رسول الله) مستدركاً للدين ومثله سائر حقوق العباد من عموم كلامه السابق (كيف قلت؟) أي: أيها السائل (قال) أي: السائل (قلت: أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله: نعم وأنت صابر) جملة حالية حذف صاحبها وعاملها لدلالة وجودهما في الكلام السابق: أي: إن قتلت وأنت صابر (محتسب مقبل غير مدبر إلا الدين) . قال المصنف: فيه تنبيه على جميع حقوق الآدميين، وأن الجهاد والشهادة لا تكفر حقوق الآدميين إنما تكفر حققوق الله: أي: الصغائر منها اهـ. قال القرطبي: لكن هذا كله إذا امتنع من أداء الحقوق مع تمكنه منه، وأما إذا لم يجد للخروج من ذلك سبيلاً فالمرجو من كرم الله تعالى إذا صدق في قصده وصحت توبته أن يرضي عنه خصومه كما قد جاء نصاً في حديث أبي سعيد الخدري المشهور في هذا (قال لي ذلك جبريل) قال المصنف: يحمل على أنه أوحى إليه به في الحال (رواه مسلم) في كتاب الجهاد، وكذا رواه الترمذي والنسائي في كتاب الجهاد، وقال الترمذي: حسن صحيح، ثم هذا الحديث مقدم على الحديث بعده في نسخة مصححة، وفي نسخة أخرى بالعكس. 21816 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أتدرون) أي: أتعلمون من الدراية، قال البيضاوي هي علم فيه احتيال وخداع (من المفلس؟ قالوا) بحسب ما يعرفونه فيه عرفاً (المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع) قال في «النهاية» : هو كل ما ينتفع به من عروض الدنيا قليلها وكثيرها (فقال) مشيراً إلى أن هذا لانقطاع أمور الدنيا ونصبها لا ينبغي أن يعدّ حقيقة المفلس وقدلا يزول عنه لعارض من يسار ونحوه (إن المفلس) مفلس

الدرجات العلى في الدار الأخرى (من أمتي) أي: أمة الإجابة: أي من المؤمنين (من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام) بهذا ردّ قول سفيانبن عيينة إن وجه إضافة الصوم في حديث «الصوم لي» أن أصحاب التبعات إنما يأخذون من حسنات الظالم حتى يبقى الصيام فعند ذلك يقول الله: «الصوم لي وأنا أجزي به» ، ويرضي عنه الخصوم (وزكاة) أي: وغيرها من عمل البرّ (ويأتي) عطف على يأتي الأوّل (وقد شتم هذا) أي: سبه كما في «الصحاح» (وقذف هذا) أي: رماه بالزنى مثلاً (وأكل مال هذا) أي: بغير رضاه ومثله سائر الإتلافات بأيّ وجه كان، وخص الأكل لأنه أغلب وجوه إتلاف المال (وسفك) أي: أهرق (دم هذا وضرب هذا فيعطي هذا) أي: أحد المجنيّ عليه (من حسنته) أي: من ثوابها، ويحتمل أن يعطاها بنفسها ويجازى عليها حينئذٍ وهو مثل ما تقدم في الحديث السابق في الباب «إن كان له عمل صالح أخذ منه» (ويعطي هذا) أي: الآخر بفتح الخاء (من حسناته، فإن فنيت حسناته) بأخذ الغرماء لها. (قبل أن يقضي ما عليه) من التبعات (أخذ) بالبناء للمفعول كالمضارع قبله والماضيين بعد (من خطاياهم) أي: ذنوبهم، وظاهر عمومه يشتمل ما كان متعلقاً بالخلق، ويحتمل أن يخص ما يتعلق بالحق (فطرحت عليه ثم طرح في النار) قدر عمله السيء وما طرح عليه (رواه مسلم) قال ابن الرصاع في كتاب (تذكرة المحبين في «شرح أسماء» سيد المرسلين) قال بعض العارفين عند هذا الحديث: إنه فيه تشديد وفيه للعقلاء غاية الوعيد فإن الإنسان قلّ أن تسلم أفعاله وأقواله من الرياء ومكايد الشيطان، وإن سلمت له خصلة فقلّ أن يسلم من أذية الخلق، فإذا كان يوم القيامة وقد سلمت له حصلة مع قلة سلامتها طلب خصمك تلك الحسنة وأخذها منكم بحكم مولاك عليك، فإنه لا مال يوم القيامة تؤدي منه ما عليك، بل من حسناتك يا مغبون إن كنت صائماً بالنهار قائماً بالليل جاداً في طاعة الرحمن، وقلّ أن تسلم من غيبة المسلمين وأذيتهم وأخذ مالهم، هذا حال من كان جاداً في الطاعات فكيف من كان مثلنا جاداً في جمع السيئات من أكل الحرام والشبهات

والتقصير في الطاعات والإسراع إلى المخالفات اهـ. 21917 - (وعن) أم المؤمنين (أم سلمة) هند بنت أبي أمية المخزومي (رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنما أنا بشر) من الحصر الخاص الذي دلت عليه قرينة الحال، قال التوربشتي: وإنما ابتدأ الحديث بهذه الجملة تنبيهاً على أن السهو والنسيان غير مستبعد من الإنسان، وأن الوضع البشري يقتضي ألا يدرك من الأمور إلا ظواهرها. فإن قلت أو لم يكن النبيّ معصوماً في سائر أحواله؟ قلت: العصمة تتحقق فيما يعد عليه ذنباً ويقصده قصداً، أما ما نحن فيه مما يسمعه من الخصم فيتوهم صدقة فليس بداخل فيه، فإن الله تعالى لم يكلفه فيما لم ينزل عليه إلا ما كلف غيره وهو الاجتهاد في الإصابة قال: ويدل عليه ما روي في حديث أم سلمة أي من غير هذا «إنما أقضي بينكم برأيي فيما لم ينزل عليّ» (وإنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم أن) قال الطيبي زائدة تشبيهاً للعمل بعسى: أي لعله (يكون ألحن) أفعل تفضيل من لحن بالحاء المهملة كفرح إذا فطن بما لا يفطن به غيره: أي: أفصح أو أفطن (بحجته من بعض) فيزين كلامه بحيث أظنه صادقاً في دعواه (فأقضي له على نحو ما أسمع) . قال الراغب: اللحن صرف الكلام عن سننه الجاري عليه إما بإزالة الإعراب والتصحيف وهو مذموم وذلك أكثر استعمالاً، وإما بإزالته عن التصريح وصرفه بمعناه إلى تعريض وفحوى وهو محمود، وإياه قصد الشاعر بقوله: وخير الحديث ما كان لحناً ومنه قوله تعالى: {ولتعرفنهم في لحن القول} (محمد: 30) ومنه قيل للفطن لما لا تقتضي فحوى الكلام لحن، ومنه الحديث ألحن بحجته: أي ألسن وأفصح وأبين كلاماً وأقدر على الحجة. قال العاقولي: وفي الحديث أنه يجوز عليه في أمور الأحكام ما يجوز على غيره: وأنه إنما يحكم بين الناس بالظاهر، وهذا لطف من الله تعالى ليستنّ الناس به ويبقوا في ستر من الفضيحة العظمى، إذ لو أطلع أحد على الغيب لم يحتج أحد إلى شاهد في دعواه ولظهر من كل مبطل ما قصده ونواه، وهذا إنما هو في الحكم المستند إلى الشهادة، أما الأحكام الشرعية فلا يقر على ما أمله أن يقع فيه الخطأ منها بخلاف الأوّل، لأنه لا يسمى خطأ إنما يسمى حكماً بالظواهر لم يوافق الباطن، وهو صحيح لكونه مبنياً على القاعدة

الشرعية لكونه مرتباً على شهادة الشاهدين (فمن قضيت له بحق أخيه) لظاهر بيانه وحجته وهو يعلم أنه مبطل في نفس الأمر فلا يأخذه (فإنما أقطع له) أي: أعين له بناء على ظاهر الأمر (قطعة من النار) أي: فهو حرام يؤول به إليها كقوله تعالى: {إنما يأكلون في بطونهم ناراً} (النساء: 10) أي: جزاؤهم ذلك إن لم يعف الله عنهم (متفق عليه) في «الجامع الصغير» بلفظ «من قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها» رواه مالك وأحمد والستة عن أم سلمة، وفي رواية «فإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر» (ألحن) المذكور في الحديث (أي أعلم) . 22018 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: لن يزال المؤمن في فسحة) بضم الفاء وسكون السين وبالحاء المهملتين: أي: سعة (من دينه) ورجاء رحمة من ربه وإن ارتكب الكبائر (ما لم يصب) بضم أوله وكسر ثانيه أي يباشر (دماً حراماً) فإذا قتل نفساً بغير حق ضاقت عليه المسالك ودخل في زمرة الآيسين من رحمةالله، كما ورد في حديث أبي هريرة مرفوعاً «من أعان على قتل مؤمن ولو بشطر كلمة لقي الله مكتوباً بين عينيه: آيس من رحمة ا» قيل: المراد بشطر الكلمة قول «أق» وهو من باب التغليظ (رواه البخاري) وروى أبو داود عن أبي الدرداء عن رسول الله «لا يزال المؤمن معنقاً» بكسر النون بعد العين المهملة: أي: مسرعاً «في صالح عمله ما لم يصب دماً حراماً، فإذا أصاب دماً حراماً تلج» وفي «الجامع الصغير» وروى الطبراني عن قتادةبن عياش مرفوعاً «لن يزال العبد في فسخة من دينه ما لم يشرب الخمر، فإذا شربها خرق الله عنه ستره، وكان الشيطان وليه وسمعه

وبصره ورجله، يسوقه إلى كل شرّ ويصرفه عن كل مرقاة» قال الهروي في «المرقاة» : وهذا يدل على أن المراد الانتهاء عن الكبائر مطلقاً وخص في كل موضع ما ذكر فيه لأمر يقتضيه اهـ. 22119 - (وعن خولة) بفتح الخاء المعجمة وسكون الواو ويقال لها خويلة (بنت ثامر) بالمثلثة وكسر الميم (الأنصارية وهي) أم محمد (امرأة حمزة) بن عبد المطلب (رضي الله عنه وعنها) وفي نسخة «عنهما بضمير التثنية وهي أخصر. قال المزي في كتاب الأطراف: خولة بنت قيسبن قهد بالقاف ابن قيسبن ميسربن ثعلبة الأنصارية، وقيل: امرأة حمزة خولة بنت ثامر الخولانية. وقيل: إن ثامراً لقب قيس بت قهد. قال عليبن المديني: خولة بنت قيس هي خولة بنت ثامر. قلت: وبذلك قال أبو عمر. قال ابن الأثير: وقد ذكر ترجمة خولة بنت ثامر وأورد فيها حديث الباب، وترجمة خولة بنت قيسبن قهدبن قيسبن ثعلبةبن غنمبن مالكبن النجار الأنصارية النجارية زوج حمزة تكنى أم محمد، وقيل: إن امرأة حمزة خولة بنت ثامر وقيل: إن ثامراً لقب لقيسبن قهد، والأول أصح قاله أبو عمر. تكنى أم محمد، وقيل: أم حبيبة وصحفه ابن منده بأم صبية، قتل عنها حمزة يوم أحد فخلف عليها النعمانبن عجلان الأنصاري الذرقي، ثم قال ابن الأثير: قلت ما أقرب أن يكون ثامر لقب قيسبن قهد فإن الحديث في الترجمتين واحد وهو «إن هذا المال حلوة خضرة» والله أعلم اهـ. ونقل الحافظ في «فتح الباري» قول من فرق بينهما وقول ابن المديني السابق. قال ابن الجوزي: فيمن له ثمانية أحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خولة بنت قيس. وقال في «رواة الصحيحين» من الصحابة: انفرد البخاري بخولة (بنت) ثامر، روي عنها حديثاً واحداً (قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن رجالاً يتخوّضون) بالخاء والضاد المعجمتين: أي: يتصرفون (في مال الله بغير حق) أي: يتصرفون في أموال المسلمين بالباطل. ففيه أن التصرف فيها لا يجوز بمجرد التشهي (فلهم النار يوم القيامة) . قال الحافظ في «الفتح» : هذا حكم مرتب على الوصف المناسب وهو الخوض في مالالله، ففيه إشعار بالعلية (رواه البخاري) ورواه الترمذي من

27 ــــ «باب تعظيم حرمات المسلمين وبيان حقوقهم والشفقة عليهم ورحمتهم» .

حديث خولة بنت قيس وزاد أوله «إن هذا المال حلوة خضرة من أصابه بحقه بورك له فيه، وربّ متخوض فيما شاءت نفسه من مال الله ورسوله ليس له يوم القيامة إلا النار» قال الترمذي: حسن صحيح. 27 - «باب تعظيم حرمات المسلمين وبيان حقوقهم والشفقة عليهم ورحمتهم» .

(باب تعظيم حرمات) بضمتين جمع حرمة بضم فسكون، وهي ما لا يحلّ انتهاكه من أهل ومال (المسلمين وبيان حقوقهم) على إخوانهم المسلمين (والشفقة) معطوف على تعظيم ويصح عطفه على حرمات أو حقوق (عليهم والرحمة) عطف تفسير (بهم) . (قال الله تعالى: {ومن يعظم حرمات ا} ) أحكامه وسائر ما لا يحل هتكه أو المراد به الحرم أو ما يتعلق به الحج من التكاليف (فهو) أي فالتعظيم (خير) أي قربة وزيادة في الطاعة (له عند ربه) ثم قيل الظاهر أن خيراً هنا ليس أفعل تفضيل. (وقال تعالى: {ومن يعظم شعائر ا} ) دين الله أو فرائض الحج ومواضع نسكه أو الهدايا لأنها من معالم الحج وهو أوفق لظاهر ما بعده، وعليه فتعظيمها أن يختارها سمانا غالية الأثمان. «روي أنه أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برّة من ذهب. وأن عمر أهدى نجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار» ( {فإنها من تقوى القلوب} ) أي فإن تعظيمها منه من أفعال ذوي القلوب فحذفت هذه المضافات والعائد إلى من، وذكر القلوب لأنها منشأ التقوى والفجور والإمرة بهما. (وقال تعالى) مخاطباً لنبيه: ( {واخفض جناحك للمؤمنين} ) وتواضع لهم

وارفق بهم. (وقال تعالى {من قتل نفساً بغير نفس} ) أي بغير نفس توجب القصاص (أو) بغير (فساد في الأرض) كالشرك وقطع الطريق. وثبت بالسنة رجم الزاني المحصن وقتل تارك الصلاة (فكأنما قتل الناس جميعاً) من حيث أنه هتك حرمة الدماء وسن القتل وجرأ الناس عليه أو من حيث أن قتل الواحد وقتل الجميع سواء في استجلاب غضب الله والعذاب العظيم (ومن أحياها) أي تسبب لبقاء حياتها بعفو أو منع عن القتل أو استنفاذ من بعض أسباب الهلكة (فكأنما أحيا الناس جميعاً) أي كأنه فعل ذلك بهم جميعاً والمطلوب منه تعظيم قتل النفس وإحياؤها في القلوب ترهيباً من التعرض لها وترغيباً في المجافاة لها. 2221 - (وعن أبي موسى) الأشعري (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: المؤمن للمؤمن كالبنيان) فالمؤمن مبتدأ، وقوله كالبنيان خبره، وقوله للمؤمن يصح كونه حالاً من المبتدأ وصفة له، لأن أل فيه جنسية، وقوله: (يشد بعضه بعضاً) جملة استئنافية لبيان وجه الشبه؛ قال القرطبي: هذا تمثيل يفيد الحض على معاونة المؤمن للمؤمن ونصرته، وأن ذلك أمر متأكد لا بد منه، فإن البناء لا يتم ولا تحصل فائدته إلا بأن يكون بعضه يمسك بعضاً ويقويه. وإن لم يكن ذلك انحلت أجزاؤه وخرب بناؤه، وكذا المؤمن لا يشتغل بأمر دنياه ودينه إلا بمعاونة أخيه ومعاضدته ومناصرته، فإن لم يكن ذلك عجز عن القيام بكل مصالحه وعن مقاومة مضادّه فحينئذٍ لا يتم له نظام دنيا ولا دين ويلحق بالهالكين (وشبك) يحتمل أن يكون النبي وأن يكون الراوي (بين أصابعه) وذلك تقريب لوجه التشبيه وبيان للتداخل (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة والأدب، ومسلم في الأدب من «صحيحهما» ورواه

الترمذي في الزهد وقال: صحيح غريب من حديث أبي موسى، والنسائي في الإيمان. 2232 - (وعنه) أي أبي موسى (قال: قال رسول الله: من مرّ في شيء من مساجدنا أو أسواقنا) قال الحافظ ابن حجر هو تنويع من الشارع وليس شكاً من الراوي (ومعه نبل) جملة في محل الحال من فاعل مرّ، والنبل بفتح النون وسكون الموحدة: السهام العربية وهي مؤنثة لا واحد لها من لفظها (فليمسك أو) شك من الراوي (ليقيض) بكسر اللام للأمر أيضاً (على نصالها) قيل: «على» فيه بمعنى الباء، وقيل ضمن العامل معنى الاستعلاء للمبالغة. والنصال: بكسر النون وبالمهملة الحديدة التي في رأس السهم (بكفه) متعلق بيمسك أو يقبض، مخافة (أن يصيب أحداً من المسلمين منها) أي بسبب النصال فمن تعليلية (شيء) فيتأذى به (متفق عليه) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، ومسلم في الأدب ورواه أبو داود في الجهاد، وابن ماجه في الأدب، كذا في «الأطراف» للمزي. 2243 - (وعن النعمان) بضم النون وسكون العين المهملة (ابن بشير) بفتح الموحدة وكسر الشين المعجمة وسكون التحتية (رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: مثل) بفتح أوليه، ويقال فيه مثل ومثيل ومثلها شبه وشبه وشبيه: أي فصة (المؤمنين) وفي نسخة «المسلمين» والذي في الصحيحين «المؤمنين» : أي الكاملين الإيمان كما قال ابن أبي حمزة (في توادهم) بتشديد الدال والأصل تواددهم فأدغم، والتوادد تفاعل من المودة: وهي: تقرب شخص من آخر بما يحب. قال القرطبي: ووقع في رواية توادهم بغير «في» ويصح ذلك ويكون مخفوضاً على أنه بدل اشتمال من المؤمنين (وتراحمهم وتعاطفهم) قال ابن أبي جمرة: الذي يظهر أن التراحم والتوادد والتعاطف وإن كانت متقاربة في

المعنى لكن بينها فرق لطيف فالتراحم المراد به أن يرحم بعضهم بعضاً بأخوة الإيمان لا بسبب شيء آخر، والتوادد المراد به: التواصل الجالب للمحبة فالتزاور والتهادي، والتعاطف المراد به إعانة بعضهم بعضاً كما يعطف طرف الثوب عليه ليقويه اهـ ملخصاً (مثل الجسد) أي بالنسبة إلى جميع أعضائه، وجه الشبه فيه التوافق في التعب والراحة كما بينه بقوله (إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد) أي دعا باقيه بعضه إلى بعض إلى المشاركة في الألم، يقال تداعت الحيطان: أي تساقطت أو كادت (بالسهر والحمى) الظرف متعلق بتداعي، وتداعيه بالسهر لأن الألم يمنع النوم، وأما الحمى فلأن فقد النوم يثيرها. والحمى بضم المهملة وتشديد الميم عرّفها حذاق الأطباء بأنها حرارة غريبة تشتعل في القلب فتنبثّ منه في جميع البدن فيشتعل اشتعالاً يضرّ بالأفعال الطبيعية. قال ابن أبي جمرة، شبه الإيمان بالجسد وأهله بالأعضاء، لأن الإيمان أصل وفروعه التكاليف، فإذا أخل المرء بشيء من التكاليف شان ذلك الإخلال الأصل، وذلك الجسد أصل كالشجر وأعضاؤه كالأغصان، فإذا اشتكى عضو من جسد اشتكت الأعضاء كلها بالاهتزاز والاضطراب اهـ. قال القاضي عياض: وفي الحديث تعظيم حقوق المسلمين والحضّ على تعاونهم وملاطفة بعضهم بعضاً (متفق عليه) . وفي رواية لمسلم عن النعمان مرفوعاً «المؤمنون كرجل واحد إذا اشتكى عينه اشتكى كله، وإذا اشتكى رأسه اشتكى كله» . 2254 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قبل النبي) سبطه وريحانته (الحسن بن علي رضي الله عنهما) وجملة (وعنده الأقرع بن حابس) في محل الحال من فاعل قبل، واسم الأقرع فراس ولقب بذلك لقرع كان في رأسه وهو تميمي كان شريفاً في الجاهلية والإسلام، شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتح مكة وحنيناً وحصار الطائف. قال في «فتح الباري» : وهو من المؤلفة وممن حسن إسلامه (فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد)

بفتحتين أو بضم فسكون (ما قبلت أحداً منهم) وذلك لما في أهل البادية من الغلظ والجفاء كما في الحديث «من بدا فقد جفا» (فنظر إليه رسول الله) متعجباً من تلك الغلظة الناشىء عنها عدم الشفقة على الأولاد الناشىء عنها عدم تقبيلهم وحملهم وشمهم (فقال) عقب نظره إليه (من لا يرحم) بالبناء للفاعل وحذف المفعول للتعميم/ أو كنى به عن الفعل مع مفعوله: أي من لا يرحم الناس، ويقرب من هذا المعنى رواية جابر: «من لا يرحم الناس لا يرحمه ا» قاله الشيخ أكمل الدين في «شرح المشارق» ، لكن الحديث سيأتي عن جرير، ولعل قوله عن جابر من الكاتب أو من باب تنزيل المتعدى منزلة اللازم، ونحو: فلان يعطي ويمنع، أي موصوف بتينك الصفتين: أي من لا رحمة عنده (لا يرحم) بالبناء للمفعول: أي لا يرحمهالله. قال في «فتح الباري» : هو بالرفع فيهما على الخبر. قال عياض: هو الأكثر وقال أبو البقاء «من» موصولة ويجوز أن تكون شرطية فيقرأ مجزوماً. قال السهيلي: جعله على الخبر أشبه بسياق الكلام: أي الذي فعل هذا الفعل لا يرحم، ولو كانت شرطية لكان في الكلام بعض انقطاع لأن الشرط وجوابه كلام مستأنف. قلت: وهو أولى من وجه آخر لأنه يصير كضرب المثل، ورجح بعضهم كونها موصولة لكون الشرط إذا أعقبه نفي ينفى بلم لا بلا، كقوله: «ومن لم يؤمن» وإن كان الآخر جائزاً كقول زهير: «ومن لا يظلم الناس يظلم» وهذا لا يقتضي ترجيحاً إذا كان المقام لائقاً بكونها شرطية، وأجاز بعض شراح المشارق رفع الجزءين وجزمهما ورفع الأول وجزم الثاني أو عكسه، ويحصل منه أربعة أوجه استبعد ثالثها، ووجه أن يكون في الثاني بمعنى النهي: أي من لا يرحم الناس لا ترحموه، وتقدير الرابع: من لا يكون من أهل الرحمة فإنه لا يرحم اهـ. ملخصاً من «الفتح» . وشارح المشارق المشار إليه هو الشيخ أكمل الدين، وعبارته: روي بالسكون والرفع، أما السكون فيهما فعلى الشرط والجزاء، وأما الرفع في الأول فيجعل من موصولة وكذا في الثاني، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي فهو لا يرحم اهـ. وفاته ذكر الوجه الثالث، ومعنى هاتين الجملتين قال ابن أبي جمرة: يحتمل أن يكون من لا يرحم غيره بأيّ نوع من أنواع الإحسان لا يحصل له هذا الثواب كما قال تعالى: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} (الرحمن: 60) ويحتمل أن يكون المراد من لا تكون فيه رحمة الإيمان في الدنيا لا يرحم في الآخرة، أو من لا يرحم نفسه بامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه لا يرحمه الله لأنه ليس عنده عهد، فتكون الرحمة الأولى بمعنى الأعمال، والثانية

بمعنى الجزاء، أي لا يثاب إلا من عمل صالحاً، ويحتمل أن تكون الأولى الصدقة الثانية البلاء: أي لا يسلم من البلاء إلا من تصدق، ومن لا يرحم الرحمة التي ليس فيها شائبة أذى لا يرحم مطلقاً، أو لا ينظر الله بعين الرحمة إلا إلى من جعل في قلبه الرحمة ولو كان عمله صالحاً اهـ. ملخصاً. قال: وينبغي للمرء أن يتفقد نفسه في هذه الأوجه كلها، فما قصر فيه لجأ إلى الله تعالى في الإعانة عليه اهـ. وفي جواب النبي للأقرع إشارة إلى أن تقبيل الولد وغيره من الأهل والمحارم والأجانب إنما يكون للشفقة والرحمة، لا للشهوة واللذة، وكذا الضم والمعانقة والشم (متفق عليه) . قال في «الجامع الصغير» : ورواه أحمد وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة، ورواه الشيخان عن جرير. وروى أحمد والشيخان والترمذي عن جرير «من لا يرحم الناس لا يرحمه ا» ورواه بهذا اللفظ أحمد والترمذي من حديث أبي سعيد، ورواه الطبراني بلفظ «من لا يرحم من في الأرض لا يرحمه من في السماء» عن جرير، ورواه أحمد بلفظ: «من لا يَرحم لا يُرحم/ ومن لا يَغفر لا يُغفر له» عن جرير، ورواه بهذا اللفظ الطبراني عن جرير وزاد «من لا يتب لا يتب عليه» اهـ. 2265 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم) بكسر الدال المهملة (ناس) اسم جنس قيل أصله أناس بضم الهمزة فحذفت حذفها في لوقه وعوض عنها حرف التعريف ولذلك لا يجمع بينهما، وهو اسم جمع كرجال إذ لم يثبت فعال في أبنية الجمع. وتقدم عن البيضاوي في التفسير أنه مأخوذ من أنس كفرح لأنهم يأنسون بأمثالهم، أو أنس كضرب لأنهم ظاهرون مبصرون ولذا سموا بشراَ كما سمي الجن جناً لاجتنانهم اهـ. وقيل قلب من نسي، وقيل بل أصله ناس ينوس إذا اضطرب. وكأن تعويض أل عن الهمزة ليس على وجه اللزوم فلذا قالته الفصيحة بالتنكير وأل فيه إذا عرف للجنس. وهؤلاء الناس يحتمل أن يكونوا من بني تميم الذين رئيسهم الأقرع فيكون الحديث وما قبله في قصة واحدة، ويحتمل أنهما قصتان (من الأعراب) هم سكان البوادي، وفي نسخة من العرب وهم ولد إسماعيل (على رسول الله) وفي رواية البخاري «جاء أعرابي إلى رسول الله» وهذا الرجل قال شيخ الإسلام زكريا نقلاً عن الحافظ: يحتمل كونه الأقرع. قلت: وحكى المصنف في مبهماته عن الخطيب قولاً: إنه عيينة بن حصن، قال: وقد جاء

في «الصحيحين» التصريح بأنه الأقرع فإن صح عن عيينة أيضاً فهما قصتان اهـ (فقالوا) وقد رأوا المسلمين يقبلون صغارهم (أتقبلون صبيانكم) بكسر الصاد وضمها جمع صبي ويجمع على صبية كما في (الصحاح) ، وفي رواية البخاري السابقة «تقبلون» بتقدير ألف الاستفهام (فقالوا) أي المسلمون وفي نسخة «فقال أي النبي (نعم قالوا) أي الأعراب أو العرب (لكنا) استدراك من قولهم نعم من حيث أن الجنس واحد وأنهم بشر فربما يتوهم أنهم كذلك، فقالوا (لكنا وا ما تقبل) من حذف المفعول للتعميم، أي صغارنا أو من تنزيل التعدي منزلة اللازم نحو {هل يستوي الذين يعملون} (الزمر: 9) (فقال رسول الله: أو أملك) بالهمزة للاستفهام الإنكاري، وهو بفتح الواو العاطفة على مقدر بعد الهمزة على رأي الزمخشري. وقيل: إن الهمزة من جملة المعطوف وإن الواو مؤخرة من تقديم لصدارة الهمزة، والتقدير على الأول: تنزع الرحمة من قلبك وأملك؟: أي أقدر أن أجعلها في قلبك، فمفعول أملك محذوف، وقوله: (أن نزع الله من قلوبكم الرحمة) بفتح الهمزة تقليل لذلك: أي لا أملك وضعها في قلوبكم لأن الله نزعها منكم. وأشار صاحب المفاتيح إلى كون أن بفتح الهمزة ومدخولها مفعول أملك على تقدير مضاف: أو أملك عدم نزع الله منكم الرحمة: أي لأن ما نزعه الله تعالى لا يقدر أحد على وضعه. قال العاقولي: ويجوز كسر الهمزة على أنّ إن أداة شرط جزاؤها محذوف لدلالة الكلام السابق عليه: أي إن نزع الله الرحمة من قلبكم فلا أملك لم دفعه ومنعه (متفق عليه) وهذا لفظ مسلم. وهذا الحديث اقتصر المزي على عزوه للبخاري فقط، مع أنه بهذا اللفظ لمسلم في كتاب فضائل الأنبياء وأما البخاري فرواه في كتاب الأدب بنحوه. 2276 - (وعن جرير بن عبد الله) البجلي (رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: من لا يرحم الناس) خصوا بالذكر اهتماماً بهم، وإلا فالرحمة مطلوبة لسائر المخلوقات حتى الدوابّ والبهائم. ففي كل كبد حرّاً رطبة أجر (لا يرحمه ا) قال العاقولي: الرحمة بمعنى

التعطف والرقة، فهي من الخلق بالمعنى ومن الله بالمعنى الغائي وهو الرضى عنه وإيصال النعم إليه. قال الدماميني في مصابيح الجامع الصحيح: اعلم أنه يجوز عند المتكلمين في تأويل ما لا يسوغ نسبته إلى الله تعالى على حقيقته اللغوية وجهان: أحدهما الحمل على الإرادة فيكون من صفات الذات. والآخر الحمل الحمل على فعل الإكرام فيكون من صفات الأفعال كالرحمة فإنها في اللغة مشتقة من الرحم وحاصلها رقة طبيعية وميل جبلي وهذا مستحيل في حق الباري فمنهم من يحملها على إرادة الخير ومنهم من يحملها على فعله ثم بعد ذلك يتعين أحد التأويلين في بعض السياقات لمانع يمنع الآخر كحديث «خلق الله الرحمة يوم خلقها» فيتعين تأويل الرحمة بفعل الخير لتكون صفة فعل فتكون حادثة عند الأشعري فيتسلط عليها الخلق، ولا يصح تأويلها فيه بالإرادة لأنها إذ ذاك من صفات الذات فتكون قديمة فيمتنع تعلق الخلق بها، ويتعين تأويلها بالإرادة في قوله تعالى: {لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم} (هود: 43) لأنك لو حملتها على الفعل لكان العصمة بعينها فيكون استثناء الشيء من نفسه، وكأنك قلت: لا عاصم إلا العاصم فتكون الرحمة الإرادة، والعصمة على بابها لفعل المنع من المكروهات، كأنه قال: لا يمنع المحذور إلا من أراد له السلامة، فتأمل اهـ. (متفق عليه) اقتصر المزي في «الأطراف» على عزوه بهذا اللفظ عن جرير إلى مسلم والترمذي قال: قال الترمذي: حسن صحيح، وتقدم تخريجه من الصحيحين وغيرهما في الكلام على حديث أبي هريرة نقلاً عن «الجامع الصغير» . 2287 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا صلى أحدكم) إماماً (للناس) وفي رواية مسلم «إذا أمّ أحدكم» (فليحفف) بأن يقتصر على أواسط المفصل وصغاره، وفي التسبيح في الركوع والسجود على ثلاث مرات، ويأتي بكمال التشهد والصلاة

على النبي، وهذا في إمام العامة، أما إمام قوم محصورين لم يتعلق بعينهم حق، راضين بالتطويل في مسجد لا يطرقهم غيرهم فلا بأس به ومحل ذلك أيضاً في غير ما لم يرد فيه قراءة سورة معينة وإلا كـ {آلم تنزيل} (البقرة: 1) {وهل أتى} (الإنسان: 1) في صبح الجمعة، {وق} {واقتربت} في العيد، ونحو ذلك فيأتي به وإن لم يرض القوم اكتفاء بوروده من فعله. قال ابن دقيق العيد: التخفيف والتطويل من الأمور الإضافية، فقد يكون الشيء خفيفاً بالنسبة إلى عادة قوم، ذويلاً بالنسبة إلى عادة قوم آخرين. وقول الفقهاء: لا يزيد الإمام على ثلاث تسبيحات في الركوع والسجود لا يخالف ما ورد عن النبي أنه كان يزيد على ذلك، لأن رغبة الصحابة في الخير تقتضي أن لا يكون ذلك تطويلاً. قال الحافظ ابن حجر: وأولى ما أخذ حد التخفيف من الحديث الذي أخرجه أبو داود والنسائي عن عثمان بن أبي العاص: «أن النبي قال له: أنت إمام قومك، وأقدر القوم بأضعفهم» إسناده حسن وأصله في مسلم (فإن فيهم الضعيف) أي في خلقته كالنحيف (والسقيم) من به مرض (والكبير) أي في السن والجملة تعليل للأمر المذكور، وقضيته أنه متى لم يكن فيهم متصف بصفة من المذكورات لم يضرّ التطويل، لكن قال ابن سيد الناس اليعمري: الأحكام إنما تناط بالغالب لا بالصورة النادرة، فينبغي للأئمة التخفيف مطلقاً، قال: وهذا كما شرع القصر في صلاة السفر، وعلل بالمشقة وهي مع ذلك تشرع «وإن لم يشق عملاً بالغالب لأنه لا يدري ما يطرأ عليه وكذلك هنا (وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء) ومسلم «فليصل كيف شاء» أي مخففاً أو مطولاً (متفق عليه) ورواه أبو داود والترمذي إلى قوله: «والكبير» وفي «الجامع الصغير» من حديث أبي واقد «كان أخفّ الناس صلاة على الناس، وأطول الناس صلاة لنفسه» رواه أحمد (وفي رواية) أي في «الصحيحين» وهي عند أبي داود أيضاً (وذا الحاجة) أي صاحب حاجة يريد قضاءها عقب الصلاة.

2298 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: إن) مخففة من الثقيلة أي إنه (كان رسول الله) من كمال شفقته على أمته (ليدع) أي يترك (العمل) واللام هي الفارقة بين المخففة وإن النافية، وجملة (وهو يحب أن يعمل به) في محل الحال ومحبته للعمل لما فيه من التقرّب إلى الله عزّ وجلّ والتوسل إلى زيادة مراضيه، وقوله: (خشية) مفعول: أي خوف (أن يعمل به الناس) اتباعاً له إذا فعله وهم مقتدون به في سائر الأحوال (فيفرض عليهم) ومن ذلك ترك الخروج إلى قوم لصلاة الليل جماعة في الليلة الثالثة أو الرابعة من رمضان حتى طلع الفجر، فخرج عليهم وقال: «ما منعني إلا خشية أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها» (متفق عليه) . 2309 - (وعنها) أي عائشة (قالت: نهاهم) أي الصحابة (النبي عن الوصال) وهو أن لا يتناول مفطراً بين الصومين، وقيل استدامة أحوال الصائم، فعلى الثاني يخرج من الوصال بالجماع والتقيؤ دون الأول، والنهي فيه عندنا للتحريم (رحمة لهم) علة للنهي ولا يمنع من كونه على وجه التحريم ويكون سبب التحريم الشفقة عليهم لئلا يتكلفوا ما يشق عليهم (فقالوا: إنك تواصل) أي وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، تفعل ذلك تقرّباً إلىالله، فنحن لكوننا لسنا معصومين أولى بفعل ما يكتسب به غفر الذنوب والتوصل إلى مرضاة الله تعالى (قال) مبيناً لاختصاص قربة الوصال به (إني لست كهيئتكم) أي على صفتكم ومنزلتكم من الله: أي إن له من القرب من الله تعالى وعلوّ المنزلة عنده ما ليس لهم وفي رواية للبخاري «وأيكم مثلي» وهذا الاستفهام يفيد التوبيخ المشعر بالاستبعاد (إنى يطعمني) بضم أوله (ربي ويسقيني) يجوز فتح أوله وضمه من سقى وأسقى إلا أن تصح رواية بأحدهما فيرجع إليها (متفق عليه)

أخرجه مسلم في كتاب الصوم وكذا البخاري فيه «وفي غيره ورواه مالك والنسائي (معناه) أي المعنى المراد من قوله يطعمني إلخ (يجعل فيّ) بتشديد الياء (قوة من أكل وشرب) كذا قاله الجمهور فهو مجاز من ذكر الملزوم وإرادة اللازم: أي يجعل فيّ القوة المذكورة ويفيض على ما يسد مسد الطعام والشراب، والقوّة على أنواع الطاعات من غير ضعف في القوة ولا كلال في الإحساس. 0 وقيل المعنى على المجاز أيضاً أنه يجعل فيه من الشبع والري ما يغني عن الطعام والشراب فلا يحس بجوع ولا عطش. والفرق بين القولين أنه على الأول يعطي القوة من غير شبع ولا ري، وعلى الثاني يعطي القوة مع ذلك، ورجح الأول بأن الثاني ينافي حال الصائم ويفوّت المقصود من الصيام والوصال لأن الجوع روح هذه العبادة بخصوصها. قال القرطبي: ويبعده أيضاً النظر إلى حاله فإنه كان يجوع أكثر مما كان يشبع ويربط على بطنه الحجارة من الجوع. وجنح ابن القيم إلى أن المراد أنه يشغله بالتفكر في عظمته والتحلي بمشاهدته والتغذي بمعارفه وقرّة العين بمحبته والاستغراق في مناجاته والإقبال عليه عن الطعام والشراب/ قال: وقد يكون هذا الغذاء أعظم من غذاء الأجساد، ومن له أدنى ذوق وتجربة يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الجسماني اهـ. وقيل إن المراد منه حقيقته فإنه كان يؤتى بطعام وشراب من الجنة كرامة له، وذلك لا يفطره لأن المفطر طعام الدنيا، أما طعام الجنة: أي المأتي على وجه المعجزة فلا، وبه يردّ ردّ المصنف بقوله: لو كان حقيقة لم يكن مواصلاً. قال ابن المنيرّ: هو محمول على أن أكله في تلك الحالة كحال النائم الذي يحصل الشبع والريّ ويستمرّ له حتى يستيقظ فلا يبطل به صومه ولا ينقطع وصاله ولا ينقص أجره. قال الحافظ: وحاصله أن يحمل ذلك على حالة استغراقه في أحواله الشريفة حتى لا يؤثر فيه حينئذٍ شيء من الأحوال البشرية اهـ. وقيل إنه كان يؤتى به في النوم فيستيقظ وهو يجد الشبع والري. 23110 - (وعن أبي قتادة الحارث بن ربعي) الأنصاري (رضي الله عنه قال: قال

رسول الله: إني لأقوم إلى الصلاة وأريد أن أطول فيها) جملة حالية من فاعل أقوم أو معطوفة على جملة لأقوم، وإرادته التطويل فيها لما يناله من قرة عينه بمناجاته ربه ولذيد أنسه به كما قال: «وجعلت قرّة عيني في الصلاة» هذا هو الأصح، وإن احتمل أن المراد ما قاله ابن فورك: من أن تلك الصلاة هي قوله: {إن الله وملائكته يصلون على النبيّ} (الأحزاب: 56) ذكره الشنواني في حاشية شرح خطبة «مختصر خليل» للقاني (فأسمع بكاء الطفل) قال في «الصحاح» : الطفل هو المولود، قال البدر الدماميني في «تحفة الغريب على مغني اللبيب» وقد كنت وقفت على فصل لبعض اللغويين ذكر فيه صفات الإنسان التي يختص بإطلاقها عليه بحسب الأزمنة المختلفة فقلت ناظماً لها: أصخ لصفات الآدمي وضبطها لتلتقط دراً تقتنيه بديعا جنين إذا ما كان في بطن أمه ومن بعد يدعى بالصبي رضيعا وإن فطموه فالغلام لسبعة كذا يافع للعشر قله مطيعا إلى خمس عشر بالجزوّر سمه لتحسن فيما تنتحيه صنيعا فمد إلى خمس وعشرين حجة بذاك دعاه الفاضلون جميعا ومن بعد يدعي بالعطيطل لأنها ثلاثين فاحفظ لا تعد مضيعا صل لحد الأربعين وبعده بكهل إلى الخمسين فادع سميعا وشيخاً إلى حد الثمانين فادعه بها ثم هما للممات سريعا قال الحافظ ابن حجر في أواخر كتاب الهبة من «الفتح» : يطلق على الشخص قبل البلوغ أنه طفل وغلام، وتخصيص بعض اللغويين بما ذكر أغلبي (فأتجوز) أي أخفف (في صلاتي) بين مسلم في رواية له عن أنس محل التخفيف منها ولفظه «فيقرأ بالسورة القصيرة» وبين ابن أبي شيبة من حديث عبد الرحمن بن سابط مقدارها ولفظه «أنه قرأ في الركعة الأولى سورة طويلة، فسمع بكاء صبيّ فقرأ في الثانية بثلاث آيات» وهذا مرسل (كراهية) بتخفيف الياء مصدر كره وهو مفعول له أي لكراهة (أن أشق على أمه) بدوامها

في الصلاة لتطويلها مع بكاء ابنها، وذكر الأم خرج مخرج الغالب، وإلا فمن في معناها ملحق بها، والتخفيف السابق في حديث أبي هريرة لحقّ المأمومين، وفي هذا لمصلحة غير المأمومين لكن بحيث يتعلق بمن يرجع إليه، وفي الحديث شفقته على الصحابة ومراعاة أحوال الكبير منهم والصغير (رواه البخاري) في كتاب الصلاة، وكذا رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه. 23211 - (وعن) أبي عبد الله (جندب) بضم الجيم والمهملة وبفتحها (ابن عبد ا) ابن صفيان البجلي العلقي (رضي الله عنه) وعلقة: بفتح المهملة واللام بطن من بجيلة، له صحبة ليست بالقديمة. وقال في «المشكاة» ، جندب القسري، بفتح أوليه، قال: وفي بعض نسخ المصابيح القشيري قال شارحها وهو غلط، قال ابن الأثير: والذي ذكره الكلبي أن جندب الخير هو جندب بن عبد الله بن الأحزم الأزدي الغامدي اهـ. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة وأربعون حديثاً، أخرج له منها في «الصحيحين» اثني عشر حديثاً اتفقا على سبعة منها، والباقي لمسلم (قال: قال رسول الله: من صلى صلاة الصبح) أي جماعة كما في رواية أخرى لمسلم فتقيد بها هذه الرواية المعلقة (فهو في ذمة ا) أي أمانه وعهده وكأنها خصت بذلك لأنها أول النهار الذي هو وقت ابتداء انتشار الناس في حوائجهم المحتاجين فيه وفي دوامه إلى أمن بعضهم من بعض لا لأفضليتها. قيل وهذا أوضح مما قاله الطيبي من أنها خصت بالذكر لما فيها من الكلفة والمشقة، فكان أداؤها مظنة خلوص الرجل ومئنة إيمانه، ومن كان مؤمناً فهو في ذمة الله وعهده، وذلك لأن ما قاله الطيبي يجري في العصر، فكان ذكر ذلك فيها أولى لوجود هذا المعنى فيها مع كونها أفضل وفي العشاء بل المشقة فيها أكثر، فلم يبق ما يميز الصبح عن غيرها من الخمس إلا ما ذكرناه (فلا يطلبنكم الله بشيء من ذمته) أيالله. قال الطيبي: ويجوز أن يعود إلى من، وقيل يحتمل أن المراد بالذمة الصلاة المقتضية للأمان فيكون المعنى لا تتركوا صلاة الصبح فينتقض به العهد الذي بينكم وبين ربكم فيطلبكم به (فإنه) أي الشأن (من يطلبه) أي الله (من ذمته) أي من عهده، بأن خفره فيه وتعرض لمن هو فيه ولو (بشيء) يسير (يدركه) إذ لا مهرب منه (ثم) بعد إدراكه (يكبه) بفتح حرف المضارعة وهو أحد

الأفعال التي ثلاثيها متعدّ وإذا زيدت فيه الهمزة صار قاصراً: أي يلقيه (على وجهه في نار جهنم) قال الطيبي: قوله فلا يطلبنكم من باب لا أرينك هاهنا، وقع النهي عن مطالبة الله إياهم عن نقض العهد، والمراد نهيهم عن التعرض لما يوجب مطالبة الله إياهم، وفيه مبالغات لأن الأصل لا تخفروا ذمته فجيء بالنهي كما ترى وصرح بلفظ «ا» ووضع المنهي، الذي هو مسبب موضع التعرض الذي هو سبب فيه، ثم أعاد الطلب وكرر الذمة ورتب عليه الوعيد. والمعنى: من صلى صلاة الصبح فهو في ذمة الله فلا تتعرضوا له بشيء يسير، فإنكم إن تعرضتم له يدرككم الله ولن تفوتوه فيحيط بكم من جوانبكم كما يحيط المحيط بالمحاط فيكبكم في نار جهنم. قال ابن حجر الهيتمي في «شرح المشكاة» : وفيه غاية التحذير من التعرّض بسوء لمن صلى الصبح المستلزمة لصلاة بقية الخمس وأن في التعرض له بسوء غاية الإهانة والعذاب. اهـ. ونقل الشعراني في كتاب الحوض المورود أن الحجاج كان مع شدة فجوره إذا أتى له بأحد يسأله هل صليت الصبح؟ فإن قال نعم ترك التعرّض له بسوء خوفاً من هذالوجه (رواه مسلم) في كتاب الصلاة، ورواه الترمذي من حديث أبي هريرة ولفظه: «من صلى الصبح فهو في ذمةالله، فلا يتبعنكم الله بشيء من ذمته» وسيأتي فيه بسط في باب التحذير من إيذاء الصالحين. 23312 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: المسلم أخو المسلم) قال تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} (الحجرات: 10) قال البيضاوي: أي من حيث إنهم منسوبون إلى أصل وهو الإيمان الموجب للحياة الأبدية اهـ. ورتب على هذه الأخوة المقتضية لمزيد الشفقة والتناصر والتعاون قوله (لا يظلمه) بأن ينقصه من ماله أو من حقه بغصب أو نحوه، ولا يسلمه إلى عدوّ متعد عليه عدواناً، بل ينصره ويدفع الظلم عنه ويدفعه عن الظلم كما سيأتي في حديث «انصر أخاك ظالماً» (ولا يسلمه) إلى عدوه ومنه نفسه التي هي أمارة بالسوء والشيطان كما قال تعالى: {إن الشيطان لكم عدوّ فاتخذوه عدوّاً} (فاطر: 6) فيحول بينه

وبين دواعي النفس من الشهوات والدعة المقتضية للنزول عن مقام الأخيار والحلول في جملة الأشرار، وبينه وبين الشيطان الذي يأمر بالسوء والفحشاء، وبينه وبين العدو الباغي عليهم عليه بالظلم والاعتداء (من كان في حاجة أخيه) أي ما يحتاج إليه حالاً أو مآلاً (كان الله في حاجته) جزاء وفاقاً - {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} (الرحمن: 60) روى الطبراني مرفوعاً «أفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن، كسوت عورته، أو أشبعت جوعته، أو قضيت له حاجته» وورد مرفوعاً أيضاً «من سعى في حاجة أخيه المسلم قضيت له أو لم تقض غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وكتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق» وأوردهما في «الفتح المبين شرح الأربعين» (ومن فرج) بتشديد الراء (عن مسلم كربة) بضم الكاف: الهم الذي يأخذ النفس (فرج الله عنه بها) أي بتلك المرة من التفريج (كربة من كرب) بضم ففتح جمع كربة كقربة وقرب (يوم القيامة) ثم آثر التفريج على رديفه من وسع الوارد في رواية أخرى، لأنه أعظم من التنفيس لأنه إزالتها بالكلية، والتنفيس إنما فيه إرخاء وتهوين (ومن ستر مسلماً) من ذوي الهيئات ونحوهم ممن لم يعرف بأذى أو فساد بأن علم منه معصية فيما مضى فلم يخبر بها حاكماً وهذا للندب، إذ لو لم يستره. ورفعه لحاكم لم يأثم إجماعاً، بل ارتكب خلاف الأولى أو مكروهاً، أما كشفها لغير الحاكم كالتحدث بها فذلك غيبة شديدة الإثم والوزر، ويندب لمن جاءه تائب وأقرّ بجد ولم يفسره أن لا يستفسره بل يأمره بستر نفسه كما أمر ما عزا، وكذا تندب الشفاعة فيمن ظهرت منه جريمة من ذوي الهيئات حتى لا يوصل إليه، ففي الحديث «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم» رواه أبو داود والنسائي، ومنه أخذ أصحابنا أن لا تعزيز لذوي الهيئة على هفوة أو زلة صدرت منه أو المراد بستر المسلم ستر المسلم ستر عورته الحسية والمعنوية بإعانته على ستر دينه، كأن يكون محتاجاً لنكاح فيتوصل له في التزوّج أو الكسب فيتوصل له إلى بضاعة يتجر فيها أو نحو ذلك (ستره الله يوم القيامة) بالمعنيين بأن لا يعاقبه على ما فرط منه لأنه تعالى حييّ كريم، وستر العورة من الحياء والكرم، ففيه تخلق بخلقالله، وا يحبّ المتخلق بأخلاقه، وخرج بنحو ذوي الهيئات من عرف بالأذى والفساد فيندب، بل قد يجب أن لا يستر عليه بل أن يظهر حاله للناس حتى يتوقوه أو يرفعه لوليّ الأمر حتى قيم عليه

واجبه من حدّ أو تعزير ما لم يخش مفسدة، لأن الستر عليه يطعمه في مزيد الأذى والفساد، وبقولنا فيما مضى ما لو رآه متلبساً بالمعصية فيلزمه المبادرة بمنعه منها بنفسه إن قدر وإلا فيرفعه للحاكم كما مرّ ما لم يترتب عليه مفسدة، والكلام في غير نحو الرواة والشهود والأمناء على نحو صدقة أو وقف أو يتيم فيجب بالإجماع جرحهم على من يعلم قادحاً فيهم/ وليس هذا من الغيبة المحرّمة بل من النصيحة الواجبة (متفق عليه) . وسبب فضل ما ذكر في الخبر أن الخلق عيالالله، وتنفيس الكرب وستر العورة إحسان إليهم، والعادة أن السيد المالك يحبّ الإحسان لعياله وحاشيته، وفي الأثر «الخلق عيالالله، وأحبهم إلى الله أرفقهم لعياله» . 23413 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: المسلم أخو المسلم) كالتعليل للحكم المذكور بعده، لأن الأخوة مقتضية للشفقة داعية للمعروف والمنفعة (لا يخونه) من الخيانة ضد الأمانة، أو يخونه ينقصه حقه الذي له عليه من التعاون والتعاضد (ولا يكذبه) يجوز أن يكون بفتح الياء: أي يخبره خبراً كاذباً ومنه قوله تعالى: {كذبوا الله ورسوله} (التوبة: 90) ويجوز أن يقرأ ويجوز أن يقرأ بضم أوله وسكون ثانيه وتخفيف ثالثه: أي لا يلقيه للمخبر بفتح الباء كاذباً أو بتشديد الثالث: أي لا ينسبه إلى الكذب، ثم رأيت عن المصنف ضبطه بضم أوله وإسكان ثانيه، وفسره بأن لا يخبره بأمر على خلاف الواقع لغير مصلحة (ولا يخذله) بضم الذال المعجمة أي: لا يترك نصرته المشروعة سيما مع الاحتياج والاضطرار، قال الله تعالى: {وتعانوا على البرِّ والتقوى} (المائدة: 2) وقال تعالى: {واستنصروكم في الدين فعليكم النصر} (الأنفال: 72) فالخذلان محرم شديد التحريم، ودنيوياً كان كأن يقدر على نصرة مظلوم ودفع ظالمه عنه فلا يدفعه، أو دينياً كأن يقدر على نصحه عن نحو غيبة فيترك. وقد روى أبو داود «ما من مسلم يخذل امرأً مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله

الله في الدنيا والآخرة» (كل) مبتدأ (المسلم) فيه ردّ على من زعم منع إضافة كل للمعرفة (على المسلم حرام) خبر ويبدل من كل (عرضه) أي حسبه ومفاخرة ومفاخر آبائه بأن تنتهك بالسبّ والغيبة والبهت، ويمنع من حمل العرض هنا على النفس وإن كان يطلق عليها لغة أنه لو حمل عليها لكان تكراراً مع قوله: «ودمه» إذ هو عبارة عن النفس (وماله) بأن يغصب أو يخان فيه (ودمه) أي نفسه بأن يتعرض لها بقتل أو أطرافها وأدلة تحريم هذه الثلاثة مشهورة في الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وجعلها كل المسلم وحقيقته لشدة اضطراره إليها، أما الدم فلأن به حياته ومادته المال فهومادة الحياة، والعرض به قيام صورته المعنوية، واقتصر عليها لأن ما سواها فرع عليها وراجع إليها، لأنها إذا قامت الصورة الحسية والمعنوية فلا حاجة إلى غير ذلك وقيامها بتلك الثلاثة لا غير، ولكن حرمتها هي الأصل لم يحتج إلى تقييدها بما إذا لم يعرض ما يبيحها شرعاً كالقتل قوداً وأخذ مال المرتد فيئاً وتوبيخ المسلم تعزيراً ونحو ذلك (التقوى ههنا) أي في القلب (بحسب) بإسكان السين والباء فيه مزيدة وهو مبتدأ: أي كافي (امرىء) أي شخص (من الشر) في أخلاقه ومعاشه ومعاده (أن يحقر أخاه المسلم) لأن الله إذا لم يحتقره إذ أحسن تقويم خلقه وسخر له ما في السموات والأرض كله لأجله ومشاركة غيره له فيه بطريق التبع وسماه مسلماً أو مؤمناً وعبداً، وجعل الأنبياء الذين هم أفضل المخلوقين من جنسه كان احتقاره احتقاراً لما عظمه الله وشرّفه، وهو من أعظم الذنوب والجرائم، قال: «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرّة من كبر» وقد فسره في الحديث بقوله: «الكبر بطر الحق وغمط الناس» أي احتقارهم ومنه أن لا يبدأه بالسلام احتقاراً له ولا يرده عليه (رواه الترمذي) ومعناه عند مسلم في الحديث الآتي عقبه. قال السخاوي فيتخريج الأربعين للمصنف: رواه الترمذي بجملته وذكر فيه بعد وعرضه «التقوى ههنا، ويشير بيده إلى صدره ثم قال: بحسب» ورواه أبو داود مقتصراً على «كل المسلم» إلخ دون قوله: «وأشار بيده إلى صدره» (وقال) أي الترمذي (حديث حسن) وزاد السخاوي عنه: حسن صحيح. وقال المصنف في «الأذكار» : وما أعظم نفعه وأكثر فوائده اهـ.

23514 - (وعنه) أي عن أبي هريرة (قال: قال رسول الله: لا تحاسدوا) أي: لا يحسد بعضكم بعضاً، وأصله تتحاسدوا بتاءين حذفت إحداهما تخفيفاً، وهل هي تاء المضارعة أو فاء الكلمة؟ فيه خلاف. وقد أجمع الناس من المتشرعين وغيرهم على حرمة الحسد وقبحه، ونصوص الشرع الواردة بذلك كثيرة في الكتاب والسنة. وهو لغة وشرعاً: تمني زوال نعمة المحسود، ويخالف الغبطة، فإنما هي تمني مثل تلك النعمة مع بقائها لصاحبها. ووجه ذم الحسد وقبحه أنه اعتراض على الله تعالى له حيث أنعم على غيره مع محاولته نقض فعله وإزالة فضله. ومما يوضح ظلمه أنه يلزمه أن يحبّ لمحسوده ما يحب لنفسه وهو لا يحبّ لها زوال نعمتها، فقد أسقط حق محسوده مع ما فيه من تعب النفس وحزنها من غير فائدة بطريق محرم فهو تصرف رديء. والحسد أقسام: فمنهم من يسعى بلسانه ويده في نقل نعمة المحسود لنفسه أو لغيره وهو أخبث أنواعه، ومنهم من لا يسعى في ذلك، فهذا غير آثم كما قال الحسن البصري بل ورد مرفوعاً من وجوه ضعيفة، وظاهر أن محله إن عجز عن إزالة الحسد من نفسه بأن جاهدها في تركه ما استطاع، بخلاف من يحدث نفسه به اختياراً مع تمني إزالة نعمة المحسود فهذا لا شك في تأثيمه بل تفسيقه. ومنهم من يسعى في حصول مثل المحسود عليه فهذا حسن إن كان في الأمور الدينية، فقد تمنى الشهادة في سبيل الله، ولا حسن فيه في الامور الدينية كذا لخص من الفتح المبين (ولا تناجشوا) أي لا ينجش بعضكم على بعض بأن يزيد في السلعة لا لرغبة فيها بل ليخدع غيره وهو حرام إجماعاً على العالم بالنهي سواء كان بمواطأة البائع أم لا، لأنه غش وخداع وهما محرّمان، لأنه ترك للنصح الواجب، ويصح تفسير النجش هنا بما هو أعم من ذلك، لأن النجش لغة، إثارة الشيء بالمكر والحيلة والخداع فالمعنى: لا تتخادعوا ولا يعامل بعضكم بعضاً بالمكر والاحتيال وإيصال الأذى إليه، قال تعالى: {ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله} (فاطر: 43) فيدخل فيه على هذا جميع أنواع المعاملات بالغش ونحوه كتدليس عيب وكتمه وخلط جيد برديء، ويجوز المكر بمن يحل أذاه وهو الحربي ومن ثم قال: «الحرب خدعة» (ولا تباغضوا) أي لا يبغض بعضكم بعضاً: أي لا تتعاطوا أسباب البغض لأنه قهري كالحبّ لا قدرة للإنسان على اكتسابه ولا يملك التصرف فيه، وهو النفرة عن الشيء لمعنى فيه مستقبح وترادفه الكراهة،

ثم هو بين اثنين، إما من جانبيهما أو من جانب أحدهما، وعلى كل فهو لغير الله تعالى حرام وهو محمل الحديث، وله واجب ومندوب، قال: «من أحبّ وأبغض وأعطى فقد استكمل الإيمان» وبغض إنسان تعالى لمن خالفه المتجه أن مخالفة الغير له إن علم أنها نشأت عن اجتهاد لكونه من أهله لا يجوز له بغضه حينئذٍ لأنه ليس / إذ الذي له ما يكون لأجل المعصية، ولا معصية هنا لأن المجتهد مأجور وإن أخطأ، وإن علم أنها نشأت عن تعصب وهوى نفس أو تقصير في البحث جاز. ولشرف الألفة أمتنّ بها تعالى على عباده فقال: {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً} (آل عمران: 103) ولذا كانت حرمة النميمة أشد لما فيها من إيقاع العداوة والبغضاء وجاز الكذب للإصلاح (ولا تدابروا) أي لا يدبر بعضكم عن بعض: أي يعرض عما يجب له من حقوق الإسلام كالإعانة والنصر وعدم الهجران في الكلام أكثر من ثلاثة أيام إلا لعذر شرعي كرجاء صلاح أحدهما، ووجه مغايرته لما قبله أن الشخص قديبغض ويوفي الحق، وقد يعرض لنحو تهمة أو تأديب وهو محبّ (ولا يبع) نهى تحريم عندنا (بعضكم) معشر المكلفين من المسلمين والذميين، والتقييد بالمسلم في الأخبار لا مفهوم له (على بيع بعض) فلا يجوز لأحد بغير إذن البائع أن يقول لمشتري سلعة في زمن الخيار: افسخ هذا البيع وأنا أبيعك مثله بأرخص من ثمنه أو أجود منه بثمنه، وذلك لما فيه من الإيذاء الموجب للتنافر والبغض، ومن ثم ورد «ذلك بأنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم» ومثله الشراء بغير إذن المشتري، بأن يقول آخر لبائع زمن الخيار: افسخ البيع لأشتريه منك بأغلى أما بعد انقضاء الخيار فلا تحريم، إذ لا مقتضى له، وكونه يؤدي إلى الإلحاح عليه حتى يقبله فيؤدي إلى ضرر مردود بأنه متمكن من عدم الرد، فإن اختاره كان هو المضرّ بنفسه، والإلحاح إنما يقتضي تحريم ذاته لأنه إضرار بالملحوح عليه (وكونوا عباد ا) أي يا عباد الله (إخواناً) أاكتسبوا ما تصيرون به إخواناً مما سبق ذكره وغيره مما يدعو إلى الألفة ويمنع من النفرة: أي تعاونوا وتعاشروا معاملة الإخوة ومعاشرتهم في المودة والرفق والشفقة والملاطفة والتعاون في الخير مع صفاء القلب والنصيحة بكل حال، وهذا كالتعليل لما قبله كأنه قيل إذا تركتم التحاسد وما بعده كنتم إخواناً كالإخوان فيما مرّ،

ووجه طاعة الله في كونهم إخواناً التعاضد على إقامة وإظهار شعاره إذ بدون ائتلاف القلوب لا يتم ذلك كما قال تعالى: {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم} (الأنفال: 62، 63) الآية. (المسلم أخو المسلم) أي لأنهما لجمع دين واحد لهما أشبها الأخوين المجتمعين في ولادة من صلب أو رحم أو منهما، بل الأخوة الدينية أعظم من الأخوة الحقيقية لأن ثمرة هذه دنيوية وثمرة تلك أخروية (لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره) بفتح أوله وبالمهملة والقاف المكسورة: أي لا يستصغر شأنه ويضع من قدره، لأن الله تعالى لما خلقه لم يحقره بل رفعه وخاطبه وكلفه، فاحتقاره تجاوز لحد الربوبية في الكبرياء وهو ذنب عظيم، ومن ثم ورد كما تقدم «بحسب امرىء من الشرّ» إلخ فالاحتقار ناشىء عن الكبر فهو بذلك يحتقر الغير ويراه بعين النقص ولا يراه أهلاً لأن يقوم بحقه. وروي بضم أوله وبالخاء المعجمة والفاء: أي لا يغدر عهده ولا ينقض أمانه. قال القاضي عياض: والمعروف الصواب هو الأول الموجود في كتاب مسلم، ويؤيده رواية «ولا يحتقره» ومعنى هذه الجملة أن من حق الإسلام وأخوته أن لا يظلم المسلم أخاه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره، وللإسلام حقوق ذكرت في غير هذا الحديث وجمعت في حديث «لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه» وتخصيص ذلك بالمسلم لمزيد حرمته لا لاختصاص به من كل وجه/ لأن الذمي يشاركه في حرمة ظلمه وخذلانه بنحو ترك دفع عدوّه والكذب عليه واحتقاره: أي من غير حيثية الكفر القائم به أما من تلك الحيثية فجائز، قال تعالى: {ومن يهن الله فما له من مكرم} (الحج: 18) (التقوى) وهي اجتناب عذاب الله بفعل المأمور وترك المحظور (وههنا ويشير) بيده (إلى صدره ثلاث مرات) أي محل مادتها من الخوف الحاصل عليها القلب الذي هو عند الصدر. قال: «إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم» أي إن الأعمال الظاهرة لا تحصل بها التقوى، إنما تحصل بما يقع في القلب من عظيم خشية الله ومراقبته، فمن ثم كان نظر الله بمعنى مجازاته ومحاسبته على ما في القلب من خير وشرّ دون الصور الظاهرة، إذ الاعتبار في ذلك كله بالقلب. وفي الحديث دليل على أن العقل في القلب دون الرأس، وفيه خلاف،

الراجح منه هذا، ووجه مناسبة هذا لما قبله الإعلام بأن كرم الخلق إنما هو التقوى، فربّ حقير عند الناس أعظم قدراً عند الله من كثير من عظماء الدنيا (بحسب امرىء من الشرّ أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) تقدم الكلام عليه في الحديث قبله. وقدم هنا الدم أي النفس لأنها الأصل والمال لتعلق النفس به أتمّ لكونه قوامها فلم يظهر وجه تأخير العرض حينئذٍ، وحكمة تقديمه عليهما ثمة أن الابتلاء بالوقوع فيه أكثر منه فيهما، فابتدىء به اهتماماً به زيادة في التحذير منه والبعد عنه (رواه مسلم) . قال الحافظ السخاوي في تخريج الأربعين التي جمعها المؤلف: هذا حديث صحيح رواه أحمد ومسلم في «صحيحه» ، وعنده في بعض طرقه من الزيادة «إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم، وأشار بأصابعه إلى صدره» وأخرج ابن ماجه بعضه وأبو عوانة أيضاً وأبو نعيم بتمامه في «المستخرج» اهـ. (النجش) بسكون الجيم لغة، إثارة الشيء بالمكر والخديعة، وشرعاً (أن يزيد في ثمن سلعة ينادى عليها في السوق ونحوه) من مواطن البيع (ولا رغبة له في شرائها بل يقصد أن يغرّ غيره) أما إذا كان المال لنحو يتيم ورآه يباع بأقل من ثمن المثل وقصد وصوله لثمن مثله الواجب فيه لا إضرار الغير، فلا (وهذا حرام) مع العلم. (والتدابر أن يعرض) أي الإنسان (عن الإنسان) احتقاراً له (ويهجره) فوق ثلاثة أيام (ويجعله كالشيء الذي وراء الظهر والدبر) في الاحتقار به وعدم الاهتمام بشأنه. 23615 - (وعن أنس رضي الله عنه عن النبي قال: لا يؤمن أحدكم) أي إيماناً كاملاً (حتى يحبّ لأخيه) أي المسلم فيجب على كل مسلم من حيث إنه مسلم أن لا يخص

أحداً منهم دون الآخر لأن إضافة المفرد تفيد العموم (ما يحبّ لنفسه) من الطاعات والمباحات أي ويبغض له مثل ما يبغضه لنفسه وسكت عنه مع كونه من كمال الإيمان اكتفاء بذكر ضده. قال العلماء في هذا الحديث من الفقه: أن المؤمن مع المؤمن كالنفس الواحدة، فينبغي أن يحبّ لها ما يحبّ لنفسه من حيث إنها نفس واحدة كما في الحديث «المسلمون كالجسد الواحد» الحديث. وقال ابن العماد: الأولى أن يحمل على عموم الأخوة حتى يشمل الكافر فيحبّ لأخيه الكافر ما يحبُّ لنفسه من دخوله في الإسلام كما يحبّ للمسلم دوامه، ومن ثم كان الدعاء بالهداية مستحباً، وحتى هنا جارة لأن ما قبلها غير ما بعدها فإنه غاية لنفي الكمال. ثم ظاهر الخبر أن هذه المحبة كافية في كماله وإن لم يأت ببقية أركانه/ وليس مراداً بل إنما ورد تحريضاً على التواضع ومحاسن الأخلاق وترغيباً في محبة المسلمين بعضهم بعضاً وائتلافهم، ولا يخفى أن ذلك يؤدي إلى التعاضد والتناصر، وبه ينتظم شمل الإيمان وتتأيد شرائعه، كما علم مما مر في الحديث قبله، أو ورد مبالغة حتى كأن تلك المحبة ركنه الأعظم «كالحج عرفة» إذ هي مستلزمة لبقية أركانه ثم المكلف به مقدمات المحبة مما تقدم لا المحبة نفسها، لأنها ميل طبيعي لا يطاق تحت نطاق الاختيار والتكليف به تكليف بمحال، فالمراد إيثار ما يؤدي للمحبة مما يقتضي العقل اختياره وإن كان خلاف هوى الإنسان كالدواء فإنه يكرهه المريض طبعاً ويميل إليه اختياراً بحكم عقله لعلمه بأن صلاحه فيه، والمراد محبة الرحمة والإشفاق (متفق عليه) . قال السخاوي في التخريج المذكور بعد تخريجه باللفظ المذكور: وشك غندر فقال لأخيه أو لجاره. قلت وكذلك هو عند مسلم بالشك فيهما، قال السخاوي ولفظ المعلم وهمام: «لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير» زاد المعلم أوله «والذي نفسي بيده» ما لفظه: هذا حديث صحيح. ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده والدارمي وعبد في مسنديهما وابن ماجه في «سننه» وأبو عوانة في «مستخرجه» ، وابن حبان في «صحيحه» وعند الترمذي حديث صحيح، وكذا اتفق عليه الشيخان من حديث يحيى بن سعيد القطان عن حسين المعلم لكن بدون قوله: «من الخير» وهي صحيحة لأنها خارجة من مخرج

الصحيحين بل هي على شرطهما وأخرجها ابن منده في كتاب الإيمان من حديث روح بن عبادة عن العلم ووافق المعلم عليها همام اهـ. وقد سبق الحديث مشروحاً آخر باب النصيحة. 23716 - (وعنه) أي: أنس (قال: قال رسول الله: انصر أخاك) ولا تخذله (ظالماً) كان لأنه مظلوم حقيقة كما سيأتي (أو مظلوماً) بأن تعدى عليه إنسان في نفسه أو ماله أو عرضه (فقال رجل أنصره إذا كان مظلوماً) أي بدفع الظلم أو منعه منه (أرأيت) أخبرني (إن كان) أي أخي (ظالماً) بالتعدي على الغير فيما ذكر (كيف أنصره؟ قال: تحجزه) بضم الجيم أي تجعل نفسك حاجزاً له (أو) شك من الراوي (تمنعه من الظلم فإن ذلك) أي المنع من الظلم (نصره) قال الحافظ ابن حجر: قال ابن بطال: النصر عند العرب الإعانة وتفسيره نصر الظالم بمنعه من الظلم من تسمية الشيء بما يؤول إليه وهو من وجيز البلاغة. قال البيهقي: معناه أن الظالم مظلوم في نفسه فيدخل فيه ردع المرء عن ظلمه لنفسه حساً ومعنى، فلو رأى إنساناً يريد أن يجب نفس لظنه أن ذلك يزيل مفسدة طلبه للزنا مثلاً منعه من ذلك وكان ذلك نصراً له واتحد في هذه الصورة الظالم والمظلوم. (لطيفة) ذكر المفضل الضبي في كتابه «المفاخر» أن أول من قال: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً» جندب بن العنبر بن عمرو بن تميم وأراد بذلك ظاهره وهو ما اعتاده من حمية الجاهلية لا ما فسر في الحديث وأنشدوا: إذا أنا لم أنصر أخي وهو ظالم على القوم لم أنصر أخي حين يُظلم (رواه البخاري) قال في «الجامع الصغير» وأحمد والترمذي كلهم عن أبي هريرة، ورواه الدارميّ وابن عساكر عن جابر مرفوعاً بلفظ: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، إن يك ظالماً فاردده عن ظلمه، وإن يك مظلوماً فاردد عنه ظلمه» اهـ.

23817 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: حق المسلم) قال الحافظ ابن حجر معنى الحق هنا الوجوب خلافاً لقول ابن بطال: المراد حق الحرمة والصحبة والظاهر أن المراد به هنا الأمر المطلوب على وجه التأكيد، ويؤيده قول الشيخ زكريا يعم وجوب العين والكفاية والندب أي فيفسر بالأمر المطلوب للمسلم (على المسلم خمس) لا ينافي ما في رواية بعده أنه ست إما لأن العدد لا مفهوم له وإما لأن محل العمل بمفهومه ما لم يعلم خلافه فإن الحقوق المتأكدة كثيرة واقتصر على ما ذكر إما لأنها المشروعة إذ ذاك وما عداها شرع بعد وإما لأنها الأنسب بحال السامعين بتساهلهم فيها أو شدة احتياجهم إليها (رد السلام) وهوواجب عيناً إذا كان المسلم عليه واحداً وكفاية إذا كانوا جمعاً قال الحليمي: وإنما وجب رد السلام لأن معناه الأمان فإذا ابتدأ به المسلم أخاه فلم يجبه يتوهم منه الشر فيجب عليه دفع ذلك الوهم. قلت: ولذا لم يسقط الفرض برد مميز عن المكلفين بخلاف فرض صلاة الجنازة فيسقط به عنهم لأن القصد منه الدعاء والمميز من أهله، والقصد هنا التأمين وليس من أهله (وعيادة المريض) واختلف فيها هل هي فرض كفاية أو سنة: فقال الجمهور هي في الأصل مندوبة وقد تصل إلى الوجوب في حق بعض دون بعض. وعن الطبري تتأكد فيمن ترجى بركته، وتسن فيمن يراعى حاله، وتباح فيما عدا ذلك وفي المشرك خلاف. قال الماوردي هي مباحة وقد يقترن بها ما يصيرها قربة كرجاء إسلامه، وقد نقل المصنف الإجماع على عدم وجوب العيادة أي عيناً وعموم المريض يقتضي عيادة كل مرض ولو أُريد، وحديث: «ثلاثة ليس لهم عيادة: العين والدمل والضرس» صحح البيهقي وقفه على يحيى ابن كثير. وقد جاء في عيادة الأرمد بخصوصها حديث زيد بن أرقم قال: «عادني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجع كان بعيني» أخرجه أبو داود والحاكم وصححه وهو عند البخاري في «الأدب المفرد» . ويؤخذ من إطلاق الحديث أنها لا تتقيد بزمن يمضي من ابتداء المرض وهو قول الجمهور وجزم الغزالي في الإحياء بأنه لا يعاد إلا بعد ثلاث، ولا بيوم معين وما اعتاده بعض الناس في باب عيادة المريض (واتباع الجنائز) أي تشييعها من محلها أو محل الصلاة فهو سنة متأكدة (وإجابة الدعوة) وهي واجبة في وليمة العرس بشروطها المقررة في الفقه وفي سائر الولائم وهي سنة متأكدة (وتشميت) بالمهملة وبالمعجمة (العاطس) أي الدعاء

له بالخير والبركة من السمت أو الشوامت وهي القوائم، كأنه دعاء للعاطس بحسن السمت والهدى أو بالثبات على الطاعة. وقيل معناه: أبعدك الله عن الشماتة، وهو بعد حمد العاطس سنة متأكدة عيناً إن لم يكن غيره وإلا فكفاية بأن يقول له: رحمك الله (متفق عليه) . (وفي رواية لمسلم) عن أبي هريرة أيضاً (حق المسلم على المسلم ست) أي ستّ خصال، وفي «المشكاة» : قيل: ما هنّ يا رسول الله؟ قال: (إذا لقيته فسلم عليه) فهي وما بعدها من الجمل المتعاطفة على هذا التقدير مقول القول، وعلى عدمه فيحتمل أن يكون كذلك من باب حذف القول وإبقاء المقول وهو كثير في كلام العرب، حتى قال أبو علي الفارسي: هو من حديث: «عن البحر حدث ولا حرج» ويحتمل أن يكون بدلاً من ستّ أو خبراً لمبتدأ محذوف: أي هي (إذا لقيته فسلم عليه) : أي ابدأه به ندباً عينياً إن كنت وحدك وإلا فعلى الكفاية (وإذا دعاك فأجبه) وجوباً عينياً إذا دعاك إلى وليمة عرس وإلا فعلى الكفاية ولا بد من إطاقة التخليص في الحالين وندباً إذا دعاك إلى غير وليمة عرس ونحوها (وإذا استنصحك) أي طلب منك النصح وهو تحري ما به الصلاح من قول أو فعل (فانصح له) وجوباً عليك بأن تذكر له ما به صلاحه وطلبه ليس شرطاً لوجوب بذله أو ندبه لأنه يجب تارة ويندب أخرى لمن طلب ومن لم يطلب فذكره/ إنما هو لإفادة أن تأكده بعد الطلب أكثر (وإذا عطس) بفتح الطاء (فحمد الله فشمته) بخلاف ما إذا لم يحمد فإنه لا يستحق التشميت لتقصيره بترك الحمد على نعمة العطاس التي وصلت إليه «إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب» ولأن العطاس حيث لا عارض من زكام ونحوه إنما ينشأ عن خفة البدن وخلوه عن الأخلاط المثقلة له عن الطاعة بخلاف التثاوب فإنه ينشأ عن ضد ذلك (وإذا مرض فعده) ندباً متأكداً في أي يوم كان (وإذا مات فاتبعه) ندباً كذلك من بيته إلى أن يفرغ من دفنه (رواه مسلم) ورواه البخاري في «الأدب المفرد» . 23918 - (وعن أبي عمارة) بضم العين المهملة وبعد الألف راء ويقال أبو عمرو، ويقال أبو

الطفيل (البراء) بتخفيف الموحدة والراء وبالمد، هذا هو الصحيح المشهور عند طوائف العلماء من أهل الحديث والتاريخ والأسماء واللغة والمؤتلف والمختلف وغيره وحكى فيه القصر (ابن عازب) الصحابي ابن الصحابي (رضي الله عنهما) تقدمت ترجمته في باب التوكل (قال أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع ونهانا عن سبع: أمرنا بعيادة المرضى) ندباً في سائر الأوقات فلا تكره إلا إن شقت على المريض (واتباع الجنائز) أي تشييعها والمكث إلى الفراغ من دفنها (وتشميت العاطس) إذا حمد الله تعالى والأمر في هذه الثلاث للندب (وإبرار المقسم) بنحو أقسمت عليك با أو نحو وا لتفعلن كذا فيسن له حيث لا مانع تخليصاً له عن ورطة الاستهتار بحقه في الأول وحنثه في الثاني (ونصر المظلوم) ولو ذمياً يمنع الظالم عن ظلمه وجوباً على من قدر على ذلك بفعله أو قوله وهذا يرجع إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا واجب عيناً تارة وكفاية أخرى كما سبق في بابه (وإجابة الداعي) وجوباً تارة وندباً أخرى وقد تقدم تفصيله (وإفشاء السلام) أي إشاعته وإذاعته بأن تقرىء السلام على من عرفت ومن لم تعرف وهذا أمر ندب عيناً إن كنت مفرداً أو كفاية إن كنت مع الغير. وفي رواية «ورد السلام» وعليها اقتصر في «المشكاة» وهو كما علم مما تقدم واجب عيناً تارة وكفاية أخرى (ونهانا) أي معشر الرجال وكذا الخناثا دون النساء (عن خواتيم) جمع خاتام أحد لغات خاتم (أو) شك من الراوي (تختم بالذهب) فيحرم على غيرهن تحريماً غليظاً لبسه كاستعمال سائر أنواع حلي الذهب إلا نحو أنف وسن وأنملة، ويحرم عليهن استعمال غير الحلى منه كالأواني وكذا الحلي إن خرج عن غير الاعتدال إلى السرف كخلخال وزنه مائتا مثقال (وعن شرب بآنية الفضة) والذهب أولى مع أنه صرح به في حديث آخر ومثل الشرب سائر الاستعمال وذكره كالأكل في حديث آخر مثال فيحرم استعمال واتخاذ إناء النقدين إلا لحاجة كأن لم يجب غير إنائهما فيجوز استعماله وكذا لووصف له التكحل بمرود من الذهب لداء بعينه (وعن) استعمال (المياثر الحمر) بضمتين ويسكن الثاني تخفيفاً والتقييد بذلك باعتبار أنه الأغلب في مراكب الأعاجم رعونة وتزييناً فهي من حرير أي نوع كان وبأي

لون أو مما أكثره حرير وزناً حرام ولو غير حمراء والحمراء غير الحرير مكروه (وعن) استعمال (القسي وعن لبس الحرير والإستبرق) وما غلظ من الديباج وهوعجمي معرب وعطفهما على الحرير من عطف الخاص على العام لأنهما من الحرير (متفق عليه) . (وفي رواية) لمسلم (وإنشاد الضالة زادها) أي: الراوي (في السبع الأول) بضم ففتح يعني المأمور بها قال المصنف في «شرح مسلم» بدل إبرار المقسم أو للقسم: وإنشاد الضالة تعريفها وهو مأمور به المياثر (بياء مثناة من تحت قبل الألف وثاء مثلثة) مكسورة (بعدها) أي بعد الألف (وهي جمع ميثرة) وأصلها مؤثرة وقلبت الواو ياء لسكونها إثر كسرة نحو ميزان وميعاد (وهي شيء يتخذ من حريرويحشى قطناً أو غيره) تعميم للمحشو به ويلحق به في الحكم ما كان متخذاً من حرير وغيره والحرير أكثر وزناً (ويجعل في السرج) ما يجعله على الفرس (وكور البعير) بضم الكاف أي رحله وجمعه أكوار ويجعل ذلك (ليجلس عليه الراكب) فتحصل له الراحة (والقسيّ بفتح القاف) على الصحيح المشهور قال المصنف وبعض أهل الحديث يكسرها قال أبو عبيد: أهل الحديث يكسرونها وأهل مصر يفتحونها (وكسر السين المهملة المشددة) بعدها ياء النسبة (وهي ثياب تنسج من حرير وكتان مختلطين) هذا حكاه المصنف بلفظ قيل وقال قبله: قال أهل اللغة و «غريب الحديث» : هي ثياب مضلعة بالحرير تعمل بالقس بفتح القاف: وهو موضع من بلاد مصر. وهي قرية على ساحر البحر قريبة من تنيس، وقيل هي ثياب من القز وأصله القزي منسوب إلى القز وهو رديء الحرير فأبدل من الزاي سين قال المصنف وهذا القسي إن كان حريره أكثر من الكتان فالنهي عنه للتحريم وإلا فللكراهة التنزيهية (وإنشاد الضالة) في تلك الرواية (تعريفها) .

28 ـــ باب ستر عورات المسلمين والنهي عن إشاعتها لغير ضرورة

28 - باب ستر عورات المسلمين والنهي عن إشاعتها لغير ضرورة من خوف أن يتسلط على إيذاء الغير والتعرض لإضرارهم (قال الله تعالى) : {إن الذين يحبون أن تشيع} ) أي تفشو، يقال شاع الشيء شيوعاً وشيعاً وشيعاناً وشيوعة: أي تفرق وظهر (الفاحشة) الفعل القبيح المفرط القبح. وقيل الفاحشة في هذه الآية القول السيء ( {في الذين آمنوا} ) قال القرطبي في المحصنين والمحصنات والمراد بهذا اللفظ العام عائشة وصفوان ( {لهم عذاب أليم} ) والآية في العصبة الذين جاءوا بالإفك، والمصنف أوردها لما يقتضيه عموم لفظها من حصول العذاب لمن أحب إشاعة الفاحشة في المؤمنين ( {في الدنيا} ) بالحد بالقذف (و) (الآخرة) بالنار لحقالله. 2401 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: لا يستر عبد) أي إنسان ولو كان مكلفاً (عبداً) أي من ذوي الهيئات غيرمعروف بالشر والأذى على ذنب مضى منه كما سبق بسط ما يستر فيه ومالاً في الباب قبله (في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة) إما بأن يمحو ذنبه ولا يسأله عنه ابتداء أو يسأله عنه من غير أن يطلع عليه أحداً من الخلق كما في حديث ابن عمر في ذلك في الصحيح ثم يعفو عنه، وكان الجزاء بالستر ليوافق الجزاء العمل الصالح والنعم الصادرة منه عز وجل أعلى وأتم، ولا شك أن الستر في ذلك اليوم أكثر عدداً وأعظم جرماً (رواه مسلم) .

2412 - (وعنه) أي أبي هريرة (رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: كل أمتي معافىً) اسم مفعول من المعافاة وهو من العفو مرفوع تقديراً خبر كل، يعني كلهم سالمون عن ألسن الناس وأيديهم (إلا المجاهرين) قال العلقمي قال شيخنا وللنسفي «إلا المجاهرون» بالرفع على البدل وهو رأي الكوفيين اهـ.» وقال ابن مالك في التوضيح لشواهد «الجامع الصحيح» حق المستثنى بإلا من كلام تام موجب أن ينصب مفرداً كان أو مكملاً وروده مرفوعاً بالابتداء ثابت الخير ومحذوفه، فمن الثابت الخبر قول ابن أبي قتادة: أحرموا كلهم إلا أبو قتادة لم يحرم، وإلا بمعنى لكن وأبو قتادة مبتدأ ولم يحرم خبره، ومن المبتدأ بعد إلا المحذوف الخبر قول النبي: «كل أمتي معافىً إلا المجاهرون» أي لكن المجاهرون لا يعافون، وللكوفيين في هذا الذي يغتفر مذهب آخر، وهو أن يجعلوا إلا حرف عطف وما بعدها معطوف على ما قبلها اهـ. قلت: وقد سبقه إلى استدراكها ابن هشام في «المغني» ، وزاد الجملة المسند إليها نحو: {وإذا قيل إن وعد الله حق} (الجاثية: 32) وأول الشيخ أكمل الدين في «شرح المشارق» الرفع بأن معافىً في معنى النفي فيكون استثناء من كلام تام غير موجب. قال في «فتح الباري» : المجاهر الذي أظهر معصيته وكشف ما ستر الله عليه فتحدث بها، والمجاهر في هذا الحديث يحتمل أن يكون من جاهر بمعنى جهر والنكتة التعبير بفاعل المبالغة، ويحتمل أن يكون على ظاهر المفاعلة، والمراد الذين يجاهر بعضهم بعضاً بالتحدث بالمعاصي، وبقية الحديث يؤيد الاحتمال الأول (وإن من المجاهرة) قال السيوطي: كذا للنسفي والكشميهني: أي في رواية البخاري وللأكثر من المجانة، وهو تصحيف، قاله عياض، ولمسلم من الإجهار ولأبي نعيم من الجهار، والثلاثة بمعنى الظهور والإظهار، وفي رواية لمسلم الهجار، وللإسماعيلي الإهجار وهمابمعنى الفحش والخنا وكثرة الكلام. قال عياض: هما أيضاً تصحيف (أن يعمل العبد) وفي نسخة الرجل (بالليل عملاً ثم يصبح) بالنصب (وقد ستره الله عليه فيقول: يا فلان) بالبناء على الضم لأنه كناية عن معين وهو الذي يحدثه العاصي عن

معصيته (عملت البارحة) قال في «الفتح» : هو أقرب ليلة مضت من وقت القول وأصلها من برح: إذا زال (كذا وكذا) قال في «النهاية» : هي من ألفاظ الكنايات مثل كيت وكيت ومعناه: مثل ذا، ويكنى بها أيضاً عن المجهول وما لا يراد التصريح به اهـ. وهذا قد تقدم نقله عن «النهاية» (وقد بات يستره ربه) جملة حالية من فاعل يقول: (ويصبح) معطوفاً على يصبح (يكشف ستر ا) الكائن (عليه) قال ابن بطال: في الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله، وبصالحي المؤمنين، وفيه ضرب من العناد لهم وفي التستر بها السلامة من الاستخفاف، لأن المعاصي تذلّ فاعلها من إقامة الحد عليه إن كان فيها حد، ومن التعزير إن لم توجب حداً، وإذا تمحض حق الله وهو أكرم الأكرمين، فكذا إذا ستره في الدنيا لم يفضحه في الآخرة والذي يجاهر بها يفوته جميع ذلك، والحديث مصرّح بذمّ من جاهر بالمعصية، فيستلزم مدح من تستر، وستر الله مستلزم لستر المؤمن على نفسه. فمن قصد إظهار المعصية والمجاهرة بها فقد أغضب ربه فلم يستره. ومن قصد التستر بها من الله عليه بستره إياها اهـ. ملخصاً من «فتح الباري» (متفق عليه) وأخرجه الطبراني في «المعجم الأوسط» عن أبي قتادة بلفظ «كل أمتي معافى إلا المجاهر، الذي يعمل العمل بالليل فيستره ربه ثم يصبح فيقرأ: يا فلان إني عملت البارحة كذاوكذا فيكشف ستر ا» كذا في «الجامع الصغير» . 2423 - (وعنه) أي أبي هريرة رضي الله عنه (عن النبي: إذا زنت الأمة) أي الرقيقة (فتبين زناها) برؤيته لذلك أو إقرارها أو إقامة بينة الزنا (فليجلدها) بكسر لام الفعل (الحد) هو خمسون سوطاً والحد مفعول مطلق (ولا يثرب عليها) أي يوبخها ويقرعها بالذنب نحو يا زانية يا فاجرة لما فيه من الفحش (ثم) بعد الحد (إن زنت) مرة ثانية (فليجلدها الحد) وفي رواية بحذف الحد هنا (ولا يثرّب عليها) أي وإن تكرّر منها الذنب لاستيفاء مقتضاه بالحد (ثم) بعد الحد في الثانية (إن زنت) المرة الثالثة (فليبعها) ندباً عند الجمهور، وقال داود وجوباً (ولو بحبل من شعر) مسارعة لمفارقة أرباب المعاصي وترك

مخالطتهم، وهذا البيع المأمور به يلزم صاحبه أن يبين حالها للمشتري لأنه عيب والإخبار بالعيب واجب. فإن قيل: كيف يكره شيئاً ويرتضيه لأخيه المسلم؟ فالجواب: لعلها تتعفف عند المشتري بأن يعفها بنفسه أو يصونها بهيبته أو بالإحسان إليها والتوسعة عليها أو يزوّجها أو غير ذلك، ذكره المصنف في «شرح مسلم» (متفق عليه) ورواه أبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة أيضاً كما في «الأطراف» للمزي، وطرقه إلى سعيد المقري كثيرة جداً (التثريب) مصدر ثرب بالمثلثة (التوبيخ) أي والتقريع بالذنب كما تقدم. 2434 - (وعنه) أي عن أبي هريرة (رضي الله عنه قال: أتى) بالبناء للمجهول (النبي برجل قد شرب) أي مسكراً (قال: اضربوه) أي حداً (قال أبو هريرة: لنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه) ومنه كأحاديث أخر في معناه يؤخذ حصول حد الخمر بالجلد باليد وأطراف الثوب وقد نقل الصنف إجماع العلماء على ذلك وما في معناه في مفرداته خزي الرجل: أي بوزن علم، لحقه انكسار؟ إما من نفسه وإما من غيره. فالذي يلحقه من نفسه هو الحياء المفرط ومصدره الخزاية، والذي من غيره يقال هو ضرب من الاستخفاف ومصدره الخزي وأخزى يقال منهما جميعاً. وقوله تعالى: {لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه} (التحريم: 8) الأقرب كونه من الخزي وإن جاز كونه منهما جميعاً. قلت: ومثله ما في الحديث (قال: لا تقولوا هكذا) أي مثل هذا الدعاء (لا تعينوا عليه الشيطان) جملة استئنافية لبيان حكمة النهي عن ذلك القول: أي ادعوا له بالتوفيق والنجاة من الخذلان ولا تكونوا بدعائكم عليه أعواناً عليه للشيطان (رواه البخاري) .

29 ـــ باب فضل قضاء حوائج المسلمين

29 - باب فضل قضاء حوائج المسلمين (قال الله تعالى: {وما تفعلوا من} ) بياننبة (خير) والكلام في معنى الشرط ( {فإن الله به عليم} ) جوابه: أي إن تفعلوا خير فإن الله يعلم كنهه ويوفي ثوابه والآية تقدمت في باب المجاهدة وغيره. 2441 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال) محرضاً على أسباب التآلف المطلوب من المؤمنين (المسلم أخو المسلم) لاجتماعهما في حياطة الإسلام كالأخوين المجتمعين في الأبوين أو في أحدهما (لا يظلمه) بنقص حقه (ولا يسلمه) بضم التحتية: أي: إلى من يظلمه ويهينه (ومن كان) أي وجد (في حاجة أخيه) أي في قضائها بالفعل أو التسبب، ويحتمل أن كان ناقصة: أي ومن كان كائناً في حاجة أخيه (كان الله في) قضاء (حاجته) والمفرد المضاف للعموم فيعم الأخروية والدنيوية. وذلك لأن من قضى حاجة أخيه طالباً لمرضاة الله إنما قام بذلك لحق الله فجازاه الله بقضاء حاجته سيما عند ضرورته (ومن فرج عن مسلم كربة) بانتظار عليه أو تشفع عند ذي الدين أو نحو ذلك (فرج الله عنه بها) أي عوضها (كربة) والتنوين فيه للتعظيم لأنها كرب الساعة التي تذهل فيها كل مرضعة عما أرضعت والتنكير في سياق الشرط للتعمم فيفيد أن من فرج الله عنه الكرب (من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلماً) لم يشتهر بالأذى والضرر على معصية رآها منه فيما مضى (ستره الله يوم القيامة. متفق عليه) والحديث تقدم بسط الكلام فيه وفي معظم ما في الحديث بعده في باب تعظيم حرمات المسلمين.

2452 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: من نفّس) أي أزال وفرج من تنفيس الخناق أي إرخاؤه حتى يأخذ له نفساً (عن مؤمن) أوثر لمزيد شرفه وحرمته فالثواب فيما يفعل معه من الإحسان آكد. وإلا فالذميّ كذلك هنا وفيما يأتي في أصل الثواب لخبر «إن الله كتب الإحسان على كل شيء» وخبر «في كل كبد رطبة أجر» وسيأتي ويلي الذميّ المستأمن الحربي. فالثواب في كل، أضعف مما قبله لأنه تابع لمزيد الشرف والاحترام (كربة) هي ما أهمّ النفس وغم القلب لأن الكربة تقارب أن تزهق النفس كأنها لشدة غمها عطلت مجال التنفس منه وبه يعلم حكمة إيثار نفس على رديف أزال وفرج (من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) أي شدائدها. وفي رواية للطبراني «نفس الله كربه يوم القيامة» ففيه عظيم فضل قضاء حوائج المسلمين ونفعهم بما تيسر من علم أو مال أو جاه أو نصح أو دلالة على خير أو إعانة بنفسه أو سفارته أو وساطته أو شفاعته أو دعائه له يظهر الغيب وسبق في الباب المشار إليه حكمة هذا الثواب (ومن يسر على معسر) بإبراء أو هبة أو صدقة أو نظرة إلى ميسرة بنفسه أو وساطته. قال في «الفتح المبين» : ويصح شموله لإفتاء عامي في ضائقة وقع فيها بما يخلصه منها لأنه معسر بالنسبة للعالم (يسر الله عليه) أموره (في الدنيا والآخرة) فيه عظيم فضل التيسير على المعسر والأحاديث فيه كثيرة منها خبر مسلم «من سرّه أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه» وخبره أيضاً «من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظلّ إلا ظله» وخبر أحمد «من أراد أن تستجاب دعوته وتنكشف كربته فليفرج عن معسر» (ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة) تقدم بسط الكلام فيه في الباب المذكور (وا في عون العبد) أي إعانته وتسديده (ما كان العبد) أي مدة دوام كون العبد (في عون أخيه) أي إعانة أخيه بقلبه أو بدنه أو ماله أو غيرها قيل وهذا إجمال لا يسع بيانه الطروس فإنه مطلق في سائر الأحوال والأزمان، ومنه: إن العبد

إذا عزم على معاونة أخيه فينبغي له أن لا يجبن عن إنفاذ قوله وصدعه بالحق وتأمل دوام هذه الإعانة فإنه لم يقيدها بحالة خاصة بل أخبر أنها دائمة بدوام كون العبد في عون أخيه. وعن الحسن رضي الله عنه «أنه أمر ثابتاً البنانيّ بالمشي في حاجة فقال: أنا معتكف، فقال له: يا أعمش أما تعلم أن مشيك في حاجة أخيك المسلم خير لك من حجة بعد حجة» . وروى الإمام أحمد: «أن خباب بن الأرتّ خرج في سرية فكان يحلب عنزاً لعياله فتمتلىء الجفنة حتى يفيض زيادة على حلابها فلما قدم وحلب عاد إلى ما كان» وكان أبو بكر يحلب للحيّ أغنامهم فلما استخلف قيل: الآن لا تحلبها قال: بلى وإن لأرجو أن لا يغيرني ما دخلت فيه عن شيء كنت أفعله. وكان عمر يتعاهد الأرامل فيستقي لهم الماء في الليل، ورآه ظلحة داخلاً ليلاً بيت امرأة فدخل لها نهاراً، فإذا هي عجوز عمياء مقعدة، فقال: ما يصنع هذا الرجل عندك؟ قالت: منذ كذا وكذا يتعاهدني بما يقوم بي من البرّ وما يصلح لي شأني ويخرج عني الأذى ويقمّ لي بيتي، فقال طلحة لنفسه: ثكلتك أمك يا طلحة أعثرات عمر تتبع؟ (ومن سلك طريقاً) فعيلاً من الطرق لأن الأرجل ونحوها تطرقه وتطلبه وتسعى فيه، ويصح أن يراد بها ما يشمل المعنوية كحفظه ومذاكرته ومطالعته وتفهمه وكل ما يتوصل به إليه (يلتمس) يطلب (فيه) أي في غايته أو سببه واحتمال كونه فيه حقيقة نادر جداً لا يحمل عليه الحديث (علماً) شرعياً أو آلة قاصداً بذلك وجهالله. قيل وهذا وإن اشترط في كل عبادة لكن عادة العلماء تقييد هذه المسألة به لأن بعض الناس قد يتساهل فيه أو يغفل عنه اهـ. قال في «الفتح المبين» : وكأنه يريد أن تطرق الرياء للعلم أكثر من تطرقه لسائر العبادات، فاحتيج للتنبيه فيه على الإخلاص اعتناء بشأنه، والعلم الشرعي ما صدر عن الشرع أو توقف عليه العلم الصادر عن الشرع توقف وجود كعلم الكلام أو توقف كمال كعلم العربية (سهل الله له به) أي بسلوكه الطريق المذكورة (طريقاً إلى الجنة) أي يرشده إلى طلب الهداية والطاعة الموصلة إلى الجنة، وليس ذلك إلا بتسهيله تعالى، وإلا فبدون لطفه لا ينفع علم ولا غيره: أو بأنه يجازيه على طلبه وتحصيله بتسهيل دخول الجنة بأن لا يرى من مشاقّ الموقف ما يراه غيره، وهذا أقرب لظاهر الحديث واستفيد منه مع ما قبله ومن قوله تعالى: {جزاء وفاقاً} أن الجزاء يكون من جنس العمل

ثواباً وعذاباً التنفيس بالتنفيس والستر بالستر والعون بالعون، ونظير ذلك كثير في أحكام الدنيا والآخرة، وهذا يؤذن بعظيم فضل السعي في طلب العلم ويلزم منه عظم فضل الاشتغال به، وأدلته أشهر من أن تذكر وأكثر من أن تحصر (وما اجتمع قوم) هو اسم جنس جمع يصدق بثلاثة فأكثر يستوي فيه الذكور والإناث، كذا في «فتح الإله» ، وظاهره أنه مشترك بين الفريقين، لكن تقدم عن «مفردات الراغب» : القوم جماعة الرجال في الأصل دون النساء، قال تعالى: {لا يسخر قوم من قوم ولا نساء من نساء} (الحجرات: 11) وفي عامة القرآن أريدوا به والنساء جميعاً وحقيقته للرجال اهـ. ومنه يتبين أن قوله يستوي فيه الذكور والإناث باعتبار أنه المراد لاستواء المكلف من كلا النوعين في غالب الأحكام، فيكون مجازاً من باب التغليب أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه (في بيت من بيوت الله تعالى) هوالمسجد (يتلون) أي يقرؤون (كتاب الله تعالى) أي القرآن لتبادره إلى الأذهان وإضافته إلى الله تعالى لأنه منزل من عنده معجزة لنبيه (ويتدارسونه بينهم) أي يقرأ هذا شيئاً ويقرأ الآخر عين ما قرأه صاحبه هذه المدارسة الفضلى التي وردت من فعله مع جبريل في حديث «كان جبريل يدارسه القرآن» ويحتمل أن المراد من المدارسة في هذا الحديث ما يشمل ما اعتيد من قراءة ما بعد ما يقرؤه القارىء وهكذا. والتخصيص بما ذكر لكمال الفضل وإلا فجاء في رواية أخرى غير مقيدة بذلك وإنما فيه ترتب ما ذكر في الخير على الاجتماع على الذكر مطلقاً ولا تقيد تلك المطلقة بهذه الرواية، لأن ذكر بعض أفراد العام لا يخصص وفضل الله عام (إلا نزلت عليم السكينة) أي المذكورة في قوله تعالى: {هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين} (الفتح: 4) وهي فعيلة من السكون للمبالغة والمراد بها هنا الحالة التي يطمئن بها القلب، فلا يزعج لطارق دنيوي لعلمه بإحاطة قدرة الله لسائر الكائنات فيسكن القلب ويطمئن بموعود الأجر لقوّة رجائه بحصوله لما وفقه للاشتغال به عما سواه. وقيل السكينة: اسم ملك ينزل في قلب المؤمن يأمر بالخير. وقيل السكينة: الرحمة والوقار والسكون والخشية وغير ذلك، والمراد السكون تحت جري المقادير لا ضد الحركة ولا يمنع من تفسيرها بالرحمة عطفها عليها في الجملة بعدها لأن المقام للإطناب واختار المصنف كون السكينة هنا بمعنى الطمأنينة وفي

الحرز للقاري: ويجوز أن يقرأ عليهم السكينة بكسر الهاء والميم وكسرهما وكسر الأول وضم الثاني وهو الأشهر. قلت: والأشهرية يحتمل من حيث القراءة ومن حيث الرواية، والأول أقرب (وغشيتهم) عمتهم وأحاطت بهم من كل جهة (الرحمة) والمراد من الرحمة كما هو ظاهر غايتها من الإحسان والفضل والامتنان (وحفتهم) بتشديد الفاء (الملائكة) أي غشيتهم الملائكة وأل فيه للعهد: أي الملائكة الملتمسون للذكر كما في الحرز أو ملائكة الرحمة والبركة إلى السماء الدنيا كما في رواية الصحيحين. وفي رواية لأحمد: «بعضهم على بعض حتى يبلغوا العرش حتى يسمعوا الذكر» تعظيماً للمذكور وإعظاماً للذاكر على غاية من القرب والمواصلة بحيث لا يدعون للشيطان فرجة يتوصل منها للذاكر. وحف بتشديد الفاء من باب طلب فتعدى إلى الثاني بحرف الجر. قال تعالى: {وحففناهما بنخل} (الكهف: 32) وقد يضمن معنى أحاط فيصل إلى مفعوله الأول بالباء نحو ما جاء في حديث: «إن ملائكة سيارات» من قولهم: «حفوا بهم» وهذا أحسن مما أطلت به في أول «شرح الأذكار» (وذكرهم الله فيمن عنده) عندية مكانة وعلو رتبة لا علوّ مكان تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً وهم الملائكة والأنبياء وذكره للذاكر ثم مباهاة به ورضى بفعله (ومن بطأ) بتشديد الطاء المهملة: نقيض السرعة: أي من قصر (به عمله) أي فقصر عن رتبة الكمال لفقد بعض شروط الصحة أو الكمال فيه (لم يسرع به نسبه) أي يلحقه برتب أصحاب الأعمال الكاملة لأن المسارعة إلى السعادة إنما هي بالأعمال لا بالأحساب قال الشاعر: وما الفخر بالعظم الرميم وإنما فخار الذي يبغى الفخار بنفسه وفي «الفتح المبين» في الحديث السادس والثلاثين: قال ابن مسعود «يأمر الله تعالى بالصراط فيضرب على جهنم فيمرّ الناس على قدر أعمالهم زمراً زمراً أوائلهم كلمع البرق ثم كمر الريح ثم كمرّ الطير ثم يمر الرجل سعياً وحتى يمر الرجل مشياً وحتى يمر آخرهم على بطنه فيقول: يا ربّ لم بطَّأت بي؟ فيقول: إني لم أبطأ بك إنما بطأ بك عملك» وأورد أحاديث مرفوعة في ذلك (رواه مسلم) . قال المصنف في الأربعين: الحديث بهذا اللفظ قال

30 ـــ باب الشفاعة

السخاوي في تخريجها: هذا حديث صحيح أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في «مصنفه» ومسلم في الدعوات من صحيحه وأبو داود وابن ماجه في سننيهما وأبو عوانة في «مستخرجه» ومداره عندهم على أبي معاوية، وهو محمد ابن خازم بمعجمتين عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة وهي طرق كثيرة عن الأعمش في بعضها عنه قال: حدثت عن أبي صالح فأثبت بينهما واسطة، والأعمش مدلس، قال الترمذي: كأنه يعني بإثبات الواسطة أصح، وجعل ذلك عذراً له عن عدم تصحيحه بل اقتصر على تحسينه لشواهده. ويحتمل أن يكون توقف البخاري عن تخريجه لذلك، ولكن إنما صححه مسلم وكذا ابن حبان والحاكم من حديث الأعمش بلا واسطة لوقوعه في رواية مسلم وغيره بالتصريح الذي يؤمن معه من تدليسه كما بينت ذلك واضحاً فيما علقته من تكملة شرح الترمذي اهـ. كلام السخاوي، والحديث عظيم جليل جامع لأنواع من العلوم والقواعد والآداب والفضائل والفوائد والأحكام، وفيه إشارة إلى أن الجزاء من جنس العمل، والنصوص في ذلك كثيرة منها حديث «إنما يرحم الله من عباده الرحماء» . 30 - باب الشفاعة قال الرازي: هي أن يستوهب أحد لأحد شيئاً ويطلب له حاجة، وأصلها من الشفع ضد الوتر كأن صاحب الحاجة كان فرداً فصار صاحب الشفع له شفعاً: أي صار زوجاً اهـ. وفي النهاية: هي السؤال في التجاوز عن الذنب والجرائم اهـ. وقيل: هي انضمام الأدنى إلى الأعلى ليستعين به على ما يرومه، وللغزالي في معنى الشفاعة وسببها كلام نفيس أودعته باب الأذان من شرح الأذكار فراجعه. (قال الله تعالى) علوّ مكانة وعظمة لا علوّ مكان ( {من يشفع شفاعة حسنة} ) بأن يجلب بها لمسلم نفعاً أو دفع عنه سوءاً ابتغاء لوجه الله تعالى، ومن ذلك الدعاء للمؤمن بظهر الغيب، ومن ثم ورد عنه: «من دعا لأخيه بظهر الغيب استجيب له. وقال الملك آمين ولك مثل ذلك» (يكن له نصيب منها) هو ثواب الشفاعة والتسبب إلى الخير.

1461 - (وعن أبي موسى) عبد الله بن قيس (الأشعريّ رضي الله عنه قال: كان النبي) من مزيد عنايته بصحابته ودلالته على الخير لأمته (إذا أتاه طالب حاجة) دينية أو دنيوية (أقبل على جلسائه) جمع جليس كشريف وشرفاء (فقال: اشفعوا تؤجروا) أي إن تشفعوا تؤجروا: أي يحصل لكم الأجر بشفاعتكم سواء أقضيت الحاجة أم لا، فتؤجروا جواب الشرط المقدر، ففيه الحض على الخير بالفعل والتسبب إليه بكل وجه والشفاعة إلى الكبير في كشف كربة ومعونة الضعيف، إذ ليس كل أحد يقدر على الوصول للرئيس والتمكن منه ليوضح له مراده ليعرف حاله على وجهه، ويستثنى ما لا تجوز الشفاعة فيه وذلك الحدود التي (ويقضي الله على لسان نبيه ما أحبّ) أي ما أراد مما سبق في علمه الأزلي من وقوع الأمر وحصوله أو عدمه، فالمطلوب الشفاعة والثواب مرتب عليها سواء حصل المشفوع به بأن كان مقدراً في العلم الأزلي حصوله بها أم لا، بأن كان له فيه سبب آخر لم يحصل أو قام مانع من حصوله (متفق عليه) رواه البخاري في كتاب الزكاة وفي باب الأدب وباب التوحيد ومسلم في باب الأدب وفي باب السنة، ورواه أبو داود في الأدب أيضاً، ورواه الترمذي في العلم وقال: حسن صحيح، والنسائي في الزكاة، قال المزيّ: وكونه عند أبي داود في رواية أبي بكر بن داسة عن أبي داود، ولم يذكره أبو القاسم، ومدار الحديث عند من ذكر على أبي الأسود الدؤلي عن أبي موسى اهـ. ملخصاً. (وفي رواية) للبخاري رواها هكذا في كتاب الأدب من «صحيحه» (ما شاء) أي وهو اعتبار خصوص كونه جارياً على لسان نبيه ما أحبّ، فالاختلاف بين الروايتين مبنى لا معنى، وإن كان بالنسبة إلى غيره المراد والمشيء أعمّ من المحبوب والمرضي، فجميع ما في الكون من الكفر والعصيان بمشيئة مولاه وإرادته وليس ذلك بمحبته ورضاه، قال تعالى: {ولا يرضى لعباده الكفر} (الزمر: 7) .

2472 - (وعن) عبد الله (ابن عباس رضي الله عنهما) من جملة حديثه (في قصة بريرة) بفتح الموحدة وكسر الراء وإسكان التحتية مولاة عائشة أم المؤمنين وحديثها مشتمل على فوائد عديدة أفردت بالتأليف (وزوجها) مغيث وهو كما في «التوشيح» للسيوطي بضم الميم وكسر الغين المعجمة وسكون التحتية وبعدها مثلثة، ووقع عند العسكري بفتح المهملة وتشديد المثناة ثم الباء الموحدة اهـ. ومغيث عبد أسود، وما روي عن عائشة من أنه حرّ فمعارض أو محمول على ما بعد كما سيجيء في «الاستيعاب» . قال ابن عبد البرّ في «الاستيعاب» : كان مولى لبعض بني مطيع. قلت: في البخاري عبداً لبني فلان، قال السيوطي: في الترمذي: عبداً لبني المغيرة: وفي المعرفة لابن منده مولى أبي أحمد ابن جحش اهـ. أعتقت تحته بريرة فخيرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاختارت نفسها وكان مغيث حين عتقها واختيارها عبداً فيما يقول الحجازيون وقال الكوفيون كان يومئذٍ حراً والأول أصح اهـ (قال) أي ابن عباس (قال لها النبي لو راجعتيه) الرواية بإثبات الياء لإشباع الكسر قاله الهروي في «المرقاة» ويخالفه قول السيوطي في «التوضيح» بعد أن أورد لفظ رواية البخاري «لو راجعته» من غير ياء ثم قال: ولابن ماجه «لو راجعتيه» بزيادة الياء وهي لغة ضعيفة وزاد: «فإنه أبو ولدك» اهـ. ولو للتمني أو للشرط والجواب محذوف أي لكان أحسن أو لك فيه ثواب. وفيه معنى الأمر فلذا (قالت يا رسول الله تأمرني؟) بتقدير الهمزة قبله أي أتأمرني بمراجعته أي على سبيل الوجوب فيجب على (قال: إنما أشفع) أي آمرك استحباباً (قلت: لا حاجة) أي لا غرض ولا صلاح (لي فيه) أي في ارتجاعه وفيه إيماء إلى عذرها في عدم قبول شفاعته حيث قال: «وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً» وإنها فهمت من شفاعته في ذلك تخييرها وإطلاق الشفاعة على التخيير مجاز بجامع عدم إيجاب كليهما، وقد بسطت الكلام في ذلك في «شرح الأذكار» (رواه البخاري) وروى الترمذي في النكاح نحوه وقال الترمذي حسن صحيح.

31 ـــ باب الإصلاح بين الناس

31 - باب الإصلاح بين الناس إذا حصل بينهم خصام وشنآن لأن المؤمنين إخوان. والناس اسم جنس جمعي: قيل مأخوذ من الأنس ضد الوحشة ففيه قلب وقيل من نوس إذا تحرك، وعلى هذا فيدخل فيه الجن وتقدم بسطه مراراً (قال الله تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم} ) أي الناس أي ما يتناجون به ويتحدثون به ( {إلا} ) نجوى ( {من أمر بصدقة أو معروف} ) عمل برّ ( {أو إصلاح بين الناس} ) فالاستثناء متصل ويجوز أن يكون منقطعاً لكن نجوى من كان كذلك خير. قال الواحدي في تفسيره «الوسيط» : هذا مما حث عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لأبي أيوب الأنصاري: «ألا أدلك على صدقة هي خير لك من حمر النعم؟ قال: نعم يا رسولالله، قال: تصلح بين الناس إذا فسدوا وتقرّب بينهم إذا تباعدوا» وروت أم حبيبة أن النبي قال: «كلام ابن آدم عليه الإله، إلا ما كان من أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر تعالى» وروي أن رجلاً قال لسفيان: ما أشد هذا الحديث قال سفيان: ألم تسمع الله يقول: {لا خير في كثير من نجواهم} فهو هذا بعينه اهـ. (وقال تعالى: {والصلح خير} ) من الفرقة والنشوز والإعراض: أي لما فيه من الالتئام المطلوب من الزوجين. (وقال تعالى: {وأصلحوا ذات بينكم} ) أي حقيقة ما بينكم بالمودة وترك النزاع. (وقال تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} ) أي في الدين ( {فأصلحوا بين أخويكم} ) إذا تنازعا وقرىء إخوانكم بالفوقية.

2481 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: كل) بالرفع مبتدأ خبره «عليه صدقة» (سلامى) بضم السين وتخفيف اليم: هو العضو وجمعه سلاميات بفتح الميم وتخفيف الياء اهـ. وفي النهاية: السلامى جمع سلامية وهي الأنملة من أنامل الأصابع، وقيل جمعه ومفرده واحد ويجمع على سلاميات اهـ. وقول الأذكار يميل إلى غير آخر بقيل وفي المشارق للقاضي عياض: أصل السلامى عظام الأصابع والأكارع. وفي النهاية: هي التي بين مفصلين من أصابع الإنسان، وقيل كل عظم مجوّف من صغار العظام. المعنى: على كل عظم من عظام ابن آدم صدقة، وقيل إن آخر ما يبقى فيه المخ من البعير إذا عجف السلامي والعين اهـ. وظاهر أن المراد من السلامى هنا ما هو أعم من العضو، وهو كما في «القاموس» : كل لحم وافر بعظم وغيره، فقولي في «الأذكار» أو هو العضو إما باعتبار معناه لغة على بعض الأقوال، وإما أنه تجوز به عن مطلق الجزء. قال في «شرح مسلم» : أصله عظام الأصابع وسائر الكف، ثم استعمل في سائر عظام البدن ومفاصله اهـ. قال العراقي في «شرح التقريب» : وهو المراد في الحديث. قلت: وأيده المصنف بخبر مسلم: «خلق الإنسان على ستين وثلثمائة مفصل» وقوله: (من الناس) في محل الصفة لسلامى (عليه) أي على ذلك الجنس ونظيره حديث: «خير نساء ركبن الإبل وأحناه على زوج نساء قريش» قال السهيلي في «الروض» : الضمير فيه عائد على الجنس أو الضمير عائد على السلامى، وذكره باعتبار أنه عضو أو مفصل عليه (صدقة كل يوم) بالنصب على الظرفية الزمانية، وأجاز الحافظ في «الفتح» رفعه مبتدأ أولاً، وتعدل مبتدأ ثانياً وصدقة خبر الثاني والجملة خبر مبتدأ الأول والرابط مقدر: أي كل يوم تطلع فيه الشمس العدل فيه صدقة (تطلع) بضم اللام كما مر (فيه الشمس) جملة صفة يوم وهو صفة توضيحية فيها بيان تجديد هذه الصدقات على الإنسان صبيحة كل يوم في مقابلة ما أنعم الله تعالى به عليه في خلق تلك السلاميات من باهر النعم ودوامها التي هي نعمة أخرى؛ ومما يزيد العبد تيقظاً لنعمة الدوام عليه أنه تعالى قادر على سلب نعمة الأعضاء عن عبده كل آن، وهو في ذلك عادل في حكمه، فعفوه عن ذلك إدامة نعمة العافية عليه صدقة توجب الشكر بدوامها فيتعين على العبد الشكر لهذه النعم بالصدقة بما يأتي في الحديث وغيره مقابلة لتلك النعم بقدر الطاقة مع ما ورد من أن الصدقة تدفع البلاء فبوجودها عن أعضائه يرجى اندفاع البلاء عنها، وظاهر قوله: «عليه صدقة كل يوم» وجوب الشكر بهذه الصدقة كل يوم،

لكن في حديث «الصحيحين» : «فإن لم يفعل فليمسك عن الشر فإنه له صدقة» وهو يدل على أنه يكفيه أن لا يفعل شيئاً من الشرّ ويلزم من ذلك القيام بجميع الواجبات وترك جميع المحرمات، وهذا هو الشكر الواجب، وهو كاف في شكر هذه النعم وغيرها. أما الشكر المستحبّ فهو أن يزيد على ذلك بنوافل الطاعات القاصرة كالأذكار والمتعدية كالإعانة والعدل، وهذا هو المراد من هذا الحديث وأمثاله مع أن فيه ذكر بعض الطاعات (يعدل) أي يصلح وهو بتقدير «أن» قبله في تأويل مصدر مبتدأ خبره صدقة أو أوقع الفعل فيه موقع المصدر: أي مع قطع النظر عن «أن» ، وهذا الإعراب جار في قوله وتعين وما بعده كما سبق في باب بيان كثرة طرق الخير أي عدله (بين الاثنين) المتهاجرين أو المتخاصمين أو المتحاكمين بأن يحملهما لكونه حاكماً أو محكماً أو مصلحاً بالعدل والإنصاف والإحسان بالقول أو الفعل على الصلح الجائز، وأشار إلى أنه الذي لا يحلّ حراماً ولا يحرم حلالاً (صدقة) عليها لوقايتهما مما يترتب على الخصام من قبيح الأقوال والأفعال، ومن ثم عظم فضل الصلح كما أشير إليه بقوله تعالى: {أو إصلاح بين الناس} وقوله تعالى: {كونوا قوامين بالقسط} (النساء: 135) أي العدل {شهداء ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فا أولى بهما} (النساء: 135) وجاز الكذب فيه مبالغة في وقوع الألفة بين المؤمنين (ويعين الرجل في دابته فيحمله عليها) نفسه أو غيره بإمساكها لذلك (أو يضع) وأورده المصنف في «الأربعين» «أو يرفع» (له عليها متاعه) وهو كل ما ينتفع به من عرض الدنيا قليلاً كان أو كثيراً (والكلمة الطيبة) وهي كل ذكر أو دعاء للنفس أو للغير، وسلام عليه وردّ وثناء بحق ونحو ذلك مما فيه سرور واجتماع القلوب وتآلفها. وكذا سائر ما فيه معاملة الناس بمكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال، ومنه قوله: «ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق» وقد سبق مع حديث أبي هريرة هذا في باب بيان طرق الخير (صدقة وبكل خطوة) وهو بفتح الخاء المعجمة للمرة الواحدة وضمها لما بين القدمين (يمشيها إلى الصلاة) وكذا إلى سائر الطاعات كطلب العلم وصلة الأرحام وزيارة الإخوان (صدقة وتميط) بضم أوله: أي تزيل (الأذى) هو ما يؤذي المارّة من حجر أو شوك أو نحوهما (عن الطريق) مذكر ومؤنث (صدقة) وأخرت هذه لأنها دون ما قبلها كما يشير إليه خير

«الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلاالله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» (متفق عليه) وتقدم زيادة عليها من مخرجيه في الباب المشار إليه. (ومعنى يعدل بينهما) كنى عن الاثنين المذكورين في الخبر بضميره (يصلح بينهما بالعدل) . 2492 - (وعن أم كلثوم) بضم الكاف وسكون اللام وبالمثلثة آخره ميم (بنت عقبة) بضم المهملة وسكون القاف بعدها موحدة فهاء (ابن أبي معيط) بضم الميم وفتح المهملة الأولى بعدها تحتية ساكنة واسمه، أبان بن أبي عمرو واسمه ذكوان بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف أسلمت (رضي الله عنها) بمكة قبل أن يأخذ النساء في الهجرة إلى المدينة ثم هاجرت وبايعت فهي من المهاجرات المبايعات. قيل وهي أول من هاجر من النساء كانت هجرتها في سنة سبع في الهدنة التي كانت بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين المشركين من قريش، وكانوا صالحوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن يردّ إليهم من جاء مؤمناً وفيها نزلت: {إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات} (الممتحنة: 10) الآية. وذلك أنها لما هاجرت لحقها أخواها الوليد وعمارة ابنا عقبة حتى قدما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألانه أن يردها عليهما بالعهد الذي كان بينه وبين قريش في الحديبية فلم يفعل، وقال: نأبى ذلك. قال عمر بن عبد العزيز: يقولون إنها مشت على قدمها من مكة إلى المدينة، فلما قدمت المدينة تزوّجها زيد بن حارثة، فقتل عنها يوم مؤتة فتزوّجها الزبير بن العوام، فولدت له زينب، ثم طلقها فتزوّجها عبد الرحمن بن عوف فولدت له إبراهيم وحميداً ومحمداً وإسماعيل، ومات عنها فتزوّجها عمرو بن العاص فمكثت عنده شهراً وماتت، وهي أخت عثمان بن عفان لأمه. وروى عنها ابنها حميد بن عبد الرحمن وغيره، روي لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة أحاديث فيما ذكر ابن حزم آخر سيرته وابن الجوزي في «مختصر التلقيح» إلا أنهما قالا في ترجمة من روي له عشرة أحاديث: أم كلثوم ولم ينسبوها، ثم رأيت ابن مالك قال في «شرح المشارق» : إنها روى لها كذلك، ولها في «الصحيحين» هذا الحديث الواحد اهـ. (قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ

يقول: ليس الكذاب) أي إثم الكذب من قبيل ذكر الملزوم وإرادة اللام أو معناه: ليس بكثير الكذب (الذي يصلح بين الناس) أي يكذب للإصلاح بين المتباغضين لأن هذا الكذب يؤدي إلى الخير وهو قليل أيضاً (فينمي خيراً) بفتح التحتية أي يبلغ خبراً فيه خير يقال نمى الحديث: إذا بلغه على وجه الإصلاح، ونماه بالتشديد: إذا بلغه على وجه الإفساد (أو) شك من الراوي أي شك هل قال: «فينمي خيراً» أو قال (يقول خيراً متفق عليه) رواه البخاري في كتاب الصلح ومسلم في الأدب، وكذا رواه فيه أبو داود والترمذي في البرّ وقال: حسن صحيح، والنسائي في السير. (وفي رواية مسلم) لهذا الحديث أي في بعض طرقه زيادة على الرواية المتفق عليها، فالرواية المذكورة آنفاً فيه أيضاً من طريق معمر قال فيه إلى قوله: «وينمي خيراً» ولم يذكر ما بعده، أي من الزيادة وتلك الزيادة هي قوله: (قالت) أي أم كلثوم كذا في طريق عند مسلم وفي طريق أخرى عنده قال ابن شهاب الزهري: «ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث» الحديث فجعل مسلم في تلك الطريق هذه الزيادة من قول الزهري. وفي الطريق التي أشار إليها المصنف قول أم كلثوم فقال: قالت (ولم أسمعه) أي النبيّ (يرخص) بتشديد الخاء المعجمة وبعدها مهملة، من الترخيص، ضد الحظر (في شيء مما يقول الناس) أي إنه كذب كما هو كذلك في قول الزهري، وحذف قولها كذب هو كذا عند مسلم (إلا في ثلاث) أي من الخصال (تعني) أي أم كلثوم بتلك الثلاث (الحرب) كأن يقول لأعداء الدين: مات كبيركم أولنا جيش كبير يأتينا، أو نحو ذلك مما فيه مصلحة عامة للمسلمين، فيجوز ارتكاب الكذب لعظم النفع (والإصلاح بين الناس) بأن يقول لزيد مثلاً: رأيت عمرو: يعني عدوه، يحبك ويثني عليك خيراً مما لم يكن ليصلح بينهما ويذهب الشنآن (وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها) كأن يقول أحدهما للآخر لا أحد

أحبّ إليّ منك، فهذا الكذب جائز لعظم المصلحة المترتب عليه على محظور الإخبار بخلاف الواقع. وكذا يجوز الكذب لتخليص محترم، بل يجب على من سئل عن محترم قصد سائله عن إهلاكه أن يخفيه ولو باليمين، وليس في الحديث ما يدل على الحصر. وقال قوم: لا يجوز ذلك إلا بطريق التورية، وهي أن يريد المتكلم بكلامه خلاف ظاهره كأن يقول فعل فلان كذا وينوي إن قدر، ويقول في الحرب: مات كبيركم ويريد بعض المتقدمين منهم. قال الدماميني في «حاشية البخاري» : وليس في الحديث ما يقتضي جواز الكذب، فإنه قال: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس» وسلب الكذب عن المصلح لا يستلزم كون ما يقوله كذباً لجواز أن يكون صدقاً بطريق التصريح أو التعريض اهـ. 2503 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صوت خصوم بالباب) أفرد صوت المضاف مع تعدده في نفس الأمر لتعدد المضاف إليه لكونه لمح فيه كونه مصدراً في الأصل. قال في «الصحاح» : قد صات الشيء يصوت صوتاً اهـ. فيكون هذا نظير إفراد السمع في قوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم} (البقرة: 7) على أحد الوجوه في الآية أو لاختلاط أصواتهم وعدم تمايزهم فصارت كالصوت الواحد لإدراك حاسة السمع لها رفعة (عالية) بالجرّ على أنه صفة خصوم، وبالنصب على أنه حال من أصواتها كذا في نسخة مكتوب على ضمير التثنية رمز صحّ. وفي رواية البخاري «أصواتهم بصيغة الجمع» . قال في «فتح الباري» : كأنه جمع باعتبار من حضر وثنى باعتبار الخصمين، أو كان التخاصم من الجانبين بين جماعتين فجمع باعتبار ذلك وثنى باعتبار جنس الخصم، وليس فيه حجة لمن جوّز إرادة صيغة الجمع بالاثنين، كما زعم الشراح. قلت: يعني به الكرماني (وإذا أحدهما يستوضع الآخر) أي يطلب منه الوضيعة: أي الحطيطة من الدين (ويسترفقه) أي يطلب منه الرفق (في شيء) قال الحافظ في «فتح الباري» : وقع في رواية ابن حبان بيان ذلك الشيء قال فيأول الحديث «دخلت امرأة على النبي فقالت: إني ابتعت أنا وابني من فلان تمراً فأحصيناه لا والذي أكرمك بالحق ما أحصيناه منه إلا ما نأكله في بطوننا أو نستطعمه مسكيناً وجئنا نستوضعه ما نقصنا» الحديث. قال الحافظ: ولم أقف على اسم أحد من المتبايعين وهي غير قصة كعب بن

مالك وعبد الله بن حدرد التي في البخاري عقب هذا الحديث كما بينه في «فتح الباري» (وهو) أي الثاني (يقول وا لا أفعل) أي لا أضع شيئاً وفي رواية ابن حبان «فقال: آلى أن لا يضع خيراً ثلاث مرات» (فخرج رسول الله) ليصلح بينهما (فقال: أين المتألي) بضم الميم وفتح الفوقية والهمزة وتشديد اللام أي الحالف المبالغ في اليمين (على الله أن لا يفعل المعروف) من الوضع والرفق بأخيه (فقال: أنا يا رسول الله فله) أي ذلك المذكور من الوضع والرفق (أي ذلك أحبّ) وفي رواية لابن حبان: «إن شئت وضعت ما نقصوا، وإن شئت من رأس المال فوضع ما نقصوا» قال في «فتح الباري» : وهذا يشعر بأن المراد بالوضع الحط، وبالرفع الاقتصار عليه وترك الزيادة، لا كما زعم بعض الشراح أنه يريد بالرفق الإمهال. وفي أواخر الصلح من الفتح بعد أن ساق عن ابن حبان بيان ما سألوا فيه الرفق من أنهم أخذوا بخلاص صاحبه ثم سألوا منه ذلك بها قال الحافظ: فالمراد أنهم يستوضعونه بترك الزيادة على رأس المال والاسترقاق بترك طلب الربح (متفق عليه) فأخرجه البخاري في كتاب الصلح عن إسماعيل بن أبي أويس عن أخيه وهو أبو بكر عن سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد عن أبي الرجال عن محمد بن عبد الرحمن الأنصاري عن عمرة عن عائشة، ورواه مسلم في الشركة من البيوع: ثنا غيرواحد من أصحابنا قالوا: ثنا إسماعيل بن أبي أويس اهـ. ذكره الحافظ المزيّ في «الأطراف» . قال الحافظ ابن حجر في «نكته» عليها: قال أبو نعيم في «المستخرج» : يقال إن مسلماً حمل هذا الحديث عن البخاري اهـ. وكلام أبي نعيم يقتضي أنه حدث به أيضاً غيره، وقد رويناه في الأول من أعالي المحاملي رواية الإصبهانيين عنه قال ثنا إسماعيل فذكره اهـ. وفي «فتح الباري» في باب أواخر الصلح بعد أن ذكر أنه أخرجه عن إسماعيل بن أبي أويس: محمد بن يحيى الذهلي وذكر ما في المحامليات قال: فيحتمل أن يفسر من أبهمه مسلم بهؤلاء وبعضهم اهـ. ثم في الحديث الحض على الرفق بالغريم والإحسان إليه بالوضع والزجر على الحلف على ترك الخير، وفيه الصفح عما يجري بين المتخاصمين من اللفظ ورفع الصوت عند الحاكم (معنى يستوضعه: يسأله أن يضع عنه بعض دينه، ويسترفقه: يسأله الرفق) بكسر الراء ضد العنف وذلك بأن لا يزيد عليه ما نقص

عليه (والمتألي: الحالف) تقدم في كلام الحافظ أنه الحالف المبالغ في اليمين وهو الذي تقتضيه الصيغة. 2514 - (وعن أبي العباس) بتشديد الموحدة آخره مهملة (سهل بن سعد) الأنصاري (الساعدي) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب الدلالة على الخير (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلغه أن بني عمرو بن عوف) أي ابن مالك بن الأوس، والأوس أحد قبيلتي الأنصار، وهما الأوس والخزرج، وبنو عمرو بن عوف بطن كبير من الأوس فيه عدة أحياء كانت منازلهم بقباء (كان بينهم شرّ) السبب فيه كما في «الفتح» ما في رواية «وقع بين حيين من الأنصار كلام» وعند البخاري في كتاب الصلح من طريق محمد بن جعفر عن أبي حازم «أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقالوا: اذهب بنا نصلح بينهم» (فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلح بينهم في أناس) هذا هو الأصل كما تقدم وتعوض الهمزة أل (من أصحابه) وفي نسخة «معه» بدلاً من أصحابه سمي الطبراني منهم من طريق موسى بن محمد عن أبي حازم، أُبيّ بن كعب وسهيل بن بيضاء. وللبخاري في الأحكام أن توجهه كان بعد أن صلى الظهر (فحبس) بضم المهملة الأولى وكسر الموحدة، أي قام (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلح بينهم وحانت الصلاة) أي دخل حين الصلاة: وهي صلاة العصر كما صرح به البخاري في روايته في الأحكام، ولفظه «فلما حضرت صلاة العصر أذن وأقام وأمر أبا بكر فتقدم» (فجاء بلال إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: يا أبا بكر إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد حبس وحانت الصلاة فهل لك أن تؤم الناس؟ قال: نعم إن شئت) عند أحمد وأبي داود وابن حبان أن ذلك كان بأمر النبي ولفظه: «فقال لبلال: إن حضرت

الصلاة ولم آتك فمر أبا بكر فلصلّ بالناس، فلما حضرت» الحديث، ونحوه للطبراني، ولا يخالف هذا قوله لأبي بكر «هل لك أن تؤم الناس» لأنه يحمل على أنه استفهمه هل تبادر أول الوقت أو تنتظر مجيء النبي، ورجح عند أبي بكر المبادرة لأنها فضيلة محققة فلا تترك لفضيلة متوهمة (فأقام بلال وتقدم أبو بكر فكبر) وفي رواية للبخاري «فاستفتح أبو بكر الصلاة» . قال في «فتح الباري» : وبهذا يجاب عن الفرق بين المقامين حيث امتنع أبو بكر هنا أن يستمرّ إماماً، وحيث استمرّ في مرض موته حين صلى خلفه الركعة الثانية من الصبح كما صرح به موسى بن عقبة في «المغازي» ، وكأنه لما مضى معظم الصلاة حسن الاستمرار، ولما لم يمض منها إلا اليسير لم يستمر، وكذا وقع لعبد الرحمن بن عوف حيث صلى النبي خلفه الركعة الثانية من الصبح فإنه استمر إماماً لهذا المعنى، وقصة عبد الرحمن عند مسلم (وكبر الناس وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي في الصفوف) زاد البخاري في رواية: يشقها شقاً (حتى قام في الصف) أي الأول كما في رواية له أيضاً، ولمسلم «فخرق الصفوف حتى قام عند الصفّ المقدم» (فأخذ الناس في التصفيق) قيل إنه مرادف للتصفيح، وقيل لا وهو الراجح (وكان أبو بكر رضي الله عنه) لعلمه بالنهي عن الالتفات في الصلاة وأنه خلسة من الشيطان يختلسها من صلاة العبد كما جاء ذلك في الخبر المرفوع (لا يلتفت في صلاته فلما أكثر الناس) أي من التصفيق كما في رواية للبخاري وفي رواية أخرى «فلما رأى التصفيق لا يمسك عنه» (التفت فإذا رسول الله) أي حاضر فالخبر محذوف (فأشار إليه رسول الله) أي بالمكث في مقامه، وفي رواية للبخاري في كتاب الإمامة «فأشار إليه أن امكث مكانك» . قال الحافظ في «الفتح» : وفي رواية عمر بن علي: فدفع في صدره ليتقدم فأبى (فرفع أبو بكر يده) في البخاري من باب الإمامة يديه بالتثنية (فحمد الله) ظاهره أنه تلفظ بالحمد لكن في رواية الحميدي عن سفيان «فرفع أبو بكر رأسه إلى السماء شكراً ورجع القهقرى» وأدعى ابن الجوزي أنه أشار بالحمد والشكر بيده ولم يتكلم، وليس في رواية الحميدي ما يمنع أن يكون تلفظ، ويقوّي ذلك ما عند الإمام أحمد عن أبي حازم «يا أبا بكر لم رفعت يديك وما منعك أن تثبت حين أشرت إليك؟ قال: رفعت يديّ لأني حمدت الله على ما رأيت منك»

(ورجع القهقرى) أي يمشي إلى خلفه، فقوله: (وراءه) بالنصب على الحال تأكيد، وفعل ذلك لئلا يستدير القبلة فتبطل صلاته، وهو محمول على أنه لم تتوال منه حركات مبطلة (حتى قام) أي تأخر إلى موقف المأموم فقام (في الصفّ) ولم يقف منفرداً عنه لكراهته المفوتة لفضل الجماعة (فتقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى) إماماً (للناس، فلما فرغ اقبل بوجهه على الناس فقال: يا أيها الناس ما لكم؟) جملة مركبة من مبتدأ وخبر أي أيّ شيء لكم؟ (حين نابكم) أي أصابكم (شيء في الصلاة) هو في تلك القصة تنبيه الصديق على مجيء النبي (ذتم) أي شرعتم (في التصفيق) جملة حالية بتقدير قد وحين ظرف. والمعنى: أي شيء بكم وقد صفقتم حين أصابكم شيء في الصلاة (إنما التصفيق للنساء) وفي رواية البخاري إنما التصفيح للنساء» زاد الحميدي «والتسبيح للرجال» وقد روى البخاري هذه الجملة الأخيرة مقتصراً عليها في حديث آخر، وفي البخاري «قال سهل أي ابن سعد الساعدي هل تدرون ما التصفيح؟ هوالتصفيق» قال في «الفتح» : وهذا حجة من قال إنهما بمعنى، وبه صرح الخطابي وأبو علي القالي والجوهري وغيرهم، وادعى ابن حزم نفي الخلاف في ذلك، وتعقب بما حكاه القاضي عياض في «الإكمال» أنه بالحاء الضرب بظاهر إحدى اليدين على الأخرى، وبالقاف بباطنها على باطن الأخرى. وقيل بالحاء الضرب بأصبعين للإنذار والتنبيه وبالقاف بجميعها للهو أو اللعب اهـ. (من نابه) أي أصابه (شيء في صلاته فليقل: سبحان ا) لينبه على أنه في الصلاة ويقصد به الذكر وحده أو مع إعلام (فإنه) أي المصلي (لا يسمعه أحد حين يقول سبحان الله إلا التفت) بالبناء للفاعل (يا أبا بكر ما منعك) من (أن تصلي) إماماً (للناس حين أشرت إليك) أي بملازمة ما شرعت فيه من إمامتك بالقوم، وكانت الإشارة منه قبل أن يحرم بالصلاة كما في باب الإشارة في الصلاة من «فتح الباري» (فقال أبو بكر: ما كان) زائدة (ينبغي) أي لا يصح (لابن أبي قحافة) كنية أبيه واسمه عثمان رضي الله عنهما (أن يصلي) إماماً (بين يدي

رسول الله) أي ليس هذا من باب الأدب المأمور به العباد معه فما فعله من سلوك الأدب وتقديمه على الأمر الذي على سبيل الإيجاب والتحتم، وسيأتي في ترجمة ابن عوف في باب فضل البكاء بيان أنه صلى في مرض موته وراء أبي بكر أيضاً، واستمر أبو بكر إلى أن أتم الصلاة إماماً بالقوم كما تقدم قريباً. قال في «فتح الباري» : وفي الحديث من الفوائد: الإصلاح بين الناس، وجمع كلمة القبيلة، وحسم مادة القطيعة، وتوجه الإمام بنفسه إلى بعض رغبته لذلك، وفيه جواز الصلاة الواحدة بإمامين أحدهما بعد الآخر، وفيه فضل أبي بكر على جميع الصحابة. واستدل به جمع من الشراح ومن الفقهاء كالروياني على أن أبا بكر عند الصحابة كان أفضلهم لكونه اختاره دون غيره، وفيه جواز التسبيح والحمد في الصلاة لأنه من ذكرالله، ولو كان مراد المسبح إعلام الغير بما صدر منه: أي من قصد الذكر بذلك وإلا أبطل الصلاة عند الشافعية. وفيه جواز الالتفات للحاجة. وأن مخاطبة المصلي بالإشارة أولى من مخاطبته بالعبارة، وأنها تقوم مقام النطق لمعاتبة النبي على مخالفته إشارته، وفيه الحمد والشكر على الوجاهة في الدين، وأن من أكرم بكرامة تخير بين القبول والترك إذا فهم أن ذلك الأمر على غير جهة اللزوم، وكأن القرينة التي بينت لأبي بكر ذلك كونه شق الصفوف إلى أن انتهى إليه، فكأنه فهم من ذلك أن قصده أن يؤمّ الناس وأن أمره إياه بالاستمرار في الإمامة من باب الإكرام له والتنويه بقدره، فسلك هو طريق الأدب والتواضع ورجح ذلك عنده احتمال نزول الوحي في حالة الصلاة لتغير حكم من أحكامها، وكأنه لأجل هذا لم يتعقب اعتذاره برد عليه. وفيه سؤال الرئيس عن سبب مخالفة أمره قبل الزجر عن ذلك، وفيه إكرام الكبير بمخاطبته بالكنية واعتماد ذكر الرجل لنفسه بما يشعر بالتواضع من جهة استعمال أبي بكر لفظ الغيبة مكان الحضور، وإلا فكان الكلام أن يقول أبو بكر ما كان لي فعدل عنه إلى قوله: ما كان لابن أبي قحافة لأنه أول على التواضع من الأول. وفيه غير ذلك اهـ. ملخصاً (متفق عليه) أخرجاه في كتاب الصلاة وأخرجه البخاري في كتاب الأحكام وأبو داود والنسائي في الصلاة اهـ. ملخصاً من «الأطراف» للمزي (معنى حبس) في «وحبس رسول الله» وهو مبني للمفعول (أمسكوه ليضيفوه) بضم التحتية وكسر الضاد بعدها تحتية ساكنة، ففيه إضافة الرئيس إذا أوفد على القوم، وفيه مزيد تواضعه وجلوسه جبراً لخواطرهم لحضور ضيافتهم.

32 ــــ باب فضل ضعفة المسلمين والفقراء والخاملين

32 - باب فضل ضعفة المسلمين والفقراء والخاملين بفتحات جمع ضعيف، قال ابن هشام في «التوضيح» : فعلة بفتحتين وهو شائع في وصف المذكر العاقل، الصحيح اللام كامل وكملة وساحر وسحرة اهـ. ففيه إيماء إلى ندور ما نحن فيه من جمع ضعيف على ضعفة، وقد بين وجه جماعة عليه في «المصباح» فقال: هو ضعيف والجمع ضعفاء وضعاف أيضاً، وجاء أيضاً ضعفة وضعفي. قال: ولوحظ في ضعيف معنى فاعل فجمع على ضعاف وضعفة مثل كافر وكفرة اهـ. وفي شرح أبيات الجمل لابن السيد: وجاز أن يكسر فعيل على فعلة من حيث إن فعيل وفاعل يشتركان في المعنى الواحد فيقال عليم وعالم وقدير وقادر، فاشتركا في جمعهما كما اشتركا في مفردهما: وكما قالوا عالم وعلماء وشاعر وشعراء، وباب فعلاء في الجمع إنما لفعيل نحو حكيم وحكماء وبصير وبصراء اهـ: أي فضل ضعفاء (المسلمين و) فضل (الفقراء) من الدنيا (والخاملين) الذكر فيها وإن لم يكونوا فقراء. (قال الله تعالى: {واصبر نفسك} ) احبسها وثبتها (مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ) أي في مجامع أوقاتهم أو في طرفي النهار وقرىء «بالغدوة» وفيه أن غدوة علم في الأكثر فاللام فيه على تأويل التنكير، وأصل غداة بالفتح غدوة بوزن ضربة فنقلت حركة الواو إلى الدال واعتلت كإعلال أقام (يريدون وجهه) أي رضا الله وطاعته وسيأتي بسط ذلك في معنى الآية في أثناء الكلام على حديث سعد في الباب بعده عن القرطبي ( {ولا تعد عيناك عنهم} ) ولا يجاوزهم نظرك إلى غيرهم، وتعديته بعن لتضمينه معنى نبا، وقرىء: «ولا تعد عينيك» ولا تعد من أعداه وعداه، والمراد نهى الرسول عليه الصلاة والسلام أن يزدرى بفقراء المؤمنين ويغلق عينيه عن رثاثة زيهم طموحاً إلى طراوة زي الأغنياء. قال الكواشي: قال قوم من رؤساء الكفار لرسول الله: نحّ هؤلاء الموالي الذين كأنّ ريحهم ريح الصنان وهم صهيب وعمار وغيرهما من فقراء المسلمين حتى نجالسك. فنزلت هذه الآية اهـ.

2521 - (وعن حارثة) بالحاء المهملة وكسر الراء وبالمثلثة (ابن وهب) الخزاعي أخو عبد الله بن عمر بن الخطاب لأمه. قال ابن النحوي في شرح البخاري: أمهما أم كلثوم بنت جرول بن مالك بن المسيب الخزاعية. روى عنه أبو إسحاق السبيعي ومعبد بن خالد الجهني (رضي الله عنه) قال ابن الجوزي في المستخرج المليح: له ستة أحاديث أخرج له منها في «الصحيحين» أربعة أحاديث اتفقا عليها. وقال البرقي: له حديثان، وهو غلط لأنه قد أخرج له في «الصحيحين» أربعة أحاديث اهـ. (قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ألا) حرف استفتاح لتنبيه السامع للكلام الآتي بعده (أخبركم بأهل الجنة) قال ابن النحوي: أي بمعظمهم وكذا في القسم الأخير وليس المراد الاستيعاب، وسكت الراوي عن ذكر جوانبهم للعلم بوقوعه: أي قالوا: بلى فقال: هم (كل ضعيف) فهو خبر لمبتدأ محذوف والجملة بيان، ومعنى ضعيف: أي نفسه ضعيفة لتواضعه وضعف حاله في الدنيا (متضعف) قال ابن النحوي هو بفتح العين المشددة وكذا ضبطه الدمياطي. قال ابن الجوزي: وغلط من كسرها إنما هو بالفتح، يعني أن الناس يستضعفونه ويقهرونه. وقال النووي: روى بالفتح عند الأكثرين وبالكسر اهـ: قال الطيبي: فمعناه على «الفتح» يستضعفه الناس ويحتقرونه ويفخرون عليه لضعف حاله في الدنيا ومعناه بالكسر متواضع متذلل خامل واضع من نفسه اهـ. وقيل المراد أنه يستضعف: أي يخضع سبحانه ويذل له نفسه، حكاه المصنف مقتصراً عليه. قلت: وعلى هذا جرى العلقمي وزاد في رواية «مستضعف» . وفي رواية لأحمد «الضعيف المستضعف» (لو يقسم على الله لأبرّه) أي لأبرّ قسمه: أي لو حلف يميناً طمعاً في كرم الله بإبراره لأبره بحصول ذلك، وسيأتي فيه بسط. ومن ذلك ما روي عن أنس بن النضر في أخته الربيع لما كسرت سنّ المرأة وأمر بالقصاص، فقال أنس: وا لا تكسر سنّ الربيَّع، فرضى أهل المرأة المجنى عليها بالأرش، فقال: «إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرّ قسمه» وأتى بالمضارع في حديث الباب إيماء إلى استمرار عناية الله بهم كل زمن ووقت وقضاء حوائجهم وتيسير مطالبهم ويكفيك قوله في الحديث القدسي «لا يزال عبدي يتقرّب إليّ حتى أحبه» الحديث: أي كنت متولياً لسائر أموره كافياً له في مطالبه (ألا أخبركم بأهل النار) أي بسماتهم وأفعالهم لتجتنبوها، هم (كل عتل) بضم المهملة والفوقية وتشديد اللام (جواظ

مستكبر) أي متخلق به وهو كما في الحديث المرفوع «بطر الحق» أي دفعه وعدم الانقياد إليه «وغمط الناس» أي احتقارهم زاد في رواية بعد جواظ «جعظري» وهو بفتح الجيم والظاهر المعجمة وسكون المهملة بينهما. قيل الفظ الغليظ. وقيل الذي لا عرض له، وقيل الذي يتمدح بما ليس عنده (متفق عليه) أخرجه البخاري في التفسير والأدب والنذور من «صحيحه» ، ومسلم في صفة الجنة. وأخرجه الترمذي في صفة الجنة ومداره عندهم على شعبة عن معبد بن خالد عن حارثة كذا لخص من الأطراف للمزي (العتل الغليظ) العنيف، وهذا قول الخطابي (الجافي) من الجفاء: أي الجافي عن المواعظ، هذا قول الفراء، والمصنف جمع القولين وجعلهما قولاً واحداً، وقيل هو الشديد من كل شيء، وقيل الكافر. وقال الداودي: السمين العظيم العنق والبطن. وقال الهروي: الجموع المنوع. قال: ويقال هو القصير البطين، وقيل الأكول الشروب الظلوم (والجواظ بفتح الجيم وتشديد الواو، وبالظاء المعجمة: وهو الجموع المنوع) هذا بعض تفسير له جاء مرفوعاً قال ابن النحوي: روي عن ابن عباس مرفوعاً «ثلاثة لا يدخلون الجنة: الجواظ والعتل والجعظري - وقيل يا رسول الله وما الجواظ؟ قال: الجموع المنوع البخيل في يديه» والجعظري: الفظّ على ما ملكت يمينه والغليظ لقرابته وجيرانه وأهل بيته. والعتل الشرس الخلق الرحب الجوف الأكول الشروب الغشوم الظلوم اهـ. (وقيل) كما حكاه الخطابي واقتصر عليه الجوهري في «صحاحه» (الضخم) في البدن أي كثير لحمه (المختال) افتعال من الخيلاء: وهو التكبر (في مشيته) بكسر الميم (وقيل) كما حكاه في «النهاية» (القصير البطين) بفتح أولهما وكسر ثانيهما: أي القصير العظيم البطن لشرهه ونهمه فليس غرضه سوى ملء بطنه. وفي الحديث عن ابن عمر عن النبي «المؤمن يأكل في معاً واحداً، والكافر يأكل في سبعة أمعاء» رواه البخاري. 2532 - (وعن أبي العباس) كنية (سهل) وقيل: كنيته أبو يحيى، وهو (ابن سعد) بن مالك بن

خالد بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الأنصاري (الساعدي) نسبة (رضي الله عنه) لجده ساعدة (قال: مرّ رجل) لم أقف على من سماه (على النبي فقال لرجل) وفي البخاري «فقال ما تقولون» قال الشيخ زكريا: الخطاب لما حضره، وهو أبو ذرّ ومن تبعه (وما رأيك في هذا؟) من حيث التعظيم له باعتبار الأمور الدنيوية (فقال رجل من أشراف الناس) الذين ينظرون إلى الظواهر (هذا) أي المسؤول عنه (وا حريّ إن خطب) مولية (أن ينكح) بالبناء للمفعول وكذا المضارعة الآتية بعد أي يزوج (وإن شفع) في أمر (أن يشفع) أي لحسبه أو لشرف نسبه وظهور فخره دنيا (فسكت رسول الله، ثم مر رجل) أي آخر، زاد في رواية للبخاري «من فقراء المسلمين» وهو في نسخة من هذا الكتاب أيضاً. واسمه جعيل بن سراقة الغفاري كما ذكره شيخنا شيخ الإسلام زكريا في «تحفة القاري» ، ولعل الرجل: الأول كان عيينة بن حصين أو الأقرع بن حابس. ففي «أسد الغابة» «قيل لرسول الله: أعطيت الأقرع بن حابس وعيينه بن حصن مائة من الإبل وتركت جعيلاً؟ فقال: والذي نفسي بيده لجعيل خير من طلاع الأرض مثل عيينة والأقرع» الحديث قال: أخرجه ابن عبد البرّ وابن منده وأبو نعيم اهـ. (فقال له) أي لذلك أي الذي عنده (رسول الله: ما رأيك في هذا، فقال: يا رسول الله هذا رجل من فقراء المسلمين هذا حريّ إن خطب) مولية (أن لا ينكح) لفقره (وإن شفع) في أمر (أن لا يشفع، وإن قال) : أي تكلم (لا يسمع لقوله) ويجوز في الأفعال الواقعة جواباً الجزم وهو الأفصح والرفع لكون فعل الشرط ماضياً (فقال رسول الله: هذا) أي الذي احتقرتموه لفقره (خير) عند الله (من ملء الأرض) أي مما يملأ بها (مثل هذا) الذي فضلتموه عليه. قال الكرماني: إن قلت كيف هذا؟ قلت: إن كان الأول كافراً فالوجه ظاهر، وإلا فيكون ذلك معلوماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم اهـ. (متفق عليه) كما فعل

الحميدي وأبو مسعود وابن الجوزي فأورده في المتفق عليه من حديث سهل، وتبعهم المصنف وأبي مالك الطرقي وخلف فعزياه إلى البخاري فقط، ذكره ابن النحوي. قلت: وجرى على الأخير الحافظ المزي فاقتصر على عزوه إلى البخاري في كتاب النكاح والرقاق، قال: وأخرجه ابن ماجه في الزهد وقال الحافظ ابن حجر في «النكت الظراف على الأطراف» : قال الحميدي: ذكره ابن مسعود في المتفق عليه ولم أجده في مسلم. قال الحافظ: وذكره خلف والطرقي وغيرهما في أفراد البخاري وهو الصواب اهـ. (قوله حريّ هو بفتح الحاء) المهملة (وكسر الراء) لا حاجة إلى وصفها بالإهمال دفعاً لاشتباهها بالزاي للفرق بين اسميهما بتنوين الياء الأخيرة في اللغة المشهورة فيه دون الراء (وتشديد الياء: أي حقيق) وبمعناه جدير وقمير، وعسى (وقوله شفع بفتح الفاء) مضارعة يشفع فتحها أيضاً. 2543 - (وعن أبي سعيد) سعد بن مالك بن سنان الأنصاري (الخدري رضي الله عنه عن النبي قال: احتجت) بتشديد الجيم: أي تخاصمت (الجنة والنار) قال الطيبي: والمقصود حكاية ما يقع بيهما مما اختص به كل منهما، وفيه شائبة من معنى الشكاية ألا ترى كيف قال للجنة «أنت دار رحمتي» إلخ فأقحم كلاً بما تقتضيه مشيئته. قال المصنف: هذا الحديث على ظاهره وإن الله تعالى جعل فيهما إدراكاً فتحاجا، ولا يلزم من هذا أن يكون التمييز فيهما دائماً وكذا قال الطيبي، قال ويجوز أن يكون على وجه التمثيل (فقالت النار فيّ) بتشديد الياء أولاهما المدغمة آخر الحروف وثانيهما ياء المتكلم (الجبارون) أي الذين يقهرون الغير على مراداتهم على حسب أهويتهم (والمتكبرون، وقالت الجنة فيّ) بتشديد الياء أيضاً (ضعفاء الناس) أي المتواضعون منهم أو المستضعفون فيهم لفقرهم وعدم ثروتهم، وإنما عزّ الدنيا عند أهلها السكارى بحبها. قال سيدنا عمر بن الخطاب: عزّ الدنيا بالمال، وعزّ الآخرة بالأعمال (ومساكينهم) أي

والمحتاجون منهم الصابرون على الضرار من غير تضجر ولا تبرم من القضاء اكتفاء بتدبير المولى فيهم ورضاء بما قسم لهم (فقضى الله بينهما) أي أخبر عما أراده لهما مما سبقت به إرادته قائلاً (إنك الجنة) في الغة: عبارة عن البستان من النخيل والأعناب والمراد منها هنا مقابل النار (رحمتي) قال الطيبي: سماها رحمة لأن بها تظهر رحمة الله كما قال (أرحم بك من أشاء) وإلا فرحمة الله من صفاته التي لم يزل بها موصوفاً ليس صفة حادثة ولا اسم حادث فهو قديم بجميع أسمائه وصفاته جل وعلا اهـ.Y وهذا بناء على أن الرحمة الموصوف بها تعالى يراد منها إرادة الفضل والإحسان فتكون من صفات المعاني الأزلية القائمة بالذات، أما إذا أولت بالإحسان نفسه فتكون من صفات الأفعال، وهي حادثة غير قائمة بذات الباري عند الأشعري وأتباعه، وظاهر أن المراد هنا المعنى الثاني (وإنك النار عذابي أعذب بك من أشاء) ممن تعلقت الإرادة الإلهية بتعذيبه (ولكليكما عليّ ملؤها) فمن يدخل الجنة لا يخرج منها البتة وكذا من يدخل النار من الكفرة: أما ذوو المعاصي من المؤمنين إذا دخلوها فلا بد من خروجهم منها ودخولهم الجنة بالوعد الذي لا يخلف قال تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره} (الزلزلة: 7) وقال: «من مات وفي قلبه ذرّة من إيمان دخل الجنة» (رواه مسلم) وسيأتي بيان الباب الذي ذكره فيه من «صحيحه» وما فيه. 2554 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال) وفي نسخة قال إنه: (ليأتي) بفتح اللام وهي المؤذنة بالقسم المقدر قبلها المأتي به لتأكيد الأمروتقويته (الرجل العظيم) قدراً في الدنيا (السمين) جسماً (يوم القيامة) ظرف ليأتي (لا يزن عند الله جناح بعوضة) جملة حالية من فاعل يأتي: أي لا يعدله عند الله: أي لا قدر له عنده، وتتمة

الحديث في مسلم «اقرءوا إن شئتم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً» قال المصنف: في الحديث ذم السمن، ففيه تنبيه على أنه ليس الدار في الرفعة عند الله والقرب من فضله وساحة جرده بالصور، وإنما ذلك بما يقرّ في القلوب من الأنوار الإلهية والتجليات الربانية أهلَّنا الله لذلك بفضله (متفق عليه) فأخرجه البخاري في «التفسير» من «صحيحه» ومسلم في التوبة كلاهما من طريق يحيى بن بكير عن المغيرة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ورواه البخاري في التفسير أيضاً أولاً عن محمد بن عبد ا؛ عن سعيد بن أبي مريم عن المغيرة قال الحافظ في «النكت الظراف» وأخرجه الطبراني في «الأوسط» عن عمرو بن أبي الطاهر عن سعيد بن أبي مريم عن المغيرة عن أبي الزناد وقال: تفرّد بها سعيد. قال الحافظ تقي الدين بن فهد في «الإشراف» ورواية يحيى بن بكير ترد عليه اهـ. 2565 - (وعنه) عن أبي هريرة رضي الله عنه (أن امرأة سوداء كانت تقمّ المسجد أو شاباً) أي أسود. وفي البخاري في باب كنس المسجد «أن رجلاً أسود أو امرأة سوداء» والشك فيه من ثابت، لأنه رواه عنه جماعة هكذا ومن أبي رافع. قال الحافظ: وسيأتي بعد باب من وجه آخر عن عمار بهذا الإسناد فقال: ولا أراه إلا امرأة. وروى ابن خزيمة من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة فقال امرأة سوداء، ولم يشك. ورواه البيهقي بإسناد حسن من حديث ابن بريدة عن أبيه فسماها «أم محجن» وأفاد أن الذي أجاب النبي عن سؤاله عنها أبو بكر الصديق، وذكر ابن منده في الصحابة جزماً امرأة سوداء كانت تقم المسجد، وقع ذكرها في حديث حماد بن زيد عن ثابت عن أنس، وذكرها ابن حبان في الصحابة بدون ذكر السند فإن كان محفوظاً فهذا اسمها، وكنيتها أم محجن كذا في «فتح الباري» (ففقدها) أي المرأة أو النسمة ليعم كلاً منهما (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل عنها، أو) شك من الراوي مرتب على الشك قبله: أي وقال (عنه) أي عن حال ذلك الإنسان ومفعول سأل محذوف: أي سأل الناس (فقالوا مات) أي

ذلك الشخص (قال: أفلا كنتم آذنتموني) أي أمسكتم عن الإعلام فما آذنتموني (به) أي أعلمتموني بموته والمعطوف عليه مقدر بعد الهمزة (فكأنهم صغروا) بتشديد الغين (أمرها، أو) شك: أي أو قال صغروا (أمره) أي أنه من الفقراء الخاملين الذي لا يؤبه بوفاة مثله فيدعى للصلاة عليها مثلك، وهذا يحتمل أن يكون من الصحابة وقالوا ذلك اعتذاراً: أي إننا آثرنا راحتك وبقاءك في منزلك أن مثل ذلك الميت ليس من مشاهير الصحابة أولى السبق والأيادي في الإسلام كما جاء كذلك عند ابن خزيمة من طريق العلاء «قالوا: مات في الليل فكرهنا أن نوقظك» وكذا في حديث بريدة (فقال: دلوني على قبره) هكذا هو في النسخ بضمير المذكر بلا شك وهو محتمل لأن يكون الواقع وحده فقط مع الشك في كون المحدث عنه امرأة أو عبداً أو تذكيره باعتبار الميت (فدلوه فصلى عليها) أي النسمة المتوفاة، هذا ما اتفقا عليه. زاد مسلم عن أبي كامل الجحدري عن حماد عن أبي رافع عن أبي هريرة: أي وهو إسناد الحديث عندهما (ثم قال) أي النبي (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها) لعدم المنافذ التي يدخل منها الضوء إليها فلا ينيرها إلا الأعمال الصالحة أو الشفاعات المقبولة الراجحة (وإن الله ينورها لهم) أي يدخل النور لهم فيها (بصلاتي) بسبب صلاتي عليهم. قال الحافظ في «فتح الباري» في كنس المسجد. وإنما لم يخرج البخاري هذه الزيادة لأنها مدرجة في هذا الإسناد وهي من مراسيل ثابت، بين ذلك غير واحد من أصحاب حماد بن زيد، وأوضحت ذلك بدلائله في كتاب بيان المدرج. قال البيهقي: يغلب على الظن أن هذه الزيادة من مراسيل ثابت كما قال أحمد بن عبده أو من رواية ثابت عن أنس يعني كما رواه ابن منده. ووقع في مسند أبي داود الطيالسي عن حماد بن زيد الجزار كلاهما عن ثابت بهذه الزيادة اهـ. وبه يعلم ما في قول المصنف (متفق عليه) . وفي الحديث فضل تنظيف المساجد والسؤال عن الخادم والصديق إذا غاب، وفيه المكافأة بالدعاء والترغيب في شهود جنائز أهل الخير، وندب الصلاة على الميت الحاضر عند قبره لمن لم يصل عليه (قوله تقم بفتح التاء) أي الفوقية إن كان المحدث عنه الجارية وإلا فبالتحتية (وضم القاف أي تكنس) قال الحافظ

على الفتح جاء في رواية «أنها كانت تلتقط الخرق والعيدان من المسجد» وفي حديث بريرة «كانت مولعة بلقط القذا من المسجد» وهو بالقاف وبالذال المعجمة مقصوراً جمع قذاة وجمع الجمع أقذية. قال أهل اللغة: القذا في العين والشراب ما تساقط فيه، ثم استعمل في كل شيء يقع في البيت وغيره إذا كان يسيراً (والقمامة الكناسة) بضم أوليهما وهذه الصيغة لما لا يحتفل كالزبالة والنخالة (وآذنتموني بمد الهمزة) أي (أعلمتموني) من الإيذان: الإعلام. 2576 - (وعنه) أي أبي هريرة رضي الله عنه (قال: قال النبي: رب) قال ابن هشام في «المغني» : ليس معناها التقليل دائماً خلافاً لابن درستويه وجماعة، بل ترد للتكثير كثيراً، أو للتقليل قليلاً ومن الأول قوله تعالى: {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} (الحجر: 2) وفي الحديث «يا رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة» اهـ. (أشعث) قال العلقمي في «المصباح» شعث الشعر شعثاً فهو شعث من باب تعب: تغير وتلبد لقلة تعهده بالدهن أي والترجيل (أغبر) قال في «المصباح» : الغبار معروف وأغبر الرجل بالألف: أثار الغبار (مدفوع بالأبواب) أي يدفع بها لحقارة قدره عندهم لفقره ورثاثة ملبسه (لو أقسم على ا) أي حلف يميناً بحصول أمر طمعاً في كرم الله (لأبره) لأوجد ذلك إكراماً له بإجابة سؤاله وصيانته من الحنث في يمينه، وهذا لعظم منزلته عند الله تعالى وإن كان حقيراً عند الناس. وقيل معنى أقسم دعا ومعنى أبرّد أجاب دعوته، قاله المصنف في «شرح مسلم» (رواه مسلم) قال في «الجامع الصغير» بعد إخراجه بهذا اللفظ: إلا أنه يذكر أغبر أخرجه مسلم وأحمد.

2587 - (وعن أسامة) هو بن زيد حبّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابن أخيه كما صرح به كذلك المزي في «الأطراف» (رضي الله عنه) حال كونه راوياً (عن النبي قال: قمت على باب الجنة فكان عامة) أي معظم (من دخلها) من الناس (المساكين) أي الضعفاء المستضعفين في الدنيا الصابرين على الضراء والشاكرين على السراء (وأصحاب الجد) أي الغنى (محبوسون) قال ابن النحوي: كذا في الأصول بالحاء المهملة ثم باء من الحبس، وكذا عند أبي ذرّ وهو ظاهر. قال ابن التين: كذا هو عند الشيخ أبي الحسن ولعله بفتح التاء والراء اسم مفعول من احترس. قال أهل اللغة: يقال أحس بالمكان: إذا قام به حرساً فهم موقوفون لا يستطيعون الفرار. وقال الداوودي: أرجو أن يكون المحبوسون أهل التفاخر لا أفاضل هذه الأمة الذين كان لهم أموال ووصفهم الله بأنهم سابقون. ولما نقل ابن بطال عن المهلب أن في الحديث «إن أقرب ما يدخل به الجنة التواضع عز وجل، وإن أبعد الأسباب من الجنة التكبر بالمال وغيره» قال: وإنما صار أصحاب الجد محبوسون لمنعهم حقوق الله الواجبة للفقراء في أموالهم فحبسوا للحساب لما منعوه، فأما من أدى حقوق الله في ماله فإنه لا يحبس عن الجنة إلا أنهم قليل إذا أكثر شأن أهل المال تضييع حقوق الله تعالى فيه لأنه محنة وفتنة ألا ترى إلى قوله: «وكان عامة من دخلها المساكين وهذا يدل على أن الذين يؤدون حقوق الله في المال ويسلمون من فتنة هم الأقلون اهـ. وقيل إنهم محبوسون لتسبقهم الفقراء بخمسمائة عام كما ورد ذلك في الحديث، ثم هو في بعض النسخ مضبوط بنصب أصحاب فيقدر له فعل عام فيه: أي ورأيهم وبالواو في محبوسون فيكون ذلك على تقدير مبتدأ فيكون استئنافاً بيانياً، كأن سائلاً يسأله عن شأن أصحاب الجد فأجاب بأنهم محبوسون (غير) بالنصب وفي رواية إلا (أن أصحاب النار) أي المستحقون لها بكفر أو معاصي من أصحاب الجد (قد أمر بهم إلى النار) والجملة مضاف إليها إذا الفجائية (وقعت على باب النار) فكشف لي عن أهلها (فإذا عامة من دخلها) مبتدأ خبره النساء هذا باعتبار أول الأمر فلا ينافي خبر «يمشي الرجل من أهل الجنة: أي يأوي على ثنتين وسبعين زوجة، ثنتان من بني آدم، وسبعون من الحور العين» لأن هذا باعتبار الآخرة، فالنساء أكثر أهل النار ابتداء وأكثر أهل الجنة انتهاء (متفق عليه) فأخرجه البخاري في «صحيحه» في بابي النكاح والرقاق ومسلم في آخر كتاب الدعوات،

وأخرجه أحمد والنسائي في عشرة النساء، واستدل بحديث الباب على فضل الفقر على الغنى. وتعقب بأنه ليس فيه أكثر من بيان أن الفقراء في الجنة أكثر من الأغنياء، وليس فيه أن الفقر أدخلهم الجنة إنما دخلوها بصلاحهم مع الفقر، فالفقير إذا لم يكن صالحاً لا فضل فيه. قال العلقمي: ظاهر الحديث التحريض على ترك التوسع من الدنيا، كما أن فيه تحريضاً على الأغنياء بأمر الدين لئلا يدخلوا النار اهـ. (والجد بفتح الجيم) وتشديد الدال المهملة (الحظ والغنى) ويطلق على أبي الأب وعلى أبي الأم وعلى العظمة ومنه «تعالى جد ربنا» وعلى القطع وفي «القاموس» أنه يطلق أيضاً على الرجل العظيم الحظ وعلى الرزق وعلى شاطىء النهر اهـ. أما الجد بالكسر فالاجتهاد (قوله محبوسون: أي لم يؤذن لهم بعد في دخول الجنة) إما لوقوفهم للحساب وإما ليسبقهم إليها صالحو الفقراء كما تقدم. 2588 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة) قال الزركشي: أي من بني إسرائيل، وإلا فقد تكلم في المهد جماعة غيرهم ففي مسلم في قصة أصحاب الأخدود «أن امرأة جيء بها لتلقى في النار لتكفر ومعها صبيّ مرضع فتقاعست، فقال: يا أماه اصبري فإنك على الحق» قلت: وقد تقدم الحديث والكلام عليه في باب الصبر قال: ولأحمد والحاكم من حديث ابن عباس مرفوعاً: «تكلم في المهد أربعة، فذكر منهم شاهد يوسف وابن ماشطة فرعون لما أراد فرعون إلقاء أمه في النار فقال اصبري» . وأخرج الثعلبي عن الضحاك أن يحيى تكلم في المهد، وفي تفسير البغوي أن إبراهيم الخليل تكلم في المهد، وفي سير الواقدي أن نبينا تكلم في أوائل ما ولد. وقد تكلم في زمنه مبارك اليمامة وهو طفل وقصته في الدلائل للبيهقي. قال

الحافظ في «فتح الباري» : على أنه اختلف فيشاهد يوسف، فقيل كان صغيراً، وهذا أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وسنده ضعيف، وبه قال الحسن وابن جبير، وأخرج عن ابن عباس أيضاً ومجاهد أنه كان ذا لحية، وعن قتادة والحسن أيضاً أنه كان حكيماً من أهلها اهـ. قال السيوطي في «التوضيح» بعد ذكر ما ذكر: فكملوا عشرة، وقد نظمها في أبيات وقد تقدمت عنه في باب الصبر، وقد نظمت أسماءهم بقولي: تكلم في المهد طه كذا خليل ويحيى وعيسى ومريم وشاهد يوسف مبري جريج وطفل لدى النار لما تضرم وطفل ابن ماشطة قد عدت لفرعون فيما مضى من أمم وطفل عليه أتوا بالأمه يقولون تزني ولما تكلم كذلك في عهد خير الورى مباركهم وبه يختتم (عيسى) اسم عبراني، وزعم أنه مأخوذ من العيس أحد ألوان الإبل لحمرة فيه رده البيضاوي في تفسير سورة آل عمران بأنه تكلف لا دليل عليه (ابن مريم) إذ قال وهو في المهد كما أخبر الله عنه «إني عبد ا» الآية (وصاحب جريج) بجيمين مصغر (وكان جريج رجلاً عابداً) وكان في أول أمره تاجراً، وكان يزيد مرة وينقص أخرى فقال: ما في هذه التجارة خير لألتمس تجارة في خيرمن هذه/ فبنى صومعة وترهب فيها كذا في رواية أحمد، فدل ذلك على أنه كان بعد عيسى ومن أتباعه، لأنهم الذين ابتدعوا الترهيب وحبس النفس في الصوامع (فاتخذ صومعة) بفتح المهملة والميم وسكون الواو بينهما: وهي البناء المرتفع المحدد أعلاه ووزنها فوعلة من صمعت: إذا دققت لأنها دقيقة الرأس (فكان فيها) بعبد الله مؤثراً للخلوة والعزلة (فأتته أمه) قال الحافظ في «فتح الباري» : لم أقف في شيء من الطرق على اسمها (وهو يصلي) حالية من ضمير المفعول مقرونة بالواو والضمير معاً (فقالت: يا جريج) زاد في رواية أحمد «أشرف عليّ أكلمك أنا أمك» وفي حديث عمران بن حصين «وكانت أمه تأتيه فتناديه فيشرف عليها فتكلمه، فأتته يوماً وهو في صلاته» (فقال: أي)

بفتح الهمزة وسكون اليا لنداء القريب وهو تعالى أقرب من كل قريب بعلمه وكرمه وفي نسخة بدل: أي يا (ربّ أمي وصلاتي) أي اجتمع على إجابة أمي وإتمام صلاتي فوفقني لأفضلهما، زاد في رواية الأعرج عند الإسماعيلي «أوثر صلاتي على أمتي، ذكره ثلاثاً» (فأقبل على) إتمام (صلاته، فانصرفت) ذلك اليوم (فلما كان) أي جريج في زمان (من العد) اليوم الذي بعد ذلك اليوم الأول (أتته أمه وهو يصلي فقالت: يا جريج، فقال: أي ربّ أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته) في اليوم الثاني أيضاً (فلما كان من الغد) أي لليوم الثاني وهو الثالث (أتته فقالت: يا جريج، فقال: يا) وفي نسخة مصححة أي (ربّ أمي وصلاتي فأقبل على صلاته) قال الحافظ في «فتح الباري» : وكل ذلك أي الكلام الوارد عنه في الصلاة محمول على أنه قاله في نفسه: أي أو ما في معناه من تحريك اللسان من غير أن يسمع نفسه ولم يتحرك لسانه ثلاث حركات متوالية لا أنه نطق به: أي وأسمع نفسه وهو صحيح السمع سالم من اللغط ونحوه. قال: ويحتمل أن يكون نطق به على ظاهره لأن الكلام كان مباحاً عندهم وكذا في صدر الإسلام. قال: وقد سبق حديث يزيد بن حوشب عن أبيه رفعه «لو كان جريج عالماً لعلم أن إجابته أمه أولى من صلاته» اهـ. (فقالت: اللهم لاتمته) بضم الفوقية الأولى (حتى ينظر إلى وجوه المومسات) وفي رواية للأعرج وأبي سلمة عن أبي هريرة حتى ينظر في وجوه المياميس» وفي حديث عمران بن حصين «فغضبت وقالت: اللهم لا يموتنّ جريج حتى ينظر في وجوه المومسات» (فتذاكر بنو إسرائيل جريجاً وعبادته وكانت امرأة بغيّ) أي زانية، قال العكبري: في وزنه وجهان: فقيل فعول فأعل إعلال صبيّ ولذا لم يلحق الثناء كما لا يلحق في امرأة صبور وشكور، وقيل فعيل بمعنى فاعل، ولم تلحقه التاء أيضاً لأنها للمبالغة أو لأنه على النسب مثل طالق وحائض ملخصاً، وتقدم فيه مزيد في باب طرق الخير (يتمثل بحسنها) بضم التحتية وفتح الفوقية وتشديد المثلثة بعد الميم: أي يضرب بحسنها لكماله المثل (فقالت: إن شئتم لأفتننه) في رواية وهب بن جرير بن حازم عن أبيه عند أحمد زيادة «فقالوا قد شئنا» قال الحافظ: ولم أقف على اسم هذه المرأة لكن في حديث عمران بن حصين أنها كانت بنت ملك القرية، وفي رواية الأعرج «وكان يأوي إلى صومعته راعية

ترعى الغنم» ونحوه في رواية أبي رافع عند أحمد، وفي رواية أبي سلمة «وكان عند صومعته راعي ضأن وراعية معز» ويمكن الجمع بين هذه الروايات بأنها خرجت من دار أبيها بغير علم أهلها متنكرة وكانت تعمل الفساد إلى أن ادعت أنها تستطيع أن تفتن جريجاً فاحتالت بأن خرجت في صورة راعية ليمكنها أن تأوي إلى ظلّ صومعة جريج (فتعرضت له فلم يلتفت إليها) لعلمه بما يترتب على النظر إلى حسان الصور من الضرر (فـ) ـلما لم يفتتن ووعدتهم بذلك منه ولم تقدر عليه (أتت راعياً كان يأوي إلى صومعته) أي صومعة جريج (فأمكنته من نفسها) لتحمل فتنسبه إلى جريج فتصدق نفسها فيما وعدت به من فتنته وا كافي عبده المتوجه إليه (فوقع عليها) أي جامعها (فحملت فلما ولدت) أي بعد انقضاء مدة حملها على العادة (قالت: هو من جريج) فيه حذف تقديره: فسئلت ممن هو؟ فقالت من جريج. زاد في رواية أحمد «فأخذت وكان من زنى منهم قتل، فقيل لها: ممن هذا؟ فقالت: من من صاحب الصومعة وفي رواية الأعرج «فقيل لها من صاحبك؟ قالت: جريج الراهب نزل إليّ فأصابني» زاد أبو سلمة في رواية «فذهبوا إلى الملك فأخبروه فقال: أدركوه فأتوني به (فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته) وفي رواية أبي رافع «فأقبلوا بفؤوسهم ومساحيهم إلى الدير فنادوه فلم يكلمهم فأقبلوا يهدمون ديره» وفي رواية حديث عمران «فما شعر حتى سمع الفؤوس في أصل صومعته، فجعل يسألهم: ويلكم ما لكم؟ فلم يجيبوه، فلما رأى ذلك أخذ الحبل فتدلى» (وجعلوا يضربونه) وفي رواية أبي رافع: «فقالوا: أي جريج انزل فأتى يقبل على صلاته فأخذوا في هدم صومعته، فلما رأى ذلك نزل فجعلوا في عنقه وعنقها حبلاً فجعلوا يطوفون بهما في الناس» وفي رواية أبي سلمة: «فقال له الملك: ويحك يا جريج كنا نراك خير الناس فأحبلت هذه، اذهبوا به فاصلبوه وفي حديث عمران «فجعلوا يضربونه ويقولون: مرائي تخادع الناس بعملك» وفي رواية الأعرج «فلما مرّ نحو بيت الزواني ضحك، فقالوا: لِمَ تضحك؟ حتى من الزواني؟» (فقال: ما شأنكم فقالوا: زنيت بهذه البغيّ فولدت) بفتح اللام (منك قال: أين الصبيّ، فجاءوا به) أي أحضروه (فقال: دعوني) أي من السب والضرب (حتى أصلي) ففيه اللجأ إلى الصلاة عند الكرب.B وفي الحديث «كان إذا حزنه أمر بادر إلى الصلاة» أورده السيوطي في سورة البقرة من

الجلالين ولم يعزه لمخرج ولا عين صحابيه. قال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث «الكشاف» : رواه الطبراني في «تفسيره» من تفسير حذيفة بهذا اللفظ أخرجه أحمد وأبو داود عن حذيفة بلفظ «كان إذا حزبه أمر صلى» وأخرجه البيهقي في قصة الخندق مطولاً اهـ. (فصلى) ركعتين كما في حديث عمران وعند وهب بن جرير فقام وصلى ودعا (فلما انصرف) أي من صلاته (أتى الصبي فطعن في بطنه) قال الحافظ في مرسل الحسن عن ابن المبارك في البرّ والصلة أنه سألهم أن ينظروه فأنظروه فرأى في المنام من أمره أن يضرب في بطن امرأة فيقول أيتها السخلة من أبوك؟ ففعل (فقال: يا غلام من أبوك؟ قال: فلان الراعي) في رواية أبي رافع «ثم مسح رأس الصبي فقال: من أبوك؟ قال: راعي الضأن» وفي روايته عند أحمد «فوضع أصبعه على بطنها» وفي رواية أبي سلمة «فأتى بالمرأة والصبيّ وفمه في ثديها فقال له جريج: يا غلام من أبوك؟ «فنزع الغلام فاه من الثدي وقال: راعي الضأن» قال الحافظ: ولم أقف على اسم الراعي، ويقال إن اسمه صهيب، وأما الابن ففي رواية البخاري بلفظ فقال «يا بابوس» وتقدم شرحه وأنه ليس اسمه وإنما المراد به الصغير، وفي حديث عمران « ثم انتهى إلى شجرة فأخذ منها غصناً ثم أتى الغلام وهو في مهده فضربه بذلك الغصن فقال: من أبوك؟» وفي «تنبيه الغافلين» للسمرقندي بغير إسناد «أنه قال للمرأة: أين أصبتك؟ قالت: تحت الشجرة، فأتى تلك الشجرة فقال لها: يا شجرة أسألك بالذي خلقك: من زنا بهذه المرأة؟ فقال كل غصن منها راعي الغنم» ويجمع بين هذا الاختلاف بوقوع جميع ما ذكر من مسح رأس الصبي ووضع الأصبع على بطن أمه ومن طعنه بأصبعه ومن ضربه بطرف العصى التي كانت معه وأبعد من جمع بينهما بتعدد القصة وأنه استنطقه وهو في بطنها مرة قبل أن تلد ثم استنطقه بعد أن ولد اهـ. (فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به) عند وهب بن جرير «فوثبوا إلى جريج فجعلوا يقبلونه» وزاد «الأعرج» فأبرأ الله جريجاً وأعظم الناس أمر جريج (وقالوا نبني لك صومعتك) أي ما هدمناه منها كما في رواية أبي رافع (من ذهب؟ قال: لا، أعيدوها من طين كما كانت ففعلوا) زاد في رواية أبي سلمة «فرجع إلى صومعته فقالوا: با مم ضحكت؟ فقال: ما ضحكت إلا من دعوة دعتها عليّ أمي» وفي الحديث إيثار إجابة الأم على صلاة التطوع لأن الاستمرار فيها نافلة، وإجابة الأم وبرّها واجب. قال المصنف وغيره: إنما دعت عليه لأنه

ان يمكنه تخفيف صلاته وإجابتها، لكن لعله خشي أن تدعوه إلى مفارقة صومعته والعود إلى الدنيا تشتاق إليه فتزوره وتقنع برؤيته وتكليمه، وكأنه إنما لم يخفف ويجيبها لأنه خشي أن ينقطع خشوعه. وتقدم حديث يزيد بن حوشب عن أبيه مرفوعاً «لو كان جريج فقيهاً لعلم أن إجابة أمه أولى من عبادة ربه» أخرجه الحسن بن سفيان. وهذا إذا احتمل إطلاقه استفيد منه إجابة أمه أولى من عبادة ربه» أخرجه الحسن بن سفيان. وهذا إذا احتمل إطلاقه استفيد منه جواز قطع الصلاة مطلقاً لإجابة نداء الأم فرضاً كانت أو نفلاً، وهو وجه في مذهب الشافعي حكاه الروياني. والأصح عند الشافعية أن الصلاة إن كانت نفلاً وعلم تأذى الوالد بالترك وجبت الإجابة وإن كانت فرضاً وضاق الوقت لم تجب الإجابة وإن لم يضق وجب عند إمام الحرمين وخالفه غيره لأنها تلزم بالشروع. وعند المالكية أن إجابة الوالد أفضل من التمادي. وحكى القاضي أبو الوليد أن ذلك يختص بالأم دون الأب. وعند ابن أبي شيبة مرسل عن محمد بن المنكدر ما يشهد له، وقال به مكحول. وقيل إنه لم يقل به من السلف غيره. وفي الحديث أيضاً عظم برّ الوالدين وإجابة دعائهما ولو كان الولد معذوراً لكن يختلف الحال في ذلك بحسب المقاصد. وفيه الرفق بالتابع لأن أم جريج مع غضبها منه لم تدع عليه إلا بما دعت به خاصة، ولولا طلبها الرفق بالتابع لأن أم جريج مع غضبها منه لم تدع عليه إلا بما دعت به مع الله لا تضرّه الفتن. وفيه قوّة يقين جريج وصحة رجائه بنطق ما استنطقه، وفيه أن الله يجعل لأوليائه مخارج عند ابتلائهم وإنما يتأخر ذلك عن بعضهم في بعض الأوقات تهذيباً وزيادة في الثواب، وفيه إثبات كرامات الأولياء ووقوع الكرامة لهم باختيارهم وطلبهم، وفيه أن الوضوء لا يختص بهذه الأمة خلافاً لمن زعم ذلك وإنما الذي يختص بها الغرّة والتحيل في الآخرة اهـ. ملخصاً من «الفتح» (وبينما) أصله بين فأشبعت الفتحة فتولدت الألف وكفت عن اضافته للمفرد وأضيف للجمل (صبي يرضع من أمه) قال الحافظ: لم أقف على اسم الصبيّ ولا على اسم أمه ولا على اسم أحد ممن ذكر في القصة المذكورة (فمر رجل) في رواية خلاس عن أبي هريرة عند أحمد «فارس متكبر» (راكب على دابة فارهة وشارة) بفتح الراء وسيأتي ضبطها وضبط الفارهة ومعناهما في الأصل (حسنة) أي منظر أبهى وملبس سنيّ (فقالت أمه: اللهم اجعل ابني مثل هذا فترك الثدي) بفتح المثلثة وسكون الدال المهملة

وتخفيف الياء قال في «الصحاح» يذكر ويؤنث وهي للمرأة والرجل أيضاً/ والجمع أثد وثدىً على فعول وثدي أيضاً بكسر المثلثة اتباعاً لما بعدها من الكسر اهـ. وفي «التهذيب» للمصنف مثله. ثم نقل عن ابن فارس اختصاص الثدي بالمرأة ويقال لذلك من الرجل ثندوة بفتح الثاء بلا همز وثندؤة بالضم والهمز فأشار إلى تخصيصه وقد ثبت في الحديث الصحيح «أن رجلاً وضع ذاب سيفه بين ثدييه» (وأقبل إليه ونظر إليه) أي معتبراً لحاله بالسرّ الذي ألهمه الله إياه (فقال: اللهم لا تجعلني مثله) أي في الجبروت والتكبر وإن كان حسناً في المنظر فلا مدار على حسن الصورة بل على نور الباطن وأنوار السريرة (ثم أقبل على ثديه) يرضعه (فجعل يرتضع) ومرّوا وفي باب بدء الخلق من البخاري ومرّ بالمبني للمجهول (بجارية وهم يضربونها) وعند البخاري بأمة وعند أحد تضرب. قال الحافظ: وقع في رواية خلاس أنها كانت حبشية أو زنجية. وفي رواية الأعرج عن أبي هريرة عند البخاري «يجرراها» بجيم مفتوحة وتشديد الراء الأولى ويلعب بها وهو معنى قوله في رواية البخاري «فجروّها حتى ألقوها» (ويقولون: زنيت وسرقت) بكسر التاء فيهما للواحدة المخاطبة (وهي تقول حسبي ا) أي بحسبي أي كافيّ (و) هو (نعم الوكيل) وتقدم بسط فيها أوائل الكتاب، اكتفت بهذا الذكر عن تبرئتها لنفسها ونفي ما رموها به من الزنا والسرقة علماً بأن من اعتمد على مولاه كفاه ما أهمه من أمر دنياه وأخراه قال تعالى: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} (الطلاق: 3) وتقدم في باب اليقين والتوكل عن ابن عباس حديث كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار: حسبي الله نعم والوكيل (فقالت أمه) لقصر نظرها على الظاهر (اللهم لا تجعل ابني مثلها) أي في كونه حقيراً يضرب لفعل السوء (فترك) الابن (الرضاع ونظر إليها) فألهمه الله أنها بريئة مما رميت به ومظلومة فيما يفعل بها (فقال: اللهم اجعلني مثلها) أي في البراءة من مزاولة المعاصي والوقوع فيها لا مثلها في الاتهام بما لم أفعل لأنه من باب تمني البلاء وهو منهيّ عنه كما في خبر «لا تمنوا لقاء العدوّ» الحديث (فهنالك) أي في ذلك الحال (تراجعا الحديث) أي سألته عن

سبب مخالفته لها (فقالت) مخاطبة له لما صدر منه من المعارضة والمخالفة لها (مرّ رجل حسن الهيئة) هو بمعنى قوله في رواية السابقة راكب دابة فارهة وشارة حسنة (فقلت) اللهم اجعل ابني مثله) حسن المنظر جميل الهيئة (فقلت) بفتح التاء ضمير المخاطب (اللهم لا تجعلني مثله ومروا بهذه الأمة) لعلها كانت بالقرب لم تبعد حال كلامها معه وإن كانت قد ذهبت. فالإتيان باسم الإشارة الموضوع للقريب لقرب القصة بالنسبة لما قبلها (وهم يضرونها ويقولون زنيت وسرقت. فقلت: اللهم لا تجعل ابني مثلها. فقلت: اللهم اجعلني مثلها) فأجابها ببيان سبب ذلك (قال) وهو استئناف بياني كأنه قيل: ماذا قال الصبي عند قول أمه له ما ذكر؟ فقال قال: (إن ذلك الرجل كان جباراً) . وفي رواية أحمد «يا أماه أما الراكب ذو الشارة فجبار من الجبابرة» وفي رواية الأعرج «فكأنه كافر» في «مختصر القاموس» «الجبار الله تعالى» وكل عات وقلب لا تدخله الرحمة والقتال في غير حق والعظيم القوي الطويل جبار اهـ. وظاهر أنه محتمل هنا لكل المعاني الأخيرة لاحتمال أنه موصوف بكل منها (فقلت: اللهم لا تجعلني مثله) في الجبروت فإنه سبب للقصم والهلاك في الدين (وإن هذه) أي الأمة الحاضرة أو التي في معنى الحاضرة لقرب قصتها (يقولون) أي لها (زنيت و) هي (لم تزن) فهي في محل الحال على تقدير المبتدأ أو معترضة بين المتعاطفين لتبرئتها مما رميت به (و) يقولون (سرقت) بكسر الفوقية فيه وفيما قبله (ولم تسرق) ويجوز كونها معترضة أيضاً إن وقوع الجملة المعترضة في آخر الكلام كما أشار إليه القاضي البيضاوي في «التفسير» في نظيره (فقلت: اللهم اجعلني مثلها) أي في السلامة من الذنب والبراءة من وصمته: قال الحافظ في «الفتح» : في الحديث أن نفوس أهل الدنيا تقف مع الخيال الظاهر فتعاف سوء الحال، بخلاف أهل التحقيق فوقوفهم مع الحقيقة في الباطن فلا يبالون بذلك مع حسن السريرة كما قال تعالى حكاية عن أصحاب قارون حيث خرج عليهم {قالوا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارن ... وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير} (القصص: 79، 80) وفيه أن البشر طبعوا على إيثار الأولاد على النفس بالخير لطلب

المرأة الخير لابنها ودفع الشرّ عنه ولم تذكر نفسها (متفق عليه) قال الحافظ في باب بدء الخلق من «فتح الباري» : حديث أبي هريرة عن جرير، ورواه عنه محمد بن سيرين كما هنا وفي باب المظالم. ورواه عنه الأعرج كما في أواخر الصلاة أو أبو رافع عند مسلم وأحمد وأبو سلمة وهو عند أحمد، ورواه عن النبي مع أبي هريرة عمران بن حصين اهـ. قال الحافظ المزي في «الأطراف» : أخرجه مسلم في الاستئذان عن شيبان بن فروخ عن سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال عن ثابت البناني عن أبي رافع عن أبي هريرة، وتعقبه الحافظ في «النكت الظراف» بأنه لم يخرجه في الاستئذان إنما هو في البرّ والصلة وقد اعترض مغلطاي على المزي فقال: عزا هذا ظناً للاستئذان. وعزى حديث مسلم من رواية جرير بن حازم عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة للأدب والواقع إنما في مسلم في موضع واحد يعني إن كان الاستئذان من جملة الأدب فينبغي أن يقول فيهما إما الاستئذان وإما الأدب، وكتاب الأدب قبيل كتاب البرّ والصلة وبينهما الرؤيا ثم المناقب، فإن كان الذي يعبر عن الصلة والبر بالأدب فكان ينبغي أن يقول الأدب اهـ. (المومسات بضم الميم الأولى وإسكان الواو وكسر الميم الثانية وبالسين المهملة وهن الزواني) ويجمع في التكسير على مواميس (والمومسة الزانية) وفي «الصحاح» : المومسة الفاجرة وهم أعم من قوله هنا الزانية إلا أن يكون مراداً منه ذلك (وقوله دابة) بالجرّ على الحكاية وإن كانت لكونها في غير الاستفهام شاذة ويجوز الرفع ومن أولى (فارهة بالفاء) والراء والهاء وبعدها تاء التأنيث (أي حاذقة نفيسة) وفي «الصحاح» الفاره الحاذق بالشيء اهـ. وكأنه أخذ النفاسة من مقام المدح وأنه لازم الحذف عادة (والشارة بالشين المعجمة وتخفيف الراء: وهي الجمال الظاهر في الهيئة والملبس) زاد في «فتح الباري» حتى يتعجب منه وعليه فيقدر في الحديث مضاف: أي وذو شارة حسنة. وقد جاء في رواية البخاري إذ مرّ بها راكب ذو شارة، قال في «الفتح» : أي صاحب جيش اهـ. وعليه فيكون من حذف الجار وإبقاء عمله: أي وفي شارة حسنة ووصفها عليه بالمؤنث باعتبار لفظ شارة (ومعنى) تراجعا الحديث: أي (تراجع الصبي وأمه) حديث الصبي وحديثها الأنسب تقديم حديثها على حديثه وكان تأخيره لشرف الذكر (والله أعلم) .

33 ـــ باب ملاطفة اليتيم

33 - باب ملاطفة اليتيم هو صغير لا أب له. قال ابن السكيت: اليتيم في الناس من قبل الأب وفي البهائم من قبل الأم. قال ابن خالويه: وفي الطير بفقدهما لأنهما يحضنانه ويرزقانه. قال شيخ الإسلام زكريا في «شرح التنقيح» بعد نقله وتعليله: لا يأتي في جميع الطيور اهـ. (والبنات) أي بنات الإنسان نفسه ومثلهن فيما ذكر بنات غيره والتنصيص عليهن لأن بعض الناس يضجر منهن ويقسو عليهن والبنات جمع مؤنث سالم واحده بنت والتاء التي في المفرد حذفت كالتاء التي في مسلمة فهي غير التي في مسلمات فلذا نصب بالكسرة قال تعالى: {أصطفى البنات} (الصافات: 153) (وسائر الضعفة) من العبيد والإماء (والمساكين) أي المحتاجين فالمراد منه ما يشمل الفقراء قال الشافعي رضي الله عنه: الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا. ثم المسكين مفعيل من الكسون. قال القرطبي: وكأنه من قلة سكنت حركاته، قال تعالى: {أو مسكيناً ذا متربة} (البلد: 16) أي لاصقاً بالتراب (والمنكسرين) أي لطارق حل بهم (والإحسان إليهم) ببذل الندى أو دفع الأذى أو كلمة طيبة: كأمر بمعروف أو نهي عن منكر أو دعاء لهم قال تعالى: {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين} (البقرة: 195) (والشفقة) أي الحنوّ (عليهم) والرحمة لهم، قال تعالى في وصف نبيه: {وكان بالمؤمنين رحيماً} (الأحزاب: 43) وعلامة ذلك النصح لهم وأن يحبّ لهم ما يحبّ لنفسه من وجوه الخير (والتواضع) قال الجنيد: هو خفض الجناح ولين الجانب (معهم وخفض الجناح لهم) هو عطف تفسيري إن عطف على التواضع وإن عطف على الملاطفة فمن عطف الخاص على العام، وخفض الجناح كناية عن التواضع قاله أبو

حيان في «النهر» . (قال الله تعالى) مخاطباً لنبيه ومحرضاً له على مكارم الأخلاق ومحاسنها ( {واخفض جناحك للمؤمنين} ) أي لين جانبك لم، مستعار من خفض الطائر جناحه إذا أراد أن ينحطّ. (وقال الله تعالى: {واصبر نفسك} ) أي احبسها ( {مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} ) أي يعبدونه في سائر الأوقات فهما كناية عن الزمان الدائم ولا يراد بهما خصوص زمانهما، أو خص الزمان بالذكر لغلبة الشغل فيهما. فإذا لم يغفلوا فيهما مع ذلك فأن لا يغفلوا في غيرهما أولى ( {يريدون وجهه} ) أي ذاته جملة في محل الحال من فاعل يدعون ( {ولا تعد عيناك عنهم} ) أي لا تجاوزهم ناظراً إلى غيرهم من ذوي الهيئات من رؤساء قريش ( {تريد زينة الحياة الدنيا} ) جملة في محل الحال من الضمير المجرور وجاز مجيئها منه لأن المضاف بعضه، وتقدم بيان سبب نزول الآية وبعض ما يتعلق بها في الباب السابق وسيأتي فيها فوائد في حديث سعد. (وقال تعالى: {فأما اليتيم فلا تقهر} ) قال أبو حيان: أي لا تحقره وكأنه تفسير باللازم إذ يلزم منها قهره على ماله وغيره. قال البيضاوي: أي لا تغلبه على ماله لضعفه. وقرىء: «فلا تكهر» أي لا تعبس في وجهه ( {وأما السائل} ) ظاهره المستعطي ( {فلا تنهر} ) أي لا تزجره لكن أعطه أورده رداً جميلاً. (وقال تعالى: {أرأيت} ) استفهام معناه التعجب كذا قال البيضاوي، وقال أبو حيان: الظاهر أن أرأيت هنا بمعنى أخبرني فيتعدى لمفعولين أحدهما الذي والآخر محذوف: أي أليس مستحقاً للعذاب اهـ. ( {الذي يكذب بالدين} ) بالجزاء أو الإسلام والذي يحتمل الجنس والعهد، ويؤيد الثاني قوله: ( {فذلك الذي يدع اليتيم} ) أي يدفعه دفعاً عنيفاً وهو أبو جهل كان وصياً ليتيم فجاءه عرياناً يسأله من مال نفسه فدفعه. أو أبو سفيان نحر جزوراً فسأله يتيم لحماً فقرعه بعصاه أو الوليد بن المغيرة أو منافق بخيل

وقرىء يدع أو يتركه ( {ولا يحض} ) أهله وغيرهم ( {على طعام المسكين} ) أي لا يفعل ذلك بنفسه ولا يحرض عليه غيره لعدم اعتقاده بالجزاء وفي إضافة الإطعام إلى المسكين دليل على أنه مستحقه. ولما ذكر أولاً عموم الكفر وهو التكذيب ذكر ما يترتب عليه من الإيذاء والمنع من النفع وذلك بالنسبة إلى الخلق، ثم ذكر ما يترتب عليه من الخالق بقوله: {فويل للمصلين} إلى آخر السورة. 2601 - (وعن سعد بن أبي وقاص) مالك القرشي الزهري تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب الإخلاص (قال: كنا مع النبي ستة نفر) إما أن يكون خيراً ومع حال منه: أي مصاحبين له أو بالعكس، والنفر بالتحريك: عدة رجال من ثلاثة إلى عشرة قاله في الصحاح وفيه أيضاً: والرهط ما دون العشرة من الرجال ليس فيهم امرأة اهـ. (فقال المشركون) أي أشرافهم، فقيل هو أمية بن خلف الجمحي ومن تابعه، ففي أسباب النزول للواحدي عن ابن عباس في قوله تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا} (الكهف: 28) قال: نزلت في أمية بن خلف الجمحي وذلك أنه دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أمر كرهه من طرد الفقراء عنه وتقريب صناديد أهل مكة فأنزل الله {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا} (الكهف: 28) وفيه أيضاً عن سلمان الفارسي قال: «جاءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عيينة بن حصن والأقرع بن حابس وذووهم فقالوا: يا رسول الله إنك لو جلست في صدر المجلس ونحيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم، يعنون سلمان وأبا ذرّ وفقراء المسلمين وكانت عليهم جباب الصوف لم يكن عليهم غيرها، جلسنا إليك وحادثناك وأخذنا عنك، فأنزل الله تعالى: {واتل ما أوحي إليك} (الكهف: 27) إلى قوله: {إنا أعتدنا للظالمين} (الكهف: 29) الحديث أورد ذلك عم والدي الشيخ العلامة الجليل الشيخ أحمد بن محمد علان الصديقي البكري في كتابه الذي جعله في علوم القرآن وغيرها وسماه مجموعة العلوم وأودعها مائة وسبعين علماً ومن خطه نقلت. وأما العم فهو العارف با تعالى الشيخ العلامة أحمد بن إبراهيم بن محمد بن علان الصديقي النقشبندي رحم الله الجميع ونفع بهم وأمدني بمددهم آمين فتحصل

منه أن بعض المشركين قال (للنبي: اطرد هؤلاء) أي الستة المذكورين وكان ذلك أنفة منهم من مجالستهم لاستصغارهم واستقذارهم لاحتقارهم لهم لفقرهم وخمولهم في الدنيا ونسب القول في الحديث للكل لرضاهم به (لا يجترءون) أي لئلا يحصل منهم الجرأة (علينا) فنعير بذلك ثم بين النفر الستة بقوله: (وكنت أنا وابن مسعود) الهذلي (ورجل من هذيل) لم أرَ من سماه من شرح صحيح مسلم (وبلال) مولى أبي بكر (ورجلان لست أسميهما) كأنه يعني أبا بكر وعلياً رضي الله عنهما ولعل وجه إبهامه لهما استبعاد القوم طلب أشراف الكفار لطردهما فإنهما كانا من أعيان قريش ومشاهيرهم، ولعل طلب طردهما إن كان فلمخالفتهما لهم في الإسلام فأرادوا بذلك التعريض إلى حقارتهم ولا يطفىء أنوار الله أفراد أعدائه (فوقع في نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شاء الله أن يقع) أي من طرد أولئك عنه لما علم من كمال أنفسهم ومخالطة الإيمان لبشاشة قلوبهم فلا يفارقه أحدهم لما نزل وتقريب المشركين طمعاً في إسلامهم وإسلام قومهم نظير إعطائه الفىء لجمع من المؤلفة تألفاً له ومنع ذلك عن بعض محتاجي المؤمنين اكتفاء بما وقر في قلبه من نور الإيمان المغني عن التألف ورأى النبي أن ذلك لا يفوت أصحابه شيئاً ولا ينقص لهم قدراً (فحدّث نفسه) أي بذلك قال القرطبي في «المفهم» : وفي بعض كتب التفسير أنهم لما عرضوا ذلك على النبي أبى. فقالوا له: اجعل لنا يوماً ولهم يوماً وطلبوا أن يكتب لهم بذلك فهمّ النبي بذلك ودعا علياً ليكتب فقام الفقراء وجلسوا ناحية (فأنزل ا) : ( {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه} ) فنهاه عما هم به من الطرد لا أنه وقع الطرد ووصف أولئك بأحسن أوصافهم، وأمره بأن يصبر نفسه معهم بقبوله: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ} فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رآهم بعد ذلك يقول: مرحباً بالذين عاتبني الله فيهم وإذا جالسهم لم يقم عنهم حتى يكونوا هم الذين يبدأون بالقيام وقوله: {يدعون ربهم بالغداة} بطلب التوفيق والتيسير، وبالعشي يطلب العفو عن التقصير وقيل معناه: يذكرون الله من بعد صلاة الفجر وصلاة العصر، وقيل يصلون الصبح والعصر. وقال ابن عباس: يصلون صلاة الخمس. وقال يحيى بن أبي

كثير: هي مجالسهم الفقهاء بالغداة والعشي. وقيل يعني به دوام أعمالهم وعبادتهم. رخص طرفي النهار لما تقدم من أنهما وقتا عمل وشغل فإذا لم يلهوا فيهما ففي غيرهما أولى. وقوله: {يريدون وجهه} أي يخلصون في عبادتهم وعملهم تعالى ويتوجهون إليه بذلك لا لغيره ويصح أن يقال يقصدون بذلك رؤية وجهه الكريم: أي ذاته المقدسة عن صفات المخلوقين (رواه مسلم) في الفضائل من «صحيحه» ورواه النسائي في «المناقب» ورواه ابن ماجه في الزهد بنحوه، ومداره عندهم على سريج بن هانىء بن يزيد بن نهيك الكوفي عن سعد كما في «الأطراف» للحافظ المزي. 2612 - (وعن أبي هبيرة) بضم الهاء وفتح الموحدة وسكون التحتية بعدها راء ثم هاء (عائذ) بالعين المهملة وبعد الألف همزة فذال معجمة (ابن عمرو) بن هلال بن عبيد بن يزيد بن رواحة بن رايبية بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن ثوره بن هدمة بن لاطم بن عثمان بن عمرو بن أد بن طابخة بن مضر (المزني) بضم الميم وفتح الزاي وبعدها نون: نسبة إلى مزينة أم عثمان وأخيه أوس ابني عمرو: قاله في «أسد الغابة» (وهو من أهل بيعة الرضوان) أي من الذين بايعوا النبي بالحديبية تحت الشجرة على أن لا يفرّوا. وفي رواية على الموت وكانوا ألفاً وأربعمائة» وفي رواية «وخمسمائة» . وجمع بينهما بأن المائة المزيدة لعلهم أتباع أولئك/ فأنزل الله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} (الفتح: 18) فسميت بيعة الرضوان لأنها سبب ذلك تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب الأمر بالمعروف (أن أبا سفيان) صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف (أتى على سلمان) بسكون اللام وهو الفارسي في السنة الأولى من الهجرة (وصهيب) بن سنان الرومي (وبلال) مولى الصديق (في نفر) من نفر الصحابة وكان إتيانه وهو كافر في الهدنة بعد صلح الحديبية (فقالوا ما أخذت سيوف الله من عدو ا) يعنون أبا سفيان (مأخذها) أي أنه لم تعمل فيه سيوف

المسلمين (فقال أبو بكر) الصديق (رضي الله عنه) تألفاً لأبي سفيان وتعظيماً ليسكن الإيمان في قلبه ويميل إلى المؤمنين وتوادهم (أتقولون هذا) أي القول، فهو مفعول مطلق (لشيخ قريش وسيدهم) فإنه كان عقيدهم في الحروب وإليه مرجعهم فيها لكونه كان أكبر بني عبد مناف حينئذٍ (فأتى) الصديق (النبي فأخبره) بما وقع من أولئك ومنه في جوابهم (فقال: يا أبا بكر لعلك أغضبتهم) أي زجرتهم، أو أسأت إليهم فتسبب عن ذلك غضبهم؛ ثم بين ما يترتب على غضبهم مؤكداً بالقسم المقدر المؤذن به اللام في قوله: (لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك) لأنهم أولياؤه، وفي الحديث القدسي «ومن عادى لي ولياً، فقد آذنته بالحرب» وفي التعبير بربك المؤذن إلى أنه رباه بنعمه ونقله من حالة إلى حالة أكمل منها بفضله وكرمه، وذلك مستلزم للمحبة فقد جبل الإنسان على حب الإحسان، ومن أحبّ شيئاً أحبّ ما يتعلق به ويرجع إليه وهؤلاء لكونهم جنده وحزبه محبوبون له، فمن أغضبهم فقد غفل عن ذلك وتعرض لغضب الباري سبحانه وتعالى، الإيماء إلى طلب محبة أوليائه المؤمنين والتلطف بهم. وهذا الحديث فيه دلالة على عظم رتبة المذكورين فيه عند الله تعالى، وفيه احترام الصالحين واتقاء ما يؤذيهم أو يغضبهم (فأتاهم فقال: يا إخوتاه) يا فيه للنداء للاستغاثة بهم، وإذا استغيث بالاسم المنادى ولم تدخل عليه لام الجر كيا لزيد فالأكثر أن يتصل بآخره ألف كقوله: يا يزيدا الآمل نيل عز وغنى بعد فاقة وهوان ولك إذا وقفت حينئذٍ أن تأتي بهاء السكت كذا في التوضيح وغيره، وحينئذٍ فلعل الصديق وقف على هذا المنادي فلذا أتى فيه بالهاء أو أنه أتى بها على لغة من يلحقها لغير المندوب وهي لغة قليلة حكاها ابن السيد في «شرح الجمل» وغيره (أغضبتكم) أي بما قلته من جهة أبي سفيان (قالوا: لا) أي لم يحصل لنا من ذلك غضب وذلك لعلمهم بأن الصديق لم يحتقرهم ولا قصد إيذاءهم، إنما أراد تألفه ليكثر سواد المسلمين بإيمانه وإيمان تابعيه، وقولهم (يغفر الله لك) جملة دعائية مزيدة على الجواب. وفي «اللطف واللطائف» للثعالبي «أن الصديق رضي الله عنه رأى في يد دلال متاعاً فقال: أتبيعه؟ فقال: لا،

يرحمكالله، فقال له الصديق: قل: لا، ويرحمكالله، لئلا يشتبه الدعاء لي بالدعاء عليّ» وقد نقل مثله المصنف في «شرح مسلم» فقال: قال القاضي: وقد روي عن الصديق أنه نهى عن مثل هذه الصيغة وقال: قل وعافاك الله ولا تزد: أي ولا تقل قبل الدعاء لا، فتصير صورته صورة نفي الدعاء. وقال بعضهم: قل ويغفر الله لك اهـ. قال بعض الأدباء: وهي أحسن من واو الأصداغ (يا أخي) وفي تعبيرهم بهذا اللفظ إيماء إلى سبب عدم تأثرهم من كلامه وحملهم له على أحسن المحامل، لأن هذا شأن الإخوان وإن قل ذلك في الكثير من أبناء الوقت والزمان وبا المستعان (رواه مسلم) في الفضائل من «صحيحه» والنسائي في «المناقب» بنحوه. فائدة: من فضائل سلمان قوله: «لو كان العلم بالثريا لنا له سلمان» وفي رواية «لناله رجال من فارس» وقوله: «إن الله أمرني أن أحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم: عليّ وأبو ذر والمقداد وسلمان» وقول علي رضي الله عنه: «سلمان علم العلم الأول والآخر بحر لا يترف هو منا أهل بيت» وقوله أيضاً: سلمان الفارسي مثل لقمان الحكيم ومن فضائل صهيب قوله: «من كان يؤمن با واليوم الآخر فليحب صهيباً حب الوالدة ولدها» وقوله: «صهيب سابق الروم وسلمان سابق فارس وبلال سابق الحبشة» اهـ. ملخصاً من «المفهم» للقرطبي (قوله مأخذها) قال المصنف ضبطوه بوجهين أحدهما مأخذها بالقصر وفتح الخاء المعجمة والثاني بالمد وكسر الخاء وكلاهما صحيح (أي لم تستوف حقها منه) تفسير لمجموع قولهم إن سيوف الله إلخ (وقوله) أي القائل من النفر، واكتفى به لأن الظاهر من إخباره عن نفسه وباقي النفر (يا أخي روي بفتح الهمزة وكسر الخاء) المعجمة (وتخفيف الياء، وروي بضم الهمزة وفتح الخاء وتشديد الياء) على صيغة التصغير وهو تصغير تحبب وترفق وملاطفة، وما أحسن قول الشاعر: ما قلت حبيبي من التحقير بل يعذب اسم الشخص في التصغير ثم هذا الذي حكاه المصنف هنا من أنه روي بالوجهين قد يخالفه قوله في شرح مسلم وأما قوله يا أخي فضبطوه بضم الهمزة على صيغة التصغير.

2623 - (وعن سهل بن سعد) الساعدي (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا) خبر، وقوله في الجنة في محل الحال ويصح العكس، ولعل الأول أقرب (وأشار) لزيادة التبيين وإدخال المعاني في ذهن السامع لكونها بصورة المحسوس المدركة عادة (بالسبابة) . وفي رواية بالسباحة بحاء مهملة بدل الموحدة الثانية وهي التي تلي الإبهام، سميت بذلك لأنها يسبح بها في الصلاة ويشار بها في التشهد لذلك وهي السبابة أيضاً لأنها يسب بها الشيطان (والوسطى) قال ابن بطال: حق على من سمع هذا الحديث أن يعمل به فيكون رفيق النبي في الجنة ولا منزلة في الآخرة أفضل من ذلك (وفرج) بتشديد الراء أي فرق (بينهما) أي بين السبابة والوسطى إشارة إلى أن بيت درجة النبي وكافل اليتيم قدر تفاوت ما بين السبابة والوسطى. قال القرطبي معنى قوله: «أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين» أنه معه فيها وبحضرته غير أن كل واحد منهما على درجته فيها إذ لا يبلغ درجة الأنبياء غيرهم ولا يبلغ درجة نبينا أحد من الأنبياء وإلى هذا المعنى الإشارة بقرانه بين أصبعيه فيفهم من الجمع المعية والحضور ومن تفاوت ما بينهما اختصاص كل منهما بدرجة ومنزلة اهـ. وفي رواية «كهاتين إذا اتقى» أي إذا اتقى الله فيما يتعلق بحق اليتيم، ويحتمل أن يكون المراد قرب المنزلة حال دخوله الجنة لما أخرجه أبو يعلى من حديث أبي هريرة رفعه «أنا أوّل من يفتح باب الجنة فإذا امرأة تبادرني فأقول من أنت؟ فتقول: أنا امرأة قائمة على أيتام لي» ورواته لا بأس بهم، وقوله تبادرني، أي لتدخل معي أو في أثري، ويحتمل أن يكون المراد مجموع الأمرين سرعة الدخول وعلوّ المنزلة. قال الحافظ العراقي لعل الحكمة في تشبيه كافل اليتيم بالنبي في دخول الجنة أو في علوّ المنزلة أو في القرب منه كونه من شأنه أن يبعث إلى قوم لا يعقلون أمر دينهم فيكون كافلاً لهم ومعلماً ومرشداً/ وكذا كافل اليتيم يقوم بكفالة من لا يعقل أمر دينه بل ولا دنياه فيرشده ويعلمه ويحسن أدبه فظهرت مناسبة ذلك اهـ. (رواه البخاري) أي في الأدب من «صحيحه» وأخرجه أحمد وأبو داود والترمذي كلهم عن سهل كما في «الجامع الصغير» ، قال المزي وأخرجه أبو داود في الأدب والترمذي في البر (وكافل اليتيم القائم بأموره) ديناً ودنياً وذلك بالنفقة والكسوة

والتربية والتأديب وغير ذلك، قال في «شرح مسلم» وهذه الفضيلة تحصل لمن كفل اليتيم من مال نفسه أو مال اليتيم بولاية شرعية. 2634 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: كافل اليتيم له) الظرف يصح أن يكون حالاً من المضاف إليه وجاز لكون المضاف عاملاً في المضاف إليه قبل الإضافة فهو نظير {إليه مرجعكم جميعاً} (يونس: 4) وأن يكون صفة لليتيم وجاز لأن المحلى بأل الجنسية كالنكرة من جهة المعنى وكونه له قال في «الكوكب المنير» بأن يكون جداً أو عماً أو أخاً أو نحو ذلك من الأقارب أو يكون مات أبو المولود فقامت أمه مقامه بكفالته أو ماتت أمه فقام أبوه مقامها في التربية اهـ. ومثله في «شرح مسلم» للمصنف وفي شمول الخبر للأخيرة ما لا يخفى إلا إن كان بطريق القياس على ما تضمنه الخبر إذ ما فيه ليس بيتيم والله أعلم (أو لغيره) بأن يكون أجنبياً منه وكافل مبتدأ، وقوله (أنا) مبتدأ ثان (وهو) معطوف عليه، وقوله (كهاتين في الجنة) خبر أو حال كما عرفته فيما قبله والمبتدأ وخبره الأول والرابط اسم الإشارة والمشار إليه هو السبابة والوسطى كما قال (وأشار الراوي وهو) الإمام الجليل (مالك بن أنس) ابن أبي عامر بن عمرو الأصبحي أبو عبد الله الفقيه المدني إمام دار الهجرة رأس المتقين وكبير المثبتين حتى قال البخاري أصح الأسانيد كلها مالك عن نافع عن ابن عمر، ومن أتباع التابعين مات سنة مائة وتسعة وسبعين، وكان مولده سنة ثلاث وتسعين، وقال الواقدي بلغ تسعين سنة كذا في «تقريب التهذيب» للحافظ (بالسبابة والوسطى، رواه مسلم) في أواخر الكتاب (وقوله له أو لغيره معناه قريبه أو الأجنبي منه) فيه لف ونشر مرتب، فالمراد بقوله له القريب وبقوله لغيره الأجنبي (فالقريب مثل أن تكفله أمه أو جده أو أخوه أو غيرهم من قرابته) أي غير الأب ليكون يتيماً (والله أعلم) .

2645 - (وعنه) أي عن أبي هريرة رضي الله عنه (قال: قال النبي: ليس المسكين) أي الكامل الممدوح من هذا النوع الأحق بالصدقة والأحوج إليها (الذي) يسأل و (ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان) عند سؤاله لأن المتردد يكون قادراً على تحصيل قوته (إنما المسكين) أي أما المسكين الكامل (الذي يتعفف) أي يترك السؤال من الناس مع فقره وليس المراد نفي المسكنة عن الطواف بل نفي كمالها (متفق عليه) فأخرجه البخاري في كتابي الزكاة والأطعمة وأخرجه مسلم في الزكاة. (وفي رواية في الصحيحين) ورواه كذلك أحمد وأبو داود والنسائي كما في «الجامع الصغير» كلهم عن أبي هريرة مرفوعاً (ليس المسكين الذي يطوف) أي يدور (على الناس) سائلاً وجملة (وترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان) في محل نصب على الحال أي ليس هو منحصراً في ذلك كما أفاده الموصول والحال المفيدة للصلة أو الجملة مستأنفة لبيان حاله (ولكن المسكين الذي لا يجد غنىً يغنيه) صفة زائدة على اليسار المنفي إذ لا يلزم من حصول اليسار للمرء أن يغنى به بحيث لا يحتاج إلى شيء آخر/ وكأنّ المعنى نفي اليسار المفيد بأنه يغنيه مع وجود أصل اليسار (ولا يفطن) بالبناء للمفعول أي لا يعلم (له) أي لاحتياجه لتعففه وعدم تعرضه وفي نسخة به بدل اللام (فيسأل الناس) قال الخطابي وغيره: إنما نفى المسكنة عن السائل الطوّاف لأنه تأتيه الكفاية، وقد تأتيه الزكاة زيادة عليها فتزول خصائصه ويسقط اسم المسكنة عنه، وإنما تدوس الحاجة والمسكنة فيمن لا يسأل ولا يعطف عليه فيعطي.

2656 - (وعنه) أي أبي هريرة رضي الله عنه (عن النبي قال: الساعي على الأرملة) هي كما قال الجوهري: التي لا زوج لها وقد أرملت المرأة إذا مات عنها زوجها، قال ابن السكيت: الأرامل المساكين من نساء ورجال ويقال لهم وإن لم يكن فيهم نساء ويقال قد جاءت أرملة من نساء ورجال محتاجين، قال المصنف: وقيل الأرملة التي فارقها زوجها، قال ابن قتيبة: سميت أرملة لما يحصل لها من الإرمال وهو الفقر وذهاب الزاد بفقد الزوج، يقال أرمل الرجل: إذا فنى زاده اهـ. (والمسكين) أي المكتسب لهما ما يمونهما به (كالمجاهد في سبيل ا) وشبه به لأن القيام على المرأة بما يصلحها ويحفظها ويصونها لا يتصور الدوام عليه إلا مع الصبر العظيم ومجاهدة النفس والشيطان فإنهما يكسلان عن ذلك ويثقلانه ويفسدان النية فيه وربما يدعوان بسبب ذلك إلى السوء ويسؤان له ولذا قل من يدوم على ذلك العمل وقلّ من يسلم منه فإذا حصل ذلك العمل حصلت منه الفوائد: كشف كرب الضعفاء وإبقاء رمقهم وسدّ خلتهم وصون حرمتهم كذا في «المفهم» للقرطبي قال في مسلم (وأحسبه قال) وفي البخاري في النفقات بدل قوله وأحسبه، أو التي هي للشك، أي أو قال بدل ذلك (وكالقائم) أي بالتهجد (الذي) كما في نسخة (لا يفتر، وكالصائم الذي لا يفطر) أي هو كالملازم للعبادة ليلاً ونهاراً في دوام الثواب واستمراره بدوام العمل الصالح (متفق عليه) رواه البخاري في النفقات وفي الأدب من «صحيحه» ، ومسلم في الأدب، ورواه الترمذي في البر، وقال حسن صحيح غريب، والنسائي في الزكاة وابن ماجه في التجارات، ومداره عندهم على أبي الغيث سالم مولى ابن مطيع عن أبي هريرة اهـ. ملخصاً من «الأطراف» للمزي. 2667 - (وعنه) أي أبي هريرة (عن النبي قال: شر الطعام) أفعل تفضيل حذفت

همزته تخفيفاً وجاءت ثابتة في حديث عن أنس سئل عن الأكل قائماً فقال: ذلك أشر (طعام الوليمة) قال في «الصحاح» : هي طعام العرس وسيأتي فيه مزيد (يمنعها) بالبناء للمفعول (من يأتيها) للحاجة والفاقة وهم الفقراء وهم الفقراء والمساكين (ويدعى إليها من يأباها) قال المصنف: معناه الإخبار بما يقع من الناس بعده من مراعاة الأغنياء في الولائم وتخصيصهم بالدعوة وإيثارهم بطيب الطعام ورفع مجالسهم وغير ذلك مما هو الغالب في الولائم (ومن لم يجب الدعوة) بفتح الدال المهملة، قال ابن السيد في كتاب المثلث الدعوة بالفتح: الدعاء إلى الله تعالى وكذا كل شيء دعوته وكذا الدعوة إلى الطعام، وبالكسر أن ينتسب الرجل إلى غير أبيه وغير أهله: وبالضم زعم قطرب: أنها الدعوة إلى الطعام، ولا أحفظ ذلك من غيره، والذي حكاه اللغويون دعوة بالفتح اهـ. ملخصاً (فقد عصى الله ورسوله) والمراد منه الدعوة لوليمة النكاح فإن الإجابة إليها واجبة بالشروط المعروفة في كتب الفقه (رواه مسلم) . (وفي رواية في الصحيحين عن أبي هريرة بئس) وهي كلمة لإنشاء الذم وفاعلها إما اسم ظاهر محلى بأل، ومنه قوله: (الطعام) واختلف فيها هل هي للجنس أو للعهد أو مضاف لما فيه أل نحو بئس منزل الأشرار النار، أو ضمير مبهم مفسر باسم نكرة منصوب على التمييز والمخصوص بالدم هو قوله: (طعام الوليمة) والوليمة طعام العرس، والذي عند الإملاك نقيعة كذا في «المصباح» . وفي النجم: الوليمة الطعام المتخذ للعرس، وقال الماوردي إصلاح الطعام واستدعاء الناس لأجله، ولفظها من الولم وهو الجمع لأن الزوجين يجتمعان، وهي تقع على كل دعوة تتخذ لسرور حادث من إملاك وختان وغيرهما لكن استعمالها على الإطلاق في العرس أشهر، وفي غيره بقيد، فيقال وليمة الختان وغيره اهـ. فظاهر أن ما في الحديث مما أريد بما فيه مطلق الطعام المتخذ لأيّ سرور كان وبين سبب الذم على سبيل الاستئناف البياني بقوله (يدعى) بالبناء للمفعول (إليها الأغنياء) نائب الفاعل والظرف قبله لغو متعلق بالفعل (ويترك الفقراء)

أي يمنعون. في «المصباح» يقال ترك حقه إذا أسقطه اهـ. فيؤخذ من التعبير به أن لهم الحق في ذلك وأن المانع لهم ساع في إسقاط حقهم. وفي الحديث أن القربة قد يقترن بها ما يخرجها عن ذلك، وفيه الاحتياط والتحرز عن الموبقات، وفيه مراعاة الفقراء والتلطف بهم، وفيه النهي عن الركون إلى الأغنياء وتعظيمهم لغناهم، فقد ورد «من عظم غنياً لغناه ذهب ثلثا دينه» وذلك لأن أعمال العبادة باللسان والجنان والأركان فهذا استعمل لغرض نفسه ثلثي ما يستعمل في العبادة فأثنى على ذلك بلسانه بالباطل وأكرمه بجوارحه طمعاً فيما عنده وغفله عن أبي الذي ينبغي أن يتوجه إليه العبد على كل حال هو الله الموصوف بأنواع الكمال، قالوا: فإن جمع إلى تعظيمه بلسانه وأركانه تعظيمه بجنانه ذهب جميع دينه والمراد التعظيم المنهى عنه، أما شكره لكونه مظهراً للفيض الرباني فلا منع منه بل هو مأمور به، قال: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس» وقال: «من صنع إليكم معروفاً فكافئوه فإن لم تستطيعوا فكافئوه بالدعاء» . 2678 - (وعن أنس) بن مالك (رضي الله عنه) ناقلاً (عن النبي قال: من عال جاريتين) أي قام عليهما بالمؤنة والتربية ونحوهما مأخوذ من العول وهو العون ومنه: «ابدأ بمن تعول» وفي «المصباح» : عال الرجل اليتيم عولاً من باب قال كفله وقام به (حتى تبلغا) بالفوقية أي تصيرا بالغتين. قال في «المصباح» : بلغ الصبي بلوغاً من باب قعد: احتلم وأدرك، وقال ابن القطاع: بلغ بلاغاً فهو بالغ والجارية بالغ أيضاً بغير تاء، قال ابن الأنباري يقال جارية بالغ فاستغنوا بذكر الموصوف وبتأنيثه عن تأنيث صفته كما يقال امرأة حامل، قال الأزهري: وكان الشافعي يقول جارية بالغ وسمعت العرب تقوله، وهذا التعليل والتمثيل يفهم أنه لو لم يذكر الموصوف وجب التأنيف دفعاً للبس اهـ. ثم بلوغها إما بالسن أو بالحيض أو بالاحتلام ويقدر بلوغها قبل الولادة بستة أشهر، قال القرطبي ويعني ببلوغهما وصولهما إلى حال يستقلان بأنفسهما وذلك إنما يكون في النساء إلى أن يدخل بهن أزواجهن فلا يعني به بلوغهما إلى أن تحيض وتكلف إذ قد تتزوج قبل ذلك فتستغني بالزوج عن قيام الكافل، وقد تحيض وهي غير مستقلة بشيء من مصالحها ولو تركت لضاعت وفسدت أحوالها، بل هي في هذه الحالة أحق بالصيانة والحفظ والقائم عليها لتكمل صيانتها فيرغب في تزويجها ولهذا المعنى قال علماؤنا لا تسقط النفقة عن والد الصبية ببلوغها بل بدخول الزوج بها اهـ. (جاء يوم القيامة) معي وبقربي (أنا وهو)

أي مقرونان فالخبر محذوف وجوباً لدلالة واو المعية عليه وقيامها مقامه، قال ابن مالك في «شرح المشارق» : أنا مبتدأ وهو معطوف عليه وخبره هكذا أي المصرح به في روايته والجملة حال بغير واو أي جاء مصاحباً لي، وقيل فيه تقديم وتأخير تقديره جاء هو وأنا لأن في جاء ضمير يعود إلى من فكلمة هو تأكيد له وأنا معطوف عليه، وقدم لشرفه ولكونه أصلاً في تلك الخصلة اهـ. وعلى الأول فالخبر مقدر وهو كهاتين وقد صرح في رواية من حديث أنس وهي عند البخاري وجاءت في حديثه بلفظ «من عال جاريتين حتى يدركا دخلت أنا وهو الجنة كهاتين» قال السيوطي في «الجامع الصغير» أخرجه مسلم والترمذي وبين ذلك المقدر قول الصحابي (وضم أصابعه) مبيناً لذلك القرب المشار إليه بالمقدر (رواه مسلم) في كتاب الأدب ثم فسر المصنف (الجاريتين) المذكورتين في الخبر بقوله (أي بنتين) ولا يظهر وجه قصر الجاريتين في الخبر على البنتين فإن الجارية في اللغة لا تختص بالبنت، قال في «المصباح» : الجارية السفينة، سميت بذلك لجريها في البحر، ومنه قيل للأمة جارية على التشبيه لجريها مسخرة في أشغال مواليها، والأصل فيها الشابة لخفتها، ثم توسعوا حتى سموا كل أمة جارية وإن كانت عجوزاً لا تقدر على السعي تسمية بما كانت عليه اهـ. وأصرح منه ما في «المعرب» للمطرزي الجريّ بوزن الوصي الوكيل لأنه يجري في أمور موكله والجمع أجرياء، ومنه الجارية لأنثى الغلام لخفتها وجريانهم بخلاف العجوز اهـ. فلا يختص الفضل المذكور في الخبر بالبنتين بل يعمهما وغيرهما. ففي «مسند الفردوس» للديلمي عن أبي المحبر قال: قال رسول الله: «من عال بنتين أو أختين أو خالتين أو جدتين أو عمتين فهو معي في الجنة كهاتين» الحديث أخرجه أحمد في «المسند» . 2689 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت) بتسكين التاء وهي الدلالة على تأنيث الفاعل وقوله (عليّ) بتشديد الياء متعلق به و (امرأة) فاعل وفي «المصباح» ، الأنثى امرأة، وفيها لغة أخرى مرأة بوزن تمرة، ويجوز نقل حركة الهمزة إلى الراء فتحذف وتبقى مرة بوزن سنة، وربما قيل أمرء بغير هاء اعتماداً على قرينة تدل عن المسمى. قال الكسائي:

سمعت امرأة من فصحاء العرب تقول: أنا امرء أريد الخير، بغير هاء وجمعها نساء ونسوة من غير لفظها اهـ. وهذه المرأة وبنتاها لم أقف على من عينهن من شرّاح الصحيحين ولا غيرهما. قال الشيخ زكريا لم تعرف أسماؤهن (ومعها ابنتان) جملة حالية وتعدد الرابط، وقوله (لها) في محل الصفة وجملة (تسأل) مستأنفة استئنافاً بيانياً كأن قائلاً يقول: ما سبب دخولها بمن معها؟ فقالت: تسأل (فلم تجد عندي شيئاً) من مطلوبها الذي تعرضت له بالسؤال (غير تمرة واحدة) أكدت مفهوم الواحدة الدال عليها التاء في تمرة دفعاً لتوهم أنها للتأنيث لا للواحدة و «وواحدة مما انفرد بها مسلم عن البخاري فلم يذكرها في الحديث في كتاب الزكاة (فأعطيتها) أي المرأة (إياها) أي التمرة. قال في «فتح الباري» : فيه مزيد حرص عائشة رضي الله عنها على الصدقة امتثالاً لوصية النبي لها بقوله: «لا يرجع من عندك سائل ولو بشق تمرة» رواه البزار (فقسمتها) بتخفيف السين: أي الثمرة (بين ابنتيها ولم تأكل منها) أي التمرة وفي نسخة «شيئاً» وهذا منها محتمل لكونه لداعي الثواب لكونه لذلك ولداعي الطبع أيضاً، فإن طبع الوالد إيثار الولد بذلك، فيؤخذ منه على الاحتمال الأخير حصول الثواب فيه، ويؤيده حديث سعد السابق في باب الإخلاص «وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله تعالى إلا أجرت بها حتى ما تجعل في امرأتك» (ثم قامت) أي منصرفة (فخرجت) ولعل حكمة الإتيان بثم في الأول وبالفاء في الثاني أنها كانت راجية حصول شيء غير التمرة فأطالت الجلوس لانتظاره، فلما غلب على ظنها عدم ذلك قامت فعقبت قيامها بخروجها (فدخل النبي علينا) أي أهل المنزل الشامل لها ولمن عندها من خادم وجليس، فالنون على حقيقتها ويحتمل أن يكون الضمير استعملته في نفسها على انفرادها تعظيماً لكونها من أمهات المؤمنين وزوجات سيد المرسلين لا لذاتها، وقالت بالنظر لذاتها متواضعة كما هو مقتضى عظيم شأنها ومزيد فضلها (فأخبرته) وحذفت المفعولين الأخيرين لدلالة السياق عليهما (فقال: من ابتلي) بضم الفوقية مبنى للمجهول أي امتحن واختبر، وسماه ابتلاء لموضع الكراهة لهن (من هذه البنات) من فيه بيان لقوله (بشيء) وهو نائب الفاعل: أي بأنفسهن أو أحوالهن. قال القرطبي: يفيد بعمومه أن الستر من النار يحصل بالإحسان إلى واحدة من البنات، فإذا عال زيادة على الواحدة فيحصل له زيادة على الستر السبق مع النبي إلى الجنة كما في الحديث السابق «من عال جاريتين» إلخ (فأحسن إليهن) هذه الجملة عند مسلم، وعند

البخاري في كتاب الأدب وليست عنده في كتاب الزكاة، وإحسانه إليهن: صونهن والقيام بمصالحهن والنظر في أصلح الأحوال لهن، فمن فعل ذلك قاصداً به وجه الله تعالى: (كنّ له ستراً) أي سبب ستر (من النار) ولم يقل أستاراً لأن المراد الجنس المتناول للقليل والكثير، ولا شك أن من لم يدخل النار دخل الجنة، وقد جاء في الحديث الآخر في المرأة التي قسمت التمرة بين بنتيها «قد أوجب الله لها الجنة وأعاذها من النار» والحديث عند مسلم (متفق عليه) رواه البخاري في الزكاة والأدب، ورواه مسلم في الأدب، ورواه الترمذي في البرّ والصلة وفي «الجامع الصغير» بعد ذكر المرفوع منه الرمز لمن ذكر وزاد أحمد. 26910 - (و) روي (عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءتني مسكينة) مأخوذ من السكون: أي ذهاب الحركة وهو بفتح الميم في لغة بني أسد وبكسرها عند غيرهم. قال ابن السكِّيت: المسكين الذي لا شيء له، والفقير الذي له بلغة من العيش، وكذا قال يونس وجعل الفقير أحسن حالاً من المسكين قال: وسألت أعرابياً أفقير أنت؟ قال: لا وا بل مسكين، وقال الأصمعي: المسكين أحسن حالاً من الفقير، وهو الوجه لأن الله تعالى قال: {أما السفينة فكانت لمساكين} (الكهف: 79) وكانت تساوي جملة. وقال في حق الفقراء: {لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف} (البقرة: 273) وقال ابن الأعرابي: المسكين هو الفقير وهو الذي لا شيء له فجعلهما سواء، والمسكين أيضاً الذليل وإن كان غنياً والمرأة مسكينة، والقياس حذف الهاء لأن بناء مفعيل ومفعال في المؤنث لا تلحقه هاء نحو امرأة معطير ومسكان لكنها حملت على فقيرة فدخلت الهاء كذا في «المصباح» (تحمل ابنتين لها) أي تسأل كما تقدم في الرواية قبلها وحذف لدلالة الحال عليه/ وكذا ظاهر قولها (فأطعمتها ثلاث تمرات) بفتح الفوقية والميم جمع تمرة بسكونها كسجدة وسجدات (فأعطت كل واحدة منهما تمرة ورفعت إلى فيها تمرة

لتأكلها) بحق القسمة (فاستطعمها) وفي نسخة فاستطعمتها وفي نسخة فاستطعمتها بإثبات التاء (ابنتاها) حذف المفعول الثاني لاستطعم: أي استطعمتها التمرة الثالثة أي طلبتا منها أن تطعمهما إياها (فشقت التمرة) أي شقين (التي كانت تريد أن تأكلها) وقولها (بينهما) متعلق بمحذوف أي وقسمتها (فأعجبني شأنها) لما فيه من الإيثار على النفس بحظوظها ورحمة الصغار ومزيد الإحسان والرفق بالبنات طلباً لوجه الله تعالى، وفي «مفردات الراغب» : الشأن الحال والأمر الذي يتفق ويصلح ولا يقال إلا فيما يعظم من الأحوال والأمور اهـ. (فذكرت التي صنعت) بتاء التأنيث أي الخصلة التي، وفي نسخة «الذي» أي الأمر الذي (لرسول الله) والإتيان بالفاء الدالة على التعقيب، إما لكونه كان بالمنزل إلا أنه لم ير ذلك أو لدخوله عقب صدور ذلك منها كما جاء كذلك فيما قبله (فقال: إن الله قد أوجب لها) أي للمرأة (بها) أي بهذه الفعلة (الجنة) بفضله لما عندها من الرحمة والشفقة وذلك سبب لحلول الرحمة قال: «الراحمون يرحمهم الرحمن يوم القيامة» (أو) شك من الراوي، ويحتمل كونها بمعنى الواو (أعتقها بها من النار) لإعتاقها نفسها من الركون إلى الدنيا والغفلة عن جانب الله بالإيثار للصغار ورحمة لهم (رواه مسلم) في الأدب من صحيحه. 27011 - (وعن أبي شريح) بضم الشين المعجمة وفتح الراء وسكون التحتية بعدها حاء مهملة (خويلد) بضم المعجمة وفتح الواو وسكون التحتية آخره دال مهملة (ابن عمرو) بن صخر بن عبد العزى بن معاوية بن المحترس بن عمرو بن مازن بن عمرو بن ربيعة (الخزاعي) نسبة إلى خزاعة قبيلة، وما ذكره من أن اسمه (رضي الله عنه) خويلد هو قول الأكثر وقيل اسمه كعب بن عمرو، وقيل عبد الرحمن بن عمرو، وقيل عمرو بن خويلد، وقيل هانىء نزل المدينة وأسلم قبل الفتح، وتوفى بالمدينة سنة ثمان وستين كما قاله ابن سعد، وأخرج ابن الأثير في الكنى من «أسد الغابة» عن المقدام بن شريح بن هانىء

عن أبيه قال: قدم هانىء على رسول الله في وفد بني الحارث بن كعب وكان يكنى أبا الحكم فقال: كانوا إذا كان بينهم شيء حكموني فرضوا لحكمي فكنوني أبا الحكم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيّ ولدك أكبر؟ فقلت: شريح؟ فقال: أنت أبو شريح. قيل إن النبي دعا له ولولده وهو والد شريح بن هانىء صاحب علي بن أبي طالب يعد في أهل الكوفة، وما ذكر من أنه خزاعي هو أحد ما قيل فيه. قيل كعبيّ، وقيل عدوي قال المصنف في «التهذيب» : كان يوم فتح مكة حاملاً أحد ألوية بني كعب، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرون حديثاً، اتفقا على حديثين منها، وانفرد البخاري بحديث واحد اهـ. (قال قال رسول الله: اللهم) أصله كما تقدم يا أعلى الصحيح وهو قول البصريين، فحذف حرف النداء وعوض عنه الميم المشددة في الآخر، ولذا لا يجمع بينهما إلا ضرورة نحو: أقول يا اللهم يا اللهما (إني أحرّج) بتشديد الراء تفعيل من الحرج: وهو الإثم والصيغة للمبالغة (حق الضعيفين) أي ما يستحقانه بملك أو غيره كاختصاص ولذا عبر به دون مال وليشمل سائر الحقوق المالية وغيرها (اليتيم) هو من بني آدم من لا أب له وهو دون البلوغ كما مرّ قريباً (والمرأة) بوزن التمرة، وتقدم أنها لغة، وإنما حرّج حقهما وبالغ في المنع منه لأنهما لا جاه لهما يلتجئان إليه ويحاجّ عنهما سوى المولى سبحانه وتعالى/ فالمتعرض لهما كالمخفر في عهده فهو حقيق بأنواع الوبال، وهذا بخلاف الكامل من الرجال فإن الغالب منهم من يعتمد على قوته أو قوة من يركن إليه ويعول في أمره عليه من مخلوق ذي أمر صورى، ومن اعتزّ بغير الله ذلّ (حديث حسن) هو مشارك للصحيح في اعتبار اتصال السند وعدالة الرواة وضبطهم وانتفاء الشذوذ والعلة القادحة كما تقدم أواخر شرح خطبة الكتاب، إلا أن المعتبر من هذه الأوصاف في الصحيح أعلاها، وفي الحسن مسماها، وهذا من المصنف بناء على ما مشى عليه هو والمتأخرون من إمكان التصحيح والتضعيف والتحسين من الأئمة المتأخرين وخالف فيه ابن الصلاح (رواه النسائي بإسناد جيد) أراد من الإسناد الرواة وتارة يسمون ذلك بالسند ويطلقون الإسناد على رفع الحديث لقائله فلذا قال السيوطي: والسند الإخبار عن طريق متن والإسناد لذي فريق. قال السيوطي في شرح ألفيته في علم الأثر نقلاً عن الحافظ ابن حجر. قال بعد نقله الكلام عن ابن الصلاح: هذا يدل على أن ابن الصلاح يرى التسوية بين الجيد والصحيح. وكذا قال البلقيني في محاسن الاصطلاح بعد أن نقل ذلك ومن ذلك يعلم أن الجودة يعبر بها عن الصحة، وكذا قال غيره لا مغايرة بين جيد وصحيح عندهم إلا أن الجيد منهم لا يعدل

عن صحيح إلى جيد إلا لنكتة، كأن يرتقي الحديث عنده عن الحسن لذاته ويتردد في بلوغه الصحيح. فالوصف به أنزل من الوصف بصحيح اهـ. (ومعنى أحرج ألحق الحرج وهو الإثم بمن ضيع حقهما) فالتفعيل فيه للنسبة نحو فسقت زيداً: أي نسبته إليه وقوله ضيع حقهما يقتضي أنه لو ضاع بسكونه وكان لا مانع به من الكلام شرعاً دخل في الحرج وقوله: (وأحذر من ذلك تحذيراً بليغاً وأزجر عنه زجراً أكيداً) ليس مدلول قوله أحرّج وإنما أخذه المصنف من دلالة السياق عليه وأكيد بمعنى متأكد. 27112 - (وعن مصعب) بضم أوله وسكون الصاد المهملة وفتح المهملة بعدها موحدة (ابن سعد ابن أبي وقاص) بتشديد القاف وآخره صاد مهملة: وهو مالك بن وهيب ويقال أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن كعب بن لؤي القرشي الزهري التابعي المدني سمع أباه وعلي بن أبي طالب وابن عمر، روى عنه مجاهد وأبو إسحاق السبيعي وآخرون واتفقوا على توثيقه. قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، توفي سنة مائة وثلاث (قال: رأى) أي ظن وهي رواية النسائي كما في «فتح الباري» (سعد) يعني أباه (أن له فضلاً على من دونه) زاد النسائي من أصحاب رسول الله: أي بسبب شجاعته أو نحو ذلك (فقال: النبي: هل تنصرون وترزقون) ببنائهما للمفعول (إلا بضعفائكم؟) جمع ضعيف ويجمع على ضعاف أيضاً، وفي رواية النسائي «إنما نصر هذه الأمة بضعفتهم بدعواتهم وصلاتهم وإخلاصهم» وله شاهد من حديث أبي الدرداء عند أحمد والنسائي بلفظ: «إنما تنصرون وترزقون بضعفاكم» قال ابن بطال: تأويل الحديث أن الضعفاء أشد إخلاصاً في الدعاء وأكثر خشوعاً في العبادة لخلاء قلوبهم عن التعلق بزخرف الدنيا. وقال المهلب: أراد بذلك حض سعد على التواضع ونفي الزهو على غيره وترك احتقار المسلم في كل حالة. وقد روى عبد الرزاق من طريق مكحول في قصة سعد هذه زيادة مع إرسالها فقال: «قال سعد: يا رسول الله أرأيت رجلاً يكون حامية القوم ويدفع عن أصحابه أيكون نصيبه كنصيب غيره؟ فذكر الحديث، وعلى هذا فالمراد

بالفضل الزيادة من الغنيمة، فأعلمه أن سهام المقاتلة سواء، فإن كان القويّ يترجح بفضل شجاعته فإن الضعيف يترجح بفضل دعائه وإخلاصه (رواه البخاري) في كتاب الجهاد (هكذا) من طريق محمد بن طلحة بن مصرف عن أبيه عن مصعب (مرسلاً) لعدم إدراك مصعب لزمن القصة كما قال (فإن مصعب بن سعد تابعي) فحذف منه الصحابي (ورواه الحافظ أبو بكر) أحمد بن محمد بن أحمد بن غالب (البرقاني) بفتح الموحدة والقاف بينهما راء ساكنة وبعد الألف نون نسبة إلى برقان: قرية بنواحي خوارزم كذا في «اللباب» للسيوطي، زاد الأصبهاني: وفي «لب اللباب» له البرقاني نسبة إلى قرية من قرى كانت بنواحي خوارزم خربت، والمشهور منها الإمام أبو بكر أحمد بن محمد البرقاني الخوارزمي الفقيه المحدث الأديب الصالح (في صحيحه متصلاً عن مصعب عن أبيه) وكذا هو عند النسائي من طريق مسعر عن طلحة بن مصرف عن مصعب بن سعد عن أبيه أنه ظن أن له فضلاً الحديث. قال الحافظ ابن حجر في «النكت الظراف على الأطراف» بعد أن بين اختلاف الرواة في ذكر لفظة «عن أبيه» وحذفها في طريق محمد بن طلحة أيضاً ما لفظه: قال الدارقطني: المحفوظ عن محمد بن طلحة مرسل كما عند البخاري، قال: ولم يسمع محمد بن طلحة من أبيه، والصواب رواية مسعر، يعني التي أخرجها النسائي، قال: وتابعه زبيد وليث على وصله اهـ. 27213 - (وعن أبي الدرداء) بفتح الدالين المهملتين وسكون الراء بينهما وبالمد كنيته (عويمر) بالمهملة تصغير عامر، وقيل إن اسمه مكبراً، ابن قيس بن زيد بن أمية بن مالك بن عامر بن عدي بن كعب بن الخزرج بن الحارث الأنصاري (رضي الله عنه) قال ابن قدامة في كتاب «أنساب الأنصار» : وقيل في نسبه غير هذا، تأخر إسلامه قليلاً، شهد ما بعد أحد من المشاهد، واختلف في شهوده أحداً، وكان فقيهاً عاقلاً حكيماً عالماً آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سلمة كما تقدم في باب الاقتصاد من حديث أبي جحيفة بذلك عند البخاري. روى عن النبي أنه قال: «عويمر حكيم أمتي» وعن أبي ذر قال: «ما حملت» ورقاء ولا أظلت خضراء أعلم منك يا أبا الدرداء» وعن خالد بن معدان قال: كان ابن المبارك يقول: حدثونا عن العالمين العاملين: معاذ، وأبي الدرداء. وله حكم مشهورة

34 ـــ باب الوصية بالنساء

توفي في خلافة عثمان سنة نيف وثلاثين، وقبره في مقبرة الشهداء يزار. قال المصنف روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث وتسعة وسبعون حديثاً اتفقا على حديثين منها وانفرد البخاري بثلاثة ومسلم بثمانية اهـ. وقال المصنف في «التهذيب» روى عنه جماعة الصحابة منهم ابن عمر وابن عباس وخلائق من التابعين اهـ. (قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ابغوني) بكسر همزة الوصل لأنه من فعل ثلاثي مكسور العين: أي اطلبوا لي (الضعفاء) يعني صعاليك المسلمين أستعين بهم فإذا قلت: أبغني بهمزة القطع فمعناه أعني على الطلب. وقال الحافظ: ابغني بالوصل من الثلاثي أي اطلب لي، يقال بغيتك الشيء: طلبته لك، وبالقطع: أي أعني والأول المراد بالحديث اهـ. والحاصل أنه إن كان من الثلاثي فهمزته للوصل مكسورة والمراد به مطلق الطلب، وإن كان من الرباعي فهمزته للقطع والمراد به طلب الإعانة: أي أعينوني على طلب الضعفاء. قال السيوطي: هو بإسقاط حرف الجرّ عند أبي داود والنسائي، وعند أحمد والطبراني «ابغوني ضعفاءكم» وعن الترمذي «ابغوني في ضعفائكم» قال صاحب «الفتح الكبير» لمعلق «الجامع الصغير» : وطلبهم ليكتبهم في ديوان المجاهدين ويستعين بهم. ولحضورهم فوائد أشار إليها بقوله: (فإنما ترزقون) بالبناء للمفعول وحذف المفعول الثاني المتعدى إليه لتضمنه معنى إعطاء للتعميم: أي ترزقون المطر والفيء وغيرهما مما تنتفعون به (وتنصرون) على أعدائكم (بضعفائكم) أي ببركة وجود صعاليك المسلمين فيكم ودعائهم لكم (رواه أبو داود) في كتاب الجهاد (بإسناد جيد) أي مقبول كما تقدم قريباً/ رواه الترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم في «المستدرك» وفي أحاديث الباب والانقطاع إلى الله سبحانه وإعانة الفقراء وإغاثة المنقطعين وعدم رؤية النفس وفضلها على أحد من العاملين والحذر من التعرض لإيذاء أحد من الضعفاء والمساكين الذين لا جار لهم ولا كهف سوى ربّ العالمين.d 34 - باب الوصية بالنساء بكسر النون وبالمد، جمع لامرأة من غير لفظها، وتجمع على نسوة بكسر النون

كما تقدم عن «المصباح» ، والمراد الوصية بالرفق بهن والإحسان إليهن لضعفهن واحتياجهن لمن يقوم بأمرهن. (قال الله تعالى) شأنه عما لا يليق به ( {وعاشروهن بالمعروف} ) أمر يعم الأزواج والأولياء ولكن المتلبس في الأغلب بهذا الأمر الأزواج والمعاشرة المخالطة والممازجة. قال السلمي: «وعاشروهن بالمعروف» قيل علموهن الفرائض والسنن. وقال أبو جعفر: المعاشرة بالمعروف حسن الخلق مع العيال. (وقال تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا} ) العدل التام على الإطلاق: المستوى في الأقوال والأفعال والمحبة والجماع وغير ذلك ( {بين النساء ولو حرصتم} ) «كان يقسم بين نسائه ثم يقول: اللهم هذا فعلي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك» فأخبر عزّ وجلّ عن حال البشر أنهم بحكم الخلقة لا يملكون ميل قلوبهم إلى بعض الأزواج دون بعض ( {فلا تميلوا كل الميل} ) بأن يفعل فعلاً يقصد به التفضيل، وهو يقدر أن لا يفعله فهذا هو كل الميل وإن كان في أمر حقير (فتذورها) أي الزوجة التي ميل عليها كل الميل ( {كالمعلقة} ) لا هي أيم ولا هي ذات زوج (وإن تصلحوا) ما أفسدتم بالميل التام (وتتقوا) بالعدل في القسم وترك خلافه ( {فإن الله كان} ) فيما مضى وبالاستمرار ( {غفوراً} ) لما عدا الشرك من المعاصي إن شاء ذلك ( {رحيماً} ) مفيضاً للنعم على عباده، ومناسبة هذين الاسمين لما قبلهما أن الميل السابق إثم ودواءه الغفران، وأن الداعي إلى عدم التقوى من المساواة بالمواساة بين الأزواج ما يعد لهم الشيطان من الفقر فدواؤه استحضار ما للمولى سبحانه وتعالى من النعم الحسان. 2731 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: استوصوا بالنساء خيراً) أي تواصوا بهن والباء للتعدية، والاستفعال بمعنى الإفعال كالاستجابة بمعنى الإجابة. وقال الطيبي: السين للطلب وهو للمبالغة: أي اطلبوا الوصية من أنفسكم في حقهن، أو اطلبوا الوصية من غيركم بهن، وقيل معناه: اقبلوا وصيتي فيهن واعملوا بها وارفقوا بهن وأحسنوا عشرتهن. قال العلقمي: وهذا الوجه أوجه في نظري وليس مخالفاً لما قال الطيبي.

قلت: لأن المعنى اطلبوا وصيتي واقبلوها واعملوا بها (فإن المرأة خلقت) بالبناء للمفعول: أي أخرجت (من ضلع) بكسر المعجمة وفتح اللام، ويجوز تسكينها وهي مؤنثة كما في «القاموس» و «المصباح» ، قال في «الفتح» : فيه إشارة إلى أن حواء خلقت من ضلع آدم الأيسر، وقيل من ضلعه القصير، أخرجه ابن إسحاق في المبتدأ عن ابن عباس وكذا أخرجه ابن أبي حاتم وغيره من حديث مجاهد، وأغرب النووي فعزاه للفقهاء أو لبعضهم اهـ. وهذا لا يختلف الحديث الذي فيه تشبيه المرأة بالضلع، بل يستفاد من هذا نكتة التشبيه وأنها عوجاء مثله لكون أصلها منه. وقال القرطبي: يحتمل أن يكون معناه: أن المرأة خلقت من مبلغ ضلع فهي كالضلع (وإن أعوج ما) أي شيء كما في رواية أخرى (في الضلع أعلاه) قيل فيه إشارة إلى أن أعوج ما في المرأة لسانها، وفائدة هذه المقدمة أن المرأة خلقت من ضلع أعوج فلا ينكر اعوجاجها، أو أنها لا تقبل التقويم كما أن الضلع لا يقبله، ولذا قال (فإن ذهبت تقيمه) أي أعلاه عن الاعوجاج الذي هو شأنه (كسرته) لعدم قابليته له (وإن تركته) غير آخذ في إقامته (لم يزل أعوج) لأنه وضعه وشأنه، وكذا المرأة إن أردت إقامتها على الجادة، وعدم اعوجاجها أدى إلى الشقاق والفراق، وهو كسرها وإن صبرت على سوء حالها وضعف معقولها ونحو ذلك من عوجها دام الأمر واستمرت العشرة، والفاء في قوله: (فاستوصوا بالنساء) الفاء الفصيحة: أي فاعرفوا ذلك فاستوصوا بهن (خيراً) بالصبر على ما يقع منهن، فيه رمز إلى التقويم برفق بحيث لا يبالغ فيه فيكسر ولا يتركه فيستمر على عوجه وما قررت من أن الفاء الفصيحة هي العاطفة على مقدر هو ما في النهر لأبي حيان وردّ ما في «الكشاف» ، وتبعه البيضاوي من أنها الواقعة جواباً لشرط مقدر حذف هو وفعله بأن النحاة أجمعوا على عدم جواز حذف الأداة والفعل في مثل ذلك (متفق عليه) رواه البخاري في بدء الخلق وفي النكاح، ورواه مسلم في النكاح، ورواه النسائي في عشرة النساء وابن أبي شيبة، وزاد «من كان يؤمن با واليوم الآخر فإذا شهد أمراً فليتكلم بخير أو ليسكت» . (وفي رواية في الصحيحين) في هذا الحديث عن أبي هريرة لكن اقتصر المزيّ على عزوه بهذا اللفظ إلى مسلم في النكاح. قال: ورواه الترمذي فيه وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه (المرأة) اللام فيها للحقيقة (كالضلع) في الاعوجاج وعدم قابلية الإقامة (إن أقمتها) أي الضلع وهي مؤنثة، ويحتمل

أن يكون ضمير المؤنث هنا للمرأة، ويؤيده قوله بعد (وإن استمتعت بها كسرتها) لعدم قابليتها للإقامة ويحتمل أن المراد بكسرها طلاقها، وقد وقع ذلك صريحاً كما سيأتي، وكسرها طلاقها (وإن استمتعت بها) لقضاء الوطر وطلب الولد الصالح والإعفاف (استمتعت بها) وجملة (وفيها عوج) جملة إسمية حالية. (وفي رواية لمسلم) في النكاح (إن المرأة) الإتيان بالمؤكد لاقتضاء المقام له، وكأنه لكثرة الشكاية من الأزواج من عدم استقامتهن، وذلك يقتضي منهم أنهم توهموا إمكان استقامتهن أو ترددوا فيه، فأتى دفعاً لذلك بذلك (خلقت من ضلع لن تستقيم لك) أي تدوم (على طريقة) ترضاها، والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً كأن سائلاً يقول: ماذا ينشأ من كونها خلقت من ذلك؟ فقال: لن تستقيم (فإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج، وإن ذهبت تقيمها) إقامة تامة مرضية لك (كسرتها) لأنه خلاف شأنها، وليس في وسعها واستعدادها (وكسرها) المدلول عليه بقوله كسرتها (طلاقها. قوله) في الحديث (هو عوج بفتح العين) المهملة (والواو) قال الفيومي في «المصباح» : العوج بفتحتين في الأجساد: خلاف الاعتدال، وهو مصدر من باب تعب، يقال عوج العود ونحوه فهو أعوج والأنثى عوجاء من باب أحمر، والعوج بكسر العين في المعاني، يقال: في الأمر عوج وفي الدين عوج. قال أبو زيد في الفرق بكل ما رأيته بعينك فهو مفتوح، وما لم تره فهو مكسور. وقال بعض العرب: يقول في الطريق عوج بالكسر اهـ. وفي «التهذيب» للمصنف اختلف في ضبط عوج في هذا الحيث، فضبطه كثيرون بفتح العين، وضبطه الحافظ أبو القاسم وآخرون من المحققين بالكسر وهو الصواب الجاري على ما ذكره أهل اللغة اهـ. ومنه يعلم أنه تبع في ضبطه هنا الكثيرين والصواب خلافه، إلا أن يدعي أن تلك الأخلاق منهن لما تكررت صارت كالمحسوس فاستعمل فيها ما يستعمل فيه، فيكون صحيحاً أيضاً إلا أنه تكلف. 2742 - (وعن عبد الله بن زمعة) بفتح الزاي وإسكان الميم، ابن الأسود بن

المطلب بن أسد بن عبد العزي بن قصيّ القرشي الأسدي (رضي الله عنه) أمه قرينة بنت أمية بن المغيرة أخته أم سلمة أم المؤمنين، كان من أشراف قريش، وكان يأذن على النبي روى عنه أبو بكر بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير، وقتل زمعة يوم بدر كافراً، وكان الأسود من المستهزئين الذين قال تعالى في حقهم: {إنا كفيناك المستهزئين} (الحجر: 95) وقتل عبد الله مع عثمان يوم الدار، قاله أبو أحمد العسكري عن أبي حسان الزيادي، وكان لعبد الله ابن اسمه يزيد قُتل يوم الحرة صبراً، قتله مسلم بن عقبة المري اهـ. ملخصاً من «أسد الغابة» . قال ابن حزم في آخر كتابه «مختصر التاريخ» : روي له عن النبي حديث واحد. قلت: وذكر المزي في الأطراف له حديثين أحدهما حديث الباب والثاني عند أبي داود (أنه سمع النبي يخطب وذكر الناقة) التي كانت معجزة لسيدنا صالح على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، والواو عاطفة على محذوف تقديره خطب فذكر كذا وذكر الناقة (والذي عقرها) وهو قذار بضم القاف وبالذال المعجمة آخره راء، ابن سالف أحيمر ثمود (فقال) مبيناً لوصفه (إذا انبعث أشقاها) أشقى قبيلة ثمود، وهو أشقى الأولين (انبعث لها) أي للناقة (رجل عزيز) بالمهملة وزاءين معجمتين بوزن رحيم: أي قليل المثل (عارم) بالمهملتين كما سيأتي في تفسيره (منيع) أي قوي ذو متعة (في رهطه) يمنعونه من الضيم، زاد البخاري في رواية «مثل أبي زمعة» وفي أخرى «مثل أبي زمعة عم الزبير بن العوام» وهو عمه مجازاً لأنه ابن عم أبيه فكأنه أخر أبيه فأطلق عليه عم بهذا الاعتبار قال القرطبي في «المفهم» : يحتمل أن المراد بأبي زمعة الصحابي الذي بايع تحت الشجرة، يعني وهو عبيد البلوى، قال: ووجه تشبيهه به أنه كان في عز ومنعة في قومه كما كان ذلك الكافر، قال: ويحتمل أن يريد غيره من الكفار ممن يكنى بأبي زمعة. قال الحافظ في «الفتح» : وهذا الثاني هو المعتمد والغير المذكور هو الأسود، وهو جد عبد الله بن زمعة راوي الخبر لقوله في نفس الخبر عم الزبير، وليس بين البلوى والزبير نسب اهـ. (ثم ذكر) يعني النبي في خطبته تلك (النساء) استطراداً (فوعظ فيهن) فاستطرد إلى ما يقع من

أزواجهن (فقال يعمد) بكسر الميم (أحدكم فيجلد امرأته جلد العبد) بالنصب أي مثل ضربه في كونه مبرّحاً مؤذياً. وعند مسلم في رواية «ضرب الأمة» وللنسائي «كما يضرب العبد أو الأمة» . وفي البخاري في الأدب من رواية ابن عيينة «ضرب الفحل» والمراد منه البعير. وفي حديث لقيط بن صبرة عند أبي داود «ولا تضرب ظعينتك ضربك» ، أمتك «فلعله يضاجعها» . وفي رواية البخاري في النكاح «يجامعها» (من آخر يومه) وعند النسائي «من آخر النهار» ورواية ابن نمير والأكثر «آخر يومه» ورواية وكيع «آخر الليل أو من آخر الليل» وكلها متقاربة وفي الحديث جواز تأديب الرقيق بالضرب الشديد، والإيماء إلى جواز ضرب النساء دون ذلك، وفي سياق الحديث استبعاد وقوع الأمرين من العاقل أن يبالغ في ضرب امرأته ثم يجامعها من بقية يومه أو ليلته، والمجامعة أو المضاجعة إنما تستحسن مع الميل والرغبة في العشرة والمجلود غالباً ينفر ممن جلده، فوقعت الإشارة إلى ذم ذلك، وأنه إذا كان ولا بد فليكن التأديب بالضرب اليسير بحيث لا يحصل معه النفور التام فلا يفرط في الضرب ولا يفرط في التأديب (ثم وعظهم) استطراداً: أي حذرهم (في ضحكهم من الضرطة) وذلك لأنه خلاف المروءة، ولما فيه من هتك الحرمة (وقال) في تقبيح ذلك (لم) بكسر اللام (يضحك أحدكم مما يفعل) وذلك لأن الضحك إنما يكون من الأمر العجيب والشأن الغريب يبدو أثره على البشرة فيكون التبسم، فإن قوي وحصل معه الصوت كان الضحك، فإن ارتقى على ذلك كانت القهقهة، وإذا كان هذا الأمر معتاداً من كل إنسان فما وجه الضحك من وقوع ذلك ممن وقع منه (متفق عليه) رواه البخاري في التفسير بجملته، وروى قصة النساء فقط في النكاح أيضاً، وقصة النكاح والضرطة في الأدب أيضاً، ورواه بجملته مسلم في باب صفة النار، ورواه الترمذي في «التفسير» وقال: حسن صحيح، ورواه النسائي في «التفسير» وفي عشرة النساء بالقصة الثالثة، كذا قاله المزي في «الأطراف» . قال الحافظ التقي ابن فهد: بل الثانية وابن ماجه في النكاح (والعارم بالعين المهملة والراء) لم يحتج لتقييد الراء بالمهملة لأن تلك زاي بالياء في اللغة المشهورة فلا تلتبس بالراء (هو الشرير) بكسر المعجمة وتشديد الراء الأولى (المفسد) . وفي «النهاية» ، أي خبيث شرير وقد عرم بالضم والفتح والكسر، والعرام: القوة والشدة والشراسة. وفي «الصحاح» : وصبيّ عارم بين العرام: أي شرس. وقد عرم يعرم ويعرم أي بضم عين المضارع

وكسرها عرامة بالفتح، (وقوله) في الحديث (انبعث) انفعل من البعث (أي قام بسرعة) وجعله في «الصحاح» مطاوع بعثه وابتعته وذلك يؤذن بالسرعة. 2753 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: لا يفرك) أتى ضبطه ومعناه (مؤمن مؤمنة) نكرهما للتعميم: أي لا تبغض المؤمنة على كل حالها به شأن المؤمن معها (إن كره فيها خلقاً) بضم الخاء المعجمة كسوء الخلق مثلاً (رضي منها) خلقاً (آخر) كالعفاف (أو) شك من الراوي (قال) يعني النبي (غيره) بدل قوله آخر. قال المصنف: قال القاضي عياض: ليس هذا على النهي بل هو خبر: أي لا يقع منه بغض تام لها، قال: وبغض الرجال للنساء بخلاف بغضهن لهم، قال: ولهذا قال: إن كره منها خلقاً رضي منها آخر اهـ. وهو ضعيف أو غلط، بل الصواب أنه نهي: أي ينبغي أن لا يبغضها لأنه إن وجد فيها خلقاً يكره وجد فيها خلقاً مرضياً، وهذا الذي ذكرته من أنه نهي يتعين بوجهين: أحدهما أن المعروف في الروايات لا يفرك بإسكان الكاف لا برفعها وهذا يتعين فيه النهي، ولو روي مرفوعاً لكان نهياً لفظ الخبر. الثاني: أنه قد وقع خلافه فبغض الناس يبغض زوجته بغضاً شديداً ولو كان خبراً لم يقع خلافه وهذا وقع خلافه، وما أدري ما حمل القاضي على هذا التعبير اهـ. (رواه مسلم) في كتاب النكاح (قوله: يفرك هو بفتح الياء) التحتية (وإسكان الفاء) هذا مستغنى عنه أتى به زيادة في الإيضاح (وفتح الراء) فهو من باب فرح يفرح (ومعناه يبغض) بضم

التحتية وكسر المعجمة مضارع من الإبغاض (يقال: فركت المرأة زوجها وفركها زوجها بكسر الراء) في الماضي (يفركها بفتحها) في المضارع (أي أبغضها) قال في «المصباح» : أبغضت الشيء إبغاضاً فهو مبغض والاسم البغض، ولا يقال بغضه بغير ألف، والمراد من الحديث أن شأن المؤمن أن لا يبغض المؤمنة بغضاً كلياً يحمله على فراقها: أي ينبغي له أن يغفر سيئتها لحسنتها ويتغاضى عما يكره بما يحبّ. قال القرطبي: وأصل الفرك إنما يقال في النساء يقال فركت المرأة زوجها وأبغض الرجل امرأته، وقد استعمل الفرك في الرجل قليلاً وتجوّزاً، منه ما في هذا الحديث اهـ. (والله أعلم) . 2764 - (وعن عمرو بن الأحوص) بفتح الهمزة وسكون الحاء المهملة وبعد الواو مهملة ثانية ابن جعفر بن كلاب (الجشمي) الكلابي قاله أبو عمرو، وأما ابن منده وأبو نعيم فلم ينسباه إنما قالا: عمرو بن الأحوص الجشمي. قال ابن الأثير: قول أبي عمرو إنه جشمي كلابي لا أعرفه فإنه ليس في نسبته إلى كلاب جشم ولا فيما بعد كلاب وإنما الأحوص بن جعفر بن كلاب نسب معروف ولعله له حلف في جشم فنسب إليه اهـ. (رضي الله عنه) . قال ابن حزم: روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثان (أنه سمع النبي في حجة الوداع) بفتح الواو لأن النبي ودّع الناس ولم يحج بعدها، ويقال بكسرها وتقدم فيها مزيد في باب النية في حديث سعد بن أبي وقاص (يقول بعد أن حمد الله تعالى) بالأوصاف الجميلة (وأثنى عليه) بتنزيهه عما لا يليق به (وذكر) بتخفيف الكاف: أي أتى بذكر الله تعالى من التكبير والتهليل، أو بتشديدها من التذكير با والتخويف من عقابه، ويؤيد هذا قوله (ووعظ ثم) أي بعد أن أطال في ذلك لاستدعاء المقام له (قال) مستطرداً للوصية بالنساء (ألا) بتخفيف اللام: أداة استفتاح يؤتى بها أول الكلام إذا كان المقام يهتم به (واستوصوا بالنساء خيراً) المعطوف عليه محذوف اختصاراً مدلول عليه بما قبله (فإنما هن عوان) جمع واحدة عانية وإعرابه مقدر لثقل الضمة على الياء المحذوفة

لالتقاء الساكنين. قال في «النهاية» : أي أسراء أو كالأسراء، وأشار به إلى أنه محتمل لكونه من باب التشبيه البليغ أو أنه على ظاهره من غير تقدير لشيء (عندكم ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك) المشار إليه محذوف مدلول عليه بباقي الكلام وهو الاستمتاع وحفظ الزوج في نفسها وماله (إلا أن يأتين بفاحشة) كبيرة كنشوز وسوء عشرة (مبينة) بكسر الياء اسم فاعل، لأنها تبين عدم انقيادها المفروض عليها، أو بفتحها اسم مفعول: أي إن سوء حالها يدل على تلك الفاحشة ويبينها (فإن فعلن) ذلك أي النشوز بأن ظهرت مقدماته منها فعظوهن، فإن لم ينزجرن به (فاهجروهنّ في المضاجع) في المراقد فلا تدخلوهن تحت اللحف (واضربوهنّ ضرباً غير مبرح) بكسر الراء المشددة، ولا شائن بأن لا يجرحها ولا يكسر لها عظماً ويجتنب الوجه والمهالك فيضربن مع الهجران عند تحقق النشوز والعصيان وهو ضرب تأديب وتعزير. قال الروياني في «البحر» : ويضربها بمنديل ملفوف أو بيده لا بسوط ولا عصى، وإباحة الضرب في هذه الحالة ولاية من الشرع للزوج لأخذ حقه. قال العز بن عبد السلام: ليس لنا موضع يضرب المستحق من منع حقه غير هذا، والعبد إذا منع حق سيده، لأن الحاجة ماسة إلى ذلك فيهما لتعذر إثبات ذلك بسبب عدم الاطلاع وإنما يجوز ضربها إن علم أو ظن أنه يصلحها فإن علم عدم إفادته لم يجز (فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً) بالتوبيخ والإيذاء؛ فالمعنى: فأزيلوا عنهن التعرض واجعلوا ما كان فيهن كأن لم يكن، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له. وهذه الجملة مقتبسة من معنى قوله تعالى: {واللاتي تخافون نشوزهن} (النساء: 34) إلى قوله: {سبيلاً} (ألا) أداة استفتاح أتى بها للتنبيه على ما بعدها لأنه حكم آخر (إن لكم على نسائكم حقاً) أمراً واجباً (ولنسائكم عليكم حقاً) هذا من عطف معمولين على معمولي عامل واحد، وهو جائز اتفاقاً (فحقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم من تكرهون) قال المازري: قيل المراد بذلك أن لا يستخلين بالرجال. قال القاضي عياض: كانت عادة العرب حديث الرجال مع النساء، ولم يكن ذلك

عيباً ولا ريبة عندهم، فلما نزلت آية الحجاب نهوا عن ذلك اهـ. قال المصنف: والمختار أن معناه لا يأذنّ لأحد تكرهونه في دخول بيوتكم والجلوس في منازلكم سواء كان المأذون له رجلاً أجنبياً أو امرأة أو أحد محارم الزوجة، فالنهي يتناول جميع ذلك. قلت: ولذا عقب بقوله: (ولا يأذنّ في بيوتكم لمن تكرهون) أي تكرهون دخوله لمنزلكم من أنثى وذكر وهذا حكم المسألة عند الفقهاء أنه لا يحلّ لها أن تأذن لرجل ولا امرأة لا محرم ولا غيره في دخول منزل الزوج إلا من علمت أو ظنت أن الزوج لا يكرهه، لأن الأصل تحريم دخول منزل الإنسان حتى يوجد الإذن منه في ذلك أو ممن أذن له في الإذن في ذلك أو عرف رضاه به باطراد العرف بذلك ونحوه، ومتى حصل الشك في الرضا ولم يترجح شيء ولا وجدت قرينة لا يحلّ الدخول ولا الإذن، والله أعلم اهـ. (ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن) بإعطائهن ذلك بحسب اللائق بأحوالكم يساراً وإعساراً. وفي الحديث وجوب نفقة الزوجة وكسوتها عند عدم نحو النشوز وهو واجب إجماعاً (رواه الترمذي) في النكاح من جامعه (وقال: حديث حسن صحيح) وتقدم أن الجمع بين الوصفين المذكورين إن كان في متعدد السند فهو على تقدير واو العطف والتقدير حسن وصحيح: أي حسن باعتبار أحد الإسنادين، وصحيح باعتبار الآخر، وإلا فهو عى تقدير أو التي للترديد: أي أنه حسن أو صحيح: أي إن المحدثين اختلفوا في رجال سنده هل بلغوا درجة الصحة أو هم قاصرون على درجة الحسن، ورواه النسائي وابن ماجه (قوله: عوان) التنوين فيه للعوض عن الياء إن اعتبر الإعلال سابقاً على منع الصرف، أو عن الحركة إن اعتبر منع الصرف قبل اعتبار الإعلال، وقيل: إنه للصرف وهذا ضعيف جداً (أي أسيرات جمع عانية. بالعين المهملة) إن قلت: هذا القسم من جمع التكسير هو الذي ادعى النحاة فقده خارجاً ووجوده عقلاً وهو التغيير بالزيادة والنقص من غير تغيير الشكل. قلنا: يمكن أن يقال: إنه ليس كذلك، فإن حركات الجمع غير حركات المفرد فضمة الفاء في فلك جمعاً كضمة همزة أسد وضمته مفرداً كضمة قاف قفل، وقد صرح بذلك شراح الكافية فكان ما ذكر كغلام وغلمان مما اجتع فيه التغيير بالنقص والزيادة

وتغيير الشكل (وهي الأسيرة والعاني: الأسير) ومنه حديث «أطعموا الجائع وفكوا العاني» قال في «النهاية» : العاني: الأسير وكل من ذلّ واستكان وخضع، يقال عنا يعنو فهو عان (شبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المرأة في دخولها تحت حكم الزوج) ووجوب طاعتها له (بالأسير) فيكون قوله: «فإنما هن عوان» من التشبيه البليغ على حد زيد أسد (والضرب المبرح) المنهيّ عنه (هو الشاق الشديد) قال في «المصباح» : برح به الضرب تبريحاً: اشتد وعظم (وقوله: فلا تبغوا عليهن سبيلاً: أي لا تطلبوا طريقاً تحتجون به عليهن) بعد توبتهن ورجوعهن إلى الطاعة (وتؤذوهن به) أي ولا تؤذوهن به، ويجوز أن تكون الواو للمعية والنصب بأن مضمرة لكونه في جواب النهي، لكن يوهم أن الممنوع منه إنما هو طلب الطريق المذكور مع الإيذاء، أما طلبها من غير إيذاء فلا نهي عنه وليس كذلك، بل منهي عن التعرض لها بعد التوبة مطلقاً (والله أعلم) . 2775 - (وعن معاوية) بالعين المهملة وبالتحتية بعد الواو المكسورة (ابن حيدة) بمهملة مفتوحة وسكون تحتية وفتح دال مهملة فهاء تأنيث كذا في «المغني» ، ابن معاوية بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة القشيري من أهل البصرة، غزا (رضي الله عنه) خراسان ومات بها، وهو جدّ بهز بن حكيم بن معاوية، وروى عنه ابنه حكيم بن معاوية، وسئل يحيى بن معين عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده فقال: إسناد صحيح إذا كان من دون بهز: ثقة (قال: قلت يا رسول الله) ورواه ابن الأثير في «أسد الغابة» عنه «أن رجلاً سأل رسول الله: ما حقّ المرأة على الزوج؟» إلى آخر الحديث، ولا تنافي لاحتمال التعدد أو أنه أبهم نفسه في تلك الرواية إما نسياناً لعين السائل أو لغرض آخر (ما حقّ زوجة أحدنا عليه) أي ما واجبها عليه (قال: أن تطعمها) بضم الفوقية (إذا طمعت) بكسر العين أي

أكلت (وتكسوها) بفتح التاء الفوقية والواو (إذا اكتسيت) ومعنى كونه فرضاً عليه إذا كان لا يأكل زائداً على فرض القوت، أما لو كان مترفها في المطعم والملبس فما زاد على الواجب لها فنفل منه وإحسان عليها (ولا تضرب الوجه) لأنه عضو لطيف والشين فيه شنيع (ولا تقبح) بتشديد الباء الموحدة المكسورة: أي لا تقل قبح الله وجهك أو لا تقل ما أقبح هذا الخلق، فإن ذمّ الصنعة ذم لصانعها (ولا تهجر) عند النشوز (إلا في البيت) فاترك مضاجعتها ولا تترك كلامها عند حاجتها (حديث حسن رواه أبو داود) في كتاب النكاح من سننه والنسائي وابن ماجه (وقال) أي أبو داود (معنى لا تقبح أي) تفسير لمعنى الجملة (لا تقل قبحك ا) وهذا أحد احتمالين فيه. 2786 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: أكمل المؤمنين) أي من أكملهم (إيماناً) منصوب على التمييز عن أفعل التفضيل وهو فاعله من حديث المعنى (أحسنهم خلقاً) بضم الخاء المعجمة واللام وسكونها، وتقدم أنه ملكة تبعث النفس على أفعال حميدة واكتساب شيم شريفة. وقال الحسن البصري: حقيقة حسن الخلق بذل المعروف وكفّ الأذى وطلاقة الوجه. قال الباجي: وتحسين الخلق أن يظهر منه لمن يجالسه أو يردّ عليه البشر والحلم والإشفاق والصبر على التعليم والتودد إلى الصغير والكبير. وقد اختلف فيه هل هو مكتسب أو غريزي، وجمع بين القولين بأنه غريزي باعتبار أصله ويقوى وينمو بالكسب. قال الحافظ في «الفتح» : ومحصل ما أجاب العلماء عن الأحاديث المختلف فيها الأجوبة بأن أفضل الأعمال كذا أن اختلاف الجواب لاختلاف حال السائلين بأن أعلم كلا بما يحتاج إليه أو بما لهم فيه رغبة أو بما هو اللائق، أو أن اختلافه باختلاف الأوقات بأن يكون العمل في ذلك الوقت أفضل منه في غيره - فقد كان الجهاد في ابتداء الإسلام أفضل الأعمال لأنه الوسيلة إلى القيام بها والتمكن منها، وقد

تظافرت الأدلة على أن الصلاة أفضل من الصدقة، ومع ذلك ففي وقت مواساة المضطر تكون الصدقة أفضل، أو أن أفضل ليس على بابه بل المراد الفضل المطلق، أو أن المراد من أفضل فحذفت من وهي مرادة كما ورد «خيركم خيركم لأهله» ومعلوم أنه لا يصير بذلك خير الناس مطلقاً، فعلى هذا فأفضل الأعمال على الإطلاق الإيمان والباقيات متساوية في كونها من أفضلها وإن تفاوتت درجاتها بما ورد فيها اهـ. ملخصاً (وخياركم خياركم لنسائهم) . وفي رواية «خيركم خيركم لأهله» قال في «النهاية» : هو إشارة إلى صلة الرحم والحثّ عليها. قيل: ولعل المراد من حديث الباب أن يعامل زوجته بطلاقة الوجه وكفّ الأذى والإحسان إليها والصبر على أذاها. قلت: ويحتمل أن الإضافة فيه للعهد والمعهود هو النبيّ، والمراد أنا خيركم لأهلي، وقد كان أحسن الناس لأهله وأصبرهم على اختلاف أحوالهم (رواه الترمذي وقال: حسن صحيح) وكذا رواه ابن حبان. 2797 - (وعن إياس) بكسر الهمزة وتخفيف التحتية وبعد الألف سين مهملة (ابن عبد الله بن أبي ذباب) بضم المعجمة وخفة الموحدة الأولى كما في «المغني» . الدوسي وقيل المزني والأوّل أكثر (رضي الله عنه) سكن مكة، قال أبو عمرو: له صحبة، وقال ابن منده وأبو نعيم: اختلف في صحبته، كذا في «أسد الغابة» ، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديث. (قال: قال رسول الله: لا تضربوا إماء ا) الإماء بكسر الهمزة وبالمد بوزن كتاب جمع أمة وهي محذوفة اللام والهاء عوض عنها والأصل أموة بفتحات، ولذا يرد في التصغير فيقال أمية والأصل أميوة، ويجمع أيضاً على آإم بوزن قاض وعلى إموان بوزن إسلام، وقد يجمع على أموات بوزن سنوات، والمراد بإماء الله النساء: أي لا تضربوهن ظاهره على كل حال (فـ) ـلذا (جاء عمر رضي الله عنه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ذئرن النساء) سيأتي ضبطه ومعناه وهو على لغة أكلوني البراغيث، والفصيح تجريد الفعل من علامة الجمع بأن يقال ذئر أو ذئرت بالتاء، والثاني أفصح لأن المسند لجمع التكسير الأفصح إلحاق التاء آخره، ورأيته في أصل آخر من «سنن أبي داود» ذئر النساء بحذف

النون (على أزواجهن) لما سمعن المنع عن ضربهن مطلقاً (فرخص في ضربهن) من الرخصة، وهي تغيير الحكم من صعوبة إلى سهولة لعذر مع قيام سبب حكم الأصل، وسبب المنع الرفق بهن وهو قائم حال إباحته للعذر وهو دوام الزوجية والقيام بحقوقها عند حقوقهن من ترك ذلك (فأطاف بآل رسول الله) أي بأزواجه وسراريه، وليس المراد بالآل من تحرم عليهم الزكاة (نساء كثير) من صيغ جمع الكثرة (يشكون أزواجهن) أي ضربهم. (فقال رسول الله: لقد أطاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن، ليس أولئك) أي الضاربون لأزواجهم (بخياركم) وذلك لأنه يؤذن بحرج الصدر وضيق النفس، ذلك خلاف حسن الخلق الذي هو من أوصاف الخيار. (رواه أبو داود) في كتاب النكاح (بإسناد صحيح) ورواه النسائي وابن ماجه. (قوله) في الحديث (ذئرن هو بذال معجمة مفتوحة ثم همزة مكسورة ثم راء ساكنة ثم نون: أي اجترأن) عليهم ونشزن (قوله أطاف: أي أحاط) وهو متعد بالباء أيضاً، يقال أطاف بالشيء: أي أحاط به. 2808 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص) بإثبات الياء كما هو الفصيح، وتقدم تحقيق ذلك في باب الاقتصاد وتقدمت ترجمته في باب بيان كثرة طرق الخير (رضي الله عنهما إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الدنيا متاع) أي شيء يتمتع به حيناً كما قال تعالى: {قل متاع الدنيا قليل} (النساء: 33) (وخير متاع الدنيا) أتى بالاسم الظاهر موضع الضمير لزيادة الإيضاح (المرأة الصالحة) قال القرطبي: فسرت في الحديث بقوله: «التي إذا نظر إليها سرّته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله» (رواه مسلم) في كتاب النكاح وأحمد والنسائي.

35 ـــ باب حق أي واجب الزواج على المرأة

35 - باب حق أي واجب الزواج على المرأة أي ما يجب له عليها ويستحقه منها (قال الله تعالى) : ( {الرجال قوّامون على النساء} ) يقومون عليهن قيام الولاة على الرعية، وعلل ذلك بأمرين: وهما قوله: ( {بما فضل الله بعضهم على بعض} ) أي بسبب تفضيله بالرجال على النساء بكمال العقل وحسن التدبير ومزيد القوّة في الأعمال والطاعات، ولذلك خصوا بالفتوّة والإمامة والولاية وإقامة الشعائر والشهادة في مجامع القضايا ووجوب الجهاد والجمعة ونحوها والتعصيب وزيادة السهم في الميراث والاستبداد بالفراق. وبأمر كسبي هو قوله: ( {وبما أنفقوا من أموالهم} ) في نكاحهن كالمهر والنفقة. ثم قسم الله النساء قسمين فقال: ( {فالصالحات قانتات} ) مطيعات قائمات بحقوق الأزواج ( {حافظات للغيب} ) لمواجب الغيب: أي يحفظن في غيبة الأزواج ما يجب حفظه في النفس والمال، وقيل للأسرار ( {بما حفظ ا} ) أي بحفظ الله إياهن بالأمر على حفظ الغيب والحثّ عليه بالوعد والوعيد والتوفيق له، أوبالذي حفظه الله لهنّ عليهم من المهر والنفقة والقيام بحفظهن والذب عنهن. قال السفاقسي: قراءة الجمهور برفع الجلالة وما مصدرية: أي يحفظ الله إياهن وجوز كون ما موصولاً اسمياً محذوف العائد: أي بما حفظهالله، وأجاز أبو البقاء أن تكون نكرة موصوفة والعائد محذوف، وقرأ أبو جعفر بنصب الجلالة فما بمعنى الذي، وفي حفظ ضمير يعود عليها: أي بالبرّ الذي حفظ حق الله من التعفف وغيره، وقدره ابن جني بما حفظ حدود الله والمضاف متعين لأن الذات المقدسة لا ينسب حفظها إلى أحد وفيه حذف الضمير من حفظ: أي بحفظهن وهو قبيح لا يجوز إلا في الشعر، والأحسن أن لا يقال حذف الضمير بل عاد عليهن مفرداً ملاحظة للجنس، فكأن الصالحات في معنى من صلح، وإنما أدى إلى هذه الشذوذ في هذه القراءة توجيهها على أن ما موصولة، أما إذا جعلناها مصدرية كما تقدم فلا اهـ. (وأما الأحاديث) النبوية (فمنها حديث عمرو بن الأحوص السابق) بالرفع (في الباب قبله) .

2801 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه) قيل هو كناية عن الجماع ويقويه قوله: «الولد للفراش» والكناية عما يستحي من التصريح به فاشية في الكتاب والسنة (فلم تأته) ن غير عذر بها (فبات غضبان) غير مصروف بناء على أن الشرط في منع صرف الوصف ذي الزيادة وجود فعلي (عليها لعنتها الملائكة) ويستمرّ ذلك منهم إن استمرت على الامتناع (حتى تصبح) ويؤيد ما تقرّر أنه جاء في رواية «حتى ترجع» قال بعضهم: ورواية الأصل محمولة على الغالب، وظاهر عموم الحديث حرمة امتناعها من فراشها ولو حائضاً وهو كذلك لإمكان الاستمتاع بها بغير الجماع. وظاهر الخبر اختصاص اللعن بما إذا وقع منها ذلك ليلاً، لقوله: حتى تصبح وكأن السرّ فيه تأكيد ذلك الشأن في الليل وقوّة الباعث عليه، ولا يلزم منه جواز امتناعها منه نهاراً، لأن تخصيص الليل بالذكر لأنه مظنة ذلك، ويؤخذ من قوله: فبات غضبان، أن اللعن عليها إنما يكون حينئذٍ لتحقق ثبوت معصيتها، بخلاف ما إذا لم يغضب من ذلك إما لعذرها، وإما لأنه ترك حقه من ذلك. قال القرطبي: أما لو دعت المرأة زوجها فأبى فلا إثم عليه ما لم يقصد بالامتناع المضارة لها فيحرم حينئذٍ/ والفرق بينهما أن الرجل لبذله لماله هو المالك للبضع، والدرجة التي له بسبب سلطته عليها بسبب ملكه أيضاً فقد لا ينشط في وقت دعائها له فلا ينتشر ولا يتهيأ له ذلك بخلافها. قال المهلب: هذا الحديث يوجب أن منع الحق في البدن كان أو في المال مما يوجب سخط الله إلا أن يتغمد الله بالعفو، وفيه جواز لعن العاصي المسلم إذا كان على وجه الإرهاب عليه لئلا يواقع الفعل إذا واقعه فإنما يدعي له بالتوبة والهداية قال الحافظ ابن حجر: والحق أن من منع أراد باللعنة المعنى الغوي وهو الإبعاد من الرحمة ومن أجاز أراد بها المعنى العرفي وهو مطلق السبب، وحديث الباب ليس فيه إلا أن الملائكة يدعون على أهل المعصية ما داموا فيها وهل هم الحفظة أو غيرهم، كل محتمل. ويحتمل أن يكون بعض الملائكة موكلاً بذلك. قلت: وظاهر الحديث التعميم لأن الجمع المحلى بأل من صيغه، وفيه دليل على قبول دعاء الملائكة لكونه خوف به، وفيه الإرشاد إلى مساعدة الزوج ومرضاته، وفيه أن صبر الرجل على ترك الجماع أضعف من صبر المرأة، وفيه أن امتناعها من ذلك كبيرة (متفق عليه) ورواه أحمد وأبو داود والنسائي. (وفي رواية لهما) أي للشيخين وهي عند أحمد

أيضاً (إذا باتت المرأة هاجرة) أي تاركة (فراش زوجها) بغير مانع من مرض أو امتناع لتسلم صداق حال عقدت عليه (لعنتها الملائكة حتى تصبح) ما دامت كذلك، فإذا تابت من الذنب وأقلعت وعادت إلى الطاعة وأجابت إلى الفراش أو كانت معذورة فلا. (وفي رواية) لمسلم من حديث أبي هريرة أيضاً (قال: قال رسول الله: والذي نفسي بيده) أي بقدرته وفي تصرفه، وفيه القسم على الشيء لتأكيده وتقويته عند السامع، وهو كذلك مستحب وواقع في الأخبار كثيراً (ما) نافية (من) مزيدة لتأكيد استغراق النفي (رجل) يحتمل أن يراد به ما يقابل المرأة فيشمل الصبيّ فتكون إجابته واجبة على زوجته المكلفة، وعلى وليّ غير المكلفة أمرها بذلك وهو أقرب، ويحتمل أن يراد به ما يقابل الصبيّ فيخص البالغ (يدعو امرأته إلى فراشه) أضيف الفراش إليها هنا وإليه أوّلاً لملابسة كل منها له (فتأبى) أي تمتنع (عليه) في «المصباح» : أبى الرجل يأبى إباء بالكسر والمد وإباية: امتنع (إلا كان الذي في السماء) إن كان المراد منه ساكنها فهو الملائكة، وإن أريد به حضرة الحق سبحانه فيؤول بأن المراد الذي سلطانه أو ملكوته أو أمره في السماء، لاستحالة المكان والجهة عليه سبحانه وتعالى علوّاً كبيراً، والوجه الأخير أقرب إلى قوله (ساخطاً عليها) وإن صح على الأول إفراده باعتبار لفظ الذي المراد منه النوع الذي هو الملائكة، والسخط المراد منه بالنسبة إليه تعالى غايته مجازاً مرسلاً من إطلاق اللازم وإرادة الملزوم إما الانتقام فيكون صفة فعل، أو إرادته فيكون صفة ذات كما تقدم أوّل الكتاب، وظاهر أن ذلك إذا غضب منه الزوج كما يدل عليه قوله في الحديث قبله «فبات غضبان عليها» وقوله هنا: (حتى يرضى عنها) . 2822 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يحلّ) أي لا يجوز

(لامرأة أن تصوم) ولو فرضاً موسعاً لأن حق الزوج ناجز ووقت الفرض متسع، ومن ثم لو ضاق بأن نذرت صوم وقت معين قبل التزوج به أو بعده بإذن أو ضاق الوقت بأن لم يبق من شعبان إلا قدر ما عليها من قضاء رمضان حل لها الصوم بغير إذنه (وزوجها شاهد) أي حاضر، وظاهر عمومه أنه لا فرق في ذلك بين حريتهما ورقهما وتخالفهما في ذلك (إلا بإذنه) وذلك لأنه قد يكون له إليها حاجة فيمنعه عن ذلك الصوم. فإن قيل يجوز له أن يفطرها والحالة هذه فلا يكون صومها مانعاً له. أجيب بأنه قد يهاب ذلك فأدى إلى تركه لحقه فحرم إلا بإذنه (ولا تأذن في بيته) لرجل محرم أو غيره ولالامرأة كذلك (إلا بإذنه) صريحاً أو ما في معناه مما تقدم في الباب قبله (متفق عليه. وهذا لفظ البخاري) من جملة حديث أورده في كتاب النكاح، وآخره «وما أنفقت من نفقة عن غير أمره فإنه يؤدي إليه شطره» وأخرجه النسائي في الصوم ولفظ مسلم في كتاب الزكاة «لا تصم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته وهو شاهد إلا بإذنه» . 2833 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: كلكم راع) أي حافظ مؤتمن ملتزم صلاح ما اؤتمن على حفظه فهو مطلوب بالعدل فيه والقيام بمصالحه (كلكم مسؤول عن رعيته) أي هل قام بما عليه من صلاحها وحفظها والقيام بمصلحتها أولاً (والأمير) أي ذو الأمر فيشمل سائر الحكام، وفي رواية الإمام، وعليها فخص بالذكر لأنه الأشرف الأكمل وباقي الولاة مثله كما أفادته رواية الباب، والأمير (راع) على من تحت ولايته فعليه النظر في شأنهم وتسديد أمرهم ودفع المضرات عنهم (والرجل راع على أهل بيته) فيقوم بكفايتهم من سائر المؤن بحسب حاله يساراً وإعساراً، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويبين لهم ما يحتاجون إليه من أمر الشرائع (والمرأة راعية على بيت زوجها) فتقوم بحفظه عن السارق والهرة وسائر المتلفات، ولا تخزن فيه ولا تتصدق بما

تعلم أنه لا يرضى به (وولده) فتقوم بحضانته وخدمته. قال الخطابي: اشتركوا يعني الأمير ومن بعده في الوصف بالراعي، ومعناه مختلف، فرعاية الإمام الأعظم رعاية الشريعة بإقامة حدودها والعدل في الحكم، ورعاية الرجل أهله سياسته لأمرهم وإيصال حقوقهم، ورعاية المرأة تدبيرها لأمر البيت والأولاد والخدم والنصيحة للزوج (فكلكم) حتى من لا أمر له ولا زوجة وهو الإنسان في نفسه فإنه (راع) على جوارحه فيعمل المأمورات ويجتنب المنهيات فعلاً ونطقاً واعتقاداً، فجوارحه وقواه وحواسه رعاياه، ثم لا يلزم من كونه راعياً أن لا يكون مرعياً باعتبار آخر (وكلكم مسؤول عن رعيته) هل قام بما يجب لها عليه أولا؟ وجاء في حديث أنس مثل حديث ابن عمر، وفي آخره «فاعدد للمسألة جواباً، قال: وما جوابها؟ قال: أعمال البرّ» أخرجه ابن عديّ والطبراني في «الأوسط» وسنده حسن (متفق عليه) ورواه أحمد وأبو داود والترمذي. 5 2844 - (وعن أبي علي) بفتح المهملة وكسر اللام (طلق) بفتح المهملة وسكون اللام (ابن علي) بفتح فكسر كذلك، ابن طلق بن عمرو، وقيل طلق بن قيس بن عمرو بن عبد الله بن عمر بن عبد العزى بن سحيم بن مرة بن الدؤل بن حنيفة الربعي الحنفي السحيمي (رضي الله عنه) كان من الوفد الذين قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اليمامة فأسلموا، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة عشر حديثاً كما ذكره ابن حزم في أواخر سيرته، وليس له في «الصحيحين» شيء (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا دعا الرجل زوجته) كذا في النسخ بإثبات التاء وهي لغة واللغة الفصيحة المشهورة التي جاء بها القرآن حذف التاء وهي لغة أهل الحجاز، قال المصنف: وثبت إلحاق التاء في أحاديث في الصحيح (لحاجته) التي يستحقها عليها (فلتأته) فوراً (وإن كانت على التنور) الجملة الشرطية وصلية وهي في محل الحال كما تقدم عن المطول. والتنور بفتح الفوقية وتشديد النون: الذي يخبز فيه. قال في «المصباح» : وافقت فيه لغة العرب لغة العجم. وقال أبو حاتم: ليس بعربي صحيح، والجمع

تنانير (رواه الترمذي) في النكاح (و) رواه (النسائي) في باب عشرة النساء (وقال الترمذي: حديث حسن) زاد فيما حكى المزي عنه في «الأطراف» بعد قوله حسن: غريب. 2855 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي: قال: لو) حرف يقتضي امتناع ما يليه واستلزامه لتاليه (كنت آمراً) بمد الهمزة مضارع من الأمر، والجملة خبر كان، ورأيته في نسخة من «الجامع الصغير» منوناً على أنه وصف خبر مفرد (أحداً) أي من بني آدم (أن يسجد لأحد) تعظيماً له وأداء لحقه (لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) لما له عليها من عظيم الحق الواجب القيام به. وسبب هذا الحديث ما في أبي داود عن قيس بن سعد قال: «أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم. فقلت: رسول الله أحق أن يسجد له، قال: فأتيت النبي فقلت: إني أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم، فأنت يا رسول الله أحق أن يُسجد لك، قال: أرأيت لو مررت بقبري أكنت تسجد لي؟ فقال: لا، قال: فلا تفعلوا لو كنت» فذكره (رواه الترمذي) أي من حديث أبي هريرة (وقال: حديث حسن صحيح) ورواه أحمد من حديث معاذ والحاكم في «المستدرك» من حديث بريدة. 2866 - (وعن أم) المؤمنين أم (سلمة) هند بنت أبي أمية سبقت ترجمتها (رضي الله عنها) في باب التوكل (قالت: قال رسول الله: أيما) بتشديد التحتية وهي الشرطية وحاصلة للتأكيد، وأي مضافاً إلى (امرأة ماتت) أي فارقت الحياة مؤمنة (وزوجها عنها راض) جملة حالية من الضمير المستكن في ماتت والظرف متعلق براض قدم اهتماماً بشأنه (دخلت الجنة) ظاهره ابتداء مع الفائزين، وهو محتمل بأن يغفر الله سيئاتها ويرضى عنها الخصماء

(رواه الترمذي) ابن ماجه والحاكم (وقال) أي الترمذي (حديث حسن) ثم مفهوم الحديث أن من ماتت وهو عنها غير راض لا تدخل الجنة: أي مع الفائزين كما تقدم أنه ظاهر المنطوق، ويحتمل أن يبقى على عمومه ويحمل على ما إذا استغلت ذلك، وكان مما أجمع على تحريمه وعلم من الدين بالضرورة وقد علمت ذلك. 2877 - (وعن معاذ بن جبل) الأنصاري تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب المراقبة، وقوله: (عن النبي) متعلق بمحذوف دلّ عليه المقام حال من المجرور بعن: أي ناقلاً عن النبي (أنه قال: لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا) أي لا يقع منها معه ما من شأنه أن يتأذى به من غير مجوّز لذلك شرعاً، وإلا فطلب نحو النفقة ممن يتأذى بها لنحو بخله لا يدخل الزوجة في ذلك (إلا قالت زوجه) بالإضافة إلى الهاء (من الحور) بضم الحاء المهملة وهن نساء أهل الجنة، واحدتهن حوراء: وهي الشديدة بياض العين الشديدة سوادها (العين) بكسر العين المهملة: أي بخل العيون. وقال البيضاوي جمع عيناء (لا تؤذيه قاتلك ا) جملة دعائية والمراد من المفاعلة فيه أصل الفعل وعبر بها للمبالغة، وأنها لما فعلت ذلك وتعرضت لعقوبة الله صارت كالمقاتلة له تعالى فعبر بذلك (فإنما هو عندك) في الدنيا (دخيل) أي ضيف ونزيل، وعبرت بذلك لأن مدة المقام بالدنيا وإن طالت فهي يسيرة بالنظر إلى الآخرة التي لا أمد لها، فعبرت بما يعبر به عن قصير الإقامة وهو الضيف (يوشك) بضم أوله وكسر الشين المعجمة مضارع أوشك ومنه قوله الشاعر: يوشك من فر من منيته في بعض غراته يوافقها وفي «المصباح» أوشك من أفعال المقاربة والمعنى: الدنوّ من الشيء. وقال الفارابي: الإيشاك الإسراع، لكن قال النحاة: استعمال المضارع أكثر من الماضي، واستعمال اسم الفاعل منها أقل. قال بعضهم: وقد استعملوا ماضياً ثلاثياً فقالوا: وشك مثل قرب وشكا اهـ. وتقدم في باب التوبة بعضه (أن يفارقك) منتقلاً (إلينا) أي فأحسني إليه، وفي تعبيرها بالدخيل إيماء إلى ذلك، ففي الحديث الشريف: «من كان يؤمن با واليوم الآخر

فليكرم ضيفه» (رواه الترمذي) آخر كتاب النكاح (وقال: حديث حسن) غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه اهـ، ورواه ابن ماجه في النكاح أيضاً. 2888 - (وعن أسامة بن زيد) بن حارثة الحب ابن الحب (رضي الله عنهما) الصحابي ابن الصحابي تقدمت ترجمته في باب الصبر (عن النبي قال: ما تركت بعدي) أي بعد وفاتي (فتنة) هي كما في «المصباح» : المحنة والابتلاء، والجمع فتن، وأصلها من قولك فتنت الذهب والفضة إذا أدخلتهما النار لتمييز الجيد من الردىء (هي أضرّ على الرجال من النساء) أفاد الحديث أن الافتتان بهن أشد منه بغيرهن، ويشهد له قوله تعالى: {زين الناس حب الشهوات من النساء} (آل عمران: 14) فجعلهن من عين الشهوات وبدأ بهن قبل بقية الأنواع إشارة إلى أنهن الأصل في ذلك. ويقع في المشاهدة حبّ الرجل ولده الذي هو من امرأته التي هي عنده أشد من حبه لباقي ولده، ومن ذلك قصة النعمان بن بشير في الهبة. وقد قال بعض الحكماء: النساء شرّ كلهن وأشرّ ما فيهن عدم الاستغناء عنهن، ومع نقص عقلهن يحملن الرجل على تعاطي ما فيه ذلك، كشغله عن طلب أمور الدين وحمله على التهالك على طلب الدنيا، وذلك أشد الفساد. وقد أخرج مسلم من حديث أبي سعيدالخدري في أثناء حديث «واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء» . اهـ. ملخصاً من «الفتح» للحافظ العسقلاني (متفق عليه) رواه البخاري في كتاب النكاح، ومسلم في آخر كتاب الدعاء، ورواه الترمذي في الاستئذان، والنسائي في عشرة النساء، وابن ماجه في الفتن.

36 ـــ باب النفقة

36 - باب النفقة المراد بها سائر المؤن من كسوة ونفقة وسكن (على العيال) بكسر العين المهملة: أي من يعولهم من زوجة وبعض وخادم. قال ابن النحوي في الإشارة إلى لغات «المنهاج» : النفقة من الإنفاق وهو الإخراج، والنفقة الدراهم ونحوها من الأموال تجمع على نفقات وعلى نفاق أيضاً، وسميت بذلك إما لذهابها بالموت وإما لرواجها من نفقت السوق أو من نفق البيع كثر طلابه وإما لنفادها من نفق الزاد إذا ذهب لأنها عرضة للنفاد اهـ. (قال الله تعالى: {وعلى المولود له} ) أي الذي يولد له، يعني الوالد فإن الوالد يولد له وينسب إليه في التعبير بما ذكر إشارة للمعنى المقتضى لوجوب النفقة عليه ( {رزقهن وكسوتهن} ) أجرة لهن. واختلف في استئجار الأم، فجوزه الشافعي، ومنعه أبو حنيفة ما دامت زوجة أو معتدة بنكاح ( {بالمعروف} ) حسبما يراه الحاكم ويفي به وسعه. (وقال تعالى: {لينفق ذو} ) أي صاحب (سعة) بفتح السين وبه قرأ السبعة، وكسرها لغة وقرأ به بعض التابعين ( {من سعته ومن قدر} ) أي ضيق ( {عليه رزقه فلينفق مما آتاه ا} ) فإنه تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها، وفيه تطييب لقلب المعسر، ولذا عقبه بوعده باليسر بقوله: {سيجعل الله بعد عسر يسراً} (الطلاق: 7) . (وقال تعالى: {وما} ) شرط أو بمعنى الذي مبتدأ ( {أنفقتم من شيء} ) عمومه متناول لليسير والحقير ( {فهو يخلفه} ) عوضاً إما عاجلاً أو آجلاً، وقيل بخلفه في الدنيا بالقناعة التي هي كنز لا يفنى وبالثواب في الآخرة، وبالجملة جواب الشرط وهل هي الخبر أو الجملة الشرطية والجواب قيد له، أو الخبر مجموعهما أقوال أرجحها ثانيها، فإن كانت «ما» موصولة فالجملة خبر المبتدأ.

2891 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: دينار) مبتدأ وسوغ الابتداء به مع كونه نكرة إرادة التنويع فهو كقوله: فيوم لنا ويوم علينا، أو إرادة الجنس به كقولهم: تمرة خير من جرادة (أنفقته في سبيل ا) أي في الجهاد بإعانة ذلك عليه، ويحتمل أن المراد به الأعم: أي في طاعة الله (ودينار أنفقته في رقبة) أي فعتقت به كأن بقي ذلك من النجم الذي على المكاتب وبه تحصل حريته، أو المراد به الجنس: أي وما أنفق في عتق الرقبة وتخليصها من الرق، أو تصدق به عليها فخلصت به من التلف الذي كان بها من الجوع والظمأ أو العري، وعلى الاحتمال الثالث فبينه وبين قوله: (ودينار تصدقت به على مسكين) أي محتاج فيشمل الفقير أيضاً عمومه (ودينار أنفقته على عيالك) أي من تعولهم، وفي نسخة على أهلك (أعظمها) أي أكثرها (أجراً الذي أنفقته على أهلك) لأن من تلزمه مؤنتهم يكون في الإنفاق عليهم صلة رحمهم، وثوابها أعظم مما ذكر بكثير (رواه مسلم) / 2902 - (وعن أبي عبد ا) ويقال أبو عبد الرحمن (ثوبان بن بجدد) بضم الموحدة والدال المهملة الأولى وسكون الجيم بينهما، والتصريح باسمه في نسخة (مولى رسول الله) قيل وجده مسبياً فأمر به فعتق، وقيل شراه وعتقه، تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب المجاهدة (قال: قال رسول الله: أفضل دينار ينفقه الرجل) في سبيل الخير (دينار ينفقه على عياله) أي الذين يمونهم، وقدم هذا في الذكر اهتماها به لأنه أشرف الأنواع كما صرح به في الحديث قبله (ودينار ينفقه على دابته) التي يركبها أو يحمل عليها (في

سبيل الله، ودينار ينفقه على أصحابه) الذين يركبون معه (في سبيل ا) الظاهر أن المراد به في هذين الجهاد، ويصح أن يراد به الأعم هنا لأن ثواب الإنفاق على الدابة التي تركب أو يحمل عليها في الطاعة وعلى الأصحاب الذين يجتمعون على الطاعة عظيم، وعلى الثاني فقد يشكل التساوي بين الثلاثة، فإنه إذا أريد مطلق الطاعة يكون الأول أفضلها. ويجاب بأنه لا مانع أن الثلاثة وإن كانت أفضل من غيرها أن يكون أحدها أفضلها فهو أفضل الأفضل ثم أفضل مبتدأ خبره دينار وما عطف عليه بتقدير تقديم العطف على الربط (رواه مسلم) في الزكاة والترمذي في البرّ، وقال: حسن صحيح، والنسائي في عشرة النساء، وابن ماجه في الجهاد. 2913 - (وعن) أم المؤمنين (أم سلمة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله هل) يكتب (لي أجر) أي ثواب أخروي (في بني أبي سلمة) تعني أولادها منه (أن أنفق عليهم) بدل من بني سلمة بدل اشتمال: أي هل يكتب لي أجر في الإنفاق عليهم (و) الحال أني (لست بتاركتهم هكذا وهكذا) أي يتفرقون لطلب القوت يميناً وشمالاً، بل أنا كافيتهم ذلك بحسب الطبع لأن شفقة الأمومة تحمل على تكلف القيام بما يحتاج إليه الأولاد، وقولها (إنما هم بنيّ؟) بفتح الموحدة وتشديد التحتية، هو تعليل لما أفاده الاستفهام التعجبي من ترتب الثواب على الإنفاق عليهم المنسوب لشفقة الأمومة وشأن أعمال البرّ أن شوب غيرها بها يسقطها وهذا حالها وحالهم (فقال: نعم) أي لك أجر وسكت عن جوابها عن سبب التعجب المذكور علماً منه أنها إذا أخبرت بترتب الثواب عليه إنما تأتي به لذلك لا غير، وحينئذٍ فلا شوب، ولما كان في قولها هل لي أجر؟ إبهام، وكان لو اقتصر على قوله: نعم لأوهم أن لها ثواباً زائداً على قدر ما تنفقه عليهم دفعه بقوله: (لك أجر ما) هو في الأصول المصححة من «الصحيحين» بالإضافة فما موصول أو موصوف صلة، أو صفته جملة قوله: (أنفقت عليهم) قليلاً كان أو كثيراً، قال السيوطي في «التوضيح» ، وجوّز بعضهم تنوينه

على أن ما وقتية. قلت: أو موصولة وثمة مضاف مقدر: أي قدر ما أنفقته (متفق عليه) أخرجاه في كتاب الزكاة. 2924 - (وعن سعد بن أبي وقاص) مالك بن وهيب أحد العشرة (رضي الله عنه في حديثه الطويل الذي قدمناه أول الكتاب في باب النية) الذي فيه أن النبي عاده عام حجة الوداع من وجع اشتد به (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه ا) أي ذات الله تعالى وطلب مرضاته، وفيه تعميم للنفقة باعتبار قلتها وكثرتها وجلالها وحقارتها وباعتبار مصرفها (إلا أجرت بها) أي أجرك الله بسببها السببية صورية وإلا فلا سبيل للوصول للفضل إلا بمحض الفضل (حتى) غاية للعموم المستفاد مما قبله باعتبار المصرف (ما) أي الذي أو شيئاً (تجعل) بحذف العائد المنصوب: أي تجعله (في في امرأتك) أي فمها، وإنما غيابه لأنه ربما يتوهم أنها لكونها محل قضاء الوطر أنه لا ثواب فيما يسدي إليها من الجميل، فأفاد أن كل شيء قصد به وجه الله تعالى أثيب عليه فاعله. وأخذ منه أن المباحات إذا اقترن بها النية تنتقل إلى درجة الطاعات ويثاب عليها، فللوسائل حكم المقاصد (متفق عليه) وتقدّم ثمة بيان من خرّجه. 2935 - (وعن أبي مسعود) عقبة بن عمرو (البدري) نسبة لبدر لكونه سكنها لا أنه شهد وقعتها على ما تقدم فيه، وتقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب المجاهدة (عن النبي

قال: إذا أنفق الرجل) المسلم كما في رواية المشكاة بدل قوله الرجل (على أهله) الذين تلزمه مؤنتهم وغيرهم (يحتسبها) عند الله: أي يقصد بها وجه الله والتقرب إليه، والجملة حالية (فهو) أي المنفق الدالّ عليه بقوله إذا أنفق (له صدقة) أي عظيمة الثواب لما فيها من أداء الواجب وصلة الرحم الوارد فيه من الثواب ما لا يحصيه إلا المتفضل به (متفق عليه) . 2946 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص) كذا هو بحذف الياء وتقدم أن الأفصح بناء على كونه منقوصاً إثبات الياء (رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: كفى بالمرء إثماً) الباء زائدة في المفعول به، وإثماً تمييز محوّل عن الفاعل، والأصل كفى المرء في عظم الإثم إثم تضييع من يقوت. قال ابن رسلان: أي لو لم يكن له من الإثم إلا هذا لكفاه لعظمه عند الله تعالى، وفاعل كفى هو قوله: (أن يضيع من يقوت) يقال قاته يقوته إذا أعطاه قوته، ويقال فيه أقاته يقيته، وروي أن يضيع من يقيت على لغة أقات. والمراد أن يمنع من تلزمه نفقته من زوجة وولد ووالد ويعطي غيرهم ولو صدقة اهـ. ولم أرَ من تعرّض لضبط يضيع هل هو من الإفعال أو من التفعيل، والدائر على ألسنة المشايخ الثاني (حديث صحيح رواه أبو داود) في آخر كتاب الزكاة (وغيره) فرواه النسائي في عشرة النساء والبزار (ورواه مسلم في صحيحه بمعناه) وأوله عنده «أن ابن عمرو قال: لقهرمان: هل أعطيت الرقيق قوتهم؟ قال: لا، قال: قم فانطلق فأعطهم فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قال: كفى بالمرء إثماً أن يحبس من يملك قوته) حذف مفعول يملك أي يملك القيام بأمره وقوته

مفعول يحبس. وقال العلقمي: هو من باب التنازع وإعمال الأول وترك الإضمار في الثاني. وقال المظهري: «أن يحبس» مبتدأ وكفى خبره مقدماً عليه، مثل بئس رجلاً زيد أو خبر مبتدأ محذوف. 2957 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ قال: ما) نافية (من) مزيدة لتأكيد النفي (يوم) وهو شرعاً من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وقوله: (يصبح العباد فيه) وصف توضيحي (إلا ملكان) مبتدأ (ينزلان) خبر والجملة في محل الحال مما قبله، قال في «فتح الباري» : وفي حديث أبي الدرداء «ما من يوم طلعت فيه الشمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان بصوت يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين: يا أيها الناس هلموا إلى ربكم فإن ما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى، ولا غريب شمسه إلا وبجنبيها ملكان يناديان» فذكر مثل حديث أبي هريرة (فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً) كذا في نسخ الرياض وهو لفظ مسلم وعند البخاري «منفق مال» بالإضافة ولبعض رواته «منفقاً مالاً» (خلفاً) وأبهم الخلف ليتناول المال والثواب وغيرهما. قال الحافظ: وإبهامه أولى، فكم من منفق مات قبل وقوع الخلف المالي له، فيكون خلفه الثواب المعدّ له في الآخرة، أو يدفع عنه من السوء ما يقابل ذلك (ويقول) الملك (الآخر: اللهمّ أعط) عبر بالعطية مشاكلة لما قبلها وإلا فهي لا تكون في التلف (ممسكاً تلفاً) يحتمل تلف ذلك المال بعينه أو تلف نفس صاحب المال، والمراد به فوات أعمال البر بالتشاغل بغيرها. قال النووي: الإنفاق الممدوح ما كان في الطاعات وعلى العيال والضيفان والتطوعات. وقال القرطبي: هي تعم الواجبات والمندوبات/ لكن الممسك عن المندوبات لا يستحق هذا الدعاء إلا أن يغلب عليه البخل المذموم بحيث لا تطيب نفسه بإخراج الحق الذي عليه ولو أخرجه اهـ. (متفق عليه) . 2968 - (وعنه) أي عن أبي هريرة رضي الله عنه. (عن النبي قال: اليد العليا) قال أبو

داود: قال الأكثر عن حماد بن زيد: هي المنفقة، وقال غير واحد عنه: هي المتعففة، وكذا قال عبد الوارث عن أيوب اهـ. وعند أبي نعيم في «المستخرج» عن حماد «واليد العليا يد المعطي» . وعند النسائي عن طارف المحاربي قال: «قدمنا المدينة فإذا النبي قائم على المنبر يخطب الناس وهو يقول: يد المعطي العليا» قال الحافظ في «الفتح» بعد ذكر أحاديث: فهذه الأحاديث متظافرة على أن اليد العليا هي المنفقة المعطية وأن السفلى أي في قوله: (خير من اليد السفلى) هي السائلة، وهذا هو المعتمد. وهو قول الجمهور، وقيل السفلى الآخذة سواء كان بسؤال أو بغيره، وهذا أباه قوم واستندوا إلى أن الصدقة تقع أولاً في يد الله قبل يد المتصدق عليه. قال ابن العربي: التحقيق أن السفلى يد السائل أما يد الآخذ فلا، لأن يد اهي المعطية ويد اهي الآخذة وكلتاهما عليا وكلتاهما يمين اهـ. وفيه نظر لأن البحث إنما هو في أيدي الآدميين، أما يده تعالى فباعتبار كونه مالك كل شيء نسبت يده إلى الإعطاء، وباعتبار قبوله للصدقة ورضاه بها نسبت يده إلى الأخذ ويده العليا على كل حال. أما يد الأدمي فأربعة: يد المعطي وقد تظافرت الأخبار بأنها عليا ويد السائل وقد تظافرت بأنها سفلى سواء أخذت أم لا، وهذا موافق لكيفية الإعطاء والأخذ غالباً، وللمقابلة بين العلوّ والسفل المشتق منهما، ويد المتعفف عن الأخذ ولو بعد أن تمد إليه يد المعطي، وهذه وهذه توصف بالعلو المعنوي، ويد الآخذ بغير سؤال، وهذه قد اختلف فيها، فذهب جمع إلى أنها سفلى وهذا بالنظر إلى الأمر المحسوس، أما المعنوي فلا يطرد فقد تكون علياً في بعض الصور وعليه يحمل كلام من أطلق كونها عليا. وقال ابن حبان: اليد المتصدقة أفضل من السائلة لا الآخذة بغير سؤال وعن الحسن البصري: اليد العليا المعطية والسفلى المانعة ولم يوافق عليه. وأطلق آخرون من المتصوفة أن اليد الآخذة أفضل من المعطية مطلقاً. وقد حكى ابن قتيبة ذلك في «غريب الحديث» عن قوم، ثم قال: وما أرى هؤلاء إلا قوماً استطابوا السؤال فهم يجنحون للدناءة، ولو جاز هذا لكان المولى من فوق من كان رقيقاً فأعتق والمولى من أسفل من كان سيداً فأعتق اهـ. ثم قال الحافظ بعد نقل أقوال أخر: وكل هذه التأويلات تضمحل عند الأحاديث المتقدمة المصرحة بالمراد، فأولى ما فسر الحديث بالحديث. ومحصل ما في الأحاديث المتقدمة أن أعلا الأيدي المنفقة ثم المتعففة عن الأخذ ثم الآخذة بغير سؤال وأسفل ما في الأيدي السائلة والمانعة اهـ. (وابدأ) في العطاء (بمن تعول) لأنه إما واجب أو مندوب ففيه أداء حق أو صلة رحم (وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) أي أفضلها ما وقع عن غنى وعدم احتياج إلى

37 ـــ باب طلب الإنفاق مما يحب

المتصدق به لنفسه أو لممونه.. قال الخطابي: لفظ الظهر يزاد في مثل هذا إشباعاً للكلام، والمعنى: أفضلها ما أخرجه الإنسان من ماله بعد أن يستبقي منه قدر الكفاية لأهله وعياله ولذا قال أولاً: «وابدأ بمن تعول» . وقال البغوي: المراد غنى يستظهر به على النوائب التي تنوبه، والتنكير في غنى للتعظيم. قال الحافظ في «الفتح» : هذا هو المعتمد في معنى الحديث. وقيل المراد خير الصدقة ما أغنيت به من أعطيته عن السؤال، وقيل عن للسببية والظهر زائد: أي خير الصدقة ما كان سببها غنى المتصدق اهـ. وقال القرطبي: معنى الغنى حصول ما تدفع به الحاجة الضرورية كالأكل عند الجوع المشوش الذي لا صبر عليه وستر العورة ونحوه اهـ. وقال المصنف: مذهبنا أن التصدق بجميع المال مستحب لمن لا دين عليه لا عيال له لا يصبرون ويكون هو أيضاً ممن يصبر على الإضافة، فإن لم تجتمع هذه الشروط كره. وأما ما يحتاج إليه ويؤدي الإيثار به إلى هلاك النفس والإضرار بها أو كشف العورة فلا يجوز الإيثار به، فإذا سقطت هذه الحقوق الواجبة صحّ الإيثار وكان أفضل بشرطه وبهذا يندفع التعارض بين الأخبار (ومن يستعفف) بفك الإدغام: أي عن السؤال (يعفه ا) بضم التحتية والفاء اتباعاً لحركة الضمير أي يصيره عفيفاً: أي بمال يغنيه به عن الحاجة، أو بقناعة في نفسه، وقيل معناه ومن يطلب العفة وهي الكفّ عن الحرام يعفه الله: أي يصير عفيفاً (ومن يستغن) بما أعطيه ويقنع به (يغنه ا) عن الاحتياج لما فوقه فإن طعام الاثنين يكفي الثلاثة، والنفس معك إن أرسلتها استرسلت وإن فطمتها وقفت وانفطمت (رواه البخاري) أي بهذا اللفظ، ولفظ مسلم أخصر كما يأتي التنبيه عليه في باب القناعة من الأصل. وثمة زيادة في «شرح الحديث» في الشرح. 37 - باب طلب الإنفاق مما يحب أي من محبوبه طبعاً فما مصدرية أو من الذي، أو من شيء يحبه، فما موصول اسمي أو نكرة موصوفة والعائد محذوف عليهما (ومن

الجيد) عادة، أو من الجيد بالنسبة للمدفوع إليه المحبوب عنده. (قال الله تعالى) : ( {لن تنالوا البر} ) أي لن تبلغوا حقيقة البر الذي هو كمال الخير، أو لن تنالوا بر الله الذي هو الرحمة والرضى والجنة ( {حتى تنفقوا مما تحبون} ) أي من المال أو مما يعمه وغيره كبذل الجاه في معاونة الإخوان والبدن في طاعة الله والمهجة في سبيله، ومن للتبعيض أو للابتداء، ويؤيد الأول أنه قرىء بعض في مكان من. (وقال تعالى) : ( {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم} ) من حلاله أو من خياره ( {ومما أخرجنا لكم من الأرض} ) أي ومن طيبات ما أخرجنا لكم من الحبوب والتمر والمعادن فحذف المضاف لتقدم ذكره، وفي الإملاء الحسن: أظن والله أعلم أن أفضل ما يتصدق به الشخص ما كان من كسب يده، وقد كان يذهب الواحد من الصحابة رضي الله عنهم يكتسب بنحو عمل ثم يتصدق به أو منه (ولا تيمموا الخبيث) ولا تقصدوا الردىء (منه) أي من المذكور أو مما أخرجنا، وتخصيصه بذلك لأن التفاوت فيه أكثر (تنفقون) حال مقدرة من فاعل تيمموا، ويجوز أن يتعلق منه به ويكون الضمير للخبيث والجملة حالاً منه. قال بعضهم من تصدق بنفيس فاز بنفيس - {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} ــــ. 2971 - (وعن أنس) بن مالك (رضي الله عنه: كان أبو طلحة) زيد بن سهل (رضي الله عنه أكثر الأنصار) هم أولاد الأوس والخزرج وهو اسم إسلامي، سموا به لنصرهم النبي بالمدينة (مالاً) تمييز عن نسبة الأكثرية إليه (من نخل) بيان لمال (وكان أحب أمواله إليه) يجوز أن يكون مرفوعاً اسم كان وخبرها (بيرحاء) ويجوز العكس، ويؤيد الأول قوله الآتي: «وإن أحبّ مالي إليّ بيرحاء» ففيه أن مراده بيان الأحب إليه، لا الحكم عليها بأنها

أحبّ إليه، وجاء في ضبط هذا اللفظ أوجه كثيرة ضبطها في «النهاية» فقال: يروى بفتح الباء وبكسرها وفتح الراء وضمها وبالمد والقصر فهذه ثمان لغات، كذا في باب الزكاة على الأقارب من الفتح للحافظ ونازعه تلميذه شيخ الإسلام زكريا بأن الذي في عبارة «النهاية» أنها بفتح الباء وكسرها وبفتح الراء وضمها والمد فيهما وفتحهما والقصر فجملتها خمسة لا ثمانية كما وقع لبعض الشراح، وكأنه تصرف في عبارة «النهاية» اهـ. قال الحافظ: وفي رواية حماد بن سلمة «بريحاء» بفتح أوله وكسر الراء وتقديمها على التحتية، وفي «سنن أبي داود» «بأريحا» مثله لكن بزيادة ألف، وقال الباجي: أفصحها بفتح الباء وسكون الياء وفتح الراء مقصوراً وكذا جزم به الصاغاني وقال: إنه فيعلا من البراح، قال: ومن ذكره بكسر الموحدة فظن أنها بئر من آبار المدينة فقد صحف. وقال القاضي عياض: رواية المغاربة إعراب الراء والقصر في حاء، وخطأ هذا الصوري، وقال الباجي: أدركت أهل العلم ومنهم أبو ذر يفتحون الراء في كل حال، زاد الصوري وكذا الباء: أي أوله فانتهى الخلاف في النطق بها إلى عشرة أوجه. واختلف في «حاء» هل هي اسم رجل أو امرأة أو مكان أضيفت إليه، أو هي كلمة للإبل، فكأن الإبل كانت ترعى هناك وتزجر بهذه اللفظة فأضيفت البير إلى اللفظ المذكور (وكانت مستقبلة) بكسر الموحدة (المسجد) النبوي (وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلها) أي الحديقة المذكورة (ويشرب من ماء فيها طيب) أي عذب. ففيه جواز دخول أهل الفضل للحوائط والبساتين والاستظلال بظلها والأكل من ثمرها والراحة والتنزّه، وقد يكون ذلك مستحسناً ليترتب عليه الأجر إذا قصد به إجمام النفس من تعب العبادة وتنشيطها في الطاعة (قال: أنس) أعاد الراوي ذكره لطول الكلام وهذه عادة العرب في محاوراتها (فلما نزلت هذه الآية) وبينها بقوله: (لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون) قام أبو طلحة قاصداً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن الله سبحانه وتعالى يقول: (لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون) وهذا من أبي طلحة من باب لازم فائدة الخبر (وإن أحبّ مالي إليّ بيرحاء وإنها) لكونها أحبّ إليّ وقد وقف حصول البرّ على الإنفاق

من المحبوب (صدقة تعالى) أي وقفا على المتصدق بها عليه، ويحتمل صدقة التمليك وهو ظاهر سياق الماجشون عن إسحاق حيث قال: فجعلها أبو طلحة في ذوي رحمه، قاله الحافظ (أرجو برّها) أي خيرها (وذخرها) بضم الذال المعجمة وبالخاء الساكنة المعجمة هو ما يعد لوقت الحاجة إليه كما في «المصباح» : أي انتفاعي بها وقت حاجتي إليها وهو يوم القيامة وسائر أوقات الشدائد، وفسره الشيخ زكريا بقوله أي أجرها (عند الله تعالى) ظرف تنازعه ما قبله (فضعها يا رسول الله حيث أراك ا) تفويض منه إليه في تعيين مصرفها لا في وقفيتها (فقال رسول الله: بخ) بفتح الموحدة وسكون المعجمة وقد تنون مع التثقيل والتخفيف بالكسر والرفع: كلمة تقال لتفخيم الأمر والإعجاب به (ذلك) أي المتصدق به (مال رابح) بالمثناة التحتية بعد الألف أو بالموحدة بعدها كما سيأتي. قال الحافظ: في الحديث فضيلة لأبي طلحة لأن الآية تضمنت الحثّ على الإنفاق من المحبوب، فترقى هو إلى إنفاق أحبّ المحبوب، فصوب رأيه، وشكر عن ربه فعله، وكنى عن ذلك بقوله: بخ إلخ. قال البيضاوي في «التفسير» : وهذا يدل على أن إنفاق أحبّ الأموال على أقرب الأقارب أفضل وإن الآية تعم الإنفاق الواجب والمستحب اهـ. (وقد سمعت ما قلت) إن كانت ما مصدرية فلا خلاف، وإن كانت موصولة فالعائد محذوف: أي قلته، ثم أمره أن يخص بها أهله بقوله (وإني أرى) من الرأي في الأمر، والجملة معطوفة على قوله وقد سمعت (أن تجعلها) صدقة (في الأقربين) أي لك (فقال أبو طلحة أفعل) بضم اللام على أن الضمير المستتر فيه لأبي طلحة (يا رسول الله فقسمها أبو طلحة) فيه تعيين أحد الاحتمالين في رواية غيره حيث وقع فيها أفعل فقسمها فإنه احتمل الأول، واحتمل أن يكون أفعل صيغة أمر وفاعل قسمها النبي فانتفى الاحتمال الثاني بهذه الرواية، وذكر الحافظ ابن عبد البرّ أن إسماعيل القاضي رواه من القعنبي عن مالك فقال في روايته: فقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أقاربه وبني عمه» قال وقوله أقاربه: أي أقارب أبي طلحة قال ابن عبد البرّ إضافة القسم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كان شائعاً في «لسان العرب» على معنى أنه الآمر به لكن أكثر الرواة لم يقولوا ذلك، والصواب رواية من قال: فقسمها أبو طلحة (في

أقاربه وبني عمه) من عطف الخاص على العام، وجاء في أحاديث تبيين الأقارب وأوضحها ما في «مراسيل أبي بكر» بن حزم: فرده على أقاربه أُبي بن كعب وحسان بن ثابت وأخيه وابن أخيه شداد بن أوس ونبيط بن جابر فنقاوموه، فباع حسان حصته من معاوية بمائة ألف درهم، وهذا موافق للاحتمال السابق من كون ذلك تمليكاً للأقارب (متفق عليه) رواه البخاري في الزكاة وفي الوصايا وفي الوكالة وفي «التفسير» ، ورواه مسلم في الزكاة، ورواه النسائي في «التفسير» (قوله: رابح) مرويّ (في الصحيحين رابح ورائح بالباء الموحدة والياء المثناة) لفّ ونشر مرتب أو مشوش. قال المصنف: قال القاضي عياض: روايتنا فيه في كتاب مسلم بالموحدة اهـ. وأما البخاري فرواه بالوجهين ثم معناه بالموحدة واضح من الربح: أي ذو ربح. وقيل هو فاعل بمعنى مفعول: أي مربوح فيه، وأما بالتحتية فمعناه رايح عليك أجره وبمعناه قول المصنف (أي رائح عليه) وفي نسخة (عليك نفعه) ولا يخفى ما فيه من إبهام أنه معناه على الوجهين وليس كذلك، وقد عبر به في «شرح مسلم» على الصواب فقال: أما بالموحدة فمعناه ظاهر، وأما بالمثناة فمعناه رايح عليك أجره ونفعه في الآخر اهـ. قال ابن بطال: والمعنى أن مسافته قريبة وذلك أنفس الأموال وقيل معناه يروح بالأجر ويغدو به اهـ. واكتفى بالرواح عن الغدو، وادعى الإسماعيلي أن من رواه بالتحتية فقد صحف اهـ. ملخصاً من «الفتح» ، وقيل إنما عبر به، لأن المراد أنه مال من شأنه الرواح وهو الذهاب والفوات فإذا ذهب في الخير فهو أولى (وبيرحاء حديقة نخل) وليس اسم بئر (وروي بكسر الباء وفتحها) أي مع فتح الراء وضمها والمد والقصر كما تقدم عن الحافظ بما فيه، قال المصنف: في هذا الحديث من الفوائد: أن النفقة على الأقارب أفضل من الأجانب إذا كانوا محتاجين، وفيه أن القرابة يراعى حقها في الصلة وإن لم يجتمعوا إلا في أب بعيد، لأن النبي أمر أبا طلحة أن يجعل ذلك في الأقربين فجعلها في أُبيّ بن كعب وحسان بن ثابت، وإنما يجتمعان في الجد السابع اهـ.

38 ـــ باب وجوب أمره أهله

38 - باب وجوب أمره أهله أي زوجته ومستولدته (وأولاده المميزين) المراد منهم ما يشمل بناته المميزات والتذكير للتغليب وشرف الذكور (وسائر من في رعيته) من العبيد والإماء (بطاعة الله تعالى) أي امتثال أمره ونهيه وهي غير العبادة والقربة، والعبادة: ما تعبد به بشرط النية ومعرفة المعبود، والقربة: ما تقرّب به بشرط معرفة المتقرّب إليه، فالطاعة توجد بدونها في النظر المؤدي إلى معرفةالله، إذ معرفته إنما تحصل بتمام النظر، والقربة توجد بدون العبادة في القرب التي لا تحتاج إلى نية كالعتق والوقف، كذا في الأضواء البهجة (ونهيهم) هو وما بعده من المصادر مضاف لمفعوله: أي نهيه إياهم (عن المخالفة) لأوامر الله تعالى (وتأديبهم) عند فعل ما لا ينبغي فعله مما لا حد فيه ولا تعزير، أما هو فيأتي به ولا تأخذه رأفة في دين الله (ومنعهم من ارتكاب منهي عنه) بالحيلولة بينهم وبينه، وهذا واجب في المنهي عنه المحرم، مندوب في المنهي عنه المكروه، ومثله في ذلك التأديب فينبغي حمل الوجوب في الترجمة على ما يشمل الندب بأن يراد به الحق المتأكد. (قال الله تعالى) : ( {وأمر أهلك بالصلاة} ) قال السيوطي في «الإكليل» فيه: أنه يجب على الإنسان أمر أهله من زوجة وعبد وأمة وسائر عياله بالتقوى والطاعة خصوصاً الصلاة. أخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا استيقظ من الليل أقام أهله للصلاة وتلا هذه الآية اهـ. (وقال تعالى) : ( {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم} ) بترك المعاصي وفعل الطاعات ( {وأهليكم} ) بالنصح والتأديب، وقرىء «وأهلكم» عطفاً على واو قوا، فتكون أنفسكم أنفس القبيلين على تغليب المخاطبين (ناراً) التنوين فيها للتعظيم، وبين عظمها بما وصفها به من قوله «وقودها الناس والحجارة» .

2981 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذ الحسن بن علي) بن أبي طالب (رضي الله عنهما تمرة من تمر الصدقة) وفي رواية معمر عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال: «كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقسم تمراً من تمر الصدقة والحسن في حجره» أخرجه أحمد (فجعلها في فيه) زاد أبو مسلم الكجي عن محمد بن زياد فلم يفطن له النبي حتى قام ولعابه يسيل، فضرب النبي شدقه، وفي رواية معمر «فلما فرغ حمله على عاتقه فسال لعابه، فرفع رأسه فإذا تمرة في فيه» (فقال رسول الله) زجراً له ليطرحها (كخ كخ) سيأتي ضبطها ومعناه (ارم بها) هذه من زيادة مسلم على البخاري، وفي رواية حماد بن سلمة عن محمد بن زياد عن أحمد «فنظر إليه فإذا هو يلوك تمرة، فحرك خده وقال: ألقها يا بنيّ ألقها يا بنيّ» ويجمع بين هذين وبين قوله كخ كخ بأنه كلمه أولاً بهما، فلما تمادى قال: له كخ كخ إشارة إلى استقذاره ذلك، ويحتمل العكس بأن يكون أعلمه بذلك فلما تمادى نزعها من فيه (أما علمت) هذا لفظ مسلم، وفي رواية للبخاري «أما شعرت» وفي أخرى له في الجهاد «أما تعرف» (أنا لا نأكل الصدقة) قال المصنف: هذه اللفظة تقال في الشيء الواضح التحريم وإن لم يكن المخاطب عالماً بذلك، وتقديره، عجب كيف خفي عليك هذا مع ظهور تحريمه، وهذا أبلغ في الزجر من قوله لا تفعل (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة وفي الجهاد، ومسلم في الزكاة والنسائي في السير. (وفي رواية) هي لمسلم كما في «الفتح» (إنا لا تحلّ لنا الصدقة) قال في رواية معمر «إن الصدقة لا تحلّ لآل محمد» وكذا عند أحمد والطحاوي من حديث الحسن بن علي نفسه قال «كنت مع النبي، فمرّ على جرين من تمر الصدقة» وإسناده قوي. وللطبراني والطحاوي من حديث ابن أبي ليلى نحوه (وقوله) في الحديث (كخ كخ يقال بإسكان الخاء) المعجمة مثقلة ومخففة (ويقال بكسرها) منونة وغير منونة وهي بفتح الكاف في الجميع وكسرها قال الحافظ: فيخرج من ذلك ستّ لغات، قلت بل ثمان (وهي كلمة زجر للصبيّ عن المستقذرات) قيل هي من أسماء الأصوات، وقيل من أسماء الأفعال، وأشار البخاري في

باب من تكلم بالفارسية إلى أنها عجمية معربة، والثانية تأكيد للأولى (وكان الحسن رضي الله عنه صبياً) لأنه ولد بعد الهجرة بسنة. 2992 - (وعن أبي حفص) بفتح الحاء المهملة وسكون الفاء هو الأسد وهي كنية (عمر بن أبي سلمة) واسم أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي الصحابي بن الصحابيين (ربيب رسول الله) أي ولد زوجته أم سلمة، ولدته بالحبشة وأبواه مهاجران إليها في آخر السنة الثانية من هجرة رسول الله، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنا عشر حديثاً، روى البخاري ومسلم منها حديثين، روى عنه ابن المسيب وعروة ووهب بن كيسان وغيرهم، توفي سنة ثلاث وثمانين، وقد ذكرت زيادة في ترجمته في كتاب «إتحاف السائل بمعرفة رجال الشمال» (قال: كنت غلاماً في حجر رسول الله) بفتح المهملة: أي كنفه وحمايته، أو المراد به الحضن: وهو ما بين الإبط إلى الكشح فيكون كقوله تعالى: {وربائبكم اللاتي في حجوركم} (النساء: 23) (وكانت يدي تطيش في) نواحي (الصحة) قال في «المصباح» هي إناء كالقصعة والجمع صحاف مثل كلبة وكلاب، قال الزمخشري: الصحفة قصعة مستطيلة (فقال لي رسول الله) معلماً ومؤدباً (يا غلام) بضم الميم (سم ا) أمر ندب اتفاقاً (وكل بيمينك) ذهب الجمهور إلى أنه للندب أيضاً، وذهب بعضهم إلى وجوبه ويؤيده ما تقدم في باب الأمر بالمحافظة على السنة «من أن رجلاف أكل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشماله فقال: كُل بيمينك، قال: لا أستطيع، فقال: لا استطعت فما رفعها إلى فيه بعد» وفي الطبراني «أنه رأى سبيعة الأسلمية تأكل بشمالها، فدعا عليها فأصابها طاعون فماتت» فحمله الجمهور على الزجر والسياسة (وكل مما يليك)

أي ندباً على الأصح وقيل وجوباً لما فيه من إلحاق الضرر بالغير ومزيد الشره، قال ابن حجر الهيثمي: وانتصر له السبكي ونص عليه الشافعي في «الرسالة «ومواضع من» الأم» ، وفي «مختصر البويطي» يحرم الأكل من رأس الثريد والأصح الكراهة، ومحل ذلك ما إذا لم يعلم رضا من يأكل معه وإلا فلا حرمة ولا كراهة، لما ورد عن أنس من تتبعه للدباء من حوالي القصعة وقول البعض إنه أكل وحده مردود بأن أنساً أكل معه (فـ) ـتسبب عن ذلك أنها (ما زالت تلك طعمتي) بكسر الطعاء المهملة لبيان الهيئة أي صفة أكلي (بعد) بضم الدال أي بعد ذلك الأمر (متفق عليه) رواه البخاري ومسلم في الأطعمة، والنسائي في المحاربة واليوم والليلة، وابن ماجه في الأطعمة وقوله: «سمّ الله وكل مما يليك» رواه أبو داود في الوليمة (وتطيش تدور في نواحي الصحفة) .c 3300 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها) ذكراً كان أو أنثى، رقيقاً أو حراً، متبرعاً أو مستأجراً (والخادم راع في مال سيده) فيحفظه عن أسباب التلف ولا يخون فيه (ومسؤول عن رعيته، كلكم راع ومسؤول عن رعيته. متفق عليه) وتقدم الكلام عليه في باب حق الزوج على امرأته. وفي «المغني» لابن هشام: إذا أضيفت كل إلى المعرفة قالوا: يجوز مراعاة لفظها ومراعاة معناها نحو: كلهم قائم أو قائمون، وقد اجتمعا في قوله تعالى: {إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً لقد أحصاهم وعدهم عداً وكلهم آتيه

يوم القيامة فرداً} (مريم: 93 - 95) والصواب أن الضمير لا يعود إليها من خبرها إلا مفرداً مذكراً على لفظها نحو: «وكلهم آتيه» وقوله: «كلكم راع» اهـ. 4301 - (وعن عمرو بن شعيب) بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص. صدوق من صغار التابعين، مات سنة ثماني عشرة ومائة. خرّج عنه البخاري في القدر وأصحاب السنن الأربعة (عن أبيه) شعيب، وهو صدوق ثبت سماعه من جده من كبار التابعين. خرّج عنه من ذكر (عن جده) أي جد الأب وهو عبد الله بن عمرو (رضي الله عنه) قال السيوطي: في حواشي سنن أبي داود: قال الدارقطني: سمعت أبا بكر النقاش يقول: عمرو بن شعيب ليس من التابعين، وقد روى عنه عشرون من التابعين، قال الدارقطني: فتبعتهم فوجدتهم أكثر من عشرين. قال ابن الصلاح: قرأت بخط الحافظ أبي موسى الطيبي في تخريج له قال: عمرو بن شعيب ليس بتابعي، وقد روى عنه نيف وسبعون رجلاً من التابعين، وهذا وهم فإنه روى عن صحابيتين هما الربيَّع بنت معوّذ بن عفراء، وزينب بنت أبي سلمة ربيبة النبي فهو تابعي. وقد اختلف الحفاظ في الاحتجاج بنسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، والراجح الاحتجاج بها مطلقاً، والضمير في جده لشعيب لا لعمرو، ومحمد المذكور في النسب لا مدخل له في هذا الإسناد إلا في حديث واحد لا ثاني له هو ما أخرجه ابن حبان في «صحيحه» من حديث ابن الهاد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن محمد بن عبد الله عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً: «ألا أحدثكم بأحبكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة» الحديث اهـ. (قال: قال رسول الله: مروا أولادكم) وجوباً وسواء في ذلك الذكر والأنثى، وكذا يجب عليه أمر زوجته وخادمه (بالصلاة) أي وبما تتوقف عليه لأن الأمر بالشيء أمر بما لا يتم بدونه (وهم أبناء سبع) أي تمامها: أي وقد ميزوا، كما والغالب بحيث صار الصبيّ يأكل وحده ويشرب وحده ويستنجي وحده (واضربوهم عليها) أي على أدائها إن امتنعوا منه ضرباً غير مبرّح ويتقّي الوجه (وهم أبناء عشر) وقد اختلف هل ذلك بعد تمامها أو بالدخول فيها، وإنما أمر بالضرب فيها لأنه حدّ يحتمل فيه الضرب غالباً (وفرقوا بينهم في المضاجع) فلا يباشر المميز غيره في المضاجع، قال ابن

عبد السلام: الصبيّ ليس مخباطاً، وأما هذا الخبر فهو أمر للأولياء، لأن الأمر بالأمر بالشيء ليس أمراً بذلك الشيء قال: وقد وجد أمر الله للصبيان مباشرة على وجه لا يمكن الطعن فيه وهو قوله تعالى: {ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم} (النور: 58) اهـ. وآخر الحديث «وإذا زوّج أحدكم خادمه، عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرّة وفوق الركبة» (حديث حسن رواه أبو داود بإسناد حسن) ورواه الإمام أحمد والحاكم في «المستدرك» . 5302 - (وعن أبي ثرية) بضم المثلثة وفتح الراء وبتشديد التحتية ويقال بفتح المثلثة وكسر الراء والأول أكثر. وقال في «أُسد الغابة» : والأول أصح. وقال المصنف في «التهذيب» ، حكى ابن الأثير فتح الثاء وهو غريب، كنية (سبرة) بفتح المهملة الأولى وسكون الموحدة (ابن معبد) بفتح الميم الموحدة وسكون المهملة بينهما. قال في «أسد الغابة» : يقال سبرة بن معبد ويقال سبرة بن عوسجة بن سبرة بن خديج بن مالك بن عمرو بن ذهل بن ثعلبة بن نضر بن سعد بن دينار بن رشدان بن قيس بن جهينة (الجهني رضي الله عنه) ويكنى بأبي الربيع أيضاً روى عنه الربيع في المتعة. قال المصنف في «التهذيب» : يكنى بأبي ثرية على المشهور، وقيل كنيته أبو الربيع حكاه الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في «الأطراف» ، كان له دار بالمدينة، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسعة عشر حديثاً، روى مسلم منها حديثاً واحداً، توفي في خلافة معاوية (رضي الله عنهما) . (قال: قال رسول الله: علموا الصبي) المراد به ما يشمل الصبية لأنه فعيل بمعنى فاعل، وفعيل إذا كان كذلك يستوي فيها المذكر والمؤنث (الصلاة لسبع سنين، واضربوه عليها) حال كونه (ابن عشر سنين) فهو حال من ضمير المفعول، ويجب على الوليّ إذا ميز الصبيّ أن يعلمه ما يجب اعتقاده مما يجب ويجوز ويستحيل في حق الله تعالى وحق رسوله وحق سائر الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأن شرائعهم نسخت كلها بشريعة نبينا التي لا تنسخ أبداً، وأنه محمد بن عبد الله النبي

39 ـــ باب حق الجار

الرسول العربي، ولد بمكة ومات بالمدينة، ويعلمه أحكام الشرائع ليرسخ ذلك عنده، فالعلم في الصغر كالنقش في الحجر (رواه) أي هذا الخبر لا بخصوص هذا اللفظ لما يأتي من قوله: ولفظ أبي داود إلخ (أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن) كان الأولى تقديم ذكر الترمذي لأنه راوي اللفظ، وكأنه قدم أبا داود لعلوّ رتبة مرويه على مروي من بعده، ويعود الضمير من قوله: «وقال» إلى أقرب مذكور (ولفظ أبي داود: مروا الصبيّ بالصلاة إذا بلغ سبع سنين) ليتمرّن عليها ويعتادها فلا يتركها إذا بلغ إن شاء الله تعالى. 39 - باب حق الجار أي ما يستحقه (والوصية) من الشارع (به) وفي ذلك حصول الألف والتوادّ الذي به نظام المعاش والمعاد. وفي «المصباح» : الجار: المجاور في السكن والجمع جيران، وجاوره مجاورة وجواراً من باب قاتل والاسم الجوار بالضم: إذا لاصقه في السكن، وحكى ثعلب عن ابن الأعرابي الجار هو الذي يجاورك ببيت اهـ. وأما الجار شرعاً ففي الوصايا: لو أوصى لجيرانه دفع لأربعين داراً من كل جانب من الجوانب الأربعة. (قال الله تعالى) : ( {واعبدوا ا} ) أي وحدوه ( {ولا تشركوا بي شيئاً} ) صنماً أو غيره أو شيئاً من الشرك جلياً أو خفياً ( {وبالوالدين إحساناً} ) أي وأحسنوا بهما إحساناً ( {وبذي القربى} ) أي وبصاحب القرابة ( {واليتامى والمساكين} ) تقدم تعريفهما في باب ملاطفة اليتيم والمساكين ( {والجار ذي القربى} ) الذي قرب جواره، وقيل الذي له مع الجوار قرب واتصال بنسب أو

دين، وقرىء بالنصب على الاختصاص تعظيماً لحفظه ( {والجار الجنب} ) البعيد أو الذي لا قرابة له. وعنه عليه الصلاة والسلام: «الجيران ثلاثة، فجار له ثلاث حقوق: حق الجوار وحق القرابة، وحتى الإسلام. وجار له حقان: حق الجوار وحق الإسلام، وجار له حق الجوار وهو المشرك من أهل الكتاب» ( {والصاحب بالجنب} ) الرفيق في أمر حسن كتعلم وتصرف وصناعة وسفر فإنه صحبك وحصل بجنبك، وقيل المرأة ( {وابن السبيل} ) المسافر والضيف ( {وما ملكت أيمانكم} ) من العبيد والإماء. 1303 - (وعن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما زال جبريل) عليه السلام تقدم في باب المراقبة أنه اسم سرياني. قيل: معناه عبد الرحمن، وقيل: معناه عبد الله (يوصيني بالجار) أي بالاعتناء به والاحتفال بشأنه (حتى) من شدة ذلك (ظننت أنه سيورثه) فيكون سبب الإرث الجوار، كما كان سببه أول الإسلام التحالف والتعاهد حتى نسخ بآية المواريث (متفق عليه) واللفظ للبخاري ولفظ مسلم «ليورثنه» بالمضارع المؤكد بالنون. 2304 - (وعن أبي ذرّ) جندب بن جنادة وتقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب المراقبة (قال: قال رسول الله: يا أبا ذرّ) يكتب بحذف ألف أبا الأولى تخفيفاً وينطق بها، كذا قيل، والظاهر بحذف ألف حرف النداء لأن ألفه تحذف في رسم الإمام وكذا هنا إلحاقاً به (إذا

طبخت مرقة) هو الماء الذي طبخ فيه اللحم ونحوه، وتوضحها رواية ابن أبي شيبة الآتية، ولفظ المرقة هنا مجاز مرسل علاقته الأول فهو نظير قوله تعالى: {إني أراني أعصر خمراً} (يوسف: 36) (فأكثر ماءها) ليكثر الائتدام بها، فإن المراد بها إساغة الخبز وتليينه، وذلك يستوي فيه ضيق المرقة وواسعها (وتعاهد) ندباً (جيرانك) أي بالإحسان إليهم وفعل البرّ معهم، وفي التعبير بالتعاهد الموضوع للمشاركة في الفعل: أي: إلى طلب ذلك من كل الجيران مع الباقين (رواه مسلم) وعند ابن أبي شيبة من حديث جابر مرفوعاً «إذا طبختم اللحم فأكثروا المرق/ فإنه أوسع وأبلغ بالجيران» . ففي الحديث الحض على مكارم الأخلاق والإرشاد لمحاسنها لما يترتب عليه من المحبة والألفة ولما يحصل به من المنفعة ودفع الحاجة والمفسدة فقد يتأذى الجار بقتار قدر جاره وعياله وصغار ولده ولا يقدر على التوصل لذلك، فتهيج من صغارهم الشهوة ويقوم على القائم بهم الألم والكلفة، وربما كان يتيماً أو أرملة فتكون المشقة أعظم وتشتد منهم الحسرة والألم، وكل ذلك ليندفع بتشريكهم في شيء من الطبخ فلا أقبح من منع هذا اليسير المترتب عليه هذا الضرر الكبير. (وفي رواية له) أي لمسلم (عن أبي ذر قال: إن خليلي) لا ينافيه حديث: «لو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر» لأن الذي لم يكن اتخاذ النبي غير ربه خليلاً، أما اتخاذ غيره إياه خليلاً فلا، ومثله حديث أبي هريرة «أوصاني خليلي بثلاث: أن لا أنام قبل أن أوتر» الحديث (أوصاني إذا طبخت مرقاً) أي ذا مرق من لحم وغيره (فأكثر ماءه ثم انظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم منها) أي المرقة المدول عليها بالمرق (بمعروف) الباء صلة الفعل قبله، وجملة إذا طبخت تحتمل أن تكون مفسرة لقوله أوصاني خليلي، وأن تكون مستأنفة استئنافاً بيانياً، كأنه قيل: ما قال لك إذا أوصاك، فقال: قال إذا طبخت إلخ. وفي قوله بمعروف إيماء إلى أنه ينبغي أن يكون المرسل به إلى الجيران شيئاً به نفع في الائتدام، فإن لم يتيسر إلا القليل فليهده ولا يحتقره ففي الحديث «لا تحقرن من

المعروف شيئاً» ويكون المهدى إليه مأموراً بقبوله ذلك والمكافأة عليه ولو بالشكر، فإنه وإن كان قليلاً دليل على تعلق قلب المهدي بجاره. 3305 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه) كذا في نسختين من الرياض، والذي في باب «إثم من لاتأمن جيرانه بوائقه» من «صحيح البخاري» أن الحديث عن أبي شريح (أن النبي قال: وا لا يؤمن، وا لا يؤمن، وا لا يؤمن) فيه الحلف من غير استحلاف وتكراره لتأكيد الأمر وهو لذلك مستحبّ والمراد من الإيمان المنفي الإيمان الكامل لا أصله المخرج من النار المدخل في الجنة فذلك لا يزول بهذا (قيل: من يا رسول الله؟) هذا الذي نفى عنه الإيمان مراراً (قال) هو (الذي لا يأمن جاره بوائقه) فالموصول خبر لمبتدأ محذوف (متفق عليه) الخبر أخرجه البخاري، في الأدب واللفظ له لكن من حديث أبي سريج كما تقدم. (وفي رواية لمسلم) من حديث أبي هريرة رواها عنه في كتاب الإيمان قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يدخل الجنة) أي مع الناجين، قال المصنف: ومعناه: هذا جزاؤه ثم قد يجازى بذلك وقد يعفو عنه فيدخلها ابتداء، أو مطلقاً إن استحل أذاه بما علم تحريمه بالضرورة (من لا يأمن جاره) وفي نسخة «ولا يؤمن جاره» (بوائقه. البوائق: الغوائل) بالغين المعجمة (والشرور) واحدها بائقة قال في «شرح مسلم» وهو الغائلة والداهية. 4306 - (وعنه) أي عن أبي هريرة رضي الله عنه: (قال: قال رسول الله: يا نساء المسلمات) من إضافة الموصوف إلى صفته وهو مؤول عند البصريين: أي يا نساء الجماعة المسلمات (لا تحقرنّ جارة) معروفاً (لجارتها ولو فرسن شاة. متفق عليه) وتقدم الكلام عليه في

باب بيان كثرة طرق الخير. 5307 - (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يمنع) بالجزم على أنها ناهية، ولبعض رواة البخاري بالرفع: نفي بمعنى النهي (جار جاره) من (أن يغرز خشبة في جداره) أي لا يمنعه من ذلك في ملكه وإن تضررّ هو بذلك كأن يحدث له بها ظلام في محله ونحو ذلك، فإن المالك له أن يفعل في ملكه ما يشاء وإن آذى الجار والمار، والأكثر على أن الضمير في جداره يرجع إلى المانع: أي لا يمنعه من غرزه في جدار نفسه، لأن ذلك مما يتسامح به ويتساهل فيه، هو القول القديم للشافعي في جمع من الأئمة (ثم يقول أبو هريرة) بعد روايته الحديث (مالي) مبتدأ والظرف خبر (أراكم) جملة حالية من الضمير (عنها) أي عن السنة، أو الخصلة أو المقالة (معرضين) إن كانت أرى علمية فهو مفعول ثان وإن كانت بصرية فحال، والظرف متعلق به قدم عليه اهتماماً به واختصاصاً (وا لأرمين بها) أي بهذه السنة (بين أكتافكم) بالفوقية جمع كتف: أي بينكم، قال القاضي عياض وقد رواه بعض رواة الموطأ أكنافكم بالنون، ومعناه أيضاً بينكم، والكنف: الجانب، ومعنى الأول، أني أصرح بها بينكم وأوجعكم بالتقريع بها كما يضرب الإنسان بالشيء بين كتفيه (متفق عليه) . (روى خشبه بالإضافة) إلى هاء الضمير (والجمع) لخشبه بحذف هاء الوحدة (وروي خشبة بالتنوين) مع هاء الواحدة (على الإفراد) قال الحافظ في «الفتح» : قال ابن عبد البرّ: روي اللفظان في الموطأ والمعنى واحدة، لأن المراد الجنس وهذا متعين للجمع، وإلا فالمعنى قد يختلف باعتبار أن أمر الخشبة الواحدة أخفّ في مسامحة الجار بخلاف الخشب الكثير اهـ. قال القاضي: روينا قوله خشبة في «صحيح مسلم» وغير من الأصول بالإفراد والجمع، قال: وقال الطحاوي عن روح بن الفرج: سألت أبا زيد والحارث بن مسكين ويونس بن عبد الأعلى عنه فقالوا كلهم خشبة بالتنوين على الإفراد. وقال عبد الغني بن سعيد: كل يقوله بالجمع إلا الطحاوي. وفي «فتح الباري» وما ذكرته من اختلاف رواة الصحيح يردّ على عبد الغني، إلا أن المراد خاصاً من الناس كالذين روى عنه الطحاوي اهـ. (وقوله ما لي أراكم عنها معرضين: يعني عن هذه السنة) قال المصنف في شرح مسلم: جاء

في رواية أبي داود: «فنكسوا رؤوسهم، فقال ما لي أراكم أعرضتم» واختلف العلماء في معنى هذا الحديث، هل هو على الندب إلى تمكين الجار من وضع الخشب على جدار جاره أم على الإيجاب؟ وفيه قولان للشافعي ولأصحاب مالك، أصحهما في المذهبين الندب، وبه قال أبو حنيفة والكوفيون، والثاني الإيجاب وبه قال أحمد وأبو ثور وأصحاب الحديث وهو ظاهر الحديث، ومن قال بالندب قال، ظاهر الحديث أنهم توقفوا عن العمل فقال: ما لي أراكم عنها معرضين، وهذا يدل على أنهم فهموا منه الندب لا الإيجاب، وإلا لما أطبقوا على الإعراض عنه اهـ. 6308 - (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من كان يؤمن) إيماناً كاملاً (با واليوم الآخر) هو يوم القيامة الذي هو محل الجزاء على الأعمال حسنها وقبيحها، وسمي باليوم الآخر لأنه لا يوم بعده، وذكره هنا دون نحو الملائكة مما ذكر معه في حديث جبريل تنبيه وإرشاد لما أشرنا إليه مما يوقظ النفس ويحركها في الهمة للمبادرة إلى امتثال جزاء هذا الشرط وما هو مثله (فلا يؤذي جاره) كذا هو بإثبات الباء وهو محمول على أن لا نافية والمبتدأ مقدر قبله، والأصل فهو لا يؤذي جاره: أي هذا شأنه، ويجوز أن تكون ناهية وتكون الياء فيه للإشباع، وإيذاء الجار حرام (ومن كان يؤمن با واليوم الآخر) إيماناً كاملاً (فليكرم ضيفه) الغني والفقير بحسن البشر والمبادرة بما تيسر عنده من الطعام من غير كلفة ولا إضرار بأهله إلا أن يرضوا وهم بالغون عاقلون، وعليه يحمل ما ورد من الثناء على الأنصاري وامرأته في إيثارهما الضيف على أنفسهما. والضيف لغة يشمل الواحد والجمع من أضفته وضيفته: إذا أنزلته بك ضيفاً، وضفته وتضيفته: إذا نزلت عليه ضيفاً (ومن كان يؤمن با واليوم الآخر فليقل) اللام فيه وفي فليكرم للأمر ويجوز سكونها وكسرها حيث دخلت عليها الفاء والواو وثم بخلافها في ليسكت فإنها مسكورة لا غير (خيراً) قال الشافعي:

لكن بعد أن يتفكر فيما يريد أن يتكلم به، فإذا ظهر له أنه خيرمحقق لا يترتب عليه مفسدة ولا يجرّ إلى كلام محرم أو مكروه أتى به (أو ليسكت) فليطلب الصمت حتى عن المباح لأنه ربما أدى إلى محرم أو مكروه، وبفرض أنه لا يؤدي إليهما ففيه ضياع الوقت فيما لا يعني، وقد ورد «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» (متفق عليه) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، وهو من القواعد العظيمة لأنه بين فيه جميع أحكام اللسان الذي هو أكثر الجوارح فعلاً، وبهذا الاعتبار يصح أن يقال فيه إنه ثلث الإسلام. وقال بعضهم: جميع آداب الخير تتفرّع منه، ويشار فيه إلى سائر خصال البرّ والصلة والإحسان لأن آكدها رعاية حق الجوار، وبهذا الاعتبار يصح أن يقال فيه إنه نصف الإسلام، لأن الأحكام إما أن تتعلق بالحق أو بالخلق، وهذا أفاده الثاني لأن وصلة الخلق تستلزم رعاية جميع حقوقهم. 7309 - (وعن أبي شريح) بضم الشين المعجمة وفتح الراء آخره مهملة قبلها تحتية ساكنة (الخزاعي) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب ملاطفة اليتيم (أن النبي قال: من كان يؤمن با واليوم الآخر فليحسن إلى جاره) ذكر حديث أبي هريرة قبل هذا، لأن ما في ذلك من باب الدرء والتخلية، وما في هذا من باب جلب النفع والتحلية، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وأشار المصنف بالجمع بينهما إلى أن كمال الإيمان لا يحصل إلا بالجمع بين الأمرين، فيكفّ عنه أذاه ويحسن إليه بما تصل إليه قدرته (من كان يؤمن با واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن با واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت) ولعل حكمة الفصل بين الجمل في هذه الرواية الإيماء إلى أن مضمون كل منها مطلوب لذاته من غير اعتبار انضمام غيره إليه وإن كان أفضل، ولذلك وصل بينهما في الروايات الأخر (رواه مسلم) في كتاب الإيمان من «صحيحه» (بهذا اللفظ) ورواه أحمد والترمذي. (وروى

البخاري بعضه) قلت: بل جميعه إلا أن في اللفظ اختلافاً يسيراً فقال في كتاب الأدب من الصحيح في باب «من كان يؤمن با واليوم الآخر فلا يؤذ جاره» عن أبي شريح العدوي قال: سمعت أذناي وأبصرت عيناي حين تكلم النبي «من كان يؤمن با واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن با واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته، ثم فسر الجائزة ومن كان يؤمن با واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» . 8310 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله إن لي جارين) أي وقد أمرت بإكرام الجار مطلقاً ولا أقدر على الإهداء إليهما معاً (فإلى أيهما أهدي) ليحصل لي بالدخول في جملة القائمين بإكرام الجار (قال: إلى أقربهما منك باباً) لأنه المراد بالجار ذي القربى على أحد الأقوال، وقد قدم في الذكر على الجار الجنب اهتماماً به واعتناء بشأنه، ففيه إيماء إلى تقديمه عند المضايقة وباباً منصوب على التمييز (رواه البخاري) . 9311 - (وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: خير الأصحاب عند ا) أي أكثرهم عنده ثواباً أو أكرمهم عنده منزلة قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (الحجرات: 13) (خيرهم لصاحبه) في القيام بما ينفعه والدفع لما يؤذيه (وخير الجيران) ثواب أو منزلة (عند الله خيرهم لجاره، رواه الترمذي وقال حديث حسن) ورواه أحمد والحاكم

40 ـــ باب بر الوالدين وصلة الأرحام

وورد ما يعم ذلك في حديث: «الخلق عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعباده» . 40 - باب بر الوالدين وصلة الأرحام أي بيان ما ورد فيهما ويحصل به ذلك. (قال الله تعالى) : ( {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً} ) لا صنماً ولا غيره أو شيئاً من الشرك جلياً كان أو خفياً، فهو على الأول مفعول به، وعلى الثاني مفعول مطلق ( {وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم} ) تقدم الكلام على الآية في الباب قبله. (وقال تعالى) : ( {واتقوا ا} ) بامتثال أوامره واجتناب منهياته: أي اجعلوا ذلك وقاية لكم من عذابه ( {الذي تساءلون به} ) بإدغام إحدى التاءين في السين وقرىء بالتخفيف على حذف إحداهما أي الذي يسأل بعضكم به بعضا فيقول أحدكم أسألك با ( {والأرحام} ) أي واتقوا الأرحام، وقرأ حمزة {والأرحام} بالخفض عطفا على الضمير لقولهم أسألك با وبالرحم، قاله مجاهد، قال ابن عطية: وهذه القراءة عند نحاة البصرة لا تجوز، لأنه لا يجوز عندهم العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض إلا في ضرورة كقوله: فاذهب فما بك والأيام من عجب لأن الضمير المخفوض لا ينفصل، فهو كحرف من الكلمة، ولا يعطف على حرف، واستشكل بعض النحاة هذه القراءة اهـ. قال السفاقسي: الصحيح جواز العطف على الضمير من غير إعادة الجار كمذهب الكوفيين، ولا ترد القراءة متواترة لمذهب البصريين، قال الثعالبي: وهو حسن، والرازي نحوه. قلت: القراءة ثابتة ومقبولة على المذهبين، لكنها على قول البصريين محمولة على أن الواو للقسم والأرحام مقسم به، وتعالى أن

يقسم بما شاء، والله أعلم. (وقال تعالى) : ( {والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل} ) قال ابن عباس: يريد الإيمان بجميع الكتب والرسل يعني يصلون بينهم بالإيمان بهم ولا يفرّقون بين أحد منهم، والأكثرون على أن المراد به صلة الرحم (الآية) بالنصب على تقدير أتم الآية، أو بالرفع على تقدير الآية معلومة، وتمامها {ويخشون ربهم} (الرعد: 21) أي إنهم مع وفائهم بعهد الله وميثاقه والقيام بما أمر الله به من صلة الرحم يخشون ربهم، والخشية خوف يشوبه تعظيم، وإنما يكون ذلك على علم ما يخشى به منه: {ويخافون سوء الحساب} (الرعد: 21) قال إبراهيم النخعي: هو أن يحاسب الرجل بذنبه كله لا يغفر له منه شيء. (وقال تعالى) : ( {ووصينا الإنسان بوالديه حسناً} ) أي براً وعطفاً، والمعنى: ووصينا الإنسان أن يحسن بوالديه إحساناً، وهذه الآية هي التي في العنكبوت ونزلت في سعد بن أبي وقاص وأمه حمنة بنت أبي سفيان لما أسلم وكان بارّاً بأمه، فقالت أمه: ما هذا الدين وا لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت، فمكثت كذلك أياماً فجاءها سعد فقال: يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني، فكلي إن شئت أو اتركي فلما أيست منه أكلت وشربت، فأنزل اهذه الآية، وأمر بالبرّ بوالديه والإحسان إليهما وأن لا يطيعهما في الشرك. (وقال تعالى) : ( {وقضى ربك} ) أي أمر قاله ابن عباس. وقيل: معناه أوجب. وحكى عن الضحاك: أنه قرأ ووصى ربك وقال: إنهم ألصقوا الواو بالصاد فصارت قافاً، وهي قراءة علي وابن مسعود. قال الإمام فخر الدين الرازي: هذا القول بعيد جداً، لأنه يفتح بابي التغيير والتحريف في القرآن، ولو جوّزنا ذلك لارتفع الأمان عن القرآن، وذلك يخرجه عن كونه حجة، ولا شك أنه طعن عظيم في الدين ( {ألا تعبدوا إلا إياه} ) فيه وجوب عبادته والمنع من عبادة غيره، إذ هي نهاية التعظيم، ولا تليق إلا بالمنعم المتفضل، وليس ذلك لسواه (و) أن تحسنوا أو تفعلوا ( {بالوالدين إحساناً} ) أي برّا

بهما وعطفاً عليهما وإحساناً إليهما ( {إما} ) هما إن الشرطية وما الزائدة للتأكيد، ولذا أكد الفعل في قوله: ( {يبلغن عندك الكبر} ) مفعول مقدم ( {أحدهما} ) فاعل ( {أو كلاهما} ) معناه أن يبلغ الكبر أحدهما أو كلاهما عندك فيصير في الضعف والعجز كما كنت أنت عندهما كذلك أولاً ( {فلا تقل لهما أفّ} ) وهي كلمة تضجر وكراهة، وقيل أصل هذه الكلمة أنه إذا سقط عليك شيء من تراب أو رماد نفخته لتنزيله بقول أفّ، ثم توسعوا بذكر هذه الكلمة عند كل مكروه يصل الإنسان. وفي الآية تحريم إيذائهما بالقياس الأولوي، وفي أفّ أربعون لغة ذكرها في الارتشاف، وحاصلها أن الهمزة إما أن تكون مضمومة أو مكسورة أو مفتوحة، فإن كانت مضمومة فاثنتان وعشرون لغة، وحاصل ضبطها أنها إما مجردة عن اللواحق أو ملحقة بزوائد، والمجردة إما أن يكون آخرها ساكناً أو متحركاً والمتحرك الآخر إما مشددة أو مخففة وكل منهما مثلث الآخر مع التنوين، وعدمه فهذه اثنا عشرة لغة في المتحركة والساكنة إما مشددة أو مخففة فهذه أربع عشرة واللاحق لها من الزوائد إما هاء السكت أو حرف المد، فإن كان هاء السكت فالفاء مثلثة مشددة فهذه سبع عشرة لغة، وإن كان حرف مد فهو إما واو أو ألف أو ياء والفاء فيهن مشددة، والألف إما مفخمة أو بالإمالة المحضة أو بين بين، فهذه خمس أخرى مع السبع عشرة، وإن كانت مكسورة فإحدى عشرة مثلثة الفاء مخففة مع التنوين وعدمه، فهذه ست، وفتح الفاء وكسرها بالتشديد فيهما مع التنوين وعدمه فهذه أربع لغات، والحادية عشرة، أوفي بالإمالة، وإن كانت مفتوحة فالفاء مشددة مع الفتح والكسر والتنوين وعدمه، والخامسة أفّ بالسكون، والسادسة أفي بالإمالة، والسابعة أفاه بهاء السكت، فهذه السبعة مكملة للأربعين. نقله الأزهري في «شرح التوضيح» ، قال الحافظ في «فتح الباري» : وإن استعمل القياس فيها بلغت السبعين لغة ( {ولا تنهرهما} ) أي تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك، يقال: نهره وانتهره بمعنى، ووجه الجمع بينه وبين ما قبله مع أنه يدل على هذا أن ذاك للمنع من إظهار الضجر القليل والكثير، وهذا للمنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الرد ( {وقل لهما قولاً كريماً} ) أي حسناً جميلاً ليناً كما يقتضيه حسن الأدب معهما، وقيل هو قول يا أباه، يا أماه ولا يسميهما باسمهما ولا بكناهما، وقيل هو أن يقول لهما كقول العبد الذليل للسيد الفظ الغليظ ( {واخفض لهما جناج الذلّ} ) أي ألن لهما جناحك واخفضه لهما حتى لا تمتنع من شيء أحباه ( {من الرحمة} ) أي

الشفقة عليهما لكبرهما وافتقارهما إليك الآن كما كنت مفتقراً إليهما قبل (وقل ربّ ارحمهما كما ربياني صغيراً) أي وادع الله أن يرحمهما رحمته الباقية، وأراد إذا كانا مسلمين أما الكافران فالدعاء منسوخ في حقهما، قال تعالى: {ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين} (التوبة: 113) الآية. وقيل يدعو لهما بالهداية للإسلام فإذا هديا إليه رحما. (وقال تعالى) : ( {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن} ) أي شدة على شدة، وقيل إن المرأة إذا حملت توالى عليها الضعف والمشقة، وذلك أن الحمل ضعف والطلق ضعف والوضع ضعف ( {وفصاله} ) أي فطامه ( {في عامين} ) أي سنتين ( {أن اشكر لي ولوالديك} ) قال ابن عيينة في هذه الآية: من صلى الصوات الخمس فقد شكرالله، ومن دعا للوالدين في أدبار الصلوات فقد شكر لهما. 1312 - (وعن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود) بن غافل الهذلي (رضي الله عنه قال: سألت النبي أي العمل أحب إلى ا) أي أكثر تقرّباً إليه لكونه أفضل، وفي رواية مالك بن مغول «أيّ العمل أفضل» وكذا لأكثر الرواة، فإن كان هذا اللفظ هو المسؤول به فلفظ حديث الباب ملزوم عنه، وتقدم الجواب عن نحو هذا الحديث مما اختلفت فيه الأجوبة بأنه أفضل الأعمال بأنه ذلك باختلاف أحوال السائلين، بأن أعلم كلاماً هو إليه أحوج أو هو به أليق أو باختلاف الأوقات أو أنه على تقدير من التبعيضية (قال: الصلاة على وقتها) وفي رواية لهما «لوقتها» قال القرطبي وغيره قوله لوقتها اللام للاستقبال مثل: {فطلقوهن لعدتهن} (الطلاق: 1) أي مستقبلات عدتهن وقيل للابتداء كقوله: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} (الإسراء: 78) وقيل بمعنى في: أي في وقتها، وقوله على وقتها قيل على بمعنى

اللام ففيه ما تقدم، وقيل لإرادة الاستعلاء على الوقت، وفائدته تحقق دخول الوقت ليقع الأداء فيه اهـ. وفي الحديث دليل على أن الصلاة أفضل عبادات البدن بعد الشهادتين، ويشهد له الخبر الصحيح «الصلاة خير موضوع» أي خير عمل وضعه الله لعباده ليتقرّبوا به إليه (قلت: ثم) هي لتراخي الرتبة: أي ثم بعد الصلاة (أي) قال الحافظ: قيل الصواب أنه غير منون لأنه موقوف عليه في الكلام، والسائل منتظر الجواب، والتنوين لا يوقف عليه فتنوينه ووصله بما بعده خطأ، فيوقف عليه وقفه لطيفة ثم يؤتى بما بعده. قال الفاكهاني: وحكى ابن الجوزي وابن الخشاب الجزم بتنوينه لأنه معرف غير مضاف، وتعقب بأنه مضاف تقديراً والمضاف إليه محذوف لفظاً، والتقدير: ثم أيّ العمل أحبّ، فيوقف عليه بلا تنوين اهـ. (قال برّ الوالدين) قال ابن حجر: والظاهر أن المراد به إسداء الخير إليهما مما يلزمه، ويندب له مع إرضائهما بفعل ما يريدانه ما لم يكن إثماً، وليس ضده العقوق بل قد يكون بينهما واسطة كما يفيده حدّ العقول بأن يفعل بهما ما يؤذيهما به إيذاء لبس بالهين (قلت: ثم أيّ؟ قال الجهاد في سبيل ا) لإعلاء كلمة الله (متفق عليه) . 2313 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: لا يجزي) قال المصنف، بفتح أوله ولا همز في آخره: أي لا يكافىء (ولد والداً) وإن علا ذكراً كان أو أنثى: أي لا يقوم بمكافأته فيما له عليه بالإحسان وقضاء الحاجات (إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه) وأخذ أهل الظاهر من مفهوم هذا الخبر توقف عتق القريب إذا ملك على إنشاء المالك للعتق ولو أصلاً أو فرعاً. وقال جماهير العلماء: يحصل العتق في الأصل والفرع مطلقاً بمجرد الملك سواء المسلم والكافر والقريب والبعيد والوارث وغيره. واختلف فيما وراء عمود النسب. فقال الشافعي وأصحابه: لا يعتق غيرهما بالملك. وقال مالك: تعتق الإخوة. وقال أبو حنيفة: يعتق ذوو الأرحام المحرّمة، وتأول الجمهور الحديث المذكور

على أنه لما تسبب في شرائه المتسبب عليه بالعتق أسند إليه (رواه مسلم) والبخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والترمذي وقال صحيح وابن ماجه. 3314 - (وعنه أيضاً رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من كان يؤمن با واليوم الآخر) أي إيماناً كاملاً (فليكرم ضيفه) وتقدم ما في الحديث في الباب قبله (ومن كان يؤمن با واليوم الآخر فليصل رحمه) وتقدم الحديث في الباب قبله. قال القاضي عياض: لا خلاف أن صلة الرحم واجبة في الجملة وقطيعتها معصية كبيرة. قال: والأحاديث في الباب تشهد بهذا، ولكن الصلة درجات بعضها أرفع من بعض، وأدناها ترك المهاجرة وصلتها بالكلام وبالسلام. ويختلف ذلك باختلاف القدرة والحاجة: فمنها واجب ومنها مستحب، ولو وصل بعض الصلة ولم يصل غايتها لا يسمى قاطعاً، ولو قصر عما يقدر عليه وينبغي له لم يسم واصلاً، وسيأتي بيان الكلام في حد الحرم المأمور بصلتها (ومن كان يؤمن با واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) بضم الميم، وأصمت بمعناه مضارعه يصمت بضم الميم، قاله المصنف. واعترض بأن المسموع والقياس كسرها إذ قياس فعل مفتوح العين يفعل بكسرها ويفعل بضمها دخيل فيه كما نص عليه ابن جني، وإنما يتجه ذلك إن سبرت كتب اللغة فلم تر ما قاله وإلا فهو حجة في النقل، وهو لم يقل هذا قياساً حتى يعترض بما ذكر وإنما قاله نقلاً كما هو الظاهر من كلامه فوجب قبوله: أي ليسكت عما لم يظهر له فيه الخير كما تقدم بسطه في الباب قبله (متفق عليه) . 4315 - (وعنه قال: قال رسول الله: إن الله تعالى خلق الخلق) أي أوجدهم

واخترعهم من كتم العدل بباهر قدرته (حتى إذا فرغ منهم) أي كمل خلقهم لا أنه تعالى كان مشتغلاً بهم ثم فرغ من شغلهم، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً، فليست أفعاله تعالى بمباشرة ولا مناولة ولا بآلة ولا محاولة، تعالى عما يتوهمه المتوهمون: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} (يس: 82) (قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة) قال القاضي عياض: الرحم التي توصل وتقطع وتبرّ إنما هي معنى من المعاني ليست بجسم إنما هي قرابة ونسب يجمعه رحم والدة ويتصل بعضه ببعض وسمي بذلك الاتصال رحماً، والمعاني لا يتأتى منها القيام ولا الكلام، فيكون ذكر قيامها هنا وتعلقها ضرب مثل وحسن استعارة على عادة العرب استعمال ذلك، والمراد تعظيم شأنها وفضيلة واصلها وعظيم اسم قاطعها بعقوقهم، ولذا سمي العقوق قطعاً، والعق الشق كأنه قطع ذلك السبب المتصل. قال: ويجوز أن يكون المراد قيام ملك من الملائكة تعلق بالعرش وتكلم على لسانها بذلك بأمر الله تعالى اهـ. قال القرطبي: فالحديث محمول إما على أن ملكاً تكلم بذلك، أو على أنه لو كانت الرحم ممن يعقل ويتكلم لقالت هذا الكلام، فيكون على وجه الفرض والتقدير. قال المصنف: والعائذ المستعيذ، وهو المعتصم بالشيء الملتجىء إليه المستجير به (قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك) قال العلماء: حقيقة الصلة العطف والرحمة، وصلة الله سبحانه عباده لطفه بهم ورحمته إياهم وعطفه بإحسانه ونعمه، أو صلتهم بأهل ملكوته الأعلى وشرح صدورهم لمعرفته وطاعته أو إرادته ذلك (قالت) أي الرحم لو كانت متكلمة أو الملائكة المتكلمة بذلك (بلى) أي رضيت به (قال فذلك) بكسر الكاف فيه وفي (لك) لأن المخاطب مؤنث (ثم قال رسول الله: اقرءوا إن شئتم)

أي ما يدل لذلك وجملة الشرط معترضة وجوابها محذوف لدلالة ما قبلها عليه ومفعول اقرؤوا قوله: ( {فهل عسيتم} ) أي فهل يتوقع منكم، ويجوز فتح السين وكسرها وبهما قرىء: ( {إن توليتم} ) أمور الناس وتأمرتم عليهم أو أعرضتم وتوليتم عن الإسلام ( {أن تفسدوا في الأرض} ) بأنواع العتو ( {وتقطعوا أرحامكم} ) تشاجراً على الولاية وتجاذباً لها، أو رجوعاً إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من التغادر والماقتلة مع الأقارب. والمعنى: أنهم لضعفهم في الدين وحرصهم على الدنيا أحق بأن يتوقع ذلك منهم من عرف حالهم ويقول لهم: هل عسيتم، وهذا على لغة الحجاز فإن بني تميم لا يحلقون الضمير به، وخبره أن تفسدوا، وإن توليتم اعتراض ( {أولئك} ) إشارة إلى المذكورين ( {الذي لعنهم ا} ) لإفسادهم وقطعهم أرحامهم ( {فأصمهم} ) عن سماع الحق ( {وأعمى أبصارهم} ) فلا يهتدون إلى سبيله. وعلى القول الثاني: أي قوله أعرضتم وتوليتم عن الإسلام تكون الرحم المذكورة دين الإسلام والإيمان التي قد سماها الله تعالى إخوة بقوله: {إنما المؤمنون إخوة} (الحجرات: 10) وقال الفراء: نزلت هذه الآية في بني هاشم وبني أمية. قال القرطبي: وعليه فالرحم بمعنى القرابة قال المصنف: قال القاضي عياض: وقد اختلف في حدّ الرحم التي تجب صلتها ويحرم قطعها، فقيل هو كل رحم محرم بحيث لو كان أحدهما ذكراً والآخر أنثى حرمت مناكحتهما فعليه لا تدخل أولاد العم والخال. واحتج هذا القائل بتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح ونحوه وجواز ذلك في بنات الأعمام والأخوال، وقيل هو عام في كل ذي رحم من ذوي الأرحام في الميراث يستوي فيه المحرم وغيره، ويدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: «ثم أدناك أدناك» اهـ. قال المصنف والقول الثاني هو الصواب، ومما يدل عليه قوله في الحديث في أهل مصر «فإن لهم ذمة ورحما» وحديث «إن أبرّ البر أن يصل الرجل أهل ودّ أبيه» مع أنه لا محرمية والله أعلم. قال القرطبي: ويخرج من هذا القول أن رحم الأم التي لا يتوارث بها لا تجب صلتهم ولا يحرم قطعهم. والصواب ما ذكرناه من أنها قرابات الرجل من جهة طرفي أبائه وإن علوا وأبنائه وإن نزلوا، وما يتصل بالطرفين من الإخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات، وما يتصل بهم من أولادهم برحم جامعة اهـ. (متفق عليه) رواه البخاري في كتاب الأدب ومسلم في كتاب البرّ والصلة. (وفي رواية للبخاري) هي في كتاب الأدب أيضاً عن أبي هريرة (فقال الله تعالى: من

وصلك وصلته ومن قطعك قطعته) فالفرق بين اللفظين أن الأوّل إخبار عما يبدو في عالم الشهادة للواصل والقاطع، والثاني إخبار عما في الأزل: أي قضيت أزلاً بوصل الواصل وقطع القاطع. 5316 - (وعنه: جاء رجل) قيل: هو معاوية بن حيدة، وقد جاء في «سنن أبي داود» والترمذي عنه أنه قال: «يا رسول الله من أبرّ؟ قال: أمك» الحديث وفي آخره «ثم الأقرب فالأقرب» (إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله من أحقّ الناس بحسن صحابتي) بفتح الصاد المهملة مصدر صحب (قال أمك) وذلك لضعفها وحاجتها (قال: ثم من؟) أي الأحق بعدها (قال) تأكيداً للقيام بحق الأم (أمك، قال: ثم من؟) الأحق بعدها (قال) مبالغاً في تأكيد حق الأم (أمك، قال: ثم من؟) الأحق بعدها (قال أبوك. متفق عليه) . (وفي رواية) لمسلم (يا رسول الله: من أحقّ بحسن الصحبة؟ قال: أمك، ثم أمك، ثم أباك، ثم أدناك) ثم (أدناك والصحابة) المذكورة في الرواية أولاً (بمعنى الصحبة) المذكور في الرواية الثانية هي بضم الصاد (وقوله ثم أباك هكذا هو) في الرواية الثانية (منصوب بفعل محذوف) جوازاً (أي ثم برّ أباك) وفيه عطف الجملة الطلبية على الجملة الخبرية، ويجوز تخريجه على أنه مرفوع بضمة على الألف على لغة القصر (وفي رواية ثم أبوك وهو واضح) أي إنه معطوف على الخبر للمبتدأ المحذوف.

6317 - (وعنه: عن النبي قال: رغم أنف) قال في «المصباح» : من باب قتل ومن باب تعب لغة، وهو كناية عن الذلّ كأنه لصق بالرغام وهو التراب هواناً اهـ. وفي ذيل مثلث ابن مالك لتلميذه أبي الفتح اليعلي من المثلث الرغم مصدر رغم أنف فلان (ثم) للتراخي في الدعاء (رغم أنف ثم رغم أنف من) أي شخص مكلف (أدرك أبويه) أي حياتهما (عند الكبر) بكسر ففتح، قال في «المصباح» : كبر الصغير وغيره يكبر من باب علم كبراً بوزن عنب اهـ. قال العاقولي: وفي رواية عنده الكبر بزيادة هاء، قال: ومعناه على حذفها أن يدرك هو والديه عند كبرهما وإن كانا غنيين عنه بمالهما وعن خدمته لهما بمالهما من خادم ومعناه على تلك الرواية: أن يدركهما الكبر وهما عنده وفي مؤنثه محتاجين إليه اهـ. والتقييد به لأن الابتلاء بهما حينئذٍ أتمّ لمزيد حاجتهما لضعفهما، فكان القيام بحقهما حينئذٍ آكد كما قاما بحق الابن حين زيد حاجته وافتقاره، وإلا فوجدانهما ولو حال الشباب لهما مطلوب من الابن العناية بهما ومزيد برّهما، لكن التقييد بالكبر لمزيد التأكيد لكمال الحاجة، وقوله (أحدهما أو كلاهما) بالرفع فيما وقفت عليه من النسخ وهو محتمل لكونه مبتدأ محذوف الخبر: أي أحدهما أو كلاهما سواء فيما ذكر أو فاعلاً لمحذوف: أي ليستوي أحدهما أو كلاهما في ذلك، وأعربه العاقولي فاعلاً للظرف لكونه حالاً ثم حبذا كونه خبر مبتدأ محذوف، و «كلاهما» معطوف عليه عليهما، قال: وهذه الجملة بيان لقوله: «من أدرك والديه» وقال القرطبي: الرواية الصحيحة بالنصب فيهما بدل من والديه منصوب بأدرك، قال: وقد وقع في بعض النسخ رفعهما وهو على الابتداء ويتكلف بإضمار خبر، والأوّل أولى، وفيه التعقيب به دفع لتوهم قصر المذمة على من قصّر في البر عند اجتماعهما دونه مع أحدها (فلم يدخل الجنة) عطف على أدرك، والعطف بالفاء فيه إشعار بحصول الجنة بالفضل الإلهي للبارّ بأبويه أو أحدهما عقب مفارقة الحياة، وذلك بعرض مقامه عليه وتبشيره بما يؤول إليه (رواه مسلم) في أواخر الكتاب والحديث عند أحمد أيضاً، ففي «الجامع الصغير» للسيوطي عزوه إليهما ولفظه «رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه: من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما ثم لم يدخل الجنة» وعزوه اللفظ المذكور فيه لمسلم

مراده باعتبار المعنى لا بخصوص المبنى، لأن الضمائر محذوفة من رواية مسلم، وعلى تلك الرواية فمن فاعل لفعل محذوف أو خبر مبتدأ محذوف، والجملة استئناف بيان لسؤال تقديره من هو، والإتيان بثم فيها إيماء إلى صعوبة المقام وإبطائه، فكأنه لذلك كالبعيد الحصول فعبر فيه بذلك. قال العاقولي: معنى ثم فيه استبعاد لغفلته عن نيل مثل هذه السعادة العظيمة. 7318 - (وعنه أن رجلاً) لم أقف على من سماه (قال: يا رسول الله إن لي قرابة) أي ذوي قرابة أي رحم ونسب، ويقال فيها قربي كما في «المصباح» (أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم) أي أسدي إليهم الإحسان (ويسيئون إلي وأحلم) بضم اللام (عنهم ويجهلون عليّ) ويجوز أن تكون الجمل المضارعية معطوفة على أقرانها وهو الأقرب، ويحتمل أن تكون في محل الحال على تقدير مبتدأ محذوف: أي وهم يقطعوني لأن الواو الحالية لا يجوز دخولها على الجملة المضارعة المثبتة الخالية من قد إلا ضرورة نحو قوله: علقتها عرضاً وأقتل قومها وبإضمار المبتدأ تخرج عن ذلك، وقد جعل منه صاحب التسهيل قوله تعالى: {الذين كفروا ويصدون عن سبيل ا} (الحج: 25) أي وهم يصدون، وحكى الأصمعي: قمت وأصك عينه، أي وأنا أصكها (فقال) يعني النبي (لئن كنت كما قلت) من إسداء الجميل: أي وهم على ما ذكرت من مقابلته بضده (فكأنما تسفهم الملل ولا يزال معك) متعلق بظهير وكذا قوله: (من ا) ويصح كونه في محل الحال لكونه في الأصل وصفاً لظهير قدّم عليه، وقوله: (ظهير) أي معين، وهو كما في «المصباح» يطلق على الواحد والجمع، وفي التنزيل: {والملائكة بعد ذلك ظهير} (التحريم: 4) والمظاهرة المعاونة اهـ. اسم يزال، وقوله: (عليهم) خبر ويجوز أن يكون صفة، وقوله: معك أو من الله الخبر، وقوله: (ما دمت على

ذلك) أي مدة دوامك على ما ذكر، أو أنه لما كان الإحسان والحلم معطوفين على الصلة الشاملة لهما من عطف الخاص على العام أفرد اسم الإشارة. وفي الحديث أن ما ذكر من الخصال سبب لإعانة صاحبها وتأييده وتوفيقه وتسديده، فإن المعنى فيه هو التأييد الإلهي واللطف الرباني (رواه مسلم. وتفسهم بضم التاء الفوقية وكسر السين المهملة وتشديد الفاء) وفي «المصباح» : سف الدواء أكله غير ملتوت فأشار إلى أنه تناول الجامدات غير ملتوتات (والملح بفتح الميم وتشديد اللام: وهو الرماد الحار) أي باعتبار المراد في الحديث وهذا معناه مطلقاً في أحد الأقوال؛ ففي «المصباح» : الملة، قيل الحفرة التي تحفر للخبز، وقيل: التراب الحار والرماد: أي الحار كما يؤذن به كلام المصنف هنا، ويحتمل إبقاؤه على إطلاقه ويجوز إرادة ذلك فإن تناول الرماد من المضرّ وإن لم يكن حاراً (وهو تشبيه لما يلحقهم من الإثم) أي الذنب نفسه أو من جزئه، والثاني: أنسب بقوله: (وهو العذاب بما يلحق آكل الرماد الحار من الألم) بجامع التألم والتوجع، وهو على الأّل من تشبيه معقول بمحسوس، وعلى الثاني من تشبيه محسوس بمحسوس (ولا شيء) بالفتح أي من التبعات (على هذا المحسن إليهم) في مقابلته لسيء أعمالهم بإحسانه وذكره من المصنف إطناب إذ لم يقع منه بذلك ما يقتضي اللوم بل زاد في الإحسان والاستدراك في قوله: (ولكن ينالهم إثم عظيم) دلّ على عظم تمثيله بما ذكر (وبتقصيرهم في حقه وإدخالهم الأذى) بالقصر: أي المكروه (عليه) لدفع ما قد يتوهم من نفي الملامة عنهم بقرينة نفيها عنه وإن كان الفرق كفلق الصبح (والله أعلم) وقال المصنف في «شرح مسلم» : وقيل معناه إنك بالإحسان إليهم تحزنهم وتحقرهم في أنفسهم لكثرة إحسانك وقبيح فعلهم، فهم من الخزي والحقارة عند أنفسهم كمن يسفّ المل، وقيل ذلك الذي يأكلونه من إحسانك كالمل يحرق أحشاءهم اهـ. وقال العاقولي: أراد كأنما يجعل الرماد لهم في سفوف يسفونه، يعني إذا لم يشكروا فإن عطاءك إياهم حرام عليهم ونار في بطونهم اهـ.

8319 - (وعن أنس) بن مالك (رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من أحب) وفي رواية: «من يسره» (أن يبسط) بالبناء للمفعول: أي يوسع. في «المصباح» : بسط الله الرزق: كثره ووسعه، وقال المصنف: بسطه توسيعه وكثرته، وقيل بالبركة فيه ونائب الفاعل أحد الطرفين في قوله: (له في رزقه) أي مرزوقه مصدر بمعنى المفعول، وهو ما به النفع للحيوان، والثاني أنسب، والظرف الآخر في محل الحال، وهذا الإعراب بعينه جار في قرينه من الجملة الثانية: أعني قوله: (وينسأ) بهمزة آخره أي يؤخر (له في أثره) بفتح الهمزة والمثلثة: أي أجله، وسمي الأجل أثراً لأنه يتبع العمر قال زهير: والمرء ما عاش ممدود له أمل لا ينتهي العمر حتى ينتهي الأثر وأصله من أثر مشيه في الأرض فإن من مات لا يبقى له حركة فلا يبقى لقدمه في الأرض أثر (فليصل رحمه) قال ابن التين: ظاهر الحديث يعارض قوله تعالى: {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} (الأعراف: 34) والجمع بينهما إما بحمل الزيادة على أنها كناية عن البركة في العمر بسبب التوفيق إلى طاعة الله وعمارة وقته بما ينفعه، ويقربه من مولاه تعالى ويقوّيه ما جاء من: أنه تقاصر أعمار أمته بالنسبة لأعمار من مضى من الأمم فأعطى ليلة القدر. وحاصله أن صلة الرحم سبب للتوفيق لمرضاة المولى وحفظ الأوقات عن الضياع في غير رضا فيبقى بعده الذكر الجميل، فكأنه لم يمت، أو يحمل الزيادة في الحديث على حقيقتها، وذلك بالنسبة للأجل المعلق المكتوب في اللوح المدفوع للملك، مثلاً كتب فيه: إن أطاع فلان فعمره كذا وإلا فعمره كذا، وا سبحانه وتعالى عالم بالواقع منهما والأجل المحتوم في الآية على ما في علم الله سبحانه الذي لا تغير فيه، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب} (الرعد: 39) فالحديث فيه ما أشارت إليه أول الآية من الأجل المعلق، وقوله: {عنده أمّ الكتاب} أشار به إلى العلم الإلهي الذي لا تغير فيه البتة ويعبر عنه بالقضاء المبرم وعن الأول بالقضاء المعلق، والوجه الأوّل أليق بلفظ المذكور. وقال الطيبي: الأوّل أظهر وإليه يشير كلام صاحب

الفائق، قال: ويجوز أن يكون المعنى: أن الله يبقي أثر واصل الرحم في الدنيا طويلاً فلا يضمحلّ سريعاً كما يضمحل أثر قاطع الرحم، ومن هذه المادة قول إبراهيم عليه السلام: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} (الشعراء: 84) وورد في تفسيره وجه ثالث أخرج الطبراني في «الصغير» بسند ضعيف عن أبي الدرداء قال: «ذكر عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن من وصل رحمه أنسأ له في أجله، فقال: إنه ليس زيادة في عمره قال الله تعالى: {إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} (الأعراف: 34) ولكن الرجل تكون له الذرية الصالحة يدعون له من بعده» وأخرج في الكبير من حديث أبي مشجعة بشين معجمة ثم صالحة» الحديث. وجزم به ابن فورك بأن المراد بزيادة العمر نفي الآفات عن صاحب البر في فهمه وعقله. وقال غيره: في أعم من ذلك وفي وجود البركة في رزقه وعمله ونحو ذلك (متفق عليه) ورواه أبو داود وابن ماجه كلاهما من حديث أنس أيضاً ورواه أحمد والبخاري من حديث أبي هريرة، كذا في «الجامع الصغير» (ومعنى ينسأ له في أثره: أي يؤخر له في أجله وعمره) فقوله: يؤخر تفسير لقوله ينسأ، وقوله في أجله وعمره وتفسير لقوله أثره كما علم مما تقدم، وهل التأخير فيهما على حقيقته أو مجاز مراد منه لازمه من الإمداد ودوام الثناء بعده؟ كل محتمل والعبارة في الأول أظهر. 9320 - (وعنه قال: كان أبو طلحة أكثر) بالمثلثة (الأنصار بالمدينة مالاً) تمييز عن نسبة الأكثرية إليه (من نخل) بيان للمال (وكان أحب أمواله) يجوز الرفع والنصب (إليه بيرحاء

وكانت مستقبلة المسجد) بكسر الموحدة: أي مقابلته وراءه (وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلها) أي الحديقة المذكورة (ويشرب من ماء فيها طيب) يجوز رفع طيب فاعل الظرف لاعتماده على الموصوف وجره صفة لماء (فلما نزلت هذه الآية: لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون قام أبو طلحة) وسار قاصداً (إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن الله تبارك وتعالى) عما لا يليق به، وجملة (يقول) في محل الخبر (لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون وإن أحبّ أموالي إليّ بيرحاء) يحتمل أن يكون ذلك لعظم نماء أرضها وعظم ثمرها وكثرته وأن يكون لمعنى آخر (وإنها) لكونها أحبّ إليّ (صدقة تعالى أرجو برّها وأدخرها عند ا) الجملة الفعلية محتملة لكونها خبراً بعد خبر على حد قوله تعالى: {وهذا ذكر مبارك أنزلناه} (الأنبياء: 50) على أحد الوجوه فيه ولكونها حالاً حذف عاملها وصاحبها: أي أتصدق بها حال كوني أرجو برّها (فضعها يا رسول الله حيث أراك الله تعالى، فقال رسول الله: بخ) لتفخيم فعله والثناء عليه (ذلك مال رابح ذلك مال رابح) بالموحدة وبالهمزة والتكرير للتأكيد لأن المقام يقتضي الإطناب (وقد سمعت ما قلت، وإني أرى) من الرأي والاجتهاد، ففيه دليل لجواز الاجتهاد منه ووقوعه: (أن تجعلها في الأقربين، فقال أبو طلحة: أفعل) أي أصرفه لهم متبعاً لرأيك (يا رسولالله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه. متفق عليه، وسبق بيان ألفاظه) وبيان من خرج الحديث زيادة على من ذكره المصنف (في باب الإنفاق مما يحب)

بالمهملة والموحدة. 10321 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: أقبل رجل) قال الشيخ زكريا: هو جاهمة بن العباس بن مرداس، أو معاوية بن جاهمة. وقال شيخه الحافظ في «الفتح» : يحتمل أن يكون جاهمة بن العباس، فقد روى النسائي وأحمد من طريق معاوية بن جاهمة: «أن جاهمة جاء إلى النبي فقال: يا رسول الله أردت الغزو وجئت لأستشيرك، فقال: هل لك من أمّ؟ قال: نعم، قال: الزمها» الحديث، ورواه البيهقي بنحوه اهـ. فاقتصر على الأوّل وجعله احتمالاً، وقوله: (إلى نبي الله) متعلق بأقبل (فقال: أبايعك على الهجرة) أي مفارقة وطني وسكني المدينة. قال القرطبي: وهذا كان في زمن وجوب الهجرة (والجهاد) في سبيل الله (أبتغي الأجر من الله تعالى) مستأنفة استئنافاً بيانياً لبيان سبب المبايعة الحامل عليها (قال: فهل من والديك) خبر مقدم (أحد حيّ) مبتدأ وجيء بأحد توطئة ليقوم به حتى (قال: نعم، بل) انتقال دلّ عليه جوابه بنعم من حياة أحدهما إلى الإخبار بحياتهما معاً (كليهما) كذا هو منصوب بتقدير وجدت كليهما، ويجوز كونه مرفوعاً مبتدأ محذوف الخبر: أي حيان وكتبت الألف بصورة الياء، وقد نبه المصنف في شرح مسلم على أن محل ذلك كله إذا لم يحضر الصف ويتعين للقتال (قال: فتبتغي الأجر من الله تعالى؟) الهمزة والمعطوف عليه مقدران قبل الفاء العاطفة: أي أتفعل ذلك فتبتغي الأجر من الله تعالى: (قال: نعم، قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما) أسقط الشارع عنه وجوب الهجرة تقديماً لحق أبويه، فإن الهجرة إن كانت واجبة عليه فقد عارضها ما هو أوجب منها وهو حق الوالدين، وإن لم تكن واجبة فالواجب أولى، لكن هذا إنما يصح ممن يسلم له دينه في موضعهما، أما لو خاف على دينه وجب عليه الفرار به وترك آبائه وأبنائه كما فعل المهاجرون الذين هم صفوة الله من العباد. وفي الحديث تقديم البرّ للوالدين على الجهاد (متفق عليه، وهذا لفظ مسلم) . (وفي رواية لهما) وهي كذلك عند البخاري في الجهاد، وعند مسلم في الأدب، ورواها أبو داود والترمذي والنسائي في الجهاد، وقال الترمذي: حسن

صحيح والبزار، كذا من «الأطراف» للمزي ملخصاً (جاء رجل) كذا في النسخة بحذف الظرف: أي إلى النبي وهو ثابت في الصحيحين، والظاهر أنه اختصار من المصنف لدلالة ما قبله عليه أو في الكتاب (فاستأذنه في الجهاد فقال: أحيّ والداك) الوصف فيه مبتدأ لاعتماده على الاستفهام ووالداك فاعله سد مسد خبره (قال: نعم) أي هما حيان (قال: ففيهما فجاهد) وقوله: ففيهما متعلق بالأمر قدم للاختصاص، والفاء الأولى جزاء لشرط محذوف، والثانية جزائية لتضمن الكلام معنى الشرط: أي إذا كان الأمر كما قلت فاخصص المجاهدة بخدمة الوالدين نحو: {فإياي فاعبدون} (العنكبوت: 56) فحذف الشرط وعوض عنه الظرف المفيد للاختصاص، قاله العاقولي. وقال ابن رسلان: المراد بالجهاد فيهما جهاد النفس في وصول البرّ إليهما بالتلطف بهما وحسن الصحبة والطاعة وغير ذلك، وتقدم أن الجهاد الأكبر جهاد النفس الأمارة بالسوء اهـ. قال المصنف: هذا كله دليل لعظم فضيلة برّهما، وأنه آكد من الجهاد، وفيه حجة لما قال العلماء من أنه لا يجوز الجهاد إلا بإذنهما إذا كانا مسلمين أو بإذن المسلم منهما، فلو كانا مشركين لم يشترط إذنهما عند الشافعي ومن وافقه، وهذا كله حيث لم يحضر الصفّ ويتعين للقتال فحينئذٍ يجوز بغير إذن اهـ. 11322 - (وعنه عن النبيّ قال: ليس الواصل) أي الكامل الوصل (بالمكافىء) وقال الطيبي: أي ليست حقيقة الواصل ومن يعتد بصلته الذي يكافىء صاحبه بمثل فعله ويعطيه نظير ما أعطاه. قلت: وقد أخرج عبد الرزاق عن عمر موقوفاً: «ليس الواصل أن تصل من وصلك، ولكن الواصل أن تصل من قطعك» (ولكن) قال الطيبي: الرواية فيه بالتشديد ويجوز التخفيف (الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها) أي الذي إذا منع أعطى (رواه البخاري) وأحمد وأبو داود والنسائي كلهم من حديث ابن عمر كما في الجامع الصغير

(وقطعت بفتح القاف والطاء) والعين المهملتين (ورحمه مرفوع) على الفاعلية. قال العلقمي: ضبط هكذا في أكثر الروايات، وفي بعضها بالبناء للمجهول. قال السيوطي في شرح الترمذي: المراد بالواصل في هذا الحديث الكامل، فإن في المكافأة نوع صلة، بخلاف من إذا وصله قريبه لم يكافئه فإن فيه قطعاً بإعراضه عن ذلك، وهو من قبيل «ليس الشديد بالصرعة» و «ليس الغنيّ عن كثرة العرض» اهـ. وتعقبه العلقمي بأنه لا يلزم من نفي الوصل ثبوت القطع. فهم ثلاث درجات: مواصل ومكافىء وقاطع: فالواصل من يبدأ بالفضل، والمكافىء من لا يزيد في الإعطاء على ما يأخذ، والقاطع الذي يتفضل عليه ولا يتفضل. وكما تقع المكافأة بالصلة من الجانبين كذلك تقع بالمقاطعة من الجانبين فمن بدأ فواصل فإن جازى فمكافىء وإلا فقاطع اهـ. 12323 - (وعن عائشة رضي الله عنها عن النبيّ قال: الرحم) بفتح الراء وكسر الحاء المهملة (معلقة بالعرش) الظاهر الحقيقية، ويحتمل أن المعنى أنها لائذة بربّ العرش كما تقدم حديث بذلك في الباب (تقول) استئناف بياني (من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه ا) قال المصنف قال عياض: الرحم التي توصل وتقطع معنى من المعاني ليست بجسم إنما هي قرابة ونسب، فيكون ذكر قيامها وتعلقها ضرب مثل وحسن استعارة على عادة العرب في استعمال ذلك والمراد تعظيم شأنها وفضيلة وصلها وعظيم إثم قطعها. قال ويجوز أن يكون المراد قيام ملك من الملائكة يتعلق بالعرش ويتكلم على لسانها بأمر الله تعالى (متفق عليه) اقتصر في «الجامع الصغير» على عزوه لمسلم. 13324 - (وعن أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث) الهلالية (رضي الله عنها أنه أعتقت وليدة)

أي أمة. قال في المصباح: الوليد الصبيّ المولود والجمع ولدان بالكسر والصبية والأمة وليدة والجمع ولائد اهـ. (ولم تستأذن النبيّ) فيؤخذ منه صحة تصرف الزوجة مطلقاً بغير إذن زوجها خلافاً للإمام مالك حيث منعه فيما زاد على الثلث إلا بإذنه (فلما كان يومها) بالرفع وكان تامة (الذي يدور عليها فيه قالت أشعرت) بفتح العين من باب قتل كما في المصباح أي أعلمت (يا رسول الله أني أعتقت وليدة) كأن التنكير فيه لتحقيرها وتصغير شأنها من حيث إنها من عملها، وفي نسخة وليدتي بالإضافة للياء (قال: أو فعلت) أي أعتقتها وفعلت فالواو وعاطفة على مقدر بعد الهمزة، هذا ما مشى عليه في مواضع كثيرة من «الكشاف» و «البيضاوي» ، فالاستفهام داخل على المتعاطفين، وجعل ابن مالك الهمزة مقدمة من تأخير وأن العاطف كان داخلاً عليها، وأن الأصل أو فعلت فصدرت الهمزة لصدارتها، وتقدم التنبيه على هذا في باب تغليظ عقوبة من أمر بمعروف وخالف قوله فعله (قالت نعم، قال أما) بتخفيف الميم أداة استفتاح (إنك لو أعطيتها) بكسر التاء (أخوالك) أي قرابتك من جهة الأم، قال المصنف: كذا وقعت هذه اللفظة في مسلم باللام، ووقعت في رواية الأصيلي أخواتك بالتاء، قال القاضي: ولعله أصح بدليل رواية الموطأ أعطيتها أختك. > قلت: الجميع صحيح ولا تعارض ولعله قال ذلك كله (كان أعظم لأجرك) لما فيه من الصدقة مع صلة الرحم، قال الحافظ في الفتح: قال ابن بطال: فيه أن هبة ذي الرحم أفضل من العتق، ويؤيده ما رواه الترمذي والنسائي وأحمد وصححه، وابن حبان من حديث سلمان بن عامر الضبي مرفوعاً «الصدقة على المساكين صدقة وعلى ذي الرحم صدقة وصلة» لكن لا يلزم من ذلك أن تكون هبة ذي الرحم أفضل مطلقاً لاحتمال أن يكون المسكين محتاجاً ونفعه متعدياً والآخر بالعكس، وقد وقع في رواية النسائي المذكورة «فقال: أفلا فديت بها بنت أخيك من رعاية الغنم» فتبين وجه الأولوية المذكورة وهو احتياج القريب إلى الخدمة، وليس في الحديث حجة على أن الصلة أفضل من العتق لأنها واقعة عين، فالحق أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال كما قدرته اهـ (متفق عليه) .

14325 - (وعن أسماء) بالمهملة والألف الممدودة (بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما) اسم أمها قيلة بفتح القاف وسكون التحتية قاله ابن ماكولا وغيره، قالوا: ويقال أيضاً قتيلة بقاف ثم فوقية ثم تحتية مصغراً. قال في فتح الباري: وقول الداودي اسمها أم بكر: قال ابن التين: لعله أراد كنيتها بنت عبد العزّى، ضبطه في «تاريخ دمشق» بخط الحافظ أبي محمد وعلَّم عليه صورة «راء» وفي مواضع بالزاي كما هنا. ابن سعد بن نضر بن مالك بن حسل بكسر المهملة الأولى وسكون الثانية بن عامر بن لؤي بن غالب، وكانت أسماء أسن من عائشة وهي أختها لأبيها، وكان عبد الله ابن أبي بكر شقيقها، سماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات النطاقين لأنها صنعت للنبيّ ولأبيها سفرة لما هاجرا، فلم تجد ما تشدها به فشقت نطاقها وشدت به السفرة فسماها النبيّ ذات النطاقين. هاجرت إلى المدينة وهي حامل بعبد الله بن الزبير فولدته بعد الهجرة، فكان أوّل مولود من المهاجرين ولد في الإسلام بعد الهجرة. قال عروة: بلغت أسماء مائة سنة لم يسقط لها سن ولم ينكر من عقلها شيء، روي لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما قيل ستة وخمسون حديثاً. قلت: وذكر ابن الجوزي في «مختصر التلقيح» أن لها ثمانية وخمسين حديثاً، قال: ولها في الصحيحين اثنان وعشرون حديثاً، اتفقا على ثلاثة عشر منها، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بأربعة اهـ، روى عنها عبد الله بن عباس وابناها عبد الله وعروة وعبد الله بن أبي مليكة وغيرهم، توفيت بمكة في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين بعد قتل ابنها عبد الله بيسير، ولم تبق بعد إنزاله من الخشبة إلا ليالي يسيرة، قيل ثلاث وقيل عشر وقيل عشرون وقيل بضع وعشرون. وفي «تاريخ دمشق» عن ابن أبي الزناد: كانت أسماء أكبر من عائشة بعشر سنين، وعن الحافظ أبي نعيم قال: ولدت أسماء قبل الهجرة بسبع وعشرين سنة، وكان لأبيها أبي بكر حين ولدت له إحدى وعشرون سنة. وفي «تاريخ دمشق» أنها شهدت غزوة اليرموك مع زوجها الزبير، وفيه عن خليفة بن خياط أنها ولدت للزبير عبد الله وعروة وعاصماً والمنذر والمهاجر وخديجة وأم حسن وعائشة. وفي «طبقات» ابن سعد بإسناد الصحيحين عن فاطمة بنت المنذر «أن أسماء كانت تمرض المرضة فتعتق كل مملوك لها» وفيها عن الواقدي: كان ابن المسيب من أعبر الناس للرؤيا أخذه عن أسماء وأخذته عن أبيها. وفي «تاريخ دمشق» عن مصعب بن

الزبير قال: «فرض عمر رضي الله عنه الأعطية، ففرض لأسماء ألف درهم» وفي رواية «ففرض للمهاجرين ألفاً ألفاً منهن أم عبد وأسماء» اهـ من «التهذيب» للمصنف ملخصاً (قالت: قدمت) بكسر الدال المهملة (عليّ) أي من مكة إلى المدينة (أمي) وتقدم ذكر اسمها ونسبها في ترجمة بنتها أسماء آنفا (وهي مشركة) قال المصنف في التهذيب: وذكر ابن الأثير اختلاف العلماء والروايات في إسلامها، وأكثر الروايات أنها لم تسلم، ومثله في شرح مسلم (في عهد رسول الله) أي معاهدته مع المشركين وتأمينه لهم في الحديبية كما في الحديث الآتي في كلام الحافظ وغيره، وأرادت ما بين الحديبية والفتح. وقد جاء عن ابن سعد وأبي داود الطيالسي «أنها قدمت على ابنتها بهدايا زبيب وسمن وقرط، فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو تدخلها بيتها، فأرسلت إلى عائشة: سلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: لتدخلها» الحديث (فاستفتيت رسول الله) هذا مجمل بينته بقولها (قلت: قدمت عليّ أمي) زاد بعض رواية الحديث «مع أبيها» وهو كذلك في البخاري في الجزية والأدب. قال الحافظ: واسم أبيها الحارث بن مدرك بن عبيد بن عمرو بن مخزوم ولم أرد له ذكراً في الصحابة وكأنه مات مشركاً اهـ. وما ذكره في نسب أمها مخالف لما تقدم عن «التهذيب» للمصنف في ترجمة أسماء (وهي راغبة) جملة حالية: أي راغبة عن الإسلام وكارهة له، وقيل معناه: طامعة فيما أعطيها حريصة عليه، وفي رواية أبي ذرّ «قدمت عليّ أمي راغبة في عهد قريش وهي راغمة مشركة» فالأوّل بالباء: أي طالبة صلتي، والثاني بالميم: أي كارهة للإسلام ساخطته، وفي «فتح الباري» : نقل المستغفري أن بعضهم أوله فقال: وهي راغبة في الإسلام، فذكرها لذلك في الصحابة. ورده أبو موسى بأنه لم يقع في شيء من الروايات ما يدل على إسلامها (أفاصل أمي) أي أتصدق عليها فأصلها مع كفرها ولا يكون ذلك من موادة الكفار وموالاتهم (قال: نعم) وهو كاف عن قوله (صلي أمك) وأتى به تأكيداً واهتماماً، زاد البخاري في «الأدب» : «فأنزل الله عزّ وجل فيها {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين} (الممتحنة: 8) » قال الحافظ في «الفتح» : روى ابن أبي حاتم عن السدي أنها نزلت في ناس من المشركين كانوا ألين جانباً للمسلمين وأحسن أخلاقاً. قال الحافظ: قلت ولا منافاة بينهما، فإن السبب خاص واللفظ عام، فيتناول كل من كان في معنى والدة أسماء اهـ. وفي الحديث جواز صلة القريب المشرك (متفق عليه) ورواه البخاري في الهبة والجزية والأدب، ومسلم في الزكاة

وأبو داود فيها أيضاً كذا لخص من «الأطراف» للمزي (وقولها) أي أسماء واصفة لأمها (راغبة) بالغين المعجمة والموحدة (أي طامعة فيما عندي تسألني شيئاً) من الإحسان (قيل كانت أمها من النسب، وقيل من الرضاعة، والصحيح الأوّل) حكاية هذا الخلاف هنا مما فات شراح مسلم التنبيه عليه. قال الحافظ في «الفتح» : أخرج ابن سعد وأبو دادو الطيالسي والحاكم من حديث عبد الله بن الزبير قال: «قدمت قتيلة، بالقاف والمثناة مصغرة، بنت عبد العزّى بن سعد بن نضر بن مالك بن حسل، بكسر الحاء وسكون السين المهملتين، على ابنتها أسماء بنت أبي بكر في الهدنة، وكان أبو بكر طلقها في الجاهلية، بهدايا زبيب وسمن قرط، فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو تدخلها بيتها، وأسسلت إلى عائشة سلى لي رسول الله، فقال لتدخلها» الحديث، وعرف منه تسمية أم أسماء وأنها أمها حقيقة، ومن قال إنها أمها من الرضاعة فقد وهم، وأما قول الداودي إن اسمها أم بكر فقد قال ابن التين: لعله كنيتها كما تقدم. 15326 - (وعن زينب الثقفية) بمثلثة وقاف مفتوحتين وفاء مكسورة منسوبة إلى ثقيف بوزن رغيف (امرأة) بهمزة وصل، ويقال مرأة بحذفها، ويقال مرة بنقل حركة الهمزة إلى الراء: زوجة (عبد الله بن مسعود) الهذلي (رضي الله عنه وعنها) عدل عن قوله عنهما مع أنه أخصر لما يوهمه من عوده لابن مسعود وأبيه لكونهما أقرب مذكور، وفي تقديمه عليها مع تأخر ذكره إشارة إلى شرف الذكورية ومجدها. قال المصنف في «التهذيب» : اختلف في اسم امرأة ابن مسعود فقال جماعة: اسمها زينب، ولعله قول الأكثرين، وهي زينب بنت عبد الله ابن معاوية الثقفي؟، وقيل اسمها رايطة وقيل ريطة بنت عبد اهكذا ذكر هذه الأقوال جماعة من العلماء منهم الخطيب البغدادي في المبهمات، وجعل ابن سعد في «الطبقات» زينب ورايطة امرأتين لابن مسعود. قلت: وبعض أهل اللغة ينكر وجود رايطة في كلام العرب. وذكر أبو عمر الزاهد في آخر شرح الفيح عن ابن الأعرابي قال: يقال ريطة لا غير ولم يحك عن العرب رايطة: وأفصح اللغات عائشة، وقد يقال عيشة لغة فصيحة اهـ ملخصاً. قلت: قال الحافظ في «الفتح» : زينب الثقفية يقال لها رايطة أيضاً، وقع

ذلك في صحيح ابن حبان، ويقال هما اثنتان عند الأكثر وممن جزم به ابن سعد. قال الكلاباذى: رايطة هي المعروفة بزينب، وبه جزم الطحاوي فقال: رايطة هي زينب لا نعلم لعبد الله امرأة في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غيرها، روي لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية أحاديث منها في الصحيحين حديثان، اتفقا على أحدهما وهو حديث الباب، وانفرد مسلم بحديث آخر، كذا في «مختصر التلقيح» (قالت: قال رسول الله: تصدقن) أمر لجماعة النسوة كما قال (يا معشر النساء) أي جماعة النساء، ومقتضى قول المصباح المعشر، والقوم، والرهط، والنفر لجماعة الرجال دون النساء اهـ. استعمل في غير موضوعه وكأنه لأنهن لما أمرن بالتصدق وإنما يبعث عليه الإيقان الذي هو وصف كمل الرجال كما قال: والصدقة برهان، خوطبن بذلك، ثم رأيت في «التحفة» للشيخ زكريا: المعشر كل جماعة أمرهم واحد، وفيه رد على ثعلب حيث خصه بالرجال، إلا إن أراد بالتخصيص حالة الإطلاق لا حالة تقييده (ولو من حليكن) قلت: يحتمل أن يكون مفرداً فيكون بفتح المهملة وسكون اللام، وأن يكون جمعاً فيكون بضم المهملة وكسر اللام وتشديد الياء وأصله على وزن فعول كفلس وفلوس فأعل كما في «المصباح» : وفي «المشارق» للقاضي عياض «تصدقن ولو من حليكن» وهو ما تتحلى به المرأة وتتزين به، يقال بفتح الحاء وسكون اللام وبضم الحاء وكسرها وكسر اللام، وقد قرىء بهما جميعاً اهـ. واختصره صاحب «المطالع» ولم أقف على من ضبط الرواية فيه، وفي «فتح الإله» : كأن وجه جعله غاية أن النساء لا يسمحن بالتفريط فيه إلا لمهم انحصر الخلاص فيه كأنه يقول: الصدقة أمر مهم جداً، فكما تسمحن بإخراج حليكن في الأمر المهم عند فقد غيره فاسمحن بإخراجه فيها إذا لم تجدن غيره (قالت: فرجعت) بتاء المتكلم، ويحتمل أن يكون بتاء التأنيث فيكون فيه التفات على طريق السكاكي (إلى عبد الله بن مسعود، فقلت: إنك رجل خفيف ذات) زائدة للتأكيد (اليد) أي قليل المال، ولم تقله تعييراً له ولا استخفافاً بحقه، بل توطئة لقولها (وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمر بالصدقة) أي أمر ندب بدليل الحلي فإنه لا زكاة فيه، نعم جاء أنه كان زكوياً ثم نسخت منه، فإن كان قبله فيحتمل كونه أمر إيجاب، وعلى كل فالامتثال مطلوب، ولا يشكل على الوجه الثاني صرفه لأولادها لأنه يجوز للمزي صرف زكاته إلى أولاده الذين تلزمه نفقتهم، وكذا أصوله كذلك (فأته فاسأله) هل يجزىء عني التصدق عليك وعلى أولادي فأصرفها عليكم أولاً؟ وأفاد هذا قولها عاطفة بالفاء المفيدة لتفصيل المسؤول (فإن كان ذلك يجزىء) أي يسقط

الفرض (عني) إن قلنا إنها زكاة، أو يجزىء في الوقاية من النار لحصول الصدقة المأمور بها إن قلنا إنها تطوع، أشار إليه الحافظ في «الفتح» ، وجواب الشرط محذوف لدلالة المقام عليه: أي دفعتها لكم (وإلا صرفتها إلى غيركم) قالت (فقال عبد الله: بل ائتيه أنت) لعل ذلك منه استحياء أو بيان أنها الأولى بالسؤال لأنه أمر يتعلق بها (فانطلقت فإذا امرأة من الأنصار) قال الحافظ في «الفتح» : أخرج النسائي عن ابن مسعود قال: «انطلقت امرأة عبد الله: يعني ابن مسعود، وزينب امرأة أبي مسعود: يعني عقبة بن عمرو الأنصارية» قلت: لم يذكر ابن سعد لأبي مسعود امرأة أنصارية سوى هذيلة بنت ثابت بن ثعلبة الأنصارية فلعل لها اسمين، أو وهم من سماها زينب انتقالاً من اسم امرأة عبد الله إلى اسمها اهـ. وإذا للمفاجأة، والمفاجأة حضور الشيء معك في وصف من أوصافه الفعلية كخرجت فإذا الأسد بالباب، معناه حضور الأسد معك في زمان أو مكان وصفك بالخروج، وتقدير المكان أولى لأنه الذي يخصك فهو ألصق بك من الزمان، وكلما كان ألصق كانت المفاجأة فيه أقوى. قال ابن مالك: هي حرف، وقال المبرد وغيره: هي ظرف مكان، وقال الزمخشري كالزجاج: ظرف زمان وناصبها فاجأه، وردّ أن ناصبها الخبر المذكور أو المقدر ولم تذكر في القرآن إلا وخبر المبتدأ بعدها مذكوراً (بباب رسول الله) أي واقفة به (حاجتها حاجتي) من التعبير البليغ (وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ألقيت عليه المهابة) بفتح الميم مصدر ميمي: أي الهيبة وهي الإجلال وكان فيه للاستمرار: أي إنه مهاب موقر مع ما كان عليه من عظيم حسن الخلق وبديع التواضع حتى كان أصحابه في مجلسه يعتريهم من ذلك ما يصيرون به خاضعين خافضين رؤوسهم كأن على رؤوسهم الطير (فخرج علينا بلال فقلنا له: ائت رسول الله) لا ينافي ذلك أنه لم يكن له حاجب ولا بواب، لأن بلالاً لم يكن موقفاً لذلك، وإنما صادف وقوفهما وجوده عند النبيّ، فأخرجه إليهما ليسألهما عن حاجتهما (فأخبره بأن) الباء زائدة في المفعول الثاني للتأكيد (امرأتين) واقفتان (بالباب يسألانك أيجزىء) بضم الياء والهمزة من الإجزاء بمعنى الإسقاط، وبفتح الياء وترك الهمزة آخره

بمعنى يكفي (الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما) أي ولايتهما وتربيتهما (ولا تخبره) أي إذا لم يسألك عنا (من نحن) أي فإننا نستحيي من ذلك (قالت: فدخل بلال على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله، فقال له رسول الله: أي الزيانب؟ قال: امرأة عبد ا) كذا فيما وقفت عليه من نسخ الرياض، وفيه حذف، ولفظ مسلم الذي ساق المصنف الحديث بلفظه «فسأله فقال له رسول الله: من هما؟ قال: امرأة من الأنصار وزينب، فقال له رسول الله: أي الزيانب؟ فقال: امرأة عبد ا» ولفظ البخاري «فلما صار إلى منزله جاءت زينب امرأة ابن مسعود تستأذن عليه، فقيل: يا رسول الله هذه زينب فقال: أي الزيانب؟ فقيل: امرأة ابن مسعود» (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها) كذا فيما رأيت بإفراد الضمير وكأنه لتعيينها وحكم صاحبتها معلوم من ذكر حكمها لأن المادة واحدة، والذي في مسلم لهما بضمير التثنية. وحاصل الجواب أن ذلك يجزىء عنهما، ولهما عليه (أجران: أجر القرابة) في الأولاد: أي أجر صلة الرحم التي تكفل الله لمن وصلها بأن يصله بما لا يقدر غيره سبحانه قدره (وأجر الصدقة) فيهم وفي الزوج. وفي الحديث تغليب، فإن ابن مسعود كان زوجاً فقط، وفي الحديث «إن أحق الناس بصرف صدقة التطوّع والزكاة والنذر والكفارة والوقف والوصية وسائر وجوه البرّ الأقارب» وبه أخذ أئمتنا (متفق عليه) واللفظ لمسلم أخرجاه في الزكاة وأخرجه النسائي في عشرة النساء وابن ماجه في الزكاة. 16327 - (وعن أبي سفيان) بتثليث سينه المهملة والضم أشهر (صخر) بفتح المهملة وسكون الخاء المعجمة بعدها راء (ابن حرب) بفتح الحاء المهملة وسكون الراء بعدها موحدة ابن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأموي (رضي الله عنه) وسبقت ترجمته والكلام على حديث في باب الصدق (في حديثه الطويل) المذكور في «صحيح البخاري» في كتاب بدء

الوحي، وفي «صحيح مسلم» في أثناء كتاب الجهاد (في قصة هرقل) بمنع الصرف للعلمية والعجمة (أن هرقل قال لأبي سفيان: فماذا) أي فما الذي (يأمركم به، يعني) أي هرقل بمرجع الضمير المستتر في أمركم (النبيّ) وهذه الجملة من كلام المصنف احتاج إلها، لأنه ذكر هذه القطعة المشتملة على ضمير لم يصرح بذكر مرجعه في باقي الخبر (قال: قلت يقول اعبدوا الله وحده) أي وحدوه (ولا تشركوا به شيئاً) بيان للتوحيد المأمور به وتنكير شيء للعمم، فيشمل الشرك الأكبر وهو الكفر، والأصغر وهو الرياء، فالعبادة الكاملة ما قصد بها لتقرّب لوجه الله سبحانه وتعالى دون ما سواه مطلقاً (واتركوا ما يقول آباؤكم) من الكفر (ويأمرنا) من عطف الرديف باعتبار المعنى: إذ التوحيد وترك الكفر من جملة ما أمر به النبيّ، وكأنه خالف بين العبارتين تفنناً ولاختلاف نوعهما إذ مدخول القول هو الأصول وما بعد الأمر هو الأخلاق المبنية عليها الملاحظة بعد ما تقدمها (بالصلاة والصدق) في الأقوال والأفعال (والعفاف) عن المحارم (والصلة) للأرحام (متفق عليه) . 17328 - (وعن أبي ذرّ) جندب بن جنادة وسبقت ترجمته (رضي الله عنه) في باب المراقبة، (قال: قال رسول الله) هو من الإخبار بالمغيبات، فهو من جملة الإعجاز، وقد وقع كما أخبر به النبيّ والحمد (إنكم ستفتحون) السين لتأكيد الوعد، قال البيضاوي: لن يفعل نفي سيفعل، وما يفعل نفي يفعل اهـ. وفي «المغني» : زعم الزمخشري أنها: أي السين إذا دخلت على فعل محبوب أو مكروه أفادت أنه واقع لا محالة ولم أر من فهم وجه ذلك، ووجهه أنها تفيد الوعد بحصول الفعل فدخولها على ما يفيد الوعد والوعيد مقتض للتوكيد اهـ. (أرضاً يذكر) بالبناء للمجهول (فيها القيراط) قال في المصباح: أصله قراط

لكنه أبدل من أحد المضعفين ياء للتخفيف كما في دينار ونحوه، ولهذا يرد في الجمع والتصغير إلى أصله فيقال قراريط وقريرط. قال بعض الحسَّاب: القيراط في لغة اليونان حبة خرنوب، وهو نصف دانق، والدانق عندهم اثنا عشر حبة، والحسَّاب يقسمون الأشياء أربعة وعشرين قيراطاً لأنه أول عدد له ربع وثمن ونصف وثلث صحيحات من غير كسر اهـ. وقال المصنف: قال العلماء: القيراط جزء من الدينار والدرهم وغيرهما، وكان أهل مصر يكثرون من استعماله والتكلم به (وفي رواية) هي لمسلم أيضاً (ستفتحون مصر) بمنع الصرف للعلمية والتأنيث باعتبار إرادة البقعة؛ سميت باسم أول من سكنها وهو مصر بن بنصر بن سام بن نوح. وحدّها طولاً من برقة التي في جنوب البحر الرومي إلى أيلة، ومسافة ذلك قريب من أربعين يوماً، وعرضاً من مدينة أسوان وما سامتها من الصعيد الأعلى إلى رشيد وما حاذاها من مساقط النيل في البحر الرومي، ومسافة ذلك قريب من ثلاثين يوماً (وهي أرض يسمى) أي يذكر كثيراً (فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيراً) يحتمل أن تكون معطوفة على جملة ستفتحون بناء على جواز عطف الإنشاء على الخبر، ويحتمل الاستئناف وتنكير خيراً للتعميم والتكثير (فإن) الفاء فيه للسببية: أي بسبب أن (لهم ذمة) أي ذماماً: أي حقاً وحرمة (ورحماً) . (وفي رواية فإذا) أتى بها لأنها تستعمل في المحقق وقوعه بخلاف إن الشرطية (افتتحتموها فأحسنوا إلى أهلها) بأنواع الإحسان كما يؤذن به حذف المعمول، ويومىء إليه قوله في الرواية السابقة خيراً (فإن لهم ذمة ورحماً، أو قال ذمة وصهراً. رواه مسلم) في الفضائل، أو قال: يعني النبيّ، وهو شك من الراوي (ذمة وصهراً) بدل قوله «ورحماً» قال في «المصباح» : قال الخليل: الصهر أهل بيت المرأة، قال: ومن العرب من يجعل الأحماء والأختان جميعاً أصهاراً.g وقال الأزهري: الصهر يشتمل على قرابات النساء ذوي المحارم وذوات الأرحام، ومن كان من قبل الزوج من ذوي قرابة المحارم فهم أصهار المرأة أيضاً. وقال ابن السكيت: كل من كان من قبل الزوج من أبيه وأخيه وعمه فالأحماء، ومن كان من قبل المرأة فالأختان، ويجمع الصنفين الأصهار. اهـ ملخصاً. (قال العلماء: الرحم التي لهم) أي في الحديث (كون هاجر) بفتح الجيم وتبدل الهاء همزة وهو ممنوع الصرف للعلمية والعجمة، أو والتأنيث المعنوي (أم إسماعيل) بن إبراهيم (صلى الله عليه) وعليه (وسلم منهم) أي من مصر، لأنها أعطاها الجبار لسارة امرأة إبراهيم

علي السلام لما منعته يد القدرة عنها فأعطتها سارة إبراهيم فحملت منه إسماعيل (والصهر كون مارية أم إبراهيم ابن) سيدنا وسيد الخلق أجمعين (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم) لأن المقوقس صاحب مصر لما كاتبه النبيّ يدعوه إلى الإسلام لم يسلم، وأرسل بهدية إلى النبيّ منها مارية وسيرين فحملت مارية بإبراهيم، وأعطى سيرين لحسان بن ثابت الأنصاري. وهذا التفسير عزاه هنا للعلماء لعدم الخلاف فيه ولم يعزه إلى أحد في شرح مسلم لأن المتفق عليه لا يحتاج إلى العزو، والله أعلم. 18329 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية) المبينة بقوله: (وأنذر عشيرتك الأقربين) أي قرابتك الأدنين (دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشاً) هم ولد النضر بن كنانة على الصحيح (فاجتمعوا فعم) أي دعاهم بما يعمهم (وخص) أي خصيص بعضاً بالنداء وبين كيفية التعميم والتخصيص بقوله: (فقال: يا بني كعب بن لؤي) بحذف تنوين كعب لفظاً وألف ابن خطاً، ومثله كان ابن وقع بين علمين ما لم يقع في ابتداء سطر (أنقذوا أنفسكم) أي خلصوها (من النار) المترتبة على الكفر والعصيان بالإيمان با تعالى وطاعته وأداء عبوديته (يا بني عبد مناف) بكسر دال عبد لأنه مركب إضافي ومناف محول عن منات اسم لصنم. قال السهيلي في «الروض الأنف» : كانت أمه قد أخدمته منات وكان صنماً عظيماً لهم وكان يسمى عبد منات، ثم نظر قصيّ فرآه يوافق عبد مناف بن كنانة فحوله عبد مناف. ذكره البرقي والزبير (انقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم) لقب به لهشمه الثريد لقومه، واسمه عمرو (أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد المطلب) قاله المطلب جد

الإمام الشافعي لما جاء به من المدينة مردفاً له على راحلته وعليه ثياب بذلة، فكان إذا سئل عنه يقول عبدي، حتى ألبسه قال ابن أخي، فغلب عليه ذلك، واسمه كما قال السهيلي شيبة (أنقذوا أنفسكم من النار) وهذا آخر ما عمم فيه وقال مخصصاً (يا فاطمة) بالضم، قال المصنف: كذا وقع في بعض الأصول وفي بعضها أو أكثرها يا فاطم بحذف الهاء على الترخيم وعليه فيجوز ضم الميم وفتحها كما عرف في نظائره: أي من الانتظار وعدمه (أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئاً) قال المصنف: معناه لا تتكلوا على قرابتي فإني لا أقدر على دفع مكروه يريده الله تعالى بكم (غير) استثناء منقطع، وترادفها في هذا المعنى والاستعمال بيد، ومنه حديث «نحن الآخرون السابقون بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا» والمعنى هنا لكن حصل (أن لكم رحماً سأبلها ببلالها. رواه مسلم) في كتاب الإيمان والنسائي في الوصايا، وذكر الحافظ في «النكت الظراف» أن البخاري أخرجه عقب حديث شعيب عن الزهري فقال: تابعه أصبغ عن ابن وهب اهـ. (قوله: ببلالها هو بفتح الباء الثانية) أي التي هي أول الكلمة، أما الأولى الجارة فمكسورة لا غير (وكسرها) قال في شرح مسلم: ضبطناه بهما وهما وجهان مشهوران ذكرهما جماعة من العلماء. وقال عياض: رويناه بالكسر قال: ورأيت في الخطابي أنه بالفتح، وقال صاحب «المطالع» : رويناه بكسر الباء وفتحها من بل يبله (والبلال الماء) وفي «المصباح» : وقيل البلال ما يبل به الحلق من ماء ولبن (ومعنى الحديث سأصلها، شبه قطيعتها بالحرارة) تشبيهاً مضمراً في النفس وأثبت لازم المشبه وهو ما تضمنه قوله (تطفأ) بالبناء للمجهول (بالماء وهذه تبرد بالصلة) قال المصنف: ومنه حديث «بلوا الأرحام» أي صلوها، من البلل المذهب حرارتها فالتشبيه المضمر في النفس استعارة مكنية وإثبات البلال تخييل. 19330 - (وعن أبي عبد الله عمرو بن العاص) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب بيان

كثرة طرق الخير (قال: سمعت النبيّ جهاراً) منصوب على الحال: أي حال كونه مجاهراً بالقول (غير مسر) ووقوع المصدر حالاً كثير لكن مع ذلك هو سماعي وابن العاص من العرب الذين لهم ذلك فيه، أو مفعول مطلق: أي يجهر جهراً به، وقوله غي مسر صفة مؤكدة (يقول: إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء) هذا لفظ مسلم، والذي في البخاري «إن آل أبي» قال عمرو: يعني ابن عباس شيخ البخاري «في كتاب محمد بن جعفر - أي شيخ عمرو - بياض» قال السيوطي: أي موضع أبيض بغير كتابة اسم للمضاف إليه قال الشيخ زكريا في «التحفة» : المراد بفلان أبو طالب أو أبو العاص بن أمية، والمراد من آله من لم يسلم منهم اهـ. وقال السيوطي: وفي «مستخرج» أبي نعيم «إن آل أبي طالب» فقيل الراوي له عنبسة بن عبد الواحد أموي من الناصبة المنحرفين على عليّ فلا يقبل منه هذا التعبير، وقيل هو محمول على غير المؤمنين، وعلى كونه العاص فإنما أبهمه الراوي لخوف مفسدة تترتب على ذكره. قال الدلجي: لأن الأمر حينئذٍ كان في ذويه اهـ. وفي «تعليق المصابيح» للدماميني قال ابن العربي في «سراج المريدين» : معنى الحديث آل أبي طالب، قال: ومعناه إني لست أخصّ قرابتي ولا فصيلتي الأدنين بولاية دون المسلمين وإنما رحمهم معي في الطالبية فسأبلها ببلالها: أي أعطيها حقها فإن المنع عند العرب يبس والصلة بلّ (إنما وليي) أي ناصري والذي أتولاه في جميع الأمر (اوصالح المؤمنين) كذا رأيته بحذف الواو من صالح على أنه مفرد مضاف اكتفى بعمومه، ويؤيده آية {فإن تظاهرا عليه فإن اهو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين} (التحريم: 4) فالحديث على طبق الآية، فإنها دلت على حصر أوليائه فيمن ذكر. قال الكواشي في التفسير: المراد بصالح المؤمنين: أبو بكر أو عمر أو هما أو عليّ أو كل من برىء من المؤمنين من النفاق أو هم الأنبياء، وصالح المؤمنين مفرد يراد به الجمع كقوله: {السارق والسارقة} (المائدة: 38) وزعم بعضهم أنه يجوز أن يكون أصله صالحو فيكتب بغير واو إتباعاً للفظ (ولكن) استدراك لما قد يتوهم من عدم مواصلتهم بإثباتها بقوله: (لهم رحم أبلها ببلالها. متفق عليه) رواه البخاري في الأدب ومسلم في الإيمان (واللفظ للبخاري) ورواه البزار.

20331 - (وعن أبي أيوب خالد بن زيد) بن كليب بن ثعلبة بن عوف بن غنم بن مالك بن النجار (الأنصاري) الخزرجي النجاريّ المدني الصحابي الجليل (رضي الله عنه) شهد العقبة وبدراً وأحداً والخندق وبيعة الرضوان وجميع المشاهد مع رسول الله، ونزل عنده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم المدينة مهاجراً وأقام عنده أشهراً حتى بنيت مساكنه ومسجده. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة وخمسون حديثاً، اتفقا على سبعة منها، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بآخر، وروى عنه البراء بن عازب وجابر بن سمرة وأبو أمامة الباهلي وزيد بن خالد الجهني وابن عباس وكلهم صحابة رضي الله عنهم وخلائق من التابعين. توفي بأرض الروم غازياً سنة خمسين، وقيل سنة إحدى وقيل اثنين وخمسين وقبره بالقسطنطينية حرسها الله بمنه (أن رجلاً) قال الشيخ زكريا: هو أبو أيوب الراوي كما قال ابن قتيبة، ولا مانع أن يبهم الراوي نفسه لغرض له. وأما تسميته في حديث آخر عن أبي هريرة عند البخاري بأعرابي فلا ينافي ذلك لجواز التعدد، وذلك الأعرابي هو ابن المنتفق، قيل: واسمه لقيط بن صبرة اهـ. (قال: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة) برفع يدخلني عل أنه صفة عمل وجواب الأمر محذوف: أي يثبكالله، ويجوز أن يجزم على أنه جواب الأمر، وعليه فتنوين عمل للتعظيم والتفخيم ليكون بوصف مقيداً (فقال النبيّ: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً) عطف على ما قبله مفيد لبيان العبادة المعتدّ بها، أو حال بإضمار مبتدأ كما تقدم في الباب نظيره (وتقيم الصلاة) أي تأتي بها مستجمعة لأركانها وشرائطها وسننها (وتؤتي) أي تعطي (الزكاة، وتصل الرحم) وخص الرحم بالذكر لقربها من السائل أو نظراً لحاله كأنه كان قاطعاً لها فأمر بصلتها لأنها المهمّ بالنسبة إليه، وعطف الصلاة وما بعدها على العبادة من عطف الخاص على العام (متفق عليه) رواه البخاري في الزكاة، ومسلم في الإيمان، ورواه النسائي في كتاب الصلاة وكتاب العلم، قاله الحافظ المزي. 21332 - (وعن سلمان بن عامر) بن أوس بن حجر بن عمرو بن الحارث بن تيم بن ذهل بن

مالك بن سعد بن بكر بن ضبة بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر الضبي (رضي الله عنه) قال مسلم: لم يكن في الصحابة ضبيّ غيره، نزل البصرة وله بها دار بقرب الجامع، روى عنه محمد وحفصة ولدا سيرين، روي له عن النبيّ ثلاثة عشر حديثاً، انفرد البخاري بحديث واحد ذكره في «مختصر التلقيح» ، واقتصر المصنف في «التهذيب» على أن البخاري روى عنه حديثاً واحداً عن (النبي قال: إذا أفطر أحدكم) أي أراد الفطر من صومه (فليفطر على تمر) اسم جنس جمعي فأقله ثلاثة، وهذا عند فقد الرطب، وإلا فهو مقدم عليه كما جاء من فعله ذلك (فإنه) أي التمر (بركة) لما فيه من حفظ البصر وجمع ما تفرّق منه بالصوم، ومن أنه إذا وصل المعدة فإن وجد فيها فضلة من بقايا الطعام أخرجها وإلا كان غذاء. وقول الأطباء: يضعف البصر محمول على كثيره المضرّ دون قليله (فإن لم يجد تمراً فالماء) بالجر: أي فليفطر عليه كما جاء كذلك في رواية عند رواة هذا الحديث (فإنه طهور) أي مزيل للخبائث المعنوية والحسية. وأخذ من هذا الحديث لإطلاق الماء فيه ردّ ما قيل من تقديم زمزم لمن بمكة على التمر، فإن جمع بينهما فحسن، والترتيب المذكور للاستحباب، فلو أفطر بالماء مع وجود التمر حصل أصل سنة الإفطار على الماء (وقال) أي النبيّ عطف على قال الأول، فهو من جملة ما رواه سلمان (الصدقة على المسكين صدقة) أي ثوابها ثواب صدقة واحدة (وعلى ذي الرحم) أي القرابة من الأب أو الأم وإن بعد (ثنتان: صدقة وصلة) أي فيها ثوابان جليلان، ثواب الصدقة وثواب صلة الرحم (حديث حسن) هذا التحسين من المصنف وما يأتي بعد من الترمذي فلا تكرار، وذلك لأن تحسينات الترمذي ليست مسلمة له كما علم من سرّ كلامهم (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) وكذا رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والدارمي، وروى الحديث عنه أبو داود أيضاً وابن عديّ، إلا أن قوله: «فإنه بركة» انفرد به عنهم الترمذي كما في «المشكاة» ، وفي «الجامع الصغير» بعد ذكر الحديث الأوّل بلفظ المذكور هذا رواه ابن عدي وابن خزيمة وابن حبان، وبعد ذكر الحديث الثاني ورواه الحاكم في «المستدرك» .

22333 - (وعن ابن عمر) بن الخطاب (رضي الله عنهما قال: كانت تحتي امرأة) لم أقف على من سماها (وكنت أحبها وكان عمر يكرهها فقال لي: طلقها) أمره بذلك لكراهته لها، والظاهر أنها دينية، أو خشي أن تجره إلى ضرر في دينه (فأبيت) أي لما لها من الحبّ عندي (فأتى عمر النبيّ فذكر له ذلك) أي إبائي وامتناعي من طلاقها بعد أمره به (فقال النبيّ) من باب زيادة البر بالوالد (طلقها) والظاهر أنه طلقها لأنه لا يتخلف عن امتثال أمر النبيّ، وكأن السكوت على ذلك للعلم به من أحواله وكمال اتباعه المانع ذلك من خطور البال لمخالفة أمره (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح) . 23334 - (وعن أبي الدرداء) عويمر، تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب ملاطفة اليتيم (أن رجلاً أتاه فقال: إن لي امرأة وإن أمي تأمرني بطلاقها) أي وأنا لا أريد ذلك لمحبتها أو لسبب آخر (فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: الوالد) يشمل الأبوين وإن علوا (أوسط أبواب الجنة) قال أبو موسى المدني؛ أي خيرها، يقال هو من أوسط قومه أي من خيارهم. قال العراقي: والمعنى أن برّه مؤدّ إلى دخول الجنة من أوسط أبوابها. وقال العاقولي: المعنى أحسن ما يتصول به إلى دخول الجنة بر الوالدين. وكلام العراقي أقرب فيكون في الحديث مضاف إلى المبتدأ وآخر في الخبر (فإن شئت فأضع ذلك الباب) أي بعدم برّها وترك امتثال أمرها (أو احفظه) بذلك وإن لم يكن واجباً البرّ بالطلاق لكنه برّ لهما وإجلال لأمرهما فامتثله، وما ذكرته من أن ما ليس واجباً أصالة لا يصير واجباً بأمرهما هو ما عليه الجمهور فقالوا: إن أمرا بمباح في أصله صار مندوباً، أو بمندوب زاد تأكيد ندبه، وادعى القرطبي في «المفهم» أنه إذا أمراه أو أحدهما بأمر وجبت طاعتهما فيه وإن لم يكن

في أصله واجباً بل كانت من المباحات، ثم نقل المقابل عن البعض ثم قال: والصحيح الأول لأن الله تعالى قرن طاعتهما والإحسان إليهما بوجوب عبادته وتوحيده، وكذا جاء في السنة فذكر حديث ابن عمر المذكور ثم قال: فإن قيل يرتفع حكم الله الأصلي بحكم غيره الطارىء. قلت: إنما ارتفع حكمه تعالى بحكمه لأنه أوجب علينا طاعتهما والإحسان إليهما، وكان من ذلك امتثال أمرهما فوجب لأنه لا يحصل ما أمر الله به إلا بالامتثال، ولأن مخالفتهما في أمرهما عقوق اهـ. وفيه ما لا يخفى وقوله: «فإن شئت» مدرج في آخر الخبر من كلام أبي الدرداء والحديث (رواه الترمذي وقال: حديث صحيح) قال في الجامع الصغير: ورواه أحمد وابن ماجه والحاكم في «المستدرك» . 24335 - (وعن البراء) بالتخفيف والمد (ابن عازب) بالمهملة والزاي والموحدة (رضي الله عنهما عن النبيّ قال) في عمرة القضاء «لما خرج النبيّ وتبعته بنت حمزة تنادي يا عم يا عم، فتناولها عليّ فأخذها بيده وقال لفاطمة: دونك بنت عمك احمليها، فاختصر فيها عليّ وزيد وجعفر، فقضى بها النبيّ لخالتها وقال (الخالة بمنزلة الأم) الحديث. قال العلقمي: أي في هذا الحكم الخاص لأنها تقرب منها في الحنوّ والشفقة والاهتداء لما يصلح الولد فلا حجة فيه لمن قال: الخالة ترث. وفي حديث مرسل للباقر «الخالة والدة، وإنما الخالة أمّ - وهو بمعنى قوله: «بمنزلة الأم» أي لا أنها أم حقيقة اهـ. والمصنف أورده في الباب اعتباراً بعموم لفظه في طلب أنواع البرّ وإسداء المعروف لها كما تسدى ذلك للأم مطلب البرّ لها (رواه الترمذي وقال: حديث صحيح) ورواه أبو داود من حديث عليّ بن أبي طالب كما في «الجامع الصغير» (وفي الباب) أي البرّ والصلة (أحاديث) مع حديث عليّ بن أبي طالب كما في «الجامع الصغير» (وفي الباب) أي البرّ والصلة (أحاديث) جمع حديث على غير قياس أو جمع أحدوثة بمعنى حديث كأراجيز جمع أرجوزة، قاله في «المفاتيح في شرح المصابيح» كما تقدم أوّل الكتاب بمزيد (كثيرة في الصحيح) أي للبخاري لأنه صار

علماً بالغلبة في لسان المحدثين عليه، ويحتمل أنه يريد في الصحيح من الحديث للقابل للحسن والضعيف (مشهورة منها حديث أصحاب الغار الثلاثة وحديث جريج وقد سبقا) سبق حديث الغار في باب الإخلاص وحديث جريج في باب فضل ضعفة المسلمين (وأحاديث مشهورة في الصحيح حذفتها اختصاراً) وقد ذكرا كثيراً منها المنذري في «ترغيبه» (ومن أهمها حديث عمرو بن عبسة) بفتح المهملة والموحدة والسين المهملة (رضي الله عنه الطويل) صفة حديث (المشتمل على جمل كثيرة) بالمثلثة تأكيد لمدلول جمل وتنوينه (من قواعد الإسلام) أي أصوله وضوابطه الشاملة لكثير من جزئياته (وآدابه) جمع أدب وهو كالسنة في الطلب وإن تفاوت تأكيداً كما في «الروضة» ، وتقدم تعريف الأدب أوّل لكتاب (وسأذكره بتمامه إن شاء الله تعالى في باب الرجاء، قال فيه: دخلت على النبيّ بمكة) وقوله: (يعني في أول النبوّة) هذا مدرج لبيان زمن دخوله ووصوله (فقلت له: ما أنت) المسؤول عنه وصفه، فلذلك أجابه بقوله (قال: نبي) أي أنا نبي، ومراده به الرسول، فهو من إطلاق النبيّ بالمعنى الشامل للرسول كما يدل عليه قوله أرسلني الله (قلت: وما نبيّ؟) أي ما حقيقة هذا اللفظ ومدلوله (قال) بيان لما يؤخذ منه ذلك (أرسلني ا) حذف المرسل لأجله للتعميم وليسأل عنه السائل فيصل إليه بعد الطلب فيكون أقرّ عنده (فقلت: بأي شيء أرسلك؟ قال: أرسلني بصلة الأرحام) أي بالأمر بها والحثّ عليها، وذلك داع لدوام الاتصال وترك التقاطع والانفصال (وكسر الأوثان) جمع وثن، قيل هي الأصنام، وقيل أعم: أي إزالتها (وأن يوحد) بالبناء للمفعول (ا) حال كونه (لا يشرك به شيء، وذكر) عمرو (تمام الحديث) في باب الرجاء إن شاء الله تعالى (والله أعلم) .

41 ـــ باب تحريم العقوق وقطيعة الرحم

41 - باب تحريم العقوق وقطيعة الرحم المراد من العقوق عقوق الوالدين أو أحدهما، وهو من الكبائر، مأخوذ من العق. وهو لغة القطع والمخالفة، وشرعاً قيل ضابطه أن تعصيه في جائز وليس هذا الإطلاق بمرضيّ؛ وقال بعضهم: طالما بحثت عن ضابطه فلم أجده، والذي آل إليه كلام أئمتنا أن ضابطه أن يفعل معه ما يتأذى به تأذياً ليس بالهين، لكن هل المراد بقولهم ليس بالهين بالنسبة للوالد حتى أن ما تأذى به كثيراً وهو عرفاً بخلاف ذلك كبيرة، أو بالنسبة للعرف فما عده أهله مما لا يتأذى به كثيراً ليس بكبيرة وإن تأذى كثيراً. كل محتمل ولم يبينوه، والذي يظهر أن المراد الثاني بدليل أنه لو أمر ولده بنحو فراق حليلته لم يلزمه طاعته وإن تأذى بذلك كثيراً، فعلمنا أنه ليس المناط وجود التأذي الكثير، بل أن يكون ذلك من شأنه أنه يتأذى به كثيراً، وقطيعة الرحم ضد صلته وتقدم في الباب قبله ما تعرف منه، وكذا تقدم فيه في حديث أبي هريرة أوائل الكلام على ما يتعلق بقول المصنف. (قال الله تعالى) : ( {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم. أولئك الدين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم} ) . (وقال تعالى) : ( {والذين ينقضون عهد ا} ) أي ما عهده الله إليهم من التكاليف والأحكام (من بعد ميثاقه) أي ما أوثقه به من الإقرار والقبول.t وفي «رسالة الاستعارة» للخوجة أبي القاسم السمرقندي جوز صاحب الكشاف كونه: أي الأمر الذي أثبت للمشبه من خواص المشبه به استعارة تحقيقية في بعض المواد كما في قوله تعالى: {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه} (البقرة: 27) استعير الحبل المضمر في النفس للعهد بجامع الوصلة على سبيل الكناية واستعير النقض لإبطاله: أي إبطال العهد على سبيل التصريح بجامع مطلق الإبطال اهـ. ( {ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل} ) بدل من

الضمير المجرور، والمراد به الرحم وموالاة المؤمنين والإيمان بجميع الأنبياء ويندرج في ذلك مراعاة جميع حقوق الناس ( {ويفسدون في الأرض} ) بالظلم وتهييج الفتن ( {أولئك لهم اللعنة} ) البعد من الله سبحانه ( {ولهم سوء الدار} ) عذاب جهنم أمر سوء عاقبة الدنيا لأنه في مقابلة - عقبي الدار - وتقدم الكلام في الباب قبله على قوله: (وقال تعالى) : ( {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفّ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً. واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} ) فيه استعارة مكنية يتبعها استعارة تخييلية ( {وقل ربّ ارحمهما كما ربياني صغيرا} ) والكاف في «كما» يحتمل أن تكون للتعليل كما في قوله تعالى: {كما هداكم} (البقرة: 198) على أحد الأقوال. وحينئذٍ فيحتمل أن يكون لبيان سبب دعائك لهما، ويحتمل أن يكون للتنظير والمراد رحمة تامة بالغة كما بالغا جهدهما في تربيتي حال صغرى وانقطاعي ثم كان اللائق بالترجمة تقديم هذه الآية لأن فيها النهي عن العقوق بالتصريح، وبالقياس الأولويّ، وباللازم من الأمر بالبر والإحسان إليهما، إذ الأمر بالشيء نهي عن ضده، والآيتان في القطيعة، إلا أن يقال إنهما شاملان للعقوق لأنه من قطع الأرحام، ومن قطع ما أمر الله به أن يوصل فذكر له من الكتاب دليلاً شاملاً لتحريمه وتحريم غيره من القطيعة ثم ذكر ما يخصه اهتماماً به. 1336 - (وعن أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه) سبقت ترجمته في باب النية أول الكتاب (قال: قال رسول الله: ألا) حرف استفتاح وأتى بها ليتنبه المخاطب من غفلته ليتوجه لسماع ما يلقى إليه فيقرّ في قلبه ولذا إنما يؤتى بها فيما يهتم بأمره (أنبئكم بأكبر الكبائر) جمع كبيرة، والصحيح، بل الصواب أن من الذنوب صغائر وكبائر وأن للكبيرة حدا، فالمختار أنها ما ورد فيه وعيد شديد في الكتاب أو في السنة وإن لم يكن فيه حد وهو بمعنى قول إمام الحرمين: كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين وقلة الديانة. ومن أحسن ما ألف فيها وأجمع كتاب «الزواجر عن اقتراف الكبائر» لشيخ شيوخنا المحقق شهاب

الدين أحمد بن حجر الهيثمي رحمه الله (قلنا: بلى يا رسول الله) فائدته مع عدم الاحتياج إليه الإشارة إلى عظيم الإذعان لرسالته وما ينشأ منها من بيان الشريعة، وإلى استجلاء شيء من كمالاته وعلومه التي أوتيها بعد رسالته (قال: الإشراك با) أي الكفر بأنواعه (وعقوق الوالدين) أو أحدهما، وجمعهما لأن عقوق أحدهما يستلزم عقوق الآخر غالباً أو يجر إليه وتقدم تعريف أول الباب. فإن قلت: أكبر الكبائر لا يكون إلا واحداً وهو الشرك فكيف تعدد هنا؟ وأيضاً فنحو القتل والزنا أكبر من العقوق فلم حذفا وذكر هو؟ قلت: ادعاء أن الأكبر لا يكون إلا واحداً إنما هو إن أريد الحقيقة، أما إن أريد الأكبر النسبي فهو يكون متعدداً، ولا شك أن الأكبر بالنسبة إلى بقية الكبائر أمور أشار إليها وإلى أمثالها النبي بقوله: «اتقوا السبع الموبقات» الحديث، وحينئذٍ فالأكبر هنا لتعدده في الجواب مراد به الأمر النسبي، وإنما ترك ذكر القتل ونحوه في هذا الحديث لأنه علم من أحاديث أخر أن ذلك من أكبر الكبائر، على أنه كان يراعي في مثل ذلك أحوال الحاضرين، وعليه يحمل اختلاف الأحاديث نحو «أفضل الأعمال الصلاة» وأخرى «أفضل الأعمال الجهاد» وأخرى «أفضل الأعمال بر الوالدين» وغير ذلك من نظائر له لا تخفى (وكان متكئاً فجلس) تنبيهاً على عظم إثم وقبح شهادة الزور، فيفيد تأكيد تحريمه وتعظيم قبحه، وسبب الاهتمام به حتى جلس بعد اتكائه سهولة وقوع الناس فيه وتهاونهم به، فإن الإشراك ينبو عنه قلب المسلم والعقوق يصرفه عنه الطبع، والحوامل على الزور كثيرة جداً كالعداوة والحسد، فاحتيج إلى الاهتمام بشأنه لأن مفسدته متعدية إلى الغير بخلاف ما معه فقاصرة عليه (فقال: ألا وقول الزور) يحتمل كون الواو استئنافية لعظم قبح هذا الذنب ومزيد إثمه، ويحتمل أنها عاطفة على محذوف: أي اتركوا ما ذكر من الكبائر وقول الزور وهو الكذب على الغير (وشهادة الزور) قال ابن دقيق العيد: يحتمل أن يكون من الخاص بعد العام، لكن ينبغي أن يحمل على التوكيد، فإنا لو حملنا القول على إطلاقه لزم كون الكذبة الواحدة كبيرة وليس كذلك، قال: ولا شك أن عظم الذنب ومراتبه متفاوتة بتفاوت مفاسده، ومنه قوله تعالى: {ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً} (النساء: 112) (فما زال يكررها) أي هذه الكلمة باعتبار المعنى اللغوي، أو الشهادة لأنها أقرب مذكور

وقول الزور بمعناه (حتى قلنا: ليته سكت) أي شفقة عليه وكراهية لما يزعجه وخشية أن يجري على لسانه ما يوجب نزول البلاء عليهم. وفيه ما كانوا عليه من كثرة الأدب معه والمحبة له والشفقة عليه (متفق عليه) رواه البخاري في مواضع من «صحيحه» أولها الشهادات، ورواه مسلم في الإيمان، ورواه الترمذي في مواضع من «جامعه» منها البر ومنها الشهادات وقال: حسن صحيح. 2337 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاصي) بإثبات الياء كما هو الأفصح كما تقدم (رضي الله عنهما عن النبي قال: الكبائر) أي منها والاقتصار عليها كأنه لاقتضاء المقام ذكرها لتقصير بعض الحاضرين في شأنها أو لكونها أعظم الكبائر إثماً وأشدها جرماً (الإشراك) أي الكفر (با وعقوق الوالدين وقتل النفس) التي حرم الله قتلها عدواناً (واليمين الغموس) الغين المعجمة والسين (رواه البخاري) وأحمد والترمذي والنسائي كما في «الجامع الصغير» . (اليمين الغموس) المد دور في الحجر (التي يحلفها) أي الحالف، نظيره قوله تعالى: {اعدلوا هو} (المائدة: 3) أي العدل (كاذباً عامداً) حال من فاعل يحلف (سميت غموساً) بفتح الغين (لأنها تغمس الحالف في الإثم) لأنه حلف كاذباً على علم منه، فغموس فعول بمعنى فاعل كما في «المصباح» . 3338 - (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال من الكبائر) أي بعضها: ولا ينافي ما تقدم وما

بعده أنه من أكبرها لأنه لا يخرج بذلك عن كونها بعضاً منها (شتم الرجل) أي المكلف ومثله المكلفة (والديه) بفتح الدال: أي أمه وأباه ويلحق بهما في ذلك من له عليه ولادة من أصوله، ولو قرىء بكسر الدال على الجمع لشملهم إلا أن تمنع منه الرواية، ويدل على المشبه قوله يسبّ أبا الرجل الخ (قالوا: يا رسول الله وهل يشتم) بكسر التاء، ففي «المصباح» أنه من باب ضرب (الرجل والديه؟) استفهام استبعاد أن يصدر ذلك من ذي عقل ولب، فإن من كان ذلك شأنه تدعوه معرفة حقهما إلى القيام ببرّهما وشكرهما فضلاً عن الوقوع في شتمهما، فهو استبعاد لوقوع ذلك الموصوف بالرجولية المعربة عن الكمال (قال نعم) أي يشتم لكن بالتسبب فيه لا بالمباشرة (يسبّ أبا الرجل فيسبّ) أي المسبوب أبوه (أباه) أي أبا الساب (ويسبّ أمه فيسبّ أمه. متفق عليه) . قال السيوطي في «المرقاة» : قال النووي: فيه تحريم الوسائل والذرائع. (وفي رواية) أي لهما أيضاً عنه وقد رواها كذلك البخاري في الأدب ومسلم في الإيمان ورواها أبو داود في الأدب والنسائي في الزينة وقال: صحيح، ذكره الحافظ المزي، لكن لم يذكر أن في قوله: (إن من أكبر الكبائر) أي النسبية وهي كذلك متعددة كما تقدم، أما أكبر الكبائر فالشرك با (أن يلعن الرجل والديه) وهو السبب في وجوده والقائم بمصالحه عند كمال ضعفه وحاجته (قال: يسبّ أبا الرجل فيسبّ أباه، ويسبّ أمه فيسبّ أمه) كأن حكمة تقديم الأب في الذكر أن الغالب عدم ذكر النساء حتى في مقام المدح، ولذا قيل: سترة الحرم من الكرم. 4339 - (وعن أبي محمد) ويقال أبو عدي (جبير) بضم الجيم وفتح الموحدة وسكون التحتية بعدها راء (ابن مطعم) بصيغة الفاعل من أطعم، ابن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن

قصي القرشي النوفليّ (رضي الله عنه) أسلم عام خيبر، وقيل يوم فتح مكة، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستون حديثاً، اتفقا على ستة منها، وانفرد البخاري ومسلم بحديث. روى عنه سليمان بن صرد الصحابي وابناه محمد ونافع وسعيد بن المسيب وآخرون. قال الزبير بن بكار: وكان من حكماء قريش وساداتهم، توفي بالمدينة سنة أربع وخمسين، وقال قتيبة: سنة تسع وخمسين اهـ. من التهذيب للمصنف (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يدخل الجنة قاطع) أي مع الفائزين الناجين أو أبداً إن كان مستحلاً للقطيعة مع علمه بتحريمها (قال سفيان) هو ابن عيينة (في روايته) لهذا الحديث فإن الحديث عندهما من طريقه ومن طريق عقيل ومن طريق مالك ومن طريق عبد الرزاق، أربعتهم عن الزهري عن جبير، ذكره الحافظ المزي في «الأطراف» (يعني) النبي بقوله: «قاطع» المجمل المحتمل لمعان (قاطع الرحم) وكأنه لعظم إثمه ومزيد الاعتناء به لا ينصرف هذا اللفظ إلا إليه ادّعاء. 5340 - (وعن أبي عيسى) ويقال أبو عبد الله ويقال أبو محمد (المغيرة) قال ابن السكيت وآخرون من أهل اللغة بضم الميم وكسرها والضم أشهر (ابن شعبة) بن أبي عامر بن مسعود بن أبي معتب بالعين المهملة المفتوحة ابن مالك بن منصور بن عكرمة بن خصفة بفتح المعجمة والصاد المهملة والفاء ابن قيس بن عيلان بالمهملة ابن مضر بن نزار بن معد بن عدنان الثقفي الكوفي (رضي الله عنه) أسلم عام الخندق، وروي له عن النبي مائة وستة وثلاثون حديثاً، اتفقا على تسعة منها، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بحديثين، روى عنه أبو أمامة الباهلي والمسور بن مخرمة وفزة المزني الصحابيون، ومن التابعين جماعات، ولاه عمر البصرة مدة ثم نقل عنها فولاه الكوفة، فلم يزل عليها حتى قتل فأقر عثمان عليها ثم عزله، وشهد اليمامة وفتح الشام، وذهبت عينه يوم

اليرموك، وشهد القادسية وفتح نهاوند، وكان على ميسرة النعمان بن مقرن، واعتزل الفتنة بعد قتل عثمان وشهد الحكمين، واستعمله معاوية على الكوفة فلم يزل عليها حتى توفي بها سنة خمسين وقيل إحدى وخمسين، وهو أوّل من وضع ديوان البصرة اهـ ملخصاً من «التهذيب» (عن النبي قال: إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات) اقتصر عليهن مع تحريم عقوق الآباء أيضاً لأن الاستخفاف بهن أكثر لضعفهن وعجزهن بخلاف الآباء ولينبه على تقديم برّهن على برّ الأب في التلطف والخير ونحو ذلك، ويل هو من تخصيص الشيء بالذكر إظهاراً لعظم توقعه، والأمهات جمع أمهة وهي لمن لا يعقل بخلاف الأم فإنه أعم (ومنعاً) لما يجب أداؤه من الحق (وهات) الاستكثار من حق الغير بغير حق: أي حرم عليكم طلب ما ليس لكم أخذه، ثم منعاً بالتنوين وفي رواية بغير التنوين وهو بسكون النون مصدر منع يمنع، وأما هات بكسر التاء أمر من الإيتاء والأصل آت بهمزة ممدودة قلبت ألفاً. قال الحافظ: الحاصل من النهي منع ما أمر بإعطائه وطلب ما لا يستحق، ويحتمل أن يكون النهي عن السؤال مطلقا ويكون ذكر هنا مع ضده ثم أعيد مطلقاً تأكيداً للنهي عنه، ثم ما ذكر من أن منعاً مكتوب بالألف كذا في الأصل، لكن قال ابن مالك في «التوضيح» : إنه من المكتوب على لغة ربيعة، ومنع بحذف الألف على لغتهم لأنهم يقفون على المنوّن المنصوب بالسكون فلا يكتبون الألف. وقيل حذفها لأن تنوين منعاً أبدل واواً وأدغم في الواو فصار اللفظ: يعني بعد قلبها واواً مشددة كاللفظ، يقول وشبهه فجعلت صورة الخط مطابقة للفظه، ويمكن أن يكون الأصل ومنع حق فحذف المضاف وبقيت هيئة الإضافة اهـ (ووأد) بسكون الهمزة: أي دفن (البنات) بأن يدفنّ أحياء، يقال وأد بنته وأدا من باب وعد: دفنها حية فهي موءودة كذا في «المصباح» ، وإنما خص البنات بتحريم وأدهن لأنه هو الواقع فتوجه النهي إليه لا أن الحكم مخصوص بالبنات بل هو حكم عام. يقال أوّل من وأد البنات قيس بن عاصم التميمي، كان أغار عليه بعض أعدائه فأخذ بنته فاتخذها لنفسه ثم اصطلحا فخير بنته فاختارت زوجها، فآلى قيس على نفسه أن لا تولد له بنت إلا دفنها حية، فتبعته العرب على ذلك. وكانوا فيه فريقين منهم من يفعله خشية الإقتار، ومن يفعله خشية العار، ومن العرب من لا يفعل ذلك. وكان صعصعة بن ناجية التميمي وهو جد الفرزدق أول من فدى الموءودة، وذلك أنه كان يعمد إلى من يراد فعل ذلك منها فيفديها منهم بمال فينفق عليها، وقد بقي كل من قيس وصعصعة إلى أن أدركا الإسلام فأسلما، ولهما صحبة، وكانوا في الوأد على طريقين:

أحدهما أن يأمر امرأته عند الوضع أن تطلق بجانب حفيرة فإن وضعت ذكراً أبقاه وإلا ألقاها فيها. وثانيهما أن يصبر على البنت إلى أن تصير سداسية ثم يأخذها وقد زينتها أمها، فيأتي بها إلى حفرة كان حفرها قبل فيقول لها انظري قعرها، ويرميها من ورائها ويطمها بالتراب (وكره لكم قيل وقال) قال الحافظ في «الفتح» في رواية الشعبي: كان ينهى عن قيل وقال، كذلك كثر في جميع المواضع بغير التنوين، ووقع في رواية الكشميني هنا قيلاً وقالاً، والأشهر الأوّل، وفيه تعقب على من زعم أنه جائز ولم يقع في الرواية. وقال الجوهري: قيل وقال اسمان، يقال: كثر القيل والقال كذا جزم باسميتهما واستدل له بدخول أل عليهما، وقال ابن دقيق العيد: لو كانا اسمين كالقول لم يكن لعطف أحدهما على الآخر فائدة وأشار إلى ترجيح الأوّل. وقال المحبّ الطبري: فيه أوجه: أحدهما أنهما مصدران، والمراد من الحديث الإشارة إلى كراهة كثرة الكلام لأنها تؤول إلى الخطأ وكرر المصدر مبالغة في الزجر. وثانيها المراد حكاية أقوال الناس والبحث عنها ليخبره غيره فيقول قال فلان وقيل لفلان، فالنهي عنه إما للزجر وهو الاستكثار منه، وإما لشي مخصوص، وهو ما يكرهه المحكي عنه. قلت: وعليه فهما بفتح اللام حكاية للفعل الماضي وكذا على الوجه الثالث الآتي، واقتصر على الأوّل منهما ابن أقبرس في «شرح الشفاء» فقال: يريد به المنع من التبرّع بنقل الأخبار، فعاد لما فيه من هتك الستار وكشف الأسرار، وقد أشار إلى أن ذلك ليس من محسنات الإسلام بقوله: «من حسن أسلام المرء تركه ما لا يعنيه» وفيه من جهة المعنى موافقة لقوله تعالى: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا} » (النور: 19) الآية، لأن الله تعالى ستار. ويخص من هذا نقل الأخبار النافعة لا سيما إذا كانت صحيحة عن ثقة اهـ. ثالثها أن في ذلك الإكثار الزلل إذ هو مخصوص بمن ينقل لا عن تثبت ولكن تقليداً لمن سمعه ولا يحتاط اهـ. وقول المصنف معناه الخ شامل للآخرين. وفي «المشكاة» قوله قيل: وقيل بناهما على كونهما فعلين محكيين متضمنين للضمير والإعراب على أنهما مصدران ولذا دخل عليهما أل فيما يعرف القيل من القال اهـ بمعناه. وفي

«المصباح» : القيل والقال اسمان من قال يقول لا مصدران قاله ابن السكيت ويعربان بحسب العوامل، وفي «الارتشاف» هما في الأصل فعلان ماضيان جعلا اسمين واستعملا استعمال الأسماء وأبقى فتحهما ليدل على ما كانا عليه، قال: ويدل عليه ما في الحديث «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قيل وقال» بالفتح وحكى الوجهين في «التهذيب» ، ولا يستعمل القيل والقال إلا في الشر اهـ. (وكثرة السؤال) أي سؤال المال لنفسه من غير حاجة والسؤال عن المشكلات والمعضلات من غير ضرورة وعن أخبار الناس وحوادث الزمان، وسؤال الإنسان بخصوصه عن تفصيل أحواله فقد يكره ذلك، فالأولى حمل السؤال في الخبر على ما يعم الجميع وذلك لأنه اسم جنس محلى بأل فيعم، أما سؤال المال للغير فالظاهر اختلافه باختلاف الأحوال، ولنفس لحاجة فلا كراهة بشرط عدم الإلحاح وذل نفسه زيادة على ذل السؤال والمسؤول، فإن فقد شرط حرم قال الفاكهاني: يتعجب ممن كره السؤال مطلقاً مع وجوده في عصر النبي وصالحي السلف من غير نكير، قال العلقمي لعل من كرهه أراد أنه خلاف الأولى ولا يلزم من وقوعه وتقديره تغير صفته، وينبغي حمل السؤال منهم على أنه كان عن حاجة. وفي قوله من غير نكير نظر ففي الأحاديث الكثيرة ذم السؤال فيها كفاية في إنكار ذلك (وإضاعة المال) أي بإنفاقه في غير وجه المأذون فيه شرعاً سواء كانت دينية أو دنيوية، والمنع من إضاعته لأن الله تعالى جعله قياماً لمصالح العباد وفي تبذيره تفويت لتلك المصالح إما في المبذر أو في حق الغير، ويستثنى كثرة الإنفاق في وجوه البرّ لتحصيل ثواب الآخرة ما لم يفوّت حقاً آخر أهم. قال التقى السبكي في «الحلبيات» : الضابط في إضاعة المال ألا يكون لغرض ديني ولا دنيوي فإذا انتفيا حرم قطعاً، وإن وجد أحدهما وجوداً له حال وكان الإنفاق لائقاً بالحال ولا معصية فيه جاز قطعاً، وبين الرتبتين وسائط كثيرة لا تدخل تحت الضابط، فعلى الفقيه أن يرى فيما لا ينتشر منه رأيه. وأما ما ينتشر فقد تعرض له أحكام، فالإنفاق في المعصية كله حرام، ولا نظر فيما يحصل في مطلوبه من اللذة الحسية وقضاء الشهوة النفية. وأما إنفاقه في مباحات الملاذّ فهو موضع اختلاف، وظاهر قوله: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً} (الفرقان: 67) أن الزائد غير اللائق بحال المنفق إسراف، ثم قال: ومن بذل كثيراً في غرض يسير عده العقلاء مضيعاً بخلاف عكسه، والله أعلم. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة والاستقراض والأدب، ومسلم في الأحكام، قال الطيبي: وهذا الحديث أصل في معرفة حسن الخلق وهو يستتبع جميع الأخلاق الجميلة (قوله منعاً) أي بالتنوين (معناه منع ما وجب عليه) أي أداؤه (وهات)

أي معناه في المشهور (طلب ما ليس له) أي أخذه، وتقدم قول آخر أنه نهي عن مطلق السؤال، ثم هو محتمل لدخوله في النهي بأن يكون خطاباً لاثنين كأن ينهى الطالب عما لا يستحقه وينهى المطلوب منه عن إعطاء ما لا يستحقه الطالب لئلا يعينه على الإثم، قاله الحافظ في «الفتح» ، وعليه فيكون المعنى: وكره لكم هات سؤالاً وإجابة للسائل بها (وقيل وقال) ظاهره أنهما في الحديث بالبناء على الفتح، ويحتمل أن يكونا مرفوعين: أي والمراد منهما شيء واحد ولذا قال (معناه الحديث) اسم مصدر من التحديث (بكل ما يسمعه) من أقوال الناس (فيقول قيل كذا) مما قصد به بيان المحكي ولم يتعلق الغرض بتعيين من صدر عنه ذلك (وقال فلان كذا) مما تعلق الغرض فيه بهما معاً (مما لا يعلم صحته ولا يظنها) بيان لما يسمعه (وكفى بالمرء) الظاهر أن الباء مزيدة في المفعول للتأكيد، و (إثماً) تمييز وليس مفعولاً ثانياً لأن المتعدي إليهما كفى بمعنى وفي نحو قوله تعالى: {وكفى الله المؤمنين القتال} (الأحزاب: 25) لا بمعنى حسب، بل قد يكون حينئذٍ لازماً نحو {كفى با} ومتعدياً لواحد كالحديث، وقوله (أن يحدث) فاعل كفى أي تحديثه (بكل ما سمع) من غير تثبت واحتياط وقدمت في حديث «كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته» في باب النفقة على العيال، عن المظهري أنّ يحبس مبتدأ وكفى خبره مقدماً عليه أو خبر مبتدأ محذوف وظاهر جريان ذلك هنا أيضاً (وإضاعة المال تبذيره) في «المصباح» : بذرت الكلام: فرقته، وبذّرته بالتثقيل مبالغة وتكثير، ومنه اشتق التبذير في المال لأنه تفريق في غير القصد اهـ. (وصرفه في غير الوجوه المأذون فيها) من إتلاف أو في معصية، وقوله: (من مقاصد الآخرة والدنيا) بيان للوجوه المأذون فيها (وترك حفظه) معطوف على تبذيره لأوّليته أو على صرفه لقربه، وإنما يكون ترك الحفظ إضاعة للمال إذا كان (مع إمكان الحفظ) أما إذا عمّ الحريق أو النهب وما تمكن من حفظه فضاع عليه بذلك فلا

42 ـــ باب فضل بر أصدقاء الأب والأم

يدخل في الإضاعة (وكثرة السؤال: الإلحاح) فيه (إلا لحاجة إليه) من مال أو علم، وظاهره أنه لا منع من سؤال خال عن الإلحاح لما لا يحتاج إليه، وقد تقدم بيان حكم ذلك. والإلحاح بالمهملتين: الإقبال على السؤال مواظباً (وفي الباب) أي تحريم العقوق والقطيعة (أحاديث سبقت في الباب) المعقود (قبله) أي قبل الباب المذكور في قوله وفي الباب (كحديث وأقطع) بصيغة المتكلم (من قطعك) أي من قوله تعالى للرحم: «وأقطع من قطعك» (وحديث من قطعني قطعه ا) . 42 - باب فضل بِر أصدقاء الأب والأم جمع صديق وهو كما في «المصباح» : الصادق، وهو من الصداقة واشتقاقها من الصديق في الود والنصح والجمع أصدقاء وامرأة صديق وصديقة أيضاً (والزوجة) كذا في النسخ بالتاء وهي لغة ضعيفة والأفصح والزوجين بحذفها على أنه أولى ليعم كلاً منهما بالتصريح، وإلا فإكرام الزوجة أقرباء زوجها مقيس على إكرامه أقربائها بالأولى لتأكد حقه عليها ووجوب احترامها له (وسائر) باقي أو جميع فيكون من عطف العام على الخاص للتعميم (من يندب إكرامه) من شيخ ومريد وملك عادل. 1341 - (عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبيّ قال: أبرّ البرّ) أي أكمله وأبلغه (أن

يصل الرجل) ومثله المرأة كما تقدم مراراً وإفراده بالذكر لشرفه (ودّ أبيه) بضم الواو وتشديد الدال المهملة: وهو الحب، وعقب هذا الحديث قبل ذكر مخرجه بما بعده لأنه حديث واحد. وفي الثاني بيان وقت صدور التحديث بابن عمر بالحديث. 2342 - (وعن عبد الله بن دينار) هو أبو عبد الرحمن القرشي العدوي المدني مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب سمع ابن عمر وأنساً وجماعة، روى عنه ابنه عبد الرحمن ويحيى الأنصاري وسهيل وربيعة الرأي وموسى بن عقبة، وهؤلاء تابعيون وخلائق غيرهم اتفقوا على توثيقه، توفي سنة سبع وعشرين ومائة. (عن) قصة (عبد الله بن عمر رضي الله عنهما) هي (أن رجلاً من الأعراب) بفتح الهمزة أهل البدو من العرب، الواحد أعرابيّ بالفتح أيضاً، وهو الذي يكون صاحب نجعة، كذا في «المصباح» ، ولم أقف على من سماه (لقيه) الضمير المستتر يعود للرجل والبارز لابن عمر (بطريق مكة فسلم عليه عبد الله بن عمر وحمله على حمار كان يركبه) للتروّح عليه إذا مل ركوب الراحلة كما في «الزوائد» بعد (وأعطاه عمامة كانت على رأسه) أي حينئذٍ يشد بها رأسه في السفر، والظاهر أنها غير ما يعتم به في الحضر كما يأذن به الرواية بعد، وهي تبين أيضاً أن ما وقع كان بعد تعرّفه بالرجل الأعرابي (قال ابن دينار فقلنا) يحتمل أن يكون هو وباقي من مع ابن عمر وهو الظاهر من الضمير ويحتمل أنه وحده، وعبر بذلك إما لتأكيد الإضمار بصدور ذلك عنه أو لأمر آخر (إنهم الأعراب وهم يرون باليسير فقال عبد الله بن عمر: إن أبا هذا كان وداً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه) بضم الواو مصدر ود من باب تعب أي ذا ود عمر، أو وادّه أو مودوده وأطلق عليه المصدر مبالغة قال الحافظ وضم الواو في المصدر هو المشهور، وحكى الفراء فتحها فيه وحكى كسرها فيه فهو مثلث، قلت وقد حكاه ابن مالك في كتاب الأعلام في المثلث وسكت عليه، عبر بقوله لعمر الخ دون قوله لوالدي إشارة إلى أن لبره مقتضيات: الأوّل أنه ودّ أبيه.

والثاني أنه ودّ شيخه. الثالث أنه ود رأس الصالحين، ودلالة لفظ عمر على هذين أظهر (وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول) الجملة المصدرية يحتمل كونها معطوفة على أن هذا الخ، ويحتمل أن تكون في محل الحال الثاني أقرب والرابط الواو (إن أبرّ البر) أي أبلغه (صلة الرجل أهل) أي أصحاب (ودّ أبيه) أي حبه وإن لم يكونا أقربا للفرع ولا للأصل فإن برهم برّ ذي الود لهم من الأبوين وما أحسن ما قيل: أهوى العقيق ومن أقام بحبه وأهيله وهواهم لي مغنم ما ذاك إلا أن بدري منهم ولأجل عين ألف عين تكرم (وفي رواية) أخرى (عن ابن دينار عن) قصة (ابن عمر أنه كان إذا خرج إلى مكة كان له حمار) هو الذكر من الحيوان الناهق والأنثى أتان وحمارة نادر والجمع حمير وحمر بضمتين وأحمرة كذا في «المصباح» (يتروح) بتشديد الواو أي يستريح (عليه إذا مل) أي إذا شثم وضجر (ركوب الراحلة) أي المركب من الإبل ذكراً كان أو أنثى. قال في «المصباح» وبعضهم يقول الناقة التي تصلح أن ترحل (وعمامة يشد بها رأسه، فبينا) الألف فيه للإشباع كافة لبين عن الإضافة فالجملة بعده مستأنفة، ومثلها بينما (هو يوماً على ذلك الحمار إذ مر به أعرابيّ فقال) يعني ابن عمر (ألست فلان بن فلان) استفهام تقريري. وفلان قال ابن السراج: كناية عن اسم يسمى به المحدث عنه خاص غالب، ويستعمل من غير أل في غير الآدمي، ومنه حديث أبي يعلى الموصلي بسند صحيح على شرط مسلم عن ابن عباس قال: «ماتت شاة لسودة بنت زمعة فقالوا: يا رسول الله ماتت فلانة، يعني الشاة» قال المصنف: هكذا في الأصل المصحح فلانة من غير أل فهو صريح في جواز ذلك، وعدم تعين أل فيه في غير الآدميين خلافاً للجوهري (قال بلى، فأعطاه الحمار فقال: اركب هذا والعمامة) فـ (ــقال اشدد) بضم الدال (بها رأسك، فقال له بعض أصحابه) منهم ابن دينار كما دلت عليه الرواية السابقة، وقد يبهم الراوي نفسه لغرض (غفر الله لك) فيه تنبيه على

أدب العتاب أن يقدم الدعاء للمخاطب ثم يعاتب، وهذا أخذ من قوله تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} (التوبة: 43) قال القاضي عياض في «الشفاء» : يجب على المسلم المجاهد نفسه، الرائض بزمام الشريعة خلقه أن يتأدب بآداب القرآن في قوله وفعله ومعاطاته ومحاوراته، وليتأمل هذه الملاطفة العجيبة والسؤال من رب الأرباب المنعم على الكل المستغني عن الجميع، ويتبين ما فيها من الفوائد وكيف ابتدأ بالإكرام قب العتب وآنس بالعفو قبل ذكر الذنب إن كان ثم ذنب اهـ. (أعطيت) يحتمل أن يكون بتقديره همزة الاستفهام الإنكاري، ويحتمل أن يكون إخباراً لبيان لازم الخبر والأول أقرب: أي أعطيت (هذا الأعرابي حماراً كنت تروّح) بتشديد الواو والرفع وحذفت من أوله إحدى التاءين تخفيفاً: أي تتروح (عليه وعمامة كنت تشد بها رأسك، فقال) دفعاً لإنكار ما أنكروه عليه مما حاصله وضع الشيء في غير موضعه ببيان الحامل على ذلك (إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن من أبرّ البر) لا ينافي إثبات «من» هنا إسقاطها في الأوّل لأنها مرادة، أو أنه أراد أنه أبرّ بالنسبة للمخاطب به ذلك الوقت كما تقدم قريباً (صلة الرجل أهل ودّ أبيه بعد أن يولى) بضم التحتية وتشديد اللام المكسورة: أي بعد أن يموت. قال العاقولي: والمعنى من جملة برّ الرجل بوالده أن يودّ أصحاب أبيه وأهل وده بعد موته. وأقول: إن المعنى إن من جملة بره صلة أهل ود أبيه بعد موته (وإن أباه) أي: أبا المعطي (كان صديقاً لعمر رضي الله عنه) أي فلذا وصلته (روى هذه الروايات كلها مسلم) فروى الرواية الأولى المذكورة عن ابن دينار فذكره، وروى الترمذي في البر والصلة من طريق آخر إلى الوليد عن دينار حديث «إن أبرّ البرّ صلة الولد أهل ودّ أبيه» من دون القصة، وقال صحيح. وروى الرواية الثانية عنه عن الحسن الحلواني: ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، ثنا أبو الليث بن سعيد جميعاً عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد بن عبد الله بن دينار فذكره. ورواه أبو داود من طريق الحرّ إلى يزيد فذكر الحديث دون القصة.

3343 - (وعن أبي أسيد بضم الهمزة وفتح السين) المهملة وسكون التحتية بعدها دال مهملة (مالك بن ربيعة) وقيل هلال بن ربيعة ومالك أثكر، ابن البدن بالموحدة والمهملة المفتوحتين والنون، هكذا نقله ابن هشام عن ابن إسحاق وابن عقبة عن الزهري، ورواه إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن عمه موسى عن الزهري «بالبدى» بالياء فصحف، وإنما الصحيح النون ابن عامر بن عوف بن حارثة بن عمرو بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الأنصاري الخزرجي (الساعدي) نسبة لجده ساعدة وهو مشهور بكنيته، شهد (رضي الله عنه) بدراً وأحداً والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ابن أسحاق وغيره، وعمي قبل قتل عثمان رضي الله عنه، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية وعشرون حديثاً، له في الصحيحين أربعة أحاديث اتفقا على واحد منها، وللبخاري وحده حديثان، ولمسلم كذلك واحد، توفي أبو أسيد سنة ستين قاله المدايني، قال أبو نعيم إنه وهم، وقيل سنة خمس وستين. وقال الواقدي وخليفة: سنة ثلاثين، قال ابن عبد البرّ: وهذا وهم فقيل إنه آخر من مات من البدريين، وكان عمره خمساً وسبعين سنة اهـ ملخصاً من «أسد الغابة» مما ذكره في الأسماء والكنى في ترجمته، وسكت عن تعيين محل وفاته، وفي كتاب «در السحابة في مواضع وفاة الصحابة» للصغاني أنه مات بالمدينة (قال: بينا نحن جلوس عند النبيّ إذ جاءه رجل من بني سلمة) لم أقف على من سماه (فقال: يا رسول الله هل بقى من برّ أبويّ) المأمور أنا به (شيء أبرّهما به) أي لأبرهما به (بعد موتهما؟ قال: نعم، الصلاة) أي الدعاء (لهما) كما يدل عليه قوله تعالى: {وقل ربّ ارحمها} (الإسراء: 24) (والاستغفار) من عطف الخاص على العام اهتماماً: أي وتدعو بالمغفرة (لهما، وانقاذ) بالذال المعجمة (عهدهما) أي من وصية وصدقة وغير ذلك (من بعدهما) تنازعه المبتدآت قبله ويحتمل أن المتعلق كائنات فيشمل الجميع (وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما) قال الطيبي؛ التي ليست بصفة للمضاف إليه بل المضاف الصلة الموصوفة بأنها خالصة لحقهما ورضاهما، لا

لأمر آخر ولفظ البيهقي «وصلة رحمهما التي لا رحم لك إلا من قبلهما، فقال: ما أكثر هذا وأطيبه يا رسولالله، قال: ما عمل به فإنه يصل إليهما» قال العاقولي: وفي الحديث تنبيه على اغتنام فضيلة الصلة وأنها طاعة لا يكون إدراكها إلا من جهتهما، فإنه لو فرض أن إنساناً تولد من تراب مثلاً ولم يولد له لم يكن لذلك الإنسان سبيل إلى دخول الجنة من صلة الرحم، فإنه لا رحم له، فإذا كان الوالدان سبباً في مثل هذه الطاعة وجب رعايتهما وحفظهما فيها (وإكرام صديقهما) وبمعناه حديث ابن عمر في الباب (رواه أبو داود) في الأدب، وكذا أخرجه في الأدب بنحوه. 4344 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ماغرت) بكسر الغين في «المصباح» : غار الرجل على امرأته غضب فيها، والمرأة على زوجها تغار من باب تعب غيراً وغيرة بالفتح وغاراً قال ابن السكيت: ولا يقال غيراً ولا غيرة بالكسر، وأغار الرجل امرأته تزوّج عليها فغارت عليه اهـ. (على أحد من نساء النبيّ) يعني ضرائرها أمهات المؤمنين رضي الله عنهن (ماغرت على خديجة رضي الله عنها) وذلك لما رأت لها عنده من مزيد المكانة الدالّ عليه إكثار ذكرها والتنويه بشكرها بعد فقدها، وكانت عائشة أحبّ سائر زوجاته الموجودات معها إليه، وبينت هذا المعنى بقولها: (وما رأيتها قط) ظاهره لم يقع نظرها عليها وذلك لتقدم وفاتها على تمييز السيدة عائشة، فإنه كان سنها عند عهده بها بها ستّ سنين، وكان ذلك قبل الهجرة بسنتين، وقيل ثلاث، وقيل خمس وتوفيت السيدة خديجة قبل الهجرة بقريب من ذلك، ويحتمل أن يكون مرادها ما رأيتها عنده ضرة معي، ويعضد هذا قولها عند الشيخين «ولقد هلكت قبل أن يتزوجني بثلاث سنين» قال المصنف: أي قبل بنائه بها، أما العقد بها فكان موتها قبله بنحو سنة ونصف (ولكن) أي وجه الغيرة أنه (كان يكثر ذكرها) أي وفيه دليل المحبة، قال:» من أحب شيئاً أكثر من ذكره» (وربما ذبح الشاة ثم يقطعها) يحتمل كون الإسناد فيها حقيقة، وذلك من مزيد تواضعه وكمال فضله، فقد كان يخصف نعله ويرقع ثوبه ويكون في مهنة أهله، ويحتمل أن يكون مجازاً. أي يأمر بذلك،

ويقعطها مضارع من باب التفعيل للتكثير (أعضاء) جمع عضو بكسر أوّله وضمه وهو كل لحم وافر بعظمه (ثم يبثها في صدائق) جمع صديقة كصحيفة أي في ذوات صداقة (خديجة) يفعل ذلك حفظاً لعهدها وزيادة في برّها (فربما) يحتمل التقليل والتكثير، والأول أقرب (قلت له: كأن) بتخفيف النون واسمها ضمير منويّ: أي كأنه (لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة) أي فذلك المقتضى لمزيد الوداد، وأما وجود من يساويها في هذا الوصف في المقضي لهذا الشأن (فيقول: إنها كانت وكانت) أي يثني عليها بأفعالها وفعالها وجاء في حديث آخر «أن عائشة قالت: أوليس قد أبدلك الله خيراً منها؟ فقال: لا وا، آمنت بي حين كفر بي قومي ونصرتني حين خذلني قومي وأعطتني مالها حين منعني قومي» أو كما قال (وكان لي منها ولد) بفتحتين، وهو اسم جنس يصدق على الواحد والجمع، وجميع ولده منها إلا إبراهيم فمن مارية، قيل وإلاّ سقط اسمه عبد الله من السيدة عائشة ولم يثبت هذا، وإنما كنيت بابن أختها عبد الله بن الزبير (متفق عليه) أخرجاه في فضائل خديجة، وأخرجه فيه الترمذي وقال حسن صحيح، وأخرجه فيه وفي الوفاة النسائي، وأخرجه ابن ماجه في الجنائز كذا في «الأطراف» للمزي. (وفي رواية) هي فيهما إلى قوله خلائلها (وإن) مخففة من الثقيلة واسمها محذوف: أي وإنه كان ليذبح الشاة، اللام هي الفارقة بين إن المخففة والنافية (فيهدي في خلائلها) أي صدائقها جمع خليلة: وهي الصديقة (ما يسعهن) أي يكفيهن (منها) وفي «صحيح مسلم» «وإن كان ليذبح الشاة ثم ليهديها إلى خلائلها» . (وفي رواية) لمسلم قالت (كان إذا ذبح الشاة يقول: أرسلوا بها) يحتمل كون الباء للتبعيض كقوله تعالى: {يشرب بها عبدا ا} (الإنسان: 6) قال في «المغنى» : أثبت هذا المعنى الأصمعي والفارسي والعتبي وابن مالك، قيل والكوفيون اهـ ملخصاً. ويحتمل كونها مزيدة، ويؤيده ما تقدم في حديث مسلم «ثم يهديها» والأوّل أقرب بلغة الجميع، وحفظ العهد أنسب (إلى أصدقاء خديجة) أي أصحاب صداقتها وأصدقاء جمع صديق، وتقدم أنه يقال على المذكر والمؤنث، ويقال فيها أيضاً صديقة. (وفي رواية لهما) عن عائشة رواها

البخاري في فضل خديجة ومسلم في الفضائل كذا في «الأطراف» للمزي. وتعقبه الحافظ في «النكت» عليه بما حاصله أن البخاري لم يقل فيه: ثنا ولا أخبرنا إسماعيل بن محمد، فلذا جزم الحميدي في جميعه بأنه ذكره تعليقاً. قال الحافظ: وقد وصله أبو عوانة عن محمد بن يحيى: ثنا إسماعيل بن خالد عن علي بن مسهر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة اهـ. (استأذنت) طلبت الإذن (هالة) بتخفيف اللام (بنت خويلد) بن أسد بن عبد العزى بن قصي (أخت) أم المؤمنين (خديجة) رضي الله عنها. وهالة هذه أم العاص بن الربيع زوج السيدة زينت بنت سيدنا رسول الله، وليس لخديجة أخت غيرها اسمها هالة، قاله ابن الأثير في «أسد الغابة» (على رسول الله) متعلق باستأذنت (فعرف استئذان خديجة) أي تذكر عند استئذانها خديجة وكانت نغمتها تشبه نغمة خديجة؛ وأصل هذا أن من أحبّ محبوباً أحبّ محبوباته وما يتعلق به ويشبهه، وما أحسن ما قيل: أحبّ من أجلكم من كان يشبهكم حتى لقد صرت أهوى الشمس والقمرا أمرّ بالحجر القاسي فألثمه لأن قلبك قاس يشبه الحجرا وقال آخر: أشبهت عذالي فصت أحبهم إذ صار حظي منك حظي منهم (فارتاح لذلك) افتعال من الراحة: أي حصلت له راحة نفسانية بسماع صوت هالة لتذكره عهد خديجة. قال المصنف: أي هش لمحبتها وسر به لتذكره بها خديجة وأيامها، وفيه دليل حسن العهد وحفظ الود ورعاية حرمة الصاحب والعشير في حياته وبعد موته، وفي المطالع ارتاح أي هشّ ونشطت نفسه، وقيل حن إليها، وقيل سر بها، ومنه يرتاع للندى ويرتاح: أي يسرّ فيهش (فقال: اللهم هالة بنت خويلد) قال القرطبي: يجوز فيه الرفع خبر مبتدأ: أي هذه هالة فأكرمها، والنصب عن إضمار فعل؛ أي أكرم هالة ونحوه مما يليق بالمعنى، وهذه الأخبار فيها فضل خديجة، والصحيح أنها أفضل أمهات المؤمنين لما لها من السوابق الجليلة والأيادي الجميلة، وقد أقرأها الحق السلام على لسان جبريل الأمين، ولم ير ذلك لغير الأنبياء إلا لها وللصديق الأكبر، أما عائشة فهي أكثر علماً وأفضل مما عداها من باقي الأمهات بلا خلاف (قولهما فارتاح هو بالحاء) المهملة (وفي

الجمع بين الصحيحين لـ) - أبي عبد الله بن محمد بن أبي نصر فتوح (الحميدي) بالتصغير نسبة لجده الأعلى حميد الأندلسي القرطبي (فارتاع بالعين) أي المهملة (ومعناه اهتم به) أي باستئذانها فرحاً وسروراً لمكانها من خديجة. 5345 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: خرجت مع جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه) يحتمل أن يكون من قول أنس فيكون فيه أداء الفضل لأهله من أهله، ويحتمل أن يكون ممن بعده (في سفر فكان يخدمني) وهو أسن مني (فقلت له: لا تفعل) أي لسنك المقتضي لتوقيرك (فقال) مبيناً لسبب تواضعه لأنس مع صغر سنه عنه (إني قد رأيت الأنصار) علم بالغلبة على أولاد الأوس والخرزج؛ وهو اسم إسلامي كما تقدم أوّل الكتاب (تصنع برسول الله) أي معه (شيئاً) عظيماً لا تقوم العبارة بتفصيله، فلذا أجمل في مقالة (آليت) بالمد أي أقسمت من الألية، وهي اليمين (أن لا أصحب أحداً منهم) وإن كان أصغر مني (إلا خدمته) إكراماً للنبيّ وإحساناً للمنتسب إلى خدمته والمحسن إليه. قال المصنف: ففي الحديث دليل إكرام المحسن والمنتدب إليه وإن كان أصغر منه، وفيه تواضع جرير وفضيلته وإكرامه للنبيّ وإحسانه إلى من انتسب إلى من أحسن إليه (متفق عليه) والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

ـــ باب إكرام آل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ

43 - باب إكرام آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ المراد منهم آله الذين يحرم عليهم الصدقات كالزكاة، وهم عند إمامنا الشافعي رضي الله عنه مؤمنو ومؤمنات بني هاشم والمطلب: أي المنتمون لذلك من جانب الآباء، أما المنتمون من جانب الأمهات فليسوا من آله في منع الزكاة والصدقة الواجبة منهم، أما في الإكرام للقرابة بالمصطفى فهم كذلك لأن القرابة والنسبة إلى ذلك الجناب الشريف مشتركة بين الجميع وزوجاته. قال في «الكشاف» : وفي الآية دليل على أن أزواجه من أهل بيته فالمراد من أهل بيته المنتسبون إليه بنسب، وزوجاته (وبيان فضلهم) أي بذكر ما جاء فيه. (قال الله تعالى) : ( {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس} ) الذنب المدنس لعرضكم، والرجس كل مستقذر والمراد به هنا الإثم، وقيل الشيطان ووسوسته، وقيل الشرك، وقيل جميع المعاصي والجملة تعليل لأمر أزواجه ونهيهن على الاستئناف، ولذا عمم الحكم فقال (أهل البيت) نصب على النداء والمدح (ويطهركم) عن المعاصي (تطهيراً) من الرجس وقيل بالهدى والتوفيق، واستعارة الرجس للمعصية والترشيح بالتطهير للتنفير عنها. قال البيضاوي: وتخصيص الشيعة أهل البيت بفاطمة وعليّ وابنيهما لما روي «أنه عليه السلام خرج ذات غدوة عليه مرط ومرجل من شعر أسود فجلس فأتت فاطمة فأدخلها فيه، ثم جاء عليّ فأدخله فيه، ثم جاء الحسن والحسين فأدخلهما فيه، ثم قال: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} والاحتجاج بذلك على عصمتهم وكون إجماعهم حجة ضعيف لأن التخصيص بهم لا يناسب ما قبل الآية وما بعدها، والحديث يقتضي أنهم أهل البيت لا أنه ليس غيرهم اهـ. وقال الكواشي: المراد من أهل البيت زوجات النبي. قلت: هذا قول ابن عباس وعكرمة. قال ابن أقبرس: نقل ابن عطية عن الجمهور أنهم علي وفاطمة

والحسنان قال ومن حجة الجمهور قوله: {عنكم} ولو كان للنساء خاصة لكان عنكن. قلت: وقد أجيب عن هذا الاستدلال. قال الكواشي وقال: عنكم، دون عنكن لأنه كان فيهن فغلب، أو لأنهن في بيته وقال ابن اقبرس للقائل باختصاص ذلك بأزواجه أن يقول: لا يمتنع أن يخاطبن بخطاب المذكر تعظيماً لهن وإجلالاً. ومنع قول من قال المراد بالبيت الكعبة وبأهله المسلمون، وقيل: هم كل من حرمت عليهم الصدقة اهـ. والمصنف أورد الآية في هذا الباب، لأن آله من جملة أهل بيته. (قال الله تعالى) : ( {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس} ) الذنب المدنس لعرضكم، والرجس كل مستقذر والمراد به هنا الإثم، وقيل الشيطان ووسوسته، وقيل الشرك، وقيل جميع المعاصي والجملة تعليل لأمر أزواجه ونهيهن على الاستئناف، ولذا عمم الحكم فقال (أهل البيت) نصب على النداء والمدح (ويطهركم) عن المعاصي (تطهيراً) من الرجس وقيل بالهدى والتوفيق، واستعارة الرجس للمعصية والترشيح بالتطهير للتنفير عنها. قال البيضاوي: وتخصيص الشيعة أهل البيت بفاطمة وعليّ وابنيهما لما روي «أنه عليه السلام خرج ذات غدوة عليه مرط ومرجل من شعر أسود فجلس فأتت فاطمة فأدخلها فيه، ثم جاء عليّ فأدخله فيه، ثم جاء الحسن والحسين فأدخلهما فيه، ثم قال: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} والاحتجاج بذلك على عصمتهم وكون إجماعهم حجة ضعيف لأن التخصيص بهم لا يناسب ما قبل الآية وما بعدها، والحديث يقتضي أنهم أهل البيت لا أنه ليس غيرهم اهـ. وقال الكواشي: المراد من أهل البيت زوجات النبي. قلت: هذا قول ابن عباس وعكرمة. قال ابن أقبرس: نقل ابن عطية عن الجمهور أنهم علي وفاطمة والحسنان قال ومن حجة الجمهور قوله: {عنكم} ولو كان للنساء خاصة لكان عنكن. قلت: وقد أجيب عن هذا الاستدلال. قال الكواشي وقال: عنكم، دون عنكن لأنه كان فيهن فغلب، أو لأنهن في بيته وقال ابن اقبرس للقائل باختصاص ذلك بأزواجه أن يقول: لا يمتنع أن يخاطبن بخطاب المذكر تعظيماً لهن وإجلالاً. ومنع قول من قال المراد بالبيت الكعبة وبأهله المسلمون، وقيل: هم كل من حرمت عليهم الصدقة اهـ. والمصنف أورد الآية في هذا الباب، لأن آله من جملة أهل بيته. (وقال تعالى) : ( {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} ) تقدم الكلام عليها في باب تعظيم حرمات المسلمين. 1346 - (وعن يزيد) بفتح التحتية أوله وبعد الزاي تحتية ساكنة آخره دال مهملة (ابن حيان) بفتح المهملة وتشديد التحتية آخره نون: هو التيمي: الكوفي. قال الحافظ: ثقة من الرابعة من أواسط التابعين، روى عنه مسلم وأبو داود والنسائي (قال: انطلقت أنا وحصين) بضم المهملة الأولى وفتح الثانية وسكون التحتية آخره نون (ابن سبرة) بفتح المهملة وسكون الموحدة (وعمرو بن مسلم) بصيغة الفاعل من الإسلام (إلى) أبي عمرو، وقيل أبو عامر، وقيل أبو سعد وقيل أبو سعيد، وقيل أبو حمزة، وقيل أبو نسيئة (زيد بن أرقم) بالقاف ابن زيد بن قيس بن النعمان بن مالك بن ثعلبة بن كعب الخزرج بن الخزرج بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي (رضي الله عنه) غزا مع النبي سبع عشرة غزوة واستصغره يوم أحد، وكان يتيماً في حجر عبد الله بن رواحة وسار معه في غزوة ومؤتة، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعون حديثاً، اتفقا على أربعة، وللبخاري حديثان، ولمسلم ستة، روى عنه أنس بن مالك وخلائق من التابعين، نزل الكوفة وتوفي بها سنة ست وخمسين، وقال محمد بن سعد وآخرون: سنة ثمان وستين، وله مناقب كثيرة (فلما جلسنا) منتهين (إليه فقال له حصين: لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً) هذا إجمال لأنواعه بين أشرفها بقوله: (رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسمعت حديثه) أي من فيه والحديث رواية: هو ما أضيف إلى النبيّ أو من دونه ولو من التابعين قولاً أو فعلاً (وغزوت معه) أي جاهدت في سبيلالله، وفيه شرف العمل مع الصلحاء، ولذا شرعت الجماعة في الصلوات لتعود بركة الصالحين على المقصرين فيقبل الجميع فضلاً (وصليت خلفه) أي معه جماعة. ولما كان تفصيل ما حواه من الخير يعسر

قال مؤكداً للجملة الأولى المجملة (لقد أوتيت خيراً كثيراً) وهذا تذكير منه لنعمة الله عليه وتحريض على أداء شكرها قدر طاقته وأن لا يغفل عنه، وهو محمول على أنهم أمنوا الفتنة عليه لما علموه عنده من كمال الإيمان ومزيد العرفان المانعين من الافتتان، وقوله: (حدثنا يا زيد) فيه طلب العلو في الإسناد وأخذ العلم من أهله وفيما ذكر قبله تقديم الوسائل إلى المطالب، وفيه ما ذكره المحدثون من استحباب الثناء على المحدث بالأوصاف اللائقة به والدعاء له قبل طلب التحديث منه (ما سمعت) أي بما سمعت (من رسول الله) أي شفاهاً، واحتمال تقدير مضاف مجرور: أي من حديثه ولو بالواسطة بعيد (قال: يا ابن أخي) خاطبه بذلك لصغره بالنسبة إليه (وا لقد كبرت) بكسر الموحدة (سني) أي لقد كبرت. قال ابن طريف في كتاب الأفعال: كبر الأمر والذنب كبراً: عظم، والكبر الإثم، وفي القرآن {كبر مقتاً عند ا} (غافر: 35) وكبر الصبي كبراً ومكبراً، وفي القرآن {بداراً أن يكبروا} (النساء: 6) اهـ. وظاهر أن ما نحن فيه من الثاني (ونسيت بعض الذي كنت أعي) أي أحفظ. قال في «المصباح» : وعيت الحديث وعياً من باب وعد: حفظته وتدبرته وقوله: (من رسول الله) متعلق بأعي وفيه أن الكبر مظنة النسيان وضعف القوة الحافظة، وهو كذلك، ومن ثم كره التحديث بعد الثمانين خوفاً من الاختلاط من حيث عدم الشعور كما وقع من جماعة لم يتنبه لهم إلا بعد الوقوع في ذلك، وفرّع على ما ذكر قوله (ما حدثتكم) العائد محذوف: أي حدثتكموه (فاقبلوا) أي فاقبلوه والضمير لربط الجملة بالمبتدأ وكأنه حذفه فيهما تخفيفاً (وما لا فلا تكلفونيه) وعلى ما تضمنه قوله هنا من نهيه عن تكليفه لتحديث ما لم يحدث به يحمل ما أخرجه ابن ماجه في باب التوقي في حديث النبيّ عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: «قلنا لزيد بن أرقم حدثنا عن رسول الله، قال: كبرنا ونسينا، والحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شديد» ويؤيده أن الدميري في «الديباحة» حمله على الإكثار فقال: كره الإكثار من التحديث كثير من السلف مخافة ما فيه من الزلل، روي عن عمر قال: «أقلوا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا شريككم» وكان مالك يقول: وأنا أيضاً أقلّ الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اهـ. (ثم قال) محدثاً لنا (قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً فينا خطيباً بماء) أي عنده (يدعى) أي

الوادي الذي فيه الماء (خماً) بضم المعجمة وتشديد الميم كما سمى بدر باسم البئر التي به ولذا قال في «النهاية» : وهو موضع بين مكة والمدينة تصبّ فيه عين هناك وبينهما مسجد النبيّ اهـ. ولعل المسجد موضع قيامه حال خطبته. وقال المصنف في شرح مسلم: خم اسم لغيضة على ثلاثة أميال من الجحفة عندها غدير مشهور يضاف إلى الغيضة فيقال غدير خم اهـ. وقوله (بين مكة والمدينة) حال من ثاني مفعولي يدعى (فحمد الله) أي وصفه بنعوت الكمال (وأثنى عليه) بتنزيهه عن سائر ما لا يليق به، وما حملناه عليه مما تصير به الجملتان مؤسستين أولى من جعلهما بمعنى والثانية مؤكدة للأولى (ووعظ) أي أمر بالطاعة ووصى بها، يقال وعظه يعظه وعظاً وعظة ومنه قوله تعالى: {إنما أعظكم بواحدة} (سبأ: 46) أي آمركم وأوصيكم (وذكر) بتشديد الكاف: أي ذكرهم ما قد غفلوا عنه بمزاولة الأهل والعيال من التوجه للخدمة وأداء حق العبودية (ثم قال: أما بعد) بضم الدال لحذف المضاف إليه لفظاً ونية معناه، وكان النبيّ يأتى بها في خطبه كثيراً حتى قال الحافظ في أبواب الجمعة من «فتح الباري» : إن الحافظ عبد القادر الرهاوي بضم الراء أخرجها من قوله عن أربعين صحابياً، وهي للانتقال من أسلوب كالثناء على الله سبحانه هنا إلى أسلوب آخر أي مما ذكر بعدها (ألا أيها الناس) بحذف حرف النداء إيجازاً تنبهوا (فإنما أنا بشر) والقصر فيه لردّ ما قد يتوهمه قاصر عند ظهور الخوارق على يده صلوات الله وسلامه عليه من كونه إلهاً أو كونه ملكاً، لا لقصر صفاته على ذلك، وأيضاً أتى به ليبني عليه ما يناسبه من الانتقال الذي هو شأن هذا النوع، ويسمى الإنسان بشراً لظهور بشرته: أي ظاهر جلده يطلق على الواحد والجمع وتثنيه العرب قال تعالى: {قالوا أنؤمن لبشرين مثلنا} (المؤمنون: 47) (يوشك) بضم التحتية وكسر الشين المعجمة مضارع أوشك من أفعال المقاربة: أي يقرب. وقال الفارابي: الإيشاك الإسراع، قال الأزهري في «التهذيب» : قال النحاة: استعمال المضارع أكثر من استعمال الماضي واستعمال اسم الفاعل منها أقل، كذا في «المصباح» . وقوله (أن يأتي رسول ربي) في تأويل مصدر اسم يوشك: أي يقرب إتيان رسول ربي يعني ملك الموت داعياً إلى النقلة إلى الله سبحانه مخيراً بينها وبين البقاء في الدنيا فإنه لا يموت النبي حتى يخير بينهما (فأجيبه) بالنصب عطفاً على يأتي، ويجوز قراءته بالرفع بإضمار مبتدأ، ما لم تمنعه رواية (وأنا تارك فيكم ثقلين) بفتح المثلثة

والقاف. قال المصنف: قال العلماء: سميا ثقلين لعظمهما وكبر شأنهما، وقيل لثقل العمل بهما زاد في «النهاية» ، ويقال لكل خطير نفيس ثقل، فسماهما ثقلين إعظاماً لقدرهما وتفخيماً لشأنهما اهـ (أولهما كتاب ا) يعني القرآن (فيه الهدى) هو كقوله تعالى: {فيه هدى} (البقرة: 2) على الوقف على قوله {لا ريب} (سبأ: 24) والابتداء بقوله {فيه هدى} فيكون التقدير كما قال البيضاوي: لا ريب فيه فيه هدى، ففيه خبر مقدم وهدى مبتدأ مؤخر، والهدى في الأصل مصدر كالسرى. ومعناه الدلالة، وقيل الدلالة على البغية لأنه حصل مقابل الضلال في قوله تعالى: {لعلى هدى أو في ضلال} ولم يقيد الهدى بالمتقين كما في آية البقرة إيماء إلى عموم هدايته أي دلالته لكل مسلم وكافر كما قال في الآية الأخرى {هدى للناس} والتقييد بالمتقين في آية البقرة لأنهم المهتدون المنتفعون بنصبه ثم، في قوله فيه الهدى تجريد كقوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (الأحزاب: 21) والتجريد أن ينتزع من متصف بصفة آخر مثله لأجل البالغة في كمالها فيه ويكون بالباء الموحدة نحو: لئن لقيت زيداً لتلقين به بحراً، وبمن نحو: لتلقين منه أسداً. وبفي كالآية والحديث (والنور) أي الإشراق والإضاءة (فخذوا بكتاب ا) الباء فيه مزيدة للتأكيد نبه عليه في «المصباح» ، فقال أخذ الخطام وأخذ بالخطام على الزيادة أمسكه (واستمسكوا به) اطلبوا من أنفسكم الإمساك به، شبه تمسك الخلق به بالتمسك بالحبل الوثيق في الاعتصام وعدم الانفصام (فحث) بتشديد المثلثة من باب قتل: أي حرض (على كتاب ا) أي على الأخذ به والتمسك بحبله (ورغب) بتشديد المعجمة: أي زاد العباد رغبة (فيه ثم قال: وأهل بيتي) بالرفع: أي وثاني المتروك فيكم المدعى حرمته أهل بيتي (أذكركم ا) بتشديد الكاف من التذكير، وهو الوعظ: أي آمركم بطاعة الله وبالقيام (في أهل بيتي) ثم كرر ذلك ثانياً تأكيداً فقال: (أذكركم الله في أهل بيتي) وفيه تأكيد الوصاية بهم وطلب العناية بشأنهم فيكون من قبيل الواجب المؤكد المطلوب على طريق الحثّ عليه وناهيك به، ثم هو هكذا في النسخ التي رأيت مكرراً مرتين. وفي الشفاء في حديث الباب لكن من غير طريق مسلم قال: قال رسول الله: «أنشدكم الله وأهل بيتي ثلاثاً» قلت: وهذا الأنسب خصوصاً، وفي

الحديث «كان إذا تكلم تكلم ثلاثاً» وحينئذٍ فعدم ذكر الثالثة إما من الناسخ أو من الرواة اختصاراً، أو منه لعروض ما هو أهم من التكرار ثالثة والله أعلم. (فقال له حصين) في «الشفاء» «فقلنا له» وهو محتمل لتواردهم عليه، ويحتمل صدوره من حصين وأسنده إليهم في تلك الرواية لكونه مراداً لهم (ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس) استفهام تقريري وهو حمل المخاطب على الإقرار بمضمونه أي أما تقر بمضمون قولنا أليس (نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته) أعاده بلفظه ليحصل كمال المناسبة بين السؤال والجواب وخير الجواب ما كان من لفظ السؤال كما ذكره البيضاوي في التفسير، ولو راعى زيد الاختصال لقال بلى، قال المصنف: قال في هذه الرواية نساؤه من أهل بيته، وقال في الرواية الأخرى: أي لمسلم «فقلت من أهل بيته؟ قال نساؤه لا» فهاتان الروايتان ظاهرهما التناقض، والمعروف في معظم الروايات في غير مسلم أنه قال: «نساؤه ليس من أهل بيته» فتأول الرواية الأولى على أن المراد أنهن من أهل بيته الذين يساكنونه ويعولهم وأمرنا باحترامهم وإكرامهم وسماهم ثقلاً ووعظ في حفظ حقوقهم، فنساؤه داخلات في ذلك ولا يدخلن فيمن حرم عليهم الصدقة، وقد أشار إلى هذا بقوله: «نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته» الخ فاتفقت الروايتان. قال: وفي قوله في الرواية الأخرى من أهل بيته نساؤه دليل لإبطال قول من قال: هم قريش كلها لأن بعض أزواجه قرشيات اهـ (ولكن أهل بيته) أي المرادون عند الإطلاق كما في الآية والخبر (من حرم عليهم الصدقة) أي الواجبة (بعده) قال ابن أقبرس: هو أحد الأقوال وتعارضه الأدلة الدالة على دخول نسائه في أهل بيته كما تقدم في الكلام على الآية (قال: ومن هم؟) أي الذين تحرم عليهم الصدقة (قال: هم آل عليّ وآل عقيل) بفتح المهملة وكسر القاف (وآل جعفر) أولاد أبي طالب (وآل عباس) وبقي عليه باقي أولاد بني هاشم من آل حمزة وأولاد أبي لهب، وكونه آله مؤمني بني هاشم فقط قول الحنفية وهو أحد قولي الإمام مالك، والثاني وهو مذهب إمامنا الشافعي أنهم مؤمنو بني هاشم والمطلب، ويدل له قوله: «نحن وبنو المطلب كشيء واحد» (قال) أي حصين (كل هؤلاء حرم الصدقة) بالنصب أي منع الصدقة: أي الواجبة من زكاة ونذر وكفارة (قال نعم. رواه مسلم) في الفضائل، ورواه النسائي في المناقب. ( وفي

رواية) هي لمسلم، قال مسلم بعد إيراد الطريق الأولى وإسناد الطريقة الثانية إلى يزيد بن حيان ما لفظه: وساق الحديث بنحو حديث ابن حيان: أي الراوي في الأولى عن يزيد أنه قال (ألا) أداة استفتاح يؤتى بها لتنبيه السامع لما بعدها اهتماماً: أي ألا أنبهك (وإني تارك فيكم ثقلين) وفي نسخة «الثقلين» (أحدهما كتابالله، وهو حبل ا) قال: المصنف قيل المراد بحبل الله عهده، وقيل السبب الموصل إلى رضاه ورحمته، وقيل نوره الذي يهدى به. قلت: وهو على هذه الوجوه استعارة مصرحة، شبه ما ذكر في الأقوال الثلاثة بالحبل بجامع الوصل فأطلق عليه اسمه (من اتبعه) مؤتمراً بأوامره منتهياً عن نواهيه (كان على الهدى) الذي هو ضد الضلالة (ومن تركه) فأعرض عن أمره ونهيه (كان على الضلالة) وفيه «فقلنا من أهل بيته نساؤه؟ قال: لا، أيم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها وترجع إلى أبيها وقومها. أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده» اهـ. وتقدم عن المصنف الجمع بين قوله في حديث الباب في نسائه «إنهن من أهل بيته» ونفى ذلك في هذه الرواية، وقوله في هذه «وعصبته» إن أراد الأدنين اختص ببني هاشم، وإن أراد مطلقاً دخل الجميع وخرج ما عدا بني هاشم والمطلب لما يدل عليه فيكون عليه مخصوصاً، والله أعلم. 2347 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه موقوفاً عليه) الموقوف: ما أضيف إلى الصحابيّ من قول أو فعل (أنه قال: ارقبوا محمداً في أهل بيته) أداء لبعض واجبات حقه (رواه البخاري. ومعنى ارقبوا) أي مع المفعول كما يدل عليه ذكر الضمير في الأفعال المفسر بها وهي (راعوه) قال في النهاية: المراعاة الملاحظة (واحترموه وأكرموه) أي افعلوا ذلك معه بمراقبة أهل بيته وتعظيمهم وودادهم وحبهم،

44 ـــ باب توقير بالقاف من الوقار وهو التبجيل: أي تعظيم العلماء

والدخول في عقد ولائهم مع ولاء سائر من أمرت الشريعة بموالاته من الصحابة الأكرمين والعلماء العاملين والأولياء الكاملين، أحيانا الله وأماتنا على محبتهم، وحشرنا في زمرتهم بمنه آمين. 44 - باب توقير بالقاف من الوقار وهو التبجيل: أي تعظيم العلماء: أي بالعلوم الشرعية وآلاتها المطلوبة: أي وإن لم يكونوا من ذوي السن، والمراد علماء السنة والجماعة لما ورد من الوعيد في تعظيم ذي البدعة، وكذا يعتبر هذا في قوله (والكبار) بكسر القاف: أي في السن وإن لم يكونوا أهل علم (وأهل الفضل) من الكرم والمروءة والشجاعة وغيرها من خصال الكمال التي بها تتفاضل الرجال (وتقديمهم على غيرهم) ممن لم يكونوا كذلك: وظاهر تعبيره أنهم عند اجتماعهم يرتبون بترتيبهم في الذكر، فيقدم ذو العلم على ذي السن، وهو على من بعده (ورفع مجالسهم) وٌّ كانوا هم ينبغي لهم أن لا يطلبوا رفعها تواضعاً واتباعاً لحديث «كان يجلس حيث ينتهي به المجلس» (وإظهار مرتبتهم) أداءاً لحق ذي الحق. (قال الله تعالى: {قل: هل} ) استفهام إنكاري ما ( {يستوى الذين يعلمون} ) أي قام بهم العلم المطلوب تعلمه ( {والذين لا يعلمون} ) أي لم يقم بهم ذلك فالفعل فيه في الموضعين منزل منزلة اللازم. قال البيضاوي: الآية نفي لاستواء الفريقين باعتبار القوة العلمية على وجه أبلغ لمزيد فضل العلم، وقيل تقرير للأول أي لقوله: {أمن هو قانت} (الزمر: 9) الخ: أي كما لا يستوي العالم والجاهل لا يستوي القانت والعاصي.

1348 - (وعن ابن مسعود عقبة) بالقاف (ابن عمرو البدري) نسب إليها لكونه سكنها وإلا فلم يشهدها مع النبيّ كما تقدم بما فيه من الخلاف (الأنصاري) وتقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب المجاهدة (قال: قال رسول الله: يؤم القوم أقرؤهم) أي أكثرهم قراءة (لكتاب ا) جملة خبرية لفظاً طلبية معنى: أي ليؤمهم، ويدل عليه حديث «إذا كنتم ثلاثة فليؤمكم أكبركم» وحديث مالك بن الحويرث «وليؤمكما أكبركما» وليس المراد بها الإخبار المحض لأن ما أخبر عن حصوله فلا بد منه وكثيراً ما يؤم غير الأقرأ فدل على ما ذكرنا (فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة) قال القرطبي: تأول أصحاب الحديث بأن الأقرأ في الصدر الأول هو الأفقه، لأنهم كانوا يتفقهون مع القراءة فلا يوجد قارىء إلا وهو فقيه، قال: وكان من عرفهم تسمية الفقهاء بالقراء اهـ. فلا يشكل على ما قال إمامنا الشافعي وشيخه مالك من تقديم الأفقه على الأقرأ لأن حاجة الصلاة إلى الفقه أتم منها إلى القراءة، وأخذ الإمام أبو حنيفة بظاهر الخبر فقدم الأقرأ على الأفقه وهو المعبر عنه بأعلمهم بالسنة، قاله الشيخ زكريا في «شرح الإعلام» . وقال القرطبي: السنة هي أحاديث السنن عن النبيّ، وهذه الزيادة: أي فإن كانوا في القراءة سواء الخ مما انفرد بها الأعمش ومحلها عندنا وعند الشافعي فيما كان أوّل الإسلام عند عدم التفقه كان المقدم الأقرأ وإن كان صبياً كما جاء في حديث عمرو بن سلمة، فلما تفقه الناس في الكتاب والسنة قدم الفقيه بدليل تقديم النبي للصدّيق، وقد نص على أن أقرأهم أبيّ، فلو كان المقدم الأقرأ مطلقاً لقدم على الصدّيق، قيل له في قوله: «يؤم القوم أقرؤهم» حجة لمنع إمامة المرأة للرجال لأن القوم هم الرجال لأنهم بهم يقوم الأمر كما تقدم (فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة) إلى النبي، أو إلى دار الإسلام ويراعى ذلك في أولادهم وفيه فضل الهجرة، والأولى وإن انقطعت ففضيلتها باقية (فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سناً) أي في الإسلام كما تدل عليه الرواية الثانية «سلماً» أي إسلاماً فيقدم الشاب القديم المدة في الإسلام على الشيخ الحديث فيه، وهذه الفضيلة السبق إلى الإسلام. قال بعض العلماء: إنما رأت الأئمة هذا الترتيب لأنها خلافة النبي إذ هو إمام في الدنيا والآخرة، فهي بعده للأقرب إليه منزلة والأشبه به رتبة، ومحل هذا الترتيب ما إذا لم يوجد

الوالي بمحل ولايته وإلا فيقدم حتى على الأقرأ والأفقه، فإن لم يتقدم الوالي قدم من يصلح للإمامة وإن كان غيره أصلح منه لأن الحق فيها له كما يدل عليه قوله (ولا يؤمن الرجل الرجل) مثلاً (في سلطانه) فربّ الدار مقدم على الضيف والمعير على المستعير والسيد على عبده غير المكاتب (ولا يقعد في بيته على تكرمته) في «القاموس» هي الوسادة (إلا بإذنه) وجه المنع من هذا ما فيه من التصرف في حق الغير بغير إذن، وإذا منع من التكرمة بغير الإذن مع التساهل فيها والتخفيف فيها، فالمنع من باقي حقوق الغير بغير إذنه أولى (رواه مسلم) في كتاب الصلاة من خمس طرق مدارها على الأعمش، ومن طريق أخرى عن شعبة كلاهما عن إسماعيل بن رجاء عن أوس بن صمغج عن أبي مسعود، وأخرجه أبو داود والنسائي في كتاب الصلاة من طريقهما، وأخرجه ابن ماجه في الصلاة، كذا لخص من «الأطراف» للحافظ المزي. وقال الحافظ السيوطي في «الجامع» : أخرجه الطبراني في «الكبير» وابن أبي شيبة وأحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه اهـ. (وفي رواية له: فأقدمهم سلماً) بكسر السين وسكون اللام (بدل سناً) وفسر السلم بقوله (أي إسلاماً) قلت: لعله مأخوذ من السلم بمعنى الصلح لما فيه من الاستسلام لاستسلام المسلم وانقياده لأحكام مولاه، وهو كذلك بكسر السين وفتحها يذكر ويؤنث كما في «الصحاح» . (وفي رواية) هي لمسلم من حديث أبي مسعود أيضاً، وكان على المؤلف حيث عزا ما قبلهما له عزو هذه له لئلا يتوهم أنها لغيره، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يؤمّ القوم أقرؤهم لكتاب ا) أي أرسخهم قدماً في ذلك (و) يقدم من الأقرأ (أقدمهم قراءة) وإن اختلفوا في تقدم الهجرة وتأخرها (فإن كانت قراءتهم سواء فليؤمهم أقدمهم هجرة) منصوب على التمييز (فإن كانوا في الهجرة سواء) أي وفي الأقربية وإلا فالأقرأ مقدم على الأقدم هجرة كما في الحديث قبله، فحينئذٍ يحمل المرادمن الحديث على ما إذا تساووا في قدم الهجرة والأقرئية واختلفوا في تقدم السن في الإسلام أو اتحدوا فيه وتفاوتوا في كبره وصغره (فليؤمهم أكبرهم سناً) لأنه أقرب إلى التوجه إلى المولى وأكثر عروضاً عن الدنيا وتوجهاً إلى الدار الآخرة. وتتمة الحديث قوله: «ولا يؤمنّ الرجل في أهله وعياله» والفعل فيه مبني للمجهول مؤيد بالنون الثقيلة (والمراد بسلطانه محل ولايته) من بلد إذا كان أميراً (أو الموضع الذي يختص به) من

مسجد إن كان إماماً راتباً فيه أو بيته وأهله مطلقاً، فأمير البلد وصاحب المنزل وإمام المسجد أحق بالإمامة من الغير وإن كان الغير أفقه وأقرأ (وتكرمته بفتح التاء) الفوقية وسكون الكاف (وكسر الراء: وهي ما ينفرد به) أي عن أهل منزله كرامة له (من فراش وسرير ونحوهما) ولا يخالف ما تقدم من أنها الوسادة عن «القاموس» لإمكان حمل كلامه على أنه ذكر فرداً مما ينفرد به عنهم لأن الكرامة خاصة بها وإن كان ذلك ظاهر كلامه. وقال الشيخ زكريا في «شرح الإعلام» : وقيل مائدته. 2349 - (وعنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح مناكبنا في الصلاة) أي يسويّها بيده الكريمة حتى لا يخرج بعضها عن بعض (ويقول) حال التسوية كما هو ظاهر السياق (استووا ولا تختلفوا) بأن يتقدم منكب بعضكم على منكب بعض. يؤخذ منه أن الإمام إذا سوّى الصفوف باليد يسن له أن يقول ما ذكر، وجمعه بين الفعل والقول كما هنا، واقتصاره على القول فقط كما في أحاديث أخر مختلف باعتبار حال المخاطبين، فإذا علم اكتفاءهم بالقول لفقههم وسرعة امتثالهم اقتصر عليه، وإلا لكثرتهم أو لاختلاطهم بحديثي الإسلام محتاجين لمزيد العلم جمع بينهما (فتختلف) بالنصب لأنه جواب النهي (قلوبكم) أي أهويتها وإرادتها. وفي «فتح الإله» : فإن قلت هذا ينافي خبر «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله» إلى أن قال «ألا وهي القلب» قلت: لا منافاة لأن حديث الباب دال على أن اختلاف القلوب ناشىء عن مخالفة الأعضاء هذا الأمر الذي أمرت به بخصوصها، والثاني على أن مخالفتها لما أمرت به ناشىء عن فساد القلب وخلوه عن نور الهدى واليقين. وحاصله أن فساد القلب ينشأ عنه فساد الأعضاء وفسادها ينشأ عنه اختلاف أهوية القلوب واختلافها ينشأ عنه اختلاف الكلمة المؤدي إل ما لا يتدارك خرقه من الفتن وضعف الدين اهـ. (ليلني) أي ليقرب مني في الصلاة (منكم أولو الأحلام) جمع حلم بالكسر كأنه من الحلم، وهو الأناة والتثبت في الأمر، وذلك من شعار العقلاء، وقال المصنف: أولو الأحلام

هم العقلاء، وقيل البالغون (والنهي) بضم النون: العقلاء، فعلى قول من يقول أولو الأحلام العقلاء اللفظان بمعنى عطف أحدهما على الآخر تأكيداً، وعلى الثاني معناه البالغون العقلاء، وعليه اقتصر المصنف فيما يأتي. قال أهل اللغة: وواحد النهي نهية بضم النون وهي العقل، ورجل نه ونهي وقوم نهين، وسمى العقل نهية لأنه ينتهي إلى ما أمر به ولا يتجاوزه، وقيل لأنه ينهى عن القبائح. قال أبو علي الفارسي: ويجوز أن يكون مصدراً كالهدى وأن يكون جمعاً كالظلم، قال: والنهي في اللغة الثبات والحبس، ومنه النهي بكسر النون وفتحها للمكان الذي ينتهي إليه الماء فيستنقع. قال الواحدي: فرجع القولان في اشتقاق النهية إلى قول واحد وهو الحبس، والنهية تنهي وتحبس عن القبيح (ثم الذين يلونهم) كالصبيان سواء المراهقون وغيرهم فهم في درجة واحدة (ثم الذين يلونهم) وهم الخناثى (رواه مسلم) وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه كلهم في كتاب الصلاة، وفيه كما قال المصنف تقديم الأفضل فالأفضل إلى الإمام لأنه أولى بالإكرام، ولأنه ربما احتاج الإمام إلى استخلاف فيكون هو أولى ولأنه يتفطن لتنبيه الإمام عن السهو ما لا يتفطن له غيره وليضبطوا صفة الصلاة ويحفظوها ويتعلموها ويعلموها الناس، ولا يختص هذا التقديم بالصلاة بل السنة تقديم أهل الفضل في كل مجمع إلى إمام وكبير المجلس كمجال العلم والقضاء والذكر والتدريس والإفتاء واستماع الحديث ونحوها، ويكون الناس فيها على مراتبهم في العلم والدين والعقل والشرف والسنّ والكفاية في ذلك الباب، والأحاديث متعاضدة على هذا، وفيه تسوية الصفوف والاعتناء بها والحثّ عليها. (وقوله: ليلني هو بتخفيف النون) أي هي للوقاية (وليس قبلها ياء) أي قد حذفت للجازم (وروي بتشديد النون مع ياء قبلها) كذا جعلها هنا رواية، وعبارته في شرح مسلم، ويجوز إثبات الياء مع تشديد النون على التوكيد اهـ. وهو من زيادات هذا الكتاب على شرح مسلم فليلحق بطرته وينبه عليه، ثم تنبهت لكون كلام شرح مسلم في حديث ابن مسعود، وكلامه هنا في حديث أبي مسعود ولم يذكر في الأخير شيئاً في شرح مسلم بعد ما قدمه مما نقله عنه في حديث ابن مسعود، وظاهر أن الرأي لا مجال له في هذا الشأن وجوّز ابن حجر الهيثمي إثبات الياء ساكنة مع تخفيف النون وقال: إن ذلك لغة صحيحة (والنهى العقول) سكت عن كون النهى جمعاً أو مفرداً وإن كان تفسيره بالجمع يومىء إلى الأول لما علمت ما فيه عن الفارسي من الاحتمالين (وأولو الأحلام هم البالغون) اقتصر عليه ليكون العطف على

أصله في المغايرة. وتقدم أنه قيل إنهم العقلاء وإنه عليه من عطف الرديف (وقيل أهل الحلم) أي الأناة والتثبت في الأمر (والفضل) أي العلم وعليه فيكون عطف أولي النهي عليه من عطف العام على الخاص، وحكاية هذا مزيدة على شرح مسلم. 3350 - (وعن عبد الله بن مسعود) الهذلي الصحابي الجليل تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب الصبر (قال: قال رسول الله: ليلني) بحذف الياء وتخفيف النون كما ضبطه المصنف في شرح مسلم (منكم أولو الأحلام والنهى) يجوز في الظرف أن يكون لغواً معلقاً بالفعل، وأن يكون مستقراً حالاً من الفاعل مقدماً عليه (ثم الذين يلونهم ثلاثاً) أي كرّر ذلك ثلاث مرات، والتكرار باعتبار صفوف المأمومين، فالأولون البالغون والثانون الصبيان والثالثون الخناثى (وإياكم) منصوب على التحذير وكرره لمزيد التأكيد فقال (وإياكم) أي احذروا أنفسكم (وهيشات) بفتح الهاء وسكون التحتية والشين المعجمة (الأسواق) أي اختلاطها والمنازعة والخصومات وارتفاع الأصوات واللغط والفتن التي فيها، قاله المصنف: وقال القرطبي: هيشات الأسواق، قال أبو عبيدة: هو شاذ، والهوشة الفتنة والهيج والاختلاف، يقال هوش القوم إذا اختلفوا (رواه مسلم) . 4351 - (وعن أبي يحيى، وقيل أبي محمد: سهل) بفتح المهملة وسكون الهاء (ابن أبي حثمة بفت الحاء المهملة وإسكان المثلثة) واسم أبي حثمة عبد الله بن ساعدة وقيل: عامر بن ساعدة بن عامر بن عدي بن خيثم بن مخدعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس (الأنصاري الخزرجي) الأوسي الحارثي (رضي الله عنه) وهو مدني، توفي النبيّ وهو ابن ثمان سنين، وقد حفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث، روى له عن النبي خمسة وعشرون حديثاً، اتفقا على ثلاثاً منها، روى عنه نافع ابن جبير

وعبد الرحمن بن مسعود والزهري، وقيل لم يسمع منه اهـ ملخصاً من «التهذيب» للمصنف (قال: انطلق عبد الله بن سهل) ابن زيد بن عامر بن عمرو بن مخدعة ابن حارثة الأنصاري الحارثي (ومحيصة) بتشديد التحتية وتخفيفها لغتان مشهورتان فيه وفي حويصة الآتي، قال المصنف: ذكرهما القاضي أشهرهما التشديد (ابن مسعود) بن كعب بن عامر بن عمرو بن مخدعة بن حارثة بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن أوس الأنصاري (إلى خيبر) البلدة المعروفة ذكر الحازمي أن أراضي خيبر يقال فيها خيابر بفتح المعجمة وخروجهما إليها ليمتارا منها (وهي يومئذٍ صلح) أي مع النبيّ أي بعد فتحها وإقرار أهلها عليها صلحاً (فتفرقا) لحوائجهما (فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط) أي يتخبط ويضطرب (في دمه قتيلاً) حال من فاعل يتشحط (فدفنه ثم قدم) بكسر الدال (المدينة) علم بالغلبة على دار هجرته مأخوذة من دان إذا أطاع وهي محل الدين في الحديث «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» (فانطلق عبد الرحمن ابن سهل) أخو المقتول (ومحيصة وحويصة) بتشديد الياء على المشهور فيهما كما تقدم (ابنا مسعود) ابنا ابن عم أبي المقتول (إلى النبي فذهب عبد الرحمن) قال الشيخ زكريا في «شرح الإعلام» وفي رواية «محيصة» (يتكلم) فيجوز أن يكون كل منهما ذهب يتكلم وكان حويصة أكبر منهما والجملة في محل الحال (فقال) النبي للمتكلم (كبر كبر) بتشديد الموحدة: أي راع الكبر بضم الكاف كذا في «شرح الإعلام» لكن في مسلم بعد قوله كبر: الكبر في السن، قال المصنف: معناه يريد الكبر في السن، والكبر منصوب بإضمار يريد أو نحوها وفي نسخة المكبر اهـ. ومقتضى ضبطه النسخة الأولى أن يكون بالكسر والفتح، قال في «المصباح» : كبر الصغير وغيره يكبر من باب تعب كبراً بوزن عنب، وكبر الشيء كبراً من باب قرب عظم فهو كبير أيضاً اهـ. وظاهر أن ما نحن فيه من المادة الأولى، ثم رأيت العاقولي بين وجه ما في «الإعلام» كما يأتي عنه قريباً (وهو) أي عبد الرحمن (أحدث القوم) سناً وأسن منه محيصة وأسن منهما حويصة (فسكت فتكلما) بأن يذكر الأصغر الأكبر ما نسيه. قال المصنف: واعلم أن حقيقة الدعوى إنما هي لأخيه عبد الرحمن لا حق فيها لابني عمه، وإنا أمر أن يتكلم الأكبر وهو حويصة لأنه لم يكن المراد بكلامه حقيقة الدعوى

بل سماع صورة القصة وكيف جرت، وإذا أراد حقيقة الدعوى تكلم عبد الرحمن، ويحتمل أن يكون وكلهما في الدعوى. وقال العاقولي: هذا إرشاد وتأديب لأنهما ابنا عم أبيه وقد حضرا معه لنصره، وإذا لم يوقرهما بأن يجعل الكلام إليهما فقد أضاع حقهما، إذ لا نصيب لهما في الإرث ولا ترك لهما مجالاً في القول، والإنسان إنما يتسلى بأحد هذين مال يأخذه أو كلام ينصت إليه فيه ويذعن له. ويؤخذ منه استحباب تقديم الكبير سناً لأن حويصة أسنّ من عبد الرحمن ورتبة فإنه في عداد والده، والكبر بالضم يقال فلان كبر في قومه إذا كان أقعدهم سناً اهـ. وله نظائر فإنه يقدم بذلك في الإمامة وولاية النكاح ندباً وغير ذلك (فقال: أتحلفون) أي خمسين يميناً كما جاء في رواية (وتستحقون قاتلكم) أي يثبت حقكم عليه وهل هو قصاص أو دية فيه خلاف بين العلماء، وعرضه اليمين عليهم محمول على أن المراد إن علموا ذلك أو ظنوه إذ لا يجوز الحلف إلا عند وجود ذلك، وعرضه على الثلاثة مع أنها للوارث وهو الأخ، وأما الآخران فلا ميراث لهما مع وجوده للعلم بأنها لا تجب على غير الوارث فأطلق الخطاب لهم ومراده من يختص به اليمين، والإطلاق لكونه معلوماً عند المخاطبين كما سمع صورة الواقعة من القوم وإن الدعوى مختصة بالأخ قاله المصنف (وذكر تمام الحديث) مما لا يتعلق به غرض الترجمة وهو تقديم أهل الفضل والسن (متفق عليه) أخرجه البخاري في خمسة أماكن من «صحيحه» ، ومسلم في الحدود، وأبو داود والترمذي وابن ماجه في الديات، والنسائي في القضاء. ( وقوله: كبر كبر) بالتكرير للتأكيد (معناه يتكلم) أي ليتكلم (الأكبر) أي في السن كما ذكره المصنف في شرح مسلم أو في الرتبة كما تقدم عن العاقولي وغيره. 5352 - (وعن جابر رضي الله عنه أن النبيّ كان) للحاجة من كثرة القتلى وقلة العمال (يجمع بين الرجلين من قتلى أحد) بضمتين الجبل المعروف بالمدينة، وكانت غزوته سنة

أربع من الهجرة على قول الأكثر. قال الحافظ في «الفتح» : روى أصحاب السنن عن هشام بن عامر الأنصاري قال: «جاءت الأنصار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد فقالوا: أصابنا قرح وجهد، فقال: احفروا وأوسعوا واجعلوا الرجلين والثلاثة في القبر» صححه الترمذي. وأما دفن الرجل مع المرأة فروى عبد الرزاق بإسناد حسن عن واثلة بن الأسقع «أنه كان يدفن الرجل والمرأة في القبر الواحد، فيقدم الرجل ويجعل المرأة وراءه، وكان يجعل بينهما حائل من تراب ولا سيما إذا كانا أجنبيين» اهـ، وقوله: (يعني في القبر) بيان للمجموع فيه، وخرج به الكفن فكان كل يفرد بكفنه (ثم يقول: أيهما أكثر أخذاً) أي حفظاً (للقرآن، فإذا أشير) أي بكثرة الأخذ (إلى أحدهما) أي الرجلين (قدمه في اللحد) إلى جهة القبلة من غيره ولو أسن منه تعظيماً له أو تشريفاً لما خص به من أكثرية الأخذ للقرآن، وظاهر منه بالأولى تقديم الآخذ لشيء من القرآن على من لم يأخذ بالمرة (رواه البخاري) في الجنائز وفي المغازي، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في الجنائز أيضاً، وقال الترمذي: حسن صحيح. 6353 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال أراني) قال الحافظ في «الفتح» بفتح الهمزة من الرؤية ووهم من ضمها (في المنام) مصدر ميمي: أي النوم، والظرف في محل الحال، وجملة (أتسوك) بتشديد الواو في محل المفعول الثاني (بسواك) الباء فيه للاستعانة (فجاءني رجلان) في المنام (أحدهما أكبر من الآخر، فناولت السواك الأصغر) لعلة أو لمعنى رآه فيه من علم أو نحوه (فقيل لي كبر) بتشديد الموحدة والقائل جبريل كما جاء كذلك في رواية ابن المبارك (فدفعته إلى الأكبر منهما) قال ابن بطال: فيه تقديم ذي السن في السواك، ويلتحق به الطعام والشراب والمشي والكلام. قال المهلب: هذا ما لم يترتب القوم، فإن ترتبوا فالسنة تقديم الأيمن وهو صحيح، ويؤيده تقديم الأعرابي على الصديق في دفع الشراب إليه. وفيه أن استعمال سواك الغير بإذنه غير مكروه إلا أن المستحبّ غسله ثم استعماله (رواه مسلم) في الرؤيا وفي آخر الكتاب (مسنداً) عن نصر بن

علي عن أبيه عن صخر بن جويرية عن رافع عن ابن عمر (ورواه البخاري تعليقاً) بصيغة الجزم فقال: وقال عفان ثنا صخر بن جويرية بالإسناد المذكور. قال الحافظ في «الفتح» : قال الإسماعيلي: أخرجه البخاري بلا رواية. قلت: وقد وصله أبو عوانة في «صحيحه» عن محمد بن إسحاق الصنعاني وغيره عن عفان، وكذا أخرجه أبو نعيم والبيهقي من طريقه: والتعليق حذف أول السند واحداً فأكثر ولو لجميع السند، مأخوذ من تعليق الجدار. 7354 - (وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إن من إجلال ا) أي من تعظيمه وتبجيله (إكرام ذي) أي صاحب (الشيبة المسلم) الذي شاب شعره: أي ابيضّ ونفذه عمره في الإسلام والإيمان فتعظيمه وتقديمه في الصلاة بشرطه على غيره وفي المجامع والمجالس وفي القبر وغيره والرفق به والشفقة عليه من كمال تعظيم الله لحرمته عند مولاه سبحانه (وحامل القرآن) أي قارئه، سمي حاملاً لما تحمل في حفظه من الدرس والمشقة في تفهمه والعمل بأحكامه وتدبره فهو كحامل لمشاق كثيرة تزيد على الأحمال الثقيلة (غير) بالنصب على الاستثناء وبالجر على الوصفية (الغالي) بالمعجمة (فيه) المتجاوز الحد في التشدد والعمل به وتتبع ما خفي منه واشتبه عليه من معانيه، والكشف عن دقيق علله التي لا يصلح فيها عقله بما يبتدعه في الدين ليضلّ ويضلّ غيره ويجاوز حدود قراءته ومخارج حروفه ومده (والجافي عنه) أي التارك له البعيد عن تلاوته والعمل بما فيه فإن هذا من الجفاء وهو البعد عن الشيء. قال في «النهاية» : وإنما قال ذلك لأن من أخلاقه التي أمر بها القصد في الأمر. والغلوّ: التشديد في الدين ومجاوزة الحد، والتجافي: البعد عنه. قلت: لا سيما من أعرض عنه كثرة النوم والبطالة والإقبال على الدنيا والشهوات، وما أقبح بحامل القرآن أن يتلفظ بأحكامه ولا يعمل بها، فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً (وإكرام ذي) أي صاحب (السلطان) أي الملك والتسلط (المقسط) بضم الميم: أي العادل في حكمه بين رعيته (حديث حسن رواه أبو داود) في الأدب من سننه.

8355 - (وعن عمرو بن شعيب عن أبيه) شعيب (عن جده) أي جد أبيه: أي إن أباه رواه عن جده وهو عبد الله بن عمرو (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ليس منا) أي من أهل سنتنا وهدينا وطريقتنا (من لا يرحم صغيرنا) أي الصغير من المسلمين بأن يشفق عليه ويرحمه ويحسن إليه ويلاعبه (ويعرف شرف كبيرنا) أي بما يستحقه من التعظيم والإجلال والتبجيل وتوضحه رواية أحمد «ليس من أمتي من لم يجلّ كبيرنا» ولأحمد والترمذي وابن حبان في صحيحه «ليس منا من لم يوقر الكبير ويرحم الصغير ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر» (حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي) في أبواب البر واللفظ له عن ابن عمر (وقال الترمذي: حديث صحيح) الذي في «الجامع» وقال: حسن صحيح، وكذا في نسخة من الرياض، والظاهر أنه حسن باعتبار طريق صحيح باعتبار طريق آخ لأنه رواه من طريقين ينتهيان إلى عمرو بن شعيب، وفي رواية له عن أنس مرفوعاً؟ ليس منا من لم يرحم صغيرنا ولا يوقر كبيرنا» وقد نبه المصنف على أن اللفظ المذكور للترمذي فقال: (وفي رواية أبي داود: حق كبيرنا) أي عبر بحق بدل شرف، وقد أخرجه باللفظ المروي عن الترمذي وأحمد والحاكم في «مستدركه» . 9356 - (وعن ميمون) بفتح الميم الأولى وسكون التحتية (ابن أبي شبيب) بفتح المعجمة وكسر الموحدة بوزن حبيب: وهو الربعي أبو نصر الكوفي. قال الحافظ في «التقريب» : صدوق كثير الإرسال من الثالثة، مات سنة ثلاث وثمانين في وقعة الجماجم (أن عائشة رضي الله عنها مرّ بها سائل) أي متعرض بالسؤال لطلب الإحسان (فأعطته كسرة) بكسر

الكاف وسكون المهملة وهي هنا القطعة المكسورة من الخبز والجمع كسر كسدرة وسدر (ومرّ بها رجل عليه ثياب وهيئة) هي في اللغة: الحالة الظاهرة، والمراد هنا حالة حسنة (فأقعدته فأكل) قال السخاوي في «المقاصد» : ولفظ أبي نعيم في «الحلية» «فمرّ رجل غنيّ ذو هيئة فقالت ادعوه، فنزل فأكل ومضى، وجاء سائل فأمرت له بكسرة فأكل، فقالت: إن هذا الغنيّ لم يحمل بنا إلا ما صنعناه به، وإن هذا السائل سأل فأمرت له بما يرضاه، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرا أن ننزل الناس منازلهم» (فقيل لها في ذلك) بحذف الفاعل لغرض من أغراض حذفه (فقالت: قال رسول الله: أنزلوا الناس منازلهم) هو حض على مراعاة مقادير الناس ومراتبهم ومناصبهم وتفضيل بعضهم عل بعض في المجالس وفي القيام والمخاطبة والمكاتبة وغير ذلك من الحقوق كما تقدم عن المصنف. قال الإمام مسلم: فلا يقصر بالرجل العالي القدر عن درجته، ولا يرفع متضع القدر فوق منزلته، ويعطى كل ذي حق حقه من قوله تعالى: {وفوق كل ذي علم عليم} (يوسف: 76) وهذا في بعض الأحكام أو أكثرها، وقد سوّى الشرع بينهم في القصاص والحدود وأشباهها مما هو معروف اهـ. قال العلماء: في الحديث أن العالم إذا فعل شيئاً يخفى أمره وسئل عن ذلك يستدل بالحديث النبوي إذ هو من أقوى الحجج الشرعية وهو أبلغ من ذكر الحكم بلا دليل (رواه أبو داود) في الأدب من سننه، قال السخاوي: ورواه ابن خزيمة في صحيحه، والبزار وأبو يعلى في «مسنديهما» ، والبيهقي في الأدب، والعسكري في الأمثال ومداره عندهم على ميمون (لكن قال) أبو داود (ميمون لم يدرك عائشة) أي فالحديث منقطع، قال السخاوي في كتاب «الجواهر والدرر» في ترجمة شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر: وتعقب ابن الصلاح ما ذكر عن أبي داود بأن ميمون أدرك المغيرة وهو قد مات قبل عائشة، وأشار إليه نظر، فإن الاكتفاء بالمعاصرة محله في غير المدلس، وميمون قد قال فيه عمرو بن الغلاس ليس بقويّ في شيء من حديثه سمعت، ولم أخبر أن أحداً منهم يزعم أنه سمع الصحابة اهـ. وصرح غيره بأنه روى عن جمع من الصحابة لم يدركهم منهم معاذ وأبو ذرّ وعلي، فلذا قال أبو

حاتم: إن روايته عنها مرسلة، بل صرح أيضاً بأن روايته عن عائشة غير متصلة وكذا قال البيهقي: حديثه عنها مرسل، وقال أبو نعيم: إنه ضعيف، ثم ذكر السخاوي تصحيح بعض المحدثين لروايته عن أبي ذرّ وعن معاذ والمغيرة ثم قال: وهذا كله مشعر بإدراك ميمون لعائشة. ثم إن الجواب عن أبي داود ممكن بأن يكون مراده أنه لم يدرك السماع منها، وجزم ابن القيم بفساد التعقب المشار إليه: أي بالرواية عن المغيرة وغيره بأن ميموناً كان بالكوفة، فسماعه من المغيرة لا ينكر لأنه كان معه بها، بخلاف عائشة فإنها كانت بالمدينة، قال: وأئمة هذا الشأن لهم أمر وراء المعاصرة، على أن الحافظ العراقي قال: لم يأت في خبر قط إدراك ميمون للمغيرة، إنما أخذه ابن الصلاح من رواية مسلم في المقدمة عنه عن المغيرة حديثاً استشهاداً وقال فيه: إنه حديث مشهور، ثم أشار السخاوي إلى أن من ذكر رواية موقوفاً عليها (وقد ذكره مسلم في أول صحيحه تعليقاً) وهو في مسلم قليل جداً (فقال: وذكر) بالبناء للمفعول (عن عائشة) قال المصنف: هو بالنظر إلى أن لفظه لي جازماً لا يقتضي حكمه بصحته، وبالنظر إلى أنه احتج به، وأورده إيراد الأصول لا إيراد الشواهد يقتضي حكمه بصحته (قالت: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ننزل) بضم النون الأولى وسكون الثانية مضارع أنزل وفي رواية بضم الأولى وفتح الثانية وتشديد الزاي وهي المشهورة (الناس منازلهم وذكره الحاكم أبو عبيد ا) بن الربيع بفتح الموحدة وتشديد التحتية (في كتابة معرفة علوم الحديث) في النوع السادس عشر (قال: وهو حديث صحيح) وعبارته «صحت الرواية عن عائشة رضي الله عنها» وساقه بلا إسناد وكذا صححه ابن خزيمة لأنه أخرجه في كتاب السياسة من صحيحه، وتعقب التصحيح بما تقدم من انقطاعه وباختلاف رواته في رفعه تارة ووقفه على عائشة أخرى. قال السخاوي في «الجواهر» : هذا حديث حسن. وفي المقاصد: وبالجملة فحديث عائشة حسن، قال أبو أحمد العسكري في الأمثال: وهذا الحديث مما أدب به النبيّ أمته في إيفاء الناس حقوقهم من تعظيم العلماء وإكرام ذي الشيبة وإجلال الكبير وما أشبهه. 10357 - (وعن ابن عباس رضيا عنهما قال: قدم عيينة) بضم العين وفتح التحتية الأولى وسكون الثانية بعدها نون فهاء (ابن حصن) بكسر المهملة الأولى بن حذيفة بن بدر بن

عمرو بن حوية بن لوذان بن ثعلبة بن عديّ بن فزارة بن ذبيان بن مفيض بن ربيع بن غطفان بن سعد بن قيس عبلان بالمهملة الفزاري، أسلم بعد الفتح وقيل قبله، وشهد حنيناً والطائف، وكان من المؤلفة قلوبهم والأعراب الجفاة، ثم ارتد وقاتل مع طليحة الأسدي فأسرته الصحابة وحملوه إلى الصديق فأسلم فأطلقه، والمراد أنه قدم المدينة (فنزل على ابن أخيه الحر) بضم المهملة وتشديد الراء (ابن قيس) والحرّ صحابي، أحد الوفد الذين قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرجعه من تبوك، وهو الذي خالف ابن عباس في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقيه، فقال ابن عباس: هو الخضر؛ فسأل أبيًّا فذكر حديثاً مرفوعاً كما قال ابن عباس، وحكاية الخلاف بينهما في كتاب العلم من صحيح البخاري، وقيل المخالف لابن عباس عوف البكالي وهو كذلك في مسلم، قال العلائي: كان للحرّ ابن شيعي وابنة حرورية وامرأة معتزلية وجارية مرجئية فقال لهم الحرّ: أنا وأنتم كما قال تعالى: {كنا طرائق قدداً} (الجن: 11) (وكان) أي الحر (من النفر) بفتح النون والفاء وهو كما في المصباح: جماعة الرجال من ثلاثة إلى عشرة، وقيل إلى سبعة ولا يقال فيما زاد على العشرة اهـ. قلت: فهو اسم جمع لا واحد له من لفظه (الذين يدنيهم) بضم التحتية الأولى: أي يقربهم (عمر رضي الله عنه) منه لعلمهم وعملهم (وكان القراء أصحاب مجلس عمر رضي الله عنه) المقدمين فيه (و) أصحاب (مشاورته) مصدر شاورته في الأمر، قال في «المصباح» : شاورته في كذا واستشرته فيه: راجعته لأرى رأيه فيه؛ فأشار علي بكذا: أي أراني ما عنده من المصلحة والاسم المشورة، وفيها لغتان سكون الشين وفتح الواو وضم الشين وسكون الواو، ويقال هي «من شار الدابة» إذا عرضها في المشوار، وقيل «من شرب العسل» شبه حسن النصيحة بشرب العسل اهـ. (كهولاً) خبر مقدم لقوله (كانوا أو شبانا) عطف على كهولاً وهو بضم الشين المعجمة وتشديد الموحدة الأولى جمع شاب كفارس وفرسان، ويجوز أن يقرأ شباب بفتح المعجمة وتخفيف الموحدة الأولى جمع شاب كفارس وفرسان، ويجوز أن يقرأ شباب بفتح المعجمة وتخفيف الموحدة الأولى جمع شاب أيضاً كما في مصدر شب فيكون على تقدير مضاف أو على تقدير المبالغة كزيد عدل. قال في «الفتح» : الأولى رواية الأكثر والثانية رواية الكشميهني: والشباب قبل الكهولة، وقد

تقدم بيان الأسنان ونظمها للدماميني في باب تعظيم حرمات المسلمين، وفيه تقديم أولي الفضل على من عداهم وإن كانوا دونهم في السن أو في النسب والحسب (فقال عيينة لابن أخيه: يا بن أخي: لك وجه) أي تقدم (عند هذا الأمير) يعني عمر (فاستأذن لي عليه) أي اسأل لي منه الإذن في الدخول عليه (فاستأذن له فأذن له عمر رضي الله عنه، فلما دخل) معطوف على مقدر: أي دخل؛ فلما دخل (قال: هي) بكسر الهاء وسكون التحتية كلمة تهديد، وقيل ضمير، وثم محذوف أي هي داهية (يا ابن الخطاب) بفتح المعجمة وتشديد المهملة (فوا ما تعطينا الجزل) أي ما يجزل لنا من العطاء، وأصل الجزل ما عظم من الحطب (ولا تحكم فينا بالعدل) هو خلاف الجور، يقال عدل على القول من باب ضرب عدلاً (فغضب عمر) لما نسبه إليه من الجور (حتى هم) بتشديد الميم أي أراد (أن يوقع) بضم التحتية (به شيئاً) أي من العقوبة أو شيئاً من الإيقاع وذلك لجفاءه وسوء أدبه معه (فقال له الحرّ: يا أمير المؤمنين إن الله قال لنبيه: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} ) أي والأصل في أحكام التكاليف اشتراك أمته معه حتى يدل دليل على التخصيص والاقتداء فيما لم يدل دليل على الخصوص مطلوب قال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (الأحزاب: 21) وقوله: {خذ العفو} أي ما عفا لك من أفعال الناس وتسهل، ولا تطلب ما يشق عليهم من العفو الذي هو ضد الجهد، أو خذ العفو عن المذنبين أو الفضل أو ما يسهل من صدقاتهم وقوله: {وأمر بالعرف} أي بالمعروف المستحسن من الأفعال، وقوله: {وأعرض عن الجاهلين} أي فلا تمارهم ولات كافئهم مثل أفعالهم، وهذه الآية جامعة لمكارم الأخلاق آمرة للرسول باستجماعها (وإن هذا من الجاهلين) أي المأمور بالإعراض عنهم (ووا) الواو الأولى عاطفة على فقال له الحر والثانية القسم (ما جاوزها) وفي نسخة ما جازها (عمر رضي الله عنه) أي بالمخالفة لها (حين تلاها عليه) بل وقف عندها فأعرض عن مكافأة جهله (وكان وقافاً) بتشديد القاف

(عند) أوامر (كتاب ا) يعني القرآن كناية عن امتثالها والقيام بأداء ما أمر بأدائه وترك ما نهي عنه (رواه البخاري) في كتاب التفسير والاعتصام من صحيحه، وهذا الحديث ذكره المصنف في أواخر باب الصبر وتقدم شرحه ثم، وفيه بعض فوائد زائدة على ما هنا. 11358 - (وعن أبي سعيد) وقيل أبو عبد الرحمن، وقيل أبو عبد الله، وقيل أبو سليمان وقيل أبو محمد حكاها في التهذيب (سمرة) بفتح السين وضم الميم (ابن جندب) بضم الجيم والدال المهملة وبفتح الدال بينهما نون ساكنة ابن هلال بن جريج بمهملة مفتوحة فراء مكسورة فتحتية ساكنة فجيم ابن مرة بن حزن بن عمر جابر بن خشين بخاء وشين معجمتين ابن لأًيُّ بن عصم بن شمخ بن فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان الفزاري الصحابي (رضي الله عنه) توفي أبوه وهو صغير فقدمت به أمه المدينة فتزوّجها أنصاري وكان في حجره حتى كبر، فقيل أجازه النبيّ في المقاتلة يوم أحد، وغزا مع النبي غزوات ثم سكن البصرة، وكان زياد يستخلفه عليها إذا سار إلى الكوفة وعلى الكوفة إذا سار إلى البصرة، وكان الحسن وابن سيرين وفضلاء البصرة يثنون عليه. روي له عن النبي مائة حديث، اتفقا منها على حديثين، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بأربعة. توفي بالبصرة سنة تسع وقيل ثمان وخمسين، وقال البخاري: توفي سمرة بعد أبي هريرة يقال آخر سنة تسع وخمسين ويقال سنة ستين (قال: لقد كنت على عهد) أي زمن حياة (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غلاماً) تقدم ما يؤخذ منه أن سنه كانت عند وفاة النبيّ نيفا وعشرين سنة، فالمراد من الغلام الصغير في السن (فكنت أحفظ عليه) معطوف على كنت الأوّل (فما يمنعني من القول) أي من التحديث (إلا أن ههنا رجالاً هم أسنّ مني) أخذ منه علماء الأثر قوله: يكره أن يحدث إذا كان في البلد من هو أولى به بزيادة علم أو ضبط أو حفظ أو تقدم سن أو نحو ذلك بل يدل عليه، وهذا بخلاف باقي العلوم فلا يكره تعاطيها للمفضول المتأهل مع وجود الأعلم بها منه (متفق عليه) .

45 ـــ باب زيارة أهل الخير أي قصدهم تشوقا إليهم.

12359 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ما أكرم شاب) بتشديد الموحدة (شيخاً) أي داخلاً في سن الشيخوخة: وهو ما بعد الخمسين (لسنه) أي لأجل كبره (إلا قيض) بتشديد التحتية والضاد المعجمة: أي قدر (اله من يكرمه عند سنه) أي كبره، ففيه إيماء إلى وعد من أكرم شيخاً لسنه تعالى بأن يطول عمر المكرم حتى يبلغ ذلك السن ويقدر الله له من يقوم بكرامته فيدان بما دان به (رواه الترمذي وقال: غريب) في «الجامع الصغير» على الحديث علامة الحسن. 45 - باب زيارة أهل الخير أي قصدهم تشوّقاً إليهم. قال في «المصباح» زاره: يزوره قصده شوقاً إليه فهو زائر وزور وزوّار مثل سافر وسفر وسفار ونسوة زور أيضاً وزوّر مثل نوح وزائرات اهـ. والمراد من أهل الخير حزب الله المنقطعون إليه اللائذون به الحائزون لشرف العلم والعمل به مع الإخلاص فيه، ومن تشبه بقوم فهو منهم، وهم القوم لا يشقى بهم جليسهم أماتنا الله على محبتهم وحشرنا كذلك في زمرتهم (ومجالستهم) أي ليحفظ نفسه ذلك الزمن عن المخالفة لمولاه فإن ذلك أقل ثمرات مجالستهم، ويراعى في ذلك الأدب ويحفظ نفسه من الخواطر بين يدي أهل الله تعالى (وصحبتهم) أي المصاحبة معهم (ومحبتهم) أي تعاطي ما يوصل إليها والمصادر مضافة لمفعولها الفاعل محذوف (وطلب زيارتهم ودعائهم) مصدران مضافان لفاعلهما واستحباب طلبه لزيارتهم له لتعود بركتهم على منزله ومن به وطلبه لدعائهم له لأنه أقرب إلى الإجابة وأرجى إلى الحصول (وزيارة) معطوف على زيارة المضاف إليه الباب: أي وزيارته (المواضع الفاضلة) وفضلها بكونها مساجداً وبكونها مأثورات عن النبيّ أو عن أحد من الصحابة أو عن متعبدات الأولياء الصالحين فالمكان بالمكين.

(قال تعالى: {وإذ قال موسى لفتاه} ) أي واذكر إذ قال موسى لفتاه يوشع بن نون بن أفراثيم بن يوسف عليهم الصلاة والسلام، فإنه كان يخدمه ويتبعه ولذا سمي فتاه وقيل لعبده {لا أبرح} لا أزال أسير فحذف الخبر لدلالة حاله وهو السفر عليه، وقوله ( {حتى بلغ مجمع البحرين} ) من حيث إنها تستدعي ذا غاية عليه، ويجوز أن يكون لا أبرح بمعنى لا أزول عما أنا عليه من السير والطلب ولا أفارقه فلا تستدعى خبراً، ومجمع البحرين ملقتى بحر فارس والروم مما يلي المشرق، وعد لقاء الخضر فيه، وقيل البحر أن موسى وخضر فإن موسى كان بحر علم الظاهر، وخضر كان بحر علم الباطن، وقرىء مجمع بكسر الميم الثانية على الشذوذ من يفعل كالمشرق والمطلع {أو أمضي حقباً} أي أسير زمناً طويلاً؛ والمعنى: حتى يقع إما بلوغ المجمع أو مضي الحقب وهو الدهر، وقيل ثمانون سنة، وقيل سبعون سنة، وكان الخضر في أيام أفرندون وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر وبقي إلى أيام موسى ( {فلما بلغا مجمع بينهما} ) أي مجمع البحرين، وبينهما ظرف وأضيف إليه على الاتساع أو بمعنى الوصل ( {نسيا حوتهما} ) أي نسي موسى أن يطلب حاله ويتعرفه ويوشع أن يذكر ما رأى من حياته وووقعه في البحر، وكان ذلك العلامة من الله تعالى لموسى على مكان الخضر، وكان الحوت مشوياً فوثب في ذلك المكان في البحر معجزة لموسى أو الخضر ( {فاتخذ سبيله في البحر سرباً} ) فاتخذ الحوت طريقه في البحر مسلكاً وسرباً مفعول ثان وفي البحر حال منه أو من السبيل ويجوز تعلقه باتخذ ( {فلما جاوزا} ) مجمع البحرين ( {قال لفتاه آتنا غداءنا} ) أي ما نتغذى به ( {لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً} ) قيل لم ينصب حتى جاوز الموعد فلما جاوزه وسأل الليلة والغد إلى الظهر ألقي عليه الجوع والنصب، وقيل لم يعي موسى في سفر غيره ويؤيده التقييد باسم الإشارة ( {قال: أرأيت إذ أوينا} ) أي أرأيت ما دهاني إذ أوينا ( {إلى الصخرة} ) يعني التي وعد عندها موسى بلقاء الخضر ( {فإني نسيت الحوت} ) أي فقدته أو نسيت ذكره بما رأيت منه ( {وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره} ) أي وما أنساني ذكره إلا الشيطان فإن أذكره بدل من مفعول أنساني، وهو اعتذار عن نسيانه لشغل الشيطان له بوسواسه، والحال وإن كانت عجيبة لا ينسى مثلها لكنه لما جرت بمشاهدة أمثالها عن موسى وألفها قل اهتمامه بها، ولعله نسي ذلك لاستغراقه

في الاستقبال وانجذاب شراشره إلى جانب القدس بما عراه من مشاهدة الآيات الباهرة، وإنما نسبه إلى الشيطان هضماً لنفسه أو لأن عدم احتمال القوة للجانبين واشتغالها بأحدهما عن الأخرى يعد من النقصان (واتخذ سبيله في البحر عجباً) سبيلاً عجباً وهو كونه كالسرب أو اتخاذ عجباً والمفعول الثاني هو الظرف. وقيل هو مصدر فعله المضمر: أي قال في آخر كلامه أو موسى في جوابه عجباً تعجباً من تلك الحال وقيل الفعل لموسى: أي واتخذ موسى سبيل الحوت في البحر عجباً (قال ذلك) أي أمر الحوت (ما كنا نبغ) نطلب لأنه أمارة المطلوب، قال البكري: وحذف الياء على التشبيه بالفواصل، وسهل ذلك أن الباء لا تضم ههنا وقرىء بإثباتها وهو الجيد اهـ. ( {فارتد} ) فرجعا (على آثارهما) في الطريق التي ذهبا منها ( {قصصا} ) يقصان قصصاً: أي يتبعان آثارهما اتباعاً أو مقتصين حتى أتيا الصخرة ( {فوجدا عبداً من عبادنا} ) الجمهور أنه الخضر واسمه بليا بن ملكان، وقيل اليسع وقيل إلياس ( {آتيناه} ) بالمد أعطيناه ( {رحمة} ) هي الوحي والنبوة ( {من عندنا وعلمناه من لدنا علماً} ) مما يختص بنا ولا يعلم إلا بتوفيقنا وهو علم الغيب ( {قال له موسى: هل أتبعك} ) في هذا دليل لزيارة أهل الخير في أماكنهم ومصاحبتهم ومجالستهم والتواضع معهم. قال السيوطي في «الإكليل في أحكام التنزيل» : في الآية أنه لا بأس بالاستخدام واتخاذ الرفيق والخادم في السفر واستحباب الرحلة في طلب العلم واستزادة العالم من العلم وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة اهـ. ملخصاً. (وقال تعالى) : ( {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} ) تقدم الكلام عليها في باب فضل ضعفة المسلمين. 1360 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما بعد) ظرف للقول (وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انطلق بنا إلى أم أيمن) هي بفتح الهمزة والميم وسكون التحتية بينهما مولاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (رضي الله عنها) صارت إليه بالإرث من أبيه قاله بعض، وقال القرطبي: كانت لأمه آمنة فورثها عنها، ونقله الدميري عن أبي بن شيخ وقال في «الديباجة» : عتقها عبد الله أبو النبي، قال: وقال الواقدي: كانت لعبد المطلب وصارت للنبي

ميراثاً: أي بأن وهبها لابنه عبد الله ثم ورثها النبيّ. 9 إذ من البين أن النبيّ لم يرث عبد المطلب لوجود أولاده. وفي «فتح الباري» في أواخر كتاب الهبة قال ابن شهاب: كان من شأن أم أيمن أنها كانت وصيفة لعبد الله بن عبد المطلب وكانت من الحبشة، فلما ولدت آمنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ما توفي أبوه كانت أم أيمن تحضنه حتى كبر، فأعتقها ثم أنكحها زيد بن حارثة، وتوفيت بعده بخمسة أشهر واسمها بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حصين بن مالك بن سلمة بن عمرو بن النعمان رضي الله عنها، وهي أم أيمن غلبت عليها كنيتها كنيت بابنها أيمن بن عبيد، وهي بعده أم أسامة بن زيد تزوجها زيد بن حارثة بعد عبيد الحبشي فولدت له أسامة، يقال لها مولاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخادمه، وتعرف بأم الظباء، وشربت هي وأم أيمن بركة مولاة أم حبيبة جاءت بها من أرض الحبشة بوله. قال السهيلي: أم أيمن بركة المذكورة: أي في الترجمة هي التي هاجرت في حرّ شديد من مكة إلى المدينة وليس معها أحد، فبينا هي كذلك إذ سمعت حفيفاً فوق رأسها، فالتفتت فإذا دلو أدى لها من السماء فشربت منها فلم تظمأ بعدها أبداً، وكانت تتعمد الصوم في خيار القيظ لتعطش فلا تعطش (نزورها) جملة مستأنفة (كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزورها) كرامة لها وكان يقول أم أيمن أمي، وكان يكرمها ويبرّها مبرّة الأم ويكثر زيارتها، وكان عندها كالولد ولذا تصخب عليه: أي ترفع صوتها عليه وتدمر: أي تغضب وتضجر فعل الوالدة بولدها، قاله القرطبي. وقال المصنف: في هذه الجملة زيارة الصالحين وفضلها وزيارة الصالح لمن هو دونه، وزيارة الإنسان لمن كان صديقه يزوره ولأهل ود صديقه، وزيارة جماعة من الرجال المرأة واستصحاب العالم والكبير في العيادة والزيارة اهـ. (فلما انتهيا إليها بكت) تذكراً لعهد المصطفى وزيارتها برئءَتها لكثرة ملازمتها له وعدم مفارقتها له في الغالب (فقالا لها ما يبكيك أما) استفهام تقريري (تعلمين أن ما) أي الذي (عند ا) مما أعد لنبيه مما لا تستطيع العبارة الإعراب عن أدناه فضلاً عن أقصاه (خير لرسول الله) قال تعالى: {وللآخرة خير لك من الأولى} (الضحى: 4) (قالت: إني لا أبكي أني) أي لأني (لا أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله) أي لا أبكي لجهلي بأخيرية ما عند الله له وأنا أعلم ذلك كما

جاء عنها عند ابن ماجه قالت: «إني لأعلم أن ما عند الله خير لرسوله» (ولكن) استدراك لما قد يتوهم من انتفاء مقتضى البكاء عند علمها بشرف مقامه المنتقل إليه بأن للبكاء سبباً آخر هو قولها (أبكي أن) أي لأن (الوحي قد انقطع من السماء) أي لانقطاع الوحي من السماء عن الأرض بموته، فإن بفتح الهمزة على إضمار حرف التعليل كما ضبطه القرطبي. قال: وانقطاع الوحي سبب اختلاف مذاهب الناس ووقوع التنازع والفتن وحصول المصائب والمحن، ولذا نجم بعده النفاق وفشا الارتداد والشقاق، ولولا أن الله تعالى تدارك الدين بثاني اثنين لما بقي منه أثر ولا عين اهـ. (فهيجتهما) بتشديد التحتية (على البكاء) أي أثارتهما عليه بذكرها ما يدعو إليه (فجعلا) من أفعال الشروع أي فشرعا (يبكيان معها) قال المصنف: فيه البكاء حزناً على فراق الصالحين والأصحاب وإن كانوا قد انتقلوا إلى أفضل مما كانوا عليه (رواه مسلم) في باب فضل أم أيمن ورواه ابن ماجه، ومن العجيب قول الترمذي في الديباجة انفرد به المصنف وهو حديث صحيح رجاله حفاظ ثقات مخرج لهم في الصحيحين أو في أحدهما اهـ. 2361 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أن رجلاً زار أخاً له) أي في الدين، وقوله: (في قرية أخرى) في محل الحال من المفعول لتخصيصه بوصف الظرف (فأرصد الله تعالى على مدرجته) أي محل دروجه: أي في طريقه (ملكاً فلما أتى) أي مر الرجل (عليه قال) ظاهره أن الملك خاطبه وشافهه (أين تريد) واستفهم عنه مع إطلاع الله له على ذلك إن كان ليبني ما بشره الله به مما يأتي على جوابه وهو (قال أريد أخاً لي) كائناً (في هذه القرية) قال العاقولي: هو جواب على المعنى الغائي من السؤال، لأن قوله أين تريد؟ يقتضي أن يقول له قرية كذا، فيقول ما تفعل بها؟ فيقول أريد أخاً لي، فقدمه وأجابه من الأول علماً بما يؤول إليه السؤال (قال: هل لك عليه من نعمة) أي عطية بالزيارة (قال لا) أي لا نعمة لي أربها بزيارته. قال القرطبي: أي لم أزره لغرض من أغراض الدنيا

اهـ. وهو تفسير مراد لا بيان لمعنى اللفظ كما هو واضح، ثم استثنى استثناء منقطعاً، قوله (غير) أي لكن (أني أحببته في ا) في تعليلية ومنه حديث «عذبت امرأة في هرّة حبستها» الحديث (قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك) الظرفان متعلقان برسول (كما أحببته فيه) الكاف في محل المفعول المطلق. قال ابن أبي شريف في «شرح المسايرة» في قولهم في تعريف النبيّ إنه إنسان أوحى إليه بشرع، خرج بقوله: «شرع» الوحي بغيره فيكون لغير النبي: أي كحديث الباب، وكقوله تعالى في حق مريم {أرسلنا إليها روحنا} {فأوحينا} (الشعراء: 63) إلى أن قال الملك {إنما أنا رسول ربك} (مريم: 19) الآية، والأصح عدّ نبوتها. وفي المواهب اللدنية قال القرافي كما نقله عنه ابن مرزوق يعتقد كثير أن النبوة مجرد الوحي وهو باطل لحصوله لمن ليس بنبي كمريم وليست نبية على الأصح مع قوله تعالى {فأرسلنا إليها روحنا} (مريم: 17) {أن الله يبشرك} (آل عمران: 39) وفي مسلم فذكر حديث الباب وليس بنبوة لأنها عند المحققين إيحاء الله لبعض بحكم إنسان يختص به كقوله {اقرأ باسم ربك} (العلق: 1) فهذا تكليف يختص به في الوقت فهذه نبوة لا رسالة، فلما نزل {قم فأنذر} (المدثر: 2) كانت رسالة لتعلق هذا التلكيف بغيرة أيضاً، فالنبيّ كلف بما يخصه، والرسول بذلك وبتبليغ غيره، فالرسول أخص مطلقاً اهـ. (رواه مسلم) والمراد من محبة الله تعالى للعبد إرادته الخير والتوفيق له واللطف به. وفي الحديث ما يدل على عظم فضل الحب في الله والتزاور فيه وأنه من أعظم الأعمال وأفضل القرب إذا تجرد عن هوى النفس، قال: «من أحبّ وأبغض وأعطى ومنع فقد استكمل الإيمان» (يقال أرصده لكذا: إذا وكله بحفظه) فمعنى أرصد الله على مدرجه ملكاً: أي جعله يرتقبه وينتظره ليبشره. قال العاقولي: ويقال أرصدته إذا قعدت له على طريقه (والمدرجة بفتح الميم والراء) وسكون الدال المهملة بينهما وبعد الراء جيم ثم هاء (الطريق) أنسب منهم قول القرطبي موضع الدروج وهو المشي وإن كان المآل إلى واحد (ومعنى تربها تقوم بها وتسعى في صلاحها) أي فيتعاهده بسبب ذلك.

3362 - (وعنه قال: قال رسول الله: «من عاد مريضاً أو زار أخاً له في ا) مخلصاً في ذلك سبحانه (ناداه مناديان) أي من الملائكة (طبت) أي انشرحت لك عند الله تعالى من جزيل الأجر في ذلك، أو طهرت من الذنوب بغفرانه لك بذلك (وطاب ممشاك) أي عظم ثوابه (وتبؤت من الجنة منزلاً» ) أي اتخذت منها داراً تنزله (ورواه الترمذي، وقال: حديث حسن، وفي بعض النسخ) حديث (غريب) . 4363 - (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبيّ قال: إنما) أداة حصر على الراجح كما تقدم أول الكتاب (مثل) بفتحتين الشأن العجيب والأمر الغريب، ويقال بكسر فسكون، وميل بوزن رغيف: أي نظير (الجليس الصالح وجليس السوء) كذا وقفت عليه في الرياض بتوصيف الأوّل وإضافة الثاني، وكأن حكمة ذلك مع التفنن في التعبير الإشارة إلى مجانبة الجليس السيء حيث أطلق عليه لفظ المصدر وهو السوء - بالفتح - مبالغة في التنفير، أما السوء بالضم فاسم مصدر ويجوز ضم وفتح السين فيما ذكر كقولك رجل سوء وفي نسخة من الرياض توصيف الصاحب بوصفه في كليهما (كحامل المسك) أعم من أن يكون صاحبه أو غيره (ونافخ الكير) وهو بكسر الكاف وسكون التحتية معروف وحقيقته: البناء الذي يركب عليه الزق، والزق: هو الذي ينفخ فيه فأطلق على الزق اسم الكير مجازاً لمجاورته له، وقيل واقتصر عليه في القاموس: الكير نفس الزق. وأما البناء فاسمه الكور وهذا فيه لف ونشر مرتب، ثم فصل ثمرة ذينك الحالين فقال (فحامل المسك إما أن يحذيك) بضم التحتية أوله وسكون الحاء المهملة وبالذال المعجمة: أي يعطيك وزنا ومعنى (وإما أن تبتاع) مضارع من باب الافتعال للمبالغة: أي تطلب البيع (منه) وفيه جواز بيع المسك والحكم بطهارته لأنه مدحه ورغَّب فيه، ففيه الرد على من كرهه وهو منقول عن الحسن البصري وعطاء وغيرهما ثم انقرض هذا الخلاف واستقرّ الإجماع على

طهارته وجواز بيعه (وإما أن تجد) من الوجدان بكسر الواو والوجود لغة لبني عامر (منه ريحاً طيبة) أي فجليس الأخيار إما أن يعطي بمجالستهم من الفيوض الإلهية أنواع الهبات حباء وعطاء، وإما أن يكتسب من المجالس خيراً وآداباً يكتسبها عنه، ويأخذها منه، وإما أن يكتسب حسن الثناء بمخاللته ومخالطته (ونافخ الكير) هو بكسر الكاف وسكون التحتية. قال الحافظ في «الفتح» وفيه لغة أخرى كور بضم الكاف، والمشهور بين الناس أنه الزق الذي ينفخ فيه، لكن أكثر أهل اللغة على أن المراد بالكير حانوت الحداد. قال ابن التين: وقيل الكير هو الزق والحانوت هو الكور، وقال صاحب المحكم: الزق الذي ينفخ فيه الحداد، ويؤيد الأول ما رواه عمر بن شبة في أخبار المدينة أن عمر رضي الله عنه رأى كير حداد في السوق فضربه برجله حتى هدمه اهـ. (إما أن يحرق ثيابك) بناره إن وصلت إليها (وإما أن تجد منه ريحاً منتنة) بضم الميم وكسر المثناة الفوقية وقد تكسر الميم اتباعاً للتاء، وضم التاء اتباعاً للميم قليل، قاله في «المصباح» : أي قبيحة متغيرة، أي فجليس الصاحب السيء إما أن يحترق بشؤم معاصيه، قال تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة} (الأنفال: 25) وقال تعالى: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار} (هود: 113) وإما أن يدنس ثناءه بمصاحبته، وقد ورد «المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل» ففي الحديث بيان نتائج كل من صحبة الأخيار والأشرار وفي الحديث ضرب المثل وتقدم معناه في الأصل وهو المراد في الحديث، ثم خصص بالقول السائر الممثل مضربه بمورده. قال البيضاوي: الشرط في ضرب المثل أن يكون على وفق الممثل له من الجهة التي يتعلق بها التمثيل في العظم والصغر والشرف، وفائدته كشف المعنى الممثل له ورفع الحجاب عنه وإبرازه في صورة المشاهد المحسوس ليساعد فيه الوهم العقل، فإن المعنى الصرف إنما يدركه العقل مع منازعة من الوهم، لأن من طبعه ميل الحس وحبّ المحاكاة، وإنما يضرب بما فيه غرابة اهـ. ملخصاً من موضع منه، ولعله حكمة ذكر الظرف بعد تجدد الأول دون الثاني ما في الأول من الكرامة فناسب إكرام المحكى عنه به، وما في الثاني من ضدها فترك دفعاً للمكافحة لما يكره (متفق عليه) قال الحافظ المزيّ في «الأطراف» . أخرجاه في البيوع، وتعقبه الحافظ العسقلاني بأن البخاري إنما أخرجه في الذبائح، نبه عليه القطب الحلبي في «شرحه» ووجدته كذلك. قلت: وقد أخرجه البخاري في أوائل البيوع بتفاوت يسير فصح

ما قاله المزي (ويحذيك: يعطيك) وزناً ومعنىً. 5364 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: تنكح) بالبناء للمفعول أي تتزوج (المرأة لأربع) أي من الخصال (لمالها) بدل مطابق، بدل مفصل من مجمل بإعادة العامل اهتماماً (ولحسبها) بفتح المهملتين وبالباء الموحدة: أي نسبها بأن تكون طيبة الأصل، وفي «المصباح» : الحسب ما يعد من المآثر. وقال ابن السكيت: الحسب والكرم يكونان في الإنسان وإن لم يكن لآبائه شرف، ورجل حسيب كريم بنفسه، قال: وأما المجد والشرف فلا يوصف بهما الإنسان إلا إذا كانا فيه وفي آبائه. وقال الأزهري: الحسب الشرف الثابت له ولآبائه: قال: وقوله عليه الصلاة والسلام: «تنكح المرأة لحسبها» أحوج أهل العلم إلى معرفة الحسب لأنه مما يعتبر في مهر المثل، فالحسب الفعال له ولآبائه، مأخوذ من الحساب وهو عد المناقب لأنهم كانوا إذا تفاخروا حسب كل واحد مناقبه ومناقب آبائه، ومما يشهد لقول ابن السكيت قول الشاعر: ومن كان ذا نسب كريم ولم يكن له حسب كان اللئيم المذمما فجعل الحسب فعال الشخص مثل الشجاعة والجود وحسن الخلق، ومنه قوله: «حسب المرء دينه» اهـ، وصحف من ضبطه في الحديث بالنون بدل الموحدة، لأن ذلك مذكور في قوله (ولجمالها) هو كما قال سيبويه رقة الحسن (ولدينها) وأعاد الجارّ في المتعاطفات إيماء إلى أن كل واحد منها مما يقصد على انفراده واستقلاله (فاظفر) أيها المسترشد (بذات الدين) أي بصاحبته وهو أبلغ من صاحبته لأنها كناية (تربت يداك) أي افتقرت وأسند إلى اليدين لأن التصرف يقع بهما غالباً، ولم ترد العرب بهذه الكلمة وأمثالها معناها الأصلي من الدعاء، بل إيقاظ المخاطب للمذكور بعده وحثّ وتحريض عليه ليعتنى به. وقيل معناه: افتقرت إن لم تفعل ما أرشدتك إليه، وقد ورد ما يؤيده. أخرج ابن

ماجه عن ابن عمر قال: قال رسول الله «لا تزوّجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يؤذيهن، ولا تزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن يطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين، ولامرأة جذماء سوداء ذات دين أفضل» (متفق عليه) روياه في النكاح ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه كلهم عن أبي هريرة (ومعناه أن الناس يقصدون) بكسر المهملة الأولى (في العادة من نكاح) (المرأة هذه الخصال الأربع) زاد في شرح مسلم «وآخرهم عندهم ذات الدين» (فاحرص أنت) تفسير لقوله اظفر بضميره المستكن فيه (على ذات الدين) وعطف قوله (واظفر بها واحرص على صحبتها) إطنابا للتأكيد. قال الرافعي في المجلس الثالث عشر من أماليه: يرغب في النكاح لفوائد دينية ودنيوية، والفوائد المتعلقة بمطلق النكاح تحصل بنكاح أيّ امرأة كانت، ثم قال: فمن الدواعي القوية إليه الجمال، وقد نهى عن تزوّج المرأة الحسناء، وليس المراد النهي عن رعاية الجمال على الإطلاق، ألا ترى أنه قد أمر بنظر المخطوبة ليكون النكاح عن موافقة الطبع، ولكنه محمول على ما إذا كان القصد مجرد الحسن واكتفي به عن سائر الخصال، أو على الحسن التام البارع لأنه يخاف بسببه من الإفراط في الإدلال المورث للوحشة والمنازعة والأطماع الفاسدة، فالمنهل العذب كثير الزحام، ومن شدة الصبوة والميل ولا يؤمن منها تولد أمور مضرّة، ولأنها قد تصرفه عن كثير من الطاعات في غالب الأوقات، ومن الدواعي الغالبة المال وهو غاد ورائح، وإذا كان كذلك فلا يوثق بدوام الألفة سيما إذا قلّ، وقد قيل «من عظمك عند استغلالك استقلك عند إقلالك» وأما إذا كان الداعي الدين فهو الحبل المتين الذي لا ينفصم فكان عقده أدوم وعاقبته أحمد اهـ. ملخصاً. 6365 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجبريل: ما يمنعك أن تزورنا) زيارة (أكثر مما تزورنا) فأكثر مفعول مطلق، ويجوز أن يكون منصوباً على نزع الخافض، قال الحافظ في «الفتح» : روى الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: «احتبس

جبريل عن النبيّ» وروى عبد بن حميد عن عكرمة قال: «أبطأ جبريل في النزول أربعين يوماً، فقال له: يا جبريل ما نزلت حتى اشتقت إليك، فقال: أنا كنت إليك أشوق ولكني مأمور، فأوحى الله إلى جبريل قل له {وما تنزل} الآية. وعند ابن إسحاق عن ابن عباس أن قريشاً لما سألوا عن أصحاب الكهف فمكث خمس عشرة ليلة لا يحدث الله له في ذلك وحياً، فلما نزل قال: أبطأت، فذكره اهـ. (فنزلت) أنث باعتبار أنها كلمات (وما نتنزل) قال البيضاوي: التنزل على مهل لأنه مطاوع نزل، وقد يطلق بمعنى النزول مطلقاً كما يطلق نزل بمعنى أنزل، والمعنى: وما نتنزّل وقتاً غب وقت إلا بأمر الله على ما تقتضيه حكمته (إلا بأمر ربك) قال الحافظ في «الفتح» : الأمر هنا بمعنى الإذن بدليل سبب النزول المذكور ويحتمل الحكم: أي ننزل مصاحبين لأمره تعالى عباده بما شرع لهم، ويحتمل أن يكون المراد ما هو أعم من ذلك عند من يجيز حمل اللفظ على جميع معانيه اهـ. (له ما بين أيدينا وما خلفنا) كذا في الصحيح الاقتصار على ذلك، والمراد ما أمامنا وما خلفنا من الأزمنة والأمكنة، فلا ننتقل من شيء إلى شيء إلا بأمره ومشيئته (رواه البخاري) في التفسير، وكذا رواه الترمذي. 7366 - (وعن أبي سعيد) سعد بن مالك بن سنان (الخدري) بضم المعجمة وسكون المهملة تقدمت ترجمته (رضي الله عنه عن النبي قال: لا تصاحب إلا مؤمناً) فيه نهي عن موالاة الكفار ومودتهم ومصاحبتهم، قال تعالى: {لا تجد قوماً يؤمنون با واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله} (المجادلة: 22) الآية (ولا يأكل طعامك إلا تقي) فيه الأمر بملازمة الأتقياء ودوام مخالطتهم، وترك الفجار فهو نهي له بالمعنى عن إكرام غير التقي وإسداء الجميل إليه وفي «مرقاة الصعود» للسيوطي هذا الحديث في طعام الدعوة دون طعام الحاجة، وإنما حذر من مصاحبة من ليس بتقي وزجر عن مخالطته ومؤاكلته، لأن المطاعمة توقع الألفة والمودة في القلوب، يقول لا تؤالف من ليس من أهل التقوى والورع ولا

تجالسه ولا تطاعمه ولا تنادمه اهـ. (رواه أبو داود) في الأدب من سننه (والترمذي) في الزهد من «جامعه» (بإسناد لا بأس به) فرواه أبو داود عن عمرو بن عون. ورواه الترمذي عن سويد بن نضر كلاهما عن ابن المبارك عن حيوة بن شريح عن سالم بن غيلان عن الوليد بن قيس عن أبي سعيد قال سالم: أو عن أبي الهيثم عن أبي سعيد به، وقال الترمذي: إنما نعرفه من هذا الوجه وأشار إلى أنه غريب. 8367 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: الرجل على دين خليله) ويروى «المرء بخليله» والخليل الصديق فعيل بمعنى مفاعل، وقد يكون بمعنى مفعول (فلينظر أحدكم من يخالل) أي فلينظر أحدكم بعين بصيرته إلى أمور من يريد صداقته وأحواله، فمن رآه ورضي دينه صادقه، ومن سخط دينه فليتنبه، ومن رآه يرى له مثل ما يرى له صحه روى ابن عديّ في «الكامل» من حديث أنس «لا خير في صحبة من لا يرى لك مثل ما يرى له» فأقل درجات الأخوة والصداقة النظر بعين المساواة، والكمال رؤية الفضل للأخ (رواه أبو داود) في أبواب الأدب من السنن (والترمذي بإسناد صحيح، وقال الترمذي: حديث حسن) قال الحافظ السيوطي في «المرقاة» : هذا الحديث أحد الأحاديث التي انتقدها الحافظ سراج الدين القزويني على «المصابيح» ، وزعم أنه موضوع.d قلت: قال الحافظ العلائي: نسبة هذا الحديث إلى الوضع جهل قبيح، بل هو حسن كما قال الترمذي، فإن موسى بن وردان وثقه العجلي وأبو داود، وقال فيه الإمام أحمد: لا أعلم إلا خيراً. وقال أبو حاتم والدارقطني: لا بأس به. ولم يتكلم فيه أحد، وزهير بن محمد هو المروزيّ، وثقه أحمد وابن معين وتكلم فيه غيرهما واحتج به الشيخان في الصحيحين، وذلك يدفع ما تكلم به فيه فتفردّه يكون حسناً غريباً ولا ينتهي إلى الضعف فضلاً عن الوضع اهـ. وقال الحافظ

العسقلاني في رده عليه: قد حسنه الترمذي، وصححه الحاكم، وقد أورده ابن عديّ في ترجمة زهير، ونقل عن أبي زرعة الدمشقي قال: قلت لمحمد بن السريّ حدثنا أبو مسهر عن يحيى بن حمزة عن زهير به موصولاً فقال: لم يصنع صاحبك شيئاً حدثنا يحيى بن حمزة به مرسلاً، وقال: وقد رواه هشام بن عمار عن الوليد عن مسلم عن زيهر به وزهير بن محمد استشهد به البخاري ولكن قالوا: إن في رواية الشاميين عنه مناكير كأنه لما دخل الشام حدث من حفظه فوهم فروايتهم عنه غير معتبرة، وهذا الحديث مما اشترك فيه الشاميون وغيرهم، وموسى المذكور وثقه جماعة وضعفه بعضهم، فحديثه من هذه الحيثية من قبيل الحسن اهـ. وبه يعلم ما في قول المصنف بإسناد صحيح ألا أن يريد به المقبول مجازاً فيشمل الحسن اهـ. والله أعلم. 9368 - (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبيّ قال: المرء) بفتح الميم وسكون الراء وبالميم بعده: أي الشخص (مع من أحب) وكونه معه لا يستلزم مساواته له في منزلته وعلوّ مرتبته لأن ذلك متفاوت بتفاوت الأعمال الصالحة والمتاجر الرابحة. قال في «الفتح» : المعية تحصل بمجرد الاجتماع في شيء ما ولا تلزم في جميع الأشياء، فإذا اتفق أن الجميع دخلوا الجنة صدقت المعية وإن تفاوتت الدرجات اهـ. (متفق عليه) أي من حديث أبي موسى، ورواه أحمد والشيخان والنسائي من حديث أنس والترمذي من حديثه وزاد «له ما اكتسب» والشيخان من حديث ابن مسعود كذا يؤخذ من «الجامع الصغير» . (وفي رواية) للبخاري في أبواب الأدب عن أبي موسى الأشعري (قال: قيل للنبيّ الرجل) أل فيه للجنس (يحبّ القوم) أي من أهل الصلاح (ولما يلحق بهم) قال أهل العربية: لما تنفي الماضي المستمر فدل عل نفيه في الماضي وفي الحال، بخلاف لم فإنها للنفي في الزمن الماضي مطلقاً (قال: المرء مع من أحبّ) هو عامّ، فمن أحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أحداً من المؤمنين كان معه في الجنة بحسن النية لأنها الأصل، والعمل تابع لها ولا يلزم من كونه معهم كونه في منزلتهم، ولا أن يجزى مثل جزائهم من كل وجه.

10369 - (وعن أنس رضي الله عنه أن أعرابياً) هو يختص بسكان البوادي من العرب وغيرهم أما العرب فأولاد إسماعيل عليه السلام، وفي البخاري وهو في مسلم أيضاً بلفظ «أن رجلاً» وفي الفتح للحافظ أنه ذو الخويصرة اليماني الذي بال في المسجد، وحديثه بذلك مخرج عند الدارقطني، ومن زعم أنه أبو موسى أو أبو ذرّ فقد وهم لأنهما وإن اشتركا في معنى الجواب، وهو أن المرء مع من أحبّ إلا أنهما اختلفا في السؤال، فإن كلاً من أبي موسى وأبي ذرّ سأل «عن الرجل يحبّ القوم ولما يلحق بهم» وهذا سأل «متى الساعة» اهـ. (قال: يا رسول الله متى الساعة) أي القيامة، وعبر عنها بذلك لأنها تظهر في أدنى لحظة (قال له رسول الله: ما أعددت لها) أي حتى تسأل عنها، إذ هي زمن الجزاء ويوم الدين، قال العاقولي: وقوله: «ما أعددت لها» من أسلوب الحكيم لأنه سأل عن الوقت فقيل له مالك ولها إنما يهمك التزود لها والعمل بما ينفعك فيها، فطرح الرجل ذكر أعماله لأنه كان لا يرى لها قدراً، ونظر إلى ما في قلبه من مخصوص محبة الله سبحانه ورسوله فقدمه بين يديه (قال: حبّ الله و) حبّ (رسوله) يجوز رفعه نظراً لصدر جملة السؤال، ونصبه نظراً لعجز جملته، وقد قرىء بالوجهين «العفو» في قوله تعالى: {يسألونك ماذا ينفقون قل العفو} (البقرة: 19) نظراً لما ذكر، والمراد من حبّ الإنسان ورسوله طاعتهما والانقياد لأحكامهما (قال: أنت مع من أحببت) واللفظ عام لكون كل محبّ مع محبوبه من خير أو شرّ، ومعية الله مع الإنسان بالنصر والإعانة والتوفيق (متفق عليه) أخرجه البخاري في أبواب الأدب (وهذا لفظ مسلم) في أبواب البر والصلة (وفي رواية لهما) أي عن أنس أيضاً، قال: (ما أعددت لها من) صلة لتأكيد النفي واستغراقه (كثير) بالمثلثة (صوم ولا) كثير (صلاة ولا) كثير (صدقة) يحتمل أن يراد من المثبت من ذلك الغرض فيكون كقول البوصيري: ولم أصلّ سوى فرض ولم أصم أي سواء، ويحتمل أن يكون بعض النوافل إلا أنها غير كثيرة وفي العبارة توجيه

(ولكني) في نسخة من مسلم «ولكن» استدراك مما يوهمه الكلام السابق من نفي تقديم ما يرجو ثمرته في آخرته أي ولكن لي أعظم الذخائر هو أني (أحبّ الله ورسوله) قال: «فأنت مع من أحببت» . 11370 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء رجل) قال الشيخ زكريا في «تحفة القاري» : هو أبو ذرّ (إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولالله، كيف تقول في رجل أحبّ قوماً ولم يلحق بهم) عند ابن حبان: ولا يستطيع أن يعمل بعملهم (فقال رسول الله: المرء مع من أحبّ. متفق عليه) أخرجاه في الأبواب المذكورة وأخرجه أبو نعيم وزاد «وله ما اكتسب» . 12371 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: الناس) أي باعتبار الأفراد (معادن) أي أصولاً للخير والشر بحسب ما جعلهم الله مستعدين له. والمعادن جمع معدن بكسر الدال لأنه موضع العدل: أي الإقامة اللازمة وسمي المعدن بذلك لأن الناس يقيمون فيه شتاء وصيفاً قاله الجوهري (كمعادن الذهب والفضة) وجه الشبه. اشتمال المعدن على الجواهر المختلفة نفاسة وخسة وكل معدن يخرج منه ما في أصله، وكذا كل إنسان يظهر منه ما في أصله من خسة أو شرف (خيارهم في الجاهلية) أي أشرافهم فيها وهي ما قبل الإسلام سموا به لكثرة جهالاتهم (خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) بكسر

القاف: أي علموا وبضمها، وتقدم في باب الأمر بالمحافظة على السنة أن الضم هو المشهور، ومعناه صار الفقه سجيتهم: أي فقد وصل بما حازه في شرف الإسلام والفقه فيه إلى ما كان عنده من الشرف والكرم والسماحة ونحوها في الجاهلية، وهذه القطعة من الحديث تقدم الكلام عليها في باب التقوى في آخر حديث أبي هريرة «قيل يا رسول الله من أكرم الناس» الحديث (والأرواح جنود مجندة) معطوف على جملة «الناس معادن» : أي جموع مجتمعة وأنواع مختلفة (ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف) قال السيوطي: قال الخطابي: قوله الأرواح الخ يحتمل أن يكون إشارة إلى معنى التشاكل في الخير والشرّ، فالخير يحن إلى شكله والشرير إلى نظيره، فتعارف الأرواح بحسب الباع التي جبلت عليها من خير أو شر، فإذا اتفقت تعارفت وإن اختلفت تناكرت. قلت: وحكاه المصنف في شرح مسلم عنه وعن غيره، ويحتمل أن يراد الإخبار عن بدء الخلق في حال الغيب على ما جاء «إن الأرواح خلقت قبل الأجسام فكانت تلتقي وتلتئم، فلما حلت بالأجسام تعارفت بالأمر الأول، فصار تعارفها وتناكرها على ما سبق من العهد المتقدم، فتميل الأخيار إلى الأخيار والأشرار إلى الأشرار» قال ابن الجوزي: يستفاد من الحديث أن الإنسان إذا وجد من نفسه نفرة عن ذي فضل وصلاح، فينبغي أن يبحث عن المقتضي لذلك ليسعى في إزالته فيتخلص من الوصف المذموم وكذا عكسه. وقال ابن عبد السلام: المراد بالتعارف والتناكر التقارب في الصفات والتفاوت فيها، لأن الشخص إذا خالفتك صفاته أنكرته، والمجهول ينكر لعدم العرفان، فهذا من مجاز التشبيه، شبه المنكر بالمجهول والملائم بالمعلوم (رواه مسلم) بجملته (وروى البخاري قوله والأرواح إلى آخره من رواية عائشة) أي فهذا اللفظ لهما لكن من طريقين. 13372 - (وعن أُسير بن عمرو ويقال ابن جابر، وهو بضم الهمزة) وذكره الحافظ العسقلاني بالتحتية بدلها، قال: وقيل أصله أسير فسهلت الهمزة (وفتح السين المهملة) وسكون التحتية بعدها راء. قال الحافظ في «التقريب» : مختلف في نسبه فقيل كندي، وقيل غير

ذلك، وقيل له رؤية، وقيل إن ابن جابر آخر تابعي. وفي «أسد الغابة» هو ابن عمرو الكندي السلولي وقيل الدريكي، وقيل الشيباني له صحبة مخضرم. توفي النبيّ وهو ابن عشر سنين، قاله ابن معين. وقيل كان له إحدى عشرة سنة. قال ابن معين: أبو الخيار الذي يروى عن ابن مسعود اسمه أسير بن عمرو أدرك النبيّ وعاش إلى زمن الحجاج، روى عن النبي حديثين، أحدهما في تلقيح النحل، والآخر في الحجامة. وقال ابن المديني: أهل البصرة يقولون أسير بن جابر ويروون عنه عن عمر بن الخطاب حديث أويس القرني، وأهل الكوفة يسمونه أسير بن عامر اهـ. ملخصاً (قال: كان عمر بن الخطاب إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن) هم الجماعات الغزاة الذين يمدون جيوش الإسلام في الغزو، واحدهم مدد (سألهم: أفيكم أويس بن عامر) كذا رواه مسلم وهو المشهور. قال ابن ماكولا: ويقال أويس بن الخليص اهـ. قال: وكنيته أبو عمرو. قال قائل: قتل بصفين، وسيأتي بيان الخلاف فيذلك عند ذكر ترجمته، فما زال كذلك (حتى أتى على أويس رضي الله عنه) وهو تصغير أوس، وهو الذئب وبه سمي الرجل، وقيل سمي بمصدر أست الرجل أوساً إذا أعطيته فالأوس العطية. قاله القرطبي: وفي كلامه الترضي على غير الصحابي، وفيه خلاف الأصح جوازه كما في «التقريب» للنووي، وعن بعض الحنفية يقال فيما دون الصحابة رحمه الله ولا يقال فيه رضى الله عنه تمييزاً لهم بذلك عن باقي الأمة كامتياز المعصوم بالدعاء له بالصلاة (فقال: أنت أويس بن عامر) بتقدير همزة الاستفهام وحذفت تخفيفاً بدليل قوله (قال: نعم) وكذا الهمزة مقدرة بعده في أول كل سؤال (قال: من مراد) اسم قبيلة، قال ابن الكلبي: واسم مراد جابر بن مالك بن أدد بن يشجب بن يعر بن زيد بن كهلان بن سبأ (ثم من قرن) بفتح القاف والراء وبالنون من مراد، وهو قرن بن رماد بن ناجية بن مراد، وما ذكرنا من أنه بطن من مراد وإليه ينسب هو الصواب، ولا خلاف فيه، وفي «صحاح الجوهري» أنه منسوب إلى قرن المنازل المعروف ميقات إحرام أهل نجد. قال المصنف: وهذا غلط فاحش (قال نعم، وكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم) أبقى ليذكر مكان به من هذا الداء، ثم عوفي فيبعثه ذلك على الزيادة في الشكر (قال: نعم، قال لك والدة؟ قال نعم) ظاهره أنها كانت موجودة ذلك الحين (قال: فإني سمعت

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر، مع أمداد أهل اليمن) إضافة أمداد لأهل يجوز أن تكون بيانية، والأقرب كونها لاميَّة، والظرف محتمل لكونه لغواً متعلقاً بيأتي، ولكونه مستقراً حالاً من أويس أو صفة لأمداد، وكونه حالاً أنسب مما بعده، وعليه فيكون (من مراد) حالاً منه مترادفة أو حالاً منه متداخلة (ثم من قرن وكان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم) سيأتي في الرواية الآتية «إلا موضع الدينار أو الدرهم» بالشك (له والدة) اسمها و (هو بها بر) بفتح الباء الموحدة: أي بالغ في البرّ والإحسان إليها (لو أقسم على ا) أي أقسم عليه بحصول أمر (لأبرّه ا) بحصول ذلك المقسم على حصوله (فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل) لا يفهم من هذا أفضليته على عمر، ولا أن عمر غير مغفور له للإجماع على أن عمر أفضل منه لأنه تابعي والصحابي أفضل منه، إنما مضمون ذلك الإخبار بأن أويساً ممن يستجاب له الدعاء، وإرشاد عمر إلى الازدياد من الخير واغتنام دعاء من ترجى إجابته، وهذا نحو مما أمرنا النبي به من الدعاء له، والصلاة عليه وسؤال الوسيلة له وإن كان النبي أفضل ولد آدم، وكذا ما يأتي من قوله لعمر: «أشركنا في دعائك يا أخي» ثم سأله عمر ذلك بقوله (فاستغفر لي فاستغفر له) ففيه طلب الدعاء من الصالحين وإن كان الطالب أفضل (فقال له عمر: أين تريد؟ فقال: الكوفة) هي البلدة المعروفة بالعراق، وسميت بذلك لاستدارة بنائها (قال ألا) بتخفيف اللام أداة استفتاح (أكتب لك إلى عاملها) أي ليقوم من بيت مال المسلمين منها بكفايتك (قال: أكون) أي كوني (في غبراء الناس أحبّ إلي) فالأصل أن أكون فحذف أن فارتفع الفعل أو أطلق وأريد منه المصدر فهو نظير قولهم: «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» توجهيه المذكورين (فلما كان من العام المقبل) بضم الميم وكسر الموحدة اسم فاعل، وهو بالنسبة لعام ملاقاة عمر له (حج رجل من أشرافهم) أي أشراف أهل الكوفة ولعل إضافته إليهم لسكناه بينهم، وإلا فسيأتي ما قد يؤخذ منه أنه من مراد وسكت عن بيانه وتعيينه المصنف والقرطبي وكأنه لعدم وقوفهما عليه، والمراد بشرفه ظهوره وغناؤه (فوافق عمر) يحتمل أن يكون فاعل وافق ضميراً يعود إلى رجل، وأن يكون

الفاعل عمر ومفعول الفعل ضمير متصل بالفعل محذوف وهذا أقرب ليوافق قوله (فسأله عن أويس فقال: تركته رثّ البيت) أي رثّ متاعه، وهو المتاع الدون أو الخلق البالي. وقال المصنف: هو بمعنى قوله بعده: قليل المتاع، ويجوز أن لا يقدر مضاف بمعنى أن بيته الذي هو به خلق بال (قليل المتاع) قال في «المصباح» : المتاع في اللغة كل ما ينتفع به كالطعم والبرّ وأثاث البيت، وأصل المتاع ما يتبلغ به من ذلك وتقليله من المتاع زهد في الدنيا وإعراض عنها (قال) أي عمر (سمعت النبيّ يقول: أتى علكيم) وفي نسخة بالإفراد خطاباً لعمر ويناسبه قوله: فإن استطعت (أويس بن عامر مع أمداد من أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها برّ لو أقسم على الله لأبرّه، فإن استطعت أن يستغفرلك فافعل) هذا كله مرفوع كما تقدم مع الكلام عليه وهو من جملة معجزاته، لما فيه من الإخبار عن الأمر قبل وقوعه وذكره باسمه وصفته وعلامته واجتماعه بعمر، فكان كما أخبر عنه، وفيما فعل عمر الله عنه تبليغ الشريعة ونشر السنة والإقرار بالفضل لأهله، والثناء على من لا يخشى عليه عجب بذلك ليقينه وكمال إيمانه، والخطاب باستطعت من النبي لعمر رضي الله عنه، وهو حكى لفظ خطابه له، وليس مدرجاً في آخر الخبر خطاباً لذلك الشريف كما قد يتوهم، فإن كون المصطفى يأمر عمر مع كونه أفضل من أويس بأن يطلب منه الدعاء أبلغ في إظهار فضله وإثارة رغبة المخاطب لطلب الدعاء منه فلهذا قال (فأتى) أي ذلك الرجل (أويساً فقال استغفر لي، فقال) أي أويس (أنت أحدث عهداً بسفر صالح) أي أقرب، وعهداً منصوب على التمييز كقوله تعالى: {هم أحسن أثاثاً} (مريم: 74) وأشار إلى فضل السفر الصالح وأن القادم منه أرجى لإجابة دعائه فلذا سأل منه أويس الدعاء بقوله: «فاستغفر لي» وقد ورد «إذا لقيت الحاج فمره فليستغفرلك» وفي حديث آخر إن الله يغفرللحاج ولمن استغفر له الحاج حتى يرجع إلى بيته، (فقال) أي الرجل (استغفر لي، قال: أنت أحدث عهداً بسفر صالح فاستغفر لي) وكأن الرجل طلب من أويس ثالثاً الدعاء ففطن أنه عرف بمقامه (فاقل: لقيت عمر) بتقدير همزة

الاستفهام (قال نعم، فاستغفر له) أنه علم أنه أعلمه بعلي مقامه وأنه لما علم ذلك لا يتركه حتى يدعو له ودعا له بطلب المغفرة لورود ذلك في حديث عمر (ففطن) بكسر الطاء المهملة (له الناس) وأقبلوا عليه (فانطلق على وجهه) خارجاً لأن في ذلك إشغالاً له عن شأنه المتوجه هو إليه من إفراد الحق بالقصد والانقطاع إليه من الخلق (رواه مسلم) انفرد به عن باقي الستة ذكره في الفضائل، وقال في آخر الحديث: قال ابن المنير: وكسوته بردة، فكان كلما رآه إنسان قال: من أين لأويس هذه البردة؟ (وفي رواية لمسلم أيضاً عن أسير بن جابر) المرويّ عنه الحديث الأول (رضي الله عنه) زيادة في الحديث (أن أهل الكوفة وفدوا إلى عمر رضي الله عنه، وفيهم رجل ممن كان يسخر بأويس) لعله الذي عبر عنه في الرواية السابقة بقوله: «من أشرافهم» ولعل سخرياه منه لغني ذلك الرجل وغروره. بما هو فيه من الجاه والمال، واحتقار أويس لرثاثته وقلة متاعه زهداً في الدنيا واطراحاً لها وإعراضاً عن زهراتها، والسخرياء: الاستهزاء، وسخر من باب تعب كما في «المصباح» (فقال عمر: هل ههنا أحد من القرنيين) بفتح القاف والراء نسبة لقرن بطن من مراد كما تقدم (فجاء ذلك الرجل فقال عمر: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قال: إن رجلاً يأتيكم من اليمن يقال له أويس، لا يدع) أي يترك (باليمن غير أم له) وهذا مما زادت به هذه الرواية على ما قبلها (قد كان به بياض) هو الذي عبر عنه في الرواية السابقة بقوله برص (فدعا الله فأذهبه) ليس ذلك منه اعتراضاً على مولاه وعدم رضاه بقضاه ولكن لعله دعاه لذلك أمر آخر مطلوب من برّ والدته، وأن لا تقذر مخالطته وتستنكف من خدمته وهو شديد العناية بها (إلا موضع الدينار، أو) شك من الراوي (الدرهم) والشك في ذلك عند مسلم في طريق زهير بن حرب بهذا اللفظ، فيحتمل كون الشك منه، أو من أحد شيوخه والطريق المجزوم فيها بأنه موضع الدرهم السابقة، رواها مسلم عن شيوخه إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، ومحمد بن المثنى، وابن بشار قال: واللفظ لابن المثنى، والطريقان مختلفان في رجال الإسناد إلى أسير (فمن لقيه منكم فليستغفر

لكم) أي فليطلب منه ذلك كما قال في الرواية الآتية «فمروه فليستغفر لكم» ثم إن كان اللفظان من عمر، فيحتمل على أنه تارة باللفظ وتارة بالمعنى، ويحتمل أنه تعدد ذكره منه فتارة ذكر بلفظ إحدى الروايتين، وأخرى بلفظ الأخرى، وفيه على الاحتمال الأول دليل جواز الرواية بالمعنى بشرطه. (وفي رواية له) أي لمسلم (عن عمر رضي الله عنه قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن خير التابعين رجل يقال له أويس وله والدة، وكان به بياض فمروه) فيه دليل لعدم اعتبار الاستعلاء والعلو في الأمر خلافاً لبعض الأصوليين (فليستغفر لكم) كأن حكمه الإتيان بالمؤكده في صدر الجملة ما قد يعتري الناظر له في التردد في أخيريته على التابعين فأكد ذلك لذلك، قال المصنف في شرح مسلم: وهذا الحديث صريح في أنه خير التابعين، وقد قال أحمد وغيره: أفضل التابعين سعيد بن المسيب. والجواب أن مرادهم أن سعيداً أفضل في العلوم الشرعية كالتفسير والحديث والفقه لا في الخير عند الله تعالى اهـ. قال في «الإرشاد» عن أحمد بن حنبل قال: أفضل التابعين سعيد بن المسيب، قيل فعلقمة والأسود، فقال سعيد: وعلقمة والأسود.d وعنه لا أعلم في التابعين مثل أبي عثمان النهدي، وقيس بن أبي حازم، وعنه أفضلهم قيس وأبو عثمان وعلقمة ومسروق، وعن عبد الله بن جنين الزاهد قال: أهل المدينة يقولون: أفضل التابعين ابن المسيب، وأهل الكوفة يقولون: أويس القرني، وأهل البصرة يقولون: الحسن البصري والله أعلم. ومثله في «التقريب» له باختصار قال السيوطي في «شرح التقريب» واستحسنه: أي ما قال ابن حنيف - ابن الصلاح. وقال العراقي: الصحيح بل الصواب ما ذهب إليه أهل الكوفة لما ثبت في صحيح مسلم، وأشار إلى الحديث قال: فهذا قاطع للنزاع، قال: وأما تفضيل أحمد لابن المسيب وغيره فلعله لم يبلغه الحديث أو لم يصح عنده أو أراد الأفضلية في العلم لا الخيرية، قال السخاوي: فقد فرق بينهما بعض شيوخ الخطابي فيما حكاه الخطابي عنه، وأما قوله لعل أحمد لم يبلغه الحديث أو لم يصح عنده فإنه أخرجه في «مسنده» من الطريق التي خرّجها مسلم منها بلفظ: «إن خير التابعين رجل يقال له أويس» لكن قد أخرجه في «المسند» أيضاً بلفظ: «إن من خير التابعين» فقال: حدثنا أبو نعيم ثنا شريك فذكره بذلك. قال السخاوي: وكذا رواه الجماعة عن شريك فزال الحصر اهـ. (قوله غبراء الناس بفتح الغين المعجمة وإسكان الباء) الموحدة (وبالمد) قال القرطبي: هذه الرواية الجيدة فيه

(وهم فقراؤهم وصعاليكهم ومن لا يعرف عينه من أخلاطهم) قال القرطبي: والغبراء الأرض، يقال: «الفقراء بنو الغبراء» كأن الفقر ألصقهم بها، قال القرطبي: وقد روى غبَّر بضم الغين وتشديد الموحدة جمع غابر كشاهد وشهد، ويعني به بقايا الناس ومتأخريهم، وهم ضعفاء الناس لأن وجوه الناس يتقدمون للأمور ويصحبون بها ويتقاضون فيها، ويبقى الضعفاء لا يلتفت إليهم ولا يؤبه بهم، فأراد أويس أن يكون خاملاً بحيث لا يلتفت إليه. طالباً للسلامة وظافراً بالغنيمة اهـ. والمعنى الأول يئول إلى هذا أيضاً. والصعاليك بمهملتين أوله، جمع صعلوك بضم الصاد المهملة: الفقير كما في «الصحاح» ، وقوله من لا يعرف عينه: أي لخموله وعدم ظهوره (والأمداد جمع مدد) بفتح أوّليه (وهم الأعوان والناصرون الذين كانوا يمدون) من الإمداد: أي اتصال المدد (المسلمين في الجهاد) وقضية ترتيب المتن تقديم بيان الأمداد على ما قبله لأنه كذلك فيه. (فائدة) قال القرطبي: كان أويس من أولياء الله المخلصين المخففين الذين لا يؤبه بهم، ولولا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر عنه ووصفه بوصفه ونعته بنعته وعلامته لما عرفه أحد، وكان موجوداً في حياة النبي وآمن به وصدقه ولم يلقه ولا كاتبه، فلم يعدّ من الصحابة، وقد أخبر النبيّ أنه من التابعين حيث قال: «إنه خير التابعين» وقد اختلف في زمن وفاته، فروي عن عبد الله بن مسلم قال: «عزونا أذربيجان زمن عمر بن الخطاب ومعنا أويس القرني، فلما رجعنا مرض علينا فحملناه فلم يستمسك فمات، فنزلنا فإذا قبر محفور وماء مسكوب وكفن وحنطوط، فغسلناه وكفناه وصلينا عليه ودفناه، فقال بعضنا لبعض: لو رجعنا فعلمنا قبره فإذا لا قبر ولا أثر» وروي عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: نادى رجل من الشام يوم صفين: أفيكم أويس القرني؟ قلنا نعم، قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أويس خير التابعين بإحسان» وعطف دابته فدخل مع أصحاب عليّ قال عبد الرحمن: فوجد في قتلى أصحاب عليّ. وله أخبار كثيرة وكرامات ظاهرة ذكرها أبو نعيم وأبو الفرج بن الجوزي في كتابيهما اهـ كلام القرطبي. وقد أفرد بعض فضلاء زبيد بعضها جزءاً في مناقبه وقفت عليه وهو حسن. 14373 - (وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: استأذنت النبي في العمرة) فيه

استئذان التلميذ لأستاذه، والمريد لشيخه في مهامته إذا كان مع من ذكر في أمر جامع بهم يجمعهم طاعة الله ليكون على ذهنه إذا تفقده، قال تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا با ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه} (النور: 62) (فأذن لي) في ذلك ودعا لي بالمغفرة، قال ابن رسلان: روى الثعلبي عن ابن أبي جمرة الثمالي، واسمه ثابت بن أبي صفية «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صعد المنبر يوم الجمعة وأراد الرجل أن يقضي الحاجة لم يخرج من المسجد حتى يقوم بحيال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث يراه، فيعرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه إنما قام ليستأذن فيأذن لمن شاء منهم» . (وقال: لا تنسنا يا أخيّ) بفتح الياء المشددة وكسرها قراءتان في السبع في يا بني، وظاهر أنهما على ضم الهمزة والتصغير، وعليه اقتصر الشربيني الخطيب في «شرح جمع الجوامع» ، وفي «شرح جمع الجوامع» للمحلي بعد ذكر الحديث وأخي بضم الهمزة مصغر لتقريب المنزلة: أي لا للتحقير، وبفتحها روايتان اهـ. (من دعائك) فيه دليل على استحباب طلب المقيم من المسافر ووصيته له بالدعاء في مواطن الخير ولو كان المقيم أفضل من المسافر، وإن كان يعرف أنه يدعو له فلا بأس أن يذكره بالدعاء له لا سيما إن كان سفره عبادة كحج أو عمرة أو غزو فتتأكد الوصية كما تقدم، وفي الحديث: «يغفر للحاجّ ولمن استغفر له الحاجّ» والعمرة في معنى الحج، وهذا الحديث يؤيده. وقال عمر: (فقال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (كلمة) أراد بها معناها اللغوي، وهو الجمل المفيدة وهل هو مجاز مرسل من إطلاق اسم الجزء على الكل أو استعارة مصرحة شبه الكلام بالكلمة في توقف فهم المراد على تمام كل منهما، فأطلق عليه اسمها وجهان ذكرهما شيخنا الشيخ المحقق عبد الرحمن الحساني، والمشهور في كتب النحو: الأول منهما، وعليه اقتصر ابن رسلان في «شرح السنن» (ما يسرّني أن لي بها) أي «بدلها فالباء فيه بمعنى البدل، ومنه قول الحماسي» . فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا. (الدنيا) وما فيها، قال ابن رسلان: فيه فضل الدعاء بظهر الغيب واستحبابه للحاج إذا حضر في الأماكن التي يستجاب فيها الدعاء لنفسه ولإخوانه في الله تعالى بأعيانهم، ومن سأله الدعاء ووعده فيتعين ويتأكد عليه الدعاء له اهـ. وهذا الحديث دليل قول المصنف في الترجمة وطلب الدعاء منهم، وذكر لدليل ندب زيارة المواضع المأثورة قوله: (وفي رواية) هي لأبي داود قال بعد إيراد الحديث كما تقدم من طريق شعبة، قال شعبة: ثم لقيت عاصماً بعد بالمدينة فحدثته فـ (ــقال) في حديثه (أشركنا) بفتح الهمزة: أي اجعلنا شركاء معك (يا أخي) بالوجهين (في) صالح (دعائك حديث صحيح. رواه أبو داود) في باب الدعوات آخر كتاب الصلاة (والترمذي) في الدعوات من جامعه (وقال: حديث حسن صحيح) لعل صحته لغيره، وإلا ففي سند أبي داود والترمذي عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب ليس من رجال الصحيح، إنما روى له البخاري في كتاب خلق الأفعال، وفي سند الترمذي أيضاً سفيان بن وكيع وهو الراوي، وقد تكلم فيه من قبيل دخوله

في صنعة الوراقة، وقد رواه ابن ماجه في الحج من «سننه» عن أبي بكر بن شيبة عن وكيع عن سفيان عن عاصم أيضاً والله أعلم. 15374 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبيّ يزور قباء) بضم القاف وتخفيف الباء وبالمد وهو مذكر منون مصروف في اللغة الفصيحة المشهورة، وحكى صاحب المطالع وغيره فيه لغة أخرى وهي القصر حكاها في «المطالع» عن الخليل، وأخرى وهي التأنيث وترك الصرف والمختار ما قدمت، وهو الذي قاله الجمهور ونقله صاحب المطالع عن أبي عبيد البكري وعن أبي علي القالي، كذا في «التهذيب» للمصنف، وجمعت هذا كله من عبارة «المغني» للشيخ محمد طاهر الهندي الفتني: قباء بالمد والتذكير والصرف أشهر من أضدادهن، وبضم القاف وخفة الموحدة، وفي «المصباح» هو بضم القاف ويقصر ويمد ويصرف ولا يصرف، وفي عبارته إبهام تساوي الوجوه وقد علمت الأشهر منها. قال السمهودي: هو قرية حوالي المدينة. قال ابن جبير: مدينة كبيرة كانت متصلة بالمدينة المقدسة. وفي خط المداعي إنما سميت قباء ببئر كانت هناك تسمى قباراً فتطيروا منها فسموها قباء كما نقله ابن زبالة. قال الباجي: على ميلين من المدينة ونقله النووي عن العلماء. وفي «مشارق عياض» ثلاثة أميال، وهو معنى قول الحافظ ابن حجر على فرسخ من المدينة. قال السمهودي: وقد اختبرت ذلك فرأيته على فرسخ من باب جبريل إلى باب مسجد قباء اهـ. (راكباً وماشياً) أي تارة وتارة، ويحتمل أن يكون باعتبار بعض المسافة

46 ـــ باب فضل الحب

والأول أقرب لقربه (فيصلي فيه) أي في مسجده (ركعتين. متفق عليه) وقد ورد في فضل الصلاة في مسجد قباء أحاديث كثيرة أوردها السمهودي في فضل مسجد قباء من «تاريخه» : منها ما رواه الترمذي عن أسد بن ظهير الأنصاري عن النبي قال: «الصلاة في مسجد قباء كعمرة» قال الترمذي: حديث حسن غريب، ولا نعرف لأسيد شيئاً يصح غير هذا الحديث. ثم أورد السمهودي أحاديث في كونها فيه كعمرة. (وفي رواية) هي للبخاري والنسائي من حديث ابن عمر (كان النبي يأتي مسجد قباء كل سبت) وعند ابن حبان في صحيحه «كل يوم سبت» قال السمهودي: فيرد به على من قال السبت الأسبوع (راكباً وماشياً) أي للصلاة فيه كما تقدم فيما قبله (وكان ابن عمر يفعله) قال السمهودي: ولابن أبي شيبة عن شريك عن عبد الله بن عمر مرسلاً «أن النبي كان يأتي قباء يوم الاثنين و» عن ابن أبي عروبة قال «كان عمر بن الخطاب يأتي مسجد قباء يوم الاثنين ويوم الخميس» الحديث، ففيه استحباب زيارته ومثله سائر الأماكن المأثورة في الحرم المكي وغيره. 46 - باب فضل الحب بضم المهملة وتشديد الموحدة، وهو كما في «القاموس» : الود كالحباب والحب بكسرها، وفي «المصباح» أن الحب بالضم اسم مصدر حابب من باب قاتل (في ا) أي لأجله، لا لغرض آخر في تعليلة (والحث) بتشديد المثلثة: أي التحريض (عليه، وإعلام) عطف على فضل مصدر مضاف إلى فاعله، وهو (الرجل من يحبه أنه يحبه) على تقدير الباء وحذف الجار من إن وأن وكي المصدريات مقيس بغير خلاف (وماذا يقول) أي المحبوب (له) أي للرجل المعلم (إذا أعلمه) .

(قال الله تعالى) : ( {محمد رسول الله} ) جملة مبنية للمشهود به في الآية قبلها، ويجوز أن يكون رسول الله صفة ومحمد خبر محذوف أو مبتدأ ( {والذين معه} ) معطوف عليه وخبرهما ( {أشداء على الكفار رحماء بينهم} ) وأشداء جمع شديد ورحماء جمع رحيم، والمعنى: أنهم يغلظون على من خالف دينهم ويتزاحمون فيما بينهم كقوله تعالى: {أذلة على المؤمنين أعزّة على الكافرين} (الحشر: 9) ( {تراهم ركعاً سجداً} ) لأنهم مشتغلون بالصلاة أكثر أوقاتهم ( {يبتغون فضلاً من الله ورضواناً} ) الثواب والرضى ( {سيماهم في وجوههم من أثر السجود} ) يريد السمة التي تحدث في جباهم من كثرة السجود فعلاً، من سامه إذا علمه، وقد قرئت ممدودة، و {من أثر السجود} بيانها، أو حال من المستكن في الجار (ذلك) إشارة إلى الوصف المذكور، أو إشارة مبهمة يفسرها «كزرع» ( {مثلهم في التوراة} ) صفتهم العجيبة الشأن المذكورة فيها ( {ومثلهم في الإنجيل} ) عطف عليه: أي ذلك مثلهم في الكتابين. ثم التوراة والإنجيل اسمان أعجميان. قال البيضاوي: ومن زعم عربيتهما واشتقاقهما فهو متكلف، وقوله ( {كزرع} ) تمثيل مستأنف أو تفسر، ومثلهم في الإنجيل مبتدأ وكزرع خبره ( {أخرج شطأه} ) أي فراخه، يقال اشتطأ الزرع: إذا فرخ ( {فآزره} ) فقواه من المؤازرة بمعنى المعاونة، أو من الإيزار وهو الإعانة ( {فاستغلظ} ) فصار من الرقة إلى الغلظ ( {فاستوى على سوقه} ) فاستقام على قصبه جمع ساق ( {يعجب الزراع} ) بكثافته وقوته وغلظه وحسن منظره، وهو مثل ضربه الله للصحابة قلوا في بدء الإسلام ثم كثروا واستحكموا فترقى أمرهم بحيث أعجب الناس ( {ليغيظ بهم الكفار} ) علة لتشبيهم بالزرع في زكاته واستحكامه، أو لقوله ( {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً} ) فإن الكفار لما سمعوه غاظهم ذلك، ومنهم للبيان. ولما قال المصنف (إلى آخر السورة) تكلمنا على خاتمتها بجملتها. (وقال الله تعالى) : ( {والذين تبوءوا الدار والإيمان} ) عطف على المهاجرين، والمراد بهم الأنصار فإنهم لزموا المدينة والإيمان وتمكنوا فيهما، وقيل المعنى: تبوءوا دار الهجرة ودار الإيمان فحذف المضاف من الثاني والمضاف إليه من الأول وعوض عنه اللام، أو تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان كقوله:

«علفتها تبناً وماء بارداً» وقيل سمى المدينة بالإيمان لأنه مظهره ومصيره ( {من قبلهم} ) أي من قبل هجرة المهاجرين، وقيل تقدير الكلام والذين تبوءوا الدار من قبلهم والإيمان ( {يحبون من هاجر إليهم} ) ولا يثقل عليهم. 1375 - (وعن أنس رضي الله عنه عن النبيّ قال: ثلاث) أي من خصال أو ثلاث خصال أو خصال ثلاث (من كنّ) أي وجدن فهي تامة، و (فيه) ظرف لغو متعلق به كذا أعربه الحافظ في «الفتح» ، ويجوز أن تكون كان ناقصة والظرف الخبر (وجد) من الوجدان بكسر الواو في المصدر (بهن حلاوة الإيمان) قال المصنف: المراد من حلاوة الإيمان استلذاذ الطاعات وتحمل المشاق في الدين وإيثار ذلك عن أغراض الدنيا، ومحبة العبد تحصل بفعل طاعته وترك معصيته وكذا الرسول اهـ. وقال الحافظ: فيه استعارة تخييلية، شبه رغبة المؤمن في الإيمان بشيء حلو وأثبت له لازم ذلك الشيء وأضافه إليه. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: إنما عبر بالحلاوة لأن الله تعالى شبه الإيمان بالشجرة في قوله: {مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة} (إبراهيم: 24) فالكلمة هي كلمة الإخلاص، والشجرة أصل الإيمان، وأغصانها اتباع الأوامر واجتناب النواهي، وزهرها ما يهم به المؤمن من الخير، وثمرها عمل الطاعات، وحلاوة الثمر جني الشجرة وغاية كماله تناهي نضج الثمرة وبه تظهر حلاوتها (أن يكون الله ورسوله أحبّ) بالنصب خبر يكون (إليه مما سواهما) قال البيضاوي: المراد بالحبّ هنا الحب العقلي الذي هو إيثار ما يقتضي العقل السليم رجحانه وإن كان على خلاف هوى النفس، كالمريض يعاف الدواء بطبعه فينفر عنه ويميل إليه بمقتضى عقله فيهوى تناوله، فإذا تأمل المرء أن الشارع لا يأمر ولا ينهى إلا بما فيه صلاح عاجل أو خلاص آجل، والعقل يقتضي رجحان جانب ذلك تمرن على الائتمار بأمره حيث يصير هواه تبعاً له ويلتذ بذلك التذاذاً عقلياً، إذ الالتذاذ العقلي إدراك ما هو كمال وخير من حيث هو كذلك، وعبر الشارع عن هذه الحالة بالحلاوة لأنها أظهر اللذائذ المحسوسة، وشاهد هذا الحديث من القرآن قوله تعالى: {قل إن كان آباؤكم} (التوبة: 24) إلى أن قال: {أحبّ إليكم من الله

ورسوله} ثم هدد على ذلك وتوعد بقوله: {فتربصوا} قال المصنف: إنما قال مما سواهما ولم يقل ممن ليعم من يعقل ومن لا يعقل. وفيه دليل على أنه لا بأس بهذه التثنية. وأما قوله للذي خطب فقال: «ومن يعصهما، فقال: بئس خطيب القوم أنت» فليس من هذا، لأن المراد في الخطب الإيضاح، وأما هنا فالمراد الإيجاز في اللفظ ليحفظ، وثم أجوبة أخرى قال الحافظ في «الفتح» : من محاسنها أن تثنية الضمير هنا إيماء إلى أن المعتبر المجموع المركب من الجهتين لا كل واحدة منهما فإنها وحدها لاغية إذا لم ترتبط بالأخرى، وأما أمر الخطيب بالإفراد فلان كلاً من العصيان مستقل باستلزام الغواية إذ العطف في تقدير التكرير والأصل استقلال كل من المعطوفين في الحكم ويشير إليه قوله تعالى: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم} (النساء: 59) فأعاد أطيعوا في الرسول دون أولي الأمر لأنهم لا استقلال في الطاعات كاستقلال الرسول اهـ. ملخصاً من كلام البيضاوي والطيبي (وأن يحبّ المرء لا يحبه إلا) قال يحيى بن معاذ: حقيقة الحبّ في الله أن لا يزيد بالبرّ ولا ينقص بالجفاء (وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه) الإنقاذ أعم من العصمة منه ابتداء بأن يولد على الفطرة ويستمرّ، أو بالإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان كما وقع لكثير من الصحابة، وعلى الأول فيحمل قوله يعود على معنى الصيرورة بخلاف الثاني فإن العود فيه على ظاهره، وعدى العود بفي دون إلى لتضمنه معنى الاستقرار كأنه قيل ويستقر فيه، ومثله قوله تعالى: {وما يكون لنا أن نعود فيها} (الأعراف: 89) (كما يكره أن يقذف في النار) الكاف في محل المفعول المطلق واستدل به على فضل من أكره على الكفر فصبر وترك التقية حتى قتل. قال الحافظ: وأخرجه البخاري في الأدب في فضل الحب في الله بلفظ «وحتى أن يقذف في النار أحبّ إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله تعالى منه» وهو أبلغ من لفظ حديث الباب لأنه سوى فيه بين الأمرين، وهنا جعل الوقوع في نار الدنيا أولى من الكفر الذي أنقذه الله بالخروج منه من نار الآخرة (متفق عليه) ورواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه قال المصنف: هو حديث عظيم من أصول الدين.

3376 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ قال: سبعة) أي سبعة أنفس فلذا صح الابتداء به، ويجوز أن يعتبر مسوغ آخر، ومفهوم العدد ليس بحجة على الصحيح عند الأصوليين، فلا يشكل عليه أن الذين يظلون تحت العرش يوم القيامة فوق السبعين، وقد جمع في ذلك جزءاً الحافظ السخاوي وكذا الحافظ السيوطي (يظلهم الله في ظله) أضافه إليه تشريفاً، وقيل المراد بظله كرامته أو حمايته كما يقال: أنا في ظلّ فلان، وهو قول عيسى بن دينار وقواه عياض، وقيل المراد في ظلّ عرشه ويدل عليه حديث سلمان «سبعة بظلهم الله في ظل عرشه» فذكر الحديث، وإن أريد ظل العرش استلزم كونه في كنف الله وكرامته من غير عكس فهو أرجح، وبه جزم القرطبي، ويؤيده التقييد بيوم القيامة في رواية ابن المبارك، فترجح أن المراد ظل العرش لا ظل طوبى وظل الجنة خلافاً لمن زعم لأن ذلك إنما يكون بعد دخول الجنة وهو عام لكل داخلها. ومقصود الحديث ما اختص به أصحاب تلك الخصال (يوم لا ظل إلا ظله) وجه الكرماني الحصر في السبعة المذكورة بما ملخصه: إن الطاعة إما أن تكون بين العبد والربّ أو بينه وبين الخلق، فالأول باللسان وهو الذكر، أو بالقلب وهو المعلق بالمسجد، أو بالبدن وهو الناشىء في العبادة، والثاني إما عام وهو الإمام العادل، أو خاص بالقلب وهو التحاب، أو بالمال وهو الصدقة، أو بالبدن وهو العفة (إمام عادل) اسم فاعل من العدل والمراد به صاحب الولاية العظمى ويلحق به من ولي شيئاً من أمر المسلمين فيعدل فيه ويؤيده رواية مسلم من حديث ابن عمر ورفعه «إن المقسطين عند الله على منابر من نور على يمين الرحمن: الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا» وأحسن ما فسر به العادل أنه الذي يتبع أمر الله بوضع كل شيء في موضعه بغير إفراط ولا تفريط، وقدمه في الذكر لعموم النفع به (وشاب) بتشديد الموحدة اسم فاعل (نشأ في عبادة ا) زاد ابن زيد في روايته «حتى توفي على ذلك» وعند سلمان «أفنى شبابه ونشاطه في عبادة ا» وفيه إيماء إلى فضل من لم يزاول المعصية أصلاً على من أقلع وتاب منها (ورجل قلبه معلق بالمساجد) ظاهره أنه من التعليق كأنه شبه بالشيء المعلق في المسجد كالقنديل مثلاً إشارة إلى طول الملازمة بقلبه وإن كان جسده خارجاً عنه، ويدل عليه رواية الحوفي «كأنما قلبه في المسجد» ويحتمل أن يكون من العلاقة شدة الحبّ ويدل عليه رواية أحمد «متعلق بالمساجد» ورواية الكشميهني بزيادة فوقية بعد الميم وكسر اللام، زاد

سلمان «من حبها» وزاد مالك «إذا خرج منه يعود إليه» (ورجلان تحابا) بتشديد الموحدة وأصله تحاببا: أي اشتركا في جنس المحبة وأحب كل منهما صاحبه حقيقة لا ظاهراً فقط، و «في» في قوله: (في ا) تعليلية (اجتمعا عليه) هذا لفظ مسلم ولفظ البخاري «اجتمعا على ذلك» والمشار إليه ومرجع الضمير هو الحب المدلول عليه بقوله تحابا (وتفرقا عليه) المراد أنهما داما على المحبة ولم يقطعاها لعارض دنيوي سواء اجتمعا حقيقة أم لا حتى فرق بينهما الموت، وعدت هذه الخصلة واحدة مع أن متعاطيها اثنان لأنها لا تتم إلا باثنين.H ولما كان المتحابان بمعنى واحد كان عد أحدهما مغنياً عن الآخر، لأن الغرض عدّ الخصال لا عد جميع المتصف بها وهذا مقصود الترجمة (ورجل دعته امرأة ذات منصب) أي أصل وشرف (وجمال) وصفها بالأوصاف التي جرت العادة بمزيد الرغبة لمن تحصل فيه، وقل من يجتمع فيها ذلك من النساء، والمراد دعته إلى نفسها كما زاد ابن المبارك في روايته، وعن البيهقي في «الشعب» من حديث أبي هريرة «فعرضت نفسها عليه» والظاهر أنها دعته إلى الفاحشة وبه جزم القرطبي ولم يحك غيره، وقال بعضهم: يحتمل أنها دعته إلى التزويج فخشي أن يشغله عن عبادة مولاه والافتتان بها، أو خاف أن لا يقوم بحقها لشغله بالعبادة عن التكسب لها. والأول أظهر ويؤيده وجود الكناية في قوله إلى نفسها، ولو كان المراد التزويج لصرح به، والصبر عن الموصوفة بما ذكر من أكبر المراتب لكثرة الرغبة في مثلها وعسر تحصيلها سيما وقد أغنت عن مشاق التوصل إليها بمراودة ونحوها (فقال: إني أخاف ا) في رواية كريمة «ربّ العالمين» والظاهر أنه يقول بلسانه ليزجرها وتعتبر بقلبها ويحتمل أنه بقلبه، قاله عياض، قال القرطبي: إنما يصدر ذلك عن شدة خوف من الله ومتين غوى وحياء (ورجل تصدّق) بلفظ الماضي، قال الكرماني: جملة حالية بتقدير قد (بصدقة) نكرها ليشمل كل ما تصدق به من قليل وكثير، وظاهره يشمل المفروضة والمندوبة لكن نقل المصنف أن إظهار المفروضة أولى من إخفائها (فأخفاها حتى لا تعلم) بضم الميم وفتحها (شماله ما تنفق يمينه) هكذا في معظم الروايات في البخاري وغيره، ووقع في صحيح مسلم مقلوباً «حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله» وقد بسط الحافظ في «الفتح» في بيان من وهم بذلك، وما في البخاري هو الصواب وهو وجه الكلام لأن السنة في الصدقة إعطاؤها باليمين. والقصد من الحديث الحثّ على المبالغة في إخفاء الصدقة بحيث إن شماله مع قربها من

يمينه وتلازمها لو تصوّر أنها تعلم لما علمت ما فعلت اليمين لشدة إخفائها فهو على هذا من مجاز التشبيه، ويؤيده أنه جاء في رواية «تصدق بصدقة كأنما أخفى يمينه عن شماله» ويحتمل أن يكون من مجاز لحذف أي حتى لا يعلم ملك شماله (ورجل ذكر الله تعالى) أي بقلبه من التذكر أو بلسانه من الذكر (خالياً) أي عن الخلق لأنه حينئذٍ يكون أبعد من الرياء. أو المراد خالياً عن الالتفات إلى غير الله ولو كان في ملأ، ويؤيده رواية البيهقي «ذكر الله بين يديه» ويؤيد الأول رواية ابن المبارك وحماد بن زيد «ذكر الله خلاء» أي في موضع خال وهي أصح (ففاضت عيناه) في فاضت الدموع منهما وإسناد الفيض إليهما مبالغة كأنها هي التي فاضت» قال القرطبي: وفيض العين بحسب حال الذاكر وما ينكشف له، فبكاؤه خشية من الله تعالى حال أوصاف الجلال، وشوقاً إليه سبحانه حال أوصاف الجمال. قال الحافظ في «الفتح» وذكر الرجال في هذا الحديث لا مفهوم له فيما ذكر إلا إن أريد بالإمام العادل الإمامة العظمى وإلا فيمكن دخول المرأة حيث تكون ذات عيال فتعدل فيهم ويخرج خصلة ملازمة المسجد لأن صلاتها في بيتها أفضل من المسجد، وما عدا ذلك فالمشاركة حاصلة لهن. فائدة: أورد الحافظ السخاوي في «جزئه» المسمى بالخصال الموجبة للظلال تسعة وثمانين خصلة ذكر أدلة ذلك وما ورد فيه في آخره أن الأديب معمر بن عبد القوي المكي المالكي نظمها على ترتيب لها في جزئه فقال: أناس روينا في الصحيحين سبعة يظلهم الرحمن في برد ظله وقد حازهم زين الهدى شيخ وقته أبو شامة في النظم منه بقوله محب عفيف ناشىء متصدق وباك مصلّ والإمام بعدله وزاد عليه شيخ الإسلام عدة ثلاثة سبعات رواها بنقله وأبرزها نظماً فقال ونظمه هو الدر لا نظم يكون كمثله وزد سبعة: إصلال غاز وعونه وإنظار ذي عسر وتخفيف حمله وحامي غزاة حين ولوا وعون ذي غرامة حق مع مكاتب أهله وزد مع ضعف سبعتين إعانة لأخرق مع أخذ لحق وبذله وكره وصبر ثم مشي لمسجد وتحسين خلق ثم معظم فضله وكافل ذي يتم وأرملة وهت وتاجر صدق في المقال وفعله وحزن وتصبير ونصح ورأفة تربع بها السبعات من فيض فضله وقد زاد فيما بعد ستاً ولم تقع منظمة منه كسابق قوله وفي نظمها حكم لغير كنفسه محب لسيف الله شيعة عدله وترك الزنا ترك الرياء ورشوة وأول إنعام نهاية كله فأربعة صار الجميع وقبلها ثلاثون فاقرأ العلم تحظ بنيله وزاد عليها حافظ العصر شيخنا وعلامة الإسلام جامع شمله عنيت السخاوي الذي كل عالم يروي صداه من تفيض فضله

ثمانية من بعد خمسين خصلة تتبعها فيما رواه وأصله فدونكها نظماً ليحسن حفظها بأحسن تعليم يكون بسهله فأولها في العد: من هو ساكت بحلم وذو ثبت بعلم وعقله ومن حفظ القرآن في حال صغره وقاد كبيرا في الأنام بحمله مراقب شمس للمواقيت تاجر أمين بلا مدح وذم لرحله عيادة مرضى ثم تشييع ميت ومن لم يخف في الله لوماً لعدله وقبض يد عن غير حق وغضة لطرف عن المحظور قصداً لحله وترك غريم ثم فضل لمعسر وإشباع ذي جوع يتوق لأكله وواصل رحم ثم رحمة أيم بأيتامها تعني بيتم وشغله وصانع طعم لليتيم وموقن عليه رقيقاً في ارتحال وحله محب لخلق الله يبغي جلاله مؤذن فرّاج لكرب» وكله ومحيي طريقاً للنبي ومكثر صلاة عليه في النهار وليله وحامل قرآن قراءة أصفيا كذا أنبياء الله أكرم بأهله وإفراد إبراهيم بالذكر منهم عليّ ونجلاه فطوبى لنجله مريض وذو جوع وصوم وهائم ثلاثة عشر من مرحب حوله مصلّ بقرآن أتى بعد مغرب وأطفال أتباع النبي وسبله ونجل رسول الله ذكرنا به وغير حسود والعقوق لأصله وتارك مشي بالنميمة ظاهر برىء ومذكور بذكر الموله منيب لدى ذكر الإله وغاضب بحرمته ثم المحب لأجله وعمار بيت الله جل جلاله ومستغفر الأسحار يا طيب قوله ومذكور رب الناس ذاكره كذا شهيد ومن في أحد فاز بقتله معلم أبناء وأخيار ديننا أمانة أمر بالجميل وفعله

ونهى وداعي الخير واختم بخاتم النبيين حب الله أكرم رسله عليه صلاة الله ثم سلامه وآل وأصحاب كرام بوصله وقد كملت تسعين تعجز واحد مبينة جاءتك من فيض فضله ونسأل مولانا الكريم إلهنا يصيرنا ممن يظل بظله اهـ (متفق عليه) ورواه أحمد والنسائي كلهم من حديث أبي هريرة وأبي سعيد، ورواه مسلم أيضاً عن أبي هريرة وأبي سعيد معاً كذا في «الجامع الصغير» . 3377 - (وعنه قال: قال رسول الله: إن الله تعالى يقول) فيه رد على من يكره أن يؤتى بالمضارع في القول المحكي عنه تعالى لأنه كلامه قديم أزلي. والجواب أن الإتيان به للدلالة على أنه مستمر أبدي (يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي) والسؤال عنهم مع علمه بمكانهم وغيره من أحوالهم، لينادي بفضلهم في ذلك الموقف ويصرح به وعظمته واللام فيه للتعليل: أي تحابوا لجلاله وعظمته لا لغرض سوى ذلك من دنيا أو نحوها، وروي بجلالي، قال العاقولي: أي في جلالي، فالباء بمعنى «في» وخص الجلال بالذكر لدلالته على الهيبة والسطوة وأنهم في حبهم قائمون بحق تعظيمه والخوف منه مطرقون إجلالاً لهيبته، فجمع بينهما هذا الوصف العظيم لا كما يجمع حب أهل المحابين على شهواتهم الخسيسة الباعثة على ترك الهيبة وإلقاء جلباب الحياء هيهات كم بين المحبتين اهـ. (اليوم أظلهم في ظلي) قال القاضي عياض: إضافة الظل إليه تعالى إضافة ملك. قال الحافظ: ولو قال إضافته تشريف لكان أولى، والمراد ظل العرش، وجاء في غير مسلم «ظل عرشي» قال القاضي: ظاهره أي في ظله من الحرّ والشمس ووهيج الموقف وأنفاس الخلق، قال: وهذا قول الأكثر. وقال عيسى بن دينار: معناه أمنه من المكاره وأنه تعالى يكرمه ويجعله في كنفه وستره، ومنه قولهم «السلطان ظلّ الله في أرضه» وقيل الظل هنا عبارة عن الراحة والنعيم يقال هذا عيش ظليل: أي طيب (يوم لا ظل إلا ظلي) أي لا يكون في

ذلك اليوم من ظل ظل مجازاً كما في الدنيا (رواه مسلم) وأحمد، وهو من الأحاديث القدسية، وقد جمع منها الحافظ العلائي أربعين حديثاً، وفي روايته طريقتان إحداهما كما ذكر المصنف. والثانية أن يقال عن النبي عن ربه تعالى أنه قال، والفرق بين الحديث والقرآن من وجوه: انتفاء الإعجاز، وجواز روايته بالمعنى، وعدم تعلق الثواب بقراءة ألفاظه، وجواز مسه وحمله مع الحدث وقراءته مع الجنابة وغير ذلك. 4378 - (وعنه قال: قال رسول الله: والذي نفسي بيده) أقسم لتأكيد الأمر وتحقيقه والقسم يندب لذلك (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا) أي ويأمن كل منكم صاحبه بوائقه كما جاء في الحديث (ولا تؤمنوا) قال المصنف: هكذا في جميع الأصول والروايات بحذف النون وهي لغة معروفة صحيحة اهـ. وفي التسهيل وحذفها لغير ناصب وجازم نادر. قال المرادي في «شرحه» وقال بعض النحويين: إنه ضرورة، قال العاقولي: وأما إثبات النون في بعض نسخ «المصابيح» فمن إصلاح الناظرين وحذف النون نظراً لحذفها فيما قبله فأتبعه ما بعده مشاكلة، وأعاده ليعلق عليه حكماً آخر، والمراد لا تؤمنوا إيماناً كاملاً ولا يؤمن بعضكم بعضاً (حتى تحابوا) بحذف إحدى التاءين تخفيفاً وتشديد الموحدة والأصل تتحاببوا لأن المحب يأمن من محبوبه (أو لا أدلكم) الهمزة للاستفهام والواو عاطفة على محذوف مقدر بعد الهمزة. أي أتتركوا التحاب ولا أدلكم (على شي إذا فعلتموه تحاببتم) فالاستفهام وارد على الهيئة المجموعية (أفشوا) بقطع الهمزة المفتوحة (السلام بينكم) فيه الحث على إفشاء السلام وبذله للمسلم «من عرفت ومن لم تعرف» والسلام أول أسباب التآلف ومفتاح استجلاب المودة، وفي إفشائه تمكن ألفة المسلمين بعضم لبعض وإظهار شعارهم المميز لهم من غيرهم من أهل الملل مع ما فيه من رياضة النفس والتواضع وإعظام حرمات المسلمين (رواه مسلم) في كتاب الإيمان من صحيحه، ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه قاله المنذري في الترغيب.

5379 - (وعنه عن النبي: أن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى فأرصد الله على مدرجته ملكاً وذكر) أي أبو هريرة (الحديث) المذكور في الباب قبله (إلى قوله: إن الله قد) للتحقيق (أحبك) أي أراد بك خيراً (كما أحببته فيه. رواه مسلم وقد سبق في الباب قبله) لكن لما تعلق عرض الترجمة بقوله منه: «إن الله قد أحبك» الخ أورده. 6380 - (وعن البراء) بتخفيف الراء والمد (ابن عازب) صحابي ابن صحابي، ولذا نبه عليه بقوله: (رضي الله عنهما عن النبي أنه قال: في) حق (الأنصار) هم أولاد الأوس والخزرج، وتقدم أنه اسم إسلامي، سموا به لنصرهم الإسلام ومبالغتهم فيها (لا يحبهم إلا مؤمن) لأن لهم في الإسلام الأيادي الجميلة من النصر والسعي في إظهاره وإيواء المسلمين وقيامهم في مهمات دين الإسلام حق القيام وحبهم النبي وحبه إياهم وبذلهم أنفسهم وأموالهم بين يديه وقتالهم ومعاداتهم سائر الناس إيثاراً للإسلام (ولا يبغضهم) مع ذلك (إلا منافق) ومحل ذلك أن أبغضهم من الحيثية المذكورة، أما إذا كان بغضه لأحد منهم لخصام أو لأمر اقتضاه معه بخصوصه فلا (من أحبهم) أي تعالى (أحبهالله، ومن أبغضهم أبغضه ا) كما يدين الفتى يدان (متفق عليه) . 7381 - (وعن معاذ) بضم الميم وبالعين والذال المعجمة: ابن جبل (رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله عزّ وجلّ: المتحابون) بتشديد الموحدة: أي

المتحابون (في جلالي) في تعليلية كما تقدم (لهم منابر من نور) يجلسون عليها، وفي حديث الطبراني عن أبي أيوب مرفوعاً: «المتحابون في الله على كراسيّ من ياقوت حول العرش» والمنابر جمع منبر بكسر فسكون ففتح، من النبر وهو العلو (يغبطهم النبيون والشهداء) الغبطة تمني مثل ما للغير منا لخير من غير زواله عن صاحبه، فدل هذا الحديث القدسي على أن لهؤلاء العباد منازل شريفة عظيمة في الآخرة، ولا يلزم من تمني الأنبياء أن يكون أولئك أفضل من الأنبياء، لأنه قد يكون لك مائة فرس من العتاق ثم ترى لأخيك فرساً فتشتهي أن تشرتيه منه أو تشتري مثله وهذا من هذا القبيل، ويجوز أنه لم يقصد النظر إلى معنى الغبطة أصلاً، وإنما أريد بيان فضلهم وشرفهم عند الله فقط (رواه الترمذي) في الزهد من جامعه (وقال: حديث حسن صحيح) . 8382 - (وعن أبي إدريس) اسمه عايذ الله بتحتية ومعجمة، ابن عبد الله (الخولاني) نسبة إلى خولان بن عمرو بن مالك بن الحارث بن مرة بن يشجب، قبيلة نزلت الشام، كذا في «لبّ اللباب» للأصبهاني، ولد أبو إدريس (رحمه ا) عام حنين وهو من كبار التابعين، روى عنه الزهري، توفي سنة ثمانين. قال سعيد بن عبد العزيز: كان عالم الشام بعد أبي الدرداء (قال دخلت مسجد دمشق) بكسر الدال المهملة وفتح الميم، وحكى في المطالع كسرها، أعظم بلاد الشام (فإذا فتى براق) بتشديد الراء (الثنايا) أي أبيض الثغر حسنه، وقيل معناه كثير التبسم (وإذا الناس معه) أتباع له لكونه صحابياً عالماً فقيهاً (فإذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه وصدروا عن رأيه، فسألت عنه فقيل هو معاذ بن جبل) هو الأنصاري الذي قال في حقه: «أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ» وقال السيوطي: قال الباجي قال أحمد بن خالد: وهو أبو حازم، وفي هذا القول نظر وإنما هو عبادة بن الصامت، فقد رواه شعبة عن يعلى عن عطاء عن الوليد بن عبد الرحمن عن أبي إدريس الخولاني «قال. لقيت عبادة بن الصامت» فذكر الحديث، وقال ابن عبد البر: زعم قوم أن هذا الحديث خطأ، وأن مالكاً وهم فيه، وأسقط من إسناده أبا مسلم الخراساني، وزعموا أن أبا إدريس رواه عن

أبي مسلم عن معاذ. وقال آخرون: وهم فيه أبو حازم، قال: وذا كله تخرّص. وقد روي عن أبي إدريس من وجوه شتى غير طريق أبي حازم أنه لقى معاذاً وسمع منه فلا شيء في ذلك على مالك ولا على أبي حازم اهـ. قلت: وحديث أبي مسلم عن معاذ رواه ابن حبان في صحيحه بنحو حديث أبي إدريس (فلما كان) أي حصل (من الغد هجرت) أي إلى المسجد (فوجدته قد سبقني بالتهجير) لمسارعته إلى طريق البر واهتمامه به (ووجدته يصلي) نافلة (فانتظرته حتى قضى صلاته، ثم جئته من قبل وجهه) فيه تنبيه على أن الأدب لمن ورد على مشغول با تعالى أن لا يشغله ويلهيه عما هو فيه، فقد ورد «من أشغل مشغولاً با أدركه المقت في الوقت» وفيه أن الأدب قصد الإنسان من قبل وجهه كما يستحب الدخول إلى البيت من باب السلام لأنه من جهة وجه البيت (فسلمت عليه ثم قلت: وا إني لأحبك) القسم للتأكيد وكأنه طلباً لإقباله عليه (فقال آ) بهمزة الاستفهام الممدودة المعوض بها عن حرف القسم فلذا وجب جر ما بعدها (قال) أبو إدريس (ا) ضبطه المصنف بالهمزة المقصورة، وهو مجرور لنيابة الهمزة مناب حرف القسم (فقال) أي تأكيداً للقسم (ا، فقلتالله، فأخذ بحبوة ردائي) يحتمل أن تكون الإضافة بيانية، ويحتمل أن تكون بمعنى اللام والحبوة من الاحتباء (فجبذني إليه) قال في «النهاية» : الجبذ لغة في الجذب، وقيل هو مقلوب منه، وفي «المصباح» : جبذه جبذاً من باب ضرب مثل جذبه، قيل مقلوب منه لغة تميمية، وأنكره ابن السراج وقال: ليس أحدهما ماخوذاً من الآخر لأن كل واحد يتصرف في نفسه (فقال أبشر) بقطع الهمزة وكسر الشين، ويجوز وصل الهمزة وفتح الشين وضمها، قال في «المصباح» بشر بكذا يبشر من باب فرح وزناً ومعنى وهو الاستبشار أيضاً. ويقال بشرته أبشره من باب قتل في لغة تهامة، وتكون البشرى في الخبر السار واستعمالها في الشرّ قليل للتهكم اهـ. وحذف المبشر به لدلالة الحديث عليه وهو قوله: (فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله تبارك وتعالى: وجبت محبتي) من الوجوب وهو الثبوت: أي ذلك كائن لا محالة (للمتحابين فيّ) أي من أجلي لا لعرض ولا لغرض (والمتجالسين فيّ

والمتزاورين فيّ) تفاعل من الزيارة (والمتباذلين في) تفاعل من البذل. قال الباجي: أي الذين يبذلون أنفسهم في مرضاتي من الإنفاق على عدوه وغير ذلك مما أمروا به، والمراد أنا فاعل كل هذه الأمور من الجانبين كما يدل عليه صيغة التفاعل إذا كان لوجه الله تعالى لا لعرض فانٍ، ولا لغرض فإنه تجب له محبة مولاه، وهذا أعظم الجزاء وأشرف الحياء فيدل على شرف هذا. وقد ورد «من أحبّ وأبغض وأعطى ومنع فقد استكمل الإيمان» كما تقدم (حديث صحيح رواه مالك في الموطأ بإسناده الصحيح) فإنه رواه فيه عن أبي حازم عن أبي إدريس الخولاني، قال الحافظ المنذري في «الترغيب» : وأخرجه ابن حبان في «صحيحه» وصححه وقوله (هجرت) أي (بكرت) ومنه حديث «لو يعلم الناس ما في التهجير لاستبقوا إليه» (وهو بتشديد الجيم) قال في «النهاية» : التهجير التبكير إلى كل شيء والمبادرة إليه، يقال هجر تهجيراً فهو مهجر، وهي لغة حجازية (قوله آ، فقلت أ، الأول بهمزة ممدودة، والثاني بلا مد) قال الشيخ نفيس الدين العلوي: ومن خطه نقلت سماعاً في «الموطأ» بالمد فيهما، ثم إن المصنف سكت عن بيان إعرابهما. قال النحاة: والعبارة للرضى في «شرح الكافية» : إذا حذف حرف القسم الأصلي أعني الباء فإن لم يبدل منه فالمختار النصب بفعل القسم، ويختص لفظ الله بجواز الجرّ مع حذف الجار بلا عوض. قلت: عبارة «الجامع الصغير» تومىء إلى وجوب الجرّ حينئذٍ ويختص لفظ الله بتعويض لفظها أو همزة الاستفهام من الجار، وكذا عوض من الجار فيها قطع همزة الله في الدرج، وكأنها حذفت للدرج ثم ردت عوضاً من الحروف، وجار الله جعل هذه الأحرف عوضاً من الواو، ولعل ذلك لاختصاصها بلفظالله، ثم قال: وإذا دخلت همزة الاستفهام على الله فإما أن تبدل همزة الله ألفاً صريحة وهو الأكثر وتسهل كما هو القياس في الرجل ونحوه ولا تحذف للبس ولا تبقى للاستثقال، قال: ودليل كون هذه الثلاثة إبدالاً معاقبتها لحرف القسم ولزوم الجر معها دون النصب مع أن النصب بلا عوض أكثر اهـ. ملخصاً. وفي «شرح الجامع الصغير» : المغاربة كما قال أبو حيان يعبرون عن هذه الهمزة بهمزة الاستفهام، والمراد الصورة لا معنى الاستفهام، قال: وقد قرىء {ولا نكتم شهادة ا} (المائدة: 106) بتنوين شهادة

وقطع الهمزة، فلذا سموها ألف القطع، وليس المراد إلا قطع همزة الوصل التي مع لام التعريف في الاسم المعظم لأن هناك ألف قطع جيء بها عوضاً من حرف القسم لكنهم يتسامحون فيعبرون عنها بألف القطع كذلك اهـ. 9383 - (وعن أبي كريمة) بوزن حليمة، وقيل أبو يحيى (المقداد) بكسر الميم وسكون القاف وبالدال المهملة (ابن معدي يكرب) بكسر الدال وفتحها وسكون الباء تخفيفاً، ويجوز في كرب لغات مع الصرف وإضافة الأول إليه مصروفاً وممنوعاً، وأصل معنى معدي كرب في لغة قحطان أو حمير: وجه الفلاح، وفي لغة غيرهم معنى معدي يكرب: يا من جاوز الحد، نبه على الأول السهيلي، وعلى الثاني الشيخ خالد الأزهري في «شرح التوضيح» ، ابن سناد بن عبد الله بن وهب بن ربيعة بن الحارث بن معاوية بن ثور بن عفير الكندي (رضي الله عنه) كذا نسبه ابن عبد البرّ، وقيل غير ذلك، وهو أحد الوفد الذين قدموا على النبيّ من كندة بالشام، توفي سنة سبع وثمانين وهو ابن إحدى وتسعين سنة، روى له عن النبيّ سبعة وأربعون حديثاً، كذا في «المستخرج» المليح لابن الجزري (عن النبيّ: إذا أحبّ الرجل أخاه) في الله - صلى الله عليه وسلم - تعالى (فليخبره) ندباً، وعند بعضهم فليعلمه (أنه يحبه) على تقدير الجار. وحكمته أنه سبب لمزيد الحبّ وتأكده (رواه أبو داود والترمذي وقال) الترمذي: (حديث حسن صحيح) ورواه أحمد بسند صحيح والبخاري في «الأدب المفرد» ولفظه كما قال السخاوي في «المقاصد» أنه أحبه، ورواه ابن حبان والحاكم وصححاه. 10384 - (وعن معاذ رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيده) تأنيساً وتلطفاً معه (وقال: يا معاذ وا) أتى به للتأكيد المطلوب لأجله القسم (إني لأحبك ثم أوصيك يا معاذ) وهذا الحديث أوفى شاهد على فضل معاذ وكمال استقامته واهتمامه بأمور ديانته حيث حصل له هذا المقام الأسنى من المصطفى، وذكره توطئة وبعثاً له على امتثال أمره بعده. قال بعضهم: لما صحت محبة معاذ النبيّ جازاه بأعلا منها كما هو عادة الكرام، ولا أكرم منه

ولذا أكده بإن واللام (لا تدعن) أي لا تتركن (في دبر) بضم المهملة والموحدة: أي عقب (كل صلاة) أي مفروضة (تقول) أي أن تقول، أو قولك فهو كما تقدم نظير قولهم: «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» ، وهو في محل المفعول لتدع (اللهم أعني) بقطع الهمزة (على ذكرك) الشامل للقرآن وسائر الأذكار (وشكرك) أي شكر نعمتك الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية التي لا يمكن إحصاؤها (وحسن عبادتك) أي بالقيام بشرائطها وأركانها وسننها من خضوع وخشوع وإخلاص واستغراق وتوجه تام (حديث صحيح، رواه أبو داود والسنائي بإسناد صحيح) بل قال الحاكم في موضعين من «مستدركه» : إنه على شرط مسلم، وتعقبه الحافظ في تخريج الأذكار النووية فقال: أما قوله إنه صحيح فمسلم، وأما قوله على شرطهما ففيه نظر فلم يخرجا لبعض رواته وأخرج الحديث أيضاً أحمد والطبراني في كتاب الدعاء وابن حبان في «صحيحه» . 11385 - (وعن أنس رضي الله عنه) قال (إن رجلاً كان عند النبي، فمرّ رجل) وهو عند النبي (فقال: يا رسول الله إني لأحب هذا) كان الداعي إلى التأكيد التردد الناشيء مما يدل عليه حاله (فقال له النبي: أعلمته) بتقدير همزة الاستفهام قبله (قال لا، قال أعلمه) أي ندباً، ويحتمل أن يكون أمر ذلك بخصوصه على سبيل الوجوب لتهاجر كان بينهما أو تقاطع (فلحقه فقال: إني أحبك في ا) أي تعالى (فقال) أي ذلك المعلم (أحبك الذي أحببتني له) عدل إليه عن الإتيان بالاسم الجامع إعلاماً بسبب حبه تعالى لذلك وإيماء إليه، قال العاقولي: والجملة دعائية أخرجها مخرج الماضي تحققاً له وحرصاً على وقوعه (رواه أبو داود بإسناده صحيح) .

47 ـــ باب علامات حب الله تعالى العبد

47 - باب علامات حب الله تعالى العبد بالنصب مفعول المصدر، ويجوز جر باللام القوية للعامل لضعفه (والحث) عطف على علامات والتحريض (على التخلق بها) أي بتلك الخصال للمحبوب (والسعي في تحصيلها) ليستدل به بوجودها على وجوده فإن شأن العلامة الإطراد. (قال الله تعالى) : {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني} ) أي تدعون محبته، نزلت لما قالت اليهود {نحن أبناء الله وأحباؤه} أي إن كنتم كذلك فاتبعوني، فعلامة حبه تعالى العبد توفيقه لاتباع المصطفى قولاً وفعلاً، وقوله ( {يحببكم ا} ) جواب الشرط المقدر: أي إن تتبعوني يحببكم الله ( {ويغفر لكم ذنوبكم} ) ولا يخفى ما في هذه الآية من الوعد للمتبعين بالمحبة من المولى وغفران الذنب، وهذه تقدم الكلام عليها في باب المحافظة على السنة وآدابها وفي باب النهي عن البدع وزاد هنا خاتمة الآية: أي قوله ( {وا غفور رحيم} ) وهو كالدليل لما تضمنه قوله: {ويغفر لكم ذنوبكم} . (وقال تعالى) : {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم} ) بالكفر ( {عن دينه} ) قال البيضاوي: وهذا من الكائنات التي أخبر الله عنها قبل وقوعها، وقد ارتد، من العرب في آخر عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنو مدلج وبنو حنيفة وبنو أسد، فقتل العنسي رئيسي بني مدلج الذي تنبأ ليلة قبض النبي، قتله فيروز، وأخبر به النبي فسرّ به المسلمون وأتى الخبر بذلك أواخر ربيع. ومسيلمة رئيس بني حنيفة وادعى النبوة، قتله وحشي قاتل حمزة، وبنو أسد قوم طليحة بن خالد تنبأ فبعث إليه النبي خالد بن الوليد ففرّ إلى الشام، ثم أسلم وحسن إسلامه. وقد ارتد في عهد الصديق سبع: فزارة قوم عيينة بن حصن، وغطفان قوم قرة بن سلمة، وبنو سليم قوم الفجاجة بن عبد ياليل، وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة، وبعض تميم قوم سجاج بنت المنذر المتنبئة زوجة

مسيلمة، وكندة قوم الأشعث بن قيس، وبنو بكر بن وائل قوم الحطم، وكفى الله أمرهم على يده وفي إمرة عمر: غسان قوم جبلة بن الأيهم تنصر وسار إلى الشام ( {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} ) يل هم أهل اليمن لما روي «أنه عليه الصلاة والسلام أشار إلى أبي موسى وقال: هم قوم هذا» وقيل سلمان لما روي «أنه سئل عنهم فضرب يده على عاتق سلمان وقال: وذووه» وقيل الذين جاهدوا يوم القادسية ألفان من النخع وخمسة آلاف من كندة وبجيلة وثلاثة آلاف من أفناء الناس، والراجع إلى من محذوف والتقدير: فسوف يأتي الله بقوم مكانهم ( {أذلة على المؤمنين} ) عاطفين عليهم متذللين، جميع ذليل لا ذلول فإن جمعه ذلل واستعماله مع «علي» إما لتضمين معنى العطف والحنو، أو التنبيه على أنهم مع علو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين حافظون لهم، أو لمقابلة ( {أعزة على الكافرين} ) أي شداد متغلبين عليهم، من عزّة إذا غلبه، وقرىء بالنصب على الحال ( {يجاهدون في سبيل ا} ) صفة أخرى لقوم أو حال من الضمير في أعزة ( {ولا يخافون لومة لائم} ) عطف على يجاهدون، بمعنى أنهم الجامعون بين المجاهدة في سبيل الله والتصلب في دينالله، أو حال بمعنى أنهم يجاهدون وحالهم خلاف المنافقين فإنهم يخرجون مع المسلمين في الجهاد خائفين ملامة أوليائهم من اليهود فلا يعلمون ما يلحقهم به لوم من جهتهم، واللومة المرة من اللوم، وفي تنكير لائم مبالغتان (ذلك) أي ما تقدم من الأوصاف ( {فضل الله يؤتيه} ) يمنحه ويوفق له ( {من يشاء} ) من خلقه ( {وا واسع} ) كثير الفضل ( {عليم} ) بمن هو أهله. 1386 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «إن الله تعالى قال) هكذا أورده هنا بصيغة الماضي وفي الأربعين، يقول بصيغة المضارع، وعلل بعض الشراح بقوله مضارعاً لأن المضارع يدل على الحال الخاص (من عادى لي ولياً) من الولي بسكون اللام وهو القرب والدنوّ فهو القريب من الله لتقربه إليه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، أو من المولاة ضد المعاداة فهو من تول الله بالطاعة والتقوى فتولاه بالحفظ والنصر وقدم الظرف للاختصاص: أي من اتخذ ولياً لي لا لغيري عدواً (فقد آذنته) بالمد أي أعلمته (بالحرب) أي إني محارب له عنه: أي مهلكه بأخذه على غرة، وهذا وعيد شديد

لمعاندته ومعاداته من أحبّ الله تعالى، ويلزم من ثبوت محاربته تعالى لأعداء أوليائه ثبوت موالاته لمن والاهم (وما تقرب إليّ عبدي) إضافته إضافة تشريف (بشيء) أي بأداء شيء (أحبّ إلى ما افترضته عليه) أي من أداء ما افترضته عليه عيناً كان أو كفاية، وإنما كان أحبّ إليه من النفل لأنه أكمل من حيث إن الأمر به جازم متضمن للثواب على فعله والعقاب على تركه بخلافه، فإن الأمر به غير جازم يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه، ولأنه كما قيل جزء من سبعين جزءاً من الفرض (وما يزال عبدي يتقرّب إليّ) بعد أداء فرائضه (بـ) ـــأداء (النوافل) من صلاة وصيام وحج وصدقة (حتى أحبه، فإذا أحببته) ورضيت عليه وأردت به الخير (كنت سمعه) يجوز أن يكون على تقدير مضاف فيه وفيما عطف عليه: أي حافظ سمعه وهو القوة المرتبة في العصب المفروشة على سطح باطن الصماخ يدرك بها الأصوات بتموج الهواء وقوله (الذي يسمع به) صفة توضيحية جيء بها للتأكيد، ويجوز أن تكون مخصصة احترازاً من اليد وللرجل الشلاّوين: أي حافظة عن أن يسمع به ما لا يحل سماعه من غيبة ونميمة وما في معناهما (وبصره الذي يبصر به) هو قوّة مرتبة من العصبتين المجوفتين اللتين تتلاقيان وتفترقان إلى العينين يدرك بها الألوان ونحوها، ويؤخذ من تقديم السمع عليه أنه أفضل منه ولأنه شرط النبوة، وقيل إنه من باب الترقي لأن متعلق البصر الأنوار ومتعلق السمع الريح وهو يرى من بعيد: أي حفظ عما يحرم النظر إليه من الصور المحرمة (ويده التي يبطش بها) فلا يبطش إلا فيما يحل (ورجله التي يمشى بها) فلا يمشى إلا فيما يحل. وحاصل ذلك حفظ جوارحه وأعضائه حتى يقلع عن الشهوات ويستغرق في الطاعات فلا يسمع ولا يبصر إلا ما ورد به الشرع وكذا اليد والرجل. ويجوز أن يكون مجازاً عن نصره وتأييده فكأنه تعالى نزل نفسه منزلة جوارحه التي يدرك بها ويستعين بها تشبيهاً، وزيادة «فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي» هذا والاتحادية والحلولية قبحهم الله يزعمون أن هذا في حقيقته، وأنه تعالى عما يقولون علواً كبيراً حالّ فيه ومتحد به (وإن سألني أعطيته) بتاء الضمير، وحذف المفعول الثاني لدلالة قوله «سألني» عليه: أي أعطيته سؤاله (ولئن استعاذني لأعيذنه» ) وأكد هذه الجملة بالقسم

ونون التوكيد اهتماماً بمضمونها لأنه درء مفسدة، وذلك جلب مصلحة، والأول أهم والعناية به أتم (رواه البخاري) منفرداً به عن باقي الكتب الستة، ورواه ابن حبان في «صحيحه» وأبو نعيم في «حليته» والبيهقي في «الزهد» . قال السخاوي بعد أن تكلم على رجال إسناده: ولذا قال الذهبي وقد أورد الحديث في «الميزان» في ترجمة خالد بن محمد: إنه غريب جداً انفرد به خالد، ولولا هبة «الجامع الصحيح» لعدوه من منكرات خالد وذلك لغرابة لفظه، ولأنه مما تفرد به شريك ولم يرو هذا المتن إلا بهذا الإسناد: قال السخاوي: وهذا الحصر متعقب، فقد قال ابن حبان عقب إيراده لهذا الحديث ما نصه «لا يعرف له إلا طريقان، وهما هشام الكناني عن أنس وعبد الواحد بن ميمون عن عروة عن عائشة، قال: وكلا الطريقين لا يصح، وإنما الصحيح ما ذكرنا: أي طريق خالد عن شريك بن عبد الله عن أبي نمر عن عطاء وهو ابن يسار عن أبي هريرة. قال السخاوي: وحصره في الطريقين مردود، فقد رواه الطبراني عن أبي أمامة من طريق علي بن يزيد. قال السخاوي: وهو ضعيف، بل قال أبو حاتم الرازي: إن الحديث منكر، وروى الطبراني أيضاً من طريق حذيفة بنحوه وسنده حسن، وأخرجه ابن ماجه من حديث عمر بن الخطاب بنحوه وسنده ضعيف، وأخرجه أبو يعلى بسند ضعيف عن ميمونة أم المؤمنين، وأخرجه الطبراني عن ابن عباس بنحوه اهـ. ملخصاً. وهو أصلي في السلوك والتقرب إلى الله تعالى والتعرف إليه والوصول إلى معرفته ومحبته لأن المفترض: إما باطن وهو الإيمان، أو ظاهر وهو الإسلام، أو مركب منهما وهو الإحسان المتضمن لسلوك السالكين كالإخلاص والزهد والتوكل والمراقبة (معنى آذنته) بالمد (أي أعلمته بأنى محارب له) في العبارة تسامح إذ هذا معنى آذنته بالحرب، لا معنى آذنته فقط، والأمر سهل. ( وقوله استعاذني روي بالباء) أي استعاذ مستعيذاً بحولي وقوّتي في الحفظ من كل مؤذ كما يؤذن به حذف المعمول (وروي بالنون) . فائدة: فقال: كنت أسرع إلى قضاء حوائجه من مسعه في الاستماع وبصره في النظر ويده في اللمس ورجله في المشي اهـ. 2387 - (وعنه عن النبي) قال تعالى: ( «إذا أحب الله العبد) بأن أراد له الخير والهداية والإنعام

عليه والرحمة (نادى جبريل) الظاهر أنه نداء بالكلام النفسي المنزه عن الصوت وغيره من سمات الحدوث، ومذهب الشيخ أبي الحسن أن لا يشترط الصوت في المسموع خلافاً للماتريدي. وجبريل اسم عبراني للملك المعظم ومعناه بالعربية كما تقدم عبد الرحمن وهو أمين الوحي، قيل إنه أفضل الملائكة (إن الله تعالى يحبّ فلاناً) يحتمل أن يكون بفتح الهمزة مفعول نادى، ويحتمل كسرها بإضمار قول، ويؤيد هذا ما يجيء في الرواية الآتية «فدعا جبريل فقال: إني أحبّ فلاناً» وعبر بالمضارع إيماء إلى دوام ذلك الفضل لذلك المحبوب، واستمراره وفي الحديث «إن الله كريم يستحيي أن ينزع السر من أهله» وفي الحديث عن عبد الله بن عمر مرفوعاً «إن الله كريم يستحيي أن ينزع السر من أهله» وفي الحديث عن عبد الله بن عمر مرفوعاً «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بموت أهله» (فأحببه) بفك الإدغام كما هي لغة الحجاز، ويجوز إن لم يصد عنه رواية الإدغام وهي لغة تميم (فيحبه جبريل) قال المصنف: محبته محتملة أن يراد استغفاره وثناؤه عليه ودعاؤه له وأن يراد بها ظاهرها المعروف من الخلق وهو ميل القلب إلى المحبوب وشوقه إلى لقائه، وسبب حبه إياه كونه مطيعاً لمولاه محبوباً له (فينادي) بالبناء للفاعل أي جبريل ويشهد له قوله في الرواية الثانية «ثم ينادي في السماء فيقول» ويجوز أن يكون مبنياً للمفعول وقوله: «إن الله يحبّ نائب» فاعله، وبقرينة ما قرينة للمفعول: أي يوضع (في أهل السماء) أي في الملائكة الساكنين بها (إن الله يحب فلاناً) نداؤه بذلك تنويه به وتشريك له في الملأ الأعلى وليحصل من المنزلة المنيفة على الحظ العظيم وهذا نحو قوله تعالى في الحديث القدسي «أنا مع عبدي إذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم» (فأحبوه) الفاء فيه للتفريع (فيحبه أهل السماء) الفاء عاطفة على جملة ينادي والوجهان السابقان في محبة جبريل يجريان هنا من غير فرق (ثم يوضع له القبول في الأرض» ) المراد بالقبول الحب في قلوب أهل الدين والخير له والرضا به واستطابة ذكره في حال غيبته، كما أجرى الله عادته بذلك في حق الصالحين من سلف هذه الأمة ومشاهير الأئمة (متفق عليه) . (وفي رواية لمسلم) أورد مسلم الروايتين المذكورتين أواخر كتاب البرّ والصلة. ووقع للحافظ المزي أنه ذكر أن مسلماً خرّج الحديث

في الأدب من «صحيحه» فاعترضه الحافظ في «النكت الظراف» بما لفظه «كتاب الأدب فيما عندنا من صحيح مسلم بعد كتاب اللباس وبعد كتاب الأدب كتاب الطب وبعده كتاب الرؤيا وبعده كتاب القضاء وهو كبير وبعده كتاب البرّ والصلة وحديث: إذا أحبّ الله عبداً، بجميع طرقه في أثناء كتاب البر والصلة» اهـ. (قال رسول الله: إن الله تعالى إذا أحبّ عبداً) يحتمل كون التنوين فيه للتعظيم وعظمته بإضافته إلى مولاه وتأهيله لخدمته والقيام بعبوديته (دعا جبريل فقال: إني أحبّ فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل ثم ينادي) أي جبريل (في) أهل (السماء) ويحتمل ألا يكون مضاف مقدر ويكون بياناً لمحله حال ندائه لكن يشهد للأول قوله «فيحبه أهل السماء» وقوله في قرينه «ثم ينادي في أهل السماء» (فيقول: إن الله يحبّ فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبداً) التنوين فيه للتحقير والمراد من البغض المسند إليه تعالى غايته من إرادة الخذلان والإعراض والإبعاد (دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلاناً فأبغضه، فيبغضه جبريل) الإبغاض بالنسبة إليه وإلى الملائكة محتمل للحقيقة: أي الكراهية القلبية والنفرة النفسية وللمعنى المجازي أي دعاؤهم عليه بالطرد وأنواع المقت (ثم ينادي في أهل السماء فيقول: إن الله أبغض فلاناً فأبغضوه) الفعل في جميع ما ذكر من الإبغاض من باب الإفعال من البعض. قال في المصباح بغض الشيء بالضم بغاضة فهو بغيض وأبغضته إبغاضاً فهو مبغض والاسم البغض، قالوا ولا يقال بغضته بغير ألف اهـ. (ثم توضع له البغضاء) بالمد هي شدة البغض (في الأرض) وحديث الباب رواه النسائي، وأيضاً كما ذكره الحافظ المزي ولم يرو فيه للبخاري مع أنه الأول عنده في أبواب الملائكة.

3388 - (وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلاً) قيل هو كلثوم بن الهدم بكسر الهاء وسكون الدال المهملة، وفيه نظر بأنه مات في أول قدوم النبي المدينة فيما ذكره الطبري وأصحاب المغازي قبل أن يبعث السرايا، وهذا قالت فيه عائشة إنه بعث (على سرية) بفتح أوله وتشديد التحتية، وهي القطعة من الجيش فعليه بمعنى فاعلة لأنها تسري في خفية وجمعها سرايا وسريات كعطية وعطايا وعطيات كذا في «المصباح» ، وفي «المواهب اللدنية» قال في «الفتح» : السرية التي تخرج بالليل، والنهارية التي تخرج بالنهار، قال: وقيل سميت سرية لأنه يخفى ذهابها، وهذا يقتضي أنها من السرّ ولا يصح ذلك لاختلاف المادة، وهي قطعة من الجيش تخرج ثم تعود إليه وهي من مائة إلى خمسمائة، يقال له منسر بالنون والمهملة، فإن زاد على الثمانمائة سمي جيشاً، فإن زاد على الأربعة آلاف سمي جحفلاً، والخميس الجيش العظيم وما افترق من السرية يسمى بعثاً اهـ. قال الحافظ في «الفتح» : ثم رأيت بعض من تكلم على العمدة فسر المبهم في الحديث بأنه كلثوم بن زهدم، وعزاه لابن منده، لكن رأيت بخط رشيد بن العطار نقلاً عن صفة التصوّف لابن طاهر عن ابن منده فسماه كرز بن هدم والله أعلم (فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم) لكونه إمامهم (فيختم بقل هو الله أحد) يدل على أنه يقرأ بغيرها، ففيه دليل جواز الجمع بين سورتين غير الفاتحة في ركعة واحدة (فلما رجعوا) أي عادوا من السرية (ذكروا ذلك) أي ما ذكر من ختمه بسورة الإخلاص (لرسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ فقال: سلوه) أصله اسألوه، فنقلت حركة الهمز إلى السين المهملة فحذفت همزة الوصل لذهاب المعنى الذي جيء بها لأجله (لأي شيء يصنع ذلك) أي ليرتب جزاءه على حسب نيته وقصده، ففيه إيماء إلى أن الأعمال بمقاصدها (فسألوه فقال لأنها صفة الرحمن) فقد اشتملت على ما يجب له سبحانه من التوحيد وما يجوز في حقه من توجيه الخلق حوائجهم إليه وقصدهم إياه في سائر أمورهم وما يستحيل في حقه من كونه مولداً من شيء أو يتولد منه شيء، تعالى عما لا يليق به مما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبير.d وقال الدماميني: يحتمل أن يراد بقوله إنها صفة الرحمن أن فيها ذكر صفته كما إذا ذكر وصف فعبر عن ذلك الذكر بأنه الوصل وإن لم يكن ذلك الذكر نفس الوصف، ويحتمل أن يراد به غير ذلك إلا أنه لا يختص ذلك بـ {قل

48 ـــ باب التحذير من إيذاء الصالحين

هو الله أحد} ولعلها خصت به لاختصاصها بصفاته تعالى دون غيرها (فأنا أحبّ) تقديم المبتدأ للتأكيد لتكرار الإسناد وللاهتمام (أن أقرأ بها) أي محبة للدالّ على صفته تعالى (فقال رسول الله) لمن أخبره عنه بمراده أو لغيره من بعض الحاضرين (أخبروه) على وجه البشارة (أن الله يحبه) قال الدماميني: يحتمل أن يريد لمحبته قراءة هذه السورة، ويحتمل أن يكون لما يشهد به كلامه في محبته لذكر الربّ واعتقاده اهـ. وقد دلّ تبشيره بذلك على الرضا بفعله وعبر عنه بصيغة المضارع إيذاناً بدوام هذا الشأن واستمراره، قال ناصر الدين بن المنير، وفي الحديث أن المقاصد بغير أحكام الفعل، لأن الرجل لو قال، إن الحامل له على إعادتها أمر غير ما ذكره لأجابه بما يناسبه، فلما ذكر أن الداعي لذلك محبتها وظهرت صحة قصده لذلك صوّبه وقال: فيه دليل على جواز تخصيص بعض القرآن بميل النفس والاستكثار منه، ولا يعدّ ذلك هجراناً للبعض (متفق عليه) أخرجه البخاري في التوحيد، ومسلم في الصلاة ورواه النسائي في كتاب الصلاة أيضاً وفي اليوم والليلة، قاله الحافظ المزي. 3388 - (وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلاً) قيل هو كلثوم بن الهدم بكسر الهاء وسكون الدال المهملة، وفيه نظر بأنه مات في أول قدوم النبي المدينة فيما ذكره الطبري وأصحاب المغازي قبل أن يبعث السرايا، وهذا قالت فيه عائشة إنه بعث (على سرية) بفتح أوله وتشديد التحتية، وهي القطعة من الجيش فعليه بمعنى فاعلة لأنها تسري في خفية وجمعها سرايا وسريات كعطية وعطايا وعطيات كذا في «المصباح» ، وفي «المواهب اللدنية» قال في «الفتح» : السرية التي تخرج بالليل، والنهارية التي تخرج بالنهار، قال: وقيل سميت سرية لأنه يخفى ذهابها، وهذا يقتضي أنها من السرّ ولا يصح ذلك لاختلاف المادة، وهي قطعة من الجيش تخرج ثم تعود إليه وهي من مائة إلى خمسمائة، يقال له منسر بالنون والمهملة، فإن زاد على الثمانمائة سمي جيشاً، فإن زاد على الأربعة آلاف سمي جحفلاً، والخميس الجيش العظيم وما افترق من السرية يسمى بعثاً اهـ. قال الحافظ في «الفتح» : ثم رأيت بعض من تكلم على العمدة فسر المبهم في الحديث بأنه كلثوم بن زهدم، وعزاه لابن منده، لكن رأيت بخط رشيد بن العطار نقلاً عن صفة التصوّف لابن طاهر عن ابن منده فسماه كرز بن هدم والله أعلم (فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم) لكونه إمامهم (فيختم بقل هو الله أحد) يدل على أنه يقرأ بغيرها، ففيه دليل جواز الجمع بين سورتين غير الفاتحة في ركعة واحدة (فلما رجعوا) أي عادوا من السرية (ذكروا ذلك) أي ما ذكر من ختمه بسورة الإخلاص (لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: سلوه) أصله اسألوه، فنقلت حركة الهمز إلى السين المهملة فحذفت همزة الوصل لذهاب المعنى الذي جيء بها لأجله (لأي شيء يصنع ذلك) أي ليرتب جزاءه على حسب نيته وقصده، ففيه إيماء إلى أن الأعمال بمقاصدها (فسألوه فقال لأنها صفة الرحمن) فقد اشتملت على ما يجب له سبحانه من التوحيد وما يجوز في حقه من توجيه الخلق حوائجهم إليه وقصدهم إياه في سائر أمورهم وما يستحيل في حقه من كونه مولداً من شيء أو يتولد منه شيء، تعالى عما لا يليق به مما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبير.d وقال الدماميني: يحتمل أن يراد بقوله إنها صفة الرحمن أن فيها ذكر صفته كما إذا ذكر وصف فعبر عن ذلك الذكر بأنه الوصل وإن لم يكن ذلك الذكر نفس الوصف، ويحتمل أن يراد به غير ذلك إلا أنه لا يختص ذلك بـ {قل هو الله أحد} ولعلها خصت به لاختصاصها بصفاته تعالى دون غيرها (فأنا أحبّ) تقديم المبتدأ للتأكيد لتكرار الإسناد وللاهتمام (أن أقرأ بها) أي محبة للدالّ على صفته تعالى (فقال رسول الله) لمن أخبره عنه بمراده أو لغيره من بعض الحاضرين (أخبروه) على وجه البشارة (أن الله يحبه) قال الدماميني: يحتمل أن يريد لمحبته قراءة هذه السورة، ويحتمل أن يكون لما يشهد به كلامه في محبته لذكر الربّ واعتقاده اهـ. وقد دلّ تبشيره بذلك على الرضا بفعله وعبر عنه بصيغة المضارع إيذاناً بدوام هذا الشأن واستمراره، قال ناصر الدين بن المنير، وفي الحديث أن المقاصد بغير أحكام الفعل، لأن الرجل لو قال، إن الحامل له على إعادتها أمر غير ما ذكره لأجابه بما يناسبه، فلما ذكر أن الداعي لذلك محبتها وظهرت صحة قصده لذلك صوّبه وقال: فيه دليل على جواز تخصيص بعض القرآن بميل النفس والاستكثار منه، ولا يعدّ ذلك هجراناً للبعض (متفق عليه) أخرجه البخاري في التوحيد، ومسلم في الصلاة ورواه النسائي في كتاب الصلاة أيضاً وفي اليوم والليلة، قاله الحافظ المزي. 48 - باب التحذير من إيذاء الصالحين يحتمل أن يراد به المعنى الأعم: أي المسلمين كما حمل عليه الولد الصالح في قوله: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث» الحديث، ويشهد لهذا الآية الأولى ويحتمل أن يراد به المعنى الخاص، وهو القائم بما عليه من حق الله سبحانه أو لأحد من عباده (والضعفة) جمع ضعيف (والمساكين) المراد منه ما يشمل الفقراء والمراد التحذير من إيذاء من لا ناصر له إلا الحق سبحانه: من صالح ومسكين وضعيف لا يؤبه به ولا يقام للتعرض، وظاهره أن الكلام في الإيذاء بغير حق كما في الآية فلا يرد نحو حد لأنه

مأمور به. (قال الله تعالى) : {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا} ) بغير جناية استحقوا بها ( {فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً} ) ظاهراً قيل إنها نزلت في المنافقين يؤذون علياً رضي الله عنه وقيل في أهل الإفك، وقيل في زناة كانوا يتبعون النساء وهن كارهات. (وقال تعالى) : {فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر} ) تقدم الكلام عليها في باب ملاطفة اليتيم والمسكين (وأما الأحاديث) المرفوعة في ذلك فكثيرة. 1 - (منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الباب الذي قبل هذا) وقوله: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) بيان الحديث، فيكون المراد من حديث بعضه أو بدل بعض من كل. 2 - (ومنها حديث سعد بن أبي وقاص) بتشديد القاف وبالصاد المهملة آخره. واسمه مالك بن أهيب الزهري أحد العشرة (رضي الله عنه السابق في باب ملاطفة اليتيم) ومنها (قوله: يا أبا بكر لئن كنت أغضبتهم) أي بلالاً وسلمان وصهيباً (لقد أغضبت ربك) ولا يخفى ما في هذه الجملة المؤكدة بالقسم من مزيد الاهتمام بشأن أولئك، ومثلهم سائر المؤمنين لحرمة الإيمان وشرفه. 3389 - (وعن جندب) بضم الجيم وفتح الدال المهملة وسكون النون بينهما آخره موحدة (ابن عبد ا) بن سفيان البجلي العلقي بفتح المهملة وباللام وبالقاف نسبة إلى غفلة بن عبقر بن أنمار سكن جندب (رضي الله عنه) الكوفة ثم تحوّل عنها إلى البصرة، وقد تقدمت ترجمته في باب تحريم الظلم، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة وأربعون حديثاً، اتفقا على سبعة منها، وانفرد مسلم بخمسة منها، وروى عنه الحسن وأبو عمران الجوني.

مات بعد الستين رضي الله عنه. (قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صلى صلاة الصبح) أي جماعة كما في رواية أخرى لمسلم، قال العلقمي: فهي مقيدة لبقية الروايات المطلقة (فهو في ذمة ا) بكسر الذال المعجمة وتشديد الميم قيل ضمانه، وقيل أمانه، وكأنها إنما خصت بذلك لأنها أول النهار الذي هو وقت انتشار الناس في حوائجهم المحتاجين فيه وفي دوامه إلى أمن بعضهم من بعض لا لأفضليتها، لأن الأصح أن العصر هي الوسطى فهي أفضل منها (فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء) أي لا تتعرضوا له بغير حق، فذلك سبب طلبه سبحانه ما وقع منكم من انقض عهده وخيانة أمانه فهو من باب وضع المسبب موضع السبب (فإنه) تعليل للنهي (من يطلبه) أي الله تعالى (من ذمته) أي من أجل خيانته لأمانته ويصح أن يكون من للتبعيض وظاهر جريان هذين الوجهين في من المذكورة أولاً (بشيء يدركه) إذ لا مهرب ولا مفرّ منه تعالى (ثم) بعد إدراكه (يكبه) بضم الكاف يقال كبه فأكب، وهو من غرائب اللغة، إذ المعروف أن الهمزة يتعدى بها اللازم وهنا صار بها المتعدي قاصراً: أي يلقيه (على وجهه في نار جهنم) فيه غاية التحذير عن التعرض لمن صلى الصبح المستلزم ذلك لصلاة بقية الخمس، وأن في التعرض له بسوء غاية الإهانة والعذاب (رواه مسلم) ورواه الترمذي إلا أنه قال: فلا يتبعكم الله بشيء من ذمته وليس فيه قوله فإنه الخ، كذا يستفاد من «الجامع الصغير» ، والعجب أنه لم يورد فيه حديث مسلم، واقتصر على حديث الترمذي المذكور، وفي «الجامع الكبير» «من صلى الغداة فهو في ذمةالله، فإياكم أن يطلبكم الله بشيء من ذمته» رواه أبو نعيم في «الحلية» من حديث أنس مرفوعاً وفيه «من صلى صلاة الصبح فله ذمة الله تعالى فلا تخفروا الله في ذمته، فإنه من أخفر ذمته طلبه الله تعالى حتى يكبه على وجهه» رواه أحمد عن ابن عمر مرفوعاً اهـ. هذا والحديث قد تقدم مع شرحه في باب تعظيم حرمات المسلمين.

49 ـــ باب إجراء أحكام الناس على ظواهرهم وسرائرهم

49 - باب إجراء أحكام الناس على ظواهرهم وسرائرهم بالرفع مبتدأ خبره مقدر تقديره موكولة أو مفوضة (إلى الله تعالى) . (قال الله تعالى) : {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلُّوا سبيلهم} ) فدعوهم لا تعرضوا لهم بشيء من القتل والحصر، وإطلاق الآية شامل لمن كان كذلك حقيقة. أو ظاهراً لا باطناً قال السيوطي في «الإكليل» : لم يكتف في تخلية السبيل بالتوبة من الشرك حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، واستدل به الشافعي على قتل تارك الصلاة وقتال مانع الزكاة، واستدل به من قال بتكفيرهما. 1390 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أمرت) بالبناء لغير الفاعل حذف فاعله تفخيماً له وتعظيماً والمفهوم منه أن الله تعالى هو الذي أمركما يفهم من قول الصحابي: «أمرنا» أن الآمر له هو النبي، وإنما عدل إليه تعويلاً على شهادة الفعل أنه تعالى هو الآمر لا يحتاج إلى تصريح باسمه ولا يذهب الوهم إلى غيره، إذ لا أحد يأمره سوى الله تعالى أي أمرني الله (أن أقاتل الناس) أي أن أقاتلهم لأن الأمر يتعدى إلى ثاني مفعوليه بحرف النداء، وحذفه كثير شائع، قالوا: والمراد بالناس هنا عبدة الأوثان أهل الكتاب لسقوط القتال عنهم بقبول الجزية. قال الدلجي في «شرح الأربعين» : ويحتمل أن يكون قبولها منهم كان بعد هذا الأمر المتناول لقتالهم أيضاً (حتى يشهدوا أن) أي أنه (لا إله) أي لا مستغنى بذاته عما سواه ومفتقر إليه كل ما عداه موجود (إلاالله، و) يشهدوا (أن محمداً رسول الله) وفي رواية «حتى يقولوا لا إله إلا ا» اكتفاء بها عن أختها مع إرادتها كما في {سرابيل تقيكم الحرّ} (النحل: 81) أي والبرد، أي حتى يؤمنوا بأنه تعالى واحد لا شريك له وأن محمداً رسول الله (ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة) بشروطهما وأركانهما على وفق الأمر

الإلهي، وعطفهما على ما قبلهما تنزيلاً لهما منزلته في كون فعلهما غاية للقتال وللأمر به إيذاناً بأنهما أعظم العبادات البدنية والمالية، ومن ثم قدمهما على مقرهما لدخولهما تحت نطاق حتى الإسلام بشهادة إحدى روايتي أبي هريرة، فإنه لم يذكرهما فيها لأنهما من حقه ولم يخصهما في روايته الأخرى، بل قال: ويؤمنوا بما جئت به، ولم يذكر الصوم والحج إما لكونهما لم يفرضا حينئذٍ، وإما لكونهما لا قتال على تركهما، إذ تارك الصوم يحبس ويمنع المفطر والحج على التراخي، وحتى هنا جارة لأن ما قبلها غير ما بعدها، وهو غاية للقتال ومتضمن لمعنى الشرط فالكفّ عن قتالهم مشروط بذلك منتف بانتفائه، كأنه قيل: إن شهدوا وصلوا وآتوا الزكاة كففت عنهم بشهادة الآية السابقة (فإذا فعلوا ذلك) غلب فيه الفعل على القول إذ الشهادة قول إلا أن يقال: هي عمل اللسان فهو فعل: أي فإن أتوا بذلك (عصموا) أي منعوا وحقنوا (مني دماءهم) جمع دم وأصله دمو (وأموالهم إلا بحق الإسلام) استثناء مفرغ من عام والعصمة متضمنة لنفيه ليصح تفريغ الاستثناء إذ هو شرطه: أي لا تهدر دماؤهم ولا تستباح أموالهم بسبب من الأسباب إلا بحقه كفعل الواجبات وترك المنهيات فإنها واجبة بحقه، وقد التزمها المسلمون بإسلامهم، فإن فعلوا واجتنبوا بنية صالحة فمؤمنون، أو تقية وخوفاً حقنوا ذلك وعصموه (وحسابهم على ا) أي إليه (تعالى) ما يخفون وما يسترون من عقائدهم لا ما يظهرون بل يعاملون بما يقتضيه. وحاصله تفويض أمر بواطنهم إليه سبحانه لأنه الذي يتولى خبايا أسرارهم وخفايا ضمائرهم من إيمان وكفر ونفاق، وأما الرسول فإنما أمر أن يحكم بظواهر أفعالهم وأقوالهم، ولفظ «علي» وإن كانت مشعرة بالإيجاب فهو على سبيل التشبيه البليغ: أي هو كالواجب عليه تعالى بمقتضى إخباره بوقوعه حذراً من الخلف في أخباره تعالى شرعاً بمقتضى وعده فلا يخلف الميعاد خلافاً لقول المعتزلة بوجوبه عليه عقلاً (متفق عليه) ورواه الأربعة عن أبي هريرة وهو متواتر، كذا في «الجامع الصغير» للسيوطي وفي «قطف الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة» للسيوطي. أخرج الشيخان عن ابن عمر وأبي هريرة ومسلم عن جابر ابن عبد الله وابن أبي شيبة في «المصنف» عن أبي بكر الصديق وعمر وابن أويس وجرير البجلي والطبراني عن أنس

وسمرة بن جندب وسهل بن سعد وابن عباس وأبي بكر وأبي مالك الأشجعي والبزار عن عياض الأنصاري والنعمان بن بشير اهـ. 2391 - (وعن أبي عبد الله طارق) بالمهملة والراء والقاف (ابن أشيم) بالشين المعجمة والتحتية بوزن أحمد، ابن مسعد والأشجعي الكوفي والد سعد بن طارق وأبي مالك (رضي الله عنه) روى عن النبي فيما قاله البرقي أربعة أحاديث، روى عنه مسلم حديثاً واحداً. قال العامري في الرياض المستطابة: يقال لم يرو عن النبيّ غيره، وروى عنه الأربعة خلا أبي داود، لكن قال المصنف في «التهذيب» : روى عنه مسلم في «صحيحه» حديثين، ثم رأيت الحافظ المزي ذكر في «أطرافه» كما قال المصنف، فخرج من أحاديث مسلم عنه حديث الباب وقال: أخرجه مسلم في الإيمان وحديث «كان النبي يعلم من أسلم يقول: قل اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني» وقال: أخرجه مسلم وابن ماجه في الدعوات (قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من قال لا إله إلا ا) أي مع قرينتها، وهي محمد رسول الله ففيه اكتفاء تقدمت الإشارة إليه في شرح الحديث قبله (وكفر بما يعبد من دون ا) أي أيّ معبود كان (حرم ماله ودمه) بضم راء الفعل ورفع الاسمين بعده، وقوله (وحسابه على ا» ) جملة مستأنفة مسوقة لبيان تعلق أحكام الشريعة بالظاهر دون ما يخفيه ويسره ذو العقيدة الفاسدة أو يخفيه ذو الأعمال القبيحة فيفوض أمر ذلك إلى المولى سبحانه (رواه مسلم) منفرداً به عن باقي الكتب الستة. 3392 - (وعن أبي معبد) بفتح الميم والموحدة وسكون العين المهملة بينهما آخره دال مهملة وقيل كنيته أبو الأسود، وقيل أبو عمرو حكاها المصنف في «تهذيبه» (المقداد بن الأسود رضي الله عنه) هو المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة بن ثمامة بن مطرود بن عمرو بن سعد ابن دهير بفتح الدال المهملة وكسر الهاء ابن لؤيّ بن ثعلبة بن مالك بن الشريد بفتح الشين المعجمة ابن هون، وقيل ابن أبي هون بن فاس، ويقال ابن قاس ويقال قائس بن درنم بن القين بن أهود بن بهز بن عمرو بن الحاف بن

قضاعة البهراني الكندي الصحابي، فهو المقداد بن عمرو حقيقة، وإنما قال المصنف كغيره المقداد بن الأسود لأنه كان في حجر الأسود بن عبد يغوث الزهري فتبناه إليه، ويقال المقداد الكندي لأنه أصاب دماء في بهز فهرب منهم إلى كندة فحالفهم، ثم أصاب فيهم دماً ثم هرب إلى مكة فحالف الأسود بن عبد يغوث فهو بهراني، ويقال كندي ويقال زهري قديم في الإسلام والصحبة من السابقين إلى الإسلام، قال ابن مسعود: أول من أظهر الإسلام بمكة سبعة منهم المقداد، وهاجر إلى الحبشة ثم عاد لمكة ثم هاجر إلى المدينة، وشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سائر المشاهد، ولم يثبت أنه شهد بدراً فارس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غيره، وكذا الزبير في قول روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنان وأربعون حديثاً، اتفقا على واحد منها، وانفرد مسلم بثلاثة منها، روى عنه من الصحابة عليّ وابن مسعود وابن عباس وآخرون وجمع كثير من التابعين. توفي بالجرف على عشرة أميال من المدينة، وحمل على رقاب الرجال إلى المدينة، وقيل توفي بها في خلافة عثمان سنة ثلاث وأربعين وهو ابن سبعين سنة وصلى عليه عثمان وأوصى إلى الزبير وشهد فتح مصر، ومناقبه، كثيرة: منها قوله: «أمرني الله أن أحبّ أربعة وأخبرني أنه يحبهم، قيل يا رسول الله سمهم لنا، قال عليّ منهم، يقول ذلك ثلاثاً، وأبو ذرّ والمقداد وسلمان» قال الترمذي: حديث حسن (قال: قلت لرسول الله: أرأيت) بفتح التاء أي أخبرني (إن لقيت) بتاء المتكلم (رجلاً من الكفار فاقتتلنا فضرب إحدى يدي) بتشديد الياء ويدي مثنى الياء الأولى علامة الجر والثانية مضاف إليه (بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة) لاذ بالذال المعجمة قال المصنف أي اعتصم وقال القرطبي أي استتر يقال لاذ يلوذ لواذاً إذا استتر. والملاذ: ما يستتر به وفي «المصباح» لاذ يلوذ ومصدره اللواذ بكسر اللام وقيل بتثليثها: أي التجأ، وبين ما تجوز عنه بقوله (فقال أسلمت) أي دخلت في الإسلام وتدينت به. وفيه دليل على أن كل من صدر عنه ما يدل على الدخول في دين الإسلام من قول أو فعل حكم له لذلك بالإسلام، وأنه لي مقصوراً على النطق بكلمتي الشهادة، وقد حكم بإسلام بني خزيمة الذين قتلهم خالد بن الوليد بما يقولون صبأنا صبأنا ولم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فلما بلغ ذلك النبي قال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ثلاث مرات رافعاً يديه إلى السماء ثم وداهم» ويحتمل أن يكون قوله هنا «فقال أسلمت» على أنه رواية بالمعنى، وأنه عبر به بعض الرواة عن قوله فقال لا إله إلا الله كما جاء مفسراً كذلك في رواية أخرى اهـ. ملخصاً، قاله القرطبي (أأقتله يا رسول الله بعد أن قالها) أي وأحمل ذلك منه على

الخشية لا على الحقيقة (فقال: لا تقتله) لجريان الأحكام الشرعية على مقتضى الظاهر (فقلت: يا رسول الله قطع إحدى يدي ثم قال ذلك) متعوذاً به من القتل (بعد ما قطعها فقال: لا تقتله) ثم قال مبيناً حكمه إن قتل القائل الكلمة المذكورة (فإن قتلته) أي بعد نطقه بذلك (فإنه) بعد الإتيان بكلمة الشهادة (بمنزلتك) من عصمة الدم والحكم بإسلامه (قبل أن تقتله وإنك بمنزلته) في إهدار الدم (قبل أن يقول كلمته التي قال) بحذف العائد: أي قالها: أي فتصير غير معصوم الدم ولا يحرم القتل بعد قتلك له. قال ابن القصار: يعني لولا عذرك بالتأويل المسقط للقصاص عنك وما فسرت به الحديث تبعاً للمصنف كما يأتي هو ما قاله الإمام الشافعي وابن القصار المالكي وغيرهما. وقال المصنف: إنه أحسن ما قيل فيه وأظهره، وقيل إنه بمنزلته في إخفاء الإيمان: أي إنه ممن كان يخفي إيمانه بين الكفار وأخرج مكرهاً كما كنت أنت بمكة إذ كنت تخفي إيمانك قال القرطبي: ويعضد هذا التأويل بما زاده البخاري في هذا الحديث من أنه عليه الصلاة والسلام قال للمقداد، إذا كان مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار فأظهر إيمانه تقتله؟ كذلك كنت تخفي إيمانك بمكة اهـ. وقال القاضي: وقيل معناه: إنك مثله في مخالفة الحق وارتكاب الإثم، وإن اختلفت أنواع المخالفة والإثم فيسمى إثمه كفراً وإثمك معصية وفسقاً. قال القرطبي: قوله «وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال» ظاهر في الكفر، وليس ذلك بصحيح لأنه إنما قتله متأولاً بقاءه على كفره ولا يكون كبيرة، وإذا لم يكن كبيرة لم يصح لأحد، وإن كان ممن يكفر بالكبائر أن يقول هذا كفر بوجه، فدل ذلك على أنه متأول (متفق عليه) أخرجه البخاري في المغازي، ومسلم في الإيمان، ورواه أبو داود في الجهاد والنسائي في السير (ومعنى إنه بمنزلتك: أي معصوم الدم محكوم بإسلامه، ومعنى إنك بمنزلته: أي مباح الدم بالقصاص لورثته، لا أنه بمنزلته في الكفر، والله أعلم) أي بما تقدم عن القرطبي من تأويله وعدم قصد المعصية.

4393 - (وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما) سبقت ترجمته أوائل الكتاب (قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الحرقة) بضم المهملة وتخفيف الراء وبالقاف: موضع معروف (من) بلد (جهينة) كذا قال ابن رسلان، ولا ينافي ما يأتي للمصنف أنه اسم للقبيلة فلعلها سميت باسم مكانها بضم الجيم وفتح الهاء وسكون التحتية: بعدها نون: قبيلة من قضاعة نزلوا الكوفة والبصرة كذا في «لب اللباب» للأصبهاني (فصبحنا القوم) أي أتيناهم صباحاً، قال في «الصحاح» : ويقال صبحته: إذا أتيته صباحاً ولا يراد بالتشديد هنا التكثير اهـ. (على مياههم) بكسر الميم وتخفيف التحتية جمع ماء (ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم) الواو عاطفة على محذوف يدل عليه رواية أبي داود عن أسامة قال «فنذروا بنا فهربوا فأدركنا رجلاً منهم» (فلما غشيناه) بكسر الشين المعجمة أي قربنا منه (قال: لا إله إلا الله فكف) بتشديد الفاء أي أمسك (عنه الأنصاري) لإتيانه بكلمة التوحيد (وطعنته برمحي حتى قتلته) عند أبي داود «ضوربناه حتى قتلناه» قال شارحه ابن رسلان: رواه مسلم «فطعنته» فيجمع بينهما أن طعنه ثم طعنه غيره حتى قتلوه. وفيه دليل على أنه لا يقتصر في القتال على ضربة واحدة ثم ينتقل إلى غيره بل يكرر الضرب هو وغيره على العدو حتى يقتلوه (فلما قدمنا) بكسر الدال، أي (المدينة بلغ ذلك النبي) في الرواية الآتية لمسلم «فجاء البشير إلى النبي فأخبره خبر الرجل فدعاه» يعني أسامة صرح في رواية أبي داود بأنه الذي ذكر ذلك للنبي، قال المصنف: يحتمل الجمع بأن أسامة وقع في نفسه من ذلك شيء بعد قتله ونوى أن يسأل عنه، فجاء البشير فأخبر به قبل مقدم أسامة، وبلغ النبي أيضاً بعد قدومهم فسأل أسامة فذكره، وليس في قوله فذكرته ما يدل على أنه قاله ابتداء قبل تقدم علم النبي اهـ.c (فقال لي) منكراً ما فعلته وموبخاً عليه (يا أسامة أقتلته بعد ما قال) أي بعد قوله (لا إله إلا ا) أي وهي العاصمة لدم قائلها (قلت: يا رسول الله إنما كان متعوذاً) منصوب على الحالية، أي وإنما عاد وأراد حقن دمه بالتلفظ بها لا الإسلام حقيقة، ولعله أسامة قام عنده ما علم به ذلك حتى أقدم على قتله، فكان متأولاً باستصحاب كفره وعدم النفع بما أتاه، لأنه لم يكن عن حقيقة ولم يتمكن من السؤال عن حكم ذلك فوقع في ذلك، وهو

غير آثم باعتبار أن ذلك هو الحكم بالنسبة إليه، ولكن لما وردت الشريعة بإجراء الأحكام على الظواهر لم يكن ذلك التأويل مؤثراً في جواز قتله في نفس الأمر له فقرّر النبيّ المنع من ذلك بأبلغ وجه وآكده ليزيل ما في نفسه من تلك الشبهة وليبين وجوب الانكفاف عمن كان كذلك فكان تأويله مانعاً من القود لأنه قتله بظن كفره كما يدل عليه قوله «إنما قالها خوفاً من السيف» بخلاف الكفارة، وسكوته من باب تأخير البيان إلى وقت الحاجة وفي وجوب الدية قولان للعلماء (فما زال يكرّرها) أي هذه الجملة (على) منكراً وموبخاً (حتى تمنيت أنى لم أكن أسلمت قبل ذلك) معناه لم يكن تقدم إسلامي بل ابتدأته الآن ليمحو عني ما تقدم، وقال: هذا الكلام من عظم ما وقع فيه قاله المصنف. قال ابن رسلان: وكأنه استصغر ما كان منه قبل من الإسلام والعلم الصالح في جنب ما ارتكبه من هذه الجناية لما حصل في نفسه من شدة إنكار النبي وتعظيمه لذلك، وفي حاشية الكشاف تمنى إسلاماً خالياً عن الإثم لا عدم الإسلام فلا إشكال اهـ. (متفق عليه) رواه البخاري في المغازي وفي الديات ومسلم في الإيمان، ورواه، أبو داود في الجهاد والبزار كذا من «الأطراف» للمزي ملخصاً (وفي رواية) هي عند مسلم (فقال رسول الله: أقال لا إله إلا الله وقتلته؟) مدخول همزة الإنكار قوله وقتلته: أي أقتلته مع قوله ذلك (قلت: يا رسول الله إنما قالها خوفاً من السلاح) أي لا إيماناً حقيقياً (قال أفلا شققت) أي اعتقدت ذلك وجزمت به فلا شققت (عن قلبه) لتعلم أنه كذلك أولاً تعي أن الإيمان الحقيقي خفي، محله القلب لا يطلع عليه إلا الربّ. والأحكام إنما تناط بالظواهر، فإذا كنت غير مكلف بها فهلا شققت عن قلبه واطلعت على ما فيه من صدق أو نفاق (حتى تعلم أقالها) أي قلبه وتكلم بها في نفسه، وفاعل قال ضمير يعود على القلب (أم لا) وفيه دليل لأهل الحق على ثبوت الكلام النفسي خلافاً للمعتزلة، وفيه دليل على جريان الأحكام على الأسباب الظاهرة دون الباطنة الخفية (فما زال يكررها حتى تمنيت أني ما أسلمت يومئذٍ) وهذه الجملة رواها أبو داود أيضاً (الحرقة بضم الحاء المهملة وفتح الراء) الخفيفة وبالقاف كذلك (بطن من جهينة القبيلة المعروفة) قال ابن عبد البر في كتاب «الإنباء» في أصول الأنساب في بطون قضاعة ما لفظه:

وجهينة بن زيد بن أسود بن أسلم بن عمر ابن الحاف بن قضاعة: رهط عقبة بن عامر الجهني، والحرقة في جهينة هم بنو حميس بن عامر بن مودعة بن جهينة اهـ. فائدة: للنسب مراتب: القبيلة فالشعب فالفخذ فالفصيلة فالبطن فالعشيرة (وقوله متعوذاً) بصيغة الفاعل (أي معتصماً بها من القتل لا معتقداً لها) فتوهم أسامة أن الرفع للقتل المانع منه الإيمان الحقيقي ولم يتحققه فيه والحال أن المانع منه الإسلام ولو ظاهراً. 5394 - (وعن جندب بن عبد ا) البجلي (رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث بعثاً) بفتح الموحدة وسكون المهملة وبالمثلثة، أي جيشاً تسمية بالمصدر والجمع بعوث وبعاث كذا في «المصباح» : وفي «المواهب» البعث طائفة من الجيش تبعث لأمر (من المسلمين) في محل الصفة (إلى قوم من المشركين) هم الحرقة كما في الحديث السابق، ويحتمل أن يكونوا أهل الميفعة، وهي بكسر الميم وسكون التحتية وفتح الفاء بعدها عين مهملة. قال في «القاموس» بلدان بساحل اليمن، وكان الأمير على السرية إليهم عبد الله ابن غالب الليثي ذكر القسطلاني في «المواهب» لما ذكرها ما لفظه «قالوا: وفي هذه السرية قتل أسامة بن زيد نهيل بن مرداس بعد أن قال لا إله إلاالله، فقال: ألا شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب» وفي «الإكليل» أنه فعل ذلك في سرية كان أميراً عليها سنة ثمان وهي الحرقة اهـ. واستفيد منه تسمية المقتول في تاريخ عام خروجه للحرقة (وأنهم) أي البعض (التقوا) لما تقدم من شراد الكفار لما أنذروا بالمسلمين (وكان رجل من المشركين إذا شاء) أي أراد (أن يقصد) بكسر الصاد المهملة (إلى رجل من المسلمين قصد له) عداه أولاً «بإلى» وثانياً بـ «اللام» وذلك من وجوه استعمالاته، وثالثها تعديه بنفسه كما فيما بعد. قال في «المصباح» : قصدت الشيء وله وإليه قصداً من باب صرف: طلبته بعينه اهـ: أي إنه لمعرفه بالحرب كان إذا طلب إنساناً بعينه قصده ولا نهاية لجرأته (فقتله وأن رجلاً من المسلمين قصد غفلته)

أي طلبها (وكنا نتحدث أنه أسامة بن زيد) بن حارثة الحب ابن الحب (فلما رفع عليه السيف قال) أي قبل وصوله إليه (لا إله إلا ا) أي مع قرينتها، وهي محمد رسول الله لأنه لا يتم الإيمان إلا بهما، فاقتصر على كلمة التوحيد اكتفاء بدلالتها عليها (فقتله فجاء البشير) أي المبشر (إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله) أي عما وقع في الجيش من الأمور ليبين حكم ما فعل منها مما لم يتقدم فيه منه بيان (وأخبره) متدرجاً من أمر إلى آخر (حتى أخبره خبر الرجل) أي أسامة (كيف صنع) تقدم الجمع بينه وبين ما في الرواية الثانية ومن كونه أخبر بذلك النبي (فدعاه فسأله فقال: لم قتلته) أي ما الباعث لك (فقال: يا رسول الله أوجع) أي أوقع الوجع والنكاية (في المسلمين) وحذف الوجع به تفهيماً ولتذهب النفس فيه كل ممكن وبين بعضه بقوله (وقتل فلاناً وفلاناً وسمى له نفراً) بفتح النون والفاء، وتقدم أنه ما بين الثلاثة إلى التسعة من الرجال وقيل إلى السبعة، ولا يقال فيما زاد على العشرة نفر (وإني حملت) بفتح أوليه أي جهدت (عليه) قال في «الصحاح» حمل عليه في الحرب حملة. قال أبو زيد: يقال حملت على بني فلان إذا أرّشت بينهم، وحمل على نفسه في السير إذا أجهدها فيه اهـ (فلما رأى السيف قال: لا إله إلاالله، قال رسول الله: أقتلته) أي مع قوله (قال: نعم، قال فكيف تصنع بلا إله إلا الله يوم القيامة؟) أي من يشفع لك ومن يحاج عنك ويجادل إذا جيء بكلمة التوحيد، وقيل له: كيف قتلت من قالها وقد حصل له ذمة الإسلام وحرمته (فقال: يا رسول الله استغفرلي) أي هذا الذي وقعت فيه (قال) محذراً من الوقوع في مثله وموبخاً منه المرة بعد المرة تأكيداً ودفعاً لما يقوم عنده شبهة استصحاب كفره المجوز لقتله بحمل لفظه بالشهادتين على الخوف لا على الحقيقة (فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة فجعل) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لا يزيد على أن يقول

كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة) ولا يلتفت لقول أسامة استغفر لي وذلك لاهتمامه بالأمر واعتنائه به (رواه مسلم) في كتاب الإيمان في «صحيحه» . فائدة: رأيت بخط محدث اليمن نفيس الدين العلوي ما لفظه: ذكر أبو الشيخ في عواليه أن الله سبحانه وتعالى أنزل توبة أسامة اهـ. 6 - (وعن عبد الله بن عتبة) بضم العين المهملة وسكون الفوقية بعدها موحدة ثم هاء (ابن مسعود) الهذلي فهو ابن أخي عبد الله بن مسعود من أنباء المهاجرين له رواية، سمع عمه وعمر وعنه ابناه الفقيه عبيد الله والزاهد عون وابن سيرين قال ابن سرين قال ابن سعد. ثقة رفيع كثير الفتيا والحديث، توفي بالكوفة سنة أربع وسبعين كذا في «الكاشف» (قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول إن ناساً) أصله أناس على الصحيح فحذف فاؤه. تخفيفاً (كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله) أي عصره وزمنه (وإن الوحي قد انقطع) بموت النبي (وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم فمن أظهر لنا خيراً) إيماناً وعدالة (أمناه) بهمزة بغير مد وميم مكسورة ونون مشددة من الأمن أي صيرناه عندنا أميناً. وفي رواية «ومن يظهر منكم خيراً ظننا به خيراً وأحببناه» وقربناه (وليس لنا) أي لا تعلق لنا (من سريرته) أي ما أسرّه وأخفاه (شيء) اسم ليس وأحد الظرفين السابقين خبرها وثانيهما حال من اسمها لتقدمه عليه وهو نكرة (ايحاسبه) جملة مستأنفة وهو هكذا فيما وقفت عليه بإثبات ضمير المفعول وفي «الفتح» للحافظ بحذفه وقال: كذا لأبي ذرّ عن الحموي بحذفه وللباقين «امحاسبه» بميم أوله وهاء آخره، وهو يقتضي أن إثبات الضمير مع الفعل ليس عند البخاري لكن رأيته كذلك في أصل مصحح معتبر، فلعله رواية لم يطلع عليها الحافظ (ومن أظهر لنا سوءاً) في رواية الكشميهني شراً (لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة) وفي رواية لأبي فراس «ومن يظهر لنا شراً ظننا

به شراً وأبغضناه عليه، سرائركم فيما بينكم وبين ربكم» قال المهلب: هذا إخبار من عمر عما كان الناس عليه في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعما صار بعده، ويؤخذ منه أن العدل من لم توجد منه ريبة وهو قول أحمد وإسحاق، كذا قال، وإنما هو في حق المعروفين لا من لا يعرف حاله أصلاً (رواه البخاري) في أوائل الشهادات من «صحيحه» . قال الحافظ في «النكت الظراف» : أغفل هذا الحديث المزي وهو في جميع روايات البخاري اهـ.

50 ـــ باب الخوف

50 - باب الخوف أي من الله عز وجل، قال الشيخ زكريا في «شرح الرسالة» : هو فزع القلب من مكروه يناله أو من محبوب يفوته. وسببه تفكر العبد في المخلوقات كتفكره في تقصيره وإهماله وقلة مراقبته لما يرد عليه، وتفكره فيما ذكره الله عز وجل في كتابه من إهلاك من خالفه وما أعدّ له في الآخرة، وقد يعبر عن الخوف بالفزع والروع والرهبة والخيفة والخشية. (قال الله تعالى) : {وإياي فارهبون} ) أي خافون خوفاً معه تحرز فيما تأتون وتذرون. قال البيضاوي: وهو آكد في إفادة التخصيص من إياك نعبد لما فيه مع التقديم من تكرير المفعولية والفاء الجزائية الدالة على تضمن الكلام معنى الشرط كأنه قيل: إن كنتم راهبين شيئا فارهبون وفي الآية أن المؤمن ينبغي أن لا يخاف أحداً إلا الله سبحانه وتعالى. (وقال تعالى) : {إن بطش ربك لشديد} ) البطش: هو الأخذ بعنف وشدة بالمأخوذ بحسب إرادته تعالى. (وقال تعالى) : {وكذلك} أي ومثل ذلك الأخذ للأمم الماضين ( {أخذ ربك إذا أخذ القرى} ) أي أهلها وقرىء/ «إذ» لأن المعنى على المضي (وهي ظالمة) حال من القرى وهي في الحقيقة

لأهلها، لكنها لما أقيمت مقامه أجريت عليها وفائدتها الإشعار بأنهم أخذوا لظلمهم وإنذار كل ظالم ظلم نفسه أو غيره من وخامة العاقبة ( {إن أخذه أليم شديد} ) وجيع غير مرجوّ الخلاص عنه وهو مبالغة في التهديد والتحذير ( {إن في ذلك} ) أي ما أنزل بالأمم الهالكة أو فيما قصه الله من قصصهم (لآية) لعبرة ( {لمن خاف عذاب الآخرة} ) يعتبر بها عظة لعلمه بأن ما حاق بهم أنموذج مما أعد للمجرمين في الآخرة أو ينزجر به عن موجبه لعلمه بأنها من إله مختار يعذب من يشاء ويرحم من يشاء، فإن من أنكر الآخرة وأحال فناء هذا العالم لم يقل بالفاعل المختار، وجعل تلك الوقائع لأسباب فلكية اتفقت في تلك الأيام لا لذنوب المهلكين بها ( {ذلك} ) إشارة إلى يوم القيامة وعذاب الآخرة دلّ عليه ( {يوم مجموع له الناس} ) أي يجمع له الناس، والتعبير له بالجمع للدلالة على ثبات معنى الجمع لما فيه من المحاسبة والمجازاة ( {وذلك يوم مشهود} ) أي مشهود فيه أهل السموات والأرض، واتسع فيه بإجراء الظرف مجرى المفعول، ولو جعل اليوم مشهوداً في نفسه لبطل الغرض من تعظيم اليوم وتمييزه فإن سائر الأيام كذلك ( {وما نؤخره} ) أي اليوم ( {إلا لأجل معدود} ) إلا لانتهاء مدة معدودة متناهية على خلاف المضاف وإرادة مدة التأجيل كلها بالأجل لا منتهاها فإنه غير معدود ( {يوم يأت} ) أي الجزاء أو اليوم كقوله {حتى تأتيهم الساعة} (الحج: 55) على أن يوم بمعنى حين أو الله تعالى كقوله: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم ا} (البقرة: 210) ونحوه (لا تكلم) أي لا تتكلم (نفس) بما ينفع وينبغي من جواب أو شفاعة وهو الناصب للظرف، ويحتمل أن نفسه بإضمار أذكر أو بالانتهاء المحذوف (إلا بإذنه) أي بإذن الله كقوله: {لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن} (النبأ: 38) وهذا في موقف، وقوله: {هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون} (المرسلات: 35، 36) في موقف آخر أو المأذون فيه هي الجوابات الحقة والممنوع عنه هي الأعذار الباطنة ( {فمنهم شقى} ) وجبت له النار بمقتضى الوعيد ( {و} ) منهم ( {سعيد} ) وجبت له الجنة بمقتضى الوعد والضمير لأهل الموقف، وإن لم يذكروا لأنه معلوم مدلول عليه بقوله: {لا تكلم نفس} أو الناس ( {فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق} ) الزفير

إخراج النفس والشهيق رده واستعمالها في أول النهيق وآخره، والمراد بهما الدلالة على شدة كربهم وغمهم فالمراد تشبيه حالهم بمن استولت الحرارة على قلبه وانحصر فيه روحه أو تشبيه صراخهم بأصوات الحمير. (وقال تعالى) : {ويحذركم الله نفسه} ) أي يغضب عليكم من فعل ما حضر وملابسة ما منع. (وقال تعالى) : {يوم} ) بدل من إذا الظرفية المتضمنة معنى الشرط المذكور في آخر الآية قبله ( {يفرّ المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته} ) أي زوجته ( {وبنيه} ) بدأ بالأخ ثم بالأبوين لأنهما أقرب ثم بالصاحبة والولد لأنهما أقرب والأخ من الأبوين والأخ إيذاناً أنه لا يقف لأحد منهم ( {لكل امرىء منهم يومئذٍ شأن يغنيه} ) أي يشغله عن شأن غيره: أي اشتغل كل بنفسه والجملة حال وهو دليل جواب إذا المحذوف، وقيل يفرّ حذراً من تبعاتهم، فيقول الأخ لم تواسني بمالك. والأبوان قصرت في برنا، والصاحبة أطعمتني الحرام وفعلت، والولد لم تعلمني ولم ترشدني. قال الكواشي: وهذا عام في كل كافر في كل موطن من مواطن القيامة وخاص بالمؤمن في بعض مواطنها. (وقال تعالى) : {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة} ) تحريكها للأشياء على الإسناد المجازي أو تحريك الأشياء فيها فأضيفت إليها إضافة معنوية بتقدير وإضافة المصدر إلى الظرف على إجرائه مجرى المفعول به (شيء عظيم) هائل علل أمرهم بالتقوى بفظاعة الساعة ليتصوّرها بعقولهم ويعلموا أنه لا يؤمنهم منها سوى التدرع بلباس التقوى فيبقوا على أنفسهم ويتقوها بملازمة التقوى ( {يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت} ) تصوير لهولها والضمير للزلزلة ويوم منتصب بتذهل وقرىء معلوماً ومجهولاً: أي تذهلها الزلزلة، والذهول الذهاب عن الأمر بدهشة والمقصود الدلالة على أن هولها بحيث إذا دهشت التي ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه وذهلت عنه، وما موصولة أو مصدرية ( {وتضع كل ذات حمل حملها} ) أي جنينها، قال المصنف في آخر كتاب الإيمان

من شرح مسلم: وقد اختلف العلماء في وقت وضع كل ذات حمل حملها وغيره من المذكور، فقيل عند زلزلة الساعة قبل خروجهم من النداي، وقيل هو يوم القيامة وليس فيها حمل ولا ولادة وتقديره تنتهي به الأهوال والشدائد إلى أن لو تصورت الحوامل هناك لوضعت حملهن، كما تقول العرب أصابنا أمر يشيب فيه الولد، يريدون شدته اهـ. ( {وترى الناس سكارى} ) كأنهم سكارى ( {وما هم بسكارى} ) حقيقة ( {ولكن عذاب الله شديد} ) فأرهقهم هوله بحيث طير عقولهم وأذهب تمييزهم. (وقال تعالى) : {ولمن خاف مقام ربه} ) موقفه الذي يقف فيه العباد للحساب. أو قيامه على أحواله من قام عليه إذا راقبه. أو مقام الخائف عند ربه للحساب بأحد المعنيين فأضافه إلى الربّ تفخيماً وتهويلاً ربه، ومقام مفخم للمبالغة ( {جنتان} ) جنة لعقيدته وأخرى لعمله، أو جنة لفعل الطاعات وأخرى لاجتناب المعاصي، أو جنة يثاب بها، وأخرى يتفضل بها عليه أو روحانية وجسمانية (الآيات) إلى أواخر السورة. وفيه أن هذه الآيات من آيات الوعد المثيرة للرجاء لا من آيات الوعيد الباعثة للخوف وكأن المصنف عقَّب الآيات الأول بها إيماء إلى أنه ينبغي أن يكون للمؤمن خوف يمنعه من العصيان ورجاء يبعثه على الطاعة وعمل البرّ، وقدم تلك على هذه لأنها أدلة الباب وأساس بنيانه، وإيماء إلى أن الخوف من باب التخلية، والرجاء من باب التحلية، بالمهملة والأول مقدم، وختم بما هو من قبيل الأول لمناسبته بالباب فقال: (وقال تعالى) : {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} ) أي يسأل بعض أهل الجنة بعضاً عن أحواله وأعماله ( {قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين} ) خائفين من عصيان الله تعالى معتنين بطاعته، أو وجلين من المعاقبة ( {فمنّ الله علينا} ) بالرحمة والتوفيق ( {ووقانا عذاب السموم} ) عذاب النار النافذة في المسامّ نفوذ السموم ( {إنا كنا من قبل} ) أي: من قبل ذلك في الدنيا ( {ندعوه} ) نعبده أو نسأله الوقاية ( {إنه هو البر} ) المحسن، وقرىء بفتح الهمزة: أي لأنه

( {الرحيم} ) الكثير الرحمة (والآيات) الواردة (في الباب) أي في باب الخوف (كثيرة جداً) بكسر الجيم أي قطعاً (والغرض) أي المطلوب (الإشارة إلى بعضها) تبركاً وتشرفاً (وقد حصل) . (وأما في الأحاديث) المرفوعة (فكثيرة جداً فنذكر منها طرفاً) أي جانباً، والطرف حال لأنه كان وصفاً لظرف قدم عليه ومن فيه للبيان (وبا) لا بغيره (التوفيق) وهو لغة جعل الأسباب موافقة للمسببات. وشرعاً خلق قدرة الطاعة في العبد. 1396 - (عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق) في أقواله وأفعاله وأحواله (المصدوق) فيما يأتيه من الوحي، والجملة اعتراضية لا حالية لتعم الأحوال كلها (أن أحدكم) أي الواحد منكم (يجمع) بالبناء للمفعول أي يقدر (خلقه) أي ما يخلق منه (في بطن أمه) صفة خلق أو حال منه: أي مادة خلقه الحاصلة أو حاصلة (أربعين يوماً) ظرف لمتعلق الظرف المحذوف (نطفة) وهي الماء القليل، والمراد هنا المنيّ لأنه ينطف: أي يسيل، ومعنى جمعه فيها: مكثه أربعين ليلة منتشراً في بشرة المرأة بعد أن انتشر تحت كل ظفر وشعر منها ثم ينزل منها دم في الرحم، فذلك جمعه وهو وقت كونه علقة، ولا ينتقل عن كونه منياً قبل الأربعين (ثم يكون) أي يصير خلقه (علقة) هي دم جامد، لأنها إذ ذاك تعلق بالرحم (مثل ذلك) بالنصب صفة علقة، وذلك إشارة إلى خلقه: أي علقة مماثلة لخلقه في أنهما يكونان أربعين يوماً (ثم يكون) أي يصير خلقه (مضغة) أي قطعة من اللحم قدر ما يمضغ (مثل ذلك) أي أربعين يوماً، وفيها يصورها الله تعالى ويجعل الأعضاء والسمع والبصر وغيرهما {هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء} (آل عمران: 6) (ثم) إذا تمت وصار ابن مائة وعشرين يوماً (يرسل) بالبناء للمفعول أي يرسل الله (الملك) في الطور الرابع، ولا مخالفة بين حديث الباب وحديث مسلم عن حذيفة بن أسيد مرفوعاً «إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله ملكاً فصورها وخلق سمعها وبصرها

وجلدها وعظامها ثم يقول: أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء ثم يكتب أجله ورزقه» لأن لتصرف الملك أوقاتاً أحدها حين كونه نطفة ثم انقلابه علقة وهو أول علم الملك بأنه ولد وذلك عقب الأربعين الأولى، وحينئذٍ ربه يكتب رزقه وأجله وعمله وخلقته وصورته، ثم يتصرف فيه بتصويره وخلق أعضائه وذلك في الأربعين الثالثة، فيفرد بالتصوير بعد أن يكتب ذلك، ثم ينقله في وقت آخر لأن التصوير بعد الأربعين الأولى غير موجود عادة، أشار إليه المصنف في شرح مسلم، وقد استفاض بين النساء أن النطفة إذا قدرت ذكراً تتصور بعد الأربعين الأولى بحيث يشاهد منه كل شيء حتى السرّة فتحمل رواية ابن مسعود على البنات أو الغالب (فينفخ فيه) أي فينفخ الملك في ذلك المخلوق (الروح) بعد كمال الجسم وخلقه؛ وفيه دليل على حدوث الروح، والنفخ بالمعجمة والمهملة والنفث يستعملان بمعنًى، إلا أن الأولين يستعملان على طريق الخير والشرّ والثالث في الثاني فقط (ويؤمر) أي ذلك الملك عطف على ينفخ (بأربع كلمات) أي يؤمر بكتابة الأحكام المقدّرة له على جبهته أو بطن كفه أو ورقة تعلق بعنقه قاله مجاهد.Y واعلم أن الكتابة التي في أمّ الكتاب تعم الأشياء كلها وهذا ما خص به كل إنسان، إذ لكلٍ سابقة وهي ما في اللوح ولاحقة تكتب ليلة القدر ومتوسطة أشير إليها في الحديث (بكتب) بدل كل من قوله بأربع ويروى بالمضارع على الاستئناف (رزقه) ما ينتفع به حلالاً كان أو حراماً مأكولاً أو غيره (وأجله) أي مدة عمره أو الوقت الذي ينقرض فيه (وعمله) من صلاح وضده (وشقي أو سعيد) خبر لمبتدأ تقديره هو، وعدل إليه عن شقاوته وسعادته بحكاية صورة المكتوب، والتقدير: وأنه شقي أو سعيد، وكان العدول فيه لأن التفصيل الآتي وارد عليهما، ذكره الطيبي. والسعادة معاونة الأمور الإلهية للإنسان على نيل الخيرات وتقابلها الشقاوة. وقدمت ليعلم أنها كالخير من عند الله تعالى، وحول الإنسان أطواراً في بطن أمه والقدرة صالحة لخلقه جملة في لمحة لدفع المشقة عن الأم لأنها غير معتادة، فربما ظنته علة، فدرج في حال إلى آخر لتعتادها، ولإظهارها قدرة الله سبحانه ليعبدوه ويشكروه إذ قلبهم من أخس الأشياء ومستقذرها إلى أحسن صورة محلى بالعقل، ولإرشاد الناس إلى كمال قدرته تعالى على الحشر والنشر، إذ من قدر على خلق إنسان من ماء مهين ثم من علقة ثم من مضغة قادر على إعادته ونفخ الروح به ولغير ذلك. ثم اعلم أن الآيات القرآنية تشهد أن

التصوير من الله تعالى، وفي بعض الروايات إضافته إلى الملك الموكل بالرحم، والحمل على ظاهر التنزيل أولى، وجمع بعض بأن الملك الموكل بالرحم من أعوان إسرافيل وبيده الصور، وهو ناظر إلى إسرافيل، وإسرافيل ناظر إلى الصورة المنقوشة فقد ورد «إن الله تعالى جعل لكل ما خلق صورة مخصوصة في ساق العرش، وتلك الصورة حكاية عما في علم الله الأزلي» فيأخذ إسرافيل الصورة المختصة بتلك الذرة ويلقيها إلى الرحم، وملك الأرحام يلقيها إلى الجنين فيصوره بتلك الصورة، فحيث أسند التصوير إليه تعالى فلأنه المقدر للصورة حقيقة الموجد لها، وحيث أسند للملك فلأنه المباشر لها حسبما رأى في نسخة إسرافيل (فوالذي) هو من جملة المرفوع كما يدل عليه ظاهر رواية «الصحيحين» هذه وغيرها. وأما ما رواه الخطيب البغدادي في المدح من أن من هنا إلى الآخر من كلام ابن مسعود فلا يعارض ما في «الصحيحين» ، بل ما فيهما مقدم عليه، وبفرض ثبوت ما فيه فالذي توقف عليه إنما هو هذه المباني، وإلا فقد جاء هذا المعنى مرفوعاً في أحاديث كثيرة بينتها أواخر «شرح الأذكار» ، الفاء فصيحة وهي العاطفة على مقدر، وقيل الواقعة جواباً لشرط مقدر، وقد بسطت الكلام في تحقيق هذه الفاء وأحوالها في كتابي المسمى بـ «إيقاظ النائم من سنة نومه» ببعض فوائد قوله تعالى: {وإذ استسقى موسى لقومه} (البقرة: 60) أي فإذا كانت السعادة والشقاوة مكتوبين فوالذي (لا إله غيره) أكده بالقسم لتأكيد أمر القضاء (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى) أي إلى أن ينتهي إلى أمد (ما يكون) ما نافية ويكون مرفوع إجراء لحتى وما بعدها مجرى الحكاية الحالية، قاله الكازروني «شارح الأربعين» ، قال: والنصب فيه وفي الجملة الثانية خطأ (بينه وبينها) أي الجنة (إلا ذراع) أراد به التمثيل للقرب من موته ودخوله عقبه الجنة (فيسبق) أورد الفاء لتدل على حصول السبق بلا مهلة وعداه بعلى في قوله (عليه الكتاب) لتضمنه معنى يغلب: أي يغلب عليه ما كتب عليه قبل النفخ من الشقوة (فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) بفصل القضاء السابق المحتوم لشقوته (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون) أي إلى أن لا يبقى (بينه وبينها إلاّ

ذراع فسيبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة) من الإنابة والاستغفار وعمل الأبرار (فيدخلها) فالخاتمة نسخت السابقة، وبذر السعادة والشقاوة قد اختفى في الأطوار الإنسانية، ولا يظهر إلا إذا انتهى إلى الغاية الإيمانية أو الطغيانية، ففي الحديث إيماء إلى عدم الاغترار بصور الأعمال والركون إليها، بل بالخاتمة، وقد جاء في بعض روايات الحديث زيادة «وإنما الأعمال بالخواتيم» فلا يقطع لأحد معين بدخول الجنة إلا من أخبر أنه من أهلها، فعليك أن لا تنكل على عمل ولا تعجب به واسأل الله حسن الخاتمة واستعذ به من سوئها، ولا تقل قوله تعالى: {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً} (الكهف: 30) مخبر بأن من أخلص عمله أمن من سوئها. لأنا نقول: يجوز أن يكون ذلك معلقاً على شرط القبول وحسنه. ثم قال القاضي عياض: الثاني كثير، وأما الأول فقليل لأن الله كريم يستحي أن ينزع السرّ من أهله، وفيه إثبات القدر، وهو مذهب أهل الحق، وأن جميع ما في الكون بقضاء وقدر من نفع أو ضرر (متفق عليه) وكذا رواه أصحاب السنن الأربعة. 2397 - (وعنه قال: قال رسول الله: يؤتى بجهنم) قال المصنف: اختلف أهل العربية، هل جهنم اسم عربي أم عجمي؟ فقيل عربي مشتق من الجهومة وهي كراهة المنظر، وقيل من قولهم بئر جهنام: أي عميقة، فعل هذا لم تصرف للعلمية والتأنيث، وقال الأكثرون: هي عجمية معرّبة وامتنع صرفها للعلمية والعجمة (يومئذٍ) أي يوم إذ يقوم العباد للحساب (لها سبعون ألف زمام) جملة حالية، والزمام: لغة ما يجعل في أنف البعير يشد عليه المقود فيحتمل أن يكون ذلك على حقيقته، وأن تكون تمثيلاً لعظمها وفرط كبرها بحيث إنها تحتاج في الإتيان بها إلى هذه الأزمة (مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها رواه مسلم) في باب الجنة والنار ورواه الترمذي في «جامعه» في باب صفة جهنم.

3398 - (وعن النعمان بن بشير) بفتح الموحدة وكسر الشين المعجمة (رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن أهون أهل النار) أي الكفار لأنهم أهلها الملازمون لها الخالدون أبداً، أما العصاة من مؤمني الأمة المحمدية الذين سبق في العلم الأزلي تعذيبهم بها فليسوا أهلها لخروجهم ودخولهم الجنة (عذاباً يوم القيامة لرجل) هو أبو طالب (يوضع في أخمص) بفتح الهمزة (قدميه) أي المتجافي من الرجل عن الأرض (جمرتان يغلى) بالتحتية والغين المعجمة مبنى للفاعل: والغليان معروف، وهو شدة اضطراب الماء ونحوها على النار لشدة إيقادها، يقال غلت القدر تغلى غلياناً قاله المصنف (منهما دماغه) بكسر الدال المهملة معروف. قال القسطلاني في «المواهب» : جاء في رواية «حتى يسيل دماغه» (ما يرى) بفتح التحتية: أي يعتقد (أن أحداً أشد منه عذاباً) لقوّة ما يلقاه منه (وإنه لأهونهم عذاباً» . متفق عليه) رواه البخاري في الرقاق ومسلم في صفة النار، كذا قال المزي، والذي رأيته أنه منه في كتاب الإيمان. 4399 - (وعن سمرة) بفتح المهملة وضم الميم (ابن جندب) بضم الجيم والدال المهملة وبفتها والنون ساكنة بينهما، آخره موحدة تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب توقير العلماء (أن نبي الله) قال الشافعي فيما نقل البيهقي عنه: يكره أن يقال في حقه النبيّ أو الرسول بغير إضافة، وإنما يقال رسول الله أو نبيّ الله بها، ولا يرد نحو قوله تعالى: {يا أيها النبيّ} (الأنفال: 64) لأن خطاب الله تعالى لنبيه تشريف بأي صيغة كانت اهـ. وكأن القوم لم ينظروا بذلك لعدم حضور ما يوهمه لفظ الرسول أو النبي في الذهن كما استقرّ فيه من شرفه وعظمته مع ما فيه من كثرة الدوران المقتضي للتخليف في اللفظ (قال: «منهم) أي من أهل النار ومرجع الضمير دل عليه حال التكلم أو سياق الكلام. وفي رواية أخرى لمسلم بزيادة

«إن» في أوله والتأكيد مناسب للوعيد والتشديد (من تأخذه النار إلى كعبيه) وهو العظم الناتىء عند مفصل الساق من القدم (ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه) وهو مجمع عظم الساق والفخذ (ومنهم من تأخذه إلى حجزته) بضم الحاء المهملة وإسكان الجيم وبالزاي (ومنهم من تأخذه إل ترقوته» ) أي وباقي الجسد الذي لم يأخذه العذاب يغلي بما أخذه منه العذاب (رواه مسلم) في صفة النار (الحجزة) بضبطها السابق وكان عليه ذكر ذلك (معقد الإزار) والسراويل كما في «شرح مسلم» له (تحت السرّة) المراد ما يحاذي ذلك المحل من جنبيه (والترقوة بفتح التاء) المثناة الفوقية (وضم القاف) وسكون الراء وفتح الواو، تفعلة وجمعها تراقي (هي العظم الذي عند ثغرة النحر) الثغرة بضم المثلثة وسكون المعجمة بعدها راء مهملة التي في وسطه قال في «شرح مسلم» : الترقوة بين ثغرة النحر والعاتق (وللإنسان ترقوتان في جانبي النحر) قال في «المصباح» : قال بعضهم: ولا تكون الترقوة لشيء من الحيوان إلا للإنسان خاصة. 5400 - (وعن ابن عمر) بن الخطاب (رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يقوم الناس) أي من قبورهم (لرب العالمين) أي لأمره وجزائه. قال كعب: يقومون ثلثمائة عام (حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه» ) قيل سبب هذا العرق تراكم الأحوال وتزاحم حرّ الشمس والنار كما جاء في الرواية «إن جهنم تدير أهل المحشر، فلا يكون لأهل الجنة طريق إلاّ الصراط» فيكون الناس في ذلك العرق على قدر أعمالهم، فمنهم من يلجمه ويصير له كاللجام ويمنعه من الكلام ويصل لأذنه، ومنهم دون ذلك حتى إنه يكون للبعض إلى كعبه. فإن قلت: إذ كان العرق كالبحر يلجم البعض فكيف يصل إلى كعب الآخر:

قلنا: يجوز أن يخلق الله ارتفاعاً في الأرض تحت أقدام البعض، أو يقال يمسك الله عرق كل إنسان عليه بحسب عمله فلا يصل إلى غيره منه شيء كما أمسك جرية البحر لموسى وقومه حتى أتبعهم فرعون، قاله ابن ملك في «شرح المشارق» (متفق عليه) والسياق لمسلم (والرشح) بفتح الراء وسكون الشين المعجمة وبالحاء المهملة (العرق) بفتح أوليه المهملتين. 6401 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: خطب رسول الله) أي وعظ، وسميت خطبة لأنهم كانوا يلقونها عند الخطب والمهام. وحذف المفعول للتعميم أو للجهل بأعيانهم (خطبة، ما سمعت مثلها قط) لكمال بلاغتها، وقط بفتح القاف وضم الطاء المهملة المشددة في اللغة الفصحى ظرف لاستغراق ما مضى من الزمان نحو ما فعلته قط. قال ابن هشام: وقول العامة لا أفعله قط لحن (فقال) أي من جملتها، أو يحتمل أن يكون ذلك هو المقول كله (لو تعلمون ما أعلم) أي من أهوال الآخرة وما أعدّ في الجنة من نعيم وفي النار من العذاب الأليم (لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً) قيل إن كان الخطاب للكافرين فليس لهم ما يوجب الضحك أصلاً، وإن كان للمؤمنين فعاقبتهم الجنة أبداً، وإن دخلوا النار فما يوجب البكاء بالنسبة إلى ما يوجب الضحك شيء يسير، فينبغي أن يكون الأمر بالعكس. قلنا: الخطاب للمؤمنين، لكن خرج هذا الحديث في مقام ترجيح الخوف على الرجاء، قال الكازروني: ففي الحديث الحثّ على البكاء والتحذير من إكثار الضحك (فغطى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجوههم) فيه استحباب تغطية الوجه عند البكاء وقد ورد الأمر به حال العطاس وكأنه ستر لما يعرض حينئذٍ في بشرة الوجه (ولهم خنين) في «المشارق» للقاضي عياض أنه بالمهملة للقابسي والعذري، وبالمعجمة للكافة وهو الصواب، وهو تردد في البكاء بصوت أغن. وقال أبو زيد: الخنين كالحنين اهـ. وفي «شرح مسلم» للمصنف: هو بالمعجمة في معظم النسخ، ولمعظم الرواة ولبعضهم بالمهملة، ومن ذكر

الوجهين صاحب التحرير وآخرون وسيأتي معناه (متفق عليه) أخرجه البخاري في التفسير، واللفظ له ومسلم في فضائل النبي بنحوه، ورواه الترمذي في التفسير وقال: حسن صحيح غريب، ورواه النسائي في الرقائق مختصراً «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً» اهـ. ملخصاً من «الأطراف» للمزي. وللحافظ العسقلاني تعقب عليه في بعضه في كتابه «النكت الظراف» (وفي رواية) هي لمسلم ( «بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أصحابه شيء فخطب فقال: عرضت عليّ الجنة والنار) قال القاضي عياض: قال العلماء: يحتمل أنه رآهما رؤية عين كشف الله تعالى عنهما وأزال الحجاب بينه وبينهما كما خرج له عن بيت المقدس حين وصفه، ويحتمل أن يكون عرض وحي، وعلم من أمورهما تفصيلاً ما لم يعلمه قبل ذلك ومن عظم شأنهما ما زاده علماً بأمرهما وخشية وتحذيراً ودوام ذكر فلذا قال: لو تعلمون الخ. قال القاضي: والتأويل الأول أولى والتنبيه بألفاظ الحديث لما جاء في الأحاديث مما يؤيده كتناوله العنقود وتأخره مخافة أن تلحقه النار. وفيه أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان اليوم وهو مذهب أهل السنة خلافاً للمعتزلة (فلم أر كاليوم في الخير والشر) قال المصنف: معنى الحديث لم أر خيراً أكثر مما رأيته اليوم في الجنة، ولا شرّاً أكثر مما رأيته في النار (ولو تعلمون ما أعلم) مما رأيته اليوم (لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً) أي لحصل من الإشفاق البليغ ما يقلّ ضحككم ويكثر بكاءكم. وفيه دليل على أنه لا كراهية في استعمال «لو» في مثل هذا (فما أتى) أي جاء (على أصحاب النبيّ يوم أشد منه) في إزعاجهم بالموعظة وتأثرهم بها (غطوا) بتشديد الطاء المهملة أي ستروا (رءوسهم) بالغطاء (ولهم خنين» ) جملة حالية (الخنين بالخاء المعجمة) المفتوحة وبنونين أولاهما مكسورة خفيفة وبينهما تحتية ساكنة (هو البكاء مع غنة وانتشاق الصوت) وفي «شرح مسلم» : ومعناه بالمعجمة صوت وهو نوع من البكاء دون الانتحاب. قالوا: وأصل الخنين خروج الصوت (من الأنف) كالحنين بالمهملة. وقال الخليل: هو صوت فيه غنة. وقال الأصمعي:

إذا تردد بكاؤه وصار في كونه غنة فهو: خنين. وقال أبو زيد الخنين هو شدة البكاء. 7402 - (وعن المقداد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «تدنى) بالبناء للمفعول وحذف الفاعل للعلم بأنه الله تعالى (الشمس يوم القيامة من الخلق) أل فيه للجنس أي من المخلوقين (حتى يكون) تصير (منهم كمقدار) أي مثل مقدار (ميل) وذلك تشديد في الهول والكرب (قال سليم) بضم المهملة وفتح اللام وتخفيف التحتية (ابن عامر) وهو الجنائزي بالجيم والنون وهمزة بعد ألف ثم زاي الحمصي (الراوي عن المقداد) فهو تابعي يروي عن أبي الدرداء وعوف بن مالك، والمقداد ثقة بقي إلى بعد عشر ومائة روى عنه مسلم والأربعة كذا في «الكاشف» للذهبي (فوا ما أدري ما يعني) أي النبي (بالميل لمسافة الأرض) أي أراد المسافة التي هي عند العرب مقدار مدّ البصر من الأرض، وعند القدماء من أهل الهيئة ثلاثة آلاف ذراع، وعند المحدثين أربعة آلاف ذراع. قال في «المصباح» : والخلف لفظي فإنهم اتفقوا على أن مقداره ستّ وتسعون ألف أصبع، ولكن القدماء يقولون الذراع اثنتان وثلاثون أصبعاً والمحدثون أربع وعشرون أصبعاً، فإذا قسم الميل على رأي المحدثين أربعاً وعشرين كان المتحصل أربعة آلاف ذراع اهـ. (أم) أراد (الميل الذي تكتحل به العين) قال في «المصباح» : قال الأصمعي: العامة يقولون لما يكتحل ب ميل وهو خطأ وإنما هو ملمول، وقال الليث: الميل المملول الذي يكتحل به البصر والله أعلم (فيكون على قدر أعمالهم في العرق) أي اختلافهم في مكان العرق منهم بحسب اختلافهم في العمل صلاحاً وفساداً ثم فصله كذلك زيادة في البيان فقال (فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه) بفتح الحاء المهملة وكسرها: وهما معقد الإزار، والمراد هنا ما يحاذي ذلك الموضع من جنبيه (ومنه من يلجمه العرق إلجاماً) أي يصل إلى فيه وأذنيه فيكون له بمنزلة اللجام من

الحيوانات كما قال الراوي (وأشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده إلى فيه» . رواه مسلم) . 8403 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يعرق) بفتح التحتية والراء (الناس) من شدة كرب يوم القيامة وأهوالها (يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً ويلجمهم) بضم التحتية من ألجمه الماء: إذا بلغ فاه (حتى يبلغ آذانهم) وهذا لبعض الناس لتفاوت الناس في ذلك كما تقدم في الحديث قبله، واستثنى من ذلك الأنبياء والشهداء ومن شاء الله من المؤمنين والمؤمنات، ثم أشد الناس عرقاً الكافر، ثم أصحاب الكبائر ثم من بعدهم (متفق عليه) رواه البخاري في الرقاق ومسلم في باب صفة الجنة والنار (ومعنى يذهب في الأرض: أي ينزل فيها ويغوص) في «المصباح» : يقال نزل من علوّ إلى أسفل ينزل نزولاً، وما ذكره المصنف في الحديث وجه، وفسر الشيخ زكريا يذهب بقوله يجري، ولا مانع من جريانه على وجه الأرض هذا القدر دون ما زاد عليه مع ارتفاعه وبلوغه إلى آذانهم لأنه ممكن والقدرة صالحة له. 9404 - (وعنه قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ سمع وجبة) بفتح الواو وسكون الجيم وبالموحدة أي سقطة، قال في «المصباح» : يقال وجب الحائط ونحوه: سقط (فقال: هل تدرون ما هذا) أي المسموع، وظاهره أنهم سمعوها أيضاً كرامة، ولا مانع فقد سمعوا حنين الجذع وتسبيح الحصا في يده وغير ذلك، لكن قوله أولاً إذ سمع النبيّ ربما يومىء إلى اختصاصه بذلك، والله أعلم (فقلنا: الله ورسوله أعلم) فيه بيان أن الأدب إذا سئل الإنسان عما لا علم له به أن يكل العلم فيه إلى الله سبحانه ولا يتكلم فيما لا علم له

به، وليس من التكلم بلا علم ما يستنبطه أهل العلم ويستخرجونه بما عندهم من جودة الذهن وحسن الفكر، بل هو من التكلم بالعلم، قال تعالى: {لعلمه الذين يستنبطونه منهم} (النساء: 83) (قال هذا حجر) أي صوت حجر (رمي) بالبناء للمفعول (به في النار من) كذا فيما وقفت عليه من نسخ الرياض بمن الجارة وهو في مسلم بلفظ منذ وهي هنا بمعنى من لأنها جارة لاسم الزمان الماضي، فما في الرياض إن كان من المصنف فرواية بالمعنى (سبعين خريفاً) أي عاماً والمقام يقتضي حمله على حقيقته، ويحتمل أنها كناية عن الكثرة بما فوق وما دون (فهو يهوي) بكسر الواو: أي ينزل (في النار الآن) اسم للزمان الحال وهو ظرف خبر مقدم لقوله (حين انتهى إلى قعرها) وجملة انتهى مضاف إليها، وفتحت «حين» لإضافتها إلى جملة صدرها مبني فهو مرفوع، وتقديره الآن حين انتهى بها إلى قعر النار (فسمعتم وجبتها) بفتح الواو وسكون الجيم هكذا هو في أصل مصحح، ويحتمل أن يكون بكسر الجيم وبالتحتية فالموحدة ومعناه الاضطراب: أي صوت اضطراب النار من نزول الحجر إليها، قال في «المصباح» : وجب القلب وجيباً ووجباً: رجف، ثم قوله فسمعتم وجبتها ليس هو عند مسلم في حديث «حتى انتهى إلى قعرها» إنما هو عنده بإسناد آخر للحديث وفيه «وقال هذا وقع في أسفلها فسمع وجبتها» فيكون ذكر فسمعتم وجبتها مدرجاً في الحديث الذي ذكره المصنف لأنه ليس عنده بإسناد ذلك الحديث إنما هو بإسناد آخر، والله أعلم (رواه مسلم) في باب صفة الجنة والنار.o 10405 - (وعن عديّ) بفتح العين المهملة وكسر الدال المهملة وتشديد التحتية (ابن حاتم) بالمهملة فالفوقية (رضي الله عنه) تقدمت ترجمته في الكلام على الحديث في باب بيان كثرة طرق الخير (قال: قال رسول الله: ما منكم من أحد) من مزيدة في الفاعل لتأكيد العموم فيه لوقوعه بعد النفي (إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) قال في «المصباح» : ترجم

فلان كلامه إذا بينه وأوضحه، وترجم كلام غيره: إذا عبر عنه بلغة عن المتكلم، واسم الفاعل ترجمان، وفيه لغات أجودها فتح التاء وضم الجيم ثم ضمهما ثم فتحهما والجمع تراجم والتاء والجيم فيه أصليتان فترجم بوزن دحرج اهـ. والمراد هنا أنه تعالى يكلمه بلا واسطة (فينظر أيمن منه) أي جانباً أيمن منه (فلا يرى) أي يبصر (إلا ما قدم) من صالح العمل (وينظر أشأم منه) بالشين المعجمة والهمزة من الشومي: وهو من أسماء الشمال (فلا يرى إلا ما قدم وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء) بكسر الفوقية وبالمد: أي قبالة (وجهه، فاتقوا النار) أي اجعلوا صالح العمل وقاية بينكم وبينها (ولو) كان (بشق) بكسر الشين المعجمة: أي نصف (تمرة متفق عليه) . 11406 - (وعن أبي ذرّ) بفتح الذال المعجمة وتشديد الراء (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إني أرى) أي أبصر أو أعلم (ما لا ترون) أي تبصرون أو تعلمون (أطت السماء وحق) بضم الحاء المهملة وتشديد القاف: أي ويحق (لها أن تئطّ) أي لما فيها من أعمال البرّ وعمالها كما قال (ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك) قال الدلجى: موضع بالتنوين، وقوله أربع أصابع ظرف مستقرّ لاعتماده على حرف النفي (إلا وملك) حال من فاعل الظرف أعني موضعاً: أي وفيه ملك (واضع) بالتنوين ويجوز تركه (جبهته ساجداً) حال من الضمير قبله لكون المضاف بعض ما أضيف إليه (تعالى) واستدل به على فضل السماء على الأرض، وهو المختار عند أصحابنا الشافعية فهي محل الطاعة ولم يقع عليها عصيان، وامتناع إبليس من السجود كان وهو خارج عنها، ويؤخذ منه فضل مواضع أعمال البرّ من الأرض على مواضع غيره، وقد أشار إليه إمامنا الشافعي بقوله: إني نظرت إلى البقاع وجدتها تشقى كما تشقى الرجال وتسعد (وا) أتى به تأكيداً لما بعده (لو تعلمون ما أعلم) من عظم جلال الله تعالى وشدة

انتقامه (لضحكتم قليلاً) خوفاً من سطوة المولى سبحانه (ولبكيتم كثيراً) كذلك، وفي قوله قليلاً أولاً وكثيراً ثانياً إيماء إلى أن المطلوب من العبد أن لا ينتهي به الخوف إلى اليأس والقنوط بل يكون عنده بعض الرجاء فيعمل معه البر ويكون عنده من الخوف ما ينزجر به عن المخالفة، ويكون تارة في مظهر الجمال وتارة في مظهر الجلال (وما تلذذتم بالنساء على الفرش) أي لشدة ما كان يحصل لكم من الوجل (ولخرجتم إلى الصعدات) أي الطرقات (تجأرون) بسكون الجيم وبعدها همزة مفتوحة: أي ترفعون أصواتكم بالاستغاثة إلى الله تعالى، والجملة في موضع الحال: أي رافعي أصواتكم متضرّعين (إلى الله تعالى. رواه الترمذي وقال حديث حسن) قال ابن أَقَبْرَس: أخرجه مرفوعاً، وأخرجه أيضاً في الزهد، ويروى عن أبي ذرّ موقوفاً، وأخرجه ابن ماجه اهـ. وكذا ذكر السيوطي في تخريج الشفاء أن ابن ماجه أخرجه أيضاً (وأطت بفتح الهمزة وتشديد الطاء) المهملة (وتئطّ بفتح التاء) أي الفوقية (وبعدها همزة مكسورة) مكتوبة بصورة الياء على القاعدة (والأطيط) بفتح الهمزة وكسر الطاء الأولى (صوت الرجل) بالحاء المهملة هو ما يشد على البعير ويوضع عليه الحمل ويسمى بالكور. قال في «النهاية» : وقد تكرر ذكر الرجل مفرداً وجمعاً وهو له كالسرج للفرس اهـ. (والقتب) بفتح القاف والفوقية وبالموحدة قال في «المصباح» القتب للبعير جمعه أقتاب كسبب وأسباب وعليه فيكون من عطف الرديف (وشبههما) من ذي الصوت (ومعناه) أي معنى هذا الكلام (أن كثرة من في السماء من الملائكة العابدين قد أثقلها حتى أطت) أي حصل الصوت منها كما يحصل من الرجل إذا ركب عليه، أجرى المصنف الكلام على ظاهره. قال ابن الأثير في «النهاية» : وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة، وإن لم يكن ثم أطيط إنما هو كلام تقريب أريد به تقرير عظمة الله تعالى. زاد الدلجى بعد حكايته قوله فأفرغ هذا الكلام في قالب الاستعارة التمثيلية تقريباً وتقريراً لعظمة الله تعالى. وقال ابن أقبرس: وهذا عندي على طريق الاستعارة بالكناية، شبهت السماء بذي الصوت من الإبل، ثم ذكر شيئاً من لوازم الإبل والأقتاب المركوب عليها وهو الصوت المعبر عنه بقوله أطت لينتقل الذهن منه إليه، وأنت خبير بما بين الكلامين يعني كلامه وكلام «النهاية» من الحسن اهـ. وما ذكره من أن الاستعارة المكنية لفظ المشبه به مراداً به المشبه مذهب

فيها، ومذهب الخطيب وعليه الجمهور أنها التشبيه المضمر في النفس وقرينتها الاستعارة التخييلية: أي إثبات لازم المشبه به للمشبه، والله أعلم (والصعدات ضم الصاد والعين) وبالدال المهملة (الطرقات) بضم أوليه جمع طريق (ومعنى تجأرون تستغيثون) مضارع من الاستغاثة بالمثلثة: سؤال للغوث. 12407 - (وعن أبي برزة) بموحدة ثم (براء ثم زاي) ثم هاء (نضلة) بفتح النون وسكون الضاد المعجمة (ابن عبيد) بضم المهملة وفتح الموحدة وسكون التحتية، هذا هو الصحيح المشهور في اسمه واسم أبيه، ويقال نضلة بن عمرو ويقال نضلة بن عبد الله. قال الحاكم في «تاريخ نيسابور» : وقيل اسمه عبد الله بن نضلة، وقيل نضلة بن دينار. قال: وقيل كان اسمه نضلة بن دينار فسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله، وقال: «دينار» شيطان (الأسلمي) من ولد أسلم بن أقصى بن حارثة (رضي الله عنه) وأبو برزة كنية انفرد بها لا يعرف في الصحابة من يكنى بها غيره، كما قاله الحافظ أبو الفضل محمد بن ناصر بن محمد بن علي البغدادي في التنبيه على الغربيين وذكره الحاكم في الكنى المفردة، ومعناه: ليس في الناس من يكنى بها غيره ومراده من قبله، وإلا فقد كنى بها بعده أبو برزة الفضل بن محمد الحاسب. أسلم أبو برزة قديماً وشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتح مكة، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستة وأربعون حديثاً، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بأربعة. نزل البصرة وولده بها ثم غزا خراسان. وقيل: إنه رجع البصرة وبها توفي، وقيل توفي بخراسان في خلافة معاوية أو يزيد، وقيل توفي سنة ستين، وقيل سنة أربع وستين اهـ. ملخصاً من «التهذيب» للمصنف. (قال: قال رسول الله: لا تزول قدما عبد) أي من موقفه للحساب إلى جنة أو نار (حتى يسأل) بالبناء للمفعول (عن عمره) بضم أوليه ويسكن ثانيه تخفيفاً: أي حياته وبقائه في الدنيا (فيما أفناه) في طاعة أم معصية، فما استفهامية فيه وفيما بعده وإثبات ألفها مع كونها مجرورة قليل والكثير حذفها (وعن عمله فيما

فعل فيه) لوجه الله تعالى خالصاً فيثاب عليه، أو رياء وسمعة فيعاقب عليه إن شاء الله تعالى. (وعن ماله من أين اكتسبه) أمن حلال ذلك أو حرام (وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه) في طاعة مولاه أم في سواه، ويستثنى من ذلك الأنبياء وبعض صالحي المؤمنين كالذين يدخلون الجنة بغير حساب (رواه الترمذي) في أبواب الزهد من «جامعه» (وقال: حديث حسن صحيح) وطريقه واحد، فالتقدير على ما قرره الحافظ العسقلاني في مثله كما تقدم حسن أو صحيح. 13408 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قرأ رسول الله: يومئذٍ تحدث أخبارها ثم قال أتدرون ما أخبارها؟) المحدثة بها (قالوا: الله ورسوله أعلم) أي عالم، وليس مرادهم أن عندهم به علم، وا ورسوله أعلم بذلك منهم فأفعل فيه بمعنى أصل الفعل، ويحتمل كونه على ظاهره وسكوت العالم إما أدباً أو لزيادة استبصار ووقوف على ما لم يعلم (قال: فإن أخبارها أن تشهد) بلسان قالها كما هو الظاهر ولا مانع منه لأنه ممكن وهو أبلغ في إلزام الحجة (على كل عبد أو أمة بما علم على ظهرها) الظاهر أن العموم فيه مخصوص بغير ذي الأعمال المكفرة، ويحتمل عموم الخبر لهم ويكون شهادتها بذلك تذكيراً لمزيد إنعام الله عليه حيث سامحه بسوء عمله ولم يعاقبه عليه بل أثابه من فضل، وقوله: (تقول عمل كذا وكذا في يوم كذا وكذا) تفصيل للشهادة وبيان لكيفتها وكذا كناية عن مقدار الشيء وعدته، وتكون كناية عن الأشياء فتقول فعلت كذا وقلت كذا، قال: فإن قلت: فعلت كذا وكذا فلتعدد الفعل، والأصل ذا ثم أدخل عليه كاف التشبيه بعد زوال معنى التشبيه والإشارة، وجعل كناية عما يراد به وهو معرفة فلا يدخله أل قاله في «المصباح» (فهذه

أخبارها) بفتح الهمزة جمع خبر (رواه الترمذي) في الزهد والتفسير من «جامعه» (وقال حديث حسن) ورواه النسائي في التفسير. 14409 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «كيف أنعم) بفتح العين من النعمة بفتح النون: وهي المسرة والفرح. قال في «المصباح» : نعم عيشه ينعم من باب تعب: اتسع ولان: أي كيف أتسع في الدنيا وألتذ بها. قال المظهري: أي كيف أطيب عيشاً وقد قرب أمر الساعة وكأنه خاف على أصحابه منها، وقد علم أنها لا تقوم إلا على أشرار الناس، أو حثّ لأصحابه على الوصية لمن بعدهم بالتهيؤ لها (وصاحب القرن) أي الصور يعني الملك الموكل به وهو إسرافيل (قد التقم القرن) أي وضع فاه عليه: قال المظهري في «المفاتيح» : يقال التقمت اللقمة: أي ابتلعتها يعني وضع الصور في فمه (واستمع) أي أصغى (الإذن) يحتمل أن يكون مفعولاً به أي يستمعه وينظر وأن يكون مفعولاً له (متى يؤمر بالنفخ) أي بنفخ الصور (فينفخ) أي عقب الأمر فحينئذٍ يصعق من في السموات والأرض: أي يموت (فكأن ذلك) أي المذكور من قرب الساعة، وهي إنما تقوم على الأشرار (ثقل) بفتح المثلثة وضم القاف: أي عظم ومصدره ثقل بوزن عنب كما في «المصباح» : أي فكأنه ثقل (على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال) أي النبيّ (لهم: قولوا حسبنا) أي محسبنا وكافينا من أحسبه الشيء أي كفاه وهو خبر والمبتدأ هو (اونعم الوكيل) أي الموكول إليه والمخصوص بالمدح مضمر بعد الواو والجملة الفعلية خبره، والأصح وقوع الجملة الإنشائية خبراً بلا تأويل وفي الكلام عطف خبرية على مثلها. قال في «المفاتيح» : والدليل أن حسبك بمعنى محسبك وقوعه صفة للنكرة في نحو مررت برجل حسبك فلو لم يصح لكان اسم فاعل، وإضافته على معنى الانفصال لما وصف به النكرة لأنه مضاف لمعرفة (رواه الترمذي) في أبواب الزهد من «جامعه» (وقال: حديث حسن) ورواه

النسائي في التفسير من طريق عن أبي هريرة بنحوه (القرن) بفتح القاف وسكون الراء مضاف لمعرفة (الصور) بضم الصاد المهملة وسكون الواو وبالراء (الذي قال الله تعالى) أي فيه (ونفخ في الصور، كذا فسره رسول الله) قلت: رواه أحمد والترمذي وأبو داود والحاكم عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما عن النبيّ قال: «الصور قرن ينفخ فيه» وفي الترمذي بيان سببه قال: «قال أعرابيّ: يا رسول الله ما الصور؟ قال: قرن ينفخ فيه» قال ابن رسلان: قوله الصور قرن هو على هيئة البوق دائرة رأسه كعرض السموات والأرض، ولأبي الشيخ في كتاب العظمة من حديث أبي هريرة «إن الله تعالى لما خلق السموات والأرض خلق الصور فأعطاه إسرافيل، فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر» . وفي رواية لأبي الشيخ «فأطرق صاحب الصور وقد وكل به مستعداً ينظر نحو العرش مخافة أن يؤمر قبل أن يرتدّ إليه طرفه كأن عينيه كوكبان دريان» وإسنادهما جيد اهـ. 15410 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله «من خاف) أي خاف البيات (أدلج) أي هرب في أوّل الليل (ومن أدلج بلغ المنزل) الذي يأمن فيه البيات. قال العاقولي: هذا مثل طالب الآخرة وكون الشيطان على طريقه، فإن تبتل بالطاعة وصبر مدة أيامه القلائل أمن فيه الشيطان. وقال المظهري: أي من خاف الله فليهرب من المعاصي إلى طاعته تعالى (ألا) أداة استفتاح (إن سلعة ا) بكسر السين المهملة وجمعها سلع فهي كسدرة وسدر. والسلعة: المتاع (غالية) بالمعجمة: أي رفيعة القيمة (ألا إن سلعة ا» ) هي الجنة وهي عزيزة لا يليق بثمنها إلا بذل النفس والمال (رواه الترمذي) في باب الزهد (وقال: حديث حسن) وروى عن مطرف عن أبي سعيد، وقيل عن ابن عباس اهـ. (وأدلج بإسكان الدال) المهملة وبالجيم معناه (سار من أول الليل) وهو أنسب بالحديث لكونه أدل على مزيد الاهتمام والاعتناء وأمكن في القصد للبعد عن العدو، وما ذكره المصنف هو ما في «النهاية» وزاد فيها «وادّلج» بالتشديد: إذا سار من آخره، والاسم منها الدلجة بالضم والفتح،

ومنهم من يجعل الإدلاج أي بوزن إكرام مصدر أدلج بالتخفيف لليل كله ولم يفرق بين أوله وآخره، وأنشدوا لعلي: اصبر على السير والإدلاج في السحر اهـ. قلت: وجرى على هذا الأخير صاحب «المصباح» ، وعبارته أدلج إدلاجاً مثل أكرم إكراماً: سار الليل كله فهو مدلج، وإن خرج آخر الليل فقد ادّلج بالتشديد اهـ. وكأن المصنف جرى على القول المذكور في الأصل لأنه أنسب بالحديث لما ذكرنا (والمراد التشمير في طاعة ا) أي إنه تمثيل لذلك كما سبق عن العاقولي وإلا فلا مسافة حسية تقطعها بسيرك ليلاً، إنما هي المجاهدات المورثة بالفضل الإلهي للمشاهدات. 16411 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يحشر الناس) عامّ مخصوص فقد جاء في صحيح مسلم «أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام ثم أكسى» الحديث (يوم القيامة حفاة) بضم أوله المهمل وبالفاء جمع حاف: وهو الذي لا حذاء في رجله ولا خف (عراة) بالضبط المذكور جمع عار وهو الذي لا ثوب ببدنه (غرلاً) أي غير مختونين، والفائدة في خلق الجلدة المقطوعة من الذكر والعلم عند الله تعالى التنبيه على إحكام خلقته إذ خلقه للأبد لا للفناء إذ لم ينقص من أعضائه بل أعيد كاملاً، أو أنه التزم عوده كما كان، قاله المظهري والثلاثة منصوبة على الحال من الفاعل (قلت: يا رسول الله الرجال والنساء جميعاً) منصوب على الحال من الرجال الفاعل بمحذوف دل عليه ما قبله: أي الحشر حال كونهم مجموعين، وقولها (ينظر بعضهم إلى بعض) يحتمل أن يكون حالاً من ذلك أو من ضمير جميعاً المستكن فيه وأن تكون مستأنفة لبيان السؤال عن جميعهم في الحشر (فقال يا عائشة الأمر) أي هول الأمر وشدته (أشد من أن يهمهم) بفتح التحتية وضم الهاء أو بضم التحتية وكسرها قال. في «المصباح» : يقال أهمني الأمر بالألف: أقلقني، وهمني هما من باب قتل مثله (ذلك» ) أي النفوس إنما تنظر لذلك عند الاستراحة وهم في

51 ـــ باب الرجاء

هول يذهل به الخليل عن خليله كما تقدم أوّل الباب. (وفي رواية) هي «للصحيحين» أيضاً كما في «المشكاة» وهي عند النسائي وابن ماجه كما في «الجامع الكبير» ( «الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض» ) جاء في رواية ابن مردويه عن ابن عمر مرفوعاً «قالت عائشة: ينظر بعضهم إلى بعض، قال: شغل الناس يومئذٍ عن النظر وسموا بأبصارهم إلى السماء موقوفون أربعين سنة لا يأكلون ولا يشربون» (متفق عليه) أخرجه البخاري في الرقاق ومسلم في أبواب صفة الجنة والنار (غرلاً بضم الغين المعجمة) وسكون الراء (أي غير مختونين) في «المصباح» : الغرلة مثل القلفة وزناً ومعنىً، وغرل غرلاً من باب تعب: إذا لم يختن فهو أغرل والأنثى غرلاء والجمع غرل من باب أحمر اهـ. والله أعلم. 51 - باب الرجاء بفتح الراء وبالمد: هو ضد الخوف، وعرف بأنه تأمل الخبر وقرب وقوعه. ويطلق على الخوف ومنه قوله تعالى: {مالكم لا ترجون وقاراً} (نوم: 13) وقال الراغب في «مفرداته» : قيل مالكم لا تخافون؟ ووجه ذلك أن الرجاء والخوف يتلازمان. وفي «الرسالة القشيرية» : الرجاء تعليق القلب بمحبوب في المستقبل، والفرق بينه وبين التمني أن التمني يصاحبه الكسل ولا يسلك صاحبه طريق الجد وضده صاحب الرجاء، وقدم المصنف الخوف عليه لأنه باعتبار نتائجه من باب التخلية بالخاء المعجمة إذ ينتج ترك المخالفة، والرجاء من باب التحلية بالمهملة إذ يبعث على صالح العمل إذ لولا الرجاء لما وجد عمل، أما تمني الثواب لا مع صالح العمل فذلك أمنية وليس من الرجاء في شيء. وفي الحديث عن شداد بن أوس عن النبيّ «الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني» رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم في «المستدرك» .

(قال الله تعالى) : {قل يا عبادي} ) إضافتهم إليه إضافة تشريف وتكريم ليذهب عنهم ما عداهم من خشية المعصية وبعد المخالفة، وتخصيصهم بالمؤمنين على ما هو عرف القرآن ( {الذين أسرفوا على أنفسهم} ) أفرطوا في الجناية عليها بالإسراف في المعصية ( {لا تقنطوا من رحمة ا} ) لا تيأسوا من مغفرته أوّلاً وتفضله ثانياً ( {إن الله يغفر الذنوب جميعاً} ) عفوا ولو بعد بعدا وتقييده بالتوبة خلاف الظاهر، ويدل على إطلاقه فيما عدا الشرك قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} (النساء: 48) الآية والتعليل بقوله ( {إنه هو الغفور الرحيم} ) للمبالغة وإفادة الحصر والوعد بالرحمة بعد المغفرة وتقديم ما يستدعي عموم المغفرة مما في عبادي من الدلالة على الذلة والاختصاص المقتضين للترحم وتخصيص ضرر الإسراف بأنفسهم، والنهي عن القنوط مطلقاً عن الرحمة فضلاً عن المغفرة وإطلاقها وتعليله بأن الله يغفر الذنوب، ووضع اسم الله موضع الضمير لدلالته على أنه المستغني والمنعم على الإطلاق والتأكيد، وما روي من خصوص نزولها بعياش أو الوليد بن الوليد بن جماعة فتنوا فافتتنوا، أو في وحشي لا ينفي عمومها إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. (وقال تعالى) : {وهل يجازى إلا الكفور} ) أي هل يجازى بمثل ما فعلنا بهم إلا البليغ في الكفران أو الكفر، وفيه إيماء إلى أن المؤمنين لا يجازون كذلك للغفران الكائن لهم بشرف الإيمان. (وقال تعالى) مخبراً عن موسى وهارون ( {إنا قد أوحي إلينا أن العذاب} ) وهو عبارة عن الألم مع الإماتة ( {على من كذب وتولى} ) وفيه إيماء إلى سلامة من أمن من ذلك، ولا ينافيه ما ورد من تعذيب قوم من أهل التوحيد لأنه ليس لإهانتهم بل لتطهيرهم لما حصل لهم من دنس المخالفة حتى يتأهلوا لدخول الجنة والحلول بها.e جعلنا الله من أهل الجنة بمحض الفضل والمنة. (وقال تعالى:

{ورحمتي وسعت كل شيء} ) (الأعراف: 156) المؤمن والكافر. قال البيضاوي: وهذا في الدنيا، وأما في الآخرة قوله: {فسأكتبها للذين يتقون} (الأعراف: 156) الآية. 1412 - (وعن عبادة بن الصامت) الأنصاري الخزرجي تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب الأمر بالمعروف (قال: قال رسول الله: من شهد) أي علم (أن لا إله) أي لا معبود بحق في الوجود (إلا ا) بالرفع بدلاً من محل اسم لا قبل دخولها ولا يجوز الإبدال من محله بعد دخولها لأنها لا تعمل في المعارف، وفي إعرابها بسط ذكرته في باب فضل الذكر وباب التشهد من «شرح الأذكار» (وحده) أي منفرداً بالألوهية وغيرها من أوصاف الكمال (لا شريك له) في ذلك ولا في شيء من أوصافه ولا من أفعاله بل كان ما في الوجود خلق الله وحده، والمراد من صدّق بمضمون ذلك وأذعن له بجنانه ونطق به بلسانه، فإن منع من النطق مانع من خرس أو معالجة منية فهو مؤمن، وإلا فنقل المصنف في أوّل شرح مسلم الإجماع على كفره. وعورض بأن الغزالي نقل فيه عن جمع أنه مؤمن عاص بترك النطق بها (و) شهد (أن محمداً عبده) هو أشرف أوصافه فلذا ذكره به في الكتاب في أشف المواطن كمقام الإسراء وإنزال الكتاب عليه ولذا قدمه على قوله (ورسوله) وفيه إيماء إلى ما جنح إليه ابن عبد السلام في تفضيل النبوّة لتعلقها بالحق على الرسالة لتعلقها بالخلق، وذلك لأنه قدم العبودية لكونها إضافة إلى الحق له بها شرف على الخلق، والرسالة ليست كذلك وإن كان الأصح عند الجمهور تفضيل الرسالة لوجود التعلق بالحق فيها كالنبوة وزيادتها بالإبلاغ للخلق (وأن عيسى) اسم معرب يسوع كما في البيضاوي، قال: واشتقاقه من العيس وهو بياض تعلوه حمرة تكلف لا طائل تحته (عبد ا) خصه بالذكر رداً على النصارى في إنكارهم ذلك، وقولهم إنه ابنالله، تعالى الله عن ذلك (ورسوله) إلى بني إسرائيل (وكلمته) سمي به لأنه وجد بأمره تعالى دون أب فشابه البدعيات التي هي عالم الأوامر، قال الشيخ أكمل الدين في «شرح المشارق» : وسماه كلمة مبالغة لأنه تكلم في غير أوانه، وأضيف إلى الله تعالى تعظيماً (وروح منه) سماه روحاً لأنه أحيى به الأموات فكان كالروح وأحيى به القلوب من

موت الجهالة، أو لأنه حدث من نفخ الروح كما قال تعالى: {فنفخنا فيها من روحنا} (الأنبياء: 91) قيل كان النافخ جبريل وإضافته إلى الله تعالى لأنه كان بأمره. وفي «تفسير البيضاوي» أي ذي روح صدر منه لا يتوسط ما يجري مجرى الأصل والمادة (والجنة والنار) بالنصب عطفاً على ما قبله: أي وشهد أنهما (حق) أي ثابتان موجودان، وأفرد الخبر مع تثنية المخبر عنه إما لأنه مصدر أو لإرادة كل واحدة منهما (أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) أي على أي عمل كان سيئاً أو حسناً، وهو حال نحو رأيت فلاناً على أكله: أي آكلاً وفيما نحن فيه لا يجوز أن يقدر عاملاً، لأن العمل غير حاصل وقت الدخول فيقدر مستحقاً بما يناسب عمله من الثواب والعقاب، يعني من مات على الإيمان لا تخرجه الكبائر عن إيمانه فيدخل الجنة، أما كونه ابتداء أو بعد دخول النار فمفوض إلى مشيئة الله تعالى. قال الطيبي في «شرح المشكاة» : لا يتصوّر هذا في حق العاصي الذي مات قبل التوبة إلا إذا دخل الجنة قبل استيفاء العقوبة. فإن قلت: ما ذكرت يستدعى أن لا يدخل أحد من عصاة المؤمنين النار. قلت: اللازم عموم العفو وهو لا يستلزم عدم دخول النار لجواز أن يعفو عنهم بعد دخولها قبل استيفاء العذاب، فليس يحثم عندنا أن يعذب بالنار أحد من الأمة بل الواجب العفو عن الجميع بموجب وعده حيث قال {إن الله يغفر الذنوب جميعاً} (متفق عليه) رواه البخاري في أحاديث الأنبياء، ومسلم في الإيمان ورواه النسائي في «اليوم والليلة» وفي التفسير من «سننه» كذا قاله المزي في «الأطراف» . (وفي رواية لمسلم) أي عن عبادة بن الصامت أيضاً رواه الإمام أحمد والترمذي قاله في «الجامع الصغير» : وقال الحافظ المزي: أخرجه مسلم والترمذي في الإيمان وأخرجه النسائي في «اليوم والليلة» ، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه (من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) ويلزم من شهادته برسالته شهادته برسالته بسائر الأنبياء لأن النبي جاء بذلك (حرم الله عليه النار) أي الخلود فيها، وأول الحديث كما في مسلم عن الصالحي قال: «دخلت على عبادة بن الصامت وهو في الموت فبكيت، فقال لي: مهلاً لم تبك؟ فوا لئن استشهدت لأشهدن

لك، ولئن شفعت لأشفعن لك، ولئن استطعت لأنفعنك، ثم قال: وا ما من حديث سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكم فيه خير إلا حدثتكموه إلا حديثاً واحداً وسوف أحدثكموه اليوم وقد أحيط بنفسي سمعته يقول: من شهد الخ» . 2413 - (وعن أبي ذرّ) الغفاري (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: يقول الله عزّ وجل) فيه دليل على عدم كراهة استعمال المضارع فيه، لأن المراد به الدلالة على دوام ذلك وعدم انقطاعه خلافاً لمن كرهه من السلف لما يدل عليه من التجدد والحدوث، وأوصاف الله تعالى قديمة أزلية، والحديث من الأحاديث القدسية (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) أي عشر حسنات أمثالها فضلاً من ا؛ أي جزاؤها مكرراً عشر، لا أنه يكرّر نفس الحسنة كذلك، وقد نبه الشيخ زكريا في سورة النساء من «حاشيته» على البيضاوي على أن هذا أقلّ مراتب المضاعفة ولذا قال (أو أزيد) وأو فيه يحتمل أن تكون بمعنى بل: أي بل أزيد من ذلك كما قال تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة} (البقرة: 245) . (وقال تعالى) : {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} ) . وقال تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} (السجدة: 17) قال البيضاوي: وهذا أي العشر أقل ما وعد من الأضعاف، وقد جاء الوعد بسبعين وسبعمائة وبغير حساب، ولذا قيل المراد بالعشرة الكثرة دون العدد (ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة سيئة مثلها) قضية العدل (أو أغفر) فضلاً وإحساناً وانظر إلى ما انطوى عليه هذا الحديث من اللطف في جانب الحسنة إضافتها للجائي بها باللام الدالة على الاختصاص تشريفاً وتكريماً، وفي جانب السيئة ترك ذلك إيماء إلى قبح المعصية وأن حقها أن تباعد وتزايل حتى لا تنسب لأحد (ومن تقرب مني) أي من فضلي ورحمتي (شبراً) بالمبالغة في المجاهدة وأداء واجب الألوهية (تقربت منه) أي بفضلي وتوفيقي (ذراعاً ومن تقرب مني) بذلك (ذراعاً) وهو دون ما قبله (تقربت منه باعاً) ففيه أن الجزاء على قدر العمل وبحسبه، والباع والبوع بضم الموحدة وفتحها طول ذراعي الإنسان وعضده

وعرض صدره: قال الباجي: وهو قدر أربعة أذرع (ومن أتاني يمشي) وأسرع نحو طاعتي (أتيته هرولة) أي صببت عليه الرحمة وسبقته بها ولم أحوجه إلى مزيد مشي في وصوله لمراده، والمقصود أن جزاءه يكون على حسب عمله وتقربه، والهرولة بفتح الهاء وسكون الراء وهي إسراع في المشي دون الخبب، قال المصنف: هذا الحديث من أحاديث الصفات، ومستحيل إرادة ظاهره لما فيه من باب التمثيل كما سيأتي قال القرطبي إن قيل مقتضى ظاهر الخطاب أن جزاء الحسنة بمثلها إذ الذراع شبران والباع ذراعان وتقدم في الكتاب والسنة أن أقل ما يجازى على الحسنة بعشرأمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف لا تحصى فما وجه الجمع؟ قلنا: هذا الحديث ما سيق لبيان مقدار عدد الأجور وعدد تضاعيفها، وإنما سيق لتحقيق أن الله تعالى لا يضيع عمل عامل قليلاً كان أو كثيراً، وأن الله يسرع إلى قبوله وإلى مضاعفة الثواب عليه إسراع من جيء إليه بشيء فبادر لأخذه وتبشبش له بشبشة من سرته ووقع منه الموقع، ألا ترى إلى قوله: وإن أتاني يمشي أتيته هرولة وفي لفظ آخر «أسرعت إليه» ولا تتقدر الهرولة والإسراع بضعفي المشي، وأما عدد الأضعاف فيؤخذ من حديث آخر لا من هذا الحديث اهـ. وما ذكره من أن الباع ذراعان مخالف لما نقله المصنف عن الباجي من أنه أربعة أذرع (ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة) تمييز لقراب الأرض: أي بما يقارب ملأها من الخطايا لو ككان جسماً وجرماً وقوله (لا يشرك بي شيئاً) جملة في محل الحال من فاعل لقى (لقيته بمثلها مغفرة، رواه مسلم) في كتاب الدعوات ورواه ابن ماجه في فضائل التسبيح. (ومعنى الحديث) أن قوله تعالى فيه «من تقرّب مني شبراً» إلى قوله «أتيته هرولة» ليس على ظاهره لاستحالته على الباقي لما فيه من اعتوار الحركة وغيرها عليه تعالى عن ذلك، بل معناه: من تقرب إلى بطاعتي تقربت إليه برحمتي، وإن زاد زدت. فظاهره أن قوله: وإن زاد زدت، تفسير للمراد من قوله: ومن تقرب مني ذراعاً، وفيه ما لا يخفى بل الظاهر أنها أومأت إلى جزاء العامل على عمله الصالح وإن قل، فالجملة الأولى لبيان عظم الثواب على كثرة العمل ومزيد المجاهدة، والثانية لبيان حصول ثواب العمل وإن قل {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً} (الكهف: 30) والله أعلم. (وإن أتاني) أي أقبل على طاعتي

(يمشي) أي يجد ويجتهد (وأسرع في طاعتي) حسب طاقته فيها ولم يقدم عليها علائقه (أتيته هرولة: أي صببت عليه الرحمة صباً وسبقته بها، ولم أحوجه إلى المشي الكثير في الوصول إلى المقصود) قال القرطبي: هذه الجمل أمثال ضربت لمن عمل من الطاعات وقصد به التقرب إلى الله تعالى تدل على أنه تعالى لا يضيع أجر محسن وإن قل عمله، بل يقبله ويثيبه مضاعفاً، ولا يفهم من الحديث الخطا بنقل الأقدام إلا من ساوى الحمر في الأفهام اهـ. (وقراب الأرض بضم القاف، ويقال) فيما نقله القاضي عياض وغيره (بكسرها) مصدر قارب الأمر: إذا داناه، يقال لو أن لي قراب هذا ذهباً: أي ما يقارب ملأه ولو جاء بقراب الأرض بالكسر أيضاً بما يقاربها اهـ. (والضم أفصح وأشهر) مقتضى كلامه في «شرح مسلم» أن الكسر قريب، وعبارته فيه بضم القاف على المشهور فيخالف ما هنا من أن الكسر مشهور إلا أن الضم أشهر منه ولا مخالفة تأمل. (ومعناه: ما يقارب ملأها) بكسر الميم (والله أعلم) . 3414 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: جاء أعرابي) واحد الأعراب وهم سكان البادية من العرب (إلى النبي فقال: يا رسول الله: ما الموجبتان؟ قال) أي النبي (من مات لا يشرك با شيئاً) أي من الشرك الجلي أو من المعبودات: أي وحد الله تعالى وأفرده بالعبودية (دخل الجنة) قال المصنف: هذا مما أجمع عليه المسلمون ابتداءً مع الفائزين إن لم يمت مصرّاً على الكبائر، وإن مات مصرّا عليها فهو تحت المشيئة إن شاء عذبه ثم أدخله الجنة» وإن شاء أدخله إياها ابتداءً بفضله (ومن مات يشرك به شيئاً) من الشرك الجليّ أو من المعبودات (دخل النار) وخلد فيها ولم يخرج منها أبداً لا فرق بين كتابي وعابد وثن وسائر

الكفرة، ولا فرق عند أهل الحق بين الكافر عناداً وغيره، ولا بين من خالف ملة الإسلام ولا من انتسب إليها، ثم حكم بكفره يجحده ما يكفر بجحده أو غير ذلك. أما الشرك الخفي من الرياء والسمعة فلا يقتضى أن يؤيد في النار إذا مات صاحبها على الإيمان (رواه مسلم) في كتاب الإيمان. 4415 - (وعن أنس رضي الله عنه أن النبيّ، ومعاذ) كذا وقفت عليه في نسخ الرياض بالرفع وهو مبتدأ خبره قوله (رديفه) بفتح الراء وكسر المهملة وقوله (على الرحل) متعلق بالخبر والجملة اعتراضية بين اسم إن وخبرها وهو قوله (قال يا معاذ؟ قال لبيك) بتشديد الموحدة، أي إجابة بعد إجابة، وقيل قربا منك وطاعة لك، وقيل أنا مقيم على طاعتك، وقيل محبتي لك، وقيل غير ذلك (وسعديك) أي ساعدت طاعتك مساعدة لك بعد مساعدة فهما مثنيان مراداً منهما التكثير (قال: يا معاذ، قال لبيك يا رسول الله وسعديك، قال يا معاذ، قال لبيك يا رسول الله وسعديك ثلاثاً) ظرف لمقرر مقدر وتكرير نداء معاذ لتأكيد الاهتمام بما يخبره به وليكمل تنبه معاذ فيما يسمعه، وثبت في الصحيح «أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً لهذا المعنى» قاله المصنف (قال ما من) مزيدة لتأكيد عموم النفي (عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله صدقاً) حال: أي حال كونه صادقاً في ذلك، أو مفعول مطلق: أي شهادة صدقاً أو شهادة صدق فأقيم المضاف مقامه فانتصب انتصابه (من قلبه) وهذا القيد لإخراج شهادة اللسان إذا لم يطابقها الجنان كالمنافقين (إلا حرّمه الله على النار) أي الخلود فيها فلا ينافي تعذيب بعضهم (قال) أي معاذ (يا رسول الله ألا أخبر بها الناس) إدخالاً للسرور عليهم وحثاً على صدق الإيمان وتحريضاً على الإخلاص (فيستبشروا، قال إذاً يتكلوا) أي يتركوا الأعمال ويتكلوا على ذلك فيفوتهم

بذلك عالي المنازل في العقبى، وهو لمزيد اهتمامه بأمته واعتنائه بشأنهم لا يريد لهم إلا المنازل العلى، فأشار إلى معاذ بالترك لأنه رأى الثمرة المترتبة عليه أتم من المترتبة على الإعلام (فأخبر بها) أي بالبشارة المدلول عليها بقوله: يستبشرون (عند موته تأثماً) مفعول له: أي خروجاً من إثم كتم ما للناس إليه حاجة من الشريعة، وقد جاء الوعيد الشديد في الكتم، قال تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى} (البقرة: 159) الآية. (متفق عليه) أخرجاه في الإيمان. (قوله تأثماً أي خوفاً من الإثم) الكائن أو كائناً (في كتم هذا العلم) أي كتم هذا القدر منه. 5416 - (وعن أبي هريرة أو أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما) وقوله (شك الراوي) أي هو الأعمش كما في «صحيح مسلم» بيان لأن أو للتردد والشك في عين الراوي منهما (ولا يضرّ الشك في عين الصحابي لأنهم كلهم عدول) من خالط الفتن ومن اعتزلها لأنهم فيها بين مجتهد مصيب فله أجران أو مخطىء فله أجر، وإذا كانوا كذلك فلا غرض في تعيين الراوي منهم. وقد قال علماء الأثر إذا قال الراوي: حدثني فلان أو فلان وهما ثقتان احتج به بلا خلال لأن المقصود الرواية عن ثقة سمي وقد حصل. وهذه قاعدة ذكرها الخطيب البغدادي في «الكفاية» وذكرها غيره وهي في غير الصحابي، ففي الصحابي أولى لعدالتهم أجمعين، قاله المصنف في «شرح مسلم» (قال: لما كان يوم) المراد به هنا الزمن أي زمن (غزوة تبوك) تقدم ضبطه وبيان جواز صرفه وعدمه ووجه تسميته بذلك وبيان تاريخ الغزوة في باب التوبة أول الكتاب (أصاب الناس مجاعة) قال في «النهاية» : مفعلة من الجوع اهـ. ومقتضى قول «الصحاح» وقد جاع يجوع جوعاً ومجاعة أنه مصدر ميمي والجوع ضد الشبع (قالوا: يا رسول الله) استئناف بيان كأنه قيل ماذا قالوا حينئذٍ؟ فقال قالوا يا رسول الله (لو

أذنت لنا) أي في نحر دوابنا المأكولة كما يدل عليه ما بعده، ولو في للتمني فلا جواب لها، ويحتمل كونها الشرطية والجواب محذوف: أي لو أذنت لنا في نحرها (فنحرنا نواضحنا) جمع ناضح أصله البعير الذي يستقى عليه الماء قال في «المصباح» : ثم استعمل في كل بعير وإن لم ينضح عليه ومنه حديث «أطعمه ناضحك» أي بعيرك. قلت: وما هنا محتمل لذلك (فأكلنا) لحومها (وادهنا) من شحومها، وقال صاحب «التحرير» : ليس المقصود منه ما هو المعروف من الادّهان إنما معناه: لو اتخذنا من شحومها لارتفقنا بذلك أو لكان خيراً أو لكان صواباً أو رأياً مبيناً أو مصلحة ظاهرة وما أشبه ذلك، وعلى كونها شرطية محذوفة الجواب جرى المصنف في «شرح مسلم» : ثم قال: وقولهم «لو أذنت لنا» هذا من أحسن أدب خطاب الكبار والسؤال منهم، وهو أجمل من قولهم للكبير: افعل كذا بصيغة الأمر، وفيه أنه لا ينبغي للعسكر أن يضيعوا دوابهم التي يستعينون بها في القتال بدون إذن الإمام، ولا يأذن لهم إلا إذا رأى مصلحة أو خاف مفسدة ظاهرة اهـ. (فقال رسول الله: افعلوا) وذلك مراعاة لمصلحتهم وتقديم الأهم فالأهم وارتكاب أخفّ الضررين دفعاً لأشدهما ( فجاء عمر فقال: يا رسول الله إن فعلت قل الظهر) أي الدوابّ سميت بذلك لكونها يركب على ظهورها أو لكونها يستظهر بها ويستعان بها على السفر، وإسناد فعلهم وهو نحرها إليه مجاز عقلي لكونه عن أمره فهو كقولهم: بنى الأمير المدينة وفي الخبر جواز الإشارة على الأئمة والرؤساء وأن للمفضول أن يشر عليهم بخلاف ما رأوه (ولكن) استدراك عن معنى الكلام السابق: أي لا تنظر لمصلحتهم بذلك لئلا يقل الظهر ولكن انظر إليها بوجه آخر. وهو قوله (ادعهم بفضل أزوادهم) متعلق الظرف: أي يأتون به والجملة في محل الحال، والفضل بفتح الفاء وسكون الضاد مصدر فضل يفضل كنصر ينصر وجاء كنعت ينعت، وهو البقية: أي بالباقي من أزوادهم، وزاد المسافر طعامه المتخذ لسفره (ثم ادع الله عليها بالبركة) أتى بثم إشارة إلى تراخى اجتماعه وانضمامه عن أمرهم بذلك الذي عندهما يكون الدعاء (لعل الله

أن يجعل في ذلك) قال المصنف: كذا وقع في الأصول التي رأينا؛ وفيه محذوف تقديره: يجعل في ذلك بركة أو خيراً، فحذف المفعول به لأنه فضلة، وأصل البركة كثرة الخير وثبوته، وتبارك الله ثبت الخير عنده (فقال رسول الله: نعم) بفتح أوليه وهي هنا لكونها بعد الطلب للوعد فهو وعد منه بفعل ذلك لتصويبه له (قال: فدعا بنطع) فيه أربع لغات مشهورة أشهرها كسر النون مع فتح الطاء وبفتحها وفتح النون وكسرها مع سكون الطاء فيهما حكاه المصنف في «شرح مسلم» ولم يبين معناه، وكأنه لوضوحه قال في «المصباح» : هو المتخذ من الأديم معروف اهـ. (فبسطه) أي نشره (ثم دعا بفضل) أي بقية (أزوادهم قال) أي الصحابي الراوي (فجعل الرجل يجيء بكف) أي بمثله (ذرة) بتخفيف الراء: نوع من الحبوب معروف قال (ويجيء الآخر) بفتح الخاء المعجمة أي غير من قبله (بكف تمر) بفتح المثناة الفوقية، والإضافة فيه وفيما قبله بيانية من إضافة المميز إلى تمييزها كخاتم حديد إذ المراد بالكف هنا ملؤه كما قدرنا (ويجيء الآخر بكسرة) بكسر الكاف: القطعة المكسورة من الشيء ومنه كسرة الخبز وجمعها كسر كسدرة وسدر كذا في «المصباح» (حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير) حتى فيه غاية لمقدر أي جمعوا حتى اجتمع (فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبركة) في الإتيان بالفاء إيماء إلى مزيد اهتمامه بشأن أمته وبما ينفعهم (ثم قال: خذوا في أوعيتكم) أي واجعلوه: أي المأخوذ في أوعيتكم فمتعلق الظرف محذوف.I والأوعية بفتح الهمزة وسكون الواو وكسر العين المهملة جمع وعاء، وهو ما يوعى فيه الشيء أي يجمع (قال: فأخذوا في أوعيتهم حتى) عاطفة على عموم الآنية (ما) تركوا (في العسكري) وهو الجيش. قال ابن الجواليقي: فارسي معرب كذا في «المصباح» (وعاء إلا ملؤه قال فأكلوا) أي بعد ملء الأواعي (حتى شبعوا وفضل فضلة) تقدم أنه يجوز فتح العين في الغابر وضمها في المضارع وكسرها في الماضي وفتحها في المضارع وهما كما قال المصنف لغتان مشهورتان وأما فضل كعلم يفضل كينصر فمن باب التداخل (فقال رسول الله: أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله) فيه بيان كيفية إتيانه بشهادته لنفسه بالرسالة وجاء أنه أذّن فقال «وأشهد أن محمداً رسول الله» قال: وفيه أنه كان يجب عليه الإيمان برسالته ونبوته (لا يلقى الله بهما عبد) بعد موته (غير شاك) يجوز رفعه صفة لعبد، وهو الذي رأيته في أصل مصحح، ونصبه حالاً منه لتقدم النفي عليه، والمراد به إخراج المنافقين ممن قال ذلك بلسانه غير موقن بمضمونه بجنانه (فيحجب) بالنصب: أي فيمنع

(عن الجنة) بل لا بد من دخولها إما ابتداء مع الناجين، أو بعد إخراج من النار (رواه مسلم) في كتاب الإيمان. 6417 - (وعن عتبان بن مالك) بن عمرو بن العجلان بن زيد بن غنم بن سالم بن عوف بن الخزرج الأنصاري الخزرجي السالمي (رضي الله عنه) قال المصنف: كابن الأثير في «أسد الغابة» (وهو ممن شهد بدراً) قال ابن الأثير: ولم يذكره ابن إسحاق في البدريين وذكره غيره، ولم يخرج له الشيخان غير هذا الحديث الواحد، مات في خلافة معاوية وكان قائماً بديات قومه إلى أن مات رضي الله عنه (قال: كنت أصلي لقومي بني سالم) أي لأجلهم، والمراد أنه يؤمهم كما صرح به أبو داود الطيالسي إماماً بهم (وكان يحول بيني وبينهم واد إذا جاءت الأمطار) أي يحول السيل الكائن فيه عند مجيء الأمطار (فيشق على اجتيازه) أي الجواز فيه والمرور به (قبل) بكسر القاف وفتح الموحدة أي جهة (مسجدهم، فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت له: إني أنكرت بصري) كذا ذكره جمهور أصحاب الزهري، وهو عند البخاري ومسلم في بعض طرقه وعند مسلم من طريق أخرى «أصابني في بصري بعض العمى» وعند الطبراني «لما ساء بصري» قال الحافظ: وهو ظاهر في أنه لم يعم إذ ذاك، لكن أخرج البخاري من طريق أخرى عن محمود بن الربيع أنه كان يؤم قومه وهو أمي وأنه قال: يا رسول الله إنها تكون الظلمة والسيل وأنا رجل ضرير البصر، قلت: وعند مسلم في رواية أنه عمي وقد جمع المصنف في «شرح مسلم» بأنه أراد به بعض الشيء في تلك الرواية العمى، وهو ذهاب البصر جميعه. ويحتمل أنه أراد به ضعفه وذهاب معظمه، وسماه عمى في الرواية الأخرى لقربه منه ولمشاركته في فوات بعض ما كان حاصلاً في حال السلامة. قال الحافظ: ابن حجر: ويجمع بأن قوله إنه كان يؤمّ قومه وهو أعمى أراد أن عماه كان حين لقي محمود له وسمع فيه حديثه لا حين سأل عتبان النبيّ وقوله فيه له وأنا ضرير البصر كقوله أنكرت بصري. قال الحافظ: وجمع ابن خزيمة بأن قوله أنكرت بصري يطلق على

من في بصره سوء وإن أبصر بصراً ما وعلى من صار أعمى لا يبصر شيئاً اهـ. والأولى أن يقال أطلق عليه العمى لقربه منه ومشاركته له في فوات بعض ما كان يعهده حال الصحة، وبهذا تألف الروايات، انتهى كلام الحافظ (وإن الوادي الذي بيني وبين قومي يسيل) إسناد السيل إلى الوادي إسناد مجازي من إسناد ما للحال إلى المحل (إذا جاءت الأمطار فيشق) بضم الشين المعجمة أي يصعب (على اجتيازه فوددت) بكسر الدال الأولى: أي تمنيت، وحكى الفراء فتح الدال في الماضي والواو في المصدر والمشهور في المصدر الضم، وحكي أيضاً الكسر فهو مثلث وتقدم التنبيه عليه في باب فضل برّ أصدقاء الأب (أنك تأتي فتصلي) هو بإسكان الياء ويجوز النصب لوقوع الفاء بعد التمني (مكاناً) ظرف وقوله (اتخذه مصلى) صفة لمكان وعند البخاري فاتخذه، ويجوز فيه ما جاز في يصلي من الرفع والنصب (فقال رسول الله: سأفعل) في البخاري بزيادة إن شاءالله، قال الحافظ: هو للتعليق لا لمحض التبرك كذا قيل، ويجوز أن تكون للتبرك لاحتمال اطلاعه بالوحي على الجزم بوقوع ذلك. قلت: ويؤيده إدخال حرف التنفيس عليه وتقدم في «الكاشف» أنها في مثله للتأكيد، قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى: {أولئك سوف يؤتيهم أجورهم} (النساء: 152) ما لفظه: وتصديره بسوف لتأكيد الوعد والدلالة على أنه كائن لا محالة وإن تأخر، لكن اعترضه في «التقريب» بأن سوف للتأخير، وأما جزم وقوعه فمن خارج وهو قرينه إخباره به سبحانه (فغدا على رسول الله) زاد الإسماعيلي بالغدو، وعند الطبراني في بعض طرقه أن السؤال وقع يوم الجمعة وأن الوصول إليه كان يوم السبت (وأبو بكر رضي الله عنه) لم يذكر جمهور الرواة عن الزهري غيره حتى إن في رواية الأوزاعي «فاستأذنا فأذنت لهما» لكن عند مسلم في طريق «فأتاني ومن شاء الله من أصحابه» وللطبراني في طريق آخر «فجاءني في نفر من أصحابه» وجاء في رواية «ومعه أبو بكر وعمر» ويحتمل الجمع بأن أبا بكر صحبه وحده ابتداء ثم عند الدخول اجتمع عمر وغيره فدخلوا معه (بعد ما اشتد النهار) قال في «النهاية» أي علا وارتفعت شمسه (واستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأذنت له، فلم يجلس حتى قال: أين تحب أن

أصلي من بيتك؟) هذا لفظ إحدى روايات البخاري، وهو بين في المراد: أي إنه لم يجلس حتى صلى بخلاف ما وقع منه في بيت مليكة حيث جلس وأكل، ثم صلى لأنه هناك دعي إلى الطعام فبدأ به وهنا إلى الصلاة فبدأ بها، ثم هو هكذا عند رواة البخاري، ووقع عند الكشميهني وحده في بدلها (فأشرت له إلى المكان الذي أحبّ) أي أريد (أن يصلي فيه فقام رسول الله) أي شرع في الصلاة (وكبر وصففنا) المفعول محذوف: أي أنفسنا، ويمكن أن لا حذف، والمراد فحصل منا التصاف (وراءه فصلى ركعتين ثم سلم وسلمنا حين سلم) فيه صحة الجماعة في النافلة المطلقة وإن كانت لا تشرع فيها (فحبسته) عند البخاري فحبسناه: أي منعناه من الرجوع (على خزيرة) يأتي ضبطها ومعناه ففيه إكرام الضيف (تصنع له) في محل الصفة لما قبله (فسمع أهل الدار) أي المحلة لقوله: «خير دور الأنصار دار بني النجار: أي محلتهم» والمراد أهلها (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتي، فثاب رجال منهم) ثاب بالمثلثة وبعد الألف موحدة: أي اجتمعوا بعد أن تفقوا. قال الخليل: المثابة مجتمع الناس بعد افتراقهم ومنه قيل للبيت مثابة، وفي المحكم يقال ثاب إذا رجع وثاب إذا أقبل. قلت: وكلا المعنيين هنا محتمل (حتى كثر الرجال في البيت فقال رجل منهم) قال الحافظ: لم يسم هذا المبتديء (ما فعل مالك لا أراه) أي ابن الدخيشن أو الدخشن بالدال والحاء والشين المعجمتين والنون، شك فيه الراوي عند البخاري هل هو مصغر أو مكبر، وعند أحد رواة البخاري بالميم بدل النون قال الطبراني عن أحمد بن صالح الصواب الدخشيم بالميم. قال الحافظ: وهي رواية أبي داود الطيالسي وكذا لمسلم في بعض طرقه (فقال رجل) قيل هو عتبان، واستدل قائله لتسمية المبهم به بما لا دليل فيه على دعواه (ذلك منافق لا يحب الله ورسوله) تقدم أن محبة العبد وللرسول المراد منها انقياده لأحكامهما والدخول بالرضا تحت طاعتهما (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تقل ذلك) أي إنه منافق (ألا تراه) أي ما تعلمه (قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله تعالى) فيه شهادة

منه بالإيمان له، قال ابن عبد البر: لم يختلف في شهود مالك بدراً وهو الذي أسر سهيل بن عمرو، ثم ساق الحديث بإسناد حسن عن أبي هريرة أن النبيّ قال لمن تكلم فيه «أليس قد شهد بدراً» قال الحافظ العسقلاني: وفي مغازي ابن إسحاق «أن النبي بعث مالكاً ومعن بن عدي فحرقا مسجد الضرار» فدل على أنه برىء من النفاق، أو كان قد أقلع عن ذلك، أو النفاق الذي اتهم به نفاق العمل لا نفاق الكفر، وإنما أنكر عليه الصحابة لتردده للمنافقين ولعل له عذراً في ذلك كما وقع لحاطب (فقال: الله ورسوله أعلم، أمّا) بتشديد الهمزة أداة متضمنة لمعنى الشرط (نحن فوا لا نرى) أي نعلم (وده لا حديثه إلا إلى المنافقين) الظاهر أنه متعلق بوده، وإلى فيه بمعنى اللام فإن الود تعدى بها ومفعول حديثه محذوف (فقال رسول الله: إن الله قد حرم على النار من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله) وقوله (يبتغي بذلك) أي القول (وجه ا) لإخراج من نافق بها لحقن دمه وحفظ ماله فلا يكون كذلك، والمراد من تحريمها على المؤمن الحقيقي تحريم خلوده فيها كما تقدم أو تحريم الدخول في طبقة الكفار الخاصة بهم لا الطبقة المعدة لعصاة المؤمنين، أو المراد تحريم دخولها بشرط حصول قبول العمل الصالح والتجاوز عن السيء والله أعلم (متفق عليه) رواه البخاري في مواضع من «صحيحه» وهذا سياقه في بعضها، ورواه مسلم في كتاب الإيمان بنحوه (وعتبان بكسر العين المهملة) قال في «شرح مسلم» : وهذا هو الصحيح المشهور الذي لم يذكر الجمهور سواه. قال صاحب «المطالع» : وقد ضبطناه من طريق ابن سهل بالضم أيضاً اهـ. وكذا قال في «المغني» نقل عن الزركشي بكسر العين وقد تضم، ومقتضى قول الحافظ في «الفتح» بكسر العين ويجوز ضمها جوازهما معاً والله أعلم (وإسكان المثناة الفوقية بعدها باء موحدة) وبعد الألف نون (والخزيرة بالخاء المعجمة) المفتوحة (والزاي المكسورة) وحكى في المطالع أنها رويت في «الصحيحين» بحاءين وراءين مهملات (هي دقيق يطبخ بشحم) وقال ابن قتيبية: يصنع من لحم صغار ثم يصب عليه ماء

كثير فإذا نضج ذر عليه الدقيق فإن لم يكن فيه لحم فهو عصيدة، وكذا ذكره يعقوب وزاد من لحم بات ليلة، قال: وقيل حساء من دقيق فيه دسم، وحكى في «الجمهرة» نحوه. قال في النهاية: وزاد وقيل إذا كان من دقيق حريرة وإذا كان نخالة فخزيرة، وحكى الأزهري عن أبي الهيثم أن الحريرة من النخالة، وكذا حكاه البخاري في الأطعمة عن النضر بن إسماعيل، قال عياض: والمراد بالنخالة دقيق لم يغربل. قال الحافظ في «الفتح» : ويؤيد هذا التفسير قوله في رواية الأوزاعي عند مسلم «فحبسناه» على حشيشة بجيم ومعجمتين قال أهل اللغة: أن تطحن الحنطة قليلاً ثم يلقى فيها شحم أو غيره اهـ. (وثاب رجال بالثاء المثلثة) . وآخره باء موحدة (أي جاءوا واجتمعوا) تقدم بسطه. 7418 - (وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قدم) بالبناء للمفعول (على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبي) أحد الظرفين نائب الفاعل والآخر في محل الحال والسبى بفتح المهملة وسكون الموحدة مصدر سبى كرمي يرمى والمراد منه اسم المفعول أي المسبي (فإذا) فجائية (امرأة) مبتدأ وقوله (من السبى) في محل الصفة له والخبر جملة (تسعى) هذه رواية البخاري بالسين المهملة من السعي ورواية مسلم «تبتغى» بالموحدة والفوقية، من الابتغاء: وهو الطلب. قال القاضي عياض: ورواية مسلم وهم والصواب ما في رواية البخاري، قال المصنف كلاهما صواب لا وهم فيه فهي ساعية وطالبة ومبتغية لابنها (إذا) ظرفية مضمنة معنى الشرط: أي كل وقت (وجدت صبياً) الظاهر أن المراد به ما يشمل الأنثى أي رضيعاً (في السبى أخذته فألزقته ببطنها) رحمة له (فأرضعته) لذلك (فقال رسول الله: أترون) يحتمل أن تكون بفتح الفوقية: أي أتعتقدون، وأن يكون بضمها أي تظنون (هذه المرأة) مفعول أول على الأول وثان على الثاني، والمرأة نعت، واسم الإشارة بدل أو عطف بيان

عليه (طارحة) حال على الوجه الثاني و (ولدها) مفعول طارحة و (في النار) متعلق بطارحة (قلنا لا) أي لا نرى ذلك وأكد عدم اعتقاد ذلك بالقسم فقال (وا فقال) أي النبي (ا) وفي نسخة من البخاري وا» بإدخال لام القسم عليه وفي أخرى من غير قسم قبله فاللام حينئذٍ إما للتوكيد أو جواب قسم مقدر (أرحم بعباده من هذه بولدها. متفق عليه) أخرجه البخاري في الأدب ومسلم في التوبة. 8419 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: لما خلق الله الخلق كتب في كتاب) أي من صحف الملائكة وإلا فأقضية الله قديمة أزلية (فهو) ضمير شأن والخبر جملة إن مع اسمها وخبرها (عنده فوق العرش) ظرفان في محل الحال حذف عاملهما: أي أعنيه حال كونه عنده، عندية شرف ومكانة فوق العرش (إن رحمتي تغلب غضبي. وفي رواية) أي لهما (سبقت غضبي) قال المصنف: قال العلماء: غضب الله ورضاه يرجعان إلى معنى الإرادة، فإرادته الإثابة للمطيع، ومنفعة العبد تسمى رضاه ورحمته، وإرداته عقاب العاصي وخذلانه يسمى غضباً وإرادته سبحانه صفة له قديمة يريد به جميع المراد، قالوا: والمراد بالسبق والغلبة هذا كثرة الرحمة وشمولها كما يقال غلب على فلان الكرم والشجاعة إذا كثر منه اهـ. (متفق عليه) رواه البخاري في الرقاق، ومسلم في التوبة. 9420 - (وعنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: جعل الله الرحمة مائة جزء) قال الدماميني في «تعليق المصابيح على أبواب الجامع الصحيح» : اعلم أنه يجوز عند المتكلمين في تأويل ما لا يسوغ نسبته إلى الله تعالى على حقيقته اللغوية وجهان: أحدهما،

الحمل على الإرادة فيكون من صفات الذات، والآخر الحمل على فعل الإكرام فيكون من صفات الفعل، كالرحمة فإنها في اللغة مشتقة من الرحم، وحاصلها رقة طبيعية وميل جبلي، وهذا مستحيل من الباري سبحانه، فمنهم من يحملها على إرادة الخير، ومنهم من يحملها على فعل الخير، ثم بعد ذلك يتعين أحد التأويلين في بعض السياقات لمانع يمنع من الآخر. مثالها ههنا فيتعين تأويلها بفعل الخير لتكون صفة فعل فتكون حادثة عند الأشعري، فيتسلط الخلق عليها ولا يصح تأويلها هنا بالإرادة لأنها من صفات الذات فتكون قديمة فيمتنع تعلق الخلق بها ويتعين تأويلها بالإرادة في قوله تعالى: {لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم} (هود: 43) لأنك لو حملتها على الفعل لكانت العصمة بعينها فيكون استثناء الشيء من نفسه، وكأنك قلت: لا عاصم إلا العاصم، فتكون الرحمة الإرادة به والعصمة على بابها لفعل المنع من المكروهات كأنه قيل: لا يمتنع من المحذور إلا من أراد الله له السلامة اهـ. هذا، وقد جاء في رواية مسلم «كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض» (فأمسك عنده تسعة وتسعين) جزءاً، في رواية «وأنه أخر عنده تسعة وتسعين رحمة» (وأنزل في الأرض جزءاً واحداً) وفي رواية «وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة» (فمن ذلك الجزء) من يحتمل أن تكون تعليلية، وأن تكون بمعنى الباء أو الابتداء أو التبعيض (يتراحم الخلائق) في رواية «فبها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها تعطف الوحش على ولدها» (حتى ترفع الدابة حافرها) هو للفرس وللحمار بمنزل الظلف من البقر والخف من الجمل (عن ولدها خشية) مفعول له (أن تصيبه) وخص ذو الحافر بالذكر، قال ابن أبي جمرة: لأنه أشد الحيوان المألوف الذي يرى المخاطبون حركته مع ولده، ولما في الفرس من الخفة والسرعة في التنقل ومع ذلك تتجنب أن يصل الضرر منها إلى ولدها (وفي رواية) أي لهما من حديث أبي هريرة كما يقتضيه قول المصنف بعد «متفق عليه» ولكن رأيته في باب التوبة من مسلم ولم أره في أبواب الأدب من البخاري (إن تعالى مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس) الظرف محتمل الحالية لوصف النكرة، والوصفية لنكارتها (والبهائم) جمع بهيمة قال البيضاوي: والبهيمة كل حي لا يميز، وقيل كل ذات أربع، قال القرطبي: سمي بهذا لأنه بهم عن أن يبين، قال الراغب: البهيمة ما لا نطق له من الحيوان ثم خص في التعارف بما عدا السباع والطير، ثم

استعملت في الأزواج الثمانية إذا كان فيها الإبل وسمي بذلك لإبهامه الأمر وكتمه (والهوام) بتشديد الميم جمع هامة هي الحشرات، وفي الفتح الهوام بتشديد الميم جمع هامة وهي ما يدب من الأحناش (فبها) أي بتلك الرحمة (يتعاطفون وبها يتراحمون وبها يعطف الوحش) بفتح الواو، وهو ما لا يستأنس من دواب البر كذا في «المصباح» ، وهو اسم جنس فلذا أعاد الضمير عليه مؤنثاً فقال (على ولدها، وأخر الله تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة) ففيه إيماء إلى مزيد الكرم وتقوية الرجاء في فضل المولى سبحانه (متفق عليه) أخرجه البخاري بالرواية الأولى في الأدب، ومسلم بروايته في التوبة. (وفي رواية مسلم) في باب التوبة (أيضاً) انفرد بها البخاري وغيره (من رواية سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إن الله تعالى) دون غيره كما يؤذن به تقدم ما حقه التأخير وهو الخبر الظرف على الاسم وهو قوله (مائة رحمة فمنها رحمة يتراحم) بمعنى المجرد والعدول إلى التفاعل للبالغة: أي يرحم (بها الخلق بينهم، وتسع) وفي نسخة مصححة من مسلم وتسعة بالتاء آخره (وتسعون ليوم القيامة) يحتمل أن تكون الواو عاطفة ويكون تسع مبتدأ خبره محذوف تقديره منها. دل عليه ذكره في الجملة قبلها، والظرف حال سوغه خصوص المبتدأ بتقديم خبره الظرفي عليه، ويحتمل أن يكون الظرف الخبر، والأول أنسب بمقام التفصيل (وفي رواية) هي لمسلم في باب التوبة أيضاً (إن الله خلق يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة) أي مائة نوع من الإنعام والإفضال كما تقدم الإيماء عليه في كلام البدر (كل رحمة طباق) بكسر الطاء المهملة قال في «النهاية» : أي غشاء (ما بين السماء والأرض) أي ما يملأ ذلك لو كان جسماً من كبره وعظمه (فجعل منها في الأرض رحمة فيها) أي يسببها، ويحتمل أن تكون للتبعيض كهي في قوله تعالى: {يشرب بها عباد ا} (الإنسان: 6) ويؤيده أنها تعود في الآخرة وتكمل بها المائة فما ظهر في الدنيا بعض ثمراتها والبعض إلى الآخرة أي

فببعضها (تعطف) بكسر الطاء (الوالدة على ولدها) قال في «المصباح» : عطفت الناقة على ولدها عطفاً من باب ضرب: حنت عليه ودرّ لبنها اهـ. (والوحش والطير) قال أبو عبيدة وقطرب والطير يقع على الواحد والجمع، وقال ابن الأنباري: الطير جماعة وتأنيثها أكثر من التذكير، ولا يقال للواحد طير بل طائر وقل ما يقال للإنسان طائرة، وفي «المصباح» إنه جمع طائر مثل صاحب وصحب وراكب وركب وجمع الطير طيور وأطيار (بعضها) مبتدأ وقوله (على بعض) أي يعطف وحذف مع كونه كوناً لدلالة ما قبله عليه، ويجوز إعراب بعضها بدلاً مما قبله بدل بعض من كل (فإذا كان) أي وجد (يوم القيامة) وأتى بإذا الشرطية لتحقق الأمر (أكملها) أي التسعة والتسعين المدخرة عنده (ابهذه الرحمة) قال المصنف هذه الأحاديث من أحاديث الرجاء والبشارة للمسلمين، قال العلماء، لأنه إذا حصل للإنسان من رحمة واحدة في هذه الدار المبنية على الأكدار، الإسلام والقرآن والصلاة والرحمة في قلبه وغير ذلك مما أنعم الله به عليه، فكيف الظن بمائة رحمة في الدار الآخرة وهي دار القرار ودار الجزاء. والله أعلم. 10421 - (وعنه) أي عن أبي هريرة لا عن سلمان كما قد يتوهم من كونه أقرب (عن النبيّ فيما يحكي عن ربه تبارك وتعالى قال: إذا أذنب) أي أثم (عبد ذنباً فقال اللهم اغفر لي ذنبي) في الإتيان بالفاء إيذان بوجوب المبادرة إلى التوبة عقب المخالفة (فقال الله تبارك وتعالى: أذنب عبدي) إضافة تشريف، هذا من كمال الكرم ومزيد الفضل أنه من فضله عليه بعفوه عنه أضافه إليه إضافة تشريف وتكريم (ذنباً فعلم أن له رباً) كذا فيما وقفت عليه من نسخ الرياض وهو كذلك في نسخة مصححة من مسلم، وفي أخرى منه بإثباتها وهو في صحيح

البخاري بلفظ «فقال ربه، أعلم عبدي أن له ربا؟» وعلى هذا المعنى يحمل ما حذف منه الفاء والهمزة، أي أعلم أن له رباً، والاستفهام ليس على حقيقته، ولا يجوز أن يكون مما حذف فيه العطف لأنه لا يحذف إلا الواو فقط عند أمن اللبس (يغفر الذنوب جميعاً) أي الكثيرة فما بالك بالذنب الواحد (ثم عاد) أي بعد التوبة منه إليه أو إلى ذنب آخر (فأذنب فقال أي) بفتح الهمزة المقصورة، وحكى الكسائي أنها قد تمد أيضاً كما قاله المرادي، قال: وحكى بعضهم أنها قد تمتد إذا بعدت المسافة فيكون المد لها دليلاً على البعد وسكون الياء حرف نداء، قيل للبعيد وعليه فأتى بها لكونه كالبعيد من حيث إنه لا يراه أحد سوى المصطفى من العباد في الدنيا بالعين الشحمية، وقيل إنها للقرب كالهمزة وعليه فالنداء بها لكونه أقرب إلى كل من حبل الوريد، ونادى ثانياً بأي لما يومىء إليه العود إلى الذنب من البعد وقلة الاهتمام بالديانة وعقب النداء بقوله (ربّ) بكسر الموحدة الدالة على الياء المضاف إليها المحذوفة ويحتمل أن يكون بفتحها دلالة على الألف المحذوفة المنقلبة إليها الياء تخفيفاً، ويحتمل أن يكون بضمها وهذه الوجوه الثلاث من جملة اللغات الست الجائزة في المضاف للياء من مثله، وكان النداء للفظ الربّ توسلاً إلى التكميل والتخليص من نقص المخالفة، فإن الربّ هو الذي يربي الشيء ويبلغه إلى كماله (اغفر لي ذنبي، فقال الله تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب) أي إن شاء أل فيه للجنس فيساوى لكونه مفرداً محلى بأل الجنسية الذنوب في العموم والشمول (ويأخذ) أي يعاقب (بالذنب) وأتى به مظهراً تقبيحاً له وتنبيهاً على داعي الأخذ وهو المخالفة (ثم عاد فأذنب ذنباً فقال: أي ربّ اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب قد غفرت لعبدي) أي لتوبته الصحيحة المشير إليها «قوله: اللهم اغفر لي» أو بمحض الفضل وإن لم يتب. والأول أقرب وسيأتي في كلام المصنف ما يقويه (فليفعل ما شاء) أي من الذنب المعقب بالتوبة الصحيحة، ففيه أن التوبة الصحيحة لا يضرّ فيها نقص بالذنب ثانياً بل مضت على صحتها ويتوب من المعصية الثانية وهكذا

(متفق عليه) والسياق لمسلم أخرجه في التوبة وأخرجه البخاري بنحوه في التوحيد (وقوله تعالى: فليفعل ما شاء أي ما دام يفعل هكذا) أي مدة دوامه يفعل ذلك، فما فيه مصدرية ظرفية وهو ظرف لقوله أغفر له وقوله هكذا فيه إجمال بينه بقوله (يذنب ويتوب) أي فلا يتوهم منه إباحة المخالفة واكتساب الآثام (أغفر له) وبين حكمة ذلك بقوله (فإن التوبة) الصحيحة الجامعة لشروطها ومعتبراتها (تهدم) بكسر الدال المهملة، أي تسقط (ما قبلها) أي من الذنب. 11422 - (وعنه قال؛ قال رسول الله: والذي نفسي بيده) أي بقدرته، والقسم أتى به لتأكيد المقام وتقويته عند السامع (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله تعالى) أي عقب الذنب فوراً (فيغفر لهم. رواه مسلم) . 12423 - (وعن أبي أيوب الأنصاري) واسمه زيد بن خالد وتقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب برّ الوالدين وصلة الأرحام، قال حين حضرته الوفاة: كنت كتمت عنكم شيئاً سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لولا أنكم تذنبون لخلق الله خلقاً يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم. رواه مسلم) وأحمد والترمذي كما في «الجامع الصغير» ، ورواه مسلم أيضاً بلفظ «لو أنكم لم يكن لكم ذنوب يغفرها الله لكم لجاء الله بقوم لهم ذنوب يغفرها لهم»

وبهذا اللفظ أورده الصغاني في المشارق ورمز بالقاف التي هي للمتفق عليه، وقد رواه أحمد عن ابن عباس بلفظ «لو لم تذنبوا لأتى الله بقوم يذنبون ليغفر لهم» قال ابن ملك: ليس هذا تحريضاً للناس على الذنوب بل كان صدوره لتسلية الصحابة وإزالة شدة الخوف عن صدورهم، لأن الخوف كان غالباً عليهم حتى فر بعضهم إلى رؤوس الجبال للعبادة، وبعضهم اعتزل النساء، وبعضهم النوم، وفي الحديث تنبيه على رجاء مغفرة الله تعالى وتحقق أن ما سبق في علمه كائن لأنه سبق في علمه تعالى أنه يغفر للعاصي فلو قدر عدم عاص لخلق الله من يعصيه فيغفر له. 13424 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كنا قعوداً) بضم أوله جمع قاعد مع رسول الله، معنا» بفتح العين مع مع، فيها على الظرفية هذه هي اللغة المشهورة ويجوز تسكينها في لغة حكاها صاحب «المحكم» و «الجوهري» وغيرهما، وهي المصاحبة قال صاحب «المحكم» مع اسم معناه الصحبة (أبو بكر وعمر في نفر) بفتح أوليه جمع الرجال من الثلاثة إلى التسعة، وقيل إلى السبعة (فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بين أظهرنا) أي من بيننا بإقحام المضاف وزيد لظهور كونه بينهم (فأبطأ علينا) أي تأخذ مجيئه عنا كما في «المصباح» (وخشينا أن يقتطع) بالبناء للمفعول، أي يؤخذ (دوننا) ولعل ذلك كان قبل نزول قوله تعالى: {وا يعصمك من الناس} (المائدة: 67) أو بعده وخافوا أن يصيبه من الضرر ما دون القتل (ففزعنا) بكسر الزاي، الفزع يأتي بمعنى الروع ويأتي بمعنى الهبوب للشيء والاهتمام به وبمعنى الإغاثة. قال القاضي عياض: فتصح هذه المعاني الثلاثة: أي ذعرنا باحتباسه عنا، ألا تراه كيف قال: وخشينا أن يقتطع دوننا، ويدل على الوجهين الأخيرين قوله: أي خفنا أي حصل لنا خوف، وحذف المعمول لأن القصد حصول الفعل دون تعلقه بمعمول (فقمنا فكنت أول من فزع) : أي خاف (فخرجت أبتغي) أطلب (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتيت حائطاً للأنصار) حتى فيه للغاية لمقدر تقديره فسرت. والحائط البستان وجمعه حوائط. قال المصنف: سمي حائطاً لأنه لا سقف له (وذكر الحديث بطوله) أي مما لا يتعلق غرض

الترجمة به فلذلك حذفه، ويؤخذ منه كما تقدم التنبيه عليه جواز تقطيع الحديث إذا كان لا تعلق للمأتي به بالمحذوف بأن لا يكون غاية ولا استثناء ولا نحو ذلك (إلى قوله فقال رسول الله) مخاطباً لأبي هريرة (اذهب فمن لقيته) بكسر القاف (وراء هذا الحائط) أي البستان (يشهد أن لا إله إلا ا) أي مع قرينتها التي لا يعتد بها إلا معها، وهي: محمد رسول الله كما تقدم نظيره (مستيقناً بها قلبه) أي موقناً بها قلبه والسين فيها للمبالغة لأن كثرة المبنى تدل على زيادة المعنى غالباً، وخرج بها المنافق (فبشره بالجنة) إما ابتداء إن مات عقب الإسلام قبل التلبس بكبيرة أو بعد الإسلام بمدة ولم يفعل معصية أو فعلها وكانت صغائر وله حسنات لم تغلب عليها المعاصي أو كانت كبائر فتاب منها، أو بعد إدخال النار مدة إن مات على صغائر زائدة على حسناته أو على كبيرة ولم يتب منها، ويجوز أن يتفضل الله عليه فيدخله الجنة ابتداء، قال تعالى: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء: 48) وحذف المصنف ما أشار به عمر من ترك هذا التبشير مخافة مما يترتب عليه من ترك صالح العمل المقتضي لفوات المراتب العلية في الجنة فوافقه على ذلك لعدم تعلق غرض الترجمة به (رواه مسلم) . 14425 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبيّ تلا) أي قرأ (قول الله تعالى في قصة إبراهيم،) {رب} أي يا رب بكسر الموحدة وحذف حرف النداء لمزيد الشهرة المستغني به عن النداء الكائن للبعيد عادة ( {إنهن} ) يعني الأصنام ( {أضللن} ) أي أوقعن في الضلال ( {كثيراً من الناس} ) وإسناد الإضلال إليهن باعتبار السببية كقوله: {وغرتهم الحياة الدنيا} (الأنعام: 70) ( {فمن تبعني} ) على ديني ( {فإنه مني} ) أي بعضي لا ينفك عني في أمر الدين ( {ومن عصاني فإنك غفور رحيم} ) تقدر أن تغفر له وترحمه ابتداء أو بعد التوفيق للتوبة، قال البيضاوي: وفيه دليل على أن كل ذنب فللَّه أن يغفر حتى الشرك، إلا أن الوعيد فرق بينه

وبين غيره اهـ. وهذا مذهب الأشعري، وذهب الماتريدي إلى استحالة ذلك عقلاً وعدم إمكانه أصلاً، قال: لأن ذنبه لقبحه منع من جواز العفو (وقال) مصدر معطوف على قول الله تعالى، قال القاضي عياض: قال هو اسم للقول لا فعل، يقال قال قولاً وقالاً وقيلاً كأنه قال وتلا (عيسى: {إن تعذبهم فإنهم عبادك} ) أحقاء بالتعذيب لأنك المالك المتصرف ( {وإن تغفر لهم} ) أي للمؤمنين منهم ( {فإنك أنت العزيز الحكيم} ) تلخيصه إن تعذب فعدل وإن تغفر ففضل (فرفع) (يديه وقال: اللهم أمتي أمتي) أي ارحمهم أو الحظهم أو نحو ذلك فهو مفعول به بعامل محذوف، ويجوز أن يكون مبتدأ: أي أمتي عبادك فنعمتك فيهم فضل وعقابك عدل (وبكى) خضوعاً وتذللاً له (فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد) وقوله (وربك أعلم) جملة معترضة أتى بها لدفع توهم أن الاستفهام منه تعالى على حقيقته، وهو استكشاف ما يجهله المستفهم، بل علمه تعالى محيط بجميع المعلومات قبل وجودها فيه وفيه وبعد انقضائها وقوله (فسله ما يبكيك) معطوف على جملة اذهب، وهو هكذا في الأصول سله بحذف همزة الوصل والهمزة عين الفعل والأصل اسأله فنقلت حركة الهمزة إلى السين فحذفت همزة الوصل لعدم الحاجة إليها والمزة المنقول حركتها لالتقاء الساكنين والاستفهام معلق للسؤال عن الجملة بعده (فأتاه جبريل) إظهاراً لشرف المصطفى وأنه بالمحل الأعلى عند مولاه فيسترضى ويكرم بما يرضيه (فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما قال) أي من قوله: أمتي أمتي (وهو) أي الله (أعلم) أي بما قال نبيه (فقال الله تعالى: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل إنا سنرضيك في أمتك) هو موافق لقوله تعالى: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} (الضحى: 5) (ولا نسوءك) قال صاحب التحرير: هو تأكيد للمعنى: أي لا نخزيك لأن الإرضاء قد يحصل في حق البعض بالعفو عنهم ويدخل الباقي النار، فقال تعالى: نرضيك ولا ندخل عليك خزياً بل ننجى الجميع (رواه مسلم) قال المصنف: في الحديث أنواع من

الفوائد: منها بيان كمال شفقته على أمته واعتنائه بمصالحهم واهتمامه بأمرهم، ومنها البشارة العظيمة لهذه الأمة، زادها الله شرفاً بقوله: سنرضيك في أمتك، وهذا من أرجى الأحاديث لهذه الأمة، ومنها بيان عظمة النبي. 15426 - (وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت ردف) بكسر الراء وسكون الدال المهملة، هذه الرواية المشهورة وهي التي ضبطها معظم الرواة، وحكى القاضي عياض أن أبا علي الطبري الفقيه الشافعي أحد رواة الكتاب ضبطه بفتح الراء وكسر الدار، قال: والرديف: هو الراكب خلف الراكب، يقال منه ردفته أردفه بكسر الدال في الماضي وفتحها في المضارع: إذا ركبت خلفه، قال القاضي عياض: ولا وجه لرواية الطبري إلا أن يكون فعل هذا اسم فاعل مثل عجل إن صحت رواية الطبري اهـ. (النبي على حمار) جاء في رواية أخرى لمسلم «على حمار يقال له عفير» بضم المهملة وفتح الفاء وسكون التحتية: قال المصنف: وهو يقتضي أن يكون في مرة غير المرة المتقدمة في الحديث السابق فإن الرجل يخص البعير، قال: ويحتمل أن يكونا قصة واحدة. قلت وتجوز بالرحل عما يرحل عليه على مطلق الدابة والله أعلم (فقال يا معاذ هل تدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على ا) قال صاحب «التحرير» : اعلم أن الحق كل موجود متحقق أو ما سيوجد لا محالة، وا سبحانه هو الحق الموجود الأزلي الباقي الأبدي، والموت والجنة والنار حق: أي إنها واقعة لا محالة، فحق الله على العباد ما يستحقه عليهم وحقهم عليه معناه محقق لا محالة اهـ. ملخصاً. وقال غيره: قول الرجل: حقك واجب عليّ: أي متأكد قيامي به قاله المصنف (قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد) أي واجبه الثابت عليهم (أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً) من المعبودات (وحق العباد) بالنصب عطفاً على ما قبله ويجوز الرفع على الابتداء والواو عاطفة للجملة أو مستأنفة (على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً) أي وإدخال بعض عصاة المؤمنين النار ليس من العذاب، لأن العذاب فيما قال بعضهم الألم مع الإهانة والإذلال، وا تعالى إذا أدخل المؤمن النار فهو لتطهيره حتى يتأهل لمنازل الأخيار (فقلت يا رسول الله أفلا أبشر الناس) أي أسكت عن نشر ذلك فلا أبشر

الناس (قال: لا تبشرهم فيتكلوا) رجح مصلحة ترك التبليغ لما فيه من الحثّ على الإكثار من صالح العمل على التبليغ لما قد يؤدي إليه من التعطيل (متفق عليه) رواه البخاري في التوحيد ومسلم في الإيمان. 16427 - (وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما أن النبيّ قال: المسلم) الحقيقي (إذا سئل في القبر) على وجه الامتحان وحذف السائل للعلم به، وهما الملكان المولان بذلك منكر ونكير والمسؤول عنه للعلم به: أي سئل عن ربه ونبيه (يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسولالله، فذلك قوله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت} ) أي الذي ثبت بالحجة عندهم وتمكن في قلوبهم (متفق عليه) رواه البخاري في التفسير ومسلم في صفة النار ورواه النسائي في الجنائز. 17428 - (وعن أنس رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الكافر) بأي نوع من أنواع الكفر (إذا عمل حسنة) أي طاعة لا تتوقف على نية كإعتاق وتصدق وإطعام محتاج، أما المتوقفة عليه كالصيام والصلاة فلا تصح منه لفقد شرط النية المتوقفة عليه من الإسلام، وإنما حكم بصحة غسل الكتابية من نحو الحيض فحلت لحليلها للضرورة ولذا تجب إعادته إذا أسلمت (أطعم) بالبناء للمجهول (بها طعمة) بضم الطاء وسكون العين المهملتين، وهو

الرزق وجمعه طعم كغرفة وغرف قاله في «المصباح» (من الدنيا) في محل الصفة لطعمة فيكون ذلك حظه من عمله الذي جاء به (وأما المؤمن) ظاهره وإن كان فاسقاً، ويحتمل تخصيصه بكامل الإيمان (فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة) أي ثوابها إلى الآخرة وقد يجزى بها مع ذلك في الدنيا أيضاً كما قال (ويعقبه) بضم التحتية: أي يعطيه من ذلك (رزقاً في الدنيا على طاعته) ولا مانع من جزائه بها فيهما، وقد ورد الشرع به فيجب اعتقاده، قاله المصنف. (وفي رواية) هي لمسلم أيضاً (إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة) أي لا يترك مجازاته بشيء من حسناته، والظلم يطلق بمعنى النقص وحقيقته الظلم محالة في حقه تعالى (يعطى) بالبناء للمفعول (بها في الدنيا) أحد الظرفين نائب الفاعل والآخر في محل الحال (ويجزى بها) أي ثواباً مع ذلك (في الآخرة) وجملة يعطى الخ استئنافية جواب ما، يقال ماذا يكون له بها (وأما الكافر فيطعم) بالبناء للمفعول: أي يرزق (بحسنات ما عمل بها) الباء الأولى للسببية والثانية للبدل: أي بدلها، وقوله () في محل الحال من فاعل عمل وفيه تنبيه على أن جزاء الكافر على عمله بالحسنة الدنيوية إنما هي فيما إذا كان العمل الصالح لا لرياء أو سمعة، وفيه إيماء إلى إحباطهما ثواب العمل وصفة الثواب دنيا وأخرى (حتى إذا أفضى) أي صار (إلى الآخرة) أي وقد مات على كفره (لم يكن له حسنة يجزى بها) أما إذا أسلم الكافر على مثل هذه الحسنات فيثاب عليها في الآخرة على المذهب الصحيح (رواه مسلم) في آخر أبواب صفة الجنة والنار. 18429 - (وعن جابر رضي الله عنه قال قال: رسول الله: مثل) بفتح أوله وثانيه المثلث تقدم معناه (الصلوات الخمس كمثل) الكاف زائدة (نهر) بسكون الهاء ويجوز فتحها

وهما لغتان في كل ما كان هكذا وعينه حرف حلق كشعر ونحر (جار) جاء في رواية عند أحمد بزيادة «عذب» قال في «النهاية» : الماء العذب هو الطيب الذي لا ملوحة فيه (عمر) بفتح الغين المعجمة وسكون الميم، أي يغمر من دخله ويغالبه (على باب أحدكم) أشار به إلى سهولته وقرب تناوله (يغتسل منه كل يوم خمس مرات) زاد في رواية أحمد: فما يبقي ذلك من الدنس، وما فيه استفهامية والدنس الوسخ: أي كما أن الغسل المكرر كذلك يذهب الدنس الحسي كذلك الصلوات الخمس مذهبة للدنس المعنوي (رواه مسلم) في كتاب الصلاة والإمام أحمد في «مسنده» بزيادة نبهت عليها (الغمر: الكثير) كما في النهاية. 19430 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما من) زائدة لتأكيد العموم المستفاد من (رجل مسلم) لكونه نكرة في سياق النفي، وذكره لشرفه وإلا فالمرأة كذلك في ذلك (يموت فيقوم) بالرفع عطفاً على يموت، ويجوز النصب لأنه في جواب النفي (على جنازته أربعون رجلاً) أي يصلون عليه (لا يشركون با شيئاً) من الإشراك (إلا شفعهم الله فيه) أي بأن يغفر له، ولا ينافيه حديث الطبراني وأبي نعيم في «الحلية» عن ابن عمر مرفوعاً «ما من رجل يصلي عليه مائة إلا غفر له» إما لأن العدد لا مفهوم له، وعلى الاعتداد بمفهومه فما في الصحيح مقدم على غيره، وإن جمع فيحمل ما عند الطبراني على أنه أخبر بما فيه، فأخبر به، ثم تفضل الله على عباده بحصول ذلك العدد المذكور في الصحيح فأخبر به ثانياً (رواه مسلم) في الجنائز. 20431 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قبة) بضم القاف وتشديد الموحدة من الخيام بيت صغير مستدير وهو من بيوت العرب قاله في «النهاية» (نحواً

من أربعين) يجوز أن يكون نحواً حالاً والظرف قبله خبر كان ويجوز عكسه (فقال: أترضون أن تكونوا ربع) بضم أوليه وكذا ثلث (أهل الجنة؟ قلنا نعم، قال) أي بعد أن أخبر بثبوت ذلك (أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قلنا نعم، قال: والذي نفس محمد بيده) أتى بالقسم وباسمه مظهراً تأكيداً للأمر وتفخيماً له (إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة) قال العلماء: كل رجاء جاء عن الله تعالى أو عن النبي فهو كائن البتة، وإنما أتى فيه بصيغة الرجاء دون صيغة الجزم على عادة الملوك في وعد ما يقطعون بفعله، يقولون: عسى تعطي ذلك وهم جازمون. % قال القرطبي: وهذه الطماعية قد حققت له بقوله تعالى: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} (الضحى: 5) وبقوله: «إنا سنرضيك في أمتك» كما تقدم، ولكن عللوا هذه البشرى بالطمع أدباً مع الحضرة الإلهية ووقوفاً مع أحكام العبودية. قال المصنف: والحكمة في قوله: «ربع أهل الجنة ثم ثلث أهل الجنة ثم الشطر» ولم يقل أولاً شطر أهل الجنة أن ذلك أوقع في نفوسهم وأبلغ في إكرامهم، فإن إعطاء الإنسان مرة بعد أخرى دليل على الاعتناء به ودوام ملاحظته، وأن ذلك فيه تكرير البشارة مرة بعد أخرى، وفيه حملهم على تجديد شكره تعالى وحمده عل كثرة نعمه. قال المصنف: وقد جاء في الحديث الآخر «إن أهل الجنة مائة وعشرون صفاً هذه الأمة منها ثمانون صفاً» فهذا دليل على أنهم يكونون ثلثي أهل الجنة، ولا يشكل ذلك على حديث الباب بل يكون أخبر بما في حديث الباب أولاً ثم زاده الله في العطاء فأخبر به بعد، وله نظائر كحديث «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذّ بخمس وعشرين، وفي رواية سبع وعشرين» ثم بين وجه ذلك بقوله (وذلك) أي التبشير المشار إليه (أن الجنة) أي لأن الجنة (لا يدخلها إلا نفس مسلمة) ، هذا نص صريح في أن من مات على الكفر لا يدخل الجنة أصلاً وهذا النص على عمومه بإجماع المسلمين (وما أنتم في أهل الشرك) في سائر الأمم ومنهم يأجوج ومأجوج (إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو) شك من الراوي (كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر) يعني الأبيض

(متفق عليه) أخرجه البخاري في الرقاق، ومسلم في الإيمان ورواه الترمذي وابن ماجه في الجنة. 21432 - (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إذا كان) أي وجد (يوم القيامة دفع الله إلى كل مسلم يهودياً أو نصرانياً) يحتمل أن يقال إنهما مقيدان لمطلق الكافر الوارد في رواية أخرى لمسلم عن أبي موسى مرفوعاً «إذا كان يوم القيامة أعطي كل رجل من هذه الأمة رجلاً من الكفار» ويحتمل أن لا يقيد، بل هو من ذكر بعض الأفراد وهي لا تقيد (فيقول) أي عزّ وجل (هذا فكاكك من النار) وعند مسلم في الحديث الذي ذكرناه عنه «هذا فداؤك من النار» قال المصنف: الفكاك بفتح الفاء وكسرها، والفتح أفصح وأشهر، وهو الخلاص والفداء. (وفي رواية) هي لمسلم أيضاً (عنه) أي عن أبي موسى (عن النبي قال: يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب) أي عظيمه كما يؤخذ من قوله (أمثال الجبال يغفرها الله لهم) اقتصر المصنف على هذا القدر من الحديث لحصول غرض الترجمة، وهي الرجاء به، وتتمته «ويضعها على اليهود والنصارى» فهو بمعنى الحديث الذي قبل. قال المصنف: ومعناه أن الله يغفر ذنوب المسلمين بفضله ويسقطها عنهم ويضع على اليهود والنصارى مثلها بكفرهم وذنوبهم فيدخلهم النار بعملهم، وهذا التأويل لا بد منه لقوله: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} (الأنعام: 164) فقوله يضعها مجاز: أي يضع مثلها عليهم بذنوبهم لكن لما أسقط تعالى عن المسلمين سيئاتهم وأبقى على الكفار سيئاتهم صاروا في معنى من حمل إثم الفريقين لكونهم حملوا الإثم الباقي وهو آثامهم، ويحتمل أن يكون المراد آثاماً كان الكفار سبباً فيها بأن سنوها فيسقط عن المسلمين بعفو الله ويوضع

على الكفار مثلها لكونهم سنوها، ومن سنّ سنة سيئة كان عليه مثل وزر كل من يعلم بها (رواه مسلم. قوله دفع الله إلى كل مسلم يهودياً أو نصرانياً) ليس هو على ظاهره من وضع أعمال المؤمنين على الكافرين لأن الله تعالى يقول: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} (الأنعام: 164) لكن (معناه ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: لكل أحد) أي سواء كان مسلماً أو كافراً (منزل من الجنة ومنزل من النار، فالمؤمن إذا دخل الجنة) أي منزله فيها (خلفه الكافر في النار، لأنه مستحق لذلك) أي دخول النار (بكفره، ومعنى فكاكك) من النار (أنك كنت معرّضاً لدخول النار) أي لو كنت خذلت (وهذا فكاكك) أي بمنزلته صورة (لأن الله تعالى قدر للنار عدداً يملؤها، فإذا دخلها الكافرون بذنوبهم وكفرهم صاروا في معنى الفكاك للمسلمين) من حيث إن بهم تم عدد أهل النار فأمنها المسلمون، قال المصنف: قال عمر بن عبد العزيز والشافعي: هذا الحديث أرجى حديث للمسلمين، وهو كما قالا لما فيه من التصري بفداء كل مسلم وتعميم الفداء، والحمد اهـ. 22433 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول يدنى) بالبناء للمفعول: أي يقرب (المؤمن يوم القيامة من ربه) قرب مكانة لا قرب مكان قال المصنف هو دنو كرامة وإحسان لا دنو مسافة، وا تعالى منزه عن المسافة (حتى يضع عليه كنفه) بفتح الكاف والنون أي ستره (فيقرره بذنوبه) ويسترها عن سائر أهل المحشر (فيقول: ألا تعرف ذنب كذا) تقدم أنه من ألفاظ الكنايات، ويكنى به عن المجهول وما لا يراد التصريح

به (فيقول: رب أعرف، قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا) بأن لم يطلع عليها أحد من الناس ويحتمل سترها حتى عن الملكين مبالغة في الستر (وأنا أغفرها لك اليوم) عطف على الجملة المحكية بالقول (فيعطى صحيفة) أي كتاب (حسناته. متفق عليه) أخرجه البخاري في الرقاق ومسلم في صفة الجنة والنار (كنفه) بفتح أوليه كما تقدم (ستره ورحمته) قال في «شرح مسلم» : ستره وعفوه اهـ. فالرحمة هنا مجاز عن الإحسان. 23434 - (وعن) عبد الله (بن مسعود رضي الله عنه أن رجلاً) عند ابن أبي خيثمة زيادة «من الأنصار يقال له معتب» وقد جاء اسمه كعب بن عمرو وهو أبو اليسر بفتح التحتية والسين المهملة الأنصاري، أخرجه الترمذي والنسائي والبزار عن أبي اليسر بن عمرو نفسه، وذكر بعض الشراح أن اسمه نبهان التمار وقيل عمرو بن عزبة وقيل عامر بن قيس وقيل عباد. قال الحافظ بعد ذكر قصتي نبهان وعمرو ومن أخرجهما، فإن ثبت حمل أيضاً على التعدد قال الحافظ العسقلاني: وظن الزمخشري أن عمرو بن عزبة اسم أبي اليسر فجزم به فوهم، وعباد اسم جد أبي اليسر فلعله نسب ثم سقط شيء وأقوى الجميع أنه أبو اليسر اهـ. ملخصاً (أصاب من امرأة قبلة) أخرج قصته الترمذي ومن معه عنه قال «أتته امرأة وزوجها قد بعثه في بعث فقالت له بعنى تمراً بدراهم، قال وأعجبتني فقلت لها: إن في البيت تمراً أطيب من هذا، فانطلق بها معه فغمزها وقبلها ثم فزع حتى قالت له اتقالله، فخرج فلقي أبا بكر فقال: تب ولا تعد، ثم أتى النبي» الحديث (فأتى النبي فأخبره، فأنزل الله تعالى) : {أقم الصلاة} ) كذا هو بحذف الواو في الصحيحين والتلاوة بإثباتها ( {طرفي النهار} ) أي غدوة وعشية وانتصابه على الظرفية لأنه مضاف إليه ( {وزلفاً من الليل} ) أي ساعات منه قريبة من النهار، فإنه من أزلف إذا قربه وهو جمع زلفة قال المصنف: ويدخل في صلوات طرفي النهار

الصبح والظهر والعصر وفي زلفا من الليل المغرب والعشاء، وقرىء زلفا بضمتين وبضمة فسكون كبسر باللغتين في بسرة وزلفى بمعنى زلفة كقربى وقربة ( {إن الحسنات يذهبن السيئات} ) يكفرنها، وفي الحديث «إن الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر» قال الإمام الرازي: وفي تفسير الحسنات قولان قال ابن عباس: معناه الصلوات الخمس مكفرة سائر الذنوب إذا اجتنبت الكبائر، وقال مجاهد: الحسنات قول: سبحان الله والحمد ولا إله إلا الله وا أكبر. وقد حكاهما المصنف في «شرح مسلم» (فقال الرجل: ألي هذا يا رسول الله) يعني خاص بي: أي أن صلاتي تذهب معصيتي، وظاهر هذا أن القائل هو السائل. وعند أحمد والطبراني من حديث ابن عباس «فقال: يا رسول الله ألي خاصة أم للناس عامة فضرب عمر بصدره فقال لا ونعمة عين بل للناس عامة، فقال: صدق عمر» وهذا من اجتهاد عمر الموافق للصواب لكن جاء عند مسلم في رواية «فقال معاذ: يا رسول الله أله وحده أم للناس؟» ووقع مثله عند الدارقطني، قال الحافظ: ويحمل على تعدد السائلين، وقوله ألي بفتح الهمزة استفهام والظرف بعده خبر مقدم وهذا مبتدأ مؤخر وقدم عليه خبره لإفادة التخصيص (قال لجميع أمتي كلهم) والمكفر بالحسنات صغائر الذنوب المتعلقة بحق الله تعالى كما قاله المصنف (متفق عليه) أخرجه البخاري في التفسير ومسلم في التوبة. 24435 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: جاء رجل) قال الشيخ زكريا في تحفة القارىء هو أبو اليسر (إلى النبي فقال: يا رسول الله أصبت حدا) أي مقتضيه والمراد من الحد ما فيه التعزير أوتوهم أن فيه حداً مخصوصاً (فأقمه عليّ وحضرت الصلاة فصلى مع رسول الله، فلما قضى الصلاة) أي أتمها معه (قال يا رسول الله إني أصبت حدا

فأقم فيّ كتاب الله قال: هل حضرت معنا الصلاة؟ قال نعم، قال قد غفر لك) قال المصنف: هذا المقتضي للحدّ في كلامه معناه معصية من المعاصي الموجبة للتعزير وهي هنا من الصغائر لأنها كفرتها الصلاة، ولو كانت كبيرة موجبة لحد أو غير موجبة له لما كفرتها الصلاة فقد أجمع العلماء على أن المعاصي الموجبة للحد لا تسقط الحدّ بالصلاة وهو معنى قول المصنف هنا. (قوله أصبت حداً: معناه معصية توجب التعزير وليس المراد الحد الشرعي الحقيقي كحدّ الزنا والخمر وغيرهما فإن هذه الحدود لا تسقط بالصلاة) أي بعد تعينها كما يعلم من الوجه الآتي (ولا يجوز للإمام تركها) قال المصنف في «شرح مسلم» : وهذا هو الصحيح في تفسير هذا الحديث، وحكى القاضي عن بعضهم أن المراد به الحدّ المعروف، قال: وإنما لم يحده لأنه لم يفسر موجب الحد ولم يستفسره عنه إيثاراً للستر، بل استحب تلقين الرجوع عن الإقرار بموجب الحد صريحاً (متفق عليه) أخرجه البخاري في المحاربين ومسلم في التوبة. 25436 - (وعنه قال: قال رسول الله: إن الله ليرضى) المراد منه في حقه تعالى غايته من القبول أو إرادته (عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها) يحتمل أن يكون قبل أن لام التعليل: أي لأجل أو يسب أكله. ويحتمل أن يكون أن ومدخولها بدل من العبد بدل اشتمال والمرضي منه هو الحمد على الأكل والشرب، ويحمد روي بالرفع والنصب قال بعض شراح «الشمائل» والظاهر من حيث العربية الأول أن يرضى أكله المسبب للحمد مع أن نفعه لنفسه فكيف بالحمد على ما لا نفع له فيه بوجه (أو يشرب الشربة فيحمده عليها)

يعني يرضى لأحد هذين الفعلين أياً كان وليس هو بشك من الراوي خلافاً لزاعمه، وفي الحديث حصول أصل سنة الحمد بأي لفظ اشتق من مادة «ح م د» بل بما يدل على الثناء على الله تعالى (رواه مسلم) في باب الحمد، ورواه أحمد والترمذي في جامعه وشمائله، والنسائي كلهم من حديث أنس (الأكلة بفتح الهمزة: وهي المرة الواحدة من الأكل كالغداء والعشاء) وبضمها اسم للقمة، قال بعض شراح «الشمائل» ويرجحه ملاءمته للشربة «قلت» بل هو ملائم للفتح (والله أعلم) . 26437 - (وعن أبي موسى) وهو الأشعري (رضي الله عنه عن النبي قال: إن الله يبسط) بضم السين (يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسىء الليل) قال المصنف: معناه يقبل التوبة من التائبين نهاراً وليلاً (حتى تطلع الشمس من مغربها) ولا يختص به قبولها بوقت، وبسط اليد استعارة في قبول التوبة، قال المازري: المراد به قبول التوبة، وإنما ورد لفظ بسط اليد، لأن العرب إذا رضي أحدهم الشيء بسط يده لقبوله وإذا كرهه قبضها عنه، فخوطبوا بأمر يفهمونه وهو مجاز فإن اليد بمعنى الجارحة محال عليه تعالى. (رواه مسلم) في باب التوبة وكذا أحمد. 27438 - (وعن أبي نجيح) ضبطه صاحب «المغني» بفتح النون وكسر الجيم وسكون التحتية بعدها حاء مهملة، وقيل كنيته أبو شعيب (عمرو بن عبسة بفتح العين) المهملة (والباء) الموحدة ثم سين مهملة على وزن عدسة قال المصنف في «التهذيب» : هذا الضبط لا خلاف فيه بين أهل الحديث والأسماء والتواريخ والسير والمؤتلف وغيرهم من أهل الفنون ورأيت

جماعة ممن ضبط ألفاظ «المهذب» يزيد فيه نوناً وهو غلط فاحش ومنكر ظاهر نبهت عليه لئلا يغتّر به، وعبسة هو ابن عامر بن خالد بن عاصرة بن عتاب ويقال بن غفار بن امريء القيس بن بهثة بموحدة مضمومة ثم هاء ساكنة ثم مثلثة ابن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بفتح الخاء المعجمة والصاد المهملة ابن قيس عيلان بالمهملة ابن مضر بن نزار (السلمي) الصحابي الصالح، أسلم عمرو (رضي الله عنه) رابع أربعة، وحديث هجرته هو الحديث المذكور وقدم المدينة بعد الخندق فسكنها ثم نزل الشام، روي له عن النبي ثمانية وثلاثون حديثاً روى مسلم منها الحديث المذكور؛ روى عنه جماعة من الصحابة منهم ابن مسعود وأبو أمامة وسهل بن سعد وجماعة من التابعين، سكن حمص وتوفي بها اهـ. ملخصاً (قال كنت وأنا في الجاهلية) هي ما قبل الإسلام سموا به لكثرة جهالاتهم والجملة حال من اسم كان، وخبر كان جملة (أظن أن الناس على ضلالة وأنهم ليسوا على شيء) ينفعهم عند الله تعالى (وهم يعبدون الأوثان) جملة حالية من اسم ليس والأوثان جمع وثن قيل هو والصنم بمعنى، وعليه اقتصر «المصباح» في مادة وثن وزاد في مادة صنم قوله: وقيل الصنم المتخذ من الجواهر المعدنية، والوثن المتخذ من حجر أو خشب. وقال ابن فارس الصنم ما يتخذ من خشب أو نحاس أو فضة اهـ. (فسمعت برجل بمكة) الباء الثانية ظرفية (يخبر أخباراً) بفتح الهمزة: أي أخباراً عجيبة الشأن عظيمة الموقع فالتنوين فيه للتعظيم (فقعدت على راحلتي) أي ركبت عليها مسافراً (فقدمت) بكسر الدال (عليه فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفياً) حال من ضمير خبر المبتدأ المحذوف تقديره كائن: أي هو حال كونه مستخفياً: أي مستتراً من الكفار الأشرار (جرآء) بضم الجيم وتشديد الراء بعدها همزة ممدودة جمع جرىء: من الجرأة وهي الإقدام والتسلط وسيأتي فيه بسط عند ذكر المصنف الاختلاف في ضبطه وهو حال مترادفة أو متداخلة، وقوله (عليه قومه) الظرف متعلق به وقومه فاعله لأنه وصف اعتمد على ذي الحال (فتلطفت) أي ترفقت في الأمر مع قرشي (حتى دخلت عليه بمكة فقلت له: ما أنت؟) قال البيضاوي كما تقدم نقله عنه «ما» يسأل به عن كل شيء ما لم يعرّف فإذا عرف خص العاقل إذا سئل عن تعيينه وإن سئل عن وصفه يل ما زيد فقيه أم طبيب؟ اهـ. ولما كان مسؤول عمرو عن وصف النبي قال ما أنت؟ ويدل له

قوله له (قال أنا نبي) وكذا قال المصنف في «شرح مسلم» قال ما ولم يقل من لأنه سأله عن صفته لا عن ذاته وما لصفات من يعقل اهـ. (فقلت وما نبي؟) أي ما حقيقة النبي المميزة له عن سواه (قال أرسلني ا) أي أرسل الله إياي (قلت: بأي شيء أرسلك؟) لما عمم النبيّ بحذف معمول أرسل استهفمه عمرو عنه وسأل بيانه (فقال أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان وأن يوحد ا) بالمضارع المبني للمفعول وكذا في قوله (لا يشرك) بالرفع ونائب فاعله شي من قوله (به شيء) قال المصنف: هذا فيه دلالة ظاهرة على الحث عل صلة الأرحام لأن الله تعالى قرنها بالتوحيد ولم يذكر له جزئيات الأمور وإنما ذكر مهمها وبدأ بالصلة. فإن قلت: ما الحكمة في أنه أتى بالمصدر في الأولين وبأن والفعل في الثالث. قلت: الإشارة إلى تجديد ذلك الثالث كل آن ذكرا بقول لا إله إلاالله، فقد ورد الأمر بالإكثار منها مع ما فيه من التفنن فجمع التعبير المورث للكلام نظرية وتحسيناً (قلت: فمن معك على هذا؟ قال: حر وعبد ومعه يومئذٍ) المراد باليوم فيه مطلق الحين أي حينئذٍ (أبو بكر وبلال رضي الله عنهما) وكان الاقتصار عليهما مع تقدم إسلام خديجة على إسلامهما إذ هي أول الناس إسلاماً وإسلام على أيضاً قيل إنه أسلم قبل الصديق وإن كان الراجح خلافه لأنهما كاملان في الرجولية والبلوغ فقد كان على حينئذٍ صبياً (فقلت: إني متبعك) أي على إظهار الإسلام هنا وإقامتي معك (قال: إنك لن تستطيع ذلك يومك هذا) أي في هذا الزمن الحاضر وذلك لضعف شوكة الإسلام فيخاف عليك من أذى كفار قريش (ولكن ارجع إلى أهلك) قال القاضي عياض: ليس معناه أنه رده دون إسلام وإنما رده عن صحبته واتباعه لأنه كان في أوّل الإسلام وقبل قوته فخاف عليه لغربته أن تهلكه قريش أو تفتنه اهـ. وحينئذٍ فتقدير الكلام كما أشار إليه المصنف، لكن قد حصل أجرك فابق على إسلامك وارجع إلى قومك واستمرّ على إسلامك حتى تعلمني ظهرت. (فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتنى) فيه معجزة للنبي هي إعلامه بأنه سيظهر فكان كما أخبر (فذهبت) أي رجعت (إلى أهلي وقدم) بكسر الدال (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة) منصوب على التوسع كدخلت المسجد أو على حذف الجار (وكنت في أهلي) أي مقيماً فيهم (فجعلت) من أفعال

الشروع (أتخبر الأخبار) أي أتكلف الوقوف عليها وأعاني ذلك (وأسأل الناس حين قدم المدينة) أي وقت قدومه لها (حتى قدم نفر من أهل المدينة) غاية لتخبره وسؤاله، والنفرك ما تقدم مراراً بفتح أوليه: ما بين الثلاثة والتسعة، وقيل السبعة من الرجال، ومعنى قوله من أهل المدينة: أي المقيمين بها القاطنين فيها (فقلت ما فعل هذا الرجل؟) أتى باسم الإشارة الموضوع لأن يستعمل في المشار إليه الحاضر إليه تفخيماً لشأن المصطفى وأن حقه لكمال مجده أن لا يغيب عن القوس بل لا تزال مشاهدة بعين لبها لجمال كماله (الذي قدم المدينة فقالوا: الناس إليه سراع) بكسر السين أي مسرعين (وقد أراد قومه) أي كفار قريش (قتله) بأنواع من المكر والخديعة المذكورة عنهم في كتب السير (فلم يستطيعوا ذلك) بل رد الله كيدهم في نحرهم وحفظ نبيه من ذلك (فقدمت المدينة) أي امتثالاً لقوله «فإذا بعت بي ظهرت فأتني» (فدخلت عليه فقلت يا رسول الله أتعرفني؟ قال: نعم) وسؤاله لطول مدة غيبته ثم هو في نسخ الرياض هكذا ووقع في مسلم بلفظ «قال بلى» قال المصنف في «شرحه» : فيه صحة الجواب ببلى وإن لم يكن قبلها نفي وصحة الإقرار بها وهو صحيح في مذهبنا وشرط بعض أصحابنا أن يتقدمها نفي أو نهي وبه يعلم أن ما هنا إن لم يكن في بعض نسخ مسلم اختلاف من تحريف الكتاب. قلت: ولمن اعتبر تقدم النفي أن يقول: تقدير الكلام أما تعرفني ويكون قرينة تقديرها قوله في الجواب بلى، والله أعلم (قال: فقلت: أخبرني عما علمك ا) العائد ضمير نصب محذوف أي علمكه، قال المصنف هكذا هو وهو صحيح، ومعناه أخبرني عن حكمه وصفته وبينه لي اهـ. قلت: ويحتمل أن يكون عن للتعليل كما قيل به في قوله تعالى {وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك} (هود: 53) أي لأجله، وقوله (وأجهله) يحتمل أن يكون أتى به على وجه الإطناب، ويحتمل أن يكون الاحتراز عما علمه منه في اجتماعه السابق به (أخبرني عن الصلاة) أي النافلة (قال:

صلّ الصبح ثم اقصر) بضم الصاد أي اقعد (عن الصلاة) أي النفل المطلق الذي لا سبب له أو له سبب متأخر (حتى تطلع الشمس حتى ترتفع) يحتمل أن يكون بدلاً مما قبله ويحتمل أن يكون غاية بعد غاية لتحريم النفل المذكور قال المصنف: فيه أن النهي عن الصلاة بعد الصبح لا يرتفع بنفس الطلوع بل لا بد من الارتفاع والمراد ارتفاعها كرمح في رأي العين ثم النافلة تحرم من صلاة الصبح إلى ارتفاعها على من صلى الصبح، أما من لم يصلها فلا تحرم عليه إلا من طلوع الشمس لا قبل، إلى الغاية المذكورة (فإنها) أي الشمس (تطلع) بضم اللام (حين تطلع) أي وقت طلوعها (بين قرني شيطان) سيأتي بيان معناه وتنكير شيطان لتحقيره، وقرناه: ناحيتا رأسه، قال المصنف: وسمي شيطاناً لتمرده وعتوه وكل ما رد عات شيطان، والأظهر أنه مشتق من شطن إذا بعد لبعده من الخير والرحمة، وقيل من شاط إذا هلك واحترق: أي فالمصلي حينئذٍ كالساجد للشيطان (وحينئذٍ يسجد لها الكفار) أي وحين تطلع بين قرنيه، قال القاضي عياض: هذا يدل على صحة تأويل من جعله على ظاهره وأن الشيطان يفعل ذلك ويتطاول لها ليخادع نفسه أن السجود له (ثم صل) أي ما شئت من النفل (فإن الصلاة مشهودة محضورة) أي يحضرها الملائكة فهي أقرب إلى القبول وحصول الرحمة. قال في «فتح الإله» : أي تحضرها ملائكة النهار لتكتبها وتشهد بها لمن صلاها فهي بمعنى رواية مشهودة مكتوبة خلافاً لمن زعم أن بينهما فرقا أو أن هذه أحسن (حتى يستقل) من القلة لا من الإقلال الذي هو الارتفاع وهو غاية لقوله صلّ (الظل بالرمح) المغروس بالأرض هذا من باب القلب كطينت الطين بالقصر وعرضت الناقة على الحوض أي حتى يستقل الرمح بالظل أي يبلغ ظله أدنى غاية النقص ففيه محسن القلب من المبالغة المتولدة عنه لإفادة كون الرمح صار بمنزلة الظل في القلة، والظل صار بمنزلة الرمح في عدم وجود شيء في الأرض إلا بمقدار مركزه وذلك لأن ظل الشاخص يكون أوّل النهار طويلاً إلى جهة المغرب، ثم ما زاد يتناقص إلى أن يصل إلى غايته وذلك وقت الاستواء أو يزول بميل الشمس إلى ناحية المغرب وتحول الظل إلى جهة الشرق وهذا هو وقت الزوال الذي به يدخل وقت الظهر ويزول وقت النهي، والظل الموجود عند الاستواء يسمى ظل الزوال لوجوده في أكثر البلاد قبل ظهور الزيادة. وأقول لا يحتاج إل هذا التكلف لأن الباء للإلصاق، والرمح كناية عن الشاخص والتقدير

حتى يقل الظل الملصق بالشاخص: أي ينتهي إلى غاية قلته، أو حتى ينتهي: أي يرتفع الظل الملصق بالشاخص عما حواليه حتى لا يبقى على الأرض منه إلا قدر لا يظهر ببادي الرأي، وما ذكر هو ما في نسخ مسلم المعتمدة، وفي بعض نسخه «حتى يستقل الرمح بالظل» وقال القاضي عياض: معنى قوله يستقل الظل بالرمح: أي يكون ظله قليلاً كأنه قال حتى يقل ظل الرمح، والباء زائدة جاءت لتحسين الكلام، وقد جاء في رواية أبي داود «حتى يعدل الرمح ظله» قال الخطابي: هذا إذا قامت الشمس وتناهى قصر الظل، ولا أدري موافقة هذا ليعدل، ولعل معنى يعدل هنا يكون مثله في الظل لا يزيد كما لا يزيد الرمح في طوله، أو يكون يعدل بمعنى يصرف كأن الرمح صرف ظله عن النقص إلى الزيادة ومن الميل إلى المغرب إلى المشرق وأضافها إلى الرمح لأنه سبب، فالمصنف لا يرتضي هذا الكلام منه، وقال القاضي عياض: كلام عجيب في تفسير الحديث نبهت عليه لئلا يغتر به اهـ. وفي هذه الجملة حجة على مالك في تجويزه الصلاة عند الاستواء مطلقاً مستدلاً بأنه لم يزل يرى الناس يصلون حينئذٍ يوم الجمعة، وما استدل به لا ينهض له لأن يوم الجمعة مستثنى (ثم اقصر عن الصلاة فإنه حينئذٍ تسجر) أي تهيج بالوقود (جهنم) وتسجر بتقدير أن المصدرية قبله اسم إن على حد قوله تعالى: {ومن آياته يريكم البرق} (الروم: 24) أو اسمها ضمير شأن، وما قيل إنه لا تحذف لأن القصد به التعظيم وهو يفوت بحذفه مردود بأن سبب دلالته على التعظيم إبهامه وحذفه أدل على الإبهام، ومن ثم حذف في قوله تعالى: {من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم} (التوبة: 117) (فإذا أقبل الفيء) أي: إلى الجهة المشرق. والفيء مختص بما بعد الزوال، وأما الظل فيقع على ما قبل الزوال وبعده. وفي «التهذيب» للمصنف نقلاً عن ابن قتيبة في «أدب الكاتب» إنما سمي بعد الزوال فيئاً لأنه ظل فاء من جانب إلى جانب: أي رجع والفيء الرجوع (فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر) قال المصنف: فيه دليل على أن النهي لا يدخل بدخول وقت العصر ولا بصلاة غير الإنسان، وإنما يكره لكل بصلاته حتى لو أخرها عن أول الوقت لم يكره التنفل اهـ. ومراده أخرها عن أول الوقت لما تقرّر أنها من الإصفرار يكره لمن صلى ولغيره (ثم اقصر عن الصلاة) أي النافلة التي لا سبب لها أو لها سبب متأخر (حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان)

في تنكيره ما مر (وحينئذٍ يسجد لها الكفار) هذه حكمة النهي وليست بعلة لعدم اطرادها وإلا لنهي عن ذات السبب وفي مكة أيضاً. وقال العز بن عبد السلام: التعليل لذلك لا يظهر لأن تعظيم الله في وقت يسجد فيه لغيره أولى لما فيه من إرغام أعدائه، ولو صح التعليل فأي فرق بين ذي السبب وغيره اهـ. وأجيب بأنها حكمة فلا يلزم اطرادها ووجه اختصاصها بغير ذي السبب وبوقتي الطلوع والغروب أن إنشاء صلاة لا سبب لها في هذا الوقت فيه نوع تشبه بالكفار في عبادتهم للشمس حينئذٍ وقد نهينا عن التشبه بهم، بل وعما يؤدي إليه أو يوهمه ولا شك أن إيقاع ذلك حينئذٍ يستلزم ذلك بخلاف ذات السبب كالعيد والضحى بناء على دخول وقتهما بالطلوع، فإن ظهور السبب الحامل عليها ينفي ذلك، وقد ذكر ابن الأثير ما يؤيد ذلك وهو أن كلا من هذين وقت لظهور سلطانها وانفصالها فكره لئلا يتوهم تعظيم شأنها كما هي عادة الملوك عند قدومهم وانفصالهم. فإن قلت: إنما يتضح ذلك إذا كان السبب غير نفس الطلوع، أما إذا كان هو الطلوع كما في المثالين المذكورين فكيف يظهر ما ينفي ذلك. قلت: الظهور وعدمه إنما هو بالنسبة إلى نية المصلي فحيث نوى سبباً انتفى ذلك عند من علم بنيته وحيث لا فلا، وبه يتضح الجواب عما يقال الصلاة عندنا للقبلة وسجود الكفار إنما هو لجهة الشمس فكيف يتأتى التشبه أو إيهامه؟ وجوابه ما تقدم أن نية الصلاة حينئذٍ لا لسبب يوهم أن للشمس باعتبار ظهور سلطانها وانفصالها حينئذٍ دخلا في ذلك فامتنعت لذلك، وإنما حرمت النافلة من بعد صلاتي الصبح والعصر قبل طلوعها وغروبها مع انتفاء الحكمة أو العلة لأن ما قارب الشيء أعطي حكمه كما حرمت مباشرة ما بين سرة الحائض وركبتها لأنه حريم الفرج، وأيضاً فعباد الشمس ربما تهيئوا لتعظيمها من أول ذينك الوقتين فيرصدونها إلى أن تظهر فيخروا لها سجداً، فلو أبيح التنفل حينئذٍ لكان فيه تشبه بهم أو إيهامه أو التسبب إليه (قال: فقلت يا رسول الله فالوضوء حدثني عنه) أي من حيث الفضيلة بدليل الجواب (فقال: ما منكم رجل يقرب وضوءه) بفتح الواو أي يحضر ما يتوضأ به، وخص بالذكر لأنه يترتب عليه من الثواب ما لا يترتب على من يزاول مشقة في تحصيل الماء وإحضاره (فيتمضمض) سكت عما يسن قبلها من نحو التسمية لعله لعلمه أنه يعلم ذلك أو لأن الغرض ذكر ما فيه ثواب عظيم من أعمال الوضوء لا سيما ما اختلف في وجوبه كالمضمضة (ويستنشق) الواو بمعنى ثم (فيستنثر) أي يجذب الماء بخياشيمه ثم يدفعه ليزيل ما في أنفه من الأذى (إلا خرت خطايا وجهه، وفيه) «خرت» بالخاء المعجمة على المختار كما يأتي أي سقطت صغائر خطاياه ثم يحتمل أن يراد خطايا جميع وجهه، وإن لم يظهر إلا بعضه لأنه أقذر ما فيه فخرت خطاياه الآني بعد كناية عن مزيد التطهير،

ويحتمل أن يراد بعضه لذكر كله الآني فعطف (وخياشيمه) بيان لذلك البعض المبهم، والخياشيم جمع خيشوم وهو أقصى الأنف، وقيل عظام رقاق، في أصل الأنف بينه وبين الدماغ وقيل غير ذلك (ثم إذا غسل وجهه كما أمره ا) أي بقوله عزّ وجل: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} (المائدة: 6) وفائدة قوله كما أمره الله الإيماء إلى وجوب الترتيب في الوضوء عند من يوجبه كإمامنا الشافعي المأخوذ وجوبه من الآية لما فيه من الفصل بالمسح بين مغسولين، والعرب سيما الفصحاء منهم لا توسط أجنبياً بين متجانسين إلا لحكمة هي هنا وجوب الترتيب لا ندبه، لأن الآية لبيان واجبات الوضوء والإيماء إلى المبادرة بامتثال هذا الأمر والمسارعة إليه عند من لا يقول بوجوب الترتيب لأن كونه أمر الله يحمل العاقل على امتثاله والإتيان به على الوجه الأكمل، وذكر هذا في أول فروضه فيه للتنبيه على أنه مراعى في باقيها فلم يحتج لتكرير (إلا خرت خطايا وجهه) إن قلت: الوجه لا يتصور منه خطايا في العادة إلا باعتبار منافذه وقد غفرت خطايا منفذين فلم يبق إلا خطايا البصر قلت: يحتمل أن يراد هنا بعضه الباقي، وهو العينان، ويحتمل أن يراد الثلاثة، وفائدته أن الأولين لو لم يطهرا بأن غسل وجهه أو لاكفرت خطاياهما وإن لم يغسلا بواسطة غسل ظاهر الوجه (من أطراف لحيته) عبر بها للغالب وإلا فمن لا لحية له كالأمرد والمرأة كذلك (مع الماء ثم) في العطف بها دلالة لوجوب الترتيب (بغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من) أطراف (أنامله مع الماء ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء) ذكره للغالب أيضاً (ثم يغسل قدميه إلى الكعبين) فيه دليل لمذهب العلماء كافة أن الواجب غسل الرجلين، وقالت الشيعة: الواجب مسحهما، وقال ابن جرير: هو مخير، وقال بعض الظاهرية يجب الغسل والمسح حكاه المصنف في «شرح مسلم» (إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء) وما بعد إلا الأولى مستثنى من مقدر هو خبر ما، أي ما منكم رجل متصف بذلك كائناً على حال من الأحوال إلا على حال خروج خطايا وجهه، وما واسمها مقدران فيما بعد ثم الأولى وفيما بعد ثم الثانية، وهكذا كما دل عليه العطف: أي ثم ما منكم رجل متصف يغسل وجهه كائناً على حال إلا على حال خروج خطايا وجهه وهكذا (فإن) شرطية

(هو) أي المتوضىء الدال عليه سياق الكلام وسياقه ورافعه فعل الشرط محذوف تفسيره (قام) ولحذفه برز ضميره المستكن فيه (فصلى فحمد الله) أي أثنى عليه بالصفات الثبوتية (وأثنى عليه) بالتنزيه عما لا يليق به، وقيل هما بمعنى والعطف للتأكيد (ومجده) بتشديد الجيم أي وصفه (بالذي هو) سبحانه (له أهل) من أوصاف المجد وهو العز والشرف كما في «المصابح» ، وقدم الخبر أي له على المبتدأ لإفادة الاهتمام والاختصاص (وفرغ قلبه تعالى) هو بتشديد الراء للمبالغة في تنظيف القلب وتنزيهه من دنس التعلق بغير المول سبحانه والركون إلى سواه، ومن سائر الشواغل والخواطر تعالى دون غيره ولو ثواباً لأنه ربط القصد به ينافي مقام الكمال المشار إليه بقوله تعالى: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً} (الكهف: 110) وجواب إن الشرطية مقدر: أي فلا ينصرف خارجاً من شيء من الأشياء (إلا انصرف) خارجاً (من خطيئته) : أي صغائره فيصير متطهراً منها (كهيئته) أي طهارته من كل خطيئة (يوم ولدته أمه) وقصرنا التشبيه على ما ذكرنا لقيام الأدلة عليه وكون التطهير من الذنوب بمعنى إزالتها بعد وقوعها ومن المدلول بمعنى عدم وجودها لا ينافي التشبيه، وقدرنا الجواب نفياً لأنه في سياق النفي بما وإلا لا لوجوبه، لجواز قرأت إلا يوم كذا (فحدث عمرو بن عبسة بهذا الحديث أبا أمامة صاحب رسول الله) وأبو أمامة كنيته، واسمه صدى بضم المهملة الأولى وفتح الثانية وتشديد التحتية ابن عجلان وتقدمت ترجمته في باب التقوى (فقال له أبو أمامة يا عمرو) يجوز ضمه وفتحه لوصفه بقوله (ابن عبسة) المتعين فيه النصب لكونه مضافاً (انظر) بضم الظاء: أي تفكر وتأمل (ما تقول في مقام) بفتح الميم: أي مكان (واحد يعطى هذا) الثواب العظيم (الرجل) ؟ وليس ذلك منه استبعاداً ولا استعجاباً من سعة الفضل إنما هو استكشاف للقبن وحذراً من وهل عمرو في ذلك (فقال عمرو: يا أبا أمامة لقد كبرت) بكسر الباء الموحدة: أي تقدمت (سني) أي عمري. قال في «المصباح» : السن واحد الأسنان، وقد يعبر بالسن عن العمر. قلت: وعليه فتأنيث الفعل لأنها بمعنى المدة (ورق عظمي) أي تحف ونحل (واقترب أجلي) أي

قرب والإتيان بالتاء مبالغة في ذلك (وما بي حاجة) أي داعية (أن أكذب على الله تعالى ولا على رسول الله) أي فيّ أو إلى أن أكذب (لو لم أسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا مرة أو مرتين أو ثلاثاً) منصوبات على الظرفية (حتى عدّ سبع مرّات) أي بأن قال أو أربعاً إلى أن قال أو سبع مرات (ما حدثت به أبداً ولكني سمعته أكثر من ذلك) قال المصنف: هذا الكلام قد يستشكل من حيث إن ظاهره أنه لا يرى التحديث إلا بما سمع أكثر من سبع مرات، ومعلوم أن من سمع مرة واحدة جاز له الرواية، بل تجب عليه إذا تعين لها وجوابه أن معناه: لو لم أتحققه وأجزم به لما حدثت به، وذكر المراتب بياناً لصورة حاله ولم يرد أن ذلك شرط، والله أعلم (رواه مسلم) قبيل باب صلاة الخوف وبعضه عند النسائي وابن ماجه. (قوله جرآء عليه قومه، هو بجيم مضمومة وبالمد على وزن علماء) لأن واحدة جرىء فهو كعليم وعلماء وشريف وشرفاء (أي جاسرون مستطيلون) من الاستطالة لكن في «شرح مسلم» من الجرأة: وهي الإقدام والتسلط وقضيته أن يكون جاسرون متسلطون وكذا هو في «المشارق» للقاضي عياض أي جرآء متسلطون عليه (غير هائبين) أي له لعدم معرفتهم بعظيم قدره لعمى بصائرهم عن مشاهدة أنواره: لكن نور الله جل فلا يرى إلا بتوفيق من الله الصمد (هذه الرواية المشهورة) وعليها اقتصر عياض في «المشارق» ولم يحك الثانية، وفي «شرح مسلم» هكذا في جميع الأصول (ورواية الحميدي) أي في الجمع بين الصحيحين (وغيره) ولم يذكر في «شرح مسلم» هذه الرواية عن غير الحميدي (حرآء عليه بكسر الحاء المهملة) أما الراء المهملة والمد ففيهما معاً فلذا سكت عنه المصنف (وقال معناه: غضاب) بكسر الغين المعجمة (ذوو غم) هو الحزن على فوات أمر (وهم) هو الخوف من أمر يترقب وقوعه (قد عيل صبرهم به) قال في «النهاية» : في أثناء كلام له يجوز أن يكون من عاله يعوله إذا غلبه، ومنه قولهم عيل صبرك اهـ: أي غلبهم صبرك عنه (حتى أثر) أي الصبر (في أجسامهم) مأخوذ (من قولهم حرى جسمه يحري) قال في «شرح مسلم» : كضرب

يضرب (إذا نقص من ألم أو غم ونحوه. والصحيح أنه) أي قوله جرا لا جرى جسمه يجري كما قد يتوهم من قربه (بالجيم قوله بين قرني شيطان أي ناحيتي رأسه) كما تقدم (والمراد) منه (التمثيل) وبينه بقوله (معناه) أي المراد منه في الحديث (أنه حينئذ يتحرك الشيطان وشعيته ويستلطون) فشبه تحركهم وانتشارهم وتمكنهم من الأذى واستعير للحاصل من ذلك قوله بين قرني شيطان فهي ستعارة تمثيلية وقال القاضي عياض قيل إن ذلك استعارة وكناية عن أضراره لما كانت ذوات القرون تتسلط بقرونها على الأذى استعير للشيطان اهـ. وفي «شرح مسلم» قيل المراد بقرني شيطان حزبه وأتباعه، وقيل قوته وغلبته وانتشار فساده، وقيل القرنان ناحيتا الرأس وأنه على الساجدون لها من الكفار كالساجدين له في الصورة، وحينئذٍ يكون له ولشيعته تسلط ظاهر وتمكن من أن يلبسوا على المصلين فكرهت الصلاة حينئذٍ صيانة لها عن ذلك، وهذا الأخير هو الظاهر لما فيه من السلامة من تأويل الخبر عن ظاهره الذي لا يعارضه معارض (وقوله يقرب وضوءه: معناه يحضر الماء الذي يتوضأ به) ويطلق الوضوء لغة على الماء المغسول به أعضاء الوضوء بضم الواو. وعلى الباقي في الإناء بعد تمام الوضوء (وقوله إلا خرت خطاياه هو بالخاء المعجمة أي سقطت، ورواه بعضهم) هو ابن أبي جعفر أحد رواة مسلم كما نقله عنه القاضي عياض (جرت) أي (بالجيم) وتخفيف الراء معناه على هذا ظاهر (والصحيح بالخاء) أي المعجمة (وهو رواية الجمهور) قال في «شرح مسلم» : وكذا نقله القاضي عياض عن جميع الرواة إلا ابن أبي جعفر (وقوله فيستنثر: أي يستخرج ما في أنفه من أذى) بعد أن يجذب الماء بالنفس إلى الخيشوم والانتشار افتعال من النثرة (والنثرة بفتح النون وسكون المثلثة (طرف الأنف) .

28439 - (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي قال: إذا أراد الله رحمة أمة) أي الإحسان إليهم واللطف بهم ولا يصح تأويلها هنا بإرادة ذلك لأن الإرادة لا تتعلق بالإرادة كما سبق عن الدماميني (قبض) بفتح الموحدة أي توفي (نبيها قبلها) ليكون صبرهم على المصاب به واحتسابهم ذلك زيادة في أجورهم قال تعالى: {وبشر الصابرين} (البقرة: 155) الآية. وقال: «من أصيب بمصيبة فليذكر مصيبته فيّ» أو كما قال، دل مجموع الحديث والآية على أن المؤمن إذا صبر على مصيبته على فقد المصطفى واحتسب ذلك عند مولاه أجر، كما أن الإنسان إذا ذكر مصابه بمن تقدم له من القرابة فاحتسب عند ذلك يؤجر فكذا ما ذكرنا وهو ظاهر والله أعلم (فجعله لها فرطاً) الفرط بفتح الفاء والراء، والفارط الذي يتقدم الورّاد يصلح لهم الحياض والدلاء ونحوهما من أمور الاستقاء أي إنه المهيىء لمصالحها في عقابها من مزيد رحمته (وسلفاً) قال في «النهاية» قيل هو من سلف المال كأنه قد أسلفه وجعله ثمناً للأجر والثواب الذي يجازى به على الصر عليه، وقوله (بين يديها) ظرف مستقرّ متعلق بمحذوف صفة لهما: أي كاثنتين بين يدي الأمة، أو حال من مفعول جعله: أي كائناً بين يديها أو ظرف لغو متعلق بجعل (وإذا أراد هلكة) بفتح حروفه مصدر هلك الشيء هلكاً من باب ضرب وهلاكاً وهلوكاً ومهلكاً بفتح الميم وتثليث اللام، وأهلكه بوزن أتبعه والهلكة بوزن القصبة مثل الهلاك: أي في كونه مصدراً كذا في «المصباح» : أي وإذا أراد هلاك (أمة عذبها ونبيها حيّ) جملة حالية من فاعل عذب والمراد منه الرسول لأنه الذي له أمة لكونها مأمورة بالتسلي، بخلاف النبي هذا هو المشهور (فأهلكها وهو) أي نبيها (ينظر) هلاكها والجملة الإسمية حالية (فأقر) أي الله تعالى (عينه) أي عين نبيه لتلك الأمة (بهلاكها حين كذبوه وعصوا أمره) أي وقت تكذيبهم له وعصيانهم أمره (رواه مسلم) في باب فضائل النبيّ فقال: وحدثت عن أبي أمامة قال المازري والقاضي: هذا الحديث من الأحاديث المنقطعة في مسلم لفظاً لجهل الذي حدثه عن أبي أمامة، قال المصنف: قلت: ليس هذا حقيقة انقطاع وإنما هو رواية مجهول قلت: هو وإن كان كذلك إلا أن المحدثين المتقدمين يعبرون عنه بالمنقطع، وبعضهم بالمرسل قال العراقي

52 ـــ باب فضل الرجاء

في «ألفيته» : 6 ورسموا منقطعاً عن رجل وفي الأصول رسمه بالمرسل قال الشيخ العراقي في «شرحها» : قلت وفي كلام غير واحد من أهل الحديث: إنه متصل في سنده مجهول، وحكاه الرشيد العطار في الغرر المجموعة عند الأكثرين واختاره شيخنا الحافظ أبو سعيد العلائي في كتاب «جامع التحصيل» قال المصنف: وقد وقع في حاشية بعض النسخ المعتمدة قال الخلودي حدثنا محمد بن المسيب الأرعياني حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري بهذا الحديث عن أبي أسامة بإسناده اهـ. وفي «النكت على الأطراف» للحافظ: وقع لنا أن مسلماً لم يسمعه من إبراهيم إنما سمعه من محمد بن المسيب عن إبراهيم، وأخرجه البزار في «مسنده» عن إبراهيم بن سعيد، وأخرجه أبو نعيم من طريق أبي يعلى وغيره عن إبراهيم بن سعيد اهـ. قال الشيخ العراقي في «شرحها» : قلت وفي كلام غير واحد من أهل الحديث: إنه متصل في سنده مجهول، وحكاه الرشيد العطار في الغرر المجموعة عند الأكثرين واختاره شيخنا الحافظ أبو سعيد العلائي في كتاب «جامع التحصيل» قال المصنف: وقد وقع في حاشية بعض النسخ المعتمدة قال الخلودي حدثنا محمد بن المسيب الأرعياني حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري بهذا الحديث عن أبي أسامة بإسناده اهـ. وفي «النكت على الأطراف» للحافظ: وقع لنا أن مسلماً لم يسمعه من إبراهيم إنما سمعه من محمد بن المسيب عن إبراهيم، وأخرجه البزار في «مسنده» عن إبراهيم بن سعيد، وأخرجه أبو نعيم من طريق أبي يعلى وغيره عن إبراهيم بن سعيد اهـ. 52 - باب فضل الرجاء أي ما جاء فيه من الكتاب والسنة. (قال الله تعالى) إخباراً أي مخبراً، ويجوز أن يكون منصوباً على المصدرية يكون الإخبار من أنواع القبول (عن العبد الصالح) هو مؤمن آل فرعون (وأفوض أمري إلى ا) أي أسلمه إلى الله تعالى ليعصمني من كل سوء (إن الله بصير بالعباد) فيجيزهم وكأنه جواب بوعد المفهوم من قوله (فوقاه الله سيئات ما مكروا) شدائد مكرهم، وقال البيضاوي: وقيل الضمير لموسى. 1440 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال: قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي) قال ابن الجوزي أي في الرجاء وأمل العفو، قال القاري في «شرح الحصن الحصين» : ويؤيده ما أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: «أمر الله بعبد إلى النار فلما وقف على شفيرها التفت وقال: أما وا يا رب إن

كان ظني بك لحسن فقال الله: ردوه أنا عند ظن عبدي بي» ذكره السيوطي في «البدور السافرة» ، وعليه فانظر بمعناه: أي الطرف الراجح، وقيل بمعنى اليقين، والمعنى أنا عند يقينه بي وعلمه بأن مصيره إليّ وحسابه عليّ وأن ما قضيت له به من خير أو شر فلا مرد له لديّ. (فائدة) : الظن في الشرع ينقسم إلى واجب كحسن الظن با تعالى، وإلى حرام كسوء الظن به تعالى، قال تعالى: {وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم} (فصلت: 23) وبكل من ظاهره العدالة، ومندوب وهو حسن الظن بمن ظاهره العدالة من المسلمين، وجائز كظن السوء بمن وقف مواقف التهم (وأنا معه) أي بالرحمة والتوفيق والإعانة والنصر (حيث ذكرني) بين الملأ أو في الخلاء (وا أفرح بتوبة عبده من أحدهم يجد ضالته) الذي هو في غاية الاحتياج إليها والاضطرار كما بينته رواية أخرى في الصحيح (بالفلاة) هي كما في «المصباح» الأرض التي لا ماء فيها وجمعها فلا، قال المصنف: قال العلماء: فرح اهو رضاه، قال المازري: الفرح ينقسم إلى وجوه منها السرور، والسرور يقارنه الرضى بالمسرور به، والمراد هنا أن الله يرضى توبة عبده أشد مما يرضى واجد ضالته بالفلاة فعبر عن الرضى بالفرح تأكيداً لمعنى الرضى في نفس السامع ومبالغة في تقريره (ومن تقرّب إليّ) أي إلى فضلي ورحمتي بصالح العمل (ذراعاً تقربت منه باعاً وإذا أقبل إليّ يمشي أقبلت إليه أهرول. متفق عليه) رواه البخاري في باب الرجاء ومسلم في باب التوبة (وهذا لفظ إحدى روايات مسلم وتقدم شرحه) أي شرح قوله ومن تقرّب الخ، الموهم ظاهره المكان وجواز الأعراض على الباري سبحانه (في الباب قبله) بما حاصل أنه مؤول بأن المراد بالتقرّب إليه التقرّب إلى فضله وإحسانه بصالح العمل، والمراد بتقربه تعالى من العامل إسباغ فضله عليه زيادة على قدر عمله (وروي في الصحيحين) أي في رواية أخرى (وأنا معه حين يذكرني بالنون) فيكون منصوباً على الظرفية الزمانية (و) روي (في هذه

الرواية بالثاء) أي المثلثة (وكلاهما) أي المرويين (صحيح) زاد في شرح مسلم بعد قوله صحيح ظاهر المعنى وأفرد الخبر باعتبار لفظ «كلا» وهو الأصح، قال تعالى: {كلتا الجنتين آتت أكلها} (الكهف: 33) ويجوز مطابقة معناهما وقد اجتمع الاستعمالان في قوله: كلاهما حين جد الجري بينهما قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي 2441 - (وعن جابر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل موته) أي قبل موت النبيّ (بثلاثة أيام) كما صرح به في مسلم (يقول: لا يموتن أحدكم إلا وهو محسن الظن با عزّ وجل) قال المصنف: وفي رواية «وهو يحسن الظن با» قال العلماء: هذا تحذير من القنوط وحث على الرجاء عند الخاتمة، وقد سبق «أنا عند ظن عبدي بي» قال العلماء: معنى إحسان الظن با أن يظن أنه يرحمه ويعفو عنه، قالوا وفي حال الصحة يكون خائفاً راجياً وسيأتي الخلاف في أنهما هل يكونان متساويين حينئذٍ أولا؟، وإذا دنت أمارات الموت غلب الرجاء أو محضه لأن مقصود الخوف الانكفاف عن المعاصي والقبائح والحرص على إكثار الطاعة وصالح العمل، وقد تعذر ذلك أو معظمه في هذه الحال فاستحب إحسان الظن المتضمن للافتقار إلى الله تعالى والإذعان له، ويؤيده حديث «يبعث كل عبد على ما مات عليه» قال العلماء: معناه يبعث على الحال التي مات عليها، قال القرطبي نهى أن يموتوا على غير حالة حسن الظن، وذلك ليس بمقدورهم بل المراد الأمر بتحسين الظن ليوافي الموت وهو عليه اهـ. ونظيره قوله تعالى: {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} (البقرة: 132) وفي «الديباجة» للدميري في «مروج الذهب» عن فقير بن مسكين. قال: دخلت على الشافعي أعوده في مرض موته فقلت له كيف أصبحت يا أبا عبد الله قال أصبحت من الدنيا راحلاً ولإخواني مفارقاً

ولكأس المنية شارباً ولا أدري إلى الجنة تسير روحي فأهنيها أم إلى النار فأعزيها، وأنشأ يقول: لما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا مني لعفوك سلما تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما اهـ. وما يعزى للرافعي قوله: إذا أمسى فراشي من تراب وصرت مجاور الرب الرحيم فهنون أحبائي وقولوا لكل البشرى قدمت على كريم 3442 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله تعالى يا ابن آدم) نداء لم يرد به واحد معين عدل إليه ليعلم من يتأتى نداؤه، وآدم عربي مشتق من أديم الأرض أي وجهها، وأصله أأدم بهمزتين وزن أفعل فأبدلت الثانية ألفاً ومنع الصرف للعلمية والوزن، وقيل أعجمي وعليه فمنع صرفه للعلمية والعجمة وأضيف إليه المنادى للعموم لأن إضافته المفرد تقيده فالنداء هنا لا يختص به منادى دون آخر (إنك ما دعوتني ورجوتني) أي مدة دعائك إياي نفعاً وصلاحاً وتأميلك خبر ما عندي (غفرت لك ما كان منك) أي محوت ما كان من الذنوب منك كذنب الكفر بالإيمان وغيره بالاستغفار (ولا أبالي) بما كان منك منها عظم أولا، وذلك لحسن رجاء العبد وا عند حسن ظن عبده به (يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء) أي ما يملأ ما بينها وبين الأرض لو كان جسماً (ثم استغفرتني) أي سألتني غفران ذلك (غفرت لك) إياها وذلك لأنه تعالى كريم يقيل العثرات ويغفر الزلات وهذا مثال بالغ في الكثرة جيء به تنبيهاً على أن كرمه وفضله ورحمته لا تتناهى وأنها أكثر وأوسع مما ذكر (يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض) أي ما يقارب ملأها (خطايا) جمع خطيئة، قال في «الصحاح» : وكان الأصل خطائىء على فعائل فلما اجتمعت الهمزتان قلبت ياء لأن قبلها كسرة ثم استثقلت والجمع ثقيل وهو معتل مع ذلك فقلبت الياء ألفاً ثم قلبت الهمزة الأولى ياء لخفائها بين الألفين اهـ. (ثم لقيتني لا تشرك

بي) جملة في محل الحال من الفاعل (شيئاً) أي من الشرك أو من المعبودات (لأتيتك بقرابها مغفرة) أي لغفرتها لك وذلك لأن الإيمان به تعالى شرط في العفو عن الذنب غير الشرك لأنه أصل يبنى عليه قبول الطاعة والعفو عن المعصية، بخلاف الشرك إذ لا أصل معه يبنى عليه العفو عنه ولا بد أن يضم إلى الإيمان با تعالى الإيمان بنبيه محمد وبما جاء به هذا، والمراد من «أتيتك» غايته من المغفرة، أو إرادتها لاستحالته عليه وأتى به مشاكلة، والحديث من الأحاديث القدسية (رواه الترمذي وقال حديث حسن) زاد في «الجامع» بعد قوله حسن: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. قال الحافظ العلائي في الأربعين: قلت: يعني غريباً من جهة أنس، وقد روي من حديث ابن عباس وأبي ذر ثم أخرج حديث ابن عباس من طريق الطبراني وحديث أبي ذر من طريقين وقال بعد إخراجه رواه الحافظ أبو عوانة في «صحيحه» . قلت وذكر السخاوي في «تخريج الأربعين» الحديث التي جمعها المصنف أن لحديث أنس طريقاً آخر غير طريق الترمذي عند ابن فنجويه بنحو الحديث المذكور وقال بعد تخريجه سنده ضعيف والأوّل أصح (عنان السماء بفتح العين) المهملة وبنونين خفيفتين (قيل هو ما عنَّ) بتشديد النون (لك منها أي ظهر إذا رفعت رأسك، وقيل هو السحاب) هو ما اقتصر عليه صاحب «المصباح المنير» ، وعبارته: العنان قيل السحاب وزناً ومعنى الواحدة عنانة (وقراب الأرض بضم القاف وقيل بكسرها والضم أصح وأشهر، وهو ما يقارب ملأها) تقدم الكلام من المصنف أوائل باب الرجاء، وتقدم ما يتعلق به من الشرح ثمة.

باب الجمع بين الخوف من الله تعالى (والرجاء) لفضله وإحسانه

باب الجمع بين الخوف من الله تعالى (والرجاء) لفضله وإحسانه (اعلم أن المختار للعبد) أي المكلف حراً كان أو رقيقاً ذكراً كان أو غيره (في حال صحته) أي سلامته من المرض (أن يكون خائفاً راجياً) ليزجره الخوف عن المخالفة ويبعثه الرجاء على اكتساب العمل الصالح (ويكون خوفه ورجاؤه سواء) لأن الغالب في القرآن ذكر الترغيب والترهيب مقترنين، وهذا أصح الوجهين عند الأصحاب، وقيل يكون خوفه أكثر، ومحل الخلاف ما لم يغلب عليه القنوط فيغلّب على نفسه باب الرجاء، وما لم يغلب عليه سعة الرجاء ويخشى انحلال ربقة التكليف فيغلب حينئذٍ باب الخوف (وفي حال المرض يتمحض الرجاء) لما تقدم في حديث «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن با» (وقواعد الشرع) جمع قاعدة، وهي قانون كلي يتعرف منه أحكام جزئياته، والشرع ما شرعه الله من الأحكام للعباد مما ينتظم به أمر معاشهم ومعادهم، وتسمى القاعدة قانوناً وضابطاً وأصلاً، ويرادف الشرع من حيث الماصدق الإسلام والدين والملة، وإن كانت متكلفة من حيث الاعتبار (من نصوص الكتاب) أي القرآن (والسنة) وهو ما أضيف إليه من قول أو صفة أو فعل أو تقرير (وغير ذلك) كالإجماع (متظاهرة على ذلك) أي المذكور والتظاهر بالهاء كأن بعضها يشد ظهر الدليل الآخر. (قال تعالى) : {فلا يأمن مكر ا} ) قال البيضاوي: ومكر الله استعارة لاستدراج العبد وأخذه من حيث لا يحتسب ( {إلا القوم الخاسرون} ) أي الذين خسروا بالكفر وتركوا النظر والاعتبار. (وقال تعالى) : {إنه لا ييأس} ) أي يقنط ( {من روح ا} ) أي من رحمته التي يحيى به العباد ( {إلا القوم الكافرون} ) با وصفاته فإن العارف لا يقنط من رحمته تعالى في شيء من الأحوال. (وقال تعالى) : {يوم تبيض وجوه} ) وهو يوم القيامة تبيض وجوه المحقين سروراً ونوراً ( {وتسودّ وجوه} ) هي وجوه

المبطلين تسودّ خزاية ودحوراً. (وقال تعالى) : {إن ربك لسريع العقاب} ) لمن عصاه ( {وإنه لغفور} ) لأهل طاعته. ( {رحيم} ) بهم. (وقال تعالى) : {إن الأبرار} ) المؤمنين الصادقين ( {لفي نعيم} ) جنة ( {وإن الفجار} ) الكفار ( {لفي جحيم} ) نار محرقة. (وقال تعالى) : ( {فأما من ثقلت موازينه} ) بأن رجحت حسناته على سيئاته ( {فهو في عيشة راضية} ) في الجنة: أي ذات رضى برضاها أي مرضية له ( {وأما من خفت موازينه} ) بأن رجحت سيئاته على حسناته ( {فأمه} ) مسكنه ( {هاوية} ) وبينها سبحانه مهولاً لشأنها بقوله ( {وما أدراك ماهيه نار حامية} ) نسأل الله العافية (والآيات في هذا المعنى) أي الجمع بين الرجاء والخوف (كثيرة، فجمع الخوف والرجاء في آيتين مقرونتين) كآية {إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم} (الانفطار: 13 - 14) ؟ أو آيات (وذلك كثير في التنزيل) أو آية (كقوله) : {يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه} ) . 1443 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لو يعلم المؤمن ما عند ا) من العقوبة (ما طمع بجنته أحد) وذلك لما يشهده من جلال الحق سبحانه ويخشاه من انتقامه وهو العدل في جميع ذلك (ولو يعلم الكافر ما عند ا) من الرحمة (ما قنط) من القنوط بالضم: وهو الإياس (من رحمة ا) قال في «المصباح» : قنط يقنط من باب ضرب يضرب وتعب فهو قانط وقنوط وقنط. وحكى الجوهري لغة ثالثة من باب قعد اهـ: أي ما

يئس من جنته أحد، بل كان يرجوها لما يعلمه من كثرة الرحمة وسعتها (رواه مسلم) وفي «الجامع الصغير» رواه الترمذي، وهو منه عجيب كان حقه حيث ما هو في الصحيح عزوه إليه، وفي «المشارق» رمز متفق عليه، وتعقبه شارحه الكازروني بأن الحديث لمسلم انفرد به عن البخاري. 2444 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا وضعت الجنازة) أي بين يدي الرجال ليحملوها (واحتملها الرجال على أعناقهم) قيد إذ لا يتولى حمل الجنازة ولو امرأة إلا الرجال إن وجدوا لضعف النساء غالباً فيكره لهن حملها، ويكره للرجال كراهة شديدة تمكينهن منها، بل أطال بعضهم في الانتصال لحرمته: نعم الأولى لا يتولى حمل المرأة من المغتسل إلى النعش وتسليمها لمن في القبر وحلّ ثيابها إلا النساء على أعناقهن (فإن كانت صالحة) يحتمل أن المراد مطلق الصلاح وهو الإيمان، والصلاح الذي هو امتثال الأوامر واجتناب النواهي (قالت: قدموني قدموني) اشتياقاً إلى ما أعدّه الله لها من نعيم القبر ونضارته (وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها) إضافته وما بعده إليها بضمير الغيبة على خلاف القياس من ويلي لأنه حكاية كلامها وكراهة أن الويل يضاف لنفس المتكلم، وهو كلمة جوع وتحسر، والمعنى: يا حسرته وندامته هذا وقتك فاحضريني. والويل الهلاك (أين تذهبون بها يسمع) الظاهر أنه بمعنى يستمع (صوتها كل شيء) عمومه متناول للجماد ولا بعد في خلق قوّة الاستماع في الجماد (إلا الإنسان) وحكمة استثنائه قوله (ولو سمعه لصعق) بكسر العين: أي مات لشدة ذلك الصوت الناشيء عن شدة ما يرى مما أعد له من الويل والثبور (رواه البخاري) في الجنائز.

54 ـــ باب فضل البكاء من خشية الله تعالى

3445 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله: الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله) بكسر الشين المعجمة وتخفيف الراء وآخره كاف: أحد سيور النعل التي تكون في وجهها، ويطلق على كل سير وقى به القدم (والنار مثل ذلك) أي في الأقربية. قال ابن بطال: فيه أن الطاعة موصلة إلى الجنة وأن المعصية مقربة إلى النار وأن الطاعة والمعصية قد يكونان في أيسر الأشياء، وفي هذا المعنى حديث «إن الرجل ليتكلم بالكلمة» الحديث فينبغي للمرء أن لا يزهد في قليل من الخير أن يأتيه ولا في قليل من الشر أن يجتنبه فإنه لا يعلم الحسنة التي يرحمه الله بها ولا السيئة التي يسخط الله عليه بها وقال ابن الجوزي: معنى الحديث أن تحصيل الجنة سهل بتصحيح القصد وفعل الطاعة، والنار كذلك بموافقة الهوى وفعل المعصية اهـ. من «فتح الباري» (رواه البخاري) ورواه أحمد أيضاً كما في «الجامع الصغير» . 54 - باب فضل البكاء من خشية الله تعالى الخشية: الخوف المقرون بإجلال، وذلك للعلماء با كما قال تعالى: {إنما يخشى الله من عبادة العلماء} (فاطر: 28) أماتنا الله على محبتهم (وشوقاً إليه) معطوف على محل المجرور بمن، إذ هو مفعول له، وقد صرح النحاة بأن المفعول له عند اجتماع شروط نصبه لا يجب النصب بل يجوز جره حينئذٍ وما هنا كذلك، ويجوز العطف بالنصب على محل ذلك، قال الله تعالى: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} (النحل: 8) قزينة معطوف على محل لتركبوها على أحد الأقوال في إعراب الآية، وأشار المصنف بالترجمة إلى أن الداعي للبكاء إما أن يكون خشية لما علم العارف من عظم جلال مولاه، وإما شوقاً لما كشف له مما تقصر العبارة عن بيان أدناه، فضلاً عن أقصاه....... (قال الله تعالى) مبيناً حال من اطلع على الكتب

الساقة وعرف حقيقة المصطفى وما أنزل عليه في تلك الكتب ( {ويخرّون للأذقان يبكون} ) أي لما أثر فيهم من مواعظ القرآن حال كونهم باكين من خشية الله تعالى، وذكر الذقن لأنه أول ما يلقى الأرض من وجه الساجد واللام فيه لاختصاص الخرورية (ويزيدهم) أي سماع القرآن (خشوعاً) كما يزيدهم علماً ويقيناً با تعالى. (وقال تعالى) : ( {أفمن هذا الحديث} ) يعني القرآن ( {تعجبون} ) إنكاراً ( {وتضحكون} ) استهزاء ( {ولا تبكون} ) تحزناً على كشف ما فرطتم....... 1446 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله: اقرأ على القرآن فقلت: يا رسول الله أقرأ عليك؟) بتقدير همزة الاستفهام قبله: أي أأقرأ عليك (وعليك) أي لا على غيرك (أنزل) الجملة حالية من ضمير المخاطب، والرابط الواو، فهم ابن مسعود أنه أمر بالقراءة ليتلذذ بقراءته، لا ليختبر ضبطه فلذا سأل متعجباً وإلا فلا مقام للتعجب (قال: إني أحبّ أن أسمعه من غيري) لكونه أبلغ من التفهيم والتدبير لأن القلب حينئذٍ يخلص لتعلق المعاني والقارىء مشغول بضبط الألفاظ وأدائها حقها ولأنه اعتاد سماعه من جبريل والعادة محبوبة بالطبع، ولهذا كان عرض القرآن على الغير سنة. قالوا: ومن فوائد هذا الحديث التنبيه على أن الفاضل لا يأنف من الأخذ عن المفضول. قال ابن النحوي: وقراءته عليه يحتمل أن يراد بها علم الناس بحاله أو يخشى أن يغلبه البكاء عنها (فقرأت عليه سورة النساء) فيه رد على من قال ينبغي أن يقال السورة التي يذكرفيها كذا (حتى جئت) أي وصلت (إلى هذه الآية) وعطف عليها عطف بيان قوله ( {فكيف} ) أي فكيف حال الكفار ( {إذا جئنا من كل أمة بشهيد} ) يشهد عليها بعملها وهو نبيها (وجئنا بك على هؤلاء) أي الأشخاص المعينين من الكفرة ( {شهيداً} ) وزعم المغني أن كل نبيّ شهيد على أمته، وكذا تفعل بك وبأمتك يا محمد، رده الطيبي بقوله تعالى: {ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا

شهداء على الناس} (الحج: 78) فالشهادة لهم لا عليهم وقال ابن النحوي: وهؤلاء هم سائر أمته يشهد عليهم أو لهم، فعلى بمعنى اللام، وقيل أراد به أمته الكفار، وقيل اليهود والنصارى، وقيل كفار قريش، وفيما يشهد به البلاغ أو بالإيمان أو بالأعمال أقوال اهـ. (قال حسبك) أي يكفيك ذلك (الآن فالتفت إليه) أي لأنظر الداعي إلى الأمر بالكف، عن القراءة بعد الأمر بها (فإذا عيناه تذرفان) بذال معجمة ساكنة وكسر الراء: أي تسيل دموعهما. قال ابن النحوي في شرح البخاري: يقال ذرف الدمع وذرفت...... العين دمعها. قال في «تفسير السمرقندي» من حديث محمد بن فضالة عن أبيه: إنه عليه الصلاة والسلام أتاهم في بني ظفر فجلس على الصخرة التي في بني ظفر ومعه ابن مسعود ومعاذ بن جبل وناس من أصحابه، فأمر قارئاً يقرأ حتى أتى على هذه الآية {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد} (انساء: 41) بكى حتى اخضلت لحيته وقال: يا ربّ هذا على من أنا بين أظهرهم فكيف بمن لم أرهم؟ وللثعلبي: فدمعت عيناً رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: حسبناالله. وفي «تفسير ابن الجوزي» {شهيداً عليهم ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم} (المائدة: 117) قال ابن النحوي: وبكاؤه عند هذه الآية لأنه لا بد من أداء الشهادة، والحكم على المشهود عليه إنا يكون بقول الشاهد، فلما كان هو الشاهد وهو السامع بكى على المفرطين منهم. وقيل بكى لعظم ما تضمنته هذه الآية من هول المطلع وشدة الأمر، إذ يؤتى بالأنبياء شهداء على أممهم بالتصديق والتكذيب. وقيل بكى فرحاً بقبول شهادة أمته وتزكيته لهم ذلك اليوم اهـ....... وقال بعض شراح «الشمائل» : بكاؤه عليهم لفرط رأفته ومزيد شفقته حيث عزّ عليه عنتهم، ويؤخذ من قوله «حسبك الآن» جواز أمر الغير بقطع القراءة للمصلحة. قال الحراني: إنما قال للقارىء «حسبك الآن» حفيظة عل حسن ترديه بالصبر في هيئته، فإن كان ينكف عن السماع الذي يغلب تأثيره في ظاهر الهيئة فكانت سنته العلمية أن يتردى رداء السكون ويصون ظاهر أعضائه عن الخروج عن الإحساس في الهيئة كما كان لا تبدو عليه في أقواله وأعماله عند ما ترهقه الإرهاقات حركة، فكان لا يزول عن ظاهر رداء الصبر ولا يخرج عن حسن السمت وهيئة السكون. وقد كان عيسى عليه السلام إذا ذكر الساعة يخور كما تخور البقرة فكان أثر السماع يظهر في كثير من الأنبياء والأولياء، وكان المصطفى ساكناً فيه حتى

يفيض سكونه على جلسائه، وكان قليلاً ما يخرج حاضروه عن هيئة السكون كما قال العرباض «خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب الحديث، فقلما كان يغلب عليهم السماع لما يصل إليهم من بركة ترديه برداء الصبر ولزوم حسن السمت، فأنبأنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن انفعال النفس لما تسمع الأذن لا بد منه، لكن ينبغي الستر والتثبت وعدم إظهار الحركة الصرخة فكان على من على سنته في الوجد التثبت وحسن السمت والصبر على جميع مواجيده التي لا يجدها سواه، وكان يدعو حاضريه لذلك فعلمنا التأسي به (متفق عليه) أخرجه البخاري في التفسير، ومسلم في كتاب فضائل القرآن وأخرجه الترمذي والنسائي في التفسير. (فائدة) : قال ابن النحوي في شرح البخاري: روى عبد بن حميد في تفسيره أن عبد الله بن مسعود لما قرأ هذه الآية قال: «من سرّ أن يقرأ القرآن غضاً طرياً فليقرأ على قراءة ابن أم عبد» اهـ....... 2447 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة) بضم الخاء المعجمة في الوعظ وهي فعلة بمعنى مفعول نحو نسخة بمعنى منسوح، وجمعها خطب (ما سمعت مثلها قط) من كمال البلاغة ومزيد التذكير والتنبيه على ما يحتاج إليه (فقال: لو تعلمون ما أعلم) أي من إجلال الله سبحانه وعظمته (لضحكتم قليلاً) لما تشهدون من مظهر الرحمة المنبثة من فضله في الأكون، ففيه إيماء إلى أن الكمال عدم غلبة الخوف بحيث يؤدي إلى الانقطاع عن الرجاء (ولبكيتم كثيراً) والاسمان منصوبان على المفعولية المطلقة، ويحتمل نصبهما على الظرفية الزمانية أي في قليل وكثير من الزمان (قال: فغطى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجوههم لهم خنين) جملة حالية من فاعل غطى والرابط الضمير (متفق عليه وسبق بيانه) مع

شرحه (في باب الخوف) ....... 3448 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: لا يلج النار رجل بكى من خشية ا) من فيه تعليلية: أي لخشية الله الداعية إلى امتثال الأوامر واجتناب النواهي، ومن كان كذلك لا يلجها بالوعد الكريم إلا تحلة القسم. وقال العاقولي: لعل المراد به العارف به تعالى وهو العالم العامل لقوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} (فاطر: 28) وبالجملة فلا بد من نوع معرفة ليتصور الخشوع والبكاء لأن البكاء ممن لا يعرفه بوجه ممتنع انتهى. وأشار إلى سبب البكاء، وما ذكرته أولى لأن الموصوف بما ذكرته القائم به من أهل الجنة ابتداء بالوعد الكريم، وظاهر الخبر إن لم يحمل على ذلك معارض لما جاء في الأخبار من دخول قوم من عصاة المؤمنين النار. وقوله (حتى يعود اللبن في الضرع) أي يدخل من مسامه إليه أي وذلك محال عادة فتعلق ولوج الخائف الوجل من الله تعالى العارف بجلاله القائم بما تقتضيه الخشية من امتثال الأوامر واجتناب النواهي بعود اللبن إلى الضرع، والمراد بالولوج الدخول فيها فلا ينافى وجوب المرور عليها المفسر به الورود، أما من لم يقم بقضية الخشية مما ذكر ومات على غير الشرك من المعاصي فأمره إلى مولاه إن شاء أدخله الجنة مع الفائزين وعفا عنه ما جناه، وإن شاء حبسه بالنار قدر ما سبق في علمه ثم أدخله الجنة لإيمانه بمحض فضله وما ذكرت من أن المراد عود اللبن إلى الضرع من مسامها ليكون محالاً عادياً وإلا فقد صرح الفقهاء بأن اللبن إذا تنجس أمن تطهيره بأن تسقاه نحو الشاة ثم يخرج من ضرعها طاهراً، وكذا إذا تنجس العسل يسقاه النحل ثم يمجه طاهراً (ولا يجتمع غبار في سبيل ا) المراد جهاد أعداء الدين لوجه الله تعالى (ودخان جهنم) ظاهره أن الجهاد في سبيل الله مقتض لسلامة المجاهد من العذاب بالوعد الذي لا يخلف فيحمل على ما إذا مات

فيه أو بعده ولم يقترف موبقاً يصده عن ذلك (رواه الترمذي) في كتاب الجهاد (وقال: حديث حسن صحيح) ....... 4449 - (وعنه قال: قال رسول الله: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة ا) هي ما تعبد به بشرط معرفة المتقرب إليه فالطاعة توجد بدونهما في النظر المؤدي إلى معرفة الله تعالى إذ معرفته ربما تحصل بتمام النظر، والقربة توجد بدون العبادة في القرب التي لا تحتاج إلى نية كالعتق والوقف (ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات جمال ومنصب) بكسر الصاد (فقال) أي بقلبه لنفسه لينزجر عن العصيان، ويحتمل أن يكون بلسانه لينزجر طالبه منه ولا مانع أن يأتي بهما نظير ما قاله الفقهاء فيما يسن للصائم إذا خوصم من قوله: إني صائم (إني أخافالله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) خشية من الله تعالى (متفق عليه) وقد تقدم مع شرحه في باب فضل الحب فيالله............. 5450 - (وعن عبد الله بن الشخير) بشين وخاء معجمتين مكسورتين، والخاء مشددة وآخره

راء، الصحابي هو عبد الله بن الشخير بن عوف بن كعب بن وفدان بن الجرش وهو معاوية بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة العامري الكعبي الجرشي البصري والد مطرف بن يزيد روي له عن النبيّ نحو ستة أحاديث، قال ابن الجوزي في «مختصر التلقيح» ذكره البرقاني وقال له نحو ستة أحاديث اهـ. انفرد مسلم بالرواية عنه عن البخاري، فروى له حديثين، وأورد له المزي في «الأطراف» تسعة أحاديث، وقد ذكرته في رجال «الشمائل» بأبسط من هذا (رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي ولجوفه) أي صدره وداخله وجوف كل شيء داخله، والجوف: البطن وما انطبقت عليه الكتفان والأضلاع (أزيز) بفتح الألف وكسر الزاي الأولى: صوت البكاء أو غليانه في الجوف، وفيه أن الصوت الغير المشتمل على الحروف لا يضر في الصلاة (كأزيز المرجل) بكسر فسكون ففتح: مذكر، والدور كلها مؤنثة إلا المرجل، وهو قدر من نحاس أو حجر أو يختص بالنحاس، أو كل قدر، ورجحه الحافظ ابن حجر. قال الزمخشري: سمى بذلك لأنه إذا نصب أقيم على رجل (من البكاء) أي من أجله، وذلك ناشىء عن عظيم الرهبة والخوف والإجلال سبحانه، وذلك مما ورثه من أبيه إبراهيم عليه السلام، فقد ورد أنه كان يسمع من صدره صوت كغليان القدر من مسيرة ميل اهـ. وفيه دليل على كمال خوفه وخشيته وخضوعه لربه. قال الحراني: ومن هذا الحديث ونحوه استنّ أهل الطريق الوجد والتواجد في أحوالهم وعرفوا به في أوقاتهم، وهذا الحال إنما كان يعرض للمصطفى عند تجلي الصفات الجلالية والجمالية معاً: يعني الجلال الممزوج بالجمال، وإلا فغير الممزوج بالجمال لا يطيقه أحد من البشر بل ولا واحد من الخلائق، وكان إذا تجلى لقلبه الجمال الحض يمتلىء نوراً وسروراً وملاطفة وإيناساً وتبسطاً، وكل وارث من أمته له نصيب من هذين التجليين، فتجلى الجلال يورث الخوف والقلق.................. والوجل المزعج، وتجلي الجمال يورث الأنس والسرور (حديث صحيح) فيه دليل على جواز تصحيح الحديث وتحسينه وتضعيفه لمن تمكن منه وفيه أهلية ذلك، خلافاً لابن الصلاح في منع ذلك وقد تقدم ذلك (رواه أبو داود) في كتاب الصلاة من سننه (والترمذي في «الشمائل» ) في باب البكاء (بإسناد صحيح) والنسائي في

الصلاة بنحوه. 6451 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبيّ) بضم الهمزة وفتح الموحدة وتشديد التحتية (ابن كعب) بسكون العين المهملة آخره موحدة وهو الأنصاري سيد القراء تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب بيان كثرة طرق الخير (إن الله عز وجل أمرني أن أقرأ عليك: {لم يكن الذين كفروا} ) أي السورة بكمالها (قال) أي أبي للنبي (وسماني لك) الواو عاطفة على مقدر أي أمرك بذلك وسماني، وسببه احتمال أن يكون الله تعالى أمر النبي أن يقرأ على رجل من أمته ولم ينص على خصوص أبى فأراد تحقق ذلك، فيؤخذ منه الاستثبات، ويوضح ذلك لفظ البخاري «هل نص عليّ باسمي أو قال اقرأ على واحد من أصحابك فاخترتني أنت» (قال نعم) أي سماك لي. وعند الطبراني عن أبيّ بن كعب «قال نعم باسمك ونسبك في الملأ الأعلى» (فبكى) إما فرحاً وسروراً بذلك أو خشوعاً وخوفاً من التقصير في شكر تلك النعمة أو استحقاراً لنفسه وخشية وتعجباً وهذا شأن الصالحين إذا فرحوا بشيء خلطوه بالخشية، وقيل الفرح والسرور دمعته باردة ولذلك يقال أقر الله عينه، قاله ابن النحوي. قال أبو عبيد المراد بالعرض على أبيّ ليعلّم منه القراءة. قلت: ويؤيده أن عدن أحمد بن حنبل من حديث عليّ بن زيد عن عمار بن أبي دحية البدري «لما نزلت لم يكن قال جبريل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله يأمرك أن تقرئها أُبياً فقال له رسول الله: إن الله أمرني أن أقرئك هذه السورة فبكى وقال يا رسولالله، وقد ذكرت ثمة؟ قال نعم» ، ويستثبت فيها لكيون عرض القرآن سنة............. وللتنبيه على فضيلة أبيّ وتقدمه في حفظ القرآن وليس المراد أن يتذكر منه شيئاً بذلك العرض، وحكمة تخصيص هذه السورة لو جازتها وجمعها لقواعد كثيرة من أصول الدين وفروعه ومهماته، والإخلاص وتطهير القلوب، وكان الوقت يقتضي الاختصار، قاله المصنف والقرطبي في شرحيهما على مسلم. ويؤخذ من الحديث مشروعية التواضع في أخذ الإنسان العلم من أهله وإن كان دونه (متفق عليه) أخرجه البخاري في فضائل أبي وفي التفسير ومسلم في كتاب فضائل القرآن من كتاب الصلاة من صحيحه. (وفي رواية) أي لمسلم في الكتاب المذكور من صحيحه (فجعل

أبى يبكي) وهذه أبلغ من الأولى للإتيان بالجملة المضارعية الدالة على التجدد والحدوث....... 7452 - (وعنه) أي أنس (قال: قال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما بعد) ظرف لقال (وفاة رسول الله) أي وانتظام أمر الخلافة (انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها) جملة مستأنفة لبيان المقصود بالانطلاق إليها، وقوله (كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزورها) فيه إيما إلى الاقتداء به في كل أفعاله مما لم يقم الدليل على تخصيصه به (فلما انتهينا إليها بكت) لتذكرها برؤيتهما النبيّ لملازمتهما له وعدم مفارقتهما إياه في الغالب، ونظيره بكاء الصحابة لما سمعوا أذان بلال بالشام مرة بأمر عمر رضي الله عنهما حين قدومهما تذكراً لأيام المصطفى (فقالا لها: ما يبكيك) بضم التحتية (أما تعلمين أن ما عند ا) مما تقصر العبارة عن تعريف أدناه فضلاً عن أعلاه (خير لرسول الله) يحتمل أن يكون خير بغير ألف مصدراً، ويحتمل أن يكون أفعل تفضيل، فيدل على أنه كان له في الدنيا خير وهو كذلك لما يشرعه من الأحكام ويهدي من الأنام ويوصل المنقطعين إلى حضرة المولى ويقرب المبعدين إلى الفيض الأعلى، وعليه فحذف معمول أفعل: أي مما في الدنيا للتعميم وإيماء إلى أن ما عند الله لا يليق أن تقابل به الدنيا لفنائها وانقطاعها (قالت: إني لا أبكي أنى لا أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله) بتقدير لام التعليل قبل أن: أي لا أبكي لعدم علم ذلك وأعادت الجملة بلفظها مع إغناء اسم الإشارة عنها استعذاباً للذكر المحبوب، فمن أحبّ شيئاً أكثر ذكره (ولكن) استدراك مما يفهمه كلامها السابق مع ما قبله الموهم انحصار سب البكاء في عدم العلم بذلك: أي لسي البكاء لذلك ولكن (أبكى أن الوحي قد انقطع من السماء) تقدم في باب المحبة في الله عن المواهب وغيرها أن المخصوص بالنبيّ

الوحي بالشريعة، أما مطلق الوحي فيكون لغيرا الأنبياء فيحمل قولها على ذلك (فهيجتهما) أي حملتهما (على البكاء فجعلا يبكيان معها) ففيه البكاء على فقد الأخيار، وأن ذلك لا يعارض لتسليم الأقدار (رواه مسلم، وقد سبق) مع...... شرحه (في باب زيارة أهل الخير) . 8453 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال لما اشتد) بالشين المعجمة: أي قوي وعظم (برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعه) زاد في رواية لما اشتكى شكوه الذي توفي فيه رواه البخاري كما في «الأطراف» وذلك لتضاعف أجره وإعلاء أمره كما يدل عليه حديث «أشد الناس بلاء الأنبياء» الحديث (قيل له في الصلاة) أي من يقيمها للقوم ويؤم بهم فيها (فقال مروا) بضم الميم وأصله أؤمروا بهمزتين أولاهما للواصل وثانيتهما فاء الكلمة فحذفت تخفيفاً ومثله خذوا (أبا بكر) أي الصديق وسكت عن وصفه بذلك لتبادره إليه وحذف المأمور به أي بإقامة الصلاة لدلالة قوله (فليصل بالناس) على ذلك أورده الحافظ المزي بلفظ «للناس» باللام محل الباء أي ليصل إماماً لأجلهم ليعقدوا صلاتهم، وفي الإتيان بالفاء الدالة على التعقيب إيماء إلى مال مبادرته لامتثال أمر المصطفى وعدم توانيه، وأخذ منه أفضلية الصديق على باقي الصحابة الذين هم أفضل من جميع الأمة وأنه الخليفة من بعده، ولذا قال عمر رضي الله عنه: «رجل اختاره النبيّ لديننا ألا نرضاه لدنيانا» (فقالت عائشة) لتصرف ذلك عن أبيها خوفاً من تطير الناس به إن مات ولما تعلمه من كراهتهم الواقف موقفه لما جبلوا عليه من كمال محبته (إن أبا بكر رجل رقيق) أي رقيق قلبه، وإسناده إليه باعتبار ذلك لما غلب عليه من شهود مظهر الجلال (إذا قرأ) أي القرآن (غلبه البكاء) أي فلا يتمكن من إظهار القراءة المأمور بها الإمام، وليس مرادها أن ذلك يقع منه بسببه ظهور حرفين لأنه مبطل للصلاة إن لم يكن عن غلبة بحيث لا يمكن دفعه ولو كان كذلك لما أمر به ثانياً بقوله (قال مروه فليصل) ....... (وفي رواية) أي لهما (عن عائشة) أي من سندها بخلاف ما قبله فهو

من سند ابن عمر (قالت) أي للنبيّ لما أمر أن يؤم الناس أبو بكر (قلت: إن أبا بكر إذا قام مقامك) أي إماماً بالناس، والمقام بفتح الميم اسم مكان من القيام (لم يسمع الناس من البكاء) من فيه تعليلية: أي بسببه، وإيراد المصنف لهذا الحديث في الباب لأن النبيّ رضي ذلك الأمر من الصدّيق وأبقاه على تقديمه فهو دليل على كونه محبوباً، قال تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} (الأنفال: 2) (متفق عليه) أخرجاه في كتاب الصلاة واللفظ للبخاري، ورواه النسائي في عشرة النساء من سنه كما في «الأطراف» . 9454 - (وعن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف) الزهري، قال الحافظ في «التقريب» : قيل له رواية وسماعه من ابن عمر أثبته يعقوب بن شيبة، مات سنة خمس، وقيل سنة ست وتسعين، خرج عنه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه (أن عبد الرحمن بن عوف) بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة القرشي الزهري أحد العشرة أسلم قديماً، ومناقبه شهيرة، مات سنة اثنتين وثلاثين، وقيل غير ذلك. ومن مناقبه التي لا توجد لغيره كما قال المصنف في «التهذيب» : أن النبي وراءه في غزوة تبوك حين أدركه، وقد صلى بالناس ركعة، وحديثه في مسلم وغيره، قال: وقولنا لا توجد لغيره من الناس احتزازاً من صلاة النبي خلف جبريل حين أعلمه «بالمواقيت» اهـ. وما أفهمه من أنه لم يصلّ خلق غير عبد الرحمن يشكل عليه ما أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي عن عائشة قالت: صلى النبيّ خلف أبي بكر في مرضه الذي مات فيه قاعداً، وأخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح من حديث أنس قال: صلى النبيّ خلق أبي بكر قاعداً في ثوب متوشحاً به....... قال الحافظ السيوطي بعد إيراد ذلك: وأحاديث أخر بمعناه وإيراد حديث تأخر أبي بكر واقتدائه بالنبيّ، واقتداء الناس بأبي بكر ما لفظه: هذه الأحاديث قد جمع بينها ابن حبان والبيهقي وابن حزم، وقال ابن حبان: لا معارضة بين هذه الأحاديث، فإنه صلى صلاتين، لا صلاة واحدة، لأن في خبر عن عائشة أنه خرج بين رجلين تريد بأحدهما العباس والآخر علياً، وفي خبر آخر عنها: أنه خرج بين بريدة وثوبة قال: فهذا يدلك على أنهما صلاتان لا صلاة واحدة. قال البيهقي في المعرفة: والذي نعرفه

بالاستدلال بسائر الأخبار أن الصلاة التي صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلف أبي بكر هي صلاة صبح يوم الاثنين، وهي آخر صلاة صلاها حتى مضى لسبيله، هي غير التي صلاها أبو بكر خلفه. قال: ولا يخالف هذا ما ثبت عن أنس في صلاتهم يوم الاثنين، فكشف النبيّ الحجرة ونظر إليهم وهم صفوف في الصلاة وأمرهم بإتمامها وإرخائه الستر فإن ذلك إما كان في الركعة الأولى، ثم إنه وجد في نفسه خفة فخرج فأدرك معه الركعة الثانية. ثم ذكر ما يدل له من كلام موسى بن عقبة. قال البيهقي: فالصلاة التي صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مأموم صلاة الظهر، وهي التي خرج فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الفضل بن عباس وغلام له. قال: وبذلك جمع بين الأخبار. وقال ابن حزم: وهما صلاتان متغايرتان بلا شك، إحداهما التي رواها الأسود عن عائشة وعبيد الله عنها وعن ابن عباس صفتها: أنه صلى الناس خلفه وأبو بكر عن يمينه في موقف المأموم يسمع الناس تكبيره. والثانية التي رواها مسروق وعبيد الله عن عائشة وحميد عن أنس صفتها: أنه كان خلف أبي بكر في الصف مع الناس فارتفع الإشكال جملة. قال: ومرضه كان نحو اثني عشر يوماً فيه ستون صلاة أو نحو ذلك اهـ مخلصاً. وحينئذٍ فليست هذه الفضيلة من خصائص ابن عوف كما هي له فهي لجدنا الصديق رضي الله عنه أيضاً. روي له عن النبي خمسة وستون حديثاً، اتفقا منها...... على حديثين، وانفرد البخاري بخمسة، وفضائله شهيرة طوينا عن نشرها خوف التطويل (أتى) بالفوقية مبني للمجهول خبر أن: أي إنه جيء إليه (بطعام) لعل تنوينه للتعظيم كما يومىء إليه آخر القصة (وكان صائماً) جملة في محل الحال وأتى بها لبيان كماله أنه مع توافر الداعي لتناول الطعام تركه لما صرفه عنه مما يخاف منه أن يكون مؤخراً له عن الدرجات العلا (فقال قتل) بالبناء للمجهول (مصعب) بضم الميم وسكون الصاد المهملة وفتح العين المهملة وبالباء الموحدة (ابن عمير) بضم العين المهملة وسكون التحتية ابن هشام بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصى بن كلاب القرشي العبدري وكان من فضلاء الصحابة وخيارهم ومن السابقين إلى الإسلام، وكان قتله يوم أحد قتله عبد الله بن قتيبة وهو يظنه النبي (رضي الله عنه) جملة دعائية (وهو خير مني) هذا من تواضعه وكمال فضله وإلا فأفضل الصحابة العشرة الذين منهم ابن عوف (فلم يوجد له ما يكفن فيه) الفعلان مبنيان للمجهول (إلا بردة) بضم الموحدة وبالرفع بدل من ما، ويجوز نصبه على الاستثناء، وهو عربي فصيح وإن كان الأول أفصح، وقوله (إن غطى) بضم المعجمة وكسر المهملة

المشددة أي ستر (بها رأسه بدت رجلاه، وإن غطى بها رجلاه بدا رأسه) جملة شرطية في محل الصفة لبردة. وأتى بقوله «وإن غطى بها رجلاه» مع دلالة ما قبله عليه واستلزامه إياه لأن المقام للإطناب (ثم بسط) بالبناء للمجهول، أي وسع (لنا في الدنيا ما بسط) الموصول نائب الفاعل والظرفان في محل الحال منه (أو) شك من الراوي في أنه قال ما بسط أو (قال: ما أعطينا) وقوله (قد خشينا أن تكون حسناتنا) أي أعمالنا الصالحة الحسنة (عجلت لنا) أي عجل لنا جزاؤها فلا نقدم على ثواب مدخر جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً وهذا منه من مزيد خوفه من الله تعالى وشدة خشيته له، خشي أن يكون ما هو فيه من اليسار من جزاء طاعته التي فعلها مع أن ذلك اليسار من أسباب عمله الصالح ومتجره الأخروي...... الرابح كما علم من إنفاقه في سبيل الله تعالى وتصدقه على عباد الله ومع ذلك لعدم نظره لعمله واعتداده خشي أن يكون ما يدخره سواه من أسباب إبعاده عن مولاه (ثم جعل يبكي) خوفاً من ذلك وأن يكون صفر اليدين من صالح الأعمال في المآل، وجعل هنا من أفعال الشروع، وقوله (حتى ترك الطعام) غاية لبكائه: أي تمادى به إلى أن أدى به لذلك (رواه البخاري) في الجنائز وفي المغازي من «صحيحه» كما في «الأطراف» . 10455 - (وعن أبي أمامة) بضم الهمزة (صدي بن عجلان الباهلي رضي الله عنه) صدي بضم المهملة الأولى وفتح الثانية كما تقدم مع ترجمته في باب التقوى (عن النبيّ قال: ليس شيء أحبّ) بالنصب خبر ليس، وهو من الفعل المبني للمجهول: أي ليس شيء أكثر محبوبية (إلى الله تعالى) أي ليس شيء أكثر ثواباً عنده وأعظم مكانة من فضله (من قطرتين) بفتح القاف وهي كما في «المصباح» النقطة (وأثرين) بفتح الهمزة والثاء المثلثة هي ما بقي

من الشيء دلالة عليه (قطرة دموع) أي قطراتها وأفردت لإضافتها إلى الجمع ثقة بذهن السامع (من) الأقرب أنها سببية ويحتمل كونها ابتدائية: أي دمعا مبتدأ من (خشية ا) أي ناشئة منها وهي تكون من المعرفة الناشئة من العلم والعمل به....... قال تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} (فاطر: 28) وقال: «أنا أعرفكم با وأشدكم له خشية» (وقطرة دم) قال العاقولي. إفراد الدم يدل على أن إهراقه أفضل من الدموع (تهراق) بضم الفوقية وفتح الهاء وذلك لأنه مضارع للرباعي ولا نظر للهاء فيه لأنها زائدة، وقد استثناه ابن هشام في «الجامع الصغير» مما يفتح فيه حرف المضارعة من الخماسي فإنه مضمون فيه وإن كان الماضي خماسياً لأنه رباعي. وإنما زيدت فيه الهاء على غير قياس. قال ابن فلاح ويؤيد بقاءه على حكم الرباعي قطع الهمزة فيه ولو خرج إلى الخماسي لغير إلى همزة الوصل والجملة الفعلية في محل الصفة لقطرة، وقوله (في سبيل ا) أي في الجهاد للكفار لإعلاء كلمة الله متعلق بالفعل المذكور وقوله قطرة الخ بيان للقطرتين، وكان الظاهر أمّا القطرتان فقطرة دموع الخ كما يدل عليه قوله (وأما الأثران) ولعله مقدر كذلك بشهادة العطف (فأثر في سبيل الله تعالى) أي ما يبقى بعد الاندمال من ضربة سيف أو طعنة رمح (وأثر في فريضة الله تعالى) وذلك لبلل في أعضاء الوضوء وأثر السجود (رواه الترمذي) في كتاب الجهاد من «جامعه» (وقال: حديث حسن) زاد فيه بعد قوله حسن قوله غريب، وكان المصنف سكت عنه لعدم ضرره في حسن الحديث لأنها غرابة نسبية لا غرابة مطلقة. (وفي الباب) أي «باب البكاء من خشية ا» (أحاديث كثيرة) وصف توكيدي وإلا فصيغة الأحاديث من جموع الكثرة الدالة عليها (منها حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة) يحتمل أن تكون منصوبة على المصدر أي وعظنا وعظاً بليغاً كما يدل عليه العدول عن وعظاً إليها، ويحتمل أن تكون منصوبة بحذف الخافض (ذرفت)

55 ـــ باب فضل الزهد في الدنيا

بوزن علم، أي دمعت (منها العيون، وقد سبق في باب النهي عن البدع) وتقدم ثمة شرحه....... 55 - باب فضل الزهد في الدنيا الظرف لغو متعلق بالزهد. قال السيد الشريف في «التعريفات» : الزهد في اللغة: ترك الميل إلى الشيء، وفي الاصطلاح هو بغض الدنيا والإعراض عنها. وقيل هو ترك راحة الدنيا طلباً لراحة الآخرة، وقيل هو أن يخلو قلبك مما خلت منه يدك اهـ، وتقدم المراد من الدنيا في حديث «إنما الأعمال بالنيات» (والحثّ) بالمثلثة المشددة، أي التحريض (على التقلل منها) عبر بباب التفعيل المؤذن بالتكلف لما أن ذلك خلاف داعي الطبع البشري قال تعالى: {بل تؤثرون الحياة الدنيا} (الأعلى: 16) وقال تعالى: {وتحبون المال حباً جماً} (الفجر: 20) أي فيتكلف الاستقلال منها وإن كان ذلك خلاف طبعه ليسلم من تبعات ذلك (وفضل الفقر) أي غير المذموم، وهو الفقر مما زاد على الكفاية والحاجة. (قال الله تعالى) : ( {إنما مثل الحياة الدنيا} ) أي صفتها العجيبة الشأن في سرعة نقصها وذهاب نعيمها بعد إقبالها واغترار الناس بها ( {كماء} ) أي كمطر ( {أنزلناه من السماء فاختلط به} ) أي بسببه ( {نبات الأرض} ) واشتبك بعضه ببعض ( {مما يأكل الناس} ) من البر والشعير وغيرهما ( {والأنعام} ) من الكلأ ( {حتى إذا أخذت الأرض زخرفها} ) بهجتها من النبات ( {وازّينت} ) بالزهر وأصله تزينت أبدلت التاء زاياً وأدغمت ( {وظن أهلها أنهم قادرون عليها} ) متمكنون من تحصيل ثمارها ( {أتاها أمرنا} ) عذابنا ( {ليلاً أو نهاراً فجعلناها} ) أي زرعها ( {حصيداً} ) كالمحصود بالمناجل ( {كأن} ) مخففة أي كأنها ( {لم تغن} ) لم تكن ( {بالأمس كذلك نفصل} ) نبين ( {الآيات لقوم

يتفكرون} ) فإنهم المنتفعون بها. قال البيضاوي الممثل به مضمون الحكاية وهو زوال خضرة النبات فجأةً وذهابه حطاماً بعد ما كان غضاً والتف وزين الأرض حتى طمع فيه أهله وظنوا أنه قد سلم من الجوائح، لا الماء وإن وليه حرف التشبيه لأنه من التشبيه المركب اهـ....... (وقال تعالى) علواً معنوياً: أي تنزه عما لا يليق به ( {واضرب لهم مثل الحياة الدنيا} ) أي اذكر لقومك ما تشبه الحياة في زهرتها وسرعة زوالها أو صفتها الغريبة، وقوله ( {كماء} ) خبر محذوف أو هو كماء، ويجوز أن يكون مفعولاً ثانياً لا ضرب على أنه بمعنى صير، وعليه اقتصر المحلى في «تفسيره» والمفعول الأول مثل ( {أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض} ) فالتف بسببه وخالط بعضه بعضاً من كثرته وتكاثفه أو تجمع في النبات حتى روي ورقه وعلى هذا كان حقه فاختلط بنبات الأرض لكن لما كان كل من المختلطين موصوفاً بصفة صاحبه عكس للمبالغة في كثرته (فأصبح) أي صار النبات (هشيماً) مهشوماً مكسوراً ( {تذوره الرياح} ) تفرقه والمشبه به كما في الذي قبله الحالة المتفرقة في الجملة وهي حال النبات المنبت بالماء يكون أخضر براقاً ثم هشيماً تطيره الرياح فيصير كأن لم يكن ( {وكان الله على كل شيء} ) من الأشياء ( {مقتدراً} ) قادراً ( {المال والبنون زينة الحياة الدنيا} ) أي يتزين بها الإنسان في الدنيا وتفنى عنه عما قريب ( {والباقيات الصالحات} ) هي: سبحانالله، والحمد، ولا إله إلاالله، وا أكبر. زاد بعضهم: ولا حول ولا قوّة إلا با، كما ورد تفسيرها بذلك في الأخبار. وقال البيضاوي: هي أعمال الخيرات التي تبقى له ثمرتها أبد الآباد. ويندرج فيه ما فسرت به من الصلوات الخمس وصيام رمضان، وسبحانالله، والحمد، ولا إله إلاالله، وا أكبر والكلام الطيب ( {خير عند ربك} ) من المال والبنين عندية مكانة وشرف ( {ثواباً} ) عائدة ( {وخير أملاً} ) أي ما يأمله الإنسان ويرجوه عند الله تعالى لأن صاحبها ينال بها في الآخرة ما كان يأمل بها في الدنيا....... (وقال تعالى) : {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد} ) قال بعضهم: اللعب فعل

يدعو إليه الجهل يروق أوله ولا ثبات له، واللهو صرف الهمّ عن النفس بفعل ما لا يجوز اهـ. وقال البيضاوي: بين سبحانه وتعالى أن الدنيا أمور خيالية قليلة النفع سريعة الزوال، لأنها لعب يتعب الناس فيه أنفسهم جداً إتعاب الصبيان في الملاعب من غير فائدة ولهو يلهون به أنفسهم عما يهمهم منها، وزينة كالملابس الحسنة والمراكب البهية والمنازل الرفيعة، وتفاخر بالأنساب وتكاثر بالعدد والعدد، وهذا كما قاله المحلي في الاشتغال بالدنيا. أما الطاعات وما يعين عليها فليست منها، ثم قرر حال الدنيا وشأنها بقوله: ( {كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً} ) وهو تمثيل للدنيا في سرعة نقصها وقلة جداوها بحال نبات أنبته الغيث فاستوى وأعجب منه الحراث والكافرون با لأنهم أشد إعجاباً بزينة الدنيا، ولأن المؤمن إذا رأى معجباً انتقل فكره إلى قدرة صانعه فأعجب بها، والكافر لا يتخطى فكره عما أحس به فيستغرق فيه إعجاباً، ثم هاج: أي يبس بعاهة فاصفر ثم صار حطاماً فتاتاً يضمحل بالرياح. قال الحافظ عماد الدين ابن كثير في «تفسيره» : فإن الحياة الدنيا تكون أولاً شابة ثم تكتهل ثم تكون عجوزاً شوهاء، وكذا الإنسان يكون في أول عمره شاباً غضاً طرياً لين الأعضاء بهيّ المنظر ثم يكتهل فتتغير طباعه ويفقد بعض قواه، ثم يكبر فيصير شيخاً كبيراً ضعيف القوى قليل الحركة يعجزه السير كما قال الله تعالى: {الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة} (الروم: 54) ولما كان هذا المثل دالاً على زوال الدنيا وانقضائها وفراغها لا محالة، وأن الآخرة كائنة لا محالة حذر من أمرها ورغب فيما فيها من الخير فقال ( {وفي الآخرة عذاب شديد} ) أي لمن انهمك في الدنيا، تنفيراً عن الانهماك في الدنيا وحثا على ما...... يوجب الكرامة في العقبى، ثم أكده بقوله ( {ومغفرة من الله ورضوان} ) لمن لم ينهمك في الدنيا: أي ليس في الآخرة الآتية القريبة إلا أحد هذين (وما الحياة الدنيا

إلا متاع الغرور) أي لمن أقبل عليها ولم يطلب الآخرة بها. قال ابن كثير: هي متاع، فإن عاد لمن ركن إليها فإنه يغتر بها وتعجبه حتى يعتقد أن لا دار سواها ولا معاد وراءها، وهي حقيرة قليلة بالنسبة إلى الدار الآخرة. عن أبي هريرة عن النبي «موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها، اقرءوا: {وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} وهذا الحديث ثابت في الصحيح بدون هذه الزيادة اهـ. قاله المحلي....... (وقال تعالى) : ( {زين للناس حبّ الشهوات} ) أي ما تشتهيه النفس وتدعوا إله من لعب ولهو وزينة وتكاثر، زينها الله ابتلاء، أو الشيطان ( {من النساء والبنين والقناطير} ) أي الأموال الكثيرة (المقنطرة) المجتمعة والقناطير جمع قنطار أو جمع قنطرة. واختلف في قنطار هل هو فعلال أو فعال، والقنطار المال الكثير بعضه على بعض قاله الربيع بن أنس. وقيل مائة ألف ومائة ومائه رطل ومائة مثقال ومائة درهم، قاله سعيد بن جبير وعكرمة. وقيل ملء مسك ثور ذهباً أو فضة، قاله أبو نصرة. وسمي قنطاراً من الأحكام، يقال قنطرت الشيء: إذا أحكمته ومنه القنطرة. وقيل ما بين السماء والأرض من مال قاله صاحب «الحكم» . والمقنطرة قيل إنها مأخوذة من القنطار للتأكيد كبدرة مبدرة. وقيل لغيره فقال الضحاك أي المحصنة، وقال قتادة: أي الكثيرة المنضدة بعضها فوق بعض. وقال يمان: هي المدقوقة. وقال الفراء: المضعفة فالقناطير ثلاثة والمقنطرة تسعة ( {من الذهب والفضة} ) قال في لباب التفاسير: سمى الذهب ذهباً لسرعة ذهابه في الإنفاق والزكاة، والفضة فضة لأنها تفرق بضرب الدراهم، وتفرق بالإنفاق، والفض التفريق اهـ. والظرف في محل الحال بيان للقناطير ( {والخيل المسومة} ) المعلمة من السومة وهي العلامة أو المرعية من أسام الدابة وسومها أو المطهمة: أي المجملة ( {والأنعام} ) جمع نعم بفتح أوليه وهي الإبل والبقر والغنم، سميت به لعظم الانتفاع بها ( {والحرث} ) أي الزرع ( {ذلك} ) أي ما ذكر ( {متاع الحياة الدنيا} ) أي ما يتمتع به فيها وهو فإن مضمحلّ لا يقابل ما ادخره في الآخرة وقد عم ذلك بقوله ( {وا عنده حسن المآب} ) أي المرجع وهو تحريض على استبدال ما عند الله تعالى من اللذات الحقيقية الأبدية بالشهوات المخدجة الفانية....... (وقال تعالى) : ( {يا أيها الناس إن وعد الله حق} ) لا خلف فيه. قال أبو حيان في «النهر» : شامل لجميع ما وعد به من ثواب وعقاب وغير ذلك. قلت: وكأن اقتصار البيضاوي على قوله بالحشر والجزاء لأنهما الأهم، بل اقتصر الحافظ ابن كثير على الأول وهو مستلزم للجزاء لأن ذاك لذلك ( {فلا تغرنكم الحياة الدنيا} )

فيذهلكم التمتع بها عن طلب الآخرة والسعي لها ( {ولا يغرنكم با الغرور} ) قال مالك عن زيد بن أرقم: هو الشيطان: أي بأن يمنيكم المغفرة مع الإصرار على المعصية، فإنها وإن أمكنت لكن الذنب بهذا التوقع كتناول السم اعتماداً على دفع الطبيعة، وقد عقّب تعالى هذه الآية بما يدل على عداوة الشيطان لنا بقوله: {إن الشيطان لكم عدوّ} (فاطر: 6) الآية. وقرىء بالضم وهو مصدر أو جمع كقعود. (وقال تعالى) : ( {ألهاكم} ) أي أشغلكم، وأصله الصرف إلى اللهو منقول من لها إذا غفل ( {التكاثر} ) بالأموال والأقوال ( {حتى زرتم المقابر} ) إلى أن متم وقبرتم مضيعين أعماركم في طلب الدنيا عما هو أهم لكم وهو السعي لأخراكم، فزيارة المقابر عبارة عن الموت ( {كلا} ) ردع وتنبيه على أن العاقل ينبغي له أن لا يكون جميع همته ومعظم سعيه للدنيا فإن عاقبة ذلك وبال وحسرة ( {سوف تعلمون} ) خطأ رأيكم إذا عاينتم ما وراءكم وهو إنذار ليخافوا وينتهوا عن غفلتهم ( {ثم كلا سوف تعلمون} ) تكرير للتوكيد، وفي ثم دلالة على أن الثاني أبلغ من الأول، أو الأول عند الموت أو في القبر، والثاني عند النشور ( {كلا لو تعلمون علم اليقين} ) أي لو تعلمون ما بين أيديكم على الأمر اليقين: أي كعلمكم ما تستيقنونه لشغلكم ذلك عن غيره أو لفعلتم ما لا يوصف ولا يكيف، فحذف الجواب ولذا اقتصر المصنف على ذلك. قال البيضاوي: ولا يجوز أن يكون قوله: {لترون الجحيم} جواباً لأنه محقق الوقوع بل هو جواب قسم محذوف أكد به الوعيد وأوضح به ما أنذرهم منه بعد إبهامه تفخيماً اهـ....... (وقال تعالى) : ( {وما هذه الحياة الدنيا} ) قال في «النهر» : الإشارة بهذه ازدراء للدنيا وتصغير لأمرها ( {إلا لهو ولعب} ) أي كما يلهى ويلعب به الصبيان ويجتمعون عليه ويبتهجون به ساعة ثم يتفرقون متعبين ( {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان} ) أي لهي دار الحياة الحقيقية لامتناع طريان الموت عليها، أو جعلت هي في ذاتها حياة مبالغة. والحيوان مصدر حي سمي به ذو الحياة مبالغة وأصله حييان فقلبت الياء الثانية واواً وهو أبلغ من الحياة لما في بناء فعلان من الحركة والاضطراب اللازم للحياة، ولذلك اختير عليهما هنا. وفي «فتح

الرحمن بكشف ما تلبس في القرآن» للشيخ زكريا قدم اللعب في الأنعام والقتال والحديد، وعكس في الأعراف والعنكبوت لأن اللعب زمن الصبا واللهو زمن الشباب وزمن الصبا مقدم على زمن الشباب فناسب إعطاء المقدم للأكثر والمأخر للأقل اهـ. ( {لو كانوا يعلمون} ) لم يؤثروا عليها الدنيا التي أصلها عدم الحياة، والحياة فيها عارضة سريعة الزوال (والآيات في الباب كثيرة مشهورة) لا منافاة بين ما دل عليه جمع السلامة من القلة وقوله كثيرة لأن تلك بالنظر إلى الأحاديث فيه وإن كانت الآيات فيه في نفسها كثيرة. ويحتمل أن يكون أشار بذلك إلى أن محل كون جمع السلامة من جموع القلة كما عده النحاة حيث لم يكن معرّفاً وإلا فلا، بل هو من ألفاظ العموم كما قاله الأصوليون....... (وأما الأحاديث) في الباب (فأكثر من أن تحصر) لكمال كثرتها، وفي ذلك منه إيماء إلى الاعتناء بما عقد له الباب لاعتناء النبي بذلك كما يدل عليه كثرة الأخبار فيه (فننبه) النون فيه للعظمة تحدثاً بنعمة الله تعالى عليه بالعلم والتأهيل له (بطرف) بفتح أوّليه المهملين، أي بقطعة وجانب (منها) ويجوز أن يقرأ بضم أوله وفتح ثانيه على أنه جمع طرفة بالضم، قال في «المصباح» : الطرفة أي بالضم والسكون ما يستطرف، جمعه طرف كغرفة وغرف اهـ. والأول أنسب بقوله (على ما سواها) وهو والظرف قبله متعلقان بالمضارع....... 1456 - (عن عمرو) ويقال فيه عمير بالتصغير كما نبه عليه في «الفتح» (ابن عوف الأنصاري) زاد المزي في وصفه قوله «البدري حليف بني عامر بن لؤي» وخرج بقوله الأنصاري عمرو بن عوف المزنيّ راوي حديث تكبيره خمساً في الجنازة وأحاديث أخر غير ذلك. قال الحافظ في «الفتح» بعد قول البخاري الأنصاري: المعروف عند أهل المغازي أنه من المهاجرين، وهو موافق لقوله هنا: وهو حليف لبني عامر بن لؤي لأنه يشعر بكونه من أهل مكة. ويحتمل أن يكون وصفه بالأنصاري بالمعنى الأعم، ولا مانع أن يكون أصله من الأوس أو الخزرج فنزل مكة وحالف بعض أهلها، فبهذا الاعتبار هو أنصاري مهاجري، ثم ظهر كأن لفظة الأنصاري وهم تفرد به شعيب عن الزهري، ورواه أصحاب الزهري كلهم عنه بدونها في «الصحيحين» وغيرها، وهو معدود من أهل بدر اتفاقاً، وقول المزي. البدري لأنه

(رضي الله عنه) شهد بدراً مع رسول الله. أخرج ابن الأثير في «أسد الغابة» عن ابن إسحاق قال: ممن شهد بدراً عمرو بن عوف: مولى سهيل بن عمرو، وقال: هكذا جعله ابن إسحاق مولى وجعله غيره حليفاً، قيل لأنه سكن المدينة ولا عقب له، وليس له في الكتب الستة سوى هذا الحديث (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا عبيدة) قيل اسمه عامر بن عبد الله، وقيل عبد الله بن عامر (بن الجراح) والأوّل أصح: أحد العشرة المبشرة بالجنة (رضي الله عنه) وعنهم. والجراح بفتح الجيم وتشديد الراء آخره حاء مهملة (إلى البحرين) أي البلدة المشهورة بالعراق، وهي بين البصرة وهجر. وفي كتاب «أسامى البلدان» قال الزهري: إنما ثنوا البحرين لأن في ناحية قراها بحيرة على باب الأحساء وقرى هجر بينها وبين البحر الأخضر عشرة فراسخ، وهذه البحيرة ثلاثة أميال في مثلها ولا يفيض ماؤها، وماؤها...... راكد زعاف اهـ. (يأتي بجزيتها) أي بجزية أهلها، وكان غالب أهلها إذ ذاك مجوساً. وذكر ابن سعد أن النبي بعد قسمة الغنائم بالجعرانة أرسل العلاء إلى المنذر ابن ساوى عامل الفرس على البحرين يدعوه إلى الإسلام فأسلم، وصالح مجوس تلك البلاد على الجزية من المجوس (فقدم بمال من البحرين) قال في كتاب الصلاة ومن «التوشيح» نقلاً عن «مصنف ابن أبي شيبة» كان قدر المال مائة ألف وأنه أوّل خراج حمل إلى النبيّ اهـ. (فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة) أي بالمال (فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله) قال الحافظ: يؤخذ منه أنهم كانوا لا يجتمعون الجميع في كل الصلوات إلا لأمر يطرأ، وكانوا يصلون في مساجدهم إذ كان لكل قبيلة مسجد يجتمعون فيه، فلأجل ذلك عرف أنهم اجتمعوا لأمر، ودلت القرينة على تعيين ذلك الأمر، وهو احتياجهم للمال للتوسعة عليهم. ويحتمل أن يكون وعدهم بأن يعطيهم منه إذا حضروا، وقد وعد جابراً بعد هذا أن يعطيه من مال البحرين فوفى له أبو بكر (فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف) أي ذاهباً إلى مقصده (فتعرضوا له) أي قصدوا له. قال في «الصحاح» : تعرضت أسألهم اهـ. (فتبسم حين رآهم) يحتمل أن يكون تبسمه لما ظهر من مقتضى الطبع من طلب الدنيا مع أن قضية حالهم وشرفهم وكون المصطفى بين أظهرهم مع كمال إعراضه عنها ترك ذلك (ثم قال أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء) يحتمل أن يكون تنوينه للتعظيم باعتبار كثرة كميته. ويحتمل

أن يكون للتحقير لحقارة الدنيا في جانب ما أعد الله للمؤمنين في الدار الآخرة (من البحرين) يحتمل أن يكون متسقراً صفة لشيء، ويحتمل أن يكون لغواً متعلقاً بالفعل (فقالوا: أجل) هو في المعنى مثل نعم، لكن نعم يحسن أن تقال جواب الاستفهام، وأجل أحسن من نعم في التصديق (يا رسول الله) وأتوا به تلذذاً بالخطاب وإلا فقد حصل بقولهم: أجل الجواب (فقال أبشروا) أمر معناه الإخبار بحصول المقصود (وأملوا) قال في «تحفة القاري» بفتح...... الهمزة وتشديد الميم (فوا ما الفقر) بالنصب مفعول مقدم لقوله (أخشى عليكم) وتقدم المفعول اهتماماً بنفي خشية الفقر عليهم عكس الآباء مع أولادهم، فإن الوالد الشفيق يخشى على ولده الضيعة بعده، والنبي لهم مثل الوالد ولم يخش عليهم الفقر، قال الطيبي: لأن الأب الدنيوي يخشى على ولده الفقر الدنيوي، والأب الديني يخشى على ولده الفقر الديني، قال الحافظ في «الفتح» : يجوز رفع الفقر بتقدير ضمير: أي ما الفقر أخشاه عليكم، والأول هو الراجح، وخص بعضهم جواز ذلك بالشعر اهـ. وأصله للزركشي وتعقبه فيه الدماميني بأن ضعف ذلك مذهب كوفي، قال في «التسهيل» ولا يختص بالشعر خلافاً للكوفيين. فإن قلت: تقديم المفعول هذا يؤذن بأن الكلام في المفعول لا في الفعل كقولك ما زيد ضربت فلا يصح أن يعقب المنفى بإثبات ضده، فيقول ولكن أكثر منه لأن المقام في المفعول هل هو زيد أو عمرو مثلاً، لا في الفعل هل هو إكرام أو إهانة: والحديث قد وقع فيه استدراك بإثبات ضد الفعل المنفي فقال: ولكن أخشى الخ فكيف يأتي هذا. قلت: المنظور إليه في الاستدراك هو المنافسة في الدنيا عند بسطها عليه، فكأنه قال ما الفقر أخشى عليهم ولكن المنافسة في الدنيا فلم يقع الاستدراك إلا في المفعول كقولك ما ضربت زيداً، ولكن عمراً ضربت، ثم لا يضر لأنه في الحقيقة استدراك بالنسبة إلى المفعول لا إلى الفعل اهـ. (ولكن أخشى أن تبسط) أي توسع (الدنيا عليكم) وما فتحه الله عليهم من الدنيا بعده حتى إن أحدهم لا يجد للمال موضعاً يحطه فيه (كما بسطت) ما موصول اسمي أو نكرة موصوفة: أي دنيا يعود الضمير النائب عن الفعل المستتر في بسطت عليه (على من كان قبلكم) : أي من الأمم وسقطت كان من بعض نسخ البخاري (فتنافسوها كما تنافسوها) الأول مضارع حذفت إحدى تاءيه تخفيفاً، والأصل فتتنافسوها، وفي بعض نسخ البخاري حذف الضمير المنصوب من الفعل الثاني، قال المصنف: والتنافس المسابقة إلى الشيء وكراهة أخذ...... الغير له، وهو أول

درجات الحسد اهـ. وبمعناه ما في «تحفة القاري» من أنه الرغبة في الشيء والانفراد به (فتهلككم) أي في الدين (كما أهلكتهم) في ذلك وإسناد الإهلاك إليها مجاز عقلي من باب الإسناد إلى السبب إذ التنافس فيها سبب قد يجر لفساد الدين وهلاكه، قال الحافظ في «الفتح» : لأن المال مرغوب فيه فترتاح النفس لطلبه فتمتنع منه فتقع العداوة المقتضية للمقاتلة المفضية إلى الهلاك اهـ. وقد وقع عند مسلم من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً «تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون» ونحو ذلك. قال في «الفتح» : وفي الحديث إشارة إلى أن كل خصلة من المذكورات مسببة عما قبلها، وفي الحديث «واتقوا الشح فإنه أهلك من قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم» . قال ابن بطال: فيه أن زهرة الدنيا ينبغي لمن فتحت عليه أن يحذر من سوء عاقبتها وشرّ فتنتها عنه. وفي «تفسير البيضاوي والخازن» : أي زينتها وبهجتها: أي فلا يطمئن إلى زخرفها ولا ينافس بها أيضاً اهـ. (متفق عليه) رواه البخاري واللفظ له في الجزية، وفي المغازي من «صحيحه» ، ورواه مسلم في آخر «صحيحه» في باب تحريم الظلم السابق، ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه أيضاً، فرواه الأوّل في باب الزهد والثالث في الفتن، ومدار الحديث عندهم على الزهري....... 2457 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر) بكسر الميم وسكون النون وفتح الباء الموحدة، قال في «الصحاح» : نبرت الشيء أنبره نبراً: رفعته، ومنه سمي المنبر (وجلسنا حوله) لسماع أقواله وتلقي مواعظه، وحول منصوب على الظرفية. قال في «الصحاح» : يقال قعدوا حوله وحواله وحواليه، ولا يقال حواليه بكسر اللام، وقعد حياله وبحياله بالكسر: أي بإزائه وأصله الواو اهـ. (فقال إن مما أخاف عليكم بعدي) أي بعد موتي وقدمه اهتماماً بأمره على الاسم وهو قوله (ما يفتح) بالبناء للمفعول (عليكم من زهرة الدنيا) قال في «المصباح» : زهرة بوزن تمرة لا غير: أي لا يجوز

فتحها بخلاف واحدة الزهر ففيها ذلك أيضاً، ويرده ما في «تفسير البيضاوي» من قوله، وقرأ يعقوب زهرة بالفتح، وهي لغة في الزهرة اهـ. ومثله في «تفسير النهر» إلا أنه لم يعين اسم القارىء وعبارته «وقرىء زهرة بفتح الهاء وسكونها نحو زهر ونهر» . قلت: إن ثبت ما في «المصباح» من منع الفتح في لغة فيحمل على أنه جمع زاهر كما جوزه البيضاوي فيها أيضاً قال: وهي متاعها وزينتها. وفي «تفسير البيضاوي والخازن» : أي زينتها وبهجتها فلا يطمئن إلى زخرفها ولا يتأنس بها اهـ. قلت: وعليه فعطف قوله (وزينتها) على الزهرة من عطف الخاص على العام وخشيته من ذلك لئلا يتعلق حبه بالقلب ويأخذ بهجته بالبصر فيوقع في الأسباب المؤدية إلى فساد الدين مما تقدم في الحديث قبله (متفق عليه) ورواه البخاري في الصلاة وفي الجهاد وفي الزكاة وغيرها، ومسلم في باب ورواه النسائي في الجهاد....... 3458 - (وعنه) أي أبي سعيد الخدري (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الدنيا خضرة) بفتح المعجمة الأولى وكسر الثانية (حلوة) أي جامعة بين الوصفين المحبوبين للبصر والذوق فهي كالفاكهة التي راق منظرها وحلا مذاقها (وإن الله مستخلفكم فيها) بكسر اللام: أي بمنزلة الخلفاء عنه في التصرف فيها: أي فلا تتصرفوا بما لم يأذن لكم به (فينظر كيف تعملون) فيجازيكم على ما يبدو منكم من حسن وضده في عالم الشهادة الذي ظهرك كما سبق في علم الغيب الأزلي (فاتقوا الدنيا) أي من ميلكم إلى زهرتها وحلاوتها وخضرتها عما يطلب منكم من الوقوف عند ما أبيح لكم دون ما حظر عليكم، والفاء فيه فصيحة: أي إذا علمتم أن ما تعملون فيه بمرأى من الله تعالى فاتقوه في ذلك (واتقوا النساء) أي احذروهن أن بكيدهن يحملكم الافتتان بهن على ترك ما طلب منكم من التكاليف أو أن يخدعنكم بكيدن فتقعوا في شيء من أغراضهن الممنوع منها شرعاً (رواه مسلم) في آخر الدعوات، ورواه النسائي أيضاً في

عشرة النساء، والحديث قدمه المصنف في باب التقوى وتقدم شرحه ثمة بأبسط مما هنا. 4459 - (وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:) في أشد أحواله لما رأى تعب أصحابه لحفر الخندق (اللهم) أي يا الله (إن العيش) الحياة الدائمة (عيش الآخرة) فلا يحزن الإنسان لما يصيبه في هذه الدار فإنه منقض وأجره باق دائم، وقاله في أسرّ الأحوال أيضاً لما رأى كثرة المؤمنين في يوم عرفة في حجة الوداع لبيك إن العيش عيش الآخرة: أي شأن العاقل أن لا يفرح بما يسرّه من الدنيا لانقضائها وأن يكون اهتمامه بما يفرح به في آخرته لأن حياتها الدائمة الأبدية (متفق عليه) وقد تقدم هذا الحديث مع شرحه....... 5460 - (وعنه) أي عن أنس (عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يتبع الميت) من منزله إلى مدفنه في الغالب (ثلاث) من الأشياء، وحذف التاء منه لحذف المعدود، وأبدل من ثلاث بدل مفصل من مجمل قوله (أهله وماله) أي الذي كان ماله قبل موته: أي بعضه كعبيده وما يصحب مع أهله لنفقة على مؤن دفنه (وعمله) أي جميع ما عمله في الدنيا كما يومىء إليه إضافة المفرد، ويحتمل أن يراد ما عمله مما يتعلق به جزاء دون ما كفر لنحو توبة أو عمل صالح أو فضل إلهي فيكون عاماً أريد به خاص (فيرجع اثنان ويبقى واحد) ذكره مجملاً ثم مفصلاً ليكون أوقع في النفس وأقر فيها فقال (يرجع أهله) بعد دفنه (وماله) كذلك أو ما يبقي مما هيىء لمؤمن الدفن بعد تمامه (ويبقى عمله) معه مرتهناً هو به. قال تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة} (المدثر: 38) اللهم وفقنا لمرضاتك بمنك وكرمك، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم (متفق عليه) أخرجه البخاري في الرقاق، ومسلم في الزهد، وكذا رواه الترمذي في الزهد من «جامعه» ، وقال حسن صحيح، والنسائي في ذلك من «سننه» ،

ومداره عند الجميع على سفيان بن عيينة عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، عن أنس كذا يؤخذ من «الأطراف» ....... 6461 - (وعنه قال: قال رسول الله: يؤتى) بالبناء للمفعول ونائب الفاعل الظرف بعده والفاعل إما الله تعالى لأنه الموجد للجميع، وإما الملائكة لأنهم المنتصبون في ذلك بأمره (بأنعم أهل الدنيا) أي بأكثرهم نعمة فيها من لذات الدنيا وزهراتها (من أهل النار) في محل الحال نائب الفاعل، وفيه إيماء إلى أن من أنعم الله عليه في الدنيا بالنعم في ظاهره من أهل الإيمان وصالح الأعمال ليسوا كذلك (يوم القيامة) ظرف للفعل: أي بعد فصل القضاء والحكم بين العباد (فيصبغ) أي يغمس (في النار صبغة) بفتح الصاد أي غمسة ولعل التنوين فيه للتقليل فيكون أبلغ فالتعقيب بالنسبة للإتيان كذلك هنا وفي قرينة (ثم) لعل الإتيان بها إيماء إلى أنه يهان بإهماله كذلك مدة (ويقال) له بعدها تبكيتاً والقائل إن كان خزنة جهنم فالأمر ظاهر، وإن كان الحق سبحانه بلا واسطة فلا دلالة فيه على شرف لهم لأن خطابه تعالى لهم على سبيل الإهانة والإذلال، ثم رأيت حديث النسائي مصرحاً بالشق الثاني (هل مر بك نعيم قط) بفتح القاف وتشديد الطاء المهملة ظرف للزمان الماضي (فيقول) عقب السؤال بلا تراخ كما تؤذن به الفاء (لا وا) الجواب مقدر بعد لا، أغنى عن التصريح به دلالة ما قبله عليه، والقسم بعد لتأكيد نفي ذلك، وكأن ذلك منه لغلبة العذاب عليه حتى يذهل عما مضى له في الدنيا من النعيم فيقول ذلك، وإلا فالآخرة لا يقع فيها الكذب من أحد، ويحتمل أنهم عدوا جميع ما ذاقوه من النعيم في جنب ما أصابهم من أقل العذاب كالعدم فصيروره في حكم المعدوم فقالوا ذلك. وقوله (يا رب) بحذف الياء اكتفاء بدلالة الكسرة عليها، أتى به للتعطف والترحم (ويؤتى بأشد الناس بؤساً) بالهمز: أي شدة، قاله المصنف، قال في «المصباح» : ويجوز التخفيف. أي لغة (في الدنيا) يحتمل أن يكون ظرفاً مستقراً صفة لبؤس وأن يكون لغواً متعلقاً به، وقوله (من أهل الجنة) في محل النصب بيان لأشد، وهو المؤمن ولو عاصياً (فيصبغ) أي...... يغمس (صبغة في الجنة) وسمى ما ذكر صبغة لظهور أثره عليهم ظهور أثر المصبوغ. قال تعالى: {وجوه يومئذٍ ناضرة. إلى ربها ناظرة. ووجوه يومئذٍ

باسرة. تظن أن يفعل بها فاقرة} (القيامة: 22، 25) ثم قوله فيصبغ الخ ثابت في «صحيح مسلم» ساقط فيما وقفت عليه من نسخ الرياض ولعله من قلم الناسخ سهواً ولعل حكمة تقديم شأن أهل النار لكونه من باب الإنذار وهو كالتخلية على ما يتعلق بأهل الجنة الذي هو من باب البشارة لكونه كالتحلية بالمهملة، والظاهر أن تقديم المفعول المطلق هنا على نائب الفاعل وتأخيره ثمة للتفنن في التعبير (فيقال له) أي عقب إذاقته لأول ما يلقاه من النعيم الذي هو جزء يسير مما أعد له من النعيم كما تؤذن الفاء، والمبادرة بذلك للتشريف (هل رأيت) أي وجدت (بؤساً) أي شدة (قط هل مرّ بك بؤس قط) يحتمل أن يكون بمعنى ما قبله وكرر تأكيداً وإطناباً لزيادة التذكير بالنعمة التي آل إليه أمرها حتى هان عليه ما لاقاه في الدنيا في جانبها يقال ما يأتي، ويحتمل أن لا يكون كذلك بأن المسؤول عنه أولاً ما وجد مشقته وشدته وثانياً ما نزل به مما لم يكن كذلك لما عارضه من خفي لطف إلهي (فيقول لا وا) وصرح بالمحذوف بعد لا النافية الدال عليه سياق الكلام بقوله (ما مر بي بؤس) أي شدة (قط ولا رأيت شدة قط) لأن المقام للإطناب شكراً لما أبيح من تلك المنة التي يقصر عن بيان أدناها البيان (رواه مسلم) في التوبة من صحيحه وكذا رواه النسائي في الجهاد من سننه، كذا قال الحافظ المزّي في «الأطراف» وتعقبه الحافظ ابن حجر في «النكت الظراف» عليه بأنهما حديثان، وكان عليهما إفرادهما وذلك بيّن من سياقهما ولفظ حديث مسلم عن يزيد عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس ما ذكر، ولفظ حديث النسائي عن بهز عن حماد «يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول الله عزّ وجل يا ابن آدم كيف وجدت منزلتك؟ فيقول ربي: خير منزل، فيقول عزّ وجل: سل وتمنّ، فيقول أسألك...... أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرات لما رأى من فضل الشهادة، ويؤتى بالرجل من أهل النار فيقول تبارك وتعالى: يا ابن آدم كيف منزلك؟» الحديث. فهذان حديثان مختلفان في السياق والمعنى وإن اتحد إسنادهما وقد أخرج الثاني الحاكم في «المستدرك» وقال صحيح على شرط مسلم انتهى. 7462 - (وعن المستورد) هو بضم الميم وسكون السين المهملة وفتح الفوقية وكسر الراء

آخره دال مهملة (ابن شداد) بفتح المعجمة وتشديد المهملة الأولى، ابن عمرو بن حنبل بن الأحب بن حبيب بن عمرو بن شبان بن محارب بن فهر القرشي الفهري (رضي الله عنه) وأمه دعد بنت جابر بن حنبل بن الأحب أخت كرز بن جابر، ولما قبض النبي كان غلاماً قاله الواقدي، وقال غيره: إنه سمع من النبي سماعاً وأتقنه، سكن الكوفة ثم مصر، روى عنه أهل الكوفة وأهل مصر كذا في «أسد الغابة» ، قال ابن الجوزي روي له عن النبيّ سبعة أحاديث، قال البرقي: في هذه السبعة التي جاءت عنه منها أربعة لأهل مصر، وحديثان لأهل الكوفة، وحديث لأهل الشام اهـ عنه روى مسلم هذا الحديث وأخرج عنه حديثاً آخر ولم يرو له البخاري (قال: قال رسول الله: ما الدنيا) أي ما مثلها أو نعيمها أو زمانها (في الآخرة) أي في جانبها أو بالنظر إليها (إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه) قال في «المصباح» : فيه عشر لغات. تثليث الهمزة مع تثليث الموحدة، والعاشرة أصبوع كعصفور والمشهور من لغاتها كسر الهمزة وفتح الباء، وهي التي ارتضاها الفصحاء اهـ، وقد نظمتها بقولي: وفي أصبع عشر بتثليث همزة وباء له والعاشر أصبوع فاعلم...... (في اليم) بفتح التحتية وتشديد الميم: البحر (فلينظر) أي أحدكم (بم) أصله بما حذفت الألف؛ أي بأي شيء (يرجع) بالتحتية والضمير راجع لأحد: أي بما يرجع أحدكم أصبعه لا لأصبع لأنها مؤنثة كما في «المصباح» ، ثم قال: وفي كلام ابن فارس ما يدل على تذكير الأصبع، وقال الصغاني: يذكر ويؤنث والغالب التأنيث، قال في «المفاتيح» : يجوز في مثل أن يقرأ بالرفع والفتح على أنه مبني لأن «ما» في «ما يجعل» مصدرية يعني نسبة ما ذكر من نعيم الدنيا وزمانها إلى نعيم الآخرة، ليس إلا مثل نسبة الماء اللاصق بأصبع أحدكم إذا غمسها في اليم، أي البحر (رواه مسلم) في صفة الدنيا والآخرة من «صحيحه» ، ورواه الترمذي في الزهد، وقال: حسن صحيح، ورواه النسائي في الزهد....... 8463 - (وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرّ بالسوق) داخلاً من بعض طرق العالية كما في «صحيح مسلم» ، وحذفه المصنف اختصاراً لعدم تعلق غرضه، قال في

«المصباح» : يذكر ويؤنث، وقال أبو إسحاق في السوق التي يباع فيها مؤنثة وهو أفصح وأوضح وتصغيرها سويقة والتذكير خطأ لأنه قيل بسوق نافقة ولم يقل نافق بغير هاء اهـ، سميت بذلك لسوق الناس بضائعهم إليها أو لأنهم يقومون فيها على سوقهم أو لتصاكك السوق فيها من الازدحام (والناس كنفيه) جملة في محل الحال من ضمير مر، وفي «شرح مسلم» للمصنف قوله: والناس كنفيه وفي بعض النسخ كنفتيه معنى الأول جانبه والثاني جانبيه اهـ. 5 ولم يظهر وجه تفسير ما حذفت التاء منه بالمفرد وما أثبت فيه تاء بالمثنى، وفي «النهاية» أنهما كذلك بمعنى والله أعلم، وفي «المصباح» : الكنف بفتحتين الجانب، وجمعه أكناف كسبب وأسباب (فمر بجدي) هو ولد المعز كذا في «المفاتيح» ، وفي المصباح قال ابن الأنباري: هو الذكر من أولاد المعز، والأنثى عناق، وقيده بعضهم في السنة الأولى، والجمع أجد وجداء كدلو وأدل وأدلاء، والجدي بالكسر لغة رديئة اهـ. (أسك) أي صغير الأذن من السك بفتحتين وهو صغيرها كذا في «المفاتيح» ، ويأتي مثله في الأصل، وقال العاقولي: الأسك مصطلم الأذنين مقطوعهما (ميت فتناوله) فيه دليل على أن لمس النجس إذا لم تكن رطوبة من أحد الجانبين لا ينجس (فأخذ بأذنه) كان الأخذ بها لمزيد الحقارة، والأذن بضمتين ويجوز تخفيفها بتسكين الثانية (ثم قال) كان الإتيان بثم لبيان أنه عرض بين الأخذ والتكلم ما تأخر بسببه التكلم، ويحتمل أن تكون استعيرت في موضع الفاء وعدل إليها تفنناً ودفعاً لثقل التكرار في الجملة (أيكم يحب أن هذه له بدرهم) أحد الظرفين في محل الخبر والآخر في محل الحال والأولى إعراب الأول خبراً والثاني حالاً كما يومىء إليه ما بعده، قال العاقولي: هو استفهام إرشاد وتنبيه ليلقوا السمع لما...... يوجهه إليهم من الخطاب الخطير في ضمن التمثيل بهذا المعنى الحقير (فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء) أي من الأشياء التي هي أقل من الدرهم فضلاً عنه (وما نصنع به) وهو نجس لموته قد انقطعت الأطماع بذلك عن الانتفاع به (قال) تأكيداً للمقام (تحبون) أي أتحبون (أنه لكم) أي من غير شيء (قالوا: وا لو كان حياً كان عيباً) أي معيباً أو ذا عيب ويجوز إبقاؤه على ظاهره من غير تأويل ولا تقدير، ويكون في الجملة مبالغة أنه لكمال قيام العيب به ولصوقه صار كأنه عيب وحذفت اللام من جملة لو، حملاً على جواب «أنّ» كما أثبتت اللام في جواب «أنّ» حملاً على جواب «لو» في قولهم وإلا لكان كذا أي لو كان حياً لترك مع رجاء الانتفاع به لكونه معيباً، قوله (أنه أسك) تفسير

لعيب (فكيف وهو ميت) لا ينتفع به (فقال وا للدنيا) بفتح اللام صدّر بها جملة جواب القسم المركبة من مبتدأ وهو الدنيا وخبر وهو قوله (أهون على الله من هذا عليكم) وأهون أفعل من الهون بضم الهاء وسكون الواو قال في «المصباح» هان يهون هوناً بالضم وهواناً: ذل وحقر، وفي التنزيل {أيمسكه على هون} (النحل: 59) قال أبو زيد والكلابيون يقولون: على هوان ولم يعرفوا الهون، وفيه مهانة: أي ذل وضعف اهـ، والمعنى أن الدنيا عند الله أذل وأحقر من هذا عندكم فعلى بمعنى عند. قال في «المصباح» : تأتي على بمعنى عند، قال الشاعر: غدت من عليه بعد ما تم ظمؤها...... قال الأصمعي: معناه من عنده، ثم قال العلماء: الأنبياء والأصفياء والكتب الإلهية والعبادات في الدنيا وليست منها فلا تدخل في الهوان (رواه مسلم) في الزهد من «صحيحه» ، ورواه أبو داود في الطهارة من سننه (قوله كنفيه: أي عن جانبيه) تقدم في «المصباح» : الكنف الجانب وكان التأنيث باعتبار معنى الجهة (والأسك الصغير الأذن) قال في «المصباح» : السكك أي بفتحتين مصدر من باب تعب، وهو صغر الأذنين وبه يتأيد ما تقدم عن المفاتيح ويحمل قوله «مصطلمهما» أن ذلك خلقي، لا أن ذلك طارىء بقطعهما كما يعطيه لفظ الاصطلام إذ معناه كما في «الصحاح» أيضاً القطع: ثم رأيت «الصحاح» قال: السكك بالتحريك صغر الأذن، يقال: كل سكاء تبيض وكل شرقاء تلد، فالسكاء التي لا أذن لها والشرقاء التي لها أذن وإن كانت مشقوقة، ويقال سكة يسكه إذا اصطلم أذنيه اهـ. ومنه يعلم أن العاقولي اشتبهت عليه مادة بمادة فحمل الأسك على أنه من باب المضاعف المضموم العين المفسر بالاصطلام وإنما هو من باب علم كما تقدم في «المصباح» وغيره، فهو الصغير الأذن كما قاله المصنف وغيره....... 9464 - (وعن أبي ذر) بفتح المعجمة وتشديد الراء كنية جندب بن جنادة (رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع النبي) فيه كمال تواضعه مع أصحابه وعدم ترفعه على أحد منهم (في حرة) بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء: هي أرض ذات حجارة سود والجمع

حرار بكسر أوله (بالمدينة) علم بالغلبة على دار هجرته (فاستقبلنا أحد) بضمتين: الجبل المعروف بالمدينة (فقال يا أبا ذر) فيه تكنية العالم تلميذه وتابعه تأنيساً وتكريماً، وهو من كمال فضله وحسن خلقه (قلت) في نسخ البخاري المصححة «فقلت» بالفاء أوله (لبيك يا رسول الله) فيه الجواب زيادة في الأدب (قال: ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا) والإتيان به للتعظيم كقوله تعالى: {ذلك الكتاب} (البقرة: 2) وقوله (ذهباً) تمييز لمثل، وجاء في رواية البخاري في باب الاستئذان من صحيحه «فلما أبصر أحداً قال: ما أحب أن يحول لي ذهباً» قال الحافظ بعد ذكر اختلاف رواياته: وقد اختلفت ألفاظ هذا الحديث ومخرجه متحد فهو من تصرف الرواة، ويمكن الجمع بين قوله مثل أحد وبين قوله: «يحول أحد» بحمل المثلية على شيء بكون وزنه من الذهب وزن أحد، والتحويل على أنه إن انقلب ذهباً كان على قدر وزنه أيضاً، وذهباً على تلك الرواية الثانية جعله ابن مالك مفعولاً ثانياً لحول ومفعوله الأول ضمير أحد. واستدل به على مجيء حول بمعنى صير، وعمله عملها وهو استعمال كثير يخفى على أكثر النحاة، ورده الحافظ بقوله بعد أن ذكر أن اختلاف ألفاظه من تصرف الرواة ما لفظه فلا يكون حجة في اللغة (تمضي علىَّ ثالثة) أي ليلة ثالثة وإنما قيد بالثلاث لأنه لا يتهيأ تفريق قدر أحد من الذهب في أقل منها غالباً لكن يعكر عليه رواية يوم وليلة، فالأولى أن يقال الثلاث أقصى ما يحتاج إليه في تفريق مثل ذلك والليلة الواحدة أقله (وعندي منه دينار) جملة حالية (إلاّ شيء) كذا هو فيما وقفت عليه من نسخ الرياض بالرفع وقد ذكر الحافظ في «الفتح» : أن فيه روايتين: الرفع والنصب،...... قال: وهما جائزان لأن المستثنى منه مطلق عام والمستثنى مقيد خاص فاتجه النصب، وتوجيه الرفع أن المستثنى منه في سياق النفي والشيء فسر في رواية بالدينار ووقع في رواية غير أبي ذر «وعندي منه دينار أو نصف دينار» وفي رواية أخرى «وأدع منه قيراطاً قال: قلت: قنطاراً، قال: قيراطاً» وفيه «ثم قال: يا أبا ذر إنما أقول الذي هو أقل» (أرصده لدين) قال الدماميني بفتح الهمزة والصاد مضمومة أو مكسورة أي أعده وأحفظه وهذا الإرصاد أعم من أن يكون لصاحب

دين غائب حتى يحضر أو لأجل وفاء دين مؤجل حتى يحل فيوفى (إلا أن أقول به في عباد اهكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن خلفه) هو استثناء بعد استثناء فيفيد الإثبات فيؤخذ منه أن نفي محبة المال مقيدة بعدم الإنفاق فيلزم محبة وجوده مع الإنفاق فما دام الإنفاق في سبيل الله موجوداً لا يكره وجود المال، وإذا انتفى الإنفاق ثبتت كراهية وجود المال ولايلزم من ذلك كراهية حصول شيء آخر ولو قدر أحد، أو أكبر مع استمرار الإنفاق، وقوله عن يمينه الخ هكذا اقتصر على ثلاث وحمل المبالغة لأن العطية لمن بين يديه هي الأصل، قال في «الفتح» : والذي يظهر لي أن ذلك من تصرف الرواة وأن أصل الحديث مشتمل على الجهات الأربع، ثم ذكر أنه وجده كذلك في رواية بإثبات الأربع قال: وقد أخرجه في الاستئذان فاقتصر على ثنتين وعدّي إلى الأولين بحرف المجاوزة لأن المنفق منهما كالمنحرف عن المنفق المار على عرضه، ونظيره جلست عن يمينه، وعدى الثالث بحرف الابتداء إيماء إلى كمال المبالغة في الكرم حتى كأنه ابتدأ به من جهة الخلف بعد أن أتمه من جهة الأمام وجاوز به من عن جانبيه، وقال الحافظ: قوله من خلفه بيان للإشارة وخص عن باليمين والشمال لأن الغالب في الإعطاء صدوره باليدين اهـ. وما قلناه أظهر فتدبر (ثم سار فقال) في رواية للبخاري ثم قال: وبها يتبين أن أحد العاطفين استعير في محل الثاني (ألا) ...... أداة استفتاح يؤتى بها لتنبيه السامع لما بعدها اهتماماً به (إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة) هكذا عند البخاري الأقلون بالهمزة في الاستقراض والاستئذان من «صحيحه» ووقع عنده في الرقاق منه «المقلون» بالميم محل الهمز، قال الحافظ: والمراد الإكثار من المال والإقلال من ثواب الآخرة، وهذا في حق من لم يتصل بما دل عليه الاستثناء بعد من الإنفاق بقوله (إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن خلفه) في رواية عند أحمد «إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا فحثى عن يمينه ومن بين يديه وعن يساره» فاشتملت الروايتان على الجهات الأربع وإن كان كل اقتصر على ثلاث منها وقد جمعها عبد العزيز بن رفيع في روايته ولفظه «إلا من أعطاه الله خيراً» أي ما لا فنفح...... بنون وفاء ومهملة أي أعطى كثيراً بلا تكلف يميناً وشمالاً وبين يديه ووراءه وبقي من الجهات فوق وأسفل والإعطاء من قبل كل منهما ممكن لكن حذف لندوره وقد فسر بعضهم الإنفاق من وراء بالوصية ولي قيداً فيه بل قد يقصد الصحيح الإخفاء فيدفع لمن وراء ما لم يدر به من أمامه، وقوله هكذا صفة لمصدر محذوف: أي لمن أشار إشارة مثل هذه الإشارة (وقليل ما هم) ما صلة مزيدة

لتأكيد القلة، ويحتمل أن تكون موصوفة ولفظ قليل هو الخبر وهم المبتدأ والتقدير: وهم قليل وقدم الخبر اهتماماً بمضمونه كما يؤذن به تأكيده، ففيه التحريض على الإنفاق لأصحاب الأموال ليندرج في القليل الذي هو الجليل وا الموفق (ثم قال لي مكانك) بالنصب: أي الزمه وقوله (لا تبرح) تأكيد له ودفع لتوهم أن الأمر بلزوم المكان ليس عاماً في الأزمنة (حتى آتيك) غاية للزوم المكان المذكور (ثم انطلق في سواد الليل حتى توارى) فيه إشعار بأن القمر كان قد غلب حتى توارى: أي غاب شخصه. قلت: ويحتمل أن يكون التواري بسبب زيادة البعد حتى خفي عن البصر سيما ونور القمر يغيب فيه الشخص عن العين في بعد لا يتوارى عنها في مثله في الشمس لضعف ضوئه (فسمعت صوتاً قد ارتفع) في رواية لغطاً وهو اختلاط الأصوات (فتخوفت أن يكون) أي من أن يكون (أحد قد عرض) أي تعرض بسوء (للنبي فأردت أن آتيه) أي أتوجه إليه كما جاء في رواية أن أذهب: أي إليه ولم يرد أن يتوجه لحال سبيله بدليل رواية الباب (فذكرت قوله لا تبرح فلم أبرح حتى أتاني) في رواية فانتظرته حتى جاء، وفي الحديث الوقوف عند أمره ولزوم طاعته قال في «الفتح» : ففيه أن امتثال أمر الكبير والوقوف عنده أولى من ارتكاب ما يخالفه بالرأي ولو كان فيما يقتضيه الرأي توهم دفع مفسدة حتى يتحقق ذلك فيكون دفعها أولى اهـ. (فقلت) جاء في رواية للبخاري زيادة يا رسول الله (لقد سمعت صوتاً تخوفت منه) اللام هي المؤذنة بالقسم المقدر الداعي إليه تأكيد مقام الإخبار (فذكرت...... له) المفعول محذوف: أي ما سمعت وقد جاء مصرحاً به في بعض رواياته بلفظ فذكرت له الذي سمعت (فقال: وهل سمعته) المعطوف عليه محذوف أي أتذكر ذلك وهل سمعته، ومفعول سمع محذوف لدلالة ما قبله: أي وهل سمعت صوتاً؟ وظاهر أن الاستفهام للتثبت والتقرير لتقدم إخباره بالسماع فجوز أن يكون التبس عليه صوت نحو ريح حينئذٍ بصوت متكلم فقال ذلك ذلك (قلت نعم) أي من غير تردد (قال ذاك) أي الذي كنت أخاطبه (جبريل) أو ذلك الصوت الذي سمعته صوت جبريل ففيه على الثاني مضاف مقدر (أتاني فقال: من مات من أمتك لا يشرك با شيئاً)

أي من الشرك الجلي، أما الخفي وهو نحو الرياء فغير مانع من دخول الجنة (دخل الجنة) فقيل المراد إما ابتداء أو بعد المجازاة على المعصية، وقيل المراد دخلها ابتداء وقد حمله كذلك البخاري على من تاب عند الموت وهذا ما فهمه أبو ذر، والأول أولى للجمع بين الأدلة، جواب الشرط، رتب دخول الجنة على الموت بغير إشراك با، فقد ثبت الوعيد بدخول النار لمن عمل بعض الكبائر، وبعدم دخول الجنة لمن عملها ولذا وقع الاستفهام. بقول أبي ذر (قلت وإن زنى وإن سرق) بتقدير همزة الاستفهام قبله. قال ابن مالك: حرف الاستفهام مقدر أول هذا الكلام ولا بد من تقديره (قال: وإن زنى وإن سرق) أي يدخلها وإن زنى وإن سرق، إن وصلية والواو الداخلة عليها قيل عاطفة على مقدر، وقيل حالية، واقتصر على ذكر هذين لأن أحدهما متعلق بحق الله سبحانه، والآخر بحق العباد فكأنه يقول: إن من مات على التوحيد دخلها وإن تلبس بمعصية متعلقة بحق الله تعالى أو بحق عباده، وزيادة شرب الخمر في رواية للإشارة إلى فحش تلك الكبيرة لأنها تؤدي إلى خلل في العقل الذي به شرف الإنسان على البهائم، وبوقوع الخلل فيه قد يزول التوقي الذي يحجز عن ارتكاب بقية الكبائر، وأسقط المصنف تكرار استفهام أبي ذر لذلك وجوابه عن ذلك مرتين أخريين زاد في الثالثة «وإن رغم أنف أبي ذر» لعدم تعلق غرض الترجمة به............ (متفق عليه، وهذا لفظ البخاري) في الرقاق من «صحيحه» ، وقد أخرجه في مواضع أخرى منه وأخرجه مسلم في الزكاة، ورواه الترمذي في الإيمان من «جامعه» وأخرجه ابن السني في «عمل اليوم والليلة» ومداره عندهم على زيد بن وهب عن أبي ذر كذا يؤخذ من «الأطراف» للمزي. 10465 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لو كان لي) أي وجد فهي تامة فاعلها (مثل أحد) والظرف حال منه، ويجوز أن تكون ناقصة والظرف خبراً مقدماً

(ذهباً) تمييز مثل (لسرني ألا تمر عليّ ثلاث ليال وعندي منه شيء إلا شيء) بالرفع مستثنى من شيء ورفع لكونه مستثنى من كلام منزل منزلة المنفي، وهو أنه في حيز جواب لو إذ هو في تقدير النفي كما أشار إليه الحافظ في «الفتح» (أرصده) في محل الصفة للمستثنى أي أعده (لدين) أي لأدائه عند مجيء الدائن، أو عند حلول أجل الدين كما تقدمت الإشارة لذلك. وفي الحديث الحث على الإنفاق في وجوه الخير والحض على ذلك في الحياة وفي الصحة وترجيحه على إنفاقه عند الموت وقد تقدم منه حديث «أن تصدق وأنت صحيح شحيح» وأنه كان في أعلى درجات الزهد في الدنيا بحيث إنه لا يحب أن يبقى بيده شيء منها لإنفاقه فيمن يستحقه أو لإرصاده لمن له حق وأما لتعذر من يقبل ذلك منه لتقيده في رواية عند البخاري بقوله أجد من يقبله وفيه تقديم وفاء الدين على صدقة التطوع وفيه الحث على وفاء الدين وأداء الأمانة وجواز استعمال لو عند تمني الخير، وتخصيص الحديث الوارد بالنهي عن استعمال ما يكون في أمر غير محمود شرعاً وفيه غير ذلك (متفق عليه) أخرجه البخاري مع الحديث قبله في باب واحد................... 11466 - (وعنه) أي أبي هريرة رضي الله عنه (قال: قال رسول الله: انظروا إلى من) الأقرب أنه موصول، ويجوز أن تكون نكرة موصوفة (أسفل) بالنصب على أنه ظرف مستقر صلة للموصول أو صفة له، وإعرابه خبراً لضمير محذوف هو العائد لمن يأباه أن شرط حذف العائد ألا يصلح ما بقي لكونه صلة، وما هنا صالح له وأن شرطه أن يكون مبتدأ مخبراً عنه بمفرد وذلك خاص بصلة أي، لاستطالتها بالإضافة، وقراءة «على الذي أحسن» برفع أحسن على أن التقدير الذي هو أحسن شاذ، وفي بعض نسخ مسلم إثبات هو قبل أسفل هو العائد وهو مبتدأ والظرف مستقرّ في محل الخبر، والجملة صلة والمراد أسفل في أمور الدنيا كما بينه الحديث بعده ويدل عليه فهو أجدر الخ، أما في أمور الدين فينظر الإنسان لمن هو أعلى منه فيها جداً أو استقامة ليدأب كذلك، وفي الحديث «رحم الله عبداً نظر في دنياه لمن هو دونه فحمد الله وشكره، وفي دينه لمن هو فوقه فحمد واجتهد» قال في «الفتح» : وقد وقع في

نسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: خصلتان من كانتا فيه كتبه الله شاكراً صابراً: من نظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله على ما فضله به، ومن نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به، وأما من نظر في دنياه إلى من هو فوقه وأسف إلى ما فاته فإنه لا يكتب شاكراً ولا صابراً اهـ. (ولا تنظروا إلى من) أي الذي أو شخص (هو فوقكم) أي في ذلك على سبيل استعظام ما ناله واستكثاره (فهو) أي قصر النظر عمن فوق أو هو مع ما قبله (أجدر) أي أحق (ألا تزدروا) أي بأن لا تحقروا وتستصغروا افتعال من ازدراء قلبت فاؤه دالاً لتجانس الزاي في الجهر (نعمة الله عليكم) ثم ما أذن به أفعل من التفضيل المؤذن بثبوت أصله عند النظر المذكور باعتبار ما ركز في الطباع السالمة من الآفة من شكر نعمالله. وإن قلت: وعدم احتقارها. قال ابن جرير وغيره: هذا الحديث جامع لأنواع الخير، وذلك لأن الإنسان إذا رأى من فضل عليه في الدنيا طلبت نفسه............ من ذلك واستصغر ما عنده من نعمة الله وحرص على الازدياد ليلحق من فضل عليه فيها أو يقاربه، هذا هو الموجود في غالب الناس قال بعض السلف: صاحبت الأغنياء فكنت لا أزال في حزن أرى داراً واسعة ودابة فارهة ولا عندي شيء من ذلك: فصحبت الفقراء فاسترحت، وفي معناه ما أخرجه الحاكم من حديث عبد الله بن الشخير رفعه «أقلوا الدخول على الأغنياء فإنه أحرى أن لا تزدروا نعمة ا» أورده في «الفتح» ، وأما إذا نظر في الدنيا إلى من هو دونه ظهر له نعمة الله عليه فشكرها وتواضع وفعل ما فيه الخير وكذا إذا نظر إلى من هو فوقه في الدين ظهر له تقصيره فيما أتى به فحمله ذلك على الخضوع لمولاه، وألا ينظر لعمله ولا يعجب به ويزداد في الجهد في العمل والدأب فيه، وا الموفق وسيأتي له مزيد إن شاء الله تعالى (متفق عليه) أي في الجملة، وإلا فالحديث المذكور رواه مسلم في الزهد من «صحيحه» من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، وكذا رواه الترمذي وابن ماجه في الزهد من «جامعه» وقال الترمذي صحيح، وحديث البخاري باللفظ الآتي بعده هو الذي اتفقا عليه فرواه مسلم عقب هذا الحديث عن يحيى بن يحيى وقتيبة قال: حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة والبخاري في أواخر الرقاق من «صحيحه» عن إسماعيل عن مالك عن أبي الزناد به، فالحديث الآتي هو المتفق عليه، أما الأوّل فانفرد به مسلم عن البخاري، وقد صنع كذلك المزي في «الأطراف» فرمز على حديث الباب برمز مسلم دون رمز

البخاري، ورمز على الحديث الثاني برمز البخاري دون مسلم، وكأن المصنف اعتمد آخر كلامه فقال (وهذا لفظ مسلم) . (...... وفي رواية البخاري) الظاهر في اختصاص البخاري باللفظ الثاني بل إنه عند مسلم أيضاً عقب الحديث الذي قبله من غير فاصل، ولكن سبحان من لا يسهو، وقد حرّر السيوطي في «الجامع الصغير» ذلك فرمز في الحديث الأول لمسلم فقط وفي الثاني للمتفق عليه (إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه) بضم الفاء وبالمعجمة مبني للمجهول (في المال والخلق) بفتح الخاء المعجمة: أي الصورة المدركة بحاسة البصر.g قال في «الفتح» : ويحتمل أن يدخل في ذلك الأولاد والأتباع وكل ما يتعلق بزينة الحياة الدنيا، قال: ورأيته في نسخة معتمدة من «الغرائب» للدارقطني بضم الخاء واللام. قلت: إن ثبتت تلك الرواية فتحمل على أن المراد الأخلاق الدنيوية لأنها المأمور فيها بما يأتي (فلينظر إلى من هو أسفل منه) أي في ذلك، قال ابن بطال: هذا الحديث جامع لمعاني الخير، لأن المرء لا يكون بحال تتعلق بالدين من عبادة ربه مجتهداً فيها إلا وجد من هو فوقه، فإذا طلبت نفسه اللحاق به فيكون أبداً في زيادة تقربه من ربه ولا يكون على حال خسيسة من الدنيا إلا وجد من أهلها من هو أخس حالاً منه: فإذا تفكر في ذلك علم أن نعمة الله وصلت إليه دون من فضل هو عليه بذلك من غير أمر أوجبه فيلزم نفسه الشكر فيعظم اغتباطه بذلك في معاده، وقال غيره: في هذا الحديث دواء كل داء لأن الشخص إذا نظر إلى من هو فوقه لم يأمن من أن يؤثر فيه الحسد، ودواؤه أن ينظر إلى من هو أسفل منه ليكون ذلك باعثاً له على الشكر....... 12467 - (وعنه) أي عن أبي هريرة رضي الله عنه (عن النبي قال: تعس) بكسر العين المهملة، ويجوز الفتح: أي خر لوجهه، والمراد هنا هلك. قال ابن الأنباري: التعس الشر، وقيل البعد (عبد الدينار والدرهم والقطيفة) بالقاف والطاء المهملة والتحتية والفاء بوزن صحيفة هي الثوب الذي له خمل (والخميصة) بالخاء المعجمة وبالميم والصاد المهملة

بالوزن المذكور هي كساء مربع: أي عبد كل مما ذكر وقد جاء التصريح بالمضاف مع كل في رواية للبخاري بلفظ «تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد القطيفة وعبد الخميصة» رواه كذلك في كتاب الجهاد: أي طالب ما ذكر الحريص على جمعه القائم على حفظه فكأنه لذلك خادمه وعبده، قال: خص العبد بالذكر ليؤذن بانغماسه في محبة الدنيا كالأسير الذي لا يجد ملخصاً، ولم يقل مالك ولا جامع الدنيا لأن المذموم من الملك والجمع الزيادة على الحاجة. وقال غيره: جعله عبداً لها لشغفه وحرصه فمن كان عبداً لهواه لم يصدق في حقه «إياك نعبد وإياك نستعين» فلا يكون من اتصف بذلك صديقاً قاله في «الفتح» (إن أعطى) بالبناء للمفعول مما ذكر (رضي وإن لم يعط لم يرض) هذان الشرطان وجوابهما مسوقان لبيان سبب شدة حرصه على ذلك (رواه البخاري) في الرقاق من «صحيحه» ....... 13468 - (وعنه: قال لقد رأيت) أي أبصرت (سبعين من أهل الصفة) يشعر بأنهم كانوا أكثر من سبعين، وهؤلاء الذين رآهم غير السبعين الذين استشهدوا ببئر معونة، وكانوا من أهل الصفة أيضاً لكونهم استشهدوا قبل إسلامه (ما منهم رجل) جاز الابتداء به مع نكارته لتقدم الخبر الظرفي عليه أو لكونه في سياق النفي أو لوصفه بجملة (عليه رداء) ولا مانع من تعدد المسوغات لأنها معرفات لا مؤثرات، والرداء ما يستر أعالي البدن فقط وقوله (إما إزار وإما كساء) أي ما إزار وهو ما يستر أسافل البدن فقط. وإما كساء وهو بالمد معروف وقوله (قد ربطوا في أعناقهم) جملة في محل الصفة لكساء (فمنها) أي الأكسية المدلول عليها بقوله: وإما كساء (ما يبلغ نصف الساقين) لقصره (ومنها ما يبلغ الكعبين) لطوله، والكعب العظم الناتىء، عند مفصل السابق والقدم سمي به لنتوئه (فيجمعه) أي ما ذكر من الكساء بقسميه (بيده) ليستر العورة (كراهية) مفعول له (أن تبدو) بالواو: أي تظهر (عورته) من صغر الكساء وقصره واقتصارهم على ذلك زهداً في زهرات الدنيا وإقبالاً على العبادة وعمارة الدار الآخرة (رواه البخاري) في المساجد من «صحيحه» . قال البخاري في مؤلفه في

أهل الصفة، وفي لفظ أبي نعيم عنه «رأيت سبعين منهم يصلون في ثوب، فمنهم من يبلغ ركبتيه ومنهم من هو أسفل من ذلك، فإذا ركع أحدهم قبض عليه مخافة أن تبدو عورته» وبعضه عند الحاكم عنه ولفظه «لقد كان أصحاب الصفة سبعين رجلاً مالهم أردية» وقال صحيح على شرطهما، والمراد أن ذلك قدر ما رآه كما تقدم. قال أبو نعيم: الظاهر من أحوالهم والشاهد من أخبارهم غلبة الفقر عليهم وإيثار القلة واختيارهم لها فلم يجتمع لهم ثوبان ولا حضرهم من الطعام لونان اهـ. وقد ألف في أهل الصفة الحافظ أبو نعيم كما نقل الحافظ في «الفتح» في أبواب المساجد والسخاوي وغيرهما....... 14469 - (وعنه) أي أبي هريرة (قال: قال رسول الله: الدنيا سجن المؤمن) أي بالنسبة لما أعد له من النعيم (وجنة الكافر) أي بالنسبة لما أعد له من العذاب، أو يقال المؤمن ممنوع من شهواتها المحرمة فكأنه في السجن، والكافر عكسه فهي كالجنة له، قاله الشيخ أكمل الدين، وأشار إلى أنه من التشبيه البليغ: أي حذفت أداته وحمل المشبه على المشبه به مبالغة وادعاء أنه من أفراده، لا استعارة لأن شرطها طيّ ذكر المشبه أو المشبه به، وأشار بعضهم إلى أنه على حقيقته وأن المؤمن لما عليه في الدنيا من التكاليف وتوالي المحن والمكابدات للهموم والغموم والأسقام وغير ذلك في سجن وأي سجن أعظم من ذلك، ثم هو في السجن لا يدري بماذا يختم له من عمل كيف وهو يتوقع أمراً لا شيء أعظم منه ويخاف هلاكاً لا هلاك فوقه، فلولا أنه يرتجي الخلاص من هذا السجن لهلك حالاً، ولكن لطف الله به بما وعده على صبره وبما كشف له من حميد عاقبة أمره، والكافر منفك عن تلك التكاليف آمن من تلك المخاوف مقبل على لذته منهمك في شهوته فهو كالأنعام، وعن قريب يستيقظ من هذه الأحلام ويحصل في السجن الذي يرام، نسأل الله العافية اهـ. وفي الحديث تحريض للمؤمن على الإعراض عنها وعدم النظر لها نظر محبة لأن ذلك شأن السجن (رواه مسلم) في أواخر صحيحه، قال السيوطي في «الجامع الصغير» : رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة، والطبراني والحاكم في «المستدرك» عن ابن

عمر، وأخرجه أحمد والطبراني وأبو نعيم في «الحلية» والحاكم في «المستدرك» عن ابن عمر بلفظ «الدنيا سجن المؤمن وسنته فإذا فارق الدنيا فارق السجن والسنة» اهـ....... «لطيفة» حكى القرطبي في كتاب جمع الحرص بالقناعة عن سهل الصعلوكي الفقيه الخراساني وكان ممن جمع رياسة الدين والدنيا أنه كان في بعض مواكبه ذات يوم إذ خرج عليه يهودي من إيوان حمام وهو بثياب دنسة وصفة نجسة فقال أنتم تزعمون أن نبيكم قال: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر؟» وأنا عبد كافر وترى حالي. وأنت مؤمن وترى حالك فقال له على الفور: إذا صرت غداً إلى عذاب الله كانت هذه الجنة لك وإذا صرت أنا إلى النعيم ورضوان الله صار هذا سجني، فعجب الخلق من فهمه وسرعة جوابه اهـ....... 15470 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبيّ) بتشديد التحتية إحداهما ياء التثنية ويروى بتخفيف الياء على الإفراد، والمنكب بوزن مسجد مجتمع رأس العضد والكتف لأنه يعتمد عليه كذا في المصباح، وأخذه بمنكبيه ليقبل بقلبه على ما يلقيه إلي ويستيقظ إن كان في غفلة لذلك عما هو فيه مع ما فيه من التأنيس والتنبيه والتذكير، إذ محال عادة أن ينسى من فعل معه هذا ما يقال له، وهذا لا يفعل غالباً إلا مع من يميل إليه الفاعل دليل على محبته، ونظير هذا قول ابن مسعود: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكفي بين كفيه (فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) زاد الترمذي «وعد نفسك من أهل القبور» ورواه أحمد والنسائي أوله «اعبد الله كأنك تراه وكن في الدنيا» الخ (وكان ابن عمر) راوي الخبر (يقول) أي عقب روايه له كما يؤذن به سياق المصنف وهو كالرديف لما قبله، قال الأعمش راويه عن مجاهد عن ابن عمر وقال: قال لي ابن عمر، وفي لفظ آخر عنه قال مجاهد ثم قال لي ابن عمر وكذا جاء في رواية غير الأعمش (إذا أمسيت) أي دخلت في المساء وهو لغة من الزوال إلى نصف الليل (فلا تنتظر) أي بأعمال المساء (الصباح وإذا أصبحت) أي دخلت في الصباح فالفعلان تامان، والصباح من نصف الليل إلى الزوال كما ذكره السيوطي (فلا تنتظر) أي بأعمال النهار (المساء) وذلك أن لكل منهما عملاً يخصه فإذا أخر عنه فات ولم يستدرك كماله وإن شرع قضاؤه فطلبت المبادرة بعمل كل

وقت في وقته، أو المراد إذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالبقاء إلى الصباح وكذا عكسه بل انتظر الموت كل وقت واجعله نصب عينيك، وعقب به المصنف ما قبله لأن الحديث للحض على ترك الدنيا والزهد فيها كما سيأتي بيانه في الأصل، وهذا للحض على تقصير الأمل فذاك متوقف على هذا لأنه المصلح للعمل والمنجي من آفات التراخي والكسل، فإن من أطال أمله ساء عمله، فعلم أن هذا سبب للزهد في...... الدنيا، وقولهم إنه هو مرادهم أن بينهما تلازماً صيرهما كالشيء الواحد فهو مجازي وإلا فالحقيقة ما قلنا، فمن قصر أمله زهد ومن طال أمله رغب وترك الطاعة وتكاسل عن التوبة وقسا قلبه لنسيان الآخرة ومقدماتها من الموت وما بعده من الأهوال (وخذ من صحتك) أي أعمالاً صالحة تستعين في تحصيلها بها مبتدأه منها منتهية أو مدخرة (لمرضك) أي لمدته التي تشتغل عنها في المرض أي فلا تغفل عنها في زمن تمكنت فيه منها، وهو زمن الصحة لئلا تغبن في صفقتك (و) خذ (من حياتك لموتك) يحتمل أن يكون أعم مما قبله بأن يراد الإكثار منها ولو في زمن المرض المتمكن فيه منها فيكون فيه ترق وزيادة في التحريض على اغتنام الطاعة وعدم التواني فيها مع إمكانها ولو شقت وصعبت على النفوس لمرض أو غيره، ويحتمل أن يكون بمعنى ما قبله أي من زمن صحتك مدة حياتك فيكون تأكيداً لما قبله واهتماماً به وزيادة تحريض عليه، وبالجملة فرأس مال المؤمن صحته وحياته وأيام حياته زمن تجارته فلا ينبغي له أن يفرط فيها مع التمكن منها ليحصل له من ربح التجارة ونفعها ما يدوم نفعه عليه عند حاجته إليه لنحو مرض، وفي الحديث «إذا مرض العبد أو سافر بقول الله لملائكته اكتبوا ما كان يعمله صحيحاً مقيماً» وهذا فيه توسل لدوام فضل المولى سبحانه بحسن العمل، وفي الحديث «تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة» وقلت في هذا المعنى: أيها السالك المريد تنبه من منامك وغفلة قبل فوتك خذ لسقم من الشباب وبادر ومن الوقت قبل فوت لموتك...... (رواه البخاري) في الرقاق من صحيحه، ورواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» ، وابن حبان في «صحيحه» ، وقد صرح الأعمش فيه بتحديث مجاهد له في الصحيح بخلاف رواية ابن حبان، ولذا قال: مكثت مدة أتوهم أن الأعمش سمع هذا الحديث من ليث ودلسه حتى رأيت ابن المديني رواه عن الطفاوي فصرح بقول الأعمش سمعت مجاهداً. ذكره السخاوي في «تخريج الأربعين» حديثاً التي جمعها المصنف، ثم نقل أنه أنكر الاتصال وقال: إنما رواه الأعمش بالعنعنة، وكذا رواه عنه

أصحابه، وكذا أصحاب الطفاوي عنه، وتفرد ابن المديني بالتصريح قال: ولم يسمعه الأعمش عن مجاهد وإنما سمعه من ليث عنه فدلسه: يعني فرجع الحديث إلى ليث وسكت عن رده، وكأنه لوضوحه بأن الصحيح ما في الصحيح فلا عبرة بما يخالفه (قالوا) أي شراح الحديث المدلول عليهم بالسياق (معناه) أي معنى الحديث من حيث الجملة (لا تركن) بفتح الكاف وبضمها لأنه جاء من بابي علم ونصر كما في «مفردات الراغب» ، زاد في «الصحاح» أن الذي حكاه من باب علم. أبو زيد قال: وما حكى أبو عمرو: ركن يركن، بالفتح فيهما فإنما هو على الجمع بين اللغتين اهـ: أي لا تمل وتسكن (إلى الدنيا) وتطمئن بها (ولا تتخذها وطناً) يحتمل أن يكون من عطف الجزء على الكل اهتماماً، وذلك لأن السكون إليها والطمأنينة بها إنما يكون مع توطنها، ويحتمل أن يكون من عطف المغاير، فالأولى للنهي عن النظر لزهراتها على وجه الإعجاب بها والميل إليها. والثانية للنهي عن استيطانها والإقامة بها، وذلك لأن من توطن مكاناً سعى في عمارته، وعمارتها خلاف شأن الحازم لأنه مفارق لها إلى دار لا يفارقها الأبد، فحقه الاحتفال بتلك لا بهذه، وهذا راجع لقوله «كن في الدنيا كأنك غريب» لأن شأن الغريب عدم الركون لغير وطنه وترك التوطن بسواه. وقوله (ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها ولا بالاعتناء بها) راجع لقوله أو عابر سبيل، لأن شأن من دخل بلداً في أثناء...... سفره ألا يحدث نفسه بالمقام بها لأنه ينقطع بذلك عن الرفق فتلحقه المشاق، ولا بالاعتناء بتلك البلد لأن المرء لا يعتني بحسب طبعه إلا بما يعود نفعه عليه من وطنه، وقوله (ولا تتعلق منها) ظرف مستقر صفة لمحذوف: أي بشيء منها أو بمعنى متعلق بالفعل: أي تعلقاً مبتدأ منها، فمن للتبعيض أو للابتداء (بما) أي بالذي (لا يتعلق به الغريب في غير وطنه) مما لا تدعو إليه ضرورته من زاد ومركوب، فكذا شأن الحازم ألا يتعلق في سفره إلى مولاه بشيء من الدنيا إلا براحلته التي يتوصل بها إلى مرضات ربه وهي نفسه، فيشتغل بما يتوصل به إلى أن يؤديها حقها ويكفيها عن الغير، وكذا يكتسب ما يقوم به من تجب عليه مؤنتهم وبزاده الذي هو امتثال الأوامر واجتناب النواهي ويعرض عما عداه (ولا يشتغل فيها بما لا يشتغل به الغريب الذي

يريد الذهاب) أي العود (إلى أهله) فإن شأنه ألا يستكثر من المتاع لأن ذلك يتعبه في مقصده ويثقله عن مطلبه، بخلاف من أضرب عن العود فذلك لا يحتفل بأم السفر، فالحازم لا يتخذ من الدنيا ما يثقله في سفره إلى مولاه، والغافل عن ذلك معرض عن آخرته مقبل على زهرة دنياه، وهذا راجع لمجموع الحديث وذلك لأنه إذا كان المسافر المذكور، وإن كان يقيم بتلك البلاد شأنه الإعراض عما يثقله في سفره، فالعابر بها من غير إقامة أولى بذلك والله أعلم....... 16471 - (وعن أبي العباس) بتشديد الموحدة وبعد الألف مهملة (سهل بن سعد الساعدي) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب الدلالة على الخير (قال: جاء رجل) لم أقف على تسميته (إلى النبي) أي جاء ساعياً إليه (فقال: يا رسول الله دلني) سؤال من الدلالة أي نبهني (على عمل) التنوين فيه للتعظيم وعظمه إنما هو بحسب ثمرته كما يومىء إليه قوله (إذا عملته) أي مريداً به وجه الله (أحبني ا) بإرادة الثواب (وأحبني الناس) أي مالوا إليّ ميلاً طبيعياً لا يدخل تحت الاختيار، والجملة الشرطية صفة عمل (فقال: ازهد في الدنيا) أي أعرض عما لا تدعو إليه الضرورة مما زاد عنها من المباح احتقاراً له وإرباء بنفسك عنها بغضاً له، فحبّ الدنيا رأس كل خطيئة، والزهد عزوب النفس عن الدنيا مع القدرة عليها لأجل الآخرة خوفاً من النار وطمعاً في الجنة أو ترفعاً عن الالتفات إلى ما سوى الله تعالى، ولا يكون ذلك إلا بعد انشراح الصدر بنور اليقين (يحبك ا) جواب الشرط المقدر لوقوعه جواب الأمر كما هو الرواية، ويجوز من حيث الصناعة أن يكون مستأنفاً، وفيه إيماء إلى شرف الزهد لعظم ثمرته التي هي محبة المولى، ثم المراد من كون حبها مذموماً حبها كذلك إيثاراً لشهوة نفس ونجوها لأنه يشتغل عن الحق سبحانه، أما حبها لفعل الخير وإعانة محتاج وإغاثة ملهوف وإطعام بائس فعبادة بشهادة قوله: «نعم المال الصالح مع الرجل الصالح، يصل به رحماً ويصنع به معروفاً» (وازهد فيما عند الناس) من

نحو مال وجاه بإعراضك عنه ورفضك إياه (يحبك الناس) أي بسبب ذلك، ومتى نازعتهم في ذلك بغضوك ونازعوك إياه فإنهم بطباعهم يتهافتون عليه تهافت الذباب على النتن، والكلاب على الجيف، ومن ثم شبه الشافعي رضي الله عنه الدنيا بها، والناس بالكلاب بقوله: وما هي إلا جيفة مستحيلة عليها كلاب همهن اجتذابها فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها وإن تجتذبها نازعتك كلابها...... (حديث حسن) قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في «تخريج الأربعين» التي جمعها المصنف بعد كلام ذكره في إسناد الحديث ما لفظه: فالظاهر أن الحديث الذي أوردناه آنفاً لا يصح ولا يطلق على إسناده أنه حسن اهـ. قال السخاوي: كأنه أشار بهذا الكلام إلى شيخه: أي الحافظ الزين العراقي، فإنه حسنه في «أماليه» وسبقه إليه الشيخ: يعني النووي (رواه ابن ماجه) في سننه (وغيره) قال السخاوي في «تخريج الأربعين» المذكورة: وأخرجه الطبراني في «معجمه الكبير» وابن حبان في «روضة العقلاء» له والحاكم في الرقاق من «مستدركه» وقال: إنه صحيح الإسناد وليس كذلك (بأسانيد حسنة) فرواه ابن ماجه عن أبي عبيدة بن السفر عن شهاب بن عباد، ورواه بن حبان عن محمد بن أحمد بن المسيب عن يوسف بن سعيد بن مسلم، ورواه الحاكم عن أبي بكر محمد بن جعفر الآدمي عن أحمد بن عبيد بن ناصح، ورواه الطبراني عن علي بن عبد العزيز البغوي عن أبي عبيد القاسم بن سلام، أربعتهم عن خالد بن عمرو القرشي، وأخرجه الحافظ السخاوي من طريق محمد بن كثير المصيصي قالا وتقاربا في اللفظ: ثنا سفيان الثوري عن أبي حازم المدني عن سهل، وكذا أخرجه العقيلي والبيهقي والقضاعي في مسند الشهاب من طريق البغوي، وقال الحاكم: إنه صحيح الإسناد، وليس كذلك فخالد مجمع على تركه، ضعفه أحمد وابن معين والبخاري في آخرين، ونسبه أحمد وابن معين وآخرون إلى وضع الحديث، وابن كثير أيضاً ليس عمدة ضعفه أحمد جداً وقال مرة: حدث بمناكير لا أصل لها، وقال مرة: لم يكن عندي بثقة، وضعفه النسائي ولينه البخاري. قال السخاوي بعد نقل كلام الحافظ السابق في منع تحسين الحديث ما لفظه: ويساعد شيخنا قول أبي جعفر العقيلي ليس له من حديث الثوري أصل، ولعل ابن كثير أخذ عن خالد ودلسه لأن المشهور به خالد كذا قال، وخالفه

الخطيب فذكر الحديث عن الثوري وقال: أشهر طرقه عن الثوري ابن كثير، لكن وافقه ابن عديّ على أنه منكر من حديث الثوري...... اهـ. وبه يعلم أن الحديث له عند من ذكر سند واحد وهو الثوري إلى منتهاه لا أسانيد، ولعله باعتبار الطرق الموصلة إليه وأن سند الحديث ليس بحسن لما علمت، والله أعلم. 17472 - (وعن النعمان) بضم النون وسكون المهملة (ابن بشير) بفتح الموحدة وكسر المعجمة وسكون التحتية ابن سعد بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي (رضي الله عنهما) له ولأبويه صحبة وتقدمت ترجمته في باب الأمر بالمحافظة على السنة (قال: ذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما أصاب الناس) أي حازوه وحصلوه (من الدنيا) أي المال والخول والجاه وغير ذلك من الأعراض المخدجة فما موصولة عائدها محذوف ومن بيانية (فقال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يظل) مضارع ظل التي هي لاتصاف اسمها بخبرها نهاراً (اليوم) ظرف لقوله (يلتوي) وقوله (ما يجد دقلا يملأ به بطنه) جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً بسبب التوائه طول يومه (رواه مسلم) في آخر «صحيحه» وابن ماجه في الزهد من «سننه» ، ورواه مسلم أيضاً فيه ورواه الترمذي في الزهد من «سننه» في «شمائله» لكن من حديث النعمان نفسه أنه قال: ألستم في طعام وشراب ما شئتم؟ لقد رأيت نبيكم ما يجد من الدقل ما يملأ بطنه» وقال الترمذي: صحيح، ورواه أبو عوانة (الدقل بفتح الدال المهملة والقاف) آخره لام (رديء) بالهمز فعيل من الرداءة (التمر) قال في «الصحاح» : أردأ التمر، وما ذكره الشيخ هو ما في «النهاية» ، وعبارتها: الدقل هو ردىء التمر ويابسه، وما ليس له اسم خاص فتراه ليبسه ورداءته لا يجتمع ويكون منثوراً اهـ....... 18473 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما في بيتي شيء يأكله ذو

كبد) بفتح الكاف وكسر الموحدة في الأفصح: أي حيوان وعبرت به لأنه من الأجزاء الرئيسة في البدن (إلا شطر شعير) لا يخفى ما اشتمل عليه هذا الخبر من مزيد إعراضه عن الدنيا بالمرة وعدم النظر إليها، لأنه إذا كان هذا حالها وهي أحب أمهات المؤمنين إليه وقد دانت له الأرض شرقاً وغرباً وجيء بثمراتها فضة وذهباً ولم يوجد عندها إلا ما ذكر ففيه أعظم دليل على مزيد إعراضه عنها (في رفَ) بفتح الراء وتشديد الفاء، قال في «النهاية» : هو خشب يرفع عن الأرض إلى جنب الدار يوقى به ما يوضع عليه، وجمعه رفوف أو رفاف، وفي «الفتح» للحافظ قال الجوهري: الرف شبه الطاق في الحائط وقال عياض: الرفّ خشب يرفع عن الأرض يوضع فيه ما يراد حفظه. قلت: والأول أقرب للمراد اهـ. وقولها (لي) في محل الصفة لرفّ (فأكلت منه) من ابتدائية أو تبعيضية وقولها (حتى طال عليّ) غاية لمحذوف أي وداومت على الأكل منه حتى طال علي (فكلته) بكسر القاف (ففني) أي ففرغ وقد وقع نظير ذلك في قصة أخرى، رواه مسلم أيضاً أنه أطعم رجلاً وسقا من شعير فأكلوا منه مدة حتى كالوه ففني، فأخبر النبي فقال: لو لم يكل لأكلتم منه ولكفاكم. قال المصنف: إنما فنى عند كيله عقوبة لأن كيله مضاد للتسليم ومتضمن للتدبير وتكلف للإحاطة بأسرار الله تعالى. قال التلمساني في «شرح الشفاء» : ولا يخالف هذا حديث «كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه» لأن ما أمر به عند إرادة المناولة فيكون استعمال آلة النبي وشريعته، وما أمر به مطردة للشيطان: وأيّ مطردة له أكثر من تناوله بيده المباركة، وأيضاً فإن تكثير الطعام القليل من أسرار الله تعالى الخفية، وشرط السرّ إخفاؤه. وقال الحافظ في «الفتح» : أجيب بأن الكيل عند المبايعة محبوب من أجل تعلق حق المتابيعين ولذا يندب، وأما الكيل عند الإنفاق فالباعث عليه الشحّ فلذا كره............. وقال القرطبي: سبب رفع النماء عند الكيل والله أعلم. الالتفات بعين الحرص مع معاينة إدرار نعم الله تعالى ومواهب كراماته وكثرة بركاته والغفلة عن الشكر عليها والثقة بالذي وهبها والميل إلى الأسباب المعتادة عند مشاهدة خرق العادات، ويستفاد منه أن من رزق شيئاً أو أكرم بكرامة أو لطف به في أمر فالمتعين عليه موالاة الشكر وتنزيه المنة تعالى، ولا يحدث في تلك الحالة تغييراً اهـ. (متفق عليه) رواه البخاري في الخمس، وفي الرقاق من صحيحه، ورواه مسلم في آخر «صحيحه» ، ورواه ابن ماجه في الأطعمة. (وقولها شطر شعير: أي شيء) قليل كما يومىء إليه السياق (من شعير كذا فسره الترمذي) وكأنه مستند

الحافظ في قوله في «الفتح» المراد بالشطر هنا البعض، والشطر يطلق على النصف وعلى ما يقاربه وعلى الجهة وليست مرادة هنا، ويقال أرادت نصف وسق. قال الحافظ: الذي يظهر أنه كان يؤثر بما عنده ففي الصحيحين «أنه كان إذا جاءه ما فتح الله عليه من خيبر أو غيرها من تمر وغيره يدخر قوت أهله سنة ثم يجعل ما بقى في سبيلالله، ثم كان مع ذلك إذا طرأ عليه طارىء ونزل به ضيف يشير على أهله بإيثارهم فربما أدى ذلك إلى نفاد ما عنده أو معظمه» وقد روى البيهقي عن عائشة قالت: «ما شبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام متوالية، ولو شئنا لشبعنا ولكنه كان يؤثر على نفسه» اهـ............. 19474 - (وعن عمرو) بفتح المهملة (بن الحارث) بن أبي ضرار بكسر المعجمة وتخفيف الراء الأولى الخزاعي المصطلقى (أخي) بالجر عطف بيان لعمرو، وفي بعض نسخ البخاري أخوه بالرفع خبر مبتدأ هو، هو (جويرية) بضم الجيم وتخفيف الواو وسكون التحتية الأولى وكسر الراء وتخفيف التحتية بعدها هاء (بنت الحارث أم المؤمنين) في الاحترام ووجوب الإكرام (رضي الله عنهما) قال الحافظ في «التقريب» : هو صحابي قليل الحديث بقي إلى بعد الخمسين أخرج البخاري عنه هذا الحديث الواحد وانفرد به عن مسلم (قال: ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند موته درهماً ولا ديناراً ولا عبداً ولا أمة) أي باقيين على الرق: قال الحافظ في «الفتح» : وفيه دلالة على أن من ذكر من أرقاء النبي في جميع الأخبار كان إما مات وإما أعتقه (ولا شيئاً) في رواية الكشميهني ولا شاة، والأولى أصح وهي رواية الإسماعيلي، نعم روى مسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم عن عائشة «ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ديناراً ولا درهماً ولا شاة ولا بعيراً ولا أوصى بشيء» (إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها) قال السهيلي في «الأعلام» : أهداها له رافعة الضبيبي من لخم اهـ. وسيأتي في الملح والمنثورات أن الذي أهداها له فرقة بن نفاثة بالنون والفاء والمثلثة على الأشهر الجذامي، وإنما اسمها الدلدل وليس له بغلة غيرها (وسلاحه) وبيان ما خلفه من السلاح والكراع مذكور في كتب السير (وأرضاً) هي نصف أرض فدك وثلث أرض وادي القرى وسهم من

خمس خيبر وضيعة من أرض بني النضير (جعلها) أي الثلاث المذكورة كما في «تحفة القاري» (لابن السبيل صدقة) أي لم يترك مالاً غير ما ذكر مما جعله صدقة على المسلمين (رواه البخاري) في مواضع من «صحيحه» منها في الوصايا وفي فرض الخمس وفي المغازي، ورواه الترمذي في «الشمائل» والنسائي....... 20 - (وعن خباب) بفتح المعجمة وتشديد الموحدة الأولى (ابن الأرت) بفتح الهمزة والراء وتشديد المثناة الفوقية وتقدمت ترجمته (رضي الله عنه) ونسبه في باب الصبر (قال: هاجرنا) أي فارقنا أوطاننا لنصرة الدين الحنيفي (مع رسول الله) وكان ذلك منهم من مكة إلى المدينة، وكونهم معه ليس المراد مصاحبتهم له في السفر لأنه لم يصحبه في الهجرة إلا الصديق وعامر بن فهيرة، بل المراد المعية في مفارقة الوطن إلى وطن آخر لنصرة الدين، وقوله (نلتمس) أي نطلب بهجرتنا (وجه) أي ذات (اتعالى) جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً للحامل على الهجرة، وفي «الصحاح» : الالتماس الطلب، وفي الجملة بيان نعم الله تعالى عليهم أن أهلّهم للهجرة وحركهم لها ومنّ عليهم بالإخلاص فيها ليجنوا ثمرة الاجتهاد ويحبوا بالمراد (فوقع) أي كتب، وجاء في رواية للبخاري في المغازي فوجب، وذلك لإيجاب الله تعالى ذلك على ذاته وبوعده الصادق، وإلا فلا يجب على الله شيء (أجرنا) أي إثابتنا وجزاؤنا (على ا) ويصح أن يراد منه ثمرة العلم ولو دنيوية على الله (فينا) أي فبعض المهاجرين (من مات) حاله كونه (لم يأكل) أي لم يصب، وعبر عنها بالأكل لأنه المقصود من إصابة المال (من أجره شيئاً) قال في «الفتح» : وهذا كناية عن الغنائم التي تناولها من أدرك زمن الفتوح. ولما كان المراد بالأجر عرقه فليس مقصوراً على أجر الآخرة (منهم مصعب) بضم الميم بصيغة المفعول (ابن عمير) بصيغة التصغير، العبدري، يجتمع مع النبي في قصي يكنى أبا عبد الله من السابقين إلى الإسلام وإلى

الهجرة. قال البراء: أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم وكانا يقرءان القرآن، أخرجه البخاري. وذكر ابن إسحاق أن النبي أرسله مع أهل العقبة الأولى يقرئهم ويعلمهم (رضي الله عنه قتل يوم أحد) بضم أوليه: وقعة مشهورة كانت سنة أربع من الهجرة على الصحيح، وكان قتل مصعب بها شهيداً. وكان صاحب لواء رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ...... يومئذٍ (وترك نمرة) بفتح النون وكسر الميم ثم راء، وهي إزار من صوف مخطط أو بردة (فكنا إذا غطينا بها رأسه بدت) أي ظهرت (رجلاه، وإذا غطينا رجليه) أي بالنمرة المذكورة (بدا رأسه) هذه الجملة مسوقة لبيان مزيد صغرها ففيها مزيد تقلله من الدنيا (فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يغطى) بالتحتية مبني للمفعول مرفوعه قوله (رأسه) وذلك لشرفه على باقي الأعضاء (ونجعل على رجليه شيئاً من الإذخر) هو نبت معروف طيب الرائحة (ومنا) أي وبعضهم (من أينعت) بفتح الهمزة والنون وسكون التحتية بينهما ويأتي معناها في الأصل (له ثمرته) والفاء في قوله (فهو يهدبها) تفريعية ومدخولها معطوف على جملة الصلة (متفق عليه) رواه البخاري في الجنائز والهجرة من صحيحه، ومسلم في الجنائز، ورواه أبو داود في الوصايا، والترمذي في المناقب وقال: حسن «صحيح» ، والنسائي في الجنائز (النمرة) تقدم ضبطها على الأفصح ويجوز كسر النون وفتحها مع سكون الميم فيهما (كساء) قال في «الصحاح» : هو واحد الأكسية (ملوّن) أي ذو ألوان وخطوط (من صوف) زاد في «الفتح» أو بردة (وقوله أينعت) قال في «فتح الباري» وفي بعض النسخ: ينعت بغير ألف، وهي لغة، قال الفراء: وأينعت أكثر (أي نضجت) بفتح النون والمعجمة والجيم من النضج وهو الاستواء (وأدركت) أي زمن القطف (وقوله يهدبها بفتح الياء) التحتية وسكون الهاء (وضم الدال) المهملة (وكسرها لغتان) ضبطه في الفتح بكسر المهملة وقال إن النووي ضبطها بالضم، وحكى ابن التين تثليثها. قلت: وعليه اقتصر السيوطي في «التوشيح» ولم ينسبه إليه (أي يقطفها) بكسر المهملة من باب ضرب كما أشار إليه في «الصحاح» بقوله قطف العنب

قطفاً، ثم رأيته في «المصباح» من باب ضرب، وقيل معناه قطع (ويجتنيها) عطف تفسير، في الصحاح جنيت الثمرة أجنيها واجتنبها بمعنى (وهذه استعارة لما فتح الله تعالى عليهم من الدنيا وتمكنوا فيها) أي جملة قوله أينعت الخ استعارة تمثيلية. شبه...... حالهم في تمكنهم من الدنيا التي فتح عليهم بها وتمكنوا منها بتمكن ذي الثمرة النضيجة من قطفها واجتنائها ويحتمل أن يكون استعير يهدبها لمعنى التمكن منها فتكون استعارة تبعية، شبه التمكن من الدنيا بالهدب وهو القطف للثمرة بجامع سهولة الوصول في كل، فأطلق اسم المشبه على المشبه به استعارة مصرحة مرشحة بقوله أينعت، ثم سرت الاستعارة منه إلى الفعل، والله أعلم. 21475 - (وعن سهل بن سعد) الأنصاري (الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله: لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح) بفتح الجيم (بعوضة) فعول من البعض وهو القطع، غلب على هذا النوع من الحيوان المضروب به المثل في الحقارة وجناحها في غايتها ومنتهاها. قال النيسابوري في تفسيره: ومن عجائب البعوض أن خرطومه مع كونه في غاية الصغر مجوف، ومع كونه كذلك يغوص في جلد الجاموس كما يغوص الأصبع في الخبيص، وذلك لما ركب الله في رأس خرطومه من السم اهـ. (ما سقى كافراً منها شربة ماء) لهوانه عليه وسقوطه. قال العاقولي: أي لو كان لها عنده تعالى أدنى قدر ما تمتع فيها كافر أدنى تمتع. وفي «الديباجة» : هو أن الله تعالى لم يجعلها مقصودة لنفسها بل جعلها طريقاً موصلة إلى ما هو المقصود لنفسه، وأنه لم يجعلها دار إقامة ولا جزاء وإنما جعلها دار انتقال وارتحال، وأنه تعالى ملّكها في الغالب للكفار والفساق، وحمى منها الأنبياء ووراثهم، ويكفيك حديث الباب في هوانها عند الله وصغرها وحقرها وذمها وبغضها وبغض أهلها والمحبين لها، وليس من الدنيا ما يوجد فيها من الأنبياء والصديقين والعلماء العاملين والطاعة الموصلة لمرضاة رب العالمين ويدل له الاستثناء في الحديث الآتي لأنه من قوله فيه «وما فيها» ومع كون الدنيا بهذا المقام عند الله سبحانه، فهو يوم القيامة يستوفي لذي الظلامة منها ظلامته من

ظالمه ولو كان كافراً من مؤمن إظهاراً لمزيد العدل (رواه الترمذي) في الزهد وانفرد...... به عن باقي الكتب الستة (وقال حديث صحيح) غريب من هذا الوجه، وكأن سكوت المصنف عن هذا لكون الغرابة نسبية فلا تنافي التصحيح. 22476 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ألا) بفتح الهمزة وتخفيف اللام حرف استفتاح يؤتى به لتأكيد ما بعده وليتوجه السامع له (إن الدنيا ملعونة) أي مبغوضة ساقطة فعبر عنه بذلك لأن من لازم المبغوض الساقط الإبعاد (ملعون ما فيها) أي من الأموال الدنيوية المخدّجة الفانية من شهوات وغيرها: أي الاشتغال بذلك مبعد عن حضرة الحق فقد جاء «حبّ الدنيا رأس كل خطيئة» (إلاّ ذكر الله وما والاه) أي وما أدناه مما أحبه الله تعالى، والولي: القرب والدنو، والمعنى: الدنيا ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما قاربه من الطاعة الموصلة لمرضاته (وعالماً ومعلماً) كذا هو فيما وقفت عليه من نسخ الرياض بالألف فيهما وهو ظاهر، لأنهما معطوفان على المستثنى المنصوب وجوباً لكونه من كلام تام موجب، لكنهما في نسخ الترمذي من غير ألف. قال الحافظ السيوطي في حواشيه عليه: منصوبان لأن الاستثناء من كلام تام موجب وكتبا بلا ألف على طريق كثير من المحدثين (رواه الترمذي) في الزهد من «جامعه» ، ورواه ابن ماجه في المشكاة (وقال) أي الترمذي (حديث حسن) قال القرطبي: لا يفهم من هذا الحديث سب الدنيا مطلقاً ولعنها، فقد جاء من حديث أبي موسى الأشعري مرفوعاً «لا تسبوا الدنيا فنعم مطية المؤمن، عليها يبلغ الخير وبها ينجو من الشرّ، وإذا قال العبد: لعن الله الدنيا قالت الدنيا: لعن الله أعصانا لربه» أخرجه الشريف أبو القاسم زيد بن عبد الله الهاشمي، والجمع بين ذلك بحمل الأحاديث الواردة في إباحة لعن الدنيا على ما يبعد منها عن الله تعالى ويشغل عنه، وحمل

الوارد بالمنع على ما قرّب إلى الله تعالى أو أعان على عبادته سبحانه، كما يومىء إليه الاستثناء في حديث الباب بقوله: إلا ذكر الله وما والاه الخ....... 23478 - (وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال) قال رسول الله: لا تتخذوا الضيعة) بالضاد المعجمة: العقار، والجمع ضيع وضياع بكسر ففتح قاله في «الصحاح» . وفي «النهاية» : ضيعة الرجل ما يكون منه معاشه كالصنعة والتجارة والزراعة وغير ذلك، والمراد لا تتوغلوا في اتخاذ الضيعة فترغبوا عن صلاح آخرتكم كما قال (فترغبوا في الدنيا) أي في صلاحها وتشتغلوا به عن صلاح دار القرار: قال صاحب «المفاتيح» : وذلك لأن بأخذها تحصل الرغبة في طلب الدنيا فلا تشبعون حينئذٍ منها (رواه الترمذي: وقال: حديث حسن) ورواه أحمد والحاكم في «المستدرك» . 24479 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: مر علينا) لعل الإتيان بعلى لعلوّ محل مروره على محل الخص، أو كان راكباً، وإلا فمرّ يعدّى بالباء (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نعالج خصاً لنا) بضم الخاء المعجمة وتشديد الصاد المهملة قال في «النهاية» : هو بيت يعمل من خشب وقصب، وجمعه خصاص وأخصاص، سمي به لما فيه من الخصاص وهي الفرج والأثقاب. وفي «الصحاح» : الخص البيت من القصب اهـ. وهو محتمل لتخصيص القصب بذلك فيخالف كلام «النهاية» ، ويحتمل أن يراد من ذلك وغيره مثلاً فيوافقه، والله أعلم (فقال: ما هذا) أي المعالج (فقلنا: قد وهى) بفتحتين: أي ضعف وهم بالسقوط كما في «الصحاح» (فنحن نصلحه) بإدعامه بما يذهب به ويدوم به قوامه (فقال ما أرى) يحتمل أن يكون بضم الهمزة بمعنى أظن، وأن يكون بفتحها بمعنى أعلم (الأمر) أي الأجل (إلا أعجل) أي أسرع (من ذلك) أي الإصلاح المذكور، وعبر به مع أن

المقام «لهذا» الموضوع للقريب، إيماء بأن الاشتغال بالبناء بعيد من شأنهم مع توقع الأجل ساعة فساعة ولحظة فلحظة (رواه أبو داود والترمذي بإسناد البخاري ومسلم) أي برجال روياً عنهم، فهو على شرطهما (وقال الترمذي: حسن صحيح) ....... 25480 - (وعن كعب) بفتح الكاف وسكون العين المهملة بعدها موحدة (ابن عياض) بكسر المهملة وتخفيف التحتية آخره ضاد معجمة، الأشعري معدود في الشاميين روى عنه جابر بن عبد الله، وقيل روت عنه أم الدرداء (رضي الله عنه) خرّج عنه الترمذي والنسائي (قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن لك أمة فتنة) بكسر الفاء: أي ما يمتحنون ويختبرون: أي يعاملون به معاملة المختبر للجاهل بحاله. قال الراغب في «مفرداته» : جعلت الفتنة كالبلاء يستعمل في الخير والشر. وهما في الشدّة أظهر معنى وأكثر استعمالاً، قال تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} (الأنبياء: 35) اهـ. (وفتنة أمتي) ما تمتحن به في دنياها (المال) كما قال: «إن هذا المال حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون» (رواه الترمذي) في الزهد من «جامعه» ، ورواه النسائي في الرقاق من «سننه» ، ورواه ابن عبد البر وابن منده وأبو نعيم في كتاب «معرفة الصحابة» كما في «أسد الغابة» (وقال) أي الترمذي (حديث حسن صحيح) ....... 26481 - (وعن أبي عمرو) بفتح العين كني باسم أحد أولاده (ويقال) بالبناء للمجهول: أي ويقال في كنيته (أبو عبد ا) قال في «أسد الغابة» : يكنى أبا عبد الله ويقال أبو عمرو وقيل كان يكنى أولاً بابنه عبد الله، وأمه رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم كني بابنه عمرو اهـ. (ويقال أبو ليلى) بفتح اللامين بينهما تحتية ساكنة (عثمان بن عفان) بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي المكي ثم المدني أمير

المؤمنين (رضي الله عنه) أمه أروى بنت كريز بضم الكاف وفتح الراء ابن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن مناف، وأمها أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب عمة رسول الله. أسلم عثمان قديماً، دعاه أبو بكر إلى الإسلام وأسلم، وهاجر الهجرتين إلى الحبشة ثم إلى المدينة، فهاجر بزوجته رقية بنت النبي إلى الحبشة الهجرتين الأولى والثانية، ويقال لعثمان ذو النورين لأنه تزوج بنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحداهما بعد الأخرى، قالوا: ولا يعرف أحد تزوج بنتي نبي غيره، روي لعثمان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث وستة وأربعون حديثاً، اتفق الشيخان منها على ثلاثة، وانفرد البخاري بثمانية ومسلم بخمسة. روى عنه جمع من الصحابة منهم زيد بن خالد الجهني وابن الزبير وغيرهم وخلق من التابعين، ولد في السنة السادسة بعد الفيل، وقتل شهيداً يوم الجمعة لثمان عشرة خلون من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين وهو ابن تسعين سنة، وقيل ثمان، وقيل ثنتين وثمانين سنة، وقيل غير ذلك. وهو رضي الله عنه أحد السابقين إلى الإسلام كما تقدم، وأحد العشرة المبشرة بالجنة الذين مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض، وأحد الستة أصحاب الشورى، بويع بالخلافة غرة محرم سنة أربع وعشرين وكانت خلافته ثنتي عشرة سنة إلا ليال. وقال ابن عبد البرّ: بويع بعد دفن عمر بثلاث ليال، وحج بالناس في خلافته عشر سنين متوالية، وصلى عليه جبير بن مطعم وقيل غيره،...... ودفن بالبقيع ليلاً وأخفي قبره ذلك الوقت ثم أظهر. وقيل دفن بحش كوكب. قال ابن قتيبة: وهي أرض اشتراها عثمان وزادها في البقيع. والحش: البستان، وكوكب اسم رجل من الأنصار، والأحاديث الواردة في فضله وعلوّ مقامه كثيرة شهيرة رضي الله عنه (أن النبيّ قال: ليس لابن آدم حق) قال العاقولي: أراد بالحق ما يستحقه الإنسان لاحتياجه إليه في كنه من الحرّ والبرد وستر بدنه وسد جوعته، وهذا هو المراد...... الحقيقي من المال. وقيل أراد ما لم يكن معه حساب إذا كان مكتسباً من وجه حلال طيب، ويؤيد القول الثاني ما قال ابن كثير: أخرج الإمام أحمد بسنده إلى أبي عسيب مولى النبي قال خرج النبي ليلاً فمرّ بي فدعاني فخرجت إليه، ثم مرّ بأبي بكر فدعاه فخرج إليه، ثم مرّ بعمر فدعاه فخرج إليه، فانطلق حتى أتى حائطاً لبعض الأنصار فقال لصاحب الحائط أطعمنا» الحديث وفي آخره، فأخذ عمر العذق الذي جاء به الأنصاري فضرب به الأرض حتى تناثر البسر قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: يا رسول الله إنا مسؤولون عن هذا يوم القيامة؟ قال نعم، إلا من ثلاثة: خرقة كفى بها الرجل عورته، أو كسرة سد بها جوعته، أو جحر يدخل فيه من الحرّ والبرد» وقال ابن كثير: تفرد به أحمد (في سوى هذه الخصال) ظاهره استعمال سوى غير ظرف فيكون متصرفاً بوجوه الإعراب كغير، وهذا ما ذهب إليه ابن مالك وصححه في أكثر

كتبه وبالغ في نصرته في «شرح التسهيل» ، لكن قال أبو حيان: لا سلف له في ذلك إلا الزجاجي. واستدل ابن مالك بشواهد من الحديث وغيره شعراً ونثراً، ونازعه أبو حيان بأنه لا حجة له في ذلك، ومذهب سيبويه والبصريين أنها لا تخرج عن الظرفية المكانية إلا في الشعر، وصححه ابن الحاج في «سبك المنظوم» وجرى عليه العاقولي هنا فقال موصوف سوى محذوف: أي شيء سوى هذه الخصال، والمراد هنا ما يحصل للرجل ويسعى في تحصيله (بيت) رأيته مضبوطاً بالقلم في أصل مصحح بالرفع على القطع بإضمار مبتدأ: أي هي، ويجوز إن لم تصدّ عنه الرواية نصبه بإضمار أعني، ويجوز جرّه على الإتباع، وهذه الأوجه جارية في بدل المفصل من المجمل إذا استوفى العدة، وجملة (يسكنه) في محل الصفة احترازاً عن بيت يعده للكراء فإن ذلك من اتخاذ الضيعة المنهيّ عنه بما تقدم في حديث ابن مسعود (وثوب يواري) أي يستر (عورته) يجوز أن يراد من العورة ما يجب ستره في نحو الصلاة، فلا يدخل فيه ستر ما عدا ما بين السرّة والركبة من...... الرجل والأمة وأن يراد به ما يجب ستره في الرجال عن النساء الأجانب فيشمل ذلك ولعل الثاني أقرب سيما إن كان تركه مخلاً بالمروءة فلا يكون لبسه من حظوظ النفس بل من حقوقها، ويؤيده أنهم أوجبوا على المعتمد في كفن الميت ساتر جميع بدنه لا العورة فقط وأصل العورة الخلل، ومنه أعور المكان ورجل أعور (وجلف) بكسر الجيم وسكون اللام، وقال في «النهاية» : ويروى بفتح اللام جمع جلف: وهي الكسرة من الخبز. قلت: وعليه يكون كحلق بكسر ففتح في جمع حلقة بفتح فسكون (الخبز والماء: رواه الترمذي وقال: حديث صحيح) قال في «الجامع الصغير» : ورواه الحاكم في «مستدركه» . وفي «النهاية» حديث عثمان «إن كل شيء سوى جلف الطعام وظل وثوب وبيت يستر فضل» (قال الترمذي: وسمعت أبا داود سليمان) بصيغة التصغير (ابن أسلم) بفتح الهمزة فسكون المهملة (البلخي) بفتح الموحدة فسكون اللام بعدها معجمة نسبة إلى بلخ: بلد معروف، ويقال له المصاحفي نسبة إلى عمل المصاحف، والترمذي تارة بصفة بتلك وتارة بهذه كما بينته في باب الكنى من حرف الدال من كتابي في «أسماء رجال الشمائل» (يقول سمعت النضر) بإعجام الضاد في مقدمة «فتح الباري» ما كان

بهذه الصورة معرّفاً بالإعجام ومنكرّاً بالإهمال (ابن شميل) بضم المعجمة وفتح الميم وسكون التحتية. والنضر هو الإمام الكبير الشأن، في علوم العربية، وقد ذكرت ترجمته في كتابي المذكور آنفاً (يقول: الجلف) أي بكسر فسكون اسم مفرد (الخبز ليس معه إدام. وقال غيره: هو غليظ الخبز) أي وإن كا معه إدام وهذا الغير هو الليث كما في «تكملة الصحاح» للصغاني، وعبارته قال: قال الليث: الجلف فحال النخل، والجلف أيضاً من الخبز الغليظ اليابس اهـ. ويحتمل أن يكون غيره لأن المحكي هنا أعم مما حكي عنه، لأنه اعتبر فيه أمرين: الغلظ واليبس، والمحكي عن الغير هو الأول فقط (وقال الهروي) صاحب كتاب الغريبين (المراد به هنا وعاء الخبز كالجوالق) بضم الجيم، قال في...... «الصحاح» : الجيم والقاف لا يجتمعان في كلمة واحدة من كلام العرب إلا أن تكون معربة أو حكاية صوت نحو الجردقة وهي الرغيف، وذكر ألفاظاً إلى أن قال: والجوالق بضم الجيم: وعاء، والجمع الجوالق بالفتح والجواليق بالياء أيضاً اهـ. (والخرج) بضم الخاء المعجمة وسكون الراء وبالجيم قال في «المصباح» : وعاء معروف عربي صحيح والجمع خرجة نحو عنبة اهـ. وفيه أيضاً قبل الجلف: كل ظرف ووعاء، وهذا القول الذي حكاه المصنف أعرض عن ذكره العاقولي في «شرح المصابيح» والحافظ السيوطي في «حاشية الترمذي» والعلقمي في حاشية «الجامع الصغير» ، وكأنه لبعده عن مقام الحديث لأن المراد به التحريض على الزهد وأخذ الوعاء لنحو الخبز إنما يكون عادة عند نحو ادخار واهتمام به، وذلك خلاف المقصود والله أعلم. وكأن من حمل الحديث عليه يمنع كون ذلك عادة عند الادخار بل يكون لنحو ما يحفظ لوقت آخر من اليوم مثلاً، والله أعلم....... 27482 - (وعن عبد الله بن الشخير بالشين والخاء المشددة المعجمتين) كأنه وجه إفراد المشددة وتثنية ما بعده مع أن الوصفين سيان الاكتفاء بكون الشين لا ينطق بها إلا كذلك لأن اللام تبدل منها وتدغم فيها، وليس في الخاء ما يدل على وجوب ذلك فيها فنبه على ما يحتاج إلى التنبيه. وأيضاً فتشديد الشين عارض عند دخول أل فيه بخلاف تشديد الخاء، وعبارة «تبصير المنتبه في تحرير المشتبه» للحافظ ابن حجر: شخيّر بالكسر وتشديد الخاء المعجمة بعدها ياء ثم راء عبد الله بن الشخير له صحبة وأولاده اهـ. والظاهر أن أل فيه

مقارنة النقل فتكون لازمة والله أعلم. وعبد الله (رضي الله عنه) تقدمت ترجمته في باب فضل البكاء من خشية الله تعالى (أنه قال) بفتح الهمز مبتدأ خبره الظرف قبله: أي وعنه قوله (أتيت النبي وهو يقرأ) جملة في محل الحال من المفعول (ألهاكم التكاثر) أي السورة المسماة بما ذكر لكونه صدرها (قال) أي النبيّ بعد إتمامها كما عند النسائي حتى ختمها (يقول ابن آدم) أتى بصيغة المضارع إيماء إلى أن هذا القول ديدنه ودأبه بحسب طبعه (مالي مالي) أي مالي هو الذي أعتني به وأهتم، فالتكرار لفظاً للتعظيم والاهتمام: قال الحافظ في «الفتح» : لأن المبتدأ والخبر إذا كانا متحدين فالمراد به بعض اللوازم (وهل لك) المعطوف عليه مخاطب مقدر: أي أتقول ذلك (يا ابن آدم) وتهتم بأمره وهل لك (من دنياك) التي اهتممت بأمرها واحتفلت بشأنها والاستفهام فيه للإنكار: أي مالك منها على الحقيقة (إلا ما أكلت فأفنيت) فوصل نفع ذلك إلى أجزاء البدن واستقام به أمرها (أو لبست) بكسر الموحدة (فأبليت) من الإبلاء: إخلاق الجديد (أو تصدقت) على محتاج قاصداً وجه الله تعالى (فأمضيت) قال في «المصباح» : أمضيت الأمر أنفذته اهـ. والمراد أمضيت التصدق ونجزته فأبقيت ثوابه مدخراً لك عند المولى. وملخصه: ما لك من دنياك إلا ما انتفعت به في دنياك بأن أكلت أو لبست أو أخرت بأن تصدقت، وما...... عدا ذلك من باقي المال فإنما أنت فيه بمنزلة الخادم الخازن لغيره كما تقدم في حديث «أيكم مال وارثه أحبّ إليه من ماله» ففيه تحريض على الزهد عن جمع الدنيا والعروض عنها وتحرض على الاقتصار على ما تدعو إليه ضرورة الحياة وادخار ما عداه عندالله، وما أحسن قول بعضهم: اجعل ما عندك ذخيرة لك عند الله واجعل الله ذخيرة لأولادك، (رواه مسلم) في «صحيحه» ، ورواه الترمذي في الزهد وقال: حسن صحيح، والنسائي في الوصايا وفي التفسير....... 28483 - (وعن عبد الله بن مغفل) بصيغة اسم المفعول من التغفيل بالغين المعجمة والفاء،

قال المصنف في «التهذيب» : هو أبو سعيد، وقيل أبو عبد الرحمن وأبو زياد عبد الله بن مغفل بن عبد غنم، وقيل ابن عبد نهم بن عفيف بن أسحم بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار، المزني البصري (رضي الله عنه) ومزينة امرأة عثمان بن عمرو نسبوا إليها، وهي مزينة بنت وهب بن وبرة، فولد عثمان يقال لهم مزنيون، وكان عبد الله من أهل بيعة الرضوان قال: إني لمن رفع أغصان الشجرة عن رسول الله، سكن المدينة ثم تحول إلى البصرة وابتنى بها داراً قرب الجامع قال الحسن: ما نزل البصرة أشرف منه، وقد تقدمت ترجمته وذكر بعض مناقبه وعدة ماله من الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في باب المحافظة على السنة وقد ذكرت زيادة على ذلك في ترجمته في كتابي في «رجال الشمائل» (قال: قال رجل) قال ابن أقبرس في «شرح الشفاء» : هذا الرجل من المجاهيل. قلت: ويجوز أن يكون أبا سعيد الخدري، ففي «الشفاء» وقد قال لأبي سعيد «إن الفقر إلى من يحبني منكم أسرع من السيل من أعلى الوادي أو الجبل إلى أسفله» ثم أورد حديث ابن مغفل المذكور وقال بعد ذكره إلى قوله تجفافاً، ثم ذكر نحو حديث أبي سعيد بمعناه، ثم رأيت الحافظ السيوطي في تخريج أحاديث «الشفاء» جزم بأن حديث أبي سعيد بعض حديث ابن مغفل فهو يقوي ما فهمناه من تفسير المبهم بأبي سعيد، والله أعلم. (للنبي) اللام فيه للتبليغ (يا رسول الله وا إني لأحبك) لعل ذكر المؤكدات لزيادة تثبيت مضمون الخبر عنده خصوصاً إن قلنا: إنه أبو سعيد أو غيره من خلّص المؤمنين، وإن كان من المنافقين ثم صدق في إيمانه فلإذهاب ما توهم من حاله السابق (فقال: انظر ما تقول) يرد منه الاستكشاف عن حقيقة قوله، ولذا علقه بالشرط الآتي، وفي الاصطفاء انظر ماذا تقول: أي تأمله، وتذكر فيه فإنك رمت خطة عظيمة ومشقة وخيمة تورثك خطراً يجعلك هدفاً لبلايا فظيعة ورزايا...... وجيعة، فأمره بالنظر ليوطن نفسه على ما يرهقه عسراً أو يكلفه أمراً إصراً اهـ. ولا يخفى ما فيه (قال: وا إني لأحبك) وقال الدلجى مؤكداً بالقسم والتكرير (ثلاث مرات) وهو ظرف لقال (فقال: إن كنت تحبني) أتى بإن الدالة على عدم الجزم مع تأكيد المتكلم بالمؤكدات السابقة، إما لعدم علمه بحال القائل عند معرفته بثمرة المحبة بعد ذكرها له، فلعله يرجع عن ذلك لعدم ثباته كما قال تعالى: {ومن الناس من يعبد الله على حرف} (الحج: 11) الآية، أو تحريضاً على

الصبر على نتائج دعواه كقول الوالد لابنه: إن كنت ولدي فأطعني (فأعد) بتشديد الدال أمر من الإعداد: أي فهيء (للفقر تجفافاً) قال ابن أقبرس: المعنى أن يرفض الدنيا ويزهد فيها ويستتر عن استنمائها بمثل التجفاف كما يستتر بالترس في الحرب عن آثار السلاح التي هي آلة الجراح اهـ. ففيه استعارة كما يأتي، وعلل ما ذكره بقوله على سبيل الاستئناف البياني (فإن الفقر) أتى به ظاهراً والمقام للضمير زيادة لتمكينه عند سامعه (أسرع إلى من يحبني) زاد في حديث أبي سعيد المذكور آنفاً قوله: منكم، فيحتمل أن يكون له مفهوم، ويحتمل أن لا، لأن خطابه لما كان معهم ذكره لا لتخصيصهم بذلك والثاني أقرب (من السيل إلى منتهاه) أي من مكان وصول السيل إلى الجبل، أو أعلى الوادي إلى منتهاه من أسفل الجبل أو آخر الوادي، وإنما كان كذلك لأن الناس على دين ملوكهم. ولما كان أزهد الناس في الدنيا بشهادة حديث ملك الجبال إن شئت جعل الله لك الأخشين ذهباً فأبى» وحديث «عرض عليه ربه أن يجعل له بطحاء مكة ذهباً فقال: لا يا رب، ولكني أجوع يوماً وأشبع يوماً، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك» كان المحب التابع له أسرع إلى اتصافه بما هو متصف به من السيل كما قال لقوة الرغبة وصدق المحبة، ولأن المحب يجب أن يتصف بصفات المحبوب، فالمرء مع من أحب، ومولى القوم منهم في الخير والشر، فمن أحب...... أن يكون معهم في نعيم الآخرة فليصبر كما صبروا في الدنيا عن شهواتها، لكن هذا مقام عال شريف لا يقدر عليه إلا الأفراد، فلذا قال له انظر ماذا تقول: أي إنك قد ادعيت أمراً عظيماً يستدعي الصبر على أمر عظيم قال تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} (آل عمران: 142) (رواه الترمذي وقال حديث حسن) وفيه بعد قوله حسن: غريب. وأسقطه المصنف لأن الغرابة النسبية لا تضر في الحكم بالحسن. (التجفاف بكسر التاء المثناة فوق وإسكان الجيم وبالفاء المكررة، وهي) أنث الضمير باعتبار المعنى فإنها في معنى السترة (شيء يلبسه) بالبناء للمجهول من ألبس ومفعوله الثاني الضمير، قدم لكونه ضميراً متصلاً على مفعوله الأول الذي أقيم مقام الفاعل وهو (الفرس) ويجوز أن يقرأ بفتح التحتية وبالموحدة مبنياً للفاعل من

لبس بكسر الموحدة (ليتقي به الأذى) أي أن يصيبه من السلاح شيء من الجراح، وقد يلبسه الإنسان، ظاهره أن التجفاف معدّ لثوب يلبسه الفرس (وقد يلبسه الإنسان) وعلى ذلك جرى العاقولي فقال: وقد يلبسه الإنسان أيضاً ولعله تبع فيه المصنف، والذي في «المصباح» : التجفاف تفعال بالكسر شيء يلبسه الفرس عند الحرب كأنه درع والجمع تجافيف، قيل سمي به لما فيه من الصلابة واليبوسة. وقال ابن الجواليقي: التجفاف معرب ومعناه ثوب البدن، وهو الذي يسمى في عصرنا بركصطوان اهـ. وفي «شرح الشفاء» لابن أقبرس قال أبو عليّ: التاء زائدة، وأشار العاقولي إلى أن في الحديث استعارة مكنية تتبعها استعارة تخييلية بقوله شبه الفقر بالسهم الصائب والسيف القاطع والرمح النافذ، وشبه صبره عليه بالتجفاف الذي يلبسه الإنسان أو يلبسه فرسه ليقيه ذلك: أي فالتشبيه المضمر في النفس استعارة مكنية وإثبات التجفاف استعارة تخييلية....... 29484 - (وعن كعب بن مالك) الأنصاري أحد الثلاثة الذين خلفوا فنزلت توبتهم في آية آخر سورة التوبة وتقدمت ترجمته (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ما) نافيه حجازية كما اقتصر عليه الطيبي ويجوز كونها تميمية لأن الباء تزاد في خبر كل منهما خلافاً لأبي علي والزمخشري زعما اختصاص الباء بلغة الحجاز، قال ابن هشام في «المغني» : أوجب الفارسي والزمخشري في نحو {ما الله بغافل} كون ما حجازية ظناً أن المقتضى لزيادة الباء نصب الخبر، وإنما المقتضى نفيه لامتناعها في نحو كان زيد قائماً وجوازها في: لم أكن بأعجلهم. وفي ما إن زيداً بقائم اهـ. (ذئبان جائعان أرسلا) بالبناء للمجهول (في غنم) متعلق به، وهذان وصفان لذئبان مفرد وجملة فهو كقوله تعالى: {وهذا كتاب مبارك أنزلناه} (الأنعام: 155) (بأفسد لها) أي بأكثر فساداً للغنم وأنث ضميرها لاعتبار الجنسية فيها (من) فساد (حرص المرء على المال) متعلق بحرص ومن فساد هو المفضل عليه (والشرف) أي الجاه معطوف على المال واللام، في قوله (لدينه) لام البيان كهي في قوله تعالى: {لمن أراد أن يتم الرضاعة} (البقرة: 233) كأنه قيل لمن؟ قال لمن أراد. وكذا هنا كأنه قيل بأفسد لأي شيء فقيل

لدينه ولا يصح جعلها متعلقة بأفسد لأنه لا يجوز تعلق حرفي جرّ بلفظ واحد ومعنى واحد بعامل واحد إلا على سبل البدل (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) قال في «الجامع الصغير» : ورواه أحمد من حديث كعب أيضاً....... 30485 - (وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: نام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حصير) قال في «المصباح» : هو البارية وجمعه حصر مثل بريد وبرد وتأنيثه بالتاء عامي اهـ: وفي «الشفاء» من حديث، عن حفصة «وكان ينام أحياناً على سرير مومول بشريط حتى يؤثر في جنبه» قال السيوطي في تخريجه: رواه الشيخان من حديث طويل عن عمر والترمذي وابن ماجه (فقام) أي استيقظ واستوى جالساً (وقد أثر) أي الحصير (في جنبه) فإن بدنه الشريف كان ألين من الحرير. وفي الحديث عن أنس «ولا مسست خزاً ولا حريراً ولا ديباجاً ألين من كف رسول الله؟ والجملة في محل الحال من فاعل قام (فقلنا) أي الحاضرون الذين منهم ابن مسعود، ويبعد أن يريد نفسه فقط، ولا يشهد له ما سيأتي عن ابن ماجه من قول ابن مسعود «فقلت» كما هو ظاهر (لو اتخذنا لك وطاء) بكسر الواو وبالمد بوزن كتاب قال في «المصباح» هو الوطىء وقد وطؤ الفرش بالضم فهو وطىء كقرب فهو قريب. وجواب لو محذوف: أي لا استراح بذلك أو نحو ذلك، وعند ابن ماجه «فقلت: يا رسول الله لو كنت آذنتنا ففرشنا لك شيئاً يقيك» (فقال مالي وللدنيا) قال الأنطاكي في حواشي «الشفاء» : قيل يجوز أن تكون «ما» نافية: أي ليس لي ألفة ومحبة لي وللدنيا حتى أرغب فيها، ويجوز أن يكون التقدير: أي شيء حالي مع الميل للدنيا اهـ: أي فتكون ما استفهامية والمعنى: أي شيء لي ولها: أي جامع فأشتغل بها. وقال الدلجي: هو استفهام بمعنى النفي: أي لا أرب فيها (ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظلّ تحت شجرة ثم راح وتركها) وذلك لأن الدنيا ليست دار قرار ولا منزل استقرار إنما هي دار عبور يقطعها السائر إلى ميادين الآخرة، فالإنسان فيها بمثابة

المسافر النازل في أثناء سفره تحت شجرة يطلب ظلالها من حرّ الشمس، ثم إذا ذهبت الشمس وإذا جلس تحت الشجرة منها راح عن الشجرة: أي سار بعد الزوال وتركها، ففيه أتم إرشاد إلى ترك الاهتمام بعمارة الدنيا والاشتغال...... بتحصيلها وحث وحض على الاعتناء بعمارة منزل العبد من الدار الآخرة وتحصينه، وبا التوفيق (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) قال في «الجامع الصغير» بعد إيراد الحديث المرفوع: رواه أحمد وابن ماجه والحاكم والضياء كلهم عن ابن مسعود. 31486 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام) لحبس الأغنياء تلك المدة في الموقف حتى يحاسبوا عما خولوه من الغنى من أين اكتسبوه وفيم أذهبوه كما سيأتي في حديث أسامة. قال العاقولي: وجه الجمع بين هذا الحديث وقوله في حديث عائشة «إنهم يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفاً» أن الأربعين أريد بها تقدم الفقير الحرص على الغني الحريص، وأريد بالخمسمائة تقدم الفقير الزاهد على الغني الراغب، فكان الفقير الحريص على درجتين من خمس وعشرين درجة من الفقير الزاهد، وهذه نسبة الأربعين إلى الخمسمائة، لأن الخمسمائة عشرون مضاعفة خمساً وعشرين مرة والأربعون عشرون مضاعفة مرة، فالأربعون خمساً خمس الخمسمائة التي هي نصف يوم فيكون الأربعون خمس خمس اليوم الذي هو ألف سنة.c وحاصله أن الفقير الحريص يسبق الغني الراغب بخمس خمس يوم، والفقير الزاهد يسبقه بنصف يوم اهـ. وفي «حاشية الترمذي» للسيوطي وروى محمد بن الحسن بن محمد بن الحسن الخلال في كتابه «فضل الفقير على الغني» حديث أنس بن مالك قال «بعث الفقراء إلى رسول الله» الحديث، وفيه «يدخل الفقير الجنة قبل الغني بنصف يوم وهو خمسائة عام» قال الحارث: قال سفيان يفسره «إن للجنة ثمانية أبواب ما بين الباب إلى الباب خمسمائة عام لكل باب أهل فينسى الغنى فيجيء إلى باب غيره فيقول البواب: ارجع إلى بابك، فيرجع إلى بابه وهو مسيرة خمسمائة عام» اهـ. (رواه الترمذي وقال: حديث حسن

صحيح) هذا وقد ذكر ابن كثير في «تفسيره» أثراً عن ابن عباس قال: إنما هي ضحوة فتقيل أولياء الله على...... الأسرة مع الحور العين وتقيل أعداء الله مع الشياطين مقرنين، وقول سعيد بن جبير «يفرغ الله من الحساب نصف النهار فيقيل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، قال تعالى: {أصحاب الجنة يومئذٍ خير مستقراً وأحسن مقيلاً} (الفرقان: 24) ثم نقل نحوه عن عكرمة، وأن ذلك للفريقين في الساعة التي تكون في الدنيا عند ارتفاع الضحى الأكبر إذا انقلب الناس إلى أهليهم للقيلولة ثم روي عن ابن مسعود «لا ينتصف النهار حتى يقيل هؤلاء وهؤلاء، ثم قرأ {أصحاب الجنة} (البقرة: 82) الخ وقوله تعالى: {ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم} (الصافات: 68) وروى آثاراً أخر. قلت: وهذا كله لا يخالف حديث الباب فإن الله تعالى يطول ذلك الزمان حتى يكون على الكافر قدر خمسين ألف عام، ويرى الغني أنه تأخر في الموقف عن الفقير بعد دخوله خمسمائة عام. وا على كل شيء قدير....... 32487 - (وعن ابن عباس وعمران) بكسر العين المهملة (ابن حصين) بضم المهملة وفتح الثانية وسكون التحتية آخره نون وسبقت ترجمتها، وقوله (رضي الله عنهم) لأنهما صحابيان ابنا صحابيين (عن النبي قال: اطلعت) بتشديد الطاء المهملة: أي أشرفت. وقال العاقولي: ضمن معنى تأملت (في الجنة) يحتمل أن يكون ذلك فيه وفيما بعده ليلة الإسراء، ويحتمل أن يكون لما كشف له في صلاته في الكسوف. والله أعلم (فرأيت) أي علمت فلذا عدى لمفعولين (أكثر أهلها الفقراء) قال ابن بطال: لا يوجب فضل الفقير عن الغني وإنما معناه الفقراء في الجنة أكثر من الأغيناء فأخبر عن ذلك، وليس الفقر أدخلهم الجنة إنما دخلوا بصلاحهم معه، فالفقير إذا لم يكن صالحاً لا يفضل، حكاه عنه الحافظ في «الفتح» . قال العلقمي: ظاهر الحديث التحريض على ترك التوسع في الدنيا. قلت وهو الذي فهمه المصنف، ولذا أورد الخبر في باب فضل الزهد في الدنيا (واطلعت في النار

فرأيت أكثر أهلها النساء) فيه التحريض لهن على المحافظة على أمر الدين ليسلمن من النار، قال الحافظ: وفي حديث أبي سعيد عند مسلم في صفة أدنى أهل الجنة «ثم يدخل عليه زوجتاه» ولأبي يعلى عن أبي هريرة «فدخل الرجل على ثنتين وسبعين زوجة مما ينشىء الله زوجتين من ولد آدم» واستدل أبو هريرة بهذا الحديث على أن النساء في الجنة أكثر من الرجال كما أخرجه عنه مسلم في «صحيحه» وهو واضح، لكن يعارضه قوله في حديث الكسوف «أكثر أهل النار» . ويجاب بأنه لا يلزم من كون أكثرهن في النار، نفى كون أكثرهن في الجنة لكن يشكل عليه حديث اطلعت الخ، ويحتمل أن الراوي رواه بالمعنى الذي فهمه من أن كونهن أكثر ساكني النار يلزم منه كونهن أقل ساكني الجنة وليس ذلك بلازم لما قدمته، ويحتمل أن يكون ذلك في أول الأمر قبل خروج العصاة من النار بالشفاعة والله أعلم. قال شيخ الإسلام زكريا: ويجاب أيضاً بأن المراد بكونهن أكثر أهل النار نساء الدنيا وبكونهن أكثر أهل...... الجنة نساء الآخرة فلا تنافي اهـ. (متفق عليه من رواية ابن عباس) قال الحافظ المزي في «الأطراف» : رواه البخاري في النكاح تعليقاً قلت: قال الحافظ في «نكته» عليه: هذا التعليق في كتاب الرقاق لا في كتاب النكاح، وقال في النكاح: تابعه أيوب ومسلم بن زيد كذا هو في الأصول قال: ورواه مسلم في الدعوات من «صحيحه» ، ورواه الترمذي في صفة جهنم وقال: حسن صحيح، ورواه النسائي في عشرة النساء من «سننه» اهـ ملخصاً. وفي «الجامع الصغير» حذف رمز البخاري من رواته وكأنه سهو وزاد فيه ورواه أحمد (ورواه البخاري) في صفة الجنة، وفي النكاح وفي الرقاق (أيضاً) أي دون مسلم (من رواية عمران بن حصين) والراوي للحديث عنهما هو أبو رجاء عمران بن تيم، وقد رواه من حديث عمران أيضاً الترمذي في صفة جهنم والنسائي في عشرة النساء والرقاق، قال المزي بعد أن ذكر اختلاف الرواة عن عوف فقال: بعضهم عن أبي رجاء عن عمران، وقال أيوب عن أبي رجاء عن ابن عباس وكلا الإسنادين ليس فيه مقال ويحتمل أن يكون أبو رجاء سمعه منهما، والله أعلم.......

33488 - (وعن أسامة) بضم الهمزة (ابن زيد) بن حارثة الحب ابن الحب تقدمت ترجمته في باب الصبر في أوائل الكتاب (رضي الله عنهما عن النبي قال: قمت على باب الجنة) أي لأنظر أهلها أو لأمر آخر اقتضى القيام ثمة (فكان عامة) قال في «المصباح» هم خلاف الخاصة والجمع عوام كدابة ودواب والهاء في عامة التأكيد اهـ. وفي كتاب «تلقيح الفهوم في تنقيح صيغ العموم» للحافظ العلائي، وأما عامة مثل فعله عامة الناس فلا ريب أنه من صيغ العموم كيف وهو من مادته وبنيته، والعموم معناه الشمول والإحاطة وهو خلاف الخصوص وهذا ظاهر لا حاجة إلى الاستشهاد إليه اهـ. وعليه فالمعنى فإذا عموم (من دخلها المساكين) جمع مسكين، والمراد به ما يشمل الفقير أي المحتاج. ويجوز من حيث صناعة الإعراب رفع المساكين على أنه اسم كان مؤخراً ونصب عامة على أنه خبرها مقدم ويجوز العكس (وأصحاب الجد محبوسون) أي في الموقف عن دخول الجنة لحياسبوا عمّا كانوا فيه من الغنى تحصيلاً وتضييعاً والفقراء سالمون من ذلك (غير) بالنصب على الاستثناء (أن أصحاب النار) أي منهم (قد أمر بهم إلى النار) والمعنى لكن أصحاب النار منكم غير محبوسين. وفي «المفاتيح» أصحاب النار هم الكفار (قد أمر بهم إلى النار) أي لا يوقفون في العرصات بل يؤمرون بدخول النار فالاستثناء منقطع، وكذا قال العاقولي: غير بمنى لكن والمغايرة بحسب التفريق، فإن القسم الأول: أي والمراد به المؤمنون من بمعنى وفقير بعضهم محبوس وهو ذو الجد وبعضهم غير محبوس وهو الفقير، والقسم الثاني غير محبوسين، ويدل على أن القسم الأول بعضه محبوس، قوله في الحديث عن صعاليك المهاجرين «إنهم يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم» ، فلولا ذلك الحبس للأغنياء لدخلوا جميعاً (متفق عليه) قال المزي في «الأطراف» : رواه البخاري في النكاح. قلت: زاد الحافظ في «نكته» عليه وفي الرقاق قال المزي: ورواه مسلم آخر كتاب الدعوات، ورواه النسائي في عشرة...... النساء من «سننه» ، وفي المواعظ والرقائق منها وهما ليسا من «سنن النسائي» في الرواية اهـ. ملخصاً، وقال السيوطي في «الجامع الصغير» : ورواه أحمد في «مسنده» (الجد) بفتح الجيم وتشديد الدال المهملة (الحظ والغنى. وقد سبق بيان هذا الحديث) بزيادة

في آخره «وقمت على النار فرأيت أكثر أهلها النساء» (في باب فضل الضعفة) وتقدم شرح الحديث ثمة أيضاً بما بينه وبين ما هنا عموم وخصوص. 34489 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: أصدق كلمة) أي أكثر جملة مفيدة مطابقة للواقع وجملة (قالها شاعر) في محل الصفة لكلمة احترز بها عن قول الله سبحانه وأقوال أنبيائه عليهم الصلاة والسلام فتلك أصدق، والمراد بالتفضيل ما عدا ذلك وإطلاق الكلمة على الجمل المفيدة هو في اللغة وتخصيصها بالقول المفرد عرف طارىء وليس للشارع اصطلاح خاص في إطلاق الكلمة فتحمل على معناها اللغوي لكن مقتضى كلام النحاة أن إطلاق الكلمة على الجمل المفيدة مجاز مرسل من إطلاق اسم الجزء على الكل، وجوّز بعضهم كونه استعارة مصرحة بأن شبهت الجملة في توقف الإفادة على جميع أجزائها بتوقف فهم معنى الكلمة على جميع حروفها فأطلق اسم المشبه على المشبه به حينئذٍ فتكون القرينة في الحديث على إرادة المجاز منها ما فسر به الخبر من شرط البيت (كلمة) بفتح الكاف وكسر اللام لغة أهل الحجاز وهي أفصح من فتح الكاف وكسرها مع سكون اللام فيهما وهما لغة تيم، ويكفي في تغاير المبتدأ والخبر التغاير بحسب الإضافة (لبيد) بفتح اللام وكسر الموحدة وسكون التحتية ثم دال مهملة، وهو ابن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب ابن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان العامري، هكذا ذكر نسبه أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة في «تاريخه» ، وفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم وحسن إسلامه وكان من............ فحول شعراء الجاهلية وكان من المعمرين عاش مائة وأربعاً وقيل وسبعاً وخمسين سنة. وقال السمعاني: مات أول خلافة معاوية وله مائة واثنان وأربعون سنة، ولم يقل شعراً بعد إسلامه، وكان يقول أبدلني الله به القرآن وقيل قال بيتاً واحداً. ما عاتب المرء الكريم لنفسه والمرء يصلحه القرين الصالح وقال جمهور أصحاب السير والأخبار لم يقل شعراً منذ أسلم، وقال عمر بن الخطاب

56 ـــ باب فضل الجوع وخشونة العيش

يوماً للبيد أنشدني شيئاً من شعرك فقال: ما كنت لأقول شعراً بعد إذ علمني الله البقرة وآل عمران فزاده عمر في عطائه خمسمائة. وكان شريفاً في الجاهلية والإسلام. وفي ترجمته زيادة في «التهذيب» (ألا) أداة استفتاح (كل شيء ما خلا ا) أي وصفاته وإنما لم يذكرها لأنها معلومة من ذكر الذات كما هو مقرر عند الأشاعرة أنها ليست غيراً أي يجوز انفكاكها كما أنها ليست عيناً أي باعتبار المعلوم لكونها غير قابلة الانفكاك كان المتبادر من ذكر الذات ذكرها وبهذا يبطل تعلق المبتدعة بالبيت (باطل) يحتمل أن يكون المراد منه هلاكه بالفعل فينعدم كل مخلوق ساعة لتصدق الكلية ثم يوجد، ويحتمل أن المراد قبوله للبطلان والهلاك، إذ المتعقل إما واجب العدم كالمحال الذاتي أو البقاء كذات الله وصفاته أو محتمل لهما كالعالم، والبيت المذكور في معنى قوله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} (القصص: 88) ولو عد هذا البيت من موافقات لبيد للقرآن لم يبعد بما ذكر من استشهاد النبي بشعر لبيد وشهادته له بأنه شاعر كما جاء في رواية أخرى وأن ذلك أصدق ما قاله شاعر، ضرب الإمام الشافعي المثل به حيث يقول: ولولا الشعر بالعلماء يزري لكنت اليوم أشعر من لبيد (متفق عليه) رواه البخاري في الأدب والرقاق وغيرهما من «صحيحه» ، ومسلم في الشعر، ورواه الترمذي في الاستئذان من «جامعه» وفي «الشمائل» ، ورواه ابن ماجه أيضاً في الأدب كذا في «الأطراف» ............. 56 - باب فضل الجوع وخشونة العيش بضم أوليه المعجمين مصدر خشن خشنة وخشونة بخلاف نعم كذا في «المصباح» (العيش) والمراد ترك الترفه فيه والاقتصار على الجلف لأنه حق النفس وما فوقه حظها

(والاقتصار على القليل من المأكول والمشروب والملبوس وغيرها) كالمفروش والمسكون والمنكوح (من حظوظ النفس) يصح كونه بياناً للغير، إذ قليل المأكول والمشروب مما تقوم به البنية، والملبوس مما يستر البدن حق النفس لاحظها، ويصح كونه بياناً للجميع بأن يراد من القليل ما زاد على ما يحتاج إليه في ذلك من الترفهات والتنعمات (وترك الشهوات) أي مشتهى النفس وإن كان من قليل ما ذكر فعطفه عليه من عطف العام على الخاص، ويصح أن يراد مشتهاها مما عدا ذلك فيكون من عطف المغاير....... (قال الله تعالى) : ( {فخلف من بعدهم} ) أي الذين أثنى عليهم من الآيات السابقة من الأنبياء والذين منّ الله عليهم بتوفيقه ( {خلف} ) أي عقب سوء، يقال خلف صدق بالفتح وخلف سوء بالسكون ( {أضاعوا الصلاة} ) تركوها أو أخروها عن وقتها ( {واتبعوا الشهوات} ) كشرب الخمر واستحلال نكاح الأخت من الأب وعن عليّ رضي الله عنه {واتبعوا الشهوات} من بني الشديد وركب المنظور ولبس المشهور ( {فسوف يلقون غيا} ) شرّاً أو جزاء غي كقوله: {يلق أثاماً} أو غياً من طريق الجنة، وقيل هو واد في جهنم يستعيذ منه أوديتها، والإتيان بحرف التنفيس لتأكيد الوعيد ( {إلا من تاب وآمن} ) يدل على أن الآية في الكفرة، لكن ذكر العماد ابن كثير في رتفسيره» عن مجاهد قال: عند ذهاب صالحي أمة محمد ينزو بعضهم على بعض في الأزقة ومن طريق آخر عنه قال: «هم في هذه الأمة يتراكبون تراكب الأنعام في الطريق، لا يخافون الله في السماء ولا يستحيون الناس في الأرض» ثم أخرج من طريق ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يكون خلف بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً» الحديث، ثم ذكر أحاديث وآثاراً في ذلك ( {وعمل} ) عملاً ( {صالحاً} ) ليزكوا به إيمانه ويزداد إيقانه فالإيمان بزيادة الطاعة ( {فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئاً} ) من الظلم، ألا ينقصون شيئاً من جزاء أعمالهم، وفيه تنبيه على أن كفرهم السابق لا يضرّهم ولا ينقص أجورهم «قال العماد ابن كثير: والاستثناء في هذه الآية كقوله في سورة الفرقان

{إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} (الفرقان: 70) ....... (وقال تعالى) : ( {فخرج} ) أي قارون ( {على قومه في زينته} ) كا قيل إنه خرج على بغلة شهباء عليه الأرجوان وهو بضم الهمزة والجيم وسكون الراء بينهما شجر على قضبان حمر يوصف به الثور الأحمر وعليها سرج من ذهب ومعه أربعة آلاف على زيه، وقوله في زينته في موضع الحال من فاعل خرج: أي متزيناً بها ( {قال الذين يريدون الحياة الدنيا} ) على ما هو عادة الناس من الرغبة ( {يا ليت} ) المنادى محذوف: أي يقول ليت ( {لنا مثل ما أوتي قارون} ) تمنوا مثله لا عينه حذراً من الحسد ( {إنه لذو حظ} ) في «المصباح» : الحظ الجد وفلان محظوظ هو أخط من فلان، والحظ: النصيب اهـ. ويصح إرادة كليهما والأول أبلغ في مرادهم، لكن قول البيضاوي «حظ ( {عظيم} ) من الدنيا» ، وقول ابن كثير «حظ وافر من الدنيا» يومىء إلى حمل الحظ على النصيب لأن الأول يستعمل بفي، ( {وقال الذين أوتوا العلم} ) النافع، وهو العلم بأحوال الآخرة وما أعد الله فيها لصالحي عباده المتقين للمتمنين ذلك ( {ويلكم} ) دعاء بالهلاك استعمال للزجر عما لا يرتضي ( {ثواب ا} ) في الآخرة ( {خير لمن آمن وعمل صالحاً} ) مما أوتي قارون بل من الدنيا وما فيها، وترك المصنف ذكر باقي الآية وهو قوله: {ولا يلقاها} أي الكلمة التي تكلم بها العلماء أو الثواب وأنث لأنه بمعنى المثوبة أو الجنة أو الإيمان والعمل الصالح، وأنث أيضاً لأن ذلك في معنى السيرة والطريقة {إلا الصابرون} على الطاعات وعن المعاصي لأنه اختلف فيه هل من جملة كلام العلماء: أي فيسفر بما عدا الأول من مراجع الضمير وعليه السدي. قال ابن كثير: فجعله من تمام كلامهم، أو من كلام الله ثناء عليهم بالإصابة، أو يفسر الأول وعليه ابن جرير. قال ابن كثير: قال ابن جرير: وما يلي هذه الكلمة الخ، وكأنه جعل ذلك مقطوعاً من كلام أولئك وجعله من كلام الله تعالى وإخباره اهـ. ولعل المصنف يقوى عنده الجانب الثاني....... (وقال تعالى) : ( {ثم لتسألنّ يومئذٍ عن النعيم} ) أي الذي ألهاكم والخطاب مخصوص بكل من ألهاها دنياه عن دينه

والنعيم مخصوص بما يشغله للقرينة والنصوص الكثيرة بقوله تعالى: {قل من حرم زينة ا} (الأعراف: 32) {كلوا من الطيبات} (المؤمنون: 51) وقيل يعمان، إذ كل يسأل عن شكره، وقيل الآية مخصوصة بالكفار، وفي «التفسير الصغير» للكواشي: النعيم هو الصحة والأمن. أو هي والفراغ. قال «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ» قلت: قال ابن كثير: معناه أهم مقصرون في شكرهما لا يقومون بواجبهما ومن لا يقوم بحق ما وجب عليه فهو مغبون اهـ. أو هو الماء البارد في الصيف والحار في الشتاء. قال: «أول ما يسأل العبد من النعيم ألم نصح جسمك؟ ونروك من الماء البارد؟» أو هو خبز البرّ والماء العذب، أو كل لذة من اللذات اهـ. «وفي تفسير ابن كثير» بعد ذكر الأقوال في ذلك: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود عن النبي في قوله: {ثم لتسألن يومئذٍ عن النعيم} . قال «الأمن والصحة» وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم عن رسول الله: {ثم لتسألن يومئذٍ عن النعيم: يعني شبع البطون وبارد الشراب وظلال المساكن واعتدال الخلق ولذة النوم} ثم ذكر ابن كثير أقوالاً أخر ختمها بحديث قال أخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبي. يقول الله عزّ وجل: يا بن آدم حملتك على الخيل والإبل وزوّجتك النساء وجعلتك ترتع وترأس فأين شكر ذلك» وقال ابن كثير: تفرد به أحمد اهـ....... (وقال تعالى) : ( {من كان يريد العاجلة} ) مقصوراً عليها همه ( {عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد} ) قيد المعجل والمعجل له بالمشيئة والإرادة، لأنه لا يجد كل متمنّ متمناه ولا كل واحد جميع ما يهواه، وليعلم أن الأمر بالمشيئة و {لمن يريد} بدل «من له» بدل البعض، وقرىء يشاء: والضمير فيه ليطابق المشهورة، وقيل لمن فيكون مخصوصاً بمن أراد به ذلك، وقيل الآية في المنافقين كانوا يراءون المسلمين ويغزون معهم ولا غرض لهم غير مساهمتهم في الغنائم ونحوها ( {ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً} ) مطروداً من رحمة الله تعالى (والآيات) القرآنية (في الباب) أي فيما تضمنه من المطالب (كثيرة معلومة) .

1490 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما شبع آل محمد) المراد منهم هنا أهل بيته من أزواجه وخدمه الذين كان يمونهم (من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض) أي توفي، وهذا لإعراضه عن الدنيا وزهده فيها، ولم يضطره مولاه سبحانه لذلك، بل عرض عليه جبال مكة وبطحاءها تسير معه ذهباً أينما سار كما تقدم في الباب قبله، فاختار ذلك إعلاماً بحقارة الدنيا وأنها ليست بحيث ينظر إليها تحريضاً لأمته على الزهد فيها والإعراض عما زاد على الحاجة، منها ولا منافاة كا قال المصنف في «شرح مسلم» بين حديث الباب وحديث أنه كان يدخر قوت عياله سنة لأنه كان يفعل ذلك أواخر حياته، لكن تعرض عليه حوائج المحتاجين فيخرجه فيها، فصدق أنه ادخر قوت سنة وأنهم لم يشبعوا كما ذكر لأنه لم يبق عندهم ما ادخره لهم (متفق عليه) ....... (وفي رواية) هي للبخاري في كتاب الأطعمة والرقاق من «صححيه» ، ولمسلم في أواخر الكتاب، ورواها النسائي وابن ماجه من طريق منصور بن المعتمر عن الأسود عن عائشة، وأما اللفظ الذي قال المصنف إنه متفق عليه فقضية كلام المزي أنه انفرد به مسلم عن البخاري وعبارته بعد ذكره من طريق عبد الرحمن بن يزيد عن خالد عن الأسود عن عائشة رواه مسلم في آخر الكتاب والترمذي في الزهد وقال: حسن صحيح، وفي «الشمائل» والنسائي في الأطعمة، ثم أشار المزي إلى وهم جمع من المحدثين توهموا أنهما من طريق واحد وليس كذلك، وكأن مراد المصنف بقوله فيما تقدم متفق عليه: أي من حيث المعنى لا بخصوص المبنى (ما شبع آل محمد منذ) بضم الذال: أي من حين (قدم المدينة) خرج ما كانوا قبل الهجرة (من طعام بر) بضم الموحدة وتشديد الراء، قال في «المصباح» : هو القمح، الواحدة برة خرج ما عداه من باقي المأكولات (ثلاث ليال) أي بأيامها (تباعاً) بكسر المثناة الفوقية أي متتابعة يخرج المتفرقة (حتى قبض) أشار إلى استمراره على ذلك مدة إقامته بالمدينة، وهي عشر سنين، وزاد ابن سعد في رواية له وما رفع عن مائدته كسرة خبز فضلاً حتى قبض» ووقع في رواية بلفظ «ما

شبع من خبز بأدم» أخرجه مسلم، وعند ابن سعد عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت عليه أربعة أشهر ما شبع من خبز البرّ، وفي حديث أبي هريرة نحو حديث الباب «ما شبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام تباعاً من خبز الحنطة حتى فارق الدنيا» أخرجه البخاري في الأطعمة وأخرجه مسلم أيضاً بنحوه. 6...... 2491 - (وعن عروة) بضم المهملة الأولى وسكون الثانية ابن الزبير (عن) خالته (عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول وا يا ابن أختي إن) بكسر الهمزة وسكون النون مخففة من الثقيلة أي إنا (كنا) واللام في (لتنظر) هي الفارقة بينها وبين إن النافية (إلى الهلال) قال في «المصباح» : الأكثر أنه القمر في حالة مخصوصة، ويسمى القمر لليلتين من أول الشهر هلالاً، وفي ليلة ستّ وعشرين وسبع وعشرين أيضاً هلالاً، وما بين ذلك يسمى قمراً. وقال الفارابي وتبعه الجوهري: الهلال لثلاث ليال من أول الشهر ثم هو قمر بعد ذلك، وقيل الهلال هو الشهر بعينه والجمع أهلة كسنان وأسنة اهـ. وفي كتاب «إشارات المحتاج إلى لغات المنهاج» لابن النحوي: الهلال معروف سمي به لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه. قال السهروردي في «شرح ألفاظ المصابيح» : وحكى صاحب «المهذب» خلافاً فيما يخرج به عن تسميته هلالاً، ويسمى قمراً فقيل إذا استدار، وقيل إذا بهر ضوؤه اهـ. وظاهر أن المراد هنا بالهلال هو في أول ليلة الشهر (ثم) أتت بها لبعد ما بين كل من الهلالين ولا ينافيه قوله تعالى: {أياماً معدودات} (البقرة: 184) لأن ذلك لئلا ينفروا عن الانقياد للصوم لو سمعوه بلفظ الشهر أو الثلاثين (الهلال ثم الهلال) بالجر فيهما عطفاً على ما قبلهما، ويجوز نصبه بإضمار: ثم نرى، ويكون ثم لعطف الجبل، وقولها (ثلاثة أهلة في شهرين) يجوز أن يقرأ بالرفع مبتدأ خبره متعلق الظرف أو خبر لمحذوف: أي هي ثلاثة أهلة والظرف في محل الحال. قال في «الفتح» : المراد بالهلال الثالث هلال الشهر، وهو ير عند انقضاء الشهر وبرؤيته يدخل أول الشهر الثالث (قلت: يا خالة) يجوز فيه الضم على أنه منادى مفرد والكسر والفتح على أن مضاف لياء المتكلم حذفت منه واكتفى بدلالة الكسرة عليها على الأول أو بعد إبدالها ألفاً واكتفى بدلالة الفتحة عليها على الأخير (فما كان يعيشكم) بضم التحتية وفي بعض نسخ البخاري ما...... يغنيكم بسكون المعجمة بعدها نون فتحتية ساكنة (قالت الأسودان التمر

والماء) قال الصغاني: أطلق الأسودان على التمر والماء والسواد للتمر دون الماء، فنعتا بنعت واحد تغليباً، وإذا اقترن الشيئان سميا باسم أشهرهما. وعن أبي زيد: الماء يسمى الأسود أيضاً، واستشهد له بشعر نظر فيه الحافظ في «الفتح» . قال: ووصف التمر بالأسود لأنه غالب تمر المدينة. وزعم صاحب المحكم وتبعه بعض المتأخرين من شراح البخاري أن تفسير الأسودين بالتمر والماء مدرج، وإنما أرادت الحرة والليل، واستدل له بما رده عليه الحافظ في أوائل كتاب الهبة من «فتح الباري» ، وقد يقع للخفة والشرف كالعمرين لأبي بكر وعمر، والقمرين للشمس والقمر (إلا أنه كان للنبيّ جيران من الأنصار) زاد أبو هريرة في حديثه «جزاهم الله خيراً» والاستثناء منقطع، والجملة المستثناة في محل نصب على الاستثناء كما نبه عليه في «مغنى اللبيب» وزادها على حصر الجمل المعربة المحل في سبع. والجيران: جمع جار وهو المجاور في السكن، وللجار معان أخر. حكى ثعلب عن ابن الأعرابي: الجار الذي يجاورك بيتاً ببيت، والجار الشريك في العقار مقاسماً كان أو غير مقاسم، والجار الخفير الذي يجير غيره: أي يؤمنه مما يخاف، والجار المستجير أيضاً وهو الذي يطلب الأمان، والجار الحليف، والجار الناصر، والجار الزوج، والجار أيضاً الزوجة ويقال فيها أيضاً جارة، والجارة الضرة قيل لها جارة استكراهاً للفظ الضرة اهـ. من «المصباح» . والأنصار: اسم إسلامي علم بالغلبة على أولاد الأوس والخزرج كما تقدم (وكانت لهم منايح) جمع منيحة بنون وحاء مهملة اسم من المنحة بكسر الميم وهي الشاة أو الناقة يعطيها صاحبها رجلاً يشرب لبنها ثم يردها إذا انقطع لبنها كذا في «المصباح» ، والجملة معطوفة على خبر إن، ويصح أن تكون في محل الحال بإضمار قد (فكانوا يرسلون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ألبانها) يحتمل كون «من» للتبعيض ويحتمل كونها...... للتبيين لمقدر شيئاً هو ألبانها، والثاني أنسب لكونها منيحة كما علم من معناها لغة (فيسقينا) يجوز ضم التحتية وفتحها مزيد ومجرد من السقي قال ابن أقبرس في «شرح الشفاء» : إن قلت: كتم هذا الخبر مما يدل عليه صحيح الأثر لما فيه من إيهام الشكوى وإفشاء ما يستحب ستره من العبادات قلت: هو من مثلها على طريق الإرشاد إذ لا يليق كتم أفعال المشرع لأنه

علم الهدى وإمام الاقتداء اهـ. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الهبة ومسلم في آخر الكتاب....... 3492 - (وعن سعيد) بن أبي سعيد كيسان (المقبري) قال السيوطي في «لبّ اللباب» في الأنساب بفتح الميم وسكون القاف وضم الموحدة، وكأنه اقتصر عليه لكونه أفصح، وإلا فقد ذكر غير واحد منهم المصنف في «شرح مسلم» والشيخ محمد طاهر في «المغنى» جواز الفتح للموحدة والكسر نسبة إلى مواضع القبور. قال الحافظ ابن حجر في «التقريب» : يكنى أبا سعيد مدني ثقة من كبار التابعين، تغير قبل موته بأربع سنين، وروايته عن عائشة وأم سلمة مرسلة روى عنه الستة (عن أبي هريرة رضي الله عنه) أي عن قصته (أنه مرّ بقوم بين أيديهم شاة مصلية، فدعوه فأبى أن يأكل) ورأى أنه من الترفهات وشأن المحب أن يتبع آثار محبوبه ويأتم بها فلذا امتنع (وقال) موضحاً لسبب إيائه (خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الدنيا) أي توفي (ولم يشبع من خبز الشعير) لا ينافى ما سيأتي في حديث أبي الهيثم، فلما أن شبعوا لأن الشبع ثم لم يكن من خبز الشعير بل كان من التمر واللحم، أو لأن المنفي الشبع التام الذي لا يبقى معه مساغ لتناول غيره كما هو شأن الشره المهتم ببطنه، والمثبت أصل الشبع أو المنفى الشبع لحظ نفسه، والمثبت أنه يشبع لحظ غيره كأن ينزل به ضيف فيشبع لأكله مؤانسة له أو ينزل ضيفاً بغيره فيشبع ليقرّ عين ربّ المنزل بذلك ويكرمه به لا لحاجته إلى الطعام (رواه البخاري) في الأطعمة من «صحيحه» (مصلية بفتح الميم) اسم مفعول من صليت اللحم أصلية: أي شويته (أي مشوية) ....... 4493 - (وعن أنس) بن مالك (رضي الله عنه قال: لم يأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على خوان) بكسر الخاء المعجمة ويجوز ضمها وهي المائدة ما لم يكن عليها طعام، وهو معرب يعتاد بعض المتكبرين والمترفهين الأكل عليه احترازاً من خفض رؤوسهم فهي بدعة لكنها جائزة

(حتى مات وما أكل خبراً مرققاً) أي محسناً مليناً كخبز الحوّاري وشبهه، والترقيق التليين، وقد يراد بالمرقق الموسع، قاله القاضي عياض، وجزم به ابن الأثير فقال: وهو السميد وما يصنع به من كعك ونحوه، كذا في «أشرف الوسائل» والذي في «النهاية» المرقق هو الأرغفة الواسعة الرقيقة، يقال رقيق ورقاق كطويل وطوال اهـ. وقال ابن الجوزي: هو الخفيف كأنه أخذه من الرقاق وهي الخشبة التي يرقق بها وهو قريب من كلام «النهاية» : وظاهر قوله (حتى مات) أنه لم يأكل ذلك قبل البعثة ولا بعدها سواء خبز له أو لغيره، ويؤيده رواية البخاري عن أنس الآتية بعده (رواه البخاري) في الأطعمة ورواه مسلم أيضاً كما في «الأطراف» . (وفي رواية له) أي البخاري في الرقاق من «صحيحه» عن أنس قال: «فما أعلم النبي رأى رغيفاً مرققاً حتى لحق با» (ولا رأى شاة سميطاً بعينه قط) السميط: هو ما أزيل شعره بماء سخن وشوي بجلده، وإنما يفعل ذلك بصغير السن وهو من فعل المترفهين. قال ابن الأثير: ولعله يعني أنه لم ير السميط في مأكوله، إذ لو كان غير معهود لم يكن في ذلك تمدح وقط بفتح القاف وتشديد الطاء المهملة، ظرف لما مضى من الزمان: أي لم يره في شيء من أزمنته....... 5494 - (وعن النعمان) بضم النون وسكون المهملة (ابن بشير) بفتح الموحدة وكسر المعجمة وسكون التحتية بعدها راء تقدمت ترجمته وهو صحابي ابن صحابي (رضي الله عنهما قال: لقد) هذه اللام مثلها في قوله تعالى: {ولقد علمتم} (البقرة: 65) قال أبو حيان: ي لام الابتداء مفيدة لمعنى التوكيد، ويجوز أن يكون قبلها قسم مقدر وألا يكون. وقال ابن الحاجب في «الأمالي» : لام الابتداء يجب أن يكون معها المبتدأ، وقال الزمخشري في {ولسوف يعطيك ربك} (الضحى: 5) لام الابتداء لا تدخل إلا على مبتدأ وخبر، وقال في {لا أقسم}

لام ابتداء دخلت على مبتدأ محذوف ولم يقدرها لام قسم لأنها عنده ملازمة للنون، وكذا زعم في ولسوف أن التقدير ولأنت سوف. وقال ابن الحاجب: هي لام التأكيد اهـ. (رأيت نبيكم) الظاهر أن الرؤية فيه بصرية وجملة (وما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه) في محل الحال، وقيل إنها علمية والجملة مفعول ثان دخلتها الواو إلحاقاً لها بخبر كان على رأي الأخفش، وإضافة النبيّ إلى المخاطبين ليحثهم على الاقتداء به والإعراض عن الدنيا ما أمكن، فلذا لم يقل نبييّ ونبيكم، وقتل خالد مالك بن نويرة لما قال له كان صاحبكم يقول كذا فقال صاحبنا ولي بصاحبك فقتله ليس لمجرد هذه اللفظة بل لما بلغه من ارتداده وتأكد عنده ذلك بما أباح له به الإقدام على قتله (رواه مسلم) في آخر «صحيحه» ، ورواه الترمذي في الزهد من «جامعه» وقال صحيح وفي الشمائل، ورواه أبو عوانة وغيره وهو طرف حديث أوله «ألستم في طعام وشراب ما شئتم لقد رأيت» الخ (الدقل) بفتح الدال المهملة والقاف (تمر رديء) وفي «النهاية» هو رديء التمر ويابسه، وما ليس له اسم خاص فتراه ليبسه ورداءته لا يجتمع ويكون منثوراً اهـ. وفي «المصباح» الدقل أردأ التمر وقد تقدم الحديث مع الكلام عليه في الباب قبله....... 6495 - (وعن سهل بن سعد) الساعدي (رضي الله عنه قال: ما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النقي) أي الخالص من النخالة ونفى رؤيته مبالغة في نفي أكله (من حين ابتعثه ا) أي نبأه وبعثه، والتاء فيه للمبالغة في تحمل أعباء الرسالة لثقلها (حتى قبضه ا) أي توفاه سبحانه ونقله إلى دار كرامته (فقيل له هل كان لكم في عهد) أي زمن (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مناخل) جمع منخل بضم أوله وثالثه المعجم وسكون النون بينهما، وهو أحد ما خرج عن قياس بناء اسم الآلة لأن قياسه الكسر وجمعه باعتبار جمع المخاطبين (قال: ما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منخلاً من حين) بالفتح على الأفصح لإضافته جملة (ابتعثه الله تعالى) وهي مبنية الصدر وقال بعض المحققين: أظنه احترز بهذا عما قبل البعثة لكونه سافر تلك المدة إلى الشام تاجراً، وكانت الشام إذ ذاك مع الروم،

والخبز النقي عندهم كثير، وكذا المناخل وغيرها من آلات الترفه لا ريب أنها كانت عندهم (حتى قبضه) بفتح الموحدة أي توفاه (اإليه فقيل له) لم أقف على تعيين القائل (كيف كنتم تأكلون الشعير غير منخول) بالنصب على الحال ووجه التعجب من ذلك كثرة نخالته فربما نشب في الحلق (قال: كنا نطحنه وننفخه) أي المطحون الدال عليه نطحنه (فيطير ما طار) من نخالته (وما بقي) بكسر القاف: أي فضل من النخالة في الدقيق بعد نفخه (ثريناه. رواه البخاري) في الأطعمة والرقاق من «صحيحه» والنسائي (قوله النقي هو بفتح النون وكسر القاف وتشديد الياء) ولم يحتج إلى تقييد بالتحتية المأتي به للاحتراز عن الفوقية لأن الصورة الخطية هنا دالة على التعيين (وهو الخبز الحوّاري) بضم المهملة وتشديد الواو وبالراء ثم ألف من الحور: البياض فهو الخبز الأبيض كما قال (وهو الدرمك) بفتح الدال وسكون المهملة. قال في «الصحاح» : هو دقيق الحواري اهـ. وبه يعلم أن في كلام المصنف مضافاً مقدراً: أي خبز الدرمك (قوله ثريناه هو بثاء مثلثة ثم...... راء مشددة) مفتوحتين (ثم ياء مثناة من تحت) ساكنة (ثم نون) الأوضح ثم بالنون لأن ما ذكره يوهم أنها نون النسوة (أي بللناه) بفتح أوليه الموحدة فاللام المخففة كما في «المصباح» ، قاله بللته بالماء بلا فابتل ويجمع البل على بلال مثل سهم وسهام والاسم البلل بفتحتين، وقيل البلال ما يبل به الحلق من ماء ولبن، وبه سمى الرجل اهـ. (وعجناه) أي فيلين ما يبقى من نخالته فلا ينشب في الحلق. 7496 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم) أي في الحقيقة التي هي اليوم وأتى بذات دفعاً لتوهم أن المراد به مطلق الزمان (أو) شك من الراوي (ليلة) بالإضافة والمضاف لفظ ذات (فإذا هو بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما) أي

ففاجأ خروجه رؤيتهما، وهو مبتدأ والظرف بعده خبر (فقال، ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟) أي التي لم تجر العادة بالخروج فيها لأنها ليست وقت صلاة ولا ما يجتمع له من كسوف أو نحوه من الحوادث (قالا: الجوع) يجوز أن يعرب مبتدأ خبره جملة محذوفة دل عليها السؤال: أي أخرجنا ويجوز إعرابه فاعلاً لأخرجنا مقدراً وأيهما أولى يبني على الخلاف في أي المرفوعات أصل المبتدأ أو الفاعل أو هما في مرتبة واحدة فعل الأول يعرب مبتدأ وعلى الثاني فاعلاً وعلى الثالث يخير (قال) (وأنا) الواو فيه للاستئناف ثم في رواية صاحب «الشمائل» وغيره الغابة «قال أبو بكر: خرجت للقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والنظر في وجهه والسلام عليه فلم يلبث أن جاء عمر فقال: ما جاء بك يا عمر؟ قال: الجوع يا رسولالله، قال رسول الله: قد وجدت بعض ذلك» فيحتمل أن الصديق كان قال كلا من المقاتلين وإنما اكتفى بلقي المصطفى والنظر إليه والسلام عليه لأن بذلك يحصل كمال القوى فيذهل عن ألم الجوع كما قال في وصاله في صومه «إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني» على أحد الأقوال فيه (والذي نفسي بيده) أي بقدرته فيه ندب...... القسم لتأكيد الأمر عند السامع والحلف من غير استحلاف (لأخرجني الذي أخرجكما) وعند الترمذي في «شمائله» «وأنا وجدت بعض ذلك» أي الجوع. قال في «أشرف الوسائل» : فيحتمل أنه جمع بين المقالتين وفي عقد التقي الفاسي عن جده قال: سمعت الإمام محمداً المرجاني يقول قوله الذي أخرجكما لفظ مبهم ظاهره الجوع، والمراد والله أعلم هوالله، إذ هو الذي أخرجه حقيقة فعبر بلفظ الذي الصادق على السبب وعلى المسبب ليشاركهم في ظاهر الحال دفعاً للوحشة الواقعة في ذكر الجوع. قلت: وهذا من معالي الأخلاق وكريم الشيم وهو من معنى قوله تعالى: {واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} (الشعراء: 215) اهـ. كلامه. قلت: وهذا يسميه البديعيون بالتوجيه، ومنه قول إمامنا الشافعي رضي الله عنه في خياط أعور: خاط لي عمرو قباء ليت عينيه سواء...... فإنه محتمل للدعاء له والدعاء عليه (قوموا فقاموا) أي على الفور كما تؤذن الفاء

وانصرفوا (معه فأتى رجلاً من الأنصار) يأتي تعيينه في الأصل بما فيه (فإذا هو ليس في بيته) أي ففاجأ مجيئهم فقدانه من البيت، وهو مبتدأ والجملة بعده في محل الخبر (فلما رأته) أي أبصرته (المرأة) فيؤخذ منه جواز نظر الأجانب إليه كما يجوز نظره للأجانب منهن وأنه معهم كالمحارم في جواز الخلوة والنظر، ويحتمل أن تكون الرؤية علمية والمفعول الثاني محذوف لدلالة المقام عليه: أي مقبلاً، والمرأة بوزن التمرة ويجوز نقل حركة هذه الهمزة إلى الراء فتحذف وتبقى مرة بوزن سنة، ويقال فيها امرأة كما يقال مرأة وربما قيل امرأ بغير هاء اعتماداً على قرينة تدل على المسمى. قال الكسائي: سمعت امرأة من فصحاء العرب تقول أنا امرأ أريد الخير وجمع امرأة نساء ونسوة من غير لفظها كذا في «المصباح» ولم أقف على اسمها (قالت مرحباً) أي وجدت منزلاً رحباً: أي واسعاً فانزل (وأهلا) أي وصادفت أهلاً فأنس كذا في هذه الرواية، وفي رواية أنهم كرروا السلام ولم يجبهم حتى هم بالانصراف، ثم أجابت واعتذرت بأنها أرادت كثرة دعائه وتكريره لها ولصاحب منزلها فلعلها قالت ما ذكر قولاً نفسياً ثم أخبرت عنه والله أعلم (فقال لها رسول الله: أين فلان؟) قال المصنف في «التهذيب» : قال ابن السراج: كناية عن اسم يسمى به المحدث عنه خاص غالب اهـ. وتقدم هذا المعنى بزيادة في باب الصبر وزاد «تفسيري البيضاوي والكشاف» قولهما كما أن هذا كناية عن الأجناس (قالت: ذهب يستعذب لنا الماء) يؤخذ منه أن استعذاب الماء لا ينافي شأن الصحابة من الإعراض عن زهرات الدنيا ومستلذاتها (إذ جاء الأنصاري) يحتمل أن تكون للمفاجأة بناء على مجيئها لذلك كما قال به جمع وإن نوزعوا فيه بما بينته أول رسالتي «إنباه النائم من سنة نومه» ببعض فوائد قوله تعالى: {وإذ استسقى موسى لقومه} (البقرة: 60) (فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه...... وسلم وصاحبيه) أي وقع النظر إليهم عقب مجيئه وهذا يحتمل أن يكون اتفاقاً، ويحتمل أن يكون لما حل عليه من الإشراق والتجلي الرباني ولم يدر سببه من نفسه، فنظر ليرى سببه من الخارج فرأى مشكاة أنوار المصطفى المختار ومعه صاحباه رضوان الله عليهما (ثم قال) أي بعد أن رحب وأظهر كمال الفرح الكامن فيه الكائن عنده بحلول المصطفى في منزله وأتى بما يدل على ذلك (الحمد) أي هذه نعمة يجب شكر المنعم بها شرعاً ليدوم نفعها، وقوله (ما أحد اليوم

أكرم أضيافاً مني) جملة مستأنفة ليبين الحامل له على الحمد والداعي إليه، وفيه دليل كمال فضيلته وبلاغته وعظم معرفته لأنه أتى بكلام بديع مختصر في هذا الموطن، وما حجازية وأكرم خبره واليوم ظرف للنفي المدلول عليه بما: أي انتفى وجدان أحد اليوم أكرم، من الكرم وهو الجود والخيار ومنه حديث «إياك وكرائم أموالهم» وأضيافاً منصوب على التمييز ومني متعلق بأكرم (فانطلق) أي من محل رؤيته من حائطه عقب قول ما ذكر (فجاءهم بعذف) وجاء عند الترمذي بدله «بفنو» وهو بكسر القاف وسكون النون: العذق الغصن من النخل (فيه بسر) هو المتلون من ثمر النخل....... قال المصنف في «التهذيب» : قال الجوهري: البسر أوله طلع ثم خلال ثم بلح ثم بسر ثم رطب ثم تمر، الواحدة بسرة والجمع بسرات وبسر وأبسر النخل صار ما عليه بسراً اهـ (وتمر) بفتح الفوقية وسكون الميم. قال في «المصباح» هو تمر النخل كالزبيب من العنب، وهو اليابس بإجماع أهل اللغة لأنه يترك على النخل بعد إرطابه حتى يجف أو يقارب ثم يقطع ويترك في الشمس حتى ييبس، الواحدة تمرة والجمع تمور وتمران بالضم والتمر يذكر ويؤنث في لغة فيقال: هو التمر وهي التمر اهـ (ورطب) بضم ففتح قال في «المصباح» : الرطب تمر النخل إذا أدرج ونضج قبل أن يجف والجمع رطاب مثل كلبة وكلاب (فقال: كلوا) زاد الترمذي في «الشمائل» : فقال النبيّ: «أفلا تنقيت» ؟ فقال: يا رسول الله: إني أردت أن تختاروا من رطبه وبسره فأكلوا وشربوا، (وأخذ المدية) بسكون الدال المهملة (فقال له رسول الله: «إياك والحلوب» أصله احذر تلاقي نفسك والحلوب العامل وجوباً وفاعله، ثم المضاف الأول وأنيب عنه الثاني فانتصب، ثم الثاني وأنيب عنه الثالث، فانتصب وانفصل لتعذر اتصاله، قاله ابن هشام في «التوضيح» في نحوه وإنما نهى عن ذبحها شفقة على أهله بانتفاعهم بلبنها مع حصول المقصود بغيرها فهو نهي إرشاد لا كراهة في مخالفته لزيادة أكرام الضيف وإن أسقط حقه (فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق) أتى بمن التعيضية إشعاراً بالإعراض عن الدنيا مع تمام الداعية ومزيد الحاجة (وشربوا) أي من الماء العذب (فلما أن شبعوا ورووا) بضم الواو التي هي عين الفعل والأصل رويوا بوزن علموا (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر

وعمر رضي الله عنهما: «والذي نفسي بيده» ) أي قبض روحي بقدرته (لتسألن) بضم اللام والفعل مبني للمجهول ونائب الفاعل واو الجماعة فحذف لالتقاء الساكنين (عن هذا النعيم يوم القيامة) ثم قال مبيناً وجه السؤال المذكور على وجه الاستئناف البياني (أخرجكم من بيوتكم) بضم الموحدة وتكسر...... اتباعاً لحركة الياء (الجوع) ونسبة الإخراج إليه مجاز عقلي من الإسناد إلى السبب، وإلا فالمخرج لهم من منازلهم هو الله تعالى (ثم لم ترجعوا) بالبناء للفاعل ويجوز بناؤه للمجهول إن لم تصد عنه رواية (حتى أصابكم هذا النعيم) وهو الطعام والشراب (رواه مسلم) في أواخر «صحيحه» ، ورواه الترمذي في «جامعه» و «شمائله» ، وقال في «جامعه» في باب الاستئذان: رواه غير واحد عن شيبان، وشيبان صاحب كتاب وهو صحيح الحديث، وقال في الزهد منه وقد رواه من طريق شيبان أيضاً: حسن غريب، ورواه فيه من طريق أخرى ثم، وشيبان ثقة عندهم صاحب كتاب وهو صحيح الحديث، ورواه النسائي في الوليمة وابن ماجه في الأدب. 5...... (وقولها: يستعذب) ، أي يطلب الماء العذب فالسين فيه للطلب، وهو أحد معاني استفعل كما ذكرته في رسالتي «إنباه النائم في سنة نومه» وفي «الصحاح» استعذب لنا الماء استقى لنا ماء عذباً واستعذب الماء سقاه عذباً اهـ. وبه يعلم أن الفرق بينه مع لنا ودونها، وإنما ذهب لطلب الماء العذب لأن أكثر مياه المدينة حينئذ كانت مالحة (وهو) أي الماء العذب (الطيب) أي ما يستطاب من الماء وليس المراد منه معنى العذب لغة، وهو ما يسوغ شربه ولو مع بعض الكزازة لأن ذلك ثابت لجميع مياه المدينة (والعذق بكسر العين) المهملة (وإسكان الذال المعجمة وهو الكباسة) قال في «المصباح» : هي بالكسر عنقود النخل والجمع كبائس وهو معنى قوله: (وهي) أي الكباسة (الغصن) أي من أغصان النخل لا مطلقاً كما هو ظاهر واكتفى عن تقييد ذلك بدلالة السياق (والمدية بضم الميم) بوزن غرفة وجمعها غرف، ومقتضى كلام «المصباح» وبنو قشير تقول مدية بكسر الميم والجمع مدى كسدرة وسدر (هي السكين) بكسر المهملة وتشديد الكاف ونون أصلية قيل: بوزن فعيل، وقيل: زائدة فيكون وزنه فعلين مثل غسلين: الشفرة سمي بذلك لأنه يسكن حركة المذبوح، وحكى ابن الأنباري فيه التذكير والتأنيث. قال السجستاني: إن أبا زيد الأنصاري والأصمعي وغيرهما ممن أدركه أنكروا

التأنيث وقالوا: هو مذكر، وربما أنث في الشعر على معنى الشفرة وأنشد الفراء: بِسِكِّين مُوَثَّقَةِ النِّصابِ...... ولذا قال الزجاج: السكين مذكر وربما أنث بالهاء لكنه شاذ غير مختار (والحلوب) بفتح الحاء المهملة وضم اللام (ذات اللبن) قال في «المصباح» : فإن جعلتها اسماً أتيت بالهاء فقلت: هذه حلوبة فلان مثل الركوب (والسؤال عن هذا النعيم) المؤكد بالقسم واللام، وذلك لاستبعادهم له فإنه من حاجة جافة، لا من شهوة وحظ نفس (سؤال تعداد النعم) والامتنان بها وإظهار الكرامة بإساغتها، زاد في «الشمائل» : ظل بارد ورطب وماء بارد (لا سؤال توبيخ) وفي «المصباح» وبخته توبيخاً: لمته على سواء فعله وعنفته وعتبت عليه، كلها بمعنى. وقال الفارابي: عيرته. وقال الجوهري: التوبيخ التهديد: أي لعدم القيام بشكرها (وتعذيب) أي يتسبب عن كفرانها وعدم شكرها لأن ذلك غير كائن للصاحبين فيما تتناولاه حينئذ. قال ابن القيم: كل أحد يسأل عن تنعمه الذي كان فيه هل ناله من حل أو لا؟ وإذا خلص من ذلك يسأل هل قال بواجب الشكر فاستعان به على الطاعة أو لا والأول سؤال عن سبب استخراجه، والثاني عن محل صرفه اهـ. وإنما ذكر المصطفى ذلك إرشاداً للآكلين والشاربين في حفظ أنفسهم في الشبع عن الغفلة باشتغال أحدهم بحظ نفسه ونعمتها عن تذكر الآخرة (وهذا الأنصاري الذي أتوه هو أبو الهيثم) بهاء مفتوحة وسكون التحتية وفتح المثلثة: كنية مالك (ابن التيهان) بفتح الفوقية وتشديد التحتية الأنصاري الأوسي أحد النقباء (كذا جاء مبيناً في رواية الترمذي) من حديث أبي هريرة نفسه، رواه كذلك في «جامعه» وفي «الشمائل» ، وورد في رواية أخرجها الحافظ ابن حجر العسقلاني في «تخريج أحاديث الأذكار» من حديث ابن عباس أنهم انطلقوا إلى دار أبي أيوب الأنصاري وساق القصة بنحوه وفي آخره: «إذا أصبتم مثل هذا فضربتم بأيديكم فقولوا: بسم الله وببركةالله، وإذا شبعتم فقولوا: الحمد الذي أشبعنا وأروانا وأنعم علينا وأفضل فإن هذا كفاف هذا» وذكر بقية الحديث، وحسن الحافظ الحديث وقال: وفيه غرابة من وجهين: ذكر أبي...... أيوب والمشهور في هذا قصة أبي الهيثم، والثاني ما في آخره من التسمية والحمد اهـ. وفي «أشرف الوسائل» في رواية عند الطبراني وابن حبان أنهم جاءوا إلى أبي أيوب، ولا مانع في أنهما قصتان اتفقتا لهم مع كل

واحد منهما، ورواية مسلم رجلاً من الأنصار محتملة لهما اهـ. وكأن المصنف جزم بكونه أبا الهيثم لكون رواية الترمذي عن الصحابي الذي رواه عنه مسلم والله أعلم (وغيره) كابن ماجه فعنده أيضاً اذهبوا إلى بيت أبي الهيثم بن التيهان وكابن أبي عاصم في كتاب الأطعمة والحاكم كما أشار إليه الحافظ في تخريجه لأحاديث الأذكار في «أماليه» عليها....... 8 - (وعن خالد بن عمر) بضم العين وفتح الميم والراء كذا وقفت عليه في نسخ متعددة من الرياض وهو من تحريف الكتاب إنما هو «عمير» بالتصغير (العدوي) بفتح المهملتين وهي نسبة إلى عدي بفتح فكسر، والمنسوب إليه كذلك متعدد في المهاجرين وفي الأنصار وفي غيرهم كما في «لب اللباب» للأصفهاني، وخالد هذا بصري. قال الحافظ العسقلاني في «التقريب» : مقبول من كبار التابعين، يقال: إنه مخضرم، وهم من ذكره في الصحابة، روى عنه مسلم والترمذي في «الشمائل» وابن ماجه اهـ. قلت: قضيته أن الترمذي لم يرو عنه في «الجامع» لكن في «الأطراف» للحافظ المزي أن حديث الباب رواه الترمذي في صفة جهنم من «جامعه» وفي «شمائله» وأشار بقولهم «وهم الخ» إلى الحافظ ابن عبد البر فإنه ذكره في «الاستيعاب» (قال خطبنا عتبة) بضم المهملة وسكون الفوقية بعدها موحدة فهاء تأنيث (ابن غزوان) بفتح الغين المعجمة وسكون الزاي ابن وهب بن نسيب بن زيد بن مالك بن الحارث بن عوف بن مازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان أبو عبد الله. ويقال أبو غزوان، قال الحاكم قال الواقدي: كان عتبة طوالاً جميلاً قديم الإسلام هاجر إلى الحبشة وكان من الرماة المذكورين، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة أحاديث هذا أشهرها، وليس له في الكتب الستة سواه. وروى له الحاكم أن النبي قال يوماً لقريش: «هل فيكم أحد غيركم؟» قالوا: ابن أختنا عتبة بن غزوان قال النبي: «ابن أخت القوم منهم» ثم قال: غريب جداً. قال في «تلخيص المستدرك» : إسناده مظلم. قال الشيخ أبو العباس القرطبي: عتبة مازني حليف لبني توفل قديم الإسلام، هاجر وشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدراً والمشاهد كلها. أمّره عمر على جيش فتوجه إلى العراق وفتح الأبلة والبصرة بموضع يقال له: معدن بني سليم، قاله ابن سعد. ويقال: إنه مات بالربذة، قاله ابن المدائني كذا في «الديباجة» للدميري (وكان

أميراً على البصرة) بتثليث الموحدة كما حكاه الأزهري وأفصحهن الفتح وهو المشهور، ويقال له: البصيرة بالتصغير، والمؤتفكة لأنها ائتفكت بأهلها في أول الدهر: أي انقلبت. قال صاحب «المطالع» : قال أبو سعيد السمعاني: يقال للبصرة قبة الإسلام وخزانة العرب، بناها عتبة بن غزوان في خلافة عمر سنة سبع عشرة وسكنها الناس سنة ثماني عشرة، ولم يعبد الصنم قط على أرضها اهـ. وهذا يصح كونها من جملة مثول القول والمحكي بالقول مجموع الجمل، ويحتمل كونها في محل الحال من فاعل خطب بإضمار قد (فحمد الله) أي أثنى عليه بالأوصاف الأزلية الثبوتية (وأثنى عليه) بسلب ما لا يليق به سبحانه في الثناء ويصح كونهما بمعنى وعطفهما مع كونهما كذلك لاختلافهما لفظاً إيماء إلى أنه أطنب في الثناء على مولاه سبحانه كما يدل عليه قوله (ثم قال) والأول أولى لأن التأسيس خير من التأكيد، والفاء في قوله فخطب كالفاء في نحو توضأ زيد فغسل وجهه الخ للترتيب الذكري لا للترتيب في الزماني بأن يراد أراد الخطبة وأراد الوضوء والإرادة سابقة على فعله والله أعلم. (أما بعد) أتى بها اقتداء به فقد كان يأتي بها في خطبة، وذكر الحافظ في «الفتح» أن الرهاوي أخرجها من أربعين طريقاً عنه (فإن الدنيا قد آذنت بصرم) لتحول أحوالها الدال على حدوثها، وكل ما ثبت حدوثه وجب قبوله للعدم قال الشاعر: وإن افتقادي واحداً بعد واحد دليل على ألا يدوم خليل (وولت حذاء) أي منقطعة، ومنه قال للقطة حذاء: أي منقطعة الذنب قصيرته، ويقال: حمار أحذّ: إذا كان قصير الذنب، حكاه أبو عبيدة، وهذا مثل فكأنه قال: إن الدنيا قد انقطعت مسرعة (ولم يبق منها إلا صبابة) لأنه قال: «بعثت أنا والساعة كهاتين» وأشار بإصبعيه الوسطى والمسبحة (كصبابة الإناء يتصابها بها صاحبها وإنكم منتقلون عنها) إذ هي دار ارتحال وانتقال (إلى دار لا زوال لها) ولا ارتحال عنها (فانتقلوا) أي من الدنيا (بخير ما بحضرتكم) أي بكسب صالح الأعمال وادخار الحسنات عند المولى سبحانه، جعل الخير المتمكن منه في الحياة كالحاضر المحتاج إليه في المآل، فصاحب الحزم يدخر منه حاجته لينتفع به عند

احتياجه إليه، وهذا كما قال ابن عمر رضي الله عنهما: وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك، وبين الداعي لاستعداد الزاد وادخاره ليوم المعاد بما ورد من الترهيب والترغيب فقال على سبيل الاستئناف البياني (فإنه قد ذكر لنا) ببناء ذكر للمجهول، وحذف الفاعل للعلم به أنه المصطفى لأن الصحابي الذي لم يخالط كتب أهل الكتاب لا سبيل له إلى معرفة ذلك إلا من قبله، وقد ذكر علماء الأثر أن من الموقوف لفظاً المرفوع حكماً قول الصحابي: أمرنا بكذا ونهينا عن كذا بالبناء للمجهول فيهما، وجوز في «الديباجة» أن ذلك ذكر له عن النبي ولم يسمعه هو منه وسكت عن رفعه إما نسياناً أو لأمر اقتضاه ومراده الرفع لفظاً لما ذكرناه، قال: ويحتمل أن يكون سمعه منه وسكت عن رفعه للعلم به اهـ (أن الحجر) أل فيه للجنس، والحجر معروف. قال ابن النحوي في لغات «المنهاج» : جمعه في أدنى العدد أحجار، وفي الكثرة حجار، والحجارة نادر وهو كقولنا حمل وحمالة وذكر وذكارة، كذا قال ابن فارس والجوهري ورد عليهما القرطبي بأن في القرآن «فهي كالحجارة، وإن من الحجارة، كونوا حجارة، ترميهم بحجارة، وأمطرنا عليهم حجارة» فكيف يكون نادراً إلا أن يريد أنه نادر في القياس كثير في الاستعمال فيصح ا هـ. وذلك لأن ما كان كذلك وعكسه يقع في الفصيح بخلاف ما خالفهما معاً فمردود (يلقى من) ابتدائية (شفير جهنم) أي حرفها. وشفير كل شيء حرفه أيضاً كالبئر والنهر كذا في «المصباح» وفي «الديباجة» حرفها الأعلى كل شيء أعلاه وشفيره، ومنه شفير العين، وجهنم قيل: اسم أعجمي، وقيل: عربي مأخوذ من قولهم: بئر جهنام إذا كانت بعيدة القعر، وعلى كل فهي ممنوعة الصرف للعجمة أو التأنيث المعنوي مع العلمية، وهو اسم لنار الآخرة: نسأل الله العافية منها ومن كلا بلاء (فيهوي) بكسر الواو، أي ينزل (فيها سبعين) منصوب على الظرفية الزمانية: أي في قدر سبعين (عاماً لا يدرك) بالبناء للفاعل: أي لا يصل والإسناد فيه مجازي والحقيقي لا يوصله الله (لها قعراً) بفتح القاف وسكون العين وهو كما في «المصباح» أسفل الشيء وجمعه قعوراً اهـ (وا لتملأن) بالبناء للمجهول للعلم بالفاعل سبحانه أكد بالقسم وباللام دفعاً لما قد يقصر العقل عن إدراكه من ملء ما لا يقطع مدى الوصول إلى قعره سبعين عاماً فما بالك بعرضه وكمال سعته: أي وإذا كان كذلك وتمتلىء عن آخرها فاحذروا من مخالفته سبحانه لئلا توبقكم المخالفة وتوقعكم فيها المعصية، غفر الله لنا ذنوبنا وستر عيوبنا بمنه وكرمه وبما كان ما ذكره أمراً عظيماً جداً قال على وجه التقرير (أفعجبتم) أي من هذا الأمر الدال على عظم قدرة الله سبحانه وكمال جلاله وقوة انتقامه وتقدم أن في

ذلك قولين أحدهما: أن التقدير أسمعتم فعجبتم فالفاء عاطفة على مقدر بعد الألف، والثاني: أن ألف الاستفهام من جملة المعطوف وقدمت لصدارتها لتضمنها الاستفهام، ولما حصل عند الحاضرين من مزيد الرهبة وعظيم الخوف مما سمعوه حتى كادوا أن يظنوا عموم العذاب لجميعهم، أراد رفع ذلك عنهم وإدخالهم في ميدان الرجاء إعلاماً بسعة رحمة الله تعالى وكمال فضلة، فأكد ذلك بالقسم المقدر الدال عليه اللام في قوله: (ولقد ذكر لنا أن ما بين المصراعين) بكسر الميم تثنية مصراع، ومصراع الباب ما بين عضادتيه وهو ما يسده الغلق كذا في «المفهم» للقرطبي، وفي «المصباح» : المصراع من الباب الشطر وهما مصراعان (من مصاربع الجنة مسيرة أربعين عاما) برفع مسيرة خبر أن، وإذا كان هذا سعة الباب وأبوابها ثمانية وبين كل بابين خمسمائة عام كما تقدم في حديث: «يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام» فما بالك بسعة باطنها ويكفيك في ذلك قوله تعالى: {وجنة عرضها السموات والأرض} (آل عمان: 133) والعادة جارية أن الطول أزيد من العرض، فسبحان المنعم المتفضل (وليأتين عليها) أي الجنة (يوم) هو وقت دخولها (وهو) أي المصراع أن محله من الباب (كظيظ من الزحام) وذلك ما يدل على كثرة الداخلين بعموم الرحمة ومزيد الفضل ففي الحديث إيماء إلى أن المكلف ينبغي له أن يكون عنده حال الصحة خوف من مولاه سبحانه ورجاء لفضله إحسانه بقبول ما يعمله من صالح العمل. والزحام بكسر الزاي مصدر زاحمه: أي دافعه (ولقد رأيتني) قال في «أشرف الوسائل» هي بصرية وقوله: (سابع سبعة) حال: أي واحداً من سبعة، قال: لكن قضية قوله: يعني في رواية الترمذي فقسمتها بيني وبين سبعة» أنه ثامن، لكن قوله: أولئك السبعة يدل للأول وأن المراد بقوله سبعة: أي بقية سبعة اهـ. ولا يشكل على كونها بصرية اتحاد ضمير فاعلها ومفعولها وذلك من خصائص أفعال القلوب، وعبارة «الكافية» لابن الحاجب، ومنها: أي خصائص أفعال القلوب أنه يجوز أن يكون فاعلها ضميرين لشيء واحد مثل علمتني منطلقاً، قال شراحها: والعبارة للمحقق الجامي، ولا يجوز ذلك في سائر الأفعال فلا يقال: ضربتني ولا شتمتني بل يقال: ضربت نفسي، وذلك لأن أصل الفاعل أن يكون مؤثراً والمفعول به متأثراً، وأصل المتأثر أن يغاير المؤثر، فإن اتحدا معنى كره اتحادهما لفظاً فقصد مع اتحادهما معنى تغايرهما لفظاً بقدر الإمكان، فمن ثم قالوا: ضربت نفسي ولم يقولوا: ضربتني، فإن الفاعل والمفعول فيه ليسا بمتغايرين

بقدر الإمكان لاتفاقهما من حيث إن كل واحد منهما ضميراً متصلاً، بخلاف ضربت نفسي فإن النفس بإضافتها إلى ضمير المتكلم صارت كأنها غيره لغلبة مغايرة المضاف إليه فصار الفاعل والمفعول فيه متغايرين بقدر الإمكان، وأما أفعال القلوب فإن المفعول به ليس المفعول الأول في الحقيقة بل مضمون الجملة، فجاز اتفاقهما لفظاً لأنهما ليسا في الحقيقة فاعلاً ومفعولاً به اهـ. لكن ألحق بأفعال القلوب في ذلك رأي البصرية، قال الشاعر: ولقد أراني للرماح دريئة والحلمية كقوله تعالى: {إني أراني أعصر خمراً} (يوسف: 36) وقوله: (مع رسول الله) حال من فاعل رأى، ويصح كونها لغواً متعلقاً برأي، وقوله: (ما لنا طعام إلا ورق الشجر) يحتمل أن تكون في محل الحال من فاعل رأى، وأن تكون مستأنفة استئنافاً بيانياً جواباً لكيف كنتم معه، وقوله: (حتى قرحت أشداقنا) غاية لمقدر: أي فأكلناه إلى أن قرحت جوانب أشداقنا جمع شدق بكسر الشين المعجمة كحمل وأحمال، ويقال: شدق بفتح المعجمة وجمعه شدوق كفلس وفلوس (فالتقطت بردة) أي عثرت عليها من غير قصد وطلب، وهي شملة مخططة وقيل: كساء أسود مربع، وقال القرطبي: البردة الشملة، والعرب تسمي الكساء الذي يلتحف به بردة، والبرد بغير تاء نوع من ثياب اليمن (فشققتها بيني وبين سعد بن مالك) هو ابن أبي وقاص أحد العشرة المبشرين بالجنة (فاتزرت) بتشديد الفوقية (بنصفها واتزر سعد بنصفها) وفي الترمذي فشققتها بيني وبين سعد كما تقدم، ثم مبادرته بشقها عقب التقاطها كما تؤذن به الفاء، إما لعلمه برضا صاحبها وإما بإعراضه عنها لسقوطها وتمزقها، أو لمعرفته بمالكها فإنه يرضى بذلك، أو كان قبل وجوب تعريف اللقطة (فما أصبح) أي صار (اليوم منا أحد) اسم أصبح والظرف قبله حال منه وكان صفة له فقدم عليه فصار حالاً (إلا أصبح أميراً على مصر من الأمصار) أشار به إلى اتساع الحال عليهم بعد ضيقه أولاً، زاد في آخر الحديث: وسيخربون الأمراء بعدنا: أي ليسوا مثلنا من جهة العدالة والديانة والإعراض عن الدنيا وكان الأمر على ذلك، وأشاروا إلى الفرق بأنهم رأوا معه ما كان سبباً لرياضتهم وتقللهم من الدنيا فمضوا على ذلك وغيرهم ممن بعدهم ليس كذلك، فلا يكون إلا على قضية طبعه المجبول على الخلق القبيح (وإني

أعوذ) أي اعتصم (با) من (أن أكون في نفسي عظيماً) بأن يوهمني ذلك الشيطان والنفس (وعند الله صغيراً) لا يقبل علي بالفضل والإحسان، ولا ينصب لعملي وزن إذا نصب الميزان، قال: «يجاء يوم القيامة بالرجل العظيم لا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرءوا إن شئتم {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً} أو كما قال: (رواه مسلم) أواخر «صحيحه» ورواه الترمذي في «جامعه» وفي «شمائله» إلا أنه لم يسق منه فيها إلا من قوله: «لقد رأيتني سابع سبعة» الخ، وأشار إلى باقي الحديث، ورواه النسائي في «الرقاق المفتوحة» ورواه ابن ماجه في الزهد مختصراً. (قوله: آذنت هو بمد الهمزة) أي وبالذال المعجمة المفتوحة (أي أعلمت) عبارة القرطبي: أي أشعرت وأعلمت وحذف المصنف الأول لإغناء الثاني عنه. (وقوله: بصرم بضم الصاد) أي المهملة وسكون الراء (أي بانقطاعها وفنائها) الأولى بانقطاع وفناء كما عبر به القرطبي وتبعه في «الديباجة» لأن المفسر غير مضاف إليها وإن كان الكلام فيها. (وقوله: وولت حذاء) و (هو بحاء مهملة مفتوحة ثم ذال معجمة مشددة ثم ألف ممدودة: أي سريعة) هذا تفسير للحذاء لا لمجموع المحكي كما قد توهمه عبارته، ولو قال: أي أدبرت سريعة أو قال حذاء: أي سريعة لسلم من ذلك الإيهام إلى أن يسامح زيادة في الإيضاح كما هي عادته من بذل النصيحة جزاه الله خيراً، وفي «المصباح» : الأحذّ المقطوع الذنب. وقال الخليل: الأحذّ الأملس الذي ليس مستمسكاً لشيء يتعلق به والأنثى حذاء (والصبابة بضم الصاد المهملة) وهو بموحدتين خفيفتين بينهما ألف (وهي البقية اليسيرة) كذا في الأصول بإثبات الواو على أن الخبر الظرف السابق على الجملة وهي معطوفة عليه، ثم قوله: البقية غير مقيدة بشيء هو ما قاله غيره ومنهم القرطبي والدميري، وبه يعلم أن قول «المصباح» الصبابة بالضم بقية الماء مراده به التمثيل لا التقييد. قال القرطبي: والصبابة بالفتح: رقة الشوق ولطيف المحبة اهـ. (وقوله يتصابها) بفتح التحتية والفوقية (وهو يتشديد الموحدة) من باب التفاعل فأدغمت الموحدة في مثلها (قبل الهاء أي يجمعها) قال القرطبي: أي يروم صبها على قلة الماء: أي مثلاً وضعفه (والكظيظ) بفتح الكاف وكسر الظاء المعجمة الأولى وسكون التحتية بينهما (الكثير) بالمثلثة (الممتلىء) يقال: كظة الشر فهو كظيظ، وفي «النهاية»

حديث عتبة في باب الجنة «وليأتين عليه يوم وهو كظيظ» أي ممتلىء، والكظيظ الزحام اهـ. 6 ومثله في «مجمع البحار» نقلاً عنها، وكأنه أشار بذلك إلى أنه مشترط بين الممتلىء والزحام: أي ذي الزحام لأنه تفسير الوصف، والله أعلم. (وقوله: قرحت هو بفتح القاف وكسر الراء) وبالحاء المهملة (أي صار فيها قروح) بضمتين جمع قرح بفتح القاف وضمها، وفي «النهاية» قيل: بالفتح المصدر وبالضم اسم مصدر وبضم أوليه أيضاً، ولم يذكر المصنف في «تحريره» سوى فتح القاف وضمها وقال: إنه الجرح، وقال غيره: إنه كالجدري، وفي «مفردات الراغب» : القرح الأثر من الجراحة من شيء يصيبه من خارج، والقرح أثرها من داخل كالبثرة ونحوها، ونقل ابن عطية في «تفسيره» قرح بفتح القاف وضمها، وإسكان الراء، ثم قال: قال أبو علي: هما لغتان كالضعف والضعف، والفتح أولى لأنه لغة أهل الحجاز، وقال الأخفش: هما مصدران بمعنى واحد، ومن قال القرح بالفتح الجراحة بعينها وبالضم ألمها قبل منه إذا أتي برواية، لأن هذا مما يعلم بقياس، وقرأ ابن السميقع بفتح القاف والراء، قال الزمخشري: كالطرد والطرد، قال أبو البقاء: وبضمها على الاتباع كاليسر واليسر اهـ من لغات «المنهاج» لابن النحوي. 9 - (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: أخرجت لنا عائشة كساء) بكسر الكاف وبالسين المهملة والألف الممدودة، زاد البخاري ملبداً وعندهما بلفظ كساء من التي يسمونها الملبدة (وإزاراً) بكسر الهمزة وبالزاي ثم الراء بينهما ألف اسم لما يستر أسافل البدن (غليظاً) أي ثخيناً، وفي رواية لمسلم: «أخرجت إلينا عائشة كساء وإزاراً ملبداً» وإخراجها ذلك لتبيين إعراضه عن الدنيا إلى مفارقته لها ونقلته لحضرة مولانا سبحانه وتهييجاً للمقتدين به المتبعين سبيله على ذلك، ولذا (قالت: قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذين) زاد مسلم في رواية له: «الثوبين» (متفق عليه) رواه البخاري في الخمس وفي اللباس، ومسلم في

اللباس، ورواه أبو دواد والترمذي وقال: حسن صحيح، والنسائي كلهم في اللباس من «سننهم» ، ثم الذي في الكتب المذكورة أن الحديث عن أبي بردة بن أبي موسى قال: أخرجت إلينا عائشة، ولا ذكر فيها لأبي موسى والذي وقفت عليه من نسخ الرياض عن أبي موسى كما شرحته، وهو إن لم يكن من تحريف الكتاب سبق قلم من الشيخ بلا ارتياب. 10 - (وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: إني لأول العرب ممن رمى بسهم في سبيل ا) وذلك في بعث حمزة وعبيدة بن الحارث وهي ثاني سرية في الإسلام. وقيل: بل هي أول سرية فيه، وجرى عليه السيوطي في «أوائله» ، وقد جزم به الحافظ في «الفتح» ، وفيها كما روى ابن إسحاق وغيره، ما لفظه: «ولم يكن بينهم: يعني المسلمين والكفار قتال، إلا أن سعد بن أبي وقاص قد رمى يومئذ بسهم فكان أول سهم رمى به في الإسلام» وفي «أوائل» السيوطي: «أول من أراق دماً في سبيل الله سعد بن أبي وقاص» أسنده العسكري وهو أول من رمى بسهم في سبيلالله، أخرجه ابن سعد وابن أبي شيبة عنه، وأنه قال في ذلك: ألا هل أتى رسول الله أني حميت صحابتي بصدور نبل أذود بها عدوهم ذياداً بكل حزونه وبكل سهل فما يعتمد رام من معدّ بسهم قبل رسول الله قبلي (ولقد كنا نغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لنا طعام إلا ورق الحبلة) جملة النفي في محل الحال من فاعل نغزو (وهذا السمر) قال القرطبي: عند عامة الرواة بحذف الواو: أي على أنه بيان ورق الحبلة، وعند الطبراني والتميمي: وهذا السمر بواو، ووقع عند البخاري إلا الحبلة وورق السمر، وكذا ذكره أبو عبيد، ورواية البخاري أحسنها لأنه بين فيها أنهم كانوا يأكلون ثمر العضاة وورق الشجر السمر (حتى) غاية لكون طعامهم ذلك (إن) مخففة من الثقيلة (كان أحدنا ليضع) كناية عن الغائط، وفي بعض طرقه «يبعر» (كما تضع الشاة) أي من البعر ليبسه وعدم ألفة المعدة له، وهذا كان سنة ثمان في غزوة الخبط وأميرهم أبو عبيدة، وسيأتي في الأصل إن شاء الله تعالى، وعليه، فالمراد بالمعية التبعية حكماً، ويحتمل أن تكون المعية على ظاهرها، وأن ذلك في غزوة أخرى غزاها سعد مع النبي لما في «الصحيحين» «بينا نغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما لنا طعام إلا الحبلة» ذكره في

«أشرف الوسائل» (ما له خلط) بكسر الخاء المعجمة: أي لا يختلط بعضه ببعض من شدة جفافه ويبسه، وهذا باعتبار ما كانوا عليه من الضيق أول الإسلام وامتحاناً ليظهر صدق ثباتهم. لولا اشتعال النار في جزل الغضا ما كان يعرف طيب نشر العود (متفق عليه) رواه البخاري في فضل سعد في الأطعمة، وفي «الرقائق» ومسلم في أواخر كتابه، ورواه الترمذي في الزهد وقال: حسن غريب، والنسائي في المناقب وابن ماجه في السنة، كذا في «الأطرف» للمزي (الحبلة بضم الحاء المهملة وإسكان الباء الموحدة، وهي والسمر) بفتح فضم، قال في «المصباح» : شجر الطلح بضم الحاء وهو نوع من العضاة الواحد سمرة اهـ (نوعان معروفان من شجر البادية) قال القرطبي: الحبلة شجر العضاة، وقال ابن الأعرابي: ثمرة السمر شبه اللوبيا، وذكرهما في «النهاية» مقدماً الثاني فيهما من غير عزو لابن الأعرابي حاكياً للأول بقيل. 11 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: اللهم اجعل رزق) بكسر الراء مصدر بمعنى المفعول: أي من ينتفعون به مأكلاً ومشرباً وملبساً (آل محمد) جاء عند بعض رواته زيادة في «الدنيا» بل قضية كلام «الجامع الصغير» أنه كذلك عند مسلم، ولم أره كذلك عند مسلم إنما الحديث فيه بحذفه. قال الثعالبي في «تفسير الجواهر الحسان» : وعندي أن المراد بآل محمد هنا متبعوه (قوتاً. متفق عليه) أي بالمعنى وإلا فاللفظ لمسلم في إحدى رواياته، ولفظ البخاري وهو عند مسلم أيضاً (اللهم ارزق آل محمد قوتاً» ) قال الحافظ في «الفتح» بعد ذكر لفظ المذكور في «المتن» وهو المعتمد كون اللفظ الأول صالحاً لأن يكون دعاء بطلب القوت في ذلك اليوم، وأن يكون طلبه لهم دائماً، بخلاف لفظ مسلم فإنه يعين الاحتمال الثاني وهو الدال على الكفاف والحديث، رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، والنسائي وابن ماجه كما في «الأطراف» (قال أهل اللغة) هم الحاكمون

لمعاني المفردات عن العرب (والغريب) هم المتكلمون على مفردات الكتاب والسنة (معنى قوتاً: أي ما يسد الرمق) في «المصباح» القوت ما يؤكل ليمسك الرمق. وقال القرطبي: معنى الحديث طلب الكفاف، فإن القوت ما يقوت البدن ويكف عن الحاجة، ولم يظهر وجه إدخال: أي بين المفسر والمفسر، وفي هذه الحالة سلامة من آفات الغنى والفقر جميعاً. 12 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وا الذي لا إله إلا هو) أتى به لتأكيد ما بعده في ذهن سامعه (إن) مخففة إني (كنت لأعتمد بكبدي) بفتح الكاف وكسر الموحدة أفصح من فتح الكاف وكسرها مع سكون الموحدة (على الأرض) أي ألصق بطني بها (من الجوع) من فيه تعليلية، وكأنه كان يستفيد بذلك ما يستفيده من شده الحجر على بطنه، ويحتمل أن يكون كناية عن سقوطه إلى الأرض مغشياً عليه كما سيأتي في الحديث عنه عقب هذا: «لقد رأيتني وإني لأخرّ فيما بين منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حجرة عائشة مغشياً عليّ» الحديث (وإني كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع) كعادة العرب وأهل الرياضة أو أهل المدينة كانوا يفعلون ذلك إن خلت أجوافهم لئلا تسترخي أمعاؤهم فتثقل عليهم الحركة، وبربط الحجر تشتد البطن والظهر فتسهل عليهم الحركة حينئذ. وقبل حكمة شده أنه يسكن بعض ألم الجوع، لأن حرارة المعدة الغريزية ما دامت مشغولة بالطعام فتلك الحرارة به، فإذا نفذ اشتعلت برطوبات الجسم وجوهره فيحصل التألم حينئذ ويزداد ما لم يضم على المعدة الأحشاء والجلد، فإن نارها حينئذ تخمد بعض الخمود فيقل الألم. وقيل: يفعل ذلك لأن البطن إذا خلا ضعف صاحبه عن القيام لتقوس ظهره، فاحتيج لربط الحجر ليشده ويقيم صلبه (ولقد قعدت على طريقهم) قال في «المصباح» : يذكر في لغة نجد وبه جاء قوله تعالى: {فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً} (طه: 77) ويؤنث في لغة الحجاز. قلت: وعدم تأنيث يبساً لكونه مصدراً وصف به كما ذكر البيضاوي في «التفسير» ، قال في «المصباح» :

وجمعه طرق، وقد يجمع عن لغة التذكير على أطرقه والضمير يرجع إلى المارة المدلول عليه بالمضاف (الذي يخرجون منه) أي إلى مطالبهم، وذلك لئلا يفوتوه (فمرّ بي النبيّ) قبله في البخاري مرور أبي بكر وعمر، وأنه سأل كلا منهما عن آية وقصد بالسؤال التعرض للنوال فلم يقع، وسكت عنه المصنف لعدم تعرض غرض الباب به، إذ غرضه التحريض على الزهد في الدنيا والإعراض عما تدعو إليه الضرورة بالمرة، وهذا الخبر وأمثاله يدل عليه، إذ لو كان حاله بخلاف ذلك لما بلغ حال أصحابه في الفقر إلى ما ذكر في الخبر لما علم من كمال كرمه وإيثاره على نفسه (فتبسم حين رآني وعرف ما في وجهي) أي مما يدل على ما في نفسي (وما في نفسي) أي من الاحتياج إلى ما يسد الرمق، ووقع عند بعض رواة البخاري بأو التي للشك بدل الواو في قوله: «وما» قال في «الفتح» استدل أبو هريرة بتبسمه على أنه عرف ما به لأن التبسم يكون لما يعجب وتارة يكون لإيناس من تبسم إليه ولم تكن لك الحالة معجبة فقوي الحمل على الثاني (ثم قال يا أبا هر) بتشديد الراء، قال في «الفتح» : وهو من رد الاسم المؤنث إلى المذكر والمصغر إلى المكبر، فإن كنيته في الأصل أبو هريرة تصغير هرة مؤنثاً، وأبو هرّ مذكر مكبر، وذكر بعضهم أنه يجوز فيه تخفيف الراء مطلقاً فعلى هذا فيسكن (قلت: لبيك يا رسول الله) هذه رواية علي بن مسهر بإثبات حرف النداء، وعند باقي الرواة له بحذفه أي إجابة بعد إجابة (قال الحق) بهمزة وصل وفتح الحاء المهملة أي اتبع (ومضى) أي إلى سبيل بيته (فاتبعته) بتشديد الفوقية، زاد في رواية علي بن مسهر: فلحقته، وفي «تفسير البغوي» أتبع بقطع الهمزة معناه أدرك وألحق، واتبع بتشديد التاء معناه سار، يقال: ما زالت أتبعه حتى اتبعته: أي ما زال أسير خلفه حتى أدركته ولحقته (فدخل) زاد علي بن مسهر إلى أهله (فاستأذن) قال في «الفتح» : بهمزة بعد التاء والنون مضمومه فعل المتكلم، وعبر عنه بذلك مبالغة في التحقق لأنه حكاية حال ماضية، ففيه الإشارة لكمال استحضاره لها حتى كأنه يخبر عن حاضر عنده وفي رواية ابن مسهر: فاستأذنت بضمير المتكلم (فأذن لي) يحتمل أن يقرأ بالبناء للفاعل: أي النبيّ،

وأن يقرأ بالبناء للمفعول ما لم تكن رواية فيوقف عندها (فدخل) قال في «الفتح» كذا فيه، وهو إما تكرار لهذه اللفظة لوجود الفصل أو التفات (فوجد لبناً في قدح فقال: من أين هذا اللبن؟) . وفي رواية ابن مسهر من أين لكم؟ (قالوا: أهداه فلان أو فلانة) كذا بالشك قال في «الفتح» : ولم أقف على اسم من أهداه، وفي رواية روح: «أهداه لنا فلان آل فلان أو آل فلان» وفي رواية: «أهداه لنا فلان» (قال: أبا هرّ قلت: لبيك يا رسول الله) بإثبات حرف النداء عند جميع رواه البخاري (قال: الحق إلى أهل الصفة) ضمن الحق معنى انطلق فلذا عداه بإلى، وقد وقع في رواية روح بدله: انطلق (فادعهم لي، قال) أي أبو هريرة وسقط من رواية روح ولا بد منها فإن قوله: (وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد) إلى آخر مايأتي من بيان شأنهم من كلام أبي هريرة شرح به حال أهل الصفة والسبب الداعي لدعائهم، وأنه كان يخصهم بالصدقة ويشركهم فيما يأتيه من الهدية. ووقع في رواية يونس ما يشعر بأن أبا هريرة كان منهم، وقد عدّه فيهم السخاوي في مؤلفه في أهل الصفة. والصفة بناء في مؤخر المسجد منزل فقراء المهاجرين مما لا مال له، ولا معارف بالمدينة، وقد تقد فيهم بيان قبل هذا في باب فضل الزهد في الدنيا، ووقع هكذا في الرواية: لا يأوون على أهل والكثير «إلى» بدل «على» وقوله: ولا على أحد تعميم بعد تخصيص فيشمل الأقارب والأصدقاء وغيرهم، وجملة ولا يأوون في محل الحال (وكان إذا أتته صدقه بعث بها إليهم ولم يتناول) وفي رواية روح ولم يصب (منها شيئاً) أي لنفسه وزاد روح ولم يشركهم فيها لحرمة الصدقة عليه لعلو مقامه (وإذا أتته هدية أرسل إليهم) أي ببعضها كما يدل عليه قوله: (وأصاب منها وأشركهم فيها) وهذه الجملة الأخيرة كالإطناب فيها إيماء إلى أنه يجعل لهم منها حظاً وافراً، وأما هو في نصيبه منها فلا يستكثر إيثاراً، والجملة الشرطية وما عطف عليها مستأنفة فيها بيان معاملته معهم واعتنائه بأمرهم، وما ذكر من بعث الصدقة وبعث الهدية لأهل الصفة هو أحد أحواله معهم، وتارة كان إذا أتاه شيء

وقيل له إنه صدقة أمر من عنده بأكله ولم يأكل منه، وإن قيل: إنه هدية ضرب بيده وأكل منه، وحمل على أن هذا كان قبل بناء الصفة وكان يقسم الصدقة فيمن يستحقها ويأكل الهدية فيمن حضر من أصحابه، ويحتمل أن يكون باختلاف حالين فيحمل حديث الباب على ما إذا لم يحضره أحد فإنه يرسل ببعض الهدية إلى أهل الصفة أن يدعوهم كما في قصة الباب، وإن حضر أحد شركه في الهدية وإن كان هناك فضل أرسل به إلى أهل الصفة أو دعاهم، ووقع في حديث أحمد عن طلحة بن عمر: نزلت في الصفة مع رجل كان بيني وبينه كل يوم مدّ من تمر وهو محمول على اختلاف الأحوال، كان أولاً ينزل إلى أهل الصفة مما حضره أو يدعوهم أو يفرقه على من حضر إن لم يحضر ما يكفيهم، فلما فتحت فدك وغيرها صار يجري عليهم من التمر في كل يوم ما ذكره اهـ ملخصاً من «الفتح» (فساءني) بالمد: أي أحزنني (ذلك) أي قوله: ادعهم لي لمزيد ضرورتي وشدة فاقتي ظن أن ذلك اللبن لا يزيد عن حاجته كما هو مقتضى العادة فيه فلذا قال: (فقلت وما هذا اللبن) والواو عاطفة على محذوف والإشارة للتحقير (في أهل الصفة؟) وهم عدد كثير، وفي رواية: «وأين يقع هذا اللبن في أهل الصفة؟» (كنت أحق) أي أولى به (أن أصيب) وحذف المفضل عليه مجروراً بمن لدلالة السياق عليه: أي أولى منهم إصابة (من هذا اللبن شربة أتقوى بها) أي أصير ذا قوة من ضعف الجوع بسببها، يقال: تحجر الطين: أي صار حجراً، ويجوز أن يكون بمعنى المجرد: أي أقوى بها بعد الضعف (فإذا جاء) قال الحافظ في «الفتح» كذا فيه بالإفراد: أي من أمرني بطلبه، والأكثر جاءوا بصيغة الجمع اهـ، والموجود في بعض نسخ الرياض الوجه الثاني (أمرني) أي النبي (فكنت أنا أعطيهم) وكأنه عرف ذلك بالعادة لأنه كان يلازم النبي ويخدمه (وما عسى أن يبلغني) أي يصل إلى (من هذا اللبن) بعد أن يكتفوا منه، وقال الكرماني: لفظ عسى زائد، ووقع في رواية يونس بن بكير: «فيأمرني أن أديره عليهم وما عسى أن يصيبني منه، وقد كنت أرجو أن أصيب منه ما يقيتني» : أي من جوع ذلك اليوم (ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بد) أي محيد. قال في «المصباح» : لا بد من كذا: أي لا محيد عنه، ولا يعرف استعماله إلا مقروناً بالنفي اهـ. وذلك لأن شكر المنعم سبحانه واجب شرعاً وطاعة الرسول له سبحانه، قال تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع ا} (النساء: 80) (فأتيتهم) أي عقب الأمر لي بدعوتهم وإن كان على خلاف هواي (فدعوتهم)

قال الكرماني: وظاهر قوله: «فأتيتهم» أن الإتيان والدعوة وقعا بعد الإعطاء وليس كذلك، ثم أجاب أن معنى قوله: «فكنت أنا أعطيهم» عطف على جواب «فإذا جاءوا» ، فهي بمعنى الاستقبال، قال في «الفتح» : وهو ظاهر من السياق (فأقبلوا فاستأذنوا) أي سألوا الإذن في الدخول (فأذن لهم) بالبناء للفاعل كذا في النسخ: أي النبي، ولو قرىء بالبناء للمفعول لجاز لأن المدار على وجود الإذن من أي كان، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم} (الأحزاب: 53) (فأخذوا مجالسهم) أي فقعد كل منهم في المجلس اللائق به (من البيت) أي بيت النبي وقد أمر بإنزال الناس منازلهم كما رواه مسلم في أول «صحيحه» عن عائشة معلقاً، قال الحافظ في «الفتح» : ولم أقف على عددهم إذ ذاك، قال أبو نعيم: عدد أهل الصفة يختلف بحسب الحال، فربما اجتمعوا فكثروا وربما تفرّقوا إما لغزو أو سفر أو استغناء فقلوا. ووقع في عوارف المعارف أنهم كانوا أربعمائة، وفي «المصباح» : المجلس: أي بفتح أوله وثالثه: مكان الجلوس والجمع مجالس. وقد يطلق على أهله مجازاً تسمية للحال باسم المحل اهـ (قال: يا أبا هرّ: قلت لبيك يا رسولالله، قال: خذ) أي قدح اللبن المدلول عليه بالسياق والسباق (فأعطهم، فأخذت القدح فجعلت) أي شرعت (أعطيه الرجل) والإتيان به حكاية للحال الماضية إشارة لكمال استحضار القصة، ولولا ذلك لقال فأعطيته الرجل، وأل في الرجل للجنس (فيشرب حتى يروي ثم) فيه إيماء إلى طول شرب الرجل منهم، وذلك لمزيد الجوع وتمام الفاقة (يرد) بالبناء للفاعل (عليّ القدح فأعطيه) أي عقب رده (الآخر) أي الذي إلى جنبه، وهذه رواية يونس، وفي رواية علي بن مسهر «فجعلت أناول الإناء رجلاً رجلاً، فإذا روي أخذته فناولته الآخر حتى روي القوم جميعاً» ووقع في بعض نسخ البخاري: فأعطيته الرجل، وعليها شرح الحافظ كالكرماني فقال: أي الذي إلى جنبه، وهذا فيه أن المعرفة إذا أعيدت معرفة لا تكون عين الأولى. قال: والتحقيق أن ذلك لا يطرد بل الأصل أن تكون عينه إلا أن يكون هناك قرينة. قال الحافظ بعد ذكر اختلاف الروايات كما ذكرنا: وعليه فاللفظ المذكور من تصرف الرواة، فلا حاجة فيه لخرم القاعدة (فيشرب حتى يروي ثم يرد عليّ القدح) وقوله: (حتى

انتهيت إلى النبي) أي فأعطيه غاية لمقدر: أي عممتهم أجمعين حتى انتهيت إليه (وقد روي القوم كلهم) جملة في محل الحال، وقد للتحقيق إيماء إلى أنه تحقق لهم الري المطلوب، وأكد القوم بكلهم دفعاً لتوهم أن المراد ري بعضهم (فأخذ القدح) أي وقد بقيت فيه فضلة من اللبن كما في رواية روح (فوضعه على يده فنظر إلي فتبسم) قال الحافظ في «الفتح» : كأنه تفرس في أبي هريرة ما كان وقع في توهمه أنه لا يفضل له شيء من اللبن فلذا تبسم. قلت: ويجوز أن يكون قد اطلع على ذلك ككثير من المغيبات (فقال: أبا هر) كذا في رواية، وفي رواية ابن مسهر هنا وفيما ذكر أوله: «أبو هرّ» بالواو وهو على تقدير الاستفهام: أي أنت أبو هريرة أو على لغة من لا يعرب الكنية (فقلت: لبيك يا رسولالله، قال: بقيت أنا وأنت) كأنه بالنسبة لمن حضر من أهل الصفة، وأما من كان في البيت من أهل النبي فلم يتعرض لذكرهم، ويحتمل أن البيت إذ ذاك ما كان فيه أحد منهم، أو أخذوا كفايتهم، والذي في القدح نصيبه (قلت: صدقت يا رسول الله) وهذه الجملة والتي قبلها من باب لازم الخبر (قال: اقعد فاشرب) فيه أن اللبن كغيره من المشروبات في استحباب الجلوس عند شربه، بخلاف المص للمشروب فإنه يستحب فيما عدا اللبن، أما هو فيعبه عباً لأن ما شرع له المص من خوف الشرقة به مفقود في اللبن لقوله تعالى: {سائغاً للشاربين} (النحل: 66) قال الحافظ السيوطي: لم يشرق باللبن أحد أصلاً (فقعدت فشربت فما زال يقول لي: اشرب) أي لما علم من مزيد حاجته وشدة فاقته، ولأنه ربما يترك بعض حاجته ليبقى بعضه للنبي فأمره بذلك ليستوفي إربه، وظاهر أنه كرّر ذلك مراراً، والمذكور في أدب الضيافة أن المضيف يقول نحو ذلك للضيف إلى ثلاثة لا يجاوزها (حتى قلت: لا) المنفي محذوف: أي لا أشرب ثم علل ذلك على وجه الاستئناف البياني مؤكداً بالقسم بقوله: (والذي بعثك) أي أرسلك ملتبساً (بالحق لا أجد له مسلكاً) بفتح أوله وثالثه وسكون ثانيه المهمل بينهما: أي مكاناً يسلك فيه مني (قال فأرني) وفي رواية روح فقال:

ناولني القدح (فأعطيته القدح فحمد الله تعالى) أي على ما منّ به من البركة في اللبن المذكور مع قلته حتى روي القوم كلهم وأفضلوا (وسمى) في ابتداء الشرب (وشرب الفضلة) أي البقية، وفي رواية روح: فشرب من الفضلة، وفيه إشعار بأنه بقي بعضه فإن كانت محفوظة فلعله أعدها لمن بقي بالبيت إن كان (رواه البخاري) في «الرقاق» من «صحيحه» ووقع في «الأطراف» أنه رواه في الاستئذان وهو وهم، إلا إن أراد أنه رواه كذلك مختصراً بنحوه في الباب المذكور كما نبهت عليه في حاشية كتاب «الأطراف» ، ورواه الترمذي في الزهد من «جامعه» ، والنسائي في الرقاق من «سننه» .g وفي الحديث من الفوائد من علامات النبوة تكثير الطعام والشراب ببركته، وفيه جواز الشبع ولو بلغ أقصى غايته أخذاً من قول أبي هريرة لا أجد له مسلكاً، وتقرير النبيّ له على جوازه خلافاً لمن قال بتحريمه، والجمع بين ذلك وبين الأحاديث الواردة بالزجر عن الشبع بحمل الزجر على متخذ الشبع عادة لما يترتب عليه من الكسل عن العبادة وغيرها، وحمل الجواز على من وقع له ذلك نادراً، لا سيما بعد شدة جوع واستبعاد حصول شيء بعده عن قرب. تنبيه: قال في «الفتح» : وقع لأبي هريرة قصة أخرى في تكثير الطعام مع أهل الصفة. أخرج ابن حبان عن أبي هريرة قال: «أتت عليّ ثلاثة أيام لم أطعم، فجئت أريد الصفة فجعلت أسقط، فجعل الصبيان يقولون: جنّ أبو هريرة حتى انتهيت إلى الصفة، فوافقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى بقصعة من ثريد، فدعا عليها أهل الصفة وهم يأكلون منها، فجعلت أتطاول لكي يدعوني حتى قاموا وليس في القصعة إلا شيء في نواحيها، فجمعه فصار لقمة فوضعها على أصابعه فقال لي: كل باسمالله، فوالذي نفسي بيده ما زلت آكل منها حتى شبعت» اهـ. 13 - (وعن محمد بن سيرين) بكسر المهملة وسكون التحتية وبالراء ثم تحتية ثم نون غير منصرف للعلمية والعجمة، وابن سيرين تابعي يكنى أبا بكر، بصري ثقة ثبت، عابد كبير القدر من أوساط التابعين، مات سنة عشر ومائة، روى عنه الستة كذا في «تقريب» الحافظ (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لقد رأيتني) أي أبصرتني وهذا طرف من أواخر حديثة، وأوله: «كنا عند أبي هريرة وعليه ثوبان ممشقان من كتان، فتمخط فقال: بخ بخ أبو هريرة يتمخط في الكتان، ولقد رأيتني» وكان على المصنف ذكر الواو لينبه على أن ما ذكر بعض

حديث معطوف على شيء تقدمه (وإني لأخر) بكسر الخاء المعجمة: أي لأسقط والجملة حال من فاعل رأيتني أو مفعوله (فيما) أي في المكان الذي أو مكان (بين منبر) بكسر فسكون ففتح، من النبر بالنون فالموحدة: الارتفاع (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حجرة عائشة رضي الله عنها) القياس وحجرة عائشة لأن بين لا تضاف إلا إلى متعدد، وكذا رأيته عزاه الحافظ في باب الرقاق من «الفتح» إلى باب الاعتصام، لكن في باب الاعتصام من «الصحيح» بلفظ إلى، وفي كتب النحو فيما اختصت به الواو العاطفة عن باقي العواطف عطف ما لا يستغني عنه كجلست بين زيد وعمرو، ولذا كان الأصمعي يقول: الصواب بين الدخول وحومل، لا فحومل. وأجيب بأن التقدير بين نواحي الدخول فهو كقولك دخلت بين الزيدين، أو أن الدخول مشتمل على أماكن ذكره في «مغني اللبيب» ، والجواب الأول ممكن هنا: أي ما بين ساحات المنبر إلى حجرة عائشة وما بين المنبر وحجرة عائشة: أي بيتها، وهي مدفنه حذاء الروضة طولاً (مغشياً علي) هذا محط الفائدة ومقصد الإخبار: أي مغمي علي، والإغماء زوال الشعور مع فتور في الأعضاء (فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي ويرى أني مجنون) أي وتلك عادتهم بالمجنون حتى يفيق وجملة يرى محتملة للحالية وللاستئناف البياني (وما بي من) مزيدة للتنصيص على العموم الظاهر فيه (جنون) لكونه نكرة في سياق النفي، وهو مبتدأ والظرف قبله خبر قدم عليه اهتماماً واعتناء (وما بي) الباء فيه سببية: أي ليس سبب إغمائي (إلا الجوع. رواه البخاري) في باب الاعتصام، ورواه الترمذي في الزهد من «جامعه» ، وقال: حسن صحيح غريب، ورواه في «الشمائل» بنحوه. 14 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودرعه) بكسر الدال المهملة: ما يلبس في الحرب، زاد البخاري في أول البيوع عنها: ورهنه درعاً من حديد (مرهونة عند يهودي) هو أبو الشحم، قال الحافظ في «الفتح» : كما بينه الشافعي ثم البيهقي

من طريق جعفر ابن محمد عن أبيه أن النبي رهن درعاً له عند أبي الشحم اليهودي رجل من بني ظفر في شعير، وأبو الشحم اسمه كنيته، وظفر الهمزة وكسر الموحدة اسم فاعل من الإباء. قال العلماء: الحكمة في عدوله عن معاملة مياسير الصحابة إلى معاملة اليهود، وإما لبيان الجواز، أو لأنهم لم يكن عندهم إذ ذاك طعام فاضل عن حاجة من عندهم، أو خشي أنهم لا يأخذون ثمناً أو عوضاً فلم يرد التضييق عليهم، فإنه لا يبعد أن يكون فيهم إذ ذاك من يقدر منه على ذلك أو أكثر منه، فلعله لم يطلعهم على ذلك وإنما طلع عليه من لم يكن موسراً به ممن نقل ذلك اهـ (في ثلاثين صاعاً) وقيل في عشرين، وقيل: في أربعين، وقيل: وسقاً بدل الصاع كما ورد كل منها، قال الشيخ زكريا في «تحفة القاريء» ، وجمع في «الفتح» بين روايتي عشرين وثلاثين بأنه لعله كان ناقصاً عن الثلاثين فجبر بذلك الكسر وألغى أخرى. قال: ووقع لابن حبان عن أنس أن قيمة الطعام كانت ديناراً (من شعير) قال الشيخ زكريا في «شرح البهجة» : قيل افتكه قبل موته لخبر «نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضي» وهو منزّه عن ذلك والأصح خلافه لقول ابن عباس رضي الله عنهما «توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودرعه مرهونة عند يهودي» أي ولحديث الباب، والحديث الأول محمول على من لم يخلف وفاء. قال السبكي: مع أنه ليس من الخبر لأن دينه ليس لمصلحة نفسه، لأنه غنيّ با، وإنما أخذ الشعير لأهله وهو متصرف عليهم بالولاية العامة فلا يتعلق الدين به بل بهم، ولم يثبت أنه كان عليه ديون وإن ثبت فهو لمصلحة المسلمين، وإذا استدان الإمام لمصالحهم كان عليهم لا عليه. فإن قيل: هذا فيما استدانه للجهات العامة دون ما استدانه لأهله، فإنه وكيل عليهم والوكيل تتعلق به العهدة. والجواب: أنه أولى بالمؤمنين، فهو يتصرف عليهم بهذه الولاية التي ليست لغيره من الأئمة ولا يخفى ما فيه اهـ كلام الشيخ زكريا. أقول: يمكن أن يجاب بأن المختار عند الأصوليين عدم دخول المتكلم في عموم كلامه، فذلك في حق من سواه، أما هو فلا يحبس عن علي مقامه تشريفاً له والله أعلم. وفي «فتح الباري» : فيه أي في حديث: «توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودرعه مرهونة» دليل على أن المراد بقوله في حديث أبي هريرة: «نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضي عنه» وهو حديث صححه ابن حبان وغيره من لم يترك عند صاحب الدين ما يحصل به الوفاء وإليه جنح الماوردي، وذكر ابن الطلاع في الأقضية النبوية أن أبا بكر افتك الدرع بعد النبي، لكن روى ابن سعد أن أبا بكر قضى عدات النبي وأن علياً قضى ديونه، وروى إسحاق بن راهويه في «مسنده» عن الشعبي مرسلاً أن أبا بكر افتكها وسلمها لعلي، وأما من أجاب بأنه

افتكها قبل موته بثلاثة أيام فمعارض بحديث عائشة اهـ (متفق عليه) رواه البخاري في أبواب من «صحيحه» بعضها باللفظ المذكور وبعضها بنحوه، ورواه مسلم في البيوع، ورواه النسائي وابن ماجه. 15 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: رهن النبيّ درعه) لفظ البخاري درعاً له، فيه أنه من أدراعه لا الذي كان يعتاد لبسه (بشعير) أي مقابلة بثمن الشعير الذي شراه نسيئة، ففي الحديث مضاف مقدر والباء فيه للمقابلة، ويصح كونها باء السببية ولا مضاف: أي بسبب الشعير الذي شراه نسيئة (ومشيت إلى النبي بخبز شعير) قال الحافظ في كتاب الرهن من «الفتح» : ووقع لأحمد عن أنس: «لقد دعي نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يوم على خبز شعير وإهالة سنخة» ، فكأن اليهودي دعا النبي على لسان أنس، فلذا قال: مشيت إليه بخلاف ما يقتضيه ظاهره (وإهالة سنخة) بالسين المهملة، قال الشيخ زكريا: ويروى زنخة بالزاي بدلها والباقي سواء، ففيه إعراضه عن المشهيّات واجتزاؤه بما يسد الحاجة من القوت حتى حمل إليه مثل ذلك (ولقد سمعته) ظاهره أن هذا من كلام أنس، ومرجع الضمير البارز للنبي: أي قال أنس: سمعت النبي، وهو ما فهمه الحافظ ابن حجر، ورد على الكرماني قوله وهو كلام قتادة، والضمير المنصوب فيه لأنس. قال الحافظ: ويرد عليه أنه أخرجه أحمد وابن ماجه عن أنس بلفظ: «ولقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «والذي نفس محمد بيده» فذكر الحديث بلفظ ابن ماجه وساقه أحمد بتمامه (يقول) مسلياً لأولي الفقر والحاجة من أمته (ما أصبح لآل محمد) أي عندهم كقوله تعالى: {أثم الصلاة لدلوك الشمس} (الإسراء: 78) أي عنده كما يدل عليه لفظ البخاري في أوائل البيوع: «ما أمسى عند آل محمد صاع برّ» الحديث، قال في «تحفة القارىء» : وآل مقحم. قلت: ويجوز إبقاؤه على ظاهره خصوصاً ومذهب البصريين وهو المختار منع زيادة الأسماء، ويؤيده عود الضمير إليه من قوله وإنهم لتسعة أبيات (إلا صاع) أي مكيلة من الطعام لكن في باب شراء النبي نسيئة أوائل البيوع من «صحيح البخاري» في حديث الباب عن أنس: «ولقد سمعته يقول: ما

أمسى عند آل محمد صاع برّ لا صاع حبّ» ويمكن الجمع بأن المنفي في رواية: «صاع» تام من نوع واحد، والمثبت صاع مجمع من أقوات كما يبينه أنه في جانب النفي بين فرداً خاصاً ثم عطف عليه ما يعمه وغيره، وفي جانب الإثبات لم يبين إبهام الصاع والله أعلم (ولا أمسى) أي لهم سواه كما صرح به أبو نعيم في روايته في «مستخرجه» بلفظ: ولا أمسى إلا صاع، وحذف ذلك إيجازاً لدلالة ما قبله عليه (وإنهم) أي آله الذين ينفق عليهم من زوجاته ومن يلوذ بهن (لتسعة أبيات) هذا بالنسبة للزوجات، وكان له مارية وريحانة يطؤهما بملك اليمين، وجملة وإنهم في محل الحال من الظرف، قال الحافظ في «الفتح» : ويناسبه ذكر أنس لهذا القدر مع ما قبله الإشارة إلى سبب قوله هذا، وأنه لم يقله متضجراً ولا شاكياً. معاذالله، إنما قاله متعذراً عن إجابته لدعوة اليهودي ولرهنه درعه عنده، ولعل هذا هو الحامل للذي زعم أنه قائل ذلك هو أنس فراراً من أن يظن به أنه قاله تضجراً، والله أعلم (رواه البخاري) في البيوع والرهن، ورواه الترمذي في البيوع من «جامعه» وقال: حسن صحيح، والنسائي في البيوع أيضاً، وابن ماجه في «الأحكام» (الإهالة بكسر الهمزة) وتخفيف الهاء واللام (الشحم الذائب) وفي «المصباح» هي الودك المذاب، وفي «التحفة» : هي ما يؤتدم به من الأدهان كالألية، وهما قولان، ففي «النهاية» كل شيء من الأدهان يؤتدم به إهالة، وقيل: هو ما أذيب من الألية والشحم وبهذا بدأ الحافظ في «الفتح» ، وقيل: هو الدمس الجامد. قلت: وعلى الأول والاخير فيشمل السمن ونحوه من الزبد (وانسنخة بالنون) المكسورة، قال الحافظ: ويقال فيها بالزاي بدل السين (والخاء المعجمة، وهي المتغيرة) أي متغيرة الرائحة من طول المكث كما في «تحفة القارىء» ، ففي الحديث كمال تواضعه وزهده وتقلله من الدنيا مع قدرته عليها، وكرمه الذي أفضى به إلى عدم الإدخار حتى احتاج إلى رهن درعه. 16 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لقد رأيت سبعين) بتقديم المهملة على الموحدة (من أهل الصفة) من فيه تبعيضية لما تقدم قريباً من أنهم يبلغون إلى أربعمائة (ما

منهم رجل عليه رداء) أي لا رداء، وهو الساتر لأعلى البدن على أحد منهم وإنما معهم ما يسترون به عورتهم إما بكسر الهمزة للتفضيل (إزار وإما كساء) وهو مبتدأ خبره محذوف: أي ما لهم ذلك أو ذلك (قد ربطوا) بحذف العائد وهو المفعول به: أي ربطوه (في أعناقهم) وذلك للاستمساك فيدوم ستر العورة (منها) أي الأزر والأكسية المدلول عليها بما ذكر (ما يبلغ نصف الساقين) أفرد المضاف إلى المثنى وهو جائز كتثنيته وجمعه كقطعت رأسي الكبشين وكحديث «كان شعاره إلى أنصاف أذنيه» وقوله تعالى: {فقد صغت قلوبكما} (التحريم: 4) وفي «المصباح» : الساق من الأعضاء أنثى، وهي ما بين الركبة والقدم وتصغيرها سويقة اهـ (ومنها ما يبلغ) أي يدرك (الكعبين) قال في «المصباح» : الكعب من الإنسان اختلف فيه أئمة اللغة، قال أبو عمرو بن العلاء والأصمعي: الناتىء عند ملتقى الساق والقدم فيكون لكل قدم كعبان عن يمينها وشمالها، وقد صرح بهذا الأزهري وجماعة، وقال ابن الأعرابي وغيره: الكعب هو المفصل بين الساق والقدم، وذهب الشيعة إلى أن الكعب في ظهر القدم، وأنكره أئمة اللغة كالأصمعي وغيره اهـ. وظاهر أن المراد هنا لا يختلف على قول أهل اللغة الستة المذكورين إذ المراد التقريب لا التحديد، فما أدرك الناتىء قارب إدراك المفصل وبالعكس، والأول أبلغ في الإعراض عن الدنيا اللائق بأحوالهم (فيجمعه) أي الرجل أعاد الضمير أولاً مجموعاً في قوله قد ربطوا باعتبار المعنى، إذ المراد من رجل العموم وإفراده هنا باعتبار لفظه: أي فيجمع ما ذكر من الإزار والكساء (بيده كراهية) بتخفيف التحتية وهو الكراهة بحذفها مصدر كره الأمر يكرهه وهو مفعول له علة للجمع: أي استقباح (أن ترى عورته) من طرفي نحو الإزار لصغره (رواه البخاري) في الصلاة من «صحيحه» وقد سبق الحديث في الباب قبله. 17 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان فراش رسول الله) أي الذي ينام عليه (من أدم) بفتح أوليه والدال مهملة جمع أديم: الجلد المدبوغ (حشوه) أي محشوه مصدر

بمعنى المفعول (ليف) بكسر اللام وسكون التحتية، قال في «الصحاح» : الليف للنخل واحده ليفة (رواه البخاري) . 18 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا جلوساً) بضم أوليه جمع جالس (مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء رجل من الأنصار) أي وقت مجيء الرجل الأنصاري وتقدم أنها تحتمل المفاجأة بناء على قول أبي عبيدة بإفادتها له (فسلم عليه) أي على النبي (فقال رسول الله: يا أخا الأنصار) أي يا واحداً من الأنصار في «الكشاف» في قوله تعالى: {إذ قال لهم أخوهم نوح} (الشعراء: 106) قيل أخوهم لأنه كان منهم من قول العرب يا أخا بني تميم يريدون يا واحداً منهم، ومنه بيت الحماسة: لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهاناً (كيف أخي) فيه كمال تواضعه ومزيد فضله إذ أطلق هذا اللفظ في حقه تشريفاً له، وفيه إيماء إلى صدق إيمانه فيكون فيه تلميح إلى قوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} (الحجرات: 10) (سعد بن عبادة) سيد الخزرج (فقال صالح) خبر مبتدأ محذوف لدلالة السؤال عليه ففيه استحباب مثله لمن سأل عن حال مريض من نفسه أو غيره. وفي الحديث: «أن علياً رضي الله عنه خرج من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في اليوم الذي توفي فيه النبيّ فقال: بخير، أصبح بارئاً بحمد ا» وقوله صالح: أي للشفاء عند مجيء إبانها في العلم الأزلي وهو كناية عن مرضه، فلذا توجه لعيادته (فقال رسول الله: من يعوده منكم) فيه أن العيادة مطلوبة على الكفاية (فقام وقمنا معه) ظاهره قيام جميع حاضري المجلس معه (ونحن بضعة عشر) البضعة بكسر الموحدة ما بين العقدين من العدد (ما علينا نعال) بكسر النون جمع نعل أي في أقدامنا (ولا خفاف) بكسر أوله أيضاً جمع خف بضمه، قال في «المصباح» : الخفّ

الملبوس جمعه خفاف ككتاب: أي بل كنا حفاة (ولا قلانس) هي كالقلاسي جمع قلنسوة بوزن فعنلوة بفتح أوليه وسكون النون وضم اللام، وفي «التهذيب» للمصنف: القلنسوة هي التي تلبس، النون فيها زائدة وهي معروفة وفيها لغتان ذكرهما الجوهري وغيره، قال الجوهري: هي القلنسوة والقلنسية إذا فتحت القاف ضمت السين، وإن ضمت القاف كسرت السين وقلبت الواو ياء، فإذا جمعت أو صغرت فأنت بالخيار في حذف الواو أو النون لأنهما زائدتان، وإن شئت حذفت الواو فقلت قلانس، وإن شئت حذفت النون قلت: قلاس، وإن جمعت القلنسوة بحذف الهاء قلت: قلنس والأصل قلنسو، وإلا أن الواو رفضت لأنه ليس في الأسماء: أي المعربة اسم آخره حرف علة قبله ضمة، فإذا أدى إلى ذلك قياس وجب رفضه وتبدل من الضمة كسرة فيصير آخر الاسم ياء مكسوراً ما قبلها فتحذف كهي في غاز اهـ ملخصاً (ولا قمص) بضمتين جمع قميص ويجمع على قمصان: الثوب المعروف الملبوس على البدن وجملة النفي في محل الحال من المبتدأ على مذهب سيبويه، ويصح أن يكون خبراً بعد خبر كجملة (نمشي في تلك السباخ) بكسر المهملة وبالموحدة جمع سبخة، بوزن تمرة أما سبخة بوزن كلمة فجمعها سبخات ككلمة وكلمات، والأرض السبخة قال في «النهاية» : هي التي يعلوها الملوحة ولا تكاد تنبت إلا بعض الشجر. وفي هذه الجملة دلالة على الاقتصار على قليل الملبوس والإعراض عما زاد على الضرورة، وظاهر العبارة أنه حينئذ كان كذلك ليتأسوا به ويقتدوا بهديه (حتى جئناه) غاية للمشي (فاستأخر قومه) الخزرج أو الأنصار (من حوله حتى دنا) أي قرب منه (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الذين) جاءوا (معه) إكراماً للوافد وإنزالاً للناس منازلهم وليتأنس بهم المريض ويذهب عنه بعض الكلال الذي يحصل له من طول ملازمة من عنده إن كان (رواه مسلم) في الجنائز من «صحيحه» . 19 - (وعن عمران) بكسر المهملة (ابن حصين) بضم المهملة الأولى وفتح الثانية وسكون التحتية بعدها نون (رضي الله عنهما عن النبيّ قال: خيركم) أيها الأمة وحذف «المصنف لفظ» إن من أول الحديث وهي ثابتة عند مسلم (قرني) وفي لفظ آخر لهما: «خير أمتي قرني» وفي لفظ آخر لمسلم: «خير الناس قرني» وحديث الباب بمعناه كما قدرناه. قال

السيوطي في «الترشيح» : القرن أهل زمان واحد متقارب اشتركوا في أمر من الأمور المقصودة، والأصح ألا يضبط بمدة فقرنه هم الصحابة وكانت مدتهم من المبعث إلى آخر من مات من الصحابة مائة وعشرين سنة (ثم الذين يلونهم) أي ثم قرن التابعين، وقرنهم من سنة مائة نحو سبعين (ثم الذين يلونهم) أي من أتباع التابعين، وقرنهم من ثمة إلى حدود العشرين ومائتين، ومن هذا الوقت ظهرت البدع ظهوراً فاشياً وأطلقت المعتزلة ألسنتها، ورفعت الفلاسفة رؤوسها وامتحن أهل العلم ليقولوا بخلق القرآن وتغيرت الأحوال تغيراً شديداً ولم يزل الأمر في نقص إلى الآن اهـ. قال المصنف: والمراد تفضيل جملة القرن، ولا يلزم منه تفضيل الصحابي على الأنبياء ولا تفضيل أفراد النساء على مريم وآسية وغيرهما بل المراد جملة القرن بالنسبة إلى جملة القرن. حكي عن عياض عن المغيرة قال: قرنه أصحابه، والذين يلونهم أبناؤهم، والثالث أبناء إبنائهم، وقال سهل: قرنه ما بقيت عين رأته، والثاني ما بقيت عين رأت من رآه ثم كذلك (قال عمران) هذا من كلام أحد الرواة عنه، ويحتمل على بعد أن يكون عبر عن نفسه باسمه كما هي طريق كثير من الأوائل (فما أدري، قال النبي) ثم الذين يلونهم (مرتين أو) قالها (ثلاثاً) وشرف القرن الرابع باعتبار من فيه من أئمة الإسلام الناصرين للحق الذابين عنه، المجاهدين في سبيلالله، الصابرين على ما أصابهم في سبيله كالإمام أحمد بن حنبل وأضرابه (ثم يكون بعدهم) أي أهل القرون المشهود لهم بالأخيرية (قوم يشهدون ولا يستشهدون) قال المصنف في «شرح مسلم» : هذا غير مخالف لحديث: «خير الشهود الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسأل عنها» لأن ذلك محمول على دعاوى الحسبة أو على إعلام ذي الحق بأنك تشهد به وهو لا يعلم شهادتك به، وحديث الباب محمول على الشهادة لذي الحق العالم بها عند الحاكم قبل طلبها منه أو على شاهد الزور أو على من ينتصب شاهداً وليس هو من أهل الشهادة أو على من يشهد لقوم بالجنة أو النار من غير توقيف، وهذا ضعيف اهـ ملخصاً (ويخونون ولا يؤتمنون) قال المصنف في «شرح مسلم» بعد أو أورده بلفظ يتمنون بالتشديد الفوقية: كذا في أكثر النسخ، يعني من مسلم، وفي بعضها يؤتمنون ومعناه يخونون خيانة ظاهرة بحيث لا يبقى معها أمانة، بخلاف من خان بحقير مرة واحدة فإنه يصدق عليه أن خان

فلا يخرج عن الأمانة في بعض المواطن اهـ.d قلت: ويصح أن يكون جملة النفي في محل الحال: أي إن طبعهم الخيانة مع عدم الائتمان لهم فليس لهم سوى وبال العزم عليها من غير ظفر بشيء والله أعلم (وينذرون) بفتح الفوقية وضم الذال المعجمة وكسرها لغتان كما في المصنف (ولا يوفون) قال في «شرح مسلم» : وفي رواية: «ولا يفون» وهما صحيحتان يقال وفي وأوفى (ويظهر فيهم السمن) أي كثرة اللحم: أي إنه يكثر ذلك فيهم، وليس الخلقي منهم مذموماً بل المكتسب له بالتوسع في المأكل والمشرب وغير زيادة على المعتاد، وقيل: المراد التكثر مما ليس لهم وادعاء ما ليس لهم من الشرف وغيره، وقيل: المراد جمعهم الأموال (متفق عليه) أخرجه البخاري في الشهادات وفضل الصحابة وغيرهما من «صحيحه» ، ومسلم في الفضائل، ورواه النسائي في النذور. 20ــــ (وعن أبي أمامة) بضم الهمزة وميمين خفيفين بينهما ألف (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «با ابن آدم إنك إن) بفتح الهمزة (تبذل الفضل) أي بذلك الفضل منصوب بدل اشتمال من اسم أن، والفضل بفتح الفاء وسكون الضاد المعجمة أفضل عما يحتاج إليه عادة (خير لك) ليبقى لك غلته، ويحتمل أن يكوم مصدراً (وأن تمسكه شر لك) لأنك ربما لا تؤدي الحقوق الواجبة، وقد يشغل به القلب الذي هو بيت الرب ومحل نظره من العبد عن التوجه إليه (ولا تلام) بضم الفوقية مبني للمجهول: أي لا يلحقك لوم: أي عتب من الشرع (على كفاف) بفتح أوليه: أي قدر الحاجة من طعام وشراب وملبس ومسكن وخادم احتاجه، قال القرطبي: وهو ما يكف عن الحاجات ويدفع الضرورات والفاقات ولا يلحق بأهل الترفهات، وهذا أحسن الأحوال لسلامته من وصمه كل من الفقر والغنى (وابدأ) في الإنفاق (بما تعول) أي بحق الذي تعوله وتمونه من زوجة وأصل أو فرع محتاج أو خادم فالعائد محذوف، أو بعائلتك فما موصولة أو مصدرية (رواه الترمذي)

في الزهد من «جامعه» (وقال: حديث حسن صحيح) وأخرجه مسلم في الزكاة من «صحيحه» وكان عزوه إليه أولى، وكأنه غاب عن الشيخ ولا عيب على الإنسان في النسيان. 21 - (وعن عبيد ا) بصيغة التصغير (ابن محصن) بكسر الميم وسكون المهملة الأولى وفتح الثانية آخره نون (الأنصاري) رأى (رضي الله عنه) النبي قال في «أسد الغابة» بعد أو أن أورد حديث الباب: وقال أبو عمرو يعني ابن عبد البرّ: منهم من جعل حديثه مرسلاً والأكثر يصحح صحبته فيجعل حديثه مسنداً، روي عنه أبو سلمة أيضاً اهـ (قال: قال رسول الله: «من أصبح منكم» ) الخطاب للحاضرين بمجلسه وحكمه على الواحد حكمه على الجماعة (آمناً) من عدوه (في سربه) على نفسه وبضعه وأهله وماله (معافى في جسده) من الأمراض لأن معها لا سيما الشديد منها يذهل المرء عن نظره في حسن حاله وما أنعم المولى به عليه من أمن وسعة (عنده قوت يومه) من طعام وشراب وسائر ما يحتاج إليه من أدوية ونحوها (فكأنما حيزت) بكسر المهملة وسكون التحتية بعدها زاي: أي ضمت وجمعت (له الدنيا) وفي رواية زيادة «بحذافيرها» أي بجوانبها أي فكأنما أعطي الدنيا بأسرها (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) ورواه البخاري في «الأدب المفرد» وابن ماجه (سربه بكسر السين المهملة) وسكون الراء وبالموحدة المجرورة على الحكاية (أي نفسه) قاله في «النهاية» قال: ويروى بالفتح وهو المسلك والطريق، يقال خلّ له سربه: أي طريقه، قلت: وعليه فيكون مجازاً عن الأمن أيضاً فيرجع إلى الأول (وقيل: قومه) قلت: كأن قائله أخذه من قول اللغويين: السرب أي بكسر أوله الجماعة من النساء والبقر والشاة والقطاة والوحش كذا في «المصباح» ، فجرد السرب عن قيد النساء الخ، وأراد به مطلق جماعته وقومه والله أعلم.

22 - (وعن عبد الله بن عمرو بفتح المهملة) ابن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قد أفلح» أي فاز بالفلاح وهو الفوز والبقاء والظفر (من أسلم) بدأ به لأنه الأساس في الاعتداد بقبول صالح الأعمال، والمراد الإسلام الصحيح المخلص فيه لأنه الكامل فينصرف المطلق إليه (وكان رزقه كفافاً) أي بقدر الحاجة لا يفضل عنه، قال المصنف: هي الكفاية من غير زيادة ولا نقص، وفيه شاهد لتفضيل الكفاف على كل من الفقر والغنى (وقنعه ا) أي صيره قانعاً، ولعل التضعيف إيماء إلى بعد هذا الوصف عن طبع الإنسان فكان محاول إزالتها يحتاج إلى مبالغة في ذلك، لأن الطبع البشري مائل إلى الاستكثار من الدنيا والحرص عليها إلا من عصمالله، وقيل ماهم: أي وجعله الله يخفي ألطافه قانعاً (بما آتاه) بالمد: أي أعطاه من الكفاف. قال القرطبي: معنى الحديث أن من حصل له ذلك فقد حصل على مطلوبه وظفر بمرغوبه في الدارين (رواه مسلم) قال في «الجامع الصغير» : رواه أحمد والترمذي وابن ماجه. 23 - (وعن أبي محمد فضالة) بفتح الفاء وبالضاد المعجمة (ابن عبيد) بصيغة التصغير ابن ناقذ بالمعجمة ابن قيس بن صهيب بن الأصرم بن جحجبا بجيمين مفتوحتين بينهما حاء ساكنة وبباء موحدة ابن كلفة بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس (الأنصاري) العمري (رضي الله عنه) قال المصنف في «التهذيب» : أول مشاهده أحد شهدها وما بعدها من المشاهد ومنها بيعة الرضوان، وشهد فتح مصر وسكن دمشق وولى قضاءها لمعاوية وأمره على غزو الروم في البحر، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسون حديثاً، روى له مسلم منها حديثين، توفي بدمشق ودفن بباب الصغير سنة ثلاث وخمسين، وقيل: تسع وستين والصحيح الأول فقد نقلوا أن معاوية حمل نعشه وقال لابنه: أعني يا بنيّ فإنك لا تحمل بعده مثله، وتوفي معاوية سنة ستين (أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: طوبى) قال في «المصباح» قيل: من الطيب، والمعنى: العيش الطيب، وقيل: الحسن، وقيل: الخير وأصلها طيبي فقلبت الياء واو المجانسة الضمة، وفي كتاب الجهاد من «صحيح البخاري» : طوبى فعلى من

كل شيء طيب، وهي ياء حولت إلى الواو، وهو من يطيب اهـ (لمن هدى) أي أوصل (للإسلام) فعدي باللام لتضمنه معنى أوصل. قال تعالى: {يهدي الله لنوره من يشاء} (النور: 35) أي يوصله للدخول في جملة أهله (وكان عيشه كفافاً وقنع) الأقرب أنه بالبناء للمفعول من باب التفعيل كما يدل عليه ما قبله، ويحتمل أن يكون بتخفيف النون مفتوحة، والجملتان الأقرب كونهما معطوفتين على جملة الصلة، ويجوز كونهما في محل الحال من نائب فاعل هدي (رواه الترمذي وقال: حديث صحيح) قال في «الجامع الصغير» : ورواه ابن حبان والحاكم في «مستدركه» . 24 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبيت الليالي المتتابعة) أي التابع بعضها بعضاً مع الاتصال (طاوياً) هذا مقصود الإخبار. قال في «النهاية» يقال: طوى من الجوع يطوي طوى فهو طاوي: أي خالي لم يأكل (وأهله) بالرفع عطف على الضمير المستكن في يبيت للفصل بينهما بالظرف، ويجوز أن يقرأ بالنصب على أن الواو واو المصاحبة: أي مع من يقوم بنفقتهم، وقوله: (لا يجدون عشاء) بفتح العين وبالمد، قال في «المصباح» : اسم للطعام الذي يتعشى به الإنسان وقت العشاء: أي بكسر العين اهـ. وفي كتاب الصيام من كتب الفقه: العشاء اسم لما يؤكل بعد الزوال: أي في وقت العشي جملة مستأنفة لبيان حالهم المقتضي لطواهم (وكان أكثر خبزهم خبز الشعير) أي وهو أقل في كلفة التحصيل من البرّ وغيره من نفائس الأقوات، والجملة محتملة للعطف على ما قبلها ولكونها حالية بإضمار قد (رواه الترمذي وقال: حسن صحيح) ورواه أحمد وابن ماجه كما في «الجامع الصغير» . 25 - (وعن فضالة بن عبيد) أي الأنصاري (رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا

صلى بالناس) أي وقت صلاته بهم، وهو مضمن معنى الشرط ولا يجزم إلا في الشعر، جوابه (يخرّ) بكسر الخاء المعجمة: أي يسقط (رجال من) ابتدائية: أي سقوط مبتدأ (من قامتهم في الصلاة) تعليلية (الخصاصة) بفتح الخاء المعجمة وبالمهملتين الخفيفتين بينهما ألف (وهم أصحاب الصفة) جملة حالية من فاعل يخر لتخصيصه بالوصف (حتى) غاية لمحذوف: أي فتعجب من خرورهم من لم يعلم سببه إلى أن (يقول الأعراب) أي من حضره حينئذ من سكان البوادي (هؤلاء مجانين) يحتمل كون الجملة خبرية كما هو الظاهر، ويحتمل أنها استفهامية على تقدير الهمزة، وعلى كل فهي منصوبة المحل على الحكاية، وذلك أنهم توهموا أن ذلك الخرور صادر عنهم اختياراً لا عن سبب يقتضيه، وذلك بحضرة الجمع شأن المجانين، فلذا حكموا عليهم به، أو سألوهم كذلك (فإذا صلى رسول الله) أي الصلاة بإتمامها بسلامه منها وانصرف عنها (انصرف إليهم) أي متوجهاً إليهم (فقال) عقب وصوله إليهم لأنه الحامل له على قصدهم (لو تعلمون ما لكم عند ا) أي ما أعده لكم مما لم تسمعه أذن ولم يره بصر، وفيه شهادة لهم بمكانتهم عند المولى سبحانه لصدق إيمانهم، وحسن مجاهدتهم وكمال وجهتهم (لأحببتم أن تزدادوا فاقة) أي حاجة فعطف قوله: (وحاجة) عليها من عطف الرديف وحبهم، ذلك ليصبروا عن الابتلاء بها فيكثر ما يؤجرون عليه من ذلك، فإن الجزاء على حسب المجازى عليه قلة وكثرة، أو لأنهم استعذبوا جميع ما يرد عليهم من الحق سبحانه لكمال عرفانهم، فنظروا إلى النعم من حيث صدورها من الرحيم لا من حيث ذاتها فأعجبوا بها على أي أمر تجلت وعلى أيّ مذاق، وما أحسن قول القائل: إذا ما رأيت الله في الكل فاعلاً رأيت جميع الكائنات ملاحاً وقلت في هذا المعنى: يا طالب التحقيق والعرفان لا تنظرن لحوادث الأزمان فتضيق منها وانظرن لمن بدت منه إليك فهو العلي الشان (رواه الترمذي) في الزهد من «جامعه» (وقال: حديث صحيح. الخصاصة: الفاقة

والجوع الشديد) قال في «النهاية» : وأصلها الفقر والحاجة إلى الشيء. 26 - (وعن أبي كريمة) بفتح الكاف وكسر الراء (المقداد) بكسر الميم وسكون القاف ومهملتين بينهما ألف (ابن معد يكرب) بكسر الدال المهملة وسكون التحتية وفتح الكاف وكسر الراء وتقدمت ترجمته رضي الله عنه في باب فضل الحب في الله (قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما ملأ آدمي» ) نسبة إلى آدم أبي البشر عليه السلام: أي إنسان (وعاء شراً من بطنه) قال الطيبي: نقله عن ابن أقبرس جعل البطن وعاء كالأوعية المتخذة ظروفاً لحوائج البيت توهيناً لشأنه، ثم جعله شرّ الأوعية لأنها تستعمل فيما هي له، والبطن خلق لأن يتقوم به الصلب بالطعام، وامتلاؤه يفضي إلى الفساد ديناً أو دنيا فيكون شراً منها، فإن قلت: شرّاً أفعل تفضيل وهو ما اشتق من فعل الموصوف بزيادة على غيره فما وجه تحقق ثبوت الوصف في المفضل عليه؟ قلت: ملء الأوعية لا يخلو من طمع أو حرص على الدنيا وكلاهما شرّ على الفاعل (بحسب ابن آدم) أي كافية فالباء مزيدة في المبتدأ (أكلات) بفتح الكاف وضمها مع ضم الهمزة: أي كافية ذلك في سد الرمق، ولذا قال: (يقمن صلبه) والجملة في محل الصفة لأكلات ويصح كونها مستأنفة لبيان سبب كفاية ذلك (فإن كان لا محالة) في «الصحاح» قولهم لا محالة: أي بفتح الميم: أي لا بد، يقال: الموت آت لا محالة اهـ: أي فإن كان لا بد من الكثرة على ذلك فليكن أثلاثاً (فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه) قال ابن أقبرس: أي يبقى من ملئه مقدار الثلث ليكون متمكناً من النفس. ورأيت في بعض كتب الطب أن كسرى سأل طبيباً: ما الداء الذي لا دواء له؟ قال: إدخال الطعام على الطعام، فذاك الذي أفتى البرية وقتل سبع البرية، فسأل عن الحمية فقال: الاقتصاد في كل شيء، فإذا أكل فوق المقدار ضيق على الروح اهـ (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) وأخرجه النسائي من طريق الترمذي ومن طريق أخرى، وأخرجه القاضي عياض في «الشفاء» من طريق أبي نعيم الحافظ والبزار، وفي «الجامع الصغير» ،

وأخرجه أحمد وابن ماجه والحاكم في «المستدرك» (أكلات: أي لقم) بضم ففتح جمع لقمة وهذا يقتضي فتح أولى أكلات والأنسب لقمات، لأن جمع السلامة من جموع القلة، فلذا قال التلمساني في حواشي «الشفاء» : فيه إيماء إلى أنه لا يصل بها العشرة. ولعل المصنف وضع جمع الكثرة موضع ضده مجازاً كقوله تعالى: {ثلاثة قروء} (البقرة: 228) . 27 - (وعن أبي أمامة) بضم الهمزة وميمين خفيفتين بينهما ألف (إياس) بكسر الهمزة والتحتية المخففة آخره مهملة. قال في «الإصابة» : هذا اسمه عند الأكثر، وقيل: اسمه عبد الله وبه جزم أحمد بن حنبل. وقيل: ثعلبة بن سهل، وقيل: أبو عبد الرحمن، قال أبو عمر: واسمه إياس ولا يصح غيره (ابن ثعلبة) بالمثلثة المفتوحة والمهملة الساكنة بعدها لام فموحدة مفتوحتين فهاء (الأنصاري الحارثي) بالمهملة آخره مثلثة نسبة للحارث بن الخزرج أحد أجداده وقيل: إنه بلوى حليف بني حارثة وهو ابن أخت أبي بردة بن نيار (رضي الله عنه) وتوفي في منصرف النبي من أحد فصلى عليه. قال في «أسد الغابة» : رواية من روى عنه مرسلة لأنه لم يدرك النبي، وكذا رواية محمود بن الربيع عنه فإنه ولد قبل وفاة إياس على القول إنه قتل يوم أحد، والصحيح أنه لم يتوف حينئذ إنما كانت وفاة أمه عند منصرف النبي من بدر، فرده من أجلها، فرجع فوجدها ماتت فصلى عليها ولم يشهد بدراً لذلك. ومما يقوي أنه لم يقتل بأحد أن مسلماً روى في «صحيحه» بإسناده عن عبد الله بن كعب عن أبي أمامة بن ثعلبة: «من اقتطع حق مسلم بيمينه» الحديث، فلو كان منقطعاً ولم يسمع أبي بن كعب منه لما أخرجه مسلم في «الصحيح» اهـ. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث ذكر منها المزي في «الأطراف» حديثين: حديث مسلم وحديث الباب. وقال في «الإصابة» : روى له عن النبي أحاديث منها عند مسلم وأصحاب السنن انفرد به مسلم عن البخاري، فخرج له الحديث المار في كلام «أسد الغابة» وهو عند النسائي وابن ماجه (قال: ذكر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً عنده) أي النبيّ بقرينة إفراد الضمير وإن كان خلاف الغالب (الدنيا) أي زينتها والترفع فيها بالملبس وغيره (فقال رسول الله: ألا) بالتخفيف أداة عرض وأتى بها تحريضاً على الاستماع لما بعدها والإصغاء إليه (تسمعون ألا

تسمعون) قال ابن رسلان في «شرح السنن» : في الكلام أنواع من التأكيدات: إلا الدالة على العرض والتحضيض على الاستماع والتأكيد بتكرير الكلمة والتصريح بالإصغاء بالاستماع سماع فهم وانتفاع، مع أنه عالم بأنهم يستمعون لما يقوله ويبادرون إلى امتثاله، لكن يكون أبلغ في الموعظة والإتيان بلفظ (إن) للتأكيد وهي عوض إعادة الكلام مرّتين (البذاذة من) كمال (الإيمان) الراسخ في القلب، قال زيد بن وهب: رأيت عمر بن الخطاب خرج إلى السوق وبيده الدرّة وعليه إزار فيه أربع عشرة رقعة بعضها من أدم: أي جلد. وعوتب عليّ رضي الله عنه في إزار مرقوع فقال: يقتدي به المؤمن ويخشع له القلب. قال عيسى عليه السلام: جودة الثياب خيلاء القلب، وإنما كانت البذاذة من الإيمان لما تؤدي إليه من كسر النفس والتواضع، ولكن ليس ذلك عند أكل أحد بل يورث عند بعض الناس من الكبرياء ما يورثه لبس نفيس الثياب عند آخرين، وبالجملة فالمحبوب التوسط في الثياب كما سيأتي بسطه في كتاب اللباس (إن البذاذة من الإيمان) وفي بعض نسخ أبي داود تكراره ثلاثاً، ولا ينافي حديث الباب وما في معناه، وإيثاره بذاذة الهيئة ورثاثة المنظر وتبعه عليه السلف الصالح ما اختاره جمع أئمة من متأخري الصوفية وغيرهم، لأن السلف لما رأوا أهل الهوى يتفاخرون بالزينة والملابس أظهروا لهم برثاثة ملابسهم حقارة ما حقره الحق مما عظم الغافلون، والآن قد قست القلوب ونسي ذلك المعنى، فأخذ الغافلون رثاثة الهيئة حيلة على جلب الدنيا، فانعكس الأمر وصار مخالفتهم في ذلك تبعاً للسلف، ومن ثم قال العارف با تعالى أبو الحسن الشاذلي لذي رثاثة أنكر عليه جمال هيئته: يا هذا هيئتي هذه تقول الحمد، وهيئتكم تقول: أعطوني من دنياكم (يعني التقحل) هذا قول أبي داود وتفسير للبذاذة كما صرح به شارح «سنن أبي داود» بن رسلان فقال: قال المصنف: البذاذة يعني التقحل بفتح التاء والقاف وبالحاء المهملة المشددة. (رواه أبو داود) في الترجل من «سننه» ، ورواه ابن ماجه في الزهد (البذاذة بالباء الموحدة) المفتوحة (والذالين المعجمتين) الخفيفتين (وهي رثاثة) بالراء والمثلثتين الخفيفات مصدر رث الشيء. أي خلق، قال في «النهاية» : وأصل اللفظة من الرث وهو الثوب الخلق اهـ. والمراد منه في عبارته ضد الجيد من (الهيئة وترك فاخر الثياب) أي تواضعاً في اللباس، يقال: فلان بذّ الهيئة وباذها: أي رث اللبسة، والمراد التواضع في اللباس وترك التبجح به. قال هارون الرشيد: سألت معناً

عن البذاذة فقال: هو الدون من اللباس (وأما التقحل فالبقاف والحاء) أي المهملة كما تقدم (قال في اللغة: المتقحل هو الرجل اليابس الجلد من خشونة العيش وترك الترفه) أي التنعم لسوء الحال، قال ابن رسلان: يقال: قد قحل الرجل قحلاً: إذا التزق جلده بعظمه من الهزال. 28 - (وعن أبي عبد الله جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: بعثنا رسول الله) في سنة ثمان (وأمر) بتشديد الميم: أي جعل أميراً (علينا أبا عبيدة) بن الجراح أحد العشرة (رضي الله عنه) وفيه تأمير أهل الفضل، وقد اتفقت روايات «الصحيحين» على تأميره في تلك السرية، فهو المحفوظ، وفي رواية: إن أميرها قيس بن سعد بن عبادة حملت على أن أحد رواتها ظن من ذبح قيس النياق للجيش تأميره فصرح به وليس كذلك (نتلقى عيراً لقريش) جملة مستأنفة لبيان سبب البعث، والعير بكسر العين المهملة: القافلة التي تحمل البرّ والطعام، ثم صريح هذه الرواية ما ذكر من تلقي العير، لكن عند ابن سعد أنه بعثهم إلى حيّ من جهينة وأن ذلك كان في شهر رجب، ويمكن الجمع بين كونهم يتلقون غير قريش ويقصدون الحي من جهينة، ويقوي هذا الجمع ما عند مسلم أيضاً عن جابر قال: بعث النبي بعثاً إلى أرض جهينة، فذكر القصة الذي يتلقى عير قريش لا يتصور أن يكون في الشهر الذي ذكر ابن سعد: أي رجب من سنة ثمان لأنهم حينئذ كانوا في الهدنة، إلا إن كان تلقيهم العير لحفظها من جهينة، ولذا لم يقع في الحديث أنهم قاتلوا أحداً، بل فيه أنهم أقاموا شهراً أو أكثر في مكان واحد (وزودنا جراباً) أي ملأه (من تمر) بفتح الفوقية، وقوله (لم يجد لنا غيره) استئناف لبيان سبب الاقتصار على ذلك القليل في ذلك العدد الكثير (فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة) هذا من باب قولهم: ركب القوم دوابهم: أي لكل

واحد تمرة، وهذا باعتبار آخر فعل أبي عبيدة، وإلا ففي البخاري: فكان يقوتنا كل يوم قليلاً قليلاً حتى فني فلم يكن يصيبنا إلا تمرة، وكذا قال المصنف في «شرح مسلم» : الظاهر أن قوله قسم تمرة تمرة إنما كان بعد أن قسم قبضة قبضة فلما قل ثمرهم قسم تمرة تمرة.l والجراب هو الذي زودهم به وكانت عندهم أزوادهم من تمر لأنفسهم كما يدل عليه قوله في رواية للبخاري ومسلم: فكنا ببعض الطريق فني الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد الجيش فجمعت، فكان مزودي تمراً. قال في «الفتح» : وقول عياض يحتمل أنه لم يكن في أزوادهم تمر غير الجراب المذكور مردود بما ذكر (فقيل) يحتمل أن يكون القائل وهب بن كيسان الراوي عن جابر فإن في رواية البخاري في المغازي التصريح بأنه سأل جابراً: ما يعني عنكم تمرة فقال: قد وجدنا نقدها حين فقدت فلعله سأل فقال: (كيف كنتم تصنعون؟) قال البيضاوي في التفسير: تصنعون أبلغ من تعملون، من حيث إن الصنع عمل الإنسان بعد تدرب فيه وتردد وتر وتحر وإجادة (بها قال: نمصها) لم يصدر قال: بفاء ولا واو، بل أتى بها مستأنفاً، لأن مراده الإخبار عن قوله ذلك مع قطع النظر عن كونه أخبر حالاً أو بعد (كما يمصّ الصبي ثم نشرب عليها من الماء) أي بعض الماء (فتكفينا يومنا إلى الليل) ففيه ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من الزهد في الدنيا والتقلل منها والصبر على الجوع وخشونة العيش، وفيه كرامة له حيث كفى الواحد منهم نهاره تمرة واحدة لكونها حلت عليه بركته. وفيه أن توقف الشبع على الأكل ليس على جهة اللزوم وإنما ذلك فعل الله يفعله عقبه تارة ومن غيره أخرى كما قال: «إني أظلّ عند ربي يطعمني ويسقيني» أي يجعل في قوة الطاعم والشارب على أحد الأقوال، ومنه قوله: {أطعمهم من جوع} (قريش: 4) على القول بأن: «من» تبعيضية والله أعلم. وفني التمر كما في رواية أخرى لهما: «فلم يصلهم ولا تمرة تمرة فوجدوا فقدها» كما تقدم عن جابر فعنده ضربوا الشجر كما قال: (وكنا نضرب بعصينا) بكسر أوله إتباعاً لكسر ثانيه وتشديد التحتية ويجوز ضم أوله (الخبط ثم نبله بالماء) هذا يدل على أنه كان يابساً بخلاف ما جزم به الداودي أنه كان أخضر رطباً قاله في «الفتح» . قلت: ولعل الماء كان لإذهاب خشونته ولإساغته فلا يخالف ما قاله الداودي (فنأكله فانطلقنا على ساحل) بالمهملتين: أي شاطىء (البحر فرفع) بالبناء للمجهول (لنا على ساحل البحر كهيئة

الكثيب) بالمثلثة والتحتية والموحدة بوزن قريب: الرمل المستطيل المحدودب وأحد الظروف نائب الفاعل والظرفان حالان متداخلان أو مترادفان منه (الضخم) بفتح المعجمة الأولى وسكون الثانية بمعنى العظيم (فأتيناه) أي المرفوع لنا (فإذا هي) أي المرفوع لنا والتأنيث رعاية لقوله: (دابة تدعى) بالبناء للمجهول (العنبر) بفتح أوله وثالثه الباء الموحدة وسكون ثانيه النون المزيدة ويجوز إبداله وإدغامه في الثالث. قال في «فتح الباري» : قال أهل اللغة: هي سمكة بحرية كبيرة يتخذ من جلدها الترسة يقال: إن العرف المشموم رجيع هذه الدابة قال ابن سينا: بل المشموم يخرج، وإنما يوجد في أجواف السمك الذي يبتلعه، ونقل الماوردي عن الشافعي قال: سمعت من يقول: رأيت العنبر نابتاً في البحر ملتوياً مثل عنق الشاة، وفي «البحر» دابة تأكله وهو سم لها فيقتلها فيقذفها البحر فيخرج العنبر من بطنها. وقال الأزهري: العنبر سمكة تكون بالبحر الأعظم يبلغ طولها خمسون ذراعاً يقال لها باله، وليست بعربية اهـ. (فقال أبو عبيدة) هي (ميتة) أي وإن كانت ميتة للضرورة والميتة محرمة بنص الكتاب (ثم) تغير اجتهاده وأرشد للصواب (فقال: لا) أي لا يحرم تناولها وإن كانت ميتة للضرورة، فالمنفي ما دل عليه كلامه السابق من تحريم وحذف لدلالة المقام عليه (بل) إضراب عما ظنه أولاً (نحن رسل) بضمتين ويجوز إسكان ثانيه تخفيفاً (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي سبيل ا) أي ونحن في طاعة الله وفي جهاد أعدائه وأعداء نبيه، ففيه إيماء إلى قوله تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} (الطلاق: 2، 3) ولي في هذا المعنى يديها. اتق الله سائر الأزمان لا تخف من طوارق الحدثان يرزق الله متقيه ويكفيـ ــــه فهذا قد جاء في القرآن (وقد اضطررتم) جملة مستأنفة ويحتمل أن تكون حالية وعدل عن التكلم إليه تفنناً في التعبير وتحصيلاً للالتفات المورث في الكلام وطراوة وحسناً ونضارة (فكلوا) الفاء فيه للتقريع (فأقمنا) المعطوف عليه محذوف: أي فأكلنا فأقمنا (عليه شهراً) وفي رواية

«الصحيحين» فأكل منه القوم ثماني عشرة ليلة، وفي رواية لهما: فأكلنا منه نصف شهر. قال في «فتح الباري» : ويجمع بأن الذي قال ثماني عشرة ضبط ما لم يضبطه غيره، ومن قال نصف شهر ألغى الكسر الزائد عليه وهو ثلاثة أيام، ومن قال: شهراً جبر الكسر وضم بقية المدة التي كانت قبل وجدانهم، ورجح المصنف رواية الباب لما فيه من الزيادة، وجمع القاضي بأن من قال: نصف شهر أراد أكلوا منه تلك المدة، ومن قال: شهراً أراد قد زودوه فأكلوا منه باقي الشهر. وقال ابن التين: إحدى الروايتين وهم. قال الحافظ: ولعل الذي سلكته من الجمع أولى ووقع عند الحاكم اثني عشر وهي شاذة، وأشذ منها رواية فأقمنا قبلها ثلاثاً (ونحن ثلثمائة) جملة حالية من أقمنا (حتى) غاية للإقامة عليها: أي فأكلنا منها إلى أن (سمنا) يحتمل أكلهم منه زيادة عن الحاجة حتى نشأ عنه السمن، وأنهم يرون حلّ ذلك من الميتة عند الضرورة إلى التناول منها، ويحتمل أنه تغير اجتهادهم بعد فرأوا حل ميتة البحر والله أعلم (وقد رأيتنا نغترف) أتى به من باب الافتعال الدالّ على المبالغة إيماء إلى الكثرة (من وقب عينه) بالإفراد (بالقلال) بكسر القاف وتخفيف اللام جمع قلة بضم القاف وتشديد اللام (الدهن ونقطع منه) بتخفيف الطاء المهملة كذا في النسخ، والتضعيف فيه أنسب بالإفعال فيما قبله (القدر كالثور) بالمثلثة: ذكر البقر (أو) شك من الراوي (كقدر الثور) والجملة جواب القسم المقدر وهو جوابه مستأنف عطف عليه قوله: (ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلاً فأقعدهم في وقب عينه) وعطف عليه أو على المعطوف عليه قوله: (وأخذ ضلعاً) بكسر الضاد المعجمة، قال في «المصباح» : أما اللام فتفتح في لغة الحجاز وتسكن في لغة تميم، وهي أنثى اهـ (من أضلاعه فأقامها) أي منصوبة (ثم رحل أعظم بعير معنا) بتخفيف الحاء المهملة: أي جعل عليه الرحل (فمر من تحتها) جاء في رواية عبادة بن الصامت عند ابن إسحاق: ثم أمر بأجسم بعير معنا فحمل عليه أجسم رجل منا فخرج من تحتها وما مسك رأسه. قال الحافظ في «الفتح» : ولم أقف على اسم هذا الرجل وأظنه قيس بن سعد بن عبادة، فإن له ذكراً في هذه الغزوة، وكان مشهوراً بالطول وقصته في ذلك مع معاوية لما أرسل إليه ملك الروم بالسراويل معروفة، ذكرها المعافى الحريري في «الجليس» وأبو الفرج الأصبهاني وغيرهما، ومحصلها أن أطول رجل من الروم نزع له قيس بن سعد سراويله، فكان طول قامة الرومي بحيث كان طرفها على أنفه وطرفها على الأرض،

وعوتب قيس على نزع سراويله في المجلس فأنشد: أردت لكيما يعلم الناس أنها سراويل قيس والوفود شهود وألا يقولوا غاب قيس وهذه سراويل عاد الأولى وثمود (وتزوّدنا من لحمه وشائق) معطوف على ما قبله، ويحتمل أن يكون مستأنفاً، إذ لا حاجة لتأكيد مثله بالقسم، لأن ما ثبت عظمه من الحيوان بما ذكر قبله لا يستبعد تزوّد ذلك منه (فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرنا له ذلك فقال) مبيناً لحكمه وحكمة عثورهم عليه (هو رزق) في الأصل مصدر والمراد به اسم المفعول كقوله تعالى: {هذا خلق ا} (لقمان: 11) أي مخلوقه (أخرجه الله لكم) وزاد في تطمين قلوبهم في حله ونفي الشك في إباحته لأنه ارتضاه لنفسه قوله: (فهل معكم من لحمه شيء) ويجوز أن يكون قصد التبرك به لكونه طعمة من الله تعالى خارقة للعادة أكرمهم الله بها أشار إليه المصنف، ومن للتبعيض وهي ومجرورها متعلقان بمحذوف هو الخبر وتقديمه مع وجود المسوغ للابتداء بشيء وهو تقدم الاستفهام للاهتمام، والظرف قبله في محل الحال وكان في الأصل صفة شيء قدم عليه فصار إلى ما ذكرنا كقوله: لمية موحشاً طلل وقوله: (فتطعمونا) جواب الاستفهام (فأرسلنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه فأكله) أي عقب وصوله بلا تراخ كما تؤذن به الفاء وذلك لما تقدم في قوله: فهل معكم الخ (رواه مسلم) أي بهذا اللفظ في الأطعمة من «صحيحه» ، وإلا فحديث جابر في هذه السرية قد رواه البخاري في الشركة وفي الجهاد وفي المغازي من «صحيحه» ، ولعل ما ذكرنا سبب الاقتصار على العزو لمسلم، أو غاب عن الشيخ حينئذ تخريج البخاري له، ولا عيب في مثله، رواه الترمذي في الزهد وقال: حسن صحيح، والنسائي في الصيد وفي السير، وابن ماجه في الزهد كذا يؤخذ من «الأطراف» ملخصاً. (الجراب وعاء) بكسر الواو المهملة المخففة بعدها ألف ممدودة (من جلد) أما من غيره فلا يسمى بذلك (معروف وهو بكسر الجيم) وجمعه جرب ككتاب وكتب وسمع أجربة

كذا في «المصباح» (وفتحها والكسر أفصح) وكذا قال في «شرح مسلم» ولم يبين قائل كل من القولين، وقد بينه القاضي عياض فقال: الجراب وعاء من جلد كالمزود ونحوه وهو بكسر الجيم، وكذا قيده الخليل وغيره، وقال القزاز بفتح الجيم، ومثله في «المطالع» لابن قرقول، لكن في «الصحاح» الجراب: أي بكسر الجيم معروف، والعامة تفتحه، وفي «المصباح» : ولا يقال: جراب بالفتح، قاله ابن السكيت وغيره (وقوله: يمصها بفتح الميم) وفتح التحتية قبلها، وسكت المصنف عنه لأنه معلوم وتشديد الصاد المهملة، ويجوز ضم الميم كما في «شرح مسلم» قال: والفتح أفصح وأشهر، لكن في «المشارق» و «المطالع» تعين فتح الصاد من قوله: «امصص بظر اللات» وأنه من باب علم، حينئذ فهذا يعين الفتح كما اقتصر عليه المصنف هنا والله أعلم (والخبط) بفتح أوليه المعجمة والموحدة وبالمهملة (ورق شجر معروف تأكله الإبل) عبارة «النهاية» الخبط: أي بسكون الموحدة ضرب الشجر بالعصي ليتناثر ورقها، واسم الورق الساقط خبط فعل بمعنى مفعول وهو من علف الإبل اهـ. ومثلها في «المصباح» ، وحينئذ فما ذكره المصنف بيان للمراد في الحديث، وأن هذا النوع الخاص سمي وحده بهذا الاسم كما يطلق على كل ما تساقط من الورق بالخبط (والكثيب) يضبطه السابق في الشرح (التل) بفتح الفوقية وجمعه تلال وهو المرتفع: أي الرابية (من الرمل) قال في «المصباح» : سمي به لاجتماعه، وفي «فتح الباري» . الكثيب: الرمل المستطيل المحدودب (والوقب بفتح الواو وسكون القاف وبعدها باء موحدة وهي نقرة العين) النقرة بضم النون حفرة غير كبيرة، والمراد المجوف من عظم الرأس لمحل العين (والقلال) بكسر القاف. جمع قلة بضمها وهي الجرة الكبيرة التي يقلها الرجل بين يديه، كذا في «شرح مسلم» ، وحينئذ فكان على الشيخ أن يزيد على قول: (الجرار) بكسر الجيم وتخفيف الراءين قوله: الكبار، وسميت القلة بذلك لأن الرجل العظيم يقلها: أي يرفعها من الأرض (والقدر بكسر الفاء وفتح الدال: القطع) هذا أحد قولين حكاهما في «شرح مسلم» وقال: إنهما وجهان مشهوران في نسخ بلادنا: أي من «صحيح مسلم» إحداهما بقاف مفتوحة ثم دال ساكنة: أي مثل الثور، والثاني بفاء مكسورة ثم دال مفتوحة جمع فدرة والأول أصح، وادعى القاضي

عياض أنه تصحيف وأن الثاني الصواب، وليس كما قال بل هما صوابان اهـ. وبه يعلم أنه هنا متابع للقاضي عياض (ورحل البعير بتخفيف الحاء) قال في «المصباح» : من باب نفع (أي جعل عليه الرحل) أي شده عليه كما في «المصباح» ، والرحل للجمل بمنزلة السرج للفرس (الوشائق بالشين المعجمة والقاف: اللحم الذي قطع ليقدد) اللام فيه للصيرورة: أي لييبس: أي فيؤكل يابساً، وهذا قوله حكاه في «الصحاح» عن أبي عبييد عن بعضهم أن الوشيق بمنزلة القديد لا تمسه النار، حكاه في «شرح مسلم» بقوله: وقيل: الوشيق القديد، وقال أولاً: قال أبو عبيدة: هو اللحم يؤخذ فيغلى إغلاءةً ولا ينضج ويحمل في الأسفار، ومثله في «الصحاح» وزاد قوله: وهو أبقى قديد يكون. 28 - (وعن أسماء) بسكون السين المهملة آخره ألف ممدودة (بنت يزيد) بفتح الياء الأولى وسكون الثانية بينهما زاي مكسورة ابن السكن بن رافع بن امرىء القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن خيثم الأنصاري (رضي الله عنها) ولما لم يكن في الصحابيات أسماء بنت يزيد سواها لم يقيد بقوله: الأنصارية، تكنى أم سلمة، ويقال: أم عامر. قال الحافظ في «التقريب» لها أحاديث، قلت: عدتها أحد وثمانون، خرج لها البخاري في «الأدب المفرد» ، وروى عنها الأربعة، وفي «أسد الغابة» أنها ابنة معاذ بن جبل وأنها قتلت يوم اليرموك تسعة من الروم بعمود فسطاطها (قالت: كان كم قميص رسول الله) قال في «المصباح» : كم القميص معروف جمعه أكمام وكممة مثل عنبة (إلى الرضع) وحكمة الاقتصار عليه أنه متى جاوز اليد شق على لابسه ومنعه سرعة الحركة والبطش، ومتى قصر عنه تأذى الساعد ببروزه للحرّ والبرد فكان جعله إليه أمراً وسطاً وخير الأمور أوساطها، ولا تنافي هذه الرواية رواية أسفل من الرسغ لاحتمال تعدد القميص أو أن المراد «التقريب» لا التحديد (رواه أبو داود والترمذي) قال ابن حجر الهيثمي في «أشرف الوسائل» : هو بالصاد عندهما (وقال: حديث حسن) ورواه النسائي قال: وهو عند غيرهما بالسين (الرصغ) بضم الراء وسكون المهملة

وضمها للاتباع لغة بعدهما معجمة (بالصاد والرسغ بالسين) أي المهملة أيضاً (هو) أي هنا (المفصل بين الكف والساعد) وإلا ففي «المصباح» أنه من الإنسان مفصل ما بين الكف والساعد والقدم: أي مشترك بينهما، ثم ظاهر عبارته أن السين والصاد كل منهما أصل غير منقلب عن الآخر، وعبارة «النهاية» تشهد له وهي الرصغ لغة في الرسغ اهـ. 29 - (وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنها قال: إنا كنا يوم) أي زمن وهو ظرف للفعل الآتي بعد (الخندق) وكان حفره لما تحزبت قريش واجايشها إلى أن بلغوا عشرة آلاف، فأرادوا حرب المدينة فأشار سلمان بحفر الخندق حول المدينة: فأمر به وكان ذلك في السنة الخامسة من الهجرة، قال ابن إسحاق: في شوّال وقال ابن سعد: في ذي القعدة (نحفر فعرضت لنا كدية شديدة) أي تامة الإباء عن تأثير الفؤوس فيها (فجاءوا إلى النبيّ) قال في «المصباح» جاء زيد يجيء مجيئاً حضر، ويستعمل متعدياً أيضاً بنفسه فيقال: جئت شيئاً حسناً: أي فعلته، وجئت زيداً إذا أتيت إليه، وجئت به إذا أحضرته معك، وقد يقال: جئت إليه: يعني ذهبت إليه اهـ (فقالوا: هذه كدية) وقولهم: (عرضت في الخندق) في محل الصفة للكدية أتوا به إطناباً لطول المحاورة مع المصطفى نظير ما قيل في قوله موسى عليه السلام {أتوكأ عليها وأهشّ بها على غنمي} (طه: 18) والخندق معروف (فقال: أنا نازل) عمل فيه بنفسه ترغيباً للمسلمين، فلذا سارعوا إليه فأتموه قبل وصول المشركين وحصارهم (ثم قام وبطنه معصوب) قال في «المصباح» : البطن خلاف الظهر وهو مذكر، وفي البخاري: وبطنه معصوب بحجر: أي مربوط فوق الحجر عن بطنه الشريف، وتقدم في الباب حكمة ذلك، والجملة حال من فاعل قام (ولبثنا) بالموحدة فالمثلثة: أي قمنا (ثلاثة أيام) ظرف لقوله: (لا نذوق ذواقاً) بفتح الذال المعجمة مصدر بمعنى الذوق:

أي المطعوم: أي لا نطعم فيها، والجملة يحتمل كونها حالية بإضمار «قد» من فاعل نحفر، ويحتمل كونها معطوفة على الجملة الحالية، ففيها بيان سبب عصب بطنه من طول مدة ترك الطعام، ويحتمل كونها معترضة أتى بها لبيان أن ما حصل منه من التأثير في تلك الكدية ليس ناشئاً عن القوة المودعة في الإنسان عادة لغلبة الضعف عليه حينئذ بترك تناول الطعام المدة المذكورة، إنما ذلك معجزة، ثم رأيت الحافظ في «الفتح» جزم بالأخير وقال: إنه سبب العصب، وغير خاف أن ما ذكرناه محتمل وله أوجه، والله أعلم (فأخذ المعول) بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الواو بعدها لام: أي المسحاة، وعند أحمد: فأخذ المعول أو المسحاة بالشك (فضرب فعاد) أي فصارت الكدية وذكرها باعتبار المضروب الدال عليه قوله: فضرب (كثيباً أهيل) بوزن أحمد ثالثه تحتية وعند البخاري أهيل أو أهيم، والمعنى أنه صار رملاً لا يتماسك. قال الحافظ في «الفتح» : ضبط أهيم بالمثلثة وبالتحتية، والمعروف الثاني وهي بمعنى أهيل (فقلت: يا رسول الله ائذن لي إلى البيت) الظرف الثاني متعلق بفعل محذوف يدل عليه المقام: أي انصرف، وفي الكلام حذف صرح به أبو نعيم في روايته في «المستخرج» فقال: «فأذن لي» (فقلت لامرأتي) اسمها سهيلة بنت معوذ الأنصارية (رأيت) أي أبصرت (بالنبي شيئاً) أي عظيماً كما يدل عليه قوله: (ما في ذلك صبر) أي ما في الاستفهام: أي أعندك ما تندفع به الحاجة في الجملة (فقالت: عندي شعير) جاء في رواية ابن بكير أنه صاع (وعناق) بفتح العين المهملة وتخفيف النون هي الأنثى من المعز (فذبحت بتاء المتكلم (العناق وطحنت)) بفتح حروف الفعل الثلاثي والتاء فيه للتأنيث وفاعله يعود إلى امرأته (الشعير) وقوله: (حتى جعلنا اللحم في البرمة) بضم الموحدة وسكون الراء كما في «الفتح» غاية لمقدر: أي واستمريت غائباً عن الخندق إلى ما ذكر، وفي رواية الكشميهني: حتى جعلت (ثم جئت النبي والعجين قد انكسر) أي لان

ورطب وتمكن منه الخبز (والبرمة بين الأثافي) بمثلثة وفاء: ثلاثة أحجار يوضع عليها القدر (قد كادت) أي قاربت (تنضج) بفتح الفوقية والضاد: أي تدرك الاستواء (فقلت: طعيم) بتشديد التحتية صغره مبالغة في تحقيره قيل: من تمام المعروف تعجيله وتحقيره (لي) في محل الصفة وأتى به طلباً لخبره بمجيئه إلى منزله إجابة لدعوته (فقم أنت يا رسول الله) أكد الضمير المستكن بالضمير البارز لينبه على أنه المقصود بالأصالة فأجد دلالة على الاهتمام بذلك لا ليعطف عليه قوله: (ورجل أو رجلان) لوجود الفصل بالنداء بين المتعاطفين وهو كاف كذلك (قال: كم هو؟ فذكرت له ذلك) أي ما ذكر قبله واستعمل فيه اسم الإشارة الموضوع للبعيد لأنه لما لم يسمع صار كأنه بعيد (فقال: كثير طيب) لعل سؤاله عنه ليتنبه جابر إذ رأى شبع أولئك العدد الكثير من ذلك النزر اليسير، فيعلم أنه معجزة كما قيل به في حكمة قوله تعالى: {وما تلك بيمينك يا موسى} (طه: 17) وأن ذلك أثر قوله: كثير طيب (قل لها) أي لامرأتك (لا تنزع البرمة) بكسر الزاي والفعل مجزوم والمراد لا تأخذ اللحم منها (ولا الخبز من التنور) بفتح الفوقية وتشديد النون وهو الذي يخبر فيه. قال في «المصباح» : وافقت فيه لغة العرب العجم. وقال أبو حاتم: ليس بعربيّ صحيح والجمع تنانير (حتى آتي) أي أجيء إلى المنزل فقال: (أي بعد قيامهم قبل وصولهم المنزل) فقلت: ويحك (بفتح الواو وسكون التحتية وهي كلمة رحمة، وويل كلمة عذاب) ، وقيل: هما بمعنى واحد، وهو منصوب بإضمار فعل، أي ألزمك الله ويحاً، كذا يؤخذ من «الصحاح» (قد جاء النبيّ والمهاجرون والأنصار ومن معهم) أي من مواليهم والمسلمين مما لم يهاجر جاء عنه في رواية أخرى: فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلاالله، وقلت: جاء الخلق على صاع من شعير وعناق فدخلت على امرأتي أقول: افتضحت، جاءك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخندق أجمعين (قالت: هل سألك؟ قلت: نعم) زاد في رواية فقالت: الله ورسوله أعلم، نحن قد أعلمناه بما عندنا فكشفت عني غماً شديداً، فيه دليل على وفور عقلها وكمال فضلها لعلمها

أنه حيث علم بالطعام المدعو له ودعا من دعاه عليه إنما عليه إنما هو لما يعلمه، لأن الذي أشبع القوم إنما كان منه من خرق الله تعالى العادات له معجزة فلذا (قال: ادخلوا) لأن في الحقيقة الدعوة وإنما هي منه، وما جاء به جابر لا يجدي في أولئك (ولا تضاغطوا) بإعجام الضاد والغين وإهمال الطاء أي لا تزاحموا، زاد في رواية البخاري: فأخرجت له عجينتنا فبسق فيها وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبسق فيها وبارك (فجعل يكسر الخبز عليه اللحم) إداماً له ونظيره ما في «الشمائل» للترمذي عن يوسف بن عبد الله بن سلام قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ كسرة من خبز الشعير فوضع عليها تمرة فقال: هذه إدام هذه وأكل. قال بعض الشراح: يؤخذ من وضعها عليها أنه لا بأس بوضع الأدم على الخبز. قال ابن حجر الهيثمي: ومحله إن سلم ما لم يقدر بحيث يعافه غيره (ويخمر البرمة والتنور) أي يغطيهما ويستمر التخمير (حتى إذا أخذ منه) أي إلى وقت أخذه منه (ويقرب إلى أصحابه) الطعام المأخوذ (ثم ينزع) أي يأخذ اللحم من البرمة (فلم يزل بكسر) أي الخبز (ويغرف) أي من البرمة (وبقي منه) أي بعد شبع القوم بقية وحذف للأبهام على السامع وتعظيماً لقدر الباقي، ويصح كون «من» فاعلاً بناء على ما جرى عليه في «الكشاف» من أنها بمعنى بعض فحلت محله: أي وبقي بعضه (فقال: كلي هذا وأهدي) بقطع الهمزة أمر للمخاطبة، ولعل تخصيصها بالخطاب دونه أنه أكل مع القوم دونها فكانت مشتغلة بالغرف والخبز، أو أنها وإن أكلت حينئذ أيضاً إلا أنها لما باشرت تعب ذلك أكثر منه جعل لها ذلك (فإن الناس أصابهم مجاعة) هذه جملة مستأنفة لبيان قوله: وأهدي جاء في رواية: فلم نزل نأكل ونهدي يومنا أجمع. وذكر الفعل لأن المسند إليه تأنيث مجازي وقد فضل بضمير المفعول فهو نظير قوله تعالى: {قد جاءكم موعظة} (يونس: 57) وجاء التأنيث في التنزيل أيضاً قال تعالى: {كذلك أتتك آياتنا} (طه: 126) قال البدر الدماميني: القوم على رجحان التذكير في ذلك على التأنيث إظهاراً

لفضل المؤنث الحقيقي على غيره، لكن الذي يظهر لي أن التأنيث أحسن بدليل أكثريته في الكتاب العزيز وفشوه فيه جداً، وأكثرية أحد الاستعمالين دليل على أرجحيته، فينبغي المصير إلى القول بأن الإتيان بالسلامة في ذلك حسن وأفصح وتركها حسن فصيح اهـ (متفق عليه) أي من حيث المعنى، وإلا فهو بهذا اللفظ للبخاري في «المغازي» . (وفي رواية) هي لهما فرواها البخاري عقب الحديث قبله ومسلم في الأطعمة من «صحيحه» عن سعيد بن مينا (قال جابر لما حفر الخندق) بالبناء للمفعول (رأيت النبي خمصاً فانكفأت) وعند البخاري: فانكفيت بتحتية بدل الهمزة (إلى امرأتي) بعد أن استأذنت النبي كما في الرواية قبله (فقلت: هل عندك شيء) أي من الطعام والتنوين فيه للتقليل (فإني رأيت) أي أبصرت (برسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمصاً شديداً) وصف الخمص هنا تهييجاً على إظهار ما عندها إن كان كما هو من عادة النساء من إخفاء بعض المتاع عن الأزواج يعدونه لشدتهن: أي لا شدة يدخر لمثلها فوق هذا (فأخرجت إلي جراباً فيه صاع من شعير) الصاع مكيال، وصاع النبيّ الذي بالمدينة أربعة أمداد وذلك خمسة أرطال وثلث بالبغدادي. وقال أبو حنيفة: الصاع ثمانية أرطال لأنه الذي يعامل به أهل العراق ورد بأن الزيادة عرف طار على عرف الشرع وسبب الزيادة ما ذكر الخطابي أن الحجاج لما ولي العراق كبر الصاع ووسعه على أهل الأسواق للشعير فجعله ثمانية أرطال قال الخطابي وغيره: وصاع أهل الحرمين إنما هو خمسة أرطال وثلث، والصاع يذكر ويؤنث. قال الفراء: أهل الحجاز يؤنثونه وبنو أسد وأهل نجد يذكرونه وربما أنثه بعض بني أسد. قال الزجاج: التذكير أفصح عندالعلماء اهـ ملخصاً من «المصباح» والظاهر أن المراد من الصاع المعروف عند أهل المدينة وهو الصاع الشرعي. و «من» في قوله من شعير. بيانية للصاع: أي للمكيل به (ولنا بهيمة) يتشديد التحتية بالتصغير لما تقدم (داجن) أي ملازمة للبيت لا تفلت للرعي، ومن شأنها أن تكون سمينة (فذبحتها) بضم التاء للمتكلم (وطحنت الشعير) بكسر تاء التأنيث الساكنة لالتقاء الساكنين والفاعل ضمير يعود إلى المرأة ( ففرغت إلى) أي مع (فراغي) أي فرغت من الطحن مع فراغي من ذبح الداجن وسلخها (وقطعتها) كذا في الأصول بتخفيف الطاء المهملة ولعله لصغر جثتها وإلا فالأنسب بالتكثير التشديد (في برمتها) متعلق بمحذوف:

أي وألقيتها في برمتها (ثم) كأن الإتيان بها لتأخره مشتغلاً بإيقاد النار وإصلاحها لسرعة النضج (وليت) أي انصرفت عنها متوجهاً (إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: لا تفضحني) بفتح الصاد المعجمة (برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه) أي لا تكشف عواري وفاقتي بقلة ما يخرج إليهم المنبىء عن ذلك، أو لا تعبني بأن أنسب للبخل بذلك، ومرادها الكناية عن تقليل المدعو إليه لبيان الطعام فيهم (فجئته فساررته) بالمهملة والرائين وصيغة المبالغة في إخفاء ذلك الأمر وكتمه لئلا يطلع عليه أحد فيحضر من غير طلب لما بالناس من المجاعة فيقع في الفضيحة، وفيه جواز المسارة بحضرة الجمع إنما نهى أن يتناجى اثنان دون الثالث، وقوله: (فقلت: يا رسول الله ذبحنا) لعل الإتيان فيه بهذا الضمير لأنه شورك في ذبحها بإمساك الشاة وأخذ الشفرة (بهيمة) بالتصغير (لنا) وأتى بالظرف لما تقدم في نظيره من قوله طعيم لنا (وطحنت) بضم الفوقية أي أمرت المرأة بطحن (صاعاً من شعير) فالإسناد مجازي كقولهم بنى الأمير المدينة (فتعال أنت ونفر) بفتح أوليه النون والفاء وهو كما في «المصباح» وغيره جماعة الرجال من ثلاثة إلى عشرة، وقيل: إلى سبعة، ولا يقال فيما زاد على عشرة اهـ (معك) أتى به إعلاماً بأنه المقصود أصالة وغيره بالتبع (فصاح النبي) يحتمل كون الإسناد حقيقاً وهو المتبادر، لأن الذي وصفه به أنس أنه ليس صخاباً في الأسواق، والخندق ليس منها، وأيضاً فالأمر دعا هنا إلى رفع الصوت ليسمع القوم فيجيئوا، ويحتمل أن يكون مجازياً: أي أمر بذلك فيهم، وعلى الوجهين فهناك مقدر تقديره فقال: (يا أهل الخندق إن جابراً قد) للتحقيق (صنع سؤراً فحيهلاً) بفتح الهاء المهملة وتشديد التحتية والهاء منوناً، وقيل: بلا تنوين: أي أقبلوا مسرعين (بكم فقال النبي: لا تنزلن) رأيته في أصل مصحح من البخاري بفتح الفوقية وفتح الزاي مسنداً لقوله: (برمتكم) وفي نسخة مصححة من الرياض بضم الفوقية واللام، فالفاعل ضمير الجماعة محذوف لالتقاء الساكنين، لدلالة الضمة عليه. وفيه تغليب الحاضر على الغائب والمذكر على المؤنث فإن الأمر بذلك له ولأهله (ولا تخبزنّ عجينكم) وفي نسخة من البخاري بضم الفوقية

وفي أخرى بتحتية مضمومة بدل الفوقية وفتح الباء والزاي فيهما مبني للمجهول نائب فاعله ما بعده، وهو على التحتية بحذف الفوقية من عجينتكم، وفي النسخة المذكورة بفتح أوله وكسر الموحدة وضم الزاي فالفاعل محذوف، وعجينكم بحذف الفوقية مفعوله (حتى أجيء) غاية للكف عنهما المدلول عليه بالنهي عن فعل كل منهما (فجئت وجاء النبي) أعاد العامل إيماء إلى أن الواو للاعتراض ببيان صفة مجيئه بينه قوله: (يقدم الناس) إذ هو في محل الحال، قال المصنف: وإنما فعل هذا لأنه دعاهم فجاءوا تبعاً له كصاحب الطعام إذا دعا طائفة يمشي أمامهم، وكان في غير هذا الحال لا يتقدمهم ولا يمكنهم من وطء عقبه وفعله هنا لهذه المصلحة اهـ. والجملة معترضة بين المغيا وهو مجيئه والغاية وهي قوله: (حتى جئت امرأتي) أي وأعلمتها بندائه في أهل الخندق (فقالت: بك وبك) بالموحدة فيهما وفتح الكاف، وتكلمت عليه أولاً لظنها أنه لم يخبر النبي بالأمر ولم يفصح له عنه فلذا قال: (فقلت: قد فعلت) لا يخفى ما بين قوله: فقلت وفعلت من الجناس المصحف الخطي، وفيه إطلاق الفعل على القول ولعله للفرار عن التكرار المستثقل في السمع: أي قلت: (الذي قلت) بكسر الفوقية فحينئذ سكن ما بها، وهذا كما تقدم من كمال عقلها ووفور فضلها (فأخرجت عجينتنا) في «المصباح» : العجين فعيل بمعنى مفعول (فبصق) بالموحدة والصاد المهملة، قال المصنف: كذا في أكثر الأصول، وفي بعضها بالسين وهي لغة قليلة والمشهور بصق وبزق، وحكى جماعة من أهل اللغة بسق لكنها قليلة اهـ (فيه بارك فيه) أي دعا بالبركة وهي الخير الكثير الدائم ودوام كل شيء بحسبه (ثم عمد إلى برمتنا فبصق وبارك) أتى بثم إيماء إلى أن تأخر ذلك منه في الجملة وكأنه لأمر اقتضى تأخير وصوله لمحل البرمة وحذف متعلق كل من الفعلين إيجازاً اكتفاء بدلالة الجملة الأولى عليه (ثم قال) لعل تأخير القول عن البصق والدعاء أنه رأى الحاجة إلى ذلك بعد فأمر به عند ظهورها (ادع خابزة فلتخبز معك) كذا في الرياض من غير ياء في ادع، وبالكاف في معك. قال المصنف في «شرح مسلم» : هذه اللفظة وهي ادعي وقعت في بعض الأصول هكذا بعين ثم تحتية، وهو الصحيح الظاهر لأنه خطاب للمرأة، ولهذا قال: فلتخبز معك، وفي بعضها ادعوني، وفي بعضها ادعني وهما أيضاً صحيحان، وتقديرهما اطلبوا لي واطلب لي اهـ. والذي في البخاري، وقال: ادع خابزة فلتخبز معي، ولعله

وقع مباشرة الخبز منه تارة، ومن المرأة أخرى فطلب في كل معيناً (واقدحي) أي اغرفي (من برمتكم ولا تنزلوها) فيه تغليب المذكر على المؤنث لشرفه فالخطاب لجابر والأمر له ولامرأته، وفيه إن لم يكونا أزيد من ذلك إطلاق الجمع على ما فوق الواحد، وكأن حكمه الإبقاء ستر السرّ الإلهي بايهام الحاضرين كثرتها فتستمرّ سحائب الفيض متواترة معجزة له، ولا يقع عليها نظرهم ابتداء فيستقلوها فيكون بسبب رفع البركة منها أخذاً مما يأتي عن التلمساني في قصة أبي طلحة (وهم ألف) قال في «الفتح» : أي الذين أكلوا، وهذه الرواية محكوم بها لزيادة ما فيها على رواية إنهم كانوا سبعمائة أو ثمانمائة، ورواية أنهم كانوا ثمانمائة أو ثلثمائة، ورواية أنهم كانوا ثلاثمائة والقصة متحدة (فأقسم با لأكلوا) أكد بعده مؤكدات دفعاً لاستبعاد العقل بحسب العادة اكتفاء هذا العدد الكثير بهذا القدر اليسير من الطعام (حتى تركوه) أي المذكور من خبز العجين ولحم الشاة (وانحرفوا) أي مالوا عن المنزل جهة مقصدهم (وإن برمتنا لتغط) بكسر المعجمة وتشديد الطاء المهملة والجملة حالية، وقوله: (كما هي) مفعول مطلق أي تغط بعد انصرافهم شباعاً مثل غطيطها قبل الأخذ منها (وإن عجينتنا ليخبز كما هو) جملة معطوفة على الجملة الحالية، وهذه القصة علمان من أعلام النبوة: تكثير الطعام القليل، وعلمه بأنّ هذا الطعام القليل الذي يكفي في العادة خمسة أنفس أو نحوهم سيكثر فيكفي ألفاً وزيادة، فدعا له ألفاً قبل أن يصل إليه وقد علم أنه صاح شعير وبهيمة والله أعلم (قوله: عرضت كدية هي) في رواية الإسماعيلي (بضم الكاف وإسكان الدال) المهملة (وبالمثناة تحت، وهي قطعة غليظة صلبة) بضم الصاد المهملة: أي شديدة قوية (من الأرض) مثله في «المصباح» وفي «فتح الباري» هي القطعة الصلبة الصماء وقوله: (لا يعمل فيها الفأس) بيان لتلك، لا أنه داخل في مفهوم الكدية كما تقدم عن «المصباح» وغيره، وعند أبي ذرّ أحد رواه البخاري أيضاً كيدة بفتح الكاف وسكون التحتية، قيل: هي القطعة الشديدة الصلبة من الأرض، وقال عياض: كأن المراد بها واحدة الكيد، كأنهم أرادوا أن الكيد وهو الحيلة أعجزهم، فلجئوا إلى النبيّ. وعن ابن السكن: كتدة بفوقية بدل

التحتية. قال عياض: لا أعلم لها معنى (والكثيب) بوزن قريب بمثلثة وتحتية فموحدة (أصله تل الرمل والمراد هنا صارت) هذا تفسير عادت فإنه يأتي كذلك. ومنه قول الكفرة لشعيب {أو لتعودنّ في ملتنا} (الأعراف: 88) فإن الأنبياء معصومون من الكفر قبل النبوة وبعدها قولاً واحداً، ويأتي عاد بمعنى رجوع الشيء لما كان عليه، وقد حمل بعضهم عليه الآية وقال: إنه باعتبار تغليب قومه لكثرتهم عليه وهي هنا في الخبر لم يكن رملاً ثم انعقدت كدية بل الكدية أصلها فصارت بضربه معجز له (تراباً ناعماً) يسيل ولا يتماسك قال تعالى: {وكانت الجبال كثيباً مهيلاً} (المزمل: 18) أي رملاً سائلاً (وهو معنى أهيل) والاقتصار على أهيل الذي جرى عليه الشيخ هو ما في رواية الإسماعيلي، وكذا عند أحمد «كثيباً يهال» وفي رواية للبخاري كما تقدم «أهيل» أو «أهيم» بالشك (والأثافي) تقدم ضبطه (الأحجار التي تكون عليها القدر) قال في «النهاية» : هي جمع أثفية وقد تخفف الياء في الجمع يقال: أثفيت القدر إذا جعلت لها الأثافي، وثفيّتها: إذا وضعتها عليها، والهمزة فيه زائدة اهـ (وتضاغطوا) بتخفيف الضاد المعجمة على أن إحدى التاءين حذفت تخفيفاً وبتشديدها على الإدغام (تزاحموا) بالوجهين، قال في «المصباح» : ضغطه ضغطاً من باب نفع: دفعه إلى حائط أو غيره (والمجاعة الجوع) فهي مصدر ميمي (وهي بفتح الميم) وتخفيف الجيم، قال في «النهاية» : مفعلة من الجوع، وفي «المصباح» إنها اسم مصدر كالجوع بضم الجيم المشترك بينه وبين مصدر جاع (والخمص بفتح الخاء المعجمة والميم) مثله في «شرح مسلم» لكن في «فتح الباري» وقد تسكن الميم (الجوع) في «الفتح» وهو ضمور البطن ولا منافاة فبأحدهما يلزم الآخر (وانكفأت) أي بالهمزة في رواية مسلم، قال المصنف: ووقع في نسخ فانكفيت وهو خلاف المعروف في اللغة، بل الصواب انكفأت بالهمزة اهـ. وتقدم أنه بالياء عند البخاري وتوجيهه كما في «الفتح» كأنه سهل الهمزة وقلبها ياء (انقلبت ورجعت. والبهيمة بضم الباء) الموحدة وتشديد التحتية (تصغير بهمة) بفتح الموحدة وسكون الهاء، قال في «المصباح» : ولد الضأن تطلق على الذكر والأنثى وجمعها بهم كتمرة وتمر، وجمع البهم بهام كسهم

وسهام، ويطلق البهام على أولاد الضأن والمعز إذا اجتمعت تغليباً، فإذا انفردت قيل: لأولاد الضأن بهام لأولاد المعز سخال. وقال ابن فارس: إليهم صغار الغنم. وقال أبو زيد يقال لأولاد الغنم سائمة تضعها الضأن والمعز ذكراً كان الولد أو أنثى سخلة ثم هي بهيمة وجمعها بهم اهـ (وهي) أي المراد منها كما جاء التصريح به في الروايات السابقة عن جابر في الحديث السابق (العناق بفتح العين) المهملة وتخفيف النون آخره قاف قال في «المصباح» : هي الأنثى من ولد المعز قبل استكمالها الحول اهـ، والمراد ما قاربها ليحصل به قرى الضيف (والداجن) بالدال المهملة والجيم والنون (هي التي ألفت البيوت) ولم تفلت للمرعى وذلك للاعتناء بها المنبىء عن كرمها وسمنها (والسؤر) بضم السين المهملة وإسكان الواو مهموز (الطعام الذي يدعى الناس إليه) قال في «شرح مسلم» وقيل: الطعام مطلقاً (وهو بالفارسية) مثله في «شرح مسلم» ، وخالفه الحافظ في «الفتح» فقال: وسكون الواو بغير همز، أما بالهمز فهو البقية قلت: ويؤيده أنه ذكره في «النهاية» في مادة السين والواو بغير همز، واقتصر على أنه الطعام المدعو إليه. قال في «الفتح» وهو هنا الصنيع بالحبشة. وقيل: العرس بالفارسية، ويطلق على البناء الذي يحيط بالمدينة اهـ. ويؤخذ منه أن إطلاقه على الطعام المذكور مجار مرسل، إذ هو بالفارسية العرس الملازم له عادة فأطلق اللازم وأريد الملزوم (وحيهلاً) بتنوين هلا. وقيل: بلا تنوين. ويقال: حيهل (أي تعالوا) وقال في «الفتح» : هي كلمة استدعاء فيها حث: أي هلموا مسرعين وهذا تفسير مراد. وأما معناه ففي «شرح مسلم» للمصنف: قيل عليك بكذا أو دع بكذا، هكذا قاله أبو عبيد وغيره، وقيل: معناه أعجل به وقال الهروي: معناه هات وعجل به اهـ. وفي «النهاية» هي كلمتان جعلتا كلمة واحدة فحي معناه أقبل، وهلا أسرع. وقال ابن عيش في «شرح المفصل» : هو من أسماء الأفعال مركب من حي وهل، وهما صوتان معناهما الحثّ والاستعجال وجمع بينهما وسمي به للمبالغة، وكان الوجه ألا ينصرف كحضرموت وبعلبك إلا أنه وقع موقع فعل الأمر فبنى كصه ومه وفيه لغات، وتارة يستعمل حيّ وحده نحو حيّ على الصلاة وتارة هلا وحدها، واستعمال حي وحده أكثر من استعمال هلا وحده اهـ. وقال صاحب «البسيط» : فيه سبع لغات حيهل بفتح الياء المشددة والهاء كخمسة عشر، وحيهلا بالتنوين لإرداة التنكير، وحيهلا بالألف من غير تنوين، وحيهلا بإسكانها مع التنوين وإيكان الهاء كراهة لاجتماع الحركات، وجاء

متعدياً بنفسه كحيهلا الثريد: أي ائته أو أحضره وقربه وبالباء كحيهلا بعمرو: أي ائت به وبإلى كحيهلا إلى كذا: أي سارع وبادر إليه وبعلى كحيهلا على كذا: أي أقبل عليه. كذا في مرقاة الصعود للسيوطي، ويؤخذ منه تفسير المتعدي بالباء بائت به أن معنى قوله كحيهلا بكم: أي أقبلوا بأنفسكم (وقولها: بك وبك) بالموحدة وفتح الكاف فيهما (أي خاصمته وسبته) قال في «شرح مسلم» : أي ذمته ودعت عليه. وقيل: معناه: بك تلحق الفضيحة وبك يتعلق الدم، وقيل: معناه: جرى هذا برأيك وسوء نظرك وبسببك (لأنها اعتقدت أن الذي عندها لا يكفيهم) وأن جابراً لم يخبر النبيّ بقدره فاستحيت وخفي عليها ما أكرم الله سبحانه وتعالى به نبيه من هذه المعجزة الظاهرة والآية العلامة الدالة على نبوّته (الباهرة) من بهرت الشمس غلب نورها على كل ذي نور إذ كفى بهذا الطعام اليسير ذلك العدد الكثير، ولا تخالف بين ما في هذه الرواية من كونها ثالت له ما ذكر من السبّ وما تقدم في الرواية قبلها من أن رفع جابر إنما كان بقولها: هل هن كان سألك الخ، لما في «الفتح» للحافظ من الجمع بينهما بأنها أوصته أو لا ألا يعلمه بالصورة فلما قال لها: إنه جاء بالجميع ظنت أنه لم يعلمه فخاصمته، فلما أعلمها أنه أعلمه سكن ماعندها لعلمها بإمكان خرق العادة.l ثم اختلف العلماء فيما في القصة من اكتفاء ذلك الجمع بذلك النزر اليسير هل مع بقاء الطعام على قلته، ولكن ببركته أجرى الطعام القليل مجرى الكثير، فيكفي كفايته وتوقف الشبع على كثرة المأكول أمر عادي، وأن الله زاد فيه وكثره، ويعبر عن القول الأول بتكثير الموجود، وعن الثاني بإيجاد المعدوم، والثاني أقرب (بسق) بالسين المهملة، وفي «المصباح» : أن السين بدل من الصاد، قال: ومنعه بعضهم وقال: لا يقال بسق بالسين إلا لزيادة الطول كالنخلة وغيرها وعزاه إلى الخليل (ويقال) له: (أيضاً بزق) بالزاي بدل الصاد (ثلاث لغات) وهذا لا يخالف ما ذكر في «المصباح» من أن الأصل الصاد وأن السين والزاي بدلان منها (وعمد بفتح الميم) من باب ضرب كما في «المصباح» أي قصد (واقدحي) بوصل الهمزة وفتح الدال المهملة (أي اغرفي والمقدحة) بكسر أوله وسكون ثانيه وفتح ثالثه ورابعه المهملين (المغرفة) بالغين المعجمة والفاء ووزن ما قبله

وهما اسما آلة (وتغط) تقدم ضبطها (أي لغليانها صوت) وذلك كناية عن كثرة ما فيها إذ القليل يضعف غليانه عن رفع الصوت، (والله أعلم) . 30 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال أبو طلحة) زيد بن سهل الأنصاري (لأم سليم) بضم السين المهملة زوج أبي طلحة وأم أنس، وما في «وسيط الغزالي» تبعاً لشيخه الصيدلاني ومحمد ابن يحيى صاحب «البحر» من أنها جدة أنس فغلط اتفاقاً، قاله المصنف في «التهذيب» . واختلف في اسمها فقيل: سهلة، وقيل: رميلة، وقيل: أنيفة، وقيل: رميثة، وقيل: الرميصاء وهي بنت ملحان بكسر الميم ويقال: بفتحها الأنصارية (قد سمعت صوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضعيفاً) حال وهو مراد الإخبار، ويحتمل أن يكون ضمن معنى فعل قلبي، فعمل عمله من نصب المفعولين، وإلا فسمع في مثله لا ينصب إلا واحداً اتفاقاً، وقوله: (أعرف فيه الجوع) في محل الصفة لما قبله وأتى به تأكيداً أو دفعاً لتوهم أنه لم يعرف ذلك منه بل توهمه (فهل عندك من شيء) من مزيدة في المبتدأ لغرض التنصيص على التعميم واستغراق أفراد ما يطلق عليه شيء: أي يطعم بقرينة المقام، وتقدمت حكمة الإتيان بهذا مع الإخبار بالواقع في ثاني حديثي قصة جابر (فقالت: نعم) أي عندي شيء (فأخرجت أقراصاً من شعير) أي بادرت إلى إخراجها لأن الحال تأبى عن التأخير، قال في «فتح الباري» عند أبي يعلى عن أنس: إن أبا طلحة بلغة أنه ليس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعام، فذهب فأجبر نفسه بصاع من شعير فعمل بقية يومه ثم جاء به، الحديث (ثم أخذت خماراً) بكسر الخاء المعجمة: ثوب تغطي به المرأة رأسها ووصفه بقوله: (لها فلفت الخبز ببعضه ثم دسته) بفتح الدال وتشديد السين المهملتين. قال في «فتح الباري» : يقال: دسّ الشيء يدسه دساً: أدخله في الشيء بقهر وقوة اهـ: أي أدخلته (تحت ثوبي وردتني ببعضه) والمراد أنها لفت الخبز ببعض الخمار ولفت أنساً بباقيه (ثم أرسلتني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذهبت فوجدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالساً) مفعول ثان كقوله تعالى: {تجدوه

عند اهو خيراً} (المزمل: 20) فوجد فيه من أفعال القلوب يدل على العلم لأن من وجد شيئاً بحال علمه عليها وقوله: (في المسجد) متعلق بثاني المفعولين ويصح تعلقه بوجدت، وكونه حالاً من فاعله أو من رسولالله، ويقربه قوله: (ومعه الناس) فإنها جملة حالية، ويجوز كونها معطوفة على ثاني المفعولين (فقال رسول الله) في البخاري: «فقال لي» (أرسلك أبو طلحة) بالهمزة مقدرة حذفت. وقال الحافظ في «الفتح» : إنه بهمزة ممدودة للاستفهام (فقلت: نعم. قال: ألطعام) يحتمل نصبه بنزع الخافض أي يدعو إلى الطعام، ويؤيده قوله في رواية البخاري: «قال: بطعام» ، ويحتمل أن يكون مفعول جعل مقدراً وأل في الطعام جنسية (فقلت: نعم) قال الحافظ: ظاهر هذا أن النبيّ فهم أن أبا طلحة استدعاه إلى منزله، فلذا قال لمن عنده قوموا، وأول الكلام يقتضي أن أم سليم وأما طلحة أرسلا الخبز مع أنس، فيجمع بأنهما أرادا بإرسال الخبز مع أنس أن يأخذه النبي وحده خشية أن لا يكفيهم فيأكله فلما وصل أنس ورأى كثرة الناس حوله استحيا وظهر له أن يدعو النبي ليقوم معه وحده إلى المنزل فيحصل مقصودهم من إطعامه، ويحتمل أن يكون ذلك عن رأي من أرسله، عهد إليه إذا رأى كثرة الناس أن يستدعي النبي وحده خشية ألا يكفيهم أجمعين ذلك الطعام ومن عادته ألا يؤثر نفسه على أصحابه بمثل ذلك فلذا دعاهم (فقال رسول الله: قوموا فانطلقوا فانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة) قال في «الفتح» : جاء في رواية زيادة: «وأنا حزين لكثرة من جاء معه» (فأخبرته) أي بمجيئه ومجيء من معه وحذف ذلك إيجازاً لدلالة ما قبله عليه (فقال أبو طلحة: يا أم سليم) فيه إكرام الرجل زوجه ونداؤها بالكنية (قد) للتحقيق ويحتمل كونها للتقريب (جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس) هو وإن كان من صيغ العموم لكونه اسم جنس محلى بأل إلا أن المراد هنا العموم العرفي: أي الحاضرين مجلسه حينئذ فهذا عام أريد به خاص فهو مجاز قرينته الحال. وفي رواية والناس بالواو بدل الموحدة والمآل واحد لأن المعنى: الناس معه لكونه الجائي بهم والداعي لهم وجملة (وليس عندنا ما يطعمهم) حالية من فاعل جاء: أي

يطعمهم بقدر كفايتهم (فقالت: الله ورسوله أعلم) كأنها عرفت أنه فعل ذلك عمداً لتظهر له الكرامة في تكثير الطعام ودل ذلك على فطنة أم سليم ورجحان عقلها، قال الحافظ بعد ذكر روايات: فيها ملاقاة أبي طلحة للنبيّ وإخباره بقلة الطعام الذي عنده، وفي رواية يعقوب: «قال أبو طلحة إنما أرسلت أنساً يدعوك وحدك ولم يكن عندنا ما يسع من أرى فقال: ادخل فإن الله سيبارك فيما عندك» وفي رواية أنس: «فدخلت على أم سليم وأنا مندهش» ، وفي أخرى: «أن أبا طلحة قال: يا أنس فضحتنا» ، وللطبراني في «الأوسط» : «فجعل يرميني بالحجارة» (فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه حتى دخلا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هلمي) قال الحافظ: كذا لأبي ذرّ عند الكشميهني ولغيره هلم، وهي لغة حجازية هلم عندهم اسم فعل لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع، ومنه قوله تعالى: {هلم شهداءكم} (الأنعام: 150) وهي لطلب ما بعدها: أي احضري (ما عندك يا أم سليم، فأنت بذلك الخبز فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففت) بالبناء للمجهول (وعصرت عليه) أي على المفتوت المدلول عليه بالفعل قبله أو على الخبز والأول أقرب لأن الضمير يعود إلى أقرب مذكور ما لم يصرف صارف لكن ما يأتي في الكلام على قوله: «ثم قال فيه ما شاء الله أن يقول» يؤيد الأول، إلا أن يقال: عصرها عليه بعد الفت زيادة في التطرية وعصره قبله ليلين وينكسر فيه كما يريد والله أعلم (أم سليم عكة) بضم العين المهملة وتشديد الكاف، قال في «النهاية» : هي وعاء من جلد مستدير مختص بالسمن والعسل وهو بالسمن أخص ومثله في «الفتح» (فآدمته) بمد الهمزة وتخفيف الدال المهملة: أي صيرت الخارج منها إداماً له (ثم قال فيه) أي عليه (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شاء الله أن يقول) فقال أبو طلحة: «قد كان في العكة شيء فجاء بها فجعلا يعصرانها حتى خرج، ثم مسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به ثيابه، ثم مسح القرص فانتفخ وقال: بسمالله، فلم يزل يصنع ذلك والقرص ينتفخ حتى رأيت القرص في الجفنة يتسع» ، وفي رواية: «فمسحها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعها فيها بالبركة» ، وفي رواية: «فجئت بها ففتح رباطها ثم قال: بسم الله اللهم أعظم فيها البركة» قال الحافظ بعد ذكر ذلك وتعيين راوي كل رواية منها: وعرف بهذا المراد بقوله: «ما شاء الله أن يقول» (ثم قال: ائذن لعشرة فأذن) بالبناء للفاعل:

أي المخاطب بذلك الأمر منه من أنس وأبي طلحة، ويحتمل أنه مبني للمفعول (لهم فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا ثم قال: ائذن لعشرة، فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا، ثم قال: ائذن لعشرة حتى أكل القوم كلهم) قال في «الفتح» : ظاهر هذه العبارة أن النبيّ دخل منزل أبي طلحة وحده، وبه صرح في رواية لابن أبي ليلى ولفظها «فلما انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الباب فقال لهم: اقعدوا ودخل» قال في «الفتح» : وسئلت في مجلس الإملاء عن حكمة تبعيضهم، فقلت: يحتمل أن يكون عرف أن الطعام قليل وفي صحفة واحدة فلا يتصوّر تحلق ذلك العدد الكثير، فقيل: لم لا دخل الكل وبعّض ما لم يسعه التحليق فكان أبلغ في اشتراك الجميع في الاطلاع على المعجزة بخلاف التبعيض، فإنه يطرقه احتمال تكرر وضع الطعام لصغر الصحفة؟ فقلت: يحتمل أن يكون ذلك لضيق الوقت والله أعلم اهـ. وقال التلمساني في حاشية «الشفاء» : وقيل: حكمة ذلك العدد لئلا يقع نظر الكل على الطعام القليل فيزداد حرصهم ويظنون أنه لا يشبعهم فتذهب بركته، وقوله: «كلهم» توكيد أتى به للشمول وألا يتوهم أن المراد أكل المعظم (وشبعوا) أي ليس أكلاً بقدر ما يسد الرمق ويقيم البنية بل إلى حد الشبع، ولا ينافيه النهي عن الشبع لأنه فيمن أدمن عليه واعتاده، وأما نادراً كما في هذا فلا، وأيضاً فما هنا من قبيل خروجه للمطر، قوله فيه: إنه حديث عهد بربه: أي بتكوينه، ومن قبيل حثو أيوب عليه السلام ما تساقط عليه من جراد الذهب فقال الله له: ألم يكن فيما أعطيتك غنى عن هذا؟ قال: بلى، ولكن هذا فضلك ولا غنى بنا عن فضلك، والحديث في «الصحيح» (والقوم سبعون رجلاً أو ثمانون) رجلاً قال في «الفتح» : كذا في هذه بالشك، وفي غيرها الجزم بالثمانين: أي كما يأتي في الرواية بعد، بل في أخرى أكل منه بضعة وثمانون رجلاً (متفق عليه) رواه البخاري في باب علامات النبوّة بطوله وفي الصلاة مختصراً وفي الأطعمة وغيرها، رواه مسلم في الإيمان، ورواه الترمذي في المناقب وقال: حسن صحيح، والنسائي في الوليمة كذا في «الأطرف» للمزي. (وفي رواية فما زال) أي النبيّ (يدخل عشرة ويخرج عشرة) أي يأمر بذلك فإسنادهما إليه مجازي بدليل الرواية السابقة (حتى لم يبق منهم أحد إلا أدخل فأكل حتى شبع ثم هيأها) أي جمعها بعد تمامهم أجمعين: أي وبعد أكله وأهل المنزل منه، ويحتمل كونه ذلك قبل هذا (فإذا هي) أي

الصحفة باعتبار ما فيها من الطعام (مثلها) على حالتها من قدر الطعام فيها حال وضعه قبل تناول أحد منه وهو مراده بقوله: (حين أكلوا منها) وإذا للمفاجأة والجملة الإسمية بعدها مضاف إليها والمعنى: فاجأهم هذا الأمر الخارق للعادة معجزة له، وذلك مساواتها بعد الشبع الثمانين منها لها قبل وضعهم اليد فيها، وفي رواية لمسلم «ثم أخذ ما بقي فجمعه، ثم دعا فيه بالبركة فعاد كما كان فقال: دونكم هذا» . (وفي رواية لمسلم) من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري عن أنس (فأكلوا) الواو فيه ضمير يعود إلى الصحابة المذكورين في الخبر وقوله: (عشرة عشرة) حال بمعنى مرتبين كذلك، وكان حق الإعراب فيهما أن يكون في أحدهما لكن لما قبله كلاهما كان تخصيص أحدهما به ترجيحاً بلا مرجع، فجرى الإعراب فيهما (حتى فعل ذلك بثمانين رجلاً، ثم أكل النبيّ بعد ذلك، وأهل البيت) قال المصنف: فيه إنه يستحبّ لصاحب الطعام وأهله أن يكون أكلهم بعد فراغ الضيفان (وتركوا سؤراً) تقدم ضبطه ومعناه في حديث جابر المذكور آنفاً. ففي الحديث علم من أعلام نبوته من كفاية هذا القدر اليسير من الطعام ذلك العدد الكثير من الأنام. (وفي رواية) هي لمسلم أيضاً في الأطعمة من حديث عبد الله بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس (ثم أفضلوا) أي أبقوا (ما بلغوا جيرانهم) وفي رواية: «فضلت فضلة فأهدينا لجيراننا» . وفي رواية عن أنس: حتى أهدت أم سليم لجيرانها ثم «ما» يحتمل كونها موصولة أو نكرة موصوفة عائدها ضمير مجرور محذوف: أي ما وصلوا به جيرانهم، ويحتمل كون العائد ضميراً منصوباً: أي ما أوصلوه جيرانهم. والجيران بكسر الجيم وسكون التحتية جمع جار (وفي رواية) لمسلم عن يعقوب بن عبد الله بن طلحة الأنصاري (عن أنس) بطريق السماع منه كما صرح به مسلم (قال: جئت رسول الله) أي للقيام بشيء من الخدم لأنه كان خادمه (فوجدته جالساً) يحتمل كونه في المسجد كما وجده فيه في القصة، قيل: وقد صرح بذلك في رواية عنه عند مسلم قال: «جئت النبي فوجدته جالساً في المسجد يتقلب ظهراً لبطن» ثم ساق الحديث، ويحتمل كونه في غيره (مع أصحابه وقد عصب) قال المصنف: بالتخفيف والتشديد بمعنى: أي ربط (بطنه بعصابة) قال مسلم قال أسامة: وأنا أشك على حجر وفعله ذلك ليسكن به مغص المعدة فيضعف عنه ألمها، كما تقدم في حديث

جابر في حكمة شدّ الحجر على بطنه. وقوله: عصب الخ جملة حالية من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو من ضميرة، وهو لا يخالف قوله في الرواية السابقة يتقلب ظهراً لبطن كما قال المصنف، بل أحدهما يبين الآخر: أين كان كلا الأمرين، فذكر في كل من الروايتين أحدهما وترك الآخر سهواً أو لغيره (فقلت: لبعض أصحابه لما عصب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطنه؟ فقالوا: من) من فيه تعليلية لأنها ذكرت لبيان ما سأل عنه أنس من علة الربط: أي لأجل (الجوع) وبسببه كقوله: «مما خطاياهم أغرقوا» (فذهبت إلى أبي طلحة وهو زوج أم سليم بنت ملحان) هذه جملة معترضة بين المتعاطفين أتي بها لبيان وجه مجيئه إليه وقوله: (فقلت: يا أبتاه) هو زوج أمه وسماه أبا تأدباً وألحق بآخره الهاء الساكنة للوقف عليها والجملة معطوفة على جملة ذهب (قد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عصب بطنه) يحتمل أن تكون رأى علمية فتكون الجملة في محل الثاني وأن تكون بصرية، فتكون الجملة في محل الحال بتقدير قد، وعلى الثاني فالمراد أنه رأى في محل العصب من بطنه ما ليس بعورة مما كان يبدو منه في خلوته وبين خواص أصحابه وقوله: (فسألت بعض أصحابه فقالوا: من الجوع) أتى به لدفع توهم أن عصب البطن كان من دأبه إنما كان من الجوع، فلذا ذكره له ليبادر إلى السعي في رفعه والإسراع في دفعه (فدخل أبو طلحة على أمي فقال: هل من شيء) من فيه مزيدة لتنصيص العموم والمراد منه ما ينتفع به من الأقوات بقرينة المقام فهو عام أريد به خاص كما تقدم في نظيره، ومجرورها مبتدأ خبره محذوف: أي عندك (فقالت: نعم) ثم بينت ما عندها بقوله: (عندي كسر) بكسر ففتح جمع كسرة بكسر فسكون: القطعة (من الخبز وتمرات) ظاهره أنها كانت قليلة بخلاف الكسر، ويحتمل أنها تجوزت باستعمال جمع القلة في جمع الكثرة كما وقع عكسه في قوله تعالى: {ثلاثة قروء} (البقرة: 228) (فإن جاءنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحده أشبعناه) أي لأن بها يحصل الشبع عادة (وإن جاء أحد معه قل عنهم)

57 ـــ باب القناعة

أي بحسب العادة (وذكر تمام الحديث) قال المصنف: في الحديث ما كان عليه الصحابة من الاعتناء بأحوال رسول الله، وفيه منقبة لأم سليم ودلالة على فقهها ورجحان عقلها لقولها: الله ورسوله أعلم معناه: أنه قد عرف الطعام فهو أعلم بالمصلحة اهـ. وفيه ضيق حال القوم حينئذ، وفيه إجزاؤهم بالقوت وترك ما زاد عليه من شهوة النفس وحظها، والله أعلم. 57 - باب القناعة هي كما في «الصحاح» في «الفتح» : الرضا بالقسم (والعفاف والاقتصاد) افتعال من القصد وهو ما بين الإسراف والتقتير (في المعيشة والإنفاق) وإخراج المال الطيب في الطاعة والمباحات: أي التوسط فيها كما قال تعالى: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط} (الإسراء: 29) (وذمّ السؤال) حذف معموله ليعم سائر المسؤول من مال وطعام وغيرهما (من غير ضرورة) إليه قال: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» أفاد بمفهومه ذم الاشتغال بضده. (قال الله تعالى) : ( {وما من} ) صلة للتنصيص على العموم ( {دابة في الأرض} ) قال ابن عطية: الدابة ما دبّ من الحيوان، والمراد جميع الحيوان الذي يحتاج إلى رزق ودخل فيه الطير والقائم من حيوان. وفي حديث أبي عبيدة: فإذا دابة مثل الظرب، يريد من حيوان البحر، وتخصيصه بقوله في الأرض لكونه أقرب لحسهم، والطائر والقائم إنما هو في الأرض وما مات من الحيوان قبل أن يغتذي فقد اغتذى في بطن أمه ( {إلا على الله رزقها} ) إيجاب تفضل لأنه تعالى لا يجب عليه شيء عقلاً. قال البيضاوي: وأتى به تخفيفاً للوصول، وحملاً على التوكل فيه. (وقال تعالى) ( {للفقراء} ) أي الصدقات لهم، وهم الأولى والأحق بها وإن جاز صرفها لغيرهم كما يؤخذ من الآية التي قبلها في التلاوة ( {الذين أحصروا في سبيل ا} ) حبسوا أنفسهم في الجهاد. وقيل معناه: حاسبوا أنفسهم بربقة الإسلام

وقصد الجهاد وخوف العدو إذا أحاط بهم الكفرة، فصار خوف العدو عذراً أحصروا به. قيل: المراد بهم فقراء المهاجرين من قريش وغيرهم، وقيل: أصحاب الصفة المنقطعين بكليتهم إلى الله تعالى. قال ابن عطية: يتناول كل من دخل تحت صفة الفقراء غابر الدهر، وقوله: في سبيل الله يحتمل الجهاد ويحتمل الدخول في الإسلام ( {لا يستطيعون ضرباً في الأرض} ) ذهاباً بالتجارة فيها لاشتغالهم بالجهاد وبا أو لغلبة الكفرة في البلاد ( {يحسبهم الجاهل} ) بحالهم ( {أغنياء من التعفف} ) من أجل تعففهم عن السؤال ( {تعرفهم بسيماهم} ) من التخشع وأثر الجهد والضيق، وقيل: أثر السجود. قال ابن عطية: وهذا أحسن لأنهم متفرغون متوكلون لا شغل لهم غالباً سوى الصلاة فكان أثر السجود عليهم أبداً ( {لا يسألون الناس إلحافاً} ) أي إلحاحاً والآية تحتمل نفي السؤال عنهم جملة فيكون من نفي المقيد وهذا ما عليه الجمهور، ويحتمل أن سؤالهم: أي إن سألوا عن مزيد الحاجة لا يلحون: أي لا يظهر لهم سؤال بل هو قليل، وباحتماله فيكون النفي للقيد، وهذا هو الأكثر في النفي المتوجه إلى كلام مقيد كما قاله السفاقسي. قال الثعالبي: بعيد من ألفاظ الآية فتأمله، وينبغي للفقير أن يتعفف في فقره ويكتفي بعلم ربه. قال العارف با ابن أبي جمرة: وقال أهل التوفيق من لم يرض باليسير فهو أسير. ومن كلام عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: استغن عمن شئت تكن نظيره، وتفضل على من شئت تكون أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره. قال ابن عطية: في الآية تنبيه على سوء حال من يسأل الناس إلحافاً. (وقال تعالى) : ( {والذين إذا أنفقوا} ) أي من الطاعات لأنهم محفوظون من غيرها كما قال ابن عطية ( {لم يسرفوا} ) أي لم يفرطوا حتى يضيعوا حقاً ناجزاً أو عيالاً أو نحوه ( {ولم يقتروا} ) أي لم يفرطوا في الشحّ ( {وكان بين ذلك قواماً} ) وسطاً وعدلاً، سمي به لاستقامة الطرفين كما سمي سواء لاستوائهما، والقوام في حق كل بحسب عياله وخفة ظهره وصبره وجلده على الكسب أو ضد هذه الخصال، وخير الأمور أوساطها، وقواماً خبر ثان أو حال مؤكدة، ويجوز أن يكون الخبر و «بين» : ظرف لغو، وقيل: إنه اسم كان، بني لإضافته لغير متمكن، وضعف بأنه بمعنى

القوام فيكون كالإخبار عن الشيء بنفسه. (وقال تعالى) : ( {وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون} ) أي إلا لأجلها، فإنهم خلقوا بحيث تتأتى منهم العبادة وهدوا إليها، فهذه غاية كمالية لخلقهم، وتعرى البعض عن الوصال إليها لا يمكن كون الغاية غاية، وأما قوله تعالى: {ذرأنا لجهنم} (الأعراف: 179) فلام العاقبة نحو «لدوا للموت» أو إلا لنأمرهم، أو ليقروا بي طوعاً أو كرهاً، أو المراد منهم المؤمنون ( {ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون} ) أي يطعموني: أي ليس شأني معهم كشأن السادة مع العبيد، وقيل: أن يرزقوا أنفسهم أو أحداً من خلقي، وأسند الإطعام إلى نفسه لأن الخلق عيال الله وإطعام العيال علىالله، وفي الحديث القدسي: «استطعمت فلم تطعمني» . (وأما الأحاديث) الدالة على ما ذكر في «الترجمة» (فتقدم معظمها) أي أكثرها (في البابين السابقين) قيل: فإن أحاديثهما القناعة من الصحابة والاقتصاد وترك السؤال والصبر على مضض الفقر (ومما لم يتقدم) أي بعضه وإلا فاستعيب جميع ما لم يذكر فيهما مما ورد في الباب قد يشق. 1 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ليس الغنى) أي الممدوح في الشرع المرضي عند الله سبحانه المعدّ لثواب الآخرة أو النافع أو العظيم وهو بكسر أوله المعجم مقصوراً، وقد مد في ضرورة الشعر (عن كثرة العرض) عن فيه سببية (ولكنّ) بتشديد النون فيما وقفت عليه من نسخ الرياض والاستدراك لدفع توهم كثرة العرض ينافي الغني المحمود فدفعه بقوله ولكن (الغني غني النفس) قال ابن بطال: معنى الحديث ليس حقيقة الغنى كثرة المال، فكثير من الموسع عليه فيه لا ينتفع بما أوتي، جاهد في الازدياد لا يبالي من أين يأتيه. فكأنه فقير من شدة حرصه، وإنما حقيقة الغنى غنى النفس، وهو من

استغنى بما أوتي وقنع به ورضي ولم يحرص على الازدياد ولا ألحّ في الطلب. وقال القرطبي: وإنما كان الممدوح غنى النفس لأنها حينئذ تكفّ عن المطامع فتعزّ وتعظم، ويحصل لها من الحظوة والشرف والمدح أكثر من الغنى الذي يناله مع كونه فقير النفس لحرصه، فإنه يورّطه في رذائل الأمور وخسائس الأفعال لدناءة همته وبخله وحرصه، فيكثر من يذمه من الناس فيصغر قدره عندهم فيصير أحقر من كل حقير وأذلّ من كل ذليل. والحاصل أن المتصف بغنى النفس يكون قانعاً بما قسم الله له لا يحرص على الازدياد لغير حاجة ولا يلحّ في الطلب، بل يرضى بما قسم له، فكأنه واجداً أبداً، والمتصف بفقر النفس على الضد منه، ثم غنى النفس إنما ينشأ عن الرضا بقضاء الله تعالى والتسليم لأمره، علماً بأن الذي عنده سبحانه خير وأبقى، فهو يعرض عن الحرص والطلب. وقال الطيبي: يمكن أن يراد بغنى النفس حصول الكمالات العلية، قال الشاعر: ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقر فالذي فعل الفقر أي ينبغي أن ينفق أوقاته في الغنى الحقيقي وهو تحصيل الكمالات لا في جمع المال فإنه لا يزداد به إلا فقراً اهـ. قيل: وهذا وإن أمكن إلا أن ما قبله أظهر في المراد. قلت: وعليه فيمكن أن يحمل قوله: ليس الغنى على الدوام: أي ليس الغنى الدائم عن كثرة المال فإنه عرضة للزوال إنما هو بالكمال النفساني وما أحسن ما قيل: رضينا قسمة الجبار فينا لنا علم وللأعداء مال فإن المال يفنى عن قريب وإن العلم كنز لا يزال وإنما يحصل غنى النفس بغنى القلب بأن يفتقر إلى ربه في جميع أمره، فيتحقق أنه المعطي المانع فيرضى بقضائه ويشكر على نعمائه، فينشأ عن افتقار القلب لربه غنى النفس عن غير ربه، والغنى الوارد في قوله تعالى: {ووجدك عائلاً فأغنى} (الضحى: 8) ينزل على غنى النفس، فإن الآية مكية، ولا يخفى ما كان فيه قبل أن يفتح عليه خيبر وغيرها من قلة المال (متفق عليه) ورواه أحمد والترمذي وابن ماجه، كذا في «الجامع الصغير» (العرض بفتح العين والراء) المهملتين والضاد المعجمة (هو المال) في «المصباح» : هو متاع الدنيا قال: وهو في

اصطلاح المتكلمين ما لا يقوم بنفسه ولا يوجد إلا في محل يقوم به، وهو خلاف الجوهر، والعرض بالسكون: المتاع، قالوا: والدراهم والدنانير عين وما سواهما عرض، وجمعه عروض كفلس وفلوس. وقال أبو عبيد: العرض أي بالسكون: الأمتعة التي لا يدخلها كيل ولا وزن ولا يكون حيواناً ولا عقاراً اهـ. وقال ابن فارس: العرض بالسكون: كل ما كان من المال غير نقد. 2 - (وعن عبد الله بن عمرو) بن العاص (رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قد) للتحقيق (أفلح) أي فاز وظفر (من أسلم) لنجاته من النار ودخوله الجنة قال تعالى: {فمن زحوح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز} (آل عمران: 185) (ورزق كفافاً) في الزكاة من «الترغيب والترهيب» للحافظ المنذري: الكفاف ما كفّ عن السؤال مع القناعة لا يزيد على قدر الحاجة، وفيه الزهد: الكفاف الذي ليس فيه فضل عن الكفاية. روى أبو الشيخ ابن حبان في كتاب الثواب عن سعيد بن عبد العزيز أنه سئل: ما الكفاف من الرزق؟ فقال: شبع يوم وجوع يوم اهـ. وقال القرطبي: هو ما لم يكف عن الحاجات ويدفع الضرورات والفاقات ولا يحلق بأهل الترفهات اهـ. وإنما كان ذلك فلاحاً لكونه حاز كفايته وظفر بإقامته وسلم من تبعة الغنى وذلّ سؤال الشيء، ثم على ما ذكره في الزكاة من «الترغيب» يكون قوله (وقنعه الله بما آتاه) من باب التصريح بما اندرج فيما قبله اهتماماً واحتفالاً بشأنه أو تجرد الكفاية عن اعتبار القناعة في مفهومه (رواه مسلم) ورواه أحمد والترمذي وابن ماجه كلهم عن ابن عمرو، كذا في «الجامع الصغير» ، وتقدم في الباب قبله حديث بمعناه عن فضالة بن عبيد وفيه شرق هذه الحال على حالي الفقر المدقع والغنى لما في الأول من كدح الحاجة والثاني من بطر الغنى. والحديث قد تقدم الكلام عليه في الباب قبله. 3 - (وعن حكيم) بفتح الحاء المهملة (ابن حزام) بكسر الحاء المهملة وبالزاي ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى الأسدي القرشي المكي (رضي الله عنه) ولد قبل عام الفيل

بثلاث عشرة سنة بجوف الكعبة ولا يعرف هذا لغيره، وما روي أن علياً ولد فيها فضعيف عند العلماء، عاش ستين سنة في الجاهلية، وأسلم عام فتح مكة، وعاش في الإسلام ستين سنة على ما تقدم فيه، ولم يشاركه في هذا إلا حسان بن ثابت. والمراد بقولهم وستين في الإسلام: أي من حين ظهوره مظهراً فاشياً، وكان من أشراف قريس ووجوهها جاهلية وإسلاماً ولم يصنع في الجاهلية من المعروف شيئاً إلا صنع في الإسلام مثله، وتقدمت ترجمته أيضاً في باب الصدق (قال: سألت رسول الله) أي من الدنيا (فأعطاني ثم سألته) أي مستكثراً منها (فأعطاني ثم قال) كأن حكمة تأخير هذا القول عن الإعطاء دفع توهم أن ذلك لبخل في المسؤول (يا حكيم) فيه نداء الرجل باسمه، وفيه تنبيه وإيماء إلى هذا الاسم يؤذن بقيامه بالحكمة وهي المعرفة فكأنه قال: يا موصوفاً بالحكمة الداعية إلى الزهادة في الدنيا والإقبال على الآخرة (إن هذا المال خضر) بفتح أوله وكسر ثانيه المعجمين: أي كالخضر في ميل النظر إليه وإلف النفس به (حلو) بكسر المهملة وسكون اللام، قال الحافظ: معناه أن صورة المال وإنما هو للتشبيه فكأنه قال: المال كالبقل الخضر الحلو أو على معنى فائدة المال: أي إن الحياة به أو العيشة به، أو أن المراد بالمال هنا الدنيا لأنه من زينتها قال تعالى: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا} (الكهف: 46) (فمن أخذه بسخاوة) بفتح السين المهملة وبالخاء المعجمة (نفس) أي بغير شره ولا إلحاح: أي أخذه بغير سؤال هذا بالنسبة للأخذ، ويحتمل أن يكون بالنسبة للمعطي: أي بسخاوة نفس المعطي: أي بانشراحه فيما بذله (بورك له فيه) فوقع منه القليل من المال والبركة موضع الكثير منه مع فقدها (ومن أخذه بإشراف) بالشين المعجمة (نفس) أي انتظارها له وحرصها عليه كما يأتي بنحوه في الأصل (لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع) أي الذي يسمى جوعه كذاباً لأنه من علة به وسقم، فكلما أكل ازداد سقماً ولم يجد شبعاً. وفي الحديث وجوه من التشبيهات بديعة: تشبيه المال وثمره بالنبات وظهوره، وتشبيه آخذه بغير حق بمن يأكل ولا

يشبع. وقال ابن أبي حمزة: في الحديث فوائد منها أنه قد يقع الزهد مع الأخذ، فإن سخاوة النفس هو زهدها، تقول: سخت بكذا: أي جادت به، وسخت عن كذا: أي لم تلتفت إليه. ومنها أن الأخذ مع سخاوة النفس يحصل أجر الزهد والبركة في الرزق، فتبين أن الزهد يحصل خيري الدارين. وفيه ضرب المثل لما لا يعقله السامع مع الأمثلة، لأن الغالب من الناس لا يعرف البركة إلا في الشيء الكثير، فتبين بالمثال المذكور أن البركة خلق من الله خلق، وضرب لهم المثل بما يعهدون، فالآكل إنما يأكل ليشبع، فإذا أكل ولم يشبع كان غياً في حقه بغير فائدة في عينه إنما هي لما يتحصل به من المنافع، فإذا كثر عند المرء من غير تحصيل منفعته كان وجوده كالعدم: «واليد العليا خير من اليد السفلى» في «صحيح البخاري» : فاليد العليا هي المنفقة والسفلى هي السائلة. قال في «فتح الباري» : عند النسائي من حديث طارق بن المخارق قال: قدمنا المدينة فوجدنا النبيّ قائماً على المنبر يخطب الناس وهو يقول: يد المعطي العليا، ولابن أبي شيبة والبزار من طريق ثعلبة بن زهدم مثله. وقال في «الفتح» بعد إيراد أحاديث: فهذه متضافرة على أن اليد السفلى هي السائلة والعليا هي المعطية، وهذا هو المعتمد وهو قول الجمهور، ثم ذكر مقابل ذلك أقوالاً بسط بيانها في «الفتح» (قال حكيم: فقلت يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أزرأ أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا) هو غاية في ألا برزأ أحداً لأن من المعلوم أنه بعد مفارقته الدنيا لا يحتاج لمال، وإنما هو كناية عن دوام الانكفاف عن الغير أبداً (فكان أبو بكر رضي الله عنه) أي لما صار خليفة (يدعو حكيماً ليعطيه) أي ما يستحقه من المغنم (فيأبى أن يقبل منه شيئاً ثم إن عمر رضي الله عنه) لما صار إليه الأمر بعد الصديق رضي الله عنه (دعاه ليعطيه فأبى أن يقبله) أي ولا شيئاً منه كما يدل عليه ما قبله (فقال: يا معشر المسلمين، أشهدكم على حكيم أني أعرض عليه حقه الذي قسم ا) العائد فيه ضمير منصوب محذوف (له في الفيء فيأبى أن يأخذه) قال في «المصباح» : المعشر والقوم والرهط والنفر: الجماعة من الرجال دون النساء والجمع معاشر، وفي «فتح الباري» : إنما امتنع حكيم من أخذ العطاء مع أنه حقه لأنه خشي أن يقبل من أحد شيئاً فيعتاد الأخذ فيتجاوز به إلى ما لا يريده ففطمها عن ذلك، وترك ما لا

يريبه خوف ما يريبه. وإنما أشهد عليه عمر لأنه أراد ألا ينسبه أحد لم يعرف باطن الأمر إلى منع حكيم من حقه (فلم يرزأ حكيم أحداً من الناس بعد النبيّ حتى توفي) قال الحافظ في «الفتح» : زاد إسحاق بن راهويه في «مسنده» من طريق عبد الله بن عمرو مرسلاً أنه ما أخذ من أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا معاوية ديوناً ولا غيرها حتى توفي لعشر سنين من إمارة معاوية. قال السيوطي في «التوشيح» : وفيه أن سبب سؤاله العطاء أن النبي أعطاه دون ما أعطى أصحابه فقال: يا رسول الله ما كنت أظن أن تقصرني دون أحد من الناس، فزاده ثم استزاده حتى رضي فذكر نحو الحديث اهـ (متفق عليه) أخرجه البخاري في الوصايا وفي الخمس وفي الرقاق: قلت: وفي الزكاة، أخرجه مسلم في الزكاة إلى قوله: واليد العليا خير من اليد السفلى. ورواه الترمذي في الزهد وقال: صحيح، والنسائي في الزكاة والرقاق اهـ ملخصاً من «الأطراف» (يرزأ أبراء ثم زاي ثم همزة) بوزن يسأل (أي لم يأخذ من أحد شيئاً) أي مجاناً كما يدل عليه قوله: (وأصل الرزء النقصان) وما بذل عوضاً لا نقص على باذله، وفي «النهاية» وأصله النقص، وكأن الشيخ رحمه الله نبه بزيادة النون على اعتبار المبالغة في مفهومه وقوله: (أي لم ينقص أحداً شيئاً بالأخذ منه) تفسير لقوله آخر الحديث: فلم يرزأ حكيم أحداً من الناس (وإشراف النفس) بالمعجمة (تطلعها وطمعها بالشيء) وأصله أن تضع يدك على حاجبك وتنظر كالذي يستظلّ من الشمس حتى يستبين الشيء، وأصله من الشرف وهو العلوّ كأنه ينظر إليه من موضع عال (وسخاوة النفس) وفي «المصباح» السخاء بالمد: الجود والكرم، وفي الفعل ثلاث لغات سخا من باب علا فهو ساخ، وفي الثانية سخى يسخي من باب علم والفاعل سخ منقوص، والثاثة سخو يسخو كقرب يقرب سخاوة فهو سخي بتشديد الياء اهـ. فيؤخذ منه أن سخاوتها كرمها وجودها وقول المصنف (هي عدم الإشراف والطمع فيه والمبالاة به والشره) أخذه من مقابلتها بالإشراف المفسر بضد ذلك وهو نتيجة ما قلنا، فإن النفس الكريمة هذا شأنها في الدنيا غير مختلفة بجمعها ولا مشتغلة بحفظها ومنعها.

4 - (وعن أبي بردة) بضم الموحدة وسكون الراء بعدها دال مهملة وفيه كنية لصحابي اسمه على الصحيح من أقوال ثلاثة: «هانىء بن نيار» بلوي مدني، وتابعي وهو «ابن أبي موسى الأشعري» وهذا هو المراد، إذ هو المعروف بالرواية عن أبيه، ولذا لم يقيده المصنف كعادته في أمثاله من المشتبهات/ «واسمه عامر» على الصحيح المشهور الذي قاله الجمهور، تابعي كوفي، ولي فضاء الكوفة فعزله الحجاج وجعل أخاه أبا بكر مكانه، اتفقوا على توثيقه وجلالته، وهو جد أبي الحسن الأشعري الإمام في علم الكلام، توفي بالكوفة سنة ثلاث، وقيل: أربع ومائة، كذا لخص من «التهذيب» للمصنف. وحكمة ذكر التابعي في هذا الحديث قوله بعد روايته فحدث أبو موسى (عن أبي موسى الأشعري) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب الإخلاص (قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزاة) بفتح أولية، قال في «النهاية» : غزا يغزو وغزوا، والغزوة المرة من الغزو، والإسم الغزاة: أي بفتحها. قلت: ولو قيل: بأنه للمرة وأصله غزوة بسكون الزاي فنقلت فتحة الواو إليها ثم أعلت إعلال إقوام لم يبعد والله أعلم (ونحن ستة نفر) جملة حالية من فاعل خرج، قال الحافظ: ولم أقف على أسمائهم وأظنهم من الأشعريين وقوله: (بيننا بعير نعتقه) جملة حالية متداخلة من التي قبلها، في «المصباح» البعير مثل الإنسان يقع على الذكر والأنثى والجمل، مثل الرجل يختص بالذكر، والناقة مثل المرأة تختص بالأنثى، والبكر والبكرة كالفتى والفتاة، والقلوص كالجارية، هكذا حكاه جماعة منهم ابن السكيت والأزهري وابن جني، ثم قال الأزهري: هذا كلام العرب، ولكن لا يعرفه إلا خواص أهل العلم باللغة اهـ. وقوله نعتقبه: أي نتعاقبه في الركوب واحداً بعد واحد، يقال: دارت عقبة فلان: أي جاءت نوبته ووقت ركوبه كذا في «النهاية» (فنقبت) بفتح النون وكسر القاف بعدها موحدة أي رقت (قدمي) بكسر الميم إذ لو كان مثنى لكان بالألف والمراد به الجنس، وفي نسخة أقدامنا بصيغة الجمع المكسر (وسقطت أظفاري) جمع ظفر وفيه لغات ضم أوليه أفصح من ضم أوله وسكون ثانيه، ومن فتح أوليه ومن كسرهما، ويقال: أظفور كأسبوع، وربما يجمع الظفر على أظفر أيضاً كركن وأركن. وقول الجوهري: إنه يجمع أظفور سبق قلم، كأنه أراد أظفر فطغى القلم بزيادة واو اهـ ملخصاً من «المصباح» أي أظفار أصابع قدمي (فكنا نلفّ على

أرجلنا الخرق) بكسر أوله المعجم وفتح ثانيه (فسميت غزوة ذات الرقاع) بنصب الغزوة ثاني المفعولين، والأول أقيم مقام فاعل سميت يعود على الغزاة (لما كنا نعصب) أي نربط، وما موصولة: أي الذي كنا نربطه (على أرجلنا من الخرق) قال الحافظ وقال ابن هشام وغيره: سميت به لأنهم رقعوا راياتهم، وقيل: لشجرة بذلك الموضع يقال لها: ذات الرقاع، وقيل: بل الأرض التي نزلوا بها كانت ذات ألوان تشبه الرقاع، وقيل: لأن خيلهم كان بها سواد وبياض قال أبو حيان. وقال الواقدي: سميت بجبل هناك كان فيه بقع، وهذا لعله مستند أبي حيان ويكون قد تصحف خيل بجبل، ورجح السهيلي السبب الذي ذكره أبو موسى وكذا النووي ثم قال: ويحتمل أن تكون سميت بالمجموع اهـ واختلف متى كانت؟ فجنح البخاري إلى أنها بعد خيبر، وذهب أهل السير إلى أنها قبل خيبر، واختلفوا في زمانها فعند ابن إسحاق أنها بعد بني النضير وقبل الخندق سنة أربع، وعند ابن سعد وابن حيان أنها في المحرم سنة خمس وجزم أبو معشر بأنها كانت بعد قريظة والخندق وتردد موسى بن عقبة في وقتها فقال: لا ندري أكانت قبل بدر أو بعدها؟ قال الحافظ: وهذا التردد لا حاصل له، بل الذي ينبغي الجزم به أنها كانت بعد غزوة بني قريظة. ثم حكى الحافظ خلافاً: هل هي غزوة محارب أو هي غيرها؟ فالجمهور أنها هي، جزم به ابن إسحاق وغيره، وعند الواقدي أنهما ثنتان، وتبعه القطب الحلبي في «شرح السيرة» اهـ ملخصاً من «الفتح» (قال أبو بردة: فحدث أبو موسى بهذا الحديث) ناشراً للسنة إذ منها أيامه وأحواله (ثم كره ذلك) لما فيه أنه ابتلي فصبر، وذلك من المعاملة بين العبد وربه، وكلما كانت أخفى كانت بالبرّ أخفى (وقال: ما كنت أصنع بأن أذكره) أي ما أصنع بذكره ذلك ففيه زيادة كان مع اسمها وهو نادر، والأكثر زيادتها وحدها في مواطن وقوله: (كأنه كره أن يكون شيئاً) خبر كان واسمها ضمير مستتر: أي ما ذكر من عمله شيئاً، ويجوز أن يعرب مفعولاً لفعل محذوف هو مع فاعله والجملة خبر يكون: أي يكون أفشى شيئاً (من عمله) وقوله: (أفشاه) جملة مفسرة على الثاني، وعلى الأولى فهو صفة شيئاً والظرف متعلق به، ويحتمل كون الظرف صفة وجملة أفشاه حالاً من الخبر لتخصصه بالوصف، وعلى الثاني هو صفة للمفعول (متفق عليه) أخرجاه في «المغازي» من «صحيحهما» .

5 - (وعن عمرو بن تغلب) بفتح التاء المثناة فوق وإسكان الغين المعجمة وكسر اللام اسم غير منصرف للعلمية ووزن الفعل، وهو العبدي من عبد القيس، وقيل غير ذلك، وجميع ما قيل في نسبه يرجع إلى أسد بن ربيعة، فهو ربعي بالاتفاق. وقال الحافظ في «الفتح» : وهو النمري بضم النون والميم (رضي الله عنه) صحب عن النبيّ حديثين رواهما عنه البخاري، لم يرو عنه غير الحسن البصري اهـ ملخصاً من «التهذيب» للمصنف (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى بمال أو) شك من الراوي (سبي) بمهملة فموحدة، وعند الكشميهني أحد رواة البخاري: أو شيء بالمعجمة، وهو أشمل في «النهاية» : السبي النهب وأخذ الناس عبيداً وإماء (فقسمه) بتخفيف المهملة ويجوز تشديدها نظراً لتعدد المقسوم (فأعطى رجالاً وترك رجالاً) أي منه (فبلغه أن الذين ترك) العائد المنصوب محذوف أي تركهم (عتبوا) في «المصباح» : عتب عليه من بابي ضرب وقتل: لامه في تسخط اهـ. وفي «النهاية» : العتاب مخاطبة الإذلال ومذاكرة المؤاخذة اهـ. وهذا المراد هنا لا للتسخط من أفعاله، فإن ذلك ينافي الإيمان المشهود لهم به في الخبر (فحمد الله تعالى) بأوصاف الجمال (ثم أثنى عليه) أي بأوصاف الجلال: وقيل: أنهما بمعنى، وعليه فهو من عطف الرديف، أتي به لبيان المراد من الحمد وأنه لغوي: أي الثناء اللساني الذي هو شعبة من المعنى المعرفي (ثم قال: أما بعد، فوا إني لأعطي الرجل) أل فيه للجنس، والمراد التمثيل، وإلا فما أفاده الحديث جار في النساء أيضاً، ففي الحديث عند مسلم عن هند امرأة أبي سفيان أنها قالت: «يا رسول الله ما كان أهل بيت أبغض إليّ من أهل بيتك، والآن وا ما أهل بيت أحبّ إليّ من أهل بيتك، فقال: وأيضاً» الحديث، وأكد بالقسم وبإن اللام لعله لما بدا من شدة عتاب المتروكين في ذلك وتوهم أنه عن خلل فيهم ديني أو عن نقص حبّ منه (وأدع) أي واترك وحذف المفعول لدلالة ما قبله عليه (والذي أدع) أي أترك إعطاءه (أحبّ إليّ من الذي أعطي) وجه حبه لذلك المعطي له فقال ذلك المندرج فيهم نصيبه منها، فلذا أتى بأفعل، ويحتمل كونه فيه بمعنى أصل الفعل نظراً إلى عدم كمال إيمان ذلك حتى يعتدّ به (ولكني أعطي أقواماً لما) أي للذي (أرى) أي

أعلمه (في قلوبهم) والعائد مفعول أول والظرف مفعول ثان (من الجزع) بالجيم والزاي والعين المهملة، قال في «النهاية» : هو الحزن الخوف. وقال في «المصباح» جزع الرجل جزءاً من باب تعب تعباً: إذا ضعفت بنيته عن حمل ما نزل به ولم يجد صبراً ومن بيانية لما (والهلع) هكذا في نسخ الرياض تبعاً لبعض نسخ البخاري وسيأتي معناه، وفي نسخة أخرى منه «الضلع» بالضاد المعجمة: أي الميل والاعوجاج وفي أخرى بالظاء المثالة المفتوحة مع ما يليها: أي مرض القلب وضعف اليقين (وأكل) أفوض (أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغناء) بفتح الغين المعجمة ثم نون ومد وهو الكفاية، وفي رواية الكشميهني بكسر أوله والقصر: ضد الفقر (والخير منهم عمرو بن تغلب) هذا آخر الخبر المرفوع وقوله: (فوا ما أحبّ أن لي بكلمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمر النعم) الباء للبدلية والمراد من الكلمة معناها اللغوي وما قاله فيه: أي بدل ما قاله فيه من إدخاله إياه في أهل الخير والغني وقيل: المراد التي قالها في حق غيره، فالمعنى: لا أحبّ أن يكون لي حمر النعم بدلاً من الكلمة المذكورة التي لي، أو أن يكون لي ذلك وقال: تلك الكلمة في حق. وفي «المصباح» : وحمر النعم بضم المهملة وسكون الميم: كرائمها وهو مثل في كل نفيس ويقال: إنه جمع أحمر وإن أحمر من أسماء الجنس (رواه البخاري) في مواضع من «صحيحه» منها في الجهاد والتوحيد وانفرد به عن باقي الستة (الهلع هو أشد الجزع) بمعناه قوله في «الصحاح» أفحش الجزع، ومقتضى كلام «المصباح» عدم اعتبار الأفضلية فيه (وقيل: الضجر) وفي «المشارق» للقاضي عياض: الجزع والهلع هما بمعنى، وقيل: الهلع قلة الصبر، وقيل: الحرص، يقال: رجل هلع وهلوع وهلواع وهلواعة: جزوع حريص اهـ. فلعل المصنف أراد يكتب قيل: الحرص فسبق القلم فكتب ما ذكر، والله أعلم. 6 - (وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه: أن النبي قال: اليد العليا خير من اليد

السفلى) تقدم الكلام على هذه الجملة في الباب (وابدأ) في الإنفاق (بمن تعول) من زوجة أو أصل أو فرع أو مملوك، من عال أهله: إذ قام بما يحتاجون إليه من قوت أو كسوة، وهذه الجملة الطلبية رواها فقط الطبراني من حديث حكيم بن حزام، ورواه البخاري وأبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة بلفظ: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول» لأن حقهم واجب وغيرهم تطوّع والأول مقدم على الثاني (وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) أي أفضلها ما وقع من غير محتاج إلى ما يتصدق به لنفسه أو لمن تلزمه نفقته، ولفظ الظهر مزيد في مثله إشباعاً للكلام، قاله الخطابي ونقله في «النهاية» وزاد قوله تمكيناً كأنه صدقته مستندة إلى ظهر قوى من المال، والمعنى: أفضلها ما أخرجه الإنسان من ماله بعد استبقائه منه قدر الكفاية. وقال البغوي: المراد غنى يستظهر به على النوائب التي تنوبه، ونحوه قولهم: ركب متن السلامة والتنكير في غنى للتعظيم، هذا هو المعتمد في معنى الحديث، وقيل: خير الصدقة ما أغنيت به من أعطيته عن المسألة، وقيل: عن للسببية والظهر زائد: أي خير الصدقة ما كان سببه غنى المتصدق. قال القرطبي: يرد على تأويل الخطابي ما جاء في فضل الإيثار على النفس من الكتاب والسنة، ومنها حديث أبي ذرّ: «أفضل الصدقة جهد من مقل» والمختار أن معنى الحديث: أفضلها ما وقع بعد القيام بحقوق النفس والعيال بحيث لا يصير المصتدق محتاجاً بعد صدقته إلى أحد، فمعنى الغنى في الحديث: حصول ما يدفع به الحاجة الضرورية كأكل عند جوع مشوّش لا صبر عليه، فالحاجة إلى ما يدفع به الأذى عن نفسه، لا يجوز الإيثار به بل يحرم، لأن الإيثار به يؤدي إلى هلاك النفس والإضرار بها، أو إلى ما يستر له العورة، فمراعاة نفسه أولى، فإذا سقطت هذه الواجبات صحّ الإيثار وكانت صدقته أفضل لأجل ما يتحمله من مضض الفقر وشدة مشقته، فبهذا يندفع التعارض اهـ ملخصاً من «الفتح» (ومن يستعفف) أي عن مسألة الناس (يعفه ا) بضم التحتية وضم الفاء المشددة وهو مجزوم جواب الشرط وضمه إتباع لضمة هاء الضمير، قاله الدماميني عن الزركشي: أي يرزقه العفة عن ذلك (ومن يستغن) أي يظهر الغنى (يغنه ا) أي يصيره غنياً (هذا لفظ البخاري) في كتاب الزكاة من «صحيحه» (ولفظ مسلم) في كتاب الزكاة أيضاً من «صحيحه» (أخصر) ولفظه قال: «أفضل الصدقة أو خير الصدقة عن ظهر غنى، واليد

العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول» وقد تقدم الكلام على الحديث من حديث أبي هريرة في باب الوصية بالنساء. 7 - (وعن أبي عبد الرحمن بن أبي سفيان صخر) عطف بيان لأبي سفيان أو بدل منه بفتح المهملة وسكون المعجمة (ابن حرب) بفتح المهملة بلفظ السلم بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصيّ الأموي، أسلم هو وأبوه وأخوه يزيد وأمه هند يوم فتح مكة فلذا قال المصنف (رضي الله عنهما) وكان هو وأبوه من المؤلفة قلوبهم ثم حسن إسلامهما وكان أحد الكتاب لرسول الله، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة وثلاثة وستون حديثاً، اتفق الشيخان على أربعة منها، وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بخمسة، روى عن عدد كثير من الصحابة ومناقبه كثيرة وفضائله شهيرة وقد أفردت بالتأليف، توفي بالشام يوم الخميس لثمان بقين من رجب، وقيل: لنصفه سنة ستين، وقيل: تسع وخمسين وهو ابن اثنتين وثمانين سنة، وقيل: ثمان وثمانين، وقيل: ست، ولما حضرته الوفاة أوصى أن يكفن في قميص كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كساه إياه، وأن يجعل مما يلي جسده، وكان عنده قلامة أظفار رسول الله، فأوصى أن تسحق وتجعل في عينيه وفمه وقال: افعلوا ذلك وخلوا بيني وبين أرحم الراحمين (قال: قال رسول الله: لا تلحفوا) بضم الفوقية وكسر المهملة من الإلحاف الإلحاح: أي لا تلحوا (في المسألة) قال المصنف: كذا هو في بعض الأصول بالفاء، وفي بعضها بالباء الموحدة وكلاهما صحيح (فوا لا يسألني أحد منكم شيئاً فتخرج) بالنصب في جواب النفي (له مسألته منى شيئاً) ونسبة الإخراج إليها مجاز لكونها السبب: أي يجد مني ماسأله بسبب إلحاحه وإشراف نفسه وحرصه على حصول مطلوبه (وأنا كاره) لدفعه ولكن دفعته له لنحو اتقاء فحشه (فيبارك) بالنصب عطف على المنصوب قبله: أي يكثر ويدوم (له فيما أعطيته) ومن قال الفقهاء: من أخذ شيئاً على أمر أظهره وهو غير متصف به باطناً يملك ذلك المأخوذ وتصرفه فيه باطل، ومن هنا غلبت الفاقة على كثير لاستشرافهم الأحوال وإخراجهم بالإلحاح في السؤال فلا يبارك لهم فيها بوجه (رواه مسلم) في كتاب الزكاة من «صحيحه» .

8 - (وعن أبي عبد الرحمن) وقيل: أبو عمرو، وبدأ به في «الأطراف» : وقيل: أبو عبد الله وقيل: أبو محمد وقيل: أبو حاتم (عوف) عطف بيان لما قبله أو بدل منه وهو بالمهملة آخره فاء بوزن فور (ابن مالك) بن أبي عوف (الأشجعي) الغطفاني (رضي الله عنه) أول مشاهده «الفتح» ، وكان حامل راية قومه، سكن دمشق وكان داره بها سنة ثلاث وسبعين، وأما قول الشيخ أبي إسحاق في «مهذبه» : إن عوف بن مالك رجع عليه بسيفه يوم خيبر فقتله فغلط صريح، إنما ذلك عامر بن الأكوع نبه عليه المصنف في «التهذيب» ، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعة وستون حديثاً منها عند الشيخين ستة، انفرد البخاري بواحد منها ومسلم بباقيها، وخرّج له الأربعة، وروى عنه جبير بن نضير والشعبي وآخرون (قال: كنا جلوساً) جمع جالس خبر كان، ويحتمل أنها تامة، وجلوساً مصدر منصوب على الحال وأفرد لكونه مصدراً والأول أولى (عند رسول الله) يحتمل أن يكون لغواً متعلقاً بالفعل لا بالجلوس، لأن الفعل أقوى منه في ذلك، وأن يكون مستقراً خبراً بعد خبر، أو حالاً من اسم كان (تسعة) بتقديم الفوقية (أو ثمانية أو سبعة) شك من الراوي في عددهم (فقال: ألا تبايعون رسول الله) وقوله: (وكنا حديث عهد ببيعة) جملة في محل الحال من فاعل تبايعون، والبيعة أصلها من البيع لأنهم إذا بايعوا وعقدوا عهداً حلفوا لمن بايعهم جعلوا يديهم في يده توكيداً كما يفعل البائع والمشتري، كانت هذه البيعة ليلة العقبة قبل بيعة الهجرة وبيعة الجهاد والصبر عليه (فقلنا: قد بايعناك يا رسولالله، ثم قال) أي بعد قوله الأول، والإتيان بثم للفصل بين القولين بجوابهم وما معه (ألا تبايعون رسول الله) زاد أبو داود في روايته بعد قولهم قد بايعناك حتى قالها ثلاثاً (فبسطنا أيدينا) أي نشرناها للمبايعة (وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله) أولاً (فعلام نبايعك) أي فعلى أيّ شيىء نبايعك ثانياً، وما هي الاستفهامية حذفت ألفها لدخول الجال عليها، ويجوز زيادة هاء السكت عوضاً عن الألف المحذوفة فيقال علامه؟ كما في رواية مسلم، قاله ابن رسلان، وبه يعلم أن حذف الهاء من نسخ الرياض من علام من تحريف الكتاب، لأن الذي فيه رواية مسلم (قال: أن تعبدوا ا) أي أبايعكم على عبادة الله (وحده) أي منفرداً وهو حال من الجلالة (ولا تشركوا به شيئاً) أي

من الشرك أو من المعبودات، فهو مفعول مطلق أو مفعول به كما تقدم (والصلوات الخمس) أي وتصلوا الصلوات كما صرح به أبو داود (وتسمعوا وتطيعوا) أي لوليّ الأمر، ومن أوجب الله طاعته في غير معصيته (وأسر كلمة خفية) إنما أسر هذه الكلمة دون ما قبلها لأن ما قبلها وصية عامة وهذه الجملة مختصة ببعضهم والمراد بالكلمة المعنى اللغوي وهي الجملة المبنية بقوله: (ولا تسألوا الناس شيئاً) قال القرطبي: هذا حمل منه على مكارم الأخلاق والترفع عن تحمل منن الخلق وتعظيم الصبر على مضض الحاجات والاستغناء عن الناس وعزّة النفس (فلقد رأيت بعض أولئك النفر) بالجرّ نعت أو عطف بيان لاسم الإشارة على الخلاف في أمثاله بين ابن الحاجب وابن مالك، وقال ابن رسلان: هو بدل منه (يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحد يناوله إياه) فيه التمسك بالعموم لأنهم نهوا عن السؤال، والمراد منه سؤال الناس أموالهم فحملوه على عمومه، وفيه التنزّه عن جميع ما يسمى سؤالاً وإن كان حقيراً. وروى الإمام أحمد عن أبي ذرّ لا تسألنّ أحداً شيئاً وإن سقط سوطك ولا تقبض أمانة (رواه مسلم) في الزكاة من «صحيحه» منفرداً به عن البخاري ورواه أبو داود فيها والنسائي في الصلاة وابن ماجه في الجهاد. 9 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبيّ قال: لا تزال المسألة) أي طلب العطاء من السوي (بأحدكم) أي بالواحد منكم أي إن طبع الإنسان الاستكثار من الدنيا فلا يزال في الدنيا يسأل مالهم تكثراً (حتى يلقى ا) كناية عن الموت والحشر، ويؤيد الثاني أن بعض رواياته: «ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة» رواه مسلم (وليس في وجهه مزعة لحم) جملة حالية من فاعل يلقى (متفق عليه) رواه البخاري ومسلم في الزكاة من «صحيحهما» ، رواه النسائي في الزكاة أيضاً (المزعة بضم الميم وسكون الزاي وبالعين المهملة القطعة) قال المصنف قال القاضي: قيل معنى

الحديث: يأتي يوم القيامة ذليلاً ساقطاً لا وجه له عندالله، وقيل: هو على ظاهره فيحشر وجهه لا لحم عليه عقوبة له وعلامة له بذنبه حين سأل وطلب بوجهه كما جاءت الأحاديث الأخر بالعقوبات في الأعضاء التي كانت بها المعاصي، وهذا فيمن سأل لغير ضرورة سؤالاً منهياً عنه وكثر منه كما أشرنا إليه كما يدل عليه رواية: «من يسأل الناس أموالهم تكثراً» الحديث. 10 - (وعنه) يعني ابن عمر (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: وهو على المنبر) جملة حالية أيضاً من فاعل وقوله: (وهو بذكر الصدقة والتعفف عن المسألة) جملة حالية أيضاً من فاعل قال، فتكون مترادفة أو من الجملة الحالية الأولى فتكون متداخلة، وقوله يذكر الصدقة: أي ما يذكر ما في فضلها أو فضل التعفف (اليد العليا خير من اليد السفلى) هذا مقول القول، ولما كان في ذلك نوع إجمال فلذا اختلف فيه على أقوال كما تقدم عن «الفتح» ، رفعه بقوله (واليد العليا هي المنفقة) بالنون والفاء والقاف وعند أبي داود في بعض طرقه بدلها المتعففة قال: وقال أكثرهم المنفقة (والسفلى هي السائلة) قال القرطبي: هذا أي حديث مسلم نصر يدفع تعسف من تعسف في تأويله، غير أنه وقع عند أبي داود إلى آخر ما تقدم، وقال المصنف: ورجح الخطابي رواية المتعففة بأن السياق في ذكر المسألة والتعفف عنها. قال المصنف: والصحيح الرواية الأولى ويحتمل صحة الروايتين فالمنفقة أعلا من السائلة والمتعففة أعلا منها، والمراد بالعلوّ علوّ الفضل والمجد (متفق عليه) روياه في الزكاة من «صحيحهما» ، رواه أبو داود والنسائي فيها من «سننهما» . 11 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من سأل) كذا في الرياض بصيغة الماضي وفي أصل مصحح من مسلم بصيغة المضارع المجزوم بسكون مقدر للتخلص من التقاء الساكنين (الناس تكثراً) أي ليكثر ماله مما يجتمع عنده بسبب السؤال (فإنما يسأل جمراً) قال القاضي: أي يعاقب بالنار، قال: ويحتمل أن يكون على ظاهره فإن

الذي يأخذه يصير جمراً يكوى به كما ثبت في مانع الزكاة (فليستقل أو فليستكثر) اللام فيه ساكنة للأمر والفاء فيه للتفريع وأو فيه للتخيير: أي فهو مخير إذا عرف مآل ذلك بين الاستكثار والاستقلال فيكثر عذابه أو يقلّ (رواه مسلم) في الزكاة، ورواه ابن ماجه فيها أيضاً. 12 - (وعن سمرة) بضم الميم (ابن جندب) بضم الجيم وسكون النون وفتح الدال آخره موحدة تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب توقير العلماء (قال: قال رسول الله: إن المسألة) مفعلة من السؤال: أي سؤال الناس من دنياهم (كد) بفتح الكاف وتشديد الدال المهملة، قال في «النهاية» : هو الإتعاب، يقال: كدّ في عمله يكد: إذا استعجل، ونحوه ما في «المصباح» من أنه الشدة في العمل، وفي «المشارق» : هو الجهد في الطلب وسيأتي في الأصل أنه الخدش (يكد) بضم الكاف أي يتعب (بها الرجل) الباء فيه للسببية والرجل مثال فالمرأة مثله في ذلك (وجهه) قال في «النهاية» : أي ماؤه ورونقه، والحديث في «سنن أبي داود» بلفظ: «المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه ومن شاء ترك إلا أن يسأل» إلى آخر الحديث، وقد لمح إلى هذا المعنى من قال: إذا أظمأتك أكف اللئام كفتك القناعة شبعاً وريا فكن رجلاً رجله في الثرى وهامة همته في الثريا قإن إراقاة ماء الحيا ة دون إراقة ماء المحيا (إلا أن يسأل الرجل سلطاناً) أي يطلب منه ما أوجب الله من زكاة أو خمس أو في بيت المال ونحوه (أو في أمر لا بد) بضم أوله وتشديد المهملة: لا فراق (منه) فلا يستطيع تركه فتحل له المسألة فيما دعت إليه الضرورة (رواه الترمذي) في الزكاة من «جامعه» (قال: حديث حسن صحيح) ورواه أبو داود كما ذكرناه والنسائي كلاهما من «سننهما» (والكدّ: الخدش ونحوه) لعله تفسير باللازم.

13 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من أصابته فاقة) قال في «المصباح» : أي الحاجة (فأنزلها بالناس) طالباً رفعها عنه بإعانتهم راكناً في ذلك إليهم (لن تسد) بالبناء للمجهول للعلم بالفاعل (فاقته) أي بل يؤدي ذلك إلى غضب الله تعالى ودوام فاقته إذ أنزل حاجته إلى عاجز مثله وترك اللجأ إليه سبحانه وهو القادر على قضاء حوائج الخلق كلهم من غير أن ينقص من ملكه شيء. قال وهب بن منبه لرجل يأتي الملوك: ويحك تأتي من يغلق عنك بابه ويواري عنك غناه وتدع من يفتح لك بابه نصف الليل ونصف النهار ويظهر لك غناه، فالعبد عاجز عن جلب مصالحه ودفع مضاره، ولا معين له على ذلك إلا الله سبحانه (ومن أنزلها) فالهمزة فيه وفيما قبله للتعدية، قال في «المصباح» : نزل نزولاً ويتعدى بالحرف وبالهمزة والتضعيف، يقال: نزلت به وأنزلته ونزلته: أي فمن جعل فاقته نازلة (با) أي مستعيناً به في رفعها (فيوشك) أي فهو يوشك بضم التحتية (اله بزرق عاجل) في رفع لأواه (وآجل) بالمد: أي لدع بلواه قال تعالى: {وإن يمسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو} (الأنعام: 17) ، وقال تعالى: {واسألوا الله من فضله} (النساء: 32) وفي الترمذي: «من لم يسأل الله يغضب عليه» (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن) قال في «الجامع» : رواه من حديث ابن مسعود أحمد والحاكم في «مستدركه» . (يوشك بكسر الشين) أي المعجمة وفتح أوله: (أي يسرع) . 14 - (وعن ثوبان) بالمثلثة والموحدة آخره نون بوزن غضبان وهو مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من تكفل) بفتح الفوقية وتشديد الفاء: أي ضمن، ورواه النسائي بلفظ: «من ضمن لي واحدة وله الجنة» (لي ألا يسأل الناس شيئاً) أي مما لا

ضرورة به إليه (وأتكفل) برفع اللام جملة حالية لضمير المجرور: أي من يضمن لي عدم السؤال حال كوني ملتزماً (له) على كرم الله عزّ وجل (بالجنة فقلت: أنا) عبارة السنن: «فقال: ثوبان: أنا» وزاد ابن ماجه فقال: «لا يسأل الناس شيئاً» (فكان لا يسأل أحد شيئاً) ظاهره نفي سؤاله لكل شيء، وعند ابن ماجه: «فكان ثوبان يقع سوطه وهو راكب فلا يقول لأحد ناولنيه حتى ينزل فيأخذه» (رواه أبو داود) في كتاب الزكاة من سننه (بإسناد صحيح) ورجاله رجال «الصحيح» .g 15 - (وعن أبي بشر) بكسر الموحدة وسكون المعجمة (قبيصة) بفتح القاف وكسر الموحدة وسكون التحتية بعدها مهملة (ابن المخارق) بضم الميم بعدها خاء معجمة ابن عبد الله بن شداد بن ربيعة بن نهيك بن هلال بن عامر بن صعصعة العامري الهلالي البصري الصحابي (رضي الله عنه) قال المصنف: وفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم، وروي له عن النبي ستة أحاديث. روى مسلم أحدها وقال الحافظ ابن حجر في «التقريب» : سكن البصرة، خرج عنه مسلم وأبو داود والنسائي (قال: تحملت) في الإتيان به من باب التفعل إيماء إلى كلفة الأمر والدخول فيه (حمالة فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسأله فيها) جملة أسأل في محل الحال من فاعل أتيت، وفي يحتمل كونها للظرفية المجازية ويحتمل كونها سببية نحو حديث: «عذبت امرأة في هرة» أي أسأله لسبب الحمالة (فقال: أقم حتى تأتينا الصدقة) تعني الزكاة فأل فيه عهدية، والمعهود قوله تعالى: {إنما الصدقات} (التوبة: 60) (فنأمر) بالنصب ويجوز على بعد الرفع على الاستئناف (لك بها) أي بسمألتك (ثم قال) إرشاداً إلى أنه لا ينبغي السؤال إلا عن حاجة حافة أو لأمر مهم كما هنا (يا قبيصة إن المسألة) أي السؤال للصدقة المعهودة وهي الزكاة كما في «فتح الإله» (لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة) أي أن يسأل الإمام وأهل الزكاة في أوقاتها (حتى) إلى أن (يصيبها) أي حتى

يقضي دينه الذي تحمله لأجلها (ثم) بعد قضائها (يمسك) عن المسألة إلا لضرورة أو حاجة أخرى (ورجل أصابته جائحة) بالجيم والحاء المهملة بينهما ألف فهمزة (اجتاحت) أي استأصلت (ماله) كزرعه وثمره (فحلت له المسألة) أي أن يسأل الناس في سد خلته (حتى يصيب قواماً من عيش) أي ما يقوم بحوائجه الضرورية. والحاجية وهو بيان للقوام (أو) شك في أي اللفظين المترادفين نطق به (قال: سداداً من عيش، ورجل أصابته فاقة) أي فقر شديد اشتهر بين قومه (حتى يقول) بالنصب غاية لمقدر: أي وظهرت فلم تخف على قومه إلى أن يقول: (ثلاثة من ذوي الحجى) بكسر المهملة وبعدها جيم مقصورة: أي العقل الكامل (من قومه) لأن مثل هذا العدد الذي هو أقل الكثير مع اتصافهم بكمال العقل، وكونه من قومهم العارفين بحاله الظاهرة والباطنة والمطلعين منها على ما لا يطلع عليه أحد غيرهم منها يقبله ويصدقه كل أحد بلام القسم (لقد أصابت فلاناً فاقة) وما شرحنا عليه يقول باللام هو ما وقفت عليه من نسخ الرياض وهو كذلك، في رواية أبي داود، والذي في «صحيح مسلم» حتى يقوم بالميم بدل اللام، قال المصنف: وهو صحيح والمعنى: أي يقومون بهذا الأمر فيقولون: لقد أصابته الخ وقدره ابن حجر في «فتح الإله» حتى يقوم على رءوس الإشهاد ثلاثة من ذوي الحجي قائلين لقد أصابته الخ، قال: وبما تقرر في معنى يقوم أنه باق على ظاهره وأن «لقد أصابت الخ» مقول قول محذوف حال من فاعل يقوم محذوفة لدلالة مقولها عليها لعدم صلاحية تعلقه بيقوم، على أن حذف القول وإبقاء مقولة سائغ فصيح، وإن الباعث على هذا مزيد التحري لمزيد السؤال والكف عنه حتى يظهر فقره، واضطراره للناس بإخبار العدد الكثير الجامعين مع وصف الكثرة لوصف العقل، وكونهم من أقاربه المحيطين بحاله غالباً يعلم اندفاع قول الصغاني: «يقوم» وقع في كتاب مسلم والصواب يقول كما في رواية أبي داود وقول غيره يقوم بمعنى يقول وهو وإن صح إلا أن المراد المبالغة في الكف عن المسألة حتى يظهر صدقه وهو غالباً إنما يظهر بثلاثة من قومه، فذكر لذلك مبالغة لا لتوقف الحل عليه (فحلت له المسألة) بسبب تلك القرائن الدالة على صدقه في سؤاله (حتى يصيب قواماً من عيش، أو قال سداداً من عيش) وفي تعبيره بالحاجة

في الثاني والفاقة في الثالث حتى يشهد من ذكر غاية المبالغة في الكف عن المسألة إلا بعد الوصول لحالة الاحتياج الشديد، بل الاضطرار الملحق بأكل الميتة وفي قوله: قواماً أو سداداً أنه بعد أن حلت له المسألة لا يكثر منها، بل يقتصر على ما يقتصر عليه المظطر من سد الرمق لا أن يحتاج إلى سد الرمق به في المستقبل بأن كان ذلك المحل يكثر فيه الناس زمناً ويقلون في آخر فله السؤال في أيام كثرتهم ما يقوم بحاجته أيام قلتهم (فما سواهن) أي هذه الأقسام الثلاثة (من المسألة) للزكاة أو وصدقة النفل (يا قبيصة سحت) أي حرام لا يحل فعله لأنه يسحت البركة أي يذهبها ويهلكها، وأصل السحت: الإهلاك، ثم هو مرفوع هكذا في نسخ الرياض فيما وقفت عليه، قال المصنف في شرح مسلم: فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتاً هكذا، هو في جميع النسخ سحتاً بالنصب، ورواه غير مسلم وهو واضح، ورواية مسلم في «صحيحه» وفيه إضمار: أي اعتقده سحتاً أو يؤكل سحتاً اهـ. ومنه يعلم أن إبدال الميم في يقوم باللام والنصب بالرفع إن لم يكن من سبق قلم المصنف سهواً من رواية مسلم إلى رواية غيره فهو من تحريف الكتاب وقوله: (يأكلها) صفة لسحت والتأنيث باعتبار كونه خبر ما، المراد منها الصدقة (صاحبها) حال كونها (سحتاً) أي حراماً خالصاً لا شبهة في أكلها ولا تأويل (رواه مسلم) في الزكاة في «صحيحه» ، ورواه أبو داود والنسائي في الزكاة من «سننهما» (الحمالة بفتح الحاء) المهملة وتخفيف الميم واللام بينهما ألف (أن يقع قتال ونحوه بين فريقين) أو يوجد قتيل بين قريتين أنكره أهل كل منهما وأدى الأمر إلى التقاتل (فبصلح إنسان بينهم على مال يتحمله ويلتزمه على نفسه) دفعاً لتلك المفسدة والتعبير بالتفعل والافتعال لما تقدم في قوله تحملت. قال ابن حجر في «فتح الإله» : فيعطى من الزكاة ما يسد به دينه لذلك وإن كان غنياً (والجائحة الآفة) بالمد (تصيب مال الإنسان) قال في «فتح الإله» : أصل وضع الجائحة مختص بالآفة السماوية والمراد في الحديث ما يشمل الأرضية أيضاً، لأن المراد فقره وحاجته، وفي «النهاية» : الجائحة هي الآفة التي تهلك الثمار والأموال وتستأصلها وكل مصيبة عظيمة وفتنة منفرة جائحة اهـ. وفي «المصباح» : الجائحة الآفة اهـ. وهما مطلقان كما قال المصنف: والذي أشار إليه ابن حجر

في «فتح الإله» هو قول الشافعي: الجائحة ما أذهبت الثمر بأمر سماوي اهـ. وحينئذ فلعل فيه لأهل اللغة قولين: الإطلاق والتقييد (والقوام بكسر القاف) واقتصر عليه المصنف في «شرح مسلم» وابن حجر في «فتح الإله» (وفتحها) وهما مع تخفيف الواو، واللغتان نقلهما في «المصباح» فقال: يقال هذا قوامه بالفتح والكسر وتقلب الواو ياء جوازاً مع الكسرة: أي عماده الذي يقوم به، ومنهم من يقتصر على الكسر. والقوام بالكسر ما يقيم الإنسان من القوت، والقوام بالفتح: العدل والاعتدال اهـ. فلعل من اقتصر على الكسر فسره بما يقيم من القوت، ومن ذكر الفتح معه فسره بقوله (وهو ما يقوم به أمر الإنسان من مال ونحوه) ولا يضر في هذا الجمع كونه قال في «شرح مسلم» : القوام والحداد بكسر أولهما ما يغني من الشيء ويشد به الحاجة، فاقتصر على الكسر إما لأن مراده ما يغني ويسدّ من خصوص القوت، أو اقتصر عليه لأنه الأفصح (والسداد بكسر السين) المهملة (ما يسد حاجة المعوز) بضم فسكون فكسر، من أعوز الرجل: افتقر (ويكفيه) أي من مال ونحوه كما قدمه المصنف في قرينه الذي شك فيه الراوي هل هو أو ذاك، زاد في «شرح مسلم» : وكل شيء سددت به شيئاً فهو سداد بالكسر، ومنه سداد الثغر وسداد القارورة، وقولهم سداد من عوز (والفاقة) بالفاء والقاف بينهما ألف (الفقر) أي الحاجة كما في «المصباح» ، يقال: افتاق الرجل: احتاج، وهو من ذو فاقة أي حاجة (والحجى) بالضبط السابق فيه (العقل) . 16 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ليس المسكين) أي الكامل المسكنة الممدوحها لا لنفي أصل المسكنة (الذي ترده اللقمة واللقمتان) زاد مسلم في رواية له: ليس المسكين بهذا الطوّاف الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان (والتمرة والتمرتان ولكن) عطف على ما قبله، ولكن لاستدراك ثبوت ما توهم نفيه من سابقه، إذ المعهود في المسكين عند الناس هو الطواف، وقد نفي عنه المسكنة فربما يتوهم نفيه مطلقاً فرفع ذلك بقوله ولكن (المسكين الذي لا يجد غنىً) بكسر أوله المعجم وبالقصر: ضد الفقر

58 ـــ باب جواز الأخذ للمال من باذله (من غير مسألة)

(يغنيه) بضم التحتية: أي يكفيه عن سؤال الغير (ولا يفطن له) لتصبره وكتم حاله وما هو فيه (فيتصدق عليه) بالبناء للمجهول منصوب في جواب النفي (ولا يقوم في الناس فيسأل الناس) أي فهذا هو الكامل المسكنة الممدوحها، وهذا الحديث قد سبق مع شرحه في باب ملاطفة اليتيم والمسكين (متفق عليه) رواه البخاري في «التفسير» ، ومسلم في الزكاة من «صحيحهما» ، ورواه النسائي في الزكاة وفي «التفسير» من «سننه» كذا في «الأطراف» للمزي. 58 - باب جواز الأخذ للمال من باذله (من غير مسألة) أي سؤال (ولا تطلع) أي ترقب واستشراف (إليه) . 1 - (عن سالم بن عبد الله بن عمر) يكنى أبا عمرو، وقيل: أبو عبد الله القرشي العدوي المدني التابعي الإمام الفقيه الزاهد العابد، وأجمعوا على إمامته وجلالته وزهادته وعلوّ مرتبته، وعن مالك بن أنس: لم يكن أحد أشبه بمن مضى من الصالحين في الزهد والقصد في العيش في سالم، كان يلبس الثوب بدرهمين، وهو أحد الفقهاء السبعة فيما عدهم ابن المبارك. توفي بالمدينة سنة ست فيما قاله البخاري وشيخه أبو نعيم، وسنة خمس فيما قال الأصمعي، وسنة ثمان فيما قال الهيثم ومائة (عن أبيه عبد الله بن عمر عن عمر رضي الله عنهم) فيه تغليب لهما على سالم فإنه تابعي، وإنما يقول بصيغة الجمع في أبناء الصحابة المتناسقين كأسامة بن زيد بن حارثة وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ابن أبي قحافة وأضرابهم (قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطيني العطاء) أي من الغنائم (فأقول: أعطه من هو أفقر) أي أحوج (إليه) أي العطاء بمعنى المعطي (مني) وكان ذلك من عمر لسماعه من النبيّ للنهي عن الاستكثار من الدنيا والحرص عليها، وعنده حين دفع النبيّ له من العطاء

«ما يكفيه فيقول أعطيه» (فقال) أي النبيّ (خذه) أي متملكاً له بدليل إذنه له في التصرف فيه بقوله: (إذا جاءك) أي وصلك (من هذا المال) أل فيه للحقيقة ويحتمل كونها عهدية: أي من مال العطاء (شيء) التنوين فيه للتعميم فيشمل القليل والجليل (وأنت غير مشرف ولا سائل) عطف على مشرف بإعادة النافي دفعاً لتوهم أن النفي منصب على مجموعهما والجملة في محل الحال من مفعول أتاك فخذه فتموله (أي اتخذه مالاً، ثم أنت مخير بين إنفاقه في حاجتك وبين التصدّق كما قال منبهاً بالفاء التفريعية في قوله: فإن شئت كله) أي فإن شئت أكله، فحذف المفعول لدلالة الجواب عليه وهو قوله كله، وقبله فاء الجواب مقدرة، ومثله فيما ذكر من حذف مفعول شاء والفاء من الجواب قوله: (وإن شئت تصدق به) ففي الحديث حذف فاء الجواب في غير الشعر، ومذهب سيبويه اختصاص الحذف به لكن زعم الأخفش أن حذفها واقع في النثر وأن منه قوله تعالى: {إن ترك خيراً الوصية للوالدين} (البقرة: 180) وعن المبرد أيضاً جواز حذفها في الاختيار، لكن قال في الارتشاف في حفظي قديماً عن المبرد منع حذفها حتى في الشعر، وحينئذ فالحديث شاهد لمن أجاز حذف الفاء مطلقاً، ومن منع الاستشهاد بالحديث في ذلك حمله على أنه من تغيير الرواة، والله أعلم (ومالا) أي وأي مال لا يجيئك على الحال المذكورة بأن جاءك وأنت مشرف أو سائل (فلا تتبعه نفسك) معاملة لها بنقيض مرادها (قال سالم) ذكره ها هنا هو النكتة في ذكره قبل الصحابي أول الحديث نظير ما تقدم عن أبي بردة في حديث أبي موسى في الباب السابق قال سالم: أي المذكور أولاً (فكان عبد الله لا يسأل أحداً شيئاً) أي قليلاً ولا جليلاً من الدنيا كما يؤذن به التنوين (ولا يرد شيئاً أعطيه) عملاً بالحديث المذكور ووقوفاً عنده وقد كان ابن عمر شديد الاتباع (متفق عليه) رواه البخاري في الزكاة وفي الأحكام من «صحيحه» ،

59 ـــ باب الحث بفتح المهملة وتشديد المثلثة: أي التحريض (على الأكل من عمل يده)

ومسلم في الزكاة من «صحيحه» ، ورواه النسائي في الزكاة من «سننه» . مشرف بصيغة الفاعل من الإشراف بالمعجمة والفاء: أي متطلع إليه. وفي «فتح الباري» : الإشراف التعرّض للشيء والحرص عليه من قولهم أشرف على كذا إذا تطاول له، وقيل: للمكان المرتفع شرف، لذلك قال أبو داود: سألت أحمد عن إشراف النفس فقال: بالقلب، وقال يعقوب بن محمد: سألت أحمد عنه فقال: هو أن يقول مع نفسه يبعث لي فلان بكذا، وقال الأمر يضيق عليه: أن يرده إذا كان كذلك اهـ. 59 - باب الحث بفتح المهملة وتشديد المثلثة: أي التحريض (على الأكل من عمل يده) بالاحتراف والاكتساب (والتعفف به عن السؤال والتعرض) معطوف على مجرور عن، وعن التعرض: أي التطلب (للإعطاء) . (قال الله تعالى) : ( {فإذا قضيت الصلاة} ) أي صلاة الجمعة ( {فانتشروا في الأرض} ) أي لقضاء حوائجكم ( {وابتغوا من فضل ا} ) أي رزقه وهذا أمر إباحة بعد الحظر، عن بعض السلف «من باع واشترى بعد الجمعة بارك الله له سبعين مرة» . 1 - (وعن أبي عبد الله الزبير بن العوام) بن خويلد القرشي الأسدي المكي، ثم المدني أحد العشرة المبشرة بالجنة تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب الأمر بأداء الأمانة (قال: قال رسول الله) مؤكداً للشيء المقطوع بصدقه بالقسم المقدر المؤذن به اللام من قوله (لأن من يأخذ أحدكم) أي وا لأخذ أحد منكم (أحبله) بفتح أوله وسكون المهملة وضم الموحدة جمع قلة الحبل (ثم يأتي الجبل) أي مثلاً فغيره من المفازات محال الحطب كذلك، ولعل التصريح به ما في الصعود فيه من زيادة المشقة على سلوك الأودية (فيأتي

بحزمة من حطب على ظهره) من نفسه أو من ظهر دابته والأول أنسب بما قبله (فيبيعها فيكف الله بها وجهه) أي فيمنع بها ذاته من الحاجة، وعبر بالوجه عن الكل لأنه أشرف الأجزاء الإنسانية، أو لأن السؤال إنما يكون به غالباً (خير له من أن يسأل الناس) قال الحافظ في «الفتح» : خير ليس للتفضيل إذ لا خير في السؤال مع القدرة على الكسب، بل الأصح حرمته عند الشافعي، ويحتمل أنه كذلك بحسب اعتقاد السائل وتسمية الذي يعطاه خيراً وهو في الحقيقة شر (أعطوه أو منعوه) تقسم للسؤال المفضل عليه الاكتساب، وتصدير الحديث بالقسم الدال عليه اللام كما تقدم لتأكيده في نفس السامع وفيه مزيد الحض على التعفف عن المسألة والتنزه عنها، ولو امتهن المرء نفسه في طلب الرزق وارتكب المشاق في ذلك، ولولا قبح المسألة في نظر الشرع لما فضل عليها ذلك، وذلك لما يدخل على السائل من ذل السؤال ومن الرد إذا لم يعط ولما يدخل على المسؤول من الضيق من ماله إن أعطى كل سائل (رواه البخاري) في الزكاة من «صحيحه» ، ورواه ابن ماجه في الزكاة من «سننه» أيضاً. 2 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره) أي فيبيعها فيكف الله بها وجهه كما تقدم في حديث الزبير قبله، قال الحافظ في «الفتح» : وحذف من هذه الرواية لدلالة السياق عليه (خير له من أن يسأل أحداً) هو بمعنى قوله فيما قبله: من أن يسأل الناس (فيعطيه أو يمنعه متفق عليه) رواه البخاري في الزكاة من «صحيحه» ورواه مسلم فيها من طريق آخر من «صحيحه» ، ورواه الترمذي من طريق مسلم في الزكاة وقال: حسن غريب مستغرب من حديث بيان عن قيس. 3 - (وعنه عن النبي قال: كان داود عليه السلام لا يأكل إلا من عمل يديه) قال

الحافظ: الظاهر أن الذي كان يعمله داود بيده الدروع، وألان الله له الحديد فكان ينسج الدروع ويبيعها ولا يأكل إلا من ثمن ذلك، مع أنه كان من كبار الملوك، قال تعالى: {وشددنا ملكه} (ص: 20) وكان مع سعة ملكه يتورّع ولا يأكل إلا من عمل يده (رواه البخاري) في البيوع من «صحيحه» من حديث أبي هريرة باللفظ المذكور من جملة حديث أوله: خفف على داود القرآن وفي آخره وكان لا يأكل إلا من عمل يديه. 4 - (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كان زكريا) قال المصنف في «التهذيب» : فيه خمس لغات: أشهرها بالمدّ، والثانية بالقصر وبهما قرىء في السبع، والثالثة والرابعة زكري بلا ألف بتخفيف الياء وتشديدها حكاهما ابن دريد وآخرون من المتأخرين الجواليقي، والخامسة زكر كعلم حكاها أبو البقاء، وقوله: (عليه السلام) فيه إيماء إلى ما قدمناه من أنه لا كراهة في إفراد واحد من الأنبياء بالصلاة لحديث الطبراني: «صلوا على سائر الأنبياء فإنهم بعقوا كما بعثت» (نجاراً) وهذا من الفضائل لحديث البخاري: «أفضل ما أكل الرجل من عمل يده» ولحديث المقدام وغيرهما، وفي «شرح مسلم» للمصنف في الحديث جواز الصنائع وأن النجارة لا تسقط المروءة وأنها صنعة فاضلة، وفيه فضيلة لزكريا وأنه كان صانعاً يأكل من كسبه (رواه مسلم) في أحاديث الأنبياء من «صحيحه» ، ورواه ابن ماجه في كتاب التجارات بالفوقية من «سننه» . 5 - (وعن المقدام) بكسر الميم وسكون القاف وبالدال المهملة (ابن معد يكرب) بسكون الياء (رضي الله عنه عن النبي قال: ما أكل أحد طعاماً قط) بفتح القاف وضم الطاء المهملة المشددة ظرف لاستغراق ما مضى وباقي الأزمنة مقيسة عليه فيما يأتي (خيراً

60 ـــ باب الكرم والجود

من أن يأكل) أي: أو يشرب أو يلبس، وذكر الأكل لأنه أغلب أنواع الاستعمال كما قيل به في قوله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً} (النساء: 10) فإن المراد استعمالها بأي وجه وذكر لذلك (من عمل يديه) كناية عن الكسب وذكر اليدين، إما لأنه أفضل مما ليس فيه عملهما، ويؤيده أنه قيل له: أيّ الكسب أفضل؟ فقال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور. أو لأن أغلب الأعمال بهما، وإلا فالمراد مطلقة كالحاصل من كسب النظر كأن يستأجر لحفظ متاع، والسمع كأن يستأجر لسماع طلب درس علم، أو النظر كأن يستأجر لقراءة قرآن، أو لا من شيء من أعضائه كأن يستأجر ليصوم عن ميت، ثم المراد كما تدل عليه القواعد الشرعية كسب حلال خالص من الغش بسائر وجوهه. قال في «فتح الإله» : ويؤخذ من عموم الحديث أن الاكتساب خير من التوكل، على أنه لا ينافيه بل هو عينه لكن بقيد كما يفهم ذلك حده الذي قيل فيه: إنه أفضل حدوده: إنه مباشرة الأسباب مع شهود مسببها، فالاكتساب مع شهود أن حصوله بتيسير الله له ولطفه به وإقداره عليه، وفتح أبواب الرزق التي يحتاج إليها أفضل من عدمه وإن كان إنما تركه لنحو صلاة أو صيام وقد كان شأن أكابر القوم ذلك، فقد كان للجنيد سيد الطائفة الصوفية ذكان في البزازين، وكان يرخي ستره عليه فيصلي ما بين الظهرين قيل ألف ركعة وقيل أربعمائة وقيل: مائة، ولعله اختلف فعله فحكى كل من أصحابه ما اطلع عليه. وكان ابن أدهم يكثر الكسب وينفق منه ضرورته ويتصدق بباقيه. وكان أحب طرقه إليه حفظ البساتين وخدمتها لأنه تتم له فيها الخلوة ومجاهدة النفس بأعظم أنواع مجاهداتها، ومن ثم لم يعهد أنه أكل من ثمرة من ثمارها. وترك بعض الكسب كان بعد كمال رياضة نفوسهم وتهذيبها (وإن نبيّ الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده. رواه البخاري) في أوائل البيوع من «صحيحه» قبل حديث أبي هريرة المذكور قبله، ومما هو انفرد به البخاري عن باقي الكتب الستة، والله أعلم. 5 - (وعن المقدام) بكسر الميم وسكون القاف وبالدال المهملة (ابن معد يكرب) بسكون الياء (رضي الله عنه عن النبي قال: ما أكل أحد طعاماً قط) بفتح القاف وضم الطاء المهملة المشددة ظرف لاستغراق ما مضى وباقي الأزمنة مقيسة عليه فيما يأتي (خيراً من أن يأكل) أي: أو يشرب أو يلبس، وذكر الأكل لأنه أغلب أنواع الاستعمال كما قيل به في قوله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً} (النساء: 10) فإن المراد استعمالها بأي وجه وذكر لذلك (من عمل يديه) كناية عن الكسب وذكر اليدين، إما لأنه أفضل مما ليس فيه عملهما، ويؤيده أنه قيل له: أيّ الكسب أفضل؟ فقال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور. أو لأن أغلب الأعمال بهما، وإلا فالمراد مطلقة كالحاصل من كسب النظر كأن يستأجر لحفظ متاع، والسمع كأن يستأجر لسماع طلب درس علم، أو النظر كأن يستأجر لقراءة قرآن، أو لا من شيء من أعضائه كأن يستأجر ليصوم عن ميت، ثم المراد كما تدل عليه القواعد الشرعية كسب حلال خالص من الغش بسائر وجوهه. قال في «فتح الإله» : ويؤخذ من عموم الحديث أن الاكتساب خير من التوكل، على أنه لا ينافيه بل هو عينه لكن بقيد كما يفهم ذلك حده الذي قيل فيه: إنه أفضل حدوده: إنه مباشرة الأسباب مع شهود مسببها، فالاكتساب مع شهود أن حصوله بتيسير الله له ولطفه به وإقداره عليه، وفتح أبواب الرزق التي يحتاج إليها أفضل من عدمه وإن كان إنما تركه لنحو صلاة أو صيام وقد كان شأن أكابر القوم ذلك، فقد كان للجنيد سيد الطائفة الصوفية ذكان في البزازين، وكان يرخي ستره عليه فيصلي ما بين الظهرين قيل ألف ركعة وقيل أربعمائة وقيل: مائة، ولعله اختلف فعله فحكى كل من أصحابه ما اطلع عليه. وكان ابن أدهم يكثر الكسب وينفق منه ضرورته ويتصدق بباقيه. وكان أحب طرقه إليه حفظ البساتين وخدمتها لأنه تتم له فيها الخلوة ومجاهدة النفس بأعظم أنواع مجاهداتها، ومن ثم لم يعهد أنه أكل من ثمرة من ثمارها. وترك بعض الكسب كان بعد كمال رياضة نفوسهم وتهذيبها (وإن نبيّ الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده. رواه البخاري) في أوائل البيوع من «صحيحه» قبل حديث أبي هريرة المذكور قبله، ومما هو انفرد به البخاري عن باقي الكتب الستة، والله أعلم. 60 - باب الكرم والجود بضم الجيم الكرم: بذل ما ينبغي من المال فيما ينبغي، وفي «الشفاء» للقاضي عياض:

الكرم والجود والسخاء والسماحة معانيها متقاربة، وفرق بعضهم بينها بفروق فجعل الكلام الإنفاق يطيب النفس فيما يعظم خطره ونفعه، وسموه أيضاً حرية وهو ضد النذالة. والسماحة: التجافي عما يستحقه المرء عند غيره بطيب نفس وهو ضد الشكاية، والسخاء: سهولة الإنفاق وتجنب اكتساب ما لا يحمد وهو الجود، وهو ضد التقتير اهـ. قال في «المصباح» : يقال: جاد الرجل يجود جوداً بالضمّ، تكرّم (والإنفاق في وجوه الخير) من صدقة وصلة رحم وقرىء ضيف ووقف على جهة خير ونحو ذلك (ثقة با تعالى) أي بوعده الذي لا يخلف من حسن الجزاء على ذلك في دار القرار، قال الله تعالى: {إن الله لا يظلم مثقال ذرّة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً} (النساء: 40) وقال تعالى: {من جاء بالحسنة فله خير منها} (النمل: 89) وقال: «والصدقة برهان» أي علامة على تصدق باذلها بوعد الله تعالى: (قال الله تعالى) : ( {وما أنفقتم من شيء} ) أي في رضى الله تعالى: ( {فهو يخلفه} ) يعوضه في الدارين أو في أحدهما وقد تقدمت مع الكلام عليها في باب الإنفاق على العيال. (وقال تعالى) : ( {وما تنفقوا من خير فلأنفسكم} ) أي وأيّ إنفاق منكم لمرضاة الله تعالى فلأنفسكم ثوابه فلا تمنوا به على أحد ( {وما تنفقوا إلا ابتغاء وجه ا} ) الواو للحال أو عطف، يعني أن المؤمن لا ينفق إلا لمرضاة الله تعالى، وقيل: نفي في معنى النهي. قال عطاء الخراساني: معناه إذا أعطيت لوجه الله فلا عليك ما كان عمله فإنك مثاب لنفسك، كان السائل مستحقاً أو غيره برّاً أو فاجراً ( {وما تنفقوا من خير يوفّ إليكم وأنتم لا تظلمون} ) فلا ينقص ثواب صدقاتكم. (وقال تعالى) : ( {وما تنفقوا من خير} ) أي مريدين به مرضاته سبحانه ( {فإن الله به عليم} ) أي فيجازيكم بقدره، وفيه ترغيب في الإنفاق لذلك. 1 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي قال: لا حسد) أي لا غبطة كما

يأتي فتجوز به عنها بجامع تمني مثل النعمة إلا أنها تزيد على الحسد بتمني زوالها عن صاحبها (إلا في اثنتين) أي من الخصال (رجل) بالرفع على القطع بإضمار مبتدأ أو مضاف وتقديرهما خصلتا رجل، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وارتفع ارتفاعه ورأيته في أصل مصحح من مسلم بجر رجل، ويخرج على أنه بدل من اثنتين بتقدير مضاف قبله: أي إلا في اثنتين رجل الخ، ثم رأيت الحافظ في «فتح الباري» ذكر فيه وجوه الإعراب الثلاثة وصدر بالجرّ ولم يذكر وجهه قال: والرفع على الاستئناف والنصب بإضمار أعني اهـ (آتاه) بالمد والفوقية: أي أعطاه (امالاً) التنوين فيه للتعميم فيشمل القليل والكثير لكن في إنفاق الأوّل تفصيل مذكور في كتب الفقه (فسلطه على هلكته) بفتح أوائله وهو مصدر هلك يهلك من باب ضرب يضرب هلكاً وهلاكاً وهلوكاً ومهلكاً بفتح الميم وتثليث اللام: أي إنفاقه (في الحق) خلاف الباطل: أي في القرب والطاعات، وفيه إيماء إلى أن إذهابه في خلاف ذلك في إتلاف المال بالباطل (ورجل آتاه الله حكمة) أي علماً. قال الحافظ: المراد به القرآن كما ورد في حديث ابن عمرو، أو أعم من ذلك وضابطها ما منع من الجهل وزجر عن القبيح اهـ. (فهو يقضي بها) بين المتنازعين إليه (ويعلمها) الطالب لها (متفق عليه) قال السيوطي في «الجامع الكبير» : ورواه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه وابن حبان من حديث ابن عمر بلفظ: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار» ورواه أحمد والبخاري من حديث أبي هريرة بلفظ: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار فسمعه جار له فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت ما يعمل» ورواه ابن عدي والبيهقي والخطيب من حديث أبي هريرة بلفظ: «لا حسد ولا ملق إلا في طلب العلم» ورواه ابن نصر في كتاب الصلاة من حديث ابن عمر بلفظ: «لا حسد إلا على اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فصرفه في سبيل الخير، ورجل آتاه الله علماً فعلمه وعمل به» اهـ (ومعناه: ينبغي ألا يغبط أحد) على حال هو فيه كائناً ما كان (إلا على

إحدى هاتين الخصلتين) لعظم نفعهما وحسن وقعهما وإذا كان يغبط على أحدهما فجملتهما بالأولى. 2 - (وعنه قال: قال رسول الله: أيكم مال وارثه أحبّ إليه من ماله) قال في «الفتح» : أي إن الذي يخلفه الإنسان من المال وإن كان حالاً منسوباً إليه فإنه مجازيه ومن بعد حقيقة (قالوا: يا رسول الله ما منا أحد) التقديم للخبر الظرفي على المبتدأ للاهتمام بجانبه (إلا ماله أحبّ إليه) جملة وصفية لأحد، ويصح كونها في محل الحال لتخصيصه بتقديم الخبر، وحذف المفضل عليه وهو قوله من مال وارثه اكتفاء بذكره في كلام السائل (قال: فإن ماله ما قدم) بأن تصدق أو أكل أو ليس كما في الحديث السابق: «ليس لك من دنياك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت» أو كما قال، فهذا هو الذي يضاف إليه حياً وميتاً بخلاف ما يخلفه من المال. قال ابن بطال: فيه التحريض على ما يمكن تقديمه من المال في وجوه البرّ والقرب لينتفع به في الآخرة، فإن كل ما يخلفه يصير ملكاً للوارث كما قال: (ومال وارثه ما أخر) فإن عمل فيه بطاعة الله اختص بثوابه عن الميت وإن كان عمل فيه بمعصية الله تعالى فذلك أبعد لمالكه الأول من الانتفاع إن سلم من تبعته، ولا يعارض حديث سعد بن أبي وقاص: «إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة» لأن ذلك فيمن تصدّق بماله كله أو معظمه في مرضه، وهذا الحديث فيمن تصدق حال صحته (رواه البخاري) في الرقاق في «صحيحه» ، ورواه النسائي في الوصايا من «سننه» . 3 - (وعن عديّ بن حاتم رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اتقوا النار» ) أي اتخذوا

بينكم وبينها وقاية من صالح الأعمال جل أو قل (ولو بشق) بكسر المعجمة أي نصف (تمرة. متفق عليه) وقدم مع الكلام عليه في آخر الحديث الطويل في باب الخوف. 4 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً قط) لتأكيد استغراق الأزمنة وتنكير شيئاً ليعم جلالة المسؤول وقلته ووجدانه له وفقده (فقال: لا) بل إن كان عنده أعطاه، أو يقول له ميسوراً من القول فيعده أو يدعو له، فكان إن وجد جاد وإلا وعد ولم يخلف الميعاد، فليس المراد أنه يعطي ما طلب منه جزماً، بل إنه لا ينطق بالرد، فإن كان عنده المسؤول وساغ الإعطاء أعطى وإلا وعد، وقوله للإشعريين: وا لا أحملكم، أجيب أنه تأديب لهم لسؤالهم منه ما ليس عنده مع تحققهم ذلك، ومن ثمة حلف حسماً لطمعهم في تحصيله بنحو استدانة (متفق عليه) رواه البخاري في الأدب من «صحيحه» ، ومسلم في فضائل النبي والترمذي في «الشمائل» . 5 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «ما من) مزيدة للتنصيص على العموم والاستغراق» في قوله (يوم) جاء في حديث أبي الدرداء «ما من يوم طلعت فيه الشمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان يسمعهما خلق الله كلهم إلا الثقلين: يا أيها الناس هلموا إلى ربكم إن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، ولا غربت شمسه إلا وبجنبها ملكان يناديان» فذكر مثل حديث أبي هريرة (يصبح العباد فيه) هذا ظاهر في أن المراد من اليوم ضد الليل (إلا ملكان) في حديث أبي الدرداء إلا وبجنبيها ملكان. والجنب بسكون النون الناحية (ينزلان) والجملة حال من العباد (فيقول) بالرفع عطف على الفعل المرفوع (أحدهما: اللهم أعط منفقاً) قال الأبي: أي النفقة في الواجب لأن في المال حقوقاً متعينة والنفقة في

المندوب لكن بالمعروف، وقال القرطبي: هو يعم الواجبات والمندوبات لكن الممسك عن المندوبات لا يستحق الدعاء إلا أن يغلب عليه البخل المذموم بحيث لا تطيب نفسه بإخراج الحق الذي عليه ولو أخرجه اهـ (خلفاً) يحتمل أن يكون في الدنيا ويحتمل أن يكون في الآخرة، وفيه الحض على الإنفاق ورجاء قبول دعوة الملك، وبشهد لهذا قوله تعالى: {وما أنفقتم من شيء فهو بخلفه} (سبأ: 39) وفي اعتبار المعروف قوله تعالى: {ولا تبسطها كل البسط} (الإسراء: 4) (ويقول الآخر) بفتح المعجمة (اللهم أعط ممسكاً) أي عن الإنفاق الواجب والمندوب (تلفاً) قال الحافظ في «الفتح» : التعبير بالعطية في هذا للمشاكلة لأن التلف ليس عطية، والتلف يحتمل أن يراد تلف ذلك المال بعينه أو تلف نفس صاحب المال والمراد به فوت أعمال البر بالتشاغل بغيرها، وأفاد هذا الحديث توزيع الكلام بينهما فنسب إليهما في حديث أبي الدرداء نسبة المجموع إلى المجموع. قال المصنف: الإنفاق الممدوح ما كان في الطاعات وعلى العيال والضيفان والتطوعات (متفق عليه) أخرجاه في الزكاة من «صحيحهما» ، وأخرجه النسائي في عشرة النساء وفي التفسير من «سننه» . والحديث قد تقدم مع شرحه في باب النفقة على العيال. 6 - (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله تعالى) أي فهو من الأحاديث القدسية (أنفق) أي أيها الصالح للخطاب من سائر المؤمنين: أي أنفق المال في وجوه القرب بالطريق المأذون فيه شرعاً إيماناً واحتساباً (ينفق عليك) بالبناء للمفعول وحذف الفاعل للعلم به سبحانه وهو مجزوم جواب شرط مقدر: أي إن تنفق ينفق: أي يوسع عليك ويخلف عوض ما تنفقه، فعبر عنه بالإنفاق على سبيل المشاكلة (متفق عليه) .

7 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص) بحذف الياء إما على لغة من يقف على المنقوص المعرف بالسكون، وإما على أنه من الأجوف: أي من العيص لكن الأفصح على كونه من المنقوص الوقف عليه بالياء وقد تقدم ذلك (رضي الله عنهما أن رجلاً) في «صحيح مسلم» عن أبي موسى قال: قلت: يا رسولالله، وجاء في طريق أخرى عنه: سألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا ظاهر في أنه هو (سأل رسول الله) وقوله: (أيّ الإسلام خير) على تقدير القول: أي قائلاً أي الإسلام: أيّ خصاله أو أي ذويه فعل الثاني يقدر قبل قوله: (قال تطعم) بالرفع (الطعام) وما بعده مضاف: أي ذو إطعام الطعام لأن المراد من الفعل فيه المصدر: إما على تقدير أن المصدرية قبله، أو على تنزيل الفعل منزلته والوجهان مذكوران في نحو: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، واقتصر البدر الدماميني في «مصابيحه» على الأول وقال فيه حذفها في غير مواضعها المشهور كالمثال المذكور قال: على أن بعضهم جعل حذفها على الإطلاق مقيساً قال: والظاهر أن المراد الإطعام على وجه الصدقة والهدية والضيافة ونحو ذلك لأنه ذكر بصيغة العموم (وتقرأ السلام) مفتوح الفوقية والراء لأنه من قرأ. قال الزركشي ويجوز ضم أوله وكسر ثالثه. قال الدماميني: هي لغة سوء. قال القاضي عياض: لا يقال: أقرئه السلام إلا في لغة سوء إلا إذا كان مكتوباً إليه فتقول ذلك: أي اجعله يقرؤه كما يقال: اقرىء الكتاب اهـ. أي ولا يتأتى هذا الأخير هنا اهـ. أي لأن المراد إفشاء السلام على من لقيت (على من عرفت ومن لم تعرف) وفي بذل الطعام كما ذكرنا وقرأ السلام على من ذكر استئلاف للقلوب استجلاب لودها فلا جرم وقع الحض عليهما (متفق عليه) أخرجه البخاري ومسلم في الإيمان، وابن ماجه في الأطعمة. 8 - (وعنه قال: قال رسول الله: أربعون خصلة) جاز الابتداء بأربعون مع نكارته لتخصيصه بالعمل في تمييزه لأن الأصح عند النحاة أن العامل في التمييز عن مبهم هو ذلك الاسم المفسر، قال الحافظ في «الفتح» : وعند أحمد أربعون حسنة (أعلاها منيحة العنز) قال

أبو عبيدة: المنيحة عند العرب على وجهين. أولهما إعطاء الرجل صاحبه نحو شاة صلة. ثانيهما أن يعطيه شاة أو ناقة ينتفع بحلبها ثم يردها وهذا هو المراد هنا (ما من عامل يعمل بخصلة) أي بواحدة (منها رجاء ثوابها) مفعول له، ويصح كونه منصوباً على الحال: أي راجياً ثوابها وفيه إيماء إلى أن ترتب الثواب على صالح العمل ليس على سبيل اللزوم، بل على سبيل الفضل من المولى سبحانه (وتصديق موعودها) الإضافة لأدنى ملابسة أي الموعود به فيها (إلا أدخله الله تعالى بها الجنة) قال الحافظ ابن حجر نقلاً عن ابن بطال: قد كان النبي عالماً بالأربعين المذكورة، وإنما لم يذكرها لمعنى هو أنفع من ذكرها، وذلك خشية أن يكون التعيين لها مزهداً في غيرها من أبواب البرّ. قال الحافظ بعد أن نقل عن ابن بطال عن بعضهم تعيين تلك الخصال وتعقب ابن المنير له في كون بعضها أعلى من المنيحة ما لفظه: وأنا موافق لابن بطال في إمكان تتبع أربعين خصلة من خصال الخير أدناها منيحة العنز وموافق لابن المنير في رد كثير مما قال ابن بطال، مما هو ظاهر أنه فوق المنيحة والله أعلم (رواه البخاري) في أواخر الهبة من «صحيحه» ، ورواه أبو داود في كتاب الزكاة من «سننه» (وقد سبق بيان هذا الحديث) أي يذكر معنى المنيحة (في باب بيان كثرة طرق الخير) . 9 - (وعن أبي أمامة) بضم الهمزة وتخفيف الميمين (صدى) بضم ففتح فتشديد التحتية (ابن عجلان رضي الله عنه قال: قال رسول الله: يا ابن آدم إنك أن تبذل الفضل) بفتح همزة أن المصدرية وهي ومدخولها في تأويل مصدر منصوب بدل اشتمال من اسم إن: أي بذلك الفضل، وبكسرها على أنها شرطية، والفضل ما زاد على ما تدعو إليه حاجة الإنسان لنفسه ولمن يمونه (خير لك) خبر أن على الأول وخبر محذوف مع الفاء على الثاني: أي فهو خير لك وبه يتبين ترجيح الفتح لأن الأصل عدم الحذف (وأن تمسكه) بفتح الهمزة: أي وإمساكك إياه (شر لك) لأنك تحاسب عليه ولا تلقاه بين يديك عند حاجتك إليه (ولا تلام) أي ولا يلحقك لوم من الشرع (على كفاف) أي إمساك ما تكف به الحاجة

(وابدأ بمن تعول) من زوجة وقريب وعبد ودابة لأن حقهم واجب وهو أفضل من المندوب بسبعين ضعفاً (واليد العليا) المنفقة، وقيل: المتعففة عن السؤال (خير من اليد السفلى) أي الآخذة، وقيل: السائلة، والحديث تقدم مع الكلام عليه في باب فضل الجوع (رواه مسلم) . 10 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام) على فيه تعليلية: أي لأجل الإسلام (شيئاً) من الدنيا جل أو قل وهو ثاني مفعولي سئل (إلا أعطاه) ترغيباً في الإسلام وإنقاذاً لذلك من النار للرحمة التي طبع عليها (ولقد جاءه رجل) لم يتعرض المصنف في «شرح مسلم» لبيانه ولعله كان من المؤلفة (فأعطاه غنماً بين جبلين) أي كثيرة كأنها تملأ ما بين الجبلين، وهذا الإعطاء منه يحتمل أن يكون عن سؤال من ذلك الرجل، ويحتمل أن يكون ابتداء زيادة لترغيبه في الإسلام إن لم يكن أسلم، أو لدوامه عليه إن أسلم ونيته ضعيفة فيه. قال المصنف: يجوز أن يعطي المسلم من المؤلفة من الزكاة ومن بيت المال ولا يجوز أن يعطي مؤلفة الكفار من الزكاة، وفي إعطائهم من غيرها خلاف، الأصح عندنا لا يعطون منه الآن لأن الله قد أعزّ الإسلام وكثرهم بخلاف أوّل الإسلام، وقد قل المسلمون اهـ (فرجع إلى قومه) داعياً لهم إلى الإسلام (فقال: يا قوم أسلموا) أي لتغنموا الدنيا لأنه لم يكشف له أنوار اليقين إلى حينئذ كما يدل عليه قوله (فإن محمداً يعطي عطاء) مفعول مطلق جوز الهمذاني في مثله من قوله تعالى: {وا أنبتكم من الأرض نباتاً} (نوح: 17) أن يكون مصدراً مؤكداً لفعله وفعله محذوف يدل عليه أنبت والتقدير: أنبتكم فنبتم نباتاً وأن يكون مؤكداً لعين أنبت على حذف الهمزة من أوله، وله نظائر في كلام العرب نظماً ونثراً اهـ. واقتصر ابن هشام في «الجامع» على كونه مؤكداً لعامله، قال شارحه: فنبات مصدر لفعل عين أنبت ووقع في التوضيح ما يقتضي التمثيل به لاسم العين النائب عن المصدر قال قرينه: وهو مخالف لكلام النحويين اهـ. وقيد العطاء إنما يدل على المبالغة فيه بقوله:

(من لا يخشى) يخاف (الفقر) لشدة معرفته بهبات ربه وسعة خزائن فضله، وقوله: (وإن) مخففة من الثقيلة: أي وإنه (كان الرجل ليسلم) أي يدخل في الإسلام وينتظم في عدادهم (ما يريد) بإسلامه (إلا الدنيا) لما يرى من مزيد بذله تأليفاً على الإسلام وترغيباً (فما يلبث) بفتح التحتية والموحدة وسكون اللام بينهما: أي يمكث (إلا) زمناً (يسيراً) تشرق في قلبه أشعة أنوار الإيمان وتخالط بشاشته قلبه فيتمكن منه (حتى يكون الإسلام أحبّ إليه من الدنيا وما عليها) فهذا من كمال رحمته ومزيد معرفته، أن دواء كل داء بما يقطع مادته من أصلها لتقلب تلك الأمراض إلى ضدها، فصلى الله وسلم عليه وزاده فضلاً وشرفاً لديه. وفيه عناية الله بأولئك الذين أهلهم لمعاملة نبيه المصطفى إياهم بتلك المعاملة لينالوا الدرجات العلية (رواه مسلم) في فضائل الأنبياء من «صحيحه» . 11 - (وعن عمر) بن الخطاب (رضي الله عنه قال: قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسماً) أي ما يقسم من ماله الغنائم أو الخراج أو نحو ذلك (فقلت) معطوف على مقدر دل عليه الكلام فأعطى أناساً وترك آخرين (يا رسول الله لغير هؤلاء) أي المعطين (كانوا أحق) أي أولى (به) أي بالعطاء (منهم) أي من هؤلاء وآكد باللام المؤذنة بالقسم المقدر وإسمية الجملة لما فهمه من ترك النبي إعطاءهم من أن غيرهم أحق بذلك منهم، قال الأبي: وهذا التنبيه لظنه أن الإيثار بالعطاء بحسب الفضيلة والسابقة في الدين، فبين له سببه بقوله: (قال: إنهم خيروني) قال الأبي: الأظهر أنه بلسان الحال: أي وكلوا الخيرة إلى (بين أن يسألوني بالفحش فأعطيهم) أو أن (يبخلوني) معناه كما قال المصنف أنهم ألحوا عليّ في السؤال لضعف إيمانهم وألجئوني بمقتضى حالهم إلى السؤال بالفحش أو بنسبتي إلى البخل (ولست بباخل) ولا ينبغي احتمال أحد الأمرين، وقال الأبي نقلاً عن عياض: المعنى أنهم أشطوا عليه في السؤال على وجه يقتضي أنه إن أجابهم إليه حاباهم، وإن منعهم آذوه وبخلوه، فاختار أن يعطي إذ ليس البخل من خلقه مداراة وتألفاً كما قال: «شرّ الناس من اتقاه

الناس اتقاء لشرّه» .g وكما أمر بإعطاء المؤلفة ففيه ما كان عليه من عظيم الخلق والصبر والحلم والإعراض عن الجاهلين كما أمر (رواه مسلم) في الزكاة من «صحيحه» وقد انفرد به عن باقي الستة. 12 - (وعن) أبي محمد، ويقال: أبو عدي (جبير) بضم الجيم وفتح الموحدة وسكون التحتية (ابن مطعم) بصيغة اسم الفاعل ابن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي القرشي النوفلي المدني (رضي الله عنه) أسلم يوم الفتح وقيل: قبله وحسن إسلامه، وكان سيداً حكيماً وقوراً بشأنه رئيساً كاتباً، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قال ابن الجوزي نحو ثلاثين حديثاً، اتفق الشيخان على ستة منها وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بواحد وخرج عنه الأربعة، مات بالمدينة سنة ثمان أو تسع بتقديم الفوقية (أنه قال بينما) ما مزيدة لكفّ بين عن الإضافة، فالجملة الإسمية بعدها مستأنفة (هو يسير مع النبي مقفله) منصوب على الظرفية الزمانية: أي زمن رجوعه (من حنين) بضم المهملة وتخفيف النونين بينهما تحتية ساكنة في السنة الثامنة بعد الفتح في شوال (فعلق) بفتح العين وتخفيف اللام وبالقاف من أفعال الشروع بوزن طفق ومعناه: وقد جاء بدله في رواية الكشميهني ثم هو في البخاري بالتاء الممدودة بالتأنيث لإسناده إلى (الأعراب) وهو اسم جمع لعرب كما قال سيبويه لأنه خواص بسكان البوادي والعرب تعمهم والحاضرين، ورأيت في أصل مصحح فعلقه بهاء الضمير والظاهر أنها تاء التأنيث وربطت في الرسم من تحريف الكتاب وقوله: (يسألونه) جملة في محل الخبر المعلق (حتى اضطروه) أي ألجأوه (إلى سمرة) بفتح المهملة وضم الميم: شجرة طويلة متفرقة الرأس قليلة الظل صغيرة الورق والشوك صلبة الخشب قاله ابن التين، وقال الداودي: السمرة هي العضاه، وقال الخطابي: ورق السمر أثبت وظلها أكثف، ويقال: هي شجرة الطلح (فخطفت) بكسر الطاء المهملة (رداءه) قال في «المصباح» : خطفه من باب سمع استله بسرعة، وخطف من باب ضرب لغة فيفه، وعند ابن شبة في كتاب

مكة: حتى عدلوا ناقته عن الطريق فمرّ بسمرات فانتهش ظهره وانتزعن رداءه، والباقي بنحو حديث جبير (فوقف النبيّ) أي بإمساك خطام الناقة الذي بيده (فقال: أعطوني ردائي) قال في «المصباح» : الرداء بكسر الراء وبالمد ما يرتدي به مذكر لا يجوز تأنيثه. قال ابن الأنباري: وتثنيته رداءان، وربما قلبوا الهمزة فقالوا: رداوان والجمع أردية بالياء كسلاح وأسلحة (فلوكان لي عدد هذه العضاه) بالرفع اسم كان وخبرها (نعماً) بالنصب ويجوز على التمييز كما في «الفتح» للحافظ زاد الدماميني ولي خبر كان. وفي رواية أبي ذرّ بالرفع على أنه اسم كان مؤخراً، وعدد بالنصب خبر مقدم (لقسمته بينكم) قال ابن المنير: وهذا تنبيه بطريق الأولى لأنه إذا سمح بمال نفسه فلأن يسمح بقسم غنائمهم عليهم أولى (ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذاباً ولا جباناً) أي لا تجدوني ذا بخل ولا ذا كذب ولا ذات جبن، فالمراد نفي الوصف من أصله لا نفي المبالغة المدلول عليها بالصيغة: قال ابن المنير: في جمعه بين هذه الصفات لطيفة، وذلك أنها متلازمة وكذا أضدادها وأصل المعنى هنا الشجاعة، فإن الشجاع واثق من نفسه بالخلف من كسبه فبالضرورة لا يبخل، وإذا أمهل عليه العطاء لا يكذب بالخلف في الوعد، لأن الخلف إنما ينشأ من البخل، واستعمال ثم هنا ليس مخالفاً لمقتضاها وإن كان الكرم يتقدم العطاء، لكن علم الناس بكرم الكريم إنما يكون بعد العطاء، وليس المراد هنا بثم الدلالة على تراخي العلم بالكرم، عن العطاء إنما التراخي هنا لعلو رتبة الوصف كأن يقول: وأعلى من العطاء بما لا يتقارب أن يكون العطاء عن كرم، فقد يكون عطاء بلا كرم كعطاء البخيل قهراً أو نحو ذلك، قاله الدماميني في «المصابيح» . وفي «الفتح» للحافظ: في الحديث ذم الخصال المنفية، وأن إمام المسلمين لا ينبغي أن يكون فيه خصلة منها، وفيه ما كان عليه من الحلم وحسن الخلق وسعة الجود والصبر على جفاة الأعراب، وفيه جواز وصف المرء نفسه بالخصال الحميدة عند الحاجة لخوف ظن أهل الجهل به خلاف ذلك ولا يكون ذلك من الفخر المذموم اهـ ملخصاً (رواه البخاري) في الجهاد وفي الخمس من «صحيحه» منفرداً به عن باقي الستة (مقفلة) بفتح أوله وثالثه وسكون ثانيه (أي في حال) أحسن منه زمان (رجوعه) لما قدمناه وبذلك عبر الحافظ في الفتح (السمرة شجرة) تقدم بيانها (العضاه) بكسر العين المهملة وبالضاد المعجمة (شجر له شوك)

قال الحافظ في «الفتح» : واختلف في واحدها فقيل عضة بفتح أوليه كشفه وشفاه والأصل عضهه فحذفت الهاء وقيل: عضاهة. 13ــــ (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما نقصت صدقة) هي المخرج من المال تقرباً إلى الله (من مال) قال المصنف: ذكروا فيه وجهين: أحدهما أنه يبارك فيه ويدفع عنه المفسدات فيجبر النقص الصوري بالبركة الخفية وهذا مدرك بالحس والعادة، وثانيهما أنه وإن نقصت صورته لكن ثوابه المعد له في الآخرة جابر لنقصه (وما زاد الله عبداً بعفوا إلا عزاً) فيه وجهان: أيضاً أحدهما أنه على ظاهره أن من عرف بالعفو والصفح ساد وعظم في القلوب وزاد عزة وكرامة، والثاني أن المراد أجره في الآخرة وعزه هناك (وما تواضع أحد ألا رفعه الله عزّ وجلّ) ويجوز أن يكون في الدنيا بأن يرفعه ويثبت له في القلوب بتواضعه منزلة يرفعه بها الناس ويجلوا مكانه، ويحتمل أي يكون ذلك في الآخرة فيثبته الله في الجنة بتواضعه في الدنيا، وقد يكون المراد فيهما جميعاً اهـ ملخصاً (رواه مسلم) في البر والصلة من «صحيحه» ، ووقع في «الأطراف» للمزي في الأدب منه، والذي رأيته في الأصول من مسلم كما ذكرته. 14 - (وعن أبي كبشة) بفتح الكاف وسكون الموحدة وبالشين المعجمة كنية (عمر) بضم ففتح (ابن سعد الأنماري) بفتح الهمزة وسكون النون وبعد الألف راء نسبة إلى أنمار بطن من العرب، وقد اختلف في اسمه (رضي الله عنه) فقيل كما ذكره المصنف «عمر» ، وقيل سعد بن عمر، وقيل: عمرو بن سعد سماه يحيى بن يونس وسعيد القرشي هكذا، وقيل: اسمه عمرو بن سعد. قال ابن الأثير: وهو الأشهر أخرجه أبو موسى يعد في الشاميين، روى له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث ذكر منها المزي في «الأطراف» أربعين وليس منها شيء في «الصحيح» (أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ثلاثة) من الخصال أو خصال ثلاثة، وجاز إتيان

التاء في عدد المؤنث لحذف المعدود (أقسم عليهن) تأكيداً لها في الأذهان للسامعين قبولهم لها ويشتد حرصهم على العمل بها وأكد ذلك بقوله: (وأحدثكم حديثاً) أي في ذلك (فاحفظوه) والجملتان معترضتان لذلك، وجعل العاقولي من باب التقديم والتأخير فقال: أي أحدثكم في معنى من خصال الخير وأقسم على ثلاث خصال منها، فقدم قوله ثلاث أقسم عليهن للاهتمام بها اهـ. وما سلكته أولى لأن الأصل عدم التقديم والتأخير (ما نقص مال عبد من صدقة) أي بل البركة النازلة فيه أو الثواب المعد لباذله وذلك يجبر ما نقص منه حساً، أو ما نقص ثوابه بل يضاعف يوم القيامة أضعافاً كثيرة، وفي «أمالي» العز بن عبد السلام معنى الحديث أن ابن آدم لا يضيع به شيء وما لم ينتفع به في دنياه انتفع به في عقباه، فإن الإنسان إذا كان له داران فحول ماله من إحداهما إلى الأخرى لا يقال في ذلك المحول إنه نقص من ماله، وكان بعض السلف إذا رأى السائل يقول: مرحباً بمن جاء يحول مال دنيانا إلى أخرانا قال: هذا معنى الحديث، وليس معناه أنه لا ينقص في الحس ولا أن الله يخلف عليه فإن ذلك معنى مستأنف اهـ (ولا ظلم عبد مظلمة) بفتح الميم وكسر اللام اسم مصدر ظلم ظلماً بالفتح من باب ضرب، وفي «فتح الباري» في كتاب المظالم: المظلمة بكسر اللام على المشهور. وحكى ابن قتيبة وابن التين والجوهري فتحها، وأنكره ابن القوطية، ورأيت بخط مغلطاي أن الفراء حكى الضم، قال في «المصابيح» : هي ما يطلبه عند الظالم وهي ما أخذ منك وحذف الفاعل ليعم ظلم القويّ والضعيف ونكر مظلمة في سياق النفي ليعمّ الظلم في النفس والمال والعرض وقوله: (صبر عليها) أي حبس نفسه على ألمها ولم ينتقم من ظالمه بشيء من الانتقام، ويحتمل أن يعم ويدخل من ترك بعض حقه من الظلامة وانتصف في البعض فيثاب فيما تركه احتساباً (إلا زاده ا) في الدنيا وفي الآخرة أو فيهما (عزاً) وذلك من باب قولهم: كما تدين تدان، ومن حديث: «اعمل ما شئت فإنك مجزيّ به» وفي تفسير سورة فصلت من «صحيح البخاري» قال ابن عباس: {ادفع بالتي هي أحسن} الصبر عند الغضب والعفو عند الإساءة فإذا فعلوا عصمهم الله وخضع لهم عدوهم كأنه وليّ حميم اهـ. وهذا يؤيد ظهور أثر العفو في الدنيا (ولا فتح عبد باب مسألة) لينال بذلك الغنى تكثراً من أموال الناس (إلا فتح الله عليه باب فقر) معاملة بنقيض قصده، وفي هذه الأخيرة استعارة مكنية تتبعها استعارة تخييلية في الموضعين (أو) شك من الراوي: أي قال:

فتح الله عليه باب فقر أو قال: (كلمة نحوها) في إفادة ذلك (وأحدثكم حديثاً فاحفظوه) ظاهر أنه مزيد على الثلاث ولعله استطرد مما أقسم عليه من الخصال إلى ذلك لمناسبة بينه وبين ما انتقل عنه، إذ كل فيه ترغيب في إنفاق المال في التقرب إلى الله وتحذير من الحرص على جمع المال، ويحتمل أن تكون هذه الجملة من كلام أبي كبشة لما حدثهم بما تقدم، ذكر هذا الحديث بجامع ما ذكرناه فذكره وقال: هذه الجملة قبله ليقبلوا عليه، ويؤيد هذا قوله: (قال) أي النبي (إنما الدنيا لأربعة نفر) بفتح أوليه هو لغة ما بين الثلاثة إلى العشرة، وهو هنا تمييز أربعة وجاز مع أن تمييزها لا يكون إلا جمعاً كسبع ليال وثمانية أيام اعتباراً بالمعنى لأنه كذلك البعد (عبد) يجوز فيه وفي أمثاله من مفصل لمجمل استوفى العدة الجر على الإبدال مما قبله بدل كل من كل بتقدير سبق العطف على الإبدال، والقطع بالرفع بإضمار مبتدأ محذوف وجوباً، وبالنصب بإضمار نحو أعني محذوف كذلك (رزقه الله مالاً وعلماً) فيه أن العلم من الرزق (فهو يتقي فيه ربه) أي لا يصرفه في معصية بل يجتنب ما لا يرضيه (ويصل فيه رحمه ويعلم الله فيه حقاً) سواء كان ذلك واجباً عينياً من زكاة أو كفارة لمقتضاها أو نذر، أو كفائياً ككفاية مضطر من جائع بسدّ جوعته وعار بكسوته، أو مندوباً كالتقرّب إلى الله سبحانه بأنواع الطاعات المالية (فهذا بأفضل المنازل) من الجنة لأنه علم وعمل وأدى الواجب والمندوب واجتنب الحرام والمحظور، وعلمه هداه إلى الإخلاص في ذلك وجعل معاملته في ذلك مع الله سبحانه (وعبد رزقه الله علماً) أي بالأحكام المتعلقة بالمال من حيث جمعه وإنفاقه وما يتعلق بذلك، ويحتمل أن يراد ما يعم علم ذلك وغيره، ويؤيده التنكير إذ الأصل فيه التعميم (ولم يرزقه مالاً فهو) لعلمه النافع له (صادق النية) أي القصد في طلب ثواب الله فيعزم على العمل المالي لو قدر عليه ليثاب به (يقول) ناوياً لذلك (لو أن لي مالاً لعملت) أي فيه (بعمل فلان) الجامع بين المال والعلم من طلب ما رضي الله به (فهو نيته) قال العاقولي مبتدأ وخبر أي فهو سني النية وبها أجره. قلت: ويجوز أن يكون نيته مبتدأ وخبره محذوف: أي ألحقته بمن قبله، وبالجملة خبر هو يدل على ذلك قوله: (فأجرهما سواء) أي من حيث النية وصحة القصد. ويزيد ذلك بثواب نفقة المال التي زاد على صاحبه (وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً) (يعرف به وجوه

التصرف المأذون فيها شرعاً والممنوع منها كذلك (فهو يخبط) بكسر الموحدة (في مال الله بغير علم) وقوله: (لا يتقي فيه ربه) بترك إتلافه في المحارم ويبذله في المآثم (ولا يصل فيه رحمه) وفي الإتيان بفي هنا وفيما قبله تجريد كقوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (الأحزاب: 21) لأن المال نفس الصلة لا أنها فيه، كما أنه نفس القدوة لا أنها فيه (ولا يعلم فيه حقاً) لجهله به فلا يؤدي حق المال واجباً كان أو مندوباً لجهله وحرصه على جمعه وإتلافه في مستلذات نفسه (فهذا بأخبث المنازل) لماله من المآثم التي ارتكبها بمال الذي أتلفه مع جهله وعدم علمه (وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علماً فهو) أي العبد الفاقد لهما لجهله (يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان) أي بصرفه في الملابس الفاخرة واستماع الملاهي وأكل المستلذات المحرمة وعير ذلك (فهو نيته) إعرابه كما تقدم أي فيجد إثم نيته قصد الفصاد (فوزرهما سواء) باعتبار العزم على المحرم وإن زاد الفاعل بإثم الفعل (رواه الترمذي) في أبواب الزهد من «جامعه» (وقال: حديث حسن صحيح) . 15 - (وعن عائشة رضي الله عنهم أنها) أي ذوي عائشة أو أهل بيت النبيّ (ذبحوا شاة) أي فتصدقوا بها ما عدا كتفها (فقال النبي) بعد أن عاد لمنزلها لداع دعا للسؤال عما بقي من لحمها وقد علم أنهم تصدقوا ببعضها (ما بقي منها) أي عندك (قالت: ما بقي منها) أي عندنا (إلا كتفها) بفتح الكاف وكسر الفوقية على الأفصح أي أنفقنا الجميع وتصدقنا به ما عدا ذلك (قال: بقي كلها) أي ثواب كلها لأنه تصدّق به تقرّباً إلى الله تعالى فهو يخلفه ويجزي عليه (غير كتفها) أي فإنه يفنى بأكله. ومثله لا ثواب فيه إن لم يقارنه قصد صحيح، وهذا تحريض على الصدقة والاهتمام بها، وأن لا يستكثر المرء ما أنفقه فيها، فإنه

وإن فني صورة فهو باق حقيقة لصاحبه عند الله يرى ثوابه مضاعفاً عند حاجته ومزيد فاقته، ففيه أعظم تحريض عليها من كل م يأكله الإنسان، لأن من استحضر أن ما يأكله لا ثواب له فيه حيث لا غرض صحيح معه، وأن ما يتصدق به بقي له عند مولاه حمله ذلك على التصدق منه ولو بلقمة (رواه الترمذي وقال: حديث صحيح ومعناه) أي الحديث من حيث الجملة (تصدقوا بها إلا كتفها، فقال: بقيت لنا في الآخرة إلا كتفها) وذلك لأن ما بقي منها يفنى بأكله وما تصدق به باقياً عند الله سبحانه. 16 - (وعن أسماء) بسكون المهملة بعدها ميم ألف ممدودة (بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما) تقدمت ترجمتها في باب برّ الوالدين (قالت: قال لي رسول الله: لا توكي) قال في «النهاية» : أي لا تدخري وتشدي ما عندك وتمنعي ما في يدك (فيوكي) بالنصب: أي فيقطع (اعليك) مادة الرزق، والجزاء من جنس العمل وهذا مفهوم قوله تعالى: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه} (سبأ: 39) . (وفي رواية) هي لمسلم في الزكاة من «صحيحه» (أنفقي أو) شك من الراوي (انفحي أو انضحي) قال المصنف: بكسر الضاد المعجمة، والمعنى: أعطي النضح والنفح العطاء، ويطلق النضح على الصبّ فلعله المراد هنا ويكون أبلغ من النفح (ولا تحصي) أي تمسكي المال وتدخريه من غير إنفاق منه (فيحصى) كذا هو في نسخ الرياض بالمبنى للمجهول وفي الزكاة من البخاري ومسلم فيحصي الله (عليك) بذكر الفاعل ولعل حذفه من نسخ الرياض إن لم يكن من سبق القلم من المصنف من تحريف الكتاب: أي يمسك عنك مادة الرزق والبركة فيه ويناقشك الحساب في الموقف، إذ أصل الإحاطة بالشيء جملة وتفصيلاً، وهذا فيه تلف أيّ تلف، فيكون مطابقاً لأعط كل ممسك تلفاً، ويستفاد منه أن الممسك يعاقب بتلف ما عنده وحبس مادة رزقه والبركة فيه ومناقشة الحساب، وقد قال: «من نوقش الحساب عذّب» وهذا أبلغ وأليق بمقام التنفير والتغليظ (ولا توعي) أي لا تمنعي ما فضل عنك عمن هو محتاج إليه (فيوعي)

بالنصب (اعليك) أي يصيبك على أعمالك بالتشديد عليك في الحساب أو يمنع عنك فضله وجوده، وبهذا يعلم أن هذه بمعنى ما قبلها وأن القصد مزيد التأكيد والحث على الإنفاق (متفق عليه) رواه مسلم بجملته وإن اقتصر المصنف على عزو قوله وفي رواية إليه، والبخاري روى عنها في حديث أن النبي قال لها: «لا توكي فيوكى عليك» وعند بعض رواته قال: «لا تحصي فيحصي الله عليك» وفي حديث آخر عنها أن النبي قال لها: «لا توعي فيوعي الله عليك انضحي ما استطعت» (وانفحي) بسكون النون وفتح الفاء (وبالحاء المهملة وهو بمعنى أنفقي وكذلك) أي ككون انفحي بمعنى أنفقي (أنضحي) فانفحي المشار إليه مشبه به وانضحي مشبه، قال في «شرح مسلم» : معنى انفحي وانضحي: أعطي النفح، والنضح: العطاء. 17 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: مثل) بفتح أوليه: أي صفة (البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان) بالموحدة أو النون كما قاله غير واحد، وقول بعضهم: إنه لا شك ولا خلاف أنه بالنون رده بعض المحققين أنه بالنون تصحيف، قيل: ومما يرجح النون أن الدرع لا يسمى جبة بالباء بل النون (من حديد) حكمة إيثاره الإعلام بأن القبض والشحّ من جبلة الإنسان، ولذا أضيف إليه في {ومن يوق شحّ نفسه} (الحشر: 9) وأن السخاوة من عطاء الله وتوفيقه يمنحها من شاء من عباده وإيثار الجنة على الغلّ لأنه يأتى فيه الانقباض والانبساط المشار بهما إلى ما يأتي (من ثديهما) قال المصنف: بضم الثاء المثلثة: أي وكسر الدال وتشديد التحتية على الجمع، كذا في معظم نسخ مسلم جمع ثدي بوزن فلس، وفيه رد على من قال: إنه خاص بالمرأة، ويقال في مثله من الرجل «تندوة» بضم الفوقية والدال المهملة وسكون النون بينهما ومن فيه ابتدائية (إلى تراقيهما) جمع ترقوة بضم الفوقية والقاف وسكون الراء وهي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق من الجانبين. قال بعضهم: ولا يكون لغير الإنسان من باقي الحيوان (فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت) أي

امتدت وكملت (أو) شك من الراوي (وفرت) بتخفيف الفاء (على جلده حتى تخفى بنانه) مفاصل الأصبع بالموحدة ونونين، ومن قاله بالمثلثة والتحتية والموحدة فقد صحف (وتعفو أثره) أي تغطي أثره حتى لا يبدو، وتعفو منصوب عطفاً على تخفي وكلاهما مسند إلى ضمير الجنة أو الجبة، وعفا يستعمل لازماً ومتعدياً، تقول عفت الديار: أي درست، وعفاها الريح: إذا طمسها، وهو في الحديث متعد. قال الحافظ في «الفتح» : والمعنى أن الصدقة تستر خطاياه كما يغطي الثوب الذي يجرّ على الأرض أثر صاحبه إذا مشى بمرور الذيل عليه وسيأتي فيه مزيد (وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئاً إلا لزقت) في رواية مسلم انقبضت، وفي رواية لهما عضت (كل حلقة) بسكون اللام (مكانها) والمفاد واحد إلا أن الأولى نظر فيها إلى صورة الضيق والأخرى إلى سببه (فهو يوسعها) أي يريد توسيعها بالبذل فتشح نفسه ولا تطاوعه (فلا تتسع) وفي هذا وعد للمتصدق بالبركة وستر العورة والصيانة من البلاء، فإن جبة الحديد لا تعد للستر فقط بل له وللصون من الآفات، وهذا كما ورد «إن الصدقة تدفع البلاء» وفي البخيل على الضد فهي معدة لهتك عورته وكونه هدفاً لسهام البلاء والعياذ با تعالى، كذا في «مصابيح الجامع» . قال الخطابي وغيره: هذا مثل ضربه النبي للبخيل والمتصدق، فشبههما برجلين أراد كل واحد منهما لبس درع يستتر به من سلاح الإنسان يديه في كميها، فجعل المنفق كمن لبس درعاً سابغة فاسترسلت عليه حتى سترت جميع بدنه، وجعل للبخيل كمثل رجل غلت يداه إلى عنقه فكلما أراد لبسها اجتمعت في عنقه فلزمت ترقوته، وهو معنى قلصت: أي تضامت واجتمعت، والمراد أن الجواد إذا هم بالصدقة انفسح لها صدره وطابت نفسه وتوسعت في الإنفاق، والبخيل إذا حدثها بها شحت بها فضاق صدره وانقبضت يداه {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} (الحشر: 9) وقال المهلب: المراد أن الله يستر المنفق في الدارين، بخلاف البخيل فإنه يفضحه، ومعنى يعفو أثره يمحو خطاياه. وتعقبه عياض بأن الخبر جاء على التمثيل لا على الإخبار عن كائن. وقيل: هو تمثيل لنماء المال بالصدقة، والبخيل بضده اهـ (متفق عليه) واللفظ للبخاري في كتاب الزكاة وهو عند مسلم بنحوه فيها من طرق (والجنة) في النسخ بالنون وهو ما صوّبه في «شرح مسلم» ، وقال لوروده كذلك في رواية بلا شك، وتقدم تعقب بعض المحققين له في ذلك

(الدرع) بكسر الدال وبالراء والعين المهملات، وهي الثوب المنسوج من الحديد وهي مؤنثة في الأكثر (ومعناه: أن المنفق كلما أنفق سبغت وطالت حتى تجرّ وراءه وتخفي رجليه وأثر مشيه وخطوته) أي كما هو شأن الثوب الرافل، هذا بيان لمعاد الضمائر باعتبار ظاهر اللفظ، أما المعنى المراد فسكت عن بيانه هنا. 18 - (وعنه قال: قال رسول الله: من تصدق بعدل تمرة) قال الحافظ في «الفتح» : أي بقيمتها لأنه بالفتح المثل، وبالكسر الحمل بكسر المهملة هذا قول الجمهور. وقال الفراء بالفتح: المثل من غير جنسه، وبالكسر من جنسه، وقيل: بالفتح مثله في القيمة وبالكسر الشطر، وأنكر البصريون هذه التفرقة، وقال «الكشاف» : هما بمعنى، كما أن لفظ المثل لا يختلف، وضبط في هذه الرواية الأكثر بالفتح والتمرة بالمثناة، ولفظ مسلم: «ما تصدق أحد بصدقة» (من كسب طيب) أي خلال خال عن الغشّ والخديعة، وقوله: (ولا يقبل الله إلا الطيب) جملة معترضة بين الشرط والجزاء لتقرير ما قبله، وفي رواية سليمان ابن بلال التي أشار إليها البخاري: «ولا يصعد إلى الله إلا الطيب» قال القرطبي: وإنما لم يقبل الله الصدقة بالحرام لأنه غير مملوك للمتصدق، وهو ممنوع من التصرف فيه والتصدق به تصرف فيه، فلو قبل لزم أن يكون الشيء مأموراً ومنهياً من وجه واحد وهو محال (فإن الله يقبلها بيمينه) وفي رواية لمسلم: «إلا أخذها الله بيمينه» وعند مسلم أيضاً في رواية: «إلا أخذها الرحمن» قال الحفاظ في «الفتح» : وفي رواية لمسلم: «فيقبضها» وفي حديث عائشة عند البزار: «فتلقاه الرحمن بيده (ثم يريبها) في مسلم فيريبها (كما يربي أحدكم فلوه) جاء في رواية: «كما يربي أحدكم مهره» وفي أخرى عند البزار: مهره أو وصيفه أو فصيله (حتى تكون) أي المتصدق به القليل بالتنمية (مثل الجبل) وفي رواية عند الترمذي حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد» قال الحافظ: والظاهر أن المراد بعظمها أن عينها تعظم لتثقل في الميزان، ويحتمل أن يكون ذلك معبراً به عن ثوابها، ومثله في كلام المصنف في «شرح مسلم» نقلاً عن عياض

وسيأتي حكمة ضرب المثل بالفلو، قال المازري: وهذا الحديث وشبهه إنما عبر به على ما اعتادوا في خطابهم ليفهموا عنه، فكنى عن قبول الصدقة باليمين وعن تضعيف أجرها بالتربية. وقال عياض: لما كان الشيء الذي يرتضي يتلقى باليمين ويؤخذ استعمل في مثل هذا واستعير اليمين للقبول، وليس المراد به الجارحة، وقيل: عبر باليمين عن جهة القبول إذ الشمال بضده، وقيل: المراد يمين الدافع إليه الصدقة وإضافتها إلى الله تعالى إضافة ملك واختصاص لوضع هذه الصدقة في يمين الآخذ تعالى، وقيل: المراد سرعة القبول وقيل: حسنة. وقال الزين ابن المنير: الكناية عن الترضي والقبول بالتلقي باليمين لتثبيت المعاني المعقولة في الأذهان وتحقيقها في النفوس تحقيق المحسوسات: أي لا تشكك في القبول كما لا يتشكك من عاين التلقي الشيء باليمين، لا أن التناول كالتناول المعهود ولا أن المتناول به جارحة. وقال الترمذي في «جامعه» : قال أهل العلم من أهل السنة والجماعة: نؤمن بهذه الأحاديث ولا نتوهم فيها تشبيهاً، ولا نقول كيف، هكذا روى عن مالك وابن عيينة وابن المبارك وغيرهم. وأنكرت الجهمية هذه الروايات اهـ (متفق عليه) روياه في الزكاة من «صحيحهما» واللفظ للبخاري (الفلو) فيه لغتان أقصحهما وأشهرهما (بفتح الفاء وشم اللام وتشديد الواو) وثانيهما أشار إليه بقوله: (ويقال أيضاً بكسر الفاء وإسكان اللام وتخفيف الواو وهو المهر) قال أبو زيد: إذا فتحت الفاء شددت الواو وإذا كسرتها سكنت اللام كجرىء، وقال في «شرح مسلم» : سمي به لأنه فلى على أمه: أي فصل وعزل، وقال الحافظ: وقيل: هو كل فطيم من ذات حافر وضرب به المثل لأنه يزيد زيادة بينة. ولأن الصدقة نتاج العمل وأحوج ما يكون النتاج إلى التربية إذا كان فطيماً، وإذا أحسن العناية به انتهى إلى حد الكمال، وكذا عمل ابن آدم ولا سيما الصدقة، فإن العبد إذا تصدق من كسب طيب لا يزال نظر الله يكسبها الكمال حتى تنتهي بالتضعيف إلى نصاب تقع المناسبة بينه وبين ما قدم نسبة ما بين التمرة إلى الجمل. 19 - (وعنه رضي الله عنه عن النبي قال: بينما) ما مزيدة لكفّ بين عن الإضافة فالجملة بعده مستأنفة (رجل بفلاة) هي الأرض التي لا ماء فيها وجمعها فلا مثل حصاة

وحصى وجمع الجمع أفلاء كسبب وأسباب كذا في «المصباح» ، ويؤخذ منه أن قوله: (من الأرض) تصريح بما فهم مما قبله (فسمع صوتاً) لعله صوت الملك الموكل بالسحاب وهو الرعد (في سحابة) واحدة السحاب سمي به لانسحابه في الهواء وجمع السحاب سحب بضمتين (اسق حديقة فلان) لم أقف على من سماه. والحديقة البستان يكون عليه حائط فعيلة بمعنى مفعولة لأن الحائط أحدق بها: أي أحاط ثم توسعوا حتى أطلقوا الحديقة على البستان وإن كان بغير حائط والجمع حوائط (فتنحي ذلك السحاب) أتى بما يشار به للبعيد مع أن المشار إليه قريب إما تعظيماً له فيكون كقوله تعالى: {ذلك الكتاب} وإما لأنه لما كان اللفظ عرضاً لا يوجد التالي به إلا بعد انعدام ما قبله صار ما قبل كالبعيد فيشار إليه بما يشار به إليه، وهذا محتمل لكون السحاب أوتي فهماً فامتثل ما أمر، ولأن يكون باقياً على جماديته، وقوله: اسق أمر تكويني، وقوله: فتنحي بيان لترتب أثر الأمر الإلهي عليه حالاً من غير توان ولا تراخ، قال تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} (النحل: 40) وعلى الثاني فيكون في قوله: (فأفرغ) أي صب (ماءه) أي الذي فيه والإضافة لأدنى ملابسة (في حرة) إسناده مجازي إن كان الفعل للمعلوم وفاعله ضمير يعود إلى السحاب كما هو كذلك في أصل مصحح وإن كانت الرواية ببنائه للمجهول فلا (فإذا شرجه من تلك الشراج) أي مسيل من تلك المسايل (قد استوعبت ذلك الماء كله فتتبع) أي الرجل السامع الصوت (الماء، فإذا رجل قائم في حديقته) الظرف خبر بعد خبر، ويصح كونه حالاً من ضمير الخبر فيكون مستقراً، ويجوز أن يكون لغواً متعلقاً بقائم (يحول الماء بمسحاته فقال له: يا عبد ا) ناداه بالوصف القائم حقيقة بكل إنسان {إن كل من في السموات والأرض إلا آتى الرحمن عبداً} (مريم: 93) (ما اسمك) أي العلم عليك ويحتمل أن يراد مطلق ما يعرف به من علم أو صفة أو غيره (قال فلان) خبر لمحذوف دل عليه ذكره في السؤال وفلان كما تقدم كناية عن المبهم من الإنسان (للاسم) في محل الحال من فلان: أي موافقاً للاسم (الذي سمع) العائد محذوف: أي سمعه (في السحابة فقال) أي بعد بيانه اسمه (له يا عبد الله ولم تسألني) الواو عاطفة على مقدر: أي أجبتك عن مسألتك وأسألك (عن) سبب سؤالك عن

61 ــ باب النهي عن البخل والشح

(اسمي) واللام جارة لما الاستفهامية حذفت ألفها كقوله تعالى: {عم يتساءلون} (النبأ: 1) وقوله: {بم يرجع المرسلون} (النمل: 35) (فقال: إني سمعت صوتاً في السحاب) أل فيه للعهد الذهني بقرينة قوله: (الذي هذا ماؤه) ويحتمل كونها للجنس (يقول) جملة في محل الحال من الصوت على حذف مضاف: أي ذا صوت قائلاً (اسق) بوصل الهمزة في الأصح ويجوز قطعها، يقال: ما أنتج له من العناية الإلهية حسن هذه الثمرة بالتخصيص (فقال: أما) بفتح الهمزة وتشديد الميم حرف للتأكيد متضمن معنى الشرط (إذا قلت هذا) أي أخبرت بما سمعت مما دعاك للسؤال (فإني) أبين لك عمل الذي نتج عنه بفضل الله سبحانه ذلك وهو أني (أنظر إلى ما يخرج منها) أي من الأرض من حب أو ثمر (فأتصدق بثلثه) بضم أوليه في الأفصح، ويجوز تسكين ثانيه تخفيفاً زيادة في التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فالواجب في شريعتنا في النصاب من ذلك العشر تارة ونصفه أخرى (وآكل أنا وعيالي) أي أعولهم من أهل وولد وزوجة وخادم وغير ذلك (ثلثاً وأرد فيها ثلثه) أي ثلث الخارج (رواه مسلم) في «صحيحه» في أبواب الزهد (الحرة) بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء وبالتاء (الأرض الملبسة حجارة سودا) أي التي علاها ذلك وغلب عليها فكأنها لبست، وقال في «المصباح» : والجمع حرار كلكبة وكلاب (والشرجة بفتح الشين المعجمة وإسكان الراء وبالجيم) وسكت المصنف عن التاء آخره، قال في «المصباح» : وبعضهم يحذف فيقول: شرج هي (مسيل الماء) وجمعها شراج ككلبة وكلاب. 61 - باب النهي عن البخل والشح قال في «المصباح» : بخل بخلاً: أي بفتح أوليه، بخلاً: أي بضم فسكون من باب

تعب وقرب والاسم البخل، وزان فلس. والبخل في الشرع: منع الواجب، وعند العرب: منع السائل مما يفضل عنده، وفيه أيضاً الشحّ والبخل، وفي «شرح مسلم» للمصنف قال جماعة: الشحّ أشد البخل وأبلغ في المنع منه، فقيل: هو البخل مع حرص، وقيل: البخل في أفراد الحرص الأمور، والشح عام وقيل: البخل بالأموال خاصة والشحّ بالمال والمعروف. وقيل: الشحّ الحرص على ما ليس عنده، والبخل بما عنده اهـ. وأصله في «النهاية» وزاد شح يشح شحاً فهو شحيح، والاسم الشح، وترجمة المصنف تمشي على هذا، فإن الإصل في العطف التغاير، وعلى ما في «المصباح» يكون من عطف الرديف اكتفاء بتغاير اللفظ كهو في قوله تعالى: {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} (يوسف: 86) . (قال الله تعالى) : ( {وأما من بخل} ) أي بالإنفاق في الخيرات ( {واستغنى} ) أي بالدنيا عن العقبى (وكذب بالحسنى فسنيسره) في الدنيا (للعسرى) للخلة المودية إلى الشدة في الآخرة وهي الأعمال السيئة، ولهذا قالوا من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، ومن جزاء السيئة السيئة بعدها ( {وما يغني عنه ماله إذا تردى} ) أي هلك وسقط وتردى في جهنم. (وقال تعالى) : ( {ومن يوق شحّ نفسه} ) أي ومن سلم من الحرص الشديد الذي يحمله على ارتكاب المحارم بمنع أداء ما وجب عليه أداؤه، وفي تفسير ابن عطية: شحّ النفس فقر لا يذهبه غنى المال، بل يزيده وينصب به. وقال ابن زيد وابن جبير وجماعة: من لم يأخذ شيئاً نهاه الله عنه ولم يمنع الزكاة المفروضة فقد برىء من شحّ النفس. وقال ابن مسعود: شحّ النفس أكل مال الناس بالباطل، أما منع الإنسان ماله فبخل وهو قبيح ولكن ليس بشحّ ( {فأولئك هم المفلحون} ) الفائزون ببغيتهم (وأما الأحاديث) أي النبوية (فتقدمت جملة منها في الباب السابق) كقوله: «وإن تمسكه شرّ لك» وقوله: «وأعط كل ممسك تلفاً، ولا توكي فيوكي الله عليك» وباقي أحاديث ذلك الباب تدل بمفهومها على ما عقد له هذا الباب لأن الثناء على الكرم والأمر به ذم بضده ونهي عنه.

62 ـــ باب الإيثار

1 - (وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: اتقوا الظلم) أي اتخذوا لكم وقاية منه بالقسط. والظلم التصرف في حق الغير بغير طريق شرعي، وقيل: وضع الشيء في غير موضعه (فإن الظلم) أي في الدنيا (ظلمات) بضم اللام وبإسكانها تخفيفاً وبالفتح (يوم القيامة) يحتمل كما تقدم أنه على حقيقته وظاهره أنه يصير ظلمة في الآخرة، ويحتمل كونها كناية عن شدائد ذلك اليوم وما يلقاه من الأهوال (واتقوا الشحّ) بالضم على الأفصح من لغات ثلاث في أوله (فإن الشحّ) أتى بالظاهر فيه وفيما قبله تقبيحاً له وتنفيراً منه، ونعتاً بقبحه بالنداء عليه بالاسم الدال على ذلك (أهلك من كان قبلكم) أي من بني إسرائيل (حملهم على أن سفكوا) بفتح الفاء: أي أراقوا (دماءهم) أي قتل بعضهم بعضاً فهو كقوله تعالى: {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم} (البقرة: 84) قال المفسرون: أي لا يقتل بعضكم بعضاً (واستحلوا محارمهم) أي ما حرّم عليهم من الشحوم فباعوه واحتالوا لولوج السمك إلى ما حفروه يوم السبت ليدخل في حوزهم فيبيعوه بعد، فيوقعهم في ذلك الشحّ (رواه مسلم) وقد تقدم مع شرحه في باب تحريم الظلم. 62 - باب الإيثار بكسر الهمزة وسكون التحتية بعدها مثلثة مصدر آثر يؤثر (والمواساة) مفاعلة من التواسي قال في «القاموس» : بماله مواساة: أناله منه وجعله أسوة ولا يكون ذلك إلا من كفاف، فإن كان من فضل فليس بمواساة الله - صلى الله عليه وسلم - هـ. وقال في محل آخر منه: واساه مواساة أي بالواو بدل الهمزة لغة رديئة اهـ. (قال الله تعالى) : ( {ويؤثرون} ) أي يقدمون يعني الأنصار

والمهاجرين ( {على أنفسهم} ) فيما عندهم من الأموال (ولو كان بهم خصاصة) أي حاجة إلى ما عندهم، ونزلت في قصة الأنصاري الآتية أوّل الحديث. (وقال تعالى) : ( {ويطعمون الطعام على حبه} ) الأولى أن يكون الضمير للطعام ليكون موافقاً لقوله تعالى: {لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون} (آل عمران: 92) ولأن فيما بعده وهو لوجه الله غنية عن أن يكون التقدير على حب الله (مسكيناً ويتيماً وأسيراً) وإن كان من أهل الشرك أمر بإكرام الأسراء يوم بدر والمراد المسجونون من المسلمين {إنما نطعمكم لوجه ا} أي قائلين ذلك بلسان الحال أو المقال لتعريف الفقير أنها صدقة لا تطلب جزاء، وقوله لوجه الله: أي إطعاماً خالصاً غير مشوب {لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً} مصدر كالقعود والجملة حالية من فاعل نطعم {إنا نخاف من ربنا} جملة مستأنفة كالتعليل {يوماً} أي عذابه فهو مفعول به {عبوساً} شديد العبوس مجازاً: أي عبوساً فيه أهله أو كالأسد العبوس في الضرر والشدة {قمطريراً} شديد العبوس. عن عكرمة وغيره يعبس الكافر حتى يسيل من عينيه عرق كالقطران. وعن ابن عباس: العبوس الضيق، والقمطرير: الطويل {فوقاهم الله شرّ ذلك اليوم ولقاهم نضرة} بدل عبوس الكفار {وسروراً} بدل حزنهم {وجزاهم بما صبروا} بدل صبرهم على ترك الشهوات وأداء الواجبات {جنة وحريراً} يلبسونه وهذا مراد الشيخ رحمه الله بقوله: (الآيات) فإن فيها بيان مثوبة الإيثار والمساواة في الله سبحانه. 1 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل) قال الشيخ زكريا في «تحفة القاري» : هو أبو هريرة، وفي «تفسير ابن عطية» : إنه مهاجري ولم يسمعه فلعله هو (إلى النبي فقال: إني مجهود أي أصابني الجهد وهو المشقة والحاجة وسوء العيش، والجوع فأرسل إلى بعض نسائه) يحتمل بدؤه بها لتجويزه وجود شيء عندها مما يسدّ حاجة الرجل أو لقرب منزلهما منه وتأخير الباقيات لبعد منزلهن بالنسبة إلى الأولى (فقالت) أي المرسل إليها منهن (والذي بعثك بالحق) أي محقاً أو ملتبساً به (ما عندي إلا ماء) ومرادها

ما عندي من جنس ما يطعم شيء من الأشياء إلا الماء بقرينة السياق، فالاستثناء مفرغ من أعم الأشياء (ثم أرسل إلى أخرى) أي منهن (فقالت مثل ذلك) هذا من باب الرواية بالمعنى والمشار إليه قول السابقة والذي بعثك الخ: أي فقالت الثانية ذلك المقال وهكذا (حتى قلن كلهن) توكيد للضمير قبله لا فاعل للفعل قبله إلا على لغة أكلوني البراغيث (مثل ذلك) هو من باب الرواية بالمعنى ولذا فسره ببيان قول كل واحدة (لا) نافية لجملة بعدها: أي لا أحد له ما طلبت، وقولها: (والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء) جملة قسمية لتأكيد الأمر وأن ليس عندها ما يطعمه ذلك الضيف سوى المال (فقال من يضيف) بضم أوله (هذا) أي الرجل المجهود (الليلة) بالنصب على الظرفية (فقال رجل من الأنصار) زاد مسلم: يقال له أبو طلحة، وقيل: هو ثابت بن قيس بن شماس، وقيل: عبد الله بن رواحة ذكره السيوطي في «التوشيح» ، وفي «تفسير ابن عطية» قال أبو هريرة في كتاب مكي: هذا الرجل هو أبو طلحة. وقال المتوكل: هو ثابت بن قيس، وخلط المهدوي في ذكر هذا الرجل اهـ. عزوه كونه أبا طلحة إلى ما ذكره من أنه في «صحيح مسلم» عجيب منه مع أنه من حفاظ الإسلام (أنا) يحتمل أن يكون مبتدأ حذف خبره لدلالة وجوده في السؤال: أي أنا أضيفه، ويحتمل كونه فاعلاً لمحذوف: أي أضيف فحذف الفعل اكتفاء بدلالة وجوده في السؤال عليه وانفصل الضمير (يا رسولالله، فانطلق به إلى رحله) بفتح الراء وسكون المهملة: أي منزله قال في «المصباح» رحل الشخص مأواه في الحضر ثم أطلق على أمتعة المسافر لأنها هناك مأواه (فقال لامرأته) إن كان أبا طلحة فامرأته أم سليم (أكرمي ضيف رسول الله) أي فإنه نزل عليه ولم يكن في بيونه ما يضيفه به، وفيه أن كرامة الضيف كرامة مضيفه (وفي رواية) هي لمسلم (قال) في مسلم: فقال بفاء عاطفة على فانطلق في قوله قبله فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسولالله، فانطلق به إلى رحله فقال: (هل عندك شيء) وهذا في هذه الرواية عوض قوله في الرواية السابقة: أكرمي الخ، ولعله سألها أولاً بما في رواية مسلم فلما أخبرته بما عندها كما قال: (قالت: لا) بعدها جملة مقدرة لدلالة ما قبلها عليها: أي لا شيء عندي وقولها: (إلا قوت صبياني) استثناء من ذلك القدر قال لها:

أكرمي الخ (قال: فعلليهم بشيء) محمول على أن الصبيان لم يكونوا محتاحين للأكل وإنما تطلبه أنفسهم على عادة الصبيان من غير جوع يضر، إذ لو كانوا بتلك الحال بحيث يضرهم ترك الأكل لكان طعامهم واجباً مقدماً على الضيافة، وقد أثنى الله عليه وعلى امرأته فدل على أنهما لم يتركا واجباً بل أحسنا وأجملا، قاله المصنف.l قلت: وحينئذ فيراد بقولها: «قوت صبياني» أي ما يعتادون الاقتيات به على عادتهم من الولع بالطعام من غير حاجة حافة إليه فيكون فيه مجاز (وإذا أرادوا العشاء فنوميهم) وذلك لئلا يضيقوا الطعام على الضيف فلا يبلغ حاجته منه (وإذا دخل ضيفنا) أي منزلنا (فاطفئي السراج) (وأريه أنا نأكل) أي أظهري له فهو كناية عن تداول أيديهما على الطعام وتحريك الفم والمضغ كفعل الآكل، وليس ذلك من باب الشبع بما ليس للإنسان بل هو من باب المروءة والإيثار للضيف ليأنس ويأخذ حاجته (فقعدوا) أي الضيف وهما (وأكل الضيف وباتا طاويين) أي خاليين بطنهما جائعين ولم يأكلا، والجملة محتملة للعطف والحالية (فلما أصبح) أي دخل الصباح (غداً) أي جاء صباحاً عارضاً نفسه (على النبي فقال: لقد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة) قال القاضي عياض: المراد بالعجب من الله رضاه عن ذلك الشيء وقيل: مجازاته عليه بالثواب، وقيل: تعظيمه ذلك قال: وقد يكون المراد عجبت ملائكة الله وأضافه إليه سبحانه وتعالى تشريفاً (متفق عليه) واللفظ من قوله وفي رواية الخ لمسلم وللبخاري بنحوه، أخرجه البخاري في فضائل الأنصار وفي التفسير، وأخرجه مسلم في أواخر الأطعمة ورواه الترمذي بنحوه في التفسير من «جامعه» وقال: حسن صحيح، ورواه النسائي في التفسير أيضاً من «سننه» . 2 - (وعنه قال: قال رسول الله: طعام الاثنين كافي الثلاثة، وطعام الثلاثة كافي

الأربعة) : قال المهلب: المراد بهذا الحديث وما بعده الحض على المكارم والتقنع بالكفاية: يعني وليس المراد الحصر في مقدار الكفاية، وإنما المراد المواساة وأنه ينبغي للاثنين إدخال ثالث لطعامهما وإدخال رابع أيضاً بحسب من يحضر. ووقع عند الطبراني ما يرشد إلى العلة في ذلك وأوله: «كلوا جميعاً ولا تفرقوا، فإن طعام الواحد يكفي الاثنين» الحديث، فيؤخذ منه أن الكفاية تنشأ عن بركة الاجتماع، وأن الجمع كلما زاد زادت البركة. وقال ابن المنذر: يؤخذ من الحديث استحباب الاجتماع على الطعام وألا يأكل المرء وحده، وفيه أيضاً الإشارة إلى أن المواساة إذا حصلت حصل معها البركة فتعم الحاضرين، وفيه أيضاً أنه ينبغي للمرء ألا يستحقر ما عنده فيمتنع من تقديمه فإن القليل قد يحصل به الاكتفاء بمعنى سدّ الرمق وإقامة البنية لا حقيقة الشبع اهـ ملخصاً. وأما «أمالي» العز بن عبد السلام قوله: طعام الاثنين الخ هو خبر بمعنى الأمر: أي أطعموا طعام الاثنين بين الثلاثة، أو أنه التنبيه على أن طعامهما يقوت الثلاثة وأخبر بذلك ليذهب الجزع، قال: والأول أرجح لأن الثاني معلوم (متفق عليه) ورواه الترمذي أيضاً من حديث أبي هريرة: ورواه أحمد ومسلم والترمذي والنسائي من حديث جابر مرفوعاً بلفظ: «طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية» كذا في «الجامع الصغير» . (وفي رواية لمسلم) ورواها أيضاً أحمد والترمذي والنسائي (عن جابر رضي الله عنه عن النبي قال: طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية) لا يقال: يؤخذ منه أن طعام الواحد يكفي الثمانية بإسقاط المكرر فينتج ما ذكر من الشكل، لفقد شرط إنتاجه من كلية الكبرى. 3 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال؛ بينما نحن في سفر مع النبي) يجوز أن يكون الظرفان خبراً بعد خبر ويجوز أن يكون أحدهما خبراً والثاني حالاً (إذ جاء

رجل على راحلة) هي المركب من الإبل ذكراً كان أو أنثى، وبعضهم يقول: هي الناقة التي تصلح أن ترجل والظرف في محل الصفة للفاعل، وقوله: (له) في محل الصفة للراحلة (فجعل من) أفعال الشروع (يصرف) أي يحول (بصره يميناً وشمالاً) ينظر من يجود عليه بما يسد خلته (فقال رسول الله: من كان معه فضل ظهر) أي مركوب فاضل عن حاجته فهو من إضافته الصفة للموصوف (فليعد) أي يتصدق (به على) المحتاج إليه (من لا ظهر) أي مركوب (له) كافياً لحاجته بذلاً لما فضل عن الحاجة في مرضاة الله فيبقى له بعد أن كان فانياً (ومن كان معه فضل) أي فاضل عن حاجته (من زاد) في «المصباح» : زاد المسافر هو الطعام المعد لسفره (فليعد به على من لا زاد له، فذكر من أصناف المال ما ذكر) جمع صنف. قال ابن فارس: هو فيما ذكر عن الخليل الطائفة من كل شيء وقال الجوهري: الصنف هو النوع والضرب بكسر الصاد وفتحها لغة، حكاه ابن السكيت وجماعة وجمع المكسور أصناف كحمل وأحمال والمفتوح صنوف كفلس وفلوس، قاله في «المصباح» : أي ذكر أنواع المال وأمر ببذل الفاضل عن الحاجة من كل للمحتاج إليه من باب المواساة، وهذا الحديث كحديث: «إنك يا ابن آدم إن تبذل الفضل من مالك خير لك وإن تمسكه شر لك» وقد تقدم قريباً (حتى) غاية لمقدر: أي أمر بالعود بما فضل عن الحاجة للمحتاج إلى أن (رأينا) من الرأي أو بمعنى العلم (أنه لا حقّ لأحد منا) أي معشر بني آدم، أو معشر الصحابة المخاطبين بذلك وحكم غيرهم من باقي الأمة حكمهم (في فضل) أي في فاضل عن حاجته إلحاقه (رواه مسلم) . 4 - (وعن سهل بن سعد) الأنصاري الساعدي (رضي الله عنه: أن امرأة) قال الحافظ في «الفتح» : لم أقف على اسمها (جاءت إلى النبي ببردة) قال في «النهاية» : البرد نوع من الثياب معروف الجمع أبراد وبرود، والبردة: الشملة المخططة، وقيل: هي كساء أسود مربع

فيه صفر تلبسه الأعراب وجمعها برد اهـ. وقد روى البخاري في باب حسن الخلق والسخاء من كتاب الأدب من «صحيحه» تفسير البرد عن سهل ولفظه: «وقال سهل للقوم: أتدرون ما البرد؟ فقالوا: هي شملة، فقال سهل: شملة منسوجة فيها حاشيتها» اهـ. وهذا أولى ما قيل فيه لأن بيان الراوي المشاهد للقصة (منسوجة) صفة بردة (فقالت: نسجتها بيدي لأكسوكها، فأخذها النبيّ) جبراً لخاطرها بتلقي هديتها بالقبول، ففيه استحباب المبادرة لأخذ الهدية لجبر خاطر مهديها وأنها وقعت منه موقعاً، وقوله: (محتاجاً إليها) حال من الفاعل وكأنهم عرفوا ذلك بقرينة الحال أو بتصريح سابق منه بذلك، ومع ذلك فليس الباعث على أخذها الحاجة بل التشريع بما ذكرنا (فخرج إلينا وإنها إزاره) بكسر الهمزة وجمعه أزر: وهو ما يلبس في أسفل البدن لستر العورة والجملة حال من ضمير خرج (فقال: فلان) هو كما أفاد المحب الطبري في الأحكام له: عبد الرحمن بن عوف وعزاه للطبراني فقال الحافظ: لم أره في «المعجم الكبير» لا في «مسند سهل» ولا في «مسند ابن عوف» ، ونقل ابن النحوي عن المحبّ في «شرح العمدة» وكذا قال لنا شيخنا الحافظ أبو الحسن الهيثمي إنه وقف عليه لكن لم يستحضر مكانه، ووقع شيخنا ابن النحوي في «شرح التنبيه» أنه سهل بن سعد وهو غلط كأنه تلبس عليه الراوي، نعم أخرج الطبراني الحديث المذكور من طريق قتيبة بن سعيد عن سهل بن سعد وقال في آخره: قال قتيبة هو سعد بن أبي وقاص اهـ. وقد أخرجه البخاري في اللباس والنسائي في الزينة عن قتيبة ولما يذكرا عنه ذلك، وجاء من طريق زمعة بن صالح أن السائل المذكور كان أعرابياً، قال الحافظ: فلو لم يكن زمعة ضعيفاً لانتفى أن يكون هو عبد الرحمن أو سعد، ويقال: تعددت القصة (اكسينها ما أحسنها) بنصب النون وما تعجبية (فقال: نعم) هذا وعد بأن يكسوه (فجلس النبي في المجلس) الذي وقع فيه السؤال (ثم رجع) إلى منزله (فطواها ثم أرسل بها إليه، فقال له القوم) ووقع في نفسير المعاتب له من الصحابة أنه سهل الراوي، قال سهل: فقلت للرجل: لم سألته وقد رأيت حاجته إليه؟ قال: رأيت ما رأيتم، ولكني أردت أن أخبأها حتى أكفن فيها (ما أحسنت) ما نفاية (لبسها النبي محتاجاً إليها) جملة استئنافية تعليل لنفي الإحسان عنه (ثم سألته وعلمت) جملة حالية بتقدير قد: أي وقد علمت (أنه لا يرد) قال في «الفتح» في كتاب الجنائز: كذا وقع هنا بحذف

المفعول، وثبت في رواية ابن ماجه بلفظ: لا يرد سائلاً ونحوه، وفي رواية يعقوب في البيوع وفي رواية ابن غسان في الأدب: لا يسأل شيئاً فيمنعه اهـ ويستفاد منه أن (سائلاً) الذي أورده المصنف هنا إنما هو لابن ماجه، ولعله من تغيير الكتاب أو أنه التبس على المصنف لورود معناه به عند البخاري في البيوع فتوهمه فرواه والله أعلم (فقال: إني وا ما سألته لألبسها إنما سألته لتكون كفني) في رواية أبي داود. فقال: رجوت بركتها حين لبسها النبي» (قال سهل: فكانت كفنه. رواه البخاري) في الجنائز من «صحيحه» بهذا اللفظ، ورواه ابن ماجه في اللباس من «سننه» . وفي الحديث التبرّك بآثار الصالحين، وجواز إعداد الشيء قبل الحاجة إليه، لكن لا يندب عند الشافعية إعداد الكفن لنفسه لئلا يحاسب على ادخاره كما يحاسب على اكتسابه، إلا أن يقطع بحله أو يكون من أثر ذي صلاح، وفيه حسن خلق النبي وسعة جوده وقبول الهدية. 5 - (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الأشعريين) نسبة للأشعر، وهو ثبت بن أدد بن يشجب بن يعرب بن قحطان (إذا أرملوا) أي في أزوادهم، وأصله من الرمل كأنهم لصقوا بالرمل من القلة كما في {ذا متربة} (في الغزو) أي الخروج لقتال العدو (أو) يحتمل أن تكون للشك من الراوي أقال ما تقدم أو قال إذ (قل طعامهم في المدينة) أي محل إقامتهم، ويحتمل أن تكون للتنويع، أي إنهم يفعلون ذلك في السفر والحضر، ولفظ البخاري: «أو قل طعام عيالهم» (جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية) على قدر الحاجة (فهم مني) قريبون خلقاً وهدياً (وأنا منهم) قال المصنف هذا معناه المبالغة في اتحاد طريقتهما واتفاقهما في طاعة الله تعالى. وقال الحافظ في «الفتح» : معناه هم متصلون بي وتسمى «من» هذه الاتصالية قال الشيخ زكريا، ومثله: «لا أنا من الدّد ولا الدّد مني» وقيل: المراد فعلهم فعلي (متفق عليه) أخرجه البخاري في الشركة ومسلم في الفضائل، ورواه النسائي في السير. قال

63 ـــ باب التنافس في أمور الآخرة والاستكثار مما يتبرك به

المصنف: في الحديث فضيلة الأشعريين وفضيلة الإيثار والمواساة وفضيلة خلط الأزواد في السفر وفضيلة جمعها في شيء عند قلتها ثم قسمها، وليس المراد من القسمة هنا المعروفة في كتب الفقه بشروطها ومنعها في الربويات واشتراط المساواة وغيرها، بل المراد إباحة بعضهم بعضاً ومواساتهم بالموجود (أرملوا: فرغ زادهم) هو ما اقتصر عليه في «شرح مسلم» (أو قارب الفراغ) وكأن الأول بيان موضوع اللفظ لغة. والثاني بيان المراد هنا لأن القسمة إنما تكون في الموجود لا في الذاهب رأساً، والله أعلم. 63 - باب التنافس في أمور الآخرة والاستكثار مما يتبرك به أي طلب ذلك لما جاء فيه. وفي «النهاية» : التنافس من المنافسة وهي الرغبة في الشيء والانفراد به، وهو من الشيء النفيس الجيد في نوعه اهـ. والاستكثار طلب لكثرة وقوله مما يتبرك متعلق به، والتبرك بالشيء لأسباب كأن كان فيه أثر صالح أو ظهر فيه آية أو كان قريب عهد بتكوين من الله سبحانه. (قال الله تعالى) : ( {وفي ذلك فليتنافس} ) فليرتقب ( {المتنافسون} ) المرتقبون: وقال ابن عطية: التنافس في الشيء المغالاة فيه وأن يتبعه كل واحد نفسه فكأن نفسهما تتباريان فيه، قيل: هو من قولك: شيء نفيس فكأن هذا يعظمه الآخر ويستبقان إليه. 1 - (وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي أتى بشراب) وهو كما في «المصباح» ما يشرب من المائعات، وكان ذلك كما قال الحافظ في بيت ميمونة أم المؤمنين (فشرب منه) فيه استحباب شرب البعض إذا كان ثمة غيره (وعن يمينه غلام) هو كما سيأتي في الأصل

عبد الله بن عباس، وقيل: هو الفضل أخوه، حكاه ابن بطال، قال الحافظ: والصواب الأول (وعن يساره الأشياخ) جمع شيخ من شاخ في السنّ إذا طعن فيها، وذلك من الخمسين سنة ففوق، ويطلق الشيخ لغة على من مهر في العلوم وإن لم يكن في السن كذلك فيقال الغلام، ويصلح كما قال الحافظ أن يعد من جملة الأشياخ خالد. قال: وقد روى ابن أبي حازم عن أبيه في حديث سهل بن سعد ذكر أبي بكر الصديق فيمن كان على يساره، ذكره ابن عبد البرّ وخطأه (فقال للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء) جاء في رواية الترمذي عن ابن عباس: «فقال لي الشربة لك، فإن شئت آثرت بها خالداً» الحديث، قال الحافظ: قال ابن الجوزي: وإنما استأذن الغلام دون الأعرابي المذكور في حديث أنس من شربه للبن وعن يمينه أعرابي وعن يساره أبو بكر الصديق. لأن الأعرابي لم يكن له علم بالشريعة فاستألفه بترك استئذانه بخلاف الغلام (فقال الغلام: وا يا رسول الله لا أوثر بنصيبي منك أحداً) أكد بالقسم وتوسيط ندائه بوصف الرسالة إيماء إلى أن العلة في عدم الإيثار ليس كونه شراباً، فإن الاهتمام بأمر المطاعم شأن البهائم، إنما هو لحلول أثر بركته عليه لكونه سؤره وفضله، وذلك يفزع إليه أرباب الأفهام ويتنافس فيه أولو الأحلام، فلذا عبر بقوله بنصيبي منك: أي من أثر بركتك وفيضك أحداً، والتنكير فيه للتعميم ليعم القريب والبعيد والمشرف والشريف، وفيه مزيد نباهة ابن عباس وجودة فكره إذ نظر إلى الأشياء في مكانها ولذا قال بقوله: عمر عند استجلاء أفكاره فيما يدلهم عليه من الأمور: «غص يا غواص» (فتله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يده. متفق عليه) رواه البخاري بهذا اللفظ في كتاب المظالم والغضب وفي كتاب الشرب وزاد بعد «احداً» قوله: يا رسولالله، وقال: بدل قوله: «فتله» فأعطاه إياه في يده، رواه مسلم في الأشربة، وأخرجه النسائي في الأشربة من «سننه» (تله بالتاء المثناة فوق) أي وتشديد اللام (أي وضعه) في «تحفة القاري» أي وضعه بقوّة. وفي «النهاية» : قيل: التل الصب فاستعير للالقاء يقال: تل يتل: إذا صب، وتل يتل: إذا سقط، والأول بالضم والثاني بالكسر في المضارع (وهذا الغلام) كما حكاه الحافظ عن ابن التين، وجاء كذلك في رواية الترمذي من حديث ابن عباس نفسه (هو ابن عباس) أي عبد الله بن عباس (رضي الله

عنهما) فإن هذا علم عليه بالغلبة كابن عمر وابن مسعود على عبد الله. 2 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: بينا أيوب عليه السلام) قال العراقي في «شرح التقريب» : يقال: هو أيوب بن رزاح بن روم بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم (يغتسل عرياناً) فيه جواز الاغتسال عرياناً في الخلوة مع إمكان التستر، وهو مذهب الجمهور (فخرّ) بالخاء المعجمة: أي سقط (عليه جراد من ذهب) هذا ظاهر في سقوطه عليه من علوّ وهو إكرام من الله تعالى له، وهو معجزة في حقه، وهل كان جراداً حقيقة ذا روح، إلا أن جسمه من ذهب، أو كان على شكل الجراد ولا روح فيه؟ الأظهر الثاني. قال الجوهري: وليس المراد ذكر الجراد وإنما هو اسم جنس كبقر وبقرة، فحق مذكره أن لا يكون من لفظه لئلا يلتبس الواحد المذكر بالجمع (فجعل) شرح (أيوب يحثي في ثوبه) استكثاراً من البركة لكونه قريب عهد بتكوين من الله سبحانه (فناداه ربه عزّ وجلّ) لا يخفى ما في التعبير من الرب المؤذن بالتربية والإيصال إلى الكمال في هذا المقام وهذا النداء الله أعلم أنه كان بواسطة الملك لأن المخصوص بالسماع من حضرة الحق سبحانه من الأنبياء والمرسلين نبينا وموسى، ثم رأيت العراقي أشار إلى ما ذكرته وزاد احتمال كونه إلهاماً قال: ويجوز كونه كفاحاً كما وقع لموسى وفيه نقد ولعل وجهه ما ذكرنا، وقوله: (ألم أكن أغنيتك عما ترى) محكي لقول مقدر أو للنداء لما فيه من معنى القول، والقول محتمل لأن يراد منه غنى القلب، أو غنى المال، وفيه على الثاني أن أيوب كان غنياً شاكراً، ولا ينافيه قوله تعالى: {إنا وجدناه صابراً} لأن المراد صبره على البلاء أو على الفقر معه. والذي يظهر أن الله تعالى جمع لأيوب مقامي الصبر على الفقر والشكر على الغنى باعتبار حالتيه، فكان في نفس البلاء فقيراً صابراً وقبله وبعده غنياً شاكراً، ولذا قال تعالى: {إنا وجدناه صابراً} ثم قال: {نعم العبد} ففيه الإيماء إلى أنه غنيّ شاكر كما قال في حق سليمان {نعم العبد إنه أوّاب} مع أنه كان غنياً شاكراً (قال: بلى) واستدرك من مفهوم ذلك قوله: (ولكن لا

64 ـــ باب فضل الغني الشاكر

غنى لي عن بركتك) أي أغنيتني عنه من سائر الجهاد من حيث إنه مال، وأنا لا آخذه كذلك شرهاً وحرصاً، ولكن لكونه بركة، وفيها وجوه: فقيل لأنه قريب عهد بتكوين من الله تعالى كما حسر نبينا عن جلده حين نزل عليه المطر وقال: إنه حديث عهد بربه: أي بتكوينه. وقيل: لأنه نعمة جديدة خارقة للعادة فينبغي تلقيها بالقبول، ففي ذلك منه شكر لها وتعظيم لشأنها وفي الإعراض عنها كفر بها، وقريب منه حديث: «إن الله يحب أن تأتى رخصه كما تؤتى عزائمه» وقيل: إن هذا آية ومعجزة وكل ما نشأ عنها فهو بركة، ومن ذلك قول الصحابة: كنا نعد الآيات بركة، وقيل: غير ذلك (رواه البخاري) في كتاب الأنبياء من «صحيحه» . 64 - باب فضل الغني الشاكر أي ما جاء في ذلك، والشاكر: هو القائم بما أمر الله تعالى به في المال فعلاً وتركاً كما قال المصنف: (وهو من أخذ المال من وجهه) أي طريقه المأذون بأخذه منه شرعاً كالمعاوضة المستجمعة لشروط الصحة السالمة من غش وخديعة، وكالإرث والوصية والاكتسابات المأذون فيها من احتطاب ونحوه (وصرفه) الأولى وإنفاقه لقوله: (في وجوهه) أي طرقه (المأمور بها) شرعاً واجباً عينياً كأداء الزكوات والكفارات والنذور، أو كفائياً كالقيام بحاجة المحتاج من طعام وكسوة، أو مندوباً كالتطوعات. (قال الله تعالى) : ( {فأما من أعطى} ) أي أنفق ماله لوجه الله ( {واتقى} ) محارمه ( {وصدق بالحسنى} ) المجازاة وأيقن أن الله سيخلفه عليه، أو بالكلمة الحسنى وهي كلمة التوحيد ( {فسنيسره} ) نهيئه في الدنيا ( {لليسرى} ) للخلة التي توصله إلى اليسرى والزلفى في الدار الآخرة يعني الأعمال الصالحة والآية بعدها

في ضدّ ذلك تقدمت مع الكلام على ما يتعلق بها في باب النهي عن البخل. (وقال تعالى) : ( {وسيجنبها} ) أي النار ( {الأتقى} ) أي الذي اتقى الشرك والمعصية فلا يدخلها أصلاً، وأما من اتقى الشرك فقط فيمكن أن يدخلها لكن لا يصلاها ولا يلزمها ( {الذي يؤتي ماله} ) يعطيه وينفقه في طاعة الله ( {يتزكى} ) أي يطلب تزكية نفسه وماله فصله الذي بدل أو حال فلا محل له على الأول ( {وما لأحد عنده من نعمة تجزى} ) فيقصد إتيانه مجازاتها ( {إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى} ) أي لكن يؤتى طلباً لمرضاة الله سبحانه، والجمهور على نصب ابتغاء وأنه على الاستثناء المنقطع، وإلا بمعنى لكن كما تقرر فهو في الحقيقة مفعول له، قاله الهمذاني، وانظر ابن عطية في كون الاستثناء منقطعاً وجعل الكواشي الاسثناء المنقطع والمفعولية له وجهين متقابلين محمول على المعنى، والتقدير: لم يعط الشيء إلا ابتغاء وجهه سبحانه، والابتغاء: الطلب أي إلا لطلب التوجه إلى ربه الأعلى (ولسوف يرضى) من ربه حين يدخله في رحمته، وعن كثير من السلف أن هذه السورة في الصديق وهو الأتقى فيكون الحصر ادعائياً لا حقيقياً، كأن غير هذا الأتقى غير مجتنب بالكلية كذا في «تفسير» السيد معين الدين الصفوي، وفي «تفسير ابن عطية» لم يختلف أهل التأويل أن المراد بالأتقى إلى آخر السورة أبو بكر ثم هي تتناول كل من دخل في هذه الصفات. وقال ابن كثير في «تفسيره» : قد ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآي نزلت في أبي بكر رضي الله عنه حتى أن بعضهم حكى الإجماع عن المفسرين على ذلك، ولا شك أنه داخل فيها وأولى الناس بعمومها، وأن لفظها لفظ العموم وهو قوله: {وسيجنبها الأتقى} الخ. ولكنه مقدم الأمة وسابقهم في جميع هذه الأوصاف الحميدة، فإنه كان صديقاً تقياً كريماً جواداً بذالاً لأمواله في طاعة مولاه ونصر رسوله، وفي «تفسير الكواشي» : والمراد بالأتقى أبو بكر الصديق قالوا بإجماع المفسرين، وما ذكره ابن عطية وابن كثير من أن الآية تشمل من دخل في تلك الصفات تعقبه الحافظ السيوطي في «الإتقان» فقال بعد أن مهد قاعدة: «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» : «تنبيه» : قد علمت أن فرض المسألة في لفظ له عموم أما آية نزلت في معين ولا عموم للفظها فإنها تقصر عليه قطعاً كقوله تعالى: {وسيجنبها الأتقى} الخ فإنها نزلت في الصديق إجماعاً وقد استدل بها الفخر الرازي مع قوله: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} على أنه

أفضل الناس بعد رسول الله، ووهم من ظن أن الآية عامة في كل عمله إجراء له على القاعدة، وهذا غلط، فإن هذه الآية ليس فيها صيغة عموم، إذ أل إنما تفيد العموم إذا كانت موصولة أو معرّفة في جمع، زاد قوم أو مفرد بشرط أن لا يكون هناك عهد، واللام في الأتقى ليست موصولة، لأنها لا توصل بأفعل التفضيل إجماعاً، والأتقى ليس جمعاً، بل مفرد، والعهد موجود خصوصاً مع ما يفيد صيغة أفعل من التمييز وقطع المشاركة، فبطل القول بالعموم وتعين القطع بالخصوص والقصر على من نزلت فيه رضي الله عنه» اهـ. (وقال تعالى) : ( {إن تبدوا الصدقات فنعما هي} ) أي إن أظهرتموها فنعم شيئاً إبداؤها ( {وإن تخفوها وتؤثرها الفقراء} ) أي تعطوها مع إخفاء ( {فهو} ) أي إخفاؤها ( {خير لكم} ) والآية عامة في كل صدقة، لكن عن ابن عباس: السرّ في التطوع أفضل من العلانية يقال: بسبعين ضعفاً، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل بخمسة وعشرين ضعفاف ( {ويكفر عنكم} ) أي الله أو الإخفاء ففيه إسناد مجازي، ومن قرأ مجزوماً فهو عطف على محل جواب الشرط ( {من سيئاتكم} ) من للتبعيض أو لبيان الجنس أي شيئاً هو السيئات ( {وا بما تعملون خبير} ) ترغيب في الإخفاء. (وقال تعالى) : ( {لن تنالوا البرّ} ) الجنة: أو التقوى، أو كمال الخير ( {حتى تنفقوا مما تحبون} ) أي بعضه، والمراد منه أداء الزكاة أو صدقة السنة، ويدل على الثاني أن كثيراً من الصحابة تصدقوا بأراضيهم وأعتقوا جواريهم حين أنزلت، والمعنى: لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا وأنتم أصحاء أشحاء ( {وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم} ) فيجازي بحسبه (والآيات) الكائنة أو كائنة (في فضل الإنفاق في الطاعات) هي ما تقرب بها إلى المولى (كثيرة معلومة) وفيما ذكر كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد. 1 - (وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله: لا حسد) أي

لاغبطة محمودة (إلا في اثنتين) من الخصال أو في ذي اثنتين منها فعلى الأول يقدر مضاف نحو خصلة قبل قوله رجل وهو في الأصول مرفوع خبر محذوف: أي هما خصلتان رجل ورجل، فحذف المضاف وأقيم رجل مقامه فارتفع (رجل آتاه) أي أعطاه (امالاً) أي بطريق لا تبعة فيه كما يومىء إليه إسناد الإعطاء إلى الله سبحانه، وإلا فالتصدق بالسحت لا غبطة فيه (فسلطه على هلكته) أي إتلاف عينه بإبقائه عند الله بإنفاقه لوجهه ومرضاته (في الحق) متعلق بالمصدر قبله (ورجل آتاه الله حكمة) أي علماً ويجوز أن يراد بها القرآن لورود كل منهما في رواية، ويجوز أن يراد بها السنة والأول أقرب (فهو يقضي بها) أي عند التحاكم إليه (ويعلمها) ففيه أن شكر المال إنفاقه في وجوه الطاعات ابتغاء مرضاة الله تعالى، وأن شكر العلم العمل به وتعليمه (متفق عليه) (وتقدم شرحه) أي تبيان المراد من قوله لا حسد (قريباً) نصبه على أنه صفة مصدر: أي تقدماً قريباً، أو على الظرفية: أي في مكان قريب من الكتاب وهو باب فضل الكرم والجود. 2 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: لا حسد) أي لا ينبغي أن يحسد أي يغبط (إلا في اثنتين) ثوابهما بحسن التصرف من فاعلهما (رجل آتاه الله القرآن) قدم هنا على المال من باب التدلي من الشريف إلى المشروف، وعكس في الحديث قبله من باب الترقي، أو لأن ذلك سبق للحضّ على الاشتغال بالقرآن فقدم في كل ما سبق له الحديث وذكر الآخر بالتبع، أو أن ذلك على وجه التفنن في التعبير، وعبر هنا بالقرآن الذي هو منبع العلوم ومعدنها وأصلها ومكمنها، قال تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} (الأنعام: 38) وقال تعالى: {والكتاب المبين} (الدخان: 2) أي لكل شيء محتاج إليه كما يؤذن به حذف

المعمول، لأنه الأصل، وثم بالحكمة المراد بها العلم الشرعي على قوم لعموم حاجة الناس في معاشهم ومعادهم إليه (فهو يقوم به) أي في صلاته (آناء الليل وآناء النهار) منصوب على الظرفية وأعاد المضاف دفعاً لتوهم أن المراد آناء مجموعهما لا كل على الانفراد، ويحتمل أن يراد من القيام المداومة على تلاوته لا يخصوص كونه في صلاة (ورجل آتاه الله مالاً) التنكير فيه للتعظيم كما يدل عليه قوله: (فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار) ويحتمل أن يكون للشيوع فيشمل الجليل منه والحقير، قال تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته ومن قد عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها} (الطلاق: 7) (متفق عليه) تقدم ذكر من خرّجه من حديث ابن عمر في باب فضل الكرم المذكور (الآناء) بالفتح ومد الهمزة قبل النون (الساعات) جمع واحده أني بالكسر والقصر وأناء بالمد والفتح، وإني بوزن قنو، وأنو بوزن دلو، ذكرها الواحدي في «تفسيره» . 3 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن) بالفتح ويجوز كسر الهمزة بتقدير قول قبلها (فقراء المهاجرين) من إضافة الصفة لموصوفها: أي المهاجرين الفقراء (قالوا) : على وجه الغبطة والتأسف على عدم تمكنهم من ذلك (يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالدرجات) الباء فيه للتعدية وفيها معنى المصاحبة (العلا) أي الرفيعة، قال ابن عطية في «التفسير» : الدرجات العلا هي القرب من الله تعالى: (والنعيم المقيم) وهو نعيم الجنة الذي لا ينقضي أبداً (فقال: وما ذاك) استفهام عن الذي لأجله قيل فيهم إنهم فازوا بذلك دنيا وعقبى ولم يتركوا منه للفقراء شيئاً كما يومىء إليه السياق، وأتى باسم الإشارة الموضوع للبعيد فيه مع قربه لفخامة شأنه كقوله تعالى: {تلك آيات الكتاب المبين} (الشعراء: 2) بناء على أن المشار إليه هو الحروف المقطّعة أوّل السور (فقالوا: يصلون كما نصلي) ما كافة مهيئة للدخول على

الجملة الفعلية، وتفيد تشبيه مضمون الجملة بالجملة أو مصدرية أي مثل صلاتنا، أو موصولة: أي مثل الذي نصليه (ويصومون كما نصوم) أي هم في العبادات البدنية مماثلون لنا مساوون فيها وزائدون علينا بالعبادات المالية المدلول عليها بقولهم (ويتصدقون ولا نتصدق) كذا في النسخ بإظهار الفوقية وتخفيف المهملة الأولى فيهما (ويعتقون) بفتح التحتية وكسر الفوقية فيهما (ولا نعتق) أي فهم يرجحون علينا بذلك، إذ لا مال لنا نصل به إلى مثل ذلك (فقال رسول الله: أفلا أعلمكم) أي أترككم تعاباً من ذلك فلا أعلمكم (شيئاً) أي عظيماً بقرينة وصفه بقوله: (تدركون به من سبقكم) أي إلى المنازل العلى أو من سبقكم من مؤمني الأمم (وتسبقون) بكسر الموحدة (به من بعدكم) أي في الرتبة: أي دونكم أو في الزمن (ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم) الاستثناء فيه منقطع: أي ولكن من صنع مثل ما صنعتم فلا تسبقونه ولا يفضل عليه أحد كما لا يفضل عليكم (قالوا: بلى يا رسول الله) أي تعليم ذلك مرادنا لنلحق به من سبق ونجوز به على من بعد فضل السبق، وفي قولهم: يا رسول الله تحريض على الإعلام: أي إن الله رحم بك العباد وتعليم ذلك منها فجد به (قال: تسبحون وتكبرون) بتضعيف الفعلين اعتباراً بتكرير الفعل (وتحمدون) بفتح الفوقية والميم (دبر) أي خلف (كل صلاة) أي من المكتوبات كما جاء كذلك في رواية، ودبر ظرف تنازعه الأفعال قبله وكذا تنازعت (ثلاثاً وثلاثين) وهو منصوب على المفعولية المطلقة للعامل فيه منها (فرجع) العطف على محذوف دلّ عليه السياق: أي فذهب فقراء المهاجرين بما علمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعملوا فعلمه الأغنياء فعملوا به وشاركوها فيه كغيره من العبادات البدنية فرجع (فقراء المهاجرين إلى رسول الله) إذا فاتهم ما استأثروا به عن الأغنياء ليلحقوهم في فضل عملهم المالي بمشاركتهم فيه (فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال) هذا تفسير منهم للدثور المذكور عنهم أول الحديث (بما فعلنا) أي مما ذكرت وما فيه من عظيم الفضل (ففعلوا مثله) فساورنا فيه وازدادوا عليه بالعمل المالي فرجع الأمر بالآخرة إلى ما اشتكوا منه أولاً (فقال رسول الله: ذلك فضل ا) أي

ثوابه (يؤتيه) أي يعطيه (من يشاء) من فقير وغنيّ، والمشار إليه يحتمل أن يكون السبق إلى المنازل العلى المذكور أوّل الخبر: أي أنالهم الله ذلك وقصره عليهم، فلا سبيل لمشاركتهم فيه من غيرهم، ويحتمل أن يكون الثواب المرتب على هذا المذكور أنه فضل الله إن شاء خص به الفقراء فلا يلزم من إتيان الأغنياء به مساواة الفقراء فيه: أي فلا عليكم من مشاركتهم في ذلك صورة، والأول قال به من مال إلى تفضيل الغنيّ الشاكر، والثاني قال به ما قال بتفضيل الفقير الصابر (متفق عليه) رواه البخاري في الدعوات ومسلم (وهذا لفظ رواية مسلم) في كتاب الصلاة وليس في رواية البخاري وصف الدرجات بالعلا، وفيها أن كلاً من التكبير والتسبيح والتحميد عشراً عشراً وليس عنده من قوله فرجع فقراء المهاجرين إلى الآخر، وسبق في باب بيان طرق الخيرات أن حديث أبي ذرّ عند مسلم بنحو حديث الباب، وأن كلاً من التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صدقة وفيه زيادة على ما في حديث الباب ونقص عنه (الدثور) بضم المهملة والمثلثة (الأموال الكثيرة) كما في «النهاية» ، وبه يعلم ما في اقتصار الكازروني شارح «الأربعين» على قوله الدثر: المال ولم يقيده بالكثير، وفي باب بيان طرق الخيرات الدثور واحدها دثر، فأفاد ثمة بيان مفرده وهنا بيان معناه. وفي «النهاية» : الدثور جمع دثر: أي كفلس يقع على الواحد والاثنين والجمع اهـ.

65 ـــ باب ذكر الموت

65 - باب ذكر الموت الأكثر أنه أمر وجودىّ. وهو عرض مضادّ الحياة، وقيل عدمي أي عدم الحياة عما من شأنه، وفسر هذا قوله تعالى: {خلق الموت} (الملك: 2) بقوله أي قدرّه (وقصر) بكسر ففتح (الأمل) بفتحتين. قال السيوطي في «التوشيح» : هو رجاء ما تحبه النفس، قال ابن الجوزى: وهو مذموم للناس لا للعلماء فلولا أملهم لما ألفوا ولا صنفوا (قال الله تعالى) : ( {كل نفس ذائقة الموت} ) ألم مقدماته وحال سكراته، وهذا وعد ووعيد للمصدّق والمكذب ( {وإنما توفون أجوركم} ) تعطون جزاء أعمالكم خيراً كان أو شراً تاماً وافياً ( {يوم القيامة} ) إذ هو يوم الجزاء للعمال على ما لهم في الدنيا من الأعمال ( {فمن زحزح} ) أي نحى وأبعد ( {عن النار وأدخل الجنة} ) هو كالتصريح بالملزوم، إذ يلزم الإبعاد عن النار إدخال الجنة إذ لا واسطة بينهما عند أكثر أهل الحق ( {فقد فاز} ) من الفوز، وهو الظفر بالمراد والمرام ( {وما الحياة الدنيا} ) أى زخارفها ( {إلا متاع الغرور} ) أى كمتاع يدلس به على المستام فيغر ويشتريه، فمن اغترّ بها وآثرها فهو مغرور (وقال تعالى) في الآية التي فيها ما جاء في الحديث: إنها من مفاتيح الغيب ( {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا} ) أي أيّ شىء خير أو شرّ ( {تكسب غدا} ) والجملة عطف على جملة: إن الله أثبت اختصاصه

به تعالى على سبيل الكفاية على الوجه الأبلغ ( {وما تدري نفس بأيّ أرض تموت} ) وإذا كان هذا شأنها فيما هو أخص الأشياء بها فكيف هي بمعرفة ما عداهما. (وقال تعالى) : ( {فإذا جاء أجلهم} ) أي وقت انقضاء عمرهم ( {لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} ) أي لا يستمهلون لحظة. (وقال تعالى) : ( {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله} ) الصلوات الخمس وسائر العبادات، والمراد نهيهم عن اللهو بها ( {ومن يفعل ذلك} ) أي الشغل عن ذكر الله بالمال والولد ( {فأولئك هم الخاسرون} ) حيث آثروا العاجل على الآجل والفاني على الباقي ( {وأنفقوا مما رزقناكم} ) المراد كما قال جمهور المتأولين: الزكاة، وقيل: هو عام في كل مفروض ومندوب ( {من قبل أن يأتي أحدكم الموت} ) أي علامته وأوائل أمره ( {فيقول ربّ لولا أخرتني} ) أي أمهلتني وهو طلب الكرّة والإمهال ( {إلى أجل قريب} ) أي زمن يسير آخر، قال ابن عطية: سماه قريبا لأنه آت أو لأنه إنما تمناه ليقضي فيه العمل الصالح فقط، وليس يتسع الأمل حينئذ لطلب العيش ونضرته (فأصدّق) أي أتصدق وهو منصوب في جواب الطلب ( {وأكن من الصالحين} ) بالتدارك، وكل مفرّط يندم عند الاحتضار ويسأل الإمهال للتدارك، وقرأ الجمهور أكن بالجزم. قال الزمخشري: عطف على محل فأصدق، كأنه قيل: إن أخرتني أصدق وأكن، هذا مذهب أبي علي الفارسي. وأما ما حكاه سيبويه عن الخليل، فهو غير هذا، وهو أنه جزم أكن على توهم الشرط الذي يدل على التمني، ولا موضع هنا لأنه الشرط ليس بظاهر، وإنما يعطف على الموضع حيث يظهر الشرط كقوله: «من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم» فيمن جزم ويذر عطف على موضع «فلا هادي له» لأنه لو وقع هنالك فعل كان مجزوماً. والفرق بين العطف على الموضع والعطف على التوهم مفقود وأثره موجود دون مؤثره اهـ ( {ولن يؤخر الله إذا نفساً إذا جاء أجلها} ) حض على المبادرة والمسابقة للأجل بالعمل الصالح ( {والله خبير بما تعلمون} ) قرىء بالفوقية وعد وبالتحتية

وعيد: أي فهو مجازيكم على صالح عملكم ومجازيكم على سيئها. (وقال تعالى) ( {حتى} ) متعلق بيصفون المذكور قبله في قوله {وسبحان الله عما يصفون} وما بينهما اعتراض لتأكيد الاعتناء بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم: أي لا يزالون على سوء الذكر إلى أن جاء أحدهم. وجوّز ابن عطية كونها غاية لكلام محذوف، واقتصر عليه أبو حيان في «النهر» قال: والتقدير فلا أكون كالكفار الذين يهمزهم الشياطين ويحضرونهم ( {حتى إذا جاء أحدهم الموت} ) ورجح ابن عطية كونها ابتدائية ( {قال ربّ ارجعون} ) ردوني إلى الدنيا، والواو لتعظيم المخاطب. وقيل: لتكرر قوله ارجعني، قال ابن عطية: أو استغاث بربه أوّلا ثم خاطب ملائكة العذاب بقوله أرجعون ( {لعلي أعمل صالحاً فيما تركت} ) أي في الذي تركته من الإيمان لعلي آتي به وأعمل فيه صالحاً، أو المال، أو الدنيا ( {كلا} ) ردع عن طلب الرجعة واستبعاد لها. وفي النهر قيل: هي من قوله الله تعالى، وقيل من قول من عاين الموت، يقولها لنفسه تحسرا وتندما ( {إنها} ) أي رب أرجعون ألخ ( {كلمة} ) والكلمة الطائفة من الكلام المنتظم بعضها مع بعض ( {هو قائلها} ) لا محالة لتسلط الحسرة عليه، وهذا محتمل كما قال ابن عطية للأخبار المؤكدة بوقوع هذا الشيء، أو بأن المعنى: إن هذه كلمة لا تغني من أكثر قولها ولا نفع له بها ولا غوث فيها، وإشارة إلى أنهم لو ردوا لعادوا كما كانوا، ففيه ذمهم، قال الصفوي: وعلى الثالث فهو علة الردع: أي ارتدعوا، فوعدكم بالعمل الصالح لو رجعتم مجرد وعد لا وفاء بحقه ( {ومن ورائهم} ) أي أمامهم ( {برزخ} ) حاجز بينهم وبين الرجعة ( {إلى يوم يبعثون} ) هو إقناط كلي للعلم بأن لا رجعة إلى الدنيا يوم البعث فلا رجعة أصلاً ( {فإذا نفخ في الصور} ) وهو القرن، وقيل جمع صورة وأيده القاضي البيضاوي بقراءة صور بضم ففتح وكسر، والمراد النفخة الأخيرة ( {فلا أنساب بينهم} ) أي لا تنفع ( {يومئذ ولا يتساءلون} ) كما يفعلون اليوم بل يفرح القريب إن وجب له حق ولو على ولد ووالده فيأخذ منهما، ولا يتساءلون: أي لا يسأل حميم قريب حميمه وقريبه، ولا ينافيه قوله تعالى: {فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} لأن يوم القيامة مواطن ومواقف أو ما

نحن فيه عند النفخة. والآية الثانية بعد المحاسبة، أو دخول أهل الجنة. هذا وعن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي» ( {فمن ثقلت موازينه} ) بأن تكون له عقائد وأعمال صالحة تثقل ميزانه (فأولئك هم المفلحون) الفائزون بالنجاة والدرجات ( {ومن خفت موازينه} ) بأن لا عقائد ولا أعمال صالحة تثقل ميزانه ( {فأولئك الذين خسروا أنفسهم} ) حيث أبطلو استعدادها، وجمع الموازين من حيث أن الموزون جمع وهي أعمال. ومعنى الوزن: إقامة الحجة على العباد وإظهار للعدل بالمحسوس على عادتهم وعرفهم. وفي وزن الكافر وجهان: قيل يوضع كفره في كفة فلا يوجد شيء يعادله في الكفة الأخرى. وقيل بأن يوضع في الثانية ماله من عمل صالح من صلة رحم ووجه برّ فيخف عمله ( {في جهنم خالدون} ) بدل من خسروا أنفسهم ولا محل له، لأن المبدل منه وهو الصلة لا محل له، أو خبر بعد خبر لأولئك، أو خبر مبتدإ محذوف: أي متعلق الظرف بدل من الصلة وهو من بدل المطابق كما في «النهر» ، قال: وأجاز أبو البقاء أن يكون الذين نعت أولئك وخبر أولئك في جهنم، والظاهر أنه خبر أولئك لا نعته وخالدون خبر ثان وفي جهنم متعلق به ( {تلفح} ) تحذف ( {وجوههم النار وهم فيها كالحون} ) أي عابسون وهو تقلص الشفتين من الإنسان، وخص الوجه باللفح لأنه أشرف ما في الإنسان، والإنسان أحفظ له من الآفات من غيره من الأعضاء، فإذا لفح فغيره ملفوح، ولما ذكر اللفح ذكر الكلوح المختص ببعض الأعضاء وهو الوجه فتتقلص الشفة العليا حتى تبلغ الرأس وتسترخى الشفة السفلى حتى تبلغ السرّة كما جاء ذلك في حديث مرفوع عند الترمذي وقال: إنه حسن صحيح ( {ألم تكن آياتي تتلى عليكم} ) أي يقال لهم ذلك ( {فكنتم بها تكذبون. قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا} ) الشقاوة: سوء العاقبة ( {وكنا قوماً ضالين} ) عن الهدى ( {ربنا أخرجنا منها فإن عدنا} ) لما تكره ( {فإنا ظالمون. قال اخسئوا فيها} ) أي ذلوا وانزجروا كما تنزجر الكلاب ( {ولا تكلمون} ) في رفع العذاب أو لا تكلمون رأساً. وعن بعض السلف أنه لم يكن لهم بعد ذلك إلا زفير وشهيق وعواء كالكلاب ( {إنه} ) أي الشأن ( {كان فريق من عبادي يقولون. ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين} ) قال ابن عطية: والفريق المشار إليه هم المستضعفون من المؤمنين، وهي وإن نزلت في شأن الكفار من قريش مع صهيب وبلال وعمار ونظرائهم إلا أن نظراءهم في ذلك مثلهم (فاتخذتموهم سخريا) بكسر

السين وضمها لغتان بمعنى الهزؤ، وزيدت ياء النسبة للمبالغة. وعند الكوفيين المضموم من السخرة بمعنى الانقياد والعبودية، وكسرها من الاستهزاء والكسر فيه أكثر وهو أليق بالآية، ألا ترى أن قوله ( {حتى أنسوكم ذكرى وكنتم منهم تضحكون} ) ونسبة الإنساء إلى الفريق من حيث إنه كان بسببهم. والمعنى: اشتغالهم بالهزؤ بهؤلاء أنساهم ما ينفعهم ( {إني جزيتهم اليوم بما صبروا} ) أي بصبرهم على أذاكم ( {أنهم هم الفائزون} ) قال الزمخشري: من فتح همزة إن فهي ومعمولاها المفعول الثاني أني جزيتهم فوزهم، ومن كسر فهو استئناف، وقال في «النهر» : الظاهر أنه تعليل من حيث المعنى لا من الإعراب لاضطرار المفتوحة إلى عامل، والفائزون: المنتهون إلى غايتهم التي كانت أملهم، ومعنى الفوز: النجاة من هلكة إلى نعمة ( {قال} ) أي الله، أو الملك المأمور بسؤالهم ( {كم لبثتم في الأرض} ) أي أحياء ( {عدد سنين} ) تمييز لكم، وسؤاله لهم توقيف وهو تعالى يعلم عدد ما لبثوا، أو لفرط هول العذاب نسوا ذلك ( {قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم} ) قال ابن عطية. والغرض توقيفهم على أن أعمارهم القصيرة أداهم الكفر فيها إلى عذاب طويل، وقيل معناه: السؤال عن مدة لبثهم في التراب أمواتاً، وعليه جمهور المتأولين. قال ابن عطية: وهو أصوب من حيث إنهم أنكروا البعث وكانوا يرون أن لا يقوموا من التراب، قيل لهم لما قاموا منه كم لبثتم ( {فسئل العادين} ) أي القادرين على العدد فنحن في شيء لا نقدر معه على أعمال الكفر. والعادين الملائكة الحفظة ( {قال إن لبثتم إلا قليلاً لو أنكم كنتم تعلمون} ) أي ما لبثتم فيها إلا زماناً قليلا على فرض أنكم تعلمون مدة لبثكم ( {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً} ) أي عابثين بلا فائدة، حال أو مفعول له ملهياً بكم، وما زيدت للتأكيد ( {وأنكم إلينا لا ترجعون} ) عطف على أنما. (وقال تعالى) ( {ألم يأن} ) أي ألم يحن، يقال أنى الشيء يأنى إذا حان ( {للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق} ) أي ألم يأت وقت خشوعها عند ذكر الله، أو لأجل ذكر الله والموعظة وسماع القرآن. عن ابن عباس: عوتب المؤمنون بهذه الآية بعد ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن. وحكى السبكي عن ابن المبارك أنه في صباه حرّك العود ليضربه فإذا به قد نطق بهذه الآية، فتاب ابن المبارك وكسر العود وجاءه التوفيق والخشوع والإخبات والتطامن، وهي هيئة تظهر في الجوارح متى كانت في القلب ولذا خص

القلب بالذكر ( {ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل} ) كاليهود والنصارى عطف على تخشع على قراءته بالتحتية، ونهى عن مماثلة أهل الكتاب على القراءة بالفوقية وفيه التفات ( {فطال عليهم الأمد} ) الزمان بينهم وبين أنبيائهم ( {فقست قلوبهم} ) معناه صلبت وقلّ خيرها وانفعالها للطاعات وسكنت إلى المعاصي ففعلوا منها ما هو مأثور عنهم ( {وكثير منهم فاسقون} ) خارجون عن الدين (والآيات) القرآنية (في الباب) أي التحريص على تذكر الموت وترك الاغترار بالحياة (كثيرة معلومة) والسعيد يكفيه واعظ واحد، بخلاف من لا نور له فلا ينجع فيه ألف عظة وشاهد. 1574 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبي) كأنه فعل به ذلك ليقبل على سماع ما يلقي إليه ويفيق من عمرة ما هو فيه من الشغل عن ذلك، ونظير هذا التنبيه الفعلي التنيه القولي في قوله «ألا أنبئكم بخير أعمالكم» الحديث والياء يحتمل أن تكون بالتشديد على أن المضاف مثنى أدغمت ياؤه في ياء المتكلم، وإنما أخذ بهما زيادة في التنبيه، ويحتمل أن تكون بالتخفيف على إفراد ما قبله وهو الأقرب (فقال كن في الدنيا كأنك غريب) أي فلا تستكثر فيها من أمتعتها وزهراتها فإن شأن ذي الأسفار التخفيف عن نفسه بإلقاء ما يثقله، قال الشاعر: ألقى الصحيفة كي يخفف رحله والزاد حتى نعله ألقاها والإنسان في الدنيا غريب على الحقيقة، لأن الوطن الحقيقي هو الجنة كما حمل عليه كثير «حب الوطن من الإيمان» على الجنة وهي التي أنزل الله بها الأبوين ابتداء وإليها المرجع إن شاء الله تعالى بفضل الله ومنه، والإنسان في الدنيا في دار غربة كالمسافر من وطنه حتى يرجع إليه، والله الموفق لما يوصل إلى الرجوع إليه (أو عابر سبيل) أي داخل البلد على سبيل المرور بها لكونها على طريقك، ومن كان كذلك لا يأخذ منها إلا ما تدعو

إليه ضرورة سفره من نحو طعام أو شراب (وكان ابن عمر يقول) كالتذييل لما قبله من حيث المعنى، حضا للنّاس على ورود هذا المنهل ورد عناية ببركة حلول نظر المصطفى (إذا أمسيت) أي دخلت في المساء (فلا تنتظر الصباح) وهو لغة من نصف الليل إلى الزوال، ومنه إلى نصف الليل المساء كما نقله السيوطى عن الجمهرة لابن دريد وقال: إنها فائدة عزيزة النقل، أما الصباح شرعاً فمن طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، والمعنى: إذا أدركك المساء فبادر بصالح العمل والتوبة من الزلل ولا تسوّف بأن تدرك زمن الصباح فتؤخر ذلك له فلعل الأجل ينقضي قبله كما يقع كثيراً، وعقدت هذا المعنى في قولى: إذا أمسيت فابتدرالفلاحا ولا تهمله تنتظر الصباحا وتب مما جنيت فكم أناس قضوا نحبا وقد باتوا صحاحاً (وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك) أي زمنها لعمل البر ما تدخره (لمرضك) لعجزك عن ذلك (ومن حياتك) لتمكنك فيها من عمل الطاعات (لموتك) ليؤنسك في القبر (رواه البخاري) والحديث تقدم مع «شرحه» في باب فضل الزهد. 2575 - (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما حق) أي ليس شأن (امرىء مسلم) من جهة الحزم والاحتياط، والتقييد بالمسلم خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، أو للتهييج لتقع المبادرة إلى امتثاله لمايشعر به من نفي الإسلام عن تارك ذلك قاله في «فتح الباري» (له شيء) في رواية: له مال (يوصي فيه يبيت) كأنه على تقدير أن أي بيانه، وهو كقوله تعالى: {ومن آياته يريكم البرق} أي ليس شأنه من جهة الحزم والاحتياط بياته كذلك لعله يفجؤه الموت وهو على غير وصية، ولا ينبغي للمؤمن أن يغفل عن ذكر الموت والاستعداد له، والمصدر المؤول من أن بدل من امرىء، ويجوز أن يكون يبيت صفة لمسلم وبه جزم الطيبى وقال: هي صفة ثانية، وقوله «يوصى فيه» صفة شيء ومفعول يبيت محذوف: أي آمنا أو ذاكراً وقال ابن التين: تقديره موعكا، والأول أولى لأن طلب

الوصية لا يختص بالمريض، وخبر «ما» هو المستثنى كذا نقل الطيبى والكرماني، وفيه أن الرواية بإثبات الواو في المستثنى وهي لا تدخل الخبر. ويؤخذ عن إعراب ابن مالك لرواية مسلم الآلي أنّ يبيت خبر ما: أي من غير تقدير قبلها. قال ابن عبد البر: والوصف بالمسلم خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، أو ذكر تهييجاً للمبادرة لامتثال مضمونه لإشعاره بنفي إسلام تاركها، ووصية الكافر جائزة في الجملة (ليلتين) كذا لأكثر الرواة، ولأبي عوانة والبيهقي من طريق حماد بن زيد «يبيت ليلة أو ليلتين» وسيأتي ما عند مسلم، وكأن ذكر الليلتين والثلاث لرفع الحرج لتزاحم أشغال المرء التي لا بد له منها ففسح له بهذا القدر ليتذكر ما يحتاج إليه، واختلاف الروايات دال على أنه للتقريب لا للتحديد، والمعنى: لا يمضي عليه زمان وإن كان قليلا (إلا ووصيته مكتوبة عنده) أي مشهود بها لأن الغالب في كتابتها الشهود، ولأن أكثر الناس لا يحسن الكتابة فلا دليل فيه على اعتماد الخط (متفق عليه) رواه البخاري ومسلم في الوصايا وفي «الجامع الصغير» ، ورواه مالك والأربعة من حديث ابن عمر (هذا لفظ البخاري) في أول كتاب الوصايا من «صحيحه» (وفي رواية لمسلم يبيت ثلاث ليال) كأن التقييد بالثلاث غاية التأخير، ولذا قال ابن عمر: ما مرّت علىّ ليلة إلى آخر ما يأتي، وفي رواية لمسلم «ما حق امرىء مسلم تمر عليه ثلاث ليال إلا عنده وصيته» قال ابن مالك في شرح «المشارق» : ما نافية وتمر خبره. والجمهور على استحباب الوصية لأنه جعلها حقا للمسلم لا عليه، ولو وجبت لكانت عليه لا له، وهو خلاف ما يدل عليه اللفظ، وهذا في الوصية المتبرّع بها، أما الوصية بأداء الدين ورد الأمانات فواجبة (قال ابن عمر) وكان دأبه الاقتداء والاقتفاء (ما مرت عليّ ليلة منذ) أي من زمن (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك إلا وعندي وصيتي) أخذا بالأحوط ومسارعة لما حرّض الشارع إلى فعله. 3576 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: خطّ النبيّ خطوطا) يحتمل أن يكون على الكيفية

الآتية في حديث ابن مسعود بما فيها من الخلاف (فقال: هذه أمله) التأنيث باعتبار مفهوم الواحدة وهذا الذي هو خارج عن الخط المربع أمله وإلا فالخط مذكر كما قال فيه (وهذا) أي المعترض القاطع للخط المستطيل (أجله) ولعل في تأنيثه المشار إليه إلى الأمل إيماء إلى ذمه ونقصه، وأنه الذي ينبغي قصره ليبادر إلى صالح العمل والتوبة من الزلل، فإن التأنيث ناقص بالنسبة إلى التذكير (فبينما هو كذلك) أي تتعارضه حال بعد حال والأمل مستطيل (إذ جاء الخط الأقرب) أي من منتهى الخط الخارج الذي هو الأمل فقطعه (رواه البخاري) في كتاب الرقاق. 4577 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: خطّ النبيّ خطا مربعاً وخط خطاً في الوسط) بفتح السين (خارجاً منه) أي من الخط المربع، قال الحافظ وقيل خارجاً منه (وخط خططا) بضم المعجمة والطاء الأولى للأكثر، ويجوز فتح الطاء كذا في «فتح الباري» (صغاراً) بكسر المهملة (إلى هذا) أي الخط (الذي في الوسط من جانبه) متعلق بقوله وخط (الذي في الوسط) وهذا منه من باب تصوير المعاني وإدخالها في أذهان السامعين بالتمثيل بالمحسوسات (فقال: هذا الإنسان) مبتدأ وخبره: أي هذا الخط هو الإنسان على سبيل التمثيل والمشار إليه هو الخط الأوسط (وهذا الذي هو خارج) عن الخط المربع (أمله وهذا) أي الخط الحافّ (أجله) بدليل قوله «حافاً به» بالحاء المهملة وتشديد الفاء منصوب على الحال: أي محيطاً بحفافيه أي بجوانبه (وهذه الخطط) بضمتين أو بضم ففتح (الصغار الأعراض) جمع عرض بفتحتين: ما ينتفع به في الدنيا في الخير والشرّ (فإن أخطأه هذا) بأن نجا منه (نهشه) بالنون والهاء والشين المعجمة: أي

أصابه (هذا) وعبر بالنهش استعارة من لذغ ذات السم مبالغة في الإصابة والإهلاك. واستشكلت هذه الإشارات الأربع مع أن الخطوط ثلاثة. وأجاب الكرماني بأن للخط الداخل اعتبارين، فالمقدار الداخل منه هو الإنسان والخارج أمله، والمراد بالأعراض الآفات العارضة، فإن سلم من هذا لم يسلم من ذاك، وإن سلم من الجميع بأن لم تصبه آفة من مرض أو فقد حال أو غير ذلك بغته الأجل. والحاصل أن من لم يمت بالسيف مات بالأجل، ففي الحديث التحريض على قصر الأمل والاستعداد لبغتة الأجل (رواه البخاري) . قال الحافظ: والأول أي مما ذكرنا عنه وهو المعتمد، وسياق الحديث يدل عليه والإشارة بقوله هذا الإنسان إلى النقطة الداخلة، وبقوله هذا أجله محيط به إلى المربع، وبقوله الذي هو خارج أمله إلى الخط المستطيل المنفرد، وبقوله هذه الخطط وهي مذكورة على سبيل المثال، لا أن المراد انحصارها في عدد معين، ويدل عليه قوله في حديث أنس: «إذا جاء الخط الأقرب» فإنه أشار به إلى المحيط به، ولا شك أن الذي يحيط به أقرب إليه من الخارج عنه اهـ. وفي «المفاتح» صورة هذه الخطوط، الخط الوسط

هو الإنسان، والمربع هو أجله أحاط به بحيث لا يمكنه الفرار والخروج عنه، والصغار هي أعراضه: أي الآفات والعاهات من نحو مرض وجوع من سائر الحوادث فهذه الأعراض متصلة به، والقدر الخارج من المربع أمله، يعنى هو يظن أنه يصل إلى أمله قبل الأجل وظنه خطأ، بل الأجل أقرب إليه من الأمل فعسى أن يموت قبل أن يصل إليه أمله اهـ. 5578 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: بادروا بالأعمال) أي اسبقوا بما تمكنتم منه من الأعمال الصالحة (سبعاً) من النوازل أو الشئون وتذكير العدد لحذف المعدود (هل تنتظرون) أي في ترك المبادرة بالعمل (إلا فقرا منسيا) استثناء من أعم المفاعيل: أي شيئاً من الأشياء المترقبة أو المترجاة، ونسبة النسيان إلى الفقر مجازية لأنه سبب النسيان والذي به تذهل الحافظة عمل أورد فيها، قال إمامنا الشافعي: لو احتجت إلى بصلة ما فهمت مسئلة، وكذا إسناد الإطغاء إلى الغنى في قوله (أو غنى مطغياً) أي يجاوز المرء عن حده ومقامه فيقع به في هوة المخالفات ومهامه المشتبهات (أو مرضا مفسداً) للأجزاء البدنية التي بسلامتها يحصل التمكن من التوجه إلى العبادات بخلافه فيذهل الشخص بما يلقاه من الألم على التوجه لها، ولذا قال ابن عمر: خذ من صحتك لمرضك (أو هرما) عجز خلقي يحصل عند الكبر لا دواء له (مفنداً) أي ينسب به صاحبه لنقص العقل بسبب الهرم: أي يتسبب عنه نقص العقل تارة واختلاله أخرى (أو موتا مجهزا) بإسكان الجيم وكسر الهاء: أي سريعا. قال في «النهاية» : يقال أجهز على الجريح إذا أسرع قتله وحرره (أو الدجال فشر غائب) أي فهو شر غائب (ينتظر) لما يمتحن به العباد، فلا يكادون ينجون من فتنته إلا من عصم الله، فكيف التمكن من صالح العمل (أو الساعة فالساعة أدهى) أي أشد داهية وهي نازلة لا يهتدى لدوائها (وأمرّ) مما ينزل به من مصائب الدنيا. وحاصله أن الصحيح البدن ذا الكفاف المقصر في العبادات المفرّط في تعمير الوقت بصالح العمل مغبون في أمره ندمان في صفقته كما قال «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ» (رواه الترمذي) في «الزهد» من جامعه (وقال: حديث حسن) وقد تقدم مع شرحه في باب المبادرة إلى الخيرات.

6579 - (وعنه قال: قال رسول الله: أكثر واذكر هاذم اللذات) قال السيوطى في «حاشيته» على جامع الترمذي بالذال المعجمة: أي قاطعها، وفي التحفة لابن حجر الهيثمي: هو بالدال المهملة: أي مزيلها أي من أصلها، وبالذال المعجمة: أي قاطعها. قال السهيلي: والرواية بالمعجمة اهـ. والعجب أنه غفل عن نقل كلام السهيلي في «شرح المشكاة» مع أنه بذلك المحل أقعد وفيه بعد ذكر إعجام الذال وإهمالها وعليه فهو استعارة تبعية أو بالكناية، شبه وجود اللذات ثم زوالها بذكر الموت ببنيان مرتفع هدمته صدمات هائلة حتى لم تبق منه شيئاً (يعني الموت) هذا تفسير لهاذم اللذات، وفي المشكاة بحذف يعني، وظاهر كلام شارحها أن الموت من جملة الحديث وليس مدرجاً فيه، فإن جوّز فيه الأعاريب الثلاثة بتقدير هو أو أعني أو أعطف بيان أو بدل من هاذم (رواه الترمذي) والنسائي وابن ماجه (وقال حديث حسن) قال في فتح الإله: وسند صحيح على شرطهما اهـ. وفي «الجامع الصغير» حديث «أكثروا ذكر هاذم اللذات» رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو نعيم في «الحلية» من حديث ابن عمر، والحاكم في «المستدرك» ، والبيهقي في «الشعب» من حديث أبي هريرة، ورواه الطبراني في «الأوسط» وأبو نعيم في «الحلية» والبيهقي في «الشعب» من حديث أنس وحديث «أكثروا ذكر هاذم اللذات فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه، ولا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه» اهـ. رواه البيهقي في «الشعب» وابن حبان من حديث أبي هريرة والبزار من حديث أنس ومن هذا وأمثاله أخذ أئمتنا قولهم: يسنّ لكل أحد من «صحيح» وغيره ذكر الموت بقلبه ولسانه وإلا فبقلبه، والإكثار منه حتى يكون نصب عينيه، فإن ذلك أزجر عن المعصية وأدعى إلى الطاعة كما يدل عليه زيادة «فإنه لم يذكره أحد» الخ. 7580 - (وعن أُبيّ) بضم الهمزة وفتح الموحدة وتشديد الياء (ابن كعب رضي الله عنه. قال: كان رسول الله إذا ذهب ثلث) بضم أوليه، وتسكين ثانيه تخفيف (الليل) قال في

فتح الإله: وفي رواية: ربع الليل. ويجمع بأنه كان يختلف قيامه، فتارة يقدم وتارة يؤخر (قام) أي من نومه (فقال) منبها لأمته من سنة الغفلة محرضا لها على ما يوصلها لمرضاة الله سبحانه من كمال رحمته (با أيها الناس اذكروا الله) أي باللسان والجنان ليَحمِل ما يحصل من ثمرة الذكر على الإكثار من عمل البرّ وترك غيره (جاءت الراجفة) وهي النفخة الأولى التي تضطرب وتتحرك عندها الجبال، قال تعالى: {يوم ترجف الأرض والجبال} (المزمل: 14) (تتبعها الرادفة) أي في الواقعة التي تردف الأولى وهي النفخة الثانية وبينهما أربعون سنة، والجملة حال (جاء الموت بما فيه) من الأهوال عند الاحتضار كما جاء في حديث «أنه كان يدخل يده في علبة الماء أو الركوة ويمسح وجهه ويقول: إن للموت سكرات» وفي القبر من فتنته وعذابه وأهواله كما صحّ الأمر بالاستعاذة منها وفي قوله «بما فيه» تفخيم للأمر على السامعين (قلت يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك) فيه جواز ذكر الإنسان صالح عمله إذا أمن نحو العجب لغرض كالاستفتاء هنا المدلول عليه بقوله (فكم أجعل لك من صلاتي؟) أي من دعائي بدليل ما جاء في رواية أخرى «قال رجل: يا رسول الله أريد أجعل شطر دعائي لك» الحديث قال في «فتح الإله» : وبفرض صحة هذا فلا مانع أن يكون وقع له ما وقع لأبي ذر رضي الله عنهما: أي ما قدر ما أصرفه في الدعاء لك والصلاة عليك؟ وأشتغل فيه عن الدعاء لنفسي؟ وقيل المراد بالصلاة حقيقتها، والتقدير: فكم أجعل لك من ثوابها أو مثله. قال في «فتح الإله» : وفيه نظر، بل السياق يرده لا سيما تفريع «فكم» على ما قبله إذ لا يلتئم مع إرادة الصلاة الحقيقية إلا بمزيد تعسف، وأيضاً فالثواب أمر يتفضل الله به على من يشاء من عباده ويحرمه من يشاء، إذ لا يجب عليه سبحانه لأحد شيء كائناً من كان. وعندنا يمتنع النيابة في التطوّع البدني المحض كالصلاة فلا تجوز ولا إهداء ثواب ذلك (فقال ما شئت) لم يحد له تحديداً بل فرضه لمشيئته حثا له على أنه لو صرف زمن عبادته لنفسه جميعه للصلاة عليه لكان أحرى وأولى، وخوفاً من أنه لوحد له بحد لأغلق عليه باب المزيد (قلت الربع) بالنصب أي أجعل لك الربع وكذا ما بعد (قال: ما شئت، فإن زدت) بالفاء وفي رواية بالواو في الكل (فهو) أي المزيد (خير لك) لزيادة الثواب بزيادته

66 ـــ باب استحباب زيارة القبور للرجال

بشهادته «فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره» (قلت فالنصف) الفاء فيه عاطفة على ما قبله: أي أجعل لك النصف (قال: ما شئت فإن زدت فهو خير لك. قلت: فالثلثين، قال: ما شئت. فإن زدت فهو خير لك، قلت: أجعل) يحتمل الاستفهام لتناسب ما قبله ويحتمل الإخبار: أي فإذا أجعل (لك صلاتي كلها) إذ ما بقي بعد الثلثين ما يستفهم عن زيادته عليها مما له وقع حتى ينتقل بعده إلى الجملة، فأخبر بذلك لأن الأمر انتهى إليه ووقف عنده، والمعنى: أصرف جميع أوقات دعائي لنفسي للصلاة عليه أو جميع صلواتي وثوابها إليه على ما عرفت (قال: إذن تكفي همك) المتعلق بالدارين بدليل ما جاء في رواية سندها حسن «قال رجل: يا رسول الله أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك؟ قال: إذن يكفيك الله أمر دنياك وآخرتك» وبفرض صحة هذه الرواية فلا مانع من تعدد القصة وأنها وقعت لأبي ولغيره ووجه كفاية المهمات بصرف ذلك الزمن إلى الصلاة عليه أنها مشتملة على امتثال أمر الله تعالى وعلى ذكره وتعظيمه وتعظيم رسوله، وقد جاء في الحديث القدسي «من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» ففي الحقيقة لم يفت بذلك الصرف شيء على المصلي، بل حصل له بتعرضه بذلك الثناء الأعظم أفضل ما كان يدعو به لنفسه، وحصل له مع ذلك صلاة الله وملائكته عليه عشراً أو سبعين أو ألفاً كما جاء بذلك روايات، مع ما انضم لذلك من الثواب الذي لا يوازيه ثواب، فأيّ فوائد أعظم من هذه الفوائد، ومتى يظفر المتعبد بمثلها فضلا عن أنفس منها، وأنى يوازي دعاؤه لنفسه واحدة من تلك الفضائل التي ليس لها مماثل ببركته (ويغفر لك ذنبك) لأنه يبارك على نفسك بواسطته الكريمة في وصول كل خير إليك إذ قمت بأفضل أنواع الشكر المتضمن لزيادة الإفضال والإنعام المستلزمين لرضا الحق عنك ومن رضى عنه لا يعذبه (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) ورواه عبد بن حميد في «مسنده» وأحمد بن منيع والروياني والحاكم وصححه. 66 - باب استحباب زيارة القبور للرجال القبور: جمع قبر وهو معروف، وهو مما أكرم به بنو آدم، وأول من سنه الغراب حين

قتل قابيل أخاه هابيل. وقد قيل إن بني إسرائيل أول من أقبر وليس بشيء كذا في لغات المناج، وخرج بالرجال النساء والخناثى فيكره لهم على الصحيح مطلقاً خشية الفتنة وارتفاع أصواتهن بالبكاء نعم يسنّ لهن زيارته. قال بعضهم: وكذا مآثر الأنبياء والعلماء والأولياء، قال الأذرعى: إن صح فأقاربها أولى بالصلة من الصالحين اهـ. وظاهره أنه لا يرتضيه لكن ارتضاه غير واحد بل جزموا به. والحق أن يفصل بين أن تذهب بمشهد كذهابها للمسجد فيشترط فيه ما يشترط ثمة من كونها عجوزاً ليست متزينة بطيب ولا حليّ ولا ثوب زينة كما في الجماعة بل أولى، وأن تذهب في نحو هودج مما يستر شخصها عن الأجانب فيسنّ لها ولو شابة، إذ لا خشية فتنة هنا، ويفرق بين نحو العلماء والأقارب بأن القصد إظهار تعظيم نحو العلماء بإحياء مشاهدهم، وأيضا فزوّارهم يعود عليهم منهم مدد أخروى لا ينكره إلا المجرمون، بخلاف الأقارب. فاندفع قول الأذرعي إن صح الخ، كذا في «التحفة» لابن حجر (وما يقوله الزائر) أي من التحتية والدعاء لهم وما مع ذلك. 1581 - (عن بريدة) بضم الموحدة وفتح الراء وسكون التحتية بعدها مهملة ثم هاء تأنيث، وهو ابن الحصيب بضم المهملة الأولى وفتح الثانية وسكون التحتية بعدها فموحدة، ابن الحارث الأسلمي. أسلم (رضي الله عنه) قبل بدر ولم يشهدها، وقيل أسلم بعدها، وشهد خيبر، روى له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث وسبعة وسبعون حديثاً، منها في الصحيحين أربعة عشر، اتفقا على واحد منها، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بأحد عشر، روى عنه ابناه والشعبي وأبو المليح الهذلي، سكن المدينة ثم البصرة ثم مرو، وتوفى بها سنة ثنتين أو ثلاث وستين، وهو آخر الصحابة موتاً بخراسان وبقى ولده بها (قال: قال رسول الله: كنت نهيتكم عن زيارة القبور) لقرب عهدهم بالجاهلية وكلماتها القبيحة التي كانوا يألفونها على القبور (فزوروها) نسخ لذلك النهي لما تمهدت القواعد واتضحت الأحكام، فعلموا ما ينفع وما يضرّ، فحينئذ طلبها منهم وعللها كما في رواية أخرى لمسلم بأنها تذكر الآخرة: أي لأنها ترقّ القلوب بذكر الموت وأحواله وما بعده، وأكد في تحفظهم عن عادة الجاهلية كما صح: ألا يقولوا هجرا: أي باطلا لأجل ما في ذلك من التذكير بالآخرة خلاف ما هذا. والقاعدة الأصولية أن الأمر بعد الحظر للإباحة على أنه اعتضد بتكرر زيارته للأموات وبالإجماع على طلبها، بل حكى ابن عبد البرّ عن بعضهم وجوبها، واتفقوا على ندبها للرجال في قبور المسلمين وإن بلوا، لأنه يبقى منه عجب الذنب ولبقاء الروح

بمحل القبر، وأخذوا من تعليله بأنها تذكر الآخرة قصر استحبابها على من قصد بها التفكر في الموت ومآل الدنيا إلى ماذا؟ مع الترحم والاستغفار والتلاوة والدعاء لهم، وهي لمن كان يعرفهم في الدنيا آكد. وقد قسم المصنف الزيارة إلى أقسام، لأنها إما لمجرد تذكر الموت والآخرة فيكفي رؤية القبور من غير معرفة أصحابها، وإما لنحو الدعاء فيسن لكل مسلم، وإما للتبرك فيسن لأهل الخير لأن لهم في برازخهم تصرفات وبركات لا يحصى مددها. وإما لأداء حق نحو صديق ووالد لخبر أبي نعيم «من زار قبر والديه أو أحدهما يوم الجمعة كان كحجة» ولفظ رواية البيهقي «غفر له وكتب له براءة» وإما رحمة وتأنساً لخبر أنس «ما يكون الميت في قبره إذا رأى من كان يحبه في الدنيا» ولا يسن سفر الرجل لأجل الزيارة إلا لقبر نبيّ أو عالم أو صالح، وشذّ الروياني فقال: يحرم السفر لها في غير ما استثنى (رواه مسلم) أول حديث فيه أشياء كان نهى عنها ثم نسخ ذلك النهي وأباحها، في «الجامع الصغير» «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروا القبور، فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة» رواه ابن ماجة وابن مسعود، وحديث «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها، فإنها ترقّ القلب وتدمع العين وتذكر الآخرة ولا تقولوا هجراً» رواه الحاكم في «المستدرك» عن أنس اهـ. 2582 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلما) «ما» فيه وقتية، فلذا وصلت بها كل في الخط ونصبت على الظرفية (كان ليلتها) أي باعتبار دور القسم (من رسول الله) متعلق بالليلة لأنها بمعنى النصيب أو بمحذوف أي التي تخصها منه (يخرج) جواب كلما لأنه وإن كان ظرفا فيه معنى الشرط لعمومه وهو العامل فيه وهما خبر كان، وذلك حكاية معنى كلامها لا لفظه، فكأن الراوي قال عن عائشة كان عادته أن يخرج (من آخر الليل إلى بقيع) بالموحدة فالقاف فالتحتية فالمهملة بوزن سميع (الغرقد) بالغين المعجمة والراء والقاف والدّال المهملة وزن جعفر. قال في «النهاية» : هو ضرب من شجر العضاة وشجر الشوك واحدته الغرقدة، ومنه قيل لمقبرة أهل المدينة بقيع الغرقد لأنه كان

فيها غرقد وقطع (رواه مسلم) وآخره «فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غدا مؤجلون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل البقيع أهل الغرقد» . 3583 - (وعن بريدة رضي الله عنه قال: كان النبي يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر) جمع مقبرة، ورواه في «المشكاة» «القبور» (أن يقول قائلهم) أن ومنصوبها في تأويل مصدر مفعول يعلمهم وإذا ظرف له، ولا يصح كونه ظرفا ليقول مقدراً قبله يدل عليه منصوب أن المذكورة بعد، نظير ما قيل فى فيه من قوله تعالى: {وكانوا فيه من الزاهدين} (يوسف: 20) أي علمهم قولهم، وفيه يخرجوا إلى القبور ويصلوها (السلام عليكم) أخذ منه أفضلية تعريف السلام على تنكيره والرد على من قال الأولى أن يقال للأموات عليكم السلام لأنهم ليسوا أهلاً للخطاب، والحديث «إن عليك السلام تحية الموتى» وردّ بأن الخطاب لا فرق في النظر إليه بين تقدمه وتأخره على أن الصواب أن الميت أهل للخطاب مطلقاً، لأن روحه وإن كانت في أعلى عليين لها مزيد تعلق بالقبر فيعرف من يأتي، ومن لا كما دل عليه الخبر الصحيح «ما من أحد يمرّ بقبر أخيه المؤمن يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام» والحديث إخبار عن عادتهم في الجاهلية لا تعليم لهم، أو المراد بالموتى كفار الجاهلية: أي تحية موتى القلوب فلا تفعلوه (أهل الديار) بالنصب على الاختصاص وهو الأصح، أو النداء وأيد بوروده في رواية أخرى «يا أهل الديار» فكانت تلك قرينة على إرادة النداء هنا وتقدير أداته وترجيحه على الاختصاص وإن كان أفصح وبالجر بدل من كم، والمراد بالديار القبور، وسميت بذلك لأنها للموتى من حيث اجتماعهم كالديار للأحياء (من المؤمنين والمسلمين) بيان لأهل الديار ولللاحتراز عمن قد يكون في المقبرة من خارج عن

الملة من الجاهلية (وإنا إن شاء الله) أتى به للتبرك امتثالا للآية أو تعليق بالنظر للحوق بهم في هذا المكان بعينه أو للموت على الإسلام أو أنّ إن فيه بمعنى إذ كما قيل به في قوله تعالى: {وخافون إن كنتم مؤمنين} (آل عمران: 175) (بكم للاحقون نسأل الله) استئناف على طريقة أسلوب الحكيم، فإنهم لما سلموا عليهم ودعوا لهم خبروا أنهم لاحقون بهم، قال لسان حالهم: جئتمونا فلم لا تدعوا لنا بدعاء جامع وتشركوا أنفسكم فيه معنا كما هو السنة؟ فقالوا نسأل الله (لنا ولكم العافية) وهي الأمن من مكره (رواه مسلم) في الجنائز، رواه أبو داود في رواية أبي الحسن بن العبد عنه لا في رواية أبي القاسم، ورواه النسائي وابن ماجه. 4584 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مرّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقبور بالمدينة، فأقبل عليهم بوجهه) ضمير المذكرين العقلاء باعتبار من فيها من الأموات بتغليبهم على من سواهم. ويؤخذ منه سنّ استقبال وجه الميت بوجه الزائر حال السلام عليه، وظاهر الحديث استمرار ذلك حال الدعاء أيضاً وعليه العمل كما قالوه، لكن السنة عندنا أنه حال الدعاء يستقبل القبلة كما علم ذلك من أحاديث أخرى في مطلق الدعاء، وقدمت على هذا الحديث لاحتمال أنه إنما أقبل بوجهه حال السلام، قال أصحابنا: ويسنّ التأدب مع الميت حال زيارته كما كان يفعل معه حال حياته أي ولو تقديراً بأن أدرك زمنه (فقال: السلام على أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم) وقدم نفسه اهتماما وفيما مرّ إعلاما بأن من أدب الداعي للغير أن يشرك فيه نفسه وأن يقدمها لحديث «ابدأ بنفسك» (أنتم سلفنا) قيل هو مجاز من سلف المال فكأنه أسلفه وجعله ثمنا للأجر المقابل لصبره عليه، وقيل حقيقة لأن سلف الإنسان من مات قبله ممن يعزّ عليه وبهذا سمى الصدر الأول من الصحابة وتابعيهم وتابعي تابعيهم بالسلف الصالح، ومن خص اسم السلف بالتابعين فقد أبعد، والذي دل عليه كلامهم في مواضع ما ذكرنا، وضابطه القرون الثلاثة التي شهد بخيريتها (ونحن

67 ـــ باب كراهية تمني الموت بسبب ضر نزل به

بالأثر) بفتحتين أو بكسر ففتح: أي ميتون عن قريب، إذ كل آت قريب (رواه الترمذي، وقال: حديث حسن) وسكت المصنف عن وصف الترمذي له بالغرابة أيضا كما يفعله كثيراً، لأنه يرى أن ذلك لا يضرّ في حسن الحديث وحجيته لأنها غرابة نسبية. 67 - باب كراهية تمني الموت بسبب ضر نزل به.. بتخفيف التحتية مصدر كره (تمنى الموت) مفعول كراهية فهو مصدر مضاف لمفعوله والفاعل محذوف: أي كراهية الشارع تمنى الموت. ويحتمل أن يكون مصدراً مبنياً للمجهول كحديث «أمر بقتل الأسود ذي الطفيتين» أي بأن يقتل فيكون مضافاً لمرفوعه النائب عن الفاعل (بسبب ضرّ نزل به) الضرّ بضم الضاد المعجمة وهو كما في المصباح الفاقة والفقر اسم وبفتحها مصدر ضرّه يضرّه من باب قتل: إذا فعل به مكروها اهـ. وحينئذ فيقاس كراهية تمني الموت بسبب الأمراض والجراحات على ما صرح به في الترجمة من كراهيته بسبب الفقر والفاقة بجامع عدم الصبر في كل أحكام المولى سبحانه، والجملة الفعلية في محل الصفة، وفي التعبير بذلك إيماء إلى استحباب لجأ من نزلت به إلى مولاه في كشفها عنه وإنجائه منها، لأن ذلك مطلوب في النوازل (ولا بأس به) كلمة تدل على الإباحة، بل قال جمع باستحباب تمنيه، ونقلوه عن الشافعي وعمر بن عبد العزيز وغيرهما (لخوف الفتنة في الدين) ومن قال بالإباحة استند إلى عدم ورود الأمر بتمنيه حالتئذ وقد رد من جاءه مسلماً في قصة الحديبية إلى الكفار لاشتراطهم ذلك مع أنهم إنما فروا خوف الفتنة في الدين، فلو استحب تمنيه لدلهم. 1585 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يتمنى) بالرفع كما هو في كتب الحديث فهو خبر بمعنى النهي كـ «لا يمسه إلا المطهرون» أو بالجزم على بابه، وأثبت

حرف العلة فيه على لغة شهيرة فيه، والأوّل أبلغ لإفادته أن من شأن المؤمن انتفاء ذلك عنه وعدم وقوعه منه بالكلية لما يأتي (أحدكم الموت) أي لضرّ نزل به كما يأتي في أحاديث الباب، وإنما نهى عن تمنيه، لأنه (إما) أن يكون (محسنا) أي مطيعاً لله تعالى قائماً بوظائف الواجبات والمندوبات أو الواجبات فقط (فلعله) إذا طال عمره وهو على هذا الكمال (يزداد) أي خيراً كثيراً، فلا ينبغي له وهو على مدرج التزوّد للآخرة والاستكثار من حيازة ثواب الأعمال الصالحة أن يتمنى ما يمنعه عن البرّ والسلوك لطريق الله تعالى وزيادة رضاه وقد ورده «خياركم من طال عمره وحسن عمله» أي أنه يزداد الترقي في زيادة الأعمال المزيدة في القرب من الله تعالى فكيف يسأل قطع ذلك (وإما) أن يكون (مسيئاً فلعله يستعتب) أي يرجع إلى الله سبحانه بالتوبة وردّ المظالم وتدارك الفائت وطلب عتبى الله تعالى: أي رضاه عنه، فالعتبى والإعتاب: الإرضاء، ولعل فيهما لمجرد الرجاء وكثر مجيئها له إذا صحبه تعليل نحو {واتقوا الله لعلكم تفلحون} (البقرة: 189) (متفق عليه، وهذا لفظ البخاري) في آخر حديث أوله «لن يدخل أحداً عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله قال: إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة فسددوا وقاربوا ولا يتمنى» الحديث أخرجه في كتاب المرضى. (وفي رواية مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول اللُّه قال: لا يتمنى أحدكم) أي الواحد منكم، وكونه من ألفاظ العموم إنما هو إذا تقدمه نفى أو ما في معناه (الموت) والفعل يحتمل الرفع والجزم كما تقدم، ويؤيد الثاني قوله (ولا يدع به) فإنه مجزوم والأصل تناسب المتعاطفات في الخبر والإنشاء، وإن كان المختار جواز عطف الإنشاء على الخبر وعكسه وحينئذ فيكون في الحديث الجمع بين لغتين حذف حرف العلة للجازم وإثباته (من قبل أن يأتيه) وقوله (إنه) يصح فتحها تعليلا وكسرها استئنافا على أن الثاني لا ينافي الأول، والضمير يرجع إلى فاعل يتمنى (إذا مات انقطع عمله) في رواية «أمله» وهما متقاربان إذ المراد بالأمل ما يطمع فيه من ثواب العمل الذي يستكثر منه لو بقي والأمل كذلك ممدوح والمذموم من الأمل الذي يحمل على بطر أو فتور عن صالح العمل (وإنه) أي الشأن (لا

يزيد المؤمن عمره) أي طوله (إلا خيراً) كثيراً لأن صدق إيمانه يحمله على استكثار صالح العمل سيما في آخر عمره. 2586 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: لا يتمنين) هذا يؤيد لكون يتمنى في الروايتين قبله مجزوماً جاء على لغة من أثبت حرف العلة مع الجازم (أحدكم الموت لضرّ أصابه) أي في دنياه لما تقدم عن المصباح، ويقاس به تمنيه لضر أصابه في بدنه، وإنما كره تمنيه حينئذ لأنه يشعر بعدم الرضا بالقضاء بخلافه عند عدمه (فإن كان لا بد فاعلاً) أي لا غنى له عن فعل التمني لغلبة نفسه وهواه عليه حتى منعاه من اجتناب المنهيّ عنه (فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة) أي مدة كونها (خيرا لي) من الموت لاستكثاري فيها من صالح العمل من غير فتنة ولا محنة (وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي) من الحياة لخوف فتنة أو تثبيط عن العمل، فيسن للمتمني قول ذلك لأنه تيقظ به من سنة الغفلة الحاملة على التمني، ولأن الله هو العالم بحقائق الأمور وعواقبها، وغاير بين الأسلوبين بما المصدرية الظرفية وإذا الشرطية لأن المراد بالحياة زمنها الذي يبقى وبالموت وجوده القاطع لذلك الزمن (متفق عليه) أخرجه البخاري في الطب ومسلم في الدعوات. 3587 - (وعن قيس) بفتح القاف وسكون التحتية (ابن أبي حازم) بالمهملة والزاي واسمه عبد بن عوف بن الحارث، وقبل عوف الأحمسي بالمهملتين البجلي الكوفي التابعي الجليل المخضرم، أدرك الجاهلية وجاء ليبايع النبي فتوفي النبي وهو بالطريق وأبوه صحابي. روى عن جمع من الصحابة منهم العشرة وليس في التابعين من روى عن العشرة غيره. وقال أبو داود السجستاني: روى عما عدا ابن عوف منهم توفي سنة أربع وثمانين،

وقيل سبع وقيل ثمان اهـ من «التهذيب» للمصنف (قال: دخلنا على خباب) بفتح المعجمة وتشديد الموحدة الأولى بينهما ألف (ابن الأرتّ) بتشديد الفوقية تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب الصبر (نعوده) جملة مستأنفة لبيان سبب دخوله عليه وإتيانه بالنون لعله لكونه مع غيره (وقد اكتوى) أي بالنار (سبع كيات) جملة حالية من خباب: أي اكتوى سبع كيات في سبع مواضع من بدنه، وهو نافع مجرب لبعض الأمراض والنهي عنه محمول على من ينسب الشفاء إليه كالجاهلية بخلاف من يراه سبباً، وأن الله الشافي أو على أنه إرشاد للتوكل الأفضل كما حمل عليه حديث «لا يسترقون ولا يكتوون» (فقال: إن أصحابنا الذين سلفوا) أي ماتوا وسلفوا إلى حضرة الحق سبحانه (مضوا) أي ذهبوا من الدنيا (ولم تنقصهم الدنيا) شيئاً مما لهم من المراتب المعدة لهم في الآخرة لأنهم لم يتمتعوا بشيء من مستلذات الدنيا فيكون ذلك منقصا لهم مما أعد لهم في الآخرة، بل انتقلوا وأجورهم موفورة كاملة، وإسناد النقص إلى الدنيا مجاز عقلي من الإسناد إلى السبب: أي لم ينقصه الله شيئاً من درجاته بسبب الدنيا (وإنا) يعني نفسه وأرباب اليسار من الصحابة الذين نالوا من الغنائم وفاض فيهم العطاء (أصبنا مالا) جاء عند الترمذي عنه «لقد رأيتني مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا أملك درهما، وإن في جانب بيتي الآن أربعين ألف درهم» الحديث (لا نجد له موضعا) لزيادته على الحاجة (إلا التراب) أي يدفن فيه ليحفظ من أيدي نحو السراق ففيه جواز دفن المال: أي إذا أعطى حق الله الواجب فيه، أو المراد البناء به ليحصل ريع ذلك بالأجر ونحوها، وعليه اقتصر الشيخ زكريا في «تحفة القاري» (ولولا أن النبيّ نهانا أن ندعو بالموت) ظاهره العموم حتى ولو كان لخوف الفتنة في الدين وكأنه سمع النهي مطلقاً كما في أوّل أحاديث الباب، ويدل له ما يأتي عند الترمذي وإن كان يحتمل أنه من تضرره بألم الكي (لدعوت به، ثم أتيناه مرة أخرى وهو يبني حائطاً) أي جداراً كما في النهاية (له فقال: إن المسلم ليؤجر في كل شيء ينفقه) أي من المال طلباً لمرضاة الله سبحانه (إلا في شيء) بدل من المجرور قبل بإعادة الجار، وهذا باعتبار المعنى أي ما

68 ـــ باب الورع

ينقص ثوابه في كل شيء ينفقه إلا في شيء، وإلا فالمستثنى من كلام تام موجب يجب نصبه ولا يجوز فيه الإبدال (يجعله في هذا التراب عبر في هذا بالجعل لأن الإنفاق إنما يستعمل فيما كان في القرب واستعماله في غيره مجاز، وهذا من كمال خباب ومزيد عرفانه بمولاه فاشتد اتهامه لنفسه ونظره لها بعين النقص، وخشي بمراقبته لمولاه أن يكون ما هو فيه من تلك الدنيا استدراجا، ومن حاسب نفسه قبل أن يحاسب أمن وقت الخوف (متفق عليه. وهذا لفظ رواية البخاري) ولفظ رواية مسلم «دخلنا على خباب وقد اكتوى سبع كيات في بطنه فقال: لولا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به» وقد روى أحمد والترمذي الحديث عن حارثة بن مصرف قال «دخلت على خباب وقد اكتوى سبعا فقال: لولا أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يتمنينّ أحدكم الموت لتمنيته، ولقد رأيتني مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أملك درهما، وإن في جانب بيتي الآن أربعين ألف درهم، ثم أني بكفنه. فلما رآه بكى وقال: لكن حمزة لم يوجد له كفن له إلا بردة ملحاء. إذا جعلت على رأسه قلصت عن قدميه، وإن جعلت على قدميه قلصت عن رأسه حتى مدت على رأسه وجعل على قدميه الإذخر» وليس عند الترمذي «ثم أتى بكفنه الخ» وقد تقدم له نحو هذا الحديث ليس فيه الكيّ وتمنى الموت عن البخاري في باب فضل الزهد في الدنيا. 68 - باب الورع هو عند العلماء ترك ما لا بأس به حذراً مما به بأس، وفي شرح الرسالة القشيرية للشيخ زكريا هو ترك الشبهات وهو الورع المندوب ويطلق على ترك المحرمات وهو الورع الواجب اهـ (وترك الشبهات) بضم أوليه وبضم ففتح خفيف جمع شبهة بضم فسكون كظلمات بالوجهين جمع ظلمة كما تقدم وهو ما لم يتضح وجهاً حله وحرمته. (قال الله تعالى: وتحسبونه هينا) أي سهلاً لا تبعة فيه (وهو عند الله عظيم) أي إثما

وجرماً، والآية وإن نزلت في قصة الإفك لكن المصنف استشهد بذلك فيما عقد له الترجمة، لأن سائر المآثم وإن كان بعضها صغيرة هي بالنظر إلى جراءة مرتكبها على الحدود الإلهية عند الله الله عظيم وزرها، وفي «الصحيح» مرفوعا «لا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش» . (وقال الله تعالى) : ( {إن ربك لبالمرصاد} ) هو مكان يترقب فيه الرصد وهذا تمثيل لإرصاده لعباد بالخير فإنهم لا يفوتونه، وعن ابن عباس: يرصد خلقه فيما يعملون. 1588 - (وعن النعمان) بضم النون وسكون العين المهملة (ابن بشير) بفتح فكسر فتحتية ساكنة تقدمت ترجمته (رضي الله عنهما) في باب المحافظة على السنة (قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الحلال بين) أي ما أحلّ ظهر حليته بأن ورد نص على حله أو مهد أصل يمكن استخراج الجزئيات منه كقوله تعالى: {خلق لكم ما في الأرض جميعاً} (الفجر: 14) فإن اللام للنفع، فعلم منه أن الأصل ما فيه الحلّ إلا أن يثبت ما يعارضه (وإن الحرام بين) أي ما حرم واضح حرمته بأن ورد نص على تحريمه كالفواحش والمحارم وما فيه حدّ أو عقوبة أو مهد أصل مستخرج منه ذلك، كقوله «كل مسكر حرام» (وبينهما) أي البين من الأمرين (مشتبهات) لوقوعها بين أصلين ومشاركتها لأفراد كل منهما، فلكونها ذات جهة إلى كل منهما لم يجز أن تعدم البين عن أحدهما (لا يعلمهنّ كثير من الناس) لتعارض الأمارتين، والجملة صفة مشتبهات، ولم يقل كل الناس لأن العلماء المحققين لا يشتبه عليهم ذلك، فإذا تردد ذلك بين الحلّ والحرمة ولم يكن نص أو إجماع اجتهد فيه المجتهد فألحقه بأحدهما بدليل شرعي، وإذا لم يبق له شيء فالورع تركه. وقد اختلف العلماء في المشتبهات المشار إليها في هذا الحديث فقيل حرام لقوله: فمن اتقى الشبهات الخ، قالوا: ومن لم يستبرىء لعرضه ودينه فقد وقع في الحرام. وقيل هي حلال بدليل قوله: كالراعي يرعى حول الحمى، فدل على أنه لابس الحرام المرموز عنه بالحمى، وأن الترك ورع وتوقفت طائفة (فمن اتقى الشبهات) أي من احترز وحفظ نفسه عنها (فقد

استبرأ) أي طلب البراءة أو حصلها (لدينه) من ذم الشرع (وعرضه) من وقوع الناس فيه لاتهامه بمواقعة المحظورات إن واقع الشبهات. وقيل المراد بالعرض البدن: أي طهر دينه وبدنه، وقيل المراد به موضع المدح والذم من الإنسان سواء في نفسه أو سلفه، ولما كان موضعها النفس حمل عليها من إطلاق المحل على الحال واستبرأ من برىء من الدين والعيب، فأطلق العلم بالحصول وأراد الحصول أو طلب براءته، فالسين فيه للتأكيد على الأوّل لا للطلب إذ الطلب لا يستلزم به الحصول وعلى الثاني للطلب (ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) لأن من سهل على نفسه ارتكاب الشبهة أو صله الحال متدّرجا إلى ارتكاب المحرمات المقطوع بحرمتها أو ارتكب المحرّمات لأن ما ارتكبه ربما كان حراماً في نفس الأمر فيقع فيه (كالراعي يرعى حول الحمى) هو ما حمى من الأرض لأجل الدواب، ويمنع دخول الغير وهذا غير جائز إلا لله ورسوله لحديث «لا حمى إلا الله ورسوله» (يوشك) بضم التحتية وكسر المعجمة: أي يسرع (أن يرتع فيه) أي في ذلك الحمى بناء على تساهله في المحافظة وجراءته على الرعي. ثم نبه بكلمة «ألا» على أمور خطرة في الشرع في ثلاثة مواضع إرشاداً إلى أن كل أمر دخله حرف التنبيه له شأن ينبغي أن يتنبه له المخاطب ويستأنف الكلام لأجله فقال (ألا) وهي مركبة من همزة الاستفهام وحرف النفي فيفيد التنبيه على تحقيق ما بعدها، وإلا فأداة التحقيق لا تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بما يتلقى به القسم (وإن لكل ملك حمى) يمنع الناس عنه ويعاقب عليه والواو عاطفة على «أنبه» مقدر المشير إليه أداة التنبيه. وقال الكازروني: إنه معطوف على لفظ الإنباه، قال: على أنه يفهم من لفظ ألا أنبه ومن قوله إن لكل ملك حمى أحقق، فبهذا التأويل صح العطف إذ عطف الجملة على المفرد لا يستقيم إلا باعتبار أن يتضمن المفرد معنى الفعل كما في {فالق الإصباح وجاعل الليل} (الأنعام: 96) والأولى أن يقال الواو استئنافية دالة على انقطاع ما بعدها عما قبلها (ألا وإن حمى الله محارمه) وهي المعاصي فمن دخلها بالتلبس بشيء منها استحق العقوبة، شبه المحارم من حيث إنها ممنوع التبسط منها بحمى السلطان. ولما كان التورّع والتهتك مما يتبع سلامة القلب وفساده نبه على ذلك بقوله (ألا إن في الجسد مضغة) أي قطعة من اللحم قدر ما يمضغ (إذا صلحت) بفتح اللام أفصح من

ضمها: أي بالإيمان والعلم والعرفان (صلح الجسد كله) بالأعمال والأخلاق والأحوال، وما أحسن قول من قال: وإذا حلت العناية قلباً نشطت في العبادة الأعضاء (وإذا فسدت) بفتح السين المهملة وضمها، والرواية بالاوّل: أي تلك المضغة بالجحود، والشك والكفران (فسد الجسد كله) بالفجور والعصيان (ألا وهي) أي المضغة الموصوفة بما ذكر (القلب) فهو الملك والأعضاء كالرعية، وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الشريعة قال أبو داود السجستاني: الإسلام يدور على أربعة أحاديث ذكر منها هذا الحديث وأجمع العلماء على عظم موقعه وكثرة فوائده (متفق عليه. روياه) أي في مواضع من صحيحيهما (من طرق) جمع طريق وهي رجال السند (بألفاظ متقاربة) بالقاف والراء: أي بعضها يقرب من بعض من حيث المعنى، وفي نسخة بالفاء والواو: أي من جهة المبنى، فرواه البخاري في الإيمان عن أبي نعيم عن زكريا بن أبي زائدة عن الشعبي عن النعمان باللفظ الذي ساقه المصنف، ورواه في البيوع عن عليّ بن عبد الّله بن محمد كلاهما عن سفيان بن عيينة، وعن محمد بن كثير عن سفيان الثوري كلاهما عن أبي فروة الهمداني، وعن محمد ابن المثنى عن ابن أبي عديّ عن عبد الله بن عون كلاهما عن الشعبي عن النعمان بلفظ «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهة، فمن ترك ما شبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أو شك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حمى الله من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه» ورواه مسلم في «البيوع» عن محمد بن عبد الله بن نمير عن أبيه، وعن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع، وعن إسحاق ابن إبراهيم عن جرير عن مطرف وأبي فروة، وعن عبد الله بن شعيب بن الليث عن أبيه عن جده عن خالد بن يزيد عن معبد بن أبي هلال عن عون بن عبد الله بن عتبة، وعن قتيبة عن يعقوب بن عبد الرحمن عن محمد بن عجلان عن عبد الرحمن بن سعيد أربعتهم عن الشعبي عن النعمان كذا في «الأطراف» للمزي. قلت: وأورده مسلم في «صحيحه» من طريق ابن نمير عن أبيه عن زكريا عن

الشعبي عن النعمان، ولم أر في نسختي من «الأطراف» ذكر زكريا بين ابن نمير والشعبي في هذا الإسناد في «الصحيح» باللفظ الذي أورده المصنف عنه، ثم بعد إيراده ذكر طريقيه عن ابن أبي شيبة وإسحاق ابن إبراهيم عن عيسى. بن يونس عن زكريا وقال بهذا الإسناد مثله، وأخرجه عن إسحاق أيضاً عن جرير عن مطرف وأبي فروة، وأخرجه عن قتيبة عن يعقوب، ابن عبد الرحمن القاري عن ابن عجلان عن عبد الرحمن بن سعيد القاري عن الشعبي عن النعمان عن النبيّ بهذا الحديث، إلا أن حديث زكريا أتم من حديثهم وأكثر، وذكر حديث عبد الملك بن شعيب بن الليث «الحلال بين والحرام بين» وذكر مثل حديث زكريا عن الشعبي إلى قوله «يوشك أن يقع فيه» هذه ألفاظ الحديث وطرقه في «الصحيحين» ، وقد رواه أبو داود الترمذي وقال: حسن صحيح والنسائي كلهم في البيوع، ورواه ابن ماجه في الفتن ومداره عند الجميع على الشعبي عن النعمان. 2589 - (وعن أنس رضي الله عنه أن النبيّ وجد تمرة في الطريق) أي كائنة فيه (فقال: لولا) امتناعية (أنى أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها) أن ومعمولاها في تأويل مصدر مبتدأ والخبر محذوف: أي خوفي من كونها من تمر الصدقة موجود لأكلتها والمراد الصدقة التي لم تنته إلى محلها، وإلا ففي قصة برمة بريرة بما تصدق عليها من الشاة قوله «هو لها صدقة ولنا هدية» وقد خص بحرمة قبول الصدقة الواجبة والمندوبة، وحكمته أنها تنبىء عن ذلّ الآخذ وعزّ الباذل، وقد قال «اليد العليا» أي المعطية «خير من اليد السفلى» أي الآخذة. ويؤخذ من الحديث. جواز تملك وأكل ما يجده الإنسان في الأرض من الحقير الذي يعرض عنه غالباً وإن كان متمولاً للعلم بقرائن الأحوال المفيدة للقطع في مثل ذلك أن مالكه أعرض عنه وسامح آخذه، ومن ثم رأى عمر رضي الله عنه رجلاً ينادي على عنبة التقطها فضربه بالدرة وقال: إن من الورع ما يمقت الله عليه: أي لأن الغالب من حال فاعل ذلك أنه إنما يقصد به الرياء والسمعة وإظهار الورع والتعفف.c ويؤخذ من الحديث أنه ينبغي للإنسان إذا شك في إباحة شيء ألا يفعله، لكن هل الترك حينئذ واجب أو مندوب؟ تقدم فيه الخلاف في حديث النعمان، وكلام أئمتنا مصرّح بالثاني لأن الأصل الإباحة والبراءة الأصلية ما لم تعلم جهة محرمة قبل ذلك في شيء بعينه ويشك في زوالها، كأن يشك في شرط من شروط الذبح المبيح هل وجد أم لا، لأن الأصل حينئذ بقاء الحرمة فلا يحلّ إلا بيقين، ثم لا يرعى من الاحتمال في ذلك إلا القريب لأن الظاهر أن تمرّ الصدقة

كان موجودا إذ ذاك، أما الاحتمال البعيد فتؤدي مراعاته إلى التنطع المذموم والخروج عما عرف من أحوال السلف، فقد أتى بجبنة وجبة فأكل ولبس ولم ينظر لاحتمال مخالطة الخنزير لهم ولا إلى صوفها من مذبوح أو ميتة، ولو نظر أحد للاحتمال المذكور لم يجد حلالاً على وجه الأرض، ومن ثم قال أصحابنا: لا يتصوّر الحلال بيقين إلا في ماء المطر النازل من السماء المتلقي باليد (متفق عليه) رواه مسلم في كتاب «الزكاة» . 3590 - (وعن النوّاس) بفتح النون وتشديد الواو آخره سين مهملة (ابن سمعان) بكسر السين وفتحها ابن خالد بن عمرو بن قرط بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة العامري الكلابي، ووقع في «صحيح مسلم» أنه أنصاري وحمل على أنه حليف لهم (رضي الله عنه) الأولى عنهما لأن لأبيه وفادة كذا في «الفتح المبين» ، وكأن اقتصار المصنف عليه دون أبيه لأن ذلك قول ضعيف كما أشار إليه الأثير بقوله في «أسد الغابة» : يقال إن أباه وفد على النبيّ فدعا له النبيّ، وأهدي إلى النبيّ نعلين فقبلهما، وزوّج أخته من النبيّ، فلما دخلت على النبيّ تعوّذت منه فتركها وهي الكلابية وفي المتعوذة خلاف كبير اهـ. وهو صريح في أن المتعوذة عمة النوّاس وبه يدفع قول ابن حجر في «الفتح المبين» : تزوّج النبي أخت النوّاس وهي المتعوذة إلا إن كان ذلك على قول آخر، روى للنواس عن النبيّ سبعة عشر حديثاً، روى منها مسلم ثلاثة، وروى له أصحاب السنن. وقال الكازورني في «شرح الأربعين» : كان من أصحاب الصفَّة وسكن الشام (وعن النبي قال: البر) وهو لمقابلته بالفجور: عبارة عما اقتضاه الشرع وجوبا كما أن الإثم عما نهى عنه الشرع وجوبا أو ندبا، وتارة يقابل بالعقوق فيكون عبارة عن الإحسان كما أن العقوق عبارة عن الإساءة، من بررت فلاناً بالكسر أبرّه برّا فأنا برّ بفتح أوله، وبارّ وجمع الأوّل أبرار والثاني بررة (حسن الخلق) أي معظم البر حسن الخلق: أي التخلق فالحصر فيه مجازي كما في قوله «الحج عرفة» و «الدين النصيحة» والمراد من الخلق المعروف الذي هو طلاقة الوجه وكف الأذى وبذل الندى وأن يحب للناس ما يحب

لنفسه، وهذا راجع لقول بعضهم: هو الإنصاف في المعاملة والرفق في المجادلة والعدل في الأحكام والبذل والإحسان في اليسر والإيثار في العسر وغير ذلك من الصفات الحميدة (والإثم) أي الذنب كما علم من تعريفه وهمزته عوض من الواو كأنه يتم الأعمال: أي يكسرها بإحباطه (ما حاك) أي تردد وتحرك وقيل أي رسخ وأثر (في نفسك) اضطراباً وقلقاً ونفوراً وكراهية لعدم طمأنينتها ومن ثم لم يرض بالاطلاع عليه كما قال (وكرهت أن يطلع عليه الناس) أي وجوههم وأشرافهم إذ المطلق ينصرف للفرد الكامل، والمراد الكراهية العرفية الجازمة لا العادية فقط ككراهة أن يرى آكلاً من حياء أو بخل، ولا غير الجازمة كمن يكره أن يركب بين مشاة تواضعاً فإنه لو رؤى كذلك لم يكره. وقد تبين من الحديث أن للاثم علامتين، وفيه أن للنفس شعوراً من أصل الفطرة بما تحمد وتندم عاقبته ولكن غلبت عليها الشهوة فأوجبت لها الإقدام على ما يضرّها، فإذا عرفت هذا اتضح لك وجه كون التأثير في النفس علامة للإثم لأنه لا يصدر إلا لشعورها بسوى عاقبته، ووجه كون كراهة اطلاع الناس على الشيء دليل الإثم أن النفس بطبعها تحب اطلاع الناس على خيرها وبرّها وتكره ضد ذلك، فكراهتها اطلاع الناس على فعلها ذلك يدل على أنه إثم، ثم هل كل منهما علامة مستقلة على الإثم من غير احتياج إلى الأخرى أولا؟ بل كل جزء علامة، والعلامة الحقيقية مركبة منهما كل محتمل وحينئذ فما وجد فيه العلامتان معا فإثم قطعا كالرياء والزنا وما انتفيتا متلازمتان لأن كراهة النفس تستلزم كراهة اطلاعهم وعكسه، والحديث مخصوص بغير مجرد خطور المعصية ما لم يعمل أو يتكلم (رواه مسلم) وهو من جوامع كلمه بل من أوجزها، إذ البرّ كلمة جامعة لجميع أفعال الخير وخصال المعروف، والإثم كلمة جامعة لجميع أفعال الشرّ والقبائح كبيرها وصغيرها، ولذا قابل بينهما (حاك بالحاء المهملة والكاف: أي تردد فيه) الأولى «فيها» أي النفس. 4591 - (وعن وابصة) بكسر الموحدة بعدها مهملة (ابن معبد) بفتح الميم والموحدة وسكون العين المهملة وبالدال المهملة بن مالك بن عبيد الأسدي من أسد بن خزيمة، قاله

ابن عبد البر وقيل غير ذلك في نسبه (رضي الله عنه) قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عشرة رهط من قومه بني أسد بن خزيمة سنة تسع فأسلموا ورجع إلى بلاده، ثم نزل الجزيرة وسكن الرقة ودمشق ومات بالرقة ودفن عند منارة جامعها، روى له عن النبي أحد عشر حديثاً روى عنه ابناه عمرو وسالم والشعبي وغيرهم، وكان كثير البكاء لا يملك دمعته وله عقب بالرقة (قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال) من باب الإخبار بالغيوب من جملة معجزاته الكبرى (جئت تسأل عن البرّ) جملة حالية من الضمير (قلت: نعم، قال: استفت قلبك) أي اطلب الفتوى منه، وفيه إيماء إلى بقاء قلب المخاطب على أصل صفاء فطرته وعدم تدنسه بشىء من آفات الهوى الموقعة فيما لا يرضى، ثم بين نتيجة الاستفتاء وأن فيه بيان ما سأل عنه فقال (البرّ ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب) أي نفسه وقلبه إن كان من أهل الاجتهاد، وإلا فليسأل المجتهد فيأخذ ما اطمأنت إليه نفسه وسكن إليه قلبه، فإن لم يوجد شيء من ذلك فليترك ما التبس عليه من مطلوبه ولم يدر حله وحرمته. والقلب القوة المودعة في الجزء الصنبوري المسمى بالقلب أيضاً، والنفس لغة: حقيقة الشيء، واصطلاحاً: لطيفة في البدن تولدت من ازدواج الروح بالبدن واتصالهما معاً (والإثم ما حاك في النفس) أي في نفس المجتهد، ولم يستقرّ حله عنده (وتردد في الصدر) ولم ينشرح له (وإن أفتاك الناس) أي غير أهل الاجتهاد من أولى الجهل والفساد وقالوا لك إنه حق، فلا تأخذ بقولهم لأنه قد يوقع في الغلط وأكل الشبهة أو مطلق الناس فيشمل ما أفتى فيه المفتي بالحلّ في ظاهر الحكم الشرعي، والورع تركه، وذلك كمعاملة من أكثر ماله حرام فلا يأخذ منه شيئاً ولا يعامله، وإن أباح المفتي معاملته لعدم تعين ما يأخذه منه للحرام، فلا يأخذه ورعا لاحتمال كونه الحرام في نفس الأمر. قال الكازروني: ولأن الفتوى غير التقوى، وجملة «وإن أفتاك الخ» معطوفة على مقدر: أي إن لم يفتك الناس وإن أفتاك وقوله (وأفتوك) هو بمعنى ما قبله كرر للتأكيد والحاصل أن فيه الأمر بترك الشبهات التي تحصل للنفوس المعتد بها الحرارة عند تناولها وأخذها خشية أن تكون حراماً في نفس الأمر، وتقدم أن محل ذلك إذا كان عن مستند قريب يعتد بمثله شرعا وإلا فمراعاة ذلك تنطع (حديث حسن) قال في «الفتح المبين» : بل «صحيح» (رواه أحمد) يعني ابن حنبل الشيباني الإمام المشهور أفردت

ترجمته بالتأليف ومنها كتاب حافل لابن الجوزي، ولد ببغداد سنة أربع وستين ومائة وتوفي بها ضحوة الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائتين وله سبعة وسبعون سنة (و) أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن السمرقندي (الدارمي) منسوب إلى دارم بطن من تميم، مات سنة خمس وخمسين ومائتين (في مسنديهما) . المسند: هو ما جمع من الأحاديث على مسانيد الصحابة كل مسندّ على حدة ويقال أول مسند صنف مسند أبي داود الطيالسي، وعن الدارقطني أول من صنف مسنداً وتتبعه أبو نعيم بن حماد، وتبع المصنف في عد كتاب الدارمي من المسانيد الإمام ابن الصلاح، وقد تعقبه الحافظ زين الدين العراقي في «ألفيته» وشرحها في ذلك وقال: إنه مؤلف على الأبواب لا على المسانيد. 5592 - (وعن أبي سروعة بكسر السين المهملة) وإسكان الراء وبالعين المهملة (عقبة ابن الحارث) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب المبادرة إلى الخير (أنه تزوّج ابنة لأبي إهاب ابن عزيز) قلت: وفي كتاب الشهادات من البخاري أنه تزوّج أم يحيى بنت أبي إهاب فهذه كنيتها واسمها غنية، ذكره الدارقطني في المؤتلف والمختلف. قال السيوطي في «التوشيح» : تكنى أم غنى، قال الحافظ بن زين الدين العراقي في مبهماته: يعني بغين معجمة ونون مكسورة وياء آخر الحروف قال وقال والذي في «شرح ألفيته» أنه وقع في بعض طرق الحديث عن عقبة بن عامر بن الحارث قال: تزوجت زينب بنت أبي إهاب. قلت: وقد عزا الحافظ المزي في «الأطرف» إلى البزار أنه أخرج الحديث عن عقبة قال «تزوجت زينب بنت أبي إهاب» قال الحافظ في أوائل الشهادات من «الفتح» : قد تقدم في العلم أن اسمها غنية بفتح المعجمة وكسر النون بعدها تحتية مثقلة، ثم وجدت في النسائي أن اسمها زينب فلعل غنية لقبها أو كان اسمها فغير بزينب كما غير اسم غيرها، والأمة المذكورة لم أقف على اسمها اهـ. وأبو إهاب لم أر من ذكر اسمه فكأن كنيته هي اسمه، وهو ابن عزيز بن قيس بن سويد بن ربيعة بن زيد بن عبد الله بن دارم التميمي، قاله خليفة، وقد ذكره

في «أسد الغابة» قال: حليف بني نوفل (فأتته امرأة) في رواية البخاري في البيوع امرأة سوداء، وفي رواية له في الشهادات: فجاءت أمة سوداء (فقالت: إني قد أرضعت عقبة والتي قد تزوج بها، فقال لها عقبة: ما أعلم أنك أرضعتني ولا أخبرتني) قال الحافظ في «الفتح» : عند الدارقطني من طريق أبي أيوب عن مليكة عن عقبة: فدخلت علينا: مرأة سوداء، فسألت فأبطأنا عليها فقالت: تصدّقوا عليّ فوالله لقد أرضعتكما جميعاً، وقوله «ولا أخبرتني» على ما أعلم وأتى به ماضياً لأن نفيه باعتبار المعنى وبأعلم مضارعاً لأن نفي العلم حاصل في الحال (فركب) أي من مكة كما في «التوشيح» (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة) حال من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا متعلق بركب (فسأله) أي عن حكم هذه النازلة (فقال رسول الله: كيف) ظرف يسأل به عن الحال وهو خبر محذوف: أي كيف اجتماعكما بعد (وقد قيل) جملة في محل الحال في المقدر: أي كيف اجتماعكما على حال قولها إنكما أخوان من الرضاعة. إذ ذاك بعيد من المروءة (ففارقها عقبة) أي صورة أو طلقها احتياطاً أو ورعاً. ولا حكماً بثبوت الرضاع وفساد النكاح، إذ ليس قول المرأة الواحدة شهادة يجوز بها الحكم، نعم أخذ بظاهره الإمام أحمد فقال: الرضاع يثبت بشهادة المرضعة وعدمه، وفي المسألة خلاف طويل بينه الحافظ في كتاب الشهادات في باب شهادة المرضعة من «فتح الباري» (ونكحت زوجا غيره) هو ضريب بضم المعجمة وفتح الراء آخره موحدة ابن الحارث، وفي الحديث الحض على ترك الشبه والأخذ بالأحوط في الأمر (رواه البخاري) في العلم والبيوع والشهادات والنكاح من «صحيحه» ورواه أبو داود والترمذي والنسائي (إهاب بكسر الهمزة) أي وتخفيف الهاء وبالموحدة (وعزيز بفتح العين وبزاي مكررة) قال في فتح الباري: ووقع عند أبي ذرّ عن المستملي والحموي بزاي وآخره راء مصغر، والأوّل هو الصواب. 6593 - (وعن الحسن) بفتح الحاء والسين المهملتين والنون (ابن عليّ) بن أبي طالب ابن

عبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وريحانته من الدنيا (رضي الله عنهما) تقدمت ترجمته وحديثه في باب الصدق (قال: حفظت من رسول الله: دع) الظاهر أنه أمر ندب وإرشاد وحض على مكارم الأخلاق بالتورّع عن الشبه وليس أمر إيجاب بحيث يأثم تاركه ويكون عاصياً بتركه (ما يريبك إلى ما لا يريبك) بفتح التحتية وضمها والفتح أفصح، تقول رابني فلان: إذا رأيت منه ما يريبك وتكرهه، وهذيل تقول أرابني (رواه الترمذي) «في الزهد» من جامعه (وقال: حديث حسن) الذي تقدم في باب الصدق وقال: حسن صحيح، وكذا نقله عنه المزي في «الأطراف» ، وحينئذ فلعل سقوط «صحيح» من بعض النسخ أو سهو من قلم المصنف، ورواه النسائي. والحديث قد تقدم مع ترجمة الحسن، وشرح الحديث في باب الصدق أوائل الكتاب بزيادة في آخره: فإن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة (ومعناه) أي الحديث (اترك ما تشك فيه) أي مما تعارض فيه دليلاً الحل والتحريم (وخذ ما لا تشك فيه) مما قام النص على حله، أو قال بحله مجتهد، قياساً على ما جاء حله في النص ولم يعارضه ما يرده. والمصنف بين هذا المعنى، وسكت عن ضبط المضارع لأنه قدمه ثمة، وقد سبق له نظير ذلك كما نبهنا عليه قريباً. 7594 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه غلام) قال الحافظ في «الفتح» : لم أقف على اسمه، ووقع لأبي بكر مع النعيمان بن عمر وأحد الأحرار من الصحابة قصة ذكرها عبد الرزاق بإسناد مرسل «أنهم نزلوا بماء فجعل النعمان يقول لهم يكون كذا، فيأتونه بالطعام فيرسله إلى الصحابة، فبلغ أبا بكر فقال: أراني آكل كهانة النعيمان منذ اليوم، ثم أدخل يده في حلقه فاستقاءه» وفي الورع لأحمد عن ابن سيرين: لم أعلم أحداً استقاء من طعام غير أبي بكر، فإنه أتي بطعام فأكل، ثم قيل له جاء به ابن النعيمان قال: وأطعمتموني كهانة ابن النعيمان؟ ثم استقاء. ورجاله ثقات لكنه مرسل، ولأبي بكر قصة أخرى في ذلك أخرجها يعقوب بن أبي شيبة في «مسنده» (يخرج له الخراج) أي يأتيه بما

يكسبه من الخراج، وهو ما يقرره السيد على عبده من مال يحضره من كسبه وسيأتي في الأصل (وكان أبو بكر يأكل من خراجه) أي بعد أن يسأله عنه كما في رواية الإسماعيلي (فأتاه في ليلة بكسبه فأكله) ولم يسأله ثم سأل (فقال له الغلام: تدري) همزة الاستفهام قبله مقدرة: أي أتدري (ما هذا) أي الذي أكلته: أي سبب حصوله ووصوله (فقال أبو بكر: وما هو) سؤال عن بيان حقيقة جهة وصوله (فقال: كنت تكهنت لإنسان) قال الحافظ: لم أعرف اسمه (في الجاهلية) هو ما قبل الإسلام سميت بذلك لكثرة جهالاتها (وما أحسن الكهانة) فجمع إلى قبح الكهانة قبح التشييع بما ليس له والخديعة كما قال (إلا أني خدعته) وهو استثناء منقطع، والخدع الإطماع بما لا وصول إليه. وفي «مفردات الراغب» : الخداع إنزال الغبي عما هو بصدده بأمر يبديه على خلاف ما يخفيه (فلقيني فأعطاني) أي في الإسلام (لذلك) أي لأجله، وفي نسخة من البخاري بالموحدة: أي عوض تكهني له (هذا الذي أكلت منه) وكأنه دفع له حينئذ لأنه تبين له إذ ذاك ما كان قال قبل (فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه) الظرف في محل الصفة لشيء، قال ابن التين: إنما استقاء أبو بكر تنزّهاً لأن أمر الجاهلية وضع، ولو كان في الإسلام لغرم مثل ما أكل أو قيمته ولم يكفه القيء. قال الحافظ: كذا والذي يظهر أن أبا بكر إنما قاء لما ثبت عنده من النهي عن حلوان الكاهن وحلوان الكاهن ما يأخذه على كهانته، والكاهن من يخبر بما سيكون من غير دليل شرعي، وكان ذلك قد كثر في الجاهلية قبل ظهور النبيّ (رواه البخاري) في أيام الجاهلية من «صحيحه» (الخراج) بفتح أوليه وتخفيف ثانيه آخره جيم (شيء يجعله السيد على عبده يؤديه إلى السيد كل يوم) أي مثلاً، إذ منه ما تجعل المرأة على عبدها والسيد على أمته أو يجعل عليه في الجمعة أو في الشهر أو في العام، وكأن ما ذكر لأنه الغالب خصوصاً وفي التوقيت بنحو شهر تعويض لضياع ما يوظف عليه (وباقي كسبه يكون

للعبد) أي يبيح له السيد أن ينتفع به إلا أنه لا يملكه العبد ولا يخرج عن ملك سيده، إذ لا يملك الرقيق شيئاً وإن ملكه سيده. 8595 - (وعن نافع) مولى ابن عمر تابعي جليل (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان فرض) أي قدر (للمهاجرين الأولين) أي لكل منهم: أي من فيء ديوان العطاء (أربعة آلاف) أي درهم (وفرض لابنه) أي عبد الله مع أنه منهم (ثلاثة آلاف وخمسمائة) احتياطاً (فقيل له) لم يتعرض الحافظ لبيان القائل (هو من المهاجرين) أي فينبغي أن يكون له مثل ما لكل مهاجر (فلم نقصته؟) أي خمسمائة فالمفعول الثاني محذوف لأن نقص جاء قاصراً نحو حديث «ما نقص مال من صدقه» ومتعدياً لاثنين نحو نقصت المال ديناراً وما نحن فيه من الثاني (فقال: إنما هاجر به أبوه) كذا في نسخ الرياض أبوه مرفوعاً بالواو. والذي رأيته في أصل مصحح معتمد من البخاري: أبواه بصيغة المثنى بتغليب الأب على الأم، كالعمران في تثنية أبي بكر وعمر والقمران في تثنية شمس وقمر، ونسبة المهاجرة به إلى الأم مجاز، والمهاجر به حقيقة إنما هو أبوه (يقول ليس هو كمن هاجر بنفسه) أي كأنه حينئذ كان في كنف أبويه، فليس هو كمن هاجر بنفسه وعانى كلفتها وذاق مرارة وعثاء السفر ومشقتها. وجاء في رواية الداودي: فقال عمر لابن عمر: إنما هاجر بك أبواك. وكان سن ابن عمر حين هاجر به أبوه إحدى عشرة سنة، ووهم من قال ثنتي عشرة سنة أو ثلاث عشرة لما ثبت في «الصحيح» من أنه عرض يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة، وكانت أحد في شوال سنة ثلاث (رواه البخاري) في أبواب الهجرة في «صحيحه» . 9596 - (وعن عطية بن عروة) بضم المهملة وسكون الراء قال المزي في الأطراف: ويقال أبو عمرو بن عوف ويقال أبو سعد (السعدي) بفتح المهملة وسكون الثانية والدال مهملة أيضاً. قال في «أسد الغابة» : من سعد بن بكر. وفي «أطراف المزي» : من سعد من بني خيثم بن سعد بن بكر بن هوازن اهـ (الصحابي رضي الله عنه) روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ

69 ـــ باب استحباب العزلة

ثلاثة أحاديث (قال: قال رسول الله: لا يبلغ العبد) أي لا يصل (أن يكون من المتقين) أي من الموصوفين بكمال التقوى، فإن المطلق ينصرف إلى الفرد الكامل (حتى يدع) أي يترك خشية من الله (ما لا بأس به) أي بظاهر الفتوى أو مطلقاً (حذراً) بفتح أوليه مفعول مطلق لفعل هو وفاعله في محل الحال: أي حال كونه يحذر حذراً. أو مفعول له (لما) أي للذي (به بأس) وهذا من باب قوله «فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه. ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام» (رواه الترمذي) في الزهد من «جامعه» (وقال: حديث حسن) غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ورواه ابن ماجه في الزهد من «سننه» أيضاً، والحاكم في «مستدركه» ، والله أعلم. 69 - باب استحباب العزلة بضم المهلة وسكون الزاي اسم مصدر اعتزله وتعزله: أي تجنبه كما في «الصحاح» ، قال: ويقال العزلة عبادة (عند فساد الزمان) أي تغيره بحسب ما يظهره الله فيه من فساد بعد صلاح أهله كأن يبدو الرياء والكذب بعد الصدق والخيانة بعد الأمانة وهكذا (أو) عند (الخوف) أي الخشية (من فتنة) أي محنة (في الدين) بسبب الدين التي تنشأ عن الاجتماع به كأن يداهنهم على محرّم أو يرى منهم منكراً أو يقرهم عليه أو نحو ذلك أي وإن لم يكن ذلك من فساد الزمان وإنما ذلك ناشىء عن اجتماع مخصوص له (ووقوع في حرام وشبهات ونحوها) معطوفة على محنة من عطف الخاص على العام، وكون الوقوع في الشبه من المحنة في الدين إما باعتبار كونها حراماً في نفس الأمر، وأن الوقوع فيها يجرّ إلى الوقوع فيه كما تقدم في قوله «ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام» وفهم من الترجمة فضل الخلطة عند الأمن من ذلك. قال المصنف: المختار تفضيل المخالطة لمن لا يغلب على ظنه وقوع المخالفة بسببها، فإن أشكل فالعزلة أولى، وسيأتي فيه مزيد في الباب بعده.

(قال الله تعالى) : ( {ففرّوا إلى الله} ) أي من جميع ما عداه، وهوأمر بالدخول في الإيمان بالله وطاعته وجعل الأمر بذلك بلفظ الفرار تنبيهاً على أن وراء الناس عقاباً وعذاباً وأمراً حقه أن يفر منه فجمعت لفظة ففروا التحذير والاستدعاء، وينظر إلى هذا المعنى قوله «ولا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك» الحديث. قال الحسين بن الفضل: من فرّ إلى غير الله لم يمتنع من الله ( {إنى لكم نذير مبين} ) يجب أن ينذر ويحذر، أو يبين كونه منذراً من الله بالمعجزات. 1597 - (وعن سعد بن أبي وقاص) واسمه مالك، وسعد أحد العشرة المبشرة بالجنة تقدمت ترجمته (رضي الله عنه قال: سمعت النبي يقول: إن الله يحبّ) المراد من المحبة لاستحالة قيام حقيقتها من الميل النفساني به تعالى غايتها، مجازاً مرسلاً من إطلاق اللازم وإرادة الملزوم من التوفيق للطاعة أو الإنابة بأحسن الفضل أو الثناء عليه عند ملائكته أو يكون صفة فعل أو إرادة ذلك فتكون صفة ذات (العبد) أي المكلف ولو حرّا وهو اسنى أوصاف الإنسان (التقي) الممتثل للأوامر والمجتنب للنواهي (الغني) الغنى المحمود شرعاً الآتي بيانه في الأصل (الخفي) بالخاء المعجمة هذا هو الموجود في النسخ والمعروف في الروايات. وذكر القاضي عياض أن بعض رواة مسلم رواها بإهمال الحاء، ومعناه بالإعجام الخامل المنقطع إلى العبادة والاشتغال بها وبأمور نفسه التي تعنيه دينا ودنيا. وقال آخرون: هو الذي يعتزل الناس ويخفي عنهم مكانه، وبالإهمال الوصول للرحم، اللطيف بهم وبغيرهم من الضعفاء، والصحيح المعجمة. ففيه دليل تفضيل الاعتزال على الخلطة، أما مطلقاً كما قيل به، أو عند خوف فتنة في الدين كما جرى عليه المصنف وترجم به تبعاً للكثير (رواه مسلم) وأحمد كما في «الجامع الصغير» (المراد بالغني) بفتح المعجمة أي المراد من الغني المذكور في الحديث (غني النفس) كذلك، ويصح أن يقرأ بكسر المعجمة وبالقصر فيهما، وحينئذ فيكون المعنى المراد بالغنى المشتق منه الغنى في الحديث، ويؤيد هذا قوله (كما

سبق في الحديث الصحيح) أي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي «ليس الغني عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس» ويؤيد الأول سلامته من التكلف والتقدير في الثاني. 2598 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رجل) قال الحافظ: لم أقف على اسمه، ويبعد تفسيره بما جاء في حديث أن أبا ذرّ سأل عن ذلك أنه جاء عند البخاري في كتاب الرقاق: جاء أعرابيّ وأبو ذرّ لا يحسن أن يقال فيه إنه أعرابي (أيّ الناس أفضل) وعند البخاري في رواية «أي الناس خير» وفيه روايات أخر. وقوله: (يا رسول الله) تلذذ بذكره واستعذاب لمخاطبته، قال الشاعر: أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره هو المسك ما كررته يتضوّع وفي النداء به الإيماء إلى سبب توجيه السؤال إليه عن ذلك، وأن مثل هذا لا يعلم إلا من حضرة الحق سبحانه فيطلب معرفته من أمينه على وحيه (قال) أتى به على طريق الاستئناف لأن المراد الإخبار عن حصول جواب السؤال مع قطع النظر عن كونه عقبه كما هو مدلول الفاء أو بعده كما هو مدلول ثم أو غير ذلك، وقوله (مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله) خبر مبتدأ محذوف التقدير هو: أي الأفضل مؤمن، وقوله في سبيل الله) هو في لسان الشرع عبارة عن جهاد الكفار وإعزاز الدين: أي يقاتل بنفسه ويحمل ويعين بماله في ذلك، وقد يراد منه مطلق طاعة الله سبحانه (قال ثم من) أي بعده في ذلك (قال: ثم) أتى بها في الجواب مع وجودها للتنصيص على نزول مرتبة مدخولها عمن قبله،: أي ثم بعده (رجل) وعند مسلم: مؤمن (معتّزل في شعب من الشعاب) فرجل مبتدأ محذوف الخبر عكس ما قبله، والشعب بكسر الشين المعجمة: هو الطريق في الجبل وما انفرج بين الجبلين ومسيل الماء. وقوله (يعبد ربه) زاد مسلم في رواية له «يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة حتى يأتيه

اليقين ليس من الناس إلا في خير» والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لبيان الحامل له على الاعتزال، فإن في الاجتماع بالناس الشغل عن ذلك. وفي الخلوة الجلوة، ويجوز إعرابها خبراً بعد خبر، ولا ينافي هذا الحديث حديث «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» وحديث «خيركم من طال عمره وحسن عمله» ونحوهما لأن هذا الاختلاف بحسب الأوقات والأقوام والأحوال، وفي الحديث فضل العزلة به. قال الحافظ: والذي يظهر أنه محمول على ما بعد عصر النبيّ (وفي رواية) وهي للبخاري في «الجهاد صحيحة» إلا أنه قال: ثم مؤمن في شعب من الشعاب (يتقي) الله أي لمراقبته مولاه وعلمه بأنه رقيب عليه محيط به (ويدع الناس) أي يتركهم (من شره) باعتزاله عنهم وانفراده فلا يصل إليهم شرّه، ثم جملة يتقي ربه عندهما آخر الحديث الذي أورده المصنف، وكأنه غفل رحمه الله عن ذلك فاحتاج لعزوه إلى رواية أخرى (متفق عليه) فأخرجه البخاري في الجهاد وفي الرقاق، وأخرجه مسلم في الجهاد، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي في الجهاد، ورواه ابن ماجه في الفتن وقال الترمذي حسن صحيح. 3599 - (وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوشك) بضم التحتية وكسر الشين المعجمة. قال في «الصحاح» والعامة تفتح الشين وهي لغة رديئة: أي يقرب (أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال) قال ابن مالك: في الحديث شاهد على إسناد أوشك إلى أن ومنصوبها وغنم نكرة موصوفة اسم يكون، والخبر قوله خير، والمراد بالمسلم الجنس، وقدم الخبر للاهتمام بالاعتزال لأن الكلام مسوق فيه لا في الغنم ولذا أخرها. قال في «الفتح» : ويجوز العكس بأن يكون خير اسمها مال الخبر والأشهر في غنم الرفع، وقيل يجوز رفع الجزءين على الابتداء والخبر. والجملة في موضع نصب خبر يكون، واسمها

ضمير شأن لأنه كلام يتضمن تحذيراً وتعظيماً وتقديم ضمير الشأن مؤكد لمعناه، قال الحافظ: ولا يخفى تكلفه (ومواقع القطر) أي الغيث ومواقعه هي مواضع الكلأ (والغيث) لأن المطر إذا أصاب الأرض أعشبت (يفر بدينه من الفتن) قال الكرماني: جملة حالية من الضمير المستكن في يتبع أو المسلم إذا جوّزنا الحال من المضاف إليه فقد وجد شرطه وهي شدة الملابسة فكأنه جزؤه. ويجوز أن تكون استئنافية وهو واضح اهـ (رواه البخاري) في الإيمان وفي الجزية والفتن ورواه أبو داود في الفتن، ورواه النسائي في الإيمان، وابن ماجه في الفتن (وشعف الجبال) بفتح الشين المعجمة والمهملة بعدها فاء جمع شعفة كأكم وأكمة وجمعها شعاف (أعلاها) قال الحافظ: والماء والمرعى يكون فيها ولا سيما في بلاد الحجاز. والخبر دالّ على فضيلة العزلة لمن خاف على دينه. 4600 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ما بعث الله نبياً) يحتمل أن يكون المراد من النبي مطلق من أوحى إليه بشرع سواء أمر بتبليغه أو لا، فيفسر البعث بالإيحاء، ويحتمل أن المراد منه الرسول من إطلاق العام مراداً به الخاص وقرينته قوله بعث: أي أرسل (إلا رعى) وفي نسخة من البخاري راعي بصيغة اسم الفاعل (الغنم) وذلك ليتمرّنوا برعيها على ما سيكلفون من القيام بأمر الأمة ولأن في مخالطتها يحصل الحلم والشفقة لأنهم إذا صبروا على رعيها، وجمعها بعد تفريقها في المرعى، ونقلها من مسرح إلى آخر، ودفع غدرها من سبع وغيره كالسارق، وعلموا اختلاف طباعها وشدة تفرقها مع ضعفها واحتياجها إلى المعاهدة، ألفوا من ذلك الصبر على الأمة، وعرفوا اختلاف طباعها وتفاوت عقولها، فجبروا كسرها ورفقوا بضعفائها وأحسنوا التعاهد لها فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك من أول وهلة لما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعى الغنم، وخضت الغنم بذلك لكونها أضعف من غيرها فهي أسرع انقياداً من غيرها (فقال أصحابه: وأنت) بحذف همزة الاستفهام: أي وأنت أيضاً رعيتها (فقال نعم) ذكره لذلك بعد علم

كونه أكرم خلق الله على الله من عظيم تواضعه لربه، وفيه اعتراف بمنة الله سبحانه، وفيه التحريض للأمة على سلوك ذلك (كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة) قيل المراد بالقيراط هنا جزء من الدينار والدرهم، وقال إبراهيم الجرمي: قراريط اسم مرعى بمكة ولم يرد القراريط من الفضة، وصوّبه ابن الجوزى تبعاً لابن ناصر وخطأ الأول، لكن رجح الأول آخرون بأنه لا يعرف أهل مكة بها محلاً يقال له القراريط (رواه البخاري) في الإجارة من صحيحه، ورواه ابن ماجه في الإجارة من «سننه» . 5601 - (وعنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من خير معاش) والمراد: أي عيش به الحياة (الناس لهم) قال المصنف: أي من خير أحوال عيشهم (رجل) هو على تقدير مضاف: أي معاش رجل فحذف وأقيم المضاف إليه مقامه فارتفع (ممسك عنان) بكسر المهملة وبالنونين الخفيفتين (فرسه في سبيل الله) حال من رجل لتخصيصه بالوصف أو وصف له، والمراد به جهاد الكفار، وقوله (يطير على متنه) يجوز فيه الوجهان (كلما) ظرف لقوله طار أي في وقت (سمع هيعة) بفتح الهاء والعين المهملة وسكون التحتية بينهما (أو) يحتمل أن تكون شكاً من الراوي ويقرّ به قول المصنف الآتي: والفزعة نحوه، ويحتمل أنها للتنويع بناء على ما سيأتي ثمة من الفرق بينهما (فزعة) بفتح الفاء والمهملة وسكون الزاي بينهما (طار عليه) أي على فرسه وهو كما في «المصباح» يطلق على الذكر والأنثى من الخيل (يبتغي القتل) أي من الكفار له (أو الموت) أي حتف أنفه (مظانه) أي فيما يظن وجوده فيه: أي يطلب ذلك في مواطنه التي يرجى فيها لشدة رغبته في الشهادة. وفيه فضيلة الموت في سبيل الله وإن لم يقتله العدوّ، وجملة يبتغي الخ مستأنفة أتى بها لبيان سبب ملازمته عنان فرسه: أي الحامل له على ذلك مزيد رغبته في الشهادة وإعلاء كلمة الله سبحانه (أو) للتنويع ويحتمل كونها بمعنى الواو فإن كلاً منهما عيشه محمود آخره (رجل في غنيمة) بضم الغين المعجمة وفتح النون وسكون التحتية والتصغير للتقليل إيماء إلى الإعراض عن الاستكثار من الدنيا والاقتصار على ما تدعو إليه الحاجة (في رأس شعفة من هذه الشعف)

الظرف الأول في محل الصفة لغنيمة والثاني صفة لشعفة: أي في أعلى جبل من هذه العوالي (أو) للتنويع (بطن واد من هذه الأودية) جمع قلة لواد والوادي كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذاً للسيل وذلك لأن صاحب الغنيمة تابع للكلأ سواء كان في الأعلى أو في الأسفل. وقوله (يقيم الصلاة) جملة حالية من رجل لتخصيصه بالوصف أو مستأنفة جىء بها لبيان ما لأجله كان من ذوي المعاش النسبي ومعنى يقيم الصلاة: أي يؤديها جامعة لأركانها وشرائطها وآدابها (ويؤتي الزكاة) أي المفروضة (ويعبد ربه) بأنواع الطاعات (حتى يأتيه اليقين) أي الموت المتيقن لحاقه (ليس من الناس) أي من أمورهم وأحوالهم (في شيء) من الأشياء (إلا في خير) فهو استثناء من أعم الأشياء كما قدرناه لاعتزالهم عنه ومجانبته لهم، والجملة في محل الحال من فاعل يقيم فيكون حالاً متداخلة، أو من رجل لتخصيصه بالوصف فيكون حالاً مترادفة إن أعربت الجملة السابقة حالاً (رواه مسلم) وجعله المزي في «الأطراف» ، والحديث الذي نقله المصنف في أول الباب وقال إنه متفق عليه واحداً: أي باعتبار المعنى وإن تفاوت في بعض المبنى (يطير) بفتح أوله (أي يسرع) وأراد به مع بيان معنى طار المذكور في الحديث التنبيه على أنه من باب ضرب (ومتنه) بفتح الميم وسكون الفوقية بعدها نون (ظهره) مأخوذ من متن الأرض وهو ما صلب وارتفع منها (والهيعة) بضبطه السابق (الصوت للحرب) في «شرح مسلم» للمصنف: الصوت عند حضور العدو، وفي «النهاية» : الهيعة الصوت الذي يفزع منه ويخافه عدو، وبها يعلم أن ما فسره به المصنف مراده بيان المراد في خصوص الحديث بدليل السياق، لا تفسير مطلق الهيعة لأنه أعم مما ذكره (والفزعة) بالضبط السابق (نحوه) هذا محتمل للتوافق كما جرت به عادة المحدثين من استعمالهم فيما يكون معناه موافقاً لمعنى ما قبله، فإن توافقا لفظاً ومعنى قالوا فيه «مثله» وهو ما يثبت عليه كون «أو» في الحديث للشك، ومحتمل أن يراد به القريب فيكون غير ما قبله وهذا أقرب، ففي شرح مسلم للمصنف الفزعة النهوض إلى العدو، وإنما كان حينئذ قريباً، لأنه إنما يكون عند الصوت (ومظان الشيء) بفتح الميم والظاء

70 ـــ باب فضل الاختلاط بالناس

المعجمة جميع مظنة بفتح الميم وكسر الظاء كما في «المصباح» (المواضع التي يظن وجوده فيها) أي ظناً قوياً يقرب أن يلحق بالعلم، ففي «المصباح» المظنة بالكسر: العلم وهو حيث يعلم الشيء «قال النابغة: فإن مظنة الجهل الشباب» . وقال ابن فارس مظنة الشيء موضعه ومآلفه اهـ (والغنيمة بضم الغين) المعجمة وسكت عن باقي ضبطه الذي ذكرناه لدلالة ما ذكره عليه عند العارف بصيغ التصغير (تصغير الغنم) بفتح أوليه، قال في «المصباح» : وتدخله الهاء إذا صغر فيقال غنيمة، لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كانت لغير الآدميين وصغرت فالتأنيث لازم لها (والشعفة بفتح الشين) أي المعجمة (والعين) أي المهملة، وكان الظاهر ذكر هذا الضبط عند ذكر الشعف أولاً وإحالة ما هنا عليه ولعل المصنف تركه ثمة نسياناً وذكر هنا استدراكاً (وهي أعلى الجبل) والله أعلم. 70 - باب فضل الاختلاط بالناس أي عند السلامة مما ذكر في الباب قبله، والناس اسم جنس محلي بأل، فهو من صيغ العموم فيحتمل بقاؤه على عمومه ويكون الشرط مقدراً في الكلام بدليل السياق «بالوحدة» ويحتمل أن يراد به الخصوص: أي الذين ينبغي الاختلاط بهم (وحضور جمعهم) بضم ففتح جمع جمعة بضم فسكون أو فتح (وجماعاتهم) جمع جماعة: أي في الصلوات المكتوبات (ومشاهد الخير) من الأعياد (ومجالس العلم) والتذكير بالله تعالى (ومجالس الذكر معهم) الظرف متعلق بحضور: أي حضوره ما ذكر مع المسلمين وفي جملتهم ليندرج معهم في ثوابهم ولتعود بركة الفالح على غيره (وعيادة مريضهم) وسيأتي أنها مندوبة (وحضور جنائزهم) وهي مندوبة إن حصل الكفاية من نقله إلى المقبرة

بسواء لسقوط الطلب عنه حينئذ، وهل يثاب عليه ثواب الفرض كما يثاب المصلي على جنازة صلى عليها قبل أو يفرق؟ كل محتمل والله أعلم (ومواساة محتاجهم) وتقدم أنها فرض كفاية على مياسير المسلمين (وإرشاد جاهلهم) وهو فرض كفاية بذلاً للنصيحة الواجبة لعامة المسلمين بعضهم على بعض (وغير ذلك من مصالحهم) التي يتمكن منها بالاجتماع بالناس (لمن قدر على الأمر بالمعروف والنهي عى المنكر وقمح نفسه عن الإيذاء والصبر على الأذى) اللام تنازعها المصادر المذكورة فكل يطلبها معمولة له والأولى جعله معمولاً للأخير كما هو مذهب البصريين وحذف معمول العوامل السوابق عليه، لأنه فضلة وحذفه في مثل ما ذكر جائز بل واجب، ولو أعربته معمول الأول لوجب إضمار مثله في كل من المذكورات بعده خلافاً لمن أجاز الحذف في ذلك كما أشار إليه ابن هشام في توضيحه، ويؤخذ من هذا أن من لم يقدر على ما ذكر فيه فالاعتزال أفضل له لما تقدم، فإن أشكل الأمر عليه قال المصنف: فالعزلة أولى. (اعلم) أيها الصالح للخطاب (أن الاختلاط بالناس على الوجه الذي ذكرته) أي من شهود خيرهم دون شرهم وسلامتهم من شره (هو المختار الذي كان عليه رسول الله) إذ كان يجمع الناس ويقيم لهم أعمالهم ويبين لهم أحوالهم (وسائر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم) أي وباقي الأنبياء فيكون من عطف المغاير، أو وجميع الأنبياء بناء على أن سائر يجيء بمعنى الجميع، وهو ما ذكره الجوهري ووافقه عليه الجواليقي أول شرح آداب الكتاب واستشهد له. قال المصنف: وإذا اتفق هذان الإمامان على نقل ذلك فهو لغة. وحينئذ فيكون من عطف العام على الخاص، وذكر ذلك بعد ما قبله إيماء إلى أن هذا سنن قديم ونهج مستقيم وسيأتي دليل استحباب الصلاة والتسليم على سائر الأنبياء في كتاب الصلاة على النبيّ (وكذلك) أي وكالمذكور من الأنبياء (الخلفاء الراشدون) هم الأربعة الذي تمت بهم مدة الخلافة المشار إليها في حديث «الخلافة بعدى ثلاثون سنة ثم تصير ملكاً عضوضاً» (ومن بعدهم من الصحابة) أفرد الخلفاء بالذكر لمزيد فضلهم وكمال علمهم ولمزيد ملازمتهم المصطفى وباقي الصحابة رضي الله عنهم لا يساوونهم في ذلك، والصحابة بفتح الصاد وبالحاء المهملة، قال في المصباح: جمع صاحب وكذا يجمع على صحب وأصحاب اهـ. والذي عليه سيبويه أن صحبا اسم جمع لا جمع وما جرى عليه في المصباح هو قول الأخفش: والمراد من الصاحب هنا الصحابى

وهو من اجتمع مؤمناً بنبينا حال حياته ولو لحظة ومات على الإيمان (والتابعين) جمع تابعي، وهو من اجتمع بالصحابى؟ وهل يكتفي بأدنى مدة كما في الصحابى أولاً ويفرق والراجح الثاني كما تقرر في كتب أصول الفقه (ومن بعدهم من علماء المسلمين وأخيارهم) جمع خير بالتشديد أو بالتخفيف مشددا منه كأموات جمع ميت مخفف ميت كأقوال جمع قول كما قاله السمين، دفعا لما قيل من أن قياس جمع ميت ميائت كسيد وسيائد، لكن تعقبه شيخنا بأنه على ما ذكره لا يستقيم له مراده لأن أفعالاً إنما تنقاس جمعيته لما كان ثلاثياً، وإذ كان ميت مخفف ميت فهو رباعي لا محالة، فيكون جمعه على أموات كجمع ميت عليه على خلاف القياس (هو مذهب أكثر التابعين ومن بعدهم) أي من أتباع التابعين المشهود لقرونهم الثلاثة بالخيرية، وذكر هذا ثانيا لبيان أنه مذهب اقتضاه الدليل وأولاً لبيان أنه عمهم.d وفيه إيماء إلى أن بعض التابعين ومن بعدهم كان يرى الانفراد أفضل ولكنه يعمل بخلافه لحكم الوقت عليه بذلك (وبه قال الشافعي وأحمد وأكثر الفقهاء) أي من أئمة المذاهب الذين هم الأسوة وفيهم القدوة (رضي الله عنهم أجمعين) وقال الحافظ في فتح الباري بعد نقل اختيار المصنف المذكور: وقال غيره يختلف باختلاف الأشخاص، فمنهم من يتعين عليه أحد الأمرين، ومنهم من يترجح له وليس الكلام فيه، بل إذا تساويا فيختلف باختلاف الأوقات، فمنهم من يتحتم عليه المخالطة من كانت له قدرة على إزالة المنكر فيجب عليه إما عينيا وإما كفائيا بحسب الحال والإمكان، وممن يترجح من يغلب على ظنه أنه يسلم في نفسه إذا قام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وممن يستوي من يأمن على نفسه لكن يتحقق أنه لا يطاع، وهذا حيث لا تكون فتنة عامة، فإن وقعت الفتنة ترجحت العزلة لما ينشأ عنها غالباً من الوقوع في المحذور، وقد تقع العقوبة بأصحاب الفتنة فتعم من ليس من أهلها كما قال تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} ويؤيد التفضيل حديث أبي سعيد «خير الناس رجل جاهد بنفسه وماله، ورجل في شعب من

71 ـــ باب التواضع

الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شرّه» (قال الله تعالى: {وتعاونوا على البرّ والتقوى} ) أي ففيه الاجتماع للتعاون على البرّ: أي فعل المأمورات كالجمعة والجماعات وإقامة الشرائع والتعاون على التقوّى عن المنهيات (والآيات في معنى ما ذكرته) أي من طلب الاجتماع لإقامة الشرائع وإبطال المفاسد (كثيرة معلومة) قال الله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} (آل عمران: 104) وقال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} (آل عمران: 110) وقال تعالى: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص} (الصف: 4) . 71 - باب التواضع في «الرسالة القشيرية» : التواضع هو الاستسلام للحق وترك الاعتراض في الحكم، قال الشيخ زكريا: وهو أعم من الخشوع لأنه يستعمل فيما بين العباد وفيما بينهم وبين الرب سبحانه، والخشوع لا يستعمل إلا في الثاني، فلا يقال خشع العبد لمثله ويقال تواضع له اهـ. وفي «فتح الباري» : من الضعة بكسر أوله وهي الذلّ والهوان، والمراد بالتواضع إظهار الذل لمن يراد تعظيمه، وقيل هو تعظيم من فوقه لفضله. وسئل الفضيل عن التواضع فقال: يخضع للحق وينقاد له ويقبله ممن قاله، وكذا قال ابن عطاء: التواضع قبول الحق من كل من قاله. وقيل لأبي يزيد البسطامي متى يكون الرجل متواضعاً؟ قال: إذا لم ير لنفسه مقاماً ولا حالاً، ولا يرى أن في الخلق من هو شرّ منه اهـ. وسيأتي فيه مزيد في الكلام على الأحاديث والمراد (وخفض الجناح) قال أبو حيان في النهر: هو كناية عن التعطف والرفق،

وأصله أن الطائر إذا ضم الفرخ إليه بسط جناحه ثم قبضه على فرخه، والجناحان من ابن آدم جانباه. (وقال الله تعالى) : ( {واخفض جناحك للمؤمنين} ) قال ابن عطية: وهذه استعارة بمعنى لين لهم جانبك ووطىء لهم أكنافك والجناح الجانب والجنب ومنه واضمم يدك إلى جناحك فهو أمر بالميل إليهم، والجنوح الميل اهـ. ولا مخالفة بين كونه كناية واستعارة: أي تمثيلية لاختلاف الاعتبار، قال في «النهر» : وقد كان كثير الشفقة على من بعث إليه، وقد تقدمت الآية مع الكلام عليها في باب ضعفة المسلمين. (وقال تعالى) : ( {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه} ) وقد ارتد قبائل في عهده، وفي خلافة أبي بكر وعمر ( {فسوف يأتي الله بقوم} ) بدلهم ومكانهم، وحرف التنفيس لتحقيق الوعد (يحبهم) يهديهم ويثبتهم (ويحبونه) أي يطيعونه وهم أبو بكر وأصحابه أو أهل اليمن أو الأشعريون، قال في النهر في «مستدرك الحاكم» عن أبي موسى الأشعري: لما نزلت أشار إلى أبي موسى وقال: هم هذا. وهذا أصح الأقوال وكان لهم بلاء في الإسلام زمن رسول الله، وعامة فتوح عمر على أيديهم ( {أذلة على المؤمنين} ) أي متذللين لهم عاطفين عليهم خافضين عليهم أجنحتهم. وأذلة جمع ذليل لا ذلول الذي هو نقيض الصعب لأنه لا يجمع على أفعلة، بل على ذلل وتعديته بعلى لما أشرنا إليه من تضمينه معنى الحنوّ والعطف ( {أعزّة على الكافرين} ) شداد متغلبين عليهم. قال في «النهر» : جاءت هذه الصفة بالاسم الذي فيه المبالغة لأن أذلة وأعزة جمع ذليل وعزيز، وهما من صيغ المبالغة، وجاءت الصفة قبلهما بالفعل في قوله، يحبهم ويحبونه لأنه الاسم يدل على الثبوت، فلما كانت صيغة مبالغة وكانت لا تتجدد، بل هي كالغريزة جاء الوصف بالاسم. ولما كانت الصفة قبل تتجدد لأنها عبارة عن فعل الطاعات والإنابة المرتبة عليها جاء الوصف بالفعل المقتضي للتجدد، ولما كان الوصف الذي يتعلق بالمؤمن آكد ولموصوفه ألزم قدم على الوصف المتعلق بالكافر ولشرف المؤمن أيضاً، ولما كان الوصف الذي بين المؤمن وربه آكد مما بينه وبين المؤمن قدم قوله يحبهم ويحبونه على قوله أذلة على المؤمنين وفي الآية إبطال قول من ذهب إلى أن الوصف إذا كان بالاسم والفعل لا يتقدم الفعل إلا في ضرورة الشعر، وقرىء شاذاً بنصب أذلة وأعزّة على الحالية من

النكرة لقربها بالوصف من المعرفة. (وقال تعالى) : ( {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} ) آدم وحواء فأنتم متساوون في النسب فلا فخر لأحد على أحد بالنسب ( {وجعلناكم شعوباً} ) الشعب بالفتح رأس القبائل والطبقة الأولى والقبائل تشعبت منه ( {وقبائل} ) هي دون الشعب كتميم من مضر، وقيل الشعوب في العجم والقبائل في العرب ( {لتعارفوا} ) أي ليعرف بعضكم بعضاً لا للتفاخر، وفي الحديث «لتعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم منسأة في الأجل» ( {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} ) بيان للخصلة التي بها التفاضل. (وقال تعالى) : ( {فلا تزكوا أنفسكم} ) أي لا تمدحوها ولا تنسبوها إلى الطهارة ولا تفخروا بأعمالها. قال ابن عطية: ظاهره النهي عن أن يزكي نفسه. ويحتمل أن يكون نهياً عن تزكية بعض بعضاً، وحينئذ فالمنهي عنه منه ما كان للدنيا أو القطع بالتزكية، وأما تزكية الإمام أو القدوة أحداً ليؤتمّ به أو ليتمم به الخير فجائزة، فقد زكى بعض أصحابه أبا بكر وغيره ( {هو أعلم بمن اتقى} ) فربما ينسبون أحداً إلى التقوى، والله يعلم أنه ليس كذلك، ولذا ورد في الحديث الصحيح «إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة فليقل أحسب فلاناً والله حسيبه ولا أزكى على الله أحداً، أحسبه كذا وكذا أن يعلم ذلك» وأفعل التفضيل قيل هو بمعنى عالم، وقال الجمهور: بل هو على بابه: أي هو أعلم بالموجودين جملة (وقال تعالى) : ( {ونادى أصحاب الأعراف} ) وهو السور المضروب بينهما ( {رجالاً يعرفونهم بسيماهم} ) من رؤساء الكفار يقولون يا أبا جهل يا فلان يا فلان ( {قالوا} ) أي لهم ( {ما أغنى عنكم} ) أي لم ينفعكم، ويجوز أن تكون ما استفهامية: أي أيّ شىء نفعكم، بل قال ابن عطية إنه أصوب ( {جمعكم} ) أي كثرتكم التي كانت في الدنيا وجمعكم المال ( {وما كنتم تستكبرون} ) أي

واستكباركم عن الحق وعدم انقيادكم له، ويقول أهل الأعراف لأولئك الكفار ( {أهؤلاء} ) المشار إليهم ضعفاء أهل الجنة الذين كان الكفار يحقرونهم في الدنيا ويسخرون بهم ويقسمون إنهم لا يدخلون الجنة كما قال ( {الذين أقسمتم} ) من القسم: الحلف ( {لا ينالهم الله برحمة} ) المراد منها هنا إدخال الجنة مجازاً مرسلاً، وقدمنا عن البدر الدمامينى أنه يتعين في بعض المواضع تأويل الرحمة بالإحسان ولا يجوز تأويلها فيه إرادة ذلك لأن المقام يأباه كما يتعين عكسه في بعض آخر ( {ادخلوا الجنة لا خوف عليكم} ) من مكروه يتوقع فأنتم مؤمنون ( {ولا أنتم تحزنون} ) على فوات محبوب لكم، وبناء الحكم على الضمير للتأكيد لما فيه من تكرار الإسناد، والمخاطب بقوله: ادخلوا يحتمل أنه ضعفاء المؤمنين: أي قيل لهم ذلك، أهل الأعراف أي يقال لهم ذلك، أو لما عير أهل الأعراف أهل النار وقال أهل النار: إن دخل هؤلاء الجنة فوالله أنتم لا تدخلونها تعبيراً لهم، فقالت الملائكة: أهؤلاء؟ يعني أهل الأعراف الذين أقسمتم يا أهل النار إنهم لا ينالهم الله برحمة، ثم قالت الملائكة لهم: أدخلوا الجنة. 1602 - (وعن عياض) بكسر العين المهملة وتخفيف التحتية والضاد (ابن حمار) بكسر المهملة وتخفيف الميم على لفظ الحمار: الدابة المعروفة ابن أبي حمار بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد بن مناة بن تميم التميمي المجاشعي (رضي الله عنه) وقيل في نسبه غير هذا، نزل عياض البصرة وهو معدود من أهلها، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثون حديثاً، روى منها مسلم حديثين كذا في «التهذيب» للمصنف (قال: قال رسول الله: إن الله أوحى إليّ) قال ابن رسلان: لعله وحي إلهام أو برسالة (أن تواضعوا) أن فيه مفسرة فالموحى هو الأمر بالتواضع، قال الحسن: التواضع أن تخرج من بيتك فلا تلقى مسلماً إلا رأيت له عليك فضلاً. وقال أبو زيد: ما دام العبد يظن أن في الخلق من هو شرّ منه فهو متكبر، وقيل التواضع الإنكسار والتذلل، ونقيضه التكبر والترفع، وقيل غير ذلك مما تقدم بعضه في الكلام على الترجمة. وقال القرطبى: التواضع الإنكسار والتذلل وهو يقتضي متواضعاً له:

هو الله تعالى، ومن أمر الله بالتواضع له كالرسول والإمام والحاكم والعالم والوالد، فهذا التواضع الواجب المحمود الذي يرفع الله به صاحبه في الدارين، وأما التواضع لسائر الخلق فالأصل فيه أنه محمود ومندوب إليه ومرغب فيه إذا قصد به وجه الله تعالى، ومن كان كذلك رفع الله قدره في القلوب وطيب ذكره في الأفواه ورفع درجته في الآخرة. وأما التواضع لأهل الدنيا ولأهل الظلم فذاك الذل الذي لا عزّ معه، والخيبة التي لا رفعة معها، بل يترتب عليه ذل الآخرة وكل صفقة خاسرة، وقد ورد «من تواضع لغني لغناه ذهب ثلثا دينه» (حتى) غاية للتذلل وكسر النفس وعدم النظر إليها: أي افعلوا ذلك إلى أن (لا يفخر) بفتح الخاء المعجمة ومصدره الفخر والاسم منه الفخار كسلام، قال في «المصباح» : هو المباهاة بالمكارم والمناقب من حسب ونسب وغير ذلك سواء كان فيه أو في آبائه، أي لا يباهي (أحد) مستعلياً بفخره (على أحد) ليس كذلك فالخلق من أصل واحد والنظر إلى العرض الحاضر الزائل ليس من شأن العاقل (ولا يبغي) بالنصب عطف على يفخر: أي وحتى لا يظلم ولا يتعدى (أحد على أحد) وذلك أن من انكسر وتذلل امتثالاً لأمر الله عزّ وجل حال ذلك بينه وبين الفساد والوقوع في الظلم والاعتداد والعناد (رواه مسلم) ورواه أبو داود وابن ماجه من حديث عياض أيضاً. 2603 - (وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله قال: ما نقصت صدقة من مال) قيل هو عائد إلى الدنيا بالبركة فيه ودفع المفسدات عنه: أي ما ينقص منه بالصدقة يتدارك بما يحصل فيه من النماء ببركتها. وقيل إلى الآخرة بالثواب والتضعيف (وما زاد الله عبداً يعفو) عمن جنى عليه في نفس أو عرض أو مال أو نحو ذلك (إلا عزّاً) قيل في الدنيا، وقيل في الآخرة (وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله) فيه القولان فيما قبله، قال المصنف: ويجوز إرادة الوجهين معاً في الأمور الثلاثة (رواه مسلم) والحديث سبق مع

الكلام عليه وعلى من خرّجه في باب الكرم والجود. 3604 - (وعن أنس رضي الله عنه إنه) بدل من أنس على تقدير مضاف: أي وعن قصة أنس أنه (مرّ على صبيان) بكسر المهملة، وضمها وسكون الموحدة بعدها تحتية جمع كثرة ويجمع في القلة على صبية بكسر المهملة أي على جماعة مميزين منهم (فسلم عليهم وقال: كان النبيّ يفعله) أي تواضعاً وكسراً للنفس، فإن من طبعها الترفع عن خطابهم فضلاً عن مؤانستهم بالسلام. قال ابن بطال: وفيه تدريبهم على آداب الشريعة وطرح رداء الكبر وتناول التواضع ولين الجانب وظاهر «كان» تكرر ذلك فإنها تفيده كما أشار إليه ابن الحاجب لكن عرفاً كما قيد ابن دقيق العيد: أي في مقام تقبله كما قال بعضهم، لكن نقل المصنف في «شرح مسلم» عن المحققين والأكثر من الأصوليين أنها لا تفيده (متفق عليه) رواه البخاري في كتاب الاستئذان من «صحيحه» كما قال الحافظ في «الفتح» . وأخرج النسائي حديث الباب بلفظ «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزور الأنصار فيسلم على صبيانهم ويمسح رؤوسهم ويدعو لهم» وهو مشعر بوقوع ذلك منه غير مرة، بخلاف سياق الباب حيث قال «مرّ على صبيان فسلم عليهم» فإنها تدل على أنها واقعة حال، قلت: قول أنس «كان النبيّ» يشعر بما تشعر به رواية النسائي، وقول ثابت «إنه مر الخ» لا ينافي ذلك لأن أنساً أشار إلى أن حكمة تسليمه عليهم الاتباع لكونه رآه كان يفعل ذلك، والله أعلم. قال: وأخرجه مسلم والنسائي وأبو داود بلفظ غلمان بدل صبيان. ووقع لابن السني وأبي نعيم في «اليوم والليلة» بلفظ «فقال: السلام عليكم يا صبيان» وعثمان بن مطر الراوي له عن ثابت رواه. ولأبي داود من طريق حميد عن أنس «انتهى إلينا النبي وأنا غلام في الغلمان فسلم علينا» الحديث. 4605 - (وعنه قال: إن) مخففة من الثقيلة: أي إنه (كانت الأمة) بفتح أوليه ولامه واو محذوفة أي الجارية (من إماء) بكسر الهمزة والمد بوزن كتاب: أي جواري أهل (المدينة) علم بالغلبة على دار هجرته (لتأخذ بيد النبيّ) اللام فيه فارقة بين المخففة والنافية

(فتنطلق به حيث شاءت) ففيه مزيد تواضعه من وجوه: الأول أنها أمة وليست من وجوه الناس. الثاني أنها تأخذ بيده وذلك يدل على مزيد الانقياد. الثالث أنها تذهب به لحاجتها أيّ مكان كانت قريبة أو بعيدة، ففيه منه التحريض على ذلك والحث على سلوكه (رواه البخاري) في الأدب من «صحيحه» . 5606 - (وعن الأسود بن يزيد) بفتح التحتية الأولى وسكون الثانية وكسر الزاي وهو أبو عمرو، ويقال أبو عبد الرحمن الأسود بن يزيد بن قيس بن عبد الله بن مالك بن علقمة ابن سلامان بن كهيل النخعي الكوفي التابعي الجليل. قال أحمد بن حنبل: هو ثقة من أهل الخير، واتفقوا على توثيقه وجلالته، روينا عن ميمون بن حمزة قال: سافر الأسود ثمانين حجة وعمرة لم يجمع بينهما اهـ ملخصاً من «التهذيب» (قال: سألت عائشة رضي الله عنها ما كان النبيّ يصنع) هو أخص من الفعل كما قاله البيضاوي في سورة المائدة (في بيته) أي منزله (قالت: يكون في مهنة أهله) قال في «المصباح» : المهنة أخص من المهن كالضربة والضرب، وقيل المهنة بالكسر لغة، وأنكرها الأصمعي وقال: الكلام في الفتح وهو في مهنة أهله: أي في خدمتهم، وفي «النهاية» الرواية بفتح الميم الخدمة وقد تكسر. وقال الزمخشري: وهو عند الإثبات خطأ، قال الأصمعي: المهنة بفتح الميم الخدمة ولا يقال المهنة بالكسر، وكان القياس لو قيل مثل جلسة وخدمة إلا أنه جاء على فعلة واحدة اهـ. وفي بعض «حواشي الشفاء» : المهنة الخدمة بفتح الميم، وكسرها خطأ، قاله سمرة، وقال غيره: فيه الكسر وأنكر الفتح. وفي «شرح ابن أقبرس» : قيل الفتح أفصح وأنكره البعض، وقيل الكسر أفصح، وأنكره البعض الآخر ووجه لغة الكسر على وزن خدمة اهـ (تعني) أي عائشة بقولها في مهنة أهله (في خدمة أهله) وقد فسرت المهنة بما رواه عياض في الشفاء والحسن وأبو سعيد وغيرهم في صفته قال وبعضهم يزيد على بعض «كان في بيته في مهنة أهله يفلي ثوبه ويحلب شاته ويرقع ثوبه ويخصف نعله ويخدم نفسه ويعلف ناضحه ويقمّ البيت ويعقل البعير ويأكل مع الخادم ويعجن معها ويحمل بضاعته من السوق»

الله. هـ، وظاهر عبارة المصنف أن تعني الخ قول الأسود، ويحتمل أن تكون قول من دونه، وهذا التفسير لم أجده في أصلين مصححين من البخاري، وبه يظهر أنه من صنيع المؤلف فيكون مخالفاً لعادته في مثله من تأخيره عن سوق الحديث بجملته، ثم بيان مخرجه ثم غريبه، وكونه يباشر خدمة أهله من مزيد فضله وكمال تواضعه، إذ سيد القوم خادمهم، وظاهر أن المراد من قوله كان كذلك في بيته إذا انفرد بهم ولم يكن ثم ما هو أهم منه وإلا اشتغل بالأهم (فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة) أي مبادراً لأدائها تحريضاً على فعلها أول وقتها الذي جاء في الصحيح أنه أفضل الأعمال (رواه البخاري) في الصلاة وفي النفقات في الأدب من «صحيحه» ، ورواه الترمذي في الزهد من «جامعه» وقال: حسن صحيح. 6607 - (وعن أبي رفاعة) بكسر الراء وخفة الفاء وإهمال العين (تميم) بفتح الفوقية وكسر الميم الأولى بينهما تحتية ساكنة (ابن أسيد) قال الحافظ العسقلاني في «تبصير المنتبه» اختلف فيه هل هو بضم الهمزة مصغراً أو أسد بفتح أوليه مكبراً، ابن عبد العزّى بن جعونة بن عمرو بن العين بن رزاح بن عمرو بن سعد بن كعب بن عمرو الخزاعي (رضي الله عنه) قال في «أسد الغابة» : أسلم وولاه النبيّ تجديد أنصاب الحرم وإعادتها، نزل مكة قاله ابن سعد اهـ. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية عشر حديثاً فيما يؤخذ من كلام ابن الجوزي في «المستخرج المليح» . أخرج له مسلم هذا الحديث الواحد ولم يخرّج عنه البخاري شيئاً (قال: انتهيت إلى النبيّ وهو يخطب) أي خطبة الجمعة (فقلت: يا رسول الله رجل غريب جاء يسأل عن دينه) كل من الجملتين الفعليتين محتمل لكونه صفة رجل من الوصف بالجملة بعد المفرد كقوله تعالى: {وهذا ذكر مبارك أنزلناه} (الأنبياء: 50) ومحتمل لكونه حالاً، إما كلاهما من رجل لتخصيصه بالوصف فيكونان مترادفين أو الأول منه كذلك، والثاني من المستكنّ في جاء فيكونان متداخلين، والمراد يسأل عما يلزمه عمله حالاً من الأحكام الدينية (لا يدري ما دينه) أي ما هو، وجملة الاستفهام معلقة للفعل قبلها عنها. قال المصنف: وفي

قوله رجل غريب إلى قوله ما دينه استحباب تلطف السائل (فأقبل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وترك خطبته حتى انتهى إليّ فأتى) بالبناء للمفعول (بكرسي) بضم الكاف وفتحها والضم أشهر وتشديد الياء (فقعد عليه رسول الله) أي ليسمع باقي الناس الحاضرين كلامه ويروا شخصه الكريم (وجعل) أي شرع (يعلمني مما علمه الله) أي من الدخول في الإسلام والإيمان وما يجب الإيمان به (ثم أتى خطبته فأتم آخرها) قال المصنف: فيه كمال تواضعه ورفقه بالمسلمين وكمال شفقته عليهم وخفض جناحه لهم. وفيه المبادرة إلى جواب المستفتي وتقديم أهم الأمور فأهمها، ولعله كان يسأل عن الإيمان وقواعده المهمة.t وقد اتفق العلماء على أن من جاء يسأل عن الإيمان وكيفية الدخول في الإسلام وجبت إجابته وتعليمه على الفور، ويحتمل أن هذه الخطبة التي كان النبيّ فيها خطبة أمر غير الجمعة فلذا قطعها بهذا الفصل الطويل، أو كان كلامه لهذا الغريب متعلقاً بالخطبة فيكون منها ولا يضرّ المشي في أثنائها (رواه مسلم) في أبواب الجمعة من «صحيحه» ، ورواه النسائي في «سننه» . 7608 - (وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أكل طعاماً) أي ملوّثاً كالمائعات (لعق) بكسر المهملة وبالقاف (أصابعه الثلاث) الإبهام والمسبحة والوسطى يبدأ بالوسطى لأنها أكثر تلويثاً إذ هي أطول فيبقى فيها من الطعام أكثر من غيرها، ولأنها لطولها أول ما ينزل في الطعام ثم السبابة ثم التي تليها لخبر الطبراني في «الأوسط» «ثم رأيته يلعق أصابعه الثلاث قبل أن يمسحها، الوسطى ثم التي تليها ثم الإبهام» واعترض ذلك بأن نسبة الثلاث للفم سواء غفلة عن الخبر والمعنى المذكورين. وفيه رد على من كره لعق الأصابع استقذاراً. قال الخطابي: عاب قوم أفسد قلوبهم الترفه لعقها وزعموا أنه مستقبح كأنهم لم يعلموا أن الطعام الذي علق بالأصابع جزء ما أكلوه، وإذا لم يستقذر كله فلا يستقذر بعضه، وليس فيه أكثر من مصها بباطن الشفة، ولا يشك عاقل أن لا بأس بذلك، وقد

يدخل إنسان أصبعه في فيه ويدلكه ولم يستقذر ذلك أحد اهـ. ويؤيده أن الاستقذار إنما يتوهم في اللعق أثناء الأكل لأنه يعيدها في الطعام وعليها آثار ريقه وذلك غير سنة. وظاهر أن الكلام فيمن استقذر ذلك من حيث هو لا مع نسبته للنبي إذ من استقذر شيئاً من أحواله كفر، قاله في أشرف الوسائل (قال) أي أنس (وقال) أي النبيّ (إذ سقطت لقمة) بضم اللام (أحدكم فليمط) بضم التحتية: أي يزل (عنها الأذى) الذي لابسها عند سقوطها (وليأكلها) كسراً لنفسه في إبائها بحسب الطبع واستنكافها من تناولها بعد ملاقاتها ما سقطت عليه (ولا يدعها) بالجزم عطف طلبي على مثله: أي لا يتركها (للشيطان وأمر) عطف على قال (أن تسلت) بضم الفوقية: أي تلعق (القصعة) بفتح القاف وجمعها قصع بكسر ففتح وهي التي يأكل عليها عشرة أنفس كما في «مهذب الأسماء» ، والصحفة هي التي يأكل عليها خمسة أنفس على ما في «الصحاح» و «المهذب» ، وقيل هما واحدة، والمراد بالقصعة هنا مطلق الإناء الذي فيه الأدم المائع (قال: فإنكم لا تدرون) أي لا تعلمون (في أيّ طعامكم البركة) أي هي في المأكول أم في الباقي بالأصابع والقصعة أو في الساقط. قال المصنف في شرح «مسلم» : معنى قوله فإنكم لا تدرون الخ: أن الطعام الذي يحضر الإنسان فيه بركة، فلا يدري أهي فيما أكل أو فيما سقط أو فيما بقي على أصابعه أو فيما بقي بأسفل الصحفة؟ فينبغي أن يحافظ على هذا كله لتحصيل البركة. وأصل البركة: الزيادة وثبوت الخير والانتفاع به، والمراد هنا - والله أعلم - ما يحصل به التغذية وتسلم عاقبته من أذى ويقوّي على طاعة الله وغير ذلك اهـ (رواه مسلم) في الأطعمة من «صحيحه» ورواه أبو داود في الأطعمة من «سننه» والنسائي في الوليمة من «سننه» ومداره عندهم على حماد بن أسامة عن ثابت عن أنس، وقد تقدم الحديث في باب الأمر بالمحافظة على السنة من حديث جابر. 8609 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ما بعث) أي نبأ أو أرسل (الله نبيا إلا رعى الغنم) ليتدرب برعايتها إلى رعاية أمته الذين يدعوهم إلى ما أوحي إليه من الشرائع (قال أصحابه: وأنت) أي وأنت رعيتها أخذاً بعموم «نبياً» المذكور من نكارته في سياق النفي أو

لست كذلك، والمراد من عداك لأن المتكلم لا يدخل في عموم كلامه فيكون عاماً: أي أريد به خاص فيكون مجازاً (قال: نعم) أي أنا منهم في ذلك، وبين ما قد يكتفي بدلالة نعم عليه بقوله (كنت أرعاها) زيادة في الإيضاح وتنبيهاً على التواضع وأن تعاطي الكامل ما فيه كسر النفس وعدم النظر إليها لا يخلّ من كمالها ما لم يكن فيه إخلال بمروءة أو وقوع في منهيّ عنه (على قراريط) اسم مكان بمكة وقيل جزء من الدرهم والديناري (لأهل مكة) متعلق بأرعاها ففيه أن الكسب لا يخل بالكمال، ويحتمل كونه ظرفاً مستقراً لقرار بناء على أنه اسم مكان بمكة (رواه البخاري) وتقدم مع شرحه وتخريجه في باب استحباب العزلة. 9610 - (وعنه عن النبي قال: لو دعيت إلى كراع) بضم الكاف وتخفيف الراء آخره عين مهملة: وهو من الدابة ما بين الركبتين إلى الساق، وقيل هو اسم مكان، ولا يثبت. ويرده حديث أنس عند الترمذي بلفظ «لو أهدي إليّ كراع لقبلت» وللطبراني في حديث أم حكيم الخزاعية «قلت: يا رسول الله، يكره ردّ الظلف؟ قال: ماأقبحه، لو أهدي إليّ كراع لقبلت» الحديث (أو ذراع) قال الحافظ: خص الذراع والكراع بالذكر ليجمع بين الخطير والحقير، لأن الذراع كانت أحبّ إليه من غيرها، والكراع لا قيمة له، وفي المثل: أعط العبد كراعاً يطلب ذراعاً (لأجبت ولو أهدي إليّ ذراع أو كراع لقبلت) قال ابن بطال: أشار إلى الحض على قبول الهدية، وإن قلت لئلا يمتنع الباعث من الهدية لاحتقار الشيء فحض على ذلك لما فيه من التآلف، وفي الحديث إجابة الداعي وإن قلّ المدعو إليه، وفي ذلك كله تحريض على التواضع وحث على تعاطي ما يبعث على التآلف ويغرس الوداد (رواه البخاري) في الهبة وفي النكاح من «صحيحه» ، ورواه النسائي في الوليمة من «سننه» . 10611 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: كانت ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العضباء) بفتح المهملة

وسكون المعجمة بعدها باء موحدة فألف ممدودة. قال المصنف في «شرح مسلم» : قال ابن قتيبة: كانت للنبي نوق: القصوى، والجدعاء والعضباء، قال أبو عبيدة: العضباء اسم لناقة النبي، ولم تسم بذلك لشىء أصابها. قلت: وفي «تحفة القاري» للشيخ زكريا: ناقته لم تكن عضباء ولا قصوى، وإنما كان ذلك نعتاً لها، قاله الجوهري اهـ. وهو موافق لأبي عبيدة، ثم نقل عن القاضي أحاديث فيها ذكر الناقة قال: فهذا كله يدل على أنها ناقة واحدة خلاف ما قاله ابن قتيبة، وأن هذا كان اسمها أو وصفها بهذا الذي بها خلاف ما قاله أبو عبيدة، لكن يأتي أن القصوى غير العضباء. قال الحربيّ: العضب والجدع: الخرم والقصوى والخضرمة في الأذن. قال ابن الأعرابي: القصوى التي قطع طرف أذنها، والجدع أكبر منه. وقال الأصمعي في القصوى مثله، قال: وكل قطع في الأذن جدع، فإن جاوز الربع فهي عضباء، والمخضرمة المستأصلة، والعضباء المقطوعة النصف فما فوقه. وقال الخليل: المخضرمة مقطوعة الأذن، والعضباء مشقوقة الأذن. قال الحربي: والحديث يدل على أن العضباء اسم لها وإن كانت عضباء الأذن فقد جعل اسمها، هذا كلام القاضي. وقال إبراهيم بن محمد التيمي التابعي وغيره: العضباء والقصوى والجدعاء اسم لناقة واحدة كانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - اهـ. وفي «فتح الباري» اختلف هل العضباء هي القصوى أو غيرها؟ فجزم الحربي بالأول وقال: تسمى العضباء والقصوى والجدعاء، وروى ذلك ابن سعد عن الواقدي، وقال بالثاني غير وقال: الجدعاء كانت شهباء، وكان لا يحمله عند نزول الوحي غيرها، وذكر له عدة غير هذه جمعها من اعتنى بجميع سيره (لا تسبق أو) شك من حميد الراوي عن أنس كما صرّح به البخاري في كتاب الجهاد من «صحيحه» فقال حميد أو (لا تكاد) تقارب (تسبق) وهو في باقي الروايات «لا تسبق» بغير شك (فجاء أعرابي) هو ساكن البادية. قال الحافظ: لم أقف على اسم هذا الأعرابي بعد التتبع الشديد (على قعود له) بفتح القاف: هو ما استحق الركوب من الإبل، قال الجوهري: هو البكر حتى يركب، وأقل ذلك أن يكون ابن سنتين إلى أن يدخل في السادسة فيسمى جملاً. وقال الأزهري: لا يقال إلا للذكر، ولا يقال للأنثى قعود إنما يقال لها قلوص، قال: وقد حكى الكسائي في النوادر قعودة للقلوص وكلام الأكثر على غيره. وقال الخليل: القعود ما يعتقده الراعي يحمل متاعه والهاء فيه للمبالغة (فسبقها فشق ذلك) أي سبقها (على المسلمين حتى عرفه) أي عرف النبيّ شق السبق عليهم. وفي الرقاق من البخاري: فلما رأى ما في وجوههم

72 ـــ باب تحريم الكبر

وقالوا: أي سبقت العضباء (فقال) النبيّ من حسن خلقه إذهاباً لذلك الغضب من نفوسهم: إن هذا السبق لهذه من جنس ما جرت به الأقضية الإلهية من ضعة المرتفع من الدنيا فيها كائناً ما كان (حق) أي واجب (على الله) تعالى لقضائه به على ذاته (ألاّ يرتف شيء من الدنيا) من مال أو جاه أو غيرها ذلك من زهرات الدنيا وما ينظر إليه منها (إلا وضعه) ففيه التزهيد في الدنيا وإغماض الطرف عن زهراتها، فإنها تتناهى في مكان من النظر الفائق إذا بها صارت بأدنى حال ما لم تنظر إليها العيون. قال ابن بطال: فيه هوان الدنيا على الله والتنبيه على ترك المباهاة والمفاخرة، وفيه الحث على التواضع وطرح رداء التكبر والإعلام بأن أمور الدنيا ناقصة غير كاملة، وفيه ما كان عليه لحسن خلقه من إذهاب ما يشق على أصحابه عنهم وما كان قصد به من الدنيا التقرّب إلى الله تعالى فليس منها إنما هو فيها فلا يدخل تحت هذا الخبر، بل لا يزال مرفوعاً دنيا وأخرى، وفيه تواضعه إذ سابق أعرابياً (رواه البخاري) في الجهاد وفي الرقاق من «صحيحه» ، ورواه أبو داود في الجهاد من «سننه» . 72 - باب تحريم الكبر هو: احتقار المرء غيره وازدراؤه له، والكبر على الله كفر بأن لا يطيعه ولا يقبل أمره، فمن ترك أمر الله أو وقع في منهيه استخفافاً به تعالى فهو كافر، وأما من تركه لا على سبيل ذلك بل لغلبة الشهوة أو الغفلة فعاص. والتكبر على الخلق وهو ما عرّف به الكبر في الترجمة فعصيان إن لم يكن فيه استخفاف الشرع، وإلا كأن يحقر نبياً أو ملكاً أو عالماً عن اعتقاد حقارة العلم فذاك كفر أيضاً قاله المظهري (والإعجاب) أي النظر إلى النفس بعين الكمال والفخر بما فيها من علم أو صلاح صورى أو عندها من مال أو جاه (قال الله تعالى) : ( {تلك الدار الآخرة} ) الإشارة لتعظيم الآخرة: أي التي سمعت بذكرها، أو بلغك وصفها هي

الدار الآخرة ( {نجعلها} ) إما خبر تلك والدار صفة أو الدار خبره، والجملة استئناف أو خبر بعد خبر ( {للذين} ) أو حال من الدار والعامل فيها ما في تلك من معنى الإشارة ( {لا يريدون علواً} ) كبراً أو استكباراً ( {في الأرض} ) يحتمل أن يكون مستقراً على أنه صفة لما قبله، ويحتمل أن يكون لغواً متعلقاً به ( {ولا فساداً} ) عملاً بالمعاصي أو دعوة الخلق إلى الشرك ( {والعاقبة} ) الحسنى ( {للمتقين} ) عن معاصيه (وقال تعالى) : ( {ولا تمش في الأرض مرحاً} ) بفتح أوليه عند الجمهور وسيأتي معناه في الأصل وهو مصدر في موضع الحال أي مرحاً أو ذا مرح أو مفعول له. قلت: فيكون كقوله تعالى: {ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس} (الأنفال: 47) ويجوز أن يكون مفعولاً من معناه مطلقاً عامله: أي لا تمرح مرحاً وقرىء بكسر الراء منصوب على الحال، وفضل أبو الحسن المصدر على اسم الحال لما فيه من التأكيد: أي والمبالغة، ولم يظهر حكمة إيراد هذه الآية مع أنها من جملة التي بعدها، ولعل المصنف كتبها قبل استحضار ما بعدها ثم رأى إبقاءها وإن اشتمل ما بعدها عليها تأكيداً في النهي عن ذلك بذكر ما فيه النهي عنه المرة بعد الأخرى (وقال تعالى) : ( {ولا تصعر خدك للناس} ) كما يفعله المتكبر أي تعرض وجهك عنهم إذا حدثوك تكبراً ( {ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب} ) أي لا يوافق ( {كل مختال فخور} ) ذي خيلاء أي تكبر يفخر على الناس ولا يتواضع لهم. وقوله إن الله الخ مستأنفة على النهي (ومعنى تصعر خدك) برفع تصعر كما يومىء إليه قوله (أي تميله) إذ لو كان المفسر مجزوماً لكان المفسر كذلك لأن ما بعد أي عطف بيان لما قبله أو بدل منه والمراد تميله عن مخاطبك (وتعرض عن الناس) حال خطابهم لك (تكبراً عليهم) مفعول له بخلاف ما إذا به كانت الإمالة والإعراض عن الناس المخاطبين تأديباً لهم لكونهم وقعوا في منكر أو تركوا معروفاً

فذلك لا يكون تصعيراً بل هو مندوب، فقد أمر بمهاجرة الثلاثة المخلفين حتى نزلت توبتهم، وفي الحديث «من أحبّ لله وغضب لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان» (والمرح) أي بفتح أوليه مصدر معناه (التبختر) وذلك يكون عن الإعجاب النفس واحتقار الناس. (وقال تعالى) : ( {إن قارون} ) اسم أعجمي فلذا منع من الصرف (كان من قوم موسى) ابن عمه كما قال ابن جريج وإبراهيم النخعي وهو أشهر الأقوال، وقال ابن إسحاق: هو عمه، وقيل هو ابن خالته، وهو بالإجماع من بني إسرائيل آمن بموسى وحفظ التوراة ثم لحقه الزهو والإعجاب (فبغى) أي تكبر (عليهم) بأنواع من البغي، من ذلك كفره بموسى واستخفافه به ورميه له بما رماه من البغي فبرأه الله من ذلك، وقيل كان عاملاً لفرعون على بني إسرائيل فظلمهم وبغى عليهم، وقيل بغى بكثرة ماله، وقيل بزيادة في طول ثيابه شبراً وقيل بالكبر والعلو (وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه) جمع مفتاح، وهو ما يفتح به الباب، وقيل خزائنه، قال ابن عطية وأكثر المفسرون في شأن قارون: فروي أن في الإنجيل أن مفاتيح قارون كانت من جلود الإبل، وكان المفتاح من نصف سير وكانت وقر ستين بعيراً أو بغلاً لكل كنز مفتاح، وقد روي غير هذا مما يقرب منه، وذلك كله ضعيف، والنظر يشهد بفساده، ومن كان الذي يميز بعضها عن بعض وما الداعي إلى هذا وفي الممكن أن ترجع كلها إلى مالا يحصى ويقدر على حصره بسهولة، ولكان يقال مفاتيح بالياء كما قرىء به شاذاً، والذي يشبه على هذا أن تكون المفاتيح من حديد ونحوه وفي «النهر» قيل أظفره الله بكنز من كنوز يوسف عليه السلام، وقيل سمى ماله كنوزاً لأنها كانت لا تزكى، وبسبب ذلك كانت أول معاداته لموسى. وفي «تفسير الكواشي» قيل: سبب كثرة ماله أنه كان يعلم الكيمياء ويعلمها وما موصولة ثاني مفعولي آتى وصلتها إن ومعمولاها ( {لتنوء بالعصبة} ) أي الجماعة الكثيرة ( {أولي القوة} ) والجملة خبر إن، ومعنى تنوء: تثقل. قال أبو حيان: الصحيح أن الباء للتعدية: أي لتثقل على العصبة أي هذه الكنوز لكثرتها واختلاف أصنافها يتعب حفظها القائمين عليها اهـ. وهو ما نحاه سيبويه وشيخه الخليل فجعلا الباء للتعدية وقالا: التقدير لتنوء العصبة، فجعل بدل ذلك تعدية الفعل بحرف الجر

كما تقول: ناء الحمل وأناءه ونؤت به بمعنى جعلته ينوء، وجعله ابن عطية من باب القلب فقال: والوجه أن يقال لتنوء العصبة بالمفاتيح المثقلة لها، وكذا قال كثير من المتأولين إن المراد هذا، لكنه قلب كما تفعله العرب كثيراً، ثم نقل ما تقدم عن سيبويه: ثم قال: ويحتمل أن تنوء مسند إلى المفاتيح إسناداً مجازياً لأنها تنهض بتحامل إذا فعل ذلك الذي ينهض بها. والعصبة قال ابن عباس: ثلاثة، وقال قتادة: من العشرة إلى الأربعين، وقال مجاهد خمسة عشر، وقيل أحد وعشرون. وقيل أربعون ( {إذ قال له قومه} ) قال «البيضاوي» «كالكشاف» منصوب بتنوء، قال في «النهر» : وهو ضعيف جداً لأن إيناء المفاتيح العصبة ليس مقيداً بوقت قول قومه له. وقال ابن عطية: متعلق ببغى، قال أبو حيان: وهذا ضعيف أيضاً لأن الإيتاء لم يكن وقت ذلك القول. قال ابن عطية أيضاً: ويجوز أن يكون ظرفاً لمحذوف دل عليه الكلام: أي بغى عليهم وقت قولهم له. قال في «النهر» : ويظهر لي أن يكون التقدير: وأظهر التفاخر والفرح بما أوتي من الكنوز وقت قولهم له (لا تفرح) أي فرحاً مطغياً، وهو انهماك النفس والأشر والإعجاب، ونهى عنه لأن الفرح بالدنيا مذموم لأنه ينتجه حبها والرضا بها والذهول عن ذهابها فإن العلم بمفارقة ما فيها من اللذات لا محالة يوجب النزع، قال الشاعر: أشد الغم عندي في سرور تيقن عنه صاحبه انتقالاً وعلل النهي هنا بقوله ( {إن الله لا يحبّ الفرحين} ) أي بزخارف الدنيا، قال ابن عطية: لا يحبّ في هذا الموضع صفة فعل لأنه أمر قد وقع لا محالة، فمحال أن يرجع إلى الإرادة وأنها هو، لا تظهر عليهم بركته ولا تعمهم رحمته ( {وابتغ} ) أي اطلب ( {فيما آتاك الله} ) من المال ( {الدار الآخرة} ) بأن تصرفه في مرضاة الله تعالى ( {ولا تنس نصيبك من الدنيا} ) (القصص: 77) أي ما ينفعك منها في المآل وما هو إلا الأعمال الصالحة فنصيب الإنسان من الدنيا عمره وعمله الصالح فيه فلا ينبغي أن يهمله، وقيل هو أخذ ما يكفيك منها

( {وأحسن} ) فيما أنعم الله عليك ( {كما أحسن الله إليك} ) وقيل أحسن بالشكر والطاعة، كما أحسن إليك بالإنعام (ولا تبغ) أي تطلب (الفساد في الأرض) بأمر يكون علة للظلم والبغي، قيل كل من عصى الله فقد طلب الفساد في الأرض ( {إن الله لا يحبّ المفسدين} ) لسوى أفعالهم (قال) أي لما وعظه قومه وأخذته العزّة بالإثم وأعجب بنفسه ( {إنما أوتيته على علم عندي} ) أي فضل وخير علمه الله عندي فرآني أهلاً لهذا ففضلني بهذا المال عليكم كما فضلني بغيره. واختلف في هذا العلم فقيل علم التوراة وحفظها، قالوا: وكانت هذه مغالطة منه، وقيل العلم بالتجارة ووجوه تثمير المال فكأنه قال أوتيته بإدراكي وسعيي، وقيل علم الكيمياء، وقيل مراده إنما أوتيته على علم من الله وتخصيص من لدنه قصدني به: أي فلا يلزمني فيه شيء مما قلتم، وعلى هذا فقوله عندي خبر مبتدأ: أي هذا عندي كما تقول: في معتقدي أو في رأيي، وعلى كلا الوجهين فقد نبه القرآن على خطئه في اعتزازه ( {أولم يعلم} ) عطف على مقدر: أي عنده مثل ذلك العلم الذي ادعى ولم يعلم ( {أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوّة وأكثر جمعاً} ) فلا تدل كثرة المال على أن صاحبها يستحق رضا الله ليبقى بعلمه بذلك نفسه مصارع الهالكين ( {ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون} ) سؤال استعلام فإنه تعالى مطلع عليه أو معاتبة فإنهم يعذبون بها بغتة فلا ينافي الآيات التي فيها سؤال المجرمين لأنه سؤال توبيخ وتقريع وتبكيت ( {فخرج على قومه في زينته} ) قال ابن عطية: أكثر المفسرون في تحديد زينة قارون وتعيينها بما لا حجة له فاختصرته ( {قال الذين يريدون الحياة الدنيا} ) على ما هو عادة الناس من الرغبة فيها ( {يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون} ) تمنوا مثله لاعينه حذراً عن الحسد ( {إنه لذو حظ} ) أي نصيب ( {عظيم} ) من الدنيا ( {وقال الذين أوتوا العلم} ) أي الأحبار لمن تمنى (ويلكم) دعاء بالهلاك استعمل للزجر عما لا يرضى ( {ثواب الله} ) في الآخرة ( {خير} ) مما أوتي قارون ( {لمن آمن وعمل صالحاً ولا يلقاها} ) الضمير للكلمة التي تعلم بها العلماء أو للثواب فإنه بمعنى المثوبة أو الجنة أو الإيمان والعمل الصالح فإنهما في معنى السيرة والطريقة، وجرى ابن عطية على أن الضمير عاد إلى غير مذكور لفظاً دل عليه المقام كهو في حتى توارت بالحجاب، وكل من عليها فان ( {إلا الصابرون} ) أي على الطاعات وعن الشهوات وهذا جماع الخيرات كلها ( {فخسفنا به} )

أي بقارون ( {وبداره الأرض} ) وذلك لدعاء موسى عليه وأمر الله الأرض بطاعة موسى فقال لها: يا أرض خذيهم فأخذته ومن معه، ففي الآيات شؤم البغي وسوء مصرع الكبر، قال الشاعر: والبغي مصرع مبتغيه وخيم 1612 - (وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبيّ قال: لا يدخل الجنة) أي أبداً إن استحلّ ما يأتي مع علمه بتحريمه، والمراد من في قلبه كبر عن الإيمان. وقيل لا يدخلها ذو كبر: أي لا يكون في قلبه شيء منه حال دخولها، قال تعالى {ونزعنا ما في صدورهم من غلّ} قال المصنف: وهذا كتأويل الخطابي فيهما بعد، فإن الحديث ورد في سياق النهي عن الكبر الآتي معناه في الحديث، فلا ينبغي حمله على هذين المخرجين له عن المطلوب، بل الظاهر ما اختاره عياض وغيره من المحققين أنه لا يدخلها دون مجازاة إن جازاه، وقيل هذا جزاؤه إن جازاه وقد تكرم بأنه لا يجازيه، بل لا بد أن يدخل كل الموحدين الجنة إما أولاً وإما ثانياً بعد تعذيب أصحاب الكبائر الذين ماتوا مصرين عليها، وقيل لا يدخلها مع المتقين أول وهلة (من في قلبه مثقال ذرة) أي زنة نملة صغيرة أو جزء من أجزاء الهباء (من كبر) بكسر فسكون (فقال رجل) هو مالك بن مرارة بضم الميم الرهاوي بفتح الراء فيما ذكره الحافظ عبد الغني بن سعيد المصري، وبضمها كما يؤخذ من كلام الجوهري في «صحاحه» وكون القائل مالكاً، قاله القاضي عياض وأشار إليه ابن عبد البرّ وقد جمع ابن بشكوال الحافظ في اسمه أقوالاً من جهات فقال: هو أبو ريحانة واسمه شمعون ذكره ابن الأعرابي. وشمعون قال المصنف بالشين المعجمة وإهمال العين وإعجامها، وقيل ربيعة ابن عامر ذكره عليّ ابن المديني في «الطبقات» . وقيل سواد بالتخفيف ابن عمرو ذكره ابن السكن، وقيل معاذ بن جبل ذكره ابن أبي الدنيا في كتاب الخمول والتواضع. وقيل مرارة الرهاوي ذكر أبو عبيد في غريب الحديث، وقيل عبد الله بن عمرو بن العاص ذكره عمر في «جامعه» ، وقيل خُريم بن فاتك هذا ما ذكره ابن بشكوال ذكره المصنف في «شرح مسلم» (إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، قال: إن اللَّه جميل يحب الجمال) أي فليس ذلك من

الكبر: أي إذا لم يكن على وجه الفخر والخيلاء والمباهاة بل على سبيل إظهار نعمة الله امتثالاً لقوله تعالى: {وأما بنعمة ربك فحدث} (الضحى: 11) واختلف في معنى قوله «إن الله جميل» فقيل معناه: كل أمره جميل فله الأسماء الحسنى والصفات العلا. وقيل جميل بمعنى مجمل ككريم بمعنى مكرم. وقال القشيري: معناه جليل. وحكى الخطابي أنه بمعنى ذي النور والبهجة: أي مالكها. وقيل معناه جميل الأفعال بكم والنظر إليكم، يكلفكم اليسير ويغنيكم عن الكثير ويثيب الجزيل ويشكر عليه. واعلم أن هذا الاسم ورد في هذا الحديث الصحيح ولكنه من أخبار الآحاد، وورد أيضاً في الأسماء الحسنى وفي إسناده مقال، والمختار جواز إطلاقه عليه تعالى. ومن العلماء من منعه، قال إمام الحرمين: ما ورد في الشرع إطلاقه في أسماء الله تعالى وصفاته أطلقناه، وما منع الشرع من إطلاقه منعناه، وما لم يرد فيه إذن ولا منع لم نقض فيه بتحليل ولا تحريم لأن الأحكام الشرعية تتلقى من موارد الشرع، ولو قضينا بتحليل أو تحريم لكنا مثبتين حكماً بغير الشرع، قال: ثم لا يشترط في جواز الإطلاق ورود ما يقطع به في الشرع ولكن ما يقتضي العمل وإن لم يوجب العلم فإنه كاف، إلا أن الأقيسة الشرعية من مقتضيات العمل، ولا يجوز التمسك بها في تسمية الله تعالى ووصفه، هذا كلام إمام الحرمين ومحله من الإتقان والتحقيق بالعلم مطلقاً، وبهذا العلم خصوصاً معروف بالغاية العليا، وكذا قال القاضي عياض: الصواب جواز العمل في ذلك بخبر الآحاد لاشتماله على العمل: أي بأن يدعي بها ويثني على الله بها، وذلك عمل لقوله {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} (الأعراف: 180) (الكبر بطر الحق) وعدم الانقياد له (وغمط الناس. رواه مسلم) في كتاب الإيمان من «صحيحه» ، ورواه أبو داود في كتاب اللباس من «سننه» ، والترمذي في البرّ والصلة من «جامعه» ، والنسائي في السنة من «سننه» ، ومداره عندهم على الأعمش عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن ابن مسعود اهـ ملخصاً من «الأطراف» (بطر) بفتح الموحدة والطاء والراء المهملتين (الحق دفعه) قال في «النهاية» : هو أن يجعل ما جعله الله حقاً من توحيده وعبادته باطلاً. وقيل هو أن يتكبر عن الحق فلا يقبله اهـ. قلت: وعليه فالدفع على المعنى الأول عدم الإذعان لذلك، وعلى المعنى الثاني عدم الانقياد. ومن الأول آية النساء {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} (النساء: 65) الآية. ومن الثاني آية النور في صفة المنافقين {وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم

معرضون} (النور: 48) أقول: إن جعلت أل في الحق للاستغراق فالكبر لا يكون إلا من الكافر وهو لا يدخلها أبداً، وإن أريد بالحق بعض أفراده: أي ما عدا الإيمان من أحكام الشرع كان الكبر موجوداً في الكافر والمؤمن، لأنه قد يمتنع من الانقياد له عصياناً ولا يخرجه ذلك عن إيمانه، ويؤيد إرادة الثاني قوله (ورده على قائله) أي كائناً من كان من كبير أو صغير جليل أو حقير، وذلك الدفع والردّ قد صدرا منه ترفعاً وتجبراً، أما لو لم يتضح له حقيقة أمر ولم ينقد له ورده على قائله لا تكبراً عن الحق ولا ترفعاً عليه بل لعدم ظهور أن ذلك من الحق عنده فلا يكون من الكبر، وقد تقدم في التواضع أنه قبول الحق والإذعان له من غير نظر لقائله فهذا ضده (وغمط الناس) بفتح الغين المعجمة وسكون الميم وبالطاء المهملة، قال: وبالظاء ذكره أبو داود في «مصنفه» ، وذكره أبو عيسى الترمذي وغيره بالصاد المهملة وهما بمعنى واحد، وهو ما بينه المصنف بقوله (احتقارهم) يقال في الفعل منه غمطه يغمطه من باب ضرب، وجاء من باب علم. 2613 - (وعن سلمة) بفتح أوليه (ابن الأكوع رضي الله عنه أن رجلاً) تقدم تعيينه مع الكلام على الحديث وشرحه في باب المحافظة على السنة (أكل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشماله) يحتمل أن يكون فعله لذلك ابتداء جهلاً بالسنة ثم لما عرفها كما قال (فقال) يعني النبيّ (كل بيمينك) أي كما هو الأدب المندوب المحبوب، أخذته نفسه فلم ينقد للحق واعتذر بما ليس كذلك في الواقع (فقال: لا أستطيع) أي الأكل بها أي لعلة تمنع من إعمالها (فقال: لا استطعت) ويحتمل أن يكون ذلك منه من أوّل الأمر عناداً واستكباراً فأصابه ما أصابه، وقوله (ما منعه إلا الكبر) جملة مستأنفة لبيان الذي اقتضى دعاءه عند ذلك مع كمال رحمته ومزيد عفوه وصفحه: أي إنه لما علم أن المانع له عن الانقياد كبره عن الحق ودفعه له دعا عليه، ففيه الدعاء على من قصد الخروج عن الشريعة عمداً (قال) أي سلمة (فما رفعها) أي فما رفع المدعو عليه شماله (إلى فيه) إجابة لدعائه، وقدمنا ثمة أنه

كان مؤمناً خلافاً لما قال القاضي عياض إنه كان من المنافقين (رواه مسلم) في باب الأطعمة من «صحيحه» . 3614 - (وعن حارثة) بالحاء المهملة والمثلثة (ابن وهب) وهو الخزاعي أخو عبيد الله بن عمر بن الخطاب لأمه، ذكره ابن الأثير في «أسد الغابة» وقال روى عنه أبو إسحاق السبيعي ومعبد بن خالد الجهني ثم أخرج عنه الحديث الذي فيه الكلام ولم يزد عليه في ترجمته (رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ألا أخبركم بأهل النار؟) أي بأغلبهم (كل عتلّ) بضم المهملة والفوقية وتشديد اللام: أي غليظ جاف (جواظ) بفتح الجيم وتشديد الواو وبالظاء المعجمة: أي جموع منوع. وقيل المختال في مشيته (مستكبر) وفي التعبير بتاء الاستفعال إيماء إلى أن داء الكبر يطلبه لنفسه وليس هو له، بل الذي له العبودية والتذلل، والكبرياء لله سبحانه (متفق عليه. وتقدم شرحه) ومن خرّجه (في باب ضعفة المسلمين) وكذا ذكر في الباب المذكور الحديث عقبه. 4615 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: احتجت الجنة والنار) قال المصنف: هو على ظاهره، وإن الله تعالى جعل فيهما تمييزاً يدركان به فتحاجا، ولا يلزم من ذلك دوام التمييز لهما (فقالت النار: فيَّ الجبارون) قال الراغب في «مفرداته» :

الجبار في صفة الإنسان يقال لمن تجبر بمعصية بادعاء منزلة من التعالي لا يستحقها، ولا يقال إلا على طريق الذم نحو {وخاب كل جبار عنيد} (إبراهيم: 15) ويقال للقاهر غيره جبار نحو {وما أنت عليهم بجبار} (ق: 45) اهـ. قلت: والأنسب هنا المعنى الأول بقرينة قرينه وهو (والمتكبرون) وأنه جاء عند أبي هريرة «أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين» كما سيأتي، ويحتمل المعنى الثاني ويراد يجبر غيره على الباطل فيكون مذموماً إذ الجبر على الحق لمن تمكن منه محمود، وفي التعبير بصيغة التفعيل إيماء إلى ما تقدم فيما قبله من تكلف المتكبر صفة التكبر وادعائه ما ليس له (وقالت الجنة: فيَّ ضعفاء الناس) جمع ضعيف وألفه ممدودة: أي الخاضعون لله سبحانه المذلون أنفسهم له (ومساكينهم) جمع تكسير لمسكين: أي ذوو حاجاتهم من فقير ومسكين قال الشافعي رضي الله عنه: الفقير والمسكين إذا اجتمعا: أي في الذكر افترقا: أي في المعنى، وإذا افترقا: أي بأن ذكر أحدهما فقط اجتمعا: أي في المعنى بأن يفسر المذكور بما يشملهما (فقضى الله بينهما) أي فصل بينهما قائلاً (إنك) بكسر الهمزة والكاف (الجنة) يجوز رفعه كما رأيته مضبوطاً بالقلم في أصل مصحح من الرياض خبر إن ونصبه بدلاً من الضمير بدل كل، وقوله (رحمتي) خبر إن على الثاني، وعلى الأول خبر بعد خبر، ويكون ذلك الخبر الأول كالموطىء للثاني نحو جاء كما في جاء زيد رجلاً راكباً من الحال الموطئة وضابطها كل جامد موصوف بما يبين الهيئة به، وظاهر أن ما ذكر يجيء في قوله وإنك النار الخ، وجملة (أرحم بك من أشاء) مستأنفة ببيان حكمة إنشائها وإيجارها، ويجوز كونهاحالاً مما قبلها (وإنك النار عذابي أعذب بك من أشاء) وتقديم الأول على الثاني إيماء إلى سبق الرحمة على العذاب والفضل على العقاب (ولكليكما عليّ ملؤها) أي ما يملؤها من الخلائق (رواه مسلم) في باب صفة الجنة والنار منفرداً به عن باقي السنة، لكن قضية صنيع المصنف أنه ساقه بهذا اللّفظ عن أبي سعيد. والذي في مسلم أنه أورد الحديث عن أبي هريرة من طرق قال في أولها «تحاجت النار والجنة فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، فقالت الجنة: وما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وعجزهم، فقال الله للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاى من عبادي، وقال للنار: أنت النار أعذب بك من أشاء

من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما النار فلا تمتلىء فيضع قدمه عليها فتقول قط قط، فهنالك تمتلىء ويزوى بعضها إلى بعض، وفي باقيها عنه نحو هذا وفي آخره «قال اللَّه للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أتت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها» الحديث، وهو بهذا اللّفظ عند البخاري بالطريق التي عند مسلم، ثم أورد مسلم الحديث عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله «احتجت الجنة والنار» وقال مسلم: فذكر أبو سعيد نحو حديث أبي هريرة إلى قوله: ولكليكما عليّ ملؤها، ولم يذكر ما بعده من الزيادة انتهت عبارة مسلم، وبهذا يظهر أن ما ساقه المصنف من لفظ الحديث لم يسقه مسلم كذلك، وإنما أشار إلى أنه نحو حديث أبي هريرة، ولعل المصنف وقف عليه من طريق آخر أن هذا لفظه، وأنه الذي أشار إليه الحافظ مسلم بقوله نحو حديث أبي هريرة والله أعلم. 5616 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا ينظر الله يوم القيامة) أي نظر رحمة (إلى من جر إزاره بطراً) بفتح أوليه الموحدة والطاء المهملة، قال الراغب: البطر دهش يعتري من سوء احتمال النعمة وقلة القيام بحقها وصرفها إلى غير وجهها، ويقارب البطر الطرب وهو خفة أكثر ما يعتري من الفرح، وقد يقال ذلك من البرح اهـ. وبطراً منصوب على العلة أو الحالية بتقدير مضاف: أي ذا بطر أو بتأويله بالوصف أي بطراً أو بإبقائه على ظاهره مبالغة في وصفه كأنه عينه (متفق عليه) أخرجاه في اللباس، وعندهما عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا ينظر الله إلى من جرّ ثوبه خيلاء» قال المصنف: والخيلاء بالمد والمخيلة والبطر والزهو والكبر والتبختر كلها بمعنى واحد، وهو حرام، وحديث ابن عمر يدل على أن الإسبال يكون في الإزار والقميص والعمامة، والمستحبّ فيما ينزل إليه طرف القميص والإزار من الرجل نصف الساق، ففي حديث أبي سعيد مرفوعاً: «إزرة المؤمن إلى أنصاف سامية لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين فما نزل عن الكعبين

فممنوع تحريماً إذا كان على سبيل الخيلاء وتنزيهاً إن لم يكن كذلك والأحاديث المطلقة بأن ما تحت الكعبين في النار محمولة على ما كان للخيلاء، لأن المطلق يحمل على المقيد، قاله المصنف في «شرح مسلم» ، وحديث أبي هريرة قال السيوطي في «الجامع الكبير» : خرّجه البيهقي أيضاً في «الشعب» ، ولم أره تعرض فيه لحديث ابن عمر مرفوعاً «لا ينظر الله إلى من جرّ ثوبه خيلاء» مع أنه عندهما وهذا من العجب/ والنسيان من طبع الإنسان وبالله المستعان. 6617 - (وعنه قال: قال رسول الله: ثلاثة) أي أصناف ثلاثة، أو ثلاثة من الأصناف، فللوصف ساغ الابتداء به (لا يكلمهم الله يوم القيامة) كناية عن الغضب أو لا يكلمهم بما يسرهم، قال المصنف: وقيل المعنى لا يكلمهم تكليم أهل الخير بإظهار الرضا بل كلام أهل السخط (ولا يزكيهم) أي لا يقبل أعمالهم فيثنى عليهم أو لا يطهرهم من الذنوب (ولا ينظر إليهم) أي نظر رحمة (ولهم عذاب أليم) أي مؤلم، قال الواحدي: هو الذي يخلص إلى قلوبهم وجعه، قال: والعذاب كل ما يعي الإنسان ويشق عليه، وهذا منه على أن أليم بمعنى مؤلم اسم فاعل، ويجوز أن يكون بمعنى المفعول فيكون فيه إيماء إلى شدة فظاعة العذاب، لأنه إذا تألم من نفسه فكيف بمن فيه، وقدم الخبر للاهتمام به تحذيراً عما يؤدي إلى الاندراج في شيء منه (شيخ) أي من طعن في السن واستطال فيه، وذلك من الخمسين فما فوق (زان، وملك) بكسر اللام (كذاب، وعائل مستكبر) قال القاضي عياض: سبب تخصيص هؤلاء بهذا الوعيد أن كلاً منهم التزم المعصية المذكورة مع بعدها منه وعدم ضرورته إليها وضعف دواعيها عنده، وإن كان لا يعذر أحد بذنب، لكن لما لم يكن إلى هذه المعاصي ضرورة مزعجة ولا دواعي معتادة أشبه إقدامهم عليها المعائدة والاستخفاف بحق الله تعالى وقصد معصيته لا لحاجة غيرها، فإن الشيخ لكمال عقله وتمام معرفته بطول ما مرّ عليه من الزمان وضعف أسباب الجماع والشهوة للنساء واختلاف دواعيه لذلك عنده ما يريحه من دواعي الحلال في هذا وتخلى سرّه فكيف بالزنى الحرام، وإنما دواعي ذلك الشباب والحرارة الغريزية وقلة المعرفة وغلبة الشهوة لضعف العقل وصغر السن. وكذلك الإمام لا يخشى من أحد من رعيته، ولا يحتاج إلى مداهنة ومصانعة، فإن الإنسان إنما يداهن ويصانع بالكذب من يحذره ويخشى أذاه أو معاتبته ويطلب عنده بذلك منزلة أو منفعة

فهو غنى عن الكذب مطلقاً، وكذلك الفقير العائل قد عدم المال، وإنما سبب الفخر والخيلاء والكبر الارتفاع عن القرناء بالثروة في الدنيا لكونه ظاهراً فيها وحاجات أهلها إليه، فإذا لم يكن عنده أسبابها فلماذا يستكبر ويستحقر غيره؟ فلم يبق فعله وفعل الشيخ الزاني والإمام الكاذب إلا لضرب من الاستخفاف بحق الله تعالى اهـ (رواه مسلم) في كتاب الإيمان من «صحيحه» ، ورواه النسائي في الرحم من «سننه» (العائل الفقير) من العيلة بفتح العين وهو الفقر وجمع عائلاً عالة وهو في تقدير فعله ككافر وكفرة، قاله في «المصباح» . 7618 - (وعنه: قال رسول الله: يقول الله عزّ وجل: العزّ إزاري والكبرياء ردائي) قال المظهري: الكبرياء غاية العظمة والترفع عن أن ينقاد لأحد أو إلى شيء بوجه من الوجوه، وهذا لا يكون إلا لله، والإزار والرداء متشابهان، لأن الرداء ما يلبس به الرجل رأسه وكتفه وأسفل من ذلك، والإزار ما يلبس به الرجل من وسطه إلى قدميه، والعزّ والكبرياء صفتان مختصتان بي لا يشاركني فيهما غيري كما لا يشارك الرجل في ردائه وإزاره اللذين هما لباساه (فمن نازعني عذبته) يقال نازعه إذا جذب وأخذ شيئاً من واحد وجذب ذلك الواحد من صاحبه ذلك ويقول كل منهما هذا ملكي وحقي: أي يقول تعالى: إن هذين حق لا يستحق واحداً منهما غيري، فمن ادعى العزّ أو الكبرياء فقد خاصمني ومن خاصمني صار كافراً عذبته (رواه مسلم) قال المزي في «الأطراف» : رواه في اللباس من «صحيحه» ، ورواه أبو داود في الزهد وابن ماجه في «سننهما» / ورواه البزار اهـ ملخصاً. وفي الأحاديث القدسية التي جمعها الحافظ العلائي بعد إبراد الحديث عن الأغرّ عن أبي هريرة كما أورده مسلم باللفظ المذكور ما لفظه متفق عليه من هذا الوجه. 8619 - (وعنه: أن رسول الله قال: بينما رجل) قال الدماميني في «المصابيح» نقلا عن

السهيلي في «مبهمات القرآن» : إنه الهيزن رجل من أعراب فارس وهم من الترك. وفي «صحاح الجوهري» : إنه قارون اهـ. وفي «تفسير الخازن» : قال قتادة: خسف به، أي قارون فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قامة رجل لا يبلغها: أي إلى قعرها إلى يوم القيامة (يمشي في حلة) بضم المهملة: ثوب له ظهارة وبطانة (تعجبه نفسه) جملة مستأنفة لبيان سبب الخسف به أو حالية من ضمير يمشي أو خبر بعد خبر (مرجل رأسه) بتشديد الجيم من الترجيل وهو تسريح الشعر (يختال) أي يزهو ويتكبر في مشيته بكسر الميم (إذ خسف الله به) أشار ابن حجر الهيثمي في شرح حديث جبريل في الإسلام والإيمان والإحسان أن إذ أفادت هنا مع كونها ظرف زمان المفاجأة. قال وخالف في ذلك أبو حيان في «بحره» فقال: وهو ملازم للظرفية، ولا يكون مفعولاً به ولا حرفاً للتعليل أو المفاجأة ولا ظرف مكان خلافاً لزاعمي ذلك اهـ. وقد بسطت الكلام في «إذ» في أوّل رسالتي في قوله تعالى: {وإذ استسقى موسى لقومه} (البقرة: 60) (فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة) وإنما فعل به ذلك تدريجاً ليدوم عليه العذاب فيكون أبلغ في نكايته وإهانته لكبره (متفق عليه) روياه في اللباس. والذي في مسلم في روايته «قد أعجبته جمته وبرداه» وفي أخرى له «بينما رجل يتبختر يمشي في برديه قد أعجبته نفسه» وفي رواية له «بينما رجل يتبختر يمشي في بردين» وفي رواية «إن رجلاً ممن كان قبلكم يتبختر في حلته» ولم أر قوله «يختال في مشيته» عند البخاري في أبواب اللباس ولا عند مسلم، والله أعلم (مرجل رأسه: أي ممشطه) كذا بصيغة الماضي والأنسب ممشط قال: بصيغة الوصف (يتجلجل بالجيمين: أي يغوص وينزل) به إلى أسفل. وروي بالخاء المعجمة واستبعده القاضي إلا أن يكون من قولهم خلخلت العظم إذ أخذت ما عليه من اللحم، ورويناه في غير الصحيحين بحاء مهملة. 9620 - (وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: قال رسول الله: لا يزال الرجل يذهب

73 ـــ باب حسن الخلق

بنفسه) قال العاقولي: الباء فيه للتعدية: أي يرفع نفسه ويعتقدها عظيمة مرتفعة المقدار على الناس، ويجوز أن تكون للمصاحبة: أي يرافقها ويوافقها على ما تريد من الاستعلاء ويعززها ويكرمها كما يكرم الخليل الخليل حتى تصير متكبرة. وفي الأساس ذهب به فرّ مع نفسه، ومن المجاز ذهب به الخيلاء اهـ (حتى يكتب في الجبارين) أي من جملتهم ومندرجاً غمارهم (فيصيبه ما أصابهم) أي من العذاب، وأتى به بلفظ ما الموصولة تفظيعاً في الوعيد (رواه الترمذي) في البر والصلة (وقال: حديث حسن. يذهب بنفسه: أي يرتفع ويتكبر) سكت عن الكلام على الباء وقد علمته. 73 - باب حسن الخلق بضم المعجمة واللام وقد تسكن تخفيفاً، وحسن الخلق: ملكة بالنفس يقتدر بها على صدور الأفعال الجميلة بسهولة، واختلف هل هو غريزي، أو كسبي؟ (قال الله تعالى) : ( {وإنك لعلى خلق عظيم} ) سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه فقالت: كان خلقه القرآن: أي آدابه وأوامره. وقال عليّ: الخلق العظيم آداب القرآن. وعبر ابن عباس عن الخلق بالدين والشرع، وذلك لا محالة رأس الخلق ووكيده، إما أن الظاهر من الآية أن الخلق الذي أثنى تعالى عليه به فهو كرم السجية وبراعة القريحة والملكة الجميلة وجودة الضرائب، ومنه قوله «بعثت لأتمم مكارم الأخلام» وقال الجنيد: سمى خلقه عظيماً إذ لم يكن همه سوى الحق سبحانه عاشر الخلق يخلقه وزايلهم بقلبه، فكان ظاهره مع الخلق وباطنه مع الحق. وفي وصية الحكماء: عليك بالخلق مع الخلق وبالصدق مع الحق وحسن الخلق خير كله. وقيل وصف خلقه بالعظم إشارة إلى أنه كان يؤدي كل مقام من رفق وغلظ حقه، فكان بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً، وكان يغلظ على الكفار وينتقم لله سبحانه. (وقال تعالى)

( {والكاظمين الغيظ} ) الكافين عن إمضائه مع القدرة عليه ( {والعافين} ) التاركين ( {عن الناس} ) عقوبة استحقوها قبلهم ( {والله يحبّ} ) أي يثيب ( {المحسنين} ) إشارة إلى أن هؤلاء في مقام الإحسان. 1621 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله أحسن الناس خلقاً) كيف وقد قال «أدبني ربي فأحسن تأديبي» (متفق عليه) وعندهما من حديث البراء بن عازب «كان النبيّ أحسن الناس وجهاً وأحسنهم خلقاً» الحديث. 2622 - (وعنه قال: ما مست) بكسر السين وجاء بفتحها: من باب قتل، والمس الإفضاء باليد بلا حائل، هكذا قيدوه، كذا في «المصباح» (ديباجاً) بكسر الدال المهملة وسكون التحتية بعدها موحدة آخره جيم: وهو ثوب سداه ولحمته إبريسم ويقال هو معرّب، واختلف في الياء فقيل زائدة ووزنه فيعال ولذا يجمع على ديابيج، وقيل هي أصل والأصل دباج بالتضعيف فأبدل من أحد الضعفين حرف العلة ولذا ترد في الجمع إلى الأصل فيقال دبابيج بياء موحدة بعد الدار (ولا حريراً) هو الإبريسم وهو هنا من باب الترقي لأنه أنعم من الديباج (ألين من كفّ رسول الله) لا ينافيه ما جاء في صفته أنه شثن الكف والقدمين بالمعجمة والمثلثة، وضبطه الحافظ السيوطي بالمثناة الفوقية بدل المثلثة، وفسره الأصمعي بالغلظ مع الخشونة، فأورد عليه أنه جاء في صفته عند البخاري وغيره أنه لين الكف، فحلف أن لا يفسر شيئاً في الحديث، إما أن ذلك تفسير لشثنها لا في خصوص هذا الحديث والمراد منه فيه ميلها إلى الغلظ من غير قصر ولا خشونة: أي غلظ العضو لا خشونة الجلد وهذا محمود في الرجال كما في «النهاية» ، لأنه أشد لقبضهم لا في النساء، وإما لأن المراد اللين بحسب أصل الخلق والخشونة لعارض عمل أو سفر. والكفّ هي الراحة مع الأصابع، سميت

بذلك لأنها تكفّ الأذى عن البدن وهي مؤنثة. وقال ابن الأنباري: زعم من لا يوثق به أنها مذكر ولا يعرف تذكيرها عمن يوثق بعلمه، وأما كفّ مخضب فعلى معنى ساعد مخضب (ولا شممت) من باب تعب وشم يشم من باب قتل في لغة (رائحة قط) بفتح القاف وتشديد الطاء المهملة المضمومة: أي في زمن من الأزمنة الماضية (أطيب من رائحة رسول الله) وهي له عرض لازم غير منفك ومن ذاته غير مستمدّ من شيء خارج (ولقد خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين) هي مدة توطنه المدينة بعد هجرته إليها جاء به أهله إليه ليخدمه فأخدمه (فما قال لي قط أفّ) هو صوت دلّ على التضجر وهو مبنى على الكسر والتنوين للتنكير، ومن فتح فعلى التخفيف وفيها لغات عديدة تقدمت الإشارة إليها، وفي ذلك حفظ أنس من الأفعال المحظورة، إذ لو وقعت منه لما سكت على شيء منها (ولا قال لشيء فعلته) جليلاً كان أو حقيراً كما يؤذن به تنكير شيء في سياق النفي (لم فعلته) سؤال عن سبب الفعل والباعث عليه (ولا لشيء لم أفعله ألا) بفتح الهمزة وتخفيف اللام أداة عرض (فعلت كذا) وذلك منه كما تسليم منه لمولاه سبحانه وشهود لما يصدر من أقداره في عالم الشهادة، وأن ما ترك ولم يظهر مما لم يرد الله عدم ظهوره لا سبيل لظهوره فلا فائدة لطلب حصول ما لم يحصل ولا للسؤال عن السبب الحامل. وفيه كمال حسن خلقه، فإن شأن المجاورة والمخالطة تقتضي السؤال عن ذلك، ولكن حسن خلقه حمله على ألا يسأل عما وقع من خادمه (متفق عليه) . 3623 - (وعن الصعب) بتشديد المهملة الأولى وسكون الثانية آخره موحدة (ابن جثامة) بفتح الجيم وتشديد المثلثة، واسم جثامة يزيد بن قيس بن عبد الّله بن يعمر بن عوف بن عامر ابن ليث الليثي الحجازي، توفي (رضي الله عنه) في خلافة الصديق رضي الله عنه كذا في «التهذيب» للمصنف وفي «المستخرج المليح» لابن الجوزي، روى له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ

ستة عشر حديثاً، أخرج له في الصحيحين حديثان متفق عليهما وأحدهما يجمع حديثين للبخاري أحد الحديثين وما سوى ذلك متفق عليه (قال: أهديت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حماراً وحشياً) وهو أحد ما روي في هديته كما بينه الحافظ في أواخر الحج من «الفتح» (فرده عليّ) لأن المحرم لا يتعرض للصيد بوجه (فلما رأى ما في وجهي) من الأثر الناشيء فيه عن رد هديته فإن ذلك يكسر في نفس المهدي (قال: إنا لم نرده) بضم الدال على الأفصح إتباعاً لحركة الضمير، وقول القاضي بوجوب الضم فيه حينئذ رده المصنف في «شرح مسلم» بأنه أفصح، وإلا فيجوز فيه الكسر بضعف، والفتح هو أضعف منه، وممن ذكره ثعلب في الفصيح لكن غلطوه لكونه يوهم فصاحته ولم ينبه على ضعفه (عليك إلا لأنا حرم) بضمتين أي محرمون (متفق عليه) أخرجه البخاري في الحج وفي الهبة، ولفظه في الهبة «فلما رأى في وجهي» بإسقاط «ما» وأخرجه مسلم في الحج ورواه الترمذي فيه وقال: حسن صحيح، والنسائي وابن ماجه في الحج من «سننهما» . 4624 - (وعن النواس) بفتح النون وتشديد المهملة آخره سين مهملة (ابن سمعان) بفتح السين وكسرها، تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) مع الكلام على حديثه في باب الورع وترك الشبهات (قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البر) أي الطاعة (والإثم) أي المعصية لأنها سببه (فقال البرّ) أي معظمه (حسن الخلق) وذلك لأنه يقتدر به صاحبه على محاسن الأفعال وترك رذائل الأعمال وهذا وضع الشريعة (والإثم ما حاك) بالمهملة أي تردد (في نفسك) أن تفعله لداعية النفس لفعله أو تتركه لكراهة النفس له لعدم وضوح جوازه شرعاً (وكرهت أن يطلع عليه الناس) أي فيعبرونه بفعله فإن النفس بطبعها تحب المدحة وتكره

المذمة (رواه مسلم) في البر والصلة. 5625 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص) كذا فيما وقفت عليه بحذف الياء، وتقدم أن الأفصح إثباتها في مثله من كل منقوص حذفت لامه تخفيفاً (رضي الله عنهما قال: لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاحشاً) أي ليس ذا فحش في كلامه وأفعاله. والفحش ما يشتد قبحه من الأقوال والأفعال (ولا متفحشاً) أي متكلف ذلك ومتعمده (وكان يقول: إن من خياركم) عند البخاري «من أخيركم» بإثبات الألف في رواية وبحذفها في رواية الأصيلي، والأولى هي الأصل إلا أنهم تركوه غالباً فيها وفي شر (أحسنكم أخلاقاً) وذلك لما تقدم من دعاء حسن الخلق إلى المحاسن والانكفاف عن المساوي، ومن كان كذلك فلا شك في كونه من الخيار والأخيار، وقيل المراد منه هو لأنه أحسن خلقاً فيكون عاماً مراداً به خاص، والأول لما فيه من التهييج على التخلق بذلك أنسب (متفق عليه) أخرجه البخاري في صفة النبيّ وفي الأدب، وأخرجه مسلم في الفضائل، ورواه الترمذي في البرّ وقال: حسن صحيح. 6626 - (وعن أبي الدرداء) تقدمت ترجمته وبيان اسمه (رضي الله عنه) في باب ملاطفة اليتيم (أن النبي قال: ما من) مزيدة لتأكيد العموم المستفاد من (شيء) لكونه نكرة في سياق النفي وهو اسم ما وخبرها (أثقل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق) وهذا الحديث ظاهر في أن نفس العمل بوزن بأن يجسد. وتجسد المعاني جائز كما جاء «يؤتى بالموت في صورة كبش» الحديث. وقد اختلف على ذلك في أقوال: ثانيها أن الموزون

الأعمال. ثالثها الموزون نفس العمل. وفي التقييد بالمؤمن إيماء إلى أن الكافر لا يوزن عمله لأنه لا طاعة له لتوزن في مقابلة كفره، وهو أحد قولين في ذلك أيضاً. وفيه إشارة إلى سوء خلق الكافر، وذلك لأنه ترك عبادة خالق كل شيء إلا عبادة من لا يخلق من شيء (وإن الله يبغض) بضم التحتية من الإبغاض، قال في «المصباح» : ولا يقال بغضته بغير ألف ويقال أبغضته فهو مبغض وبغضه الله بتشديد الغين فأبغضوه: أي لا يثنى عليه في عالم الملكوت خيراً أو لا يثيبه أو لا يوفقه (الفاحش البذيء. رواه الترمذي) في البر والصلة من «جامعه» (وقال: حديث صحيح) وفي «الجامع الصغير» بعد ذكر الحديث بلفظ «ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق» رواه أحمد وأبو داود. وعن أبي الدرداء بلفظ «ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب الخلق الحسن ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة» رواه الترمذي عن أبي الدرداء (البذي) بفتح الموحدة وكسر المعجمة وتشديد التحتية على وزن فعيل من بذا يبذو وبذاء بالفتح والمد: سفه وأفحش في منطقة وإن كان كلامه صدوقاً، كذا في «المصباح» (هو الذي يتكلم بالفحش) أي الخارج عن الاعتدال من القول (ورديء الكلام) وقال العاقولي: البذي هو السىء الخلق، وهو ملازم لما قبله لأن الفحش إنما يصدر عنه. 7627 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله عن أكثر ما يدخل الناس الجنة) أي من الأعمال والأقوال والأحوال (فقال: تقوى الله وحسن الخلق) قال ابن القيم: جمع بينهما لأن تقوى الله تصلح ما بين العبد وبين ربه، وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه (وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: الفم والفرج) وذلك لأنه يصدر من الفم الكفر والغيبة والنميمة ورمي الغير في المهالك وإبطال الحق وإبداء الباطل وغير ذلك مما أشار إليه الشارع بقوله «وهل يكبّ الناس على وجوههم/ أو قال على مناخرهم إلا

حصائد ألسنتهم» وبقوله «وإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً» والفرج يصدر منه الزنى واللواط (رواه الترمذي) في أبواب الصبر والصلة (وقال: حديث حسن صحيح) . 8628 - (وعنه قال: قال رسول الله: أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) وقد تقدم حديث «البرّ حسن الخلق» فكلما كان العبد أحسن أخلاقاً كان أكمل إيماناً. وفيه دليل زيادة الإيمان ونقصانه (وخياركم) أي عند الله سبحانه (خياركم) أي في الظاهر (لنسائهم) وذلك بالبشاشة وطلاقة الوجه وكفّ الأذى وبذل الندى والصبر على إيذائها، فالتغاير بين المسند إليه والمسند حاصل (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) وأورده في «الجامع الصغير» بلفظ «إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وألطفهم بأهله» وقال: رواه الترمذي والحاكم في «مستدركه» عن عائشة، وقد تقدم الحديث مع شرحه في باب الوصية بالنساء. 9629 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه) الباء فيه سببية، قال العاقولي: قيل هو بسط الوجه وبذل الندى وكفّ الأذى، وقيل هو ألا يخاصم ولا يخاصم من شدة معرفته بالله تعالى. وقال سهل: أدنى حسن الخلق الاحتمال وترك المكافأة والرحمة للظالم والاستغفار له والشفقة عليه: أي ليبلغ بحسن خلقه الداعي له إلى التحلي بالمحامد والتخلي عن المذامّ (درجة الصائم القائم)

أي أعلى الدرجات، فإن أعلى درجات الليل درجات القائم في التهجد، وأعلى درجات النهار درجات الصائم في حرّ الهواجر (رواه أبو داود) وكذا أخرجه ابن حبان في «صحيحه» كما في «الجامع الصغير» . 10630 - (وعن أبي أمامة) بضم الهمزة وتخفيف الميمين واسمه صدى بن عجلان (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: أنا زعيم ببيت في ربض الجنة) بفتح الراء والموحدة وضاد معجمة: ما حولها خارجاً عنها تشبيهاً بالأبنية التي تكون حول المدينة وتحت القلاع، قاله في «النهاية» (لمن ترك المراء) بالكسر مصدر كالمماراة وهي المجادلة، ويقال ماريته أيضاً: إذا طعنت في قوله تزييفاً للقول وتصغيراً للقائل، ولا يقال المراء إلا اعتراضاً بخلاف الجدال فإن يكون ابتداء واعتراضاً، قاله في «المصباح» (وإن كان محقاً) بضم أوله وكسر المهملة فيما يماري ويجادل: أي وإن كان ذا الحق في نفس الأمر، وذلك لأنه بعد أن يرشد خصمه إليه ويأبى عن قبوله، وليس من طالبي الاستبصار فلا ثمرة للمراء إلا تضييع الوقت فيما هو كالعبث (وببيت في وسط الجنة) الواو عاطفة على ما قبله: أي وأنا زعيم ببيت في وسطها وهو بفتح المهملة: أي متوسطها، ويجوز إسكان المهملة كما في «المصباح» (لمن ترك الكذب) أي الإخبار بخلاف الواقع، والمراد ترك المذموم منه وهو مالا مصلحة راجحة فيه. فيكون عاماً مخصوصاً مما عدا ذلك، إذ قد يكون مندوباً تارة كالكذب للإصلاح بين المتخاصمين وواجباً أخرى، كما إذا تيقن ترتب هلاك معصوم على صدقه بالإخبار عنه، ودليل التخصيص الأحاديث الواردة باستثناء ذلك (وإن كان مازحاً) أي بكذبه غير قاصد به الجد ولا يتناول التعريض فإنه ليس بكذب أصلاً كقول إبراهيم: {إني سقيم} أي سأسقم، وقوله في سارة إنهاأخته: أي باعتبار الإسلام وإطلاق الكذب على ذلك في بعض الأحاديث من مجاز المشاكلة: أي ظاهر صورته ذلك (وببيت في أعلى الجنة) هو ظاهر في أن المراد بوسط الجنة فيما قبله متوسط درجاتها ومنازلها، ففيه شرف كل من ترك الكذب وحسن الخلق على ما

قبله (لمن حسن) بتشديد السين المهملة (خلقه) وفي الإتيان به بصيغة التفعيل إيماء إلى مشقة التخلق بذلك والاحتياج فيه إلى مزاولة للنفس ورياضة لها (حديث صحيح رواه أبو داود) في الأدب (بإسناد) هو رجال السند (صحيح) أي ولا علة بالمتن ولا شذوذ فلذا صحح المصنف المتن، وإلا فظاهر أنه لا يلزم من صحة الإسناد صحة المتن لجواز عروض شذوذ أو نكارة أو علة فادحة (الزعيم) بوزن عظيم بالزاي والعين المهملة والتحتية (الضامن) ومنه قوله تعالى: {قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} (يوسف: 72) . 11631 - (وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله قال: إن من أحبكم إليّ) أي أكثركم حباً إليّ: أي اتباعاً لسنتي (وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة) أي في الجنة فإنها دار الراحة والجلوس، أما الموقف فالناس فيه قيام لرب العالمين، والنبيّ حينئذ قائم للشفاعة للعباد وتخليصهم مما هم فيه من الكرب إذ هو المقام المحمود الذي أعطيه يومئذ، ويوم تنازعه الوصفان قبله، ويحتمل ألاّ يكون من ذلك ويكون للأقرب منه (أحاسنكم أخلاقاً) جمع أفعل التفضيل هنا وأفرده في حديث أبي هريرة السابق، لأن المضاف إلى المعرفة يجوز فيه الوجهان، وأخلاقاً جمع خلق بضمتين أو بضم فسكون تخفيفاً ويجمع على خلائق أيضاً كما قاله الحافظ في كتاب الإنقاض في دفع الاعتراض (وإن أبغضكم إليّ وأبعدكم مني) حذف الظرف لدلالة ما قبله عليه أو لزيادة التفظيع للمعصية وشناعتها بتعميم البعد للمجلس والموقف لأن حذف المعمول يؤذن به. قال العاقولي في «شرح المصابيح» : هذا الحديث مبني على قاعدة هي أن المؤمنين من حيث الإيمان محبوبون ويتفاضلون بعد في صفات الخير وشعب الإيمان، فيتميز الفاضل بزيادة محبة، وقد يتفاوتون في الرذائل فيصيرون مبغوضين من حيث ذلك ويصير بعضهم أبغض من بعض، وقد يكون الشخص الواحد محبوباً من وجه مبغوضاً من وجه. وعلى هذه القاعدة فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحبّ المؤمنين كافة من حيث هم مؤمنون، وحبه لأحسنهم خلقاً أشد، ويبغض العصاة من حيث هم عاصون، وبغضه لأسوئهم

أخلاقاً أشد، كما يؤخذ ذلك من المعاملة. بل جاء عند البيهقي في «الشعب» «وإنّ أبغضكم إليّ وأبعدكم مني مساوئكم أخلاقاً الثرثارون» والحديث أورده في «المشكاة» من حديث أبي ثعلبة الخشني (الثرثارون والمتشدقون) بضم الميم وبفتح أوليه وكسر الدال المشددة (والمتفيهقون) أي إنهم الذين يتعمقون في الكلام، والتشدق: تكلف السجع والفصاحة والتصنع بالمقامات، وهو بضم الميم وفتح أوليه وكسر الهاء (قالوا) أي الحاضرون من الصحابة، ولم أقف على أسمائهم (يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون) كذا هو بالواو في الأصول على الحكاية لما وقع منه في لفظ الخبر، أي عرفنا المراد منهما (فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون. رواه الترمذي وقال: حديث حسن) ورواه البيهقي بنحوه في «الشعب» من حديث ثعلبة الخشني، وليس فيه قالوا قد علمنا الخ (والثرثار) بالمثلثتين المفتوحتين بينهما راء ساكنة (هو كثير الكلام) تكلفاً. زاد العاقولي: وخروجاً عن الحق، والثرثرة كثرة الكلام وترديده (والتشدق: المتطاول على الناس بكلامه ويتكلم بملء فيه تفاصحاً وتعاظماً لكلامه) قال ابن الحاجب في «الشافية» : ويجىء بمعنى تفاعل ليدل على أن الفاعل أظهر أن أصله: أي الفعل حاصل له وهو منتف عنه: نحو تجاهلت وتغافلت اهـ.u وما نحن فيه من هذا: أي لإظهار أن عنده الفصاحة. وعظم الكلام وهما منتفيان عنه. وقال العاقولي: قيل المتشدق المتوسع في الكلام من غير احتياط واحتراز. وقيل هو المستهزىء بالناس يلوي شدقه بهم وعليهم (والمتفيهق أصله) أي اشتقاقه (من الفهق) بفتح الفاء وسكون الهاء وبالقاف (وهو الامتلاء) زاد العاقولي: والاتساع، يقال أفهقت الإناء ففهق فهقاً (وهو الذي يملأ فمه بالكلام ويتوسع فيه) بالإتيان بالزائد على الحاجة على سبيل الإطناب والإسهاب (ويغرب به) أي يأتي بالألفاظ الوحشية الاستعمال، الغير المألوفة في الكلام

(تكبراً) علة ملء الفم بالكلام (وارتفاعاً) علة التوسع فيه (وإظهاراً للفضيلة على غيره) بالاطلاع على غريب الألفاظ والوصول إلى محاسن النفس والرضا عنها، وفي ذلك الإغماض عن محاسن السوى والإعراض عنها وهو الكبر. ( وروى الترمذي) في «جامعة» (عن عبد الله بن المبارك) بن واضح الحنظلي التميمي مولاهم أبو عبد الرحمن المروزي الأئمة الأعلام، حمل عن أربعة آلاف شيخ، وروى عن ألف منهم، وقيل له: إلى متى تكتب العلم؟ فقال: لعل الكلمة التي أنتفع بها ما كتبتها بعد، قال ابن مهدي: كان ينسخ وحده وكان يفضله على الثوري، وقال: ما رأيت أنصح للأمة منه، وقال ابن عيينة: ما رأيت للصحابة عليه فضلاً إلا بصحبتهم للنبي وغزوهم معه، وقال: كان ففيهاً عالماً زاهداً سخياً شجاعاً شاعراً، وقال الفضيل: ما خلف بعده مثله، وقال ابن سعد: كان ثقة مأموناً إماماً حجة. ولد سنة ثماني عشرة ومائة ومات منصرفاً من الغزو بهيت سنة إحدى وثمانين ومائة، زاد غيره في رمضان، وقد بسطت ترجمته في كتابي «رجال الشمائل» (رحمه الله في تفسير حسن الخلق قال: هو طلاقة الوجه) أي فرح ظاهر البشرة ويقال هو طليق الوجه وطلقه، وقال أبو زيد: طلق الوجه متهلل بسام (وبذل المعروف) من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة للكلمة الطيبة باللسان وبذل الندى والإحسان باليد وغير ذلك من صنائع المعروف (وكف الأذى) من قول وفعل عن الناس. وقد جمع جماعة محاسن الأخلاق في قوله تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} (الأعراف: 199) وقيل حسن الخلق احتمال المكروه الذي ينزل به بحسن المداراة بترك حظه من الدنيا وتحمل الأذى من غير إفراط ولا تفريط، وقال الحافظ: حسن الخلق اختيار الفضائل وترك الرذائل، وقال السيوطي: قال الباجي: هو أن يظهر منه لمن يجالسه أو ورد عليه البشر والحلم والإشفاق والصبر على التعليم والتودد إلى الصغير والكبير، والله تعالى أعلم.

74 ـــ باب الحلم

74 - باب الحلم بكسر المهملة وسكون اللام: وهو الصفح، وفي «المصباح» حلم بالضم حلماً بالكسر: صفح وستر فهو حليم وحلمته نسبته إلى الحلم (والأناة) بفتح أوليه والألف مقصورة بوزن حصاة اسم مصدر من تأتي في الأمر تمكث ولم يعجل (والرفق) وهو بكسر أوله ضد الخرق. (قال الله تعالى) : ( {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس} ) أي وذلك إنما صدر عنهم لما عندهم من الحلم ( {والله يحبّ المحسنين} ) . فيه تحريض على التخلق بالإحسان والصفح عن الإخوان، وقد تقدم ما يتعلق بها في الباب قبله (وقال تعالى) ( {خذ العفو} ) من أخلاق الناس من غير تحسيس مثل قبول أعذارهم والمساهلة معهم، وقد ورد «أنه لما نزلت قال رسول الله: ما هذا يا جبريل؟ قال: إن الله أمرك أن تعفو عن من ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك» ( {وأمر بالعرف} ) وهو كل ما يعرفه الشرع ( {وأعرض عن الجاهلين} ) لا تقابل السفيه بسفهه، وقد تقدم الكلام على الآية في مواضع من الكتاب كباب توقير العلماء والكبار وغيره (وقال) الله (تعالى) ( {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة} ) لا الثانية لتأكيد النفي ( {ادفع بالتي هي أحسن} ) وهي الحسنة وهو استئناف كأنه قيل: كيف أفعل فقال ادفع، والمراد بالأحسن الزائد مطلقاً. قال ابن عباس: أمر بالصبر عند الغضب وبالعفو عند الإساءة، وقيل معناه: لا تستوي الحسنات بل تتفاوت إلى حسن وأحسن وكذا السيئات، فادفع السيئة التي ترد عليك بالحسنة التي هي أحسن من أختها مثلاً: وتحسن إلى من أساء إليك فلا تكتفي بمجرد العفو عنه ( {فإذا الذي بينك وبينه عداواة} ) وإذا فعلت هذا يصير العدو ( {كأنه وليّ حميم} )

صديق شفيق ( {وما يلقاها إلا الذين صبروا} ) على مخالفة النفس ( {وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم} ) من كمال النفس ( {وقال تعالى ولمن صبر} ) على الأذى ( {وغفر} ) ولم ينتصر ( {إن ذلك} ) إشارة إلى صبره لا إلى مطلق الصبر فلا يحتاج إلى تقدير ضمير ( {لمن عزم الأمور} ) أي الأمور المشكورة المحمودة المعزوم عليها. 1632 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأشج) بالشين المعجمة (عبد القيس) واسمه المنذر بن عاذل بالذال المعجمة العصري بفتح المهملتين، قال المصنف: هذا الصحيح الذي قاله ابن عبد البرّ والأكثرون أو الكثيرون، وقال الكلبي: اسمه المنذر بن الحارث بن زياد بن عصر بن عوف، وقيل المنذر بن عامر، وقيل ابن عبيد، وقيل اسمه عائذ بن المنذر، وقيل عبد الله بن عوف (إن فيك خصلتين يحبهما الله) أي يرضاهما ويثني على فاعلهما ويثيبه (الحلم) قال المصنف: هو العقل. وفي النهاية: الحلم بالكسر الأناة والتثبت في الأمور وذلك من شأن العقلاء اهـ. ففيه إيماء إلى أن تفسيره بالعقل بمعنى كونه ينشأ عنه لا أنه مدلوله ولا يخالف ما تقدم عن «المصباح» (والأناة) التثبت وترك العجلة وهي مقصورة، وسبب قول النبيّ له ذلك ما جاء في حديث الوفد «أنهم لما وصلوا المدينة بادروا إلى النبيّ، وأقام الأشج عند رحالهم فجمعها وعقل ناقته وليس أحسن ثيابه، ثم أقبل إلى النبيّ، فقرّبه النبي فأجلسه إلى جانبه ثم قال لهم النبيّ: تبايعوني على أنفسكم وقومكم، فقال القوم: نعم، فقال الأشج: يا رسول الله إنك لم تزاول الرجل على شيء أشد عليه من دينه، نبايعك على أنفسنا وترسل من يدعوهم، فمن اتبعنا كان منا ومن أبى قاتلناه، قال: صدقت إن فيك خصلتين يحبهما الله» الحديث، قال القاضي عياض: فالأناة تربصه حتى نظر في مصالحه ولم يعجل، والحلم هذا القول الذي قاله الدال على صحة عقله وجودة نظره للعواقب، ولا يخالف هذا ما جاء في «مسند أبي يعلى» وغيره أنه لما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأشج: «إن فيك خصلتين» الحديث، قال: «يا رسول الله أكان فيّ أم

حدثاً؟ قال: بل قديم، قال: قلت الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله» (رواه مسلم) في أوائل كتاب الإيمان من «صحيحه» ، ورواه الترمذي في «جامعه» . 2633 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله: إن الله رفيق) من الرفق بكسر الراء وسكون الفاء وبالقاف وهو لين الجانب بالقول والفعل والأخذ بالأسهل وهو ضد العنف، وفي النهاية يقال: الله رفيق بعباده من الرفق والرأفة فهو فعيل بمعنى فاعل اهـ. وقال العاقولي: معنى كونه تعالى رفيقاً أنه لطيف بعباده اهـ. ويحتمل أن الرفق في حقه تعالى بمعنى الحلم، فإنه لا يعجل بعقوبة العصاة بل يمهل ليتوب من سبقت له السعادة ويزداد غيره إثماً، قاله ابن رسلان، قال القرطبي: وهذا المعنى أليق بالحديث فإنه سبب الحديث، ثم لا يجوز إطلاق رفيق في أسمائه تعالى لأنه لم يجىء على وجه الإسمية وإنما أخبر به تمهيداً للحكم الذي بعده، وكأنه قال: إن الله يرفق بعباده فيعطيهم على الرفق مالا يعطيهم على سواه: قال العاقولي: وكأن مراده أنه ذكر على سبيل المقابلة والمشاكلة، وما كان كذلك لا يكتفي به في ورود الإطلاق (يحب) أي يرضي (الرفق في الأمر كله) لما فيه من لين الجانب المقتضي للتواصل وسداد الأمر (متفق عليه) . 3634 - (وعنها أن النبيّ قال: إن الله رفيق يحبّ الرفق) لأنه يتأتى معه من الأمور ما لا يتأتى مع ضده (ويعطي على الرفق) في الدنيا من الثناء الحسن الجميل وفي الآخرة من الثواب الجزيل (مالا يعطي على العنف) بضم العين المهملة وسكون النون وبالفاء، قال في «النهاية» : هي الشدة والمشقة وكل ما في الرفق من الخير ففي العنف ضده. وحكى ابن

رسلان جواز ضم عين العنف وفتحها قال: وهو التشديد والتصعيب في الأشياء (وما لا يعطي على ما سواه) أي على الذي هو سوى الرفق وهو مع ما قبله إطناب أتى به ليدل على الحض على الرفق كما أشار إليه في «المفاتيح» (رواه مسلم.) 4635 - (وعنها أن النبيّ قال) لها: عليك بالرفق وإياك والفحش والعنف (وإن الرفق لا يكون في شيء) يحتمل أن تكون «يكون» تامة وفي شيء متعلق بها، وأن تكون ناقصة وفي شيء خبرها، والاستثناء في قوله (إلا زانه) مفرغ من أعم عام وصف الشيء: أي لا يكون الرفق مستقراً في شيء موصوف بصفة من الأوصاف إلا الشين (رواه مسلم) . 5636 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أعرابيّ) منسوب إلى الأعراب بفتح فسكون وهم ساكنو البادية، وقيل ساكنوها من العرب وجمع الأعرابي أعراب، قال ابن دقيق العيد: وقعت النسبة إلى الجمع دون الواحد لأنه جرى مجرى القبيلة، وقيل لأنه لو نسب إلى الواحد فقيل عربي لاشتبه المعنى، فإن العربي كل من ولد إسماعيل كان بالبادية أو بغيرها، وهذا غير المعنى الأول اهـ. وهذا مشعر بأن الأعراب جمع عرب والمعروف خلافه، قال الجوهري: العرب جيل من الناس والنسبة إليه عربي، والأعراب سكان البادية خاصة والنسبة إليه أعرابي، ولا واحد له من لفظه وليس جمعاً للعرب وإنما العرب اسم جنس. قال العراقي في «شرح التقريب» : ولم أر من صنف في المبهمات ذكر اسم هذا الأعرابي اهـ. وفي غاية الأحكام: اختلف فيه، فقال عبد الله بن نافع المدني: إنه الأقرع بن حابس التميمي اهـ. وقال ابن الملقن: لم أر من سماه ممن تكلم على المبهمات، وقد

ظفرت به في «معرفة الصحابة» لأبي موسى المديني لأنه روي من حديث سلمان بن يسار قال: طلع ذو الخويصرة اليماني وكان رجلاً جافياً على رسول الله في المسجد» وساق الحديث، وفي آخره: أنه بال فيه، وأنه أمر بسجل فصبّ على مباله. قلت: وقد سبقه الذهبي فقال في «التجريد» في ترجمة ذي الخويصرة اليماني: يروي في حديث مرسل أنه لذي بال في المسجد. قال الحافظ ابن حجر في «تخريج أحاديث الرافعي» : وهو غير ذي الخويصرة التميمي، واسمه حرقوص بن زهير رأس الخوارج اهـ. وبه يعلم أن ما وقع في «شرح المشكاة» و «المنهاج» لابن حجر الهيثمي أنه ذو الخويصرة التميمي إن لم يكن من تحريف الكتاب فسبق قلم من الشيخ بلا ارتياب (في المسجد، فقام إليه الناس) الظرف متعلق بمحذوف: أي فقاموا قاصدين إليه (ليقعوا) بفتح أوله (فيه) أي بالسب ونحوه. قال في «المصباح» : وقع فلان في فلان وقيعة: سبه وثلبه، وجاء في رواية البخاري: فتناوله الناس ليقعوا به، وفي رواية: فتناوله الناس، وفي رواية لمسلم: فصاح به الناس، وفي أخرى له: فقال لأصحاب رسول الله: مه مه (فقال النبيّ: دعوه) أي اتركوه وذلك لعذره بقرب عهده إلى الإسلام. ففيه الرفق في إنكار المنكر وتعليم الجاهل واستعمال التيسير وإنكار التعسير، وقد قال لأصحابه «إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين» وفي رواية ابن ماجه: وقال الأعرابي بعد أن فقه: بأبي وأمي فلم يؤنب ولم يسب، فقال: «إن هذا المسجد لا يبال فيه، وإنما بني لذكر الله والصلاة فيه» (وأريقوا على بوله) أي محل بوله من المسجد بعد جفافه منه (سجلا من ماء) يعلم مما يأتي في تفسير السجل أن قوله من ماء مستدرك يغني عنه السجل لأن ذلك داخل فيه، إلا أن يقال أريد بالسجل مطلق الدلو لا بقيد كونها ممتلئة ماء، أو يقال صرح بذلك لزيادة الإيضاح (أو ذنوباً) بفتح الذال المعجمة وبالنون المضمومة والموحدة بينهما واو ساكنة وهل مجموع المتعاطفين من كلامه وأنه خير المأمور بينهما، أو أن الذي في لفظ الحديث أحدهما غير أن الراوي شك في تعيينه؟ قال الحافظ الولي العراقي: الظاهر الثاني بدليل رواية أبي داود «وصبوا عليها سجلاً من ماء، أو قال ذنوباً من ماء» وإذا كان ذلك شكا من بعض الرواة فالراجح الذنوب لأنه متفق عليه من حديث أنس من غير شك، وكذا في بعض طرقه ذكر الدلو من غير شك، وفي رواية ابن ماجه لحديث أبي هريرة «بسجل من ماء» بغير شك. ففي الحديث نجاسة بول الآدمي ووجوب تنزيه المسجد عنه والتفريق بين الماء الوارد على النجاسة فيطهرها وبين الواردة عليه فتنجسه إذا كان قليلاً أو كثيراً وتغير بها. وفيه: أنه لا يشترط في تطهير الأرض بعد صبّ الماء عليها

نضوب الماء ولا جفاف الأرض، إذ لو اشترط ذلك لبينه لهم، إذ تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز. وفيه: أن غسالة النجاسة طاهرة إذا زالت عين النجاسة ولم تتغير الغسالة ولم يزد وزنها بعد اعتبار ما يتشربه المحل من الماء الطاهر ويلقيه فيها من الوسخ. وفيه: غير ذلك (فإنما يعثّم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) هذا كالتعليل لما قبله: أي إن قضية كونكم كذلك ألا تؤدبوا الرجل ولا توبخوه لأنه معذور لحداثة عهده بالإسلام وعدم علمه بالأحكام، فالمناسب للتيسير ما أشار إليه البشير النذير (رواه البخاري) في الطهارة وأخرجه بن ماجه (السجل بفتح السين المهملة وإسكان الجيم وهي الدلو الممتلئة ماء) وفي الدلو لغتان التذكير والتأنيث (وكذلك) المشبه به كون معنى السجل الممتلئة ماء والمشبه قوله (الذنوب) أي إنه أيضاً الدلو كذلك وهذا أحد قولين حكاهما العراقي، قال: وقيل هو الدلو العظيم، وقيل لا يسمى دلواً حتى يكون فيها ماء اهـ. 6637 - (وعن أنس رضي الله عنه عن النبي قال: يسروا ولا تعسروا) اليسر ضد العسر، وذكر في الثانية تأكيداً وإطناباً وإلا فالأمر بالشيء النهي عن ضده أو لأنه لو اقتصر على الأمر بالتيسير لصدق على من أتى به مرة، وبالعسر بعض أوقاته، فلما قال ولا تعسروا انتفى العسر سائر الأوقات وذلك لقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (الحج: 78) ولما ورد في «الصحيح» عند مسلم من أنه لما قيل: {ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} قال: قد فعلت، ولما في الحديث «بعثت بالحنيفية السمحة السهلة» وفي «الصحيح» «صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً لا يكلف الله نفساً إلا وسعها» (وبشروا) من البشارة الإخبار بالخير ضد النذارة (ولا تنفروا) قابل به البشارة مع أن ضدها النذارة لأن القصد من النذارة التنفير عن المنذر عنه فصرح بالمقصود منها (متفق عليه) ورواه أحمد والنسائي كما في «الجامع الصغير» .

7638 - (وعن جرير بن عبد الله) وهو البجلي الأحمسي تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب ثوب من سن سنة حسنة (قال: سمعت رسول الله يقول: من يحرم الرفق) بأن لا يوفق له بل يكون فيه العنف والشدة وأل فيه لتعريف الحقيقة (يحرم الخير) أل فيه للعهد الذهني أي الخير الناشيء عن الرفق (كله) الفعل فيهما مبني للمفعول من الحرمان، مفعوله الأول: الضمير المستتر فيه القائم مقام الفاعل، والثاني: منهما المنصوب المذكور بعد كل منهما وحرمان من حرم الرفق جميع الخير المذكور لما سبق من قوله «إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف» وذلك أن الرفق به انتظام خير الدارين واتساق أمرهما، وفي العنف ضد ذلك قال الله تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} (آل عمران: 159) (رواه مسلم) ورواه أحمد وأبو داود بإسناد صحيح وابن ماجه. 8639 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً) قال ابن بشكوال: قيل إنه جارية بن قدامة بالجيم والتحتية، وكذا في مسند ابن أبي شيبة والمؤتلف والمختلف للدارقطني، ويحتمل أن يكون أبا الدرداء لما في فوائد أبي الفضل بن خيرون، ويحتمل أن يكون عبد الله بن عمر لما في فوائد ابن صخر بسنده عن ابن عمر «قلت: يا رسول الله قل لي قولاً وأقلله، قال: لا تغضب» قال ابن صخر: وهذا روي عن غير واحد من الصحابة مسنداً، وهو من حديث ابن عمر صحيح وإسناده صالح، وفي الفوائد أيضاً عن سفيان الثقفي «قلت للنبيّ مثل حديث ابن عمر فعاودته مراراً أسأله كل ذلك يقول لا تغضب» كذا في «مصابيح الدماميني» ، وفي «تخريج الأربعين حديثاً» التي جمعها المصنف للسخاوي، والسائل المذكور يحتمل أن يفسر بجارية بن قدامة، فعند البيهقي في «الشعب» وابن أبي الدنيا عن الأحنف بن قيس «قال أخبرني ابن عم لي وهو جارية بن قدامة قال: قلت يا رسول الله قل لي قولاً وأقلل لعلي أعقله فقال لا تغضب فقلت له مراراً فكل ذلك يقول لا تغضب» ثم رواه أيضاً من طريق ابن أبي الزناد عن أبيه عن عروة، فجعله عن ابن عمر كما في «مسند أبي

يعلى» وغيره، قال البيهقي: إنه وهم والمحفوظ الأول ثم ساقه كذلك من طريق هشام بن عروة عن أبيه، وكذا أخرجه أحمد والطبراني وابن منده في «المعرفة» ، وابن حبان والحاكم في «صحيحيهما» ، ثم ذكر اختلاف الرواية عليه في أنه قال عن عمه أو عم أبيه أو عن الأحنف عن عمه عن جارية، كما رواه بهذا ابن أبي شيبة عند الداقطني في «علله» فيه خلاف غير هذا والأول أكثر وأولى لمتابعة ابن أبي الزناد في كونه من مسند جارية بل له طريق عند الطبراني من حديث محمد ابن كريب عن أبيه قال: شهدت الأحنف بن قيس يحدث عن جارية، ونشأ عن هذا الاختلاف تردد نظر الأئمة في إثبات صحبة جارية فأثبتها ابن أبي حاتم عن أبيه، وكذا ابن سعد وآخرون وهو الذي اعتمده شيخنا، ونفاها العجلى وغيره فقالوا: إنه تابعي وليس بصحابي، وذكر الإمام أحمد عن يحيى القطان أنه قال: هكذا قال هشام بن عروة، يعني أن هشاماً ذكر في الحديث أن جارية سأل، قال يحيى: وهم يقولون إنه لم يدرك النبي ثم أخرج السخاوي عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت للنبي الحديث. وقال: وعلى هذه الرواية اقتصر العراقي في أماليه وقال: إنه حديث حسن. قال العراقي: والحديث صحيح من وجه آخر يشير إلى طريق البخاري، وإنما أوردته من حديث سفيان لفائدة كونه هو السائل، قال: وقد روينا في أحاديث عن بن عمر وابن عمرو وأبي الدرداء وجارية بن قدامة أن كلا منهم سأل النبيّ. قال السحاوي: وبمقتضى ما بينه صار في الباب عن جابر وجارية وسفيان الثقفي وابن عمرو وابن عمرو وأبي الدرداء وأبي سعيد وأبى هريرة وعم جارية اهـ. والحديث سبق مشروحاً ببعض ما هنا في باب الصبر (قال للنبي: أوصني) قال الأزهري: الإيصاء من الوصية وهي مصدر وصيت الشيء بكذا وصلته إليه، فالمعنى: صلني إلى ما ينفعني ديناً ودنيا، ولما علم من هذا الرجل كثرة الغضب وهو طبيب في الدين يعالج كلا بمرضه المخصوص خصه بهذه الوصية (قال لا تغضب) الغضب فوران دم القلب أو عرض يبعثه ذلك على إرادة الانتفام، وهو من وساوس الشيطان يخرج به الإنسان عن اعتدال حاله فيتكلم بالباطل ويفعل المذموم وينوي الحقد والبغض وغير ذلك من القبائح، بل قد يكفر (فردد) أي فكرر الرجل قوله: أوصني (مراراً) تعريضاً بأنه لم يقنع بذلك وأنه يطلب وصية أبلغ وأنفع فلم يزده لعلمه أن لا أنفع من ذلك له (قال لا تغضب) وعلاجه أن يرى الكل من الله سبحانه ويذكر نفسه أن غضب الله أعظم وفضله

أكبر (رواه البخاري) في الأدب من «صحيحه» ، والترمذي وقال حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. 9640 - (وعن أبي يعلى) بفتح التحتية واللام وسكون المهملة (شداد) بفتح المعجمة وتشديد الدال المهملة الأولى (ابن أوس) ابن أخي حسان بن ثابت تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب المراقبة (عن رسول الله قال: إن الله كتب) أي أوجب وقدر (الإحسان) إتقان الفعل، أو بمعنى التفضل والإنعام (على كل شىء) للشىء إطلاقان: أحدهما ما أمكن وجوده بالإمكان العام فيكون أخص من المعلوم، إذ المستحيل معلوم ولا يطلق عليه بهذا الإطلاق شيء. ثانيهما ما صح أن يعلم ويخبر عنه فهو من أعم العام يطلق على الجوهر والعرض والقديم والحادث والممتنع، ويصح إطلاقه على الله تعالى بالإطلاقين، وهو في الحديث مخصوص بالممكن بدليل العقل. وما من شعبة من شعب الإيمان ولا ركن من أركان الإسلام إلا وقد قرن به إحسان لائق به بدليل عموم كل شيء في الحديث (فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة) بكسر القاف: هيئة القتل وحالته فأحسنوا القتل في كل قتيل حد أو قصاص (وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة) بكسر الذال المعجمة وهي هيئة الذبح (وليحد) بضم التحتية (أحدكم شفرته) بفتح المعجمة وسكون الفاء: السكين العريض (وليرح ذبيحته) أي ليوصل إليها الراحة بأن يعجل إمرار الشفرة ولا يسلخ قبل البرودة، ويقطع من الحلقوم لا من القفا ولا يصرع بعنف ولا يجرها من موضع إلى موضع وأن يوجهها للقبلة ويسمي (رواه مسلم) ورواه أحمد وأبو عوانة في «مستخرجه» ، والطبراني في «معجمه الكبير» ، والترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: إنه حسن صحيح اهـ ملخصاً من «تخريج السخاوي» المذكور فيما قبله. 10 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت ما خير) بالبناء للمفعول وحذف الفاعل ليعم

أي ما خير أحد (رسول الله بين أمرين) ديني أو دنيوي (قط إلا أخذ) أي تناول وفي بعض النسخ إلا اختار (أيسرهما) إرشاداً للأمة ولابتناء دينه على اليسر يريد الله بكم اليسر «إن هذا الدين يسر» وذلك كأن يخبره الله تعالى بين ما فيه عقوبتان على أمته فيختار أخفهما، أو في قتال الكفار وأخذ الجزية، أو في العبادة في المجاهدة في حق الأمة فيختار الأخف، وعلى كون المخير غير الله بأن يخيره الكفار أو المنافقون بين الحرب والموادعة فيختار الموادعة. وكقول جبريل وملك الجبال: إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين، فاستعفى عنهم واختار الأخفّ وهو بقاؤهم رجاء أن يخرج منهم من يوحد الله سبحانه، وهذا التخيير في الحقيقة إنما هو من الله سبحانه والملك واسطة (ما لم يكن) أي الأيسر (إنما) أي معصية لأنها سببه، من إطلاق المسبب وإراده السبب مجازاً مرسلاً لعلاقة السببية: أي فإن كان الأيسر معصية فلا معصية فلا يخيره الله بينه وبين مقابله، وإن كان المخبر غيره فهو لا يختاره بل يبعد منه كما قال (فإن كان) أي الأيسر الذي خيره بعض الناس بينه وبين مقابله (إنما كان أبعد الناس منه) أما المكروه فقال المصنف: إنه كالمعصية لا يختاره، وإن كان يجب عليه فعل ذلك تشريعاً وبيان أن النهي ليس للتحريم بل للتنزيه (وما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه في شيء) يتعلق بحقه من نفس أو مال أو عرض (قط) وذلك لأن من عرف الله حق معرفته سد عليه باب الانتصار لنفسه لاقتضاء معرفته ألا يشهد فعلاً لغير معروفه فكيف ينتصر من الخلق من يرى الله تعالى فعالاً فيهم، وكيف يترك تعالى الانتصار لهم وقد ألقوا نفوسهم بين يديه وسلموا واستسلموا لما يرد منه إليهم؟ فهم في معاقل عزّه وتحت سرادقات مجده، يصونهم من كل إلا من ذكره، ويقطعهم عن كل إلا عن حبه، فالأنبياء حمَّال أسراره ومعادن أنواره فهو يتولى انتصارهم، قال تعالى: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين. إنهم لهم المنصورون} (الصافات: 171) . وإنما لم ينتقم لنفسه مع كون منتهكها قد باء بإثم عظيم لأنه حق آدمي فيسقط بإسقاطه بخلاف حقه سبحانه، كما قالت (إلا أن تنتهك) بالبناء للمجهول (حرمة الله) وانتهاكها بارتكاب المحرمات وحينئذ فهو ليس مما قبله فيكون الاستثناء

منقطعاً، ويحتمل كما قال القاضي عياض: أن انتهاكها بإيذائه بما فيه غضاضة في الدين فذاك انتهاك حرمات الله تعالى، وعفوه عمن قال في قسمة خيبر: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله، مع أن ذلك المقال غضاضة في الدين، إما لكون القائل لم يقصد الطعن عليه في الميل عن الحق بل اعتقد أنه من مصالح الدنيا التي يجوز الخطأ فيها، أو أنه كان استئلافاً كما استألف ببذل الأموال ترغيباً في الإسلام. وقيل هذا الصواب، وقيل هذا القول طبعاً في قائله وسجية فهو نوع عذر كمن جفا في رفع صوته عليه ومن جذبه بردائه حتى أثر في عنقه وقال: إنك لا تعطيني من مالك ولا من مال أبيك، فضحك وأمر له بالعطاء وقوله (فينتقم لله) جواب لشرط مقدر: أي فإن انتهكت حرمة الله فهو ينتقم لله من مرتكب ذلك كما هو شأن أكابر المسلمين، إلا أن موسى أخذ برأس أخيه يجرّه إليه لما أحدث قومه بعده ما أحدثوا، وكان إذا غضب لله خرج شعره من مدرعته كسل النخل، والأخبار والآثار الدالة على وقوع غضب المصطفى وانتقامه له كثيرة مع الإجماع على أنه كان أحلم الناس وأكثرهم عفواً وصفحاً واحتمالاً وتجاوزاً، وفي الحديث الأخذ باليسر والرفق في الأمور وترك التكلف والمشاق، وفيه الميل إلى الأخذ برخص الله تعالى ورخص نبيه ورخص العلماء ما لم يكن ذلك القول خطأً بيناً وما لم يتبع الرخص بحيث تنحل ربقة التكليف منه، وفيه ما كان عليه من الحلم والصبر والقيام بالحق والصلابة في الدين، وهذا هو الخلق الحسن، فإنه لو ترك كل حق كل ضعفاً وخوراً ومهانة ولو انتقم لنفسه لم يكن ثم صبر ولا حلم ولا احتمال بل بطشاً وانتقاماً فانتفى عنه الطرفان المذمومان وخير الأمور أوساطها (متفق عليه) رواه البخاري في باب صفة النبي، وفي الأدب من «صحيحه» ، ورواه مسلم في الفضائل ورواه أبو داود في الأدب مختصراً، قاله المزي في «الأطراف» . قلت: ورواه الترمذي في «الشمائل» . 11641 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ألا) أداة استفتاح أتى بها لتنبيه السامع على ما بعدها كقوله (أخبركم) ليستيقظ المخاطب من غمرات الأفكار ويتوجه

75 ـــ باب العفو

لتلقي ما يلقى عليه (بمن يحرّم على النار) أي يحرمه الله عليها فيسلب منها قوة إحراقه وإيذائه كنار الخليل عليه السلام (أو) شك من الراوي: أي أو قال: ألا أخبركم (بمن تحرم عليه النار) أي لا يستحقها، والأول أبلغ لأنه لو فرض أنه دخلها لم تضرّه، بخلاف الثاني فإن المحرم عليه دخولها فقط، قاله العاقولي أقول: هما في المؤدي واحد لأنه إذا انتفى إدخاله لها انتفا مسها له والله أعلم، وما ذكرته من أن العاطف «أو» هو ما في نسخ الرياض والذي جرى عليه العاقولي في «المصابيح» أنه «الواو» وأنه أخبر عن فرقتين وأن الأربعة الأوصاف الآتية اثنان للفريق الأول والأخيران لللأخير، ويؤيد كونها «أو» أنه جاء بلفظ «ألا أخبركم بمن تحرم عليه النار غداً على كل هين لين قريب سهل» أورده السيوطي في «الجامع الصغير» وهو قولهم «بلى» اقتصاراً ولدلالة الحال على طلبهم ذلك وإتيانهم به لما لهم من التشوق والتشّوف لما ندبهم إلى معرفته (تحرم على كل قريب) أي من الناس بحسن ملاطفته لهم (هين لين) قال في «النهاية» : «المسلمون هينون لينون» وهما بالتخفيف قال ابن الأعرابي: العرب تمدح بالهين اللين مخففين وتذم بهما مثقلين وهين: أي بالتشديد فيعل من الهون وهو السكينة والوقار والسهولة فعينه واو، وشيء هين لين أي أسهل اهـ (سهل) أي يقضي حوائجهم ويسهل أمورهم وبما ذكر عن «النهاية» علم ترادف هين وسهل، وحينئذ فأتى بهما إطناباً (رواه الترمذي وقال: حديث حسن وتقدم في كلام السيوطي من خرجه أيضاً. 75 - باب العفو أي عن الجاني (والإعراض) بترك المؤاخذة (عن الجاهلين) فلا يؤاخذهم بما يصدر منهم من قول وعمل. (قال الله تعالى) : ( {خذ العفو} ) وهو وإن كان معناه ما سبق في الباب قبله إلا

أن عموم لفظه متناول للعفو عن الظالم ( {وأمر بالعرف} ) أي بالمعروف شرعاً ( {وأعرض عن الجاهلين} ) وذلك لأن في الإعراض عنه إخماداً لشرّه وإذهاباً للهيب جهله قال الشافعي: قالوا سكتّ وقد خوصمت قلت لهم إن الجواب لباب الشر مفتاح (وقال تعالى) : ( {فاصفح الصفح الجميل} ) أي عاملهم معاملة الحليم الصفوح. (وقال تعالى) في شأن الصدّيق رضي الله عنه لما آلى ألاّ ينفق على مسطح لقوله في الإفك ما قال ( {وليعفوا} ) أي عما فرط منهم ( {وليصفحوا} ) بالإغماض عنه ( {ألا تحبون أن يغفر الله لكم؟} ) بعفوكم عن الناس وصفحكم. (وقال تعالى) : ( {والعافين عن الناس} ) التاركين عقوبة من استحقها طلباً لمرضاة الله تعالى ( {والله يحب المحسنين} ) فيه إيماء إلى أن المذكور في الآية صفات المحسنين وأن القائم بها في مقام الإحسان. (وقال تعالى) : ( {ولمن صبر} ) على الأذى ( {وغفر} ) ولم ينتصر ( {إن ذلك} ) أي صبره المذكور ( {لمن عزم الأمور} ) والآيات قد تقدم الكلام عليها، بعضها في الباب قبله وبعضها قبل ذلك (والآيات في الباب) أي العفو عن المذنب والإعراض عن الجاهل (كثيرة معلومة) . 1643 - (وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت) بفتح الهمزة بدل اشتمال من الضمير

المجرور: أي وعنها قولها (للنبي: هل أتى) أي مرّ (عليك يوم) أي زمان (كان أشد من يوم أحد) بضمتين: الجبل المعروف عند المدينة: أي غزوته، وكانت في السنة الرابعة من الهجرة، فإنه شجّ فيها وجهه وكسرت رباعيته وسقط في الحفرة التي حفرها الفاسق الذي كان يلقبه الكفار بالراهب وحصل ما حصل في المؤمنين من قتل نيف وسبعين منهم (قال: لقد لقيت من قومك) أي كفار قريش (وكان) أي ذلك (أشد ما لقيته منهم) والجملة معترضة بين الفعل ومفعوله (يوم العقبة) لم أر من تعرض لبيان محلها والمراد منها في هذا الحديث، لا المصنف في «شرح مسلم» ولا الحافظ في «الفتح» ، ولعلها عقبة عند الطائف بدليل قوله (إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل) طالباً منه النصر والإعانة على إقامة الدين، ويا ليل بتحتية وبعد الألف لام مكسورة ثم تحتية ساكنة ثم لام (ابن عبد كلال) بضم الكاف وتخفيف اللامين بينهما ألف واسمه كنانة، قال في «الفتح» : والذي في المغازي أن الذي كلمه هو عبد يا ليل نفسه، وعند أهل النسب أن عبد كلال أخوه لا أبوه، وأنه عبد يا ليل بن عمر بن عمير بن عوف، ويقال اسم عبد يا ليل مسعود وكان ابن عبد يا ليل من أكبر أهل الطائف من ثقيف، وقد ذكر موسى بن عقبة في مغازيه وابن إسحاق أن عبد يا ليل اسمه كنانة وفد مع وفد الطائف سنة عشر فأسلموا، وذكر ابن عبد البر في الصحابة كذلك، لكن ذكر القاضي أن الوفد أسلموا إلا كنانة، وأنه خرج إلى الروم بعد ومات بها والله أعلم. وقد جاء عند أبي موسى بن عقبة في مغازيه عن الزهري أنه لما مات أبو طالب توجه إلى الطائف أن يؤووه، فعمدوا إلى ثلاثة نفر من ثقيف وهم ساداتهم وهم إخوة، عبد يا ليل وحبيب ومسعود، بنو عمرو فعرض نفسه عليهم وشكا إليهم ما انتهك مه قومه فردوا عليه أقبح رد، وكذا ذكره ابن إسحاق وذكر ابن سعد أن ذلك كان في شوال سنة عشر من المبعث بعد موت خديجة وأبي طالب اهـ ملخصاً (فلم يجبني إلى ما أردت) أي من الإيواء والإعانة على تبليغ الرسالة إلى العباد (فانطلقت وأنا مهموم) فيه جواز طروء الهم من الأعراض البشرية على الأنبياء وهذا هم في أخروي والمذموم الهم على ما فات من أمور الدنيا (على وجهي) أي الجهة المواجهة لي (فلم أستفق) أي من الغمرة التي لحقته من عدم تسديد أولئك وتأييدهم له. وقال المصنف: أي لم أفطن لنفسي وأنتبه لحالي وللموضع الذي أنا ذاهب إليه وفيه (إلا وأنا بقرن الثعالب) هو بسكون الراء على الصحيح ميقات أهل نجد،

ويقال له قرن المنازل على يوم وليلة من مكة، والقرن: كل جبل صغير منقطع منه جبل كبير. وحكى عياض أن بعض الرواة يفتح الراء قال القاضي عياص: وهو غلط. وحكى الفاسي أن من سكن الراء أراد الجبل ومن حركتها أراد الطريق التي تتفرق منه، وأفاد ابن سعد أن مدة إقامته بالطائف كانت عشرة أيام (فرفعت رأسي) يحتمل أن يكون ذلك لكونه أحس بشيء من جانب العلوي أو يكون اتفاقاً فصادف ما قاله (وإذا أنا بسحابة قد أظلتني) أي كستني الظلّ عن الشمس (فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام) إذا فيه وفيما قبله: فجائية وجبريل حينئذ لم يكن في صورته الأصلية لما جاء أنه لم يره فيها إلا في بدء الرسالة وعند سدرة المنتهى (فسلم عليّ) فيه بدء القادم بالسلام (ثم قال) لعل الإتيان بثم إيماء إلى تراخي إخبار جبريل عن أمر الملك باشتغاله بأمر آخر إما مع النبي أو مع غيره من الأملاك (إن الله قد سمع قول قومك) أي الذين دعوتهم إلى الإيمان (وما ردوا عليك) في جواب الدعوة (وقد بعث إليك ملك الجبال) أي الموكل بها المتصرف بما يرد عليه فيها من حضرة الحق (لتأمره بما شئت فيهم) ما فيه موصول اسمي: أي بالذي أردته منهم والعائد محذوف، ويحتمل كونها مصدرية: أي بمشيئتك فيهم، ويؤيد الأخير قول ملك الجبال: لتأمرني بأمرك، وأتى به كذلك ليعم ما يراد منها من التعذيب (فناداني ملك الجبال) أي عقب كلام جبريل كما يومىء إليه الفاء (فسلم عليّ ثم قال: يا محمد قد سمع الله قول قومك وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك) أي من رجم وإطباق، وقله (فما شئت) الفاء تفريعية وما استفهامية منصوبة المحل مفعولاً به مقدماً، ومقتضى كلام الحافظ في فتح الباري أنه عند البخاري فيما شئت بكسر الفاء وزيادة تحتية. قال: وقد رواه الطبراني عن مقدام بن داود عن عبد الله بن يوسف شيخ البخاري قال: «يا محمد إن الله قد بعثني إليك وأنا ملك الجبال لتأمرني بأمرك فما شئت إن شئت» اهـ. ثم رأيته في صحيح البخاري كما قال الحافظ وحينئذ فلعل هذا لفظ رواية مسلم (إن شئت) حذف مفعوله: أي إطباق الأخشبين عليهم إيجازاً لدلالة وجوده في قوله (أطبقت عليهم الأخشبين) بالمعجمتين بعدهما موحدة يأتي المراد به (فقال النبيّ) ممتناً عليه بعفوه

عما يتعلق بجنابه الشريف من إيذائهم له وإساءتهم في جوابهم له المقتضى لحلول ذلك بهم إيجازاً (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً) المعطوف عليه ببل مقدر يدل عليه الكلام: أي لا آمرك بما فيه هلاكهم بل أرجو الخ، قال العلماء: وما جاء من ألفاظ الترجي في كلام الله سبحانه أو كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو واقع البتة، لكنه عبر بذلك على عادة الملوك، قال البيضاوي في التفسير: عسى ولعل وسوف في مواعيد الملوك كالجزم بها وإنما يطلقونه إظهار لوقارهم وإشعاراً بأن الرمز كالتصريح من غيرهم وعليه جرى وعد الله ووعيده اهـ. قال الحافظ: وفي الحديث بيان شفقة النبيّ على قومه ومزيد صبره وحلمه وهو موافق لقوله تعالى: {فيما رحمة من الله لنت لهم} (آل عمران: 159) ولقوله: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الأنبياء: 107) (متفق عليه) رواه البخاري في بدء الخلق ومسلم في المغازي ورواه النسائي في البعوث (الأخشبان الجبلان المحيطان بمكة) في النهاية: هما المطبقان بمكة أبو قبيس والأحمر وهو جبل مشرف وجهه على قعيقعان (والأخشب هو الجبل الغليظ العظيم) عبر بدله في النهاية بقوله الخشن. 2644 - (وعنها قالت: ما ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً) من الحيوانات ولا من غيرها (قط) أي في شيء من الأزمنة التي كان فيها وهي ماضية حال الأخبار عنه وقوله (ولا امرأة ولا خادماً) من عطف الخاص علة العام، وصرح بهما لأنه يعتاد ضربهما وإذا لم يضربهما مع جريان العادة فغيرهما ممن لم يعتد ضربه أولى (إلا أن يجاهد في سبيل الله) استثناء من أعم الأحوال: أي في حال من الأحوال إلا في حال الجهاد لإعلاء كلمة الله تعالى (وما نيل)

بالبناء للمجهول (منه شيء) أي ما نال أحد منه شيئاً كما وقع من شج الكفار لرأسه في أحد وإسقاط رباعيته وغير ذلك مما وقع من جهالاتهم وإضراراتهم به في بدنه الشريف وغير ذلك (قط فينتقم) بالنصب في جواب النفي (من صاحبه) أي صاحب الذنب لنفسه، كان يعفو ويصفح ويزيد بالإحسان، كما ورد أنه قيل له يوم أحد: ادع الله عليهم فقال «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» فعفا عن حقه وصفح وزاد إحساناً بالدعاء لهم بغفر ذلك الذنب المتعلق بحقه، إذ لو سأل لهم مطلق لغفران لأجيبت دعوته وآمنوا حالاً واعتذر عنهم (إلا أن ينتهك شيء من محارم الله) يحتمل كون الاستثناء متصلاً: أي إلا ما نيل منه بأن كان فيه انتهاك المحارم كالطعن بارتكاب المحارم (فينتقم) حينئذ من ذلك الطاعن (لـ) حق (الله تعالى) لا لحق نفسه، وعدم انتقامه ممن قال في قسمته: هذه ما أريد بها وجه الله تعالى تأليفاً للقوم على الإسلام كما قال «لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه» ويحتمل أن يكون الاستثناء منقطعاً وهو الأقرب، أي لكن إذا انتهكت حرمات الله تعالى انتقم من منتهكها كائناً ما كان (رواه مسلم) . 3645 - (وعن أنس رضي الله عنه قال كنت أمشي) أتى به بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية إشعاراً باستحضاره لذلك (مع رسول الله وعليه برد) تقدم ضبطه (نجراني) منسوب إلى نجران بلدة من بلاد همدان من اليمن، قال البكري: سميت باسم بانيها نجران بن زيد بن يشجب بن يعرب بن قحطان كذا في المصباح (غليظ الحاشية) أتى به ليرتب عليه مزيد الأثر الآتي (فأدركه أعرابيّ) لم أر من سماه (فجبذه) قيل إنه لغة في جذب وقيل إنه مقلوبه (جبذة شديدة) زاد في رواية «حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عاتقه» (فنظرت إلى صفحة) بفتح المهملتين وسكون الفاء بينهما: أي جانب من (عاتق النبيّ) وهو بالمهملة والفوقية والقاف ما بين العنق والكتف (وقد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته) وذلك من سوء أدبه وجفائه على عادة الأعراب، فمن بدا جفا (ثم قال) على

عادتهم في ذلك (يا محمد) ويحتمل أن يكون قبل تحريم ندائه باسمه (مر لي من مال الله الذي عندك) زاد البيهقي في روايته «فإنك لا تحمل من مالك ولا من مال أبيك، فسكت النبي ثم قال: المال مال الله وأنا عبده» (فالتفت إليه فضحك) أي من قوله المنبىء بشأنه فشأن الإنسان دليل عقله (ثم أمر له بعطاء) العطاء عبارة عما يجتمع من الأموال من فىء أو غنيمة وخراج وتركة من لا وارث له، والمراد هنا أمر له بشيء من ذلك، وقد جاء أنه حمل له على بعير شعيراً وعلى الآخر تمراً ذكره في الشفاء، وهذا فيه مزيد حسن خلقه، فإنه عفا عن جنايته عليه بجبذه وإيلامه بحاشية ذلك البرد حتى أثر في عاتقه، وزاد على العفو بالبشر الذي هو كما قال من قال: بشاشة وجه المرء خير من القرى فكيف بمن يعطي القرى وهو يضحك ويبذل الإحسان (متفق عليه) . 4646 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كأني أنظر) أي الآن (إلى رسول الله) وعبر بما ذكره إيماء إلى استحضاره فكأنه يخبر عن معاين، وقوله (يحكى نبياً من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم) جملة حالية من رسول الله، وقوله (ضربه قومه فأدموه) أي أجروا دمه بالجراحات (وهو يمسح الدم) عن وجهه جملة حالية، إما من الضمير البارز في فأدموه لكونه أقرب فيكون حالاً متداخلة إن أعربت الجملة المعطوف عليها حالاً أو من نبياً (ويقول) في تلك الحالة المثيرة للغضب المقتضية للانتقام بعد عفوه عنهم زيادة في الفضل (اللهم اغفر لقومي) أي ما صنعوه معي من الضرب والإدماء، وقوله (فإنهم لا يعلمون) كالتعليل لسؤال المغفرة لهم: أي ما أوقعهم في ذلك إلا جهلهم بقدر النبي وعدم

76 ـــ باب احتمال الأذى

معرفتهم بعلوّ مرتبته إذ لو عرفوه لقدروه حق قدره ففيه بعد الصفح زيادة الفضل بالدعاء لهم بالغفران والاعتذار عنهم بعدم العلم (متفق عليه) . 5647 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ليس الشديد) أي المحمود شدته شرعاً (بالصرعة) بضم ففتح وهو الذي يكثر صرع الناس ويغلبهم. أما الصرعة بضم فسكون: فهو الذي يصرعه الناس كثيراً (إنما الشديد) أي المحمود شرعاً (الذي يملك نفسه عند الغضب) أي الذي هو فوران دم القلب من حدوث أمر غير مرضي ممن هو دونك: أي فيملك نفسه حينئذ عن أن يقع منها إضراراً بالمغضوب منه، بل يعفو عنه ويكظم غيظه (متفق عليه) ورواه الإمام أحمد أيضاً كما في الجامع الصغير. 76 - باب احتمال الأذى أي في فضل من احتمله لوجه الله سبحانه طلباً لمرضاته. (قال الله تعالى) : ( {والكاظمين الغيظ} ) بحبس النفس عن مرادها من الانتقام ( {والعافين عن الناس} ) أي التاركين مؤاخذتهم في ذلك ( {والله يحبّ} ) أي يثيب ( {المحسنين} ) وفيه إيماء إلى أن من كان

متصفاً بهذه الصفات فهو من المحسنين. (وقال تعالى) : ( {ولمن صبر} ) على الإيذاء ( {وغفر} ) وصفح عمن آذاه ( {إن ذلك} ) أي ما ذكر ( {لمن عزم الأمور} ) أي معزومها شرعاً (وفي الباب) أي باب احتمال الأذى (الأحاديث السابقة في الباب قبله) وزيادة عليه. 1648 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله إن لي قرابة) أي ذوي قرابة (أصلهم ويقطعوني) كذا في النسخ بنون واحدة مخففة، وهو محمول على أن المحذوف نون الوقاية اكتفاء عنها بنون الرفع القائمة مقامها فيما قصد بها من وقاية آخر الفعل الكسر بكسرها. ويجوز أن تكون الموجودة نون الوقاية، وحذف نون الأفعال الخمسة لغير جازم ولا ناصب لغة حكاها ابن مالك. ولا يخفي حسن المقابلة في كلامه بين الوصل والقطع، وكذا المقابلة في قوله (وأحسن إليهم ويسيئون إليّ، وأحلم) بضم اللام (عنهم ويجهلون عليّ) وحذف متعلقات كل من أصل وأحسن لتذهب النفس في تعيين ذلك كل مذهب وليعم كل ما يطلق عليه اسم شيء من تلك الأنواع (فقال: لئن) اللام فيه مؤذنة بقسم مقدر أتى به تأكيداً للمقام للترهيب من مقابلة الحسن بالسيء. قال تعالى: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} (الرحمن: 60) أي والله لئن (كنت كما قلت) من إسدائك الجميل لهم ومقابلتهم حسن صنيعك بقبيح فعلهم (فكأنما تسفهم الملّ) بضم الفوقية أي تجعلهم يسفون الرماد الحار وهذا من خلاف الغالب فإن الغالب من اجتماع القسم، والشرط أن يذكر جواب المقدم منهما ويحذف جواب الثاني لدلالة ذلك عليه، وهذا بعكس ذلك فأجازه ابن مالك تبعاً للفراء ومنعه الجمهور وحملوا قول الشاعر: لئن كنت ما حدثته اليوم صادقاً أصم في نهار القيظ للشمس بادياً على أنه ضرورة أو على أن اللام زائدة. ويمكن أن يخرج الحديث على وجه اتفقوا فيه

77 ـــ باب الغضب إذا انتهكت حرمات الشرع

على جواز جعل الجزاء للشرط وإن تأخر عن القسم، وذلك بأن يقدر قبله مبتدأ: أي وأنت والله لئن كنت الخ، وفي مثله يجوز ذلك. وقال ابن مالك يجب، ومنه زيد والله إن يقيم أقم (ولا يزال معك من الله تعالى ظهير) أي معين (عليهم) من تجريدية لكمال إعانة المولى سبحانه لمن كان كذلك (ما دمت على ذلك) ففيه تحريض على الصبر على الإيذاء وأن الانتصار في ذلك يكون من حضرة الحق سبحانه وتعالى لمن كان كذلك (رواه مسلم، وقد سبق شرحه في باب صلة الأرحام) . 77 - باب الغضب إذا انتهكت حرمات الشرع بضمتين: أي ما حرمه، وهو مقتبس من قوله «حرم أشياء فلا تنتهكوها» وقوله «ألا وإن حمى الله محارمه» (والانتصار لدين الله تعالى) أي فعل ذلك كائناً من كان على أيّ شأن، وفي تعقيبه به الباب قبله تقييد لبيان أن محل فضل احتمال الأذى إذا كان مما لا انتهاك فيه للمحارم، وإلا فمن أو ذي بطلب محرم منها لا يصبر على ذلك الإيذاء، بل يدفعه بحسب طاقته. (قال الله تعالى) : ( {ومن يعظم حرمات الله} ) ومن تعظيمها عدم خرق حجابها وترك انتهاكها والبعد عن حريمها حذر الوقوع في جميعها ( {فهو خير له عند ربه} ) لأن الله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً. قال تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره} (الزلزلة: 7) . (وقال تعالى) : ( {إن تنصروا الله} ) في دينه ( {ينصركم} ) على عدوكم، قال تعالى: {ولينصرن الله من ينصره} (الحج: 40) وقال تعالى: {وإن جندنا لهم الغالبون} (الصافات: 172) و {إنهم لهم المنصورون} (ويثبت أقدامكم) في

الجهاد والطاعة (وفي الباب حديث عائشة السابق في باب العفو) عبر به دون الباب قبله تفنناً في التعبير، والمراد منه قولها «وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله تعالى» . 1649 - (وعن أبي مسعود عقبة بن عمرو) بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي (البدري) نسبة إلى بدر لنزوله وسكناه إياها وإلا فلم يشهد وقعتها مع النبي، تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب المجاهدة (قال: جاء رجل) قيل هو حزم بن أبيّ بن كعب، ووقع كذلك في سنن أبي داود وتاريخ البخاري الكبير. وقال الحافظ في «فتح الباري» : إنه وهم ولم أقف على تسميته، وقيل هو حرام بن ملحان، وعليه اقتصر الخطيب، ومشى عليه ابن الأثير، وقيل حازم، وقيل سلمان بن الحارث، قاله البخاري أيضاً في تاريخه، ووقع في أصل قرىء على القرطبي من «شرحه» عن رواية البزار أنه سلم بن علي، وعلى لام سلم علامة الاسكان، وقيل مليكة، وقال القاري: هو كعب بن أبي حزة بفتح المهملة وتشديد الزاي ابن أبي العين وهو وهم كذا في غاية الأحكام، و «جاء» يكون متعدياً كقوله تعالى: {فإن جاءوك} (المائدة: 42) وتارة متعدياً بحرف ومنه ما نحن فيه إذ عدّاه بإلى في قوله (وإلى رسول الله فقال: إني لأتأخر عن صلاة الصبح) وعند البخاري صلاة الغداة وعنده أيضاً زيادة القسم والله إني لأتأخر، ومراده أنه ترك حضور الجماعة لتطويل الإمام (من أجل فلان) قال الحافظ هو أبيّ بن كعب كما أخرجه أبو يعلى بإسناده حسن من حديث جابر وليس معاذ ابن جبل خلافاً لابن الملقن وغيره، قال الحافظ: وهو وهم. وفلان كناية عن ذي العلم العاقل المذكر، والظاهر أن الراوي هو الذي كنى عنه والرجل الذي شكاه للنيّ سماه وذلك من حسن الأدب في التعبير (مما يطيل بنا) بدل مما قبله بإعادة العامل: أي من إطالته الصلاة بنا (فما رأيت) أي علمت (النبي غضب في موعظة قط) يفتح القاف وضم الطاء المهملة في أفصح اللغات (أشد) بالنصب نعت مصدر محذوف: أي غضباً أشد، وسببه إما

مخالفة الموعوظ لما أعلمه: أي إن ثبت ذلك، أو التقصير في تعليم ما ينبغي تعلمه، ويحتمل أنه لإرادة الاهتمام بما يلقيه لأصحابه، قال في «فتح الباري» : وهذا أحسن في الباعث على أصل الغضب، أما كونه أشد فالثاني من الاحتمالين الأولين أوجه (مما غضب) ما مصدرية أي من غضبه (يومئذ) ولا يعارض هذا ما جاء من نهيه القاضي أن يقضي حال غضبه لمكانه من العصمة المانعة من حمل الغضب إياه على ما لا ينبغي من قول أو فعل بخلاف غير المعصوم، قاله البرماوي (فقال) عطف على مقدر دلّ عليه سابق الكلام: أي فوعظ فقال (يا أيها الناس إن منكم منفرين) فيه من الإخفاء وتعميم الحكم ما في حديث «ما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله» إما للستر عليه وإما للإعراض وذلك من أشد الوعيد (فأيكم أمّ الناس) عند البخاري في بعض طرقه/ «فأيكم ما صلى» وما مزيدة ويكثر زيادتها مع أي الشرطية وفائدتها التوكيد وزيادة التعميم (فليوجز) هو لفظ مسلم، ولفظ البخاري «فليتجوز» أي ليقتصر مع إتمام الأركان والسنن. قال أهل اللغة: أوجزت الكلام قصرته فهو موجز بفتح الجيم وكسرها ووجز ووجيز (فإن من) بكسر الميم (ورائه) أي ممن اقتدى به (الكبير) فيعجز عن الطول لكبره إذ هو مظنة الضعف غالباً (والصغير) الذي لاثبات عنده على الصبر على الإطالة. وفي عمدة الأحكام «الضعيف» بالمعجمة بدل المهملة وبالفاء بدل الراء (وذا الحاجة) فتمنعه من درك حاجته الإطالة ويشتغل خاطره فيسلبه خشوعه الذي هو لب العبادة (متفق عليه) وإخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه وابن الجارود وابن حبان والطبراني والإسماعيلي وأبو عوانة والبرقاني وأبو نعيم والبيهقي وغيرهم، كذا في شرح عمدة الأحكام للقلقشندي. 2650 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم رسول الله وآله وسلم من سفر) قال في «فتح الباري» في رواية البيهقي: إنها غزوة تبوك وفي أخرة لأبي داود والنسائي غزوة تبوك أو خيبر.

على الشك (وقد سترت سهوة لي بقرام) جملة حالية من رسول الله والسهوة بفتح السين المهملة وسكون الهاء سيأتي معناه ومعنى القرام «فيه تماثيل» جملة صفة القرام أو الظرف صفة وتماثيل فاعله، والتماثيل بمثناة ثم مثلثة جمع تمثال وهي الشيء المصرّر أعم من أن يكون شاخصاً، أو يكون نقشاً أو دهاناً أو نسجاً في ثوب (فلما رآه رسول الله) هتكه: أي نزعه، وفي رواية البخاري عن عائشة «فأمرني أن أنزعه فنزعته» (وتلوّن وجهه) أي تغير من غضبه لله سبحانه (وقال: يا عائشة أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة) ظرف لأشد، وقوله (الذين يضاهون بخلق الله) خبر أشد: أي الذين يشبهون ما يصنعونه بما يصنعه الله. وقد استشكل كون المصور أشد عذاباً من قوله تعالى: {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} فإنه يقتضي كون المصوِّر أشد عذاباً من آل فرعون. وأجاب الطبري بأنه محمول على من يصوّر ما يعبد من دون الله وهو عارف بذلك قاصد له فإنه يكفر بذلك. وأجاب غيره بأن الرواية بإثبات «من ثابتة ويحذفها محمولة عليها: أي إن المصورين من أشد الناس عذاباً. وقال أبو الوليد بن رشد: إن كان الحديث في حق كافر فلا إشكال فيه لأنه يكون مشتركاً في ذلك مع آل فرعون ويكون فيه دلالة على عظم كفر المذكورين، وإن كان ورد في حق عاص فيكون المراد أشد عذاباً من غيره من العصاة ويكون دالاً على عظم المعصية المذكورة. وأجاب القرطبي في المفهم بأن الناس إذا أضيف إليه أشد لا يراد به كلهم بل البعض، وهو من يشارك في المعنى المتوعد عليه بالعذاب، ففرعون أشد الناس الذين ادعوا الألوهية عذاباً ومن يقتدي به في ضلالة كفره أشد عذاباً ممن يقتدي به في ضلالة فسقه. ومن صوّر صورة ذات روح للعبادة أشد ممن يصورها لا للعبادة. واستشكل ظاهر الحديث أيضاً إبليس وابن آدم الذي سنّ القتل. ويجاب بأن المراد من الحديث من ينسب إلى آدم فخرج إبليس، وأما ابن آدم فالثابت في حقه أن عليه أوزار من يقتل ظلماً، ولا منع أن يشاركه في مثل تعذيبه من ابتدأ الزنى مثلاً فإن عليه مثل أوزار الزناة بعده، لأنه أوّل من سن ذلك، ولعل عدد الزناة أكثر من القاتلين (متفق عليه) أخرجه البخاري ومسلم في اللباس من صحيحيهما وأخرجه النسائي في الزينة (السهوة) بضبطها السابق (كالصفة تكون بين يدي البيت) وقيل الكوة وقيل الرف، وقيل أن يبني من البيت حائط صغير ويجعل السقف على الجميع، فما كان وسط

البيت فهو السهوة وما كان داخله فهو المخدع، وقيل داخله في ناحية البيت وقيل بيت صغير شبيه المخدع، وقيل بيت صغير منحدر في الأرض وسمكه مرتفع من الأرض كالخزانة الصغيرة ويكون فيها المتاع، ورجح هذا الأخير أبو عبيد ولا مخالفة بينه وبين الذي قبله. ووقع في رواية البخاري عن عائشة أنها علقته على بابها وكذا عنها عند مسلم، فتعين أن السهوة بيت صغير علقت الستر على بابه، قاله في الفتح (والقرام بكسر القاف) وتخفيف الراء (هو ستر رقيق) في الفتح هو ستر فيه رقم ونقش. وقيل ثوب من صوف ملون يفرش في الهودج أو يغطى به اهـ. (وهتكه أفسد الصور التي فيه) وهذا أحد معاني هتك. قال في «المصباح» : هتك زيد الستر من باب ضرب خرقه فانتهك، قاله الأزهري وتبعه الزمخشري جذبه حتى نزعه من مكانه أو شقه حتى أظهر ما وراءه. 3651 - (وعنها أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية) قال العراقي في مبهماته: هي فاطمة بنت أبي الأسد بنت أخي أبي سلمة بن عبد الأسد ذكره عبد الغني. وقيل هي أم عمرو بنت سفيان بن عبد الأسد ذكره عبد الرزاق (التي سرقت) وكان ذلك يوم الفتح (فقالوا: من يكلم فيها رسول الله؟) أي شفيعاً عنده فيها، والشفاعة في الحدود بعد بلوغها الإمام ممتنعة لحديث الباب وما في معناه وقيل بلوغها له مستحبة إلا إذا كان ذلك صاحب شرّ وأذى فلا يشفع فيه (فقالوا من يجترىء) من الجرأة الإقدام أي يتجاسر عليه بطريق الإدلال (عليه إلا أسامة بن زيد حبّ رسول الله) بكسر الحاء: أي محبوبه ففيه منقبة ظاهرة لأسامة (فكلمه) معطوف على محذوف دلّ عليه السياق: أي فكلموه فكلمه (أسامة فقال رسول الله: أتشفع في حدّ من حدود الله تعالى؟) أي بعد رفعه إليّ (ثم قام فاختطب) أي خطب كما في نسخة، وأتى به من باب الافتعال الدال على الاعتمال إيماء إلى أنه

بالغ في الموعظة (ثم قال) أي بعد أن وعظ وخوّف وحذر وأنذر كما تومىء إليه ثم (إنماأهلك الذين من قبلكم) أي الأمم (أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف) قدراً ووجاهة (تركوه) لوجاهته وشرفه. ثم الجملة الشرطية خبر كان (وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد) لخموله وسقوط وجاهته (وايم الله) بضم الميم والهمزة فيه للوصل وهو من لغات أيمن بفتح الهمزة في الأفصح وتكسر. قال ابن هشام: هوا سم مفرد مشتق من اليمن والبركة لا جمع يمين خلافاً للفراء وفيه اثنتا عشرة لغة جمعها ابن مالك في قوله: همز ايم وايمن فافتح واكسرن أم قل أو قل م أو من بالتثليث قد شكلا وأيمن اختم به والله كلا أضف إليه في قسم تستوف ما نقلا وذكر السيوطي في «شرح جمع الجوامع» له في النحو في ذلك عشرين لغة (لو أن فاطمة بنت محمد) (سرقت) أتى به مبالغة وهو على سبيل الفرض الذي يستعمل فيما لا يكون أصلا لا الوقوع، وكان التقى السبكي يزيد بعد هذا قوله. حاشاها من ذلك، وهو أدب حسن (لقطعت يدها) مع أنها أشرف نساء هذه الأمة. ففيه أن شرف الجاني لا يسقط الحد عنه، وأن أحكام المولى سبحانه يستوي فيها الشريف والوضيع (متفق عليه) أخرجه البخاري في الأحكام، ومسلم في الحدود، ورواه أصحاب السنن الأربعة، وقال الترمذي: حسن صحيح. 4652 - (وعن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله رأى نخامة) بضم النون. قال ابن سيده في «المحكم» : نخم الرجل: دفع بشيء من صدره وأنفه. وقال في «الصحاح» والمجمل: النخامة: النخاعة. وفي «المغرب» و «المطرب» للمطرزي: هو ما يخرج من الخيشوم. وفي التهذيب للمصنف: النخامة ما يلفظه الإنسان كالنخاعة (في القبلة) أي في الجدار الذي يستقبلونه حال استقبالهم القبلة (فشقّ ذلك عليه حتى رؤى) أثر ذلك (في وجهه) من الغضب

الذي كان يعتريه لله إذا انتهكت حرمات الله (فقام) أي عقب الإطلاع عليه (فحكه) إزالة للمنكر باليد. ويحتمل أنه كان باقياً على طراوته فأزاله بيده مها. ويحتمل أن يكون قد جف فمعنى أزله (بيده) أي بما فيها من نحو عود (فقال: إن أحدكم) أي الواحد منكم (إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه) جواب إذا، ومناجاته لربه من جهة إتيانه بالقرآن والأذكار ومناجاة ربه له من جهة لازم ذلك وهو إرادة الخير مجازاً، لأن الحقيقة وهو الكلام المحسوس مستحيلة في حقه تعالى. والمناجاة: المسارة يقال ناجيته ونجوته إذا ساررته (وإن) بكسر الهمزة وفتحها والواو للعطف وهذا ما في بعض نسخ البخاري، وفي بعضها «أو» وهي إيماء إلى أن بعض رواته شك في ذلك (ربه بينه وبين القبلة) قال الخطابي: معناه أن توجهه إلى القبلة مفض بالقصد منه إلى ربه، فصار التقدير أن مقصوده بينه وبين قبلته. وقيل هو على تقدير مضاف: أي عظمة الله أو ثوابه، وقيل هو كلام خرج على التعظيم لشأن القبلة (فلا يبزقن) بضم الزاي وقد تبدل صادا لوقوعها قبل القاف (أحدكم قبل) بكسر ففتح: أي مقابل (القبلة) أي لأنها الجهة التي أمر الله بتعظيمها فلا تقابل بالبزاق. قال الشيخ زكريا في «تحفة القارى» : والنهي للتحريم (ولكن عن يساره أو تحت قدمه) متعلق الظرف محذوف دلّ عليه ما قبله: أي ليبزق فيهما (ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه) الصاد فيه بدل من الزاي (ثم ردّ بعضه على بعض) ليذهب جرم البزاق ويستهلك بذلك (فقال أو يفعل هكذا) وأو فيه وفيما قبله للتنويع: أي هذه أحب (متفق عليه) رواه البخاري في أبواب المساجد من «صحيحه» ، ومسلم في كتاب الصلاة (والأمر بالبصاق عن يساره، أو تحت قدمه هو فيما إذا كان في غير المسجد) فيفعل ما أراد من الأمور الثلاثة (فأما في المسجد) جامعاً كان أو غيره (فلا يبصق إلا في ثوبه) لحرمة البصاق فيه، قال «البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها

78 ـــ باب أمر ولاة الأمور

دفنها» قال المصنف: أي كفارة دوام إثم ذلك، أما الابتداء فلا يكفره إلا التوبة أو فضل الله سبحانه وتعالى.) 78 - باب أمر ولاة الأمور بضم الواو جمع وال كقاض وقضاة وغاز وغزاة (بالرفق برعاياهم) جمع رعية كخطية وخطايا: وهم الذين على ولاة الأمور مراعاة شؤونهم وإصلاح أمورهم (ونصيحتهم) عطف على الرفق وكذا قوله (والشفقة عليهم والنهي) معطوف على أمر (عن غشهم) كتم ضرائرهم عنهم (والتشديد عليهم) في الأحكام وفي الأحوال (وإهمال مصالحهم) بأن يتركها حتى تفوتهم (والغفلة) معطوف على غش: أي والنهي عن الغفلة (عنهم وعن حوائجهم) لأن ذلك يضرّهم معاشاً ومعاداً. (قال الله تعالى) : ( {واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} ) الظرف في محل الحال بيان للموصول، والآية تقدم الكلام عليها وساقها المصنف هنا استدلالاً على ما قدمه من الرفق بالرعايا. (وقال تعالى) : ( {إن الله يأمر بالعدل} ) بالتوسط في الأمور اعتقاداً وعملاً ( {والإحسان} ) إلى الناس، وعن ابن عباس: العدل التوحيد، والإحسان: الإخلاص فيه (وإيتاء ذي القربى) صلة الرحم ( {وينهي عن الفحشاء} ) ما غلظ من المعاصي كالزنى ( {والمنكر} ) ما ينكره الشرع ( {والبغى} ) العدوان على الناس (يعظكم لعلكم تذكرون) أي تتعظون، وللَّه درّ من قال: لو لم يكن في القرآن إلا هذه الآية لصدق عليه أنه تبيان لكل شيء وهدى ورحمة» ولعل إيرادها عقب قوله: {وأنزلنا عليك الكتاب} () للتنبيه عليه، وجملة يعظكم مستأنفة أو في محل الحال من ضمير يعظكم، والآية مشتملة على

جميع المطالب التي ترجم لها. 1653 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله يقول: كلكم راع) تشبيه بليغ: أي مثل الراعي، قاله العاقولي وأفرد الخبر اعتباراً بلفظ كل، ويجوز فيها إذا كانت مضافة إلى المعرفة اعتبار لفظها واعتبار معناها (وكلكم مسئول عن رعيته) أي أقام بالحق الذي لها أم لا (الإمام) أي ذو الخلافة العظمى ومثله سائر ولاة الأمور (راع ومسؤول عن رعيته) يحتمل كونه من عطف خبر على مثله نحو زيد كاتب وشاعر، ويحتمل كونه من عطف الجمل: أي وهو مسئول فيكون معطوفاً على الجملة قبله (والرجل راع) أي على أهله وأولاده وخدمه (ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها) من بيته هل حفظته أو أضاعته؟ وعن أهله المقامة عليهم، هل قامت بما عليهم لها أم لا؟ (والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته) أحفظها عليه أم أضاعها؟ (متفق عليه) تقدم معنى الحديث وتخريجه في باب حق الزوج على امرأته. 2654 - (وعن أبي يعلى) ويقال أبو عبد الله ويقال أبو يسار (معقل بن يسار) بفتح التحتية وبالسين المهملة ابن معبر بضم الميم وفتح العين وتشديد الموحدة، وقيل بإسكان العين وفتح المثناة تحت ابن حراف بضم المهملة، وقيل حسان بدل حراف ابن لأي بن كعب بن نور بن عدنان المزني البصري (رضي الله عنه) شهد بيعة الرضوان، ونزل البصرة وتوفي بها آخر خلافة معاوية، وقيل توفي أيام يزيد، روى له عن رسول الله أربعة وثلاثون حديثاً، اتفقا على حديث، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بحديثين. قال أحمد ابن عبد الله العجلي، ليس في الصحابة من يكنى أبا علي غير معقل. وردّ بأنها كنية طلق بن علي. وذكر أبو يحيى أحمد الحاكم أن قيس بن عاصم كنيته أبو علي ومعقل هذا

هو الذي ينسب إليه نهر معقل البصري وإليه ينسب التمر المعقلي الذي بالبصرة (قال: سمعت رسول الله يقول: ما من عبد يسترعيه الله رعية) أي يفوض إليه رعايتها والرعية بمعنى المرعية (يموت) خبر ما، كذا أعربه ابن مالك في شرح المشارق، والظاهر أنه كما قبله صفة عبد والخبر محذوف (يوم يموت) ظرف مقدم على عامله، والمراد من اليوم فيه إزهاق روحه، وما قبله من حين المعاينة التي لا يقبل عندها التوبة لا قبل ذلك، فإن التوبة قبل المعاينة صحيحة مقبولة والتائب عن جنايته وتقصيره لا يستحق هذا الوعيد (وهو غاشّ لرعيته) جملة حالية من ضمير يموت الأول وهو قيد في الفعل ومقصود بالذكر لأن المعتبر من الفعل هو الحال، بمعنى أن الله ولاه لينصحهم لا ليغشهم فيموت كذلك، والخبر عامل في الظرف قبله وقوله غاش أي خائن (إلا حرم الله عليه الجنة) أي دخولها مع الفائزين الناجين أو مطلقاً إن اعتقد حل غش المسلمين وخيانتهم (متفق عليه) . (وفي رواية) ذكرها البخاري في كتاب الأحكام قبل الحديث قبله في باب من استرعى رعية فلم ينصح لهم. وظاهر قول المصنف الآتي وفي رواية لمسلم أن هذه لهما كالتي قبلها ولم أره فيه (فلم يحطها) بفتح التحتية وضم الحاء وسكون الطاء المهملتين: أي يكلؤها، أو يصنها وزنه ومعناه والاسم الحياطة يقال حاطه إذا استولى عليه وأحاط به مثلها أي يشملها (بنصحه) فيسعى فيما ينفعهم ودفع ما يضرهم (لم يجد) قيل الصواب إثبات إلا قبل لم لتقدم ما النافية أول الحديث، وقد جاء كذلك في نسخة الصغاني، ولذا قال الكرماني: مفهوم الحديث أنه يجدها وهو عكس المقصود. والجواب أن إلا مقدرة والخبر محذوف. والتقدير: ما من عبد فعل كذا جوزي بحال من الأحوال إلا حرّم الله عليه الجنة ولم يجد عرف الجنة استئناف كالمفسر للخبر المحذوف أو ليست ما نافية، وجازت زيادة من للتأكيد في الإثبات عند بعض النحاة. قال الحافظ ابن حجر: لم يقع الجمع بين اللفظين المتوعد بهما في طريق واحدة بل كل في طريق غير الأخرى، وكأنه أراد أن الأصل

في الحديث جمعهما فحفظ بعض ما لم يحفظه بعض وهومحتمل، لكن الظاهر أنه لفظ واحد تصرفت فيه الرواة، ومفعول يجد قوله (رائحة الجنة) أي ابتداء أو مطلقاً على ما تقدم، وقوله فلم يحطها بنصحه بدل قوله في الحديث قبله «يموت يوم يموت» إلى آخر الحديث. زاد الطبراني «وعرفها يوجد يوم القيامة من مسيرة سبعين عاماً» قال في التوشيح: وللطبراني «من مسيرة خمسمائة» وفي الفردوس «ألف عام» وجمع بأن ذلك يختلف بحسب اختلاف الأشخاص والأعمال وتفاوت الدرجات، فيدركه من شاء من مسيرة ألف عام ومن شاء من مسيرة أربعين أو مائتين، قاله ابن العربي وغيره (وفي رواية لمسلم) أي وما قبلها للبخاري فقط كما أشرنا إليه وإن كان ظاهر الاستصحاب لما قبله أن يكون لهما أيضاً (ما من أمير يلي أمور المسلمين) ما تفيده عموم إضافة الجمع غير مرادة بل الحديث شامل لذى الإمامة العظمى ولغيره من باقي الولاة، وظاهر أن مثل المسلمين أولى بالعصمة من ذمي ومعاهد لحمرة التعرض لهم حينئذ فيجب على الإمام أن يسعى فيما لهم ويكف عنهم أذى من يؤذيهم بغير طريق مأذون فيه شرعاً، ولعل الاقتصاد عليهم لكونهم أشرف، وقد تقدم بلفظ «يسترعيه الله رعية» فيشمل الجميع (ثم لا يجهد لهم) بفتح الهاء قال في «المصباح» جهد في الأمر من باب نفع: إذا طلب حتى بلغ غايته في الطلب (وينصح لهم) بتقدير «لا» قبله لأن الوعيد مرتب على ترك أحدهما لا على ترك المجموع بدليل رواية البخاري السابقة (إلا لم يدخل معهم الجنة) . 3655 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله يقول في بيتي هذا) الظرف في محل الحال من الضمير المستكن في الفعل وإضافة البيت إليها لكونه سكناها وإلا فهو بالحقيقة له، والإشارة إليه زيادة في الإيضاح ودفعاً لتوهم كون الإخبار في غير بيتها الذي به دفن ومعه صاحباه رضي الله عنهما (اللهمّ من ولي من أمر أمتي شيئاً) التنكير فيه للتعميم فيشمل جليل الولاية ودنيئها، و «من» في قوله «من أمر أمتي» ابتدائية،

ويصح كونها بيانية لشيئاً في محل الحال وكان صفة فلما قدمت أعربت حالاً (فشق عليهم) قولاً وفعلاً (فاشقق عليه) فيكون الجزاء من جنس العمل: أي وقعه في المشاق دنيا كتسليط الأعادي عليه، وأخرى بأنواع التعذيب (ومن ولى من أمر أمتي شيئاً) أتى به ظاهراً مع أن المقام للإضمار بأن يقال «منه» زيادة في الإيضاح لكون غالب شأن ولاة الأمور قلة العلم وبعد الفهم لاشتغالهم بأمور الإمامة وسياستها عن دقائق العلوم ورياستها، فأوضح لتقوم الحجة عليهم فلا يعتذورا بخفاء المراد من عبارة الشارع عليهم وتنبيهاً على السبب الداعي لجزاء الأمير بما فعله فيهم من رفق ومشقة: أي كونهم أمته مضافين لحضرته مستأهلين لذلك السعي في مصالحهم والجهد في دفع ضرائرهم والله أعلم (فرفق بهم) قولاً وفعلاً (فارفق به) دنيا وأخرى، وقد جاء «كما تدين تدان» (رواه مسلم) في المغازي من «صحيحه» ، ورواه النسائي في السير. 4656 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: كانت بنو إسرائيل) هو اسم يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم بالعبرانية، وإسر معناه عبد، وإيل معناه الله: أي عبد الله (تسوسهم الأنبياء كلما هلك تبنى خلفه نبيّ آخر) أي إنهم كانوا إذا ظهر فيهم فساد بعث الله نبياً يقيم لهم أمرهم ويزيل ما غيروه من أحكام التوراة. وفيه إيماء إلى أنه لا بد لرعية ممن يقوم بأمرها ويحملها على الطريق وينصف المظلوم من ظالمه، وجملة كلما الخ في محل الحال من فاعل يسوس: أي الأنبياء تترى بعضهم إثر بعض، وجملة (وإنه لا نبي بعدي) معطوفة على كانت بنو إسرائيل واسم إنّ ضمير الشأن وخولف بين المعطوف والمعطوف عليه لإرادة الثبات والتوكيد في الثاني، والمراد لا نبيّ بعدي: أي فيفعل ما كان يفعل أولئك (وسكون بعدي خلفاء) الظرف في هذه لم أجده في النسخ المصححة من «الصحيحين» بل في «فتح الباري» «وستكون خلفاء» أي بعدي فهو صريح في عدم وجودها في البخاري، ولعله في بعض النسخ عندهما أو عند أحدهما (فيكثرون) بالمثلثة، وحكى عياض أن منهم

من ضبطه بالموحدة وهو تصحيف، ووجه بأن المراد إكبار قبيح فعلهم (قالوا فما) مفعول ثان مقدم لقوله (تأمرنا) ويجوز إعراب ما مبتدأ ويقدر بعد الفعل مفعول، إما صريحاً: أي تأمرناه، أو مع حرف الجر: أي به والفاء فيه جواب شرط مقدر: أي إذا كثر بعدك الخلفاء أو تنازعوا فما تأمرنا نفعل؟ (قال: أوفوا ببيعة الأول) أي بقضيتها من طاعته والانقياد وقتال من بغى عليه وخرج عن طاعته وذلك لانعقاد إمامته لعدم اشتغال الأمر بأحد (ثم أعطوهم حقهم) أي أطيعوهم وعاشروهم بالسمع والطاعة وهو كالبدل من قوله «أوفوا بطاعة الأول» (واسألوا الله الذي لكم) أي عليهم من الرفق بكم والجهد في مصالحكم والنصيحة لكم إذا لم يقوموا به (فإن الله سائلهم عما استرعاهم) هو كحديث ابن عمر السابق في الباب «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» . وفي الحديث تقديم أمر الدين على أمر الدنيا، لأنه أمر بتوفية حق السلطان لما فيه من إعلاء كلمة الدين وكفّ الفتنة والشرّ وتأخير المرء المطالبة بحقه لا يسقطه. وقد وعده الله أن يخلصه له ويوفيه إياه ولو في الدار الآخرة (متفق عليه) رواه البخاري في ذكر بني إسرائيل أواخر كتاب الأنبياء من «صحيحه» ومسلم في المغازي، ورواه ابن ماجه. 5657 - (وعن عائذ) بالعين المهملة وبعد الألف همزة فذال معجمة (ابن عمرو) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب الأمر بالمعروف (أنه دخل على عبيد الله) بضم المهملة وفتح الموحدة مصغراً (ابن زياد) بكسر الزاي وبالتحتية وهو أمير العراقين بعد أبيه (فقال) : أي بفتح الهمزة وسكون التحتيّة حرف لنداء القريب، و (بنى) بصيغة التصغير للتحبب والتحنن يطرد في يائه الكسر دلالة على ياء المتكلم المحذوفة تخفيفاً والفتح والإسكان تخفيفاً، وقد قرىء بهذه اللغات في السبع (إني سمعت رسول الله يقول: إن شرّ الرعاء) بكسر الراء آخره ألف ممدودة جمع راع ويجمع على رعاة بضم أوله بزيادة هاء كقاض وقضاة (الحطمة) بضم المهملة الأولى وفتح الثانية، قال في «النهاية» : هو العنيف برعاية الإبل في السوق والإيراد

والإصدار ويلقى بعضها على بعض ويعسفها، ضربه مثلاً لوالي السوء، ويقال حطم بلا هاء اهـ. وهو مأخوذ من الحطم: وهو الكسر، والمراد منه لفظ القاسي الذي يظلمهم ولا يرق لهم ولا يرحمهم، وهذا آخر الخبر المرفوع، وقوله (فإياك أن تكون منهم) من كلام عائذ نصيحة لابن زياد وأدرجه في آخر الحديث (متفق عليه) فيه أن الحديث إنما أخرجه مسلم في آخر المغازي، وقد رمز له كذلك الحافظ المزي في «الأطراف» ولم يرمز للبخاري، وكذا اقتصر في «الجامع الصغير» على رمز مسلم وزاد: وأخرجه أحمد، وليس فيه رمز للبحاري. وفي التيسير مختصر جامع الأصول للديبع بعد ذكر حديث معقل المذكور آنفاً: أخرجه الشيخان، وفي أخرى لمسلم عن الحسن البصري: أن عائذ بن عبد الله دخل علة ابن زياد فذكر الحديث، فبان أنه من أفراد مسلم لا من المتفق عليه، وهذا إن يكن من تحريف الكتاب سبق قلم من المصنف. 6658 - (وعن أبي مريم الأزدى) بفتح الهمزة وسكون الزاي، قال الحافظ في «تبصير المنتبه» : هذا هو الأكثر، ويقال في مثله بإبدال الزاي سينا مهملة نسبة إلى الأزد اهـ. وقال ابن الأثير: هو الكندي، ويقال الأزدي، يعد في الشاميين. قيل إنه غير أبي مريم الغساني، وقيل إنه هو، وقد ذكره ابن منده في ترجمة أبي مريم السلولي فقال: أراه الكندي ولا يبعد، فإن السلول قبيلة من كندة. قال الحافظ المزي في «الأطراف» : قيل إن أبا مريم هذا هو عمرو بن مرة الجهني، وقد روى عليّ بن الحكم النسائي عن أبي الحسن الجزري الشامي قال: قال عمرو ابن مرة لمعاوية فذكره قريباً منه اهـ. روى له عن رسول الله هذا الحديث (رضي الله عنه أنه قال لمعاوية رضي الله عنه: سمعت رسول الله يقول: من ولاه الله شيئاً) أيّ شيء كان كما يؤذن به عمومه بكونه نكرة في سياق النفي (من أمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم) بفتح المعجمة وتشديد اللام في النهاية: هي الحاجة والفقر فهو من عطف المرادف أو الخاص على العام، وكذا عطف قوله (وفقرهم) والجمع بين الثلاثة إطناب. وقال العاقولي بل بين الثلاثة فرق، فالحاجة ما يهتم به الإنسان وإن لم تبلغ

79 ـــ باب فضل الوالي العادل

حد الضرورة بحيث لو لم تحصل لاختل أمره، والخلة ما كان فوق ذلك مأخوذ من الخلل ولم يبلغ حد الاضطرار، والفقر هو الاضطرار التام مأخوذ من الفقار كأنه كسر فقاره اهـ. وكأنه باعتبار المراد في الحديث وما أشرنا إليه باعتبار موضوع اللفظ لغة، إذ الفقر مطلق الحاجة وكذا الخلة، والله أعلم. قال العاقولي: المراد باحتجاجه مع أرباب الحاجات من الوصول إليه فيعسر عليهم إنهاؤها (احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره) أي لم يجب له دعاء ولم يحقق له أملاً (يوم القيامة) ظرف لاحتجب الثاني (فجعل معاوية) أي عقب سماع ذلك منه (رجلاً على حوائج الناس) أي لإيصالها إليه وإبلاغه إياها لتخفّ عنه المؤنة فلا يصعب عليه الأمر (رواه أبو داود) في الخراج من سننه (والترمذي) في الأحكام من «جامعه» . 79 - باب فضل الوالي العادل عبر بالوالي ليشمل كل ذي ولاية. (قال الله تعالى) : ( {إن الله يأمر بالعدل والإحسان الآية} ) بالنصب: أي أتم الآية، وبالرفع: أي الآية المعروفة، وبالجرّ على حذف الجار وإبقاء عمله وهذا شاذ (إلى آخرها) وقد سبق الكلام على معناها في الباب قبله. (وقال تعالى) : ( {وأقسطوا} ) بفتح الهمزة أي اعدلوا من الإقساط: العدل ( {إن الله يحبّ} ) أي يثيب ويوفق ( {المقسطين} ) العادلين.

1659 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ قال: سبعة) أي من أصناف الناس فهو مبتدأ سوغ الابتداء به ما أشرنا إليه، وقوله (يظلهم الله في ظله) خبره وقوله (يوم لا ظلّ إلا ظله) ظرف له وهو القيامة (إمام عادل) بالرفع خبر مبتدإ محذوف: أي هم والعطف سابق على الربط، والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً جواباً لمن قال: من هم؟ وذكر الإمام لأنه الأشرف والأفضل العادل يشمله وغيره من الولاة كما تومىء إليه ترجمة المصنف (وشاب نشأ في عبادة الله تعالى) مخلصاً لله سبحانه (ورجل قلبه معلق بالمساجد) فهو من عمارها المشهود لهم بالاهتداء، وتعلق قلبه بها، ليعبد الله تعالى فيها بصلاة واعتكاف ونحو ذلك فلذا قرنة بما قبله (ورجلان تحابا في الله) في تعليلية أي لله لا لغرض ولا لعرض. وفي الحديث «أفضل الحبّ الحبّ في الله» (اجتمعا عليه وتفرقا عليه) جملة صفة بعد صفة للكرة قبلها أو حال منها لتخصيصها بالوصف (ورجل دعته امرأة ذات) صاحبة (منصب) إشارة لغناها (وجمال) إشارة لما يدعو لموافقتها، ومع ذلك كفّ نفسه عنها (فقال إني أخاف الله) أي وخوفه يمنع من المعصية التي منها الزنى فذكر السبب وأراد المسبب (ورجل تصدق بصدقة) هي ما يتبرع به لمحتاج تقرباً إلى الله سبحانه (فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) أي أنه من شدة الإخفاء لو كان بجانبه إنسان نبيه فطن لما فطن بصدقته إلى من عن يمينه (ورجل ذكر الله) أي جلاله وعظمته (خالياً) قيد به لأنه حينئذ أبعد عن الرياء وأقرب إلى الإخلاص وإلا فالمراد البكاء خوفاً من الله مخلصاً له سواء كان في الخلا أو في الملا (ففاضت عيناه) من هيبته وجلاله، أو ذكر نعماء الله عليه وتقصيره في أداء شكرها ففاضت عيناه حياء من الله تعالى (متفق عليه) تقدم تخريجه مع بسط الكلام في شرحه في باب فضل

الحبّ في الله تعالى. 2660 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص) بحذف الياء تخفيفاً وتقدم بيان وجهه مراراً (رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: إن المقسطين) أو العادلين (عند الله) عندية شرف ومكانة وهو محتمل لكونه خبر إنّ، وقوله (على منابر من نور) في محل الحال من الضمير المستقر فيه أو خبر بعد خبر، أو هو خبر والظرف قبله حال من الضمير المستقر فيه، ومن نور صفة منابر مخصصة لبيان الحقيقة، ويجوز أن يكون حالاً بعد حال على التداخل. قال العاقولى: هذا يحتمل الحقيقة وهي جمع منبر سمى به لارتفاعه، ويحتمل أن يكون كناية عن المنازل الرفيعة والمراد بذلك كرامتهم ولذا قال عند الله فهو كناية عن ارتفاع شأنهم في معارج القدس (الذين يعدلون في حكمهم في أليهم وما ولوا) صفة المقسطين أو خبر محذوف: أي الممدوحون أو مفعول أمدح مقدراً وفي حكمهم صلة يعدلون وفي أهليهم صلة حكم، ويجوز كونه ظرفاً مستقراً: أي حال كون الحكم كائناً في أهلهم، قال العاقولي: أي إن هذا الفضل إنما هو لذي العدل فيما قلده من دنيوي أو أخروي كلي أو جزئي في أهله وغيره وهو ملخص من كلام المصنف في «شرح مسلم» (رواه مسلم) وأحمد والنسائي، وعندهم زيادة «عن يمين الرحمن» بعد قوله: «من نور» . 9 3661 - (وعن عوف بن مالك) هو الأشجعي كما في «أطراف» المزي (رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: خيار) بكسر المعجمة فتحتية مخففة. قال في المصباح جمع خير: ضد الشرّ كسهم وسهام ومنه: خيار المال الكرائم (أتمتكم) بهمزتين وتخفف بقلب الثانية ياء جمع إمام وأصله أأممة علة وزن أفعلة فنقلت الكسرة إلى الساكن قبلها وأدغمت الميم الساكنة في المتحركة (الذين تحبونهم) لحسن سيرتهم فيكم ورفقهم بكم (ويحبونكم) وذلك لأن المحبة رابطة من الجانبين، ولذا عجب من حب زوج بريرة لها وبغضها إياه

(وتصلون عليهم) أي تدعون لهم بخير وعدى بعلى لتضمنه معنى الحنو والعطف (ويصلون عليكم) أي يدعون لكم لامتثالكم ما أمر الله بامتثاله واجتنابكم ما نهى الله عنه ويصلون عليكم إذا متم وتصلون عليهم كذلك. قال العاقولي: وإن حمل على الدعاء فحسن. أي تدعون لهم ويدعون لكم وذلك إنما يكون عند التقارب والتآلف والتناصف وكلا المعنيين قريب وكل منهما يلزم الآخر اهـ. وكونه يلزم من كل منهما الآخر في محل المنع، والله أعلم (وشرار أئمتكم) بكسر المعجمة جمع شرّ ضد الخير كما تقدم (الذين تبغضونهم) لشقهم عليكم وعدم رفقهم بكم (ويبغضونكم) كما تقدم في نظيره (وتلعنونهم) أي تدعون عليهم بالبعد من الرحمة لسوء أعمالهم، ولا يلزم منه جواز الدعاء بلعن المعين لأن هذا بيان عادة الناس مع أمراء السوء لا أن ذلك مشروع (ويلعنونكم) مجازاة لما فعلتم معهم (قال قلنا يا رسول الله أفلا ننابدهم) أي أنطيعهم على سوء وصفهم المذكور فلا ننابذهم أي نخالفهم بترك الطاعة لهم (قال لا) أي لا تنابذوهم (ما) مصدرية ظرفية (أقاموا فيكم الصلاة) أي مدة إقامتهم لها فيكم، وفيه دليل تعظيم الصلاة. ويؤخذ منه أن ترك إقامة الصلاة كالكفر البواح لقوله في حديث عبادة «لا إلا أن تروا كفراً بواحاً» وقد تقدم في باب الأمر بالمعروف وكذا تقدم فيه من حديث أم سلمة «قالوا يا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال لا ما أقاموا فيكم الصلاة» رواه مسلم، وبه يتبين تفسير ننابذهم في حديث الباب لأن تفسير السنة بالسنة أولى، وفي «المصباح» نابذته الحرب كاشفته إياها وجاهرته بها (رواه مسلم) . (تصلون عليهم: تدعون لهم) أي بخير كما يدل عليه تعدية دعا باللام وهذا أحد المحتملين في ذلك كما تقدم. 4662 - (وعن عياض بن حمار) بكسر أول كل منهما وهو مهمل وتجفيف التحتية والميم

80 ـــ باب وجوب طاعة ولاة الأمر

وآخر الأول ضاد معجمة والثاني راء، وقد تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب فضل الاختلاط بالناس (قال: سمعت رسول الله يقول: أهل الجنة ثلاثة) مفهوم العدد غير معتبر عند الأصوليين والاقتصار على ذلك لعله لدعاء المقام حين التكلم إليه، والتمييز محذوف أي ثلاثة أصناف (ذو) أي صاحب (سلطان) أي تسلطن بالولاية في شيء من أمور المسلمين (مقسط) بالرفع صفة ذو أي عادل (موفق) أي لمراضى الله سبحانه وتعالى من امتثال أوامره واجتناب مناهيه، وقد جاء في حديث عبادة «ساعة من الملك العادل تعدل عبادة سبعين سنة من غيره» والتوفيق لغة: جعل الأسباب موافقة للمسببات. وشرعاً خلق قدرة الطاعة في العبد، وقيل خلقها فيه بالفعل (ورجل رحيم) من الرحمة وهي ميل نفساني إلى جانب المرحوم (رقيق القلب) بقافين من الرقة خلاف الغلظ والعنف أي إنه لصفاء قلبه ورحمته اللتين قامتا به خال عن الغلظ والعنف على الخلائق بل يحنو عليهم ويشفق في أحوالهم، وقوله (لكل ذي قربى ومسلم) تنازعه الوصفان قبله، ففيه إيماء إلى صلته للرحم لأن الداعي لها موجود مع فقد المانع فكأنه قال الثاني واصل رحمه فذكر السبب مراداً به المسبب (وعفيف) بالطبع عن السؤال بحسب أصل طبعه (متعفف) مبالغ في ذلك بالاكتساب ففيه إيماء إلى أن الأخلاق غريزية باعتبار أصلها وإنما تزكو وتنمو بالمزاولة (ذو عيال) أي إنه لكمال يقينه ووثوقه بمولاه لتضمنه بأرزاق العباد فضلاً منه لا يسأل أحداً وإن كان قام بسبب السؤال من كثرة العيال المؤذن بها الإتيان بذي التي هي أبلغ من صاحب وبصيغة جمع الكثرة (رواه مسلم) . 80 - باب وجوب طاعة ولاة الأمر مفهوم الجمع غير قيد في وجوب الطاعة بل المراد ذي الولاية سواء كان إماماً أو سلطاناً أو ملكاً أو أميراً أو عاملاً (في غير معصية) متعلق بطاعة، والأمر فيما عدا المعصية

لتجتمع كلمة المسلمين فإن الخلاف سبب لفساد أحوال الدين والدنيا قاله المصنف (وتحريم طاعاتهم) أي طاعة كل منهم (في المعصية) دخل في شق الوجوب الواجب والمندوب والمباح والمكروه فتجب طاعة أمر ولي الأمر به والثاني قاصر على المحرم صغيرة كانت أو كبيرة. (قال الله تعالى) : ( {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} ) ذكر طاعته تعالى تشريفاً لرسوله وإيماء إلى طاعة الرسول طاعة له ( {وأولي الأمر منكم} ) ولعل حكمة إعادة العامل في المعطوف الأول دون الثاني الإيماء إلى مزيد الاهتمام بطاعته والانقياد لأمره لأن ذلك علامة الإيمان قال تعالى {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} () الآية. وطاعة ولاة الأمور وإن كانت واجبة أيضاً للآية ولغيرها إلا أنها ليس الإخلال بها مخلا بالإيمان، والله أعلم. 1663 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبيّ قال: على المرء المسلم) أي يجب عليه (السمع والطاعة) أي القبول والانقياد لقول ولي الأمر (فيما أحب) المرء إن كان موافقاً لمراد المأمور أيضاً (وكره) بأن كان مخالفاً لمراده والعائد محذوف إن كانت ما موصولاً إسمياً، فإن أعربتها مصدرية فلا خلاف في حبه وكراهيته والمصدر بمعنى اسم المفعول (إلا أن يؤمر بمعصية) كقتل محترم (فإن أمر بمعصية) أتى به ظاهراً والمقام للضمير زيادة في الإيضاح ورفع الإلباس وبنى الفعل للمجهول ليعم كل آمر من ولي أمر أبوين وغيرهم (فلا سمع ولا طاعة) لبناء الاسمين اشتغراقاً لأفراد كل منهما أي فلا يطلب شيء من هذين حينئذ بوجه بل يحرم ذلك على من كان قادراً على الامتناع وهو نفي بمعنى الخبر أي فلا تسمعوا ولا تطيعوا وهو أبلغ كأنه امتثل وانتفى ما أمر بتركه فأخبر عنه بما يحبر به عن المنفي

(متفق عليه) أخرجه البخاري في كتاب الفتن، وأخرجه مسلم في كتاب المغازي. 2664 - (وعنه رضي الله عنه قال: كنا إذا بايعنا رسول الله) الإتيان بصيغة المفاعلة لأنهم باعوا أنفسهم وأموالهم من الله تعالى على يده وباعهم ما أعده الله لهم من نعيم الآخرة (على السمع والطاعة) لولاة الأمر (يقول لنا) ملقنا (فيما استطعتم) أي خصصوا المبايعة بقولكم فيما استطعنا وذلك شفقة منه عليهم ورحمة لئلا يدخل في عموم بيعته ما لا يطيقون وهو نحو قوله «عليكم من الأعمال ما تطيقون» قال العاقولي وفيه إشكال على قولنا يجب إحضار الاستثناء على خاطر المستثنى قبل تمام المستثنى منه. قلت: ولا إشكال ولعلهم أعادوا المبايعة ليقيدوها بذلك (متفق عليه) أخرجه البخاري في الأحكام ومسلم في آخر المغازي ومداره عندهما على عبد الله بن دينار عن ابن عمرو ورواه الترمذي في السير من «جامعه» وقال حسن صحيح والنسائي في السير وفي البيعة من «سننه» هذا ما ذكره المزي في «أطرافه» ثم الحديث في الصحيحين بضمير الواحد المخاطب وليس فيه ميم الجماعة فلعل ما في نسخ «الرياض» من زيادة الميم من تحريف الكتاب، وإلا فسبق قلم بلا ارتياب. 3665 - (وعنه قال: سمعت رسول الله يقول: من خلع يدا من طاعة) أي خرج عنها بالخروج على الإمام وعدم الانقياد له في غير معصية بأي وجه كان، أطلق خلع اليد وأراد به لازمه وهو إبطال المبايعة بالخروج عن الطاعة مجازاً مرسلاً، قال العاقولي: يكنى بخلع اليد عن نكث العهد لأن المعاهد يضع يده في يد من عاهد غالباً (لقي الله يوم القيامة ولا

حجة له) أي لا حجة له يومئذ فيما فعله من نبذ الطاعة ولا عذر له فيه (ومن مات وليس في عنقه بيعة) أي للإمام بالسمع والدخول في طاعته والجملة في محل الحال من فاعل مات قيد له. (مات ميتة جاهلية) هي صفة ميتة أي مات على الضلالة كما يموت أهل الجاهلية عليها من جهة أنهم كانوا لا يدخلون تحت طاعة أمير ويرون ذلك عيباً بل كان ضعيفهم نهباً لقويهم (رواه مسلم) في المغازي من «صحيحه» منفرداً به عن باقي الستة. (وفي رواية له) أي لمسلم عن ابن عمر مرفوعاً (ومن مات وهو مفارق للجماعة) وهو شامل لعدم المبايعة والدخول في الطاعة ابتداء وللخروج عنها بعد الدخول فيها، والمراد بالجماعة الإمام وجيش الإسلام، ويجوز أن يراد به مفارقة الجماعة في الصلوات كالروافض فإنه لبدعتهم لا يرون الدخول تحت طاعة أئمة الحق والانقياد لهم إلا اضطراراً وتقية (فإنه يموت ميتة جاهلية) أي مات على هيئة موت أهل الجاهلية فإنهم كانوا أفراداً لا إمام يردعهم ولا جماعة تجمعهم، قال المصنف (الميتة بكسر الميم) للنوع والحالة. 4666 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: اسمعوا) ما قال أمراؤكم (وأطيعوا) أي أطيعوهم في غير معصية (وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأنّ رأسه زبيبة) أي أمر عليكم في نحو سرية أو جيش أو كان عاملاً، لا الإمامة العظمى وإن أريد به الإمامة فيكون على ضرب المثل للمبالغة نحو «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت» على سبيل الفرض لا الوقوع قلت أو كان ذلك على سبيل التغلب عليها فإنها تنعقد حينئذ ولو لم يكن جامعاً لشروطها ثم الجملة وصلية قيل معطوفة على مقدر وقيل في محل الحال. وقوله كأن رأسه زبيبة جملة في محل الحال من عبد لتخصيصه بالوصف أو وصف بالجملة بعد الوصف بالمفرد، ومعنى كأنّ رأسه إلخ أي أسود صغير قطط فيكون أبلغ في حقارته (رواه البخاري) في كتاب لصلاة وكتاب «الأحكام» من «صحيحه» ورواه ابن ماجة في «الجهاد» من

«سننه» . 5667 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: عليك) اسم فعل مبني الزم (السمع) أي لقول الأمير (والطاعة) له فيما لا معصية فيه لله تعالى (في عسرك ويسرك) بضم أولهما وسكون ثانيهما أي في فقرك وغناك (ومنشطك ومكرهك) بفتح أولهما وثالثهما وسكون ثانيهما. قال القرطبي في المفهم هما مصدران أي ما تحب وما تكره مما هو موافق لنشاطك وهواك أو مخالف له مما ليس معصية فإن كان معصية فلا سمع ولا طاعة للأحاديث المصرحة به المحمول المطلق عن التقييد بذلك على المقيد به (وأثرة عليك) بفتح الهمزة والمثلثة ويقال بضم وبكسر فسكون فيهما لغات ثلاث حكاهن في المشارق قال القرطبي: ورويناه بفتحهما وبضم الهمزة وكلاهما بمعنى وهو كما تقدم اللاستئثار والاختصاص بأمور الدنيا: أي عليكم الطاعة وإن اختص الأمراء بالدنيا ولم يوصلوكم حقكم مما عندهم (رواه مسلم) ورواه أحمد والنسائي كذا في «الجامع الصغير» . 6668 - (وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: كنا مع رسول الله في سفر فنزلنا منزلاً) بفتح فسكون فكسر قال في «المصباح» : هو موضع النزول (فمنا من يصلح خباءه) بكسر المعجمة وتخفيف الموحدة بعدها ألف ممدودة: هو ما يعمل من وبر أو صوف، وقد يكون من شعر وجمعه أخبية بغير همز ككساء وأكسية ويكون على عمودين أو ثلاثة وما فوق ذلك فهو بيت، كذا في المصباح (ومنا من ينتضل) بفتح التحتية والفوقية وسكون النون بينهما ثم ضاد معجمة: أي يرمي بالسهام تدرّباً ومداومة (ومنا من هو في جشره إذ) ظرف لـ «كنا» بناء على دلالتها على الحدث كما هو الصحيح (نادى منادي رسول الله الصلاة جامعة) برفعهما مبتدأ وخبر ونصبهما الأول على الإغراء والثاني على الحالية، ورفع الأول

مبتدأ محذوف الخبر: أي مدعوّ إليها ونصب الثاني حالاً وعكسه، ونصب الأول على الإغراء ورفع الثاني خبر محذوف: أي هي حاضرة. قال المصنف في «شرح مسلم» : هو بنصب الجزءين: أي من حيث الرواية وما ذكرناه هو من حيث الدراية إن لم تدفعه رواية وإلا فهي المقدمة، قال القرطبي: خبر بمعنى الأمر كأنه قال اجتمعوا للصلاة. قلت: هذا منه يقتضي أنهما مرفوعان، إذ لو نصبا لكان من الطلب لا من الخبر بمعنى الطلب. قال القرطبي: وكأن الوقت كان وقت صلاة، فلما جاءوا معه صلوا معه وسكت الراوي عن ذلك، وإلا فمن المحال أن ينادي منادي الصادق بالصلاة ولا صلاة (فاجتمعنا إلى رسول الله فقال: إنه لم يكن) أي يوجد (نبيّ قبلي) ويصح كونها ناقصة وقبلي صفة للإسم والخبر محذوف: أي متحلياً بشيء من الأحوال، أبدل منه قوله (إلا إن كان حقاً) أي واجباً (عليه) خبر مقدم والإسم (أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم) بضم التحتية من الإنذار (شرّ ما يعلمه لهم) لأن ذلك حكمة الإرسال والبعثة ليسوق العباد إلى نفعهم ويدفع عنهم ضررهم ولأنه من طريق النصيحة والاجتهاد في التبليغ والبيان، والاستثناء كما علم مما قررناه مفرغ (وإن أمتكم هذه) يعني الأمة المحمدية (جعل عافيتها) أي سلامتها من فتن الدين (في أولها) قال القرطبي: المراد به زمان الخلفاء الثلاثة إلى قتل عثمان فهذه كانت أزمنة اتفاق هذه الأمة واستقامة أمرها وعافية دينها، فلما قتل عثمان هاجت الفتن ولم تزل ولا تزال إلى يوم القيامة، وعليه فأول الآخر ما بعد مقتل عثمان وهو آخر بالنسبة لما قبله من زمن العافية، ويدل له قوله «وأمور تنكرونها» والخطاب للصحابة فدل على أن منهم من يدرك أول ما سماه آخراً وكذلك كان اهـ. قلت: ويحتمل أن يراد بالأول زمن الصحابة والتابعين وبالآخر ما بعدهما وذلك بشهادة قوله «خير القرون قرنى ثم الذين يلونهم» الحديث، ولحديث «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضواً عليها بالنواجذ» وذلك أن غلبة أشعة الأنوار المحمدية حينئذ مخمدة لسائر ظلمات البدع والشكوك والفتن الدينية (وسيصيب) بالسين لتأكيد تحقيق ما دخلت عليه (آخرها بلاء) بالمد اسم مصدر من الابتلاء ومثله البلية بمعنى المحنة، قاله في المصباح (وأمور تنكرونها) لمخالفتها للشرع، وجملة وسيجيء الخ معطوفة على خبر إن، وجملة (وتجيء فتن يرقق) فيه روايات

يأتي بيانها (بعضها بعضاً) يجوز أن تكون مستأنفة لتأكيد ما قبلها من تتابع الفتن وأن تكون معطوفة كالتي قبلها فيقدر رابط: أي وتجيء فيها فتن (وتجيء الفتنة) أي العظيمة في الدين كما يومىء إليه قوله (فيقول المؤمن هذه مهلكتي) بضم الميم وكسر اللام بصيغة اسم الفاعل وإسناد الإهلاك إليها مجازى من الإسناد للسبب (ثم تنكشف) أي تذهب (وتجيء الفتنة) أي غير الأولى، ولا يخالف قاعدة أن المكررين إذا كانا معرفتين أو كان الثاني كذلك كان الثاني عين الأول لأن أل فيه جنسية والمحلى بها نكرة من حيث المعنى، فكأنّ المكررين نكرتان، وإذا تكررت النكرة كان الثاني غير الأول على أن القاعدة أغلبية وإلا فهي مشكلة (فيقول المؤمن هذه هذه) أي هذه الفتنة هي الفتنة العظمى فهما وإن اتحدا لفظاً تغايرا اعتباراً، وذلك كاف في تغاير المسند والمسند إليه، فاسم الإشارة لتعظيم الأمر وفخامته، ثم فرّع على ذلك قوله (فمن أحبّ أن يخرج نفسه من النار ويدخل الجنة) أي يتسبب في عدم دخوله النار ابتداء مجاوزاً عنها إلى الجنة، فأطلق الخروج مراداً به المباعدة مجازاً مرسلاً: أي أحبّ الخروج منها وعدم التأبيد في العذاب بل الحلول في الجنة: أي أحبّ الموت على الإسلام (فلتأته منيته) بفتح الميم وكسر النون وتشديد التحتية أي الموت كما في «النهاية» (وهو يؤمن بالله واليوم الآخر) جملة حالية من فاعل مات، والمراد ليدم على الإيمان بذلك حتى يأتيه الموت وهو كذلك فهو في الحقيقة أمر بدوام الإيمان، ونظيره قوله تعالى: {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} (آل عمران: 102) (وليأت) اللام فيه للأمر وكسرها هو الأصل وتسكن بعد الواو والفاء وثم وهو مضارع أتى مقصوراً أي ليجيء (إلى الناس الذي يحب أن يؤتي) بالبناء للمفعول: أي يجاء (إليه) قال في المصباح: أتى الرجل يأتي أتيا جاء وأتيته، يستعمل لازماً ومتعدياً: أي ليجئهم في الأفعال بما يحبّ أن يأتوه بمثلها. قال المصنف: هذا من جوامع كلمه وبدائع حكمه، وهذه قاعدة ينبغي الاعتناء بها وهي أن الإنسان يلتزم ألا يفعل مع الناس إلا ما يحبّ أن يفعلوه معه. قال القرطبي: وهذا مثل قوله «لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه» والناس هنا الأئمة والأمراء، فيجب عليه لهم من السمع والطاعة والنصرة والنصيحة ما يجب له عليهم لو كان هو الأمير.

قلت: وكأن هذا التخصيص باعتبار سابق الكلام ولو أبقى على العموم وشمل ما ذكره لما كان بعيداً وهو الذي مشى عليه المصنف كما نقلناه عنه (ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده) هو كالبيان للبيعة فهو كقولهم توضأ فغسل وجهه الخ فالفاء فيه للترتيب الذكرى، والصفقة بفتح المهملة وسكون الفاء بعدها قاف: ضرب اليد على اليد وكانت عادة العرب إذا أوجبت ضرب أحدهما على يد صاحبه، ثم استعملت الصفقة في العقد فقيل: بارك الله في صفقة يمينك، كذا في «المصباح» . وقال القرطبي: أصلها الضرب بالكف والكف أو بأصبعين على الكف (وثمرة) بفتح المثلثة (قلبه فليطعه) قال القرطبي: دل على أن البيعة لا يكتفي فيها بمجرّد عقد اللسان بل لا بد من الضرب باليد كما قال تعالى: في أية المبايعة {يد الله فوق أيديهم} (الفتح: 10) لكن ذلك في الرجال فقط وعقد القلب وإلزام البيعة به وترك الغش والخديعة فذلك من أعظم العبادات (إن استطاع) قيد في الأمور: أي يطيعه فيما يطيقه وهذا كما تقدم من تلقينه حال البيعة على السمع والطاعة بقوله «فيما استطعت» (فإن جاء آخر ينازعه) أي خرج عن طاعته ونازعه في الملك (فاضربوا عنق الآخر) أي إن لم يندفع عن ذلك إلا بذلك فافعلوه ولو بأن تحاربوه وتقاتلوه، ولا ضمان على قاتله حينئذ لأنه ظالم متعدّ في قتاله (رواه مسلم) في المغازي من «صحيحه» وزاد فيه «فقال عبد الرحمن بن عبد ربّ الكعبة: فدنوت منه فقلت: أنشدك الله، أأنت سمعت هذا من رسول الله: فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه وقال: سمعته أذناي ووعاه قلبي» والحديث رواه أبو داود في الفتن والنسائي في البيعة وابن ماجه في الفتن، قاله المزي في «الأطراف» . (وقوله ينتضل) مضارع يفتعل من النضل بالمعجمة (أي يسابق بالرمي بالنبل) بفتح النون وسكون الموحدة: السهام العربية لا واحد لها من لفظها بل الواحد سهم فهي مفردة اللفظ مجموعة المعنى (والنشاب) بضم النون وتشديد المعجمة. قال في «الصحاح» : السهام الواحدة نشابة اهـ، وعليه فهو من عطف العام على الخاص لأن النشابة تعم العربية وغيرها بخلاف النبل (والجشر بفتح الجيم والشين المعجمة وبالراء وهي الدوّاب التي ترعى وتبيت مكانها) وفي

«المشارق» للقاضي عياض: الجشر المال يخرج به أربابه في مكانه يمسك فيه. قال الأصمعي: قال جشر إذا كان بمرعاه ولا يأوي أهله، قال غيره: وأصله أن الجشر نقل الربيع، وقال أبو عبيدة: الجشر الذين يثبتون مكانهم لا يرجعون إلى بيوتهم، وبه يعلم أن المصنف تبع قول الأصمعي كما أن قول «النهاية» : الجشر قوم يخرجون بدولبهم إلى المرعى ويبيتون مكانهم ولا يأوون إلى البيوت اهـ تابع لأبي عبيدة (وقوله يرقق بعضها بعضاً) روى بوجوه أحدها ما اقتصر عليه المصنف هنا، وقال في «شرح مسلم» : إنه الذي نقله عن جمهور الرواة يرقق بضم التحتية وفتح الراء وبقافين (أي يصير بعضها بعضاً رقيقاً: أي خفيفاً لعظم ما بعده فالثاني يجعل الأول رقيقاً) الأنسب فالبعض يجعل البعض ليشمل ما إذا كان الثاني أشد وهو ما ذكره المصنف والعكس (وقيل يسوق بعضها بعضاً بتحسينها وتسويلها) هو ما اقتصر عليه القرطبي في المفهم فقال: ورواه أكثر الرواة بالراء المفتوحة والقاف الأولى مكسورة: أي يسبب بعضها بعضاً، ويشير إليه كما في المثل: عن صبوح ترقق، ويزحزح عن النار: أي ينحى عنها ويؤخر منها. قال المصنف في «شرح مسلم» : وقيل معناه يشبه بعضها بعضاً، وقيل يدور بعضها في بعض ويذهب ويجىء به، قال: والثاني من جوه رواياته بفتح التحتية وسكون الراء ضم الفاء بعدها قاف. والثالث يدقق بدال بدل الراء والفاء ومكسورة وبالقاف: أي يدفع ويصب. والدفق: الصب. قال القرطبي: وهذه رواية الطبري عن الفارسي، قال: ومعناه يدفق: أي يدفع أي إن الفتن كموج البحر الذي يدفق بعضه بعضاً، قال: وشبه المؤمن فيها بالعائم الغريق بين الأمواج فإذا أقبلت عليه موجة قال هذه مهلكتي. ثم تروح عنه تلك فتأتيه أخرى فيقول هذه هذه: أي التي تغرق إلى أن يغرق بالكلية، وهذا تشبيه واقع اهـ.

7669ـ (وعن أبي هنيدة) بضم الهاء وفتح النون وسكون التحتية بعدها دال مهملة ثم هاء ويقال بلا هاء (وائل) بالهمزة بعد الألف (ابن حجر) بضم المهملة وسكون الجيم آخره راء ابن ربيعة بن يعمر الحضرمي (رضي الله عنه) كذا قال ابن عبد البر، وقال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر: وائل بن حجر بن سعد بن مسروق بن وائل بن ضمعج بن وائل بن ربيعة بن وائل بن النعمان بن زيد. قال: وقيل غير ذلك، كان من ملوك حمير ويقال للملك منهم قيل بفتح القاف وسكون التحتية جمعه أقيال وكان أبوه من ملوكهم. وفد على رسول الله وكان بشر أصحابه قبل قدومه بأيام وقال «يأتيكم وائل بن حجر من أرض بعيدة من حضرموت طائعاً راغباً في الله وفي رسول الله وهو بقية الأقيال» فلما دخل عليه رحب به وأدناه من نفسه وبسط له رداءه وأجلسه إليه مع نفسه وقال اللهم بارك في وائل وولده، وأصعده معه على المنبر وأثنى عليه واستعمله على بلاده وأقطعه أرضاً وأسل معه معاوية بن أبي سفيان وقال أعطه إياها، روى له عن رسول الله أحد وسبعون حديثاً روى مسلم منها ستة ولم يرو البخاري له شيئاً، نزل الكوفة وعاش إلى أيام معاوية ووفد عليه فأجلسه معه على السرير وشهد مع علي صفين وكانت معه راية حضرموت اهـ. من «التهذيب» للمصنف (قال: سأل سلمة) بفتح أوليه (ابن يزيد) بفتح التحتية وكسر الزاي وسكون التحتية الثانية ابن مشجعة بن المجمع بن مالك بن كعب بن سعد بن عوف بن حريم بضم المهملة وفتح الراء ابن جعفي (الجعفي) بضم الجيم وسكون المهملة بعدها فاء نسبة لجده المذكور، وما ذكره المصنف في اسمه أحد قولين فيهز قال ابن عبد البر: اختلف الشعبي وأصحاب سماك في اسمه، فقبل سلمة بن يزيد وقيل يزيد بن سلمة (رسول الله فقال: يا رسول الله أرأيت) بفتح الفوقية أي أخبرني (إن قامت علينا أمراء يسألونا) كذا في الأصول من «الرياض» و «صحيح مسلم» بنون واحدة هي نون الضمير وحذف نون الرفع من الأفعال الخمسة. قال المصنف في «شرح مسلم» لغة وهذا منها والجملة صفة: أي أمراء طالبون (حقهم) أي من السمع والطاعة (ويمنعونا حقنا) من العطاء والاهتمام بمصالحنا والنصيحة في أمرنا (فما تأمرنا) أي فأي شيء تأمرنا (فأعرض عنه) لما

رأى من المصلحة في ذلك، أو لينتظر الوحي به (ثم سأله فقال رسول الله: اسمعوا وأطيعوا) أي أعطوهم ما لهم وإن لم يعطوكم ما لكم (فإنما عليهم ما حملوا) من المأثم وإثمهم لا يمنع من أدائهم معهم ما عليهم من الحق (وعليكم ما حملتم) أي فلا يمنعكم من أداء ما عليكم تفريطهم بعدم أداء ما لكم (رواه مسلم) في المغازي ورواه الترمذي في الفتن. 8670 - (وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله إنها) ضمير القصة (ستكون بعدي أثرة) أي استئثار من ولاة الأمر بالأموال على المسلمين المستحقين فيها فيفضل غيركم عليكم في الفيء أو الغنيمة وغيرها وتقدم ضبطه أثرة قريباً (وأمور تنكرونها) أي لقبحها شرعاً، وقد ظهر ما أخبر عنه كما أخبر فهو من جملة معجزاته (قالوا: يا رسول الله: كيف تأمرنا) أي أيّ حال تأمرنا أن تكون عليها حينئذ؟ (قال تؤدون) بحذف المفعول الأول أي تعطونهم (الحق) أي الواجب (الذي عليكم) من السمع والطاعة (وتسألون الله لكم) أي تسألونه أن يوصل إليكم حقكم بأن يلهم الأئمة ذلك أو يوجد من يفعل ذلك لكم منهم ويولى من ينصفكم، وهو دليل على عدم التعرض للأئمة وإن جاروا والاعتماد على مكافأة الله تعالى (متفق عليه) أخرجه البخاري في علامات النبوة ومسلم في المغازي ورواه الترمذي في الفتن من جامعه وقال حسن صحيح. 9671 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من أطاعني فقد أطاع الله)

قال الله تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} (النساء: 80) (ومن عصاني) وأعرض عما أمرت به وخالف ما نهيت عنه (فقد عصى الله) قال الله تعالى: {ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً} أي ومن تولى بالإعراض {فما أرسلناك عليهم حفيظاً إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب} فالآية والحديث من واد واحد (ومن يطع الأمير) عند مسلم «أميري» (فقد أطاعني ومن يعص الأمير) فيما أمر مما ليس معصية لله (فقد عصاني) لأن رسول الله صلى بطاعته فيما ليس كذلك فطاعته طاعة للرسول ونهى عن معصيته كذلك فمعصيته معصية للرسول (متفق عليه) أخرجه البخاري في الأحكام ومسلم في المغازي، وعند البخاري في الجهاد من طريق لآخر من حديث أبي هريرة «من أطاعني فقد أطاع الله من أطاع الأمير فقد أطاعني وإنما الإمام جنة» . 10672 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول قال: من كره من أميره شيئاً) دنيوياً كان كاستئثار عليه وظلم له أو دينياً كأن فسق بعد عدالته فلا ينعزل الإمام الأعظم بفسقه، نعم إن كفر انعزل بكفره كما تقدم من حديث «إلا أن تروا كفراً بواحاً» فمن رأى ما لا ينعزل به الإمام مما يكرهه (فليصبر) أي بعدم الخروج على الأمير، أما الإنكار عليه بمراتبه إذا لم يؤد إلى شق العصا والخروج عليه، فمطلوب الحديث «أفضل الشهداء حمزة ورجل قال كلمة حق عند سلطان جائر فقتله» (فإنه) الضمير فيه للشأن والجملة بعد تفسير وذلك تعليل للأمر بالصبر على ما يكرهه (من خرج من السلطان) أي من طاعته (شبراً) كناية عن القلة أي وإن كان الخروج يسيراً كأن بعد عنها لو كانت محسوسة قدر شبر (مات ميتة) بكسر الميم (جاهلية) فإنهم كما تقدم شأنهم عدم الائتمار

81 ـــ باب النهي عن سؤال الإمارة

للأمير بل ضعيفهم نهب للكبير (متفق عليه) أخرجه البخاري في الأحكام ومسلم في المغازي. 11673 - (وعن أبي بكرة) نفيع بن الحارث بن كلدة الثقفي (رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: من أهان السلطان) مستخفاً بشأنه غير سامع ولا مطيع لأمره وأل فيه للاستغراق: أي كل ذي سلطنة وولاية لشيء من أمور المسلمين (أهانه الله) أي في الدنيا بالذل لسعيه في إذلال من أعزه الله وفي الآخرة لعصيانه مولاه سبحانه بالعذاب المهين إن لم يعف الله عنه (رواه الترمذي) وقال حديث حسن. (وفي الباب) أي وجوب طاعة الإمام في غير معصية (أحاديث كثيرة في الصحيح) المراد منه ما يشمل الصحيحين وإن كان الغالب انصرافه لصحيح الحافظ البخاري لأن المحلي بأل عند الإطلاق ينصرف للفرد الكامل وهو أصح من مسلم كما تقدم أوّل الكتاب (وقد سبق بعضها في أبواب) فليتنبه مريد ذلك لها وليطلبها منه. 81 - باب النهي عن سؤال الإمارة مصدر مضاف لمفعوله: أي طلبه من الإمام الإمارة (واختيار الولايات) عطف على سؤال (إذا لم يتعين عليه) بأن لم يكن ثم متأهل للإمارة سواه بشهادة العقلاء من أولى الحل والعقد وإلا فيجب عليه حينئذ سؤالها واختيارها (و) إذا (لم تدع حاجته إليها) أي عند عدم التعين: أي وما لم تدعه الحاجة للاسترزاق بالعمل، ولا كسب لائق في ذلك فله الطلب حينئذ، وإن لم يكن متعيناً دفعاً للحاجة. (قال الله تعالى) ( {تلك} ) أتى باسم الإشارة

الموضوع للبعد إيماء لفخامتها وعلوّ رتبتها ( {الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً} ) تكبراً واستكباراً ( {في الأرض ولا فساداً} ) عملاً بالمعاصي ( {والعاقبة} ) الحسنى ( {للمتقين} ) عن معاصيه، والآية تقدم الكلام في معناها في باب تحريم الكبر والإعحاب. 1674 - (وعن أبي سعيد عبد الرحمن بن سمرة) بفتح المهملة وضم الميم ابن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف كذا نسبه ابن عبد البر والبخاري في آخرين، وزاد مصعب والزبير في نسبه ربيعة بعد حبيب، قال الحافظ أبو القاسم بن عساكر: الصحيح الأول وهو قرشى عبشمي المكي ثم البصري (رضي الله عنه) أسلم يوم الفتح وصحب النبي، كان اسمه عبد الكعبة وقيل عبد كلال فسماه رسول الله عبد الرحمن، سكن البصرة وغزا خراسان في زمن عثمان، وفتح سجستان سنة ثلاث وثلاثين، روى له عن رسول الله أربعة عشر حديثاً، اتفقا على حديث وانفرد مسلم بحديثين، توفي سنة خمسين وقيل سنة إحدى وخمسين بالبصرة، وقيل توفي بمرو، وإنه أوّل من دفن بها من الصحابة والصحيح الأوّل. كان متواضعاً، فإذا وقع المطر لبس البرنس وأخذ المسحاة وكنس الطريق (قال: قال لي رسول الله لا تسأل الإمارة) يحتمل صدوره منه بعد أن سأل منه أن يوليه عملاً فيكون كحديث أبي موسى الآتي، ويحتمل أن النبيّ منه أنه جاء لذلك باطلاع الله على ما في قلبه فقال ذلك، قال القرطبي: والنهي ظاهره التحريم ويدل عليه ظاهر قوله بعد: إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله أو حرص عليه لما سيأتي فيه، والكلام في السؤال الممنوع كما علم من الترجمة، والإمارة بكسر الهمزة ويقال الإمرة بالكسر أيضاً: هي الولاية، قاله في المصباح، وعلل النهي بقوله على سبيل اللاستئناف البياني (فإنك إن أعطيتها) بالبناء للمفعول وترك ذكر الفاعل للعلم به حقيقة أي أعطاكها الله ولعدم التعيين باعتبار الصورة: أي أعطاكها ذو الإمامة العظمى (من غير مسألة) منك لها (أعلنت عليها) بالبناء للمجهول: أي أعانك الله تعالى بالتسديد والتوفيق للصواب. قال المهلب: جاء تفسير

الإعانة عليها في حديث أنس رفعه «من طلب القضاء واستعان عليه بالشفعاء وكل إلى نفسه، ومن أكره عليه أنزل الله له ملكاً يسدده» أخرجه ابن المنذر، قال في «فتح الباري» : وأخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وأخرجه الحاكم من الطريق التي اتفق عليها الثلاثة على إخراج الحديث منها وصححه. وتعقب بأن ابن معين لين خيثمة، وضعف عبد الأعلى وكذا قال الجمهور في عبد الأعلى وهو الثعلبي إنه ليس بقوي، قال المهلب: وفي معنى الإكراه أن يدعي إليه فلا يرى نفسه أهلاً لذلك هيبة له وخوفاً من الوقوع في المحذور فإنه يعان عليه إذا دخل فيه ويسدد، والأصل فيه أن من تواضع لله رفعه الله (وإن أعطيتها عن مسألة) أي سؤال (وكلت إليها) بضم الواو وكسر الكاف مخففاً ومشدداً وسكون اللام، ومعنى المخففة صرفت إليها ومن كل إلى نفسه هلك، ومعنى وكله بالتشديد استحفظه: أي من طلب الإمارة فأعطيها تركت إعانته من أجل حرصه عليها. قال في «فتح الباري» : من المعلوم أن كل ولاية لا تخلو من المشقة، فمن لم يكن له من الله إعانة تورط فيما دخل فيه وخسر دنياه وعقباه، فمن كان ذا عقل لم يتعرض للطلب أصلاً، بل إذا كان كامناً وأعطيها من غير مسألة فقد وعده الصادق بالإعانة ولا يخفي ما جاء فيه من الفضل (وإذا حلفت على يمين) أي بها أو على محلوفها (فرأيت) أي علمت (غيرها خيراً منها) لحسن ثمرة ذلك الغير (فأت الذي هو خير) أي أفعله وإن حلفت على تركه (وكفر عن يمينك) فيه تأخير الكفارة عن الحنث وهو أفضل وهذه رواية مسلم. وعند البخاري في الأيمان والأحكام بلفظ «فكفر عن يمينك أئت الذي هو خير» قال الشرّاح: والعبارة للتحفة للشيخ زكريا، الواو لا تقتضي الترتيب فيجوز تقديم التكفير على إتيان المحلوف عليه وإن كان تأخيره أفضل، واستثنى الشافعي هذه الجملة لما قبلها أن الممتنع من الإمارة قد يؤدي به الحال إلى الحلف على عدم القبول مع كون المصلحة فيها (متفق عليه) أخرجه البخاري في الأيمان والأحكام، ومسلم في الأيمان والنذور، ورواه أبو داود في الخراج مقتصراً على قصة الإمارة فقط من

«سننه» والترمذي في النذور والأيمان من «جامعه» وقال: حسن صحيح، والنسائي قصة الإمارة فقط في القضاء والسير وقصة اليمين في الأيمان والنذور. 2675 - (وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله: يأبا ذر إني أراك ضعيفاً) أي عن القيام بوظائف الولايات فتعجز عن تنفيذ أمورها ورعاية حقوقها (وإني أحبّ) أي أرضى (لك ما أحبّ) العائد محذوف أي ما أحبه (لنفسي) وهذا تلطف من النبيّ وتحريض على سماع قوله (ولا تأمرن) بفتح الهمزة والميم المشددة وإحدى التاءين محذوفة من أوله أي لا تتأمرن (على اثنين) أي لا تصيرن حاكماً بينهما وأميراً عليهما (ولا تولين) بفتح أوليه مع تشديد ثالثه: أي لا تتولين وهو بإثباتهما في نسخة من «المشارق» ، قال ابن مالك: هو من الولي: أي القرب أي لا تقربنّ (مال يتيم) أي سواء كان من أقربائك أو بعيداً منك وسواء كان ذكراً أو أنثى والنهي عن قربانه أبلغ من النهي عن الاستيلاء عليه (رواه مسلم) في المغازي وأبو داود والنسائي في الوصايا من «سننهما» . 3676 - (وعنه) أي أبي ذرّ (قال: قلت يا رسول الله ألا تستعملني) أي تصيرني عاملاً كاستحجر الطين إذا صار حجراً (فضرب بيده على منكبي) بوزن مسجد وهو مجتمع رأس العضد والكتف، سمى بذلك لأنه يعتمد عليه كذا في «المصباح» ، ثم هو بتخفيف الموحدة كأنه فعل ذلك به ليتنبه من سنة غمرة طلبه لذلك وتوهمه في نفسه الاستعداد له (ثم قال: يأبا ذرّ إنك ضعيف) أي عن القيام بالإمارة ووظائف العمل، قال القرطبي: ووجه ضعفه عنها أن الغالب عليه كان الزهادة واحتقار الدنيا والإعراض عنها، ومن كان كذلك لم يعتن بمصالح الدنيا ولا بأموالها، وبمراعاتها تنظم مصالح الدين ويتم أمره، وقد أفرط أبو ذرّ في الزهد حتى أفتى بتحريم جمع المال وإن أديت زكاته، فلما علم منه ذلك نصحه ونهاه عن الإمارة وولاية مال الأيتام (وإنها) أي الإمارة (أمانة) أي في الدنيا: أي ائتمان من

المولى لذلك المولى على رعيته، فمن لم يفرط في حقها ولم يخن فيها برىء من عهدتها وضده بضده (وإنها يوم القيامة) ظرف (خزي) أي فضيحة قبيحة وذلك لمن لم يؤد في الأمانة حقها ولا قام للرعية بمستحقها (وندامة) على تقلده لذلك مع تفريطه فيها، فالذم محمول على الأهل للولاية إذ لم يعدل فيها، أو على غير الأهل، أما الأهل لها إذا وليها وعدل فيها فله فضل عظيم وأجر جسيم، وهو من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظلّ إلا ظله. قال القرطبي: وهو مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، وإلى الجانب الأخير أشار بقوله (إلا من أخذها) أي الإمارة (بحقها) أي بأن كان متأهلاً لها (وأدى الذي عليه فيها) من نشر ألوية العدل وبسط بساط الإنصاف والرفق وعدم الاعتساف، ثم قال العاقولي: الاستثناء منقطع: أي هي خزى وندامة لكن من أخذها بحقها لم تكن خزيا عليه. قلت: ولا يتعين انقطاعه فيجوز كونه متصلاً: أي أن الإمارة كذلك إلا إذا كانت مأخوذة بالحق مقاماً فيها بالعدل. قال المصنف: ومع فضل العدل لكن خطر الولاية كثير فلذا حذره منها، وكذا حذر العلماء وامتنع منها خلائق من السلف وصبروا على الأذى حين امتنعوا. وقال العاقولي: الحديث أصل عظيم في اجتناب الولاية فإنه لا يفي الوصل بالصد (رواه مسلم) في المغازي. 4677 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال) من جملة معجزاته من الإخبار عن المغيب قبل وقوعه فوقع كما أخبر (إنكم ستحرصون) بكسر الراء ويجوز فتحها أكد باسمية الجملة وتصديرها بإن وتقدير القسم قبلها والإتيان بحرف الاستقبال، كأنه لما يومي إليه حال زهدهم حينئذ في الدنيا وإعراضهم عنها من استبعاد طلبهم لها فضلاً عن الحرص عليها فعوملوا معاملة المنكر (على الإمارة) بطلبها وهو شامل للإمارة الكبرى والصغرى وهي الولاية على بعض البلاد (وستكون ندامة يوم القيامة) أي لمن لم يكن من أهلها ولم يقم بحقها، إذ المطلق محمول على المقيد وكونه حذف ذلك هنا تنفيراً عنها وتبعيداً منها لما تقدم فيما قبله (رواه البخاري) في الأحكام ورواه النسائي في القضاء وفي البيعة وفي

82 ـــ باب حث بفتح المهملة وتشديد المثلثة أي تحريض (السلطان)

التفسير. 82 - باب حث بفتح المهملة وتشديد المثلثة أي تحريض (السلطان) أي ذي السلطنة سواء فيه الإمام ومن دونه (والقاضي) أي من يقضي بين الناس بالأحكام الشرعية (وغيرهما من ولاة الأمور) من الشرطيين وولاة الأخبار وقوله (على اتخاذ وزير صالح) متعلق بحثّ والوزير مأخوذ من الوزر الثقل لأنه يحمل على الملك ثقل التدبير وجمعه وزراء، والمراد بصلاحه إقامة العدل وإعانته عليه (وتحذيرهم من قرناء السوء) وذلك لأن المرء على دين خليله كما جاء في الحديث (و) تحذيرهم من (القبول منهم) وذلك لأن قبول إشاراتهم تحرّضهم على السعي في الفساد. (قال الله تعالى) : ( {الأخلاء} ) جمع خليل كنبيّ وأنبياء ( {يومئذ} ) أي يوم القيامة وهو ظرف لقوله ( {بعضهم لبعض عدوّ} ) أي معاد والفصل بالمبتدأ غير مانع والجملة خبر قوله الأخلاء (إلا المتقين) فإن محبتهم تبقى يومئذ ولا تزول. 1678 - (وعن أبي سعيد) الخدري (وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ما بعث الله من نبي) من مزيدة لتأكيد العموم المستفاد من النكرة في سياق النفي (ولا استخلف من خليفة إلا كانت) أي وجدت (له بطانتان) بكسر الوحدة خلاف الظهارة وبطانة الرجل صاحب سره والمراد بها هنا الداعي، قال المحب الطبري: البطانة الأولياء والأصفياء وهو مصدر وضع موضع الإسم يصدق على الواحد والمذكر وفروعهما (بطانة تأمره بالمعروف) أي ما عرف واستحسن شرعاً من نشر ألوية العدل وبسط الإنصاف وإقامة الشرائع في رعاياه (وتحضه) بفتح الفوقية وضم المهملة وتشديد الضاد المعجمة أي يحمله (عليه وبطانة

تأمره بالشرّ) أي تدعوه إليه (وتحضه) أي تحرضه (عليه والمعصوم من عصم الله) قال الشيخ أكمل الدين: أراد به نفسه لأنه بين في حديث آخر أن كل واحد وكل به قرينه من الجنة وقرينه من الملائكة إلا أن الله تعالى أعان نبينا فأسلم قرينه من الجن ولم يبق له داع إلى الشرّ اهـ «أقول» إن أريد من العصمة منع الوقوع في الذنب مع استحالته فهو كما قال من قصر الأمر عليه إذ لا عصمة لأحد من الأمة، وإن أريد منها الحفظ من الذنب مع جواز الوقوع فيه فلا اختصاص به، والمراد من قوله والمعصوم من عصم الله، إما المنع من الوسواس ابتداء بمنع قرينه من ذلك وإن كان باقياً على كفره والله على كل شيء قدير، أو عدم قراره في نفسه، ومثله غير مؤاخذ بذلك لحديث «إن الله تجاوز لأمتي ما حدّثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل» أو صرف نفسه عن العمل بقضية ذلك الوسواس والله أعلم، وقريب منه على الوجه الثاني حديث عائشة الآتي بعده وهذا بناء عى أن المراد بالبطانة القرين والملك وقد بين. قال ابن التين: ويحتمل أن يكون المراد بهما ذلك. ويحتمل أن يكون الوزيرين، وقال الكرماني: يحتمل أن يراد بهما النفس الأمارة بالسوء، والنفس اللوّامة المحرّضة على الخير، إذ لكل منهما قوة ملكية وقوة حيوانية اهـ. قال في فتح الباري: والحمل على الجميع أولى إلا أنه جائز ألا يكون لبعضهم إلا البعض (رواه البخاري) في كتاب القدر والأحكام من «صحيحه» ، ورواه النسائي في البيعة وفي السير من «سننه» . 2679 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله: إذا أراد الله بالأمير خيراً) أورده في فتح الباري بلفظ «من ولي منكم عملاً فأراد الله به خيراً» والباقي سواء وأورده في «الجامع الصغير» كما أورده المصنف، وتنكير خيراً للتعظيم فيشمل الخاص والعام، وذلك لأن من أعطى ذلك وفق لخيري الدارين، وفسر الخير بالجنة (جعل له وزير صدق) في القول والفعل والظاهر والباطن وأضافه إلى الصدق لأنه الأساس في الصحبة وغيرها، وقال الطيبي: أصله وزير صادق ثم وزير صدق على الوصف به ذهاباً إلى أنه نفس الصدق مخبراً

83 ـــ باب النهي عن تولية الإمارة

عنه به، ثم أضيف لمزيد الاختصاص، والمراد من الوزير فيه الصاحب المؤازر (إن نسي) ما يحتاج إليه أو ضلّ عنه من حكم شرعي أو قضية مظلوم أو مصالح لرعية (ذكره) وهداه (وإن ذكر) ذلك (أعانه) عليه بالرأي والقول والفعل. وأدب الوزارة وما يتأكد عليه فعله مذكور في كتاب الأحكام السلطانية للماوردي، وفي كتاب سراج الملوك للطرطوشي وغيرهما من كتب السياسة (وإذا أراد به غير ذلك) الخير بأن أراد به شرّاً. وعبر عنه بما ذكر إيماء إلى الترحيض على اجتناب الشرّ لأنه إذا اجتنب ذكر اسمه لبشاعته وشناعته فلان يجتنب المسمى به أولى، والإتبان فيه باسم الإشارة الموضوع للبعيد تعظيم للخير وإعلاء لرتبته تحضيضاً على طلبه والسعي في تحصيله (جعل له وزير سوء) بضم السين المهملة وفتحها، والمراد وزير سوء في القول والفعل نظير ما سبق في ضده (إن نسي) أي ترك مالاً بد منه (لم يذكره) به لأنه ليس عنده من النور القلبي ما يحمله على ذلك (وإن ذكر لم يعنه) بل يسعى في صرفه عنه لشرارة طبعه وسوء صنعه (رواه أبو داود بإسناد جيد) ورواه البيهقي أيضاً، قال السيوطي في «شرح التقريب» نقلا عن الحافظ بن حجر: في أثناء كلام وهذا يدل على أن ابن الصلاح يرى التسوية بين الجيد والصحيح، وكذا قال البلقيني بعد أن نقل ذلك، ومن ذلك يعلم أن الجودة يعبر بها عن الصحة، وكذا قال غيره: لا مغايرة بين جيد وصحيح عندهم إلا أن الجهبذ منهم لا يعدل عن صحيح إلى جيد إلا لنكتة كأن يرتقي الحديث عنده عن الحسن لذاته، ويتردد في بلوغه الصحة، فالوصف به أنزل رتبة من الوصف بصحيح، قال وكذا القوى اهـ. فلذا قال المصنف في السند: إنه (على شرط مسلم) أي برجال روى عنهم مسلم في «صحيحه» ، وإلا فالصحيحان ليس لهما شرط ولا لأحدهما شرط مصرح به في شيء من كتابيهما. 83 - باب النهي عن تولية الإمارة بكسر الهمزة: الولاية على العباد بإمارة (والقضاء وغيرهما من الولايات) كأن يكون

شرطياً أو مقدم جيش أو عاملاً على عمل، وقوله (لمن سألها) أي التولية وإن لم يحرص عليها متعلق بتولية (أو حرص عليها) أي وإن لم يسألها: أي إذا علم الإمام ذلك من شأنه أو مقاله كما قال (فعرض) بالتشديد: أي حرص عليها بالتعريض (بها) وذلك كأن يمدح الولايات ويتمنى الأعمال. 1 - (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: دخلت على النبيّ أنا ورجلان من بني عمي) أي من الأشعريين أحدهما عن يميني والآخر عن شمالي (فقال أحدهما يا رسول الله أمرنا) بتشديد الميم: أي صيرنا أمراء (على بعض ما ولاك الله عزّ وجل، وقال الآخر مثل ذلك) أي كلفظ صاحبه فكنى عنه بما ذكر اختصاراً (فقال) أي النبي مؤكداً لامتناعه لهما ولمثلهما (إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله أو أحداً حرص) من باب ضرب (عليه) وذلك لأن سؤاله لذلك وحرصه عليه يشعر أنه لم يسع في ذلك لنفع الإسلام والمسلمين وإنما سعى لنفع نفسه لجمع الدنيا وتكثيرها له، وفي ذلك إفساد لأمر الناس دنيا وأخرى وإهلاك له (متفق عليه) رواه البخاري في كتاب استتابة المرتدين وفي كتاب الأحكام من «صحيحه» ، ومسلم في المغازي.

1 - كتاب الأدب

1 - كتاب الأدب تقدم تعريفه أول الكتاب بأنه استعمال ما يحمد قولاً وفعلاً. قال الحافظ: وعبر عنه بعضهم بأنه الأخذ بمكارم الأخلاق وقيل: الوقوف مع المستحسنات. وقيل تعظيم من وفقك والرفق بمن دونك، ويقال إنه مأخوذ من المأدبة: وهي الدعوة إلى الطعام، سمى بذلك لأنه يدعي إليه، وقد أفرده بالتأليف الحافظ البخاري وهو كما قال الحافظ: كتاب كثير الفائدة. 84 - باب الحياء بالمهملة والتحية وبالمد كما سيأتي تعريفه آخر الباب (وفضله والحث) أي التحريض (على التخلق به) أي وإن كان فيه كلفة ومشقة كما يدل عليه صيغة التفعل. 1681 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله مرّ على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء) أي يذكر له ما يترتب على ملازمته من الفساد، وفي تعليلية. وقد جاء عند البخاري في أبواب الأدب يقول: إنك تستحي حتى كأنه يقول قد أضرّبك، قال الحافظ بن حجر: ولم أقف على اسم الرجل ولا اسم أخيه (فقال رسول الله دعه) أي على فعل الحياء وكف عن نهيه عنه، قال المصنف: ووقعت لفظة دعه عند البخاري ولم تقع في مسلم (فإن الحياء من الإيمان) أي من شعبه كما سيأتي في حديث أبي هريرة «والحياء شعبة

من الإيمان» قال المصنف: وإنما جعل من الإيمان وإن كان غريزة لأنه قد يكون تخلقاً واكتساباً أعمال البر، وقد يكون غريزة ولكن استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى اكتساب ونية علم فهو من الإيمان لهذا ولكونه باعثاً على أفعال البر مانعاً من المعصية (متفق عليه) رواه البخاري في كتاب الإيمان والأدب من «صحيحه» ، ورواه مسلم في كتاب الإيمان. 2682 - (وعن عمران بن حصين) بضم المهملة الأولى مصغراً (ورضي الله عنهما قال: قال رسول الله: الحياء) بالمد: أي الاستحياء (لا يأتي إلا بخير) فإنه يمنع لكونه مؤدياً لحياة القلب بنور الإيمان عن مزاولة المخالفة ومحاولة العصيان. قال الواحدي: الاستحياء من الحياة واستحياء الرجل من قوة الحياة فيه لشدة علمه بمواقع العيب قال: والحياء من قوة الحسّ ولطفه وقوة الحياة (متفق عليه) رواه البخاري في الأدب من «صحيحه» ، ومسلم في الإيمان. (وفي رواية لمسلم) في كتاب الإيمان من حديث عمران المذكور (الحياء خير كله، أو) شك من الراوي (قال الحياء كله خير) والشك في تأخير خير قال: عن التأكيد لفظاً، وإلا فخير خبر الحياء في الروايتين، وكل تأكيد الحياء على المختار مع منع تأكيد النكرة كما قال البصريون، وعلى ما أجاز الكوفيون من تأكيدها فتكون الروايتان مختلفتين في ذلك فعلى الأول هو تأكيد الخير ويكون كقول الشاعر: يا ليت عدة حول كله رجب وعلى الثاني تأكيد الحياء. قال المصنف: كونه خيراً أو لا يأتي إلا بخير، يشكل على بعض الناس من حيث أن

صاحب الحياء قد يمتنع عن أن يواجه بالحق من يستحي منه فيترك إنكار المنكر عليه وأمره بالمعروف، وقد يحمله الحياء على الإخلال ببعض الحقوق وغير ذلك مما هو معروف في العادة. والجوب ما أجاب به ابن الصلاح وغيره من أن ذلك المانع ليس حياء حقيقياً بل صورياً وإنما هو عجز وخور ومهانة، وتسميته حياء من إطلاق بعض أهل العرف، أطلقوه مجازاً لمشابهته الحياء الحقيقي، وإنما حقيقة الحياء خلق يبعث على ترك القبيح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق ونحو هذا، ويدل عليه ما ذكرنا عن الجنيد أي مما يأتي اهـ. 3683 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: الإيمان بضع وسبعون أو) شك من الراوي وهو سهل كذا قاله البيهقي نقله عنه المصنف (بضع وستون شعبة) أي جزءاً وخصلة وتقدم بيانها في باب الدلالة على كثرة طرق الخيرات حينما ذكر المصنف هذا الحديث (فأفضلها) الفاء فيه للتفصيل أو فصيحة: أي إذا عرفت ذلك وأردت معرفة تفاوت رتبها (فأفضلها) أي أكثرها ثواباً وأعلاها عند الله سبحانه مكانة (قول لا إله إلا الله) يحتمل أن يراد مع قرينتها وهي محمد رسول الله، فذلك كناية عن مجموع الشهادتين كما يدل عليه قول المصنف الآتي نقلاً عن عياض في توجيه أفضليتها بقوله الذي لا يصح شيء من الشعب إلا بعده، ويحتمل أن يراد هي فقط لشرفها وعظم مفادها من الدلالة على توحيد الباري الذي هو حكمة إرسال الرسل (وأدناها) أي أقلها ثواباً أو أنزلها مرتبة (إماطة) بكسر الهمزة وبالطاء المهملة أي إزالة (الأذى) ما يؤذي المارة من حجر أو شوك أو عظم أو نحو ذلك كما سيأتي في كلامه (عن الطريق) وذلك لما فيه من نفع المارة ودفع ضررهم ودفع ما يؤذيهم (والحياء شعبة) أي خصلة (من الإيمان) ثم الإيمان شرعاً هو التصديق القلبي بكل ما علم بالضرورة مجيء الرسول به مع النطق اللساني للقادر عليه وظواهر الشرع كهذا الحديث يطلقه على الأعمال، والمراد أنها من كمال الإيمان وتمامه فإنه بالطاعات يتم ويكمل التصديق فالتزام الطاعات وضم هذه الشعب من جملة التصديق ودلائل عليه وأنها خلق أهل التصديق فلست خارجة عن اسم الإيمان الشرعي ولا اللغوي. وقد نبه على أن أفضلها التوحيد المتعين على كل أحد الذي لا يصح شيء من الشعب إلا بعد صحته،

وأدناها ما يتوقع ضرره بالمسلمين من إماطة الأذى عن طريقهم، وبقي بين هذين الطرفين أعداد لو تكلف المجتهد في تحصيلها بغلبة الظن لأمكنه، وقد فعل ذلك من تقدم، وفي الحكم بأن مراد النبي صعوبة، ثم إنه لا يلزم معرفة أعيانها ولا يقدح جهل ذلك في الإيمان، إذ أصول الإيمان معلومة محققة، والإيمان بأن هذا العدد واجب في الجملة هذا كلام القاضي ونقله عنه المصنف (متفق عليه. البضع بكسر الباء) الموحدة (ويجوز فتحها) وبسكون الضاد المعجمة وبالعين المهملة (وهو من الثلاثة إلى العشرة) وقيل ما بينهما وصدّر به في «شرح مسلم» ، وقال الخليل: البضع سبع، وقيل ما بين اثنين إلى عشرة، وقيل ما بين اثني عشر إلى عشرين ولا يقال في اثني عشر. قلت: وهذا هو القول الأشهر (والشعبة) بضم المعجمة وسكون المهملة بعدها موحدة (القطعة والخصلة) بفتح الخاء المعجمة من عطف الرديف (والإماطة) بكسر الهمزة وبالطاء (الإزالة) وهما مصدراً أماط وأزال (الأذى) بفتح أوليه وبالقصر (وما يؤذي كحجر) فإنه يدق قدم الماشي وقد يدميه (وشوك) اسم جنس واحده شوكة، والمراد ما قطع شجره عن طريق المارة أو إزالة ما يوجد من أعواده وأجزائه في الطريق، فإنه ربما مع قوة المشي ينغرز في الرجل إلى حيث يصعب إخراجه (وطين) لأنه يلوث الرجل. وقد جعل الفقهاء من أعذار صلاة الجماعة الوحل بالمهملة لذلك (ورماد) لأنه لنعومته تعمل فيه الريح فيدخل في الخياشيم ويحصل به التأذي (وقذر) بفتح أوليه: أي ما يستقذر طاهراً كان كالقمائم والأوساخ الطاهرة الملقاة بالطرق وضررها يضيق الطريق، أو النجسة كالعذرة وضررها ظاهر (ونحو ذلك) من سائر المؤذيات ولا حاجة إليه بعد تصدير المثل بالكاف المؤذنة بعدم الانحصار. 4684 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله أشدّ حياء) منصوب على التمييز (من العذراء) بفتح العين المهملة وسكون الذال المعجمة وبالراء ثم ألف

ممدودة: البكر سميت به لبقاء عذرتها: أي جلدة بكارتها (في خدرها) يكسر الخاء المعجمة وسكون الدال المهملة: ستر تجعله البكر في جنب البيت: أي أشد حياء من البكر حال اختلائها بالزوج الذي لم تعرفه قبل واستحيائها منه، وليس المراد حال انفرادها في الخدر فإنها حينئذ لا حياء عندها ثمة إذ ليس ثمة من تستحي منه، وهذا آخر الحديث عند البخاري في الأدب من صحيحه، وزاد مسلم حيث أورده في باب فضائل النبيّ (فإذا رأى شيئاً) التنكير فيه للتعميم ليشمل القليل والكثير والجليل والحقير (يكرهه) أي طبعاً (عرفناه في وجهه) أي عرفنا الكراهية له في وجهه: أي أنه لا يتكلم لحيائه بل يتغير وجهه فنفهم نحن كراهته لذلك (متفق عليه) . (قال العلماء حقيقة الحياء) أن تعريفه (خلق) بضمتين وتسكين ثانية تخفيفاً (يبعث) الإسناد مجازي من باب الإسناد للسبب: أي يبعث الله: أي يحمل به (على ترك القبيح) من الأقوال والأفعال والأخلاق وحذف المعمول إرادة للتعميم (ويمنع) صاحبه (من التقصير) أل فيه بدل من الضمير: أي من تقصيره (في حق ذي) أي صاحب (الحق) وذلك أنه ملكة راسخة للنفس توزعها على إيفاء الحقوق وترك القطيعة والعقوق. (وروينا) بفتح مع تخفيف ثانية أشهر من ضم أوله وكسر ثانيه مشدداً ومخففاً، وإن اقتصر على الأخير الكازروني في شرح الأربعين وجعله من باب الحذف والإيصال قال: أي روى لنا سماعاً أو قراءة إلى آخر أنواع التحمل وعلى التشديد، فالمعنى: صيرونا أشياخاً بما رواه لنا (عن الإمام) هو في الأصل كل من يقتدي به ولو في الشرّ، ثم غلب على المقتدي به في الخير فقط (أبي القاسم الجنيد) بضم الجيم وفتح النون وسكون التحتية ابن محمد الزجاج كان أبوه يبيع الزجاج فلذا يقال له القواريري، أصله من نهاوند ومولده ومنشؤه بالعراق، وكان فقيهاً يفتى على مذهب أبي ثور صاحب الشافعي وراوي مذهبه القديم، وكان من كبار أئمة القوم وساداتهم وكلامه مقبول على جميع الألسنة، مات رحمه الله تعالى يوم السبت سنة سبع وتسعين ومائتين، وقبره ببغداد ظاهر يزوره الخاص والعام (قال: الحياء رؤية الآلاء) بالمد جمع إلا بكسر الهمزة والقصر، وقد فسر المصنف الآلاء بقوله (أي النعماء) أي رؤية العبد نعماء مولاه السابغة عليه بمحض فضله مع استغنائه عنه وعن سائر الخليقة (ورؤية التقصير) أي مع ما يراه من تقصيره في أداء خدمة مولاه وإعراضه عن حضرته مع كمال فاقته وفقره إليه (فيتولد) أي يتحصل (بينهما) أي النظرين المذكورين (حالة) الأولى

85 ـــ باب حفظ السر

حال لأن الأفصح تذكير لفظها وتأنيث معناها فحال حسنة أفصح من حال حسن وحالة حسنة (تسمى حباء) ما ذكر تفسيراً للحياء المذكور في الحديث أورده المصنف، وإلا فكتابه هذا مجرد لذكر الآيات والأحاديث ومنبع يسير من تفسير غريب الأحاديث (والله الموفق) . 85 - باب حفظ السر بكسر السين المهملة: أي ما يسر ويخفي من الأمور (قال الله تعالى) : ( {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولاً} ) أي عنه فيكون من باب الحذف والإيصال أو من المجاز في الإسناد أو مسئولاً هو هل وفيّ به أم لا؟ فيكون كقوله تعالى: {وإذا المؤودة سئلت أي ذنب قتلت؟} (التكوير: 8، 9) تبكينا لصاحب الذنب وفاعله، وذكرت الآية في هذه الترجمة لأنه مما يعتاد التعاهد على كتمانه إما لفظاً أو بقرينة الحال. 1685 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إن من أشرّ الناس عند الله) حال من قوله (منزلة) وكان في الأصل صفة له فلما تقدم أعرب حالاً، وقوله (يوم القيامة) ظرف للأشرّية المدلول عليها (الرجل) أل فيه للجنس (يفضى) بضم التحتية من الإفضاء وهو مباشرة البشرة وهو هنا كناية عن الجماع (إلى المرأة وتفضي إليه ثم ينشر سرّها) ويذكر تفاصيل ما يقع حال الجماع وقبله من مقدماته، والحديث يقتضي كون

فعل ذلك كبيرة للوعيد المذكور فيه (رواه مسلم) في النكاح من صحيحه. 2686 - (وعن عبد الله بن عمر رضي اللَّه عنهما أنّ عمر رضي الله عنه حين) ظرف لقال الآتي بعد: أي قال وقت (تأيمت بنته حفصة) أي من خنيس بن حذافة السهمي وكان من أصحاب النبي فتوفي بالمدينة، وهذا كله عند البخاري في حديث الباب حذفه المصنف لعدم تعلق غرض الترجمة به، فعلم أن تأيمها منه كان بموته وكان ذلك من جراحة أصابته بأحد. وذكر الدارقطني أنه كان طلقها، نقله عنه ابن النحوي ولكونه مات من جراحة أصابته بأحد يحمل قول من قال تزوج حفصة بعد ثلاثين شهراً من الهجرة، وعلى الأول يحمل رواية رواية من روي أنه تزوج بها بعد سنتين عقب بدر. % وخنيس بضم المعجمة وفتح النون وسكون التحتية آخره سين مهملة، وكان معمر بن راشد يصحفه فيقوله بالمهملة فالموحدة فالمعجمة آخره ابن حذافة بمهملة فمعجمة ابن قيس بن عدي بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤيّ القرشي السهمي وهو أخو عبد الله بن حذافة، كان من السابقين إلى الإسلام وهاجر إلى أرض الحبشة (قال: لقيت عثمان بن عفان) أي بعد موت زوجته رقية بنت سيدنا رسول الله (فعرضت عليه حفصة) ففيه عرض الإنسان بنته على أهل الخير كما ترجم به البخاري (فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر) ففيه التفات على رأي السكاكى وأتى به حضاً على القبول: أي بنت عمر وأنت تعلم شأنه وحسن خلطته (فقال: سأنظر في أمري) أي أفكر في شأني هل أتزوج الآن أو أؤخر ذلك (فلبثت) بكسر الموحدة أي أقمت منتظراً له (ليالي) بالنصب على الظرفية (ثم لقيني فقال: قد بدا) بالألف اللينة: أي ظهر (لي أن لا أتزوج يومي هذا) أراد به مطلق الزمن: أي في زمني هذا، وأتى به لدفع توهم إرادته التبتل والانقطاع عن التزوج المنهى عنه (فلقيت أبا بكر الصديق رضي الله عنه فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر فصمت) هو لكونه ترك

الكلام عن قصد ولداع له أخص من السكوت (أبو بكر فلم يرجع) بفتح التحتية مضارع رجع المتعدي ومنه قوله تعالى: {فإن رجعك الله} أي لم يردد (إليّ شيئاً) من القبول والإعراض بالصريح أو التعريض أو غيرهما (فكنت أوجد) أي أشد موجدة: أي غضباً (عليه منى على عثمان) وذلك لأن عثمان حصل منه الجواب وأما الصديق فتركه أصلاً (فلبثت ليالي ثم خطبها النبي فأنكحتها إياه) هذه الجملة هي الباعثة لذكر خلف وابن عساكر الحديث في مسند عمر نبه عليه ابن النحوي في شرح البخاري (فلقيني أبو بكر) أي بعد تمام الترويج (فقال: لعلك) هي فيه للإشفاق وأتى به اعتماداً على حسن خلق عمر وأنه لا يغضب لذلك، ولكن جواز الغضب منه يحسب الطبع فقال له ذلك (وجدت) أي غضبت (على) بتشديد الياء (حين) بالفتح المحتمل لكونه حركة إعراب إذ هي منصوبة على الظرفية ولكونه حركة بناء لأنه ظرف مضاف لجملة صدرها مبني وهي (عرضت عليّ حفصة فلم أرجع) بفتح الهمزة (إليك شيئاً فقلت نعم) إخباراً بالوقوع وعملاً بالصدق وإعراضاً عن المواربة (قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت عليّ إلا أني كنت علمت أن النبيّ ذكرها) أي مريداً التزوج بها، ولعله كان بحضرة الصديق دون غيره فرأى أن ذلك من السرّ الذي لا يباح فلذا قال (فلم أكن لأفشي) بضم الهمزة: أي أظهر (سرّ رسول الله) أي ما أسره إليّ وذكره لي (ولو تركها النبيّ) بالإعراض عنها (لقبلتها) بكسر الموحدة. فيه أنه يحرم خطبة من ذكرها النبي على من علم به وكتم السر، والمبالغة في إخفائه وعدم التكلم فيما قد يخشى منه أن يجرّ إلى شيء منه، وأن من ذكرها ثم أعرض عنها لا يحرم التزوج بها إذ ليست من أزواجه، وهذه الجملة المذكورة عن الصديق عن النبي، ذكر الحميدي وأبو مسعود الحديث في «مسند أبي بكر» ، ولما أخرجه الطبراني في مسند أبي بكر قال: قد أخرجت الأئمة من عهد أحمد بن حنبل إلى زمننا هذا الحديث في مسند الصديق أنه ذكرها (رواه البخاري) في المغازي والنكاح من

«صحيحه» . (تأيمت) بفتح الفوقية والهمزة وتشديد التحتية والتفعل فيه للصيرورة كما أشار إليه المصنف بقوله (أي صارت بلا زوج) الأنسب لبيان الاشتقاق: أي صارت أيما: أي بلا زوج، وما أفهمه قوله صارت من أن الأيم خاص بمن فورقت عن الزوج غير مراد، ففي المصباح الأيم: العزب رجلاً كان أو امرأة، قال الصغاني: سواء تزوج من قبل أم لا (وكان زوجها) خنيس (توفي رضي الله عنه) في التاريخ السابق و (وجدت) بفتح أوليه معناه (غضبت) بفتح فكسر ومصدره موجدة، وهذا الفعل نختلف مصادره باختلاف المراد منه فيقال وجده وجداناً بالكسر ووجوداً، وفي لغة لبني عامر يجده بضم الجيم ولا نظير له في المثال والضمة عارضة فلذا لم تعد الواو المحذوفة لوقوعها بين حرف مضارعة مفتوح وحرف مكسور ووجدت الضالة أجدها وجداناً أيضاً ووجدت في المال وجدا بالضم والكسر لغة، وجدة أيضاً ووجدت به في الحزن وجداً بالفتح اهـ ملخصاً من «المصباح» . 3687 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت كنّ) بضم الكاف وتشديد النون حرف أتى به لجماعة النسوة والفاعل (أزواج النبيّ) فهو على لغة أكلوني البراغيث (عنده، فأقبلت فاطمة رضي الله عنها تمشي) جملة حالية (ما تخطىء مشيتها من مشية رسول الله شيئاً) يجوز أن تعرب الجملة حالاً من ضمير تمشي فتكون متداخلة، أو من فاعل أقبلت فتكون مترادفة، ويجوز أن تكون جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً جواباً عن سؤال كيفية مشيها، والمشية بكسر الميم في الموضعين لبيان الهيئة، وشيئاً منصوب على المفعول المطلق: أي شيئاً من المشية أو المفعول به: أي من الأحوال (فلما رآها) أي أبصرها رحب بتشديد المهملة بها: أي بادرها بالترحيب وفسر ذلك بقوله (قال: مرحبا بابنتي) وعدى بالباء لأنه قدّر اشتقاقه من رحبت بك الدار بضم العين ومعنى مرحبا بك نزلت مكاناً رحباً واسعاً بها (ثم أجلسها عن يمينه أو) شك من الراوي (شماله) بكسر الشين وأتى بثم لتراخي الإجلاس

عن ابتداء وقوع النظر عليها حال إقبالها أو أنه استعيرت ثم مكان الفاء (ثم سارّها) لعل ما أومت إليه «ثم» من التراخي نظراً إلى أنه قدم قبل ذلك مؤانستها بأنواع من الإكرام وشريف الكلام لئلا يتلقاها بذلك أول ما قدمت عليه وتشرفت بجلوسها بين يديه، والمفاعلة يحتمل أن تكون على بابها ويحتمل أن تكون للمبالغة: أي أخفى الأمر لها مبالغاً في إخفائه عن سواها، ويؤيده كتمها له عن عائشة لما استفسرتها عنه (فبكت بكاء شديداً) لما في ذلك من عظيم المصاب وشدة الهول. وفيه قالت آخراً: صبت عليّ مصائب لو أنها صبت على الأيام صرن ليالياً رضي الله عنها وعنا بها (فلما رأى) أي أبصر (جزعها) بفتح أوليه مصدر جزع الرجل من باب تعب إذا ضعف متنه عن حمل ما نزل به ولم يجد صبراً كذا في المصباح (سارّها) المسارة (الثانية) فهو مفعول مطلق ويجوز إعرابه ظرفاً خبراً لما لحقها وجرياً على ما يبدو من ألطاف المولى سبحانه وتعالى من تعقيب الكسر بالجبر والحزن بالفرح والعسر باليسر (فضحكت فقلت لها) لنسألها عما رأته من آثار الجزع (خصك رسول الله من بين نسائه بالسرار) بكسر أوله مضارع فاعل أيضاً (ثم أنت تبكين) أي ما في ذلك من التكرير، والتخصيص يقتضي الشغل به عن سائر مقتضيات البكاء وهذا من السيدة عائشة رضي الله عنها لكونها لم تعلم ما أسرّ به إليها وإلا فلو علمت ذلك لأسعفتها بالبكاء كما أسعف الصاحبان أم أيمن لما زارراها فذكرتهما بأيام المصطفى (فلما قام رسول الله) أي من ذلك المجلس (سألتها ما قال لك رسول الله؟) يحتمل أن يكون المسئول عنه جميع ما سارها به أولاً وآخراً، ويحتمل أن يكون المسئول عنه الأول ويومىء إلى الأول عموم قول فاطمة رضي الله عنها (قالت ما كنت لأفشي) بكسر اللام وهي لام الجحود والإفشاء الإظهار (على رسول الله سرّه) فإن المفرد المضاف من صيغ العموم (فلما توفي رسول الله) وهو بعد ذلك بزمن (قلت: عزمت عليك بمالي) الباء للقسم الاستعطافي، ويحتمل كونها للسببية (عليك من الحق) إذ هي من أمهات المؤمنين وزوج المصطفى

وحبه، ولأجل عين ألف عين تكرم، وقولها عزمت عليك استعارة للقسم: أي أقسمت عليك (لما حدثني بما قال لك رسول الله) اللام مؤذنة بالقسم وما مزيدة للتأكيد (فقالت أما الآن) منصوب محلاً بمحذوف: أي أما إذا سألتني الآن، وفتحة الآن فتحة بناء كما قرر في محله (فنعم، أما) بفتح الهمزة وتشديد الميم (حين سارّني في المرة الأولى فأخبرني) الظرف منصوب بمقدر: أي بكائي وقت مسارته لي أولاً وعمل مع حذفه لأنهم يتوسعون في الظرف مالا يتوسعون في غيره (أن جبريل) اسم سرياني معناه عبد الله وقيل عبد الرحمن (كان يعارضه للقرآن في كل سنة مرة) قيل إنه كان يقرأ النبي من القرآن فيعيده بعينه جبريل، ولعل ذلك ليجمع بين مرتين العرض والأخذ من فم المبلغ، والمراد بالقرآن ما اجتمع منه إلى حين تدارسهما فإنه لم يكمل إلا قبيل وفاته بنحو عشرين يوماً (أو) شك من الراوي (مرتين) ومرة ومرتين مما ناب فيه المصدر عن اسم العدد نحو «فاجلدوهم ثمانين جلدة» فهو مفعول مطلق وقوله (وأنه) أي جبريل (عارضه) أي النبي (الآن مرتين) هذا يبين أن المعوّل عليه أن المعارضة في كل عام كانت مرة ولذا لما تكررت، أخذ منه قوله (وإني لا أرى) بضم الهمزة: أي أظن (الأجل) آخر مدة الحياة (إلا قد اقترب) أي قرب والتاء فيه للمبالغة (فاتقى الله) عند حلول ذلك بأن لا تفعلي محرّماً من نياحة وشق جيب أو غير ذلك مما يشعر بعدم الرضى والاعتراض على الأقدار (واصبري) أتى به مع تناول ما قبله له اهتماماً بشأنه، فإنه واسطة عقد المأمور به حينئذ وذلك لغلبة داعية الطبع إلى ما يترتب على الجزع غالباً من التبرم والتضجر وقوله (فإنه نعم السلف أنا لك) جملة مستأنفة كالتعليل لما قبلها: أي فإن ما يترتب على ذلك من شرف السلف لك يعدل ما قد يبدو من جزع الفراق (فبكيت بكائي الذي رأيت) أي بكاء سالماً من الإثم ومثله لا منع منه وإلا لنهاها عنه المصطفى لأنه لا يقر على محرم (فلما رأى) أي أبصر (جزعي) أي أثره من البكاء (سارّني الثانية فقال: يا فاطمة أما) أداة استفتاح أتى

بها لتنبيه المخاطب على ما بعدها لعظم موقعه (ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الأمة؟) وهذا مثل ثان لها عن عظيم ألم توقع فراقها لسيد الأحباب، فلما كان ذلك المصاب أعظم مصاب ناسب أن يجازي الصابرون عليه بأعظم الثواب من فضل الوهاب وهي أفضل الأمم فتكون أفضل نساء أهل الجنة كما جاء كذلك في رواية أخرى (فضحكت ضحكي الذي رأيت) أي الخالي عن الأشر والبطر وذلك أنه لكمال شرفها وطيب أصلها لم يغير توقع فقدها لسيد الأحباب استسلاماً لربها، وإنما دمعت عيناها وجزع قلبها مع الصبر على مراد مولاها سبحانه فهو نظير ما ورد من قوله يوم مات إبراهيم «العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضى ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون» ولا لحقها أشر ولا بطر، إذ بشرت بما بشرت به لكمال يقينها ومزيد تمكينها بل كان لسان حالها كلسان حاله «أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر» الحديث (متفق عليه) أخرجه البخاري في باب علامات النبوة (وهذا) أي اللفظ المسرود (لفظ مسلم) في أبواب الفضائل، ورواه النسائي في الوفاة وابن ماجه في الجنائز. 4688 - (وعن ثابت) بالمثلثة وبعد الألف موحدة فمثناة وهو البناني بضم الموحدة فنونين خفيفتين بينهما ألف تابعي مكثر للرواية عن أنس. وقد بسطت ترجمته في كتاب رجال الشمائل (عن أنس رضي الله عنه قال: أتى) أي جاء (عليّ رسول الله وأنا ألعب مع الغلمان) جملة حالية من مجرور على، والغلمان بكسر المعجمة وسكون اللام جمع غلام، ففيه جواز اللعب المباح للمراهق (فسلم علينا) من حسن خلقه ومزيد لطفه (فبعثني) أي أرسلني، قال في «المصباح» : كل شيء ينبعث بنفسه فالفعل يتعدى إليه بنفسه يقال بعثته وكل شيء لا ينبعث بنفسه كالكتاب والهدية فالفعل يتعدى إليه بالباء كبعثت به. وأوجز

86 ـــ باب الوفاء بالعهد

الفارابي فقال: بعثه: أي أهبه وبعث به وجهه (في حاجة) التنوين فيه يحتمل كونه للتعظيم أو للتحقير ففيه على الأول مزيد نباهة أنس إذ أهل للإرسال لذلك (فأبطأت) أي طالت مدة غيبتي (على أمي فلما جئت قالت: ما حبسك؟) من باب ضرب: أي منعك؟ (قلت: بعثني رسول الله لحاجة) أي لأجلها وتجمع على حوائج وهو جمع على غير القياس، وذكر الأصمعي أنه مولد، وحق جمعه حاجات وحاج وقال أبو عبيد الهروي: قيل أصل حاجة حائجة فيصح جمعه على حوائج كذا في الفتح (فقالت ما حاجته؟) سؤال عن تعينها (قلت إنها سرّ) في المصباح: السرّ هو ما يكتم، وهو خلاف الإعلان: أي فلا يظهر للغير (قالت لا تخبرنّ) بتشديد النون مبالغة في تأكيد النهي عن إفشائه فإن زيادة المبني تدل على زيادة المعنى (بسرّ رسول الله أحداً) من ألفاظ العموم لكونه في سياق النفي (قال أنس) منبهاً لثابت على مكانته عنده ومحبته له (والله لو حدثت به أحداً) كائناً من كان كما يشعر به سوقه في حيز الشرط (لحدثتك به يا ثابت) ففيه عظيم لطف أنس وصدق أمانته ووفائه بالعهد (رواه مسلم) في الفضائل (وروى البخاري بعضه مختصراً) أي في باب الأدب من «صحيحه» من غير طريق ثابت بلفظ «أسرّ النبيّ سرّا فما أخبرت به أحداً بعده، ولقد سألتني أم سليم فما أخبرتها به» . 86 - باب الوفاء بالعهد أي إذا عاهد على أمر (وإنجاز الوعد) . (قال الله تعالى) : ( {وأوفوا بالعهد} ) الذي تعاهدون عليه الناس والعقود التي تعاطونهم أو بما عهد الله من تكاليفه ( {إن العهد كان مسئولاً} ) أي

عنه أو مطلوباً يطلب من المعاهد ألاّ يضيعه. (وقال تعالى) : ( {وأوفوا بعهد الله} ) أي بما عهد إليكم من التكاليف أو بما عاهدتموه به من التزام الإقرار بتوحيده والقيام بعبوديته (إذا عاهدتم) . (وقال تعالى) : ( {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} ) أي بالمعهود وهو ما عهد في القرآن كله وعمومه متناول لسائر العقود. (وقال تعالى) : ( {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله} ) هو أشد البغض ونصبه على التمييز وفاعله ( {أن تقولوا مالا تفعلون} ) في هذا الأسلوب من الكلام من المبالغة ما لا يخفى، والآية نزلت في جماعة قالوا: لوددنا أن الله دلنا على أحب الأعمال إليه فتعمل به، فأخبر الله نبيه أنه الجهاد، فلما فرض نكل منه بعضهم وكرهوا فنزلت، أو نزلت لما التمسوا الجهاد وابتلوا به فولوا يوم أحد مدبرين، أو في المنافقين يعدون نصر المؤمنين ولا يفون، وعلى أيّ ففيه وعيد شديد لمخلف الوعد والعهد. 1689 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: آية) بالهمزة بعدها ألف لينة فتحتية خفيفة: أي علامة (المنافق) استشكل بأنها قد تكون في المؤمن وأجيب بأن المراد أن هذه خصال المنافق وصاحبها شبيه بالمنافق المطلق إلا أن هذا نفاقه خاص في حق من حدثه ووعده وائتمنه لا في الإسلام بإبطان الكفر. وقيل إن المراد به المنافقون الذين كانوا في زمنه فحدثوا بإيمانهم وكذبوا ووعدوا بنصر الدين فأخلفوا وأئتمنوا في دينهم فخانوا. وقال الخطابي: المراد نفاق العمل لا نفاق الإيمان. قال البرماوي في «اللامع الفصيح على الجامع الصحيح» وأحسن من هذا أن النفاق شرعي وهو إبطان الكفر وإظهار الإيمان، وعرفى وهو كون سرّه بخلاف علانيته وهو المراد هنا، وفي الحديث أجوبة أخرى (ثلاث) أخبر به آية باعتبار إرادة الجنس: أي كل واحد منها آية أو أن مجموع الثلاث هو الآية (إذا

حدث كذب) أي أخبر بخلاف الواقع وجعل الجملة الشرطية خبراً بعد خبر أوبد لا مما قبله يقتضي أنه محمول عليه لكن على معنى عند تحديثه (وإذا وعد) أي أخبر بخبر من المستقبل وعطف على ما قبله مع أنه من أفراده قبل لأن الخلف قد يكون بالفعل وهو غير الكذب فتغاير أو جعل حقيقة أخرى خارجة عن التحديث ادعاء كما في عطف جبريل على الملائكة بادعاء أنه نوع آخر لزيادة قال الشاعر: فإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال وكذا كل خاص يعطف على عام قاله البرماوي (أخلف) أي جعل الوعد خلافاً وذلك بأن لا يفي به (وإذا اؤتمن) أي جعل أميناً وفي رواية اتَّمَن بتشديد التاء وذلك بقلب الهمزة الثانية منه واواً وإبدال الواو تاء وإدغام التاء في التاء (خان) أي تصرف على خلاف الشرع، وخص هذه الثلاثة بالذكر لاشتمالها على المخالفة التي هي مبني النفاق من مخالفة السر العلن (متفق عليه) والحديث قد تقدم مع شرحه في باب الأمر بأداء الأمانة (زاد في رواية مسلم: وإن) هي وصلية (صام وصلى وزعم) أي قال محققاً بحسب ما عنده (أنه مسلم) أي فهذه خصال المنافق. 2690 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص) بحذف الياء اكتفاء بدلالة الكسر عليها أو أنه من العيص فيكون أجوف كما تقدم بسطه (رضي الله عنهما أن النبيّ قال: أربع) سوغ الابتداء به مع نكارته تقدير إضافته أي أربع خصال، وجملة (من كن فيه كان منافقاً خالصاً) قال ابن بطال: أي في الخصال المذكورة (ومن كانت فيه خصلة) أي خلة بفتح أولهما (منهن كانت فيه خصلة من النفاق حي يدعها) يحتمل أن يكون خبر المبتدأ وأن تكون صفة والخبر قوله (إذا اؤتمن خان) بتوجيهه السابق قاله البرماوي، والاحتمال الثاني فيه ركاكة (وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر) أي تواثق مع إنسان على أمر غدر به وفعل خلاف ما

عهد إليه أن يفعله (وإذا خاصم فجر) أي مال عن الحق وقال الباطل أو شق سر الديانة، قال المصنف: ولا منافاة بين قوله هنا أربع وفيما قبله ثلاث، لأن الشيء الواحد قد تكون له علامات كل واحدة منها يحصل بها صفة، ثم قد تكون تلك العلامة شيئاً واحداً وقد تكون أشياء. وقال الطيبي: العلامات مرة يذكر بعضها ومرة جميعها أو أكثرها قال الزركشي: والأولى أن يقال: إن التخصيص بالعدد لا يدلّ على الزائد والناقص. قلت: وهذا مفرع على أن مفهوم العدد غير حجة ورجح بعضهم حجيته (متفق عليه) ورواه أيضاً أحمد والنسائي كلهم من حديث ابن عمر، وكذا في «الجامع الصغير» ، والحديث عند الشيخين في كتاب الإيمان. 3691 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله لو) يحتمل أن تكون للتمني فلا جواب لها ويحتمل كونها شرطية وفصل بقد بينها وبين شرطها في قوله (قد جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا) بتكرير كناية كيفية الأخذ ثلاثاً، وقد جاء في رواية للبخاري بزيادة «فبسط يديه ثلاث مرات» وجملة أعطيتك جواب الشرط بحذف اللام منه تخفيفاً، وهذا المتمني مجيئه مرة أخرى غير ما تقدم في باب فضل الزهد في الدنيا من حديث عوف، وقوله في الحديث فقدم: يعني أبا عبيدة بمال من البحرين والله أعلم أن ذلك هو الذي سأل العباس النبي أن يأذن له أن يأخذ منه لأنه فادى بنفسه وابنى أخويه فأذن له، ويحتمل أنه مال آخر من البحرين والبحرين من الأعلام المنقولة عن المثنى فيعرب إعراب أصله حملاً له عليه (فلم يجىء مال البحرين) هو مال الجزية وكان العلاء بن الحضرمي عامل النبي عليها (حي قبض النبي) هناك محذوف دل عليه الكلام: أي وولي الخلافة الصديق وعطف عليه بالفاء قوله (فلما جاء مال البحرين أمر أبو بكر رضي الله عنه) يحتمل أن يكون من إرادة أصل الفعل: وقع منه الأمر (فنادى) أي المأمور (من كان له عند رسول الله عدة) بكسر العين مصدر حذفت فاؤه وعوض منها

87 ـــ باب الأمر بالمحافظة أي شدة الحفظ (على ما اعتاده من الخير)

الهاء في آخره: أي وعد (أو) للتنويع (دين فليأتنا) لاستيفاء ماله (فأتيته وقلت: إن رسول الله قال لي كذا وكذا) كنايتان عن قوله لو قد جاء مال البحرين إلخ (فحثى لي حثية) استعمله هنا من اليائي، وقد جاء من الواوي أيضاً حثوة ومبادرة الصديق بالإعطاء يحتمل أن يكون اعتماداً على قول جابر لصدّيقيَّته لما يعلمه من دينه وورعه المانع له عن الكذب في مثل ذلك، ويحتمل أنه بعد أن أقام عليه بينة لأن هذا المال الحق فيه لعموم المسلمين فلا يتصرف فيه الإمام بمجرد قول المدعي وإن كان معلوم الصلاح والصدق، ثم رأيت الحافظ قال في كتاب الحوالة من فتح الباري في أثناء كلام: لأن أبا بكر لم يلتمس من جابر شاهداً على صحة دعواه، ويحتمل أن يكون علم بذلك فقضى له بعلمه فيستدل به على جواز مثل ذلك للحاكم. وفي كتاب «الشهادات» من الفتح: لما كان أولى الناس بمكارم الأخلاق أدى أبو بكر مواعيده عنه ولم يسأله البينة على ما ادعاه لأنه لم يدع شيئاً في ذمة النبيّ وإنما ادعى شيئاً في بيت المال وذلك موكول إلى اجتهاد الإمام اهـ (فعددتها فإذا) فجائية (هي) مبتدأ (خمسمائة) خبره (فقال خذ مثلها) بالتثنية (متفق عليه) رواه البخاري في مواضع من «صحيحه» كالكفالة والشهادات والجزية، ورواه مسلم في باب فضائل النبيّ. 87 - باب الأمر بالمحافظة أي شدة الحفظ (على ما اعتاده من الخير) فالمفاعلة للمبالغة لا للمغالبة. (قال الله تعالى) : ( {إن الله لا يغير ما بقوم} ) أي من النعمة أو النقمة ( {حتى يغيروا ما بأنفسهم} ) من

الأحوال الجملة أو القبيحة وقد ورد «قال الربّ: وعزتي وارتفاعي فوق عرشي ما من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على ما كرهته من معصيتي ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت لهم من طاعتي إلا حولت بهم عما يكرهون من عذابي إلى ما يحبون من رحمتي» وأيضاً: فإذا غير المتعبد ما اعتاده من الطاعة غير الله ما كان يسبغه عليه من الثواب، وفي الحديث «فإن الله لا يملّ حتى تملوا» . (وقال تعالى) : ( {ولا تكونوا} ) في نقض الأيمان ولايخفي أنه يتناول نقض سائر العهود (كالتي نقضت) أي أفسدت ( {غزلها} ) مصدر بمعنى المفعول: أي ما غزلته ( {من بعد قوة} ) أي نقضته بعد إحكامه وفتله ( {أنكاثاً} ) الأنكاث جمع نكث بكسر النون كما في «المصباح» ، نظيره حمل وأحمال (وهو الغزل المنقوض) زاد في «المصباح» ليغزل ثانياً وأنكاثاً مفعول كان لنقضت بتضمينه معنى الجعل أو مفعول مطلق وهو مثل لمن نقض عهده بعد توكيده، وقد نقل أنه في امرأة كانت تفعل ذلك. (وقال تعالى) : ( {ولا تكونوا كالذين أوتوا الكتاب} ) معطوف على أن تخشع وفيه على قراءة التاء الفوقية التفات ( {من قبل} ) كاليهود والنصارى ( {فطال عليهم الأمد} ) الزمان بينهم وبين أنبيائهم (فقست قلوبهم) مالوا إلى الدنيا وأعرضوا عن مواعظ الله. (وقال تعالى) : {فما رعوها حق رعايتها} أي بالقيام بما التزموا مما زعموا أنه قربة والآيتان تقدم الكلام عليهما في باب المحافظة على السنة وفيه أيضاً حديث ابن عمرو المذكور. 1692 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله: لا تكن مثل فلان) لم أقف على من سماه وقد قال بعض المحققين: لا ينبغي الفحص عمن

88 ــــ باب استحباب طيب الكلام

أبهم في مثل هذا المقام، فالستر عن أولي التقصير من شأن الناقد البصير، ثم بين المثل المنهي عنه بقوله على سبيل التنفير (كان يقوم الليل) أي لصلاة التهجد (فترك قيام الليل) وإنما كره لما يؤذن به من قلة الاكتراث بأمر الطاعة والاحتفال إذ لو كان مكترثاً محتفلاً به لحياة قلبه لما وقع منه ذلك (متفق عليه) أخرجاه في كتاب الصلاة. 88 - باب استحباب طيب الكلام أي لينه وترك خشونته (وطلاقة الوجه) هي تهلله بالانشراح والابتسام (عند اللقاء) قال الشاعر: بشاشة وجه المرء خير من القرى فكيف بمن يقرى القرى وهو يضحك (قال الله تعالى) : ( {واخفض جناحك} ) لين جانبك وتواضع ( {للمؤمنين} ) أي دون الكفار. قال تعالى {واغلظ عليهم} . (وقال تعالى) : ( {ولو كنت فظاً} ) سيء الخلق ( {غليظ القلب} ) قاسيه ( {لانفضوا} ) أي نفروا (من حولك) . 1693 - (وعن عديّ بن حاتم رضي الله عنه) تقدمت ترجمته (قال: قال رسول الله: اتقوا النار) أي اتخذوا ما يقيكم منها (ولو) كان الاتقاء (بشق) بكسر الشين: أي نصف (تمرة)

فإن الله تعالى يقول: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها} (النساء: 40) وقال {فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره} (الزلزلة: 7) وجاء عن عائشة رضي الله عنها: أنها وقف عليها سائل فتصدقت عليه بعنبة فاحتقرها فقالت له: إنها تعدل مثاقيل من مثاقيل الذر (فمن لم يجد) أي ما يتقي به من الصدقة، وإن قلت (فـ) لميتقها (بكلمة طيبة) يكون طيبها للمخاطب قائماً مقام ما فاته من اللين (متفق عليه) . 2694 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: والكلمة الطيبة) كأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإلانة القول لمخاطب في غير مأثم (صدقة) فأفاد الخبر أن الصدقة وإن غلبت في المال لكنها تكون في غيره كلطيف المقال (متفق عليه وهو) أي ما ذكر من حديث أبي هريرة (بعض حديث) وذكره بالواو العاطفة فيه إيماء لذلك (تقدم بطوله) في باب بيان طرق الخير وكذا تقدم في حديث أبي ذر الذي يليه. 3695 - (وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله: لا تحقرن) بتشديد النون (من المعروف) أي ما يستحسن شرعاً (شيئاً ولو) كان ذلك المعروف (أن تلقى أخاك بوجه طلق) أي متهلل بالبشر والابتسام لأن الظاهر عنوان الباطن فلقياه بذلك يشعر لمحبتك له وفرحك بلقياه والمطلوب من المؤمنني التوادّ والتحابّ (رواه مسلم) .

89 ـــ (باب استحباب بيان) أي إظهار (الكلام) بأن لا يخفي شيء من حروفه

89 - (باب استحباب بيان) أي إظهار (الكلام) بأن لا يخفي شيء من حروفه فلا يسمعها المخاطب (وإيضاحه) باستعمال الألفاظ الظاهرة الدالة على المراد واجتناب الغريب للمخاطب وذلك ليسهل فهمه (تكريره) ظاهره ولو بإعادته مرة أخرى والخبر فيه فعل ذلك ثلاثاً فلعله أشار بهذا إلى أن التثليث هو الغاية، وأن أصل التكرار مطلوب إذا دعا إليه المقام ويحصل ولو بمرة أخرى (ليفهم إذا لم يفهم إلا بذلك) أي المذكور من جميع الثلاثة. 1696 - (وعن أنس رضي الله عنه أن النبي كان إذا تكلم بكلمة) المراد بها المعنى اللغوي (أعادها) أي كررها (ثلاثاً) أي إذا كان المقام يقتضي الإعادة، والتكرار إما لمزيد الاعتناء بمدلول ذلك أو لكثرة المخاطبين أو لغير ذلك، وقوله (حتى تفهم) أي لتفهم (عنه) فحتى تعليلية، إذ لو كانت غائية لما قيدت بالثلاث (وإذا أتى على قوم فسلم عليهم سلم عليهم ثلاثاً) إما لكثرتهم بحيث أن سلامه على أولهم لا ينتهي إلى أواسطهم وأواخرهم وإما لغفلة بعضهم عن سلامه لكونه نائماً أو في شغل بال أو نحو ذلك كما بينته في «شرح الأذكار» أو أنه عند الاستئذان كما قال الخطابي، ففي الحديث «إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع» ونظر فيه بأن الإذن إذا حصل بنحو التسليمة الأولى لا تسن الثانية. قال البرماوي: والأوجه أن معناه كان إذا أتى على قوم سلم تسليم الاستئذان، وإذا دخل سلم تسليم التحية، وإذا خرج سلم تسليم الوداع، والثالثة مسنونة. وقال ابن بطال: إنما كان تكرار الكلام والسلام إذا خشي أن لا يفهم عنه أولاً يسمع سلامه، وفيه أن الثلاثة غاية ما يقع فيه البيان (رواه البخاري) في كتاب العلم بهذا اللفظ ورواه في الأدب من «صحيحه» لكن بلفظ «كان إذا سلم سلم ثلاثاً وإذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً» ورواه الإمام أحمد والترمذي

في جامعه كلهم من حديث أنس كما في الجامع الصغير. 2697 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان كلام) أي ما يتكلم به (رسول الله كلاماً فصلاً) أي بينا ظاهراً أو فاصلاً بين الحق والباطل، ومنه قوله تعالى: {إنه لقول فصل} (الطارق: 2) أي فاصل قاطع، كذا في النهاية، ويقرب الأول قوله على سبيل الاستئناف (يفهمه كل من يسمعه) فإن في الظهور أقرب، ويجوز أن يكون في محل الصفة لكلام بعد وصفه بالمفرد أو في محل الحال منه لتخصيصه بالوصف (روه أبو داود) في «سننه» . باب إصغاء أي إمالة (الجليس) رأسه أو سمعه (لحديث جليسه الذي ليس بحرام) كأن يقول مطلوباً أو مباحاً (واستنصات العالم والواعظ حاضري مجلسه) بكسر الراء جمع مذكر مفعول المصدر أي طلبهما الحاضرين أن ينصتوا، والوعظ غلب في المخوف من عذاب الله المرغب في ثوابه بذكر ما جاء في ذلك. 1698 - (وعن جرير بن عبد الله) البجلي تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب من سن سنة حسنة وشرح حديثه هذا في باب تحريم الظلم في أثناء حديث ابن عمر وحديث أبي بكرة (قال: قال لي رسول الله في حجة الوداع) بفتح أوليهما على الأفصح والأشهر (استنصت الناس) أي مرهم بالإنصات فهو استفعال من أنصت الرباعي. قال لبرماوي: وهو قليل، وذلك لأنه سبب لتيسر وصول المسموع إليهم (ثم قال) أتى بثم كأنه لتراخي مدة المعطوف

91 ــــ باب الوعظ

بها عن أمر جرير وذلك لكثرة الجمع فإنصاتهم يحتاج لمدة، ويحتمل أن تكون وضعت ثم موضع الفاء: أي (لا ترجعوا) أي تصيروا (بعدي كفاراً) أي كالكفار في الفعل الآتي أو كفاراً لنعمة الآخرة المقتضية لضد ذلك أو كفراً ضد الإيمان إن اعتقد حل ذلك (يضرب) بالرفع والجزم كما تقدما بتوجيههما (بعضكم رقاب بعض) والمراد النهي عن الأسباب المؤدية إلى التقاطع والتقاتل من التحاسد والتناجش والتباغض والتدابر، وقد قدر الله وقوعهم فيما نهوا عنه ولا معقب لما أراده سبحانه (متفق عليه) . 91 - باب الوعظ قال في «المصباح» : هو الأمر بالطاعة والوصية بها (والاقتصاد) أي التوسط (فيه) بين البسط المؤدي إلى الإملال والإيجاز المؤدي إلى عسر الفهم للمقال. (قال الله تعالى) : ( {ادع إلى سبيل ربك} ) أي دينه وهو التوحيد وأعماله (بالحكمة) القرآن (والموعظة الحسنة) مواعظ القرآن، وقيل المراد القول اللين بلا تغليظ وتعنيف. 1699 - (وعن أبي وائل) بالهمزة بعد الألف كنية (شقيق) بفتح المعجمة بعدها قافان بينهما تحتية بوزن شريف (بن سلمة) الأسدي الكوفي يعد مخضرماً. قال الحافظ في «التقريب» : مات سنة أربع وستين (قال: كان ابن مسعود رضي الله عنه يذكرنا) أي بالتكاليف الشرعية بذكر ثواب ما طلب منها فعلاً وعقاب فعل ما طلب منها تركاً (في كل خميس، فقال له رجل) لم أر من سماه (يا أبا عبد الرحمن) كنية ابن مسعود (لوددت) جواب قسم مقدّر: أي ولله

لأحببت (أنك تذكرنا كل يوم) وذلك لعظم ثمرة التذكير بحلاوة نتائجه (فقال: أما) بتخفيف الميم أداة استفتاح (إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم) أن ومعمولاها مؤولة بمصدر فاعل يمنع: أي يمنعني كراهة إملالكم، فإن النفوس من طبعها الملل مما يداوم عليه وإن كان محبوباً لها (وإني أتخوّلكم) أي أتعهدكم (بالموعظة) مصدر ميمي بمعنى الوعظ (كما كان رسول الله يتخولنا) سيأتي الخلاف في ضبطه أهو بالخاء المعجمة أو بالمهملة وباللام أو بالنون عند بيان المصنف لمعناه (بها مخافة) مفعول له: أي خوف (السآمة) كالملالة وزناً ومعنى، والمراد سآمتهم لا سآمته يدل عليه السياق (علينا) متعلق بالسآمة على تضمينه معنى المشقة أو بوصف أو حال محذوفة: أي الطارئة أو طارئة أو شفقة محذوفاً (متفق عليه) وقع عند البخاري في باب ما كان النبي يتخولهم بالموعظة والعلم بلفظ كراهة السآمة. قال السيوطي في «التوشيح» : وقد روى مخافة في الباب الآتي فالتعبير بكراهة من تصرف الراوي (يتخوّلنا: يتعهدنا) أي يراعي الأوقات في وعظنا ولا يفعله كل يوم. وقال ابن السكيت: معناه يصلحنا ويقوم علينا، وهذا على أنه بالخاء المعجمة وتشديد الواو وباللام. قال الحافظ ابن حجر: وهو الصواب من حيث الرواية وصح بها المعنى. وقال البرماوي بعد ذكر الأقوال المذكورة في ضبطه: إنه بالمهملة رواية لكن الرواية الصحيحة بالإعجام. وقال أبو عمرو بن العلاء: وقد أطلقه البرماوي ولم ينسبه ونسبه كما قلنا السيوطي «يتخوّننا» بالنون، والتخوّن: التعهد، ويرد على الأعمش روايته باللام، وكان الأصمعي يقول ظلمه فإنه يروي باللام والنون، وقال التيمي: تخون فلاناً بعهده وحفظه كأنه اجتنب منه الخيانة المخلة بالحفظ، وقال أبو عمر الشيباني: الصواب بالحاء المهملة: أي يطلب أحوالنا التي ننشط فيها للموعظة والإتيان بالفعل مضارعاً بعد كان الماضي لقصد الاستمرار نحو كان حاتم يقرى الضيف.

2700 - (وعن عمار) بفتح المهملة وتشديد الميم (بن ياسر) بالتحتية وبعد الألف سين مهملة بن عامر بن مالك العنسى بنون ساكنة بين مهملتين مفتوحة فمكسورة، أبو اليقظان مولى بني مخزوم صحابي جليل مشهور من السابقين الأولين بدري، وقتل مع عليّ بصفين سنة سبع وثلاثين كذا في التقريب، روى له عن رسول الله اثنان وستون حديثاً، اتفقا على حديثين منها، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بحديثين. وقد ترجمه المصنف في «التهذيب» ، وفيه مسند الإمام أحمد وكتاب الترمذي وغيرهما عن عليّ بن أبي طالب قال «جاء عمار ليستأذن على النبي فقال: ائذنوا له مرحبا بالطيب المطيب» وقال الترمذي: حسن صحيح. وفي طريق عند الترمذي ويقال: حديث حسن عن حذيفة مرفوعاً (واهتدوا بهدى عمار) وفي «المسند» من حديث خالد بن الوليد مرفوعاً «من عادى عماراً عاداه الله، ومن أبغض عماراً أبغضه الله» وفي سنده انقطاع، وهو والده صحابيان تقدمت ترجمته (رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: إن طول صلاة الرجل) أي بالنسبة للخطبة فلا يشكل بحديث «إذ صلى أحدكم بالناس فليخفف» الحديث (وقصر خطبته مئنة من فقهه) وإنما كان كذلك لأن الفقيه يعلم أن الصلاة مقصودة بالذات والخطبة توطئة لها، فيصرف العناية إلى ما هو الأهم، وأيضاً فإن الصلاة عبودية العبد والإطالة فيها مبالغة في العبودية، والخطبة المراد منها التذكير، وما قلّ وقرّ خير مما كثر وفرّ (فأطيلوا الصلاة) أي بالنسبة للخطبة، لا بحيث أنه يشق حتى يوقع في النهي (وأقصروا الخطبة رواه مسلم) وقال السيوطي في الجامع الصغير بعد أن ذكره كذلك وزاد في آخره «وإن من البيان لسحراً» رواه أحمد ومسلم عن عمار (مئنة بميم مفتوحة ثم همزة) الأولى فهمزة (مكسورة ثم نون مشددة: أي علامة دالة على فقهه) وتقدم وجهه. 3701 - (وعن معاوية بن الحكم) بفتح المهملة والكاف (السلمي) بضم المهملة وفتح

اللام نسبة إلى بني سليم قبيلة من العرب. قال الحافظ في «التقريب» : صحابي نزل المدينة، وكذا قال المصنف في التهذيب وزاد فيه: وقد روى عن رسول الله ثلاثة عشر حديثاً انفرد به مسلم عن البخاري. وروى له حديث الباب قال المصنف في «التهذيب» : وخرج عنه أبو داود والنسائي (رضي الله عنه قال: بيننا) الألف لكفه عن الإضافة لما بعده فهو جملة مستأنفة (أنا أصلي مع رسول الله إذ عطس رجل من القوم) أي المصلين (فقلت) مشمتاً له أي بعد حمده إذ التشميت إنما يسن حينئذ، ويحتمل أنه بادره عند عطاسه لجهله بتوقف ذلك على الحمد، وهو المتبادر من سياق عبارته (يرحمك الله) خبر لفظاً إنشاء معنى (فرماني القوم بأبصارهم) شزراً إنكاراً لما فعلت لاشتماله على الخطاب لآدمي، وهو مبطل للصلاة وإن كان في ذكل وليس رميهم له بأبصارهم من الالتفات المنهي عنه لأنه يحتمل أن يكون بمجرد لمح أعينهم وبفرض كونه التفاتاً حقيقة فهو لحاجة لا يكره (فقلت واثكل) بضم المثلثة وسكون الكاف كما سيأتي وبفتْحِهما وهما لغتان حكاهما الجوهري كالبخل والبخل (أميَّاه) بكسر الميم، قال القرطبي: أمي مضاف إليه ثكل وكلاهما مندوب، كما قال: واأمير المؤمنيناه، وأصله أمي زيدت عليه الألف لنداء الصوت وأردفت بهاء السكت الثابتة في الوقف المحذوفة في الوصل نقله عنه السيوطي في زهر الربا: أي وافقدها لي فإني هلكت (ما شأنكم تنظرون إلى) جملة حالية من الضمير (فجعلوا يضربون بأيديهم) الباء زائدة (على أفخاذهم) زيادة في الإنكار على. والظاهر أنه لم يتكرر منهم ثلاثاً، فإن المتيقن منه واحدة، والزائد مشكوك فيه فلا تبطل الصلاة بقليل الفعل، وهو ما دون الثلاث من ذلك. أما الثلاث المتوالية عرفاً فتبطل (فلما رأيتهم يصمتونني) أي بالأمر بذلك بالإشارة، غضبت، لجهلي بقبح ما فعلت ومبالغتهم في التنكير على (لكني سكت) امتثالاً لأنهم أعلم مني ولم أعلم بمقتضى ذلك (فلما صلى رسول الله) جوابه قال الآتي وما بينهما اعتراض لما فيه من المناسبة والالتئام (فبأبي هو) أي فرسول الله مفدى أو أفديه بأبي (وأمي) وقرنه بالفاء تزييناً أو تفريعاً على أحسنية تعليمه (ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه) فيه

تعريض أنهم ألغوا في الإنكار عليه في الكلام مع عذره بجهله بتحريم ذلك بقرب إسلامه، ثم بين الأحسنية بقوله (فوالله ما كهرني) قال المصنف: كما يأتي: أي نهرني هذا قول أبي عبيدة كما في زهر الربا. وقيل الكهر: العبوس في وجه من يلقاه (ولا ضربني ولا شتمني) صرح بهما مع العلم بانتفائهما من انتفاء الأول لأن مقام المدح مقام خطابة وإطناب (قال: إن هذه الصلاة) أي جنسها الشامل لفرضها ونفلها، بل ولما ألحق بها من سجدة تلاوة وشكر والمشار إليه ما في الذهن لا ما في الخارج، لإبهام اختصاص النهي به (لا يصلح فيها شيء من كلام الناس) المراد بالكلام المعني اللغوي وهو: كل لفظ سواء كان مهملاً أو مستعملاً، فتبطل بالنطق بشرط أن يسمع نفسه إن اعتدل سمعه ولا عارض من لغط أو نحوه بالحرف المفهم كق أمر من الوقاية أو بالحرفين وإن لم يفهما من كلام الآدميين وإن لم يقصد خطابهم ولو بالعجمية وإن لم يفهما كأن مد فتولدت ألف أو واو أو ياء وإن تعلق ذلك بمصلحة الصلاة، والكلام لغة: يقع على المفهم وغيره مما هو حرفان فأكثر، وتخصيصه بالمفهم اصطلاح طارىء للنحاة، والحرف المفهم متضمن لمقصود الكلام وإن أخطأ بحذف هاء السكت بخلاف غير المفهم، فاعتبر فيه أقل ما يبني عليه الكلام وهو حرفان، ويستثنى من كلام الناس إجابة المصلي للنبي بقول أو فعل وإن كثر فإنها واجبة لا تبطل بها الصلاة لشرفه ولذا أمر المصلي أن يقول: السلام عليك أيها النبي، وزعم أن هذا الخطاب لغائب يرده أن الخطاب مبطل للصلاة ولو لغائب بأن خطر إنسان في باله فقال مخاطباً له فيها يرحمك الله، بخلاف إجابة الأبوين فإنها تبطل وإن أوجبناها بأن تأذياً بعدمها تأذياً ليس بالهين سواء الفرض والنفل، ويستثنى أمور أخرى مذكورة في كتب الفقه. قال السيوطي: وحرمة الكلام في الصلاة من خصائص هذه الأمة، قال ابن العربي: كان شريعة بني إسرائيل يباح فيها الكلام في الصلاة دون الصوم فجاءت شريعتنا بعكس ذلك. وقال ابن بطال: إنما عيب على جريح عدم إجابته لوالدته في الصلاة لأن الكلام في الصلاة كان مباحاً في شرعهم (إنما هي) كذا فيما وقفت عليه من نسخ «الرياض» بضمير الواحدة المؤنثة والمرجع مدلول عليه بالسياق: أي إنما الكلمات الصالحة فيها، وروايته في المشكاة «هو» بضمير المذكر قال في «فتح الإله» : أي الذي يصلح فيها (التسبيح) أي التقديس لله وتنبيهه عما لا يليق به (والتكبير وقراءة القرآن) ومثلهما سائر الثناء عليه تعالى مما يدل على كماله. ويؤخذ من عدم أمره لمعاوية بإعادة الصلاة وإلا لنقل أن من تكلم فيها جاهلاً بتحريمه عذر بجهله لقرب

عهده بالإسلام وإن خالط المسلمين أو لبعده عن العلماء لا تبطل صلاته لعذره، ومحل عدم البطلان في ذلك حيث قلّ الكلام، فإن الواقع من معاوية نحو خمس كلمات. أما ما كثر عرفاً فيبطل ولو معذوراً بذلك (أوشك كما قال رسول الله) أي مثل ما قال من التسبيح والتهليل والدعاء (قلت: يا رسول الله إني حديث عهد بجاهلية) هي ما قبل ورود الشرع. سميت به لكثرة جهالاتهم، وهذا عذر له في كلامه في الصلاة وعدم علمه بحرمته فيها (وقد جاء الله) في المشكاة جاءنا بزيادة ضمير المفعول للمتكلم ومعه غيره أي جاءنا معشر الأمة (بالإسلام) أي بدينه على يديك فلا تجد على في أسئلة أخرى يحتاج إلى معرفة حكم الله فيها (وإن منا رجالاً يأتون الكهان) جمع كاهن وهو من يدعي معرفة الضمائر ويخبر عن المستقبل، إما لجنى يخبره أو لزعمه أنه يدرك الغيب بفهم وأمارات، بخلاف العراف فإن نظره قاصر على معرفة الضالّ ومكان المسروق ونحوهما (قال فلا تأتهم) قال المصنف: قال العلماء: إنما نهى عن إتيانهم لأنهم قد يتكلمون في مغيبات قد يصادف بعضها الإصابة فيخاف الفتنة على الإنسان بسبب ذلك ولأنهم يلبسون على الناس كثيراً من الشرائع. قال الخطابي: والحديث يشمل النهي عن إتيان كل من الكهان والعراف (قلت: ومنا رجال يتطيرون) من الطيرة بكسر ففتح أو سكون وهو التشاؤم بالشيء، ولم يأت مصدر على فعلة غير هذا والخيرة، وذلك أنهم كانوا يتعرفون نحو الطير، فإن ذهب ذات اليمين مضوا وإلا رجعوا فنهوا عن ذلك بقوله (قال ذلك) أي التطير (شيء يجدونه في صدورهم) وفي المشكاة بلفظ في نفوسهم أي من التوهم والتشاؤم المقتضي بحسب توهمهم الفاسد رجوعهم عما يريدون فعله (فلا يصدهم) كذا في أصول «الرياض» بحذف نون التوكيد وهي ثابتة في «المشكاة» : فلا يمنعهم ذلك عن وجهتهم لأنه لا يؤثر نفعاً ولا ضرا، وإنما هو شيء يسوّله الشيطان في النفس ويزينه لها حتى تعمل بقضيته ليجرها بذلك إلى اعتقاد مؤثر غير الله تعالى، وهو كفر صراح بإجماع العلماء. قال المصنف: قال العلماء: نهاهم عن العمل بالطيرة كأن يمتنعوا من مرادهم بسببها لأن ذلك في قدرتهم وكسبهم دون التطير، لأن ذلك يجدونه في النفس ضرورة فلا عتب عليهم فيه. قال: وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة في النهي عن التطير والطيرة، وهو محمول على العمل بها لا على ما يوجد في النفس من غير

عمل على مقتضاه، ونفى في الحديث السؤال عن الخط وسكت عليه المصنف ولفظه «قلت: ومنا رجال يخطون، قال: كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك» (رواه مسلم) قال في «المشكاة» : قوله لكني سكت، هكذا وجدت في صحيح مسلم وكتاب الحميدي، وصحح في «جامع الأصول» بلفظة «كذا» فوق «لكني» قال شارحه: ومرّ شرحها كما ذكرناه وأنه لا إشكال فيه، والحديث رواه أبو داود والنسائي وله طرق بينها المزي في «أطرافه» . ( الثكل بضم الثاء المثلثة) أي وسكون الكاف، وتقدم أن هذا إحدى لغتين ثانيتهما فتحهما معاً وقد حكاهما الجوهري وغيره كالبخل والبخل (المصيبة والفجيعة) أي بالولد بفقده (ماكهرنى) بفتح أولية (أي ما نهرني) . 4702 - (وعن العرباض بن سارية) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) مع شرح الحديث في الباب الذي ذكره المصنف (قال: وعظنا رسول الله موعظة) أي عظيمة كما قال (وجلت) أي خافت (منها القلوب) لأنها محل الدراية من الإنسان (وذرفت) أي سالت (منها العيون) أي دموعها (وذكر الحديث) والقصد أن أحسن المواعظ ما كان جزلاً جامعاً بليغاً نافعاً، فخير الكلام ما دل (وقد سبق بكماله) الباء بمعنى مع (في باب الأمر المحافظة على السنة، و) قد (ذكرنا أن الترمذي قال: إنه حديث حسن صحيح) أتى بذلك لينبه على أن المطلوب من جملة الأحكام التي لا تثبت إلا بالمقبول من الخبر فينبه بذلك على أنه منه. والله أعلم.

92 ـــ باب الوقار

92 - باب الوقار بفتح الواو والقاف مصدر وقر بالضم مثل جمل جمالاً وهو الحلم والرزانة، ويقال وقر يقر من باب وعد فهو وقور كرسول. قال في المصباح: الوقار أيضاً العظمة ويقال وقر وقرا من باب وعد وعداً، يقال جلس بوقار اهـ. وما في الترجمة بالمعنى الأول بدليل عطف قوله (والسكينة) بتخفيف الكاف عليه فهي كما في «المصباح» : المهابة والرزانة والوقار. قال: وحكى في «النوادر» تشديد الكاف ولا يعرف في كلام العرب فعلية مثقلاً إلا هذا الحرف شاذاً اهـ. وبما ذكرنا علم أن عطفها على الوقار من عطف العام على الخاص، لأنه داخل في مفهومها أتى به اعتناء بذلك، وسيأتي فيه مزيد في الباب الذي يليه. (قال الله تعالى) : ( {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً} ) أي هينين أو مشياً هيناً بسكينة ووقار من غير جبرية واستكبار، لا مشى المرضي فإنه مكروه وهو مبتدأ خبره الذين يمشون أو الذين صفته والخبر - أولئك يجزون الغرفة - ( {وإذا خاطبهم الجاهلون} ) أي خاطبهم بما يكرهونه ( {قالوا سلاماً} ) سداداً من القول يسلمون فيه من الإثم أو تسليماً منكم لا خير بيننا ولا شر قال تعالى: {وإذاسمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} (القصص: 55) وعن الحسن البصري قالوا السلام، وفي الحديث ما يؤيده. 1703 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله مستجمعاً) أي مبالغاً في الضحك لم يترك منه شيئاً (ضاحكاً) قال الحافظ ابن حجر منصوب على التمييز وإن كان مشتقاً مثل: لله دره فارساً، أي ما رأيته مستجمعاً من جهة الضحك بحيث يضحك ضحكاً تاماً مقبلاً بكليته على الضحك (حتى ترى) بالبناء للمجهول (منه لهواته إنما كان يتبسّم) . قال

باب الندب بفتح النون وسكون الدال المهملة فباء موحدة: أي الدعاء

أهل اللغة: التبسم مبادىء الضحك. والضحك: انبساط الوجه حتى تظهر الأسنان من السرور، فإن كان بصوت وكان بحيث يسمع من بعد فهو القهقهة، وإلا فالضحك. وإن كان بلا صوت فهو التبسم. وهذا باعتبار ما علمته من ضحكه، وإلا فقد جاء في أحاديث «ضحك حتى بدت نواجذه» (متفق عليه) رواه البخاري في الأدب من «صحيحه» ، ورواه مسلم في الفضائل (اللهوات) بفتح أوليه (جمع لهاة) بفتحهما أيضاً (وهي اللحمة التي في أقصى الفم) زاد في «المصباح» قوله المشرفة على الحلق، وتجمع أيضاً على لها كحصاة وحصى. باب الندب بفتح النون وسكون الدال المهملة فباء موحدة: أي الدعاء، يقال ندبه إلى الأمر ندباً من باب قتل دعاه (إلى إتيان) محل (الصلاة والعلم ونحوهما من العبادات بالسكينة والوقار) وذلك لما في ذلك من سكون النفس فيدخل في العبادة بخشوع وخضوع بخلافه إذا عدا في الطريق بذلك فلا يأتي إلا وهو مضطرب من إسراع المشي فيصده ذلك عن كمال الخشوع أو أصله. (قال الله تعالى) : ( {ومن يعظم شعائر الله فإنها} ) أي تعظيمها ( {من تقوى القلوب} ) أي ناشىء من تقوى قلوبهم أو أعمال ذوى تقوى القلوب، والآية قد تقدم الكلام فيها في باب تعظيم حرمات المسلمين.

1704 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: إذا أقيمت الصلاة) بذكر كلمات الإقامة ومثله بل أولى إذا لم تقم ولكن خشي قيامها، قيل والمراد هنا بالصلاة الجمعة بدليل تبويب البخاري للحديث بباب المشي إلى الجمعة لكن حملها على العموم أولى، إلا أن يقال يفهم غير الجمعة منها بقياس الأولى (فلا تأتوها) ندباً (وأنتم تسعون) ولا يخالفه قوله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} (الجمعة: 9) لأن المنهى عنه السعي بمعنى العدو والإسراع في المشي، والمأمور به المضي فيها، وقد قرىء «فامضوا إلى ذكر الله» وقد جاء في رواية في البخاري «فامشوا إلى الصلاة ولا تسرعوا» (وأتوها) ندباً (وأنتم تمشون) مشياً بلا إسراع ينافي الوقار كما يدل عليه تقييده بالجملة الحالية بقوله (وعليكم السكينة والوقار) بالرفع مبتدأ مؤخر كما ضبطه المصنف، واحتمال النصب الذي ضبطه به القرطبي على الإغراء فيه بعد عن السياق، لكن يؤيده أنه جاء في رواية بالسكينة بزيادة الياء تأكيداً، وإنما طلب لتكثير الخطأ المقصود لذاته، ثم محل ذلك ما لم يعدّ مقصراً بالتأخير في الجمعة بحيث ينسب إليه التفويت وإلا فيجب عليه الإسراع حينئذ، ثم عطف السكينة للتأكيد والبيان كما قال القرطبي بناء على ترادفهما، وقال المصنف بعد ذكر الجامع بينهما: الظاهر أن بينهما فرقاً، فالسكينة: التأني في الحركات واجتناب العبث، والوقار في الهيئة كغضّ البصر وخفض الصوت وعدم الالتفات. ورجح بأن التأسيس خير من التوكيد وأن الأصل في العطف التغاير قال: قال بعض شراح الجامع الصغير: ويرجع الأول بالاكتفاء بالسكينة عنه هنا في رواية فذلك ظاهر في ترادفهما. إلا أن يقال إن الفرق بينهما على القول به عند اجتماعهما، أما عند افتراقهما فأحدهما يغني عن الآخر كالفقير والمسكين (فما أدركتم) أي من الصلاة مع الإمام (فصلوا) الفاء في «فما» فصيحة قدر الحافظ بقوله: إذا فعلتم ما أمرتم به من السكينة وترك الإسراع، فما أدركتم فصلوا وهو أحسن من قول الكرماني: إذا بينت لكم ما هو أولى بكم فما أدركتم فصلوا (وما فاتكم) معه (فأتموا) أي أكملوا وحدكم، وفي لفظ فاقضوا وهو بمعنى فإذا فلا

ينافي رواية فأتموا، وقوله أتموا دليل للشافعية أن ما يفعله مع الإمام أول صلاته وما يأتي به بعده آخرها، لأن الإتمام لا يكون إلا للآخر لاستدعائه سبق الأول، قاله البرماوي (متفق عليه) لكن التصريح بالوقار من زيادة رواية البخاري كما قاله القرطبي، ورواه أحمد والأربعة كما في الجامع الصغير (زاد مسلم في رواية له: فإن أحدكم) أي الواحد منكم (إذا كان يعمد) بكسر الميم أي يقصد (إلى الصلاة فهو في صلاة) أي فيحصل له فضلها وإن لم يدركها معهم وقد جاء في ذلك حديث مرفوع، لكن محل ذلك كما في فتح الإله ما لم يعتد ذلك ويتساهل فيه. 2705 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه دفع مع النبي) أي قريباً منه بحيث يعدّ عرفا أنه مصاحب له ومنسوب إليه (يوم عرفة) أي عقبه بعد مغيب شمسه كما جاء التصريح بذلك في حديث جابر (فسمع النبيّ وراءه زجراً شديداً وضرباً) أي صوت ذلك (وصوتاً للإبل) أي من الرغو، قال في «المصباح» : رغت الناقة ترغو: أي صوّتت (فأشار بصوته إليهم) أي تأنوا ودعوا العجلة (وقال) زيادة في البيان (عليكم) أي الزموا (بالسكينة) الباء فيه مزيدة للتأكيد. وقيل عليكم اسم بمعنى خذوا فالباء معدية (فإن البر ليس بالإيضاع) أي إنما هو بالخضوع والخشوع والاستكانة لمن لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء (رواه البخاري) في كتاب الحج (وروى مسلم بعضه) وهو قوله في حديث جابر «ويقول بيده اليمنى أيها الناس السكينة السكينة» اهـ، وبه يتبين أن قوله في رواية البخاري المذكورة وقال «عليكم السكينة» أي بالإشارة إليها، ويحتمل أنه جمع بينها وبين اللفظ بذلك (البر الطاعة) كذا قاله المصنف، وفسر أيضاً بالخير والفضل فجعل الإيضاع

94 ـــ باب إكرام الضيف

ليس من البرّ بمعانيه المذكورة مقيدة بما إذا أدى إلى محظور كالتزاحم أو إيذاء الدواب حتى صوتت فإنها لا يكون منها عادة إلا عند ما يشق عليها وإلا فيطلب والله أعلم (والإيضاع) بسكون التحتية المنقلبة عن واو لسكونها وانكسار ما قبلها (بضاد معجمة قبلها همزة) أي وبينهما ياء ساكنة (وهو الإسراع) ومنه قوله تعالى: {ولأوضعوا خلالكم} (التوبة: 47) أي لأسرعوا ركائبهم في وسطكم بإيقاع العداوة بينكم. 94 - باب إكرام الضيف قال في المصباح: الضيف معروف، ويطلق بلفظ واحد على الواحد وعلى غيره لأنه مصدر في الأصل من ضافه ضيفاً من باب باع إذا نزل عنده، وتجوز المطابقة فيقال ضيف وضيفة وأضياف وضيفان، وأضفته: وضيفته إذا أنزلته وقريته، والاسم الضيافة. قال ثعلب: ضفته إذا نزلت به، وأنت ضيف عنده وأضفته إذا أنزلته عندك ضيفاً، تضيفني فضيفته: أي طلب مني القرى فقريته اهـ ملخصاً (قال الله تعالى) : ( {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين} ) كذا هو بالواو في بعض النسخ وبحذفها من أخرى والتلاوة كذلك، وهذه الجملة لتعظيم شأن الحديث وتنبيه على أن المصطفى إنما عرف ذلك بالوحي له، وإفراد الضيف جاء في اللغة الأولى بدليل وصفه بالمكرمين عند الله أو عند إبراهيم ( {إذ دخلوا عليه} ) ظرف للحديث أو بتقدير اذكر لا للفعل الماضي لاختلاف زمني إتيان الخبر ودخولهم ( {فقالوا سلاماً} ) أي نسلم عليك سلاماً ( {قال سلام} ) أي عليكم سلام وعدل إلى الرفع ليدل على الثبات فعمل بقوله تعالى: {فحيوا بأحسن منها} (النساء: 86) وقد بسطت هذا

المعنى في كتاب أحكام السلام من «شرح الأذكار» ( {قوم منكرون} ) أي أنتم قوم لا نعرفكم ( {فراغ} ) ذهب ( {إلى أهله} ) بخفية، فمن آداب المضيف أن يخفي إتيانه بالضيافة عن الضيف ( {فجاء بعجل} ) مشوي كما في الآية الأخرى {فجاء بعجل حنيذ} (هود: 69) (سمين {فقرّبه إليهم قال ألا تأكلون} ) ذكره بصيغة العرض تلطفاً في العبارة (وقال تعالى) : ( {وجاءه} ) أي لوطا ( {قومه يهرعون} ) يسرعون ( {إليه} ) عجلة لنيل مطلوبهم من أضيافه ( {ومن قبل} ) أي من قبل ذلك الوقت ( {كانوا يعملون السيئات} ) أي يأتون الرجال يعني هذه عادتهم من قديم الأيام ( {قال يا قوم هؤلاء بناتي} ) أي فتزوجوهن واتركوا أضيافي، كانوا يطلبونهن من قبل ذلك ولا يجيبهم وكان تزويج المسلمة من الكافر جائزاً، أو المراد من البنات نساؤهم وأضافهن إلى نفسه لأن كل نبيّ أبو أمته ( {هن أطهر لكم} ) من نكاح الرجال ( {فاتقوا الله ولا تخزون} ) تفضحوني ( {في} ) شأن ( {ضيفي} ) فإخزاء ضيف الشخص إخزاؤه فدل على الاهتمام بالضيف ودفع المؤذيات عنه ولو بما يتأذى به من المضيف فذلك من الإكرام المأمور به له ( {أليس منكم رجل رشيد} ) يعرف حقيقة ما أقول. 1706 - (وعن أبي هريرة) تقدم حديثه (رضي الله عنه) هذا وشرحه في باب صلة الأرحام، وبنحوه من حديث أبي شريح الخزاعي في حديث الباب الذي قبل ذلك (عن النبي قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر) أي إيماناً كاملاً (فليكرم ضيفه) قيل إكرامه تلقيه بطلاقة الوجه وتعجيل قراه والقيام بخدمته بنفسه، وقد جاء في الرواية «إن الله تعالى أوحى إلى إبراهيم أكرم أضيافك فأعد لكل شاة مشوية، فأوحى إليه أكرم فجعله ثوراً، فأوحى إليه أكرم فجعله جملاً، فأوحى إليه أكرم فتحير وعلم أن إكرامهم ليس في كثرة الطعام فخدمهم بنفسه،

فأوحى إليه الآن أكرمتهم» كذا في شرح ابن مالك على المشارق (ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر) أعدّ ذلك إيذاناً باستقلال جوابه في ترتبه على الشرط ترتب المسبب على السبب ولو لم يعدل احتمل ذلك واحتمل أن المرتب عليه مجموع الأمور الثلاثة فدفع ذلك كذلك (فليصل رحمه) وتقدم في باب صلة الأرحام أن صلة الرحم مطلوبة وبعض خصالها واجب وبعضها مندوب، فالأمر في ذلك كله إما من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز عند من يرى جوازه أو من باب عموم المجاز بأن يراد به مطلق الطلب الشامل للنوعين (ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر) كذلك اليوم الآخر هو يوم القيامة، وقيل له ذلك لأنه لا يوم بعده، وذكر في الجمل الثلاث لأنه حين المجازاة فذكره باعث على الإكثار من عمل البر زاجر عن الكف عن ذلك وكأن التارك لشيء من هذه الخصال غير مؤمن بما ذكر فيه (فليقل خيراً) من أمر بمعروف أو نهى عن منكر أو كلمة طيبة (أو ليصمت متفق عليه) . 2707 - (وعن أبي شريح) بضم المعجمة وفتح الراء وسكون التحتية بعدها مهملة (خويلد) بضم المعجمة وسكون التحتية مصغر خالد (ابن عمرو رضي الله عنه) الخزاعي الكعبي العدوى حلفاً، وقيل اسمه عبد الرحمن بن عمرو، وقيل هانىء، وقيل كعب. شهد رضي الله عنه فتح مكة مسلماً وكان يومئذ حاملاً أحد ألوية بني كعب، خرّج له الجماعة، روى له عن رسول الله عشرون حديثاً، أخرج منها الشيخان ثلاثة، اتَّفقا على حديثين وانفرد البخاري بالثالث. روى عنه نافع بن جبير والمقبري مات بالمدينة سنة ثمان وستين (قال: سمعت رسول الله يقول: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته) بالنصب بدل اشتمال: أي فليكرم جائزة ضيفه (قالوا: يا رسول الله وما جائزته؟ قال: يومه وليلته:) لفظ رواية البخاري في «الأدب» من «صحيحه» «فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة» وقد روى ذلك فيه مرفوعاً ومنصوباً. وعنده في الرقاق «قيل وما جائزته» الحديث لكن ليس فيه ذكر الجار، أما هنا فمرفوع خبر لمحذوف دل عليه ذكره في السؤال: أي جائزته إكرام يومه

95 ـــ باب استحباب التبشير

وليلته (والضيافة ثلاثة أيام) واختلف هل الجائزة منها أو زائدة عليها، فإن كان منها قدر كما ذكر وإلا قدر جائزته زيادة يومه وليلته على أيام الضيافة الثلاثة أشار إليها البدر الدماميني في مصابيحه، لكن قوله (وما كان وراء ذلك) أي زيادة عليه (فهو صدقة) يؤيد أنها منها، وقد قال العلماء: المطلوب من المضيف أن يبالغ في إكرام الضيف اليوم الأول وليلته، وفي باقي اليومين يأتي له بما يتيسر من الإكرام غير مبالغ فيهما كاليوم الأول، والله أعلم (متفق عليه) أخرجه البخاري في الأدب من «صحيحه» ، وأخرجه مسلم في الأحكام، ورواه أبو داود في الأطعمة والترمذي في البرّ وقال: حسن صحيح، والنسائي فيه وفي الرقاق وابن ماجه في الأدب اهـ ملخصاً من «الأطراف» للمزي (وفي رواية لمسلم: ولا يحل) أي يجوز (لمسلم) التنكير فيه للتعميم (أن يقيم عند أخيه) لا يخفي ما في التعبير بأخيه من الحث على النظر إلى حاله والتخفيف عنه فإن ذلك شأن الأخوّة (حتى يؤثمه) أي إلى أن يوقعه في الإثم (قالوا: يا رسول الله وكيف يؤثمه؟) أي يوقعه فيه (قال: يقيم عنده ولا شيء له يقريه به) فيؤدي ذلك إلى الوقيعة فيه واغتيابه وإلى الاستدانة المفضية إلى الكذب وخلف الوعد كما في حديث «يا رسول الله ما أكثر ما تستعيذ به من المغرم، فقال: إن الرجل إذا غرم وعد فأخلف وحدث فكذب» . 95 - باب استحباب التبشير أي الإخبار بما يسرّ المخبر، سمى بذلك لما يبدو على بَشرة المخبر من الحبور والسرور (والتهنئة بالخير) وذلك لما فيه من التوادّ والتحاب. (قال الله تعالى) : ( {فبشر} ) يا محمد

( {عباد} ) المشرّفون بشرف نسبة العبودية إليّ، وقوله ( {الذين يستمعون القول} ) أي القرآن ( {فيتبعون أحسنه} ) كالعفو عن نصف الصداق المخير الزوج بينه وبين أخذه. وكالعفو عن المعسر المخير الدائن بينه وبين إنظار المدين، وحذف المبشر به ليعم ويذهب الوهم كل مذهب، وفضل الله أعلى وأوعب. (وقال تعالى) : ( {يبشرهم ربهم} ) لا يخفي لطافة التعبير به: أي الذين رباهم بسابق عنايته بهم حتى أوصلهم لما سبق لهم في علمه ( {برحمة} ) عظيمة جليلة كما يؤذن به قوله ( {منه} ) فإن الذي من العظيم عظيم ( {ورضوان} ) وهو كواسطة العقد، قال تعالى: {ورضوان من الله أكبر} (التوبة: 72) فناسب توسيطه بين قلائد الصلاة ( {وجنات} ) والتنوين فيه كهو في رحمة، وقوله ( {لهم فيها نعيم مقيم} ) جملة اسمية في محل الصفة لها وأحد الظرفين خبر مقدم للاهتمام والثاني في محل الحال. (وقال تعالى) حكاية عن تبشير الملائكة لخواص المؤمنين يوم القيامة ( {وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون} ) أي على لسان أنبيائكم. (وقال تعالى) : ( {فبشرناه بغلام حليم} ) الأكثر أنه إسماعيل، وقيل إسحاق. (وقال تعالى) : ( {ولقد جاءت رسلنا} ) الملائكة ( {إبراهيم بالبشرى} ) ببشارة الولد وبه يظهر حكمة قران الكلمة لها بما قبلها أو بشارة بهلاك قوم لوط. وقال تعالى) : {وامرأته} أي سارة امرأة إبراهيم ( {قائمة} ) وراء الستر أو قائمة بخدمة الضيف ( {فضحكت} ) سروراً بالأمن أو

تعجباً وقالت لأضيافنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة وهم لا يأكلون طعاماً، أو تعجباً من خوف إبراهيم من رجال قلائل وهو بين خدمه وحشمه، أو ضحكت بمعنى حاضت، فإن الضحك من أسماء الحيض العشرة التي نظمتها في قولي: للحيض عشرة أسماء لنا وردت طمس وطمث وإعصار وإكبار ضحك دراس عراك بعد ذاك أتى حيض نفاس فراك هم يا جار ( {فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب} ) . (وقال تعالى) : ( {فنادته} ) أي زكريا ( {الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب} ) الجملة حال من مفعول نادى والظرف حال من فاعل يصلي، وسمى محل الصلاة محراباً لأن المصلي يحارب فيه الشيطان ( {إن الله} ) بكسر الهمزة بإضمار قائلين وبفتحها من غير إضمار وقرىء بهما ( {يبشرك بيحيى} ) اسم أعجمي على صورة المنقول من مضارع حيى. (وقال تعالى) : ( {إذا قالت الملائكة} ) أي اذكر وقت قولها ( {يا مريم إن الله يبشرك بكلمة} ) سمى كلمة لأنه صدر عن كلمة «كن» من غير ذكر، وقوله ( {منه} ) إيماء إلى تعظيم عيسى وتفخيم شأنه كما ذكرناه قريباً. (الآية، والآيات في الباب كثيرة معلومة) وكل ما أورده منها شاهد في شطر الترجمة الأولى (وأما الأحاديث فكثيرة جداً) بكسر الجيم: أي نهاية في الكثرة (وهي مشهورة في) كتب (الصحيح) التي أصحها الصحيحان منها.

1708ـ (عن أبي إبراهيم) وعليه اقتصر المصنف في باب الصبر (ويقال) فيه (أبو محمد) ويقال أبو معاوية عبد الله بن أبي أوفي تقدمت ترجمته في الباب المذكور وهو ووالده صحابيان (رضي الله عنهما أن رسول الله بشر خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها ببيت) أي عظيم، وقد جاء في مسلم بقصر (في الجنة من قصب) الظرف الأخير محتمل للحالية لتخصيص النكرة بالظرف قبله وللوصفية لنكارته (لا صخب) بفتح الصاد المهملة والخاء المعجمة وبالباء الموحدة (فيه) خبر لا (ولا نصب) وهو بالفتح فيهما، وكأن الرواية فيه كذلك وإلا فيجوز فيه من الأوجه الخمسة ما يجوز في «لا حول ولا قوة إلا بالله» (متفق عليه) رواه البخاري في فضل خديجة، ومسلم في الفضائل، ورواه النسائي في المناقب. (القصب) بفتح القاف والصاد المهملة بعدها موحدة (هنا) أي في هذا الحديث وما شابهه (اللؤلؤ المجوف) زاد في النهاية الواسع كالقصر المنيف، والقصب من الجوهر ما استطال منه في تجويف، وفي التوشيح للسيوطي في الطيراني عن فاطمة «قلت: يا رسول الله أين أمي؟ قال: في بيت من قصب، قلت: أمن هذا القصب؟ قال: لا، من القصب المنظوم بالدرّ واللؤلؤ والياقوت» (الصخب) بالصاد المهملة وإبدالها سينا لغة وبالخاء المعجمة المفتوحتين (الصياح واللغط) وهو مصدر صخب من باب تعب قاله في المصباح (والنصب) مصدر نصب بفتح النون وكسر المهملة (التعب) ونفي التعب عن الجنة لأنها ليست دار تكليف وأعمال وإنما هي منزل تشريف وإجلال. 2709 - (وعن أبي موسى الأشعري) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب الإخلاص (أنه توضأ في بيته) يحتمل أن يكون لإرادة الصلاة أو ليكون على طهارة (ثم خرج فقال:

لألزمنّ رسول الله ولأكوننّ معه يومي هذا) الإشارة إليه للتعميم: أي لا أكتفي ببعضه عن باقيه (فجاء المسجد فسأل عن رسول الله فقالوا: وجه) (بفتح الواو وتشديد الجيم: أي توجه كما سيأتي في الأصل، أو وجه نفسه (ها هنا، قال: فخرجت على أثره) بفتح الهمزة المثلثة وبكسر فسكون أي تبعته عن قرب، وجملة (أسأل عنه) حال إما من فاعل فخرج فتكون مترادفة، أو من الظرف فتكون متداخلة (حتى دخل بئر أريس) أي الحائط الذي هي فيه وسيأتي ضبطه في الأصل (فجلست عند الباب حتى) أي إلى أن (قضي رسول الله حاجته) أي حاجة الإنسان من البول أو الغائط (وتوضأ فقمت إليه) أي متوجهاً إليه (فإذا) فجائية (هو) مبتدأ خبره (قد جلس على بئر أريس) وأظهر لزيادة البيان (وتوسط قفها) سيأتي ضبطه، ومعناه: أي الركية التي تجعل حول البئر (وكشف عن ساقيه) تثنية ساق، وهي ما بين الركبة والقدم وهي مؤنثة تصغيرها سويقة، قاله في المصباح (ودلاهما) أي الساقين (في البئر فسلمت عليه ثم انصرفت) المعطوف عليه محذوف: أي فسلم علىّ ثم انصرفت (فجلست عند الباب فقلت: لأكونن بوّاباً للنبي اليوم) قال في «فتح الباري» : ظاهره أنه اختار ذلك وفعله من نفسه، وقد صرح به في رواية للبخاري في الأدب فزاد قوله «ولم يأمرني بذلك» قال ابن التين: فيه أن المرء يكون بوّاباً للإمام وإن لم يأمره كذا قال. ووقع في رواية للبخاري في مناقب عثمان من طريق آخر «فقال: يا أبا موسى أملك عليّ الباب» أخرجه أبو عوانة في «صحيحه» والرواياني في مسنده. وفي رواية الترمذي «فقال لي: يا أبا موسى أملك عليّ الباب فلا يدخلن عليّ أحد» فيجمع بينهما بأنه لما حدّث نفسه بذلك صادف أمر النبي له بحفظ الباب عليه، وأما قوله «ولم يأمرني» يريد أنه لم يستمر بوّاباً، وإنما أمره بذلك قدر ما قضى حاجته وتوضأ، ثم استمر هو من قبل نفسه، فبطل استدلال ابن التين به. وجاء عند أبي داود عن نافع بن عبد الخزاعي قال «دخل النبي حائطاً من حوائط المدينة فقال لبلال: أمسك عليّ الباب، فجاء أبو بكر يستأذن» فذكر نحو حديث

الباب وأخرجه الطبراني في «الأوسط» من حديث أبي سعيد. قال الحافظ: فإن صحح حمل على التعدد. قال: ثم ظهر لي وهم من بعض رواته، وأن النسائي أخرج الحديث عن نافع عن أبي موسى وهو الصواب، فرجع الحديث إلى أبي موسى واتحدت القصة اهـ. ولا ينافي هذا قول أنس: لم يكن له بواب، لأن مراده لم يكن بواب مرتب لذلك على الدوام (فجاء أبو بكر رضي الله عنه) يحتمل أنه علم كون النبي ثمة باستخبار كأبي موسى أو بإخبار سابق منه أو كان ذلك أمراً اتفاقياً (فدفع الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: أبو بكر) أي أنا أبو بكر، ففيه استحباب تصريح المستأذن باسمه إذا سئل منه تعيين نفسه (فقلت: على رسلك) بكسر الراء وسكون السين المهملة أي هينتك (ثم ذهبت) أي فوقفت ثم ذهبت (إلى رسول الله فقلت: يا رسول الله هذا أبو بكر يستأذن) جملة مستأنفة أو حالية أو خبر بعد خبر (فقال: ائذن له وبشره بالجنة، فأقبلت حتى قلت لأبي بكر: ادخل ورسول الله يبشرك بالجنة) فيه حسن ثمرة لزوم الأدب، زاد البخاري في رواية «فحمد الله» وكذا قال في حق عمر (فدخل أبو بكر) وسار (حتى جلس عن يمين النبي) لأنها أشرف الجهات (معه) في محل الحال من ضمير جلس وكذا (في القف) ويحتمل أن أحدهما ظرف لغو في القف (ودلى) أي أرخى (رجليه في البئر كما صنع النبيّ وكشف عن ساقيه) كأنه فعل ذلك ليبقى النبي على ما هو عليه من تلك الجلسة المرتاح هو بها، إذ لو لم يفعل ذلك لربما ترك النبي ما كان عليه منها، فأثر بفعله ذلك ما هو من إسقاط الكلفة ما فيه راحة المصطفى (ثم) لعل الإتيان بها لطول مقام أبي موسى ناظراً في فعل الصدّيق وما يقول وما يقال، ويحتمل أنها مستعارة للفاء: أي (فرجعت فجلست وقد تركت أخي) كان أبورهم وأبو بردة، قبل وآخر اسمه محمد وأشهرهم أبو بردة واسمه عامر (يتوضأ ويلحقني،

فقلت: إن يرد الله بفلان) كناية عن المبهم من أعلام العقلاء وقد تستعمل في غيرهم مجازاً ولذا قال (يعني أخاه خيراً يأت به) ليغنم التمتع بالحضور بين يدي المصطفى في الخلوة، ولعله أن يبشر بالجنة كما بشر من قبله (فإذا إنسان يحرّك الباب) على سبيل الاستئذان، وفيه حسن الأدب في الاستئذان. وأما قول ابن التين لعله كان قبل الاستئذان، فقال الحافظ في «الفتح» : إنه بعيد، لأنه جاء في رواية البخاري عن أبي موسى بلفظ «فجاء رجل فاستأذن» فعرف أنه حركة مستأذن، لا دافعاً ليدخل بغير إذن (فقلت: من هذا؟ فقال عمر بن الخطاب) فيه أنه إذا كان لا يحصل بيان المستأذن إلا بالزيادة على اسمه ذكر ما يحصل به رفع الإبهام (فقلت: على رسلك) متعلق بمحذوف دل عليه الحال: أي وقف حال كونك على هينتك (ثم جئت) عبر به بدل قوله أوّلاً ذهبت تفنناً في التعبير (إلى رسول الله وقلت: هذا عمر) استغنى عن نسبته لعلمه بما يدل على تعيينه عند المصطفى بمجرد ذكر اسمه من قرائن الأحوال التي منها وجود قرينه وهو الصديق (يستأذن، فقال: ائذن له وبشره بالجنة) مبادرة لإدخال السرور عليه، وإلا فذلك حاصل من تأخيره وتبشيره، وفيه قبول خبر الواحد، وفيه جواز العمل بالظن مع القدرة على اليقين (فجئت عمر) أظهر والمقام للضمير ولعله استلذاذاً بذكره لمحبته له (فقلت: أذن) بالبناء للفاعل (ويبشرك رسول الله بالجنة) لعل حكمة العدول مع ما فيه من التفنن في التعبير الإشارة إلى علوّ مقام الأول، لأن الجملة الإسمية المخبر عنها بالفعلية تدل على الدوام والاستمرار نظراً لصدرها وعلى التجدد والحدوث نظراً لعحزها، والجملة الفعلية المحضة لا دلالة فيها على الدوام والاستمرار، فناسب علوّ مقام الصديق على مقام عمر رضي الله عنهما أن تكون البشارة للصديق بجملة أبلغ من البشارة لعمر، والله أعلم (فدخل فجلس مع رسول الله في القفّ عن يساره) بفتح التحتية وتخفيف السين أي شماله (ودلى رجليه) عبر بهما بدل ساقيه تفنناً في التعبير، لأنّ تدلية كل من الأمرين مستلزم لتدلية الآخر (في البئر) ، ثم رجعت

فقلت: إن يرد الله بفلان خيراً، يعني أخاه يأت به، فجاء إنسان فحرك الباب مستأذناً (فقلت: من هذا؟ فقال: عثمان بن عفان، فقلت: على رسلك، وجئت النبي وأخبرته) أبدل العاطف، ففي الأولين ثم وهنا الواو وعمل الفعل، ففي الأولين جاء به قاصراً بمعنى حضرت، وفي الأخير متعدياً بمعنى أتيت، وحكاية إخباره، ففي الأولين بيَّن تفصيل ما وقع، وفي الثالث أجمل، وكل ذلك من بلاغته وتفننه في التعبير (فقال: ائذن له) جاء في رواية البخاري «فسكت هنيئة ثم قال: ائذن له» (وبشره بالجنة مع بلوى) هي اسم مصدر كالبلية والبلاء، قاله في المصباح (تصيبه فجئت فقلت: ادخل ويبشرك رسول الله بالجنة مع بلوى تصيبك) زاد في رواية للبخاري «فحمد الله ثم قال: الله المستعان» وفي رواية عند أحمد «فجعل يقول: اللهم صبراً حتى جلس» ووقع في رواية «فدخل وهو يحمد الله ويقول: اللهم صبراً» (فدخل فوجد القف قد ملىء فجلس وجاههم) بضم الواو وكسرها وتبدل تاء جوازاً فيقال تجاه: أي في محل مواجهتهم. وعند البخاري في باب مناقب عثمان «وأمرني رسول الله يحفظ الباب» (من الشق الآخر) من البئر المقابل لقفها، زاد في البخاري «وقال سعيد بن المسيب: فأولتها قبورهم» قال الحافظ: نية وقوع التأويل في اليقظة وهو الذي يسمى الفراسة والمراد اجتماع الصاحبين مع النبي في الدفن وانفراد عثمان عنهم في البقيع. وجاء في رواية أخرى وقال «فأوّلت ذلك انتباذ قبره من قبورهم» (متفق عليه) أخرجه البخاري في الفضائل وفي الفتن، ومسلم في الفضائل، وأخرجه النسائي في المناقب وقال: حسن صحيح، وأخرجه النسائي (وزاد) أبو موسى (في رواية) عند البخاري في باب مناقب عثمان (وأمرني رسول الله بحفظ الباب) وتقدم أن عنده أيضاً «فقال: يا

أبا موسى لعلك على الباب» وتقدم الجمع بين ما ورد في ذلك من الروايات وأنه ليس من مختلف الحديث كما توهمه الداودي فيما نقله عنه ابن التين، قال الحافظ: وكأنه خفى عليه وجه الجمع الذي قررته (وفيها) أي تلك الرواية، وظاهر أن ذلك في المذكورة في باب فضل عثمان، والذي رأيته أنها في رواية أخرى مذكورة في باب مناقب عمر وليس فيها أنه أمر بحفظ الباب (أن عثمان حين بشره حمد الله ثم قال: الله المستعان، قوله: وجه بفتح الواو وتشديد الجيم: أي توجه) مثل قدم بمعنى تقدم في قوله تعالى: {لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} (الحجرات: 1) وهذا أحد وجهين فيكون الفعل قاصراً وتقدم وجه آخر (وقوله بئر) بالهمز ويجوز تخفيفها (أريس هو بفتح الهمزة وكسر الراء بعدها مثناة تحت ساكنة ثم سين مهملة) قال في فتح الباري: هو بستان معروف بالقرب من قباء، وفي بئرها سقط خاتم النبيّ من أصبع عثمان (وهو مصروف) بإرادة المكان (ومنهم) أي النحاة (من منع صرفه) على إرادة البقعة. وظاهر كلامه أن الصرف كالمتفق عليه وأن المنع منه للبعض، لكن عبارة الحافظ في الفتح وهي يجوز فيهما الصرف وعدمه تقتضي تساوي الوجهين (والقف بضم القاف وتشديد الفاء هو المبني حول البئر) قال في «الفتح» : هو الركية التي حول البئر، وأصله ما غلظ من الأرض وارتفع والجمع قفاف. (قوله) أي أبي موسى لكل من المستأذنين (على رسلك بكسر الراء على المشهور) وعليه اقتصر في «النهاية» ونقله عن الجوهري (وقيل بالفتح أي أرفق) أي إن أريد به أرفق بنفسك فيكون بفتح الراء، أما بمعنى التؤدة والهيئة فهو بالكسر وهو المشهور وقد ذكر كذلك في «المطالع» ، والله أعلم.

3710 - (وعن أبي هريرة) تقدم حديثه هذا (رضي الله عنه) في باب الرجاء (قال: كنا قعوداً) جمع قاعد (حول رسول الله) قال المصنف: قال أهل اللغة: يقال قعدنا حوله وحواليه وحواله بفتح اللام في جميعها: أي على جانبه ولا يقال حواليه بكسر اللام (معنا) بفتح العين على اللغة المشهورة، ويجوز تسكينها في لغة حكاها صاحب «المحكم» والجوهري وغيرهما، وهي للمصاحبة: أي في جملتنا أيها القاعدون (أبو بكر وعمر) وخصا (رضي الله عنهما) لفضلهما على باقي الصحابة (في نفر) الظرفان يحتمل أن يكونا لغويين متعلقين بكان بناء على الصحيح من أن للأفعال الناقصة مصادر، وأن يكونا في محل الحال إما متداخلين أو مترادفين، والنفر بفتح النون والفاء جماعة الرجال من ثلاثة إلى عشرة، وقيل إلى سبعة، ولا يقال فيما زاد على العشرة (فقام رسول الله من بين أظهرنا) قال المصنف: هكذا هو هنا، وفي الموضع الآتي، وأظهرنا بالجمع قال: ووقع الثاني في بعض الأصول ظهرينا وكلاهما صحيح، قلت: وهو الذي أورده المصنف فيما يأتي قال أهل اللغة: يقال بين أظهركم وظهريكم وظهرانيكم بفتح النون: أي بينكم (فأبطأ علينا وخشينا أن يقتطع) بالبناء للمفعول (دوننا) أي يصاب بمكروه من عدو إما بأسر أو غيره (وفزعنا فقمنا، فكنت أول من فزع) قال القاضي عياض: الفزع يكون بمعنى الروع، وبمعنى الهيوب للشيء والاهتمام به وبمعنى العناية، قال: فيصح هنا هذه المعاني الثلاثة: أي ذعرنا لاحتباسه عنا، ألا تراه كيف قال: وخشينا أن يقتطع دوننا، ويدل على الوجهين الآخرين قوله فكنت أول من فزع (فخرجت أبتغي) أي أطلب (رسول الله) أي فسرت (حتى أتيت حائطاً) أي بستاناً، وسمى بذلك لأنه حائط لا سقف له (للأنصار) تقدم أنه علم بالغلبة على أولاد الأوس والخزرج، وقوله (لبني النجار) بدل منه بإعادة الجار (فدرت به هل أجد له بابا) أي متطلباً للوقوف على بابه (فلم أجد) أي بابا وحذف لدلالة ما قبله عليه (فإذا ربيع) بفتح الراء وكسر الموحدة، قال المصنف: على لفظ الربيع الفصل المعروف وجمعه أربعاء كنبى وأنبياء، ويأتي أنه النهر الصغير (يدخل في جوف حائط) أي

(بستان وإسناد الدخول إلى الربيع مجازي فالداخل ماؤه مثل قولهم نهر جار (من بئر خارجة) قال المصنف: هكذا ضبطناه بتنوين بئر وخارجة على أن خارجة صفة بئر، وكذا نقله ابن الصلاح عن أصل الحافظ أبي عامر العبدرى، والأصل مأخوذ عن الجارودي. وذكر الحافظ أبو موسى الأصبهاني أنه روى على ثلاثة أوجه: أحدها هذا، والثاني بتنوين بئر وإضافة خارجة إلى ضمير الحائط، والثالث إضافة بئر إلى خارجة بالهاء في آخره اسم رجل، قال المصنف: والوجه الأول هو المشهور خلافاً لصاحب التحرير في قوله إن الصحيح الوجه الثالث، قال: والأول تصحيف، قال: والبئر يعنون بها البستان، قال: وكثيراً ما يفعلون هذا يسمون البستان بالآبار التي فيها فيقولون بئر أريس وبئر حاء وبئر بضاعة وكلها بساتين اهـ.Y قال المصنف: وأكثره أوكله لا نوافق عليه (والربيع الجدول) جملة معترضة مفسرة يحتمل أن تكون من كلام أبي هريرة من جملة الحديث وهو ظاهر كلام المصنف الآتي، ويحتمل أن تكون مدرجة فيه، والجدول فعول: هو النهر الصغير قاله في المصباح (فاحتفزت) روى بالزاي وبالراء، قال القاضي عياض: رواه عامة شيوخنا بالراء، قال: وسمعناه بالزاي من طريق أخرى وهو الصواب، ومعناه: تضاممت ليسعني المدخل، وكذا قال ابن الصلاح، وإنه بالراء في الأصل الذي بخط أبي عامر العبدري، وفي الأصل المأخوذ عن الجارودي وأنها رواية الأكثر، وأن رواية الزاي أقرب من حيث المعنى، ويدل عليه تشبيهه بفعل الثعلب وهو تضامُّه في المضايق، وأنكر صاحب التحرير الزاي وخطأ رواتها واختار الراء وليس اختياره بمختار (فدخلت على رسول الله، فقال أبو هريرة) أي أنت أبو هريرة؟ (قلت: نعم يا رسول الله، قال: ما شأنك) قال الراغب في مفرداته هو الحال والأمر الذي يتفق ويصلح ولا يقال إلا فيما يعظم من الأحوال والأمور (قال: كنت بين ظهرانينا) بصيغة المثنى وتقدم مأخذه (فقمت فأبطأت علينا فخشينا أن تقتطع دوننا، ففزعنا فكنت أول من فزع، فأتيت هذا الحائط فاحتفزت كما يحتفز الثعلب) بفتح المثلثة وسكون المهملة آخره، وله كنى كثيرة أشهرها أبو الحصين. قال ابن النحوي في لغات «المنهاج» : ويقال فيه أيضاً أبو البحيص وأبو الحبيص وأبو حفص وأبو عومل وأبو النجم وأبو نومل وأبو الرباب اهـ (وهؤلاء الناس) الذين كنت بين أظهرهم أو هم

وغيرهم ممن اطلع على القصة، فأل للعهد أو للجنس (ورائي، فقال: يا أبا هريرة) وجملة (وأعطاني نعليه) جملة حالية من فاعل قال وقوله (فقال) تكرير للأول. قال المصنف وأتى بها لطول الفصل بين القول ومقوله بالنداء وبالجملة الحالية وهذا حسن وموجود في كلام العرب بل في القرآن، قال تعالى: {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} (البقرة: 89) قال محمد بن يزيد: فلما تكرير للأولى لطول الكلام وكذا قوله تعالى: {أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون} (المؤمنون: 35) فإنكم الثانية معادة لطول الكلام (اذهب بنعليّ) بفتح اللام وتشديد التحتية بدليل قوله قبله وأعطاني نعليه وقوله (هاتين فمن لقيت) أي من عربي وغيره من ذكر أو أنثى (من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله) أي مع قرينتها وهي محمد رسول الله فإن ذلك صار في عرف الشرع كناية عن مجموعهما، وقوله (مستيقناً بها قلبه) حال من فاعل يشهد أتى به لإخراج المنافق من هذه البشرى (فبشره بالجنة وذكر الحديث بطوله) وحاصله أن عمر أشار على النبي بترك التبشير بذلك لئلا يتكل الناس على ذلك فيتركوا العمل فوافق عليه، ولا يضرّ ذلك في مقصود الباب لأن الشاهد في أمره بذلك فدل على طلبه، وكونه ترك خصوص ذلك المبشر به لأمر يقتضيه لا يتعدى إلى غيره، والله أعلم (رواه مسلم) في كتاب الإيمان. (الربيع النهر) بفتح النون والهاء ويجوز إسكانها (الصغير وهو الجدول) أي إن الربيع والجدول مترادفان وإنهما اسمان للنهر الصغير (كما فسره في الحديث) الضمير البارز يرجع للربيع، وتقدم مرجع المستكن وما فيه من الاحتمال (وقوله احتفزت) وكذا قوله كما يحتفز الثعلب وكأنه سكت عنه اختصاراً لأن المادة واحدة (روى بالراء وبالزاي، ومعناه بالزاي تضاممت وتصاغرت حتى أمكنني الدخول) ومعناه بالراء حفر الأرض حتى اتسع فدخل من ذلك. 4711 - (وعن أبي شماسة) بفتح الشين المعجمة وضمها ذكرهما صاحب المطالع والميم

مخففة وآخره سين مهملة ثم هاء واسمه عبد الرحمن بن شماسة بن ذئب أبو عمرو، وقيل أبو عبد الله المهبري بفتح الميم وإسكان الهاء قاله المصنف (قال: حضرنا عمرو بن العاص) بحذف الياء كما تقدم توجيهه (رضي الله عنه وهو في سياق الموت) بكسر المهملة وتخفيف التحتية: أي حال حضور الموت (يبكي طويلاً) أي بكاء طويلاً، والجملة إما خبر بعد خبر أو حال من الضمير المستقرّ قبله (وحوّل وجهه إلى الجدار) معطوف على قوله أول القصة حضرنا (فجعل ابنه يقول: يا أبتاه) تكتب الهاء لأنها ينطق بها ساكنة عند الوقف (أما) بتخفيف الميم أداة استفتاح (بشرك رسول الله بكذا) كناية عن المبشر هو به (فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما نعد) بضم النون من الإعداد: أي نتخذه ذخراً أو عدة للمعاد (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) وقوله (إني كنت على ثلاثة أطباق) تفصيل لتعاقب أحواله وما عنده في كل حال. والأطباق بمعنى الأحوال، وذكَّر ثلاثة نظراً لتذكير طبق، وإلا فلو نظر لكونه بمعنى حال الأفصح تأنيث معناها بأن يقال حال حسنة لحذف التاء أشار إليه المصنف (لقد رأيتني) بضم التاء، من خصائص أفعال القلوب جواز كون فاعلها ومفعولها متحدين والمفعول الثاني محذوفاً لدلالة المقام عليه، وجملة (وما أحد أشدّ) خبر ما، وقوله (بغضا) منصوب على التمييز من نسبته إلى المخبر به عند (لرسول الله منى ولا أحبّ إليّ أن يكون قد استمكنت) أي تمكنت وصيغة الاستفعال للمبالغة (منه فقتلته) والجملة المنفية معطوفة على خبر ما، وأعاد النافي إيماء إلى أن النفي متوجه إلى كل منهما لا إلى مجموعهما (فلومت) بضم الميم على الأفصح وبه قرأ الجمهور قوله تعالى: {ولئن متم} قال أبو البقاء: ضم الميم هو الأصل لأن الفعل منه يموت ويقرأ بالكسر وهي لغة، يقال مات يمات كخاف يخاف، فكما تقول خفت تقول مت اهـ (على تلك الحال لكنت من أهل النار) أي من أصحابها المخلدين فيها أبداً وأتى باسم الإشارة الموضوع للبعيد في القريب إيماء لكمال قبحه، وذك ليعظم شكره لمولاه إذ أنقذه من أشد المتاعب وأشرّ المعايب، وعطف على تلك الحالة الثانية

قوله (فلما جعل الله الإسلام) أي حبه (في قلبي أتيت النبي) وذلك بعد الحديبية (فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك) بكسر اللام على أنها لام التعليل والفعل بعدها منصوب بأن مضمرة، ويجوز أن يكون بكسرها أو بإسكانها لام أمر كقوله «قوموا فلأصل لكم» على إحدى الروايات فيه، والمراد أن يبايعه على دخوله في اتباعه ونصرة الإسلام (فبسط يمينه فقبضت يدي) بفتح المثناة التحتية وكسر الدال المهملة: أي يميني لأنها التي يبايع بها، وإنما عبر بها دفعاً للتكرار المستعذب تركه في الأسماع (فقال: مالك) مبتدأ وخبر (يا عمرو؟ قلت: أردت أن أشترط، قال: تشترط بماذا؟) قال المصنف: هكذا ضبطناه بإثبات الباء، فيجوز أن تكون زائدة للتأكيد ويجوز أن يكون ضمن معنى يشترط معنى يحتاط (قلت: أن يغفر لي) بالبناء للمفعول وترك ذكر الفاعل لتعينه والعلم به وحذف المطلوب غفره للتعميم (قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله) من سائر الذنوب التي أعظمها الكفر، قال تعالى: قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف: (وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها) أي مما يحدث بين الإسلام وبينها (وأن الحج يهدم ما كان قبله) هذا محمول عند المحققين على صغائر الذنوب المتعلقة بحق الله تعالى، أما الكبائر فلا يكفرها إلا التوبة، والتبعات لا تكفر إلا برضى أهلها أو بفضل الله تعالى فيها، ولهذه الجمل المبشرات بهدم كل من الأعمال الثلاث لما قبله من الذنوب، أورده المصنف شاهداً لشطر الترجمة، وهنا كلام محذوف دل عليه المقام: أي فأسلمت وبايعت (وما كان أحد أحبّ إليّ من رسول الله) لأن الإيمان لا يتم إلا بذلك، قال رسول الله «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من أهله ونفسه والناس أجمعين» (ولا أجل في عيني منه) من الجلال: أي العظمة والمهابة (وما كنت أطيق أن أملأ عينيّ) بتشديد التحتية مثنى (منه) متعلق بأملأ، وقوله (إجلالاً له) علة لما قبله: أي

إن عدم الإضافة ناشىء عن الجلال الذي عليه صلوات الله وسلامه عليه (ولو سئلت أن أصفه) أي أذكر صفة خلقه بفتح الحاء المعجمة (ما أطقت) ذلك لأنه لا يكون إلا عن إمعان نظر من الواصف للذي يريد وصفه، ويمنع منه بالنسبة إليه ما أسبغ عليه من المهابة والجلال المانعين من تحديق البصر فيه كما قال (لأني لم أكن أملأ عيني) بصيغة المثنى أيضاً (منه ولو متّ على تلك الحالة) العظيمة الشأن الدال على ذلك فيها الإشارة إليها بما يشار به للبعيد تعظيماً وتفخيماً (لرجوت أن أكون من أهل الجنة) فيه أن العارف وإن عمل الصالحات ما عمل لا تفارقه خشيته لمولاه قال تعالى: {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة} (المؤمنون: 60) وذلك لأنه لم يركن إلى هذه الأعمال الصالحة ويقطع بكونه من أهل الجنة لكونها من أعماله، بل اعتمد على قلبه وأقبل بشراشره ولبه على مولاه راجياً أن ينظمه في سلك من والاه (ثم ولينا أشياء ما أدرى ما حالي فيها) وهذا منه مزيد تواضع لمولاه وإلا فهو من علماء الصحابة، والصحابة كلهم عدول (فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة) وهي الرافعة للصوت بالبكاء مع تعداد الأوصاف كيا جبلاه لأنها ملعونة في السنة ولا ينبغي صحبتها والنياحة حرام (ولانار) وذلك للتفاؤل بالنجاة منها وكراهة لصحبتها للميت كما جاء في الحديث، ثم قيل سبب الكراهة لكونها شعار الجاهلية وقال ابن حبيب المالكي: كره تفاؤلاً بالنار، نعم إن دعا لها داع من تغير الميت ومزيد نتنه ولا تنكسر سورة ذلك عن حامليه إلا بما يبخر به فلا كراهية (فإذا دفنتموني فسنوا على التراب سناً) فيه استحباب صب التراب في القبر فإنه لا يقعد عليه بخلاف ما يعمل في بعض البلاد (ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور) ما مصدرية والجزور بفتح الجيم وضم الزاي: المذبوح من الإبل خاصة وسواء كان ذكراً أم أنثى وجمعه جزر كرسول ورسل وجزران أيضاً ثم يجمع على جزائر (ويقسم لحمها حتى استأنس بكم) أي كي أستأنس بكم (وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي) أي من فتاني القبر. وإنما أطلق عليهما صيغة الجمع مجازاً من إطلاقه على ما فوق الواحد. قال المصنف: وفي هذه الجملة من الفوائد: إثبات فتنة القبر وسؤال الملكين وهو

96 ـــ باب وداع بكسر الواو: أي موادعة (الصاحب)

مذهب أهل الحق، واستحباب المكث عند القبر بعد الدفن لحظة نحو ما ذكر لما ذكر. وفيه أن الميت يسمع حينئذ من حول القبر (رواه مسلم. قوله «سنوا» روى بالشين المعجمة وبالمهملة) قال المصنف في شرح مسلم ضبطناه بهما، قال: وكذا قال القاضي عياض إنه بهما (أي صبوه قليلاً قليلاً) وقيل بالمهملة الصب في سهوته وبالمعجمة التفريق. تنبيه: الترجمة معقودة للتبشير والتهنئة بالخير، والذي أورده المصنف إنما هو في الشطر الأول لا في الثاني، ويمكن أن يدعي في ضمن ذلك تهنئة بما بشر به المبشر، والله أعلم. 96 - باب وداع بكسر الواو: أي موادعة (الصاحب) يحتمل كون المصدر مضافاً لفاعله، فالمفعول محذوف ويحتمل العكس: أي موادعة الشخص الصاحب (ووصيته عند فراقه) أي بما يتواصى به من البرّ والتقوى (لسفر وغيره) متعلق بفراقه وغيره كعدم التلاقي في البلاد أو الموت (والدعاء له وطلب الدعاء منه) أي حينئذ لأن القيد بحرف على جميع المتعاطفات. (قال الله تعالى) : ( {ووصى بها} ) أي بالملة وكلمة الإخلاص ( {إبراهيم بنيه ويعقوب} ) أي وصى هو أيضاً بنيه، ويجوز أن يكون معطوفاً على إبراهيم والمفعول محذوف: أي وصى يعقوب بنيه، قال السفاقسي: وهذا أظهر مما قبله ( {يا بنيّ} ) على إضمار القول أو معمول وصى لأنه نوع من القول مذهبان: الأول بصري، والثاني كوفي، وذلك مقول كل منهما على القراءة السبعية برفع يعقوب وأنه عطف على إبراهيم، أما على إعراب يعقوب

مبتدأ محذوف الخبر كما بدأنا به فيكون قوله يا بنيّ من كلامه، وقرىء شاذاً بنصبه عطفاً على مفعول وصي فيكون يا بنيّ من قول إبراهيم وحده (إن الله اصطفى لكم الدين) أي دين الإسلام ( {فلا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون} ) أي دوموا على الإسلام حتى لا يصادفكم الموت إلا عليه ( {أم كنتم شهداء} ) أم منقطعة: أي بل كنتم والهمزة للإنكار: أي ما كنتم حاضرين وهذا رد لليهود حيث قالوا للنبي: ألست تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية ( {إذ حضر بعقوب الموت} ) الظرف متعلق بشهداء، وهنا تم الكلام ثم ابتدأ بقوله ( {إذ قال لبنيه} ) كأنه قال: اذكر إذ قال ذلك الوقت حتى لا تدّعي عليه اليهود، أو متعلق بقالوا نعبد. قلت: أو بدل من إذ الأولى أشار إليه السفاقسي ( {ما تعبدون من بعدي} ) سؤال عن صفات المعبود ( {قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحداً} ) نصب على البدل من إلهك قال السفاقسي أو حال موطئة: أي القصد الوصف، وجىء باسم الذات توطئة، وإجازة الزمخشري نصبه على الاختصاص مردودة بأن المنصوبات كذلك لا تكون إلا نكرة، وتمحل له السفاقسي بأنه لم يرد الاختصاص الصناعي بل المعنوي وإسماعيل عمه فهو من التغليب. قلت: أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه لأن العم يسمى أبا مجازاً ( {ونحن له مسلمون} ) حال من مفعول نعبد أو معطوفة على جملة نعبد، وإجازة الزمخشري إعرابها معترضة رده السفاقسي بأنها التي تفيد تقوية بين متلازمين، وليست هذه كذلك لأن ما قبلها وما بعدها كلامان مستقلان. وأيضاً ما قبلها من كلام بني يعقوب وما بعدها من كلام الله، وشرط الاعتراضية أن تكون بين متلازمين من متكلم واحد ليؤكد بها كلامه اهـ ملخصاً. وقد بينت في شرح نظم القواعد في الجمل التي لا محل لها أن مراد الزمخشري الاعتراض البياني لا النحوي، أشار إليه ابن هشام في المغنى وقال: إنه قد يردّ عليه من لا يعرف ذلك العلم كأبي حيان توهماً منه أن لا اعتراض إلا ما يقوله النحاة من الاعتراض بين شيئين متطالبين اهـ. (وأما الأحاديث) النبوية (فمنها) : 1712 - (حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه الذي سبق) مع شرحه (في باب إكرام أهل بيت رسول الله) وقوله

(قال) إلى آخر الحديث بدل من حديث في محل رفع (قام) أي انتصب (فينا رسول الله خطيباً) قال: وفيه طلب القيام حال الخطبة (فحمد الله) بأوصافه الثبوتية (وأثنى عليه) بتنزيهه عما لا يليق به الأوصاف (ووعظ وذكر) يحتمل أن يكون من عطف العام على الخاص وأن يكون من عطف الرديف (ثم قال: أما بعد، ألا) أداة استفتاح أتى بها مع ما قبلها مبالغة في إنباه المخاطبين وكذا قوله (أيها الناس) أي انتبهوا لسماع ما أقوله لفخامة شأنه، والفاء في قوله (فإنما أنا بشر) عاطفة على ذلك، وقوله (يوشك) بضم أوله وكسر ثالثه: أي يقرب (أن يأتي رسول ربي) أي بالانتقال إليه وإن كان يخير بين ذلك وبين البقاء في الدنيا كما جاء ذلك في حديث عائشة، لكن من المعلوم أنه لا يؤثر على النقلة إليه البقاء في الدنيا، فلذا قال (فأجيب) بالنصب عطفاً على ما قبله، ويحتمل الرفع على إضمار مبتدأ، وابتداء الوصية التي هي محل شاهد الترجمة من الحديث قوله (وأنا تارك فيكم ثقلين) سميا به لعظمهما، قال تعالى: {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً} (الأحزاب: 21) (أولهما كتاب الله) أي القرآن (فيه الهدى) لا منافاة بينه وبين قوله {هدى للمتقين} (البقرة: 2) لأنه إما أن يكون ما في الحديث من باب التجريد كقوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (المزمل: 5) وهو في نفسه أسوة لكن أتى بذلك للمبالغة، أو يكون قوله {هدى للمتقين} بتأويل الوصف، أو على تقدير المضاف، أو حمل المصدر عليه مبالغة لاشتماله عليه حتى كأنه عينه فلا ينافي كونه فيه (والنور) أي من ظلمات الجهالة والضلالة (فخذوا بكتاب الله) أظهر والمقام للإضمار تحريضاً على الأخذ به لشرفه بشرف المضاف إليه (واستمسكوا به) يحتمل أن يكون بمعنى ما قبله فيكون إطناباً، وأن يكون المراد من الجملة الأولى التناول، ومن الثانية الدوام على ذلك وعدم الانفكاك عنه (فحث) أي حرض (على كتاب الله) أي على التمسك به والاعتصام بحبله (ورغب فيه) بذكر ما فيه من الثواب والدرجات في المآب (ثم قال: وأهل

بيتي) أي والثاني من الثقلين أهل بيتي (أذكركم الله في أهل بيتي) بالوداد لهم ومناصرتهم والتمسك بمحبتهم والتنسك بمودتهم، قال الصديق رضي الله عنه «ارقبوا محمداً في أهل بيته» كما تقدم في باب فضل الآل المذكور (رواه مسلم) وقد سبق بطوله في الباب المذكور. 2713 - (وعن أبي سليمان مالك بن الحويرث) بضم المهملة وفتح الواو وسكون التحتية آخره مثلثة، ويقال ابن الحارث، وقال شعبة: ابن حويرثة بن أشيم بالمعجمة والتحتية وزن أحمد الليثي. قال ابن الأثير: يختلفون في نسبه إلى ليث ثم حكاه وقال: ولم يختلفوا في أنه من ليث بن بكر بن عبد مناف بن كنانة وهو من أهل البصرة، قدم على النبي في شببة من قومه فعلمهم الصلاة، روى له عن رسول الله خمسة عشر حديثاً، اتفقا على حديثين منها، وانفرد البخاري بحديث، توفي (رضي الله عنه) بالبصرة سنة أربع وتسعين (قال: أتينا النبيّ) أي في وفد لنتعلم أحكام الدين (ونحن شببة) بفتح المعجمة والموحدتين جمع شاب ككاتب وكتبة (متقاربون) صفة لما قبله أو خبر بعد خبر (فأقمنا عنده عشرين ليلة) نتعلم (وكان رسول الله رحيماً رقيقاً) جملة في محل الحال من فاعل أقمنا، ويمنع كونها من الضمير المضاف إليه أن شرط مجىء الحال من المضاف إليه كونه بعضاً للمضاف أو في منزلته أو معمولاً له قبل الإضافة، وكان في الحديث مثلها في قوله تعالى: {وكان الله غفوراً رحيماً} (النساء: 96) للاستمرار (فظنّ أنا قد اشتقنا) قال في «المصباح» : الشوق إلى الشيء نزاع النفس إليه فهو مصدر شاقني الشيء شوقاً من باب قال، ويتعدى بالتضعيف فيقال شوقته واشتقت إليه، ومنه يعلم أن نصب (أهلنا) على تزع الخافض (فسألنا عمن تركنا) العائد ضمير منصوب محذوف، وقوله (من أهلنا) في محل الحال بيان الموصول

(فأخبرناه فقال: ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم) عطف على ارجعوا وعطفه بالواو إيماء إلى حصول امتثال الأمر به عقب العود أو بعده (ومرورهم) استئناف كأنه قيل ماذا نعلمهم فقال مروهم بالطاعات كذا وكذا والأمر بها مستلزم للتعليم (وصلو صلاة كذا) كناية عن مبهم من الصلوات الخمس (في حين كذا) كناية عن وقت تلك الصلاة المكنى عنها (وصلاة كذا في حين كذا) بالنصب على الظرف وكأن التخالف بينهما للتفنن في التعبير (فإذا حضرت الصلاة فليؤذن) يجوز تسكين لام الأمر بعد الفاء وكسرها هو الأصل (لكم أحدكم) أي الواحد منكم لأن القصد منه الإعلام بدخول الوقت فاستوى حصول ذلك من الكامل وغيره (وليؤمكم) قال البرماوي: يجوز فتح ميم يؤمكم للخفة وضمها للإتباع والمناسبة. قلت: وكسرها على أصل التخلص من التقاء الساكنين (أكبركم) أي أسنكم وفي الحديث ما يدل على تساويهم في الأخذ عنه ومدة الإقامة عنده فلم يبق إلا السن (متفق عليه) روياه في كتاب الصلاة (زاد البخاري في رواية له) انفرد بها عن مسلم (وصلوا كما رأيتموني أصلي) عطف على قوله ارجعوا إلى أهليكم أو على قوله وصلوا (قوله رحيماً رقيقاً روى بفاء وقاف) من الرفق لرفقه بأمته وشفقته عليهم كما قال تعالى: {رؤوف رجيم} (التوبة: 128) قال في «المطالع» : هي رواية القابسي (وروى بقافين) قال في «المطالع» هي للأصيلي وأبي الهيثم. 3714 - (وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: استأذنت النبي في العمرة) أي

سألته الإذن فيها، ففيه مزيد الأدب والوقوف عند أمره حتى في أفعال البرّ (فأذن لي وقال: لا تنسنا) يحتمل أن يكون الضمير له ولأتباعه ويحتمل كونه أراد نفسه التي هي أعظم ذوات المكونات وأشرفها (يا أخي) تقدم ضبطه في باب زيارة أهل الخير (من دعائك) وقوله (فقال كلمة) بالنصب مراد بها المعنى اللغوي: أي قوله لا تنسنا يا أخي من دعائك (ما يسرّني أن لي بها) أي بدلها (الدنيا) لحقارتها وخستها بالنظر إلى ما أذن به هذا القول من رفعة عمر من الإعلام بعلو رتبته عند مولاه وأنه مما يجاب دعاؤه، وقوله يا أخي (وفي رواية قال أشركنا) أي اجعلنا شركاء لك (يا أخيّ في دعائك. رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث صحيح) . وفي الحديث غير ما تقدم من القوائد مزيد تواضعه والحث على سؤال الدعاء من سائر المسلمين وإن كان الطالب أشرف من المطلوب منه. 4715 - (وعن سالم بن عبد الله بن عمر أن عبد الله بن عمر) بن الخطاب تابعي جليل، قال في التقريب: يكنى أبا عمر، وقيل أبا عبد الله أحد الفقهاء السبعة، وكان ثبتا عابداً ثقة من كبار التابعين خرّج عن الجميع (رضي الله عنهما كان يقول لرجل إذا أراد سفراً) أي وتلبس به وبمقدماته (ادن) أي اقرب (مبنى حتى أودعك كما كان رسول الله يودعنا) وفيه كما فضله وتوديعه مع علو مقامه لأصحابه (فيقول: أستودع الله دينك) أي أودعه إياه. والسين لتأكيد ذلك وتحقيقه، وذكر الدين لأن السفر مظنة التساهل في أمره لمشقته، ولذا رخص للمسافر في أمور من العبادات (وأمانتك) أي وما ائتمنت عليه من التكاليف الشرعية، أو الحقوق الإنسانية (وخواتيم عملك) ذكره اهتماماً بشأنه لأن المدار عليه

وهذا الحديث شاهد لطلب وداع المسافر (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) . 5716 - (وعن عبد الله بن يزيد الخطمي الصحابي) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه قال: كان النبي إذا أراد أن يودع الجيش) الجماعة الخارجين للقتال (قال: أستودع الله دينكم وأمانتكم وخواتيم عملكم) لعل إفراد الأولين لأنهما مصدران يقال أمن بكسر الميم أمانة، والأصل فيه الإفراد والتذكير، بخلاف خاتمة فإنه على صيغة الوصف الذي شأنه خلاف ذلك، ولعل في جمعه إيماء إلى إكثار الأعمال الصالحة عند الوفاة ليكون الختم بالكثير الطيب فأوصى بجمع ذلك لذلك، والله أعلم، (حديث صحيح) هذا على مذهبه الذي اختاره من جواز التصحيح ومقابله في هذه الأزمنة الأخيرة لمن تأهل له خلافاً لابن الصلاح المانع لذلك، وقد رده المصنف في «الإرشاد والتقريب» (رواه أبو داود وغيره) وهو الحاكم في «المستدرك» (بإسناد صحيح) والأصل في صحته صحة المتن ما لم يعرض للمتن شذوذ أو علة. 6717 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله إني أريد سفراً فزودني يحتمل أن تكون عاطفة على مقدر: أي فائذن لي وزودني كما تقدم من فعل عمر في استئذان النبي، ويحتمل تقدم الاذن له في ذلك وإنما جاء لطلب الدعاء، ففيه استحباب مجيء المسافر لأصحابه وسؤاله دعاءهم، وعلم) بقرينه حال السائل أن مراده الإعداد بالدعاء فلذا قال (فقال: زوّدك الله التقوى) قال تعالى: {وتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى} (البقرة: 197) وإنما كانت كذلك لأنها الزاد الذي يقطع به العقبة الكئود وينجي بها

97 ـــ (باب الاستخارة)

برحمة الله تعالى المرء في اليوم المشهود (قال زدني) لا يخفي ما بين زودني وزدني من الجناس: أي من هذا الزاد (فقال: وغفر ذنبك) أي ما أسلفته من المخالفة (قال: زدني، قال: ويسر لك الخير) الديني والدنيوي (حيثما كنت) ما صلة أي في أيّ مكان كنت (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) . 97 - (باب الاستخارة) أي سؤال خير الأمرين والتوفيق له (والمشاورة) أي للغير عند إرادة شيء ما. وذكر دليل الثاني في الترجمة قبل الأول منها لكونه من الكتاب. واختصر فقال (قال الله تعالى: {وشاورهم في الأمر} ) أي الذي تصح فيه المشاورة وذلك لتطبيب قلوبهم. (وقال الله تعالى) : ( {وأمرهم شورى بينهم} ) شورى اسم مصدر اشتور: أي ذو اشتوار كما قال المصنف مبيناً لحاصل المعنى (أي يتشاورون فيه) فدل الثناء بذلك في معرض المدحة أنه ممدوح محبوب. 1718 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله يعلمنا الاستخارة) أي طلب الخيرة: أي يعلمهم كيفيته من صلاة ودعاء (في الأمور) التي يريد الإقدام عليها مباحة كانت أو عبادة، لكن بالنسبة لإيقاع العبادة في ذلك الزمان الذي عزم عليه فيه لا لأصلها

فإنه خير لا استخارة فيه (كلها) في محل الحال أو الصفة من مفعول يعلمنا (كالسورة من القرآن) أي تعليمها كتعليم السورة وهذا فيه بيان إتقانه للذكر وعدم اشتباهه. عليه كالمشبه به (يقول: إذا همّ أحدكم بالأمر) الجائز فعلاً أو تركاً (فليركع) ندباً (ركعتين) بيان لأقل ما تحصل به (من غير الفريضة) بيان للأكمل وإلا فيحصل فضلها بما إذا صلى فريضة أو راتبة ونوى بها الاستخارة، فإن لم ينوها سقط عنه الطلب وهل يحصل ثواب أولاً؟ فيه الخلاف في ذلك في «التحفة» (ثم ليقل) أي عقب فراغه من الصلاة مستقبل القبلة رافعاً يديه بعد الحمد والصلاة على النبي إذ هما سنتان في كل دعاء. (اللهم إني أستخيرك بعلمك) أي أسألك أن تشرح صدري لخير الأمرين بسبب علمك بكيفيات الأمور وجزئياتها، إذ لا يحيط بخير الأمرين إلا العالم بذلك وليس كذلك إلا أنت. فالباء سببية، ويحتمل أن تكون للقسم الاستعطافي وهما في الباء في قوله (وأستقدرك بقدرتك) . أي أسأل منك أن تقدرني على خير الأمرين، قال في فتح الإله: وجعل الشارح الباء فيهما للاستعانة كهي في بسم الله مجراها فيه تكلف، والفرق بين ما هنا وما في الآية واضح للمتأمل (وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر) على كل ممكن تعلقت به إرادتك، والجملة تعليل لما قبله (ولا أقدر وتعلم) كل شيء كل وجزئي وممكن وغيره (ولا أعلم) أي شيئاً من ذلك إلا ما علمَّتني (وأنت علام الغيوب) لا يشذّ عن علمك منها شيء ولا يحيط أحد من خلقك منها بشيء إلا ما علمته باطلاع على جزئياتها، وكأن حكمة تشويش النشر الإشارة بتقديم العلم أولاً إلى عمومه، وبتقديم القدرة ثانياً إلى أنها الأليق والأنسب بالمطلوب الذي هو الإقدار على فعل خير الأمرين على حد تأخيره ولجملة وأنت علام الغيوب، وترك وأنت القادر على كل شيء، ومن ثم جعل سؤال الإقدار مرتباً عليه في قوله (اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر) أي الذي عزمت عليه (خير لي في ديني ومعاشي) بأن لا يترتب عليه نقص ديني ولا دنيوي (وعاقبة أمري، أو) شك من الراوي (قال: عاجل أمري وآجله) هذا إطناب

لشمول ديني ومعاشي لذلك، ومقتضى قول المصنف يندب الجمع في الدعاء بين كثيراً بالمثلثة وكبيراً لشك الراوي في الذكر الوارد في ذلك يوم عرفة وعقب الصلاة استحباب جميع المشكوك في أحدهما حتى يتحقق إتيانه بالوارد والزيادة عليه لأجل تحقق الإتيان به فغير منافية للاتباع والأمر بتكريره مرتين لذلك لا حاجة إليه (فاقدره) قال القاضي عياض بالكسر والضم في الدال، واقتصر الأصيلي على الكسر: أي أفض به وهيئه (لي ويسره لي) عطف تفسير أو أخص، إذ الإقدار قد يكون نوع مشقة (ثم) إذا حصل لي وحكمة ثم هنا أن في حصول المسؤول نوع تراخ غالباً (بارك لي فيه) بنموه ونمو آثاره وسلامتها من جميع القواطع (وإن) أتى بها هنا وفي عديله السابق مع أن المقام لإ إذا تحقق إحاطة علمه تعالى بذلك نظراً إلى حال المتكلم وشكه في الخير منهما (كنت تعلم أن هذا امر شرّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال: عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه) صرح به للمبالغة والتأكيد لأنه يلزم من صرفه عنك صرفك عنه وعكسه، ويصح كونه تأسيساً بأن يراد باصرفه عني: لا تقدرني عليه، وباصرفني عنه: لا تبق في باطني اشتغالاً به. قال ابن حجر الهيثمي في «حاشية الإيضاح» : وينبغي التفطن لدقيقة قد يغفل عنها ولم أر من نبه عليها، وهي أن الواو في المتعاطفات التي بعد خير على بابها وفي التي بعد شرّ بمعنى أو، لأن المطلوب تيسيره لا بد وأن يكون كل أحواله المذكورة ديناً ودنيا خبراً، والمطلوب صرفه يكفي كون بعض أحواله شرّاً، وفي إبقاء الواو على حالها إبهام لأنه لا يطلب صرفه إلا إن كانت جميع أحواله لا بعضها شرّاً وليس مراداً كما هو ظاهر اهـ. وفيه نظر ذكرته في شرح الأذكار (واقدر لي الخير) أي ما فيه ثواب ورضا منك على فاعله (حيث كان) أي أقدرني على فعله في أيّ مكان وأي زمان حصل، وكأن حكمه تركه هنا «ويسره لي» أن الخير العام لا بد في حصوله من مشقة وتعب غالباً أو دائماً، بخلاف ما سبق فإنه خاص وانتفاء المشقة عليه كثير (ثم رضني به) حتى لا أزدري شيئاً من نعمك ولا أحسد أحداً من خلقك، وحتى أندرج في سلك الراضين الممدوحين بقولك {رضي الله عنهم ورضوا عنه} وجاء في رواية النسائي (ثم أرضني بقضائك) (ويسمى) عطف على فليقل لأنه في معنى الأمر حال من فاعله: أي فليقل ذلك مسمياً (حاجته) فيقول: اللهم إن كنت تعلم أن حجي في

98 ـــ باب استحباب الذهاب إلى العيد وعيادة المريض والحج

هذا العام مثلاً (رواه البخاري) في أبواب صلاة الليل وفي الدعوات من «صحيحه» ، ورواه أبو داود في الصلاة، وكذا الترمذي وقال: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي الموالي وهو مدني ثقة، وأخرجه النسائي في النكاح وفي النقوء وفي اليوم والليلة، وكذا لخص من «الأطراف» . 98 - باب استحباب الذهاب إلى العيد وعيادة المريض والحج فقد ذهب في صعوده إلى عرفة من طريق ضب وفي رجوعه منها من طريق المأزمين (والغزو والجنازة ونحوها) كالسعي إلى الجمعة والجماعة (من طريق والرجوع من طريق آخر) تأكيد وإلا فتنكير موصوف يدل على مغايرته لما قبله، وقوله (لتكثير مواضع العبادة) علة للتخالف فيما ذكر. وهو أحد الأقوال في مخالفته بين الطريقين في الذهاب إلى العيد. 1719 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: كان النبي إذا كان يوم العيد خالف الطريق) أي في خروجه إلى الصلاة ورجوعه منها (رواه البخاري) وعند الترمذي والحاكم في «مستدركه» من حديث أبي هريرة «كان إذا خرج يوم العيد في طريق رجع في غيره» وبمعناه قول المصنف. (قوله خالف الطريق: يعني ذهب في طريق ورجع في طريق آخر) قال في «فتح

الإله» : ويسن أن يجعل الطويل للذهاب حيث لم يخش فوت نحو جماعة، والقصير للرجوع لأنه ليس قاصداً قربة وإن قلنا يثاب على الرجوع أيضاً على خلاف فيه. واختلفوا في سبب مخالفته بين الطريقين، فقيل جعل الطويل للذهاب ليكثر الثواب، والقصير للرجوع لأنه لا ثواب فيه عن جمع، أو ثوابه أقل، أو لشهادة الطريقين له: أي لفظاً يوم القيامة أو ليتبرّك أهلهما به، أو ليعمهما بركته وخيره، أو لإشاعة ذكر الله فيهما، أو لتصدّقه على فقرائهما، أو لنفاد ما يصدّق به عند الذهاب، أو لزيارة قبور أقاربه فيهما، أو غيظ المنافقين أو الحذر منهم، أو التفاؤل بتغيير الحال إلى المغفرة والرضا أو لخسية الرحمة، ورجحه بعض أئمتنا لحديث فيه، وإنما ندب ذلك حتى لمن لم يشاركه في شيء مما ذكر كما تقرر تأسياً به كالرمل والاضطباع اهـ. 2720 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله كان يخرج) أي من المدينة (من طريق الشجرة) قال السمهودي في «الخلاصة» : يضاف إليها مسجد ذي الحليفة (ويدخل من طريق المعرس) بضم الميم وفتح المهملة والراء المشددة آخره مهملة. قال السمهودي: في مسجد المعرس (وإذا دخل مكة) أيّ دخول (كان يدخل من الثنية العليا) أي من الحجون الثاني (ويخرج من الثنية) بفتح المثلثة وكسر النون وتشديد التحتية الطريق الضيقة بين الجبلين (السفلي) هي المسماة بالشبيكة، وحكمة ذلك الذهاب من طريق والعود من أخرى لما ذكر من الحكم، وخصت العليا بالدخول لقصد الدخل موضعاً عالي المقدار والخارج عكسه، ولأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان حين قال {فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم} (إبراهيم: 37) على العليا كما روي عن ابن عباس، قاله السهيلي (متفق عليه) .

tit/2>99 - باب التسمية في أوله والحمد في آخره لكرامتها (كالوضوء) فيقدم السليم اليمني من يديه ورجليه وغيره من نحو أقطع الأيمن مطلقاً من جبينه وخديه وطرفي رأسه وأذنيه ويديه ورجليه (والغسل) فيقدم الجانب الأيمن المقبل منه والمدبر على الجانب الأيسر كذلك، بخلاف غسل الميت فيغسل منه الجانب المقبل ثم الأيسر كذلك، ثم يحرفه على جنبه الأيسر ويغسل الجانب المدبر، ثم يحرفه على جنبه الأيمن فيغسل الجانب الأيسر منه. وفارق الحيّ الميت فيما ذكر بعسر غسل جانبي اليمين معاً بالنسبة للميت وسهولته في الحي (والتيمم) وهو كالوضوء فيما سبق من التفصيل (ولبس الثوب) فيدخل كمه الأيمن قبل الأيسر (والنعل والخف والسراويل) فيدخل الرجل اليمنى قبل اليسرى، والسراويل قبل لفظ جمع لا واحد له، وقيل إنه جمع سراولة (ودخول المسجد) فينزع الرجل اليسرى من النعل أوّلاً ويجعلها على ظهرها ثم اليمنى فيقدمها إلى المسجد ثم اليسرى (والسواك) فيبدأ بجانب الفم الأيمن ويكون إمساك السواك باليد اليمنى (والاكتحال) فيبدأ باليمنى ثلاثاً ثم باليسرى كذلك كما نص عليه ابن حجر الهيثمي في «الإمداد» (وتقليم الأظفار وقص الشارب) الشعر النابت على الشفة العليا، سمى بذلك لأنه يلقي الماء حين الشرب (وحلق الرأس) ظاهر عمومه ولو في غير نسك كما اعتاده الناس من حلقه مطلقاً فيسن البدء باليمين (والسلام من الصلاة والأكل) فيأكل باليمين، وقيل إنه بها واجب لحديث راعي البرّ (والشرب) وهو إدخال المائع إلى الجوف فيأخذ بيده اليمنى إن كان الشرب بها، أو يأخذ نحو الشربة بها (ولمصافحة واستلام الحجر الأسود) افتعال، قيل من السلام بمعنى التحتية، وقيل من السلام بالكسر بمعنى الحجارة لما فيه من لمسها (والخروج من الخلاء) أي المحل الذي أراد لقضاء الحاجة من خلاء أو قضاء (والأخذ والعطاء) أي الإعطاء فيستحب كون كل من المناولة إعطاء وأخذاً باليمنى وظاهر عمومه ولو كان لاكراهة فيه ولا إهانة (وغير ذلك)

أي ما ذكر (مما هو في معناه) من باب التكريم (ويستحب تقديم اليسرى في ضد ذلك) أي المذكور مما هو من باب الإهانة لاستقذارها (كالامتخاط والبصاق) بضم الباء وهو البزاق مصدر بزق من باب قعد والصاد إبدال منه كما في «المصباح» (على اليسار) متعلق بمحذوف حال منها: أي كائنين من جهته، نعم إن كان بالروضة الشريفة النبوية، أو كان على يساره أحد فليفعل ذلك بين يديه (ودخول الخلاء) أي المحل المراد لقضاء الحاجة (والخروج من المسجد) فيخرج اليسرى منه ويضعها على ظهر النعل ثم اليمنى ويلبسها أولاً ثم يلبس اليسرى (وخلع الخفّ والنعل والسراويل والثوب) وذلك لأن بقاء العضو في الثوب كرامة واليمنى أحق بها، وضده إهانة واليسرى أليق بها (والاستنجاء) بالحجر أو الماء (وفعل المستقذرات) كإزالة الأوساخ من نحو بدنه فلين باليسرى (وأشباه ذلك) المذكور وسكت عما لا تكرمة فيه ولا إهانة كدخول المنزل. وقد اختلف فيه فقيل إنه باليمنى نظراً لعدم وجود الإهانة المقتضية اليسرى. وقيل باليسرى لفقدان التكريم المقتضي بها والراجح الأول. (قال تعالى) : ( {فأما من أوتى كتابه بيمينه} ) وهم جمع المؤمنين ولو عاصياً كما ذكره جمع، وألف فيه السيد السمهودي مؤلفاً أودعه فتاويه، ولكن قال الحافظ ابن عطية في «تفسيره» : الظاهر أن ذلك يكون للعاصي بعد خروجه من النار، وفيه ندب تناول الكتاب لغيره من سائر المكرمات باليمين ( {فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه} ) قال أبو حيان في «تفسيره النهر» : قال الكسائي: مكسور يقال هاء للرجل، والاثنين رجلين أو امرأتين هاؤما وللرجال هاؤم، وللمرأة هاء بهمزة بغير ياء، وللنساء هاؤن، ومعنى هاؤم خذوا، وهاؤم وإن كان مدلولها تعالوا فهي متعدية إليه بواسطة إلى وكتابيه يطلبه هاؤم واقرءوا، والبصريون يعملون اقرءوا والكوفيون يعملون هاؤم. وفي الآية دليل على جواز التنازع بين الفعل والإسم اهـ. وقوله (الآيات)

يجوز قراءته بالرفع والنصب وبالخفض كما تقدم توجيهه، وباقي الآيات لا تعلق لها بموضوع الباب وإنما فيها ثناء على الآخذين الكتب باليمين. (وقال تعالى) : ( {فأصحاب الميمنة} ) هم الذين عن يمين العرش أو كانوا عن يمين آدم عند إخراج ذريته من ظهوره أو الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم أو أصحاب المنزلة السنية أو أصحاب اليمين ( {ما أصحاب الميمنة} ) أي ما أسعدهم وأعظم ما يجازون به (وأصحاب المشأمة) يقابل الميمنة بالمعاني (ما أصحاب المشأمة) أي ما أشقاهم وأشد عذابهم. 1721 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يعجبه التيمن) أي استعمال اليمين (في شأنه) أي في حاله المهتم به شرعاً (كله) وأبدل من شأنه يإعادة العامل قوله (في طهوره) بدل بعض من كل، وهو بضم الطاء المهملة: استعمال الماء للتطهر وبفتحها الماء المتطهر به فيكون على تقدير مضاف وتقدم بيان التيمن المطلوب فيه (وترجله) بتشديد الجيم: أي تسريحه شعر رأسه (وتنعله) أي إدخاله رجليه في النعل، وقيس بما في الخبر كل ما كان من باب التكريم فاستحبّ كونه باليمين، وأخذ من مفهومه ومن منطوق حديثها استحباب كون اليسرى لما كان من باب الإهانة (متفق عليه) . 2722 - (وعنها قالت: كان يد رسول الله) كذا في الأصول بحدف تاء التأنيث لأن تأنيث اليد مجازى (اليمنى لطهوره) بالضم، ويجوز الفتح على تقدير مضاف (وطعامه) أي تناوله

(وكانت) أثبتت التاء تفنناً في التعبير لفصاحتها (يده اليسرى لخلائه) أي لما فيه من استنجاء وتناول أحجار وإزالة أقذار (وما كان من أذى) بالتنوين كتنحية نحو بصاق ومخاط ومنه تنحية نحو قمل (حديث صحيح رواه أبو داود) في «سننه» (بإسناد صحيح) . 3723 - (وعن أم عطية) بفتح المهملة الأولى وكسر الثانية اسمها نسيبة بالتصغير، ويقال بالتكبير بنت كعب، وقيل بنت الحارث مدنية ثم سكنت البصرة، وكانت تغسل الميتات في عهد رسول الله ويشاركها في النسب أم عمارة نسيبة بنت كعب الأنصارية، وليس لأم عمارة حديث في الصحيحن. وروي لأم عطية عن النبيّ أربعون حديثاً أخرج منها في الصحيحين تسعة أحاديث، اتفقا على سبعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بآخر، وخرّج عنها الأربعة، وروى عنها محمد وحفصة ابنا سيرين وعبد الملك بن عمير. ووقع في صحيح البخاري ما يوهم أن نسيبة غير أم عطية، وقد بين البخاري عقب ذلك الحديث أنها هي (رضي الله عنها أن النبيّ قال لهن في غسل ابنته زينب) وقيل أم كلثوم (رضي الله عنها ابدأن) بصيغة أمر خطاب جماعة النسوة والخطاب لأم عطية ومن معها من الغاسلات والمعينات عليه بنحو الصبّ والأمر للندب (بميامنها) جمع ميمنة، ففيه استحباب التيامن في غسل الميت كاستحبابه في غسل الحيّ وسبق كيفية ذلك فيهما (ومواضع الوضوء منها) لشرف أعضاء الوضوء على باقي البدن (متفق عليه) وهو قطعة من حديث طويل. 4724 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: إذا انتعل أحدكم) أي أراد أحدكم يا معشر الأمة الانتعال ومثله إرادة لبس الخف كما تقدم (فليبدأ باليمين) في إدخال النعل لأنه كرامة وهي أحق بها (وإذا نزع) أي أراد النزع لها (فليبدأ بالشمال) لأن بقاء

الرجل في النعل كرامة وتقدم أنها أحق بها (لتكن) الرجل (اليمنى أولهما) بالنصب ظرف لقوله (تنعل) بالفوقية خبر تكون (وآخرهما) بالنصب ظرف لقوله (تنزع) ففيه عطف على معمولي عاملين مختلفين وهو جائز اتفاقاً فالخبر على الخبر والظرف على الظرف، وجملة لتكن الخ كالتأكيد لما قبلها أو إجمال له (متفق عليه) كذا في النسخ من الرياض، والذي في «الجامع الصغير» الاقتصار على رمز مسلم دون البخاري وزاد فيه أنه أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه اهـ. ثم رأيت البخاري أورده كما قال المصنف في كتاب اللباس من «صحيحه» ، ولعل سقوط رمز البخاري من «الجامع الصغير» إن لم يكن من الكتبة غفل حال الكتابة عن كونه فيه، ولا عيب على الإنسان في النسيان. 5725 - (وعن حفصة) أم المؤمنين واستغنى عن ذلك بقوله (رضي الله عنها) فليس في الصحابيات من يسمى بذلك غيرها وهي بنت عمر بن الخطاب العدوية، أمها وأم أخيها عبد الله زينب بنت مظعون أخت عثمان بن مظعون، وكانت حفصة من المهاجرات وكانت كما تقدم قبل النبي عند خنيس بن حذافة السهمي، وكان حفصة من المهاجرات وكانت كما تقدم قبل النبي عند خنيس بن حذافة السهمي، وكان ممن شهد بدراً وتوفي بالمدينة، وتزوّجها النبيّ عند أكثر العلماء سنة اثنتين من الهجرة بعد عائشة وطلقها ثم راجعها بأمر جبريل له بذلك وقال له إنها صوّامة قوّامة وإنها زوجك في الجنة توفيت حين بايع الحسن معاوية سنة إحدى وأربعين، وقيل خمس وأربعين، وقيل غير ذلك اهـ ملخصاً من «أسد الغابة» . (أن رسول الله كان يجعل يمينه لطعامه وشرابه) فيوصل بها الطعام والشراب إلى فيه (وثيابه) فيدخل اليد اليمنى في القميص والرجل اليمنى في السروال قبل اليسرى (ويجعل اليسرى لما سوى ذلك) أي سوى ما ذكر وما في معناه من كل ما هو من باب التكريم فيقتضي التياسر فيما لا كرامة له ولا إهانة، أو ما في معناه مما لا إهانة فيه فيخص التياسر بما فيه الإهانة، ويقرب هذا حديث عائشة السابق «وكانت اليسرى لخلائه وما كان من أذى» (رواه أبو داود وغيره) والترمذي بإسناد صحيح رواه في «الجامع الصغير»

عنها بلفظ «كان يجعل يمينه لأكله وشربه ووضوئه وثيابه وأخذه وعطائه وشماله لما سوى ذلك» وقال رواه أحمد. 6726 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: إذا لبستم) أي أردتم اللبس (وإذا توضأتم) أي أردتم أعماله (فابدءوا بأيامنكم) جمع أيمن وهو خلاف الأيسر فيدخل الجانب الأيمن في نحو القميص قبل الأيسر ويقدم اليمنى من يديه ورجليه في الوضوء وغير السليم يتيامن في جميع أعمال الوضوء كما تقدم (حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح) ورواه ابن حبان كما في «الجامع الصغير» . 7727 - (وعن أنس أن رسول الله أتى منى) بالصرف وتركه باعتبار البقعة والمكان (فأتى الجمرة) والمعهودة هي جمرة العقبة: أي من غير تراخ عند وصوله إلى منى (فرماها، ثم أتى منزله بمنى) وهو ما بين مسجد الخيف ومحل النحر المشهور، وإلى الأول أقرب من يمين الصاعد إلى عرفة (ثم قال للحلاق) واسمه معمر بن عبد الله العدوي، وقيل أقرب من يمين الصاعد إلى عرفة وقيل خراس بن أمية الكلبى (خذ) أي الرأس لحلقه (وأشار إلى جانبه) أي جانب الرأس (الأيمن) ففيه البدء بيمين المحلوق وهو شق رأسه وعليه الجمهور، وقيل بيمين الحالق وهو شق رأس المحلوق الأيسر وعليه أبو حنيفة (ثم الأيسر ثم جعل) أي النبي، والإسناد إليه مجازي لما يأتي في الحديث بعد أن ذلك من فعل أبي طلحة (يعطيه) أي بعضه لما يأتي فيه أيضاً (الناس) ليكون بركة باقية بين أظهرهم وليذكروه كلما رأوا ذلك فإنه أشار لهم في هذه الحجة مراراً إلى قرب أجله بقوله «لعلكم لا تلقوني بعد عامكم هذا» وباقتصاره على نحر ثلاث وستين ناقة من بدنه، وقد أدركت شعرة تزار، اتفق الخلق من السلف على أنها من شعره، وقد فقدت لما سرق بيت صاحبها (متفق عليه) واللفظ لمسلم، ورواه أبو داود

والترمذي والنسائي ذكره المزي. (وفي رواية) عند مسلم (لما رمى جمرة العقبة ونحر نسكه) بضمتين ويجوز إسكان الثاني: أي هديه الذي ساقه معه (وحلق) أي بعد نحره (ناول الحلاق شقه الأيمن فحلقه، ثم دعا أبا طلحة الأنصاري) واسمه زيد بن سهل زوج أم أنس بن مالك (وأعطاه إياه) لأنه كان له مزيد خصوصية ومحبة به وبأهله ليست لغيرهم من الأنصار ولا لكثير من المهاجرين. ولذا خصه بدفنه لبنته أم كلثوم وزوجها عثمان حاضر، ولذا خصه الصحابة بأنه الذي حفر القبر الشريف وألحد فيه النبي وبنى فيه اللبن (ثم) أي بعد أن ناول أبا طلحة (ناوله) أي الحلاق (الأيسر، فقال احلق، فحلقه فأعطاه أبا طلحة، فقال اقسمه بين الناس) لكن في رواية لمسلم أن الشعر الذي قسمه بين الناس شعر رأسه الأيمن وأن الذي أعطاه أبا طلحة شعر شق الرأس الأيسر، وقد أشار إلى ذلك الآتي في «شرح مسلم» فقال: إعطاؤه لأبي طلحة ليس مخالفاً لقوله فرّقه بين الناس لاحتمال أن يكون إعطاؤه له ليفرقه بينهم، وينبغي النظر في اختلاف الرواية في الجانب الأيسر ففي الأولى أنه فرقه كالأيمن وفي الثنية أنه أعطاه أم سليم وهي امرأة أبي طلحة والجمع بين الروايات. والله أعلم.

2 - كتاب أدب الطعام

2 - كتاب أدب الطعام المراد منه ما يقابل الشراب، وإلا فيطلق لغة على كل ما يساغ فيدخل فيه الشراب كما في «المصباح» . (وفي رواية) عند مسلم (لما رمى جمرة العقبة ونحر نسكه) بضمتين ويجوز إسكان الثاني: أي هديه الذي ساقه معه (وحلق) أي بعد نحره (ناول الحلاق شقه الأيمن فحلقه، ثم دعا أبا طلحة الأنصاري) واسمه زيد بن سهل زوج أم أنس بن مالك (وأعطاه إياه) لأنه كان له مزيد خصوصية ومحبة به وبأهله ليست لغيرهم من الأنصار ولا لكثير من المهاجرين. ولذا خصه بدفنه لبنته أم كلثوم وزوجها عثمان حاضر، ولذا خصه الصحابة بأنه الذي حفر القبر الشريف وألحد فيه النبي وبنى فيه اللبن (ثم) أي بعد أن ناول أبا طلحة (ناوله) أي الحلاق (الأيسر، فقال احلق، فحلقه فأعطاه أبا طلحة، فقال اقسمه بين الناس) لكن في رواية لمسلم أن الشعر الذي قسمه بين الناس شعر رأسه الأيمن وأن الذي أعطاه أبا طلحة شعر شق الرأس الأيسر، وقد أشار إلى ذلك الآتي في «شرح مسلم» فقال: إعطاؤه لأبي طلحة ليس مخالفاً لقوله فرّقه بين الناس لاحتمال أن يكون إعطاؤه له ليفرقه بينهم، وينبغي النظر في اختلاف الرواية في الجانب الأيسر ففي الأولى أنه فرقه كالأيمن وفي الثنية أنه أعطاه أم سليم وهي امرأة أبي طلحة والجمع بين الروايات. والله أعلم. 2 - كتاب أدب الطعام المراد منه ما يقابل الشراب، وإلا فيطلق لغة على كل ما يساغ فيدخل فيه الشراب كما في «المصباح» . 100 - باب التسمية في أوله أي عند استعماله والحمد في آخره 1728 - (عن عمرو بن أبي سلمة) ربيب رسول الله من أم سلمة (رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: سمّ الله) أي اذكر اسم الله، قال المصنف: وأفضله بسم الله الرحمن الرحيم، ونازعه الحافظ ابن حجر بأنه لم يرد ما يدل لذلك (وكل بيمينك) لأنها لما ليس من باب الإهانة وهذا منه، وسيأتي الخلاف في وجوبه (وكل ما يليك) أي إذا كان الطعام لوناً واحداً، فإن كان ألواناً جاز الأكل من جميع الجوانب (متفق عليه) رواه البخاري ومسلم في الأطعمة، ورواه النسائي وابن ماجه، ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه أيضاً من طريق آخر.

2729 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله إذا أكل أحدكم) أي شرع، وهو في «الجامع الصغير» بلفظ «إذا أكل أحدكم طعاماً» وقال في آخره «فليقل بسم الله على أوله وآخره» لكن قال بعض شراحه: إن زيادة على فيه في بعض النسخ (فليذكر اسم الله تعالى) بأن يقول بسم الله الرحمن الرحيم وظاهر إطلاق الحديث شامل ما لو أتى عند إرادة أكله كما في قوله تعالى: {وتنسون أنفسكم} (البقرة: 44) أي تتركونها من البرّ الذي تأمرون به الغير. بلفظ الجلالة (فإن نسي) يحتمل أن يراد ما يقابل العمد وهو المتبادر، فالتارك عمداً لا يأتي بها أثناءه، ويحتمل أنه يأتي بها أيضاً، ولا مفهوم لقيد النسائي لأنه جرى على الغالب أن شأن المؤمن أنه لا يترك ذكر الله على طعامه إلا نسياناً، ويحتمل أن يراد به الترك كما في قوله تعالى: {وتنسون أنفسكم} أي تتركونها من البرّ الذي تأمرون به الغير فيشمل ذلك (أن يذكر اسم الله تعالى في) أي عند (أوله فليقل) ندباً (بسم الله) أي آكل (أوله وآخره) المراد بهما ما يشمل سائر الأحزاء ونصبهما على نزع الخافض. (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث صحيح) ورواه الحاكم في «المستدرك» ، وظاهر الخبر يتناول ما بعد الفراغ وأخذ بعديته جمع من أصحابنا وقالوا: فارق عدم استحباب ذلك بعد تمام الوضوء بأن القصد منها فيه عود البركة عليه وذلك انتهى بتمامه، والقصد منها هنا منع الشيطان من الطعام، فليتقايأ ما أكله قبلها لما أتى به بعد مها. ومشى ابن رسلان في شرح أبي داود. وأرجح آخرون على خلافه فقالوا: التقدير فليقل في أثنائه لا بعده فلا يستحب. 3730 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: إذا دخل الرجل) ذكر

لأنه الأشرف، وإلا فالمرأة في جميع ما ذكر في الحديث مثله (بيته) أي منزله ولو كان خيمة، وظاهر أن المراد دخوله في المساء بدليل المبيت والعشاء، إذ إن قبله الغذاء والفطور (فذكر الله تعالى) أي اسمه بأن قال بسم الله (عند دخوله) يحتمل أن يراد عند إرادة الدخول، ويحتمل عند نفس الدخول الذي ابتداؤه الولوج في المنزل (وعند طعامه) أي تناوله له (قال الشيطان) لأعوانه على سبيل الإخبار (لا مبيت لكم ولا عشاء) ويحتمل أن يكون دعاء على الداخل وأهله إذ فوتهم كلا من المبيت والعشاء بما يأتي به من الذكر، لكن شأن الشيطان فيه كما قال تعالى: {وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} (الرعد: 14) (وإذا دخل فلم يذكر الله تعالى عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت) إطلاقه يقتضي تمكنه من المبيت عند تركه الذكر حال الدخول وإن أتى به بعد، ويحتمل أنه مقيد بما إذا لم يأت به بعد، وإلا فلا سبيل لهم إلا قياساً على التسمية أثناء الطعام (وإذا لم يذكر اسم الله عند طعامه) أي تركه كذلك عند الطعام أيضاً (قال) أي الشيطان لأعوانه (أدركتم المبيت) أي مكان البيات، ويجوز أن يكون مصدراً اسمياً (والعشاء. رواه مسلم) في كتاب الأطعمة من «صحيحه» ، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي، ومداره عندهم على أبي جريج عن ابن الزبير عن جابر. 4731 - (وعن حذيفة رضي الله عنه قال: كنا إذا حضرنا مع رسول الله طعاماً) التنوين فيه للشيوع فيشمل القليل والكثير والحقير والجليل (لم نضع أيدينا) أي فيه (حتى يبدأ رسول الله فيضع يده) وذلك تأدب معه وقد قال تعالى: {لا تقدموا بين يدي الله

ورسوله} (الحجرات: 1) وعمومه متناول لذلك (وإنا حضرنا معه مرّة طعاماً) معطوف على قوله كنا (فجاءت جارية) يحتمل أن يكون المراد منها المعنى المشهور وهو ما يقابل الحرة ولو عجوزاً، ويحتمل أن المراد به الشابة من الحرائر (كأنها تدفع) أي لشدة سرعتها وهو بالفوقية وبصيغة البناء للمفعول وحذف الفاعل للجهل به (فذهبت) عطف على جاءت (لتضع يدها في الطعام) أي قبل وضعه يده فيها (فأخذ رسول الله بيدها) منحياً لها عن الطعام لئلا يتوصل الشيطان بيدها (إليه ثم جاء أعرابيّ) ساكن البادية (كأنما) عدل إليه عن قوله كأنها المناسب لعديله تفنناً في التعبير وما كافة مهيئة للدخول لكان على قوله (يدفع فأخذه بيده، فقال رسول الله إن الشيطان) يحتمل أن تكون أل جنسية فيشمل كل الشياطين، ويحتمل كونها عهدية، والمشار إليه إبليس لأنه كبير أتباعه، والأول أقرب، وهل هو مأخوذ من شاط إذا احترق فنونه زائدة أو من شطن إذا بعد لبعده عن الخير فيه قولان (يستحل الطعام) أي يطلب حله: أي ليتمكن منه وقوله (أن لا يذكر اسم الله تعالى عليه) علة استحلاله والجار قبلها أي بأن لا يذكر اسم الله عليه، وحذف الجار من أن وكى المصدريان قياس مطرد (وأنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها فأخذت بيدها) منعاً له مما أراد (فجاء بهذا الأعرابيّ يستحل به فأخذت بيده) لذلك (والذي نفسي بيده) أي بقدرته. وفيه استحباب القسم لتأكيد الأمر عند السامع (إن يده) أي الشيطان (في يديّ) بتشديد التحتية، ويحتمل أن يكون بتخفيفها (مع يديهما) كذا فيما وقفت عليه من نسخ الرياض. والذي في معظم الأصول من مسلم يدها بالإفراد، قال المصنف في «شرحه» : وفي بعضها يدهما: أي بالثنية فهذا ظاهر، وضمير التثنية يرجع للجارية والأعرابي، وعلى رواية الإفراد يعود الضمير على الجارية. وقد حكى القاضي عياض أن الوجه التثنية. والظاهر أن رواية الإفراد أيضاً مستقيمة، وأن إثبات يدها لا ينافي يد الأعرابي، وإذا صحت الرواية وجب قبولها

وتأويلها كما ذكرنا اهـ (ثم ذكر) أي النبي (اسم الله تعالى وأكل) ظاهر العطف بالواو شامل لكون الذكر مقابلاً للأكل، ومتقدماً عليه وتناوله للذكر بعد الأكل يدفعه المقام (رواه مسلم) في الأطعمة أيضاً، ورواه أبو داود والنسائي أيضاً. 5732 - (وعن أمية) بضم الهمزة وفتح الميم وتشديد التحتية (ابن مخشى) بفتح الميم وسكون المعجمة الأولى وكسر الثانية (الصحابي) وصفه بذلك (رضي الله عنه) لخفاء صحبته على غير أهل الحديث، وهو خزاعي بصري يكنى أبا عبد الله، قاله أبو نعيم وأبو عمر، وقال ابن منده الخزاعي: وهو من الأزد، وقال ابن الأثير في «أسد الغابة» بعد ذكر حديث الباب: وقد أخرجه الثلاثة، يعني ابن عبد البر وابن منده وأبا نعيم ولا يعرف له غير هذا الحديث (قال: كان رسول الله جالساً ورجل يأكل) جملة إسمية حال من اسم كان (فلم يسمّ حتى لم يبق من طعامه إلا لقمة فلما رفعها إلى فيه قال: بسم الله) يكتب بإثبات الألف كما نبه عليه المصنف في «شرح مسلم» ، ولا يحذف إلا من جملة البسملة تخفيفاً لكثرة استعمالها (أوله وآخره) أي فيهما والمراد جميع أجزاء الطعام (فضحك النبيّ ثم) أي بعد ضحكه، ولعل تراخى الأخبار ليكثر التشوق للخبر فيكون أقر عندهم (قال: ما زال الشيطان يأكل معه) أي في دوام تناوله الطعام تاركاً التسمية فيه (فلما ذكر اسم الله استقاء ما في بطنه) قال العلماء: إنما لم يجب غسل الإناء مع أن القىء نجس منجس، لأن الخبر ليس أن تقيده يكون داخله، فيجوز أن يكون خارجه، ولا تجب الطهارة من المشكوك فيه (رواه أبو داود) في الأطعمة من «سننه» (والنسائي) في الوليمة منها. 6733 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يأكل طعاماً في) أي مع

وهي في مثل هذا المقام أبلغ (ستة من أصحابه، فجاء) أي بعد تركهم لذلك الطعام وانقطاع نسبة ذكرهم اسم الله عند تناوله عنه (أعرابيّ فأكله بلقمتين) الباء بمعنى في (فقال رسول الله أما إنه) أي الأعرابيّ أو ضمير الشأن (لو سمى لكفاكم) أي معه بأن يبارك فيه فتأكلون ويأكل ويكفي الجميع، لكن يترك التسمية عليه نزعت منه البركة حتى أكل في لقمتين (رواه الترمذي) في الأطعمة من «جامعه» (وقال: حديث حسن صحيح) . 7734 - (وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: إن النبيّ كان إذا رفع مائدته) تقدم ضبطها ومعناها (قال: الحمد لله حمداً) بالنصب مفعول مطلق (كثيراً) بالمثلثة (طيباً) أي منزهاً عن سائر ما ينقصه من رياء أو سمعة أو إخلال بإجلال (مباركاً) بصيغة المفعول نائب فاعله قوله (فيه) والبركة الزيادة والنماء (غير مكفي) قال المصنف بتشديد الياء هذه الرواية الصحيحة الفصيحة، ورواه أكثر الرواة بالهمزة وهو فاسد من حيث العربية سواء كان ومن الكفاية أو كفأت الإناء كما لا يقال في مقرؤ من القراءة مقرىء بالهمزة (ولا مستغني) بصيغة الفعول (عنه) قال صاحب «المطالع» : الضمير يعود على الطعام، قال الحربي: الكفي الإناء المقلوب للاستغناء عنه كما قال غير مستغني عنه أو لعدمه. وذهب الخطابي إلى أن المراد بهذا الدعاء كله الباري سبحانه وتعالى، وأن الضمير يعود إليه، ومعنى غير مكفي: إنه يطعم ولا يطعم كأنه على هذا من الكفاية، وإلى هذا ذهب غيره في تفسير الحديث: أي إن الله مستغن عن معين وظهير (ربنا) منصوب على الوجه الأخير بالاختصاص أو المدح أو النداء، كأنه قيل: يا ربنا اسمع حمدنا ودعاءنا. ومن رفعه قطعه وجعله خبراً، وكذا قيده الأصيلي كأنه قال ذلك أو أنت ربنا. ويصح فيه الجر على البدلية من لفظ الجلالة في قوله الحمد لله. وذكر ابن الأثير في «النهاية» نحو هذا الخلاف مختصراً وقال: من رفع ربنا فعلى الابتداء المؤخر: أي هو ربنا غير مكفي ولا مستغني عنه، وعلى هذا يرفع غير، ويجوز أن

يكون الكلام راجعاً إلى الحمد كأنه قال: حمداً كثيراً غير مكفي ولا مستغني عن هذا الحمد اهـ كلام المصنف ملخصاً، وقد زدته وضوحاً في «شرح الأذكار» (رواه البخاري) أورده في «الأذكار» كذلك، وزاد فيه بعد قوله غير مكفي «ولا مودع» قال: وقال غيره «إذا رفع مائدة قال: الحمد لله الذي كفانا وآوانا غير مكفي ولا مكفور» .g 8735 - (وعن معاذ بن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من أكل طعاماً) ظاهر عمومه ولو على وجه التداوي لشمول الطعام له لغة وشرعاً كما ذكره الفقهاء في باب الربا وعدم حنث من حلف لا يأكل طعاماً يتناوله من حيث أن مدار الأيمان على العرف وهو لا يعدّه طعاماً (فقال) أي عقب الفراغ كما تومىء إليه الفاء (الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه) عطف على أطعم عطف عام على خاص (من غير حول) أي حيلة (منى ولا قوّة) أشار به إلى طريق التحصيل للطعام، فإن القويّ يأخذ ظاهراً بقوته والضعيف يحتال على تحصيل قوته، فأشار بالذكر المذكور إلى أن حصول ذلك بمحض الفضل لا دخل في ذلك لغيره سبحانه (غفر) بالبناء للمجهول (له ما تقدم من ذنبه) ظاهره ولو كبائر لكنه مقيد عندنا بالصغائر غير التبعات (رواه أبو داود) في اللباس (والترمذي) في البر والصلة (وقال: حديث حسن) قال المزي في «الأطرف» : ورواه ابن ماجه في الأطعمة، ومداره عندهم على أبي مرحوم عبد الرحيم بن ميمون عن سهل عن معاذ بن أنس عن أبيه، وقال السيوطي في «الجامع الصغير» بعد أن رواه بزيادة «ومن لبس ثوباً فقال الحمد لله الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حول منى ولا قوّة، غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر» ورواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حسن غريب، والطبراني في «الكبير» وابن السني والحاكم عن سهل عن معاذ بن أنس عن أبيه اهـ.

101 - (باب) بالتنوين ويجوز بتركه وإضافته إلى قوله (لا يعيب) أي الإنسان (الطعام) على تقدير مضاف: أي استحباب عدم إعابة الطعام، وعطف عليه قوله (واستحباب مدحه) وذلك لأن الأول إن كان فيه منع للشرّ ففيه التعرض لصنع من أحسن كل شيء خلقه، وإن كان فيه منع لهما ففيه كسر قلب صاحبه والمدح فيه الثناء على الله سبحانه وجبر قلب الصانع. 1731 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما عاب رسول الله طعاماً قط) أي في زمن من الأزمنة، وذلك لأن إعابة الطعام إنما تكون من الترفه والرعونة وليس منها قوله في الضبّ «إني أعافه» لأنه إخبار عن طبعه لا إعابة للطعام (إن اشتهاه أكله وإن كرهه) أي من جهة الطبع (تركه) من غير ذم له (متفق عليه) . 2737 - (وعن جابر رضي الله عنه أن النبيّ سأل أهله الأدم) بضمتين ويجوز التسكين للثاني تخفيفاً جمع إدام بوزن كتاب وهو ما يؤدم به مائعاً كان أو حامداً كما في «المصباح» ، وفيه تجوز معاملته بعد تسكين ثانيه معاملة المفرد فيجمع على آدم مثل قفل وأقفال، وسبب سؤاله لهم ما جاء أن أهله قدموا له خبزاً فقال: ما من إدام (فقالوا: ما عندنا إلا خل) استثناء مفرغ من عام شامل لسائر الأدم: أي ليس عندنا أدم إلا خل (فدعا به) أي أمر بإحضاره (فجعل) أي شرع (يأكل ويقول: نعم الأدم الخل) هذا دليل الشطر الثاني من الترجمة، ثم قال المصنف تبعاً للقاضي عياض: معنى الحديث مدح الاقتصاد في الأكل ومنع النفس عن ملاذّ الأطعمة، والمعنى ائتدموا بالخل وما في معناه مما تخفّ مؤنته ولا

102 ـــ باب ما يقوله من حضر الطعام وهو صائم

تتنافسوا في الشهوات، وهذا قول الخطابي ومن تبعه، والصواب الذي ينبغي الجزم به أنه مدح الخل نفسه، وأما الاقتصاد في المأكل فمعلوم من دليل آخر اهـ. ونوقش فيما قال إنه الصواب أنه غير ظاهر فضلاً عن كونه هو الصواب، إذ ثبت أنه لم يكن يمدح طعاماً ولا يذمه، لأن في الأول شائبة شهوة وفي الثاني احتقار للنعمة، وفي التنظير نظر لأن المنقول عنه محمول على مدح ينشأ عن ميل النفس لذلك الطعام، أشار إليه المصنف أنه مدحه لمعنى آخر جبراً لخاطرهم وتطييباً لقلوبهم والله أعلم (رواه مسلم) وأخرجه الترمذي من حديث عائشة بنحوه. 102 - باب ما يقوله من حضر الطعام وهو صائم «إذ» بسكون الذال وفي نسخة (إذا لم يفطر) وإفطاره من صوم واجب ولو موسعاً لقضاء لما أفطره بعذر حرام ومن مندوب إن شق على ضيفه أو مضيفه أفطر ندباً وإلا فلا. 1738 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إذا دعي أحدكم فليجب) وجوباً إن كان المدعو إليه وليمة نكاح في اليوم الأول، وخلت من الأعذار المسقطة للوجوب المبينة في كتب الفقه، وإلاّ فندباً، إلا في الوليمة للنكاح في اليوم الثالث (فإن كان صائماً فليصل) أي فليدع ندباً لأهل المنزل (وإن كان مفطراً فليطعم) ظاهر الأمر وجوب التناول، وبه قال جمع. قال: وعليه فأقله لقمة ولا تلزمه الزيادة عليها، والجمهور على استحباب التناول. قال المصنف في «شرح مسلم» : وهو الأصح فلا يجب الأكل لا في وليمة نكاح ولا في غيرها (رواه مسلم) في كتاب النكاح من «صحيحه» وفي «الجامع الصغير» ، ورواه أحمد والترمذي وابن ماجه. (قال العلماء) أي من شراح الحديث (معنى فليصل فليدع)

103 ـــ باب ما يقول من دعي إلى طعام فتبعه غيره

هذا قول الجمهور، قال في «شرح مسلم» نقلاً عنهم: معناه ليدع لأهل الطعام بالمغفرة والبركة ونحو ذلك. وقيل المراد الصلاة المشرعية ذات الركوع والسجود ليحصل له فضلها وليتبرّك أهل المكان والحاضرون بذلك (ومعنى فليطعم) بفتح التحتية (فليأكل) . 103 - باب ما يقول من دعي إلى طعام فتبعه غيره لا يخفى أن الطعام ليس بقيد فكذا من دعي لنحو مشورة فتبعه غيره يفعل ما يأتي: 1739 - (عن أبي مسعود) واسمه عقبة بن عمرو الأنصاري (البدري) نسبته لبدر لسكناه بها، وإلا فلم يشهد وقعتها المشهورة (رضي الله عنه قال: دعا رجل) اسمه أبو شعيب (النبيّ لطعام صنعه) أي أمر غلامه بصنعه كما صرح به في رواية أخرى (له) أي النبي (خامس خمسة) أي تصير العدة به كذلك (فتبعه رجل فلما بلغ) أي النبي والرجل أو صاحب المنزل (الباب) والأخير أنسب بقوله (قال النبي: إن هذا تبعنا، فإن شئت أن تأذن له، وإن شئت رجع) هذا لا يخالف ما جاء في حديث آخر من استتباعه أنساً رضي الله عنه لما دعاه الخياط لضيافة جعله، لأن هذا محمول على ما إذا لم يعلم النبي برضا ربّ المنزل بالزيادة على العدد المدعو وعدم الاستئذان على ما إذا كان واثقاً برضاه (قال بل أذنت) بصيغة المتكلم (له يا رسول الله. متفق عليه) أخرجه البخاري في البيوع ومسلم في الأطعمة، وروه الترمذي والنسائي.

104 ـــ باب الأكل مما يليه

104 - باب الأكل مما يليه الضمير المنصوب يعود على الآكل المفهوم من الأكل وكذا ضمير قوله (ووعظه وتأديبه من يسيء أكله) . 1740 - (عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما قال: كنت غلاماً) لأن النبي دخل بأمه وهو ابن ست سنين (في حجر) بكسر المهملة وفتحها: أي تحت نظر (رسول الله وكانت يدي) بالإفراد (تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله: يا غلام) بضم الميم (سمّ الله تعالى) أي اذكر اسمه أوّل أكلك بأن تقول بسم الله، وتقدم أكملها وما فيه (وكل بيمينك) إن كان الطعام لوناً واحداً وإلا فلا بأس بالأكل من جهة صاحبه (وكل ما يليك) والأمر في الثلاث للندب. والحديث قد تقدم بشرحه في باب التسمية على الطعام، ولعله كان يأكل باليسرى أو تارة بها وأخرى باليمين (متفق عليه. قوله تطيش) بفتح الفوقية (وبكسر الطاء المهملة وبعدها ياء مثناة من تحت) وآخره شين معجمة (معناه تتحرك وتمتد) من الامتداد (إلى نواحي) أطراف (الصحفة) وهو مأخوذ من الطيش وهو الخفة. 2741 - (وعن سلمة) بفتح أوله (ابن الأكوع رضي الله عنه أن رجلاً أكل عند رسول الله بشماله فقال) إرشاداً له لللأفضل (كل بيمينك) الأمر فيه للندب (قال) أي الرجل مخبراً

105 ـــ باب النهي عن القران بكسر القاف مصدر قارن (بين تمرتين ونحوهما)

بخلاف الواقع (لا أستطيع، قال) داعياً عليه لما ظهر له من عناده وكبره عن الانقياد للحق (لا استطعت) وقوله (ما منعه إلا الكبر) جملة مستأنفة من الراوي مبينة للمقتضى لدعائه مع كمال رحمته ومزيد رأفته وتجاوزه عن أكثر من ذلك خصوصاً والأمر على سبيل الندب، وقوله (فما رفعها) أي فما رفع المدعو عليه يمينه (إلى فيه) أشار به إلى حصول الإجابة حالاً (رواه مسلم) في الأشربة من «صحيحه» . 105 - باب النهي عن القران بكسر القاف مصدر قارن (بين تمرتين ونحوهما) مما يعتاد أكله واحدة واحدة (إذا أكل جماعة إلا بإذن رفقته) بتثليث الراء. قال العلماء: إن كان يعلم رضا الشركاء بقرانه بينهما جاز مع الكراهة لما فيه من الاستئثار على الجلساء وإلا حرم. قال في «فتح الباري» : قال ابن بطال: النهي عن القران من حسن الأدب في الأكل عند الجمهور لا على التحريم كما قال أهل الظاهر، لأن الذي يوضع للأكل على سبيل المسالمة لا التشاحّ لاختلاف الناس في الأكل، لكن إذا استأثر بعضهم بأكثر من بعض لم يحمد له ذلك اهـ. 1742 - (عن جبلة) بفتح الجيم والموحدة واللام (ابن سحيم) بضم المهملة الأولى وفتح الثانية وسكون التحتية قال الحافظ ابن حجر في «التقريب» : هو كوفي ثقة من الطبقة الوسطى من التابعين، مات سنة مائة وخمس وعشرين وخرّج عنه الستة (قال أصابنا) جاء في رواية البخاري عنه قال «كنا بالمدينة في بعض أهل العراق فأصابتنا سنة» والمارد من المدينة فيه مكة (عام سنة) أي عام قحط وجدب. قال في «المصباح» : أرض سنهاء أصباتها السنة وهي الجدب اهـ. وكان ذلك لأن زمن الجدب والقحط يستطال فيطلق عليه ما هو موضوع

106 ـــ باب ما يقوله من الأذكار ويفعله من يأكل ولا يشبع

للزمن الطويل (مع) عبد الله (ابن الزبير) في خلافته (فرزقنا تمراً) يحتمل أن يكون لنفاد ما عداه من الأقوات من عنده أو اتفق وجوده عنده (فكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يمر بنا ونحن نأكل فيقول: لا تقارنوا) أي لا يفعل ذلك كل منكم فالمفاعلة باعتبار الأكلة، والمراد منها أصل الفعل فتكون المفالة للمبالغة، ويؤيده أنه جاء في رواية للبخاري في باب الشركة «لا تقرنوا» بضم الراء (فإن نهى عن الإقران) قال ابن الأثير وغيره: كذا روى، والأصل القران (ثم يقول) أي ابن عمر (إلا أن يستأذن الرجل أخاه) فيكون مدرجاً في آخر الحديث، ويحتمل عودالضمير إلى النبيّ فيكون الاستثناء مفرغاً أيضاً. قال القسطلاني في كتاب الأطعة من «شرحه» «إرشاد الساري» بعد قول البخاري قال شعبة الإذن من قول ابن عمر ما لفظه: أي مدرجاً في الحديث. وكذا رواه أبو داود الطيالسي في «مسنده» مدرجاً، وآخرون ترددوا في الرفع والوقف، نبه عليه الحافظ ابن حجر اهـ. واستدل بقول أبي هريرة المروي عنه ابن حبان وغيره «كنت في أصحاب، فبعث إلينا رسول الله تمر عجوة، فكبشنا فكنا نأكل البسر من الجوع، وجعل أصحابنا إذا قرن أحدهم فقال لصاحبه إني قرنت فاقرنوا» على الرفع وعدم الإدراج لأن هذا الفعل منهم في زمنه دالّ على أنه كان مشروعاً بينهم، وقول الصحابي: كنا نفعل في زمانه له حكم الرفع عند الجمهور، وقد اعتمد البخاري هذه الزيادة، ولا يلزم من كون ابن عمر ذكر الإذن مرة غير مرفوع أن لا يكون مستنده فيه الرفع (متفق عليه) قال المزي: رواه البخاري في المظالم وفي الشركة وفي الأطعمة من «صحيحه» ، ورواه مسلم في الأطعمة من «صحيحه» ورواه أبو داود والترمذي في الأطعمة أيضاً والنسائي ي الوليمة وابن ماجه في الأطعمة والترمذي وقال حسن صحيح. 106 - باب ما يقوله من الأذكار ويفعله من يأكل ولا يشبع

باب الأمر بالأكل من جانب القصعة والنهي عن الأكل من وسطها

1743 - (عن وحشي) بفتح الواو وسكون المهملة وكسر الشين المعجمة وتشديد التحتية (بن حرب) الحبشي (رضي الله عنه) يكنى أبا دسمة بفتح المهملتين والميم، قال المصنف وهو من سودان أهل مكة ويقال هل الحبشي وهو مولى طعيمة بن عدي، وقيل مولى جبير بن مطعم بن نوفل بن عبد مناف، وهو الذي قتل حمزة يوم أحد وشارك في قتله مسيلمة الكذاب، وكان يقول: قتلت في جاهليتي خير الناس، وقتلت بعد إسلامي شرّ الناس. صحابي نزل حمص ومات بها، خرّج عنه البخاري وأبو داود وابن ماجه، كذا في «تقريب» الحافظ ابن حجر. قال المصنف: وروي له عن النبيّ أربعة أحاديث، وقيل ثمانية، روى البخاري منها حديثاً واحداً في قتله حمزة، قال المصنف: قيل سكن دمشق، والصحيح أنه سكن حمص (أن أصحاب النبي قالوا: يا رسول الله إنانأكل ولا نشبع) الجملة معطوفة على جملة الخبر قبلها ويجوز إعرابها حالاً (قال: فلعلكم) هي هنا للاستفهام كقوله تعالى: {وما يدريك لعله يزّكى} (عبس: 3) وهذا الاستفهام ليس على حقيقته، بل المراد التنبيه والإيماء على علة عدم الشبع قاله ابن رسلان (تفترقون) بأن تأكلوا متفرقين (قالوا نعم، قال فاجتمعوا على طعامكم) وذلك لأن البركة في الجمع ومن ثم شرعت الجماعة في الصلوات (واذكروا اسم الله) أي قولوا بسم الله عند أكله (يبارك) بالجزم جواب الطلب وهو مبني للمفعول (لكم فيه) أي يوضع لكم فيه البركة بحيث تشبعون إذا اجتمعتم وذكرتم اسم الله بالتسمية والحمد آخره (رواه أبو داود) في الأطعمة، وكذا رواه ابن ماجه في «السنن» في الأطعمة، ورواه الطبراني من حديث ابن عمر بزيادة في آخره «فإن طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة» . باب الأمر بالأكل من جانب القصعة والنهي عن الأكل من وسطها

بالفتح قال في «المصباح» : ضربت وسط رأسه بالفتح لأنه اسم لما يكشفه من جهاته غيره، ويصح دخول العوامل عليه فيكون فاعلاً ومفعولاً ومبتدأ، والسكون فيه جائز، أما وسط بالسكون فهو بمعنى بين نحو جلست وسط القوم: أي بينهم اهـ (فيه) أي مضمون الباب (قوله) في حديث عمر بن أبي سلمة (وكل مما يليك) أي دون وسطها وما يلي صاحبك (متفق عليه) كما سبق. 1744 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبيّ قال: البركة) التي أودعها الله في الطعام (تنزل وسط الطعام) فلا يأكل وسط الصحن جامداً كان كالثريد أو مائعاً كالأمراق. وقال الغزالي: ولا يأكل من وسط الرغيف بل من استدارته، إلا إذا قلّ الخبز فيكسر الخبز (فكلوا من حافتيه) بتخفيف الفاء: أي من ناحيته، قال في «المصباح» : حافة كل شيء ناحيته، وأصله حوفة مثل قصبة فقلبت الواو ألفاً، والمراد من التثنية هنا ما فوق الواحد فيعم سائر الجوانب (ولا تأكلوا من وسطه) والنهي كما قال المصنف محمول على التنزيه، وتعقبه الإسنوي بأن الشافعي نص على تحريم ذلك، ولفظه في «الأم» : فإن أكل مما يلي غيره أو من رأس الطعام أثم بالفعل الذي فعله إذا كان عالماً بنهي النبيّ. (رواه أبو داود) أي ينحوه (والترمذي) في الأطعمة واللفظ له، وكان على المصنف تقديمه ذكراً لكونه راوي اللفظ، وإنما لأبي داود منه المعنى (وقال: حديث حسن صحيح) إنما نعرفه من حديث عطاء بن السائب/ 2745 - (وعن عبد الله بن بسر) بضم الموحدة وسكون المهملة المازني أحد من صلى إلى

القبلتين تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب المجاهدة (قال: كان للنبي قصعة) بفتح القاف وجمعها قصع كبدرة وبدر (يقال لها الغراء) بالغين المعجمة وغراء تأنيث الأغرّ، مشتق من الغرّة: وهي بياض الوجه وإضاءته، ويجوز أن تكون من الغرة بمعنى الشيء النفيس والمرغوب فيه، فيكون وصفها بذلك لرغبة الناس فيها لنفاسة ما فيها أو لكثرة ما تسعه. وقال المنذري. وسميت غراء لبياضها بالألية والشحم أو لبياض وبرها أو لبياضها باللبن (ويحملها أربعة رجال) يحتمل أن يكون لها حلق أربع، فقد جاء عند أحمد في «مسنده» من حديث ابن بسر هذا قال «كان للنبي جفنة لها أربع حلق» ويحتمل ألا يكون لها حلق وما في حديث أحمد في جفنة غير الغراء (فلما أضحوا) أي دخلوا في الضحى وهو قدر ربع النهار (وسجدوا) أي صلوا (الضحى) أي صلاته، وظاهره أنهم صلوها جماعة، ويحتمل أن كلاً صلاها بمفرده (أتى) بالبناء للمفعول (بتلك القصعة) وقوله (يعني وقد ثرد فيها) من كلام بعض الرواة بعد ابن بسر. والثريد بالمثلثة فتّ الخبز وبله بالمرق، والمراد ثرده بماء اللحم لأن الثريد غالباً لا يكون إلا من لحم (فالتفوا) بتشديد الفاء: أي استداروا (عليها فلما كثروا) بضم الثاء وضاقت بهم الحلقة (جثا رسول الله) بالجيم والمثلثة: أي قعد على ركبتيه جالساً على ظهور قدميه. وفيه استحباب هذه الجلسة عند ضيق المجلس (فقال أعرابي) أي من الحاضرين (ما هذه الجلسة) بكسر الجيم: أي ما هذه الهيئة التي جلست عليها (قال رسول الله: إن الله جعلني عبداً كريماً) أي شريفاً بالنبوة والعلم (ولم يجعلني جباراً) من الجبر: وهو قهر الغير على مراد القاهر (عنيداً) قال في «النهاية» : هو الجائز عن القصد الباغي الذي يردّ الحق مع العلم به (ثم قال رسول الله: كلوا من حواليها) قال ابن رسلان: أي من جوانبها بدليل رواية ابن ماجه «كلوا من جوانبها» اهـ، وبه يتبين أن حركة اللام فيه الكسر فإنه جمع (ودعوا) أي اتركوا (ذروتها يبارك) بالجزم: أي يكن

108 ـــ باب كراهية الأكل متكئا

ذلك مع ذكر الله تعالى سبب حصول البركة (فيها) أي في جميع ما فيها من الأعلى والأسفل. وفيه الحرص على إبقاء ما فيه البركة والخير وعدم إزالته، فبحصولها يحصل الخير الكثير. وجاء في الحديث «من بورك له في شيء فليلزمه» (رواه أبو داود) في الأطعمة من «سننه» (بإسناد جيد) وهو من رباعياته ورواه ابن ماجه مختصراً. (ذروتها) أعلاها بكسر الذال وضمها، وكذا عبر به في «المصباح» ، لكن قال ابن رسلان بكسر الذال، ويقال بضمها فاقتضى أن الكسر هو الأصل. 108 - باب كراهية الأكل متكئاً قال في «النهاية» : المتكىء في العربية: كل من استوى قاعداً على وطاء متمكناً. والعامة لا تعرف المتكىء إلا من مال في قعوده كأنه أوكأ مقعدته وشدها بالقعود على الوطاء الذي تحته. 1746 - (عن أبي جحيفة) بضم الجيم وفتح الحاء المهملة الخفيفة وسكون التحتية بعدها فاء: وهب بن عبد الله السوائي، بضم المهملة وتخفيف الواو بعدها همزة نسبة إلى سوء بن عامر ابن صعصعة، توفي رسول الله وأبو جحيفة مراهق، وولى بيت المال لعليّ (رضي الله عنه قال: قال رسول الله «لا آكل متكئاً» رواه البخاري) وأبو داود (قال) أحمد بن محمد بن إبراهيم (الخطابي) بفتح الخاء المعجمة وتشديد الطاء المهملة وبعد الألف موحدة نسبة إلى الخطاب البستي الإمام المشهور صاحب «معالم السنن» على أبي داود (المتكىء ها هنا) أي في هذا الحديث وما شابهه (هو الجالس معتمداً على وطاء تحته، قال. وأراد أنه لا يقعد على وطاء) بكسر الواو وتخفيف المهملة والألف ممدودة، قال في «المصباح» : هو المهاد الوطىء (والوسائد) جمع وسادة بالكسر: هي المخدة (كفعل من يريد

109 ـــ باب استحباب الأكل بثلاث أصابع

الإكثار من الطعام) أي فإنه يجلس كذلك (بل يقعد مستوفزاً) أي غير مطمئن للجلوس ولذا قال (لا مطمئناً ويأكل بلغة) بضم الموحدة وسكون اللام: أي يكتفي ويجترىء به (هذا كلام الخطابي، وأشار غيره إلى أن المتكىء في الخبر هو المائل على جنبه والله أعلم) وعلله بأن ذلك فعل المتجبرين المتكبرين، ولأنه يمنع نزول الطعام وانحداره في مجاري الأكل وإساغته هنيئاً. 2747 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله جالساً مقعياً يأكل تمراً) زاد الترمذي في «الشمائل» قوله «وهو مقع من الجوع» (رواه مسلم) ورواه الترمذي في «الشمائل» (والمقعي هو الذي يلصق ألييه بالأرض وينصب ساقيه) زاد الجوهري ويتساند ظهره: وهو الاحتباء الذي هو جلوس الأنبياء وأكثر جلوسه، وإنما كره هذا الإقعاء في الصلاة للنهي عنه، لأن فيه تشبهاً بالكلاب وطلب في الأكل لما فيه من الاستيفاز وعدم التقعد المشعر بأن أكله بقدر الحاجة مع ما فيه من التشبه بالأرقاء ففيه غاية التواضع. 109 - باب استحباب الأكل بثلاث أصابع واستحباب لعق الأصابع اغتناماً لبركة الطعام، نعم يكره لعقها في أثناء الأكل لأنه يعيدها إلى الطعام وعليها أثر

ريقه فيقذره (وكراهة مسحها قبل لعقها) لاحتمال كون ذلك الممسوح هو المبارك فيه من الطعام (واستحباب لعق القصعة) أي أخذ ما فيها بالأصبع ولحسه منه وذلك لما تقدم وإعمالاً للتواضع وكسر النفس (وأخذ اللقمة التي تسقط منه وأكلها) ما لم تتنجس ويتعذر تطهيرها، فإن تعذر تطهيرها أطعمها للحيوان ولا يتركها للشيطان، وإن أمكنه تطهيرها فينبغي فعل ذلك وتناولها بعدها (وجواز مسحها) أي الأصابع (بعد اللعق) أي اللحس لها (بالساعد) هي قصبة الذراع (والقدم وغيرهما) كمسح اليد باليد. 1748 - (عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله إذا أكل أحدكم طعاماً) أي فيه رطوبة تعلق بالأصابع (فلا يمسح) ندباً (أصابعه) بمنديل ونحوه (حتى يلعقها) بفتح التحتية والمهملة: أي يلحسها هو اغتناماً للبركة وحرصاً عليها (أو) للتنويع (يلعقها) بضم التحتية وكسر المهملة: أي يلحسها من لا يقذر من ذلك منه من ولد وتلميذ ومريد (متفق عليه) روياه في الأطعمة من «صحيحيهما» ، ورواه أيضاً أحمد وأبو داود وابن ماجه كلهم من حديث ابن عباس، قال الخطابي: عاب قوم أفسد عقلهم الترفه فزعموا أن لعق الأصابع أن يلعقها وبطن كفه إلى جهة وجهه مبتدئاً بالوسطى ثم السبابة ثم الإبهام. فعند الطبراني من حديث كعب بن عجرة قال «رأيت النبي يأكل بأصابعه الثلاث بالإبهام والتي تليها والوسطى، ثم رأيته يلعق أصابعه الثلاث قبل أن يمسحها الوسطى ثم التي تليها ثم الإبهام» والسرّ في ذلك أن الوسطى أكثر تلوّثاً لأنها أول داخل في الطعام ثم المسبحة، أشار إليه في «الفتح» . 2749 - (وعن كعب بن مالك) الأنصاري (رضي الله عنه قال؛ رأيت رسول الله يأكل بثلاث أصابع) قال العلماء: فيستحب الأكل بثلاث أصابع ولا يضم إليها الرابعة والخامسة

إلا لضرورة، فقد قيل إنه ربما كان في الأكل يرابع أصابعه وكان لا يأكل بأصبعين وقال: إن الشيطان يأكل بهما. وما أخرجه سعيد بن منصور من مرسل ابن شهاب «أن النبي إذا أكل يخمس» فمحمول على القليل النادر لبيان الجواز أو على المائع، فإن عادته في أكثر الأوقات هو الأكل بثلاث أصابع. قيل وإنما اقتصر عليها لأنه الأنفع، إذ الأكل بأصبع واحدة مع أنه فعل المتكبرين لا يستلذّ به الآكل ولا يستمري به لضعف ما يناله منه كل مرة، فهو كمن أخذ حقه حبة حبة، وبالأصبعين مع أنه فعل الشيطان ليس فيه استلذاذ كامل مع أنه مفوّت الفردية، والله وتر يحبّ الوتر، والخمس مع أنه فعل الحريص الفجع يوجب ازدحام الطعام على مجراه من المعدة فربما أفسد مجراه فأوجب الموت فوراً وفجأة (فإذا فرغ) أي من أكله (لعقها) بكسر المهملة: أي لحسها لما تقدم ومبالغة في التنظيف (رواه مسلم) في الأطعمة، ورواه أبو داود فيها من «سننه» ، ورواه الترمذي في «الشمائل» ، ورواه النسائي في الوليمة. 3750 - (وعن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله أمر بلعق الأصابع والصحفة) أي ومن النهي عن قرينه السابق في أول الباب، فإن النهي عن الشيء أمر بضده (وقال) مبيناً حكمة الأمر بذلك (إنكم) بكسر الهمزة على الاستئناف البياني ويجوز فتحها على تقدير لام التعليل قبلها (لا تدرون) أي لا تعلمون (في أي طعامكم) أي في أي جزء من أجزائه (البركة) أهي في المأكول أو الباقي بالأصبع أو الباقي بالقصعة ونحوها من اللقمة الساقطة ومن ثم استحب التقاطها كما تقدم، ويأتي دليله في الحديث عقب هذا، والبركة هنا والله أعلم ما يحصل به التغذية وتسلم عاقبته من أذى ويقوي على الطاعة وغير ذلك كما قال المصنف في «شرح مسلم» ، ثم ما علل به من الأمر باللعق في الحديث لا يمنع أن يكون له علة أخرى كما قال الحافظ ابن حجر، فقد تكون العلة هنا أيضاً كما قال عياض: ألا يتهاون بقليل الطعام: أي الباقي في آخر القصعة أو الساقط، وقد تكون العلة أيضاً كما قال ابن

دقيق العيد أن مسحها قبل لعقها فيه زيادة تلويث لما يمسح به مع الاستغناء عنه بالريق (رواه مسلم) وأحمد والنسائي وابن ماجه كما في «الجامع الصغير» . 4751 - (وعنه أن رسول الله قال: إذا وقعت) سقطت (لقمة أحدكم) بضم اللام قال في «المصباح» : هو اسم لما يلقم في مرة كالجرعة اسم لما يجرع في مرة (فليأخذها) من الذي سقطت فيه ندباً (فليمط) بضم التحتية وكسر الميم وبالطاء المهملة، قال المصنف في «شرح مسلم» : حكى أبو عبيدة ماطه وأماطه: نحاه، وقال الأصمعي: أماطه لا غير، ومنه إماطة الأذى ومطت عنه: أي تنحيت (ما كان بها من أذى) الظرف بيان لإبهام مَّا، والمراد بالأذى هنا المستقذر من غبار وتراب ونحوه (وليأكلها) ندباً تحرصاً على البركة وحمل النفس على التواضع ومعاملة الشيطان بنقيض قصده كما قال (ولا يدعها للشيطان ولا يمسح يده بالمنديل) يكسر الميم وهو معروف، قال ابن فارس في «المجمل» : لعله مأخوذ من الندل وهو النقل. وقال غيره: من الندل وهو الوسخ لأنه يندل به، قال أهل اللغة يقال تندلت بالمنديل، قال الجوهري: ويقال أيضاً تمندلت، وأنكرها الكسائي وتقدم هذا (حتى يلعق أصابعه) اقتصر عليه لأنه الأعم الأغلب فلا ينافي ما تقدم من قوله «حتى يلعق أصابعه أو يلعقها» لأن ذلك لمن له تبع لا يستقذر منه كما تقدم (فإنه لا يدري في أي طعامه البركة. رواه مسلم) في كتاب الأطعمة، ورواه ابن ماجه في الأطعمة من «سننه» ولم يذكر في الحديث لعق الأصابع. 5752 - (وعنه أن رسول الله قال: إن الشيطان) أل فيه للجنس، ويحتمل كونها للعهد: أي كبيرهم وهو إبليس (يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه) قال المصنف: فيه التحذير منه والتنبيه على ملازمته الإنسان في سائر تصرفاته، فينبغي أن يتأهب ويحترزه منه ولا يغترّ

بما يزينه له (حتى يحضره عند طعامه) ليلهيه عن ذكر الله تعالى فيستحل الطعام ويضرب على اللقمة بيده لتقع (فإذا سقطت لقمة أحدكم فليأخذها فليمط ما كان بها من أذى) الفاء الأول للتفريع والثانية رابطة للجواب بالشرط والثالثة للعطف، والإتيان بثم في قوله (ثم ليأكلها) لتراخي ما بين الأكل وسقوط اللقمة (ولا يدعها للشيطان، فإذا فرغ) أي من أكله (فليلعق أصابعه) أي واحداً بعد واحد كما تقدم سند الطبراني (فإنه لا يدري في أي طعامه البركة) وبفعله لما ذكر واستيعاب الطعام قدر حاجته استوعب ما هو مظنة لها (رواه مسلم) بل جعله المزي في «الأطراف» مع ما قبله حديثاً واحداً إلا أن الإسناد إلى جابر مختلف فيه وعبارته. وزاد جرير في أول حديثه «إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه حتى يحضره عند طعامه» وحديثا جابر تقدم الكلام عليهما في باب اتباع السنة. 6753 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله إذا أكل طعاماً لعق) بكسر العين (أصابعه الثلاث) أي إذا اقتصر عليها كما هو غالب فعله في أكله، أما إذا أكل نحو مائع فكان بالخمس كما تقدم فيلعق الجميع (وقال: إذا سقطت لقمة أحدكم فليمط عنها الأذى) لتقبل عليها النفس (وليأكلها ولا يدعها للشيطان، وأمرنا) معطوف على كان ومعمولها (أن نسلت) بفتح النون وضم اللام أي نمسح (القصعة) ونتبع ما فيها من الطعام ومنه سلت الدم (وقال) معللاً للأثر بما ذكر في الحديث على طريق الاستئناف البياني النحوي (إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة. رواه مسلم) وهذه الأحاديث سبقت مشروحة في باب الأمر

بالمحافظة على السنة وفيما هنا بسط زائد على ما ذكر ثمة، وسبق حديث أنس في باب التواضع. 7754 - (وعن سعيد بن الحارث) تقدمت ترجمته (إنه سأل جابراً) على تقدير القول قبله: أي قال إنه سأل جابراً (رضي الله عنه عن الوضوء مما مست النار) من أكل ما مسته بخبز أو طبخ أو شتى أو قلى (فقال لا) أي لا وضوء، ثم بين مستنده في ذلك بقوله (قد) للتحقيق (كنا في زمن النبي لا نجد مثل ذلك الطعام إلا قليلاً) وذلك لإعراضهم في عصره عن حظوظ النفوس واقتصارهم على أدائهم حقوقها (فإذا نحن وجدناه) من الوجود بضم الواو ضد العدم (لم يكن لنا مناديل) نمسح بها وضر الطعام (إلا أكفنا وسواعدنا وأقدامنا) استثناء منقطع، والأكفّ بفتح الهمزة وضم الكاف وبتشديد الفاء جمع كف وهي مؤنثة. قال ابن الأنباري: وزعم من لا يوثق به أنها مذكرة ولا يعرف تذكيرها عمن يوثق بعلمه، وأما قولهم كف مخضب فعلى معنى قولهم ساعد مخضب، ويجمع في القلة على أكف كفلس وأفلس وفي الكثرة على كفوف كفلوس وهي الراحة مع الأصابع، سميت بذلك لأنها تكفّ الأذى عن البدن. والسواعد جمع ساعد: وهي من الإنسان ما بين المرفق والكف، سمي ساعداً لأنه يساعد الكف في بطشها وعملها والأقدام جمع قدم وهي مؤنثة وهي معروفة اهـ ملخصاً من «المصباح» ، والمعنى: أن الصحابة كانوا يمسحون ما بقي في أصابعهم بعد لعقها من لزوجة الطعام بما ذكر (ثم نصلي ولا نتوضأ) وهذا ناسخ لما جاء من الأمر بالوضوء عند أكل ما مست النار (رواه البخاري) في الأطعمة، ورواه ابن ماجه في سننه اهـ.

110 ـــ باب تكثير الأيدي على الطعام

110 - باب تكثير الأيدي على الطعام أي ما جاء في الحديث مما فيه الإيماء إلى طلب ذلك. 1755 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: طعام الاثنين كافي الثلاثة. وطعام الثلاثة كافي الأربعة) قال ابن المهلب: المراد بهذا الحديث وما في معناه الحضّ على المكارمة والتقنع بالكفاية، وليس المراد الحصر في مقدار المواساة، وأنه ينبغي للاثنين إدخال ثالث بل ورابع أيضاً لا بحسب ما يحتسب من يحضر. وقع عند الطبراني ما يرشد إلى العلة في ذلك وأوله «كلوا جميعاً ولا تفرقوا، طعام الواحد يكفي الاثنين» فيؤخذ منه أن الكفاية تنشأ عن بركة الاجتماع وأن الجمع كلما كثر زادت البركة. قال ابن المنذر: يؤخذ من الحديث استحباب الاجتماع على الطعام وألا يأكل وحده اهـ. (متفق عليه) . 2756 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية. رواه مسلم) وقد تقدم الحديثان مع شرحيهما وبيان من خرّجهما زيادة على ما ذكره المصنف هنا في باب المواساة والإيثار. وروى الطبراني في حديث جابر لكن عن ابن عمر بلفظ «طعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية، فاجتمعوا عليه ولا تفرقوا» أورده السيوطي في «الجامع الصغير» ، وتقدم في كلام «الفتح» الإشارة إليه.

111 - باب آداب الشرب بضم الشين المعجمة: وهو إدخال المائع الجوف (واستحباب التنفس ثلاثاً) لأن تركه مع توارد الشرب وتصاعد البخار من المعدة مؤد إلى الشرقة. واستحباب التنفس ثلاثاً مذهب الجمهور، وإلا ففي «فتح الباري» قال الأثرم: اختلاف الروايات في هذا: أي عدد التنفس هالّ على الجواز وعلى اختيار الثلاث، واستدل به مالك على جواز الشرب بنفس واحد. وأخرج ابن أبي شيبة الجواز عن سعيد بن المسيب. وقال عرم بن عبد العزيز: إنما نهى عن التنفس داخل الإناء، أما من لم يتنفس، فإن شاء فليشرب بنفس واحد، وقد ورد الأمر بالشرب بنفس واحد من حديث أبي قتادة مرفوعاً أخرجه الحاكم وهو محمول على التفصيل المذكور اهـ (خارج الإناء) بأن يتنفس بعد فصله له عن فيه (وكراهة التنفس فيه) لئلا يخرج من فيه مع النفس ما يتقذر به الشراب من نحو بلغم أو يبقى في الإناء ريح كريهة لذلك (واستحباب إدارة الإناء على الأيمن فالأيمن بعد المبتدىء) يؤخذ من قوله بعد المبتدىء أن التيامن بعده لا ينظر إليه، وتقدم أنه ينبغي تقديم ذوي الفضل ثم ينظر إلى الأيمن منه، والله تعالى أعلم. 1757 - (عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله كان يتنفس في الشراب ثلاثاً، متفق عليه) رواه البخاري في كتاب الأشربة من «صحيحه» بلفظ «كان أنس يتنفس من الإناء مرتين أو ثلاثاً، وزعم أن النبيّ كان يتنفس ثلاثاً» ورواه مسلم فيه، وكذا رواه فيه الترمذي وقال صحيح، ورواه النسائي في الوليمة وابن ماجه في الأشربة، وقال النسائي: قال قتادة: في هذا الحديث خطأ اهـ ملخصاً من «الأطراف» للمزي (يعني يتنفس خارج الإناء) أي بعد إبانة الإناء عن فيه، وأراد بذلك الإشارة إلى دفع التعارض بين هذا الحديث وحديث نهيه

عن التنفس في الإناء الآتي في الباب بحمل حالة النهي عن التنفس في نفس الإناء حالة الشرب وحالة الفعل على التنفس خارجه. فالنهي على ظاهره، وحديث الفعل على تقدير كان يتنفس حال الشرب ثلاثاً: أي في حال حمل الإناء، وقال القرطبي: قال بعضهم: هذا منه معارض للنهي عنه، وحينئذ هذا بيان للجواز وأن النهي للتنزيه لا للتحريم، وقيل بل هذا من خصائصه لأنه كان لا يتقذر بشيء منه اهـ. 2758 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: لا تشربوا واحداً) صفة مصدر محذوف: أي شراباً بأن لا تتنفسوا بينه (كشرب البعير) فإنه لا يتنفس بين شربه (ولكن) بكسر النون لملاقاتها ساكنة مع شين (اشربوا مثنى) أي في نفسين (وثلاث) بضم المثلثة أنفاساً ثلاثة، تقدم في كلام الفتح أن هذا الحديث وما في معناه محمول على التنفس في الإناء، وحديث الأمر بأن يتنفس في الشرب مرة محمول على ما لم يتنفس فيه. قال في «الفتح» : النهي عن الشرب من نفس واحد للتنزيه (وسموا إن أنتم شربتم) إن شرطية والضمير المنفصل بعدها فاعل لفعل الشرط المقدر المفسر بالمذكور بعده وكذا حال الشرطية بعده (واحمدوا إن أنتم رقعتم) من الشراب في كل مرة من الثلاث أو المرتين، واختلاف حرفي الشرط تفنن في التعبير (رواه الترمذي) في «جامعه» (وقال: حديث حسن) خالفه الحافظ في «فتح الباري» ، فحكم بأن سنده ضعيف ثم قال بعده: فإن كان محفوظاً الخ ما قال اهـ. والترمذي كثيراً ما يخالفه الحافظ في حكمه على الحديث، على أن النسخة التي عندي من الترمذي فيها ما يوافق كلام الحافظ، فإن فيها هذا حديث غريب وليس فيها تعرّض لتحسينه، ورأيت كذلك في نسخة أخرى. والذي حسنه الترمذي في ذلك الباب حديث آخر فلعل بصر المصنف انتقل منه إلى حديث الباب. 3759 - (وعن أبي قتادة رضي الله عنه: أن النبي نهى أن يتنفس في الإناء) قال

المهلب: النهي عن النفس في الشرب كالنهي عن النفخ في الطعام والشراب من أجل أنه قد يقع فيه شيء من الريق فيعافه الشارب ويستقذره إذا كان التقذر في مثل ذلك عادة غالبة على طباع أكثر الناس. قال الحافظ: ولا فرق في ذلك بين كونه مع غيره أو وحده، إذ لا يؤمن مع ذلك أن تفضل فضلة أو يحصل النفور من الإناء أو نحوه وقال: قال ابن العربي: قال علماؤنا: هو من مكارم الأخلاق، ولكن يحرم على الرجل أن يناول أخاه ما يقذره، فإن فعله في خاصة نفسه ثم جاء غيره فليعلمه، فإن لم يعلمه فهو غشّ والغشّ حرام. وقال القرطبي: معنى النهي عن التنفس في الإناء لئلا يتقذر به من البزاق أو أثر رائحة كريهة تعلق بالماء، وعليه إذا لم يتنفس يجوز له الشرب بنفس واحد، وقيل يمنع لأنه شرب الشيطان (متفق عليه) رواه البخاري في الطهارة، وقال الترمذي: حسن صحيح (يعني) بالتنفس المنهي عنه (يتنفس في نفس الإناء) تقدم أن هذا منه إشارة لدفع التعارض بين الحديثين. 4760 - (وعن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله أتى) بالبناء للمجهول (بلبن قد شيب) بكسر المعجمة. وشوبه إما لإبراد حرارته لكونه حليباً أو ليكثر فيعمّ (بماء) وقد عين في رواية أخرى بأنه الذي حلب وشاب المحلوب بالماء، فإن كانت القصة واحدة فأبهم الفاعل لغرض وإن كانت متعددة وأن ما في هذا الحديث غير ما في قصته فالأمر واضح (وعن يمينه أعرابيّ وعن يساره أبو بكر رضي الله عنه) الجملة حال من ضمير أتى، وقد جاء في رواية «وعن يساره أبو بكر وعمر تجاهه» (فشرب ثم أعطى الأعرابي فضله) أي ما فضل من الإناء بعد شربه (وقال) جواباً لقول عمر له كما جاء في رواية: فقال عمر وخاف أن يعطيه الأعرابي أعط أبا بكر، وفي رواية: فقال عمر هذا أبو بكر. قال الخطابي: كانت العادة جارية لملوك الجاهلية ورؤسائهم بتقديم الأيمن في الشرب وغيره، فخشي عمر بتقديم الأعرابي على أبي بكر كذلك، فنبه عليه لأنه احتمل عنده تقديم النبي أبا بكر تلك العادة فتصير السنة تقديم

الأفضل في الشرب على الأيمن، فبين النبيّ بفعله وقوله (الأيمن فالأيمن) أن تلك العادة لم تغيرهاالسنة وأنها مستمرة من تقديم الأيمن على غيره وإن كان أفضل، ولا يحطّ ذلك من رتبته، وكأن ذلك لفضل اليمين على اليسار، ويجوز رفع الأيمن على أنه مبتدأ محذوف الخبر: أي الأيمن أحق فالأيمن، أو على أنه خبر لمبتدإ محذوف: أي المقدم الأيمن، أو فاعل لمحذوف: أي يقدم الأيمن، ويجوز النصب على تقدير قدموا أو أعطوا.g قال في «الفتح» : واستنبط من تكرير الأيمن أن السنة إعطاء من على اليمين ثم الذي يليه وهكذا، ويلزم منه شرب عمر قبل أبي بكر لكن الظاهر أن عمر يؤثر أبا بكر اهـ (متفق عليه) رواه البخاري ومسلم في الأشربة من «صحيحيهما» (قوله شيب: أي خلط) ومحل النهي عن شراب اللبن بالماء إنما هو في المبيع منه لما فيه من الغش والخديعة المحرمين. 5761 - (وعن سهل بن سعد رضي الله عنه: أن رسول الله أتى بشراب فشرب منه) أي بعضه (وعن يمينه غلام) سيأتي تسميته (وعن يساره أشياخ) تقدم معناه (فقال للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء) قال ابن الجوزي: إنما استأذن الغلام دون الأعرابي لأنه لم يكن له علم بالشريعة، فاستألفه بترك استئذانه بخلاف الغلام. وقال المصنف: السرّ فيه أن ابن عباس كان ابن عمه وكان له عليه إدلال، وكان من عن اليسار أقارب الغلام فطيب نفسه مع ذلك بالاستئذان لبيان الحكم وأن السنة تقديم الأيمن ولو مفضولاً بالنسبة إلى من على اليسار. وقد جاء في السنن أن النبي تلطف به وقال: الشربة لك، وإن شئت آثرت بها خالداً، وفي لفظ لأحمد: وإن شئت آثرت عمك. وإنما أطلق عليه عمه لأنه أسن منه ولعل سنه كان قريباً من سن العباس، وإن كان من جهة أخرى من أقرانه لكونه ابن خالته، وكان خالد مع رياسته في الجاهلية وشرفه في قومه قد تأخر إسلامه فلذا استأذن له ابن عباس،

112 ـــ باب كراهية الشرب من فم القربة ونحوها

بخلاف أبي بكر فإن رسوخ قدمه في الإسلام وسبقه يقتضي طمأنينته بجميع ما يقع منه وعدم التأثر بشيء منه. قال الحافظ ابن حجر: وظاهر قوله أتأذن لي الخ أنه لو أذن لأعطاهم، فيؤخذ منه جواز الإيثار بمثل ذلك وهو مشكل على ما اشتهر من كارهة الإيثار بالقرب اهـ. وقد أجبت عنه في كتاب فضل زمزم (فقال الغلام لا) المنفي محذوف بدليل ذكره في الاستفهام أي لا أوثر به (والله) وأكد بالتصريح بذكر ذلك المقدر بقوله (لا أوثر بنصيبي منك أحداً) أي من قريب ولا شيخ لما في ذلك النصيب من علوّ المقام المكتسب له بكونه سؤر المصطفى (فتله رسول الله في يده. متفق عليه) وقد تقدم الحديث مع شرحه في باب التنافس في أمور الآخرة (قوله تله) بفتح المثناة الفوقية وتشديد اللام (أي وضعه) وقال الخطابي وضعه بعنف وأصله من الرمي على التل وهو المكان العالي، ثم استعمل في كل شيء يرمى به وفي كل إلقاء، وقيل هو من التلتل بلام ساكنة بين المثناتين الفوقيتين المفتوحتين وآخره لام وهو العنف ومنه {وتله للجبين} أي صرعه فألقى عنقه وجعل جبينه إلى الأرض والتفسير الأول أليق بمعنى حديث الباب، وقد أنكر بعضهم تقييد الخطابي الوضع بالعنف. اهـ ملخصاً من «الفتح» للحافظ (وهذا الغلام هو ابن عباس رضي الله عنهما) أي عبد الله لأن هذا اللفظ منصرف إليه وهو ما حكاه ابن التين، قال في «الفتح» : وهذا هو الصواب، وحكى ابن بطال أنه الفضل أخوه. 112 - باب كراهية الشرب من فم القربة ونحوها كالدورق الذي خشيى بروز مؤذ حال الشرب لا يتمكن من رده (وبيان أنه) أي النهي المدلول عليه بالكراهة (كراهة تنزيه لا كراهة تحريم) .

1762 - (عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: نهى رسول الله عن اختناث الأسقية) قال في «فتح الإله» : الاختناث افتعال من الخنث بالخاء المعجمة والنون والمثلثة: وهو الانطواء والتكثير والانثناء، والأسقية: جمع سقاء، والمراد المتخذ من الأدم صغيراً كان أو كبيراً، وقيل القربة قد تكون كبيرة وقد تكون صغيرة ولا يكون السقاء إلا صغيراً (يعني أن تكسر) أي تثنى (أفواهها فيشرب منها) وليس المراد الكسر حقيقة ولا إبانتها، والقائل يعني لم يصرح به، وقد أدرج التفسير في الخبر في رواية في البخاري، قال ابن المبارك: قال معمر أو غيره: هو الشرب من أفواهها، وقد جزم الخطابي أن تفسير الاختناث من كلام الزهري، ويحمل تفسير الاختناث بمطلق الشرب من أفواهها على القيد بكونه مع كسر فمها وقلب رأسها. ووقع في مسند أبي بكر بن أبي شيبة في رواية في أول هذا الحديث «شرب رجل من سقاء فانساب في بطنه حيان فنهى رسول الله» فذكره، وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق أبي بكر وعثمان ابني أبي شيبة وفرقهما. والأفواه جمع فم، وهو على سبيل الردّ إلى الأصل في فم لأنه فوه، نقصت منه الهاء لاستثقال هاءين في نحو فوهة، فلما لم تحتمل الواو بعد حذف الهاء لسكونها عوضت ميماً فقيل فم وهذا إذا أفرد، ويجوز أن يقتصر على الميم حالة إضافته فتعتوره حركات الإعراب ظاهرة، فإن أضيف إلى مضمر كفت الحركات ولا يضاف مع الميم إلا في ضرورة شعر كقوله: «يصبح ظمآن وفي البحر فمه» فإن أرادوا تصغيره أو تكسيره ردوه إلى الأصل فقالوا فويه وأفواه دون فم وأفمام اهـ ملخصاً (متفق عليه) روياه في الأشربة من «صحيحيهما» ، ورواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح، وابن ماجه كلهم في الأشربة من «سننهم» . 2763 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله أن يشرب من في السقاء أو) شك من الراوي (القربة) قال في «الفتح» : وكان الشك من سفيان، فقد وقع في رواية عبد الجبارين العلاء عن سفيان عند الإسماعيلي «من في السقاء» وفي رواية ابن أبي عمر

بدله عنده «من فم القربة» (متفق عليه) روياه في الأشربة، ورواه ابن ماجه فيها. 3764 - (وعن أم ثابت كبشة) بفتح الكاف وسكون الموحدة وبشين معجمة، قال ابن الأثير: ويقال كبيشة بالتصغير وتعرف بالبرصاء (بنت ثابت) الأنصارية (أخت حسان) بفتح المهملة الأولى وتشديد الثانية أحد شعراء النبي (ابن ثابت رضي الله عنه) قدم ضميره لقربه وإن كان فيه ترك لترتيب نشر اللفّ (وعنها) وعدل إلى ما عبر به مع ما فيه من الطول دفعاً لتوهم عود الضمير عليها وعلى أبيها فيوهم صحبته. روي لها عن رسول الله حديث واحد ذكرها ابن الجوزي، خرّج لها الترمذي وابن ماجه، ثم ماجزم به المصنف من كونها أخت حسان، حكاه المزي في «الأطراف» بصيغة يقال إنها أخت حسان بن ثابت، وهي جدة عبد الرحمن بن أبي عمرة، وجزم ميرك في «شرح الشمائل» بما جزم به المصنف، واستظهره القاري وجزم الشارح به وقال: هي كسيبة الأنصارية من بني مالك بن النجار (قالت: دخل عليّ رسول الله فشرب من في قربة معلقة قائماً) أتى بها لبيان أن النهي عن الشرب من فم القربة وعن القيام حال الشرب ليس على سبيل التحريم بل على سبيل التنزيه، أو أنه فعل ذلك لعدم إمكان الشرب حينئذ إلا كذلك (فقمت إلى فيها) أي قاصدة إليه (فقطعته، رواه الترمذي) في «جامعه» و «شمائله» (وقال) في «جامعه» (حديث حسن صحيح) غريب. ورواه ابن ماجه أيضاً وابن الأثير في «أسد الغابة» ، وقال رواه الثلاثة: يعني ابن عبد البرّ وأبا نعيم وابن منده (وإنما قطعتها) أي القربة بقطع فمها (لتحفظ موضع فم رسول الله) أي عندها (وتتبرك به) بالنصب عطفاً على تحفظ، والعطف هنا بالواو أحسن من عطف بعضهم لأحدهما على الثاني بأو الموهم أنه لأحدهم مع أنه لا مانع من كونه لهما كما صرح به المؤلف هنا. وفي «شرح مسلم» فقال: وقطعته لأمرين فذكرهما (وتصونه عن الابتذال) أي الامتهان (وهذا الحديث) أي ما فيه من الشرب من في القربة وقائماً (محمول على بيان

113 ـــ باب كراهة النفخ بالمعجمة في الشراب

الجواز) كما تقدم مع وجه آخر كذلك (والحديثان السابقان) في النهي عن الشرب من في القربة (لبيان الأفضل الأكمل، والله أعلم) فلا منافاة، وقد كان يجب عليه فعل المكروه ليشرعه ويعلم منه جوازه، فالكراهة بالنسبة لغيره لا له. 113 - باب كراهة النفخ بالمعجمة في الشراب خشية تقذر الشراب بما يصل إليه بواسطة النفخ. 1765 - (عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي نهى عن النفخ في الشراب) نهياً تنزيهياً (فقال رجل: القذاة) واحدة القذا، قال في «الصحاح» : القذاة في العين وفي الشراب ما يسقط فهي، وهو مرفوع خبره جملة (أراها) أي أبصرها أو منصوب بمحذوف تفسيره الفعل المذكور (في الإناء فقال: أهرقها) بالهاء أي أرقها (قال: فإني لا أروي من نفس) بفتح الفاء (واحد) أي لغلبة العطش (قال: فأبن) أي أزل (القدح إذا عن فيك) وتنفس لئلا يسبق شيء بالنفس إلى الإناء فتقذره (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) وانفرد به عن باقي الستة كما يؤخذ من «الأطراف» للمزي. 2766 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي نهى أن يتنفس) بالبناء للمفعول أو

بالبناء للفاعل وهو المتنفس المفهوم من الفعل قبله (في الإناء أو) للتنويع (ينفخ فيه) وذلك خشية الاستقذار (رواه الترمذي) هو والحديث قبله في باب واحد وترجم بما ترجم المصنف (وقال: حسن صحيح) الذي رأيته في أصل معتمد منه هذا الحديث صحيح. 114 - باب بيان جواز الشرب قائماً أي عدم حرمته، فلا ينافي كراهته (وبيان أن الأكمل والأفضل الشرب قاعداً. فيه) أي في الباب (حديث كبشة السابق) مع شرحه في باب كراهة الشرب من فم القربة. 1767 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سبقت النبي من زمزم) فيه إطلاق ذلك على نفس الماء فيكون زمزماً اسماً له، ويحتمل أن يكون على تقدير مضاف: أي من ماء زمزم فيكون زمزم اسماً للبئر (فشرب وهو قائم) وذلك لبيان الجواز أو لضيق المحل عن التمكن من الجلوس، وقد بسطت الكلام على ذلك في كتاب «درر القلائد فيما يتعلق بزمزم وسقاية العباس من الفوائد» (متفق عليه) روياه في الأطعمة من «صحيحهما» . 2768 - (وعن النزل) بفتح النون وتشديد الزاي (ابن سبرة) بفتح المهملة وسكون الموحدة

الهلالي الكوفي ثقة من كبار التابعين، وقيل إن له صحبة كذا في «تقريب الحافظ» ، وليس للنزال في البخاري سوى هذا الحديث كما في «الفتح» (قال: أتى علي رضي الله عنه باب الرحبة) بفتح الراء وبالمهملة وبالموحدة وهو المكان المتسع، ومنه رحبة المسجد وهي ساحته قال ابن التين: فعلى هذا تسكن حاء الرحبة، ويحتمل أنها صارت رحبة الكوفة بمنزلة رحبة المسجد فيقرأ بالتحريك، قال الحافظ ابن حجر: وهذا هو الصحيح (فشرب قائماً) أي بعد غسله وجهه ورأسه ورجليه (وقال إني رأيت) أي أبصرت (رسول الله فعل كما رأيتموني فعلت) وجملة فعل الخ في محل الحال من مفعول الفعل بإضمار قد، ويجوز كون رأي علمية فالجملة ثاني مفعوليها والمشار إليه بقوله فعلت كما رأيتموني فعلت: قال الحافظ: هو الشرب من قيام ثم أورد ما يدل له ومنه قول على: «إن أشرب قائماً فقد رأيت رسول الله يشرب قائماً، وإن أشرب قاعداً فقد رأيته يشرب قاعداً» (رواه البخاري) في الأشربة من «صحيحه» ، ورواه أيضاً أبو داود فيها والترمذي في «الشمائل» والنسائي في الطهارة. 3769 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نأكل على عهد) أي زمن (رسول الله ونحن نمشي) الجملة الاسمية حال من فاعل نأكل وهذا محمول على أنه جائز: أي لا يحرم، وإن كان منهياً عنه فالنهي فيه تنزيهي لا تحريمي وكذا قوله (ونشرب ونحن قيام) جمع قائم كقوله تعالى: {فاذكروا الله قياماً وقعوداً} (النساء: 103) وهذا الفعل فيهما خلاف الأكثر من شأنهم فيهما، فالأكثر فعل الأكل والشرب من قعود (رواه الترمذي) في الأشربة من «جامعه» (وقال: حديث صحيح) والذي في نسختي منه هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، ورأيته كذلك عند المزي في «الأطراف» فلعل حذف

الوصفين من النسخة التي عند المؤلف من النساخ. قال المزي: ورواه ابن ماجه في الأطعمة. 4770 - (وعن عمرو بن شعيب) بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص (عن أبيه عن جده) أي جد أبيه وهو ابن العاص، ولذا قال (رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله يشرب قائماً) محمول عند الجمهور كما تقدم على بيان الجواز أو أن ضرورة ضيق المحل حملته على ذلك (وقاعداً) هذا هو الأكثر وهو الأكمل والأفضل (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) الذي في نسختي من «الجامع» الاقتصار على وصف الحسن، وكذا اقتصر المزي في «الأطراف» بقوله وقال: حديث حسن. 5771 - (وعن أنس رضي الله عنه عن النبي نهى أن يشرب الرجل قائماً) بتقدير أنه قبل الفعل وروي التثليث الترمذي وحسنه من حديث الجارود (قال قتادة) هو ابن دعامة السدوسي البصري تابعي ثقة ثبت، قال الحافظ في «التقريب» : يقال إنه ولد أكمه، خرج عنه الجميع (فقلنا لأنس فالأكل) أي قائماً كيف هو أيكره كالشرب قائماً (قال ذلك أشر) قال المصنف: كذا وقع في أصول مسلم أشر بالألف والمعروف في اللغة بحذفها وكذا أخير قال الله تعالى {فسيعلمون من هو شرّ مكاناً} (مريم: 75) وقال {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً} () ولكن هذه اللفظة وقعت على الشك فإنه قال أشر (أو أخبث) فشك الراوي عن قتادة في أي اللفظين صدر من أنس فلا يثبت عن أنس أنه قال أشر بالألف لهذه الرواية فإن بت عنه من رواية أخرى كان عربياً فصيحاً قليل الاستعمال قال ولهذا نظير مما لا يكون معروفاً عند النحاة وجارياً على قواعدهم وتثبت به الرواية فلا ينبغي رده إذا ثبت بل يقال هذه لغة قليلة الاستعمال وسببه أن النجاة لم يحيطوا إحاطة قطعية بجميع كلام العرب ولذا يمنع بعضهم ما ينقل غيره عن العرب كما هو معروف اهـ قال في الفتح وإنما جعل الأكل شراً لطول زمانه بالنسبة لزمان الشرب. (رواه مسلم. وفي رواية له) عن أنس (أن النبيّ زجر)

أي منع (عن الشرب قائماً) والمنع على سبيل التنزيه لدليل شربه قائماً. 6772 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: لا يشربن أحد منكم قائماً فمن تسنى) فشرب كذلك قال المصنف: وتبعه العراقي في «شرح الترمذي» لا مفهوم لهذا القيد، فمن شرب قائماً ولو عامداً (فليستقيء) أي يتقايا والسين للمبالغة، وخص النسيان بالذكر لكون شأن المؤمن ألا يفعل ذلك بعد النهي غالباً إلا نسياناً قال الحافظ في «الفتح» : ويطلق النسيان بمعنى الترك فيشمل العمل ومنه قال المصنف: بعد أن ذكر الأحاديث الواردة في المنع من الشرب قائماً والواردة في إجازة ذلك والصواب أن النهي فيها محمول على التنزيه، وشربه قائماً لبيان الجواز، ومن زعم نسخاً أو غيره فإنه لا يصار إلى النسخ إلا عند تعذر إمكان الجمع من ثبوت التاريخ وفعله لذلك لا يكون مكروهاً في حقه أصلاً لأنه كان يفعل الشيء للبيان المرة والمرات ويواظب على الأفضل، والاستقاء محمول على الاستحباب لأن الأمر إذا لم يحمل على مقتضاه من الوجوب حمل على الاستحباب، وقول عياض لا خلاف بين أهل العلم أن من شرب قائماً لا يتقيأ، وأشار به إلى تضعيف الحديث لا يلتفت إلى إشارته وكون أهل العلم لا يقولون به لا يمنع استحابه فمن ادعى منع الاستحباب بالإجماع فهو مخالف وكيف يترك السنة الصحيحة الصريحة بالتوهمات والدعاوى والتنزهات. وقال الحافظ في «الفتح» : وليس في كلام عياض التعرض للاستحباب أصلاً بل نقل الاتفاق وإنما هو كلام المازري وتضعيف عياض للأحاديث لم يتشاغل النووي الجواب عنه وطريق الإنصاف ألا تدفع حجة العالم بالصدر فأما إشارته إلى تضعيف حديث أنس فلكون قتادة مدلساً، وقد يمنعه فيجاب عنه بأنه صرح في نفس السند بما يقتضي سماعه له منه فإن فيه قلنا لأنس فالإكل اهـ. وللناس في حديث الشرب المذكور مسالك ذكرها الحافظ في الأشربة من «الفتح» ، وهذا الذي ذكرناه ما اختاره المصنف وهو أوجهها والله أعلم. (رواه مسلم) .

115 ـــ باب استحباب كون ساقي القوم حذف المسقى ليعم سائر الشراب (آخرهم)

115 - باب استحباب كون ساقي القوم حذف المسقى ليعم سائر الشراب (آخرهم) خبر كون ونصب (شراباً) على التمييز. 1773 - (عن أبي قتادة رضي الله عنه عن النبي قال: ساقي القوم آخرهم) وقوله (يعني آخرهم شرباً) وقد جاء عند أبي ماجه في حديث ندائه لأهل الصفة وإسقائهم اللبن فقال «ساقي القوم آخرهم شرباً» بل في «الجامع الصغير» حديث «ساقى القوم آخرهم شرباً» رواه الترمذي وابن ماجه عن أبي قتادة ولعل عزوه للترمذي من حيث أصل الحديث لا بجميع ألفاظه تفسيراً لما هو آخر فيه، قال المصنف: هذا أدب من آداب ساقي الماء واللبن ونحوهما وفي معناه من يفرق على الجماعة مأكولاً كلحم وفاكهة وغيرهما فليكن المفرق آخرهم تناولاً منه لنفسه، قال ابن رسلان: في الحديث إشارة إلى أن من ولي شيئاً من أمر الأمة فعليه السعي فيما ينفعهم ودفع ما يؤذيهم وتقديم مصلحتهم على مصلحته، وكذا في الإطعام والسقي فيبدأ بكبير القوم ثم بمن يليه وهكذا ثم يشرب ما بقي منهم (رواه الترمذي) في الأشربة من «جامعه» (وقال حديث حسن صحيح) ورواه ابن ماجه.

116 - باب جواز أي إباحة (الشرب من جميع الأواني الطاهرة) ولو نفيسة كياقوت وألماس لكن يكره استعمال النفيس منها لذاته كما ذكر لا لصنعته كإناء مصطنع من نحو خشب فلا كراهة في استعماله (غير الذهب والفضة) أي فيحرم استعمالها في غير ضرورة (وجواز الكرع) بفتح وسكون (وهو الشرب بالفم من النهر وغيره) كالبركة والسيل (بغير إناء ولا يد وتحريم استعمال إناء الذهب والفضة) أي لغير ضرورة وكذا يحرم ما موه بهما من باقي الأواني كأن ينحصل بالعرض على النار منه شيء، ويجوز استعمال إناء النقدين المموه بغيره إذا لم يحصل على النار شيء من ذلك، ويحرم المضبب بالذهب مطلقاً وبالفضة إن كانت الضبة كبيرة وكلها أو بعضها للزينة (في الشرب والأكل والطهارة وسائر وجوه الاستعمال) والاقتصار على أواني الأكل والشرب في حديث آخر الباب لأنهما الأغلب وإلا فسائر الاستعمال في الحرمة سواء. 1774 - (عن أنس رضي الله عنه قال: حضرت الصلاة) بدخول وقتها (فقام من كان قريب الدار إلى أهله وبقي قوم) مع النبي: أي لبعد دورهم أو للزوم الأدب معه كما هي العادة من الجلوس بين يدي الكبير (فأتى النبي بمخضب) الفعل مبني للمجهول، قال الحافظ: والمخضب بكسر الميم وسكون المعجمة الأولى وفتح الثانية آخره موحدة إناء (من حجارة فصغر) بضم الغين المعجمة (المخضب) عن (أن يبسط فيه كفه) أي لا عن ضمها مجموعة أو مبسوطة بعض أصابعها (فتوضأ القوم) أي من الماء التابع من بين أصابعه في ذلك المخضب، ثم القوم في الحديث يحتمل أن يراد منهم الباقون بمجلسه لأن من داره قريب تطهر منه، ويحتمل أن يراد منهم الجميع ويؤيده قوله (كلهم) ويكون تطهيرهم

ثانياً لقرب عهد ذلك الماء بتكوين الله سبحانه كما أمر بالتطهير من ماء المطر وفعله، وقال: إنه حديث عهد بربه: أي بتكوينه ثم يحتمل أن يكون طهرهم الثاني بعد أن صلوا الأول صلاة ما، لأن ذلك الذي يستحب عنده تجديد الوضوء، ويحتمل أنه قيل ذلك ويكون محل ذلك ما إذا كان القصد تجديد الطهارة ليس إلا. أما إذا كان القصد مع ذلك التبرك بذلك الماء أو معنى آخر فلا يعتبر ذلك (قالوا) أي الحاضرون بمجلس أنس وقت تحديثه بذلك (كم كنتم قال ثمانين) أي كنا كذلك فحذفت الجملة لدلالة وجود نظيرها في السؤال عليها (وزيادة. متفق عليه. هذه رواية البخاري) أخرجه في باب علامات النبوة لكن لم أر فيه قوله وزيادة، وفي كتاب الطهارة وفيها قوله وزيادة (وفي رواية له) أي للبخاري في كتاب الطهارة (ولمسلم) في باب الفضائل (أن النبيّ دعا) أي أمر (بإناء من ماء فأتى) بالبناء للمفعول (بقدح رحراح) بفتح الراء وسكون الحاء المهملة. قال في «النهاية» : هو القريب القعر مع سعة (فيه شيء) أي يسير ولعل التقليل لكونه الميسور إذ ذاك (من ماء فوضع أصابعه فيه) أي في الماء ستراً للسرّ الإلهي، وإلا فكان متمكناً بإقدار الله على ما فعل من غير الإتيان بشيء من الماء (قال أنس: فجعلت أنظر إلى الماء ينبع) بضم الموحدة وكسرها والجملة في محل الحال، وقوله (من بين أصابعه) ظرف لغو متعلق بالفعل، ويجوز إعرابه حالاً فيكون ظرفاً مستقراً (فحزرت) بفتح المهملة والزاي وسكون الراء: أي خرصت (من توضأ ما بين السبعين رجلاً إلى الثمانين) لا تخالف هذه الرواية ما قبلها، لأن هذا بحسب الخرص وذاك بحسب العد والله أعلم. 2775 - (وعن عبد الله بن زيد) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه قال: أتانا النبي فأخرجنا له ماء في تور من صفر فتوضأ) فدل على أن لا منع من استعماله وقوله البعض بالمنع منه رده

بمخالفته النص، ولا يستحب الخروج من الخلاف إذا كان كذلك (رواه البخاري) في الطهارة (الصفر بضم الصاد) المهملة وسكون الفاء بعدها (ويجوز كسرها) قلت: في «المصباح» الصفر كقفل وكسر الصاد لغة (وهو النحاس) قال في «المصباح» بد أن صدر به: وقيل أجوده (والتور إناء كالقدح) قال الأزهري: فتذكره العرب (وهو بالتاء المثناة من فوق) المفتوحة. 3776 - (وعن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله دخل على رجل من الأنصار) قال الشيخ زكريا في «تحفة القاري» : قيل هو أبو الهيثم بن التيهان الأنصاري (ومعه صاحب له) هو أبو بكر الصديق. قال في التحفة أيضاً: وعليه فالتنوين للتعظيم (فقال رسول الله) وكان الوقت صائفاً كما في نفس الحديث عند البخاري (إن كان عندك ماء بائت هذه الليلة في شن) بفتح المعجمة وتشديد النون القربة الخلقة، الحكمة في طلب الماء البائت أنه أبرد وأصفى، وحذف جواب إن وهو نحو قوله فاسقنا لدلالة المقام عليه (وإلا) أي وإن لا يوجد ذلك وحقه أن يكتب بالنون بعد الألف وإن كانت مدغمة لفظاً في اللام، والذي وقفت عليه في النسخ كتابته بصورة إلا الاستثنائية وهو من تحريف الكتاب (كرعنا) الكرع تناول الماء بالفم من غير إناء ولا كف، وقد ورد النهي عنه في حديث ابن ماجه وهو للتنزيه وهذا لبيان الجواز وذلك محمول على ما إذا انبطح الشارب على بطنه (رواه البخاري) في الأشربة من «صحيحه» ، قال المزي: ورواه أبو داود وابن ماجه في الأشربة من «سننهما» (الشنّ القربة) ظاهرة مطلق القربة وتقدم أنها بقيد الخلقة، وفي «المصباح» : الشنّ الجلد البالي وهو أنسب بالمقام لأنه يبرد الماء أكثر.

4777 - (وعن حذيفة رضي الله عنه قال: إن النبي نهانا) أي معشر الرجال المكلفين وألحق بهم الخنائي احتياطاً (عن الحرير والديباج) أي عن لبسهما، قال في «المصباح» : الديباج ثوب سداه ولحمته إبريسم، ويقال هو معرب. واختلف في الباء فقيل زائدة ووزنه فيعال ولذا يجمع بالياء فيقال ديابيج، وقيل أصيل والأصل دبَّاج بالتضعيف فأبدل من أحد المضعفين حرف العلة، ولذا يرد في الجمع إلى أصله فيقال دبابيج بموحدتين اهـ (والشرب في إناء الذهب والفضة) وألحق به باقي الإستعمال لهما كالاكتحال بهما لغير تداو والتخلل (وقال هنّ) أي هذه الثلاث المنهيات المعدودات، واستعمال ضمير النسوة فيما دون العشرة هو الأكثر ومنه قوله {أربعة حرم فلا تظلموا فيهن أنفسكم} (التوبة: 36) (لهم) أي الكفار المدلول عليهم بالسياق (في الدنيا) لأنهم وإن كانوا مخاطبين بالأحكام على الصحيح إلا أنهم لا ورع لهم يحملهم على التمسك بها فكأنها أبيحت لهم (وهي) أي بضمير الواحدة على خلاف الأكثر تفننا في التعبير (لكم في الآخرة) دونهم لأنهم في العذاب المهين، وفيه إيماء إلى حسن ثمرة التقوى وسوء عاقبة المعصية (متفق عليه) روياه في اللباس. 5778 - (وعن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله قال: الذي يشرب في آنية) بفتح الهمزة وبعدها ألف لينة وبعدها نون مكسورة: أي وعاء (الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) يجوز فيه النصب على أن فاعل الفعل مضمر يعود على الشارب المفهوم من يشرب، وبه صرح الأزهري فقال: نار منصوب، ويجرجر بمعنى يلقى، وهذا مثل قوله تعالى: {إنما

يأكلون في بطونهم ناراً} (النساء: 10) ويؤيده الرواية الآتية آخر البار ناراً من جهنم والرفع على أنها فاعل الفعل، وجاز تذكيره للفصل بينه وبينه مع أن تأنيثه مجازي وتقدم معناها (متفق عليه) روياه في اللباس أيضاً (وفي رواية لمسلم) الحديث المذكور وقال إن على ابن مسهر أحد أشياخه في هذا الحديث زاد (إن الذي يأكل ويشرب) الواو فيه يحتمل كونها على بابها من أصل الجمع فيكون فيه وعيد كل منهما على انفراده من حديث آخر، ويحتمل أنها فيه بمعنى أو (في آنية الفضة والذهب) في الواو الاحتمالان المذكوران ويؤيد الثاني الرواية بعده قال مسلم وليس في حديث أحد منهم: أي أشياخه في هذا الحديث ذكر الأكل والذهب إلا في حديث ابن مسهر (وفي رواية له) أي لمسلم في الحديث المذكور من حديث أم سلمة أيضاً، لكن من غير طريق الحديث قبله فلا يشكل بما تقدم عن مسلم لأن كلامه في حديث نافع عنها فليس عند رواته ذكر ذينك إلا عند ابن مسهر فقط، وهذه الرواية الأخيرة ليست من رواية نافع عنها بل من رواية ابن أخيها عبد الله ابن عبد الرحمن عنها والله أعلم (من شرب في إناء من ذهب أو فضة فإنما يجرجر في بطنه ناراً من جهنم) ففيه الوعيد الشديد في استعمال أواني النقدين المنصوص منه على الأكل والشرب لأنهما أغلب أنواعه فسائره مثلهما في الحرمة، وقضية هذه الأحاديث أن ذلك من الكبائر وبه صرح ابن حجر الهيتمي في «الزواجر» ، وظاهر أن محل حرمة ذلك حيث لا ضرورة، وإلا فمن وجد إناء أحدهما وليس عنده ما يصنع فيه طعامه المائع أو الرطب الذي يتلوّث سوى الأرض، فيجوز له استعمال ذلك حينئذ «لأن الضرورات تبيح المحظورات» «وإذا ضاق الأمر اتسع» ، وقد قال تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (الحج: 78) .

3 - كتاب اللباس

3 - كتاب اللباس بكسر اللام، قال في «المصباح» : هو ما يلبس، ولباس الكعبة والهودج كذلك، وجمعه لبس مثل كتاب وكتب اهـ: أي الأحاديث الواردة فيه من حيث الحل والحرمة وما يتعلق به من الأدب. باب استحباب الثوب الأبيض في كل المجامع نعم يوماً العبد الأفضل فيهما لبس الأعلى قيمة وإن كان غير أبيض، فإن كان هو الأعلى فهو الأولى (وجواز) أي إباحة لبس (الأحمر والأخضر والأصفر والأسود وجوازه) أي الثوب (من قطن وكتان وشعر وصوف وغيرها) أي من كل بمفرده أو مركباً من ذلك من غير نظر لتساوي الأجزاء حينئذ وتفاضلها لأن الأول متساوية في الإباحة (إلا الحرير) فيحرم على الرجال البالغين والخناثى لبس الحرير المحض أو المركب منه ومن غيره والغالب الحرير. (قال تعالى) : ( {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً} ) أي خلقناه لكم ( {يوارى} ) أي يستر ( {سوآتكم} ) أي عوراتكم، سميت بذلك لأنه يسوء صاحبها كشفها، وكان على المصنف زيادة قوله تعالى: { «وريشا» } أي ما يتجمل به من الثياب لأنه من حكم خلقه للثياب المميز به على العباد. (وقال تعالى) : ( {وجعل لكم سرابيل} ) أي قمصاً ( {تقيكم الحر} ) أي والبرد فحذف اكتفاء بدلالة قرينه عليه بالأولى ( {وسرابيل

تقيكم بأسكم} ) حربكم: أي الطعن والضرب فيها كالدروع والجواشن. 1779 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله قال: البسوا من ثيابكم البياض) أي الثياب البيض، وفيه مبالغة تامة كأن جعل البياض عينها فحمله عليها (فإنها من خير ثيابكم) لعل الإتيان بمن، دفعاً لكلفة التعب عمن لا يجد الثوب الأبيض، فأومأ إليّ أن ذلك خير أيضاً لما فيه من ستر العورة وسد الحاجة، وجاء تعليل الأخيرية في الحديث عقبه بقوله «فإنها أطيب وأطهر» والجملة استئناف بيان تعليل للأمر قبلها (وكفنوا فيها موتاكم رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث صحيح) . 2780 - وعن سمرة بفتح المهملة وضم الميم وهو ابن جندب تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب توقير العلماء (قال: قال رسول الله: البسوا البياض) أي ذا البياض وفيه ما تقدم في الحديث قبله، وأعاد الضمير على الثياب الموصوفة بالبياض المحذوفة وإن لم تختص الصفة بها اكتفاء بدلالة البسوا عليها بقوله (فإنها أطهر) لأنها لنقائها يطهر ما يخالطها من الدنس وإن قل قال الشاعر: إن البياض قليل الحمل للدنس (وأطيب) أي لسلامتها غالباً عن الخيلاء الذي يكون في لبس الملونات (وكفنوا فيها موتاكم. رواه النسائي والحاكم وقال: حديث صحيح) ورواه أحمد والترمذي وابن ماجه كلهم عن سمرة أيضاً كما في «الجامع الصغير» .

3781 - (وعن البراء) بفتح الموحدة والراء الخفيفة وبعدها ألف ممدودة (ابن عازب) بمهملة وبعد الألف زاي مكسورة فموحدة، وتقدم هذا في ترجمته (رضي الله عنه قال: كان رسول الله مربوعاً) أي لم يكن طويلاً بائناً ولا قصيراً بل كان بينهما وإلى الطول أقرب (وقد رأيته) معطوف على كان ومدخولها ويحتمل أن تكون حالية (في حلة) بضم المهملة وتشديد اللام: ثوب له ظهارة وبطانة من جنس واحد، وقال المصنف: قال أهل اللغة: الحلة لا تكون إلا ثوبين وتكون غالباً إزاراً ورداءءً قال أبو عبيدة: ولا تسمى حلة حتى تكون ثوبين من جنس واحد، فإفراد قوله (حمراء) إما نظراً للفظ حلة أو إلى أنها كثوب واحد للاحتياج إليهما معاً في ستر البدن أو لأنهما من جنس واحد، قال الحافظ ابن حجر: هي ثياب ذات خطوط اهـ. وقال ابن حجر الهيثمي: بل هي على ظاهرها. ففي الحديث حجة لإمامنا الشافعي حيث أجاز لبس الأحمر الفاني، ومنعه الحنفية فأولوا ما في الحديث بأن المراد ذات خطوط حمر، أو أن ذلك من الخصائص (ما رأيت) أي علمت (شيئاً قط أحسن منه) وليس مراده قصر ذلك على علمه وإن كان ذلك منطوق عبارته، بل ما أومأ إليه ذلك من انفراده بالمحاسن عن جميع الخليقة بطريق التجوّز في التعبير ومراده ما علمت ولا غيري (متفق عليه) رواه البخاري مختصراً هكذا في باب اللباس وبأطول منه في باب صفة النبي، ورواه مسلم في فضائل النبيّ، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي. 4782 - (وعن أبي جحيفة) بضم الجيم وفتح الحاء المهملة وسكون التحتية بعدها فاء فهاء (وهب بن عبد الله) السوائي (رضي الله عنه قال: رأيت) أي أبصرت (النبي بمكة وهو بالأبطح) هو المحصب ويقال له البطحاء (في قبة) بضم القاف وتشديد الموحدة هي كما يعبر عنها الآن بالخيمة (له حمراء من أدم) بفتح الهمزة والمهملة لجمع أديم: وهو الجلد المدبوغ (فخرج بلال بوضوئه) بفتح الواو أي بالماء المعد لوضوئه (فمن ناضح) أي

فمن رجل مبتل أصاب بعض البلل من ذلك (ومن نائل) من النيل: أي أصاب منه ماله وقع وطلبهم ذلك بعد وصول الماء إلى أعضائه الشريفة، فيكون في العبارة شبه استخدام أريد من الوضوء المعدّ للوضوء، وعند عود الضمير إليه أريد منه ما استعمل فيه (فخرج النبيّ حلة حمراء كأني) حال التكلم (انظر إلى بياض ساقيه) فالمشبه والمشبه به متحدان في الحقيقة مختلفان بالاعتبار، فهو باعتبار حال المتكلم مشبه وباعتبار النظر لذلك مشبه به، وأتى بهذه الجملة لتنبيه المخاطب على تمام استحضاره فيتلقى عنه أحسن تلق لإيقانه له (فتوضأ) والفاء فيه لترتيب الأخبار لا لترتيب المخبر وأخذهم له وافتراقهم في ذلك بعد الوضوء وهو متقدم إخباراً (وأذن بلال فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا) أي يميناً وشمالاً (يقول) جملة حالية من المضاف إليه لأن المضاف بعضه (يميناً وشمالاً) نصبهما على الظرف (حيّ) أي أقبلوا (على الصلاة حي على الفلاح) وذكره في هذا المقام إيماء إلى أن الصلاة ذروة سنامه، فمن أحسنها فقد حلّ منه الذروة العليا وظفر منه بالدرجة القصوى، وفيه لف ونشر مرتب، فحيّ على الصلاة يدير فاه بها يميناً، وحيّ على الفلاح يديره بها شمالاً وصدره مستقبل القبلة، وإنما التفت فيهما بوجهه لما فيهما من الخطاب بخلاف باقي كلمات الأذان والإقامة (ثم ركزت) بضم الراء وكسر الكاف بعدها زاي: أي غرزت (له عنزة فتقدم فصلى) إليها جعلها بين يديه ومن ثم استحب للمصلي أن يجعل بين يديه شاخصاً ويكون بينه وبينه ثلاثة أذرع فأقل، ولا يصمد إلى الشاخص بل يجعله عن يمينه أو عن شماله (يمرّ بين يديه الكلب والحمار) أي من وراء السترة (لا يمنع) بالبناء للمفعول: أي لا يمنع عن المرور لأن المصلي إنما يمنع المرور بينه وبين سترته (متفق عليه) أخرجاه في الصلاة، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي (العنزة بفتح) المهملة و (النون) وبالزاي (نحو العكازة) قال في «المصباح» : العنزة عصا أقصر من الرمح ولها زجّ من أسفلها وجمعها عنز وعنزات كقصبة وقصب وقصبات اهـ.

5783 - (وعن أبي رمثة) بكسر الراء وسكون الميم بعدها مثلثة (رفاعة) بكسر الراء وبالفاء والعين المهملة ابن يثربي بفتح الموحدة وسكون المثلثة وكسر الراء نسبة إلى ما كانت تسمى به طيبة في الجاهلية (التيمي) بفتح الفوقية وسكون التحتية. قال الترمذي: في «الشمائل» تيم الرباب، واحترز به عن تيم قريش ولد الرباب بكسر الراء، قال ميرك: كذا سماعنا وكذا ذكره الجوهري في «صحاحه» والفيروزأبادى في «القاموس» ، قيل فقول الحافظ ابن حجر: إنه بفتح الراء لعله سبق قلم منه أو من غيره. وتيم الرباب خمس قبائل: ضبة وثور وعكل وتيم وعدى غمسوا أيديهم في ربّ وتحالفوا عليه فصاروا يداً واحداً، وأبو رمثة ذكره الحافظ في «تقريبه» ولم يزد على ذكر اسمه واسم أبيه، وفي السكنى من «التقريب» أبو رمثة البلوي ويقال التيمي ويقال التميمي، وقيل هما اثنان، قيل اسمه رفاعة بن يثربي، وقيل عكسه، ويقال عمارة بن يثربي، ويقال حبان بن وهيب، وقيل جندب، وقيل خشخاش صحابي. قال ابن سعد: مات بأفريقية، خرج له أبو داود والترمذي والنسائي (رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله ثوبان أخضران، رواه أبو داود) في اللباس من «سننه» (والترمذي) في «جامعه» ، وفي «الشمائل» «لكن قال: وعليه بردان أخضران» بالموحدة والراء والدال بدل ثوبان أخضران، قال ابن بطال: الثياب الخضر من لباس أهل الجنة وكفى بذلك شرفاً، قال القاري: ولذا صارت لباس الشرفاء، ووصف المصنف الإسناد بقوله (بإسناد صحيح) وتصحيح الإسناد إذا كان من نحو المصنف من كل ضابط متقن ولم يعقب المتن بقادح في صحته حكم بصحة المتن أيضاً. 6784 - (وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله دخل يوم فتح مكة) حذف المفعول به وهو مكة اكتفاء بدلالة ظرف الزمان عليه، وقد صرح به الترمذي في رواية «الشمائل» (وعليه عمامة سوداء) لا يخالف ما جاء من أنه دخل يومئذ وعليه مغفر لإمكان الجمع بدخوله

بهما معاً وهي فوقه، أو كان واحداً بعد آخر صدرا منه حال الدخول، ولبسه العمامة السوداء يومئذ إشارة إلى أن هذا الدين لا يتغير كالسواد بخلاف سائر الألوان (رواه مسلم) ورواه أصحاب السنن الأربعة. 7785 - (وعن أبي سعيد عمرو بن حريث) بضم المهملة وفتح الراء وسكون التحتية بعدها مثلثة بن عمرو بن عثمان بن عبد الله بن مخزوم القرشي المخزومي (رضي الله عنه) قال الحافظ في «التقريب» : صحابي صغير مات سنة خمس وثمانين خرج له الستة. روي له عن النبيّ ثمانية عشر حديثاً، ذكره ابن الجوزي في «مختصر التلقيح» ، وانفرد بالروايات عنه مسلم عن البخاري، فروى له حديثين وقد بسطت ترجمة كل منه ومن أبي رمثة في كتاب رجال «الشمائل» (قال: كأني أنظر إلى رسول الله عمامة سوداء قد أرخى طرفيها) بالتثنية، وجاء في رواية «الشمائل» بالإفراد: قال القاضي عياض: وهو الصواب اهـ (بين كتفيه) ولبسه السواد حينئذ تنبيهاً على عدم المنع منه. وفيه استحباب إرخاء طرفى العذبة بين الكتفين (رواه مسلم) في الحج (وفي رواية له) من حديث جابر ورواه أبو داود والترمذي في «الشمائل» والنسائي وابن ماجه (أن رسول الله خطب الناس) أي في يوم جمعة وعلى المنبر كما في رواية أخرى لمسلم، وبه يندفع قول بعضهم لم يلبس النبيّ في غير فتح مكة، وذلك لأن خطبته بمكة لم تكن على منبر بل على باب الكعبة، ولذا ذكر صاحب «المصابيح» هذا الحديث في خطبة الجمعة (وعليه عمامة سوداء) في رواية «وعمامة حرقانية» . 8786 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كفن رسول الله في ثلاثة أثواب بيض) كما أمر بالتكفين بها كما تقدم من قوله «وكفنوا فيها موتاكم» (سحولية من كرسف ليس فيها

قميص ولا عمامة) وهذا أفضل الكفن للرجل، ويجوز زيادة قميص وعمامة، وسياقه له باب المعقود لما يطلب للحي لبسه من الألوان ليبين أن لبس الأبيض مأمور به بالنص من قوله وبالقياس على تكفينه به ويكفن الميت بما يلبسه حياً (متفق عليه) أخرجاه في الجنائز (السحولية بفتح السين) المهملة (وضمها وضم الخاء المهملتين) أي مع فتح السين وضمها (ثياب تنسب إلى سحول) بورن رسول (قرية باليمن) فالفتح في المنسوب على لفظ المنسوب إليه والضم على النسبة إلى جمع سحل: وهو الثوب الأبيض فإنه يجمع على سحول كفلس وفلوس، وهو غلط لأن النسبة إلى الجمع إذا لم يكن علماً وكان له واحد من لفظه يرد إلى الواحد، قاله في «المصباح» ، فالضم حينئذ من تغييرات انلسب كنسبة نمرى بفتح أوليه إلى نمر بكسر فسكون (والكرسف) بضم أوله وثالثه المهمل (القطن) قال في المصباح: والكرسف أخص منه.j 9787 - (وعنها قالت: خرج رسول الله ذات غداة) أي في أيّ ساعة من البكرة (وعليه مرط مرحل من شعر أسود) أي منسوج من الشعر، ففيه حلّ لبس الصوف ولبس الأسود (رواه مسلم) في اللباس من «صحيحه» (المرط) بكسر الميم وسكون الراء وبالطاء المهملة (وهو كساء) فيه إطلاق وشمول لما يؤتزر به منه وغيره. والذي في «المصباح» : المرط كساء من صوف أو خزّ يؤتزر به وتتلفع به المرأة والجمع مروط كحمل وحمول (والمرحل بالحاء المهملة) بصيغة المفعول من مضعف رحل (هو الذي فيه صورة رحال الإبل وهي الأكوار) فأشار به إلى حلّ تصوير ما لا روح فيه. والوارد فيه التغليظ من التصوير تصوير ذي روح والأكوار جمع كور، قال في «المصباح» : هو الرحل بأداته ويجمع على أكور وكيران.

10788 - (وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: كنت مع النبيّ ذات ليلة) أي في ليلة وأتى بذات، لبيان أن المراد حقيقة الليلة لا أنها أريد منها مطلق الزمان مجازاً (في مسير) بفتح المهملة وكسر المهملة وسكون التحتية وذلك في غزوة تبوك (فقال لي أمعك ماء) يحتمل أن يكون مبتدأ مؤخراً ويحتمل كونه فاعلاً للظرف لاعتماده على الاستفهام (فقلت: نعم، فنزل عن راحلته) ، أي مركبه الذي كان راكباً عليه من الإبل وهي ناقته المعروفة بالقصوى وبالعضباء كما قدمت ذلك (فمشى حتى توارى) أي غاب سواده عن رؤية البصر (في سواد الليل) لزيادة الدخول في البعد، فيستحب لمن خرج لقضاء الحاجة في الصحراء الإبعاد عن الحاضرين، وهو إلى أن يغيب سواده عنهم أو إلى أن يأمن على نفسه (ثم جاء فأفرغت عليه) فيه الاستعانة بالصبّ على المتطهر وفعلها لبيان الجواز وإلا فالأفضل تركها (من الإداوة) بكسر الهمزة وبالدال المهملة المطهرة وجمعها أداوى (فغسل وجهه وعليه) أي النبي (جبة) بضم الجيم وتشديد الموحدة جمعها جبب: صنف معروف من اللباس (من صوف فلم يستطع أن يخرج ذراعيه منها) لضيق كمها (حتى أخرجهما) أي الذراعين (من أسفل الجبة فغسل ذراعيه) إلى المرفقين (ومسح برأسه) الباء فيه للتبعيض (ثم أهويت) أي مددت يدي إلى خفيه (لأنزع خفيه فقال: دعهما) أي اتركهما في ملبوسهما وهما القدمان (فإني أدخلتهما) أي القدمين المدلول عليهما بالخفين (طاهرتين) وما كان كذلك يجوز مسح خفيه عوضاً عن غسله، ويجوز عوض ضمير المثنى إلى الخفين فيكون فيه قلب كقول العرب: أدخلت القلنسوة رأسي، ويقرب هذا قوله (ومسح عليهما) فإن المسح على الخفين (متفق عليه) أخرجاه في الطهارة، وفيه قصة صلاة النبي وراء عبد الرحمن بن عوف وقد تقدم ذلك، وروى الحديث أبو داود ولم يذكر قصة ابن عوف والنسائي وابن ماجه. (وفي رواية: وعليه جبة شامية) لا تخالف ما جاء في أخرى أنهاجبة رومية، لأن الشام حينئذ كانت مقر الروم فصح كلا الأمرين (ضيقة الكمين) فلذا لم يتمكن من إخراج يديه منهما. (وفي رواية) لهما (أن هذه

118 ــــ باب استحباب القميص

القضية) بفتح القاف وكسر الضاد المعجمة (كانت في غزوة تبوك) بالصرف وعدمه كما تقدم: محل معروف بالقرب من الشام، وكانت آخر مغازيه التي خرج بنفسه فيها وكانت سنة تسع من الهجرة. 118 - باب استحباب القميص قال في «المصباح» : ويجمع على قمص بضمتين وقمصان بضم فسكون. 1789 - (عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كانت أحب الثياب) بالنصب خبر مقدم لكان وبالرفع اسمها وقوله (إلى رسول الله) متعلق بأحب (القميص) بالرفع على الأول وبالنصب على الثاني وهو المشهور في الرواية، وقيل هما روايتان، وأيد الأول بأن أحبّ وصف فهو أولى بكونه حكماً، وقال آخر: إن كان المراد تعيين الأحب فينصب القميص أو بيان وصف القميص عنده فيرفع، قال ابن الجزري: القميص ثوب مخيط بكمين غير مفرج يلبس تحت الثياب، وفي «القاموس» : ولا يكون إلا من القطن وأما الصوف فلا. وقيل وكأن حصره للغالب. والظاهر أن المراد من القميص في الحديث ما كان من القطن لأن الصوف يؤذي البدن ويدرّ العرق ورائحته يتأذى بها. وقد أخرج الدمياطي «كان قميص رسول الله قطناً قصير الطول والكمين» قيل وجه أحبية القميص إليه أنه أستر للأعضاء من الإزار والرداء لأنه أقل مؤنة وأخف على البدن، ولابسه أكثر تواضعاً، ثم لا مخالفة بين هذا الحديث وحديث «كان أحبّ الثياب إلى رسول الله الحبرة» لأن أحبيته للثوب من حيث اللبس كما جاء في رواية الترمذي «أحبّ الثياب إلى رسول الله يلبسه القميص» وأحبية الحبرة لأمر آخر. قال القاري:

119 ـــ باب صفة طول القميص والكم والإزار

وحديث الباب بالنسبة للمخيط وحديث الحبرة بالنسبة لغيره (رواه أبو داود والترمذي) في «جامعه» و «شمائله» من طرق متعددة وفي بعضها يزيادة «يلبسه» كما تقدم (وقال) في «جامعه» (حديث حسن) . 119 - باب صفة طول القميص والكم والإزار هو ما يستر أسافل البدن ويقابله الرداء (وطرف العمامة) أي بيان قدر الطول المشروع فيما ذكر (وتحريم إسبال) أي إرخاء (شيء من ذلك) أي المذكور من القميص وما بعده (على سبيل الخيلاء) بضم المعجمة وفتح التحتية: أي الكبر أو الإعجاب (وكراهته) تنزيهاً (من غير خيلاء) والمراد أن الإرخاء زيادة على المشروع في الطول: إما مكروه وإما حرام. 1790 - (عن أسماء) بالمد (بنت يزيد) بفتح التحتية الأولى وكسر الزاي وسكون التحتية بعدها دال مهملة ابن السكن بفتح المهملة والكاف وبالنون (الأنصارية) قال في «التقريب» : تكنى أم سلمة ويقال أم عامر صحابية لها أحاديث تقدمت ترجمتها (رضي الله عنها) في باب فضل الجوع (قالت: كان كم) بضم الكاف وتشديد الميم (قميص رسول الله إلى الرسغ) كذا في نسخ الرياض بالسين، قال ابن حجر الهيثمي في «شرح الشمائل» : هو بالصاد عند أبي داود والمصنف وبالسين عند غيرهما، قيل ولعله أراد عند الترمذي في «جامعه» وإلا فنسخ «الشمائل» بالسين بلا خلاف اهـ. ومنه يعلم أن كتابته بالسين هنا من الكتاب، وقال التوربستى: هو بالسين المهملة وبالصاد لغة فيه، وفي «القاموس» : الرسع بضم وضمتين ثم قال:

والرصغ اهـ. والرسغ: مفصل الساعد والكف. قال ابن الجزري: فيه دليل أن لا يجاوز بكم القميص الرسغ، وأما غير القميص فالسنة ألا يجاوز رؤوس الأصابع، ولا يخالف هذا الحديث ما أورده ابن الجوزي في الوفاء من حديث ابن عباس «كان رسول الله يلبس قميصاً فوق الكعبين مستوى الكمين بأطراف أصابعه» بحمل ذلك على تعدد القميص أو أن حديث الباب على التقريب والتخمين وذاك على التعيين (رواه أبو داود والترمذي) في «جامعه» وشمائله (وقال: حديث حسن) . 2791 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: من جر) أي سحب على وجه الأرض لطوله حتى مسها (ثوبه) وهو شامل لجميع أنواعه وذكر الإزار في رواية «من جرّ إزاره» لا يخصه لأن ذكر بعض أفراد العام لا يخصص على أنه إنما ذكر كما قال الطبري، لأنهم كانوا إذ ذاك يلبسون الأزر والأردية، فلما اعتيد لبس القميص تركا فكان حكمهما في ذلك حكمهما (خيلاء) منصوب على أنه مفعول له (ويجوز) نصبه على أنه مفعول مطلق: أي جرّ خيلاء فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه أو على الحال: أي ذا خيلاء (لم ينظر الله إليه) أي نظر رضا ورحمة (يوم القيامة) الذي هو يوم الدين (فقال أبو بكر) أي الصديق (رضي الله عنه يا رسول الله إن إزاري يسترخي) أي لنحافة بدنه (إلا أن أتعاهد ذلك منه) أي بالشد والرفع أفأدخل في الوعيد المقتضي لكون فعل ذلك كبيرة (فقال رسول الله: إنك لست ممن يفعله) إفرد الضمير نظراً للفظ من (خيلاء) ففيه بيان أن قوام الأعمال بالنيات وأنها تختلف أحكامها بحسب اختلافها، وفيه أن الوعيد لمن فعل ذلك عجباً أو كبراً، لا لمن وقع له ذلك لا يقصد ذلك ولو لقصد آخر لا محظور فيه (رواه البخاري) في اللباس وأبو داود

والنسائي في «سننهما» (وروى مسلم) في اللباس (بعضه) وهو قوله «لا ينظر الله إلى من جرّ ثوبه خيلاء» وأورده من طرق بألفاظ متقاربة. 3792 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: لا ينظر الله) أي نظر رضا (يوم القيامة) خص بالذكر لأنه محل الرحمة المستمرة بخلاف رحمة الدنيا فإنها قد تنقطع بما يتجدد من الحوادث، قاله في «الفتح» ، أو لأنه يوم الجزاء وإلا ففاعل ذلك لا يرضى الله بفعله دنيا وأخرى ولا ينظر الله إليه لذلك أصلاً (إلى من جر إزاره بطراً) بفتح الموحدة والمهملة هو بوزن الأشر ومعناه: وهو كفر النعمة وعدم شكرها والمراد لازم ذلك: أي عجباً وخيلاء فيكون ما قبله كالمفسر له (متفق عليه) رواه البخاري بهذا اللفظ في اللباس ولفظ مسلم عن أبي هريرة عن النبي «إن الله لا ينظر إلى من يجرّ إزاره بطراً» . 4793 - (وعنه عن النبيّ قال: ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار) قال الحافظ في «الفتح» : ما موصولة وبعض صلته محذوف وهو كان وأسفل خبره وهو منصوب قلت: لا يتعين على النصب تقدير كان، بل يجوز أن يكون أسفل ظرفاً وقع صلة والله أعلم. ويجوز الرفع على ما هو أسفل وهو أفعل تفضيل، ويحتمل أن يكون فعلاً ماضياً ويجوز أن تكون ما نكرة موصوفة بأسفل. قال الخطابي: يريد أن الموضع الذي يناله الإزار من أسفل الكعبين في النار فكنى بالثوب عن لابسه، ومعناه: أن ما دون الكعب من القدم يعذب عقوبة، وحاصله أنه من تسمية الشيء باسم ما جاوره أو حل فيه، ويحتمل أن يكون تبيينه المراد الشخص نفسه،

والمعنى: ماأسفل من الكعبين الذي يسامت الإزار في النار، أو التقدير: لابس أسفل ما سفل من الكعبين، أو التقدير: أن فعل ذلك محسوب في أفعال أهل النار، أو فيه تقديم وتأخير: أي ما سفل من الإزار من الكعبين في النار، وكل ذلك مستفاد من استحالة الإزار في النار حقيقة. وأخرج عبد الرزاق أن نافعاً سئل عن ذلك فقال: وما ذنب الثياب، بل هو من القدمين جاء، لكن يقتضي إدخال نفس الثوب في النار. فعليه لا مانع من حمل الحديث على ظاهره ويكون من باب قوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} (الأنبياء: 98) ويكون في الوعيد لما وقعت به المعصية إشارة إلى أن من يتعاطاها أحق بذلك، والفاء في قوله ففي النار مزيدة: لتضمن «ما» معنى الشرط، ثم هذا محمول على من فعل ذلك خيلاء وبطراً كما تقدم ما يدل له، ومحل الكراهة لمن أرخى إزاره عن كعبه إذا لم يكن عذر، وإلا فمن برجله جراح يؤذيه الذباب وأسبل إزاره ليسلم من أذاها فلا كراهة، نبه عليه الحافظ زين الدين العراقي في «شرح الترمذي» ، واستدل له بإذن النبي لابن عوف في لبس الحرير لحكة والجامع تعاطي ما حرم في كل للضرورة، والحديث في الرجال لما سيأتي في حديث ابن عمر عن أم سلمة (رواه البخاري) في اللباس. 5794 - (وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي قال: ثلاثة لا يكلمهم الله) قيل المراد الإعراض عنهم وقيل لا يكلمهم كلام رضا يسرهم بل كلام غضب وسخط (يوم القيامة ولا ينظر إليهم) أي يعرض عنهم، ونظره تعالى إلى عبده رحمته ولطفه به (ولا يزكيهم) أي لا يطهرهم من دنس ذنوبهم وقيل لا يثني عليهم (ولهم عذاب أليم) أي مؤلم، قال الواحدي: هو العذاب الذي يخلص إلى قلوبهم وجعه، والعذاب كل ما يعني الإنسان ويشق عليه (قال فقرأها) أي فتلا هذه الجملة (رسول الله ثلاث مرار) ليثبت عند السامعين فيكون أبلغ في النفع «ومرار» بكسر الميم وتخفيف الراءين بينهما ألف جمع تكسير

لمرة (قال أبو ذرّ خابوا وخسروا) أي المحدث عنهم بالوعيد المذكور (من هم) ليعرفوا بأعيانهم أو بأوصافهم (يا رسول الله» قال: المسبل) بصيغة الفاعل من الإسبال المرخي لثوبه الجار له خيلاء فهو مخصوص بذلك (والمنان) أي الذي يذكر إحسانه ممتناً به على المحسن إليه، والمبالغة قيد في الوعيد المذكور لما فيه من المبالدة المقتضى لكونه من الكبائر وإلا فالمن حرام وإن لم يتكرر، قال تعالى: {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} (البقرة: 264) (والمنفق) بصيغة الفاعل من الإنفاق (سلعته) بكسر المهملة الأولى وسكون اللام أي المكثر طلاب بضاعته (بالحلف) بفتح فكسر: أي القسم (الكاذب) كقوله والله إنها حسنة والله إنها فريدة (رواه مسلم) في كتاب الأيمان ورواه أبو داود في اللباس من «سننه» (وفي رواية له) فيه (المسبل إزاره) وتقدم عن ابن جرير حكمة تخصيصه بالذكر وإلا فالحكم شامل لسائر الملبوس، وتقدم أن ذكره في هذه الرواية لا يخصص عموم الأحاديث المطلقة. 6795 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبيّ قال الإسبال) أي الإرخاء (في الإزار) وهو ما يستر به أسافل البدن (والقميص) أي إرخاء كل منهم عن الكعب (والعمامة) أي بإطالة عذبتها (من جر شيئاً خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة) أي إذا لم يتب من ذلك أما جرّ ما ذكر بغير الخيلاء فمكروه إلا لعذر كالصديق أو لضرورة كذي الجراحة القاصد بإطالة ثوبه سترها من الذباب ليسلم من أذاها (رواه أبو داود) في اللباس من «سننه» (والنسائي بإسناد صحيح) أي باعتبار منتهى الإسناد وهو حسين الجعفي عن سالم عن ابن عمر وإلا ففيما قبل ذلك الإسناد متعدد، ورواه ابن ماجه في «سننه» أيضاً.

7796 - (وعن أبي جرى) بضم الجيم وفتح الراء وتشديد التحتية مصغر كما نص عليه الحافظ في «تبصير المنتبه» وما وقع في «المفاتيح شرح المصابيح» أنه بفتح الجيم خطأ (جابر بن سليم) مصغر قال المزي في «الأطراف» : ويقال سليم بن جابر، قال ابن الأثير: والأول أصح (الهجمي) بضم الهاء وفتح الجيم نسبة إلى الهجيم بن عمرو بن تميم، عداده في أهل البصرة (رضي الله عنه) روي له عن رسول الله أحاديث وليس عنه في الصحيحين شيء (قال: رأيت) أي أبصرت (رجلاً) التنوين فيه للتعظيم بدليل وصفه بقوله (يصدر) بضم الدال (الناس عن رأيه) أي يرجعون عن رأيه: أي يرجعون إلى ما يظهر من صدره من الرأي الذي يرشدهم إليه (لا يقول لهم شيئاً إلا صدروا) بفتح الدال (عنه) بعد سماعه كما يصدر الوارد عن الورد بعد الذي يشرب من مائه، قال ابن رمد ملاك: وكان للنبيّ بئر يسمى الصادر وإنه يصدر عنها بالري (فقلت) لهم (من هذا؟ فقالوا رسول الله) بحذف المبتدأ المدلول عليه بوجوده في جملة السؤال (قلت: عليك السلام يا رسول الله مرتين) عند الترمذي أنه قال «عليك السلام يا رسول الله ثلاثاً» (قال: لا تقل عليك السلام) وعلل ذلك بقوله على طريق الاستئناف البياني (عليك السلام تحية الموتى) يعني باعتبار عادة شعر الجاهلية لا أن ذلك المشروع في السلام عليهم لأنه سلم عليهم كالأحياء فقال «السلام عليكم دار قوم مؤمنين» وقيل أراد بالموتى كفار الجاهلية، قال ابن رسلان: ثم تقدم الدعاء على الضمير في الدعاء بالخير، أما في الشرّ فيقدم الضمير نحو وإن عليكم لعنتي عليهم دائرة السوء اهـ، وفيه تعقب بحديث «ألعنك بلعنة الله» إذ قدم الدعاء على ضمير المخاطب (قل السلام عليك) فيه إفراد الضمير وجمعه إذا كان المخاطب به مفرداً. فالجمع باعتبار من معه من الملكين (قال: قلت أنت) بتقدير همزة الاستفهام قبله: أي أأنت (رسول الله) (قال: أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضرّ) بضم الضاد المعجمة هو الفقر والفاقة وبفتحها مصدر ضره يضره من باب قتل إذا فعل به مكروهاً كذا في «المصباح» وبه يعلم أنه بالضم (فدعوته) يتضرع وافتقار (كشفه) أي رفع ذلك عنك (وإن أصابك عام سنة) بالإضافة، وفي بعض نسخ أبي داود بالتنوين ورفع عام صفة لها

والأول أصوب: أي عام شدة ومجاعة. قال المنذري: السنة هي العام الفحط الذي لم تنبت الأرض فيه شيئاً سواء نزل عليها غيث أم لا (فدعوته أنبتها لك) أي أوجد لك فيها النبات ونماه بفضله (وإذا كنت بأرض) بالتنوين (قفر) وهي الأرض الخالية من الأنيس التي لا ماء بها ولا ناس، وفي «المصباح» هي: المفازة التي لا ماء بها ولا نبات وجمع القفر أقفار (أو) أرض (فلاة) أي لا ماء فيها وجمعها فلا كحصاة وحصى (فضلت راحلتك) في تلك الأرض (فدعوته) أي بدعاء مستجمع لشرائط الإجابة، ومنها كون الداعي عالماً بأن لا قادر على حاجته إلا الله تعالى، وأن الوسائط في قبضته وتسخيره وكون الدعاء باضطرار وافتقار، فإن الله تعالى لا يقبل دعاء من قلب غافل (ردها عليك، قال) أي جابر (قلت له) أي النبي أي بعد الإسلام بالله تعالى وبه (اعهد إلى) بفتح الهاء من العهد بمعنى الوصية ومنه حديث على «عهد إلى النبيّ» أي أوصى إلى (قال: لا تسبن أحداً) السبّ الشتم وهو حرام، ولا يجوز للمسبوب الانتصار ممن سابه إلا بمثل ما سبه به ما لم يكن كذباً أو قذفاً، وإذا انتصر المسبوب استوفى ظلامته وبرىء من حقه وبقي عليه حق الابتداء (قال) جابر (فما سببت بعده حرّاً ولا عبداً ولا بعيراً ولا شاة) وأشار به إلى كمال الامتثال وعدم المشاحنة في شيء من ذلك، وجملة قال ومقوله معترضة بين جملة لا تسبن أحداً وجملة (ولا تحقرن) بكسر القاف يعني لا تترك (من المعروف شيئاً) احتقاراً له واستهانة لقدره فكل معروف وإن قلّ نفعه فهو صدقه ينمو أجره إلى يوم القيامة، والتنوين في شيء للتحقير والتقليل كما يدل عليه المقدم (و) لا تحقر (أن) بفتح الهمزة (تكلم) بضم الفوقية (أخاك) المؤمن (وأنت منبسط إليه وجهك) بالرفع فاعل ما قبله، والمعنى: لا تحقر خطابك لأخيك وفي وجهك البشر له كأنك مستبشر بحديثه لما في ذلك من إدخال السرور عليه وجلب وداده المأمور به بقوله «وكونوا عباد الله إخواناً» ثم علل النهي عن احتقارك ذلك بقوله (إن ذلك) أي المتكلم أو المذكور (من المعروف) وإن قل، والخطاب مع البشر (من المعروف) أي الذي يطلبه الشرع، ومثل ذلك لا ينبغي احتقار شيء منه (وأرفع

إزارك) ومثله باقي الثياب كما تقدم (إلى نصف الساق) وفي الحديث «أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه وذلك لحصول الغرض به من لبس الثوب وهو ستر العورة، وفيه مع ذلك تواضع وإعراض عن رعونة النفس (فإن أبيت) عبر عن عدم فعل ذلك بالإباء إيماء إلى شرف مكانه، قال: إن تركت فعل ذلك المرقى لك الدرجات في الجنة (فإلى الكعبين) أي فأرفعه عن جانب الأرض إليهما فلا جناح فيما بين الكعبين إلى نصف الساقين (وإياك) منصوب على التحذير بعامل محذوف وجوباً (وإسبال الإزار) أي احذر تلاقي نفسك وإسبال الإزار فحذف الفعل وفاعله ثم المضاف الأول وأنيب عنه الثاني فانتصب، ثم الثاني وأنيب عنه الثالث فانتصب وانفصل لتعذر اتصال الضمير، قاله ابن هشام في «التوضيح» / وفي مثله لابن الحاجب طريق آخر في مثل ذلك (فإنها) تلك الهيئة المدلول عليها بالسياق، والسياق (من المخيلة) بفتح الميم وكسر الخاء المعجمة من الاختيال والكبر واحتقار الناس والعجب عليهم، وظاهر أن ذلك محمول على من قصد ذلك أو أن من شأنها ذلك فذلك نهى عنها تحريماً بقصد ذلك وتنزيهاً عند عدم قصده (وإن الله لا يحبّ) أي لا يوافق أو لا يرضى (المخيلة) أي النفوس ذوات الخيلاء فلا يظهر عليهم أثر النعمة في الآخرة وفيه وعيد للمتكبر والمختال (إن امرؤ شتمك) مبين لفعل الشرط المحذوف العامل في امرىء: أي إن شتمك امرؤ وحذف جوابه وهو فلا تشتمه اكتفاء بدلالة المذكور بعده عليه، والنهي للتنزيه وإلا فيجوز الاستيفاء بالشرط المذكور قريباً (أو عيرك بما يعلم فيك) من الذنب والأفعال القبيحة (فلا تعيره بما تعلم فيه) فقد روى أحمد عن معاذ بن جبل قال قال رسول الله: «من عير أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله» يقال عيرته بفعل كذا: إذا قبحته عليه ونسبته إليه (فإنما وبال) بفتح الواو وتخفيف الموحدة: أي ثقل (ذلك) ووخامته (عليه) مأخوذ من وبل المرتع بضم الموحدة وبالاً إذا وخم، ولما كان عاقبة المرعى الوخيم إلى سوء قبل في سوء العاقبة وبال، والمراد به في الحديث العذاب في الآخرة، وقد يعجل بعضه في الدنيا (رواه أبو داود والترمذي) في اللباس (بالإسناد الصحيح. قال الترمذي: حديث صحيح) .

8797 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما رجل) بالرفع مبتدأ وجملة (يصلي) خبره والجملة الإسمية مستأنفة ولم أر من عيَّن الرجل (مسبلاً إزاره) بصيغة الفاعل ونصب الإزار مفعولاً به، ويجوز قراءته بصيغة المفعول ورفع إزاره نائب فاعله والأول أنسب بقوله آخر الحديث «إن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل» (قال له رسول الله: اذهب فتوضأ) فذهب عقب الأمر من غير توان كما تومىء إليه الفاء (فتوضأ) الوضوء الشرعي لأن الأصل فيما جاء في الشرعيات من الألفاظ حمل المعنى الشرعي حتى يجىء ما يصرفه عنه (ثم جاء) أي إلى النبي، لعل الإتيان بثم لتراخي مجيئه عن الوضوء لاشتغاله بأمر كسنة الوضوء (فقال: اذهب فتوضأ) أي ثانياً (فقال له رجل) ويحتمل أن تكون بمعنى عن: أي فقال عن المأمور: أي سائلاً عن سبب أمره بما أمر به أولاً الضمير فيه للنبي: أي فقال رجل للنبي واللام للتبليغ، وثانياً وسكوته عنه آخراً (يا رسول الله مالك) مبتدأ وخبر وجملة (أمرته أن يتوضأ) في محل نصب على الحال (ثم سكتّ عنه) بترك الأمر بذلك (قال: إنه كان يصلي وهو مسبل إزاره) أي بطول ثوبه وإرساله إذا مشى حتى يصل إلى الأرض وفعله ذلك كان تكبرا واختيالاً، فيحتمل والله أعلم أن يكون أمره بإعادة الوضوء ليكون مكفراً لذنبه، فقد جاء أن الطهور مكفر للذنوب، فمن ذلك حديث البراء بإسناد حسن عن عثمان مرفوعاً «لا يسبغ عبد الوضوء إلا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» فلما كان في إسبال الإزار من الإثم ما فيه أمره بالوضوء ثانياً ليكون تكفيراً لذنب الإسبال ولم يأمره بإعادة الصلاة لأنها «صحيحه» وإن لم تقبل كما قال (إن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل) ويحتمل أن يكون الأمر بإعادة الوضوء للإخلال بلمعة من أعضائه وبإخلال طهارته لا يصح الوضوء ولم يؤمر بإعادة الصلاة لأنها نفل، والله أعلم. والمراد من قوله لا يقبل: لا يكفر ذنوبه ولا يطهر قلبه من الآثام وإن أسقطت عنه الطلب (رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط

مسلم) في الصلاة وفي اللباس من «سننه» . 9798 - (وعن قيس بن بشر التغلبي) بالفوقية المعجمة وكسر اللام الشامي. قال الحافظ في «التقريب» : مقبول ممن عاصر صغار التابعين روى عنه أبو داود. قال تلميذه ابن رسلان في «شرح سنن أبي داود» : قال أبو حاتم: ما أرى بحديثه بأساً (قال: أخبرني أبي) بشر بن قيس التغلبي، قال في «التقريب» : من أهل قنَّسرين بكسر القاف وتشديد النون وسكون المهملة الأولى، صدوق من كبار التابعين خرّج له أبو داود (وكان جليساً لأبي الدرداء) يحتمل أن تكون حالية بإضمار قد، وأن تكون معطوفة على جملة أخبرني أبي (قال: كان بدمشق) بكسرا لدال وفتح الميم مدينة بالشام (رجل من أصحاب النبي) جمع صاحب بمعنى صحابي أي من صحابته (يقال له سهل) ابن الربيع بن عمرو بن عديّ (ابن الحنظلية) هي أمة، وقيل أم جده، وهي من بني حنظلة ابن تميم وسهل أوسيّ بايع تحت الشجرة، وكان زاهداً معتزلاً عابداً نزل دمشق. قال ابن الأثير: ومات بها أول خلافة معاوية ولا عقب له، وكان يقول: لأن يكون لي عقب أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس. قال الحافظ في «التقريب» : الحنظلية أمة أو من أمهاته، واختلف في اسم أبيه اهـ. ولم يحك كل من ابن الأثير وابن رسلان خلافاً في اسم أبيه (وكان رجلاً متوحداً) بالحاء المهملة: أي بحب التوحد وهو الانفراد عن الناس (قل ما يجالس الناس) أي قلت مجالسته الناس، في «ما» فيه مصدرية فلذا كانت في الأصول مفصولة عن الفعل والكافة توصل به (إنما هو) أي سهل (صلاة) أي ذو صلاة أو إنما شغله صلاة فحذف المبتدأ المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فانفصل مرفوعاً (فإذا فرغ) منها (فإنما هو تسبيح) لله عزّ وجل: أي تنزيه له عما لا يليق به (وتكبير) أي ثناء عليه بإثبات الكبرياء والعظمة، ويحتمل أن المراد الكناية عن كونه في غير

الصلاة ملازم ذكر الله تعالى بأيّ نوع منه لا بخصوص هين وها أقرب (حتى يأتي أهله) غاية لمقدر: أي يستمر على ذلك إلى أن يأتيهم فيشغله ما يحتاج إليه من أمرهم عن ذلك فيشغل به (فمر بنا ونحن) جلوس (عند أبي الدرداء) الصحابي الجليل المشهور واسمه عويمر، وقيل عامر، وعويمر لقب له، ابن زيد ابن قيس الأنصاري وقد تقدمت ترجمته (فقال له أبو الدرداء: كلمة) بالنصب بفعل محذوف: أي قل لنا كلمة أو تكلم كلمة فهي مفعول به أو مفعول مطلق تنفعنا (أي بثوابها إذا عملنا بها) ولا تضرّك (أي لا يعود عليك من الإتيان بها ضرر قال: بعث رسول الله سرية) بفتح فكسر فتشديد التحتية: هي قطعة من الجيش يبعثها الإمام إلى العدو، وسميت به لأنها تكون سراة العسكر أي خلاصته الذي هو النفيس منه وقيل لسيرهم ليلاً (فقدمت) بكسر الدال: أي وصلت من البعث (فجاء رجل منهم) لم يسمه ابن رسلان في شرحه ولا السيوطي في «حواشيه» (فجلس في المجلس الذي يجلس فيه رسول الله) فيه أن من ألف مجلسه لإقراء أو إفتاء ثم قام منه جاز لغيره الجلوس فيه زمن غيبته، ثم إن كانت المفارقة له بغير عذر سقط حقه منه بعد العودة إليه وإلا فلا (فقال لرجل إلى جنبه) أي من الصحابة الذين يحضرون مجلس النبي (لو رأيتنا) بفتح الفوقية أي أبصرتنا (حين التقينا نحن والعدوّ) بالرفع عطف على الضمير المتصل لتأكيده بالمنفصل (فحمل فلان) أي على شخص من العدو (فطعن) أي برمحه العدو (فقال) عند طعنته إياه (خذها مني وأنا الغلام الغفاري) بكسر الغين المعجمة نسبة العدوّ (فقال) عند طعنته إياه (خذها مني وأنا الغلام الغفاري) بكسر الغين المعجمة نسبة لبني غفار قبيلة أبي ذرّ. وفيه جواز قول الإنسان ذلك حال الحرب والتعريف بنفسه بذكر اسمه أو نسبه أو شهرته إذا كان بطلاً شجاعاً ليرهب عدوّه (كيف ترى في قوله هذا) أي ما رأيك في قوله المذكور مفتخراً به (قال) أي الرجل المحدث بذلك (ما أراه) بضم الهمزة: أي أظنه (إلا قد بطل أجره) لأنه أظهر عمله وافتخر على القوم (فسمع بذلك) المذكور منهما (آخر فقال: ما أرى) بفتح الهمزة بذلك القول (بأساً) لأن فيه إرهاباً للكفرة (فتنازعا) في ذلك

(حتى سمع رسول الله) حذف المفعول: أي سمع تنازعهما فيه، وحتى غاية لمقدر، أي وانتشر تنازعهما إلى أن وصل رسول الله (فقال: سبحان الله) فيه استعمال التسبيح عند التعجب من الشيء، وقد عقد له المصنف باباً في كتاب «الأذكار» ، وكذا يقال في ذلك لا إله إلا الله ونحوها (لا بأس أن يؤجر) بالبناء للمفعول: أي بالثواب في الدار الآخرة (ويحمد) بالبناء للمفعول أيضاً: أي يثنى عليه بالثناء الحسن في الدار الدنيا: أي لا منع من حصولهما معاً، ففيه حثّ على قول أنا فلان في الحرب إذا كان مشهوراً بالشجاعة قاصداً بذلك إرهاب الكفرة وإخافتهم لا الفخر والخيلاء (فرأيت أبا الدرداء سرّ بذلك) لما فيه من أن النفع الدنيوي لا ينافي الثواب الأخروي وأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً - قال تعالى: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} (النحل: 97) . وقال تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} (الرحمن: 46) (وجعل يرفع رأسه إليه) أي بعد أن كان خافضه (ويقول أنت سمعت ذلك من رسول الله؟) بتقدير همزة الاستفهام قبل الضمير: أي أأنت سمعته (فيقول نعم، فما زال أبو الدرداء يعيد عليه) القول (حتى إني لأقول) اللام معينة لكسر همزة «إن» لا لأنها تكون في خبر المفتوحة (يبركن على ركبيته) مبالغة في التواضع كما هو شأن المتعلم بين يدي المعلم (قال) أي بشر (فمرّ بنا يوماً آخر فقال له أبو الدرداء كلمة) أي اذكر لنا أو قل لنا كلمة (تنفعنا) وإسناد النفع إليها مجاز عقلي من الإسناد إلى السبب كما علم مما تقدم (ولا تضرّك قال: قال لنا رسول الله: المنفق على الخيل) في رعيها وسقيها وعلفها ونحو ذلك، والمراد الخيل المعدة لسبيل الله تعالى من الجهاد وإعانة منقطع بإركابه عليها (كالباسط يده بالصدقة) أي الذي يفتح يده باصدقة أبداً (لا يقبضها) بكسر الموحدة بإمساك ما فيها، ورواه ابن حبان في «صحيحه» «مثل المنفق على الخيل كالمتكفف بالصدقة، فقلت لعمر: ما المتكفف بالصدقة؟ قال: «الذي يعطي بكفه» وزاد الطبراني في «الأوسط» «وأهلها معانون عليها، والمنفق

عليها كالباسط يده في الصدقة وأرواثها لأهلها عند الله يوم القيامة من مسك الجنة» (ثم مرّ بنا يوماً آخر فقال أبو الدرداء: كلمة تنفعنا ولا تضرّك) فيه طلب العلم والاستزادة منه وأن المرء في مقام التعلم إلى اللحد، وإنما وصف أبو الدرداء الكلمة بما وصفها به لما مرّ من أن المخاطب كان قليل الكلام مع الناس خوفاً من أن يقع منه ما يضرّ به في دينه، فوصف مطلوبه بقوله ولا تضرّك ليسعفه به (قال: قال رسول الله: نعم الرجل خريم) بضم الخاء المعجمة وفتح الراء وسكون التحتية. وهو ابن فاتك بفاء وبعد الألف فوقية مكسورة كما ضبطه المنذري/ قال: وكنيته أبو يحيى، وقيل أبو أيمن، وقال غيره: هو خريم ابن أخرم بن شداد بن عمرو بن الفاتك (الأسيدي) وقيل فاتك لقب أبيه أخرم، شهد بدراً مع أخيه سبرة، وقيل إن خريماً وابنه أيمن أسلما يوم الفتح، وقد صحح البخاري وغيره أن خريماً وأخاه شهد بدراً ونزل خريم بالرقة (لولا طول جمته) بضم الجيم وتشديد الميم: ويه الشعر إذا طال حتى بلغ المنكبين وسقط عليهما. والوفرة: الشعر إلى شحمة الأذن ثم الجمة ثم اللمة التي ألمت بالمنكب (وإسبال) أي إرخاء (إزاره) حذف جواب لولا لدلالة ما قبله عليه وفيه أن إطالة الجمة وإسبال الإزار تدافع المدح وتمانع الرفعة الدينية لأن ذلك منهي عنه على سبيل الحرمة تارة والكراهة أخرى (فبلغ ذلك) أي الحديث (خريما فعجل) بكسر الجيم: أي سبق وبادر وهو من باب المسابقة إلى فعل البرّ خوفاً من عائق (فأخذ شفرة) بفتح الشين المعجمة: هي السكين العريضة (فقطع بهاجمته) حتى بلغت (إلى أذنيه ورفع إزاره) حتى بلغ (إلى أنصاف ساقيه) وقد قيل في قوله تعالى: {وثيابك فطهر} (المدثر: 4) أي قصر وشمر لأن تقصير الثياب إلى أنصاف الساقين طهرة لها من الأنجاس والأوساخ (ثم مرّ بنا) أي رابعاً (يوماً آخر، فقال أبو الدرداء: كلمة تنفعنا ولا تضرّك) . فيه الاستكثار من العلم والاستفادة من العالم كما مرّ (قال: سمعت رسول الله يقول) لما قفل من غزو (إنكم) أي في غد (قادمون على إخوانكم) من المؤمنين (فأصلحوا رحالكم) جمع

رحل أي ما أنتم راكبون عليه (وأصلحوا لباسكم) من رداء أو إزار أو عمامة ونحو ذلك. ففيه تحسين المرء ثوبه وكذا بدنه لملاقاة إخوانه ورؤية أعينهم، فإن رؤيتهم تمتد إلى الظواهر دون البواطن حذراً من ذمهم ولومهم واسترواحاً إلى توقيرهم واحترامهم فإن ذلك مطلوب في الشريعة، وفي الحديث دليل أن على الإنسان أن يحترز من ألم المذمة ويطلب راحة الإخوان واستجلاب قلوبهم ليأنس بهم فلا يستقذروه ولا يستثقلوه، وهذه مرايأة في المباحاة وليس من باب الكبر، بل من باب إظهار نعمة الله سبحانه والتحدث بها (حتى) غائية ويصح كونها تعليلية للأمر قبلها (تكونوا كأنكم شامة) بسكون الهمزة وتخفيف الميم قال ابن الأثير: الشامة هي الحال في الجسد معروفة (في الناس) المراد منه كونوا في أحسن هيئة وزيّ حتى تظهروا للناس ظهور الشامة في البدن (فإن الله لا يحبّ الفحش) أي لا يرضى ذا الفحش وهو من تكون هيئته ولباسه وقوله فاحشاً (ولا التفحش) ولا يرضى الرجل ذا الفحش: أي المتكلف الفحش والفاعل له قصداً. (رواه أبو داود بإسناد حسن إلا قيس بن بشر فاختلفوا) أي المحدثون (في توثيقه وتضعيفه وقد روى له مسلم) لم يرمز الحافظ في «التقريب» لرواية قيس عن مسلم بل اقتصر على رمز روايته عن أبي داود، ومثله في «الكاشف» للحافظ الذهبي وظاهر كلام المصنف أنه روى له الصحيح وهو المتبادر من عبارته. 10799 - (وعن أبي سعيدالخدريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إزرة) قال المنذري: ضبطها بعضهم بضم الهمزة، والصواب كسرها لأن المراد هنا الهيئة في الاتزار كالجلسة لهيئة الجلوس لا المرة الواحدة (المسلم) وعند ابن ماجه «إزرة المؤمن» أي الهيئة المستحبة في اتزار المؤمن (إلى نصف الساق) لأن ذلك أطهر لبعده عن احتمال وصول النجس وأطيب لبعده عن الكبر وقربه من التواضع (ولا حرج أو) شك من الراوي (لا

جناح) وهما بمعنى واحد: أي لا شيء من اللوم على المؤمن إذا أرخى ثوبه (فيما بينه وبين الكعبين) فالإرخاء إليهما جائز بلا كراهة وإلى ما فوقهما من نصف الساق (وما كان أسفل من الكعبين) أي من الثياب وعند النسائي من الإزار (فهو في النار) مستحبّ هو من تسمية الشيء بما يؤول إليه أمره في الآخرة غالباً، وقيل كناية عن تحريم ذلك لأن فعل الحرام يقتضي دخول النار في الآخرة فسماه الله باسمه، والمراد بالتحريم من أسبله قصداً للتكبر والخيلاء وإلا فيكره لغير النساء، فالحديث كنظيره من حديث الصحيح السابق مطلق محمول على ما ذكر (ومن جر إزاره بطراً) بفتح أوليه مفعول له ويجوز فتح أوله وكسر ثانيه فيكون حالاً، ووقع لابن رسلان عكس ما ذكرنا وهو سبق من القلم والبطر، تقدم أنه الطغيان عند تتابع نعم الله تعالى وعافيته (لم ينظر الله إليه) أي نظر رحمة ويحتمل أن ذلك يوم القيامة كما جاء مقيداً به في الخبر الصحيح ويحتمل أن ذلك عام للدارين ولا يقيده لأن ذكر بعض أفراد العام لا يخصصه (رواه أبو داود) في اللباس من «سننه» كالذي قبله (بإسناد صحيح) . 11800 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: مررت على رسول الله وفي إزاري استرخاء) جملة مركبة من خبر مقدم هو الظرف: أي متعلقة ومبتدأ مؤخر في محل نصب على الحال، والمراد أن فيه إسبالاً (فقال: يا عبد الله ارفع إزارك فرفعته) أي إلى الكعبين أو قريب منهما (ثم قال: زد) أي في الرفع لكونه أطيب وأطهر (فزدت) أي حتى بلغت به أنصاف الساقين (فما زلت أتحراها) أي أقصدها (بعد) بالبناء على الضم لحذف المضاف إليه ونية معناه: أي بعد ذلك الأمر الصادر منه ففيه مزيد اعتنائه بالسنة وملازمته للاتباع (فقال بعض القوم: إلى أين؟) أي كان انتهاء الرفع المأمور به (قال: إلى أنصاف الساقين) جمع المضاف إلى المثنى مع أنه مثنى دفعا لثقل تكرار ذلك ومنه قوله تعالى: {فقد صغت

قلوبكما} (التحريم: 4) وهذه اللغة أفصح من لغة تثنيته نحو جاءك غلاماً الرجلين ومن لغة إفراده نحو نصف ساقيه (رواه مسلم) . 12801 - (وعنه قال: قال رسول الله: من جرّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة) أي نظر رحمة. وقال الزين العراقي في «شرح الترمذي» : عبر عن المعنى الكائن عند النظر بالنظر، لأن من نظر إلى متواضع رحمه أو إلى متكبر مقته، فالرحمة والمقت متسببان عن النظر. وقال الكرماني في نسبة النظر لمن يجوز عليه النظر كناية، لأن من اعتد بالشخص التفت إليه ثم كثر حتى صار عبارة عن الإحسان وإن لم يكن هناك نظر، ولمن لا يجوز عليه حقيقة النظر وهو تقليب الحدقة وهو الله تعالى مجاز بمعنى الإحسان، وظاهر الحديث أن الوعيد في جره كذلك فيخرج من أطال ثوبه كذلك، غير أنه لم يجره حال مشيه بل يشمره، ويحتمل شموله لذلك، والمراد أن هذا شأن ذلك، وبه صرح في «الفتح» فقال: التقييد بالجرّ للغالب والبطر والتبختر مذموم ولو لمن شمر ثوبه (فقالت أم سلمة: فكيف تصنع النساء بذيولهن) أي وهن مأمورات بإرسالها. قال تعالى: {يا أيها النبيّ قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن} (الأحزاب: 59) أي والوعيد المذكور في الحديث يشمله فيتعارضان، فقال النبي منبهاً على أن ذلك فيمن زاد على المشروع قاصداً ما ذكر فيه والمشروع لهن إرساله للآية فلا شيء عليهن فيه كما حكت عنه بقولها (قال: يرخين شبراً) هو ما بين الخنصر والإبهام بالتفريج المعتاد (قالت إذن تنكشف أقدامهن) أي لصغر ذلك فربما نشب بعود أو حجر فانكشفت أقدامهن وبعض سوقهن (قال: فيرخينه ذراعاً) قال ابن رسلان: والظاهر أن المراد به ذراع اليد، قال أهل اللغة: الذراع اليدان من كل حيوان، لكنه من الإنسان فيمن المرافق إلى أطراف الأصابع، وذراع القماش قريب منه فإنه ست قبضات

120 ـــ باب استحباب ترك الترفع في اللباس

معتدلة. ومعنى الحديث: الإذن لهن في إطالة أذيالهن من القمص والأزر والخمر بحيث يسيلن قدر ذراع من أذيالهن إلى الأرض لتكون أقدامهن مستورة: يعني ظهورها، وقيل ابتداء الذراع من أول ما يمس الأرض من الثياب أو من الكعب قولان، الراجح الأول، واستظهر ابن رسلان أنه من نصف الساق وفيه بعد (ولا يزدن عليه) أي فهي عليه: أي على الكعبين بالنسبة للرجل في المنع حرمة وكراهة (رواه أبو داود) أي لا بسياق هذا اللفظ كما قد توهمه عبارته، بل الذي فيه عن صفية بنت عبيد الثقفية زوجة ابن عمر «أن أم سلمة زوج النبي قالت لرسول الله حين ذكر الإزار: فالمرأة يا رسول الله؟ قال: ترخي شبراً، قالت: إذاً ينكشفن، قال: فذراعاً لا تزيد عليه» . وفيه أيضاً عن ابن عمر «رخص رسول الله لأمهات المؤمنين في الذيل شبراً، ثم استزدته فزادهن ذراعاً، فكن يرسلن إلينا فنتذرع لهن ذراعاً» ولفظ الحديث المذكور للنسائي فكان على المصنف ذكره، وعزوه إليه لأنه روى المبنى والمعنى، وعند من ذكر المصنف من أبي داود والترمذي: المعنى وإن تفاوت بعض المبنى (وقال: حديث حسن صحيح) . 120 - باب استحباب ترك الترفع في اللباس أي وفي الافتراش والتدثر: أي لبس الرفيع سواء كان الرفعة من جهة النفاسة كثوب الخز والحرير أو من جهة الصناعة كالجيد من الصوف (تواضعاً) علة الترك: أي لا بخلاً أو إظهاراً للزهد (وقد سبق في باب فضل الجوع وخشونة العيش جمل) من الأحاديث (تتعلق بهذا الباب) كحديث أبي هريرة «رأيت سبعين من أهل الصفة، ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار وإما كساء، قد ربطوا في أعناقهم منها ما يبلغ نصف الساقين ومنها ما يبلغ الكعبين» الحديث، وكحديث عائشة «كان فراش رسول الله من أدم حشوه ليف» وكحديث أبي أمامة ابن ثعلبة الخشني مرفوعاً «البذاذة من الإيمان» رثاثة الهيئة وترك فاخر اللباس.

1802 - (وعن معاذ بن أنس رضي الله عنه أن رسول الله قال: من ترك اللباس) أي أعرض عنه (تواضعاً) وتركاً لزهرة الحياة الدنيا (وهو يقدر عليه) أما التارك للعجز فلا، نعم إن عزم أنه لو كان قادراً عليه لأعرض عنه تواضعاً أثيب على نيته كما تقدم ما يدل عليه، وفي الحديث «نية المؤمن خير من عمله» (دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق) زيادة في تشريفه (حتى يخيره من أي حلل) بضم ففتح جمع حلة كربة وقرب (الإيمان يشاء) وحتى غاية لمقدر: أي وينشر تشريفه ثمة بأنواع الشرف إلى أن يخيره بين حلل أهل الإيمان المتفاوتة المقام، فيختار الأعلى ويرد من الفيوض المورد الأحلى فينزل المكان الأعلى، وقوله (يلبسها) جملة مستأنفة لبيان القصد من التخيير فيها (رواه الترمذي) في الزهد من «جامعه» (وقال: حديث حسن) . 121 - باب استحباب التوسط في اللباس وذلك لأن الغالي شهرة والداني جداً دناءة إلا لتواضع لله واتباع آثار السلف فالأعمال بمقاصدها، وكذا إذا لبس الغالي النفيس تحدثاً بنعمة الله وتنبيهاً للفقراء على أنه منها بمكان ليقصدوه فيحسن إليهم ويواسيهم، وللأغنياء على أنه غنى عما بأيديهم فقير إلى الله دون غيره، كما يروى عن الشاذلي أنه قال لفقير كان لابساً ثوباً مرقعاً: أنكر عليه لبس نفيس الثياب: «يا هذا ثيابي تقول للناس الحمد لله وثيابك تقول لهم أعطوني من مالكم» . وعلى هذا السنن سار العارفون فلبسوا نفيس الثياب وزينوا بها ظاهرهم إعلاماً للناس بغناهم بمطلوبهم عمن سواه، وجعل الواحد منهم فقره ومناجاته بينه وبين مولاه نفعنا الله بهم (ولا يقتصر على ما يزري) بفتح التحتية بوزن يرمي (به) أي يدخل به في استهزاء الناس به (لغير حاجة) أي من فقر (ولا مقصود شرعي) من تواضع لله واقتداء بالسلف.

122 ـــ باب تحريم لباس الحرير على الرجال

1803 - (عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إن الله يحبّ) أي يرضى (أن يرى أثر نعمته) بكسر النون هي الأمر المستلذ المحمود العاقبة ولوخامة مستلذات الكافر للعذاب الأخروي، قيل لا نعمة لله على كافر (على عبده) وذلك بإظهار التجمل في الملبس تحدثاً بنعمة الله تعالى لا ترفعاً على الغير وكبراً بذلك وبالتوسع في أعمال البرّ من صلة الأقارب وإطعام الجائع وفك العاني وغير ذلك (رواه الترمذي) في الاستئذان من «جامعه» (وقال: حديث حسن) . 122 - باب تحريم لباس الحرير على الرجال أي المكلف منهم ومثلهم الخناثى احتياطاً، وقد صرح أصحابنا في باب اللباس أنه يجوز للوليّ إلباس الصبي قبل البلوغ ثياب الحرير، قال: لأنه ليس فيه من الشهامة ما ينافي نومة الحرير (وتحريم جلوسهم عليه واستنادهم إليه) من غير حائل يحول بين الجالس والمستند وثوب الحرير، وإلا فلو غطى كلاً من ثوبي الحرير المفروش والمستند عليه بغير حرير من قطن أو نحوه وجلس واعتمد حينئذ لم يحرم لأنه لا يعده العرف مستعمل الحرير، واختلف في علة التحريم فقيل الفخر والخيلاء، وقيل كونه ثوب رفاهية وزينة فيليق بزي النساء دون الرجال، قال في الفتح: ويحتمل علة ثالثة هي التشبه بالمشركين (وجواز لباسه للنساء) أي وجلوسهن عليه واستنادهن إليه. 1844 - (عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله: لا تلبسوا) الخطاب للذكور أي البالغين العاقلين (الحرير) المحض وكذا المركب منه ومن غيره والحرير الأكثر، ومن الحرير الخزّ بفتح المعجمة الأولى وتشديد الثانية وهو كدر اللون، وعلل ذلك

على طريق الاستئناف البياني بقوله (فإن من لبسه) أي من الرجال بدليل أول الحديث وحديث علي وأبي موسى الآتيين في الباب (في الدنيا) أي مع العلم بالحرمة للبس الحرير وأن الثوب الملبوس كذلك وتعمد ذلك ولم يتب منه (لم يلبسه في الآخرة) قال الحافظ في «الفتح» : فيكون عقابه ذلك في الجنة، وذلك بأن يصرف الله نفسه عن طلبه لا أنه يجب ذلك ويمنع منه، لأن ذلك يخالف مقتضى تلك الدار من زيادة الإكرام، قال: ومثله ماجاء في شارب الخمر إذا مات ولم يتب من أنه لا يشرب الخمر في الجنة (متفق عليه) . 2845 - (وعنه قال: سمعت رسول الله يقول: إنما يلبس الحرير) أي ثوبه عرفاً (من لا خلاق له) ها محمول على أن ذلك عقابه فلا يدخل الجنة إن عوقب، ولله أن يعفو عما شاء من الذنوب غير الشرك أو يدخلها ولا يلبسه بأن ينزع عنه شهوة ذلك (متفق عليه) رواه في اللباس، ولفظ مسلم في حلة عطارد من حديث عمر مرفوعاً «إنما هذه لباس من لا خلاق له» . (وفي رواية للبخاري) في اللباس أيضاً (من لا خلاق له في الآخرة) وهي أيضاً عند مسلم في اللباس في حديث عمر في حلة عطارد (قوله لا خلاق) بالمعجمة والقاف (أي لا نصيب) فيحرم إن عوقب هذا النصيب في الآخرة جزاء للبسه إياه في الدنيا وموته عليه من غير توبة. 3846 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من لبس الحرير في الدنيا لم

يلبسه في الآخرة. متفق عليه) قال في «الفتح» : زاد النسائي من رواية في آخره «ومن لم يلبس الحرير في الآخرة. لم يدخل الجنة» قال تعالى: {ولباسهم فيها حرير} (الحج: 23) وهذه الزيادة مدرجة في الخير وهي موقوفة على ابن الزبير كما بين ذلك النسائي من طريق أخرى، وكذا بينه الإسماعيلي. وقد جاء ذلك أيضاً عن ابن عمر أخرجه النسائي أيضاً، وأخرج أحمد والنسائي وصححه الحاكم عن أبي سعيد «وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو» قال الحافظ: وهذا يحتمل أن يكون مدرجاً اهـ ملخصاً. 4847 - (وعن علي رضي الله عنه قال: رأيت) أي أبصرت (رسول الله أخذ) جملة حالية بتقدير «قد» قبلها، ويحتمل كون الرؤية علمية فالجملة مفعول ثان لها (حريراً فجعله في يمينه، وذهباً فجعله في شماله ثم قال) أي بعد جعلها فيهما (إن هذين) الجنسين: أي استعمالما (حرام على ذكور أمتي) إلا فيما استثني كلباس الحرير لحكة أو جرب أو حرب لا يقوم فيها غيره مقامه، وكأنف الذهب إلانملة منه وتحلية المصحف به وغير ذلك مما هو مذكور في محله من كتب الفقه (رواه أبو داود بإسناد حسن) . 5808 - (وعن أبي موسى الأشعري) رضي الله عنه أن رسول الله قال: (حرم) بالبناء للمجهول والفاعل معلوم وهو الله عزّ وجل: أي حرم الله (لباس الحرير) وكذا افتراشه

والاستناد إليه والتدثر به (و) حرم (الذهب) بالرفع: أي استعماله بتختم أو غيره من الحلي حتى يحرم ما ضبب به مطلقاً (علة ذكور أمتي) أي المكلفين، أما غيرهم منهم فيجوز للوليّ إلباسهم الحرير دون الذهب (وأحل) بالبناء للمجهول (بكسر الهمزة) وتخفيف النون وبالمثلثة (رواه الترمذي) في اللباس من «جامعه» (وقال حديث صحيح) . 6809 - (وعن حذيفة رضي الله عنه قال: نهى النبيّ أن نشرب) في آنية الذهب والفضة وأن تأكل فيها خص الأكل والشرب بالذكر كما تقدم من أنهما أغلب أنواع الاستعمال وإلا فسائر استعمال أواني النقد حرام (وعن لبس الحرير) بضما للام: أي أن يلبس الحرير لتناسب المعطوف عليه، أما اللبس بكسر اللام فهو كاللباس ما لبس (والديباج) هو كما تقدم ثوب سداه ولحمته إبريسم، وتقدم الخلاف في أنه معرّب أو عربي (وأن تجلس عليه) أي على ما ذكر من الحرير والديباج: أي من غير حائل بين الجالس وبينه، قال الحافظ: قال بتحريم الجلوس على الحرير، وهو قول الجمهور وخلافاً لابن الماجشون والكوفيين وبعض الشافعية. وأجاب بعضهم عن هذا الحديث بأن النهي ليس صريحاً في الحرمة، وبعضهم باحتمال أن يكون النهي ورد عن مجموع اللبس والجلوس لا عن الجلوس بمفرده، وبهذا يرد على ابن بطال دعواه أن الحديث نص في تحريم الجلوس على الحرير فإنه ليس بنص فيه كما هو ظاهر اهـ. والنهي في ذلك كله للتحريم (رواه البخاري) في اللباس:

123 ـــ باب جواز لبس الحرير لمن به حكة

123 - باب جواز لبس الحرير لمن به حكة بكسر الحاء المهملة، واختلف هل هي الجرب مطلقاً، أو بقيد كونه يابساً؟ الأول عليه الجوهرى وغيره، والثاني قاله بعضهم. 1810 - (عن أنس رضي الله عنه قال: رخص رسول الله) من الرخصة وهو الحكم المتغير تعلقه من الصعوبة إلى السهولة لعذر مع قيام السبب للحكم الأصلي فإنه غير حكم لبس الحرير من الصعوبة، وهي الحرمة إلى السهولة وهي الجواز لعذر وهي الحكة مع قيام السبب الأصلي الذي هو الحزمة من الخيلاء أو الخنوثة المنافية لشهامة الرجال (للزبير وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما في لبس الحرير) أي في أن يلبساه (لحكة) أي لأجل حكة (بهما) وفي رواية للبخاري «أنهما اشتكيا إلى رسول الله القمل» قال الحافظ: وكأن الحكة نشأت عن القمل، ويلتحق بها في الحديث إباحة ما يقي الحرّ والبرد من الحرير حيث لا يوجد غيره (متفق عليه) . 124 - باب النهي عن افتراش جلود النمور جمع نمر: حيوان معروف، أخبث من الأسد وأجرأ (والركوب عليها) والنهي فيه محمول على التنزيه.

1811 - (عن معاوية رضي الله عنه) تقدمت ترجمته (قال: قال رسول الله: لا تركبوا الخزّ) أي السرج المغشاة به. قال ابن رسلان: إن أريد بالخزّ الثياب المنسوجة من صوف أو المتخذ منه ويراد به فهي مباحة، وقد لبسها الصحابة والتابعون فيكون النهي للتنزيه لأجل التشبه بالعجم، ولما فيه من زي المترفهين والمتكبرين بالتفاخر على غيرهم، وإن أريد به النوع الآخر المعمول من الحرير وهو المعروف فهو حرام، والنهي فيه للتحريم اهـ (ولا النمار) بكسر النون وتخفيف الميم قاله في «المصباح» ، قال ابن الأثير: جمع نمرة بفتح فكسر: كساء فيه خطوط بيض وسود اهـ وحينئذ فالحديث لا يلائم ما عقدت له الترجمة، وكأن وجه النهي عن ركوب النمور وفي «الصحاح» النمر سبع والجمع نمور، وجاء في الشعر نمر وهو شاذ ولعله مقصور منه اهـ. فلم يذكر أنماراً في جمعه ثم نمر السبع ذي الخطوط من الأكسية لما في ذلك من الخيلاء، ثم رأيت ابن رسلان قال: والنمار وفي رواية النمور وكلاهما جمع نمر بفتح فكسر، ويجوز التخفيف بكسر النون وسكون الميم، قال: ونهي عن استعمال جلوده لما فيها من الزينة والخيلاء، ولأنها زي الأعاجم. قال في «النهاية» : وعموم النهي شامل للمذكى وغيره لأنه يحرم أكله (حديث حسن رواه أبو داود) في اللباس من «سننه» (بإسناد حسن) ولا علة في المتن ولا شذوذ فهو حسن أيضاً. 2812 - (وعن أبي المليح) بفتح الميم وكسر اللام عامر ويقال عمير بن أسامة الهذلي (عن أبيه) أسامة بن عمير بن عامر بن أقيشر بضم الهمزة وفتح القاف وسكون التحتية وكسر الشين المعجمة واسمه عمير بن عبد الله بن حبيب بن يسار بن ناجية بن عمرو بن الحارث بن كثير ابن هند بن طلحة بن لحيان بن هذيل بن مدركة بن إلياس الهذلي الكوفي. قال في «التقريب» : صحابي تفرد ولده بالرواية عنه، خرج عنه الأربعة، روى له عن رسول الله وسلم أحاديث (رضي الله عنه أن رسول الله: نهى عن جلود السباع) أن يركب عليها، قال البيهقي: يحتمل أن النهي وقع لما يبقي عليها من الشعر لأن الدباغ لا يؤثر فيه، وقال

125 ـــ باب ما يقول إذا لبس ثوبا جديدا أو نعلا أو نحوه

غيره: يحتمل أن النهي عما لم يدبغ منها أو من أجل أنها مراكب أهل السرف والخيلاء. (رواه أبو داود) في اللباس من «سننه» (والترمذي) فيه والنسائي في الذبائح (بأسانيد صحيحة) فرواه أبو داود عن مسدد عن يحيى القطان وابن علية كلاهما عن سعيد عن قتادة عن ابن المليح بن أسامة عن أبيه، ورواه الترمذي عن محمد بن يحيى وعن أبي كريب عن ابن المبارك ومحمد بن بشر وعبد الله بن إسماعيل هو ابن أبي خالد ثلاثتهم عن سعيد بن أبي عروبة، قال الترمذي: ولا نعلم أحداً قال عن أبيه غير ابن أبي عروبة، وعن ابن بشار عن غندر عن شعبة عن يزيد الرشك عن أبي المليح عن النبيّ مرسلاً قال: وهذا أصح، وعن ابن بشار عن معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن أبي المليح «أنه كره وعبد الله أصح، وعن ابن بشار عن معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن أبي المليح «أنه كره وهذا أصح، وعن ابن بشار عن معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن أبي المليح «أنه كره جلود السباع» ورواه النسائي عن أبيه عبيد الله بن سعيد عن يحيى وحينئذ فليس للحديث إلا سند واحد وهو سعيد عن قتادة عن أبي المليح عن أبيه والتعداد إلى سعيد لا يقتضي تعدد سند الحديث/ ولعل المصنف أطلق الحكم بصحة الأسانيد ولم يعقبه بتضعيف المتن بالإرسال الذي صححه الترمذي أخذاً بقاعدة تقديم الوصل على الإرسال، والله أعلم. (وفي رواية للترمذي) زيادة على رواية غيره ممن ذكر (نهى عن جلود السباع أن تفرش) أي فالمزيد فيها قوله أن تفرض وهو بدل من جلود بدل اشتمال. 125 - باب ما يقول إذا لبس ثوباً جديداً أو نعلاً أو نحوه أي بعد تمام اللبس. 1812 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله إذا استجد ثوباً)

126 ـــ باب استحباب الابتداء باليمين في اللباس

أي لبس ثوباً جديداً وأصله على ما في «القاموس» صبره جديداً (سماه) أي الثوب (باسمه) أي المعين للشخص الموضوع له الثوب مما بينه بقوله (عمامة) بكسر العين المهملة (أو قميصاً أو رداء) أي أو غيرهما كسراويل وإزار: أي كان يقول: الحمد لله الذي رزتني أو كساني هذه العمامة أو القميص، وقيل بل المراد وضع لذلك الثوب اسماً يخصه، فقد كانت له عمامة تسمى السحاب (ثم يقول) بعد لبسه (اللهم لك الحمد كما كسوتنيه) الكاف فيه للتعليل وما مصدرية، والضمير يعود إلى مسمى الثوب من قميص وعمامة: أي لكسوتك إياي هذه العمامة منة، وأتى بذلك ليكون الحمد في مقابلة نعمة وهو في مقابلها أفضل بسبعين ضعفاً، وقيل الكاف للتشبيه: أي كما كسوتنيه في موضع الرفع مبتدأ خبره قوله (أسألك خيره) هو المشبه: أي ما كسوتنيه من غير حول مني ولا قوة، وأسألك أن توصل إلى خيره (وخير ما صنع) بالبناء للمفعول: أي خلق (له) من الشكر بالجوارح والقلب والحمد لموليه باللسان (وأعوذ بك) عطف على أسألك: أي أستعيذ بك (من شره ومن شر ما صنع له) من الكفران اهـ. ملخصاً من كلام الطيبي، وفيه وجوه أخر بينتها في غير هذا الكتاب. (رواه أبو داود) في اللباس من سننه وقال: لم يذكر الثقفي أحد رواته فيه أبا سعيد، يعني أرسله ولم يجاوز فيه أبا نضرة (والترمذي) في اللباس من «جامعه» ومن «شمائله» (وقال) في «جامعه» (حديث حسن) ورواه ابن السني في «اليوم والليلة» . 126 - باب استحباب الابتداء باليمين في اللباس أي بأن يدخل يده اليمنى في كمها قبل إدخال اليسرى ويدخل اليمنى في كل من الخف والسراويل والنعل قبل إدخال اليسرى،

وذلك لأن إلباس العضو كرامة له واليمين أحق بها من اليسار (هذا الباب تقدم مقصوده) أي ما يقصد منه من إثبات التيامن فيما ذكر في باب استحباب تقديم اليمين في كل ما هو من باب التكريم (وذكرنا الأحاديث الصحيحة فيه) أي للواردة في هذا المقصود في ذلك الباب فأغنى عن الإعادة لقربه، والله الموفق. 4 - كتاب آداب النوم هو غشية ثقيلة تهجم على القلب فتقطعه عن المعرفة بالأشياء ولذا قيل هو آفة لأن النوم أخو الموت، وقيل النوم مزيل للقوة والعقل، وقيل مغط لهما، أما السنة ففي الرأس والنعاس في العين. قيل السنة هي النعاس، وقيل هي ريح النوم تبدو في الوجه ثم تنبعث إلى القلب فينعس الإنسان فينام، كذا في «المصباح» مع زيادة حكاية أنه مغط للعقل قال الفقهاء: الجنون يزيل العقل، والسكر والإغماء يغلبانه، والنوم يستره، وعلامة النوم الرؤيا، وعلامة النعاس سماع كلام الحاضرين وإن لم يفهم معناه (و) آداب (الاضطجاع) افتعال من الضجع: أي وضع الجنب بالأرض وأبدلت التاء طاء دفعاً للنقل. 1814 - (عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: كان رسول الله إذا أوى) بالقصر أي انضم (إلى فراشه) بكسر الفاء أي مفروشة (نام على شقه الأيمن) وهو أنفع ما يكون بالقلب وأسرع لانتباه النائم لتعلق القلب وعدم انغماره بالنوم (ثم قال) لعل ثم فيه مستعارة في محل الفاء أو على ما بها والمراد أنه يقول قبل هذا الذكر بعد الاضطجاع أذكار آخر ثم يأتي بهذا (اللهم أسلمت نفسي إليك) أي تركتها مسلمة إليك من غير تعرض مني لما يرد إليها منك كما هو حق السيد على عبده وليكون صادقاً عند إرادة ذلك بقلبه وإلا أدركه لكذبه المقت (ووجهت وجهي إليك) أي ذاتي وكنى به عنه لأنه أشرف ما في الإنسان إذ

هو محل الصورة التي بها تمايز الجمال، قال «الصورة في الرأس فإذا قطع الرأس فلا صورة» أخرجه الإسماعيل في «معجمه» من حديث ابن عباس كما في «الجامع الصغير» ومعنى كونها في الرأس: أي بالقرب منه (وفوضت) أي سلمت (أمرى إليك) ومن فوّض أمره إلى مولاه كفاه (وألجأت ظهري إليك) أي أرجعته إليك وجعلته راجعاً بين يديك فلا ملجأ منك إلا إليك (رغبة) بالغين المعجمة مفعول له: أي طمعاً في ثوابك (ورهبة) إسكان الهاء وفتحها معطوف على ما قبله: أي خوفاً من عقابك (إليك) قيل إنه متعلق برهبة ومتعلق رهبة محذوف، وقيل بل كلاهما تنازعاه: أي نحن في حالتيهما نلجأ إليك لا إلى غيرك، وقيل بل هو بطريق اللفّ والنشر المرتب كما سبق عن الطيبي (لا ملجأ) بهمزة مفتوحة أي مستند (ولا منجا) أصله بترك الهمز لكن لما جمعا جاز أن يهمز ازدواجاً لما قبله، وجاز قراءتهما بالألف اللينة من غير همز لما ذكر، وجاز إبقاء كل على حاله، ويجوز التنوين مع القصر (منك) تنازعه ما قبله إن كانا مصدرين (إلا إليك) أي لا مستند ولا نجاة منك إلى أحد إلا إليك والجملة مستأنفة لما قبلهما استئنافاً بيانياً (آمنت) أي صدقت (بكتابك الذي أنزلت) أي بجنس الكتاب المنزل منك إلى الأنبياء وبالكتاب المعهود: أي القرآن والإيمان به ليستلزم الإيمان بكل كتاب (ونبيك) كذا في الأصول من «الرياض» بحذف الجار وهو في الأدعية من البخاري بلفظ وبنبيك بإعادة الجار (الذي أرسلت) أي إلى كافة الخلائق كما يؤذن به حذف المعمول وقد تقدم الحديث مع «شرحه» وبيان من خرجه في باب اليقين أول الكتاب (رواه البخاري بهذا اللفظ في كتاب الأدب من صحيحه) أي عقبه وإلا فهو مذكور في كتاب الدعوات من الصحيح.v 2815 - (وعنه قال: قال لي النبي: إذا أتيت مضجعك) بفتح الميم والجيم وسكون الضاد المعجمة بينهما أي أردت إتيان مكان اضطجاعك (فتوضأ وضوءك الصلاة) أشار إلى أن المراد به الوضوء الشرعي لا اللغوي (ثم اضطجع على شقك الأيمن وقل، وذكر نحوه

فيه: واجعلهن) أي الكلمات المذكورة (آخر ما تقول) لتكون خاتمة قولك وتمام عملك فإن مت كذلك رفعت (متفق عليه) ورواه الأربعة كما تقدم ثمة. 3816 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة) جاء في رواية لها «يصلي ستاً منها مفصولة ويوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء إلا في آخرها» (فإذا طلع الفجر) أي الصادق (صلى ركعتين خفيفتين) سنه الصبح القبلية (ثم اضطجع على شقه الأيمن) ، وذلك ليتذكر الإنسان بها ضجعة القبر فيحمله ذلك على حسن العمل في نهاره الذي استقبلة، والصحيح أن هذه الضجعة سنة مطلقاً لمن قام الليل وغيره كما سيأتي في الأصل ويستمر علة اضطجاعه (حتى يجيء المؤذن فيؤذنه) بضم التحتية وسكون الهمزة من الإيذان وهو الإعلام أي يعلمه باجتماع الناس للصلاة فيقوم من ضجعته ويخرج إليهم (متفق عليه) . 4817 - (وعن حذيفة رضي الله عنه قال: كان النبيّ إذا أخذ مضجعه من الليل) أي أراد النوم فيه (وضع يده تحت خده) عند الترمذي في «الشمائل» في حديث البراء ابن عازب وضع كفه اليمين تحت خده الأيمن وإنما كان يختار الأيمن لأنه كان يحبّ التيمن في شأنه كله وليعلم أمته، ولأن النوم أخو الموت وهذه الهيئة عند النزع وفي القبر حال الوضع وهي

الأفضل في هيئة الصلاة للعاجز عن الصلاة قاعداً (ثم يقول) ثم فيه بمعنى الواو بدليل رواية الترمذي في «الشمائل» في حديث حذيفة قال «كان النبيّ إذا أوى إلى فراشه قال (اللهم باسمك أموت وأحيا) قال القرطبي: فيه دلالة على أن الاسم المسمى: أي أنت تحييني وتميتني فأموت وأحيا بقدرتك. قال الحافظ: ويقال اسم مقحم، والمعنى: بك أحيا وأموت. وفيه أنه لا يجري على مذهب البصريين المانع من زيادة الأسماء قال القرطبي: أو أن المراد أن أسمائه سبحانه وتعالى لكل منها مقتضى فكل ما ظهر في الوجود فهو صادر عن تلك المقتضيات، فكأنه قال باسمك المحيى أحيا وباسمك المميت أموت، ثم تقديم الظرف فيه لأن القصد من الكلام متعلق بشأنه دون متعلقه فقدم اهتماماً، وفيه كلام للتقي السبكي نقلته في «شرح الأذكار» (وإذا استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيانا) أي أيقظنا ففيه استعارة تبعية كما في آماتنا (من بعد ما أماتنا) أي أنامنا والقرينة علة المجاز فيها ظاهر الحال: قال الطيبي: لما كان الانتفاع بالحياة يتحرّى رضا الله تعالى بأعمال البرّ فيها والنائم لاحظ له من هذا الانتفاع كان كالميت، فكأن الحمد شكراً لنيل هذه النعمة وزوال تلك الفترة وبه ينتظم مع قوله (وإليه النشور) أي المرجع إليه تعالى في نيل ثواب ما اكتسبه في الحياة: أي أن ذلك منه تعالى لا مدخل لغيره فيه (رواه البخاري) في الدعوات من «صحيحه» وأخرجه الأربعة أيضاً، فأخرجه أبو داود في الأدب من «سننه» والترمذي في الدعوات من «جامعه» وقال: حسن صحيح، وفي باب النوم من «شمائله» ، والنسائي في اليوم والليلة وابن ماجه في الدعاء. 5818 - (وعن يعيش) بفتح التحتية وكسر المهملة وسكون التحتية (ابن طحفة) قال صاحب «المغني» نقلاً عن جامع الأصول: هو بمهملة وخاء معجمة وفاء، وقيل بهاء مكان الخاء، وقال الحافظ في «التقريب» بكسر أوله وسكون المعجمة الخاء، ويقال بالهاء بدلها وبالغين المعجمة (الغفارى) بكسر المعجمة وتخفيف الفاء وبعد الألف راء نسبة لبني غفار قبيلة أبي ذرّ (رضي الله عنهما) قال ابن الأثير: يعيش هذا شامي (قال: قال أبي) أي طخفة، وفي

«التقريب» للحافظ ما يقتضي أنه ليس لطحفة هذا الحديث (بينما أنا مضطجع) اسم فاعل من الاضطجاع، قال في «النهاية» : هو النوم (في المسجد على بطني إذا رجل يحركني) برجله فقال أي عقب استيقاظي منبهاً علة حكمة تحريكه له (إن هذه ضجعة) بفتح الضاد وهي المرة من الاضطجاع (يبغضها الله) مجاز عن النهي عنها، لأن ما لا يرضاه تعالى من الأفعال منهيّ عنه (قال: فنظرت فإذا رسول الله) إذا فيهما فجائية وهي مضافة للجعلة بعدها وحذف خبر الجملة الثانية، ويحتمل أن يكون المحذوف المبتدأ: أي فإذا الذي أيقظني رسول الله (رواه أبو داود) في الأدب من «سننه» (بإسناد صحيح) فرواه عن محمد بن المثنى عن معاذ بن هشام عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن يعيش بن طخفة فذكره، ورواه النسائي أيضاً بهذا السند وبأسانيد أخر في الوليمة، ورواه ابن ماجه في الصلاة من «سننه» ببعضه، وقال فيه عن قيس بن طهفة عن طهفة بقصة نومه علة بطنه/ 6819 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله قال: من قعد مقعداً) يحتمل أن يكون مصدراً ميمياً: أي من جلس جلوساً وأن يكون اسم مكان: أي في مكان الذي (لم يذكر الله تعالى فيه) جملة في محل الصفة (كانت عليه من الله ترة) فيه الرفع على أنه اسم كان وأحد الظرفين خبرها والثاني حال، ويجوز فيه النصب على أنه خبرها واسمها مستكن يعود على القعدة المفهومة مما قبله والظرفان كما تقدم، أو أنهما لغو متعلقان بترة لكونه بمعنى نقص (ومن اضطجع) أي نام كما تقدم أو وضع جنبه وإن لم يتم لراحة (مضطجعاً) يجوز فيه ما جاز في مقعد (لا يذكرالله تعالى فيه) خالف بين لفظي النافي في الجملتين تفنناً في التعبير (كانت عليه من الله ترة. رواه أبو داود بإسناد حسن) وروى النسائي وأحمد وابن حبان «وما مشى أحدكم ممشى لم يذكر الله فيه إلا كان عليه ترة، وما أوى أحدكم إلى

128 ـــ باب جواز أي إباحة الاستلقاء

فراشه لم يذكر الله فيه إلا كان عليه ترة» كذا في «الحصن» لابن الجزري (الترة بكسر التاء المثناة من فوق) وتخفيف الراء، قال في «النهاية» : والهاء فيه عوض عن الواو المحذوفة: أي كعدة وزنة، إذ الأصل وتر ووعد وزن فحذف فاء كل وعوض عنها الهاء (وهي النقص) بدأ به في النهاية ثم قال (وقيل) أراد بالترة هنا (التبعة) أي بفتح الفوقية وكسر الموحدة، قال في «المصباح» : هي ما تطلب من ظلامة ونحوها. 128 - باب جواز أي إباحة الاستلقاء أنكر ابن خلكان قول الفقهاء استلقى ومستلقي قال: إنما يقال استلقى ومستلق، ورده ابن النحوي في لغات «المنهاج» بأن صاحب العباب ذكر كلا من قول الفقهاء، وقول ابن خلكان وأن الجميع يقال في ذلك، وأن معناه نام على قفاه اهـ. فيكون قول المصنف (على القفا) تجريداً وتصريحاً لزيادة التوضيح والقفا بالقاف وألف مقصور مؤخر العتق كذا في «المصباح» (ووضع إحدى الرجلين على الأخرى) أي حال الاستلقاء وغيره (إذا لم يخف انكشاف العورة) بما ذكر من الاستلقاء والوضع المذكور، فالأحاديث الواردة بالنهي محمولة على ما إذا خيف انكشافها (وجواز القعود متربعاً محتبياً) هو ضم الظهر مع الساقين بعمامة أو بيد، والثاني من أكثر جلوسه كما فسر به القاضي عياض حديث مسلم «كان أكثر جلوسه محتبياً» . وكذا سائر أنواع الجلسات فالكل جائز، نعم يكره في الصلاة الإقعاء: أي الجلوس على وركيه ناصباً فخذيه لا الاقعاء وهو نصب أصابع القدمين ووضع الإليين على عقيبهما، فذلك سنة في الجلوس بين السجدتين وإن كان الافتراش أفضل منه فيه. 1820 - (عن عبد الله بن زيد) الأنصاري تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب إباحة الشرب من الأواني الطاهرة (أنه رأى رسول الله مستلقياً في المسجد) دليل على جواز

ذلك (واضعاً إحدى رجليه على الأخرى. متفق عليه) رواه البخاري في الصلاة ومسلم في اللباس، ورواه أبو داود في الأدب من «سننه» والترمذي في الاستئذان من «جامعه» والنسائي في الصلاة. 2821 - (وعن جابر بن سمرة) بفتح المهملة وضم الميم (رضي الله عنهما قال: كان النبي إذا صلى الفجر تربع) أي جلس متربعاً في مصلاه: أي محل صلاته يذكر الله تعالى واستمر جالساً (حتى تطلع الشمس حسناء) أي بيضاء ففيه دليل جواز القعود متربعاً (حديث صحيح رواه أبو داود) في الأدب من «سننه» (وغيره) بل رواه مسلم في كتاب الصلاة من صحيحه، ورواه النسائي في الصلاة وفي اليوم والليلة (بأسانيد صحيحة) فرواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن ابن وكيع عن سفيان الثوري عن سماك بن حرب عن جابر، ورواه أبو داود عن عثمان بن أبي شيبة عن داود الحفري عن سفيان بالإسناد المذكور بلفظ جلس متربعاً، ورواه النسائي عن أحمد وابن سليمان الزهيري عن يحيى بن آدم عن زهير بن حرب عن سماك عن جابر قاله المزي، وظهر حينئذ أن مراد المصنف بتعدد الإسناد ما فوق سفيان لا جميعه، وأن المراد من الجمع ما فوق الواحد، والله أعلم. 3822 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت النبي بفناء الكعبة) قال في «المصباح» : الفناء مثل كتاب الوصيد وهو سعة البيت، وقيل ما امتد من جوانبه وجمعه أفنية اهـ (محتبيا) حال من رسول الله لأن رأى بصرية (بيديه هكذا) أي احتباء فهذا

والمشار إليه ما بينه الراوي بقوله (ووصف) في «القاموس» : القرفصى مثلثة القاف والفاء مقصورة والقرفصاء بالضم والقرفصاء بضم القاف والراء على الاتباع أن يجلس على إليتيه ويلصق بطنه بفخذيه ويتأبط كفيه. وقال الجوهري: القرفصاء ضرب من القعود يمد ويقصر فإذا قلت قعد فلان القرفصاء كأنك قلت قعد قعوداً مخصوصاً هو أن يجلس على إليتيه ويلصق فخذيه ببطنه ويحتبي بيديه يضعهما على ساقيه كما يحتبي بثوب فتكون يداه مكان الثوب، عن أبي عبيدة، وقال أبو المهدي: هو أن يجلس على ركبيته منكباً ويلصق بطنه بفخذيه ويتأبط كفيه وهي جلسة الأعراب اهـ (رواه البخاري) أي في الأدب من «صحيحه» لكن لم أر فيه قوله ووصف الخ. 4823 - (وعن قيلة) بفتح القاف واللام وسكون التحتية بينهما (بنت مخرمة) بفتح الميمين والراء وسكون الخاء المعجمة (رضي الله عنها) قال الحافظ في «التقريب» : هي العنبرية بفتح المهملة والموحدة وسكون النون بينهما، كذا صححه ابن الأثير في «أسد الغابة» قال: وقيل العنزية بفتح المهملة والنون وبالزاي، وقيل العنوية: أي بواو بدل الراء، وقيل العنبرية وهو الصحيح لأنها قد قيل فيها التميمية، والعنبر من تميم صحابية ولها حديث طويل. قل: وقد أورده بطوله صاحب كتاب «اليواقيت الفاخرة» في الحديث وهو نحو ورقتين، وذكر ابن الأثير أنه أخرجه أيضاً ابن عبد البرّ وابن منده وأبو نعيم، قال الحافظ: وفي حديثها أنها كانت تحت حبيب بن أزهر فولدت النساء فمات عنها فانتزع بناتها عمر بن أيوب بن أزهر، فذهبت إلى النبي تشكو ذلك إليه (قالت: رأيت رسول الله وهو قاعد القرفصاء، فلما رأيت رسول الله: المتخشع في الجلسة) بالنصب صفة لرسول (أرعدت) أي اضطربت وهو بصيغة المجهول (من الفرق) بفتح أوليه وآخره قاف الخوف مصدر فرق من باب تعب (رواه أبو داود) في الخراج من «سننه» (والترمذي) في الاستئذان من «جامعه» وقال:

لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن حسان، وفي باب اللباس من «شمائله» . ورواه البزار في «مسنده» . 5824 - (وعن الشريد) بفتح المعجمة وكسر الراء وسكون التحتية بعدها دال مهملة قاله في «المغني» (ابن سويد) بضم المهملة وفتح الواو وبسكون التحتية آخره مهملة الثقفي الحجازي وقيل الحضرمي (رضي الله عنه) قال العامري، عداده في ثقيف لأنهم أخواله، وقيل قتل قتيلاً في قومه فلحق بمكة فحالف ثقيفاً، ثم لحق بالنبي فبايعه بيعة الرضوان وسماه الشريد بذلك. روى عنه مسلم حديثين في «صحيحه» ، وخرّج له أبو داود والنسائي (قال: مرّ بي رسول الله وأنا جالس هكذا) جملة اسمية حالية من فاعل مرّ، ثم بين تلك الحالة المشار إليها بقوله (وقد وضعت يدي اليسرى خلف ظهري واتكأت علة إلية يدي) بكسر الهمزة وسكون اللام: أي أصلها الذي ينتهي طرفه إلى أصل الإبهام المسمى بإليته وطرفه الآخر إلى أصل الخنصر المسمى بالصرة كما في «النهاية» ، ثم رأيت الحافظ السيوطي في حاشيته المسماة «بمرفاة الصعود إلى سنن أبي داود» قال: هي أصل الإبهام وما تحته: أي دون ما يصل إلى الصرة ويقاربها (فقال: أتقعد قعدة) بكسر القاف لبيان الهيئة (المغضوب عليهم) وهما اليهود كما قاله جمهور المفسيرين في تفسير المذكور آخر سورة الفاتحة، ففيه المنع من التشبه بالمغضوب عليهم في الهيئة أو غيرها من الأفعال والأحوال (رواه أبو داود) في الأدب من «سننه» (بإسناد صحيح) فرواه عن علي بن برى عن عيسى بن يونس عن ابن جريج عن إبراهيم بن ميسرة الطائفي عن عمرو بن شريد عن أبيه.

129 ـــ (باب في آداب المجلس والجليس)

5824 - (وعن الشريد) بفتح المعجمة وكسر الراء وسكون التحتية بعدها دال مهملة قاله في «المغني» (ابن سويد) بضم المهملة وفتح الواو وبسكون التحتية آخره مهملة الثقفي الحجازي وقيل الحضرمي (رضي الله عنه) قال العامري، عداده في ثقيف لأنهم أخواله، وقيل قتل قتيلاً في قومه فلحق بمكة فحالف ثقيفاً، ثم لحق بالنبي فبايعه بيعة الرضوان وسماه الشريد بذلك. روى عنه مسلم حديثين في «صحيحه» ، وخرّج له أبو داود والنسائي (قال: مرّ بي رسول الله وأنا جالس هكذا) جملة اسمية حالية من فاعل مرّ، ثم بين تلك الحالة المشار إليها بقوله (وقد وضعت يدي اليسرى خلف ظهري واتكأت علة إلية يدي) بكسر الهمزة وسكون اللام: أي أصلها الذي ينتهي طرفه إلى أصل الإبهام المسمى بإليته وطرفه الآخر إلى أصل الخنصر المسمى بالصرة كما في «النهاية» ، ثم رأيت الحافظ السيوطي في حاشيته المسماة «بمرفاة الصعود إلى سنن أبي داود» قال: هي أصل الإبهام وما تحته: أي دون ما يصل إلى الصرة ويقاربها (فقال: أتقعد قعدة) بكسر القاف لبيان الهيئة (المغضوب عليهم) وهما اليهود كما قاله جمهور المفسيرين في تفسير المذكور آخر سورة الفاتحة، ففيه المنع من التشبه بالمغضوب عليهم في الهيئة أو غيرها من الأفعال والأحوال (رواه أبو داود) في الأدب من «سننه» (بإسناد صحيح) فرواه عن علي بن برى عن عيسى بن يونس عن ابن جريج عن إبراهيم بن ميسرة الطائفي عن عمرو بن شريد عن أبيه. 129 - (باب في آداب المجلس والجليس) فعيل بمعنى فاعل. 1825 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: لا يقيمن أحدكم) هو فيه للتعميم لكونه في سياق النهي الشبيه بالنفي والنهي للتحريم (رجلاً) أي جالساً فيه ولو امرأة، وذكر الرجل لكونه أشرف لما تقدم، وعمومه متناول لما إذا كان الوارد أفضل من الجالس لعلم أو صلاح أو نحو ذلك، فليس له إقامة من سبقه للجلوس في المحل المابح ليجلس هو فيه، نعم استثنى الفقهاء من عرف بمجلس من المسجد يدرس فيه فجلس فيه غيره فيقام للمدرس، ومثله البائع إذا ألف مكاناً من السوق فله إقامة من يجلس فيه ومسائل أخرى (من مجلسه) بفتح أوله وكسر ثالثه مكان الجلوس (ثم يجلس فيه) يجوز فيه الجزم عطفاً على مدخول لا الناهية والرفع على الاستئناف وتقدير مبتدأ قبل الفعل والنصب علة إضمار أن لكونه في جواب الطلب وأقيمت «ثم» مقام «الواو والفاء» فذكر الأوجه الثلاثة غير واحد في حديث «لا يبولنّ أحدكم في الماء الراكد ثم يغتسل فيه» . ثم استدرك ما قد يتوهم من الحديث من جلوس الداخل في مكان الجليس بقوله (ولكن توسعوا) أي تكلفوا التوسع للقادم (وتفسحوا) هو بمعنى ما قبله فالعطف تفسيري (وكان ابن عمر إذا قام له رجل من مجلسه لم يجلس فيه) وذلك من مزيد ورعه وخشية دخوله في النهي بأن ذلك إقامة للجالس بالإشارة سيما إذا عرف محبة القادم لذلك فتركه ورعاً وتنزّهاً على أن ينسب إليه فعل مما نهى عنه الشارع (متفق عليه) ثم قوله «وكان ابن عمر الخ» لفظ مسلم، والذي في البخاري «وكان ابن عمر يكره أن يقوم الرجل من مجلسه ثم يجلس مكانه» وهي نحو رواية مسلم.

2826 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: إذا قام أحدكم من مجلس) أي كان فيه منتظراً للصلاة ثم قام منه لعذر (ثم رجع) أي عاد (إليه فهو أحق به) سواء ترك فيه متاعاً أولاً، وكذا إذا قام العالم عن المحل المعهود للدرس أو البياع من محله المعهود للبيع لعذر ولم يحصل منه إعراض عن محله فسبقه إليه غيره فله إذا عاد إليه إقامة ذلك من ذلك المحل (رواه مسلم) . 3827 - (وعن جابر بن سمرة رضي الله عنهما قال: كناإذا أتينا النبي جلس أحدنا حيث ينتهي) أي سواء كان في صدر المحل أو أسفله، وقد جاء أنه كان يجلس حيث ينتهي به المجلس، وذلك لأن طلب القادم محلاً مخصوصاً قد سبقه إليه غيره فيقيمه منه ليجلس هو فيه أو يضغطه به بغي وعدوان وليس ذلك شأن أهل الإيمان (رواه أبو داود) في الأدب من «سننه» (والترمذي) في الاستئذان من «جامعه» (وقال: حديث حسن) غريب، ورواه النسائي في العلم من «سننه» . 4828 - (وعن أبي عبد الله سلمان الفارسي) سلمان الخير مولى رسول الله (رضي الله عنه) سئل عن نسبه فقال: أنا ابن الإسلام، أصله من فارس من «حيّ» قرية من قرى أصبهان، وقيل من «رام هرمز» أسلم قديماً ولإسلامه قصة طويلة مذكورة في كتب السير، وأول مشاهده مع رسول الله الخندق ولم يتخلف عن مشهد بعدها وآخى النبي بينه وبين أبي الدرداء، وثبت ذلك في صحيح البخاري وتقدم في باب الإقتصاد، وكان من فضلاء الصحابة وزهادهم وعلمائهم وذوي القرب من رسول الله، وهو الذي أشار على النبي بحفر الخندق عند مجيء الأحزاب، سكن العراق وكان يعمل الخوص بيده فيأكل منه، نقلوا

اتفاق العلماء على أنه عاش مائتين وخمسين سنة وقيل ثلاثماية وخمسين، وقيل إنه أدرك وصي عيسى بن مريم عليه السلام، روي له عن رسول الله ستون حديثاً، اتفقا على ثلاثة منها، وانفرد مسلم بثلاثة أيضاً، ومن فضله ما روى الترمذي عن أنس مرفوعاً «إن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة عليّ وعمار وسلمان» قال الترمذي: حديث حسن (قال: قال رسول الله: لا يغتسل رجل يوم الجمعة) ويدخل وقت هذا الغسل بطلوع الفجر وتقريبه من الزوال أولى (ويتطيب ما استطاع) ما مصدرية وثمة مضاف مقدر: أي قدر استطاعته من جيد الطيب ودنيه كما بينه بقوله (من طيب ويدهن) بإدغام الدال في التاء إذ الأصل يدتهن فأبدل تاء الافتعال دالاً دفعاً للثقل (من دهنه) بضم الدال (أو) شك من الراوي أي قال النبي: ويتطيب ما استطاع من الطيب أو قال (يمس) بفتح الميم (من طيب بيته) أي من أيّ أنواع الطيب الذي حصل له (ثم يخرج) أي من بيته مريداً الصلاة (فلا يفرق بين اثنين) أي إلا عند تقصيرهما بأن تركا فرجة بين أيديهما ففرق بينهما بسدها، فلا يضرّ ذلك في حصول ما يأتي من الثواب له (ثم يصلي ما كتب له) أي من النافلة قبل مجيء الإمام (ثم ينصت) بكسر الصاد المهملة عند شروع الإمام في الخطبة كما قال (إذا تكلم الإمام) أي بالخطبة (إلا غفر) بالبناء للمجهول ونائب فاعله قوله (له) وقوله (ما بينه وبين الجمعة الأخرى) في محل المفعول به، وثواب الجمعة الأخرى يحتمل السابقة على جملة الصلاة والمتأخرة عنها ومؤادهما واحد: أي إن ثواب ذلك يكفر خطأ أسبوع، والمراد من الذنوب المكفرة الصغائر المتعلقة بحق الله سبحانه وتعالى (رواه البخاري) في باب الجمعة من «صحيحه» ورواه البزار من حديث سلمان، ورواه أيضاً من حديث أبي هريرة كما نقله المزي في «أطرافه» . 5829 - (وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده) أي جد أبيه وهو عبد الله بن عمرو كما

تقدم رضي الله عنه أن رسول الله قال: (لا يحلّ) بكسر المهملة: أي لا يباح (لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما) قال العلقمي: إذا تناجى اثنان ابتداء وثمة ثالث بحيث لا يسمع كلامهما لو جهرا فأتى ليستمع تناجيهما فلا يجوز، كما لو لم يكن حاضراً معهما أصلاً، قال ابن عبد البر: لا يجوز لأحد الدخول على المتناجين حال تناجيهما. قال العلقمي: لا ينبغي للداخل القعود عندهما ولو تباعد عنهما إلا بإذنهما لأنهما لما افتتحا حديثهما ليس عندهما أحد دلّ على كراهتهما اطلاع أحد عليه، ويتأكد ذلك إذا كان أحد المتكلمين جهورياً لا يتأتى له إخفاء كلامه من الحاضر أو كان الحاضر له قوة فهم بحيث يتسلط بما يسمع على باقي الكلام به، فالمحافظة علة ترك ما يؤذي المؤمن مطلوبة وإن تفاوتت المراتب اهـ (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن) ورواه أحمد في «مسنده» كما في الجامع الصغير (وفي رواية رواية لأبي داود: لا يجلس بين رجلين) أي متناجيين كما علم ما تقرر (إلا بإذنهما) . 6820 - (وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: إن رسول الله لعن من جلس وسط الحلقة) بفتح الحاء وسكون اللام، قال الخطابي: وهذا يتأول فيمن يأتي حلقة قوم فيتخطى رقابهم ويقعد حيث ينته به المجلس فلعن لللأذى، وقد يكون في ذلك إيذاء إذا قعد وسط الحلقة وحال بين الوجوه وحجب بعضهم عن بعض فيضرّرون بمكانه وبمقعده هناك (رواه أبو داود) في الأدب من «سننه» (بإسناد حسن) عن موسى بن إسماعيل عن أبان عن قتادة هو أبو مجلز عن حذيفة. (وروى الترمذي عن أبي مجلز) واسمه لاحق بن حميد

السدوسي البصري (أن رجلاً) لم أقف على اسمه (قعد وسط) بفتح المهملة الأولى ويجوز تسكينها (حلقة، فقال حذيفة: ملعون) خبر مقدم بمتدؤه الموصول الآتي بعد (على لسان محمد من) أي الذي (جلس وسط الحلقة) والموصول على الرواية الأولى مبتدأ خبره اسم المفعول المذكور قبله، وعلى الثانية مفعول به للفعل (قال الترمذي) أي بعد إيراده (حديث حسن صحيح) . 7831 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:) سمعت رسول الله وسلم يقول: خير المجالس أوسعها) وذلك لما فيه من راحة الجليس ودفع ما يفضي إليه ضيق المجلس من حقد أو بغض (رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري) في «صحيحه» : أي بالرجال الذين روى عنهم في «صحيحه» مراعي وجه روايته عنهم من كونها في الأصول دون التوابع والشواهد: أي فالحديث صحيح على شرط البخاري، ولذا صححه الحاكم في «المستدرك» ، وقد رواه أحمد في «المسند» والبخاري في الأدب المفرد والبيهقي كلهم عن أبي سعيد، ورواه البزار والحاكم في «المستدرك» ، والبيهقي أيضاً عن أنيس. 8832 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من جلس في مجلس) أي في مكان الجلوس (فكثر) بضم المثلثة (لغطه) بفتح اللام والغين في المعجمة وبالطاء المهملة. قال في «المصباح» : هو كلام فيه جلبة واختلاط ولا يتبين اهـ والمراد في الحديث كثر فيه كلامه بما لا ينفقعه آخرة (فقال قبل أن يقوم من مجلسه) يصدق بقول الذكر

مع القيام كما يصدق بالأولى بقوله قبل القيام، وحديث أبي برزة لا يخصص بالثاني لأن ذكر بعض أفراد العام لا يخصص ذلك: أي الذي كثر فيه لغطه (سبحانك) بالنصب على المصدرية وهو علم علة التسبيح ثم قصد تنكيره فأضيف، ومعنى سبحان الله: تنزيهاً لله عما لا يليق به (اللهم) أي يا ألله، وعدل عنها إلى الميم دفعاً لتوهم موضوع «يا» من البعد كما أوضحت ذلك في أوائل «شرح الأذكار» ويجعل الميم عوضاً عن حرف النداء امتنع جمعه معه، وقول الشاعر أقول يا اللهم يا اللهما ضرورة، وقد جاء في رواية بزيادة ربنا بعد اللهم أوردها في «الجامع الكبير» (وبحمدك) يحتمل كون الواو عاطفة للظرف ومتعلقه على العامل في المصدر قبله: أي أسبحك وأنني عليك بحمدك فيكون في الكلام جملتان، ويحتمل كونها زائدة والظرف بعدها متعلق بسبحان لما فيه من معنى الفعل: أي سبحتك ملتبساً بحمدك (أشهد) أي أعلم وأبين (أن لا إله) أي لا معبود بحق في الوجود ولا في المكان (إلا أنت) الضمير بدل من محل «لا» مع اسمها فإنه رفع عند سيبويه، أو من محل اسم «لا» قبل دخولها (أستغفرك) أي أسألك غفر الذنوب ومنها ما اكتسب في ذلك وحذف المعمول للتعميم (وأتوب إليك) وينبغي أن يكون المتكلم بذلك قاصداً بقلبه ما دلت عليه الجملتان من سؤال غفران الذنوب والتوبة إلى الله تعالى من ذلك وإلا كان كاذباً، فكان حقيقاً بالمقت في الوقت (إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك) عمومه مخصوص بما عدا الكبائر فإنها لا تكفر إلا بالتوبة أو بالفضل الإلهي وبما عدا تبعات العباد، لأن إسقاطها عند المتلوث بها موقوف على رضا ذي الحق، وهذا التخصيص مأخوذ من أحاديث أخر، والإتيان باسم الإشارة وتكريره لبيان أنه لكثرة اللغط فيه صارت له حالة بها يشار إليه، فإذا كان يغفر لما فيه وهو كذلك فما لم يصل لذلك بالأولى، وإنما ترتب على هذا الذكر غفر ما كسب في ذلك المجلس لما فيه من تنزيه المولى سبحانه والثناء عليه بإحسانه والشهادة بتوحيده ثم سؤال المغفرة من جنابه وهو الذي لا يخيب قاصد بابه (رواه الترمذي) في «جامعه» (وقال: حديث حسن صحيح) غريب، قال السيوطي في «الجامع الكبير» : ورواه ابن حبان والحاكم في «المستدرك» وابن السنى في «عمل اليوم والليلة» كلهم من حديث أبي هريرة.

9833 - (وعن أبي برزة) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب الخوف (قال: كان رسول الله يقول بأخرة) بفتح الهمزة والخاء المعجمة: أي في آخر جلوسه، ويجوز أن يكون في آخر عمره، قاله في النهاية (إذا أراد أن يقوم من المجلس) أي من مكان جلوسه (سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك فقال رجل) لم أقف على ما سماه (يا رسول الله إنك لتقول قولاً ما كنت تقوله فيما مضى) أي من ذلك الزمان (قال: ذلك) أي القول المذكور وأشير إليه مع قربه بما يشار به إلى البعيد تفخيماً لشأنه (كفارة) أي مكفر، وحمله على المبتدأ مبالغة كقولك رجل رضا (لما يكون) أي يوجد (في المجلس. رواه أبو داود) في الأدب من «سننه» ، قال الحافظ المزي: ورواه النسائي في اليوم والليلة (ورواه الحاكم أبو عبد الله) محمد بن عبد الله بن حمدويه بن نعيم الطنبي الطهماني النيسابوري المعروف بابن البيع بفتح الموحدة وتشديد التحتية وبعدها مهملة، صاحب التصانيف التي قاربت ألف تصنيف، له ترجمة عظيمة في «طبقات الحافظ الذهبي» (في المستدرك) بفتح الراء لأنه استدرك فيه أحاديث على «الصحيحين» ولا استدراك عليهما بذلك لأنهما لم يلتزم إخراج جميع الصحيح إنما أراد به إخراج بعضه (من رواية عائشة رضي الله عنها) أي عن النبي (وقال) أي الحاكم (صحيح الإسناد) أي والمتن لانتفاء منافي الصحة عنه من الشذوذ والعلة القادحة. 10834 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قلما) ما فيه كافة الفعل عن طلبه للمرفوع ومهيئة للدخول على الجمل الفعلية كما أدخلته هنا عليها (كان رسول الله لا يقوم من

مجلس حتى) الظاهر أنها هنا بمعنى إلا كهي في قول الشاعر: ليس العطاء من الفضول سماحة حتى تجود وما لديك قليل (يدعو بهؤلاء الدعوات) وبينهما على سبيل العطف البياني أو البدل بقول (اللهم اقسم لنا من خشيتك) هو الخوف مع معرفة جلال المخشي منه ولذا اختصت بالعلماء به تعالى: {إنما يخشى} (فاطر: 28) أي خشية إجلال لا خشية إذلال ( {الله من عباده العلماء} ) وقال سيدهم «أنا أعرفكم بالله وأشدكم له خشية» وقال تعالى: في حق الملائكة {وهم من خشيته مشفقون} (الأنبياء: 28) (ما) موصولة أو نكرة موصوفة أي الذي أو شيئاً (يحول) بالتذكير نظراً للفظ «ما» ويجوز التأنيث نظراً لكون المطلوب الخشية (بيننا وبين معصيتك) فيه إسناد إلى السبب، فإن الذي يحول بين العبد والمعصية هو الله تعالى، وذلك بأن يجعل عنده من خشيته ما يصده عنها (ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك) معطوف على ما قبله من عطف معمولين على معمولى عامل واحد وهو جائز اتفاقاً: أي واقسم لنا من طاعتك الذي أو شيئاً تبلغنا به، والتاء فيه يحتمل أن تكون تاء الغيبة فيناسب ما قبله ويكون فيه مجاز عقلي، وأن تكون تاء الخطاب فيناسب قوله آخر الحديث «جنتك» والباء يحتمل أنها باء المصاحبة وأنها باء السببية بمعنى أنه تعالى جعل مدخولها سبباً لمسببه لأن ذلك سبب ذاتي للمطلوب (ومن اليقين) أي القلبي (ما يهون) بالتذكير من التهوين (علينا مصايب) بالياء التحتية بعد الهمزة كهي في معايش ولا يجوز قلبها همزة لأنها ليست مزيدة: وهي ما يسوء الإنسان وفي الحديث المرفوع «كل شيء يؤدي المؤمن فهو له مصيبة» وإضافته إلى الدنيا إما على معنى «في» على القول بإثباته وعليه ابن مالك في آخرين نحو قوله تعالى: {بل مكر الليل} (سبأ: 33) وعلى أن الإضافة قسمان ليس إلا، إما على معنى اللام أو معنى «من» فالإضافة هنا لامية لأدنى ملابسة، وذلك لأن المراد اكشف عن عين بصيرته ما يعلم به ذوقاً أن ما أصابها صدر إليها من حضرة أرحم الراحمين هان عليها كائناً ما كان (اللهم متعنا) بتشديد المثناة الفوقية (بأسماعنا) أي بالقوة المودعة في الصماخ (وأبصارنا) أي بالقوة المودعة

في الحدقة وجمعها باعتبار تعدد الداعين أو من إطلاق الجمع على ما فوق الواحد وعليه فأتى بالضمير لذلك والمقام يقتضي خلافه: أي إلى أن خلع عليه خلعة تشريف التأهيل لسؤاله تعالى فأتى بلازم العظمة من ضمير «نا» (وقوتنا ما) مصدرية ظرفية وصلتها (أحييتنا) أي متعنا بما ذكر مدة إحيائنا وذلك ليغتني المرء عن غيره بفضل ربه سبحانه فلا يحتاج لقائد ولا لمعين (واجعله) أي ما ذكر (الوارث) أي الباقي (منا) شبه دوام استمراره إلى آخر الحياة بالوارث الذي يبقى كذلك ويخلف الميت ففيه تشبيه بليغ (واجعل ثأرنا) هو بالهمزة في الأصل وسهل بقلبها ألفاً وهو طلب الدم كما في «النهاية» وأريد منه هنا التبعة والطلبة (على من ظلمنا) أي بأن تأخذ لنا حقنا منه وتجازيه على ظلمه إباناً (وانصرنا) أي اجعلنا منصورين غالبين (على من عادانا) يحتمل أن تكون المفاعلة على بابها ويحتمل أن صيغة المغالبة للمبالغة: أي على من انتصب لعداوتنا، وظاهر أن المراد المعادي لما لا تجوز المعاداة له من الأعراض الفانية المخدجة، أما المعاداة لله كأن وقعت منه عداوتك لفعلك ما لا يحل شرعاً فذلك لا يدعي عليه، والدعاء عليه غير مقبول لأنه أتى بما عليه (ولا تجعل مصيبتنا) أي ما نكرهه (في ديننا) بأن نخل بأدنى شيء مما أمرنا بأدائه أو نقع في شيء ما نهينا عن مداخلته وذلك لأن مصيبة الدين هي المصيبة العظمى لما قد يترتب عليها من الشقاوة الكبرى أعاذنا الله من ذلك، ولا كذلك مصائب الدنيا فإن ما فيها آيل إلى الذهاب، فما أصيب به المرء فذلك من عناية الله به، إن ألهمه الصبر فإنه جعل له في ذلك الثواب، ولو ذهب من غير مصيبة لما أثيب عليه (ولا تجعل الدنيا أكبر همنا) فتهتم بها عن الأمور التي علينا من أداء عبوديتك والقيام بخدمتك (ولا مبلغ علمنا) بأن نقف عند ما يصلحها ولا نجاوزه لما يصلحنا في آخرتنا فإن الكافر لما لم يؤمن بدار القرار وكان مبلغ علمه هذه الدار استغرق بلذاتها وسبح في بحار شهواتها وقال: «إن هي إلا حياتنا الدنيا» فمن استغرق من أرباب الإيمان أوقاته في عمارة دنياه وغفل عن عمارة أخراه صار شبيهاً بأولئك الخاسرين (ولا تسلط علينا من لا يرحمنا) فيه أن جور الولاة والعمال على من تحت أيديهم من الرعايا إنما هو بتسليط من الله سبحانه، وإذا كان كذلك فإذا أصيب العبد بمصيبة من أيديهم رماداً (رواه الترمذي) في الدعوات من «جامعه» (وقال: حديث

حسن) وقد عقد له المصنف في «الأذكار» ترجمة مستقلة فقال بعد باب ما يقوله عند القيام من المجلس «باب دعاء الجالس في جمع لنفسه ومن معه» وما فعله ثمة أولى لأن عموم الحديث يشمل ذكر ذلك في أول المجلس وفي أثنائه وفي آخره وعند القيام، فالمطلوب الإتيان به في المجلس لا بخصوص كونه عند القيام، ولما فعله هنا وجه حسن هو أنه ينبغي ختم المجلس بالذكر والدعاء وهذا من أحسن الدعاء لما فيه من جمع خيري الدنيا والآخرة. 11835 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ما من) صلة أتى بها لتأكيد عموم النفي في قوله (قوم) والمراد به هنا ما يشمل النساء أيضاً وإن كان لغة مختصاً بما يقابلهن كما تقدم (يقومون) فيه مع قوله قوم جناس الاشتقاق وهو خبر ما الحجازية المجرور اسمها بمن المزيدة (من مجلس) متعلق بيقومون والتنوين فيه للشيوع فيشمل شريف المجلس كالمساجد ودنيئه كمجلس اللغو (لا يذكرون الله تعالى فيه إلا قاموا عن مثل جيفة الحمار وكان) أي ذلك المجلس (لهم متعلق بقوله حسرة) وجملة النفي في محل الحال من فاعل يقومون، وذكر جيفة الحمار زيادة في التنفير وإيماء إلى أن تارك الذكر في المجلس بمثابة الحمار المضروب به المثل في البلادة، إذ غفل بما هو فيه من الترهات ولذائذ المحاورات عن ذكر من أغدق له العطيات، وتحسره عليه لما فاته من أنفس نفيس وهو الزمان الذي إذا ذهب لا يعود أبداً، فليس له عند العارف عوض، فأذهبه ذلك الجالس في غير نفع أخروي بترك ذكر الله فيه، فعظمت بذلك الحسرة واشتعلت - بالتفريط في ذكر الله في ذلك المجلس العارف بما ضاع عليه من نفيس الوقت - الجمرة هذا إذا كانت الحسرة في الدنيا، ويحتمل أنها في الآخرة، ويأتي ما يدل له والحسرة لفوات ثواب الذكر بمعانيه ما ناله غيره ممن لم يقصر في ذلك (رواه أبو داود بإسناد صحيح) ورواه الطبراني والبيهقي عن

عبد الله بن مغفل مرفوعاً بلفظ «ما من قوم اجتمعوا في مجلس وتفرقوا ولم يذكروا الله إلا كان ذلك المجلس حسرة عليهم يوم القيامة» ورواه أحمد في «مسنده» عن ابن عمر مرفوعاً بلفظ «ما من قوم جلسوا مجلساً لا يذكرون الله فيه إلا رأوه حسرة يوم القيامة» وأورده السيوطي في «الجامع الكبير» . 12836 - (وعنه عن النبي قال: ما جلس قوم مجلساً) منصوب على الظرف وتنكيره لما تقدم، وجملة (لم يذكروا الله تعالى فيه ولم يصلوا على نبيهم) أي مع السلام عليه (فيه) محل الصفة للظرف (إلا كان) يحتمل أن تكون ناقصة واسمها مستكن يرجع إلى المجلس و (عليهم) ظرف إما لغو متعلق بخبر كان أعنى (ترة) لما أنه بمعنى نقص وذلك كالفعل في التعلق به أو بالفعل نفسه أو مستقر في محل الحال من اسم كان، ويحتمل أنها تامة وترة فاعلها وعليهم فيه الأوجه المذكورة، ويؤيدها رواية أبي هريرة الآتية آخر الباب فإنها ظاهرة في ذلك ظهوراً تاماً (فإن شاء عذبهم) جزاء قصروا في ذلك بتركها (وإن شاء غفر لهم) ذلك النقص وهذا يقتضي وجوب وجود الذكر والصلاة على النبي في المجلس لأنه رتب العذاب على ترك ذلك وهو آية الوجوب، ولم أر من ذكر عنه القول بوجوب ذلك في كل مجلس والحديث يقتضيه والله أعلم (رواه الترمذي وقال حديث حسن) ورواه ابن ماجه أيضاً من حديث أبي هريرة، ورواه أيضاً من حديث أبي سعيد كما في «الجامع الصغير» . 13837 - (وعنه عن رسول الله قال: من قعد مقعداً) بفتح العين المهملة يحتمل أن يكون منصوباً على الظرفية الزمانية ويؤيده الروايات قبله بالصيغة المتعينة للمكان، ويحتمل أنه على المفعولية المطلقة وهو مصدر ميمي: أي قعوداً (لم يذكر الله تعالى فيه) يحتمل أن يراد الذكر اللساني وهو المتبادر، ويؤيده قرن الصلاة على النبي معه في الرواية قبله،

130 ـــ باب الرؤيا

فإنها لا تكون إلا باللسان مع رفع الصوت إلى أن يسمعها المتكلم بها المعتدل السمع الخالي عن نحو لغط، يحتمل أن يكون المراد ما يعمه والذكر القلبي فيدخل فيه من حصل له فيه خوف أو رجاء لله سبحانه أو غير ذلك من الأحوال وإن لم يذكر ما بالمقال (كانت) أنث لتأنيث فاعله وإن فصل بينهما قوله (عليه من الله ترة) والظرفان متعلقان به، ويجوز كونها ناقصة وأحد الظرفين خبر مقدم وترة اسمها مؤخر والتأنيث لما تقدم، وهذا كله على روايته بالرفع كما في الأصول المصححة، ويحتمل كون اسمها مستكنا يرجع إلى القعدة الدالّ عليها مقعداً «ومن اضطجع مضجعاً لا يذكر الله تعالى فيه كانت عليه من الله ترة» (رواه أبو داود وغيره وقد سبق قريباً) منصوب على الطرفية أو المصدرية وذلك في أول كتاب آداب النوم (وشرحنا فيه الترة) وأصلها والخلاف في معناها. 130 - باب الرؤيا بالقصر مصدر رأي الحلمية في المشهور، قال في «المصباح» : ورؤيا على فعلي غير منصرف لألف التأنيث المقصورة وسيأتي فيها مزيد بيان (وما يتعلق بها) أي من الآداب. (قال الله تعالى) : ( {ومن آياته} ) أي دلائل ألوهيته ووحدانيته ( {منامكم بالليل والنهار} ) وذلك لما فيه من إذهاب الشعور حتى يصير النائم كالميت ثم يستيقظ منه قيعود له ما كان من الشعور والإدراك كأنه لم يزل البتة وذلك دليل كمال القدرة. 1838 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول لم يبق) قال الدماميني في «المصابيح» : قالوا يريد لا يبقى بعده (من النبوة إلا المبشرات) أي إن الوحي

ينقطع بموته فلا يبقى بعده ما يعلم به ما سيكون إلا المبشرات فالمقام للنفي «لمن» دون «لم» وقد جاء في رواية «لن يبقى بعدي من النبوة إلا المبشرات» اهـ. وأصل الكلام لابن التين وزاد عليه قوله: فالمقام للنفي بلن، وقال المهلب: التعبير بالمبشرات خرج للأغلب فإن من الرؤيا ما تكون منذرة وهي صادقة يريها الله المؤمن رفقاً به ليستعد لما يقع قبل وقوعه (قالوا) أي الصحابة الحاضرون كلامه (وما المبشرات: قال الرؤيا الصالحة) يحتمل أن المراد صلاحها باعتبارها في ذاتها، ويحتمل أنه باعتبار تأويلها (رواه البخاري) في كتاب التعبير من «صحيحه» . % 2839 - (وعنه أن النبي قال: إذا اقترب الزمان) أي استوى الليل والنهار واعتدلا وذلك في زمن الربيع، اقترب انتهاء أمد الدنيا أو اقترب بحيث تكون السنة كالشهر والشهر كالجمعة والجمعة كاليوم واليوم كالساعة أقوال ثلاثة حكاها الطيبي وظاهر صنيعه اعتماد الثاني، وظاهر صنيع الحافظ ابن حجر اعتماد الأول، وأيد الطيبي ما قاله بحديث «في آخر الزمان لا تكاد رؤيا المؤمن تكذب» وكذا أيده السيوطي بل صوبه وقال: لأن أكثر العلم ينقص حينئذ وتندرس معالم الديانة، فتكون الناس على مثل الفترة محتاجين إلى مذكر ومجدد لما درس من الدين كما كانت الأمم تذكر بالأنبياء، ولكن لما كان نبينا خاتم الأنبياء عوضوا بالرؤيا الصادقة، وقال العارف ابن أبي جمرة إن المؤمن حينئذ يكون غريباً فيقل أنيسه فيكرم بالرؤيا الصادقة. وقال الفارسي في «مجمع الغرائب» : يحتمل أن معناه إذا اقترب أجل الرائي: أي بأن طعن في السن وبلغ أوان الكهولة والمشيب فإن رؤياه أصدق وذلك لاستكماله غاية الحلم والأناة والقوة النفسية (لم تكد) لم تقارب (رؤيا المؤمن) وفي رواية «لم تكد رؤيا الرجل المسلم» (تكذب) قال الطيبي: اختلف في خبر كاد النفي، والأظهر أنه يكون منفياً أيضاً لأن أحرف النفي الداخلة على كاد تنفي قرب حصوله، والنافي لقرب حصول الشيء أدل على نفيه نفسه ويدل عليه قوله تعالى: {إذا أخرج يده لم يكد يراها} (النور: 40) والرؤيا كما قال الطيبي نقلاً عن «الكشاف» بمعنى الرؤية، إلا أنها تختص بما كان

منها في المنام دون اليقظة فلا جرم فرق بينهما بحذف تاء التأنيث وجعل ألف التأنيث فيها مكان تائه للفرق. وقل الواحديث الرؤيا مصدر إلا أنه لما صار إسماً للمتخيل في المنام جرى مجرى الأسماء، وقال المصنف: الرؤيا مهموزة مقصورة ويجوز ترك الهمزة تخفيفاً. قال المازري: الذي عليه أهل السنة أن الرؤيا هي أن الله يخلق في قلب النائم اعتقادات وكأنه جعلها علماً على أمور أخرى يخلقها في أثناء الحال قد تنخلف كالغيم خلقه الله تعالى علامة على المطر وقد يتخلف، وتلك الاعتقادات تقع منا مرة بحضرة الملك فنسر وأخرى بحضرة الشيطان فنساء، وقد بسط الكلام شيخ الإسلام في «فتح الباري» على الرؤيا فعليك بمراجعته لتقف على ما فيه من النفائس (متفق عليه) . (وفي رواية) أي لمسلم (وأصدقهم) أي الرائين الصالحين (رؤيا) تمييز عن نسبته لمن هو له (أصدقهم حديثاً) أي خبراً هذا باعتبار الغالب. قال المهلب: قد يرى الصالح الأضغاث لكن نادراً لقلة تمكن الشيطان منه، بخلاف غيره فإن الشيطان متسلط عليه فغلب عليه الكذب. قال: فالناس ثلاث درجات: الأنبياء ورؤياهم صدق البتة وقد يقع فيها ما يحتاج إلى التعبير. والصالحون والأغلب على رؤياهم الصدق وقد يقع فيها ما لا يحتاج إلى تعبير، ومن عداهم يقع في رؤياهم الصدق، والأضغاث فالمستورون يستوي الأمران فيهم، والفسقة يغلب في رؤياهم الأضغاث، والكفار يندر في رؤياهم الصدق. 3840 - (وعنه قال: قال رسول الله: من رآني في المنام فسيراني في اليقظة) بفتح القاف، قال الشيخ أكمل الدين في «شرح المشارق» : هو بالنسبة إلى لإخبار بالغيب يكون بشرى برؤيتهم إياه عليه الصلاة والسلام يوم القيامة وهو تأويله. وسمى ذلك يقظة لأنها اليقظة الحقيقية، وذلك لا ينافي أن يكون تأويله بالنسبة إلى أمر الدنيا حصول خير ودين وغير ذلك مما يؤول به. قال وقوله (أو فكأنما رآني في اليقظة) شك من الراوي، ومعناه غير الأول لأنه تشبيه وهو صحيح لأن ما رآه في المنام مثال وما يرى في عالم الحس حسي فهو تشبيه خيالي بحسي، قال وقوله (لا يتمثل بي الشيطان) واستئناف بياني كأن سائلاً قال:

ما سبب ذلك؟ فقال: لا يتمثل الشيطان بي، يعني ليس ذلك المنام من قبيل أن يمثل الشيطان في خيال الرائي ما يشاء من التخيلات، قال: وهل هذا مختص بالنبي أولاً؟ قال بعضهم رؤية الله تعالى ورؤية الأنبياء والملائكة عليهم السلام ورؤية الشمس والقمر والنجوم المضيئة والسحاب الذي فيه الغيث لا يتمثل الشيطان بشيء منها، وذكر المحققون أن ذلك خاص به، وقالوا في ذلك: إنه وإن ظهر بجميع أحكام أسماء الحق وصفاته تخلقاً وتحققاً، فإن من مقتضى مقامات رسالته ودعوته الخلق إلى الحق أن يكون الأظهر فيه - حكماً وسلطنة من صفات الحق وأسمائه - صفة الهداية والاسم الهادي، فهو صورة الاسم الهادي ومظهر صفة الهادي، والشيطان مظهر اسم المضلّ والظاهر صفة الضلالة فهما ضدان ولا يظهر أحدهما بصفة الآخر، فالنبي خلقه الله للهداية، فلو ساغ لإبليس التمثل بها لزال الاعتماد بكل ما يبديه الحق ويظهره لمن يشاء هدايته، فلذلك عصم الله صورة النبي من أن يظهر بها شيطان، وإنما لم يمنع الشيطان من مثل ذلك في حضرة الحق وهو أعظم عظماً وجلالاً، فقد وقع أنه أضلّ قوماً بقوله أنا الله، فظنوا أنهم رأوا الحق وسمعوا خطابه، لأن كل ذي عقل يعلم استحالة الصورة في حقه تعالى فلا يحصل الاشتباه من صورة إبليس بصورته، وقوله فيها أنا الله بخلاف النبي فإنه ذو صورة مشهورة فاقتضت الحكمة ما سبق، ولأن مقتضى حكم الحق أن يضف وأن يهدي بخلاف النبي فهو مقيد يوصف الهداية وظاهر بصورتها فوجب عصمة صورته أن يظهر بها شيطان لبقاء الاعتماد وظهور حكم الهداية فيمن شاء الله تعالى هدايته به اهـ. وقال الحافظ في «الفتح» : اختلف في معنى قوله «فسيراني في اليقظة» فقيل معناه: سيرى تفسير ما رأى في اليقظة لأنه غيب ألقي فيه. وقيل معناه: سيراني في القيامة: أي رؤية خاصة من القرب منه أو نحوه من الخصوصيات، ولا مانع من أن الله تعالى يعاقب بعض عصاة المؤمنين يوم القيامة بمنعه رؤيا النبي مدة، وقد قال ابن التين: المراد من آمن به في حياته ولم يره لكونه حينئذ غائباً عنه فيكون مبشراً له أنه لا بد من رؤياه له يقظة قبل الموت. وقال قوم: هو على ظاهره فيمن رآه مناماً فلا بد أن يراه يقظة بعيني رأسه، وقيل بعيني قلبه حكاهما ابن العربي. وقد نقل عن جمع من الصالحين رؤياه مناماً ثم رأوه بعد ذلك يقظة، وسألوه عن أشياء كانوا منها متخوفين فأرشدهم إلى النجاة من ذلك وجاء الأمر كذلك، وهذا نوع من كرامات الأولياء وأكثر من يقع له ذلك، وقد صرح بوقوع هذه الكرامة جمع منهم الغزالي وابن العربي وابن عبد السلام، وفي كون

المرئي جسمه أو مثاله خلاف، قال بالثاني الغزالي، وقال ابن العربي: إن رآه بصفته المعلومة فإدراك حقيقته وإلا فإدراك لمثاله، وقال المصنف: الصحيح أنه يراه حقيقة سواء رآه على صفته المعروفة أو غيرها، وأيد الحافظ قول من فرق بين كون المرئي بصفته أو بغيرها فيكون الأول حقيقة والثاني للمثال (متفق عليه) . 4841 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع النبي يقول: إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها) أي لحسن صورتها أو تأويلها (فإنما هي من الله) أي إنها لحسنها تضاف إليه تعالى كما يضاف إليه كل جميل (فليحمد الله عليها) يحتمل أن يكون المراد المبالغة في الحمد لذلك حتى إنه لكثرته كأنه علا على المنعم به، فعلى على بابها. وقد ورد «ما أنعم الله على عبد بنعمة فقال الحمد لله إلا كان ما أعطى خيراً مما أخذ» ويحتمل كونها تعليلية كهي في قوله تعالى: {ولتكبروا الله على ما هداكم} (البقرة: 185) وفي الحديث طلب الحمد عند حدوث النعم وتجدد المنن فذلك سبب لدوامها (وليحدّث بها) أي من يحب كما بينه قوله (وفي رواية) وهي لمسلم في حديث أبي قتادة الآتي بعده (فلا يحدث به) أي بالمرئي المدلول عليه بالرؤيا، وفي نسخة مصححة منه «بها» بضمير الرؤيا (إلا من يحب) وذلك لأن العدو يحملها على بعض ما تحتمله مما فيه سوء للرائي فيكون ذلك لأن المنام الأول عابر، وزاد الترمذي «ولا تحدث بها إلا لبيباً أو حبيباً» (وإذا رأى غير ذلك) المذكور، وبين ذلك الغير بقوله (مما يكره) يحتمل كون ما مصدرية وكونها موصولة حذف عائدها المنصوب وكراهتها بقبح صورتها أو تأويلها (فإنما هي) أي الرؤيا، وتخالف الضميرين تذكيراً وتأنيثاً تفنن في التعبير (من الشيطان) أضافها إليه لكونه على هواه ومراده وقيل لأنه الذي يخيل بها ولا حقيقة لها

في نفس الأمر (فليستعذ بالله من شرها) قال الحافظ: ورد في صفة التعوذ من شرّ الرؤيا أثر صحيح أخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد الرزاق بأسانيد صحيحة عن إبراهيم النخعي قال «إذا رأى أحدكم في منامه ما يكره فليقل إذا استيقظ: أعوذ بالله بما عاذت به ملائكة الله ورسله من شر رؤياي هذه أن يصيبني فيها ما أكرهه في ديني ودنياي» (ولا يذكرها لأحد) أي وإن كان حبيباً وعلى وجه التعبير وغيره، وفي حديث أبي هريرة عند الترمذي «وإذا رأى الرؤيا القبيحة فلا يفسرها ولا يخبر بها أحداً» فعدم ذكرها لما فيه من شرّها من أسباب الوقاية من ضرّها كما قال (فإنها) أي الرؤيا المذكورة (لا تضره) أي لا يحصل له ضر بسببها فالإسناد إلى السبب (متفق عليه) . 5 - (وعن أبي قتادة) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب تحريم الظلم (قال: قال النبي: الرؤيا الصالحة. وفي رواية) للبخاري أواخر كتاب التعبير في حديث أبي قتادة المذكور (الرؤيا الحسنة) أي بدل الصالحة فالمراد منهما واحد، لأن الروايات يفسر بعضها بعضاً، والمراد الحسنة صورة والصالحة تأويلاً (من الله والحلم) بضم الحاء المهملة وسكون اللام قال في «النهاية» وتضم (من الشيطان) قال الزركشي: هذا تصرف شرعي بتخصيص الرؤيا بما يراه من الخير، والحلم بما يراه من الشرّ وإن كان في الأصل لما يراه من النائم. وفي «النهاية» : الرؤيا والحلم عبارة عما يراه النائم في نومه من الأشياء، لكن غلبت الرؤيا على ما يراه من الخير والشيء الحسن، وغلب الحلم على ما يراه من الشرّ والشيء القبيح ويستعمل كل واحد منهما موضع الآخر. وقال ابن الجوزي: الرؤيا والحلم واحد، غير أن صاحب الشرع خص الخير باسم الرؤيا والشرّ باسم الحلم (فمن رأى شيئاً يكرهه فلينفث عن يساره) قال القاضي عياض: أمر به طرداً للشيطان الذي حضر الرؤيا المكروهة تحقيراً له واستقذاراً وخص بها البسار لأنها محل الأقذار ونحوها (ثلاثاً) منصوب على

المفعولية المطلقة لينفث (وليتعوذ) أي بالله تعالى (من الشيطان) وذلك لأن الله تعالى قدر وجود ما يسوء من الرؤيا عند وجوده فإبعاده يقتضي إبعادها (فإنها) أي الرؤيا (لا تضرّه متفق عليه) ورواه أصحاب السنن الأربعة. (النفث: نفخ لطيف لا ريق معه) وتقدم ضبطه ومعناه. 6843 - (وعن جابر) بن عبد الله (رضي الله عنه) الأولى عنهما لأنه صحابي ابن صحابي (عن رسول الله قال إذا رأى) أي في المنام (أحدكم) أي الواحد منكم (الرؤيا يكرهها) لصورتها أو لتأويلها، والجملة حال أو صفة مما قبله لتعريفه بأن الجنسية (فليبصق) بضم الصاد المهملة، قال في «المصباح» : وهي بدل من الزاي. قال الكازروني: والبزاق ماء الفم الذي يلفظ (عن يساره) لأنها الجهة المعدة للمستقذر والمكروه (ثلاثاً) زيادة في الإهانة للشيطان (وليستعذ بالله) أي بلسانه مع جنانه (من الشيطان) كأن يقول أعوذ بالله من الشيطان (ثلاثاً وليتحول عن جنبه الذي كان عليه) حين الرؤيا المكروهة تفاؤلاً بتحول الحال من الرؤيا القبيحة إلى الرؤيا المليحة نظير ما قيل في تحويل الإمام الرداء في خطبة الاستسقاء وجاء من حديث أبي هريرة مرفوعاً «إذا رأى أحدكم ما يكره فليقم فليصل ولا يحدث به الناس» متفق عليه كما في «المشارق» (رواه مسلم) في التعبير. 7844 - (وعن أبي الأسقع) بفتح الهمزة وسكون السين المهملة وفتح القاف بعدها عين مهملة ومثله في الضبط المذكور اسم أبيه، وقيل بل كنيته أبو شداد وبها بدأ المصنف في «التهذيب» وقيل أبو محمد وقيل أبو الخطاب وقيل أبو قرصافة بكسر القاف (وائلة) بكسر المثلثة (ابن الأسقع) وقيل ابن عبد الله بن الأسقع بن عبد العزّى بن عبد يا ليل بن ماست بن عنزة بن سعد بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة الكناني الليثي (رضي الله عنه) قيل أسلم

والنبي يتجهز إلى تبوك وشهدها معه وشهد فتح دمشق وحمص، وقيل إنه خدم النبي ثلاثاً، وكان من أهل الصفة، روى له عن النبي ستة وخمسون حديثاً، وانفرد البخاري عنه بحديث ومسلم بآخر، سكن الشام فسكن دمشق ثم استوطن ببيت (جبرين بارة) بقرب بيت المقدس، ودخل البصرة وله بها دار، توفي بدمشق سنة ست أو خمس وثمانين عن ثمان وسبعين سنة، قاله أبو مسهر. وقال سعد بن خالد: توفي سنة ثلاث وثمانين عن مائة وخمسين سنة، قال المصنف في «التهذيب» : والصحيح الأول (قال: قال رسول الله: إن من أعظم الفرى) بكسر الفاء وفتح الراء جمع فرية: وهي الكذبة العظيمة (أن يدعي الرجل إلى غير أبيه) عدى الادعاء بإلى لتضمنه معنى الانتساب، وإنما صار أعظم لأنه افتراء على الله تعالى لأن المدعي إلى غير أبيه كأنه يقول: خلقني الله من ماء فلان وإنما خلقه من ماء غيره (أو يرى) من الإراءة منصوب عطفاً على مدخلو أن: أي وأن يرى (عينيه ما لم تر) وفي رواية البخاري «ما لم تريا» أي يكذب في رؤياه بأن يقول: رأيت في منامي كذا ولم يكن يراه، وإنما كان أعظم لأن ما يراه النائم إنما يراه بإراءة الملك، والكذب عليه كذب على الله. وفي البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي قال «من تحلم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل» الحديث. قال الطبراني: إنما أسند الوعيد على الكذب في المنام مع أن الكذب في اليقظة أشد مفسدة منه، إذ قد يكون شهادة في قتل أحد أو أخذ مال، قال: لأن الكذب في المنام كذب على الله أنه أراه ما لم يره، والكذب على الله أشد من الكذب على المخلوقين، وإنما كان الكذب في المنام كذباً على الله لحديث «الرؤيا الصالحة جزء من سنة وأربعين جزءاً من النبوة» فهو من قبل الله اهـ (أو يقول على رسول الله) أي ينسب إليه من الحدث (ما) أي شيئاً أو الذي (لم يقل) وقد صح متواتراً «من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار» (رواه البخاري) والله أعلم.

5 - كتاب السلام

5 - كتاب السلام أي التحية، قال بعضهم: تحية عرفة الوقوف بها، وتحية منى الرمي بجمرة العقبة، وتحية المسجد ركعتان فأكثر، وتحية المسلم السلام عليه. 131 - باب فضل السلام والأمر بإفشائه أي إظهاره وإشاعته ونشره. (قال الله تعالى) : ( {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلو بيوتاً غير بيوتكم} ) التي تسكنوها ( {حتى تستأنسوا} ) أي تستأذنوا ( {وتسلموا على أهلها} ) بأن تقولوا السلام عليكم أأدخل؟ ويقول ذلك ثلاثاً فإن أذن له وإلا انصرف وإن كان بيت أمه وبنيه. (وقال تعالى) : ( {فإذا دخلتم بيوتاً} ) قيل المراد بيوت أنفسكم ( {فسلموا على أنفسكم} ) أي على أهل بيتكم إن كان بها له أهل وإلا سلم على نفسه، وقيل المراد بيوت من أذن لكم في الأكل من بيوتهم من الأقرباء والأصدقاء والمعنى: فإذا دخلتم تلك البيوت المذكور أهلها في الآية فسلموا على أهلها الذين هم منكم ديناً وقرابة، وقيل المعنى: إذا دخلتم بيوتاً خالية فقولوا السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وعلى الأول

جرى المصنف في «أذكاره» فقال: يستحب لداخل منزل أن يسلم سواء كان في البيت آدمي أم لا لقوله تعالى، فذكره، وقال: وفي الترمذي عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً «يا بنيّ إذا دخلت على أهلك فسلم تكن بركة عليك وعلى أهل بيتك» وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وقيل غير ذلك مما بيناه فيما كتبناه على الأذكار المذكورة محبين بذلك فيكون حالاً (تحية) نصب على المصدر لأنها بمعنى التسليم، ويجوز أن يكون معناه: قولوا سلام الله عليكم ورحمته وبركاته فتكون حالاً (من عند الله) أي ثابتة بأمره من عنده (مباركة) يرجى بها زيادة الخبر (طيبة) تطيب بها نفس المستمع. (وقال تعالى) : ( {وإذا حييتم بتحية} ) أي وإذا سلم عليكم ( {فحيوا بأحسن منها} ) أي بزيادة عليها، فإذا قال لكم أحد: السلام عليكم ورحمة الله، فقولوا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ( {أو ردوها} ) كما سلم عليكم من غير زيادة، والزيادة سنة، والرد واجب في أصل السلام. وقال قتادة: الزيادة للمسلمين، والرد لأهل السنة. (وقال تعالى) : ( {وهل أتاك حديث ضيف إبراهيم} ) فيه تعظيم لشأن الحديث وتنبيه على أنه إنما عرفه بالوحي، والضيف كما تقدم في الأصل مصدر ولذا أطلق على الواحد والمتعدد، قيل كانوا اثني عشر ملكاً، وقيل ثلاثة جبريل وميكائيل وإسرافيل وسماهم ضيفاً لأنهم في صورة الإنسان ( {المكرمين} ) أي عند الله تعالى أو عند إبراهيم عليه السلام إذ خدمهم بنفسه وزوجته ( {إذ دخلوا عليه} ) ظرف للحديث أو الضيف أو المكرمين ( {فقالوا سلاماً قال سلام} ) أي عليكم عدل به إلى الرفع بالابتداء لقصد الثبات حتى تكون تحيته أحسن من تحيتهم كما أوضحته في «شرح الأذكار» مرفوعين أو منصوبين والمآل إلى واحد. 1845 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رجلاً) قال السيوطي: قيل هو

أبو ذرّ (قال: أيّ الإسلام) أي خصاً له (خير) أي أكثر ثواباً عند الله تعالى (قال: تطعم) على حلف أن: أي أن تطعم (الطعام) وذلك لما فيه من تحمل كلفة الفقر ودفع الحاجة عنه ودخل فيه جليل الطعام وحقيره وقليله وكثيره (وتقرأ السلام بفتح التاء والراء قال أبو حاتم تقول اقرأ عليه السلام ولا تقول اقرأه السلام، فإذا كان مكتوباً قلت أقرئه السلام: أي اجعله يقرأه (على من) أي الذين (عرفت ومن لم تعرف) والعائد فيهما محذوف (متفق عليه) . 2846 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: لما خلق الله تعالى آدم) أي أخرجه من كتم العدم إلى الوجود (قال: اذهب فسلم على أولئك) فيه إشعار بأنهم كانوا على بعد (نفر) بالخفض في الرواية، ويجوز الرفع والنصب ووصف النفر يقوله (من الملائكة) قال في فتح «الباري» : ولم أقف على تعيينهم (فاستمع) في رواية الكشميهني «فاسمع» (ما يحيونك) كذا لللأكثر من التحية، وعند أبي ذرّ من رواية البخاري بالجيم والموحدة من الإجابة وكذا رواه البخاري في «الأدب المفرد» (فإنها) أي كلماتهم التي يحيونك أو يجيبونك بها (تحيتك وتحية ذريتك من بعدك) أي فهذه تحيتكم من الشرع أو المراد بالذرية بعضهم وهم المسلمون (فقال: السلام عليكم) يحتمل أنه علم ذلك تنصيصاً ويحتمل أن آدم فهم ذلك من قوله تعالى «فسلم» ويحتمل أنه تعالى ألهمه أن يقول ذلك كما ألهمه الحمد عند العطاس (فقالو السلام عليك ورحمة الله) كذا للأكثر رواه البخاري في الاستئذان وبدء الخلق، ووقع للكشميهني فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله

وعليها شرح الخطابي، وأفادت رواية الأكثر إجزاء رد السلام فيه باللفظ المبتدأ به (فزادوه ورحمة الله) ففيه مشروعية الزيادة في الرد على الابتداء وتقدم قوله تعالى: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها} وهل يزاد من قال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته في الجواب على ما قال أولاً؟ الجمهور على الثاني، أخرج مالك في الموطأ عن ابن عباس «انتهاء السلام إلى البركة» والبيهقي في الشعب قال «جاء رجل إلى ابن عمر فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته، فقال: حسبك إلى وبركاته انتهت» وعن عمر قال اشهر السلام إلى بركاته، وقال آخرون يجوز الزيادة على ذلك، قال أبو الوليد ابن رشد: يؤخذ من قوله تعالى: {فحيوا بأحسن منها} (النساء: 86) جواز الزيادة على وبركاته إذا انتهى إليها المبتدي (متفق عليه) رواه البخاري في مواضع من «صحيحه» منها كتاب الأنبياء ومنها في الاستئذان ومسلم في صفة الجنة. 3847 - (وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما) والحديث تقدم بطوله وفيه ذكر السبع المنهي عنها في باب تعظيم حرمات المسلمين وسبق شرحه ثمة (قال: أمرنا رسول الله) المراد منه هنا ما يشمل أمر الوجوب والاستحباب، إما من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه كما هو مذهب جمع من الائمة منهم إمامنا الشافعي أو من عموم المجاز الجائز عند الجميع (بسبع) بتقديم المهملة على الموحدة أو إعادة الجار في البدل فقال (بعيادة المريض) أي زيارته فيسن زيارة كل مريض من المسلمين بأيّ مرض كان وهي سنة وقيل فرض كفاية (واتباع) بتشديد الفوقية (الجنائز) أي تشييعها (وتشميت) بالشين المعجمة وبالمهملة كما سيأتي بسط معناهما (العاطس) أي إذا حمد الله تعالى (ونصر

الضعيف) أي إعانته على من ظلمه بالحيلولة بينهما وإعلاء حجته (وعون المظلوم) بالقول والفعل حتى يندفع عنه أذى الظالم (وإفشاء) أي إشاعة (السلام وإبرار المقسم) أي الحالف على عمل شيء كان يقول إنسان والله ليصلين مثلاً فيطلب منك إعانته على إبرار قسمه بفعلك الصلاة لينجو من الحنث، وفي نسخة القسم بحذف الميم: أي وإمرار الحلف (متفق عليه) وهذا لفظ البخاري في الاستئذان لكن عنده المقسم وفيه ذكر المنهيات السبع. 4848 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا) فالجنة محرمة على الكافر قال تعالى: {إن الله حرمهما على الكافرين} () (ولا تؤمنوا) أي إيماناً كاملاً وحذفت النون من الفعل المرفوع ليشاكل ما قبله ويناسبه (حتى تحابوا) أي تتحابوا فحذفت إحدى التاءين تخفيفاً: أي يحبّ بعضكم بعضاً، ولما كانت المحبة أمراً قهرياً لا اختيار فيه على الأصح في ذلك لكن الأسباب المؤدية إليها في الاختيار أرشد إليها بقوله (أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟) الواو عاطفة دخلت أداة الاستفهام عليها مع معطوفها والمعطوف عليه متصيد من مفهوم الكلام أي أتسألون سبب التحابب أولا أدلكم الخ والتنوين في شيء يحتمل كونه للتعظيم باعتبار ثمرته وللتعليل باعتبار لفظه (أفشوا) بقطع الهمزة: أي أظهروا (السلام بينكم) وذلك أن الله تعالى جعل إشاعة السلام وإذاعته سبباً للتوادد، وقوله أفشوا جواب لمقدر كأنهم قالوا دلنا على ذلك (رواه مسلم) .

5849 - (وعن أبي يوسف) فيه ستّ لغات بتثليث السين مع الهمزة، وإبدالها واواً وأفصحها ضماً، وهذه كنية (عبد الله بن سلام) بفتح المهملة وتخفيف اللام ابن الحارث الإسرائيلي الصحابي (رضي الله عنه) كان اسمه الحصين فسماه النبي عبد الله مشهور له أحاديث، مات بالمدينة سنة ثلاث وأربعين، خرّج عنه الجميع كذا في «تقريب الحافظ» وفي «تهذيب» المصنف، كان حليفاً لبني الخزرج، وهو من بني نسقاع بتثليث النون، وهو من ولد يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام: كني بولده يوسف، أسلم حين قدوم رسول الله المدينة ونزل في فضله قوله تعالى: {وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبر تم} (الأحقاف: 10) وقوله تعالى: {قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب} (الرعد: 34) روي له عن رسول الله خمسة وعشرون حديثاً، اتفقا على حديث، وانفرد البخاري بآخر اهـ (قال: سمعت رسول الله يقول) وذلك أول اجتماعه عليه (يا أيها الناس أفشوا) يقطع الهمزة: أي أشيعوا وانشروا (السلام) بينكم، والابتداء به سنة والرد واجب كفاية على الأصح (وأطمعوا الطعام) ندباً في نحو الضيافة، وفرض كفاية لسد حاجة المحتاج (وصلوا الأرحام) وتقدم وجوبها وتفاوت مراتبها في باب مستقل بها (وصلوا) من الصلاة ولا يخفى ما بينه وبين ما قبله من الجناس الخطي (بالليل) أي تهجدوا (والناس نيام) جملة حالية من فاعل صلوا، وقوله (تدخلوا الجنة بسلام) جواب لمقدر: أي إن فعلتم ما ذكر تدخلوها متلبسين بالسلام من الآفات التي تكون في غيرها وبه سميت دار السلام على أحد الأقوال، والمراد دخولها مع الناجين، وإلا فدخولها لأهل الإيمان واجب بالوعد الذي لا يخلف. ويحتمل أن المراد مطلق دخولها مع الناجين فيكون فيه تبشير فاعل هذه الأمور بالموت على الإسلام ليكون من أهلها (رواه الترمذي وقال حديث صحيح) . 6850 - (وعن الطفيل) بضم الطاء المهملة وفتح الفاء وسكون التحتية (بن أبي) بضم ففتح

فتشديد التحتية (بن كعب الأنصاري) المقرىء والده، وهو تابعي وليس صحابياً إنما الصحابي والده، فما في بعض النسخ من وقوله رضي الله عنه الموهم كونه صحابياً من تحريف الكتاب بلا ارتياب. (يقول) أي قال (إنه كان يأتي ابن عمر) لغرض من الأغراض (فيغدو) من الغدوّ وهو الذهاب، وهو ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس. قال في «المصباح» : هذا أصله ثم كثر حتى استعمل في الذهاب الانطلاق، أي وقت كان، ومنه قوله (واغد يا أنيس) أي انطلق. قلت: وما نحن فيه الظاهر أنه من هذا الأخير (إلى السوق) مؤنثة معنوية، سميت بذلك لسوق البضائع إليها أو للوقوف فيها على الساق أو لتزاحم السوق. وأكد قال المقدر قبل بقوله (قال: فإذا عمدنا إلى السوق لم يمر عبد الله على سقاط) بفتح المهملة الأولى وتشديد القاف: وهو بياع السقط بفتحتين أي ردىء المتاع (ولا صاحب بيعة) بفتح الموحدة الواحدة من البيع والمراد بقرينة مقابله صاحب بيعة نفيسة (ولا مسكين) أي ذي حاجة (ولا أحد) من عطف العام على الخاص (إلا سلم عليه، قال الطفيل: فجئت عبد الله ابن عمر يوماً) أي لغرض (فاستتبعني) أي طلب مني أن أتبعه (إلى السوق فقلت له: ما تصنع بالسوق وأنت لا تقف على البيع ولا تسأل عن السلع) بكسر ففتح: أي البضائع جمع سلعة كقربة وقرب (ولا تسوم بها) أي بالسوق (ولا تجلس في مجالس السوق) أي إنك لا تصنع شيئاً من الأغراض التي تصنع في الأسواق من شراء المتاع، وعبر عنه بقوله: لا تقف على البيع أو معرفة السلعة، وعبر عنها بقوله: ولا تسأل عن السلع أو مما كسبه الباعة، وعبر عنها بقوله ولا تسوم بها أو الجلوس لرؤية ما فيها، وإذا لم يكن واحد من أسباب الوصول إليها حاصلاً فما فائدة الذهاب؟ وعطف على قوله فقلت له الخ قوله (وأقول) وهو هنا كحكاية الحال الماضية: أي وقلت له (اجلس بنا ها هنا) أي في هذا المكان الذي نحن به، وقوله (نتحدث) يجوز جزمه جواباً للشرط المقدر لكونه جواب الأمر ورفعه استئنافاً (فقال: يا أبا بطن) فيه جواز ذكر بعض خلق الإنسان على وجه الملاطفة، وبين الراوي تكنية الطفيل بها بقوله (وكان الطفيل ذا بطن) أي ناتىء ولم

132 ـــ باب كيفية السلام

يكن بطنه مساوياً لصدره، والجملة معترضة بين القول والمقول الذي أتى به لبيان أن يكون ما ذكرت المطلوب من السوق مطلوب عرضي، فإن المطلوب الأعلى لقاصد المقام الأعلى ذكر الله تعالى فيها، لكونها محل الغفلة والالتهاء بأمور الدنيا عنه. وقد جاء في الحديث «ذاكر الله في الغافلين بمنزلة الصابر في الفارين» رواه الطبراني من حديث ابن مسعود، ومنه السلام لأنه من أسماء الله تعالى كما بيناه في «شرح الأذكار» ، فلما كان كذلك وهو المطلوب الأسمى (قال: إنما لغدو من أجل السلام) أي إفشائه ونشره (نسلم على من لقيناه) أي من عرفناه وغيره. (رواه مالك في الموطأ بإسناد صحيح) فهو موقوف، وفعل هذا الصحابي الجليل المعتدّ بالاتباع لذلك كأنه نقل ذلك عن المصطفى، بل قد جاء في وصفه في حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما «وكان يبدر من لقيه بالسلام» . 132 - باب كيفية السلام (يستحب أن يقول المبتدىء بالسلام) واحداً كان أو أكثر على واحد أو أكثر، والقول اللفظ الموضوع، ولا بد في حصول السنة من رفع الصوت به، ثم إن كان المسلم عليه واحداً فحتى يسمعه أو أكثر فحتى يسمع بعضهم (السلام عليكم) متعلق الخبر محذوف: أي رقيب أو مطلع، ويجوز أن يكون السلام إما مصدراً أواسم مصدر، ويؤيده عطف قوله (ورحمة الله) أي نعمته (وبركاته) أي خيراته الدائمة الثابتة، وعلى الأخير فحذف المضاف إليه من الأول لدلالة ما بعده عليه (فيأتي) أي المبتدىء (بضمير الجمع) ندباً (وإن كان المسلم عليه واحداً ذاكراً كان أو أنثى جليلاً أو حقيراً وينوي المسلم عليه ومن يحضره من الملائكة، فإن أفرد الضمير جاز في أداء السنة، وكمالها جمعه للجمع (ويقول المجيب) للمبتدىء واحداً كان أو أكثر (وعليكم السلام) الواو عاطفة للدعاء منه على الدعاء من المبتدىء، ولو قدم المبتدىء فقال السلام عليكم ناوياً الرد أجزأه كما تقدم في حديث أول

الباب (ورحمة الله وبركاته) ولا يزيد على ذلك لما تقدم لأن البادي ما ترك للمجيب ما يزيد حتى يأتي به (ويأتي) أي المجيب ندباً (بواو العطف) أي لا واو الاستئناف (في قوله وعليكم) أي فيقصد أن جوابه مشارك لسلام المبتدىء في التعاون على إفشاء السلام. 1851 - (وعن عمران بن الحصين) كذا في الأصول بزيادة أل في اسم أبيه، وتقدم ضبطه وأنه بضم المهملة الأولى وفتح الثانية وسكون التحتية (رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي فقال) أي الرجل (السلام عليكم فرد) أي النبي (عليه) أي بأن قال له وعليكم السلام (ثم جلس فقال النبي: عشر) أي ما يأتي به من الدعاء بالسلام حسنة وهي بعشر (ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله) فرد عليه (ظاهر اللفظ أنه قال وعليكم السلام ورحمة الله، ويحتمل أنه زاد في الرد فيها وفيما قبلها (فجلس) أي الرجل (فقال عشرون) أي الدعاء بالسلام والدعاء بالرحمة عشرون حسنة لما مر (ثم جاء آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فرد عليه فجلس فقال: ثلاثون) أي حسنة، لأن الحسنة يجزي صاحبها بعشر أمثالها، وذلك بناء على أن كلاً من السلام ورحمة الله وبركاته حسنة مستقلة، فإذا أتى بواحدة منها حصل له عشر حسنات، وإن أتى بها كلها حصل له ثلاثون حسنة. وجعل العاقولي في «شرح المصابيح» الحسنات للرادّ فقال: فإذا أتى الردّ بواحدة منها حصل له عشر حسنات، والاحسن ما قاله المظهري من أن ذلك لكل من البادىء والرادّ، وبالجملة فأفضل صيغ الابتداء السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وأفضل صيغ الرد وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. وأقل الرد عليكم السلام لا مجرد قوله عليكم أو وعليكم من غير ذكر السلام (رواه أبو داود في الأدب والترمذي وقال: حديث حسن) .

2852 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله) هذا يقتضي أنه كان حاضراً حينئذ كما هو أصل وضع اسم الإشارة (جبريل) وجملة (يقرأ عليك السلام) بفتح التحتية والراء في محل الحال من جبريل، قيل والعامل فيها ما في هذا من معنى الفعل وهو أنبه أو أشير أو خبر بعد خبر أو خبر جبريل عطف بيان، لهذا (قالت قلت) امتثالاً لقوله تعالى: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها} (النساء: 86) (وعليه السلام ورحمة الله وبركاته) فأتت بأحسن صيغ الرد وما ذكرته من أنها زادت بناءاً على ما يومىء إليه ظاهر قوله يقرأ عليك السلام. ويحتمل أن مراده أن جبريل يقرأ عليك السلام التام وأتى به بأفضل صيغ الابتداء، فيكون ما صنعته عائشة من الرد بالمثل لأنه لم يبق بعد وبركاته ما يزاد كما تقدم (متفق عليه) أخرجه البخاري في بدء الخلق وفي غيره، ورواه مسلم في الأدب (وهكذا) أي ومثل ما ذكر إلى قوله وبركاته (وقع في بعض روايات الصحيحن وبركاته) وهكذا هو عند البخاري في بدء الخلق، وفي رواية له أيضاً في الاستئذان (وفي بعضها) وهي رواية البخاري في باب الاستئذان أيضاً (بحذفها) وأشار المصنف إلى ترجيح رواية إثباتها بقوله (وزيادة الثقة مقبولة) عند الجمهور من الفقهاء وأصحاب الحديث كما حكاه عنهم الخطيب سواء تعلق بها حكم شرعي أم لا. وسواء أوجبت نقصاً من أحكام ثبت بخبر ليست فيه تلك الزيادة أم لا، وسواء كان ذلك من شخص واحد بأن رواه مرة ناقصاً وأخرى بتلك الزيادة من غير من رواه أم كانت الزيادة من غير من رواه ناقصاً، وقد ادعى ابن ظاهر الاتفاق على هذا القول عند أهل الحديث. وفي المسألة أقوال مذكورة في علم الأثر. وفي الحديث جواز سلام الرجل الأجنبي على المرأة عند أمن الريبة. قال العيني في «شرح البخاري» : إن قلت: هلاّ واجه جبريل عائشة كما واجه مريم؟ قلت: وجه ذلك أنه لما قدر وجود عيسى عليه السلام من غير أب بعث جبريل ليعلمها تكونه قبل كونه لتعلم أنه يكون بالقدرة فتسكن في

زمن الحمل، ثم بعث إليها عند الولادة لكونها في وجد فقال {لا تحزني قد جعل ربك تحتك سرياً} فكان خطاب الملك لها فيا لحالتين لتسكن ولا تنزعج. وجواب آخر أن مريم كانت خالية من زوج فواجهها بالخطاب، وأم المؤمنين احترمت لمكان سيد الأمة كما احترم الشارع قصر عمر رضي الله عنه الذي رآه في المنام خوفاً من الغيرة، وهذا أبلغ في فضل عائشة لأنه إذا احترمها جبريل الذي لا شهوة له حفظاً لقلب زوجها سيد الأمة كان ما قيل فيها من الإفك أبعد. وجواب آخر أنه خاطب مريم لكونها نبية على قول وعائشة لم يذكر عنها ذلك اهز والجواب الآخر ساقط الاعتبار، زاد البخاري في روايته عن عائشة «أنها قالت: ترى مالا نرى يا رسول الله» أي إنه يرى الملك حينئذ وهي لا تراه وفيه إمكان رؤية الملك. 3853 - (وعن أنس رضي الله عنه: أن النبي كان إذا تكلم بكلمة) المراد منها المعنى اللغوي الصادق بالجملة والجمل: أي إذا نطق بما يعسر فهمه من الجمل. (أعادها) أي ذكرها (ثلاثاً) وليس معمول أعاد لأنه يقتضي حينئذ أنه تكلم بها أربعاً، وهو خلاف المراد وقد علل ذكرها ثلاثاً بقوله (حتى تفهم) بالبناء للمجهول: أي تؤخذ (عنه) تلك الكلمة، وهذا من كمال حسن خلقه ومزيد شفقته ورحمته بالعباد والاقتصار على الثلاث إشعار بأن مراتب الفهم كذلك أعلا وأوسط وأدنى. ومن لم يفهم في ثلاث لا يفهم ولو زيد عليه مرات (وإذا أتى قوماً فسلم عليهم ثلاثاً رواه البخاري) هكذا في كتاب العلم، ورواه فيه مسلم أيضاً فقال «وإذا سلم ثلاثاً» وزيادة الثقة مقبولة، ولذا قال المصنف (وهذا) أي تكرار السلام ثلاثاً (محمول على ما إذا كان بالجمع) المومىء إليه قوله قوم (كثيراً) بأن لا يعمهم قوله السلام عليكم مرة أو مرتين وإنما يعمهم الثلاث، ويؤخذ منه أنه لو كثر الجمع جداً بحيث لا يعمهم التسليم ثلاثاً زيد عليه بقدر ما يعمهم، وهذا منه جبر لخواطر الجمع، وإلا فأصل سنة الإسلام تحصل بسماع بعض الجمع والمسلم عليهم كما مر، والحديث رواه أحمد والترمذي كما في «الجامع الصغير» .

4854 - (وعن المقداد) بن الأسود الكندي، تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب إجراء أحكام الناس على ظواهرهم (في حديثه الطويل قال: كنا) هو وصاحبه اللذان أعطاهما النبي الشاتين يشربوا من درّهما وليشرب معهما النبي كما في الحديث (نرفع للنبي نصيبه من اللبن) المحلوب (فيجىء من الليل) أي أثناء، فمن للتبغيض (فيسلم تسليماً بصوت متوسط بين أقل الجهر وما فوقه كما يؤخذ من قوله (لا يوقظ نائماً) وذلك لنزوله عن أعلا الجهر الموقظ للنائم (ويسمع اليقظان) لوجود أصل الجهر فيؤخذ منه استحباب ذلك لمن دخل على قوم فيهم نيام (فجاء النبي) أي على عادته وذلك بعد أن يصلي ما كتب له (فسلم كما كان يسلم) والكاف فيه مفعول مطلق صفة مصدر مقدر، وسكت المصنف عن تتمة الحديث المشتمل على معجزة له من إيجاد اللبن أكثر من عادته من شاة قد حلبت قبل ذلك بزمن يسير لعدم تعلق غرض الباب هنا وذلك بجملته في «الأذكار» ، وذكرنا في الشرح ما يتعلق به (رواه مسلم) في الأطعمة ورواه الترمذي في الاستئذان والنسائي في اليوم والليلة. 5855 - (وعن أسماء) بالمد (بنت يزيد) بفتح التحتية الأولى وسكون الثانية وكسر الزاي بينهما ويزيد بن السكن بفتح المهملة والكاف ابن رافع بن امرىء القيس بن يزيد بن عبد الأشهل ابن جشم، وكنيتها أم سلمة، ويقال أم عامر الأنصارية تقدمت ترجمتها (رضي الله عنها) في كتاب اللباس (أن رسول الله مر في المسجد) الظاهر أن أل فيه للعهد الذهني: أي المسجد النبوي ويحتمل غيره (يوماً وعصبة) بضم المهملة الأولى وسكون الثانية بعدها موحدة قال في «المصباح» : العصبة من الرجال قال ابن فارس: نحو العشرة، وقال أبو يزيد: من العشرة إلى الأربعين، والجم عصب كغرفة وغرف اهـ. وظاهر أن الخلاف في عصبتهم جار فيهن والله أعلم. (من النساء) صفة للنكرة قبلها وبه ساغ الابتداء بها (قعود) جمع قاعد والتذكير باعتبار الشخص وإلا فجمع قاعدة وصف المؤنث قواعد (فألوى) أي

أشار (بيده بالتسليم) رواه الترمذي في الاستئذان (وقال: حديث حسن) قال: قال ابن حنبل لا بأس بعبد الحميد، يعني ابن بهرام هن شهر بن حوشب، أي الراوي للخبر عن ما ذكر عنها ورواه ابن ماجه أيضاً في الأدب (وهذا محمول على أنه جمع بين اللفظ) فقال لهن السلام عليكن (والإشارة) باليد اليمين لتنبههن لسلامه وكان ذلك لعدم مبالغته في الجهر بالسلام مع بعدهن في الجملة (ويؤيده أن في رواية أبي داود) عن أسماء في كتاب الأدب من «سننه» «مر علينا رسول الله (فسلم علينا) وهو ظاهر في السلام اللفظي والجمع بين الروايات خير من إلغاء بعضها وقد جاء أيضاً عند الترمذي من حديث ابن عمر مرفوعاً «ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى فإن تسلمي اليهود الإشارة بالأصابع وتسليم النصارى الإشارة بالكف» قال الترمذي: إسناده ضعيف، فوجب حمل ما ورد من أنه أشار بالسلام على أنه جمع معه اللفظ به لئلا يخالف القول على أنه لو لم يجمع بذلك وأبقى على أنه أشار من غير لفظ مبيناً أن النهي تنزيهي لا تحريمي لم يكن فيه محذور، لكن الأول أولى فلذا سلكه المصنف هنا، وفي «الأذكار» قال الحليمي: وكان النبي للعصمة مأموناً من الفتنة فمن وثق بنفسه في السلام فليسلم وإلا فالصمت أسلم. 6856 - (وعن أبي جرى) بصيغة التصغير فيه وفي قوله (الهجيمي) كما تقدّم بيان ذلك مع ترجمته (رضي الله عنه) في كتاب اللباس (قال: أتيت النبي فقلت عليك السلام يا رسول الله) أي مبتدأ بذلك (قال) حذف العاطف لأن القصد بيان ما صدر من النبي عند ذلك القول من غير قصد لربط هذه القصة بقصة الإتيان (فقال: لا تقل) أي ندباً (عليك السلام) في الابتداء (فإن عليك السلام تحية الموتى) هو إخبار عن عوائد الجاهلية الجاري على ألسنتهم فيها وجرى عليه الشعراء كثيراً حتى قال من رأى عمر بن الخطاب: عليك السلام من أمير وباركت والأخبار عن الواقع لا يدل على الجواز فضلاً عن

133 ـــ باب آداب السلام

الاستحباب: أي إن هذا اللفظ يستحب في تحية الموتى فرقاً بينها وبين تحية الأحياء وإن جرى عليه في «المفاتيح» فتعين المصير إلى ما ورد عنه من تقديم لفظ السلام حين السلام على الموتى، فإن تخيل متخيل في الفرق أن السلام على الأحياء يتوقع جوابه فقدم الدعاء على المدعو له بخلاف الميت، قلنا: والسلام على الميت يتوقع جوابه أيضاً كما ورد به الحديث، وقد بسطت الكلام فيه في «شرح الأذكار» وأصله من ابن القيم في «بدائع الفوائد» (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح وقد سبق بطوله) مشروحاً في كتاب اللباس. 133 - باب آداب السلام أي بالنظر إلى مؤديه والمبادرة به. 1857 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: يسلم الراكب علة الماشي) قال السيوطي: هذا خبر بمعنى الأمر وفي رواية أحمد ليسلم (والماشي) وعند أبي داود: المارّ (على القاعد والقليل على الكثير) قال ابن بطال عن المهلب: تسليم الماشي لتشبيهه بالداخل على أهل المنزل وتسليم الراكب لئلا يتكبر بركوبه فيرجع إلى التواضع وتسليم القليل لأجل حق الكثير لأن حقهم أعظم. وقال ابن العربي: حاصل ما في هذا الحديث أن المفضول بنوع مَّا يبدأ الفاضل (متفق عليه) أخرجه البخاري في الأدب من «صحيحه» من طريقين ومسلم في الاستئذان (وفي رواية للبخاري) هي في الأدب أيضاً (والصغير على

الكبير) لكن بلفظ «يسلم الصغير على الكبير» قال ابن بطال: وذلك لأن الصغير مأمور بتوقير الكبير والتواضع له. 2858 - (وعن أبي أمامة) بضم الهمزة وتخفيف الميمين (صديّ) بضم المهملة الأولى وفتح الثانية وتشديد الياء (ابن عجلان الباهلي) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إن أولى الناس بالله) أي أحقهم بالقرب منه بالطاعة (من بدأ بالسلام) وذلك لما صنع من المبادرة إلى الطاعة والمسارعة إليها مع ما فيه من حمل المجيب على الرد بالتسبب فيها (رواه أبو داود بإسناد جيد، ورواه الترمذي) في الاستئذان في «جامعه» . (وعن أبي أمامة) أيضاً (قيل) أي سئل رسول الله وقيل (يا رسول الله الرجلان يلتقيان) أي سواء كان يقصد منهما اللقاء أو من أحدهما أولا قصد لأحد (أيهما يبدأ بالسلام قال: أولاهما بالله) قال ابن رسلان: ومعنى الروايتين أقرب الناس من الله بالطاعة من بدأ أخاه بالسلام عند ملاقاته لأنه السابق إلى ذكر الله ومذكره، ورواه البيهقي في «الشعب» عن ابن مسعود يرفعه «إذا مرّ الرجل بالقوم فسلم عليهم فردوا عليه كان له عليهم فضل لأنه ذكرهم السلام، وإن لم يردوا عليه رد عليه ملأ خير منهم وأطيب» قال القرطبي: الأولى بمبادرة السلام ذوي المراتب الدينية كأهل العلم، والفضل احتراماً لهم وتوقيراً، بخلاف أهل المراتب الدنيوية (وقال الترمذي: حديث حسن) وقدمنا أن الجيد عندهم نحو الحسن فوقه.

134 ـــ باب استحباب إعادة السلام

134 - باب استحباب إعادة السلام أي ذكره عند اللقاء (على من تكرر لقاؤه على قرب بأن دخل) أي مكان حصل به إدباره عن القوم الذين كان معهم على قرب، وقوله (ثم خرج) أي فوراً كما يدل عليه قوله على قرب وقوله (ثم دخل في الحال) أي وخرج منه فثم فيه مستعارة بمعنى الفاء (أو حال بينهما مشجرة) تمنع من رؤية أحدهما الآخر لغلظ أصلها، فإن لم تحل لرقتها ويرى كل منهما صاحبه مع وجودها بينهما فلا لانتفاء الحيلولة العرفية (ونحوها) كجدار وجبل. 1859 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث المسيء صلاته) بالنصب على المفعولية ويجوز الرفع على الإسناد كجري النهر وترك تأنيث الفاعل لأن التأنيث مجازي وهو رافع ابن خلاد الزرقي الأنصاري رضي الله عنه (أنه جاء) إلى المسجد (فصلى) أي تحيته والنبي ينظر إلى صلاته (ثم جاء إلى النبي) قال الزركشي في أحكام المساجد: فيه أن السنة لداخل المسجد، وفيه جماعة أنه يقدم تحيته على السلام عليهم وذلك لأن حتى الله تعالى مقدم على حق عباده (فرد عليه السلام فقال) أي بعد رده عليه حالاً (ثم جاء) أي من مصلاه إلى النبي وقد فصل بينه وبينه فاصل كسارية ونحوها بدليل قوله (فسلم على النبي) أي فرد عليه (حتى فعل ذلك ثلاث مرات) وإنما تركه يصلي ثانياً مع إخلاله بها أولاً ثم ثالثاً مع إخلاله بها ثانياً قيل لتجويزه ذلك الصحابي بمصححاتها، وإنما تساهل في استيفاء ذلك فلذا لما أخبره آخراً بأنه لا يعلم سوى ما يعمل أرشده إلى بيان ذلك وليس ذلك من تأخير البيان عن الحاجة (متفق عليه) .

2860 - (وعنه عن رسول الله قال: إذا لقي) بكسر القاف (أحدكم) والظاهر أن المراد به معنى العموم لكونه في سياق الشرط وهو الأقرب (أخاه) عبر به بعثاً على أداء ما بعده (فليسلم عليه) أي يبدأ به ندباً (فإن حال بينهما شجر أو جدار أو حجر) يمنع الرؤية بحيث يعد فاصلاً عرفياً بدليل قوله (ثم لقيه) وثم فيه المراد بها ما يشمل حصول التلاقي عن قرب (فليسلم عليه) أي يأتي به حينئذ لأن هذا لقاء جديد وهو مقتضي لطلب البدء بالسلام ولا يمنع قرب ما قبله له (رواه أبو داود) ورواه ابن ماجه والبيهقي في «شعب الإيمان» .

135 ـــ باب استحباب السلام إذا دخل بيته

135 - باب استحباب السلام إذا دخل بيته أي وإن لم يكن فيه أحد أخذاً بعموم الآية التي أشار إليها المصنف حيث قال: (قال الله تعالى) : ( {فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة} ) وقد تقدم تفسيرها أول كتاب السلام. 1861 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله: يا بني) بضم الموحدة وفتح النون وبتشديد الباء وتحريكها بفتحة تخفيفاً، أو بكسرة دالة على ياء المتكلم المضاف إليها المحذوفة للتخفيف وبهما قرىء، ورأيتها في الأصول المصححة بفتح الياء (إذا دخلت على أهلك فسلم) أي عليهم (يكن) أي سلامك، وفي نسخة بالفوقية فالتأنيث لمراعاة الخبر أو لأنه بمعنى التحتية أي تكن التحية (بركة عليك وهي أهل بيتك) ويجوز رفع بركة وتأنيث فعله على أنه تام أي توجد بركة على من ذكر بسبب السلام كما يومىء إليه السياق والأول أولى (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) قال في «الأذكار» : يستحب

136 ـــ باب السلام على الصبيان

إذا دخل بيته أن يسلم وإن لم يكن فيه أحد وليقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وكذا إذا دخل مسجداً أو بيتاً لغيره ليس فيه أحد يستحب أن يسلم ويقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين والسلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته. 136 - باب السلام على الصبيان بكسر المهملة وضمها جمع صبي، قال في «القاموس» : ويجمع على صبية وصبوان بكسر أوله وضمه، والمراد المميزون منهم لأنهم أهل الخطاب، ويحتمل مطلقاً وإن لم يصلوا إلى حد التمييز ممن له أصل الإدراك زيادة في التواضع، ثم رأيت المصنف في شرح مسلم قال في استحباب السلام على الصبيان المميزين. 1862 - (عن أنس رضي الله عنه أنه مرّ على صبيان فسلم عليهم وقال: كان رسول الله يفعله) أي كثيراً كما يومىء إليه العرف، قال الكرماني: هذا من خلقه العظيم وأدبه الشريف. وفيه تدريب لهم على تعلم السنن ورياضة لهم بآداب الشريعة ليبلغوا متأدبين بآدابها (متفق عليه) أخرجاه في الاستئذان، وكذا رواه الترمذي في الاستئذان من «جامعه» وقال صحيح، ورواه النسائي في «اليوم والليلة» . 137 - باب سلام الرجل على زوجته والمرأة من محارمه أي المحرم نكاحها عليه لذاتها على التأييد بسبب مباح من نسب أو رضاع أو مصاهرة (وعلى أجنبية لا يخاف الفتنة بهن) هو قيد في المعطوف: أي الاجنبيات

وكذا الأجنبية (وسلامهن بهذا الشرط) أي أمن الفتنة فيسن السلام للنساء إلا مع الرجال الأجانب فيحرم السلام عليهم من الشابة ابتداء ورداً خوف الفتنة، ويكره ابتداء السلام ورده عليها إلا إن سلم جمع كثير من الرجال عليها فلا كراهة إن لم يخف الفتنة، ولا يكره ابتداء السلام على جمع نسوة أو عجوز لانتفاء خوف الفتنة بل يندب الابتداء به منهن على غيرهن وعكسه ويجب الرد كذلك هذا تفصيل أحكام المسألة عند أصحابنا الشافعية. 1863 - (عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال كانت فينا امرأة) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمها (وفي رواية كانت لنا عجوز) هي المرأة المسنة، قال في «المصباح» : قال ابن الانباري: ويقال أيضاً عجوزة بالهاء لتحقيق التأنيث. وروى عن يونس أنه قال: سمعت العرب تقول عجوزة بالهاء والجمع عجائز وعجز بضمتين (تأخذ من أصول السلق) بكسر بكسر المهملة وسكون اللام آخره قاف: بقل معروف (فتطرحه) أي المأخوذ (في القدر) بكسر القاف: الإناء الذي يطبخ فيه (وتكركر حبات) أي قليلات كما يدل عليه منون جمع السلامة (من شعير، فإذا صلينا الجمعة انصرفنا نسلم عليها فتقدمه إلينا) والمحدث عنهم جمع من الأنصار من بني ساعدة أو من غيرهم (رواه البخاري) في مواضع من «صحيحه» منها الجمع ومنها الاستئذان (قوله تكركر) بضم الفوقية وكسر الكاف الثانية (أي تطحن) قال في «النهاية» كركرى أي اطحنى، والكركرة: صوت يردده الإنسان في جوفه. 2864 - (وعن أم هانىء) بالهمزة في آخره وتسهل (فاختة) بالخاء المعجمة والمثناة الفوقية (بنت أبي طالب) القرشية الهاشمية، هي شقيقة عليّ رضي الله عنه، خرج حديثها الجماعة،

ولها في الصحيحين حديثان، واحد متفق عليه وهو حديثها في صلاة الضحى، والثاني في حديث مسلم الذي نحن فيه روى عنها ابنها جعد وحفيدها جعدة وعودة وطائفة، ماتت (رضي الله عنها) في زمن معاوية (قالت: أتيت النبي يوم الفتح) أي وهو بالأبطح (وهو يغتسل) جملة حالية من مفعول أتيت (وفاطمة تستره) عن العيون (فسلمت) وجه الدليل منه تقريره لأمن الفتنة، إذ لو حرم سلام الأجنبية مطلقاً لبينه لها (وذكرت الحديث) . وفيه تنفيذ النبي جوارها وأمن جارها الذي أراد علي رضي الله عنه قتله (رواه مسلم) في باب الطهارة. 3865 - (وعن أسماء بنت يزيد) الأنصارية (رضي الله عنها قالت: مرّ النبي علينا في نسوة) حال من المجرور بعلى وهو بكسر النون أفصح من ضمها اسم الجماعة إناث الأتاسي الواحدة امرأة من غير لف «الجمع ومثله في ذلك نسوان ونساء (فسلم علينا) أي عند المرور من غير تراخ (رواه أبو داود والترمذي) كما تقدم في باب كيفية السلام (وقال حديث حسن) ولما أوهم كلام المصنف أنه بهذا اللفظ عندهما نبه على تحقيق الأمر بقوله (وهذا) أي اللفظ المذكور لفظ أي داود، ولفظ الترمذي من حديثها: أن رسول الله مرّ في المسجد يوماً وعصبة من النساء قعود، فألوى بيده بالتسليم وتقدم من

المصنف مثل ما ذكر هنا في باب كيفية السلام. 138 - باب تحريم ابتداء الكافر بالسلام وذلك لما فيه من التسبب للتحاب معه والتواد وقد نهى الله عن ذلك، قال تعالى: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله} (المجادلة: 22) الآية (وكيفية الرد عليهم) أي إذا بدءونا به وهو واجب بالصيغة الآتية (واستحباب السلام على أهل مجلس فيه مسلمون وكفار) بقصد المسلمين. 1866 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام) هو نهى تحريم، قال المصنف في «شرح مسلم» : هذا الحديث دليل مذهبنا ومذهب الجمهور من تحريم ابتداء الكفار بالسلام، وذهبت طائفة إلى جواز ابتدائنا لهم بالسلام، روى ذلك عن جمع منهم ابن عباس وآخرون، وهو وجه لبعض أصحابنا حكاه الماوردي لكنه يقول: السلام عليك لا عليكم، واحتج هؤلاء بعموم أحاديث الأمر بانشاء السلام وهي حجة باطلة لأنه مخصوص بهذا الحديث. ثم حكى المصنف قولاً بكراهة ابتدائهم وضعفه وصوب أن النهي فيه للتحريم وأنه يحرم ابتداؤهم به، وقولاً آخر أنه يجوز ابتداؤهم به لضرورة وحاجة وسبب وهو قول علقمة في آخرين (فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه) أي فألجئوه بالتضييق عليه (إلى أضيقه) وهذا عند الزحام فيركب المسلمون صدر الطريق فإن خلت الطريق عن الزحمة فلا حرج، وليكن التضييق بحيث لا يقع في وهدة ولا يصدمه نحو جدار (رواه مسلم) في الاستئذان، قال السيوطي في «الجامع الكبير» : ورواه أحمد في «مسنده» أبو داود والترمذي وابن حبان.

2867 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إذا سلم عليكم أهل الكتاب) هو شامل للذمي والحربي (فقولوا) وجوباً، قاله المصنف وحكى قولاً بعدم الوجوب وضعفه (وعليكم) وجهه في حديث ما جاء في حديث آخر عند مسلم «إن اليهود إذا سلموا عليكم يقول أحدهم: السام عليكم، فقل عليك» وفي رواية فقال «فقل وعليك» قال المصنف: اتفق العلماء على الرد على أهل الكتاب إذا سلموا لكن لا يقال لهم إذا سلموا وعليكم السلام، بل يقال عليكم أو وعليكم. وقد جاءت عند مسلم أحاديث بإثبات الواو وحذفها وأكثر الروايات إثباتها، وعليه ففي معناها وجهان: أحدهما أنه على ظاهره من العطف فقالوا عليكم فقال وعليكم أيضاً: أي نحن وأنتم فيه سواء: أي كلنا نموت. والثاني أن الواو للاستئناف لا للعطف والتشريك، والتقدير: وعليكم ما تستحقونه من الذم، وأما من حذف الواو فالتقدير عنده عليكم السام. قال المصنف بعد أن حكى عن ابن حبيب المالكي ترجيح حذف الواو لئلا يقتضي التشريك، وعن الخطابي أنه بعد نقله عن عامة المحدثين أنهم ترجيح حذف الواو لئلا يقتضي التشريك، وعن الخطابي أنه بعد نقله عن عامة المحدثين أنهم يروون هذا الحرف وعليكم بإثبات الواو، وأنّ ابن عيينة يرويه بغير واو صوّب رواية حذفها قال: لأنها إذا حذفت صار الكلام بعينه مردوداً عليهم خاصة، وإذا أثنتت اقتضت المشاركة معهم فيما قالوه اهـ. والصواب أن إثبات الواو وحذفها جائزان كما صحت به الروايات وأن الواو أجود كما هو في أكثر الروايات، ولا مفسدة فيه لأن السام هو الموت وهو علينا وعليهم فلا ضرورة في قوله بالواو اهـ (متفق عليه) أخرجاه في الاستئذان، ورواه أحمد الترمذي وابن حبان. 3868 - (وعن أسامة رضي الله عنه: أن النبي مرّ) وذلك في توجهه لعيادة سعد بن عبادة

139 ـــ باب استحباب السلام إذا قام من المجلس وفارق جلساءه

كما في مسلم على مجلس فيه أخلاط (جمع خلط بكسر المعجمة كحمل وأحمال من المسلمين والمشركين) من فيه للبيان (عبدة الأوثان) أي ممن لم يسلم حينئذ من قبيلة الأنصار فإنهم كانوا قبل الإسلام عبدة أوثان (واليهود) الظاهر أنه معطوف على المشركين فيكون قسيماً لهم، ويجوز أن يكون عطفاً على عبدة الأوثان فيكونان قسيمين للمشركين. قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى: و {لا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} (البقرة: 22) مبيناً شمول الشرك لأهل الكتاب، والمشركات يعم الكتابيات لأن أهل الكتاب مشركون لقوله تعالى: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله} (التوبة: 30) إلى أن قال {سبحانه عما يشركون} (التوبة: 31) (فسلم عليهم النبي) ولا شبهة أن سلامه متوجه إلى المؤمن منهم للنهي عن ابتداء غيره بالتحية (متفق عليه) أي بمعناه، فقد أخرجه مطولاً البخاري في الجهاد وفي اللباس والاستئذان والتفسير وغيرها ومسلم في المغازي، وأخرجه النسائي أيضاً، وهذا اللفظ المختصر أخرجه الترمذي في الاستئذان كما قاله المزي في «الأطراف» . 139 - باب استحباب السلام إذا قام من المجلس وفارق جلساءه إن كانوا جمعاً أو جليسه الواحد 1869 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إذا انتهى أحدكم) أي

140 ـــ باب الاستئذان

الواحد منكم (إلى المجلس) الذي يريد الجلوس به (فليسلم) ظاهره وإن لم يكن ثم أحد وتقدم ما يدل على ذلك (وإذا أراد أن يقوم) أي من ذلك المجلس (فليسلم) أي عقب قيامه فعند الترمذي «ثم إذا قام فليسلم» ويحتمل أن يسلم إذا أراد القيام لذلك فيكون مثل قوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن} (النحل: 98) أي أردت قراءته (فليست الأولى) أي التسليمة الأولى (بأحق من الآخرة) قال الطيبي: قيل كما أن التسليمة الأولى إخبار عن سلامتهم من شره عند الحضور فكذا الثاني إخبار عن سلامتهم من شرّه عند الغيبة، وليست السلامة عند الحضور أولى من السلامة عند الغيبة بل الثانية أولى (رواه أبو داود) في الأدب وها لفظه (والترمذي) في الاستئذان (وقال حديث حسن) . 140 - باب الاستئذان أي طلب الإذن في الدخول على من بالمنزل (وآدابه) بالمد جمع أدب وتقدم تعريفه. (قال الله تعالى) : ( {يا أيها الذين آمنوا} ) خاطبهم بذلك إيماء لشرف الإيمان وأنه أعظم ما يفرد بالذكر وينوه به من شرف الخصال ( {لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا} ) أي تستأذنوا ( {وتسلموا على أهلها} ) وتقدم الكلام على بعض فوائد الآية أول كتاب السلام. (وقال تعالى) : ( {وإذا بلغ الأطفال منكم} ) أيها الأحرار ( {الحلم} ) بضم

المهملة واللام: أي أوان أن يحتلموا وذلك بأن صاروا مراهقين ( {فليستأذنوا} ) في جميع أوقات الدخول ( {كما استأذن الذين من قبلهم} ) أي من البالغين الأحرار. 1870 - (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله الاستئذان) أي طلب الإذن من ربّ المنزل (ثلاث) وذلك لأنها أقل الكثير وأكثر القليل ومن لم يتنبه عندها لا يتنبه غالباً بعدها كما تقدم (فإن أذن) بالبناء للمفعول ونائب فاعله قوله (لك) وجواب الشرط محذوف لدلالة السياق عليه: أي فأدخل (وإلا) أي وإلا يؤذن لك بعدها (فارجع) قال المصنف في «شرح مسلم» : أما إذا استأذن فلم يؤذن له أو ظن أنه لم يسمعه ففيه ثلاثة مذاهب: أظهرها أنه ينصرف ولا يعيد الاستئذان. والثاني يزيد فيه. والثالث إن كان بلفظ الاستئذان الآتي لم يعده وإن كان بغيره أعاده، فمن قال بالأظهر فحجته قوله «وإلا فارجع» ومن قال بالثاني حمل الحديث على من علم أو ظن أنه سمعه فلم يأذن اهـ (متفق عليه) روياه في الاستئذان واللفظ لمسلم، وللبخاري بمعناه

ولفظه من حديث أبي موسى مرفوعاً «إذا أستأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع» وهو عند مسلم أيضاً واللفظ الذي ذكره المصنف رواه الترمذي أيضاً. 2871........... 3872 - (وعن ربعي) بكسر الراء وسكون الموحدة وكسر العين المهملة وتشديد الياء (ابن حراش) بالمهملتين المكسورة أولاهما وآخره شين معجمة وهو العبسى بفتح المهملة وسكون الموحدة تابعي جليل، قال الذهبي في «الكاشف» : قالت لله لم يكذب قط، قال الحافظ في «التقريب» : توفي سنة مائة وقيل غير ذلك (قال: حدثنا رجل من بني عامر) لا يضرّ الجهل بعينه لأن الصحابة رضي الله عنهم كلهم عدول من خالط الفتن منهم ومن اعتزالها: أي قال (إنه استأذن على النبي وهو) أي النبي (في بيت) والجملة الإسمية حالية من مجرور على (فقال) أي الرجل (ألج) بهمزتين أولاهما للاستفهام والثانية همزة المتكلم وهو من الولوج: أي أأدخل (فقال رسول الله لخادمه) رأيته في أصل مصحح مضبوط بالقلم بإضافة خادم إلى ضمير الغائب وهو من يتولى الخدمة ذكر كان أو غيره، لكن قال السيوطي في «حاشيته على سنن أبي داود» في تفسير جرير من طريق عمر بن سعد الثقفي أن اسمها روضة، فتكون الهاء للتأنيث، خوطبت خطاب المذكر باعتبار أنها شخص في قوله (أخرج إلى هذا) المستأذن بغير اللفظ الذي يطلب الاستئذان به (فعلمه الاستئذان) أي لفظه وأبدل منه أو عطف عليه عطف بيان قوله (فقل له: قل السلام عليكم أأدخل) قال الحافظ في «فتح الباري» : اختلف هل السلام شرط في الاستئذان أولا، وقال المصنف: اختلفوا هل يستجب تقديم السلام ثم الاستئذان أو العكس، والصحيح الذي جاءت به السنة وقاله المحققون تقديم السلام، والثاني تقديم الاستئذان. والثالث وهو اختيار الماوردي من أصحابنا إن وقعت عين المستأذن على صاحب المنزل قبل دخوله قدم السلام وإلا قدم الاستئذان، وصح عن النبي حديثان في تقديم السلام (فسمعه) أي القول المذكور (الرجل فقال: السلام عليكم أأدخل) وظاهر أن المتكلم مخير بين تحقيق

الهمزة وإبدال الثانية ألفاً وتسهيلها (فأذن له النبي فدخل) وإنما لم يأذن له أولاً لإخلاله باللفظ الوارد في ذلك وحثا على تعلم العلم والعمل به (رواه أبو داود) في الاستئذان (بإسناد صحيح) . 4873 - (وعن كلدة) بكسر الكاف وسكون اللام وفتح الدال المهملة بعدها هاء تأنيث (ابن الحنبل) بفتح المهملة والموحدة وسكون النون بينهما، قال الحافظ في «التقريب» : ويقال ابن عبد الله ابن الحنبل، زاد المزي في «الأطراف» بن ملك يقال مليك بن عائذ بن كلدة أخو صفوان بن أمية لأمه وقيل ابن أخته، واقتصر الحافظ على كونه أخاً لأمه وزاد التيمي المكي صحابي له (رضي الله عنه) حديث (قال أتيت النبي) وذلك لما بعثه صفوان بن أمية بلبن ولباء وضغابيس إلى النبي والنبي بأعلى الوادي رواه كل من أبي داود والترمذي في هذا الحديث وحذفه المصنف لعدم تعلق غرض الترجمة به لكن عند أبي داود بدل قوله ولباء قوله وجداية. قال الخطابي: الجداية هي الصغيرة من الظباء والضغابيس بمعجمتين وبعد الألف موحدة فتحتية فمهملة: صغار القثاء بالقاف والمثلثة (فدخلت عليه ولم أسلم) أي أستأذن (فقال النبي: ارجع) أي إلى ما هو خارج عن مكان النبي (فقل السلام عليكم أأدخل) وفيه الأمر بالمعروف واستدراك السنن وعدم التساهل فيها (رواه أبو داود والترمذي) كلاهما في الاستئذان (وقال) أي الترمذي (حديث حسن) غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن جريج.

141 ـــ باب بيان أن السنة إذا قيل للمستأذن

141 - باب بيان أن السنة إذا قيل للمستأذن أي إذا سأله من في داخل المنزل (من أنت أن يقول فلان) كناية عن علم من يجهل قبل من ذوي العقول وقيل أعم. قال في «القاموس» : فلان وفلانة مضمومتين كناية عن أسمائنا وبأل عن غيرنا انتهى: يعني إذا أردت الكناية عن البشر تقول الفلان، وفيه نظر أشار إليه في «التهذيب» وصوب أنه يطلق بغير أن على غير البشر أيضاً، وظاهر شرح التسهيل أن فلاناً يكون كناية عن علم كل مذكر ذي علم أنسيا كان أو جنباً، وعن علم كل ملك لقوله أولاً عند شرحه قول المصنف ومسميات الأعلام أولو العلم وما يحتاج إلى تعيينه الخ قوله أولو العلم يشمل الملائكة وأشخاص الإنس والجن القبائل، وثانياً بعد الأول بقليل في شرح قوله وكنوا بفلان وفلانة نحو زيد وهند: أي من أعلام أولي العلم ففلان كناية عن علم مذكر من ذوي العقل وفلانة كناية عن علم يؤنث من ذوات العقل (فيسمي نفسه بما يعرف به من اسم أوكنية) أو لقب أو نسبة أو وصف كالأمير أو القاضي قاصداً به التعريف لا التشريف (وكراهة قوله أنا ونحوها) كنحن أو إنسان أو شخص لعدم حصول غرض السائل بذلك. 1874 - (عن أنس رضي الله عنه في حديثه المشهور عنه في الإسراء) بالنبي وهو مروي عنه من طريق بينها السيوطي في «الخصائص الكبرى» وتلميذه الشامي في تخريج أحاديث الإسراء والمعراج (قال) أي أنس (قال رسول الله ثم) أي بعد تمام الصلاة بالأنبياء في المسجد الأقصى (صعد) بفتح العين المهملة وكسرها كما في «المصباح» لغة قليلة (بي جبريل إلى السماء الدنيا فاستفتح) أي طلب من الملك الموكل بها واسمه إسماعيل الفتح، وذلك لأنه وجد باب السماء مغلقاً، وإنما لم يفتح له قيل مجيئه ليظهر غاية الظهور أن فتحها إنما هو لكرامة المصطفى ولا يتوهم أن ذلك عادة فيها (فقيل) حذف الفاعل لعدم العلم بعين السائل أكبير الحفظة أم خدمته (من هذا؟ قال جبريل) فسمى نفسه باسمه المعروف، قال بعضهم: لم نقف على من سمى بهذا الاسم من الملائكة

غيره (قيل ومن معك) لعل السؤال لأنهم لم يعتادوا منه الاستفتاح حال صعوده وهبوطه بالأمور الموكل فيها، فأخذوا من استفتاحه أن معه من يطلب الفتح لأجله، أو لأن السماء شفافة يرى ما وراءها، ويؤيده أنهم قالوا ومن معك؟ دون أمعك أحد (قال محمد) ذكره باسمه الأعرف له (ثم صعد إلى السماء الثانية والثالثة والرابعة) الأحسن ثم الثالثة ثم الرابعة، لكن لما كان ما أراد المصنف من سياق الحديث من الدلائل على تسمية المستأذن حاصلاً بأي عاطف كان استعار الواو مكان ثم (وسائرهن) أي باقيهن، قال الأزهري: اتفق أهل اللغة أن سائر الشيء باقيه قليلاً كان أو كثيراً. وقال الصغاني: سائر الناس باقيهم لا جميعهم كما زعم من قصر في اللغة باعه وجعله بمعنى الجميع من لحن العوام كذا في «المصباح» ، ولكن ذكر المصنف في «التهذيب» عن جميع منهم أبو منصور الجواليقي أنه يأتي بمعنى الجميع أيضاً وليس من لحن العوام (ويقال في باب كل سماء) عند استفتاح جبريل له (من هذا؟ فيقول جبريل) إن قلت كيف استدل بفعل الملك وليس مكلفاً بفروع شريعتنا، وإن قلنا بعموم بعثة نبيانا محمد إلى الملائكة بل هم على ذلك مكلفون بالإيمان به فقط. قلنا: الاستدلال من حكايته وتقريره عليه (متفق عليه) . 2875 - (وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: خرجت ليلة من الليالي فإذا) فجائية (رسول الله يمشي وحده) أي منفرداً عن الغير والجملة الفعلية خبر المبتدأ. ويجوز كونها حالاً والخبر محذوف، والجملة الإسمية في محل جرّ على أنها مضاف إليها فجعلت أمشي في ظل القمر وذلك ليخفي على النبي مكانه، لأنه فهم أن النبي حينئذ مراد بالانفراد، ورؤيته لأبي ذرّ يفوت بها ذلك فلذا أخفى سواده في سواد ظل القمر (فالتفت فرآني فقال: من هذا) لعل سؤاله عنه خشية أن يكون من المنافقين وأعداء الدين (فقلت أبو ذرّ) أجاب بما اشتهر به من كنيته وعدل عن اسمه لأنه بها أعرف منه به (متفق عليه)

أخرجه البخاري في الاستقراض والاستئذان وغيرهما ومسلم في الزكاة، ورواه أيضاً الترمذي في الإيمان وقال: حسن صحيح والنسائي في اليوم والليلة. 3876 - (وعن أم هانىء) بنت أبي طالب (رضي الله عنها قالت: أتيت النبي وهو يغتسل وفاطمة تستره فقال) أي بعد أن سلمت كما تقدم في باب سلام الرجل على زوجته بزيادة فسلمت (من هذه) أي التي بدأت السلام (فقلت: أم هانىء) أتت بكنيتها لما تقدم في الذي قبلها. ووجه الدلالة من هذين تقرير المصطفى لهما على ما أجابا به، إذا لو كان يطلب في الإجابة خلاف ما أتيا به لبينه كما بين لمن أخطأ سنة ما يقال في الاستئذان ما يقال فيه (متفق عليه) . 4877 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: أتيت النبي) زاد الترمذي في «جامعه» «في دين كان على أبي» (فدققت الباب) وفي نسخة بزيادة الباء في المفعول به وهو مما يقوم مقام لفظ الاستئذان، إذ لو لم يقم مقامه لأنكر عليه تركه كما أنكر عليه ما حكاه بقوله (فقال من ذا) أي المستأذن (فقلت أنا، فقال أنا أنا) على وجه الإنكار كما قال (كأنه كرهها) وعند

142 ـــ باب استحباب تشميث العاطس

الترمذي كأنه كره ذلك، وذلك لأن قصد من بالداخل معرفة عين المستأذن، ولا يحصل ذلك بقوله أنا لأن الأصوات متشابهة ولا تعيين في اللفظ فلذا أنكره، وأما الإتيان بلفظ أنا فلا كراهة فيه قال تعالى: {أنا الله لا إله إلا أنا} (طه: 12) وقال «أنا سيد ولد آدم» في أحاديث آخر، وكراهة بعض لها بأن كلاً من إبليس وفرعون قال أنا فكان له ما كان، يرد بأن ما أصابهما إنما أصابهما لسوء ما وقع منهما لا لهذه الكلمة والله أعلم (متفق عليه) . 142 - باب استحباب تشميث العاطس التشميت بالشين المعجمة وبالسين المهملة كما ذكره الفيروز أبادي في كتاب «تخيير الموشين فيما يقال بالشين والسين» هو أن يقول للعاطس رحمك الله أو يدعو له، وفي حاشية السيوطي على سنن أبي داود قال الخليل وأبو عبيد وغيرهما يقال بالمعجمة والمهملة، والعرب تجعل السين والشين في اللفظ الواحد بمعنى، قال الفزاري: التسميت بالمهملة التبريك، يقال سمته إذا دعا له بالبركة، وبالمعجمة من شمت الإبل في المرعى إذا جمعت، فمعنى شمته دعا له أن يجمع شمله وقيل هي من الشماتة وهي فرح الشخص بما يسوء عدوه، فكأنه إذا حمد الله دخل على الشيطان ما يسوءه فشمت هو بالشيطان، وقيل هو من الشوامت جمع شامتة وهي القائمة يقال: لا ترك الله له شامتة: أي قائمة. وقال أبو بكر بن العربي: تكلم أهل اللغة في اشتقاق اللفظين ولم يبينوا المعنى فيه وهو بديع، وذلك أن العاطس ينحل كل عضو في رأسه وما يتصل به من العنق ونحوه فكأنه إذا قيل له يرحمك الله كان معناه أعطاك رحمة يرجع بها بدنك إلى حاله قبل العطاس ويقيم على حالة من غير تغيير، فإن كان التشميت بالمهملة فمعناه رجع كل عضو إلى سمته الذي كان عليه، وإن كان بالمعجمة فمعناه صان الله شوامته: أي قوائمه التي بها

قوام بدنه عن خروجها عن الاعتدال اهـ (إذا حمد الله) وسيأتي حكمة استحبابه للعاطس (وكرهة تشميته إذا لم يحمد الله تعالى) لأنه أمر بالتشميت عند الحمد فيدل على النهي عنه عند عدمه (وبيان آداب التشميت والعطاس والتثاؤب) بمثناة ثم مثلثة وبعد الألف همزة، وجاء في مسلم «إذا تثاوب» بالواو بدل الهمزة فمصدره التثاوب بالواو، وقال السيوطي: قال غير واحد: إنهما لغتان والهمز والمد أشهر. 1 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: إن الله تعالى يحبّ العطاس ويكره التثاؤب) قال الخطابي: معنى المحبة والكراهة فيهما ينصرف إلى سببهما وذلك أن العطاس يكون عن خفة البدن وانفتاح المسام وعدم الغاية في الشبع، وهو بخلاف التثاؤب فإنه يكون عن غلبة امتلاء البدن وثقله مما يكون ناشئاً عن كثرة الأكل والتخليط فيه والأول يستدعي النشاط للعبادة والثاني عكسه اهـ. والمراد من المحبة المسندة إلى الله تعالى غايتها من الرضا والقبول والثواب أو إرادته، وقد بسطت الكلام فيها أول «شرح الأذكار» (فإذا عطس أحدكم) قال في «المصباح» : عطس من باب ضرب وفي لغة من باب قتل اهـ. (وحمد الله تعالى) يحتمل أن تكون معطوفة على فعل الشرط وأن تكون حالاً بإضمار قد، قال الحليمي: الحكمة في مشروعية الحمد للعاطس أن العاطس يدفع الأذى عن الدماغ الذي فيه قوة الفكر ومنه منشأ الأعصاب التي هي معدن الحس وبسلامته تسلم الأعضاء، فظهر بهذا أنها نعمة جليلة فناسب أن تقابل بالحمدلله لما فيه من الإقرار لله بالخلق والقدرة وإضافة الخلق إليه لا إلى الطبائع وعموم الحديث متناول للحمد بأي صيغة كانت وأفضله رواه أحمد والنسائي من حديث سالم بن عبيد رفعه «إذا عطس أحدكم» فليقل الحمد لله على كل حال أو الحمد لله رب العالمين» وقال المصنف: قال ابن جرير: هو مخير بين أن يقول الحمد لله «أو» الحمد لله رب العالمين أو الحمد لله على كل حال، قال المصنف: وهذا هو الصحيح. وأجمع العلماء أنه مأمور بالحمد لله، وفي منهج العلماء للمتقي حديث «إذا عطس أحدكم فقال الحمد لله قالت الملائكة رب العالمين، فإذا قال رب العالمين قالت الملائكة يرحمك الله» رواه الطبراني من حديث

ابن عباس مرفوعاً، قال الحافظ ابن حجر: ولا أصل لما اعتاده كثير من الناس من استكمال قراءة الفاتحة يعد قوله الحمد لله رب العالمين، وكذا العدول إلى أشهد أن لا إله إلا الله أو تقديمها على الحمد فهو مكروه (كان حقاً) أي سنة متأكدة (على كل مسلم) أي ذي إسلام فيشمل المرأة (سمعه أن يقول له يرحمك الله) قال الحليمي: أنواع البلاء كلها والآفات مؤاخذات وإنما المؤاخذة عن ذنب، فإذا أدركت العبد الرحمة وصار الذنب مغفوراً لم تقع المؤاخذة، فمعنى رحمك الله: أي جعل لك ذلك ليدوم لك السلام. وفيه إشارة إلى تنبيه العاطس على طلب الرحمة والتوبة من الذنب، ومن ثمة شرع له أن يجيب بقوله: يغفر الله لنا ولكم، قال ابن دقيق العبد: ظاهر الحديث أن السنة لا تتأدى إلا بالمخاطبة وما اعتاده الناس من قولهم للرئيس يرحم الله سيدنا فخلاف السنة. قال المصنف في «الأذكار» : قال أصحابنا: التشميت سنة على الكفاية، ولكن الأفضل أن يقوله كل واحد منهم لظاهر قوله «كان حقاً على كل مسلم سمعه أن يقول له يرحمك الله» هذا الذي ذكرناه من استحباب التشميت هو مذهبنا. واختلف أصحاب مالك في وجوبه فقال القاضي عبد الوهاب: هو سنة، ويجزىء تشميت واحد من الجماعة كمذهبنا وقال ابن مزين: لزم كل واحد منهم، واختاره ابن العربي وإذا لم يسمع الحمد لا يطلب منه التشميت وإن أتى به العاطس. ونقل المصنف عن الإمام مالك أنه قال: لا تشمته حتى تسمع حمده وإن رأيت من يليه شمته اهـ ملخصاً (وأما التثاوب) بالواو في الأصول المصححة، قال العيني في «شرح البخاري» : التثاوب هو النفس الذي ينفتح منه الفم لدفع البخارات المختلفة في عضلات الفك اهـ (فإنما هو من الشيطان) قال ابن بطال: إضافته إلى الشيطان بمعنى إضافة الرضا والإرادة: أي إن الشيطان يحب أن يرى الإنسان متثاوباً لأنها حالة تتغير فيها صورته فيضحك، منه، وليس المراد أن الشيطان نفس التثاوب. وقال ابن العربي: بينا إن كل فعل مكروه نسبه الشرع إلى الشيطان لأنه واسطته وأن كل فعل حسن نسبه الشرع إلى الملك لأنه واسطته. قال: والتثاوب من الامتلاء وينشأ عنه التكاسل، وذلك بواسطة من الشيطان والعطاس من تقليل الغذاء وينشأ عنه النشاط وذلك بواسطة الملك. وقال المصنف: أضيف التثاوب إلى الشيطان لأنه يدعو إلى الشهوات إذ

يكون من ثقل البدن واسترخائه وامتلائه والمراد التحذير من السبب الذي يتولد عنه ذلك وهو التوسع في الأكل. فائدة: أخرج ابن أبي شيبة والبخاري في «التاريخ» من مرسل يزيد بن الأصم قال «ما تثاوب النبي قط» وأخرج الخطابي من طريق مسلمة بن عبد الملك بن مروان قال «ما تثاوب نبي قط» قال السيوطي ومسلمة أدرك بعض الصحابة وهو صدوق (فإذا تثاءب) بالهمز كما قاله السيوطي قال: وروى مسلم أي في حديث آخر تثاوب بالواو (أحدكم فليرده) بالحركات الثلاث في آخر الفعل والضم إتباع لحركة الضمير (ما استطاع) أي قدر استطاعته وذلك بإطباق فيه، فإن لم يندفع بذلك فيوضع اليد عليه (فإذا تثاءب ضحك الشيطان منه) فرحاً بذلك لما فيه من تغير صورة الإنسان ودخوله في فيه كما سيأتي آخر الباب، وأشار ابن بطال إلى أن الشيطان يضحك حينئذ من جوفه نقله عنه الكرماني (رواه البخاري) في الأدب من «صحيحه» . 2879ـ (وعنه عن النبي قال: إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله) شكراً على ذلك لأنه محبوب إلى الله سبحانه (وليقل له أخوه له) شك من الراوي (صاحبه) والتعبير بأحد هذين تحريض على التشميت (يرحمك الله) قال القاضي عياض: وإنما أمر بالحمد لما حصل من المنفعة بخروج ما احتقن في دماغه من الأبخرة (فإذا قال) أي أخوه (له) أي العاطس (يرحمك الله) وهي جملة خبرية لفظاً دعائية معنى (فليقل) مقابلة للدعاء بمثله ومكافأة للجميل (يهديكم الله) أي يرشدكم بالإيصال إلى مرضاته (ويصلح بالكم) أي حالكم وخاطركم وكأن حكمة إفراد الدعاء للعاطس وجمعه للمجيب ولو منفرداً فيهما أن الرحمة مدعو بها للعاطس وحده لما أصابه مما تنحلّ به أعصابه ويضرّ سمتها لولا الرحمة والهداية مدعوّ بها لجميع المؤمنين ومنهم المخاطب فلذا جمع ضميره والله أعلم (رواه البخاري) في الأدب من «صحيحه» .

3880 - (وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه) وصرح بمفهوم ما قبله اعتناء به فقال (فإن لم يحمد الله فلا تشمتوه) وظاهر الحديث طلب تشميت من عطس وحمد وإن لم يسمعه المشمت لكن قال المصنف: وعطس وحمد ولم يسمعه الإنسان لم يشمته، وقال مالك: لا تشمته حتى تسمع حمده فإن رأيت من يليه شمته فشمته اهـ.» وكلام مالك يدل على أنه إذا تحقق إتيان العاطس بالحمد شمته وإن لم يسمع حمده (رواه مسلم) ورواه أحمد والبخاري في «الأدب المفرد» . 4881 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: عطس رجلان) قال الشيخ جلال الدين السيوطي هما عامر بن الطفيل ولم يحمده وابن أخيه وهو الذي حمد (عند النبي فشمت) بالمعجمة وللسرخسي بالمهملة، وتقدم الخلاف هل هما بمعنى وهو الدعاء بخير أو أن بينهما فرقاً، وأن الذي بالمهملة من الرجوع: أي رجع كل عضو منك إلى سمته الذي كان عليه لتحلل أعضاء الرأس والعتق بالعطاس، والذي بالمعجمة من الشوامت جمع شامتة وهي القائمة: أي صان الله شوامتك: أي قوائمك التي بها قوام بدنك عن الخروج عن الإعتدال (أحدهما) وهو الذي حمد (ولم يشمت الآخر) وهو الذي لم يحمد (فقال الذي لم يشمته: عطس فلان) كناية عن اسم الرجل العاطس حينئذ (فشمته وعطست فلم تشمتني) أي فهو سؤال عن حكمة الإتين به مع الأول وتركه معه (فقال هذا) أي الذي شمته (حمد الله) فاستأهل الدعاء له لاشتغاله بالذكر وعدم إهماله ذلك ففيه إكرام من صنع طاعة (وإنك لم تحمد الله) فكان حقك أن تترك كما تركت الذكر فالجزاء من جنس العمل، وإنما أكد مع أنه إنكار منه لعدم مجيئه بالحمد لما قد يومىء إليه سؤاله من التأهيل له إنما يكون بالحمد، وقد قالت علماء البلاغة: وقد ينزل غير المنكر منزلة المنكر

فيتلقى بالمؤكد، وأومأ هذا الحديث إلى ما صرح به ما قاله أنه لا يشمت من لم يحمد الله وإن أتى بنحو تسبيح أو تحميد أو تهليل وهو كذلك. وفي «معالم السنن» للخطابي حكى عن الأوزاعي أنه عطس رجل بحضرته فلم يحمد الله، فقال له الأوزاعي: كيف تقول إذا عطست، فقال أقول الحمد لله، فقال له يرحمك الله: وإنما أراد بذلك أن يستخرج منه الحمد ليستحق التشميتالله. هـ. (متفق عليه) قال الحافظ المزي: أخرجه البخاري في الأدب من «صحيحه» ومسلم في آخر الكتاب، ورواه أيضاً أبو داود في الأدب من «سننه» والترمذي في الاستئذان من «جامعه» وقال: حسن صحيح، والنسائي في اليوم والليلة، وابن ماجه في الأدب من «سننه» اهـ ملخصاً. 5882 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله إذا عطس وضع بده أو) شك من الراوي ويحتمل أنها للتنويع أي كان تارة يضع يده وتارة (ثوبه على فيه) لئلا يخرج منه شيء من بصاق أو مخاط فوضع ما ذكر على فيه لئلا يؤذي جليسه بما يبرز منه ولو لوى عنقه صيانة لجليسه لم يأمن من الالتواء كما شاهدنا من وقع له ذلك (وخفض أو غض بها صوته) قال ابن العربي: الحكمة في خفض الصوت بالعطاس أن في رفعه إزعاجاً للأعضاء، وقد روى من حديث عبادة بن الصامت وشداد بن أوس مرفوعاً؟ إذا تجشى أحدكم أو عطس فلا يرفع صوته بهما، فإن الشيطان يحبّ أن يرفع بهما صوت أورده السيوطي في «الجامع الصغير» (شك الراوي) أي قال، خفض أو قال غض، وهل قال وضع يده أو قال ثوبه (رواه أبو داود) في الأدب من «سننه» (والترمذي) في الاستئذان من «جامعه» وقال: حديث حسن صحيح.

6883 - (وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: كان اليهود يتعاطسون) الظاهر أن التفاعل فيه للتكلف: أي يظهرون العطاس بالإتيان بصوت يشبهه أو يتسببون له بنحو كشف الرأس (عند رسول الله يرجون) جملة حالية من الواو: أي يؤملون (أن يقول لهم يرحمكم الله) لتعود عليهم بركة دعائه بها فإنهم كانوا يعلمون باطناً نبوته ورسالته وإن أنكرو ظاهراً حسداً وعناداً (فيقول لهم) من مزيد فضله ولا يحرمهم بركة حضرته وثمرة الجلوس بين يديه (يهديكم الله) أي يدلكم على الهدى لتهتدوا، ولو أراد يوصلكم إلى الهدى لآمنوا واهتدوا (ويصلح بالكم) أي ما يهتم به من أمر الدين وذلك بأن يرشدهم إلى الاسلام ويزينه لهم ويوفقهم له (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح) . 7884 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله إذا تثاوب) تقدم أنه عند مسلم بالواو (أحدكم فليمسك بيده على فيه) وفي نسخة فمه بالميم وذلك كراهية صورة التثاؤب المحبوبة للشيطان (فإن الشيطان يدخل فيه) أي في الإنسان عند انفتاح فمه حال التثاؤب فيمنعه من ذلك بوضع اليد على الفم سداً لطريقه ومبالغة في منعه وتعويقه (رواه مسلم) وأشار السيوطي في «الجامع الصغير» إلى أن البخاري أخرجه أيضاً، وقد أخرجه أحمد وأبو داود بلفظ «فإن الشيطان يدخل من التثاؤب» وعند ابن ماجه من حديث أبي هريرة بلفظ «إذا تثاوب أحدكم فليضع يده على فيه، ولا يعوي فإن الشيطان يضحك منه» .

143 ـــ باب استحباب المصافحة

143 - باب استحباب المصافحة قال السيوطي: هي مفاعلة من الصفحة والمراد بها الإفضاء بصفحة اليد إلى صفحة اليد قال الكرماني: وهو مما يؤكد المحبة (وبشاشة الوجه) قال في «النهاية» : بشاشة اللقاء الفرح بالمرئى والانبساط إليه والأنس به (عند اللقاء) ظرف تنازعه كل من المصدرين المذكورين قبله (وتقبيل يد الرجل الصالح) إعظاماً له لصلاحه لا لأمر دنيوي قام به (وتقبيل ولده) ولو كبيراً (شفقة) مفعول له والشفقة هي الحنو والعطف (ومعانقة القادم من سفر) أي ما لم يكن أمرد جميلاً غير محرم له (وكراهة الانحناء) أي ثنى الرجل قامته عند اللقاء. 1885 - (وعن أبي الخطاب قتادة) هو ابن دعامة السدوسي أبو الخطاب البصري (قال: قلت لأنس: أكانت المصافحة في أصحاب النبي) الظرف مستقر: أي كانت موجودة فيما بينهم أي وذلك معيار كونها مشروعة لأن الاجتماع السكوتي حجة (قال نعم. رواه البخاري) في الاستئذان. 2886 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: لما جاء أهل اليمن) لعلهم أصحاب أبي موسى الأشعري (قال رسول الله: قد) للتخفيف (جاء أهل اليمن وهم أول من جاء بالمصافحة. رواه أبو داود بإسناد صحيح) وأخرجه البخاري في «الأدب المفرد» أيضا لكن قال: أول من أظهر المصافحة، ورواه ابن وهب في «جامعه» .

3887 - (وعن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ما) يحتمل كونها حجازية دخلت من المزيدة تأكيداً على اسمها ويحتمل كونها تميمية، وعلى كل فالجملة الفعلية خبر (من مسلمين يلتقيان فيتصافحان) أي عقب الملاقاة من غير توان كما تومىء إليه الفاء (إلا غفر) بالبناء لما لم يسم فاعله ونائب فاعله قوله (لهما) والذي يكفر بالأعمال الصالحة صغائر الذنوب المتعلقة بحق الله سبحانه (قبل أن يتفرقا) ففيه تأكيد أمر المصافحة والحث عليها، نعم يستثنى من عموم الأمر بالمصافحة المرأة الأجنبية والأمرد الحسن (رواه أبو داود) في الأدب، ورواه أيضاً أحمد والترمذي وصححه وابن ماجه والضياء كذا في «الجامع الصغير» ، زاد في «الجامع الكبير» قال الترمذي: حسن غريب، وفي «الجامع الكبير» من حديث أنس مرفوعاً «ما من مسلمين التقيا فأخذ أحدهما بيد صاحبه إلا كان حقاً على الله عز وجل أن يحضر دعاءهما ولا يفرق أيديهما حتى يغفر لهما» الحديث، وقال: أخرجه أحمد وأبو داود. 4888 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رجل) لم أفق على من سماه (يا رسول الله الرجل منا يلقي أخاه) أي من المؤمنين (أو صديقه) أي من الأقرباء والمعارف (أينحني له؟ قال لا) ومن البدع المحرمة الانحناء عند اللقاء بهيئة الركوع، قال ابن الصلاح: يحرم السجود بين يدي المخلوق على وجه التعظيم وإن قصد بسجوده الله تعالى، وما ذكره الله تعالى من قوله في أخوة يوسف وخروا له سجداً فذلك شرع من قبلنا وهو ليس بشرع لنا إلا إن جاء تقريره في شرعنا فيعمل بذلك التقرير (قال) أي الرجل (أفيلتزمه ويقبله) أي أيترك ما ذكر من الانحناء فيلتزمه بالمعانقة ويقبله في بدنه (قال لا) أي لا يشرع ذلك، نعم تشرع المعانقة عند ملاقاة غائب من سفر ما لم يكن امرأة أجنبية أو أمرد جميلاً (قال) أي الرجل (فيأخذ بيده)

حذفت همزة الاستفهام لدلالة وجودها في قرينة عليها: أي أيترك ما ذكر من الانحناء والالتزام والتقبيل فيأخذ بيده، ومفعول يأخذ محذوف: أي يده بيده (ويصافحه) أي يقضي بصفحة يده إلى صفحة يد صاحبه (قال نعم رواه الترمذي وقال حديث حسن) . 5889 - (وعن صفوان) بفتح المهملة وسكون الفاء (انب عسال بفتح المهملة الأولى وتشددي الثانية قال في أسد الغابة: هو من بني الريض بن زاهر بن عامر بن عوثبان بن مراد رضي الله عنه) سكن الكوفة وغزى مع النبي اثنتي عشرة غزوة، روى عنه ابن مسعود وزر بن حبيش في آخرين اهـ. وتقدمت ترجمته في باب التوبة (قال: قال يهودي) لم أقف على من سماه (لصاحبه) أي ليهودي آخر (ذهب بنا إلى هذا النبي) أي ليتبينوا بعض معجزاته الدالة على نبوته ورسالته (فأتيا رسول الله) بقصد السؤال له ولذا قال (فسألاه عن تسع آيات بينات) قال الطيبي: كان عند اليهود عشر كلمات تسع منها مشتركة بينهم وبين المسلمين وواحدة مختصة بهم، فسألوا عن التسع المشتركة وأضمروا ما كان مختصاً بهم، فأجابهم النبي عما سألوه وعما أضمروه ليكون أدلّ على معجزاته (فذكره) أي الحديث ولفظه عند الترمذي «فقال لهم لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تمشوا ببرىء إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تولوا الفرار يوم الزحف، وعليكم خاصة أيها اليهود ألا تعدوا في السبت» (إلى قوله) متعلق بمحذوف: أي وانتهى في ذكره إلى قوله (فقبلوا) أي اليهود والحاضرون مع السائلين (يده ورجله) كذا في نسخ «الرياض» بأفراد كل من «يده ورجليه» ووقفت عليه في أصل مصحح من الترمذي بتثنيتهما والله أعلم (رواه الترمذي) في الاستئذان والتفسير من «جامعه» (وغيره) فرواه النسائي في السير والمحاربة في «سننه» ، ورواه ابن ماجه في الأدب (بأسانيد صحيحة) فرواه الترمذي في

الاستئذان عن أبي كريب عن ابن إدريس وأبي أسامة، وفي التفسير عن محمود بن غيلان عن أبي داود ويزيد بن هرون وأبي الوليد خمستهم عن شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن صفوان، وقال الترمذي: حسن صحيح. ورواه النسائي عن كريب وأبي قمامة كلاهما عن ابن إدريس به، وأعاده في المحاربة عن أبي كريب، ورواه ابن ماجه في الأدب عن أبي بكر بن أبي شيبة عن ابن إدريس وغندر وأبي أسامة ثلاثتهم عن شعبة، وبه يعلم أن مراد المصنف من تعدد الأسانيد باعتبار مبتداه لا باعتبار منتهاه والله أعلم. 6890 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قصة) بالنصب على الحكاية، أن في أبي داود عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال «إن ابن عمر حدثه وذكر قصة» وتلك القصة رواها أبو داود في أواخر كتاب الجهاد فقال عن أبي ليلى أن ابن عمر حدثه «أنه كان في سرية من سرايا رسول الله، قال: فحاص الناس حيصة فكنت ممن حاص، فلما برزنا قلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟ فقلنا لدخل المدينة فننسل منها لذهب فلا يرانا أحد، قال: قال فدخلنا فقلنا لو عرضنا أنفسنا على رسول الله فإذا كانت لنا توبة أقمنا وإن كان غير ذلك ذهبنا، قال: فجلسنا لرسول الله قبل صلاة الفجر، فلما خرج قمنا إليه فقلنا: نحن الفارّون، فأقبل إلينا فقال: بل أنتم الكارّون» وباقيه ما ذكره المصنف بقوله (قال) أي ابن عمر (فيها فدنونا من النبي فقلبنا يده) فقال: إنا فئة المسلمين (رواه أبو داود) مختصراً في كتاب الأدب كما ذكره المصنف ومطولاً في الجهاد، ورواه الترمذي في الجهاد بمعناه وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث يزيد، ورواه ابن ماجه في الادب بلفظ قبلنا يد النبي. 7891 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله في بيتي) جملة حالية رابطها الواو (فأتاه) الضمير المستكن لزيد والبارز لرسول الله: أي

قصد زيد النبي، ففيه استحباب قصد القادم أول قدومه من يتبرك به (فقرع الباب) فيه الاستئذان بغير اللفظ، وقد عقد له أبو داود في «سننه» باباً فقال باب الاستئذان بالفرع (فقام إليه النبي) أي بعد أن علمه بالوحي أو بالإلهام أو بالفراسة الصادقة وجملة (بحر ثوبه) في محل الحال، والمراد الإشارة إلى مزيد الإسراع كما جرت به عادة المحب إذا شعر بوصول من يحب فلم يصبر إلى أن يضع نوبه موضعه من بدنه بل خرج به يجره (فاعتنقه وقبله) فيسن فعل ذلك مع القادم إلا إن كان ممن يخشى من فعل ذلك معه الفتنة كالأجنبي من امرأة وأمرد جميل (رواه الترمذي) في الإستئذان (وقال: حديث حسن) . 8892 - (وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله: لا تحقرن) بصيغة خطاب الواحد، وهو إن كان كذلك إلا أن الحكم شامل له ولجميع الأمة لقوله «حكمي على الواحد من أمتي حكمي على الجماعة» أو كما قال: ومحل ذلك ما لم يقم دليل التخصيص وإلا كإجزاء عناق المعز لأبي بردة في الأضحية وإباحة النياحة لأم عطية فلا يتعدى محله (من المعروف شيئاً) وإن قل (ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق) أن ومنصوبها في محل الفاعل لفعل محذوف على الراجح: أي ولو كان: أي وجد لقاؤك أخاك بوجه طليق، والواو الداخلة على الجملة الوصلية جرى البيضاوي وغيره أنها واو الحال والجملة بعدها منصوبة على ذلك، وقيل عاطفة على مقدر، والحديث سبق مع شرحه في باب استحباب طيب الكلام وطلاقة الوجه وغيره (رواه مسلم) . 9893 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قبل النبي الحسن بن علي) ففيه استحباب

تقبيل الأطفال شفقة ورحمة (فقال الأقرع بن حابس) بالمهملة وبعد الألف موحدة التميمي (إن لي عشراً) كذا في الأصل بحذف الهاء ولعله لتأويل الولد بالنفس (من الولد) بفتحتين قال في «المصباح» : هو كل ما ولده شيء يطلق على الذكر والأنثى والمثنى والمجموع فعل بمعنى مفعول وهو مذكر وجمعه، أولاد الولد وزان وقيل لغة فيه، وقيس تجعل المضموم جمعاً للمفتوح كأسد جمع أُسد اهـ (ما قبلت منهم أحداً) وذلك لجفاء الأعراب وسكان البوادي وفي الحديث «من بدا فقد جفا» (فقال النبي: من لا يرحم) بالبناء للفاعل وحذف المفعول للتعميم (لا يرحم) بالبناء للمفعول: أي إن انتفاء ذلك دليل على قسوة القلب وفقد الرحمة منه للخلق، ومن انتفت منه رفعت عنه والجزاء من جنس العمل (متفق عليه) وقد سبق الحديث في باب تعظيم حرمات المسلمين وبيان حقوقهم والشفقة والرحمة لهم.

6 - كتاب عيادة المريض

6 - كتاب عيادة المريض أي زيارته وهو واوي يقال عدت المريض: أي زرته فأنا عائد وجمعه عواد، وقلبت الواو ياء في المصدر لانكسار ما قبلها فهو كصيام وقيام مصدر صام وقام. وفي «الدر المنثور» للسيوطي: العيادة الزيارة واشتهر في عيادة المريض حتى صار كأنه مختص به (وتشييع) بالمعجمة الساكنة وتحتيتين الأولى مكسورة: أي اتباع (الميت) بالسير مع جنازته إكراماً له وتوديعاً كتشييع الضيف. وفي «القاموس» : مات يموت ويمات ويميت فهو ميت وميت ضد حيّ أو الميت مخففة الذي مات، والميت والمائت الذي لم يمت بعد، جمعه أموات وموتى وميتون وميتون اهـ. وقد جرى على الثاني بعض الفضلاء حيث قال: تسائلني تفسير ميت وميت فهاك صحيح القول إن كنت تعقل فمن كان ذا روح ذلك ميت وما الميت إلا من إلى القبر ينقل (والصلاة عليه) وإطلاق الصلاة عليها استعارة مصرحة، أو من إطلاق المشترك وإلا فالصلاة بالمعنى الشرعي المعروف وهو أقوال وأفعال مبدوءة بالتكبير مختتمة بالتسليم غير منطبق عليها لفقد الأفعال فيها (وحضور دفنه والمكث) بتثليث ميمه ذكره الفيروز أبادي في مثلته: أي اللبث (عند قبره) قال في «القاموس» : القبر المدفن وجمعه قبور والمقبرة مثلثة الباء وكمكنسة موضعها يقال قبره ويقبره ويقبره دفنه وأقبره: جعل له قبراً (بعد دفنه) أي ليسألوا له التثبيت في إجابة السؤال. 1894 - (وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: أمرنا رسول الله) المراد من الأمر فيه

طلب حصول المأمور به الشامل لما كان واجباً ولما كان مندوباً (بعيادة المريض) وهي سنة كفاية، وقيل فرض كفاية فتسن لأيّ مرض كان وفي كل زمان كان، وكراهة العوام لها في بعض الأيام لا أصل لها، وعقب العلم بالمرض وإن لم تطل مدة الإنقطاع ولا فرق في المذكورات بين المعروف له وغيره، وحديث «لا تزر من لا يزورك» إن صح فهو محمول على زيارة الأصحاء فإنها تستعمل فيهم والعيادة في المرضى: أي فمن رأيت منه الإعراض فأعرض عنه جزاء له، ومنه قول إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه: زن من وزنك بما وزنـ ك وما وزنك به فزنه من جا إليك فرح إليـ ـه أو جفاك فصد عنه ثم للعيادة آداب أفردت بالتأليف، وممن أفردها ابن حجر الهيثمي. فمن آدابها أنه لا يطيل الجلوس إلا إذا علم أنه لا يشق عليه ويأنس به. وأن يدنو منه ويضع يده على جسده ويسأله عن حاله، وينفس له في الأجل بأن يقول ما يسر به، ويوصيه بالصبر على مرضه ويذكر له فضله إن صبر عليه، ويسأل منه الدعاء فدعاؤه مجاب كما ورد، ومن أراد البسط في هذا المقام فعليه بالإفادة لابن حجر المذكور (واتباع) بتشديد الفوقية (الجنائز) جمع جنازة بفتح الجيم وتكسر، الميت على النعش، وقيل بالفتح اسم لذلك وبالكسر النعش وعليه الميت، وقيل عكسه، وقيل غير ذلك من جنسه: إذا ستره (وتشميت) بالمعجمة والمهملة كما تقدم (العاطس وإبرار المقسم) بصيغة اسم الفاعل: أي الحالف على حصول أمر لا يقدر على تحصيله منك لتبر قسمه، قال التوربشتى: نرويه عن صحيح البخاري إبرار المقسم، وقد روي إبرار القسم: أي بفتحتين وكلاهما صحيح اهـ. وفي قوله روى بصيغة التمريض مع أنه في الصحيح مالا يخفي (ونصر المظلوم) بكفّ الظالم عنه (وإجابة الداعي) إلى وليمة النكاح في اليوم الأول وجوباً بشرطه وإلى غيرها سنة، ومنه الوليمة الثانية في النكاح، أما الوليمة

الثالثة فيكره حضورها (وإفشاء السلام) أي إظهاره ونشره والحديث تقدم مراراً أقربها في كتاب السلام (متفق عليه) . 2895 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال «حق المسلم على المسلم خمس) أي الأمر المتأكد للمسلم على مثله خمسة أشياء وحذف التاء لحذف المعدود أو خمس خصال، وجاء في رواية لأحمد ومسلم من حديث أبي هريرة ستّ، وزاده» وإذا استنصحك فانصح له» ولا منافاة لأن مفهوم العدد غير حجة (رد السلام) وهو فرض عين إن كان المسلم عليه واحداً بأن يقول عليك السلام ويرفع صوته بقدر ما يسمع البادىء به، وفرض كفاية إن كان جمعاً (وعيادة المريض واتباع الجنائز وإجابة الدعوة) بفتح الدال في الطعام هو اسم من دعوت الناس إذا طلبتهم ليأكلوا عندك فقال نحن في دعوة فلان ومدعاته بمعنى قال أبو عبيد: وهذا كلام أكثر العرب كذا في «المصباح» (وتشميت العاطس) أي إذا حمد الله لما تقدم في بابه وقد جاء في حديث أحمد ومسلم وإذا عطس فحمد الله فشمته، كلها واجبة عند الإمام مالك والأمر فيها عنده على أصل موضوعه من الدلالة على الوجوب وعند الشافعي كل من العيادة والتشميت سنة واتباع الجنائز المتوقف عليه الدفن فرض كفاية والدعوة تقدم تفصيلها في الحديث قبله (متفق عليه) والحديث قد سبق في باب تعظيم حرمات المسلمين. 3896 - (وعنه قال: قال رسول الله: إن الله عزّ وجل يقول) هذا أحد الكيفيات في رواية

الحديث القدسي، والكيفية الأخرى أن يقال عن النبي فيما يرويه عن ربه كما تقدم عن المصنف حيث قال في باب المجاهدة: عن أبي ذرّ عن النبي فيما يرويه عن الله تبارك وتعالى، وتقدم ثمة بعض ما افترق فيه القرآن والحديث القدسي من الأحكام (يوم القيامة ابن آدم) قيل إنه اسم عربي بوزن أفعل وألفه منقلبة عن همزة، وقيل أعجمي وزنه فاعل كخاتم وألفه أصيلة (مرضت) أسند ما قام بالعبد إليه تعالى تشريفاً له كقوله تعالى: {يخادعون الله} (البقرة: 9) جعل مخادعتهم للمؤمنين مخادعة لربّ العالمين تشريفاً لهم (فلم تعدني) بضم العين من العبادة (قال) أي ابن آدم المخاطب بهذا الحديث (يا رب كيف أعودك استبعاد لإمكان لحوق المريض له تعالى المرتب عليه العيادة أخذاً بظاهر الخطاب وبين وجه الاستبعاد بقوله (وأنت ربّ) أي ملك (العالمين) ومن كان كذلك لا يطرقه شيء من الأعراض فكيف يعاد (فقال) أي الله تعالى يقال مبيناً أن إسناد المرض إليه تعالى مجاز عقلي لكونه عن إرادته وفيه تشريف ذلك الإنسان (أما) بتخفيف الميم أداة استفتاح لتنبيه المخاطب على ما بعده (علمت أن عبدي فلاناً) يحتمل أن يراد منه العبد الكامل كما تومىء إليه الاضافة إلى الذات العلى، ويحتمل أن يراد منه مطلق العبد فالإضافة فيه للعهد بدليل قوله فلاناً (مرض فلم تعده أما علمت) فصل عما قبله إيماء إلى أنه المقصود بالتنبيه عليه وما قبله كالوسيلة إليه (أنك لو عدته لوجدتني) أي وجوداً معنوياً (عنده) . قال تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلى هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم} (المجادلة: 7) أي بالعلم فعلمه شامل لجميع المكونات والله تعالى مقدس عن المكان والحلول في شيء أو الاتحاد معه، وفيه إيماء إلى أن المحسن ينبغي له التيقظ لهذا النور الأسنى ليفوز بوافر السناء وحسن الثناء والله الموفق (يا ابن آدم) فصله عما قبله إيماء إلى أن كلا مأمور به على حدته موبخ تاركه على تركه (استطعمتك فلم تطعمني) حاله كما تقدم فيما قبله من الإسناد المجازي العقلي والنكتة فيه (قال) أي العبد المخاطب، وعبر عنه بالماضي إما لأنه إخبار عما صدر منه عز وجل مع بعض من تقدم

على الإخبار عنه أو أنه لما كان محقق الحصول عبر به بما يعبر عن ذلك كقوله تعالى: {ونفخ في الصور} (الكهف: 99) (يا ربّ وكيف أطعمك وأنت ربّ العالمين) الواو عاطفة لهذا الاستبعاد على الاستبعاد قبله، وكأن شدة دهش أحوال الموقف أذهله عن جريان ما ذكره الحق فيما قبله فيه وفيما بعده فاستغرب ذلك وقال ما قال (فقال: أما علمت أنه) أي الشأن (استطعمك) طلب منك الطعام (عبدي فلان فلم تطعمه) أي ومنعك له من ذلك الطالب ظاهراً كأنه منع منك للطالب حقيقة كما أشار إليه تعالى تلويحاً وتعريضاً في غير ما آية كقوله: {ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً إنما نطعمكم لوجه الله} (الإنسان: 8، 9) الآية (إنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي) أي باعتبار ثوابه المضاعف. قال تعالى: {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله} (البقرة: 110) أي تجدوا ثوابه عنده فلا يضيع عمل عامل قال تعالى: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً} (النساء: 40) (يا ابن آدم استسقيتك) أي طلبت منك السقيا بلسان عبدي (فلم تسقني) أي تسق عبدي السائل منك ذلك (قال: يا ربّ كيف أسقيك) لعل الفصل مع وصل ما قبله إن لم يكن لشدة الذهول من عظيم ما يلقاه من التوبيخ للتفنن في التعبير (وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته لو جدت ذلك) أي ثوابه (عندي) ففيه دليل على أن الحسنات لا تضيع وأنها عند الله بمكان (رواه مسلم) أواخر «صحيحه» .

4897 - (وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله. عودوا المريض) أي بأي مرض كان كما يؤذن به تعريفه بأل الاستغراقية، وفي كل زمان كما يؤذن به إطلاق الأمر عن التقييد بزمان (وأطعموا الجائع) وهو كغيره من القيام بسد خلات المحتاج فرض كفاية على مياسير المسلمين فإن لم يكن ثمة إلا واحد تعين عليه (وفكوا العاني) أي المأسور لكفار أو لدين عليه أداؤه (رواه البخاري) في كتاب المرضى، ورواه أحمد وابن حبان والبيهقي من حديث أبي سعيد بلفظ «عودوا المريض واتبعوا الجنازة تذكركم الآخرة» ورواه البغوي في مسند عثمان من حديثه بلفظ «عودوا المريض واتبعوا الجنائز والعيادة غبا أو ريعاً إلا أن يكون مغلوباً فلا يعاد والتعزي مرة» كذا في «الجامع الصغير» (العاني) بالمهملة وبعد الألف نون (الأسير) في «المصباح» عنا يعنو عنواً من باب قعد خضع وذل، وعنا عنواً أيضاً إذا نشِب في الإِسار فهو عان والجمع عناة، وعنى الأسير من باب تعب لغة فيه، ومنه قيل للمرأة عانية لأنها محبوسة كالأسير عند الزوج والجمع عوان. قلت: وقد تقدم في باب الوصية بالنساء خيراً «استوصوا بالنساء فإنهن عوان عندكم» . 5898 - (وعن ثوبان) بفتح المثلثة وبعد الواو موحدة وبعد الألف نون ابن بجدد بموحدة فجيم فمهملتين، قال في «القاموس» : كقعدد مولى رسول الله تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب المجاهدة (عن النبي قال: إن المسلم إذا عاد أخاه) أي في الاسلام وإن لم تكن أخوة نسب كما يومىء إليه وصفه بقوله (المسلم لم يزل في خرفة الجنة) قال في «النهاية» : الخرفة بضم الخاء المعجمة وسكون الراء وبالفاء اسم ما يخترف من النخل حين يدرك (قيل) لم أر من سمى السائل (يا رسول الله وما خرفة الجنة) قال القاضي البيضاوي في «التفسير» «ما» يسأل به عن كل شيء ما لم يعرف، فإذا عرف خص العاقل بمن

إذا سئل عن تعيينه وإن سئل عن وصفه قيل ما زيد أفقيه أم طبيب وقال في قوله تعالى: {ادع لنا ربك يبين لنا ما هي} (البقرة: 68) أي ما حالها وما صفتها وكان حقهم أن يقولوا أي بقرة هي أو كيف هي لأن «ما» يسأل بها عن الجنس غالباً، لكنهم لما رأوا ما أمروا به على حال لم يوجد بها شيء من جنسه أجروه مجرى ما لم يعرفوا حقيقته ولم يروا مثله اهـ. والخرفة وإن كانت معلومة عندهم إلا أنها لما أضيفت في الحديث إلى الجنة جهلوا المراد منها فسألوا بما ذكر (قال جناها) بفتح الجيم وبالنون مقصور، قال في «النهاية» : هو ما يجني من الثمر وجمعه أجن كعضا وأعص قال التوربشتى: المعنى إنه بسعيه إلى عيادة المريض يستوجب الجنة ومخارفها والعيادة لما كانت مفضية إلى مخارف الجنة سميت بها، وروي «كان له خريف في الجنة» وروي في خرافة وخروف ومخروف ومخارف الجنة، وروى كان له خريف أي مخروف (رواه مسلم) في الأدب من «صحيحه» ورواه الترمذي في الجنائز من «جامعه» وقال. حسن، ثم أشار فيه إلى الاختلاف في رواته. 6899 - (وعن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ما من) صلة لتأكيد عموم الاستغراق (مسلم يعود مسلماً غدوة) بضم المعجمة وبالواو وسكون المهملة بينهما قال في «المصباح» : هي ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس وجمعها غدا كمدية ومدى (إلاّ صلى عليه سبعون ألف ملك) أي استغفروا له ودعوا له بأنواع الرحمة مستمرين كذلك (حتى) أي إلى أن (يمسي) أي يدخل في المساء وهو من زوال الشمس إلى نصف الليل (وإن عادة عشبة) هو وقرينه منصوبان على الظرفية وهي آخر النهار، وقيل ما بين الزوال إلى الغروب، قال ابن الأنباري: العشية مؤنثة: أي تأنيث العشي، قال: وربما ذكرتها العرب

على معنى العشي، وقال بعضهم: العشية واحدة وجمعها عشي كذا في «المصباح» (صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح) أي يدخل في الصباح وحتى فيه وفيما قبله غاية لمقدر دل عليه السياق كما أشرت إليه ثم إن كانت إن بمعنى ما لمقابلتها بها فتقدر إلا وحذفت لدلالة مقابلها عليها والواو حينئذ عاطفة أو مستأنفة، وإن كانت شرطية فلا تقدير لها، والجملة جواب الشرط (وكان له خريف في الجنة) كان يحتمل كونها تامة وخريف فاعلها والظرف المتقدم حال منه والمتأخر صفته، يحتمل كونها ناقصة والمرفوع اسمها وأحد الظرفين خبرها والثاني حال أو صفة، والرابط محذوف: أي بسببه والخريف بوزن الربيع (رواه الترمذي وقال حديث حسن) . (الخريف التمر المخروف أي المجتنى) قال في «النهاية» فعيل بمعنى مفعول. 7900 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: كان غلام يهودي) اسمه عبد القدوس كما قال الجلال البلقيني في مهمات البخاري (يخدم النبي فمرض، فأتاه النبي وسلم يعوده) فيه جواز عيادة الكافر (فقعد عند رأسه فقال له) أي عقب قعوده وقدمه على السؤال عن حاله لأنه الأهم المقدم وخشية أن يبغته الموت قبل الإسلام فيموت كذلك، ويحتمل أنه بعد السؤال عن ذلك وكان يسيراً جداً وتعقيب كل شيء بحسب حاله (أسلم، فنظر إلى أبيه وهو عنده) جملة حالية من المجرور بإلى والرابط كل من الضمير والواو: أي كالمستشير له في طاعة ما أمر به (فقال: أطع أبا القاسم، فأسلم) ففيه حلول الأنوار النبوية على نجاسه فانقلب إبريزاً (فخرج النبي وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار) ففيه بركة صحبة الصالحين ظهور ثمرتها دنيا وأخرى (رواه البخاري في الجنائز من صحيحه) .

154 ـــ باب ما يدعى به للمريض

154 - باب ما يدعى به للمريض أي بالفعل بصيغة المجهول ليشمل ما يدعو به المريض لنفسه أو يدعو به له غيره. 1901 - (عن عائشة رضي الله عنه أن النبي كان إذا اشتكى) من باب الافتعال من الشكاية والتاء للمبالغة (الإنسان الشيء منه) من عضو ألم به (أو كانت قرحة) بفتح القاف من القرح وهو الجرح، فقوله (أو جرح) الظاهر أنه شك من الراوي هل قالت قرحة أو جرح (قال النبي بأصبعه) فيه إطلاق القول على الفعل (هكذا) وبين كيفية المشار إليه بقوله (ووضع سفيان) بتثليث السين من أتباع التابعين (ابن عيينة) بضم المهملة وكسرها (الراوي) أي لهذا الحديث (سبابته) بتشديد الموحدة الأولى وتخفيف الثانية بعدها فوقية وهي السبحة أي الأصبع التي تلي الإبهام، سميت بذلك لأنها تستعمل حال التسبيح، وسبابة لأنها بها يشار إلى الإنسان حال سبه (بالأرض) متعلق بوضع (ثم رفعها) إن كانت ثم على موضوعها من المهملة ففيه إيماء إلى طلب إطالة بقاء الأصبع بالأرض والله أعلم بسر ذلك وإلا فهي فيه بمعنى الفاء (وقال) عطف على قال الأول (باسم الله) يكتب بالألف بعد الباء وحذفها في مثله من خطأ الكتاب نبه عليه المصنف في «شرح مسلم» ، لكن حكى الخطابي المالكي في إعراب الألفية عن السمين جواز الوجهين، والظرف فيه متعلق بمحذوف دل عليه المقام: أي أداوي باسم الله، وقوله (تربة) بضم الفوقية وسكون الراء وفتح الموحدة (أرضنا) أي ترابها مبتدأ، وقال التوربشتي: خبر مبتدأ محذوف: أي هذه تربة أرضنا، والباء في قوله (بريقة بعضنا) باء المصاحبة: أي ممزوجة معها وخبر المبتدأ جملة (يشفي) بالبناء للمجهول ويتعلق به قوله (به) ونائب فاعله قوله (سقيمنا) والرابط هو الضمير المجرور وذكر لأن التربة بمعنى التراب، وقوله (بإذن ربنا) أي بأمره محل الحال من الخبر. والمعنى أنه يحصل الشفاء بإذن الله تعالى بهذا المذكور، قال

التوربشتي: أمثال هذه الكلمات عسر الوقوف على معانيها وقصرت الأفهام عن تقرير التناسب بين ألفاظها ومبانيها لأنها لم توضع للعمل والاستنباط منها بل وضعت للتلفظ بها تيمناً وتشفيعاً، وربما وقع شيء من معانيها في القلوب السليمة الواقعة لاستماع كلام النبوة بمرصاد الأدب والحرمة، وقد علمنا من غير هذه الرواية أنه كان يبل أنملة إبهامه اليمنى بريقه ويضعها على الأرض ليلتزف بها التراب ثم يرفعها ويشير بها إلى السقيم، وذلك معنى قول عائشة بأصبعه. قلت: لكن صرحت في هذه الرواية بأنها السببابة والله أعلم. قال: والذي يسبق إلى الفهم من صنعه ذلك ومن قوله تربة أرضنا إشارة إلى فطرة أول مفطور من البشر، وريقة بعضنا إشارة إلى النطفة التي خلق الله منها الإنسان كأنه يتضرع بلسان الحال ويتعرض لفحوى المقال إنك اخترعت الأصل من طين، ثم ابتدعت نسله من سلالة من ماء مهين فهين عليك أن تشفي من كانت هذه نشأته وتمن بالعافية على من استوى في ملكك موته وحياته. فإن قيل إن صحت المناسبة بين التربة وفطرة الإنسان فما وجه المناسبة بين الريقة والنطفة؟ قلت: هما من فضلات الإنسان فعبر بإحداهما عن الأخرى وكانت عادته الكناية في مثل ذلك ونظيره ما جاء في حديث بشير بن الخصاصية «أنه بصق على كفه ثم وضع عليه أصبعه ثم قال: يقول الله عز وجل: ابن آدم أتعجزني وقد خلقتك من مثل هذا؟ وأراد بها النطفة» (متفق عليه) . 2902 - (وعنها أن النبي كان يعود بعض أهله) أي عند مرضه (يمسح) أي ذلك المعاذ (بيده اليمنى) وبركتها عليه فيستحب فعل ذلك لمن يتبرك به (ويقول: اللهم ربّ الناس) ربّ منصوب على أنه منادى ثان، ولا يجوز نصبه عند البصريين على أن يكون صفة لقوله اللهم: أي يا مربيهم بالنعم والمخرج لهم إلى الوجود من العدم (أذهب) بهمزة

القطع (الباس) هو في أصله مهموزاً وسهل بقلب الهمزة ألفا لمناسبة ما قبله: أي الشدة في الحرب والعذاب (اشف) بوصل الهمزة (أنت الشافي لاشفاء) بفتح الهمزة (إلا شفاؤك) بالرفع بدل من خبر لا المحذوف أو من ضميره أو من محل لا مع اسمها، وجملة لا شفاء إلا شفاؤك معترضة بين الفعل ومفعوله المطلق كالتعليل لسؤال ذلك (شفاء) مفعول اشف، ويجوز رفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هو أو هذا وعليه فالجملة قبله مستأنفة (لا يغادر) بالغين المعجمة والدال المهملة والراء: أي لا يترك (سقماً) بفتحتين وبضم فسكون: أي مرضاً، وفائدة التقييد به أنه قد يحصل الشفاء من ذلك المرض فيخلفه مرض آخر متولد منه مثلاً فكأنه يدعو بالشفاء المطلق لا بمطلق الشفاء (متفق عليه) ورواه النسائي أيضاً. 3903 - (وعن أنس رضي الله عنه أنه قال لثابت) بالمثلثة وبعد الألف موحدة فمثناة فوقية بوزن فاعل وهو البناني بضم الموحدة ونونين بينهما ألف التابعي الجليل، وقوله (رحمه الله) جملة خبرية لفظاً دعائية معنى مستأنفة أتى بها دعاء لثابت (ألا) بفتح الهمزة واللام الخفيفة أداة استفتاح (أرقيك) بفتح الهمزة (برقية) بضم الراء وسكون القاف اسم للمرة من الرقي وجمعها رقي كمدية ومدى كذا في «المصباح» . وفي «فتح الباري» الرقى بضم الراء وبالقاف مقصور جمع رقية بسكون القاف، يقال رقي بالفتح في الماضي يرقى بالكسر في المستقبل، واسترقى فلان طلب الرقية والجمع بغير همز وهو بمعنى التعويذ بالذال المعجمة (رسول الله) أي بما كان يرقى به. قال القرطبي: فيه دليل على جواز الرقية من كل الآلام وأنه كان أمراً فاشياً معلوماً بينهم. وفي «فتح الباري» أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط أن يكون بكلام الله تعالى أو بأسمائه أو بصفاته وباللسان العربي أو بما يعرف معناه من غيره وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بتقدير الله تعالى. واختلفوا في كون الأخير شرطاً والراجح أنه لا بد من اعتبار الشروط الثلاثة. وقال الربيع: سألت الشافعي عن الرقي فقال: لا بأس أن يرقي بكتاب الله أو بما يعرف من ذكر الله.

قلت: أيرقي أهل الكتاب المسلمين؟ قال نعم إذا رقوا بما يعرف من كتاب الله وبذكر الّله، ثم أورد نحوه عن مالك. وسئل ابن عبد السلام عن الحروف المقطعة فمنع منها مالا يعرف لئلا يكون كفراً هـ ملخصاً (قال: بلى قال: اللهم ربّ الناس مذهب الباس) بقلب الهمزة ألفاً لمناسبة ما قبله، ومذهب يجوز أن يكون منادى أيضاً كما قبله، ويجوز أن يكون نعتاً لرب، أما على أن رب صفة مشبهة فإضافته كإضافة مذهب لفظية، وعلى كونه مصدراً فيجعل مذهب بمعنى الدوام والثبوت فتكون إضافته معنوية، ويجوز كونه بدلاً مطابقاً مما قبله (اشف) وقوله (أنت الشافي لا شافي إلا أنت) معترضة كما تقدم فيما قبله (شفاء لا يغادر سقماً، رواه البخاري) في آخر كتاب المرضى، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي في «اليوم والليلة» . 4904 - (وعن سعد بن وقاص) بفتح الواو وتشديد القاف آخره مهملة كنية مالك بن أهيب ابن عبد مناف بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في الكتاب في باب الإخلاص (قال: عادني رسول الله فقال اللهم اشف سعداً ثلاث مرات) ظرف لقال: أي كرره ثلاثاً لمزيد الاهتمام والاعتناء، وقد تقدم أن النبي كان إذا تكلم بالكلمة أعادها ثلاثاً وفي الحديث «إن الله يحبّ الملحين في الدعاء» رواه الحكيم الترمذي وابن عديّ والبيهقي في «الشعب» من حديث عائشة مرفوعاً (رواه مسلم) .j 5905 - (ومن أبي عبد الله عثمان بن أبي العاص) بحذف التحتية في الأصول على حذف ياء المنقوص المعرف حال الوقف عليه، وبه قرىء قوله تعالى: {المتعال} ويجوز

إثباتها وتقدم زيادة بيان فيه في ترجمة عبد الله بن عمرو بن العاص، وعثمان هذا (رضي الله عنه) ثقفى طائفي صحابي شهير استعمله النبي على الطائف ومات في خلافة معاوية بالبصرة خرج عنه مسلم والأربعة كذا في «تقريب الحافظ» ، وزاد المصنف في «التهذيب» أن الصديق وعمر أقراه على الطائف وأنه أسلم في وقد ثقيف، قال: روى له عن رسول الله تسعة أحاديث، أخرج له مسلم ثلاثة منها، واستعمله عمر على عمان والبحرين ثم نزل البصرة قال ابن قتيبة: أقطعه عثمان بن عفان اثني عشر ألف جريب. قال في «المصباح» بعد كلام قدمه فحصل من هذا أن الجريب عشرة آلاف ذراع، وعن عبد الله الكاتب ثلاثة آلاف وستمائة ذراع، وجريب الطعام أربعة أقفزة قاله الأزهري (أنه شكا إلى رسول الله مرضاً يجده) من الوجدان أي يحسه في جسده (فقال له رسول الله: ضع يدك) أي أجعلها موضوعة (على الذي يألم) بفتح التحتية واللام وسكون الهمزة بينهما: أي يوجع (من جسدك) بيان للذي (وقل) أي مع وضعها أو عقبه مصاحباً كما يومىء إليه السياق وهو يدفع ما تصدق به الواو من قوله ذلك قبل الوضع: أي بحضور قلب مع الربّ ونسيان ما سواه (باسم الله) أي استشفى باسمه (ثلاثاً) ظرف لقل (وقل) عطف على قل الأول (سبع) ظرف لقل الثانية (مرات) أي تارات (أعوذ) أعتصم وأتحصن (بعزّة الله) أي بغلبته (وقدرته) أي صفته الأزلية القادر بها على كل ممكن (من شر ما أجد) أي من الألم (وأحاذر) أي أحذر والمغالبة للمبالغة والإتيان بالذكر المذكور ليسرى أثره في الأعضاء السبعة. قال الطيبي، تعوذ من مكروه ووجع هو فيه ومما يتوقع حصوله في المستقبل من حزن وخوف فإن الحذر الاحتراز عن الخوف (رواه مسلم) والأربعة أيضاً.

6906 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي قال: من عاد مريضاً لم يحضر أجله) أي لم تتم مدة عمره (فقال: عنده سبع مرات) كلاهما ظرفان للقول والأول مكاني والثاني زماني (أسأل الله العظيم) والإتيان به لبيان أنه لا يتعاظم عليه مطلوب لعظمته (ربّ العرش العظيم) بالجرّ على أنه صفة العرش، وفي نسخة مصححة من «الحصن» لابن الجزري بنصبه على أنه صفة لربّ (أن يشفيك) بفتح التحتيتين وهو ثاني مفعول أسأل (إلا عافاه الله) استثناء من «من» الشرطية العامة كأنه قال: ما عاد أحد مريضاً فقال كذا إلا عافاه الله والمغالة وللمبالغة: أي أعطاه عافية تامة (من ذلك المرض) ويشمل الوعد ما ينشأ عنه ففيه عافية من قيل عنده ذلك من مرضه القائم به ومما يتسبب عنه، ويحتمل أن يكون قاصراً عليه دون ما ينشأ عنه والله أعلم (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن) وكذا رواه النسائي وابن حبان الحاكم في «مستدركه» كما أشار إليه المصنف بقوله (وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط البخاري) أي مرويّ برجال روى عنهم البخاري في «صحيحه» الحديث الصحيح ورواه أيضاً ابن أبي شيبة في «مصنفه» . 7907 - (وعنه أن النبي دخل على أعرابيّ) منسوب إلى الأعراب بفتح فسكون وهم سكان البادية، قال الشيخ زكريا في «التحفة» : واسمه قيس بن أبي حازم بالمهملة والزاي (يعوده وكان إذا دخل على من يعوده) قال: وفي رواية البخاري فقال له بزيادة الفاء أوله

والظرف بعده (لا بأس) بالهمزة على أصله ويجوز تسهيله ألفاً، وقد أجاز السوسى إبداله وإبدال مثله ألفاء مطلقاً وهمزة عند الوقف (طهور) بفتح أوله ويجوز ضمه وهو مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هذا: أي مرضك مطهر لذنبك مكفر لعيبك واقتصر عليه لكونه الأكثر، وإلا فقد يكون أيضاً سبباً لرفع الدرجات في العقبى أو لعلوّ المقامات فيها في الدنيا لأن الرياضيات تنتج الحالات والكشوفات (إن شاء الله تعالى) أي إن تعلقت المشيئة بتطهيره بذلك، وجملة «كان» حالية من فاعل دخل والجملة الشرطية في محل نصب خبر كان، وقد أورده ابن الجوزي في «الحصن» مكرراً، وعزاه لتخريج البخاري والنسائي وهو في باب العيادة من البخاري بلا تكرار فلعله للنسائي (رواه البخاري) . 8908 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن جبريل أتى النبي فقال: يا محمد) في ندائه باسمه إيماء إلى أن الخطاب بقوله تعالى: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً} (النور: 63) متوجه للمكلف من الثقلين (اشتكيت) لعل التاء فيه للمبالغة في الشكوى. كما يومىء إليه حديث «أشد الناس بلاء الأنبياء (قال نعم) فيه جواز الإخبار بالمرض على طريق بيان الواقع من غير تضجر ولا تبرم (قال باسم الله) قدمه على متعلقه وهو قوله (أرقيك) بفتح الهمزة وكسر القاف اهتماماً واختصاصاً كما في بسم الله مجراها، وعلق به أيضاً قوله (من كل شيء يؤذيك) أي يوصلك إلى المكروه، ثم بين إبهام شيء بقوله (من شرّ كل نفس) خبيثة أمارة بالسوء ولا ينافي هذا قوله تعالى: {والله يعصمك من الناس} (المائدة: 6) بفرض تأخره عنه لأن الذي عصم منه هو إزهاق الروح ونحوه لا مطلق الإيذاء، لأنه لم يزل يؤذي إلى آخر حياته زيادة في إعلاء رتبه وتشريفاً للسالكين

سننه من بعده من أمته (أو) الظاهر أنها بمعنى الواو، وإنما ذكر هين مع أن المراد ما يعمهما وغيرهما لبيان أخص أنواع الأذى وحينئذ يصح بقاء «أو» على حالها إشارة إلى أن الأخص أحد هذين (عين كل حاسد) عدل إليه عن معيان الذي هو القياس، إذا لا يلزم من الحاسد أن يكون معياناً إشارة إلى أن الغالب أن المعيان لا تؤثر عينه إلا بعد استحسان الشيء في نفسه الخبيثة حسداً لصاحب ذلك الشيء. وقال المصنف في «شرح مسلم» : قيل يحتمل أن المراد بالنفس نفس الآدمي. ويحتمل أن المراد بها العين فإن النفس تطلق عليها، ويكون قوله أو عين حاسد من باب التوكيد بلفظ مختلف أوشك من الراوي في لفظه اهـ. ويحتمل أن يكون الظرف بدلاً من قوله من شيء ما بدل بعض من كل، ويحتمل أن يكون متعلقاً بقوله يؤذيك ومن فيه حينئذ للابتداء (الله يشفيك) بفتح التحتية كما تقدم قريباً (باسم الله أرقيك) كرره تأكيداً تنبيهاً على أن الرقي لا تنبغي أن تكون إلا بأسماء الله وأوصافه وذكره، فببركة ذلك يرتفع ما يؤذن في رفعه من الضرر (رواه مسلم) . 9909 - (وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما: أنهما شهدا على رسول الله أنه قال: من قال لا إله إلا الله والله أكبر صدقه ربه) وبين كيفية تصديقه بقوله على سبيل عطف البيان والتفسير (فقال: لا إله إلا أنا وأنا أكبر) أي فإتيانه تعالى بمثل ما قال العبد بمعناه تصديق له (وإذا قال) أي الشخص المدلول عليه بأداة الشرط (لا إله) أي لا معبود بحق في الوجود (إلا الله وحده) منفرداً في ذاته وفي أوصافه (لا شريك له) أي في ملكه ولا في فعله (قال) أي الله مصدقاً له نظير ما قبله (لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي، وإذا قال لا إله إلا الله له) دون غيره (الملك) بضم الميم: أي التصرف والقهر وكل ملك مالك ولا عكس، وهو بمعنى قوله فيما قبله لا شريك له (وله) دون غيره (الحمد) إذ هو الثناء على الجميل الاختياري، وهو الفاعل لجميع ذلك الموجد له، والموجد على يده إنما هو مظهر فعله سبحانه، فعاد جميع الحمد إليه وقصر عليه كما يؤذن به تقديم ما حقه التأخير فيهما (قال)

146 ـــ باب استحباب سؤال أهل المريض عن حاله

أي الله عزّ وجل مصدقاً لعبده (لا إله إلا أنا لي الحمد ولي الملك، وإذا قال: لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله) عطف جملة الحوقلة على جملة التوحيد وذلك لتلازمهما وعدم انفكاك مضمون كل منهما عن مضمون الآخر، إذ الممكن لا بد له من موجد ومنه الحول والقوة، وليس ذلك الموجد إلا إله، فإذا لم يكن الإله إلا هو سبحانه وتعالى فيلزم أن لا حول ولا قوة لغيره (قال) أي الله (لا إله إلا أنا ولا حول ولا قوة إلا بي) ثم الذي وقفت عليه في الأصول ضبط «حول» و «قوة» فيهما بالفتح على إعمال «لا» فيهن وكأنه لأنه الرواية (وكان) يعني النبي وهو عطف على قال فيكون من جملة ما حكياه (يقول من قالهن في مرضه ثم مات) أي فيه (لم تطعمه) بفتح الفوقية والمهملة (والنار) وهذا كناية من عدم دخوله إليها، ثم يحتمل أن يراد لا يدخلها دخول تخليد وتأبيد، ويحتمل أن يتسبب عنه بفضل الله تعالى من حسن الخاتمة ما يدخل به قائله الجنة مع الفائزين وهو المتبادر من متن الحديث (رواه الترمذي) في الدعوات من «جامعه» (وقال: حديث حسن) ثم أشار إلى أن شعبة قد رواه عنهما بنحوه ووقفه عليهما. 146 - باب استحباب سؤال أهل المريض عن حاله وذلك لما فيه من العناية بحال المريض والاحتفال بأمره وإدخال السرور عليه. 1 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه خرج من عند رسول الله في وجعه الذي توفي فيه فقال الناس: يا أبا الحسن كيف أصبح رسول الله؟) يؤخذ منه استحباب السؤال عن حال المريض إذا عسر الوصول إليه لعارض

كغلبة مرض أو شرب دواء فيسن سؤال أهله حينئذ عن حاله، قال ابن حجر الهيتمي: وهذا الندب وإن لم يصرح به أصحابنا لكنه ظاهر المعنى لأن المريض إذا بلغه ذلك سرّ به (قال: أصبح بحمد الله) أي متلبساً بحمد الله (بارئاً) اسم فاعل من البرء خبر بعد خبر أو حال ضمير أصبح ويجوز عكسه، والمعنى قريباً من البرء بحسب ظنه، أو للتفاؤل أو بارئاً مما يعتري المريض من قلق وغفلة. وفيه أن ينبغي لمن يسأل عن حال المريض أن يجيب بمثل ما ذكره فيه مما يشعر برضا المريض بما هو فيه عن الله تعالى، وأنه مستمرّ على حمده وشكره لم نغيره عنه شدة ولا مشقة، وبما يؤذن بخفة مرضه وقرب عافيته: قال ابن حجر أيضاً: وهذا وإن لم يصرح به أصحابنا لكنه واضح (رواه البخاري) في الاستئذان، وأخرجه في المغازي أيضاً من وجهين وزاد بعد بارئاً، فقال العباس: «والله إني لأرى رسول الله سيتوفى من وجعه هذا، وإني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت» الحديث. 147 - باب ما يقوله من أيس بالبناء للفاعل (من حياته) أي بظهور علامات الموت التي لا يتخلف عنها عادة. 1911 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله) وفي نسخة: (وهو مستند إلى) جملة حالية من مفعول سمعت وجملة (يقول) يصح كونها حالاً منه أيضاً أو من مجرور إلى فهي مترادفة أو متداخلة (اللهم اغفر لي) وهذا منه خضوع لمقام الربوبية وإلا فهو معصوم من جميع الذنوب، أو تشريع للأمة وتنبيه على أن حق مثل هذا المطلب ألا يغفل عنه المستيقظ حالتئذ لأنها حالة الانتقال وساعة الارتحال (وارحمني) ورحمة كل

شيء بحسب ما يليق به، فأعظم الرحمات ما منحه نبيه مما لا يحيط به بيان، وظاهر أن الرحمة فيها مجاز مرسل تبعي، وقد صرح العصام بأنه كما توصف الاستعارة بالتبعية وهي ما كان في الحرف أو المشتق يوصف به المجاز المرسل، قال: ومنه قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة} (المائدة: 6) أي إذا أردتم القيام إليها (وألحقني) بقطع الهمزة (بالرفيق الأعلى) قيل المراد به الملائكة المقرّبون والعباد الصالحون بالمعنى الأعمّ وهو الوجه الأتم المناسب لما جاء في قول يوسف {توفني مسلماً وألحقني بالصالحين} (يوسف: 101) وفي السلاح لابن همام: هم الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون المذكورون في قوله تعالى: {وحسن أولئك رفيقاً} (النساء: 69) ويؤيده ما جاء في الحديث الصحيح مبيناً «فجعل يقول مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين» الخ. والحديث يفسر بعضه بعضاً اهـ. قال القاري عن بعضهم: وهو المعتمد، ومعنى كونهم رفيقاً بقاؤهم على طاعة الله تعالى وارتفاق بعضهم ببعض، ونكتة إفراد هذه الكلمة الإشارة إلى أن أهل الجنة يدخلونها على قلب رجل واحد. وقيل معناه: الإلحاق بالله تعالى فإن من أسمائه الحسنى الرفيق، والمراد بالأعلى الموصوف به أعلى علوّ المكانة لا المكان. قال في الحرز وهذا هو الأنسب بالمصطفى آخر كلامه في طلب المولى كما أنه أول من قال بلى في جواب ألست بربكم في الميثاق الأعلى (متفق عليه) ورواه الترمذي والإسماعيلي وابن حبان. 2912 - (وعنها قالت: رأيت رسول الله وهو بالموت) أي متلبس بمقدماته (وعنده قدح فيه ماء) الجملتان الأوليان حالان من مفعول رأيت والثانية حال من الأولى، وأما قوله فيه ماء فهي في محل الصفة للمبتدأ إن أعرب الظرف خبراً مقدماً وما مبتدأ مؤخراً، فإن

148 ـــ باب استحباب وصية أهل المريض

أعرب الظرف صفة فماء فاعله (وهو يدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء) الذي بيده من القدح وذلك للحرارة التي يجدها من مزاولة ما كان فيه (ثم يقول: اللهم أعني على غمرات) بفتح المعجمة والميم كسجدة وسجدات: أي شدائد (الموت) التي هي لشدتها تكاد تغمر: أي تغطى عليه وتستره (وسكرات) بفتح أوليه أيضاً (الموت) كذا هو في الأصول وسكرات بالواو: أي شدائد مقدماته التي يقوي على الروح حتى يغيبها عن إدراكها وقد صح «أنه كان يعمى عليه من مرض موته» وقد ألف الشيخ محمد البكري رسالة سماها «القول الأجلّ في حكمة كرب المصطفى عند حلول الأجل» لخصناها في «شرح الأذكار» (رواه الترمذي) وكذا رأيته في الجنائز من «جامعه» في أصلين مصححين ثم رأيته في المشكاة بلفظ «أعنى على منكرات الموت أو سكرات الموت» وقال: رواه الترمذي وابن ماجه ولعله لفظ ابن ماجه، وعزوه للترمذي باعتبار أصل الحديث، وسكت المصنف عن نقل قول الترمذي في رتبة الحديث على خلاف عادته سهواً، قال الترمذي: هذا حديث غريب. 148 - باب استحباب وصية أهل المريض مصدر مبني للمفعول مضاف إليه: أي أن يوصوهم (ومن يخدمه بالإحسان إليه) بلين الكلام وإظهار البشر وإعطائه المطلوب (واحتماله) على ما قد يوقعه فيه المرض من سيء الكلام (والصبر على ما يشقّ من أمره وكذا الوصية بمن قرب سبب موته بحد) نحو زنا (أو قصاص ونحوهما) الأولى ونحوه لأن العطف فيما قبله بـ «و» وهي لأحد الشيئين. 1913 - (عن عمران بن حصين) بضم المهملة وفتح الثانية وسكون التحتية (رضي الله عنها أن امرأة) لم أقف على من سماها وهي واحدة نسوة من معناها (من جهينة) بضم

الجيم وفتح الهاء والنون وسكون التحتية بينهما: وعند مسلم في رواية «من غامد» قال المصنف في شرحه: وغامد بالغين المعجمة وبعد الألف ميم فدال مهملة. بطن من جهينة (أتت النبي وهي حبلى من الزنى) من فيه ابتدائية أو تعليمية (فقالت: يا رسول الله أصبت حداً) أي موجبه ومقتضيه. ففيه مجاز مرسل من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم (فأقمه على) وذلك لتبالغ في تطهير نفسها من دنس ذلك الذنب الذي تطهرت منه بالتوبة إذ لولاها لما سمحت بنفسها (فدعا نبي الله وليها) أي قريبها القائم عليها (فقال: أحسن إليها) أمره بذلك للخوف عليها منه لما أن العار يلحقهم من الغيرة ولحوق العار بهم ما يحملهم على أذاها، فأوصى بها تحذيراً من ذلك، ولمزيد الرحمة بها لأنها تابت وحرض على الإحسان إليها لما في قلوب الناس من النفرة من مثلها وإسماعها الكلام المؤذي، فنهى عن ذلك كله كما أشار إليه المصنف (فإذا وضعت فأثنى بها) إنما وجه الأمر إليه بذلك ليحمله على الاهتمام بحفظها ودفع الموبقات عنها (ففعل) أي الرجل (فأمر بها النبي) أي بعد استغناء ولدها عنها (فشدت) وفي رواية النسائي وابن ماجه «فشكت» بالكاف بدل الدال (عليها ثيابها) لئلا ينكشف شيء من بدنها عند رجمها (ثم أمر بها فرجمت) وهي معنى قوله في رواية النسائي فرجمها، ويحتمل أنه ابتدأ بالرجم فرجمها الناس بعد فيكون كل من الروايتين بعض ما وقع. وفيه دليل على أن ذلك موقوف على إذن الإمام فيه فمن افتات فيه عليه عزر (ثم صلى عليها) وعلل ذلك في «صحيح مسلم» بأنها «تابت توبة لو قسمت على أهل المدنية لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله عز وجل» . وفيه الصلاة على المقتول حداً وأن الحد طهرة له من دنس الذنب (رواه مسلم) في الحدود ورواه أبو داود والترمذي في الحدود، وقال الترمذي: صحيح أيضاً، ورواه النسائي في الجنائز وفي الرجم، والحديث مر شرحه بكماله في باب التوبة.

باب جواز قول المريض أنا وجع

باب جواز قول المريض أنا وجع بكسر الجيم: أي مريض متألم كما في «المصباح» اسم فاعل من وجه من باب علم (أو شديد الوجع) بفتح أوليه من إضافة الصفة إلى الموصوف (أو موعوك) أي محموم (أو وا رأساه) هو مندوب والمندوب المنادى المتفجع عليه نحو واعمراه، أو المتوجع منه نحو وارأساه والهاء فيه للوقف فإن وصلت حذفتها، ويجوز إثباتها في الضرورة، ويجوز حينئذ كسرها على أصل التخلص من التقاء الساكنين وضمها وتشبيهاً بهاء الضمير (ونحو ذلك، وبيان أنه لا كراهة في ذلك إذا لم يكن على وجه التسخط) أي تكلف السخط مما نزل به وكأنه أشار بذلك إلى أن من شأن المؤمن ألا يبدو منه غضب امتحان المولى سبحانه له، وأن ما يظهر منه على بغض كأنه تكلف صدر عن غير سجيته (وإظهار الجزع) وفي تعبير المصنف بالجواز أولاً وعدم الكراهة ثانياً إيماء إلى أن الأفضل والأعلى الصبر على ما نزل به وعدم إبرازه وإظهاره وما فعله المصطفى فهو على وجه التشريع وبيان جوازه كما فعل التداوي لذلك وإن كان تركه توكلاً أعلى وأغلى. 1914 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: دخلت على النبي وهو بالبناء للمفعول: أي وعك الحمى (فمسته) بكسر المهملة الأولى وجاء أيضاً بفتحها من باب قتل: أي أفضيت إليه بيدي من غير حائل، كذا قيدوه، قاله في «المصباح» (فقلت إنك لتوعك) بالبناء للمفعول (وعكاً) بسكون العين المهملة مصدر مبني للمفعول (شديداً) وعرف ذلك بما أصاب يده عند مسه جسده (قال أجل) بفتح الجيم وسكون اللام قال في «القاموس» حرف جواب كنعم إلا أنه أحسن منه في التصديق ونعم أحسن منه في الاستفهام اهـ (كما يوعك رجلان منكم) وذلك زيادة في درجته وإعلاء رتبته كما صرح به في الحديث «فقلت ذلك أن لك أجرين، فقال رسول الله أجل» الحديث، وسكت عنه المصنف

لعدم تعلق غرض الترجمة به (متفق عليه) أخرجه البخاري في الطب ومسلم في الأدب وكذا رواه فيه النسائي، وقد سبق الحديث مشروحاً في باب الصبر. 2915 - (وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه) سبقت ترجمته في باب الإخلاص (قال جاءني رسول الله يعودني من وجع اشتد بي) وكان ذلك بمكة عام حجة الوداع كما صرح به البخاري في رواية له في أبواب الهجرة (فقلت: بلغ بي ما ترى) يحتمل أن يكون «ما» فاعل بلغ ويكون المفعول محذوفاً، ويحتمل كونها مفعولاً به والفاعل مستتر يعود إلى الوجع المدلول عليه بالمشاهدة (وإناذو) أي صاحب (مال) أي عظيم كما يومىء إليه إضافة ذو الأبلغ من «صاحب» إليه (ولا ترثني إلا ابنتي) لعلها ابنته عائشة التي روى البخاري الحديث من طريقها عنه في باب المرضى (وذكر الحديث) وفيه الإذن بالوصية بالثلث والإيماء إلى طلب النقص منه وشاهد الترجمة من الحديث إقرار النبي سعداً على قوله بلغ بي ما ترى، ولو كان منهياً عنه ولو تنزيهاً لنهاه كما نهى بشيراً عن تخصيص ولده النعمان بعطية وعن باقي إخوته بامتناعه عن الشهادة على ذلك وقوله لا أشهد على جور (متفق عليه) رواه البخاري في الجنائز والهجرة والمغازي والطب والدعوات والفرائض قاله المزي، وتعقبه الحافظ ابن حجر بأنه لم يجده فيه وإنما وجده في كتاب الإيمان باختصار اهـ. ورواه مسلم في الوصايا، وكذا رواه فيه أبو داود والترمذي، وقال الترمذي: حسن صحيح ورواه فيه النسائي وابن ماجه في الوصايا.

150 ـــ باب استحباب تلقين المحتضر

3916 - (وعن القاسم بن محمد) بن أبي بكر الصديق القرشي التيمي، قال الحافظ: هو ثقة وهو أحد الفقهاء بالمدينة، قال أيوب: ما رأيت أفضل منه وهو من الثالثة: أي من كبار التابعين مات سنة ستّ ومائة على الصحيح خرّج عنه أصحاب الستة، وقد نظم بعض المتقدمين أسماء فقهاء المدينة السبعة فقال: ألا كل من لا يقتدي بأئمة فقسمته ضيزي عن الحق خارجه فخذهم عبيد الله عروة سالم سعيد أبو بكر سليمان خارجه وقد نظمت أسماءهم أيضاً فقلت: عبيد الله خارجة وعروه أبو بكر سعيد ثم سالم سليمان همو فقهاء طيبة بعد التابعين أولى المكارم (قال: قالت عائشة رضي الله عنها وارأساه، فقال النبي: بل أنا وارأساه) فيه دليل الترجمة في موضعين: الأول من المرفوع والثاني من الموقوف على عائشة كما تقدم في نظيره من قول سعد من إقرره (وذكر الحديث، رواه البخاري) في كتاب المرضى. 150 - باب استحباب تلقين المحتضر بالبناء للمفعول: أي من حضره الموت (لا إله إلا الله) ليكون آخر كلامه فيفوز بالوعد المرتب عليه، واستغنى المصنف بما أورده من الأحاديث الدالة على استحبابه عن التصريح به. 1917 - (عن معاذ رضي الله عنه قال: قال النبي من كان آخر كلامه) بالنصب خبر كان

مقدماً واسمها قوله (لا إله إلا الله) لأنه أريد بها لفظها فصارت كلمة، بل إسماً وعلماً، ويجوز العكس (دخل الجنة) أي بعد التعذيب إن عذب، ففيه الوعد بموت قائل ذلك على الإسلام، ويحتمل أن يراد دخلها ابتداء مع الفائزين، ويؤيده حديث أبي يعلى الآتي وهذا ما استظهره عياض (رواه أبو داود والحاكم) في «المستدرك» (وقال صحيح الإسناد) ورواه: أحمد في «الجامع الكبير» للسيوطي، وأخرجه الطبراني في «الأوسط» من حديث علي ابن أبي طالب «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله لم يدخل النار» وأخرجه أبو يعلى وابن عساكر في «تاريخه» من حديث «من كان آخر كلامه عند الموت لا إله إلا الله وحده لا شريك له هدمت ما كان قبلها من الذنوب والخطايا» وبيض في «الجامع» لصحابيه في روايتهما. 2918 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله لقنوا موتاكم) أي الآيلين إلى الموت فسماهم بذلك مجازاً مرسلاً أو لأنهم صاروا في حكم الأموات، وقد اقتصر عليه التوربشتي، وأجاز في حديث «اقرءوا على موتاكم يس» حمله على ذلك وعلى حقيقته فتقرأ عليه بعد موته في بيته ومدفنه (لا إله إلا الله) وجرى قوم على حقيقة اللفظ وعليه أصحابنا وجمع من الأئمة، فاستحبو التلقين بعد الموت وبعد الدفن، وقد ألف فيه الحافظ السخاوي مؤلفاً نفيساً (رواه مسلم) وأحمد والأربعة كلهم في حديث أبي سعيد ورواه مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة والنسائي عن عائشة كذا في «الجامع الصغير» . قال السخاوي في مؤلفه في التلقين: وهو عند ابن حبان من حديث أبي هريرة، وفيه من الزيادة قوله «فإنه من كان آخر كلامه عند الموت لا إله إلا الله دخل الجنة يوماً من الدهر وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه» وعند الطبراني من حديث ابن عباس مرفوعاً «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله، فإنه ليس من مسلم يقولها عند الموت إلا نجته» وجاء كذلك من طرق عديدة وهو مؤيد لحمل الموتى على المشارفين له، ومن جملة من حمله على ذلك من الشافعية العزّ بن عبد السلام في «فتاويه» . قال العراقي في «شرح الترمذي» في قوله لقنوا موتاكم: هل الأولى حمله على الحقيقة

151 ـــ باب ما يقوله بعد تغميض الميت

فيكون المراد به تلقين الميت بعد الموت لأن إطلاق اسم الميت عليه قبل موته مجاز والحقيقة مقدمة على المجاز أو الأولى حمله على المجاز لما دل عليه لفظ حديث أبي هريرة عند ابن حبان «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة» فإن هذا يدل على تلقين المحتضر وهو قرينة صارفة للفظ عن الحقيقة وعليه حمله المصنف: يعني الترمذي وغيره اهـ. ومعتمد مذهب الشافعية التلقين بعد الموت كما نقله المصنف في «المجموع» عن جماعة من الأصحاب. قال السخاوي: وممن نص على استحبابه القاضي حسين والمتولي والشيخ نصر المقدسي والرافعي وغيرهم، ونقل حسين عن أصحابنا مطلقاً، وقال ابن الصلاح، هو الذي نختاره ونعمل به، قال السخاوي وقد وافقنا المالكية على استحبابه أيضاً، وممن صرح به منهم القاضي أبو بكر بن العربي قال: وهو فعل أهل المدينة والصالحين والأخيار، وجرى عليه العمل عندنا بقرطبة. وأما الحنفية فاختلف فيه مشايخهم كما في المحيط من كتبهم، وكذا اختلف فيه الحنابلة اهـ. ملخصاً. 151 - باب ما يقوله بعد تغميض الميت 1919 - (وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: دخل رسول الله أبي سلمة) هو عبد الله بن عبد الأسد المخزومي الصحابي الجليل (وقد شقّ بصره) قال التوربشتي: بفتح الشين وضم الراء إذا نظر إلى شيء لا يرتد إليه طرفه، وضم الشين منه غير مختار. قال ابن السكيت: ولا يقال شق الميت بصره، وقد اختصر في هذا المقام لكنه بسطه المؤلف فقال في «شرح مسلم» هو بفتح الشين، ورفع بصره فاعل على شق، كذا ضبطناه وهو المشهور وضبطه بعضهم بضره بالنصب وهوصحيح أيضاً والشين مفتوحة بلا خلاف. قال القاضي: قال صاحب الأفعال: يقال شق بصر الميت وشق الميت بصره ومعناه شخص كما في الرواية الأخرى. وقال ابن السكيت في الاصطلاح والجوهري حكاية عن ابن السكيت: يقال شق بصر الميت ولا يقال شق الميت بصره وهو الذي حضره الموت وصار ينظر إلى الشيء لا يرتد إليه طرفه (فأغمضه) لئلا يتشوه منظره (ثم قال: إن الروح إذا قبض) بالبناء

للمفعول (تبعه البصر) أي إذا خرج الروح من الجسد تبعه البصر ناظراً أين نذهب. قال الحافظ: وفي فهم هذا المقام دقة لأن البصر إنما يبصر ما دام الروح في الجسد، فإذا فارقه تعطل كغيره من الإحساس، والذي ظهر لي فيه بعد النظر ثلاثين عاماً أنه محمول على أن المراد خروج الروح من أكثر الجسد مع بقائه في الرأس والعين، فإذا خرج الأكثر من الفم ولم يخرج الباقي نظر البصر إلى القدر الخارجي فيكون معنى قوله إذا قبض أخذ في القبض ولم ينته، أو على ما ذكر كثير من العلماء من أن للروح اتصالاً بالبدن وإن خرجت فترى وتسمع وترد السلام، فيكون هذا الحديث من أقوى الأدلة لذلك اهـ ملخصاً. وفيهما نظر إذا الأول مجاز والثاني إنما فيه بقاء إدراك حاسة البصر الذي الكلام فيه وفي شرح المنهاج لابن حجر الهيتمي يحتمل أن المراد من قوله تبعه البصر أن القوة الباصرة تذهب عقب خروج الروح فحينئذ تجمد العين ويقبح منظرها، ويحتمل أنه يبقى فيه عقب خروج الروح شيء من البخار الغريزي فيشخص بذلك ناظراً إلى أين تذهب. ولا بعد في هذا لأن حركته حينئذ قريبة من حركة المذبوح، ويحكم على الإنسان مع وجودها بسائر أحكام الموتى اهـ. والأول من وجهية أقرب، وقد سبقه إليه التوربشتي في «شرح المصابيح» ، وعلل الإغماض بوجه آخر فقال: ولذا أغمض لذهاب فائدة الانفتاح بذهاب البصر عند ذهاب الروح، وذكر احتمالاً ثانياً هو أن من حضره الموت ينظر إلى روحه نظر شزر لا يرتد إليه طرفه حتى تضمحل بقية القوة الباقية بعد مفارقة الروح الإنساني الذي يقع به الإدراك والتمييز دون الحيواني الذي به الحس والحركة وغير مستنكر من قدرة الله تعالى أن ينكشف عنه الغطاء ساعتئذ حتى يبصر ما لم يكن يبصر، وهذا الوجه في حديث أبي هريرة أظهر، وهو أيضاً صحيح أخرجه مسلم في «صحيحه» عنه مرفوعاً «ألم تروا أن الإنسان إذا مات شخص بصره، قالوا بلى؟ قال فذلك حين يتبع بصره نفسه» اهـ (فضج) بفتح الضاد المعجمة وتشديد الجيم أي رفع الصوت بالبكاء وصاح (ناس من أهله) من هول ما سمعوا ووقع منهم دعاء على أنفسهم كما أومأ إليه بقوله (فقال لا تدعو على أنفسكم

إلا بخير) أي لا يقل أحدكم ويلي أو الويل أو الشرّ لي أو نحو ذلك، وقيل معناه: لا تدعوا على الميت بما لا يرضاه فترجع تبعته عليكم والأول بدليل قوله (فإن الملائكة) أي الحاضرين حينئذ (يؤمنون) بتشديد الميم: أي يقولون آمين: أي استجب (على ما تقولون) أي من الدعاء ودعاؤهم مجاب لما لهم من علوّ الاقتراب فلا تدعوا: إلا بما تحبون أن تجابوا إليه (ثم قال: اللهم اغفر لأبي سلمة) ذكره بكنيته دون اسمه وهو عبد الله لأنه اشتهر بها (وارفع درجته) وهذا أحسن ترتيب لأن الأول من باب التخلية بالمعجمة والثاني من باب التحلية بالمهملة، وفيه أن الأوزار تتقاعد بصاحبها عن رفعة المنار والمراد واجعل له درجة علية عندك (في المهديين) بتشديد الياء الأولى: أي الذين هداهم الله بالإسلام سابقاً والهجرة إلى خير الأنام لاحقاً، والظرف في محل الحال من الضمير المضاف إليه لكون المضاف إليه كجزئه: أي ارفع درجته حال كونه منغمراً في عداد المهديين المشرّفين بالاهتداء (واخلفه) بوصل الهمزة وضم اللام: أي كن له خلفاً وخليفة (في عقبه) بفتح فكسر: أي فيمن يعقبه من ولد وغيره (في الغابرين) بالمعجمة فالموحدة: أي الباقين بدل بإعادة العامل، ويحتمل كونه حالاً مما قبله (واغفر لنا) هذا من باب الخضوع لمقام الربوبية كما تقدم أو هو مجاز عن إعلاء الرتبة من ذكر اللازم وإرادة الملزوم (وله) وقوله (يا ربّ العالمين) مناسبة ختم الدعاء به واضحة إذ من كان موجداً للعالم ماكلاً أمورهم مصلحاً شؤونهم هو الذي يطلب منه ذلك، والعالمين بفتح اللام اسم جميع عالم لاجمعه لاختصاص عالمين بأولى العقول من إنس وجن وملك وشمول عالم لما سوى الله تعالى من سائر الأجناس، والجمع لا يكون أخص من مفرده، وقيل جمعه مراداً به العموم للعقلاء وغيرهم وغلب العقلاء لشرفهم، وعلى الأول ابن مالك في آخرين (وافسح) بهمزة وصل وفتح المهملة الأولى: أي أوسع (له في قبره) يقال فسحت له فسحاً من باب نفع فرجت له عن مكان يسعه كذا في «المصباح» (ونور) أي أوجد النور العظيم المتكاثف (له فيه، رواه مسلم) .

152 - باب ما يقال (باب ما يقال) للمفعول عند الميت بالبناء للمفعول أي ما يطلب قوله من كل حاضر (عند الميت) من قريب وغيره (وما يقوله من مات له ميت) 1920 - (عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله: إذا حضرتم المريض) أي المحتضر كما يومىء إليه السياق، وشك الراوي فيه وفي الميت المشار إليه بقوله (أو الميت) أي من فارق الروح جسده كما هو الحقيقة، وقال في «فتح الإله» : المراد منه هو الأول نظير ما في حديث «لقنوا موتاكم» فجعله من مجاز المشارفة» ومن مجاز الأول (فقولوا خيراً) أي لا إله إلا الله مع الإتيان بالدعاء بخير له أولكم كما يدل هل ما جاء في أحاديث طلب الدعاء في العيادة السابق بعضها، وقوله (فإن الملائكة) أي الموظفين بالاستغفار للمؤمنين وللتأمين على دعائهم (يؤمنون) من التأمين: أي يقولون آمين (على ما تقولون) أي من الدعاء (قالت: فلما مات أبو سلمة) وذلك سنة ثلاث أو أربع، وقول ابن عبد الله: إن النبي تزوّح أم سلمة سنة اثنتين من الهجرة بعد وفاة زوجها، رده في «المفهم» نقلاً عن أبي محمد عبد الله بن على الرشاطى بأنه وهم شنيع، قال: فإن أبا سلمة شهد أحداً وكانت في شوال سنة ثلاث فجرح فيها جرحاً فاندمل ثم انتقض فتوفي منه لثلاث خلون من جمادى سنة أربع، وقد ذكره ابن عبد البرّ في كتابه «الاستيعاب» على الصواب (أتيت النبي فقلت: يا رسول الله إن أبا سلمة قد مات، قال) حذف العاطف لأن مرادها الإخبار بما قال من غير قيد اتصال أو انفصال (قولي: اللهم اغفر لي وله) فيه البداءة بالنفس في الدعاء (وأعقبني) بقطع الهمزة: أي أبدلني وعوضني (منه) أي بدله (عقبى) بوزن بشرى اسم مصدر أعقب (حسنة) أي بدلاً صالحاً (فقلت) أي ما أمرني به (فأعقبني الله من هو خير لي منه) أبدلت «من» من قولها (محمداً) ففيه حصول ثمرة الامتثال بسرعة من غير توان (رواه مسلم

هكذا) أي مثل ما ذكر (إذا حضرتم المريض أو الميت على الشك) وقد تعقب القاري في شرح المشكاة الجزم بالشك، وقال إن أريد بالميت من يؤول إلى الموت فأو للشك وإن أريد به الحقيقة: أي المقابل للحي فأو للتنويع اهـ. والأوجه كما جزم به المصنف إنها للشك. وقد يجاب عنه بأنه قام ما يعلم منه أن المراد بالميت المعنى المجازي فيساوي المريض والشك حينئذ في تعيين أي اللفظين منهما قيل ويقوي أنه لفظ الميت قول المصنف (رواه أبو داود) في الجنائز (وغيره) من باقي أصحاب السنن الأربعة كما ذكره المزي قال: وقال الترمذي: حسن صحيح، قال الحافظ في تخريج أحاديث «الأذكار» ، وأخرجه كذلك البيهقي في طريقين (الميت بلا شك) قال الحافظ في تخريج أحاديث «الأذكار» : ورويناه في الغيلانيات مقتصراً على المريض من غير شك. 2921 - (وعنها قالت سمعت رسول الله يقول: ما من) مزيدة للتأكيد (عبد) وفي المشكاة بدله مسلم (تصيبه مصيبة) متناولة لقليل المصيبة وكثيرها وعظيمها وحقيرها لكونها نكرة في عموم النفي (فيقول) زاد في رواية «ما أمر الله به» أي تلويحاً للثناء على قائله الثناء العظيم المستلزم لطلبه منه (إنا) أي ذاتنا وجميع ما ينسب إلينا (لله) ملكاً وخلقاً فيتصرف فينا كيف يشاء فالكل عوار مستردة كما أشار إليه بقوله (وإنا إليه راجعون) فعلينا الصبر على المصائب وتدير حقائق هذه الآية ليسهل علينا مزاولة كل ما أصابنا، وليس فائدة الأمر للمصاب قول هذا الذكر بمجرد لفظه لأنه لا ينفع وحده، وإنما فائدته مع تدبره حق التدبر فإنه الدواء النافع الحامل على كمال الصبر بل وحقائق الرضا (اللهم) ظاهره أن هذا من جملة ما رتب على الإتبان به ما وعد به الأجر (اؤجرني) بسكون الهمزة ووقع لابن مالك في «شرح المشارق» أنه قال بهمزة وصل وهو وهم لأن الهمزة الموجودة فاء

الفعل وهمزة الوصل سقطت للدرج من أجره يأجره أو يأجره بضم الجيم وكسرها: أي أثابه وأعطاء الأجر قاله ابن حجر الهيثمي ويأتي ما في الكسر، والمعنى أعطني الأجر (في مصيبتي) «في» يحتمل كونها بمعنى مع وكونها للسببية والثاني أظهر، والمصيبة كل مكروه ينزل بالإنسان: أي أثبني ثواباً مقارناً لها أو بسببها (وأخلف) من الإخلاف، إذ ما يخلف يقال فيه أخلف عليك وما لا يخلف كالأب إذا مات يقال خلف عليك (لي خيراً منها إلا آجره الله) أي أثابه، في «المصباح» يقال أجره الله أجراً من بابي ضرب وقتل وآجره بالمد لغة ثالثة: أي أثابه لكن في المراقة أنه بالكسر مع القصر غير موجود في النسخ (تعالى في مصيبته وأخلف له خيراً منها) وذلك لاستكانته تحت أقضية مولاه وصبره على ما أتاه والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ومن جاء بالحسنة فله خير منها (قالت: فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله) زاد في رواية عناه قالت: أيّ المسلمين خير من أبي سلمة أول بيت هاجر إلى رسول الله؟ ثم إني قلتها (فأخلف الله تعالى لي خيراً منه) أي من أبي سلمة (رسول الله) عطف بيان أو بدل من مفعول أخلف (رواه مسلم) في الجنائز، قال في سلاح المؤمن: انفرد به مسلم عن أصحاب الستة، وإلا فقد أخرجه أبو عوانة كما قاله الحافظ في تخريج أحاديث «الأذكار» . 3922 - (وعن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله قال: إذا مات ولد العبد) هو شرعاً المكلف ولو حرّاً وعمومه متناول للصغير والكبير (قال الله تعالى لملائكته قبضتم) بفتح

الموحدة وهو على تقدير الاستفهام التقريري لبيان عظم خبره لهم: أي أقبضتم (ولد) بفتح أوليه ويقال بضم فسكون في لغة، قال في «المصباح» : وقيس تجعل المضموم جمعاً للمفتوح كأسد وأسد كما مر (عبدي) الإضافة فيه للتشريف جبراً لما أصابه من المصيبة وتشريفاً له لصبره على أقضية ربه (فيقولون نعم، فيقول) تنبيهاً لهم على عظيم صبره (قبضتم ثمرة فؤاده) أي لبّ لبِّه وخلاصة خلاصته، إذا القلب خلاصة ما في الإنسان وخلاصته اللطيفة الموضوعة فيه من كمال الإدراكات والعلوم التي خلق لها وشرف بشرفها، فلشدة شغف هذه اللطيفة بالولد صار كأنه ثمرتها المقصود منها، وبين بهذه الجملة عظم المصاب وعظم الصبر عليه مع ذلك (فيقولون نعم، فيقول ماذا قال عبدي؟ فيقولون حمدك) أي قال مترقياً عن مقام الصبر إلى مقام الرضا الحمد لله (واسترجع) أي قال «إنا لله إليه راجعون» (فيقول الله ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد) الفاء التفريعية إيماء إلى أن من فقد مثل هذه الثمرة الخطيرة ومع ذلك لم يعدها مصيبة من كل وجه بل من وجه فاسترجع ومنحة من وجه آخر فحمد، حقيق أن يقابل بالحمد حتى في تسمية محله به (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) . 4923 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: يقول الله عز وجل ما لعبدي المؤمن عندي) ظرف لقوله (جزاء) وهو مبتدأ خبره المجرور قبله، والعندية عندية شرف ومكانة لا عندية مكان وبينه وبين عبدي جناس مصحف، وإذا في قوله (إذا قبضت صفيه) ظرفية ويحتمل كونها متضمنة معنى الشرط، والجواب محذوف لدلالة ما قبله عليه، والصفي بفتح فكسر فتشديد: أي حبيبه لأنه يضافيه وده ويخلصه حبه فعيل بمعنى فاعل أو مفعول (من أهل الدنيا) حال أتى به لبيان الواقع (ثم احتسبه) أي بأن يرجو ثوابه

ويدخره عند الله تعالى، وذلك ينبىء عن مزيد الصبر التسليم (إلا الجنة) بالرفع بدل من المبتدأ ويجوز نصبه على الاستثناء (رواه البخاري) في الرقاق، وقد سبق الحديث مشروحاً في باب الصبر أول الكتاب. 5924 - (وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: أرسلت إحدى بنات النبي) وهي زينب كما صرح به ابن أبي شيبة وصوبه غيره (إليه تدعوه وتخبره أن صبياً لها أو ابناً) تقدم أنها أمامة بنت زينب من أبي العاص بن الربيع واستشكل بأن في الحديث لفظ صبيّ أوابن فكيف يطلق ذلك عليها؟ فالراجح أن القضية متعددة كان المريض في إحداهما الابن واسمه عليّ وهو المشار إليه بما في هذا الحديث، وأخرى كان البنت، وحمله على غيرهما يرد بأن الإخباريين صرحوا أنها لم تلد غيرهما، ثم لا ينافي تفسيرها بأمامة كونها عاشت حتى تزوجها عليّ رضي الله عنه، لأن المراد من قبض في رواية لهما قارب القبض كقولها هنا (في الموت) في مقدماته المعتاد وجوده بعدها (فقال للرسول: ارجع إليها وقل لها: إن لله ما أخذ) مقتبس من قوله تعالى: {إنا لله} (البقرة: 156) (وله ما أعطى) تأكيد مناسب للمقام (وكل شيء) مما أخذه وأعطاه من الآجال والأرزاق التي أخذها وأبقاها (عنده) عندية علم أو مكتوب عند ملائكته وجعل ما عندهم عنده تشريفاً لهم كقوله تعالى: {والله يدعو إلى دار السلام} (يونس: 25) أي وأولياء الله يدعون إليها جعل دعاءهم دعاءه تشريفاً لهم كما أشار إليه البيضاوي (بأجل مسمى) معلوم معين لا يتقدم عليه ولا يتأخر عنه فلا فائدة في الجزع، ولذا قال (فمرها فتصبر) بأن تتحمل مرارة فقده من غير أن يظهر عليها شيء من أنواع الجزع (ولتحتسب) أي تدخر ثواب فقده والصبر عليه عند الله، وكل منهما أمر للغائبة المؤنثة

153 ـــ باب جواز البكاء على الميت بغير ندب

أو الحاضرة نظير فبذلك فلتفرحوا فعلى الأول المبلغ المعنى لا بخصوص اللفظ، وعلى الثاني بخصوصه، وعلى الحضور التذكير باعتبار الشخص وفيه الوصية بالصبر عند البلية قبل وجودها ليستعد لها (وذكر تمام الحديث) السابق مع شرحه في باب الصبر (متفق عليه) . 153 - باب جواز البكاء على الميت بغير ندب بفتح النون فسكون المهملة: تعداد محاسن الميت (ولا نياحة) بكسر النون وتخفيف التحتية والمهملة ومن ذلك قلبت الواو فيه ياء كما في صيام: وهي رفع الصوت بالندب الذي هو ذكر محاسن الميت وإن لم يكن بكلام مسجع، وكذا يحرم أيضاً إفراط رفع الصوت بالبكاء ولو بلا ندب ولا نوح، قاله في «فتح الإله» . (أما النياحة فحرام) أي سواء كان معها بكاء أم لا (وسيأتي فيها باب في كتاب النهي إن شاء الله تعالى. وأماالبكاء فجاءت أحاديث بالنهي عنه وأن الميت يعذب ببكاء أهله عليه) وعقد المصنف في «الخلاصة» باباً لما جاء في ذلك فقال عن عمر رضي الله عنه عن النبي قال «الميت يعذب في قبره بما نيح عليه» متفق عليه، وعن المغيرة مثله، وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال «أغمي على عبد الله بن رواحة فجعلت أخته تبكي واجبلاه واكذا، تعدِّد عليه، فقال حين أفاق، ما قلت شيئاً إلا قيل لي أنت كذا، فلما مات لم تبك عليه» . رواه البخاري. وعن ابن أبي مليكة قال: «توفيت بنت لعثمان بمكة فجئنا لنشهدها وحضرها ابن عمر وابن عباس، فقال ابن عمر لعمرو بن عثمان: ألا تنهى عن البكاء؟ فإن النبي قال: إن الميت ليعذب في قبره ببكاء أهله عليه، فقال ابن عباس: لما أصيب عمر دخل عليه صهيب يبكي يقول واأخاه،

فقال عمر: أتبكي عليّ وقد قال رسول الله: إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه؟ قال ابن عباس: فلما مات عمر ذكرت ذلك لعائشة فقالت رحم الله عمر والّله ما حدث رسول الله «إنّ الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه» ولكن رسول الله قال: «إن الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه» وقالت: حسبكم القرآن {ولا تزر وازرة وزر أخرى} (الأنعام: 164) قال ابن أبي مليكة والله ما قال ابن عمر شيئاً. متفق عليه. وعن عائشة «أنها ذكر لها قول ابن عمر إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه برفعه إلى النبي، فقالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن إنه لم يكذب، ولكنه نسي أو أخطأ إنما مرّ رسول الله على يهودية يبكى عليها فقال: إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها» متفق عليه. وفي رواية «إنه ليعذب بخطيئته أو بذنبه وإن أهله ليبكون عليه الآن» . وعن أبي موسى أن رسول الله قال: «ما من ميت يموت فيقول باكيهم فيقول واجبلاه واسيداه ونحو ذلك إلا وكل الله به ملكين يلهزانه أهكذا أنت؟» رواه الترمذي وقال حسن،. اللهز: الضرب بجمع اليد في الصدر (وهي متأولة) أي مصروفة عن ظاهرها بأن المراد من تعذيبه ما يلحقه من الرقة عليهم حال سماعه بكاءهم، قاله ابن جرير الطبري وغيره. وقال عياض: هو أولى الأقوال، واحتجوا بحديث فيه «أن النبي زجر امرأة عن البكاء على ابنها وقال: إن أحدكم إذا بكى استعبر له صويحبه فيا عباد الله لا تعذبوا إخوانكم» أو كما قالت عائشة رضي الله عنها: إن الكافر أو غير من أصحاب الذنوب يعذب في حال بكاء أهله عليه بذنبه لا ببكائهم، أو بأنهم كانوا ينوحون على الميت ويندبونه بتعديد شمائله ومدحه في زعمهم، وتلك قبائح في الشرع يعذب بها كما كانوا يقولون يا مرمل النسوان ومخرب العمران وميتم الولدان وغير ذلك مما يرونه شجاعة وفخراً وهو حرام (أو محمولة على من أوصى به) جعل المصنف في الخلاصة هذا تأويل الأحاديث المذكورة/ ونقله في «شرح مسلم» عن الجمهور أو أهمل الوصية بتركه فيعذب لتفريطه بالوصية بذلك أو بإهمال الوصية بتركه، أما من أوصى بتركه فلا يعذب به إذ لا صنع له ولا تفريط منه، وحاصل هذا القول إيجاب الوصية بترك ذلك وتعذيب من أهملها أو وصى بفعله (والنهي إنما هو عن البكاء الذي فيه ندب أو نياحة) قال في الخلاصة: أجمعوا على

أن البكاء الذي يعذب به أي على التفصيل السابق فيه هومجرد النياحة لا مجرد دمع العين ونحوه (والدليل على جواز) أي إباحة (البكاء بغير ندب ولا نياحة أحاديث كثيرة منها) . 1925 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله عاد سعد بن عبادة) وكان ذلك في أوائل أعوام الهجرة كما يومىء إليه ما وقع من ابن أبيّ المنافق من الكلام القبيح المذكور في الحديث في الصحيح (ومعه عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم) يحتمل أن يكون معه أبو بكر وعمر أيضاً ولم يذكرهما الراوي لعدم مفارقتهما له إلا نادراً، ويحتمل أنهما لم يكونا حينئذ معه بأن خطرت العبادة له غيبتهما عنه. والّله أعلم والجملة حالية ربطها كل من الواو والضمير (فبكى رسول الله) أي لما رأى من الغلبة التي على سعد فغلبت عليه العبرة التي هي أثر الرحمة التي هو عينها (فلما رأى القوم) أي الحاضرون معه (بكاء رسول الله) بالعيان (بكوا) اقتداء أو تأسياً (فقال: ألا تسمعون) ثم استأنف بقوله (إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب) سواء اجتمعا أو كان كل بانفراد (ولكن يعذب بهذا) أي بما يصدر منه مما حرّم الشارع من ندب أو نياحة أو مبالغة رفع صوت بالبكاء، وكذا يعذب بالتبرم بالقلب والتضجر، ودليل ذلك ما يصدر من لسانه لأنه يعرب عن شأنه (أو يرحم) أو فيه للتنويع: أي أو يرحمه به إن أتى بما فيه صبر واسترجاع وحمد لله سبحانه (وأشار) أي النبي (بيده) مبيناً للمشار إليه بقوله بهذا (إلى لسانه متفق عليه) . 2926 - (وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما: أن رسول الله رفع) بالبناء للمفعول، ويجوز أن يقرأ بالبناء الفاعل (إليه ابن ابنته) زينب، وقد تقدم تعيينه وما فيه من الخلاف في

حديثه قبل هذا (وهو في الموت) أي في مقدماته فلا ينافيه حياته إلى زمن طويل بعد (ففاضت عينا رسول الله) أي كثر دمعها حتى سال، ففيه إسناد مجازي وحذف التمييز: أي دمعاً لدلالة الحال على تعيينه. وفي «القاموس» : فاض الماء يفيض هو ابن عبادة كما تقدم في الحديث بجملته في باب الصبر «ومعه سعد بن عبادة» وليس فيه ابن معاذ ولا ابن أبي وقاص (ما هذا يا رسول الله) سؤال عن سببه وحكمته ووصفه لا عن حقيقته فلذا (قال) في جوابه (هذه) أي الرحمة المداول عليها بتلك العبرة وقد تقدم في باب الصبر فقال هذه (رحمة جعلها الله في قلوب عباده) مفعول ثان لجعل لأنه بمعنى صير: أي من يشاء منهم كما جاء كذلك في رواية وسبقت في باب الصبر (وإنما يرحم الله) أي الرحمة الكاملة كما يومىء إليه إسناد الفعل إلى لفظ الجلالة الذي هو جامع لمعاني الأسماء موضوع لمجرد تعيين الذات المسمى (من عباده الرحماء) جمع رحيم ككريم وكرماء (متفق عليه) . 3927 - (وعن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله دخل على ابنه إبراهيم) في بيت ضيرة أبي سيف وكان من العوالي (وهو يجود بنفسه) في «المصباح» جاد بالمال بذله، وجاد بنفسه: سمح بها عند الموت والجود مستعار من ذلك اهـ. ففي الكلام استعارة تبعية. وفي «فتح الباري» يجود بنفسه: أي يخرجها ويدفعها كما يدفع الإنسان ما يجود به، وكان موت إبراهيم سنة عشر من الهجرة عن ثمانية عشر شهراً، وكان مولده في ذي الحجة من سنة ثمان منها، ووفاته يوم الثلاثاء لعشر خلون من شهر ربيع الأول سنة عشر قاله المصنف في «التهذيب» وغيره، وفي «فتح الباري» وجزم به الواقدي وقال ابن حزم: مات قبل النبي بثلاثة أشهر. واتفقوا على أنه ولد في ذي الحجة سنة ثمان اهـ (فجعلت) من أفعال

الشروع واسمها (عينا رسول الله تذرفان) بسكون الذال المعجمة وكسر الراء من باب ضرب: أي تدمعان (فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله) قال الطيبي: فيه معنى التعجب والواو عاطفة على مقدر: أي الناس لا يصبرون وأنت تفعل كفعلهم كأنه تعجب لذلك منه مع عهده فيه أنه يحث على الصبر وينهى عن الجزع (فقال: يا ابن عوف إنها) أي الحال التي شاهدتها منى (رحمة) على الولد، لا ما توهمت من الجزع اهـ. وفي رواية عن ابن عوف «فقلت: يا رسول الله تبكي أو لم تنه عن البكاء» وزاد فيه «إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت نغمة لهو ولعب ومزامير الشيطان، وصوت عند مصيبة: خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان، إنما هذه رحمة ومن لا يرحم لا يرحم» (ثم أتبعها بأخرى) قيل معناه: أتبع الدمعة الأولى بدمعة أخرى، وقيل أتبع الكلمة الأولى المجملة وهي قوله إنها رحمة بكلمة أخرى مفصلة هي قوله على سبيل البيان (فقال: إن العين تدمع والقلب يحزن) قال الدماميني في «المصابيح» : يجوز في القلب الرفع والنصب. قال ابن المنير: فيه أنه بين أن مثل هذا لا يدخل تحت القدرة ولا يكلف العبد الانكفاف عنه، وذلك لأنه أضاف الفعل إلى الجوارح، كأنها امتنعت على صاحبها فصارت هي الفاعل ولذا قال (ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون) فعبر بصيغة اسم المفعول لا بصيغة الفاعل: أي ليس الحزن من فعلنا ولكنه واقع بنا من غيرنا ولا يكلف الإنسان بفعل غيره (رواه البخاري) وعقد له ترجمة فقال باب قول النبي إنا بك لمحزونون (وروى مسلم) في كتاب الفضائل (بعضه) ولفظه من حديث أنس «فقال أنس: لقد رأيته: يعني إبراهيم يكيد بنفسه بين يدي رسول الله، فدمعت عينا رسول الله وقال: تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، والله يا إبراهيم إنا بك لمحزونون» قال في «فتح الباري» : قوله يكيد قال صاحب العين: إي يسوق بنفسه، وقيل معناه: يقارب بها الموت، وقال أبو مروان: قد يكون من الكيد وهو القيء، يقال منه كاد يكيد شبه تقلع نفسه عند الموت بذلك (والأحاديث في الباب) أي باب إباحة

البكاء المجرد عن نياحة وندب ومبالغة رفع صوت به (كثيرة في الصحيح مشهورة) وشهرتها تغني عن ذكرها، وبالله التوفيق (والّه أعلم) . 154 - باب الكف عما يرى باب الكف عما يرى من الميت من مكروه من الميت من مكروه من تغير لون أو تشويه صورة، نعم إن كان من وقع له ذلك ذا بدعة فلا بأس به ليكون زجراً عن بدعته، أما إذا رأى به أمراً محموداً من إضاءة وإشراق ونحوهما فليذكر ذلك، إلا إن كان من وقع له ذلك ذا بدعة فليكتمه لئلا يقع الناس في بدعته. 1928 - (عن أبي رافع) القبطي (أسلم) بفتح الهمزة وسكون السين المهملة هو اسمه، وقيل اسمه إبراهيم، وقيل ثابت بالمثلثة فالموحدة وقيل اسمه أيو هرمز (مولى رسول الله) قال المصنف في «التهذيب» : شهد أحداً والخندق والمشاهد بعدها، وزوّجه النبي مولاته سلمى فولدت له عبيد الله بن أبي رافع، وشهد أبو رافع فتح مصر، وتوفي بالمدينة قبل قتل عثمان وقيل بعده، وكان أبو راف مملوكاً للعباس فوهبه لرسول الله، فلما أسلم العباس أعتقه رسول الله اهـ. روى له عن رسول الله ثمانية وستون حديثاً، قال ابن الجوزي في «مختصر التلقيح» وقال في البرقي: في بضعة عشر حديثاً، وروى عنه البخاري حديثاً واحداً ومسلم ثلاثة (أن رسول الله قال: من غسل ميتاً فكتم عليه) معطوف على مقدر: أي ورأى منه سوءاً فكتم عليه (غفر الله له أربعين مرة) ولا يعلم عدد ما في كل مرة من الذنب المغفور إلا الستار الغفور (رواه الحاكم) في «المستدرك» (وقال: صحيح على شرط مسلم) زاد في «الجامع الكبير» ورواه البيهقي في «الشعب» وهو حديث فيه فضل الدفن

155 ـــ باب الصلاة على الميت

والكفن. وفي «الجامع الصغير» : أخرج الطبراني من حديث أبي أمامة مرفوعاً «من غسل ميتاً فستره ستره الله من الذنوب» الحديث، وفي «الجامع الكبير» : أخرج الطبراني من حديث أبي أمامة مرفوعاً «من غسل ميتاً فكتم عليه طهره الله من ذنوبه، فإن هو كفنه كساه الله من السندس» وأخرج أبو يعلى والبيهقي وأحمد من حديث عائشة مرفوعاً «من غسل ميتاً فأدى فيه الأمانة ولم يفش عليه ما يكون منه عند ذلك خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ليله أقربكم منه إن كان بعلم، فإن لم يعلم فمن ترون عنده حظاً من ورع وأمانة» وفي «الجامع الكبير» أيضاً: أخرج ابن ماجه من حديث عليّ مرفوعاً «من غسل ميتاً وكفنه وحنطه وحمله وصلى عليه ولم يفش عليه ما رأى منه خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه» . 155 - باب الصلاة على الميت وتشييعه وحضور دفنه وكراهة اتباع بتشديدالفوقية ويجوز تخفيفها، يقال اتبعه بالتشديد إذا سبقه فلحقه، وبالتخفيف أي ألحق به غيره كما يؤخذ من «القاموس» (النساء الجنائز) كراهة تنزيه. (قد سبق فضل التشييع) بقوله في كتاب عيادة المريض في حديث البراء «أمرنا بسبع إلى أن قال: واتباع الجنائز» وبقوله في حديث أبي هريرة عقبه «حق المسلم على المسلم خمس» إلى أن قال: واتباع الجنائز» . 1929 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من شهد الجنازة حتى يصلى) بالبناء للمفعول ونائب فاعله قوله (عليها فله قيراط) قال في «المصباح» : يقال أصله قرط بتشديد الراء لكن أبدل من أحد المضعفين ياء للتخفيف كما في دينار ونحوه، ولذا يرد في الجمع والتصغير إلى أصله فيقال قراريط وقريريط اهـ. قال ابن حجر الهيتمي: حصول هذا القيراط مرتب على الحضور معها من المنزل. وخالف الحافظ في «فتح الباري» فقال بعد أن

ذكر ما تقدم وأنه صرح به المحب الطبري: والذي يظهر لي أن القيراط يحصل أيضاً لمن صلى فقط، لأن ما قيل الصلاة وسيلة إليها، لكن يكون قيراط من صلى فقط دون قيراط من شيع مثلاً وصلى اهـ. قال: وتتعدد قراريط الصلاة بتعدد الجنائز وإن صلى عليهم معاً (ومن شهدها حتى تدفن) أي ويكمل دفنها هذا أصح الأوجه عند إمامنا الشافعي، وقيل غير ذلك، ويترجح ما قلنا أولاً بما جاء عند مسلم «حتى يتفرغ منها» وللرواية الآتية «ويفرغ من دفنها» (فله قيراطان) أي أحدهما قيراط الصلاة، في حديث للطبراني «من تبع جنازة حتى يقضي دفنها كتب له ثلاث قراريط» فعليه. الأول للحضور معها من المنزل قبل الصلاة. والثاني للصلاة، والثالث للتشييع. قال في «فتح الباري» : الإشارة بهذا المقدار إلى الأجر المتعلق بالميت في تجهيزه وغسله وجميع ما يتعلق به، فللمصلي عليه قيراط من ذلك، ولمن شهد الدفن قيراط، وذكر القيراط تقريباً للفهم لما كان الإنسان يعرف القيراط ويعمل العمل في مقابلته وعد من جنس ما يعرف وضرب له المثل بما يعلم، نقله عن ابن الجوزي عن ابن عقيل قال: وليس ما قاله ببيعد. وقد روى الطبراني من طريق عجلان عن أبي هريرة مرفوعاً «من أتى جنازة من أهلها فله قيراط، فإن اتبعها فله قيراط، فإن اتبعها فله قيراط، فإن صلى عليها فله قيراط» وإن اختلف مقادير القراريط ولا سيما بالنسبة إلى مشقة ذلك العمل وسهولته، وعليه فيقال إنما خص قيراطي الصلاة والدفن بالذكر لكونهما المقصودين بخلاف باقي أحوال الميت فإنها وسائل، ولكن هذا يخالف ظاهر الحديث الذي في كتاب الإيمان من «صحيح البخاري» ، فإن فيه أن لمن كان معها حتى يصلي عليها ويفرغ من دفنها قيراطين فقط. ويجاب عنه بأن القيراطين المذكورين لمن شهد. والذي ذكره ابن عقيل لمن باشر الأعمال التي يحتاج إليها الميت فافترقا وقال المصنف وغيره: لا يلزم من ذكر القيراط في العملين تساويهما لأن عادة الشرع تعظيم الحسنة بحسب مقابلها (قيل: وما القيراطان) سأل عن تعيينهما لذكرهما مبهمين ولم يعين في هذه الرواية القائل ولا المقول له. وقد جاء عند مسلم «فقيل: وما القيراطان يا رسول الله» وعنده في حديث ثوبان «سئل رسول الله عن القيراط» وبين أبو عوانة في رواية أن السائل هو أبو هريرة (قال: فمثل الجبلين العظيمين) جاء في رواية للبخاري «مثل أحد» وعند النسائي من طريق الشعبي، وله قيراطان من الأجر كل واحد منهما

أعظم من أحد وفي رواية لمسلم «أصغرها مثل أحد» وفي حديث وائلة عن ابن عدي «كتب له قيراطان من أجر أخفهما في ميزانه يوم القيامة أثقل من جبل أحد» قال ابن المنير: أراد بهذا تعظيم الثواب فمثله بالجبلين العظيمين (متفق عليه) . 2930 - (وعنه أن رسول الله قال: من اتبع جنازة مسلم إيماناً) مفعول له أي تصديقاً بالوعد الوارد فيه (واحتساباً) وقوله (وكان معه) كذا في الأصل والظاهر معها. وإن صحت به الرواية فالتذكير لعود الضمير إلى المضاف إليه (حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها) أي بتمام تسوية التراب على القبر (فإنه يرجع من الأجر بقيراطين) أجر للاتباع وأجر للصلاة عليها مع السير والصبر لتمام الدفن (كل قيراط مثل أحد) قال الطيبي قوله مثل أحد تفسير للمقصود من الكلام، لأن لفظ القيراط مبهم من وجهين، فبين الموزون بقوله من الأجر وبين المقدار منه بقوله مثل أحد.d قال الزين بن المنير: أراد تعظيم الثواب فمثله للعباد بأعظم الجبال خلقاً وأكثرها إلى النفوس المؤمنة حباً لأنه الذي قال في حقه «أحد جبل يحبنا ونحبه» اهـ، ولأنه أيضاً قريب من المخاطبين يشترك أكثرهم في معرفته، وخص القيراط بالذكر لأنه كان أقل ما تقع به الإجارة في ذلك الوقت، أو جرى ذلك مجرى العادة من تقليل الأجر بتقليل العمل (ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن) بالفوقية أي الجنازة باعتبار من عليها إن كانت اسم النعش وإن كانت اسم الميت فالتأنيث باعتبار أنها نفس أو باعتبار لفظ الجنازة (فإنه يرجع بقيراط، رواه البخاري) . 3 - (وعن أم عطية) نسيبة بضم النون وفتح المهملة وسكون التحتية بعدها موحدة

156 ـــ باب استحباب تكثير المصلين

(رضي الله عنه قالت: نهينا) بالبناء للمفعول، والمروي بهذه الصيغة موقوف لفظاً مرفوع حكماً: أي نهانا رسول الله، وقد رواه الإسماعيلي بهذا اللفظ والمراد جماعة النساء (عن اتباع الجنائز) وذلك أنهن يؤمرن بالستر واتباع الجنائز مقتض لكشفهن (ولم يعزم) بالبناء للمفعول: أي لم يؤكد (علينا) في المنع كما أكد علينا في غيره من المنهيات فكأنها قالت: كره لنا اتباع الجنائز من غير تحريم. قال القرطبي: ظاهر سياق حديث أم عطية أن النهي نهى تنزيه وبه قال جمهور أهل العلم. وقال المحب الطبري: يحتمل أن يكون المراد بقولها ولم يعزم علينا: أي كما عزم على الرجال بترغيبهم بحصول القيراط ونحو ذلك والله أعلم (متفق عليه) أخرجاه في الجنائز (ومعناه) أي معنى مجموع الحديث باعتبار قوله «لم يعزم علينا» (ولم يشدد في النهي كما يشدد في المحرمات) أي فيكره اتباعهن لها ولا يحرم. 156 - باب استحباب تكثير المصلين بالمثلثة (على الجنازة) لكونهم شفعاء للميت (وجعل صفوفهم ثلاثة) مفعول ثان لجعل وهو مضاف إلى مفعوله الأول (أو أكثر) أو فيه بمعنى بل. 1932 - (عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله: ما من) صلة لتأكيد النفي (ميت) أي من المسلمين كما في الحديث بعد (يصلي عليه أمة) أي جماعة (من المسلمين) والجملة الفعلية في محل الصفة لما قبله والظرف صفة أمة من فيه بيانية

وقوله (يبلغون مائة) جملة في محل الحال من فاعل يصلي (كلهم) يحتمل أن يكون مبتدأ وخبره «يشفعون» ويحتمل أن يكون تأكيداً معنوياً لفاعل يبلغون، وجملة يشفعون حال منه أو من أمة فهي متداخلة أو مترادفة أو مستأنفة استئنافاً بيانياً (إلا شفعوا) بالبناء للمفعول: أي من أعم الأحوال (رواه مسلم) في الجنائز، ورواه النسائي من حديث ميمونة بلفظه، لكن بإسقاط قوله «يبلغون مائة كلهم يشفعون فيه» . 2933 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ما من رجل مسلم) والتقييد بالرجل لأنه أشرف (يموت) جملة صفة لرجل لعدله فيها (فيقوم على جنازته أربعون رجلاً) أي مصلين عليه مستشفعين له فيها (لا يشركون بالله شيئاً) من الإشراك ومن المعبودين (إلا شفعهم الله فيه، روه مسلم) في الجنائز، ولا مخالفة بين هذا الخبر وما قبله لأن مفهوم العدد غير حجة على الصحيح، وأن الله أخبره بما جاء فيمن صلى عليه مائة ثم زاد الفضل من الله تعالى بحصول مثل ذلك فيمن صلى عليه أربعون فأخبر به، والله أعلم. 3934 - (وعن مرثد) بفتح الميم والمثلثة وسكون الراء بينهما آخره دال مهملة (ابن عبد الله اليزني) بفتح التحتية والزاي بعدها نون أبو الخير المصري ثقة فقيه من كبار التابعين، مات سنة تسعين، خرّج عنه أصحاب الستة كذا في «التقريب» للحافظ (قال: كان مالك بن هبيرة) بضم الهاء وفتح الموحدة والراء وسكون التحتية بينهما ابن خالد بن مسلم السكوني أو الكندي الصحابي (رضي الله عنه) قال في «التقريب» : نزل حمص ومصر، مات في أيام مروان،

روى له عن رسول الله كما في «مختصر التلقيح» أربعة أحاديث، وقال البرقي: له حديثان (إذا صلى على الجنازة فتقال الناس) بتشديد اللام من باب التفاعل والأصل تقالل فسكنت الأولى وأدغمت: أي إذا رآهم قليلين، وقوله (عليها) ظرف متعلق بمحذوف: أي المصلين عليها (جزأهم) بتشديد الزاي: أي جعلهم مجزئين (ثلاثة أجزاء) مفعول مطلق كل جزء صفا (ثم قال: قال رسول الله: من صلى عليه ثلاثة صفوف) بضم أوليه جمع صف وهو كقوله عز وجل: {ثلاثة قروء} () في استعمال جمع القلة موضع جمع الكثرة على سبيل التجوز (فقد أوجب) أي أوجب له الجنة بالوعد الصادق على لسان نبيه ووعد الله لا يخلف (رواه أبو داود) في الجنائز (والترمذي) فيه، وكذا رواه ابن ماجه في الجنائز أيضاً، ورواه البزار أيضاً (وقال) أي الترمذي (حديث حسن) وقال: يزيد وبين مالك رجلاً، ورواية هؤلاء أصح عندنا. 157 - باب ما يقرأ بالبناء للمفعول ويجوز بالبناء للفاعل ويعود الفاعل إلى المصلي (في الصلاة على الجنازة) . (يكبر) أي المصلي مع رفع يديه إلى حذو منكبيه كما يفعل في تكبير التحريم (أربع تكبيرات) بالنصب مفعول مطلق (يتعوذ) أي ندباً (بعد) التكبيرة (الأولى) وهي تكبيرة التحريم (ثم يقرأ) أي من غير دعاء افتتاح صلاتها على التخفيف (فاتحة الكتاب)

والأولى كونها بعد التكبيرة الأولى، ويجوز إخلاؤها منها وقراءتها مع الصلاة على النبي بعد التكبيرة الثانية أو مع الدعاء بعد الثالثة (ثم يكبر الثانية) رافعاً يديه كما يفعل في تكبير الركوع (ثم يصلي على النبي فيقول) وجوباً (اللهم صل على محمد) ندباً (وعلى آل محمد، والأفضل) في حصول اللفظ المسنون فيها (أن يتممه) بضم أوله من التتميم: أي يكمل لفظ الصلاة بقوله (كما صليت على إبراهيم) والكاف للتشبيه وسيأتي بيان وجهه إن شاء الله تعالى، ومن أحسنه أنه من تشبيه الإحسان بالإحسان، وقوله (إلى قوله حميد مجيد) متعلق بقوله يتممه: أي فيقول «كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد» وتبين بما ذكر أن الأقل والأكمل منها هنا كالأقل والأكمل منها في الصلاة (ولا يفعل) بالجزم نهي، ويجوز أن يقرأ بالرفع فيكون خبراً لفظاً إنشاء معنى (ما يفعله العوام) بتشديد الميم جمع عامة مثل دابة ودواب، والعامة خلاف الخاصة، كذا في «المصباح» ، وفي الكلام إطلاق الفعل على القول لأنه فعل اللسان وباقي المخارج (من قراءتهم إن الله وملائكته يصلون على النبيّ الآية) بالنصب بتقدير بأن فيه حذف الجارّ وإبقاء عمله، وذلك سماعي لا يجوز في مثله (فإنه لا تصح صلاته إذا اقتصر عليه) أي من غير أن يأتي بعده بنحو اللهم صل على محمد وذلك لأنه ليس فيه إلا الإخبار عما تفضل به الله تعالى على نبيه من أنه مع ملائكته يصلون عليه وأمر الأمة لذلك، وهذا ليس بصلاة والواجب فيها الصلاة عليه وهو لم يأت بها، ويكره الإتيان بها مع الإتيان بالصلاة عليه لما فيها من ابتداع ما لم يرد عن الشارع والتطويل فيها مع بنائها على التخفيف (ثم يكبر الثالثة ويدعو للميت) وهو واجب وأقله نحو اللهم اغفر له (وللمسلمين) وهو مندوب، واستحب الدعاء لهم حينئذ للخبر لما لحقهم من النقص بفقد ذلك الميت (بما سنذكره من) أي في (الأحاديث إن شاء الله تعالى) ويجوز كون ابتدائية: أي مبدوءة من الأحاديث (ثم يكبر الرابعة ويدعو) ندباً (ومن أحسنه) أي في

الدعاء المندوب بعدها (اللهم) أي بالله (لا تحرمنا) بفتح الفوقية وكسر الراء. في القاموس: حرمه الشيء كضربه وأحرمه وكسر الثانية: أي لا توقعنا في الفتنة: أي المحنة (بعده) أي بعد موته (واغفر لنا وله، والمختار) عند أصحابنا الشافعية (أنه يطوّل الدعاء) للميت وللمسلمين (في) أي بعد التكبيرة (الرابعة) وقوله (خلاف ما يعتاده الناس من الدعاء) بالنصب حال من فاعل يطول: أي حال كونه مخالفاً لمعتاد أكثر الناس من تقصير الدعاء فيه اقتصار على الذكر السابق مرة واحدة (لحديث) عبد الله (بن أبي أوفي الذي سنذكره إن شاء الله تعالى) آخر الباب (فأما الأدعية) جمع دعاء وقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها (المأثورة) بالمثلثة أي الواردة عنه بعد التكبيرة الثالثة (فـ) كثيرة (منها) . 1935 - (عن أبي عبد الرحمن عوف) بالفاء في آخره (بن مالك الأشجعي) وما ذكره المصنف في كنيته أحد أقوال فيها، وقيل كنيته أبو عمرو وقيل أبو عبد الله وقيل أبو محمد وقيل أبو حماد وتقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب القناعة (قال: صلى رسول الله على جنازة فحفظت من دعائه) لعله جهر به ليحفظ عنه (وهو يقول) جملة في محل الحال من الضمير المضاف إليه المصدر (اللهم اغفر له) وحذف المفعول طلباً للتعميم ولتذهب النفس فيه كل مذهب (وارحمه) أي بفيض خاص تتلقاه به من كرامتك (وعافه) أي من المؤذيات في القبر من فتنته ووحشته وظلمته وعذابه (واعف عنه) أي مما وقع له من التقصير في الطاعة قال في النهاية: العفو محو الذنوب والعافية السلامة من الأسقام والبلايا (وأكرم) بقطع الهمزة (نزله) بضمتين: وهو ما يهيأ للضيف من الطعام: أي أحسن

نصيبه من الجنة. قال ابن الجزري: وهو في الأصل قرى الضيف، والمراد الدعاء بإكرامه بالأجر والثواب والمغفرة (ووسع) بكسر السين المشددة (مدخله) بضم الميم وفتحها وبهما قرى قوله تعالى: {مدخلاً كريماً} (النساء: 31) قال ابن الجزري: بضم الميم الموضع الذي يدخل فيه وهو قره الذي يدخله الله فيه، وقال: لكن المسموع من أفواه المشايخ والمضبوط في الأصول فتح الميم وكلاهما صحيح المعنى. قال صاحب «الصحاح» : المدخل الدخول وموضع الدخول أيضاً تقول دخلت مدخلاً وأدخلته مدخل صدق اهـ. قال صاحب «الحرز» : ويجوز بالضم موضع الإدخال وهو المناسب للمقام. قلت: وعليه فيكون نصبه على الظرفية بخلافه إذا جعل بمعنى الدخول فيكون على المصدرية (واغسله) بوصل الهمزة: أي اغسل ذنوبه وطهر عيوبه (بالماء والثلج والبرد) بفتحتين، والغرض تعميم أنواع الرحمة والمغفرة في مقابلة أصناف المعصية والغفلة (ونقه) بتشديد القاف دعاء من التنقية، بمعنى التطهير، والهاء يحتمل أن تكون ضمير الميت وأن تكون هاء السكت (من الخطايا) أي من أثرها وهي جمع خطيئة وهل وزنها فعالى أو فعائل خلاف (كما نقيت) نظفت (الثوب الأبيض من الدنس) بفتحتين: أي الدرن، قال ابن الجزري: الدنس بفتح الدار المهملة والنون: الوسخ يريد المبالغة في التطهير من الخطايا والذنوب (وأبدله) من الإبدال: أي عوّضه (داراً) من القصور أو من سعة القبور (خيراً من داره) التي بالدنيا الفانية (وأهلاً) أي من الخدم والولدان (خيراً من أهله) ليأنس بهم وتذهب عنه الوحشة (وزوجاً) أي من الحور العين، أو من نساء الدنيا في الجنة (خيراً من زوجه) أي زوجته التي كانت في الدنيا، فإن كان الميت امرأة فالمعنى إبدالها زوجاً من رجال الدنيا في الجنة خيراً من زوجها حقيقة أو حكماً (وأدخله الجنة) أي ابتداء من الناجين الفائزين (وأعذه) من الإعاذة: أي خلصه (من عذاب القبر) الناشىء عن فتنته في عالم البرزخ (ومن عذاب النار) أي بعد البعث،

إما بإعاذته منها ابتداء أو بإنجائه من الخلود فيها وإعادة الجار إيماء إلى اختلاف نوعي العذاب، قال عوف بن مالك راوي الحديث (حتى تمنيت أن أكون ذلك الميت) أي لأظفر بتلك الدعوات المجابات والأدعية المقبولات (رواه مسلم) والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن أبي شيبة و (المصنف) كلهم من حديث عوف. 2936 - (وعن أبي هريرة وأبي قتادة) الأنصاري واسمه ربعي بن النعمان (وأبي إبراهيم الأشهلي) قال الحافظ في «التقريب» : مقبول من كبار التابعين، قيل إنه عبد الله بن أبي قتادة ولا يصح، قال الترمذي: هو غلط، أبو إبراهيم من بني عبد الأشهل وأبو قتادة من بني سلمة بطن من الأنصار (عن أبيه) لم يعلم اسمه (وأبوه صحابي) فلا تضرّ جهالة عينه لأن الصحابة رضي الله عنهم كلهم عدول (عن النبي أنه صلى على جنازة فقال: اللهم اغفر لحينا وميتنا) أي لجميع أحيائنا وأمواتنا معشر المسلمين لأن المفرد المضاف حيث لا عهد للعموم (وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا وشاهدنا) أي حاضرنا (وغائبنا) قال التوربشتي: سئل الطحاوي عن معنى الاستغفار للصغار مع أنه لا ذنب لهم، فقال: إن النبي سأل ربه أن يغفر لهم الذنوب التي قضيت لهم أن يصيبوها بعد الانتهاء إلى الكبر، وعليه فالصغار عام مخصوص بمن سيكبر. قيل ويجوز أن يراد بالصغار الشباب وبالكبار الشيوخ، وعليه فالأمر واضح. قال ميرك: كل من القرائن الأربع في الحديث على الشمول والاستيعاب فلا يحمل على التخصيص نظراً إلى مفردات التركيب كأنه قيل: اللهم اغفر لكل السملمين فهي من الكنايات الرمزية يدل عليه جمعه في قوله «اللهم من أحييته منا» الخ، قال في «الحرز» ، لا كلام في إفادة العموم (اللهم من أحييته منا فأحيه) بقطع الهمزة

(على الإسلام) وفي رواية للترمذي والحاكم «على الإيمان» (ومن توفيته) بتشديد الفاء: أي قبضت روحه (منا فتوفه على الإيمان) وفي روايتهما «على الإسلام» ولا شك أن رواية غيرهما أولى لمناسبة الحياة للإسلام ولائمة الوفاة لللإيمان (منهم لا تحرمنا أجره) أي أجر المصيبة فيه (ولا تفتنا) وفي رواية «تضلنا» (بعده) أي بعد موته (رواه الترمذي من رواية) أي من حديث (أبي هريرة والأشهلي، ورواه أبو داود من رواية أبي هريرة وأبي قتادة) وكذا رواه من حديث أبي هريرة أحمد والنسائي وابن حبان (قال الحاكم) في «المستدرك» (حديث أبي هريرة صحيح على شرط البخاري ومسلم قال الترمذي) في «جامعه» (قال البخاري) صاحب الصحيح وهو من مشايخ الترمذي (أجمع روايات هذا الباب) أي لهذا الحديث (رواية الأشهلي، قال البخاري، وأصح شيء في الباب حديث عوف بن مالك) وقد تقدم أنه صحيح أخرجه مسلم، ولا شك أن ما أخرجه أحدهما مقدم على ما هو على شرطهما مما لم يخرّجاه وإن كان قول المحدث أصح ما في هذا الباب حديث كذا لا يستلزم الحكم بصحة ذلك الحديث. 3937 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: رسول الله يقول: إذا صلبتم على الميت) أي تلبستم بها (فأخلصوا) بقطع الهمزة (له الدعاء) قال العلقمي: إخلاص الدعاء له ألا يشرك معه غيره، وأقله: اللهم اغفر له، ويدعي له بخصوصه وإن كان طفلاً (رواه أبو داود) ورواه ابن ماجه وابن حبان كما في «الجامع الصغير» وفي «تخريج أحاديث الرافعي»

للحافظ ابن حجر، وأخرجه البيهقي وفيه ابن إسحاق، وقد عنعن لكن أخرجه ابن حبان من طريق أخرى عنه مصرحاً بالسماع. 4938 - (وعنه عن النبي في الصلاة على الجنازة) أي من دعائه في الصلاة عليها (اللهم) أي يا ألله (أنت ربها) أي مربيها بنعمتك بالإخراج من العدم ثم بالغذاء بالنعم (وأنت خلقتها) أي والمضاف يشرف بشرف المضاف إليه (وأنت هديتها) أي أوصلتها (للإسلام) إذ لولا إرادتك هدايته لما اهتدى (وأنت قبضت) بفتح الموحدة (روحها) أي وذلك بإخراج الملائكة الموكلين بالنزع لها من الجسد ثم أخذ الملك لها. وليس إسناد القبض مجازاً عقلياً خلافاً لما في «الحرز» (وأنت أعلم بسرها) أي بما كانت تسره في الحياة من اعتقاد ونية (وعلانيتها) بتخفيف التحتية: أي ما تعلنه أي تظهره من ذلك والجملة معطوفة على ما قبلها ويحتمل كونها حالية من فاعل هديت: أي حكمنا بهدايتك إياها باعتبار ما ظهر لنا والسرائر علمها إليك (جئنا) أي حضرنا (شفعاء) حال أي شافعين (له فاغفر له) أي جميع ذنوبه كما يومىء إليه حذف المفعول (رواه أبو داود) . 5939 - (وعن واثلة) بالمثلثة (ابن الأسقع) بالمهملة وبعدها قاف فعين مهملة سبقت ترجمته (رضي الله عنه) في باب الرؤيا وما يتعلق بها (قال: صلى بنا رسول الله على رجل من المسلمين) لم أقف على تسميته (فسمعته يقول: اللهم إن فلان بن فلان) كناية عن اسم الرجل المصلى عليه واسم أبيه، ولما نسى الراوي اسمهما كنى به عنهما (في ذمتك) بكسر الذال المعجمة وتشديد الميم: أي في عهدك المشار إليه بقوله تعالى: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} (البقرة: 40) (وحبل) بالمهملة فالموحدة مستعار استعارة مصرحة للميثاق: أي وفي عروة

(جوارك) بكسر الجيم: أي أمانك، قال تعالى: {واعتصموا بحبل الله} (آل عمران: 103) قال الطيبي: الحبل العهد والأمان والذمة: أي هو في كنف حفظك وعهد طاعتك. وقال ابن الجزري: أي في خفارتك وطلب غفرانك، وكان عادة العرب أن يخفر بعضها بعضاً، فكان الرجل إذا أراد سفراً أخذ عهداً من سيد كل قبيلة فيأمن به ما دام في حدودها حتى ينتهي إلى أخرى فيفعل مثل ذلك فهذا حبل الجوار: أي ما دام مجاور أرضه. ويجوز أن يكون من الإجارة وهو الأمان والنصرة (فقه) بهاء الضمير: أي حفظه (من فتنة القبر) أي اختباره أو عذابه، وعليه فعطف قوله (وعذابه) من عطف الرديف وعلى الأول من عطف المسبب على السبب (وأنت أهل الوفاء) قال تعالى: {أوف بعهدكم} (والحمد) وأهل أن تحمد بالتزكية والثناء وبالشكر والجزاء لمن ثبت على الإيمان وقام بحق القرآن، والجملة حالية من فاعل «قه» أو استئنافية (اللهم فاغفر له) الإتيان بفاء السببية للإيماء إلى أن من كان محموداً أهلاً للوفاء فهو الذي يسأل منه الغفران بمحو السيئات (وارحمه) أي برفع الدرجات (إنك أنت الغفور الرحيم) بكسر همزة «إن» على الاستئناف ويجوز فتحها بتقدير لام التعليل، وهو كالدليل لسؤال المغفرة والرحمة منه، وأتى بهما بصيغة المبالغة إيماء إلى سعة رحمته وشموله مغفرته وعظمها (رواه أبو داود وابن ماجه) . 6940 - (وعن عبد الله بن أبي أوفى) واسمه علقمة بن خالد بن الحارث الأسلمي (رضي الله عنهما أنه كبر على جنازة ابنة له) بدل اشتمال من عبد الله (أربع تكبيرات) مفعول مطلق لكبر (فقام بعد) التكبيرة (الرابعة) قياماً (بقدر ما بين التكبيرتين) الثالثة والرابعة التي يدعى

158 ـــ باب الإسراع بالجنازة

فيها للميت لأن في هذه أيضاً دعاء له (يستغفر لها) أي يسأل الله لها المغفرة (ويدعو) لها أي بنيل المراتب العلية كالجنة (ثم قال: كان رسول الله يصنع هكذا) أي مثل ما صنعت من تطويل ما بعد التكبيرة الرابعة (وفي رواية) لأبي بكر الشافعي الغيلاني كما قال الحافظ في «تخريج أحاديث الرافعي» : أي عن ابن أبي أوفى (كبر أربعاً فمكث) بفتح الكاف على الأفصح (ساعة) أي زمناً طويلاً يستغفر ويدعو، وقوله (حتى ظننا أنه سيكبر خمساً) غاية للإطالة المدلول عليها بقوله ساعة (ثم سلم عن يمينه) كتسليم الصلاة حتى يرى بياض خده الأيمن (و) كذا (عن شماله، فلما انصرف) أي انتهى من الصلاة (قلنا له: ما هذا قال: إني لا أزيدكم على ما رأيت رسول الله يصنع، أو) شك من الراوي هل قال ابن أبي أوفى كما تقدم عنه، أو (قال هكذا) مثل ما صنعت (صنع رسول الله رواه الحاكم) في «المستدرك» (وقال: حديث صحيح) وفي «تخريج أحاديث الرافعي» رواه أحمد اهـ. فيؤخذ منه استحباب الدعاء للميت بعد الرابعة وهو الذي رجحه الرافعي بعد أن ذكر فيه خلافاً. 158 - باب الإسراع بالجنازة أي ندب الإسراع بالسير بها، وحكى البيهقي في «المعرفة» عن الشافعي أن الإسراع بها هو فوق سجية المشي، وحكى ابن المنذر وابن بطال أنه سجية المشي. قال العراقي: والأول أثبت ويوافقه قول أصحابنا وهذه عبارة الرافعي والنووي. والمراد بالإسراع فوق المشي المعتاد ودون الخبب. وعبارة صاحب «الهداية» من الحنفية ويمشون بها مسرعين دون الخبث، والمراد بطلب إسراع لا يشق على من تبعها ولا يحرك الميت فذلك مكروه. 1941 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: أسرعوا) بقطع الهمزة (بالجنازة)

أي بالسير إلى القبر على وجه لا يؤدي إلى سقوطها ولا إلى تفجر الميت (فإن تك صالحة فخير) أي فهو خير (تقدمونها إليه) والمبادرة بتقريب الخير مطلوبة (وإن تك) أي الجنازة (سوى ذلك) ذكر اسم الإشارة باعتبار الميت ولذا ذكر الضمير في قوله (فشر تضعونه عن رقابكم، متفق عليه) ورواه أحمد وأصحاب السنن الأربع كما في «الجامع الصغير» (وفي رواية لمسلم: فخير تقدمونها عليه) فينبغي الاسراع به ليظفر عن قرب بنيل ماأعد له والتأخير يفوِّت عليه بعض ذلك، وروى بنصب خير من باب الاشتغال. 2942 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان النبي يقول: إذا وضعت) بالبناء لما لم يسم فاعله ونائب فاعله (الجنازة) بفتح الجيم الميت وتقدم الكلام في ذلك وبكسرها: السرير كذا في «شرح المشارق» لابن ملك، وفي «القاموس» : الجنازة وبفتح الميت أو بالكسر الميت، وبالفتح السرير أو عكسه، أو بالكسر السرير مع الميت، وتقدم الكلام في ذلك في كتاب عيادة المريض، وقوله «إذا وضعت الجنازة» أي إذا وضعها أهلها (فاحتملها) وفي «المشارق» بالواو بدل الفاء (الرجال على أعناقهم) أي على أكهالهم المقاربة لأعناقهم، ففيه مجاز مرسل علاقته المجاورة (فإن كانت صالحة) بامتثال الأوامر واجتناب النواهي في حياتها، أو لم تكن كذلك ولكن منّ عليها بالتوبة عند موتها (قالت: قدموني) وحذف المقدم إليه إيماء إلى أنه مما تضيق العبارة عن بيانه لكثرته (وإن كانت غير صالحة قالت لأهلها: يا ويلها) يحتمل أنها تقول يا ويلي، لكن كنى عن ذلك بضمير الغيبة إيماء إلى أن الإنسان إذا حكى ما تستقبح إضافته للنفس ينبغي أن يسنده لضمير الغيبة، كما في حديث وفاة أبي طالب «فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب» مع أنه جاء بضمير المتكلم قال: المصنف في «شرح مسلم» : هذا من حسن الآداب والتصرفات، وهو أن من حكى قول غيره

159 ـــ باب تعجيل قضاء الدين عن الميت

القبيح أتى به بضمير الغيبة لقبح صورة اللفظ الواقع اهـ. وعلى هذا فلا التفات في العبارة. ويحتمل أنه يقول بهذا اللفظ ففيه التفات على مذهب السكاكي، والويل كلمة تقال عند العذاب أو خوفه. قال ابن ملك: إن أريد من الجنازة السرير يكون الضمير في يا ويلها في موضعه لكن يكون المراد من صالحة ومن قدموني ما حمل عليه فيلزم التجوز في موضعين فإرادة الميت أولى، وهذا القول بلسان الحال فيكون استعارة. وقال المكاشفون: إنه حقيقي لأن الجمادات ناطقة ومسبحة بالحقيقة لكن لا يفهم المحجوب قاله ابن ملك. قلت: ويؤيده أن الأصل حمل ما جاء في الكتاب والسنة على حقيقته حتى يأتي ما يصرفه عنها، ويؤيده قوله في الحديث «يسمع صوتها» الخ (أين تذهبون بها يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان) دخل في جملة السامع الجن (ولو سمع الإنسان لصعق) بفتح فكسر: أي لغشي عليه وقيل لمات وهذا أبلغ في حكمة منع إسماع الصوت لإفضائه إلى فساد العالم (رواه البخاري) في باب الجنائز. 159 - باب تعجيل قضاء الدين عن الميت مسارعة لللإطلاق مما يعقله عن بلوغه مقامه السني (والمبادرة إلى تجهيزه) بالغسل والتكفين والصلاة والدفن (إلا أن يموت) استثناء من أعم الأحوال: أي في كل حال وهو استثناء مفرغ اعتباراً بوجود النفي من حيث المعنى كأنه قيل لا يترك المبادرة بتجهيزه في حال من الأحوال إلا حال موته (فجأة) بفتح فسكون وبضم ففتح فألف ممدودة: أي بغتة (فيترك) بالبناء للمفعول ونائب فاعله ضمير الميت (حتى يتيقن موته) ولو بالتغير. 1943 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ قال: نفس المؤمن معلقة بدينه) قال

السيوطي: أي محبوسة عن مقامها الكريم. وقال العراقي: أي أمرها موقوف لا يحكم لها بنجاة ولا هلاك حتى تنظر: هل يقضي ما عليها من الدين أو لا؟ ويستمر تعلقها الحديث. وشذ الماوردي فقال: الحديث محمول على من لم يخلف وفاء، وظاهر أن من عصى بالاستدانة أو قصر في القضاء فذلك حاله، وإلا فالمرجو من الله العفو عنه وإرضاء الخصوم (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) وفي نسخة من الرياض زيادة «صحيح» ولا وجود لها فيما وقفت عليه من أصلي من الترمذي. 2944 - (وعن حصين) بضم المهملة الأولى وفتح الثانية وسكون التحتية آخره نون (ابن وحوح) بفتح أوله وبمهملتين الأولى ساكنة الأنصاري المدني صحابي (رضي الله عنه) له حديث ذكر ابن الكلبي أنه استشهد بالقادسية، خرّج عنه أبو داود كذا في «تقريب» الحافظ (أن طلحة بن البراء) بتخفيف الموحدة والراء ابن عمير بن وبرة بن ثعلبة بن غنم بن سري بضم المهملة وفتح الراء وتشديد الياء ابن سلمة بن أسد البلوي الأنصاري (رضي الله عنه مرض، فأتاه رسول الله يعوده فقال) أي لأهله كما صرح به ابن الأثير في روايته وقال: أخرجه ابن عبد البرّ والمديني وأبو نعيم (إني لا أرى) بضم الهمزة: أي أظن (طلحة إلا قد حدث فيه الموت) أي بالشروع في النزع وفي رواية ابن الأثير «إني أرى طلحة» الخ (فآذنوني) زاد ابن الأثير في روايته «فإذا مات فآذنوني» وهو بمد الهمزة وكسر الذال المعجمة: أي أعلموني (به) أي بموته زاد ابن الأثير في روايته «أصلي عليه» (وعجلوا) بتشديد الجيم (به فإنه لا ينبغي) أي لا يحسن (لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهري أهله) زادابن الأثير روي «أنه توفي ليلاً فقال: ادفنوني ليلاً وألحقوني بربي، ولا تدعوا رسول الله فإني أخاف عليه من اليهود أن يصاب في سببي. فأخبر رسول الله حين أصبح، فجاء حتى وقف على قبره وصفّ الناس معه ثم رفع يديه وقال: اللهم الق طلحة وأنت تضحك إليه وهو

160 ـــ باب الموعظة

يضحك إليك» وقد روي عن طلحة بن البراء أن النبي دعا له، أخرجه الثلاثة اهـ. وتذكير ضمير أهله لعوده على المضاف إليه وتأنيث ضمير تحبس لعوده على المضاف (رواه أبو داود) . 160 - باب الموعظة مصدر ميمي بمعنى الوعظ وهو التذكير بعذاب الله تعالى الزاجر عن مخالفته وبثوابه الباعث على طاعته (عند القبر) لأنه حينئذ أنجع وذلك لأن رؤية الميت وذكر الموت يرقق القلب ويذهب غلظته. 3945 - (عن علي رضي الله عنه قال: كنا في جنازة) لم أر عين اسمها (في بقيع) بفتح الموحدة وكسر القاف فعين مهملة وسكون التحتية (الغرقد) بالمعجمة والقاف بوزن جعفر هو كما في «النهاية» : ضرب من شجر العضاه وسجر الشوك، الغرقدة واحدته، وبقيع الغرقد: مقبرة المدينة، قال في «النهاية» : قيل لها ذلك لأنه كان فيها غرقد وقطع (فأتانا رسول الله فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة) بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الصاد المهملة، قال في النهاية: هي ما يختصره الإنسان فيمسكه: من عصاة أو عكاز أو مقرعة أو قضيب، وقد يتكىء عليه. قلت: والمراد هنا عصا ذات رأس معوج (فنكس) أي طأطأ رأسه، وذلك يكون عند التفكر والتدبر (وجعل) من أفعال الشروع (ينكث) أي يؤثر في الأرض (بمخصرته) أي يضرب الأرض بطرفها، قال في «النهاية» : وهو فعل المفكر المهموم (ثم قال:

161 ـــ باب الدعاء للميت بعد دفنه

ما منكم من) مزيدة لتأكيد استغراق النفي في (أحد إلا قد كتب) بالبناء للمجهول (مقعده) بالرفع نائب الفاعل، ويجوز نصبه على الظرفية، ونائب الفاعل مستتر (من النار) قدم ذكر مقعدها لأن المقام للوعظ وهي أنجع فيه من قرينتها لأنها من باب النذارة وهي انجع من البشارة (ومقعده من الجنة) والمراد أن أهل الجنة كتب في الأزل مقعدهم منها، وكذا أهل النار، ويدل على إرادة ذلك المقام، وأن ما بعد إلا من الجملة في محل الحال وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال: أي ما منكم أحد في حال إلا حال كتابة مقعدة منهما في الأزل (فقالوا: يا رسول الله أفلا نتكل) من الاتكال وهو الاعتماد: أي أتعمل مع ذلك فلا نتكل (على كتابنا) أي مكتوبنا السابق من سعادة وضدها، قال الشيخ زكريا في «تحفة القاري» : والقائل هو سراقة بن خيثم أو أبو بكر أو عمر أو علي الراوي، قلت: ولا مانع من كون كل سأل بدليل فقالوا (فقال اعملوا) أي ماأمرتم بعمله من التكاليف الشرعية (فكل) منكم (ميسر لما خلق له) من سعادة أو شقاوة بعمل السعداء أو الأشقياء (وذكر تمام الحديث) جاء في رواية البخاري قال «أماأهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل الشقاوة، ثم قرأ فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى إلى قوله: {فسنيسره للعسرى} (الليل: 6) (متفق عليه) وأخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه. 161 - باب الدعاء للميت بعد دفنه لأن ذلك أول مفارقته للدنيا ونزوله بمنزل لا يألفه ولا يعرفه فيناسب الدعاء له بالعفو والغفران والتثبيت ودفع هوله (والقعود عند قبره) بعد الدفن (ساعة) قدر نحر جزور وتفريق لحمها (للدعاء والاستغفار والقراءة) أي عليه، فإن الرحمة تنزل عند قراءة القرآن فتعمه فتعود عليه بركتها.

1946 - (عن أبي عمرو) بفتح المهملة (وقيل أبو عبد الله) ولد من بنت سيدنا رسول الله توفي مراهقاً من ديك نقر عينه (وقيل أبو ليلى عثمان بن عفان) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب فضل الزهد (قال: كان النبي إذا فرغ) بالبناء للمفعول (من دفن الميت وقف عليه فقال: استغفروا) أي أسألوا الله غفر الذنوب (لأخيكم) وفي التعبير به إيماء إلى السبب الداعي للدعاء له لأن شأن الأخ الاهتمام بنفع أخيه (واسألوا له التثبيت) أي أن يثبته الله عند سؤال الملكين له في القبر عن ربه ونبيه (فإنه) أي الأخ (الآن) ظرف لقوله (يسأل) بالبناء للمفعول: أي يسأله الملكان أي والدعاء له بالتثبيت ربما كان يفضل الله تعالى سبباً لتلقينه حجته وكفايته من القبر وفتنته (رواه أبو داود) . 2947 - (وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: إذا دفنتموتي فأقيموا) أي امكثوا (حول) أي عند (قبري قدر ما ينحر) بالبناء للمفعول (جزور) بفتح الجيم وضم الزاي وهي المنحور من الإبل ذكراً كان أو أنثى (ويقسم لحمها) ببناء الفعل للمجهول أيضاً (حتى) تعليلية: أي كي (أستأنس) أي آنس (بكم) والسين فيه للمبالغة (وأعلم ما) أي أيّ شيء الذي (أراجع به رسل ربي) وكأنّ حكمة ذلك والله أعلم أن النوع الإنساني يأنس بمثله ولو من وراء جدار، وإذا أنس الإنسان سكن قلبه واطمأنت نفسه وإذا كان كذلك ثبت في بين ما يطلب منه بيانه بخلاف النفس عند الوحشة والقلق والاضطراب والفرق فإنه يختل عليها الأمر في الجواب، والله الموفق (رواه مسلم، وقد سبق) الحديث (بطوله) في باب

الرجاء (قال الشافعي رحمه الله: ويستحب أن يقرأ عنده شيء من القرآن) ليصيبه من الرحمة النازلة على القراء للقرآن نصيب (وإن ختموا القرآن) أي قرءوه (كله كان حسناً) لعظيم فضله. 162 - باب الصدقة عن الميت والدعاء له أي استحباب ذلك له. (قال الله تعالى) : ( {والذين} ) معطوف إما على قوله «للفقراء» أو على قوله «والذين تبوءوا الدار» أي أن الفىء لهؤلاء الثلاثة المهاجرين والأنصار والذين ( {جاءوا من بعدهم} ) زمناً وهم التابعون بإحسان (يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان» ) جملة حالية قيد لاستحقاق المتأخر الفىء ولذا قال الإمام مالك: لا حق لسابي السلف في الفيء وذكر الآية وهذا دليل طلب الدعاء للميت، ويقاس به الصدقة عنه بالأولى لأنهم إذا مدحوا بالدعاء لهم فلأن يمدحوا بالصدقة عنهم أولى. 1 948ـ (وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً) هو سعد بن عبادة الأنصاري (قال للنبي: إن أمى افتلتت) افتعال من الفلت مبني لما لم يسم فاعله و (نفسها) بالرفع نائبه (وأراها) بضم الهمزة (لو تكلمت تصدقت) الجملة الشرطية ثاني مفعولي رأى (فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟) وكأن وجه هذا السؤال ظاهر قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} (النجم: 39) الموهم قصور الثواب على ما يعمله العامل دون ما عمل له وإن بفتح الهمزة

وحذف الجار: أي في تصدقي عنها أو بكسرها والجواب محذوف لدلالة ما قبله عليه (قال نعم) أي لها ذلك والآية، قيل هي في الكافر فالإنسان عام مراد به خاص، وإن كان في المؤمن فالمعنى ليس للمؤمن من حيث العدل إلا جزاء ما عمل، وأما على سبيل الفضل فالله أعظم وأكرم يتجاوز عن السيئة ويضاعف الحسنة ويثيبه بما فعل عنه من القرب (متفق عليه) . 2949 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: إذا مات الإنسان انقطع عمله) لزوال التكليف بالموت ولخروجه من عالمه إلى البرزخ وليس محل عمل والمراد لازم العمل: أي أن الإنسان يتم تحصيله للثواب بنفسه بموته (إلا من ثلاث) لا تنافي بينه وبين حديث ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله «إنما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علماً نشره، وولداً صالحاً تركه ومصحفاً ورثه، ومسجداً بناه، وبيتاً لابن السبيل بناه، ونهراً أجراه، وصدقة أخرجه من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته» إما لأن مفهوم العدد خير حجة، وإما لأنه اطلع أولاً على ما في حديث مسلم ثم أطلعه الله على الزائد فأخبر به.. قال السيوطي: وقد تضمن حديث ابن ماجه سبع خصال، ووردت خصال أخر بلغت بها عشراً، وقد نظمتها فقلت: إذا مات ابن آدم ليس يجري عليه من فعال غير عشر علوم بثها ودعاء نجل وغرس النخل والصدقات تجري وراثة مصحف ورباط ثغر وحفر البئر أو إجراء نهر وبيت للغريب بناه يأوي إليه أو بناء محل ذكر وزاد رحمه الله في شرح مسلم الحادية عشر فقال: وتعليم لقرآن كريم فخذها من أحاديث بحصر

باب ثناء الناس بتقديم المثلثة (على الميت)

(صدقة جارية) كوقف أو وصية لفقير (أو علم) شرعي أو آلته (ينتفع به) لكونه ألفه أو وقف كتباً فيه أو تخرّج عليه الطلبة أو تعلم منه متعلم فعمل به فله مثل ثوابه (أو ولد صالح) أي مسلم (يدعو له) لأنه من كسبه وقد تفضل الله تعالى بكتابه مثل ثواب سائر الحسنات التي يعملها الأولاد للوالد دون آثام السيئات (رواه مسلم) . باب ثناء الناس بتقديم المثلثة (على الميت) والثناء وإن كان محصوصاً بالمحاسن والمساوي ثناء، لكن المراد ما يعمها 1950 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: مروا بجنازة) أي على النبي ومن عنده (فأثنوا عليها خيراً) منصوب بنزع الخافض: أي بخير أو أنه مفعول مطلق إما بتقدير ثناء خير فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، أو لكون الخير من نوع الثناء فيكون نحو قعدت جلوساً وقرينة كون المرور عليه قول أنس (فقال النبي) أي عند سماع ثنائهم عليها (وجبت) واحتمال كونها مرت عليهم فقط فأثنوا عليها فبلغه ذلك خلاف الظاهر، وضمير وجبت يرجع إلى الجنة المدلول عليها بالسياق (ثم مرّوا بأخرى) أي بجنازة أخرى (فأثنوا عليها شراً) هذا الحديث مؤيد للعزّ بن عبد السلام الشافعي حيث رأى أن الثناء حقيقة في الخير والشرّ، ورأى الجمهور أنه حقيقة في الخير فقط، وعله ففي الحديث مجاز مرسل تبعي علاقته التضادّ، وأقرهم على الثناء عليه بالشر مع نهيه عن ذكر مساوىء الموتى،

لأن النهي عنه في غير الكافر والمنافق والمتجاهر بفسقه، فلعل التي أثنوا عليها شراً كانت واحداً من الثلاثة (فقال النبي وجبت) أي النار كما سيصرح به والخفاء الدالّ على تعيين الواجب فيهما سأل عمر رضي الله عنه عن بيانه (فقال عمر) بن الخطاب (رضي الله عنه: ما وجبت؟) أي ما معناها فقال معناها ما تضمنه قولنا (هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة) فانطلاق الألسنة بالثناء الحسن علامة على وجوب الجنة للمثنى عليه به (وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار) أما إذا كان ذلك على سبيل الهوى والغرض من غير باعث ووازع فالظاهر أنه لا يكون كذلك (أنتم) أيها الصحابة أو مطلق المؤمنين ويؤيده أنه جاء في رواية المؤمنون (شهداء الله في الأرض) فإذا جرى على ألسنتكم ثناء بخير أو شرّ كان مطابقاً لما عند الله: أي باعتبار الغالب أن الله تعالى يطلق الألسنة في حق كل إنسان بما يعلم من سريرته التي لا يطلع عليها غيره، وبما يظهر عليه من الأعمال الصالحة وضدها، فكأنه استنبط من هذا في حق هذين القطع لهما بالجنة والنار، أو أعلم الله تعالى أنهما في باطن الأمر عنده على طبق ثناء الناس عليهما، فعلم أنه ليس المراد أن من خلق للجنة يصير للنار بقولهم ولا عكسه، بل قد يقع الثناء بالخير أو الشر وفي الباطن خلافه، وإنما المراد أن الثناء علامة مطابقة وعلة دالة على ما في الواقع غالباً كما أنبأ عن ذلك ترتيبه وجبت على الثناء المشعر بأن الثناء علة ذلك، ولذا أشار أشرف المثنين بكونهم شهداء الله الصادقين في ثنائهم لكونهم يجري على ألسنتهم ما يطابق ما عنده غالباً، ففيه غاية التزكية منه لأمته بأن الله تعالى ما أنطقهم إلا ليصدقهم غالباً في ثنائهم الواقع كالدعاء والشفاعة بوعده الحق الذي لا يخلف، أو العادة المنزلين منزل الواجب الوقوع، فلذا رتب على الثناء الوجوب بالمعنى المذكور لأنه تعالى لا يجب عليه شيء بعمل ولا بشهادة ولا بغيرهما، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً اهـ من «فتح الإله» (متفق عليه) .c 2951 - (وعن أبي الأسود الديلي) هو بكسر الدال وسكون التحتية، ويقال الدؤلي بضم

الدال بعدها مفتوحة البصري اسمه ظالم بن عمرو بن سفيان ويقال ابن عمر، ويقال: عمير بن ظليم بالتصغير فيهما، ويقال: عمرو بن عثمان بن عمر، ثقة فاضل مخضرم مات سنة تسع وستين من الهجرة، خرّج عنه الجميع، قاله الحافظ العسقلاني في «التقريب» (قال: قدمت المدينة فجلست) مستنداً (إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فمرت بهم جنازة فأثنى) بالبناء للمجهول ونائب فاعله قوله (على صاحبها) أي المتوفى (خيراً، فقال عمر وجبت، ثم مرّ بأخرى فأثنى على صاحبها خيراً، فقال عمر: وجبت، ثم مرّ بالثالثة فأثنى على صاحبها شرّاً) هو على وزن قرينه وإعرابه (فقال عمر وجبت، فقال أبو الأسود) مستكشفاً للواجب (فقلت: وما وجبت يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت كما قال النبي) في نظير ما وقع الآن من قوله لمن أثنى عليه بخير وجبت: أي الجنة، ولمن أثنى عليه بشرّ وجبت: أي النار، وعليه فالمشبه قول عمر فيهما والمشبه به قول النبيّ فيهما بخصوص اللفظ المذكور، ويحتمل أن يكون المشبه به ما دلّ عليه قوله (أيما) اسم شرط جازم مبتدأ، وما صلة غير مانعة أياً من إضافتها إلى (مسلم) وقوله (شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة) جملتا الشرط والجواب فإن ذلك يدل بمنطوقه بوجوب الجنة لمن انطلقت الألسنة بالثناء عليه بخير، وبمفهومه بوجوب النار لمن انطلقت الألسنة بالثناء عليه بشرّ. وعند أحمد «تشهد له أربعة أبيات من جيرانه الأدنين إلا قال الله تعالى: قد قبلت علمهم فيه وغفرت له ما لا يعلمون» (فقلنا: وثلاثة) أي ومن شهد له ثلاثة بخير أدخله الله الجنة (قال: وثلاثة) أي ومن شهد له ثلاثة كذلك (فقلنا واثنان؟ قال: واثنان، ثم لم نسأله عن الواحد) أي عمن شهد له واحد بالخير أيدخلها: أي والباب توقيف لا مجال فيه للرأي (رواه البخاري) قال في «فتح الإله» : وكأن سبب تخصيص المسلم بهذا سعة مظاهر الفضل والرحمة للمؤمنين، وأن الله تعالى يعطيهم من خير ما عنده بأدنى سبب أو

164 ـــ باب فضل من مات له أولاد صغار

دعاء أو شفاعة، وأخذ أئمتنا من هذا وما قبله أنه يسن لمن مرّت به جنازة أن يدعو لها ويثني عليها خيراً إن تأهل الميت لذلك لكن بلا إطراء. 164 - باب فضل من مات له أولاد صغار بكسر المهملة جمع صغير، والمراد منه من دون البلوغ ذكراً كان أو غيره. 1952 - (عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ما من مسلم يموت له ثلاثة) أي من الأولاد (لم يبلغوا الحنث) بكسر المهملة وسكون النون بعدها مثلثة كذا لجميع الرواة. وحكى ابن قرقول عن الداودي أنه ضبطه الخبث بفتح المعجمة والموحدة وفسره بأن المراد لم يبلغوا، أو أن يعملوا المعاصي، قال: ولم يذكره غيره كذلك، والمحفوظ الأول والمعنى لم يبلغوا الحلم فتكتب عليهم الآثام. قال الخليل: بلغ الغلام الحنث: أي جرى عليه القلم، والحنث الذنب، قال الله تعالى: {وكانوا يصرون على الحنث العظيم} (الواقعة: 46) وقال الراغب غبر بالحنث عن البلوغ لما كان الإنسان يؤاخذ بما يرتكبه فيه بخلاف ما قبله، وخص الإثم بالذكر لأنه الذي يحصل بالبلوغ لأن الصبي قد يثاب، وخص الصغير بذلك لأن الشفقة عليه أعظم والحب له أشد والرحمة له أوفر، وعليه فمن بلغ الحنث لا يحصل لمن فقده ما ذكر من هذا الثواب وإن كان في فقد الولد أجر في الجملة، وبه صرح كثير من العلماء. وفرقوا بين البالغ وغيره بأنه يتصوّر منه العقوق المقتضي لعدم الرحمة، بخلاف الصغير فإنه لا يتصوّر منه ذلك إذ ليس مخاطباً. وقال ابن المنير: بل يدخل الكبير في ذلك من طريق الفحوى، لأنه ثبت ذلك من الطفل الذي هو كلّ على أبويه فكيف لا يثبت في الكبير الذي ببلغ معه السعي وحصل له منه النفع وتوجه إليه الخطاب بالحقوق اهـ. قال في «فتح الباري» : ويؤيد الأول قوله (إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم) لأن الرحمة للصغار أكثر لعدم حصول الإثم منهم، وهل يلتحق بالصغار من بلغ مجنونا مثلاً واستمر على ذلك

فمات؛ فيه نظر لكونهم لا إثم عليهم يقتضي الإلحاق، وكون الامتحان بهم يخفّ لموتهم يقتضي عدمه، قال: ولم يقع التقييد في طرق الحديث بشدة الحبّ ولا عدمه، وكان القياس يقتضي ذلك لما يوجد من كراهة بعض الناس لولده وتبريه منه لاسيما من كان ضيق الحال، لكن لما كان الولد مظنة المحبة والشفقة نيط الحكم به وإن تخلف في بعض الأفراد. وعند أبي ماجه من حديث عقبة مرفوعاً حديث نحو حديث الباب لكن قال فيه «إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل» ويشهد له رواه النسائي بإسناد صحيح من حديث معاوية بن قرة عن أبيه مرفوعاً من أثناء حديث «أما يسرك أنك لا تأتي باباً من أبواب الجنة إلا وجدته عنده يسعى يفتح لك؟» والضمير في قوله «بفضل رحمته إياهم» يرجع إلى الله تعالى: أي بفضل رحمة الله للأولاد، وقال ابن التين: يرجع للأب: أي لكونه يرحمهم في الدنيا جوزى برحمته في الآخرة. قال الحافظ: والأولى أولى، ويؤيده أن في رواية ابن ماجه من هذا الوجه بفضل رحمة الله إياهم. وللنسائي من حديث أبي ذرّ «إلا غفر الله لهما بفضل رحمته» وضمير إياهم راجع للأولاد خلافاً لما توهمه الكرماني من كونه راجعاً لمسلم وإن جمعه باعتبر عمومه لكونه في سياق النفي (متفق عليه) لكن اقتصر السيوطي في كتاب فقد الولد على عزوه للبخاري فقط، ولعله لكونه عنده بهنا اللفظ، وزاد: ورواه النسائي وابن ماجه. 2953 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: لا يموت لأحد من المسلمين ثلاث من الولد) بفتحتين اسم جنس يقع على الواحد فما فوقه وجمعه ولد بضم فسكون، والمراد ثلاثة منهم مطلقاً أو لم يبلغوا الحنث كم تقدم فيما قبله (لا تمسه النار) برفع تمسه جزماً كما قال في «فتح الباري» قال الكرماني: هو في حكم البدل من لا يموت فكأنه قال: لا تمس النار من مات له ثلاث من الأولاد من المسلمين (إلا تحلة) بفتح المثناة الفوقية وكسر المهملة وتشديد اللام (القسم) أي إلا بقدر ما ينحل به القسم وهو اليمين.

والتحلة مصدر حلل اليمين كفرها، يقال حللته تحليلاً وتحلة وتحللاً بغير هاء والثالثة شاذة. قال أهل اللغة يقال فعلته تحلة القسم: أي قدر ما حللت به يميني ولم أبالغ (متفق عليه وتحلة القسم) المذكور في الحديث (هو قول الله تعالى) : ( {وإن منكم إلا واردها} ) قال في «فتح الباري» : قال الكرماني: اختلف في المراد بهذا القسم، فقيل هو معين، وقيل غير معين، والجمهور على الأول، وقيل لم يعن به قسم معين وإنما معناه التقليل لأمر ورودها، وهذا اللفظ يستعمل في هذا القول يقال ما ينام فلان إلا تحلة الألية، وقيل الاستثناء بمعنى الواو: أي لا تمسه النار أصلاً ولا تحلة القسم، وجّز الفراء والأخفش مجىء إلا بمعنى الواو، والأول هو قول الجمهور، وبه جزم أبو عبيد وغيره وقالوا: المراد به قوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها} (مريم: 71) قال الخطابي: معناه لا يدخل النار ليعاقب بها، ولكنه يدخل مجتازاً ويكون ذلك الجواز بقدر ما يحلل الرجل به يمينه، ويدل لذلك ما وقع عند عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في آخر الحديث «إلا تحلة القسم» يعني الورود، وفي سنن سعد بن منصور عن سفين بن عيينة، ثم قرأ سفيان {وإن منكم إلا واردها} ومن طريق زمعة بنت صالح عن الزهري في آخره «قيل وما تحلة القسم؟ قال قوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها} » وكذا حكاه عبد الملك بن حبيب عن مالك في تفسير هذا الحديث، وجاء عند الطبراني من حديث عبد الرحمن بن بشير الأنصاري مرفوعاً «من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم يرد النار إلا عابر سبيل» يعني الجواز على الصراط. واختلف في موضع القسم من الآية، فقيل هو مقدر: أي والله إن منكم إلا واردها، وقيل معطوف على القسم الماضي في قوله تعالى: {فوربك لنحشرنهم} (مريم: 68) وقيل مستفاد من قوله: {حتماً مقتضياً} أي قسماً واجباً كذا رواه الطبراني وغيره، وقال الطيبي: يحتمل أن المراد بالقسم ما دل على القطع والبت من السياق، فإن قوله: {كان على ربك حتماً مقتضياً} تذييل وتقرير لقوله: {وإن منكم إلا واردها} فهو بمنزلة القسم بل أبلغ لمجىء الاستثناء بالنفي والإثبات. واختلف في المراد بالورود في الآية، فقال المصنف (والورود هو العبور على الصراط، وهو) أي الصراط (جسر) بكسر الجيم وسكون المهملة أي ممر (منصوب على ظهر جهنم، عافانا الله منها) وهذا القول رواه الطبراني وغيره من

طريق بشر ابن سعيد عن أبي هريرة، ومن طريق أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود، ومن طريق معمر وسعيد عن قتادة، ومن طريق عن كعب الأحبار وزاد يستوون كلهم على منتهاه ثم ينادي منادٍ: أمسكي أصحابك ودعي أصحابي، فيخرج المؤمنون ندية أبدانهم. وقيل «الورود» هو الدخول بها. روى النسائي والحاكم من حديث جابر مرفوعاً: «الورود الدخول لا يبقى برّ ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً» . وروى الترمذي وابن أبي حاتم من حديث ابن مسعود موقوفاً قال: «يردونها أو يلجونها ثم يصدرون عنها بأعمالهم» . قال عبد الرحمن بن مهدي: قلت لشعبة إن إسرائيل يرفعه، قال: صدق وعمداً أدعه. ثم رواه الترمذي عن إسرائيل مرفوعاً. قال في «فتح الباري» : وهذان القولان أصح ما ورد في ذلك. ولا تنافي بينهما لأن من عبر بالدخول تجوز به عن المرور، ووجهه أن المارّ عليه فوق الصراط بمعنى من دخلها، لكن تختلف أحوال المارين باختلاف أعمالهم، فأعلى درجة من يمرّ كملح البرق. ويؤيد الأول ما يراه مسلم من حديث أم مبشر أن حفصة قالت للنبي لما قال: لا يدخل أحد ممن شهد الحديبية النار، أليس الله تعالى يقول: {وإن منكم إلا واردها؟} فقال لها: أليس الله يقول: {ثم ننجي الذين اتقوا؟} (مريم: 72) الآية. وفي هذا بيان ضعف قول من قال: الورود مختص بالكفار، ومن قال معنى الورود الدنوّ منها، ومن قال معناه الإشراف عليها، ومن قال معناه ما يصيب المؤمن من الحمى في الدنيا، على أن هذا الأخير ليس ببعيد ولا ينافيه بقية الأحاديث اهـ. 3954 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاءت امرأة) أشار الحافظ في «الفتح» إليها أنها من نساء الأنصار (إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله ذهب الرجال بحديثك) أي منفردين به عن النساء (فاجعل لنا من نفسك يوماً) فيه تجريد أو في الكلام مضاف: أي من أوقات نفسك: أي الأوقات التي تجعلها لنفسك منفرداً فيها عنهم، فإنه يجزىء أوقاته ثلاثاً كما في «شمائل الترمذي» (نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله) الجملتان مستأنفتان بسبب طلبهن اليوم والمراد منه مطلق الوقت وفصلهما إيماء إلى استقلال كل منهما بالكفاية فيما طلبوا (قال: اجتمعن يوم كذا وكذا) عينه لهن ليستعددن له وليكن أشوق، فتكون

الموعظة أوقع لأن ما حصل بالطلب ليس كالحاصل بلا تعب (فاجتمعن فأتاهن النبيّ فعلمهن مما علمه الله) أي من الأحكام المحتاجات إليها (ثم قال) زيادة على مطلوبهن مبشراً (ما منكن من امرأة) من الثانية مزيدة ومن في «منكن» لبيان إبهام المرأة حال منها: أي ما أمره منكن والمراد معشر النساء المسلمات (تقدم ثلاثة من الولد) بفتحتين يشمل الذكر والأنثى والمفرد والجمع (إلا كانوا) لبعض، رواة البخاري «كن» بضم الكاف وتشديد النون وكأن التأنيث باعتبار النفس أو النسمة (لها حجاباً من النار) الظرف الأول لغو متعلق بكان على الأصح من تعلق الظرف بها، ويجوز إعرابه حالاً من حجاباً، كان وصفاً له فنقدم فأعرب حالاً والظرف الثاني في محل الصفة. قال القرطبي: وخصت الثلاثة لأنها أول مراتب الكثرة فتعظم المصيبة بكثرة الأجر، فأما إذا زاد عليها فقد يخف أمر المصيبة لكونها تصير كالعادة اهـ. وتعقبه الحافظ ابن حجر فيما أوهمه كلامه من قصر ذلك على من فقد له ثلاثة دون من فقد له أربعة أو خمسة بأنه جمود شديد، فإن مات له أربعة مات له ثلاثة ضرورة وثبت له أجرهم وموت الرابع إن لم يزد في الأجر لا يرفعه والحق أن تناول الخبر لما فوق الثلاثة بالأولى والأحرى، ويؤيده أنهم لم يسألوا عن الأربعة فما فوق لأن ذلك كالملعلوم عندهم من الثلاثة (فقالت امرأة) هي أم سليم أم أنس بن مالك كما رواه الطبراني عنها أنها سألته عن الاثنين، ووقع لأم مبشر الأنصارية السؤال عن ذلك، رواه الطبراني أيضاً، وجاء من حديث جابر بن سمرة أن أم أيمن ممن سأله عنه، ومن حديث ابن عباس أن عائشة أيضاً منهن. وحكى ابن بشكوال أن أم هانىء أيضاً سألت عنه قال في «فتح الباري» : فيحتمل أن كلاً منهن سألت عن ذلك في ذلك المجلس واحتمال تعدد القصة فيه بعد لأنه لما سئل عن الاثنين بعد ذكر الثلاثة أجاب بأن الاثنين كذلك. والظاهر أنه كان بوحي أوحي إليه في الحال، وبذلك جزم ابن بطال وغيره، وإذا كان كذلك كان الاقتصار على الثلاثة بعد ذلك مستبعداً لأن المفهوم يخرج الاثنين اللذين ثبت لهما ذلك الحكم بناء على الحكم بمفهوم العدد وهو المعتبر، نعم قد جاء في حديث جابر بن عبد الله أنه ممن سأل عن ذلك، وكذا عمر وحديثه عند الحاكم والبزار، وهذا لا بعد في تعدده لأن خطاب النساء بذلك لا يستلزم علم الرجال به (واثنين) هذا اللفظ رواية مسلم، والتقدير: وما حكم اثنين، وعند البخاري واثنان بالألف: أي وإذا مات اثنان ما الحكم، وهذا منها بناء على عدم اعتبار مفهوم العدد إذ لو اعتبرته لعلمت

165 ـــ باب ندب البكاء

انتفاء الحكم عما عدا الثلاثة لكنها جوزته فسألت، قاله عياض. وتعقبه الحافظ في «الفتح» بأن الظاهر أنها اعتبرت مفهوم العدد إذ لو لم تعتبره لما سألت. والتحقيق أن دلالة مفهوم العدد ليست نصية بل محتملة فلذا سألت (فقال رسول الله: واثنين) هو بالياء أيضاً وهو لفظ مسلم: أي وحكم اثنين كذلك، وعند البخاري بالألف وتقديره: وإذا مات اثنان فالحكم كذلك، وهذا ظاهر التسوية في حكم الثلاثة والاثنين، وقد تقدم عن ابن بطال أنه أوحى إليه بذلك في الحال، ولا بعد أن ينزل عليه الوحي في أسرع من طرفة عين، ويحتمل أن يكون كان العلم عنده بذلك حاصلاً لكنه أشفق عليهن أن يتكلوا، لأن موت الاثنين غالباً أكثر من موت الثلاثة كما وقع في حديث معاذ وغيره في الشهادة بالتوحيد، ثم لما سئل عنه لم يكن له بد من الجواب قاله الحافظ (متفق عليه) . 165 - باب ندب البكاء والخوف عند المرور بقبور الظالمين ومصارعهم أي محل نزول العذاب عليهم: أي طلب الخوف قلباً وظهور آثاره على ظاهر البدن بالبكاء والخضوع ونحوه كما قاله المصنف (وإظهار الافتقار) أي المبالغة في الفقر (إلى الله تعالى والتحذير من الغفلة عن ذلك) أي التحذير من الغفلة عما ذكر. 1955 - (عن ابن عمر أن رسول الله قال لأصحابه لما وصلوا الحجر) بكسر المهملة وسكون الجيم، وعطف عليها عطف بيان قوله (ديار ثمود) قوم صالح وهي فيما بين المدينة والشام، وكان ذلك لما توجهوا معه إلى غزوة تبوك في السنة العاشرة من الهجرة

(لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين) بفتح العين والذال المعجمة: أي على منازلهم أو عليهم في قبورهم (إلا أن تكونوا باكين) استثناء من أعم الأحوال: أي لا تدخلوا على أي حال إلا حال بكائكم، وليس المراد الاقتصار عليه حال الدخول بل استمرار ذلك مطلوب عند كل جزء من أجزاء الدخول والمرور بهم، رجاء أنه لم ينزل فيه البتة» (فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم) لأنها مواقع سخط ومنازل بلاء (لا يصيبكم) بالرفع على أن لا نافية: أي لئلا يصيبكم (ما أصابهم) أي مثل ما أصابهم من العذاب. ويجوز الجزم على أنها ناهية وهو نهي بمعنى الخبر، وللبخاري في أبواب الأنبياء «أن يصيبكم» قلت: وهو كذلك في تفسير سورة الحجر منه: أي خشية أن يصيبكم، كذا قدر البصريون مثله، وقدره الكوفيون لئلا يصيبكم فحذف الجار، ووجه هذه الخشية أن البكاء في الأول أرجح لما يأتي ببعثه التفكر والاعتبار، فكأنه أمرهم بالتفكير في أحوال توجب البكاء من تقدير الله تعالى على أولئك بالكفر مع تمكينه لهم في الأرض وإمهالهم مدة طويلة ثم إيقاع نقمته بهم وشدة عذابه، وهو سبحانه مقلب القلوب فلا يأمن المؤمن أن تكون عاقبته إلى مثل ذلك، فمن مرّ عليهم ولم يتفكر فيما يوجب البكاء اعتباراً بحالهم فقد شابههم في الإهمال ودلّ على قساوة قلبه وعدم خشوعه فلا يأمن أن يجرّه ذلك إلى العمل بمثل عملهم فيصيبه ما أصابهم، ولهذا يندفع اعتراض من قال: كيف يصيب عذاب الظالم من ليس بظالم؟ لأنه بهذا التقدير لا يأمن أن يصير ظالماً فيعذب بظلمه اهـ. ملخصاً من «فتح الباري» (متفق عليه) . (وفي رواية) للبخاري في أبواب الأنبياء، ورواه النسائي أيضاً في التفسير من «سننه» (قال) أي ابن عمر (لما مرّ رسول الله بالحجر) في غزوة تبوك (قال) أي لأصحابه (لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم) أي بالكفر بالله وتكذيب رسل الله بتكذيب صالح عليه السلام، إذ من كذب رسولاً بمنزلة من كذبهم لاتفاق دعوتهم واتحاد منهجهم، ولا يضرّ اختلاف فروع شرائعهم فيما ذكر (أن يصيبكم ما أصابهم) أي خشية أن يصيبكم: أي خشية إصابة ما أصابهم، وهذا تقدير البصريين، وخرّج الكوفيون مثله كما مر آنفاً على أن حرف النفي محذوف بين أن ومنصوبها. وتعقب بأن «لا» لا تضمر، إذ لا يجوز حذف النفي ولكن يراد للتأكيد، وحذف المضاف كثير

وبهذا رجح طريق البصريين (إلا أن تكونوا باكين) استثناء من أعم الأحوال كما تقدم: أي لا تدخلوها إلا حال الاعتبار الباعث على البكاء (ثم قنع رأسه) أي ألقي عليه القناع (وأسرع السير) واستمر كذلك (حتى أجاز) أي إلى أن قطع وخلف (الوادي) ففيه النهي عن دخول مواضع العذاب لا على وجه الاعتبار، وطلب الإسراع لداخلها، وفي «المصباح» : الوادي كل منفرج بين آكام أو جبال يكون منفذاً للسيل جمعه أودية.

7 - كتاب آداب السفر

7 - كتاب آداب السفر بفتح أوليه: هو قطع المسافة اسم مصدر سافر، يقال ذلك إذا خرج للارتحال أو لقصد مسافة فوق مسافة العدوى، لأن أهل العرف لا يسمون مسافة المدوى سفراً، قاله في «المصباح» وسمي سفراً لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، وفي «المصباح» أيضاً: قال بعض المصنفين: أصل السفر يوم كأنه أخذه من قوله تعالى: {ربنا باعد بين أسفارنا} (سبأ: 19) فإن في التفسير كان أقل سفرهم يوماً يقيلون في موضع ويبيتون في آخر ولا يتزوّدون لهذا، وجمع السفر أسفار. 166 - باب استحباب الخروج يوم الخميس سمي به لأنه خامس الأسبوع على الصحيح واستحبابه أول النهار منه إن خرج فيه وإلا فمن أي يوم خرج فيه. 1956 - (عن كعب بن مالك رضي الله عنه أنه خرج في غزوة تبوك) بفتح الفوقية وتخفيف الموحدة بالصرف وعدمه (يوم الخميس وكان يحب أن يخرج يوم الخميس) جملة حالية ولذا كان الأفضل الخروج يومه فالاثنين فالسبت (متفق عليه) . (وفي رواية في الصحيحين قلما) «ما» فيه كافة لقلّ عن طلب الفاعل مهيئة لدخولها على الجمل الفعلية (كان رسول الله يخرج

إلا يوم الخميس) ساقه المصنف بعد ما قبله لينبه على أن ندب الخروج يوم الخميس مأخوذ من محبته لذلك وفعله. 2957 - (وعن صخر) بفتح المهملة وسكون المعجمة (ابن وداعة) بفح الواو وبالدال وبالعين المهملتين (الغامدي) بالغين المعجمة وكسر الميم، قال الأصبهاني في «لبّ اللباب» : نسبة إلى غامد بطن من الأزد، واسمه عمر بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نضر بن الأزد، قيل له غامد لأنه كان بين قوم شرّ فأصلح بينهم وتغمد ما كان من ذلك. قال الحافظ: وصخر هذا حجازي سكن الطائف الصحابي المتفق على صحبته. قال أبو الفتح الأزدي وابن السكن: ما روى عنه إلا عمار بن حديد، خرّج عنه الأربعة اهـ. روي له عن رسول الله كما في «مختصر التلقيح» لابن الجوزي حديثان، وقال البرقي له حديث واحد، ولم أقف على من ذكر عام وفاته (رضي الله عنه أن رسول الله قال اللهم) أي يا الله أي يا الله (بارك) المفاعلة للمبالغة: أي أنزل البركة العظيمة الكثيرة (لأمتي في بكورها) بضم الموحدة والكاف. في «المصباح» . قال أبو زيد في كتاب «المصادر» : بكر بكوراً وغدا غدواً هذان من أول النهار. وفي «القاموس» : بكر عليه وإليه وفيه بكوراً وابتكر وأبكر وباكره: أتاه بكرة، وفيه البكرة بالضم الغدوة، وأدرج الراوي في آخر الحديث قوله (وكان إذا بعث سرية أو جيشاً بعثهم من أول النهار، وكان صخر تاجراً فكان يبعث) أي يرسل (تجارته أول النهار) طلباً للبركة الموعود بها فيه (فأثرى) بالمثلثة أي سار ذا ثروة: أي غنى (وكثر) بضم المثلثة (ماله) أي صار كثيراً (رواه أبو داود) في الجهاد (والترمذي) في البيوع (وقال: حديث حسن) ولم يعرف لصخر عن النبي غير هذا الحديث، قاله الحافظ ابن حجر في «الإصابة» ، وتعقب بأن الطبراني أخرج

176 ـــ باب استحباب طلب الرفقة

له آخر متنه «لا تسبوا الأموات» وروى حديث الباب أحمد والنسائي في السير وابن ماجه في التجارات، وقد رواه الترمذي من حديث ابن عباس كما في «الأطراف» . 176 - باب استحباب طلب الرفقة أي طلب المسافر رفقة وهو مثلث الراء سموا بذلك للارتفاق بهم (وتأميرهم على أنفسهم واحداً) والأولى أن يكون فقيها حازماً عارفاً بأبواب السفر، وقوله (يطيعونه) جملة مستأنفة لبيان حكمة التأمير وثمرته، ويجوز جعلها صفة لواحد: أي ينبغي أن يكون الآمر مطاعاً لهيبته وجلاله. 1958 - (عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: لو أن الناس يعلمون من الوحدة) بفتح الواو وسكون الحاء المهملة: أي الانفراد في السفر (ما أعلم) أي الذي أو شيئاً أعلمه أو علمي، ولا يخفى ما في هذه العبارة من الإيماء إلى كثرة حذر الانفراد وأن ذلك لكثرته فوق أن يبين بالعبارة، وأن ومدخولها مؤول بمصدر فاعل فعل الشرط: أي لو ثبت علم الناس ما أعلم من ضرر الوحدة الدنيوي والديني كحرمانه من الصلاة بالجماعة وعدم من يعينه في حوائجه، ولأنه ربما مرض في الطريق فلا يجد من يتولى تمريضه، أو يموت فلا يجد من يتولى أمره وحمل تركته لأهله، وهذا وإن كان يحصل أمره بالثاني لكن كماله إنما يكون بالثلاثة فلذا قال في الحديث بعده «والثلاثة ركب» (ما سار راكب) التعبير به باعتبار أنه شأن المسافر وإلا فالمشي في السفر مثله (بليل) أي فيه، والتقييد بزيادة الضرر الناشىء عن الانفراد وظلام الليل (وحده) أي منفرداً، وجرى بعضهم على أن إضافة وحده للضمير لم تكسبه التعريف لكونه المحل للحال وهو لا يكون إلا نكرة، فمنع ذلك كسب الإضافة للتعريف وعليه فهو معرفة صورة فلا يحتاج للتأويل، وما ذكرته أولاً هو ما عليه الجمهور لأنه معرفة حقيقة بالإضافة وأنه أول لكون الحال لا يكون إلا نكرة، ثم أخذ بعضهم بمفهوم قوله بليل فقال الكراهة في الانفراد ليلاً لا نهاراً (رواه البخاري) قال

ابن مثال في «شرح المشارق» العلم في الحديث بمعنى المعرفة، وراه أحمد والترمذي وابن ماجه بلفظ «لو يعلم الناس من الوحدة ما أعلم» الخ. 2959 - (وعن عمرو بن شعيب) بن محمد بن عبد الله بن عمرو (عن أبيه عن جده) أي جد أبيه وهو عبد الله بن عمرو بن العاص كما تقدم رضي الله عنه، وقد أخذ شعيب عن جده ابن عمرو كما قدمناه (قال: قال رسول الله: الراكب شيطان والركبان شيطانان) والتخصيص بالركوب لا مفهوم له لما ذكر فيما قبله، وكذا الذكورة، فالمرأة والماشي كذلك. قال العراقي: إن المعنى مع الراكب شيطان أو إن المعنى تشبيهه بالشيطان، لأن عادته الانفراد في الأماكن الخالية كالأودية والحشوش. وقال الخطابي: معناه أن التفرد والذهاب وحده في الأرض من فعل الشيطان وهو شيء يحمل عليه الشيطان ويدعوه إليه فقيل لذلك إن فاعله شيطان، وكذا الاثنان ليس معهما ثالث (والثلاثة ركب) أي إذا وجد ذلك تعاضدوا وتعاونوا على نوائب السفر ودفع ما فيه من الضرر، وأصل الركب هم أصحاب الإبل، وأصحاب الخيل والبغال والحمير في معنى ذلك (رواه أبو داود) في الجهاد من «سننه» (والترمذي) في الجهاد أيضاً من «جامعه» (والنسائي) في السير، ورواه الحاكم في «المستدرك» (بأسانيد صحيحة) التعداد باعتبار أول السند، فرواه أبو داود عن القعنبي، ورواه الترمذي عن إسحاق بن موسى عن معن، ورواه النسائي عن عتيبة ثلاثتهم عن عمرو بإسناده المذكور (وقال الترمذي حديث حسن) . 3960 - (وعن أبي سعيد) هو الخدري (وأبي هريرة رضي الله عنهما) قدم أبو سعيد ذلك ذكراً مع أن أبا هريرة أكثر منه مروياً لأنه من الأنصار وأقدم إسلاماً (قالا: قال رسول الله: إذا خرج ثلاثة) خرج الاثنان إن اعتبرنا مفهوم العدد، وظاهر الحديث اعتباره

هنا، واستوجبه بعض شراح «الجامع الصغير» ، وقال بعضهم: لا يبعد قياسهما على الثلاثة في ذلك، ولا ينافيه كونهما شيطانين (في سفر) ولو مكروهاً كما اقتضاه الإطلاق (فليؤمروا) ندباً فيما يتعلق بالسفر من أسبابه وما يعرض فيه (أحدهم) ولو فاسقاً لأن هذه إمارة منوطة برضا المولين ويحتمل خلافه، والفاسق مستثنى من أهلية الولاية شرعاً، والمستثنى الشرعي غير داخل في الإطلاق ولا ينقض بصحة توليته في بعض الأوقات للضرورة لأن ما جاز بالضرورة لا نقض به، والأولى ولاية الأفضل الأجود رأياً، فإن تعارضا فالثاني أولى لأن رعاية المصالح السفرية هي المقصودة بالذات لأن التأمير إنما طلب لها، وينعزل هذا الأمير بالعزل بحنحة أو بانقطاع السفر وهو وصول المقصد أو بإقامة تمنع الترخص (حديث حسن) هذا من تحسينات المؤلف، بل صححه الضياء وأورده في «المختارة» له (رواه أبو داود بإسناد حسن) وقال في «فتح الكبير» : إنه إسناد صحيح، وما قاله المصنف المقدم. 4961 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي قال: خير الصحابة) بفتح الصاد المهملة جمع صاحب، قال في «المصباح» : صحبته أصحبه فأنا صاحب والجمع صحب وأصحاب وصحابة، قال الأزهري: ومن قال صاحب وصحب مثل فاره وفره، والأصل في هذا الإطلاق أنه لمن حصل له مجالسته اهـ: أي خير الأصحاب، قال ابن رسلان: وهو كذلك في غير أبي داود (أربعة) قال الغزالي: الذي ينقدح أن فائدة تخصيص الأربعة أن المسافر لا يخلو عن رجل يحتاج إلى حفظه، وعن حاجة يحتاج إلى التردد فيها، فلو كانوا ثلاثة لكان المتردد في الحاجة واحداً فيتردد في السفر بلا رفيق فلا يخلو عن ضيق القلب لفقد أنس الرفيق، ولو تردد في الحاجة اثنان لكان الحافظ للرجل وحده فلا يخلو عن الخطر ولا عن ضيق القلب، فما دون الأربعة لا يفي بالمقصود وما زاد عليها زيادة على الحاجة، ومن يستغني عنه لا تصرف الهمة إليه، فخير الرفاق الخاصة أربعة. قلت: ويصح أن تكون للعهد أي خير أصحاب رسول الله أربعة ويراد بهم الخلف الأربع والأول أقرب، ثم رأيت العاقولي قال: هو مطلق، فإن حملته على الصحابة فما أنت ببعيد عن الصواب وهم الأربعة الخلفاء الراشدون، وسرت بركتهم إلى كل عدد أربعة فصار خير الأصحاب مطلقاً أربعة، والله أعلم

168 ــــ باب آداب السير

(وخير السرايا) جمع سرية، قال النووي: هي القطعة من الجيش تخرج منه تغير وترجع إليه. وقال إبراهيم الحربي، هي الخيل تبلغ أربعمائة ونحوها فلذا جعلها خير السرايا فقال خير السرايا (أربعمائة) سميت بذلك لأنها تسري في الليل ويخفى ذهابها فعليه بمعنى فاعلة، يقال سرى وأسرى إذا ذهب ليلاً. وضعف ابن الأثير ذلك وقال: سميت بذلك لأنها خلاصة العسكر من الشيء السري: أي النفيس. قال ابن رسلان: والظاهر أنه ليس المراد التحديد بالأربعمائة، ألا ترى إلى خير السرايا وهي عدة أهل بدر ثلثمائة وبضعة عشر، وكذا عدة أصحاب طالوت حين عبروا النهر وما جاوز معه إلا مؤمن، فعليه خير السرايا ما بين ثلثمائة إلى أربعمائة ومن أربعمائة إلى خمسمائة اهـ. وفيه بعد لأن المراد به بيان أحسن مراتب عدد السرية، وأقل من هذا العدد لا يجري مجراه، وما فوقه زيادة على الحاجة وفضل ما ذكر لأمر خارجي لا ينافي التحديد في الحديث (وخير الجيوش) بكسر الجيم وضمها (أربعة آلاف) خصت الأربعة آلاف نظير الأربعة في الآحاد ولعله لما ذكر آنفاً فيما قبله من الإحزاء به دون ما دونه (ولن يغلب اثنا عشر ألفاً) من الجيش (من) تعليل أي لأجل (قلة) أي قلة عدد بل لسبب آخر من عجب بكثرة أو تزيين الشيطان لهم أمرا نشأ عنه خذلهم أو نحو ذلك، وقد زاد العسكري في روايته «وخير الطائع أربعون» (رواه أبو داود) في الجهاد (والترمذي) فيه أيضاً (وقال: حديث حسن) ورواه الحاكم في «المستدرك» . 168 - باب آداب السير والنزول في منازل السفر والمبيت مصدر ميمي أي البيات (والنوم في السفر) الظرف حال من الجمع بأن يقدر متعلقه

عاماً مجموعاً: أي كاثنات فيه (واستحباب السري) بضم فكسر فتشديد ياء: أي السير ليلاً (والرفق بالدواب) بأن لا تحمل فوق الطاقة ولا تجدّ في الإسراع فوق القدرة (ومراعاة مصلحتها) أي ما يصلحها (وأمر من قصر في حقها بالقيام بحقها) وجوباً إن قصر في واجب منه وندباً إن قصر في مندوب (وجواز الإرداف) بل طلبه عند الحاجة إليه لوجه الله تعالى (على الدارة إذا كانت تطيق ذلك) عبَّر فيه بإذا إيماء إلى أن شرط جوازه تحقق ذلك، فإن تردد في إطاقتها حرم إردافها. 1962 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إذا سفرتم في الخصب) بكسر الخاء المعجمة وسكون الصاد المهملة هو خلاف الجدب وهو اسم مصدر من أخصب المكان بالألف، وفي لغة خصب المكان من باب تعب إذا نبت فيه العشب والكلأ (فأعطوا الإبل) بكسر أوليه ويسكن الثاني تخفيفاً اسم جنس (حظها) وعند أبي داود حقها بالقاف بدل الظاء، قال ابن رسلان: ومعناهما متقارب (من الأرض) قال البيضاوي: يعني دعوها ساعة فساعة ترعى (وإذا سافرتم في الجدب) قال في «المصباح» : هو المحل وزناً ومعنى: وهو انقطاع المطر ويبس الأرض، يقال جدب البلد بضم الدار جدوبة (فأسرعوا عليها السير) وعطف على ذلك الباعث على الإسراع بقوله (وبادروا بها) بالموحدة (نقيها، وإذا عرستم فاجتنبوا الطريق) أي النزول بها بل اعدلوا وأعرضوا عنها، وعلل ذلك بقوله (فإنها طرق) بضمتين ويسكن الثاني تخفيفاً جمع طريق أي محل ممر (الدواب) لسهولتها فربما تضرّ بالنازل بها (ومأوى الهوامّ بالليل) أي محل إيوائها وذلك أنها تقصد ذلك بالإلهام لكونه ممراً فيسقط به شيء من المأكول ونحوه وعادي إليه بالتماس ذلك (رواه مسلم) ورواه أبو داود أيضاً والترمذي: (معنى أعطوا الإبل حظها) بفتح المهملة وإعجام الظاء المشددة وهو النصيب (من الأرض) متعلق بأعطوا. ويجوز تعلقه بحظ وإعرابه حالاً من المفعول (أي ارفقوا بما في السير) بترك الإسراع لئلا يكون مانعاً لها من الرعى بل ارفقوا (لترعى) في حال

سيرها فتجمع بين استيفاء ما عليها منا لسير وما لها من تناول ذلك (وقوله نقيها هو بكسر النون وإسكان القاف وبالياء المثناة من تحت وهو المخ) هو بيان للمراد من الحديث: أي أريد بالنقي المخ مجازاً مرسلاً من إطلاق اسم المحل على الحال كإطلاق الغائط على الخارج، ففي «القاموس» و «المصباح» النقو والنقي كل عظم ذي مخ، لكن متقضى قول «النهاية» : النقي المخ، يقال نقيت العظم ونقوته ونقيته اهـ أنه لذلك المعنى، وأنه من المعاني التي ذكرها أصحاب كتب الغرائب دون مدوني كتب اللغة (معناه) أي معنى قوله «وإذا سافرتم» في الجدب إلى قوله «نقيها» (أسرعوا بها حتى تصلوا المقصد قبل أن يذهب مخها من ضنك) أي جهد (السير والتعريس) قال الخليل ابن أحمد: والأكثرون هو (النزول في الليل) للنوم أو الاستراحة، وقال أبو زيد: هو النزول أيّ وقت كان من ليل أو نهار. 2963 - (وعن أبي قتادة) تقدم الخلاف في اسمه والراجح أن اسمه الحارث بن النعمان (رضي الله عنه قال: كان رسول الله إذا كان في سفر فعرس بليل) ذكره مع أن التعريس لا يكون إلا ليلاً ليفيد بقاء جانب من الليل له وقع (اضطجع على يمينه) لأن النفس تستوفي حقها من النوم لبقاء ما بقي من الليل، والنوم على اليمين أشرف جهة ولئلا يستغرق في النوم لكون القلب يكون حينئذ معلقاً فلا ينغمر في النوم (وإذا عرس قبيل الصبح) أي في أواخر الليل والباقي منه لا يقوم حظ البدن من المنام (نصب ذراعه) أي اليمين لأنها الأشرف (ووضع رأسه على كفه) المنصوب ذراعها (رواه مسلم) في الصلاة، ورواه الترمذي في «شمائله» (قال العلماء: إنما نصب ذراعه لئلا يستغرق في النوم) لو نام مضطجعاً (فتفوت صلاة الصبح) بأن يستمر نائماً إلى طلوع الشمس كما في قصة نومه بالوادي (عن

وقتها أو عن أول وقتها) بأن يستيقظ قبل طلوعها بعد الإسفار مثلاً، والنوم قبل دول وقت الصلاة جائز وإن علم تفويتها به، وبعد دخوله لا يجوز إلا إن غلبه بحيث أذهب إحساسه، أو كان يعلم قيامه قبل خروج الوقت بوجود من يوقظه أو يعلم ذلك من عادته. 3 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: عليكم بالدلجة) بضم فسكون وبفتحتين وهو سير الليل سحراً كان أو غيره بدليل قوله (فإن الأرض تطوى) بضم الفوقية مبني للمفعول (بالليل) أي فيه أو بسببه والطيّ قيل على حقيقته وأنها ينزوي فيه بعضها إلى بعض ويدخل فيه، وقد ورد «عليكم الدلجة فإن لله ملائكة يطوون الأرض للمسافر كما تطوى القراطيس» رواه الطبراني وغيره، وقيل إنه مجاز عن قطع الدوابّ فيه من المسافة مالا تقطعه منها في النهار لنشاطها ببرد الليل، خصوصاً آخره الذي ما فعل فيه شيء من العبادات والمباحات إلا كان فيه البركة الكثيرة لأنه وقت التجلي، وقال تعالى: {فأسر بأهلك بقطع من الليل} (هود: 81) أي سر في سواد الليل: أي إذا بقي منه قطعة، وقال ابن رواحة. عند الصباح يحمد القوم السري وتنجلي عنهم غيابات الكرى ثم قد ورد النهي عن السير أول الليل، قال «لا ترسلوا مواشيكم وصبيانكم إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء» وهو في الصحيح، وقد كره البيهقي السير أول الليل لذلك، وتعقبه المصنف في المجموع بأنه لا يقتضي إطلاق الكراهة قال: والمختار أنه لا يكره، قال الشيخ عبد الرءوف المكي الواعظ: كراهة إرسال المواشي حينئذ محمولة على إرسالها من غير حافظ لها (رواه أبو داود بإسناد حسن) ورواه الحاكم في «المستدرك» والبيهقي (الدلجة) بالوجهين السابقين في ضبطه (السير في الليل) أي جزء منه أولاً كان أو آخراً.

وقال ابن رسلان الدلجة: بالضم فالسكون سير آخر الليل فيه البركة. 4965 - (وعن أبي ثعلبة) بفتح المثلثة وسكون المهملة بينهما (الخشنى) بضم المعجمة الأولى وفتح الثانية بعدها نون، قال في التقريب: مشهور بكنيته، قيل اسمه جرثوم أو جرثومة أو جرثم أو جرهم أو لا شر بمعجمة مكسورة بعدها راء أو لاش بغير راء أو لا سومة أو ناسب أو ياسر أو عروق أو سواء أو زيد أو الأسود. واختلف في اسم أبيه أيضاً، مات (رضي الله عنه) سنة خمس وسبعين، وقيل بل قبل ذلك بكثير في أول خلافة معاوية بعد الأربعين، خرّج له الستة اهـ. وروي له عن النبي أربعون حديثاً. أخرج له في الصحيحين أربعة، اتفقا على ثلاثة منها، وانفرد مسلم بواحد (قال: كان الناس إذا نزلوا) بالبناء للفاعل (منزلاً) أي في مكان من منازل سفرهم (تفرقوا في الشعاب) بكسر الشين المعجمة جمع شعب بالكسر وهو الطريق في الجبل كذا في «المصباح» (والأودية) جمع واد، وتقدم أنه كل منفرج بين جبال أو آكام يكون منفذاً لليل (فقال رسول الله: أي تفرقكم في هذه الشعاب) ظرف لغو متعلق بالمصدر قبله أو مستقر في محل الحال أو الصفة: أي تفرقكم حال كونه كائناً أو الكائن لأن الإضافة فيه للتعريف الجنسي (والأودية، إنما ذلكم) توكيد لما قبله لطول الفصل بالظرف بعد اسمها فهو نظير قوله تعالى: {أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون} (المؤمنون: 35) والمشار إليه التفرق وجمع كاف الخطاب لجمع المخاطبين وهي في اللغة الفصيحة تختلف باختلاف إفراداً وتذكير وضديهما والخبر قوله (من الشيطان) أي ناشىء من وسواسه وإغوائه وذلك أن المراد من الرفقة دفع ما يعرض في السفر من عدم ركوبه والإعانة على نوائب السفر والتفرق مانع منه (فلم ينزلوا بعد ذلك منزلاً) أي من منزل (إلا انضم بعضهم إلى بعض) امتثالاً لإشارة المصطفى، وتحرجاً من العمل الداعي إلى الشيطان كما نطق به الخبر، وتلبساً بالأمر الداعي إليه الرحمن كما دل عليه مفهوم الخبر (رواه أبو داود بإسناد حسن) .

g 5966 - (وعن سهل) بفتح فسكون (ابن عمرو، وقيل سهيل بن الربيع) بفتح الراء وكسر الموحدة (ابن عمرو) بن عدي بن زيد (الأنصاري) الأوسي من بني حارثة (المعروف بابن الحنظلية) بفتح المهملة والظاء المشالة وسكون النون بينهما: اسم أمه أو من أمهاته. وعلى وصفه بهذا اللفظ اقتصر في «أسد الغابة» في باب ما يعرف بابن فلانة فقال ابن الحنظلية، ولم يسق الخلاف المذكور في اسم أبيه (وهو من أهل بيعة الرضوان) التي كانت بالحديبية تحت الشجرة قال في «أسد الغابة» في الأسماء: وكان معتزلاً عن الناس كثير الصلاة والذكر، كان لا يزال يصلي مهما هو بالمسجد،. فإذا انصرف لا يزال ذاكراً من تسبيح وتهليل حتى يأتي أهله وسكن دمشق ومات بها أول خلافة معاوية ولا عقب له (رضي الله عنه) وفي «الإصابة» للحافظ بن حجر: اسم أبيه الربيع، وقيل عبيد، وقيل عقب بن عمرو وقيل عمرو بن عدي وهو الأشهر وعدي هو ابن عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاري الأوسي. قال ابن أبي خيثمة: والحنظلية أمه وقبل جدته وقيل أم جده. قال ابن سعد: الحنظلية أم عمرو بن عدي واسمها أم إياس بن دارم التميمية، فمن كان من ولد عمرو قيل له ابن الحنظلية. قال البخاري: له صحبة، وكان عقماً. وقال غيره: شهد المشاهد كلها إلا بدراً اهـ. وقال المزي في «الأطراف» : قيل له ابن الحنظلية لأن أم أبيه من بنى حنظلة من تميم، وذكر له في «الأطراف» خمسة أحاديث، ولا شيء له في الصحيحين، وذكره ابن الجوزي في «مختصر التلقيح» فيمن روي له في مسند تقي بن مخلد تسعة أحاديث بتقديم الفوقية والله أعلم (قال: مرّ رسول الله ببعير) قال في «المصباح» : هو مثل الإنسان يقع على الذكر والأنثى، والجمل بمنزلة الرجل يختص بالذكر والناقة بمنزلة المرأة تختص بالأنثى (قد لحق) وفي لفظ السنن بالصاد بدل الحاء (ظهره ببطنه) أي من الجوع والجهد (فقال اتقوا الله) وتقواه واجبة مطلقاً، ويتأكد الوجوب بأسباب بالنسبة لحال المخاطبين ووقائع الأحوال: منها قوله هنا (في هذه البهائم) الممتن عليكم شرعاً بركوبها ونحوه (المعجمة) صفة نص عليها للاستعطاف عليها ومزيد الشفقة بها والمعجمة بصيغة المفعول والعجماء بمعنى، وسميت به البهيمة لأنها لا تتكلم، ومن لا يفصح بكلامه يقال فيه أعجم ومعجم ومستعجم. قال الدميري: وسميت البهيمة بهيمة لأنها لا تتكلم (فاركبوها) أمر إباحي (صالحة) أي للركوب أي حيث كانت تطيقه

وهو حال من المفعول (وكلوها) أمر كالذي قبله (صالحة) للأكل بأن ذكيت ذكاة شرعية، وقد يقال في وصفها بالصلاح إيماء إلى الأمر بأسباب صلاحيتها، وخرج بصالحة ما لا تصلح للأكل كالهدي الواجب بنذر أو غيره، فلا يصلح للمهدي الأكل منها، والاقتصار على الركوب والأكل لأنهما أظهر منافعها أو للتنصيص على أن الوصف بالصلاحية فيهما أهم منه في غيرهما (رواه أبو داود بإسناد صحيح) ورواه أحمد وابن خزيمة وابن حبان في «صحيحيهما» . 6967 - (وعن أبي جعفر عبد الله بن جعفر) بن أبي طالب القرشي الهاشمي (رضي الله عنهما) أمه أسماء بنت عميس الخثعمية، وقدم مع أبيه المدينة من الحديبية، وهو أخو محمد ابن أبي بكر الصديق ويحيى بن علي بن أبي طالب لأمهما، وروي له عن رسول الله خمسة وعشرون حديثاً اتفقا على حديثين منها، توفي رسول الله وله عشر سنين. قال الحافظ في «التقريب» : مات سنة ثمانين وهو ابن ثمانين سنة (قال: أردفني رسول الله) أي حملني خلفه على ظهر الدابة (ذات يوم) قال الحافظ في مقدمة «فتح الباري» : تكرر قوله ذات يوم وذات ليلة وذات بينكم، وكله كناية عن نفس الشيء وحقيقته، وتطلق على الخلق والصفة، وأصلها اسم إشارة للمؤنث، وقد تجعل ذات اسماً مستقلاً فيقال ذات الشيء، وقوله (خلفه) تأكيد لمفهوم قوله أردفني، أو جرد الإرداف عن كونه خلف الراكب وأريد به مطلق الحمل معه على الدابة وهو بالنصب ظرف مكان (وأسر) أي أخفى (إليّ حديثاً لا أحدث به أحداً من الناس) جملة النفي محتملة لكونها صفة حديث: أي حديثاً شأنه ألا أبديه لأحد، ولكونها مستأنفة وأتى بها لئلا يطلب منه بيانه (وكان أحب) بالنصب خبر كان مقدم، ويجوز الرفع اسمها، والأول أولى لكونه وصفاً وهو بالإخبار أليق، ويؤيده اتفاق الأصول على رفع هدف (ما استتر به رسول الله) أي من الأعين عند قضاء حاجة الإنسان كما في نسخة لحاجة (هدف) بفتح أوليه قال في «المصباح» هو كل شيء عظيم مرتفع، قاله ابن فارس مثل الجبل وكثيب الرمل والبناء والجمع أهداف كسبب وأسباب

(أو حائش) بالمهملة وبعد الألف همزة فشين معجمة (نخل) وقال عبد الله بن أسماء الضبعي أحد شيخي مسلم فيه كما صرح به مسلم بقوله قال ابن أسماء (يعني) أي ابن جعفر بقوله حائش نخل بالشين المعجمة (حائط نخل) بالطاء المهملة والحائط هو البستان وجمعه حوائط، وسمى حائطاً لأنه يحوط ما فيه من الأشجار وغيرها (رواه مسلم) في الطهارة (هكذا مختصراً) ورواه أيضاً في الفضائل وليس فيه قوله وكان أحب الخ» . (وزاد فيه) الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن أحمد بن غالب (البرقاني) بفتح الموحدة والقاف وسكون الراء بينهما الخوارزمي نسبة إلى قرية من قرى كانت بنواحي خوارزم خربت. قاله الأصبهاني في «لبّ اللبابّ» قال: الفقيه المحدث الأديب الصالح (بإسناد مثل هذا بعد قوله حائش تخل فدخل حائطاً لرجل من الأنصار فإذا) فجائية (فيه جمل) أي عند الباب كما في رواية (فلما رأى) أي أبصر (الجمل النبي جرجر) أي صوت، والجرجرة بجيمين وراءين: صوت يردده البعير في حلقه، وعند أبي داود حن بالمهملة والنون المشددة (وذرفت) بالمعجمة وفتح الراء (عيناه) أي سال منهما الدمع حين رآه، وفي رواية حتى ابتل ما حوله من الدموع وهذا من معجزاته الدالة على صدق نبوته (فأتاه النبي) تواضعاً منه (فمسح سراته) بفتح أوليه المهملين وبعد الألف فوقية فسره بقوله (أي سنامه وذافراه) وفي «النهاية» : سراة: كل شيء ظهره وأعلاه، ومنه الحديث «فمسح سراة البعير وذفراه» ثم هذا التفسير يحتمل أن يكون من بعض الرواة أدرجه، وأن يكون من المصنف رحمه الله تعالى، وعند أبي داود، فمسح ذفريه بالياء بدل الألف، قال ابن رسلان: قلبت الألف فيه ياء وهي ألف التأنيث. قلت: الظاهر أنها حينئذ ألف المثنى وإلا فألف التأنيث لا تقلب ياء في مثله والله أعلم، ويأتي ضبطه ومعناه، وفعله به ذلك من كمال شفقته ومزيد رحمته (فسكن) أي ما به من ذلك الصوت (فقال: من ربّ هذا الجمل) أي صاحبه. وفيه دليل لإطلاق الربّ مضافاً على غير الله تعالى، أما المعرف

باللام فلا يطلق على غير الله تعالى (لمن هذا الجمل) لعله كرر السؤال عن مالكه لشدة اعتنائه بمعرفته وكثرة شفقته على الجمل (فجاء فتى من الأنصار) لم أقف على من سماه، وفي رواية لأحمد «فقال النبي: انظر لمن هذا الجمل، قال: فخرجت ألتمس صاحبه فوجدته لرجل من الأنصار، فدعوته له فقال: ما شأن جملك هذا؟ فقال: ما شأنه؟ لا أدري والله ما شأنه عملنا عليه ونضحنا عليه حتى عجز عن السقاية، فأتمرنا البارحة أن ننحره ونقسم لحمه، قال: فلا تفعل» قال ابن رسلان: في هذه الرواية منع نحر الجمل إذا: أزمن وعجز عن العمل وإن أريد أكل لحمه وقد صرح به أصحابنا اهـ. ولم أر من نقله عن أصحابنا والله أعلم. (فقال: وهذا لي يا رسول الله: قال: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة) أي أتهمل أمرها فلا تتقي الله في أمرها. قال الأزهري: البهيمة في اللغة معناها المبهمة عن العقل والتمييز، والمعنى: ألا تتقي الله فيما لا لسان لها فتشكو ما بها من جوع وعطش ومشقة، فهو أبلغ في الأمر بالتقوى فيها من نحو اتق الله (التي ملكك الله) أظهر في مقام الإضمار لزيادة الحض والحث على التقوى فيها (إياها) أي أنعم بها عليك فلا تقابل نعمته بمعصيته بل بالشكر والإحسان ليدوم لك الامتنان، ثم ذكر الداعي إلى تحريضه على إصلاح شأنها بقوله (فإنه) التذكير باعتبار أنه جمل: أي فإن الجمل، وفيه تفنن في التعبير (يشكو إليّ) لا مانع من إجرائه على حقيقه، وعرف النبي ذلك باطلاع الله تعالى له عليه فهو من جملة معجزاته أو فهم ذلك من أحواله (أنك تجيعه) بضم أوله (وتدئبه) بضم التاء الفوقية أيضاً مضارع من الإفعال من الدأب بمهملة ثم همزة ثم موحدة: أي تكده وتتعبه في العمل، وفي رواية لأحمد «شاكياً كثرة العمل وقلة العلف» (ورواه أبو داود) في الجهاد (كرواية البرقاني) بتفاوت بسير منه على بعضه (قوله ذفراه هو بكسر الذال المعجمة وإسكان الفاء وهو لفظ مفرد مؤنث) قال أهل اللغة الذفري الموضع الذي يعرق من الإبل خلف الأذن، وقوله (تدئبه) بالضبط المذكور فيه (أي تتعبه) بضم الفوقية إفعال من التعب.

7968 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: كنا) أي معشر الصحابة (إذا نزلنا منزلاً) أي في منزل من منازل السفر (لا نسبح حتى نحل) بضم المهملة (الرحال) أي نضعها عن ظهور الجمال، والرحال بكسر الراء وبالمهملة جمع رحل بفتح فسكون: هو كل شيء يعدّ للرحيل من وعاء للمتاع ومركب للبعير وحلس ورسن، ويجمع في القلة على أرحل كبحر وأبحر كذا في «المصباح» (رواه أبو داود بإسناد على شرط مسلم) فرواه في الجهاد عن محمد بن المثنى عن محمد بن جعفر عن شعبة عن حمزة الضبي عن أنس (وقوله لا نسبح: أي لا نصلي النافلة) وأطلق على الصلاة بطريق المجاز المرسل من تسمية الكل باسم الجزء ففيه مجاز مرسل تبعي. (ومعناه أنا مع حرصنا) بكسر الحاء المهملة وسكون الراء (على الصلاة) واهتمامنا بها (لا نقدمها على حط الرحال إراحة للدواب) وإن كان فيه مبادرة للطاعة ومسارعة بالعبادة لكن يقدم عليها إراحتها شفقة ورحمة. وفي «حواشي سنن أبي داود» للمنذري وقد قال الحافظ: إن لفظ «لا» وإن الصواب «كنا إذا نزلنا منزلاً لا نسبح حتى نحلّ الرحال» رواه غير واحد من الثقات، فرواه ابن السني بلفظ «كنا إذا نزلنا سبحنا حتى نحل الرحال» فقيل معناه نشتغل بالصلاة: تحية المنزل والتنفل ونحوه حتى يطأ أصحاب الرحال رحالهم، ثم نجتمع ونشتغل ببعض ما يشتغل به المسافر إذا حلّ من تهيئة الطعام، لكن الذي رأيناه في النسخ المعتمدة «لا نسبح» بزيادة لا النافية وهو أقرب إلى المعنى. فإن تأخر سبحة النافلة له فوائد: منها إراحة البهائم التي لم تصل إلى المنزل إلا وقد حصل لها التعب الكثير، فاشتغالهم بالصلاة فيه تأخير بالحط عنها، بخلاف ما إذا اشتغل الجميع بالحط، ولأن حط أصحاب الرحال رحالهم يشغل خاطر المصلي، وفي الخبر استحباب التنفل بالسفر كالحضر. وقد حكى المصنف اتفاق الفقهاء على استحباب النفل المطلق في السفر والخلاف في الراتبة، ثم استدلال المصنف بهذا مبني على القول بأن قول الصحابي كنا نفعل كذا مرفوع حكماً، سواء أضافه إلى زمن النبي أو لا، وهو ما عليه الإمام والحاكم والإمام فخر الدين الرازي. وقد قال ابن الصباع في العدة: إنه الظاهر، وقد أطلق الحاكم ما ذكر الإمام والسيف

169 ـــ باب إعانة بالمهملة والنون (الرفيق)

الآمدي ولم يقيداه بالتقييد بالعهد النبوي، قال في «المجموع» : وبه قال كثير من الفقهاء، وهو قوي من حيث المعنى، والذي عليه ابن الصلاح أنه حيث لم يقيد بالعهد النبوي موقوف لفظاً وحكماً. 169 - باب إعانة بالمهملة والنون (الرفيق) يحتمل أن يكون المصدر مضافاً لفاعله: أي إعانة الرفيق من سعة، ويحتمل أنه مضاف للمفعول: أي إعانة المسافر الرفيق: أي المرافق في السفر. (في الباب) أي مطلق الإعانة (أحاديث كثيرة تقدمت كحديث: والله في عون العبد) أي الإنسان (ما كان العبد) مدة كون العبد (في عون) أي إعانة (أخيه) مصدر مضاف للمفعول (وحديث: كل معروف) أي يطلب ويعرف شرعاً (صدقة) ودخل ما ترجم له الباب في عموم كل منهما (وأشباههما) أي أحاديث تشبه ما ذكر من الحديثين في طلب نفع الغير، وقد جمع من ذلك الحافظ المنذري أربعين حديثاً وأوردناها في «إيقاظ النائم من سنة نومه» ببعض فوائد قوله تعالى: {وإذ استسقى موسى لقومه} (البقرة: 60) . 1969 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما نحن في سفر) أي مع النبي (إذ جاء رجل على راحلة له فجعل يصرف) بفتح أوله وكسر ثالثه أي يقلب (بصره يميناً وشمالاً) ينظر من يتوسم فيه الإعانة (فقال رسول الله من) أي الذي (كان معه فضل ظهر) مركوب فاضل عن حاجته إليه (فليعد) بفتح التحتية أي من العائدة بمعنى الصلة (به) الباء للتعدية (على من لا ظهر له) أي يواسي من عنده ذلك المحتاج بإركابه

على الظهر، وحمله ابن مالك على العود بمعنى الرجوع فقال وهذا: أي العود بالظهر قد يحصل بلا عود، وإنما عبر عنه بالعود لأن الغالب في من لا مركب له التأخر عن الرفقاء ومواساته إنما تحصل بالعود (ومن كان له فضل زاد) أي زاد فاضل عن حاجته (فليعد به على من لا زاد له) أراد به كما قبله الإحسان، وقال ابن مالك: عبر عنه بالعود لما ذكرنا أو للمشاكلة (فذكر) أي النبي أنواعاً (من أصناف المال) وأن من عنده الفضل منها عاد به على من لا شيء له منها، وقوله (حتى) غاية لذكر الأصناف: أي ما زال يستقرى. أصناف المال ويأمر بالتصدق بفضولها إلى أن (رأينا) أي علمنا أو ظننا (أنه لا حق) أي استحقاق (لأحد منا في فضل) أي فاضها منها وأنه يجب دفعها للمحتاج إليه (رواه مسلم) ورواه أحمد وأبو داود وأبو يعلى وابن حبان كلهم عن أبي سعيد كما في «الجامع الكبير» . 2970 - (وعن جابر رضي الله عنه عن رسول الله: إنه إذا أراد أن يغزو قال: يا معشر) وفي «المصباح» المعشر والقوم والرهط والنفر والجماعة الرجال دون النساء وجمعه معاشر (المهاجرين والأنصار) قدم الأولين لأفضليتهم بالسبق (إن من إخوانكم قوماً ليس لهم مال ولا عشيرة) هي القبيلة ولا واحد لها من لفظها والجمع عشيرات وعشائر (فليضم أحدكم إليه الرجلين والثلاثة) أي أحدكم يضم الاثنين وأحدكم يضم ثلاثة على حسب الحال من اليسار والإعسار (فما لأحدنا) أي الأغنياء الواجدين (من ظهر يحمله إلا عقبة) بضم فسكون منصوب على المصدر (أحدهم) يعني كعقبة أحدهم، والمعنى أنهم كانوا يتساوون في تناوب ركوب الظهر فيركب المالك عقبة وذلك المسكين كذلك (قال: فضممت إليّ اثنين أو) شك من الراوي (ثلاثة) بالنصب (وما لي إلا عقبة أحدهم) جملة حالية من فاعل ضممت (من

170 ـــ باب ما يقوله أي الراكب (إذا ركب دابته)

جملى) بفتح أوليه أي من ركوبه (رواه أبو داود) . 3971 - (وعنه قال: كان رسول الله يتخلف في المسير) مصدر ميمي أي في السير في السفر فيكون في آخر الناس (فيزجى) بالزاي والجيم من الإزجاء: أي يسوق (الضعيف) في «القاموس» زجاه ساقه ودفعه كزجاه وأزجاه (ويردف) أي يركب على دابة (ويدعو له) فيعان ببركة دعوته ويصل لمطلبه (رواه أبو داود بإسناد حسن) ورواه الحاكم في «المستدرك» . 170 - باب ما يقوله أي الراكب (إذا ركب دابته) أي عند ركوبها (للسفر) ظاهر عمومه ولو كان غير مباح كالسفر لنحو قطع طريق، ولا بعد فيه لأن الجهة منفكة، وظاهر عبارته أنه لا يأتي به وقت ركوبها في غير السفر، وظاهر الآية طلب الذكر حينئذ وهو الأقرب وذكر السفر جرى على الغالب. (قال الله تعالى) : ( {وجعل} ) أي خلق ( {لكم من الفلك} ) أي السفن ( {والأنعام} ) جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم، والمراد منه هنا الإبل (ما تركبون) أي الذي تركبونه بحذف العائد اختصاراً ( {لتستووا على ظهوره} ) ذكر الضمير وجمع الظهر نظراً للفظ ما ومعناها ( {ثم تذكروا نعمة ربكم} ) أي إنعامه عليكم ( {إذا استويتم عليه} ) أي وقت استوائكم عليه فهو ظرف لتذكروا ( {وتقولوا} ) أي عند الركوب ( {سبحان الذي سخر لنا هذا} ) أي إنه مقدس عما

لا يليق به منتزه عن سائر سمات الحوادث من الركوب والاستقرار على شيء ( {وما كنا له} ) أي لتسخيره المدلول عليه بقوله سخر لنا هذا أوله: أي المشار إليه ( {مقرنين} ) أي مطيقين ( {وإنا إلى ربنا لمنقلبون} ) ذكر لتنبيه الغافل للموت الذي قد ينشأ عن الركوب من تعثر الدابة وسقوطه عنها فيحمله ذلك على الاستكانة لله سبحانه والتوبة عن سائر المخالفات. 1972 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله كان إذا استوى على بعيره) ليس ذكره لتقييد طلب الذكر به بل يطلب عند ركوبه كل مركوب (خارجاً إلى السفر) أي سفر كان (كبر) أي قال الله أكبر (ثلاثاً) ظرف لكبر ( {ثم قال: سبحان الذي سخر لنا هذا} ) أي ذلله فتسخر قال الله تعالى: {وذللناها لهم} (يس: 72) ( {وما كنا له مقرنين} ) جملة حالية من مجرور واللام ( {وإنا إلى ربنا لمنقلبون} ) جملة حالية أيضاً من «الذي» قبله أو من اسم كان أو ضمير خبره، فعلى الأول حال مترادفة وعلى الآخر حال متداخلة (اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا) أي بخصوصه (البر) بكسر الموحدة أي الخير والفضل أو عمل الطاعة وعليه فعطف قوله (والتقوى) من عطف العام على الخاص إن أريد بها الكف عن المخالفة وفعل الطاعة، وإن أريد بها الكفّ عن المعصية فهو من عطف المغاير وسؤال ذلك فيه لأن السفر مظنة ترك البرّ والتقوى إلا بتأييد من الله سبحانه (ومن العمل ما ترضى) أي ما تحبه وتقبله والعائد محذوف (اللهم هون علينا سفرنا) أي مشقته أو المشقة فيه ووصفه بقوله (هذا) لما تقدم (واطو) بوصل الهمزة: أي أزل أو ادفع (عنا بعده) أي حقيقة أو حكماً (اللهم أنت الصاحب) قال في «الفائق» : أي الملازم، وأراد بذلك مصاحبة الله إياه بالعناية والحفظ من الحوادث والنوازل في السفر.t قال الشيخ أحمد بن حجر الهيتمي: إطلاق الصاحب على الله تعالى بقيد (في

السفر) جائز لا غير مقيد به لأن أسماءه تعالى توقيفية، وكذا كل ما ورد مقيداً كقوله (والخليفة) أي المعتمد عليه والمفوض إليه حضوراً وغيبة (في الأهل) ولا يطلق عليه كل من الصاحب والخليفة من غير قيد اهـ ملخصاً. قال التوربشتي: الخليفة هو الذي ينوب عن المستخلف عنه، والمعنى: أنت الذي أرجوه وأعتمد عليه في غيبتي عن أهلي أن يلم شعثهم ويداوي سقيمهم ويحفظ عليهم دينهم وأمانتهم (اللهم إني أعوذ) أي اعتصم (بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر) بفتح الميم والظاء قيل المراد الاستعاذة من كل منظر يعقب النظر إليه الكآبة فهو من قبيل إضافة المسبب إلى السبب (وسوء المنقلب) بصيغة المفعول مصدر ميمي: أي الانقلاب من السفر والعود إلى الوطن بمعنى استعاذ من أن يعود لوطنه فيرى ما يسوؤه (في المال والأهل) المراد بالأهل أهل البيت من الزوجة والخدم والحشم. قال ميرك استعاذ من أن ينقلب إلى وطنه فيلقي ما يكتئب به من سوء أصابه في سفره كأن يرجع غير مقضي الحوائج، أو يصيب ماله آفة، أو كأن يقدم أهله فيجدهم مرضى أو يفقد بعضهم، قال في «الحرز» : أو يرى بعضهم على المعصية (وإذا رجع) أي لابس الرجوع بالشروع فيه (قالهن) أي الكلمات المذكورة (وزاد فيهن) أي عليهن وهل في آخرهن أو أولهن؟ كل محتمل (آئبون) بكسر الهمزة بعد الألف: أي راجعون وهي خبر لمحذوف: أي نحن معشر الرفقاء آئبون (تائبون) أي من المعاصي، والأولى أن يقال تائبون عن الغفلة فإن الأوّاب صفة الأنبياء ومنه قوله تعالى: {إنه آواب} (ص: 44) وصفة المؤمنين ومنه قوله تعالى: {إنه كان للأوابين غفوراً} (الإسراء: 25) (عابدون لربنا حامدون) الظرف متعلق بما قبله من العوامل، ويحتمل أن يكون متعلقاً أيضاً بما بعده وليس هو حينئذ من باب التنازع وإن وهم فيه صاحب الحرز، لأن شرط التنازع سبق العوامل المعمول، نعم هو من باب التنازع بالنظر للعوامل قبله (رواه مسلم) وكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي (معنى مقرنين مطيقين، والوعثاء بفتح الواو وإسكان المهملة وبالثاء المثلثة وبالمد وهي الشدة) المشقة (والكآبة بالمد) مع فتح الكاف قبل الهمزة الممدودة

(وهي تغير النفس من حزن) بضم فسكون وبفحتين (ونحوه) أي غم وهم وفي «المصباح» : الكآبة أشد الحزن (والمنقلب) بضم الميم وفتح اللام مصدر ميمي كما تقدم، وكذا فسره المصنف بقوله (المرجع) بفتح الميم والجيم. 2973 - (وعن عبد الله بن سرجس) بسين مهملة أوله وآخره وبعد الأولى راء فجيم بوزن نرجس ويحرز صرفه ومنعه، وهو صحابي سكن البصرة وخرج حديثه الأئمة الستة (المزني) بضم الميم وفتح الزاي بعدها نون نسبة لمزينة، قال الحافظ في «التقريب» : وهو حليف بني مخزوم (رضي الله عنه) روي له عن رسول الله فيما قاله ابن حزم في سيرته وابن الجوزي في «مختصر التلقيح» سبعة عشر حديثاً بتقديم المهملة، وانفرد به مسلم عن البخاري فروى له ثلاثة أحاديث (قال كان رسول الله إذا سافر) يحتمل أن يكون على حقيقته: أي إذا لابس السفر بأن شرع في السير أو أنه مجاز عن إرادة ذلك، ويجوز أن يراد كلاهما (يتعوذ) أي كان يقول أعوذ بالله (من وعثاء السفر وكآبة المنقلب) أي الانقلاب (والحور) بالمهملتين المفتوحة أولاهما بينهما واو ساكنة (بعد الكون) بوزن ما قبله أي من الهبوط بعد الرفعة والاستعاذة منه حينئذ لأن السفر مظنة التفريط فيما يطلب فعله، وهو أيضاً حكمة قوله (ودعوة المظلوم) لأن ذلك قد ينشأ عنه من ظلم الدابة بتحميلها فوق طاقتها أو تكليفها من الجهد في المشي فوق قدرتها أو منع الجمال ونحوه من الإتباع والعملة عن أجرهم أو نقصه، أو لأن دعوة المظلوم المسافر الذي لا يلقي إعانة ولا إغاثة أقرب إلى الإجابة (وسوء المنظر) أي وأن أنظر ما يسوءني (في الأهل) من مرض أو موت أو اشتغال بمخالفة أمر الله تعالى (والمال رواه مسلم) والترمذي والنسائي وابن ماجه كلهم من حديث عبد الله بن سرجس (هكذا هو في صحيح مسلم) وبين المشار إليه بقوله (الحور بعد الكون) بالنون وكذا: أي كما ذكر من كون الكون بالنون (رواه الترمذي

والنسائي) وقوله إنه كذلك في «صحيح مسلم» هو باعتبار أكثر أصوله والمشهور منها كما في «الأذكار» (قال الترمذي) في «جامعه» (ويروي الكور) بالجر على الحكاية (بالراء) بدل النون (وكلاهما) أي كلا الراويتين (له وجه) من جهة المعنى (قال العلماء) بغريب الحديث ومعانيه (معناه بالنون والراء جمعياً: الرجوع من الاستقامة أو الزيادة إلى النقص) ، أي أعوذ بك من الحور وهو النقص بعد الوجود والثبات الذي هو معنى الكون. قال في «الفائق» ، الحور الرجوع بعد الكون بالنون: أي الحصول على حالة جميلة يريد الرجوع بعد الإقبال، إذ الكون وهي الرفعة لازمة لمعنى الكور الذي أشار إليه قوله (قالوا: ورواية الراء مأخوذة من تكوير العمامة وهو لفها وجمعها) وحينئذ فتكون الاستعاذة من النقض بعد الإبرام أو من النقص بعد الزيادة، وقيل الاستعاذة حينئذ من الشذوذ عن الجماعة بعد الكون فيها، أو من الفساد بعد الصلاح، أو من القلة بعد الكثرة، أو الرجوع عن الإيمان إلى الكفر، أو من الطاعة إلى المعصية، أو من الحضور إلى الغفلة، وذلك لأن من كان عمامته اجتمعت على رأسه، ومن نقضها تفرقت وتعقب التوربشتي من قال معنى الحور بعد الكور الرجوع عن الجماعة بعد أن كان منهم بأن استعمال الكور إنما هو في جماعة الإبل خاصة، وربما استعمل في البقر، قال صاحب الحرز: والجواب أن باب الاستعارة غير مسدود، فالعطن مختص بالإبل ويكنى يضيقه عن ضيق الخلق (ورواية النون من الكون مصدر كان يكون كوناً إذا وجد) بالبناء للمفعول (واستقر) يعني مصدر كان التامة: أي أعوذ بك من الحور وهو النقض بعد الوجود، والثبات الذي هو معنى الكون، وقال في «الفائق» : معنى الحور بعد الكور: الرجوع عن حالة جميلة بعد أن كان عليها يريد التراجع بعد الإقبال. 3974 - (وعن عليّ بن ربيعة) بفتح الراء وكسر الموحدة وسكون التحتية بعدها مهملة وربيعة ابن نضلة بالنون فالضاد المعجمة، الوالبي بكسر اللام بعدها موحدة أبو المغيرة الكوفي، ثقة من كبار التابعين (قال شهدت) أي حضرت (عليّ بن أبي طالب رضي الله

عنه) حال كونه (أتى بدابته) وعند الترمذي بدابة بالتنوين، والدابة في أصل اللغة ما يدبّ على وجه الأرض، ثم خصها العرف بذات الأربع، قال في «المصباح» : وتخصيص الفرس والبغل والحمار بالدابة عند الإطلاق عرف طارىء (ليركبها فلما وضع رجله في الركاب) بكسر الراء (قال باسم الله) أي أركب (فلما استوى) أي استقرّ (على ظهرها قال) شكرا الله (الحمد لله) أي على هذه النعمة العظيمة، وهي تذليل الوحش النافر وإطاعته لنا على ركوبه محفوظين من شره كما صرح به بقوله (الذي سخر) أي ذلل (لنا) أي لأجلنا (هذا) المركوب (وما كنا له) أي لتسخيره (مقرنين) أي مطيقين (وإنا إلى ربنا لمنقلبون، ثم قال) أي بعد حمده المقيد بالثناء بما أنعم عليه (الحمد لله) حمداً غير مقيد بشىء إيماء إلى أن التقييد فيما قبله بقوله الذي سخر لنا هذا الخ ليس لقصر طلب الحمد على وجود النعمة، بل هو سبحانه واجب الحمد لذاته ولتأكيد هذا المعنى كرره (ثلاث مرات) وفي التكرير إشعار بعظم جلال الله سبحانه وأن العبد لا يقدر الله حق قدره وهو مأمور بالدأب في طاعته حسب استطاعته، وقيل في حكمة التكرير ثلاثاً: أن الأول لحصول النعمة، والثاني لدفع النقمة، والثالث لعموم المنحة (قم قال) تنزيها لله وتقديساً له عن سمات المحدثين من الركوب والاستقرار في حيز (الله أكبر ثلاث مرات) والتكرير للمبالغة في ذلك، أو الأول إيماء إلى الكبرياء والعظمة في الذات، والثاني الكبرياء والعظمة في الصفات، والثالث إشعار بتنزيهه عن الاستواء المكاني، وقوله الرحمن على العرش استوى: «ظاهره غير مراد إجماعاً ثم هل نفوض معناه إلى الله تعالى ولا نتكلم في تعيينه أو نتكلم فيه؟ قال بالأول السلف، وبالثاني الخلف وهو أحكم (ثم قال سبحانك) بالنصب على المفعولية المطلقة بعامل لا يظهر وجوباً: أي أقدسك تقديساً مطلقاً، لأن كل مالا يليق به تعالى فهو مقدس عنه وذلك سائر سمات الحوادث (إني ظلمت نفسي) بعدم القيام بحقك لشهود التقصير في شكر هذه النعمة العظمى ولو بغفلة أو خطره أو نظره (فاغفر لي) أي استر ذنوبي بعدم المؤاخذة بالعقاب عليها (إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) استئناف بياني كالتعليل لسؤال الغفران، وفيه إشارة بالاعتراف بتقصيره مع إنعام الله وتكثيره (ثم ضحك فقيل) وعند الترمذي في «الشمائل»

«فقال: أي ابن ربيعة، وفي نسخة مصححه من «الشمائل» «فقلت» بضمير المتكلم (يا أمير المؤمنين من أي شيء ضحكت) لما لم يظهر ما يتعجب منه مما ينشأ عنه الضحك استفهمه عن سببه وقدم نداءه على سؤاله كما هو الأدب في الخطاب، وفي رواية للترمذي في «شمائله» «فقلت من أي شيء ضحكت يا أمير المؤمنين» وتقديم المسؤول عنه على ندائه لأنه أهم حينئذ لأن النداء لأجله، وفي قوله يا أمير المؤمنين إيماء إلى أن القصة جرت منه أيام خلافته (قال: رأيت) أي أبصرت (النبي صنع كما صنعت) من الركوب والذكر في أماكنه (ثم ضحك فقلت: يا رسول الله من أي شيء ضحكت) وعند الترمذي كسياق الذي قبله (قال: إن ربك سبحانه يعجب) عند الترمذي «ليعجب» : أي يرضى إذ العجب المضاف في كلام الشارع إليه تعالى لاستحالة قيام حقيقته به وهي استعظام الشيء مع خفاء سببه به تعالى، مراد مه غايته من الرضا وهي مستلزمة للثواب. ولهذا الرضا المقتضى لفرح رسول الله إذ فيه مزيد المنة عليه ضحك، ولما تذكر عليّ رضي الله عنه ذلك أوجب مزيد شكره فبشره فضحك، لا أن ضحكه مجرد تقليد فإنه غير اختياري وإن كان قد يتكلف له (من عبده) إضافة تشريف (إذا قال رب اغفر لي ذنوبي يعلم) جملة حالية من فاعل قال: أي قال ذلك عالماً غير غافل (أنه لا يغفر الذنوب غيري) في بعض نسخ «شمائل الترمذي» غيره بضمير الغائب، واستظهر بأن الكلام من الرسول لا كلام الله تعالى. وأجيب بإمكان جعل قوله يعلم الخ معمولاً لقول محذوف هو حال من فاعل يعجب: أي يعجب قائلاً يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري (رواه أبو داود) في الجهاد (والترمذي) في الدعوات من «جامعه» وفي باب الضحك من «شمائله» ورواه النسائي في السير (وقال: حديث حسن، وفي بعض النسخ، حسن صحيح) وعزاه إليه كذلك الحافظ المزي في «الأطرف» (وهذ لفظ أبي داود) وقد أشرنا إلى بعض ما خالف فيه رواية الترمذي.

171 - باب تكبير المسافر إذا صعد الثنايا جمع ثنية والمراد منها العقبات (وشبهها) من الربوات والفدافد وذلك للتذكر بالعلوّ الحسي عظمة الله تارك وتعالى، وعلوّه المعنوي وتنزيهه عما لا يليق به (وتسبيحه) أي قول سبحان الله (إذا هبط) بفتح أوليه أي نزل (الأودية) تنزيهاً لله عما لا يليق به (ونحوها) من الأغوار والمنازل النازلة (والنهي عن المبالغة برفع صوت) الباء للتعدية أو ظرفية: أي فيه (بالتكبير ونحوه) من سائر الأذكار المأتي بها، أما أصل الجهر بالذكر فمطلوب إن أمن الرياء وإيذاء نحو نائم أو مصل. 1975 - (عن جابر رضي الله عنه قال: كنا إذا صعدنا) بكسر المهملة الثانية (الثنايا) جمع ثنية (كبرنا) أي قلنا الله أكبر، أو شهدنا كبرياء الله وعظمته انتقالاً من العلوّ الحسي إلى شهود العلوّ المعنوي (وإذا نزلنا سبحنا) أي قلنا سبحان الله، أو شهدنا تقديسه عما لا يليق به وتقدم حكم مروي هذه الصيغة من الرفع حكماً في حديث أنس في الباب قبله (رواه البخاري) في الجهاد ورواه النسائي في السير وفي اليوم والليلة وليس عنده ذكر الثنايا. 2976 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي وجيوشه) بضم الجيم وكسرها جمع جيش (إذا علوا) بفتح اللام التي هي عين الكلمة ولامها واو محذوفة بعد انقلابها ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها ثم ملاقاتها للساكن بعدها وهو الواو، وضمها هنا عارض لالتقائها ساكنة مع الساكن في أول (الثنايا) وليس من محل جواز التقاء الساكنين، وحذفها غير ممكن لأنها فاعل ولا دليل عليها فحركت بحركة تجانسها (كبروا وإذا هبطوا) أي منها أو مطلقاً

(سبحوا. رواه أبو داود بإسناد صحيح) أي فالحديث صحيح لما تقرر في محله من علم الحديث أن الحافظ الضابط إذا أطلق الحكم بالصحة أو الحسن للإسناد ولم يعقبه في الحكم على المتن بما ينافيه حكم بحكم الإسناد للمتن. 3977 - (وعنه قال: كان النبي إذا قفل) بالقاف كرجع وزناً ومعنى (من الحج أو) يحتمل أنها للشك في أن الرجوع المقول ما يأتي فيه أهو الرجوع من الحج (أو العمرة) ويحتمل أنها للتنويع: أي فيقوله في رجوعه من كل منها، ويؤيد الأول قول البخاري عن الراوي ولا أعلمه إلا قال الغزو، وكذا كان يقوله في سائر رجوعاته كما يدل عليه حديث مسلم (كلما) بالنصب على الظرف لقوله كبر وما عطف عليه (أوفى) أي أشرف فارتقى (على ثنية) قال في «المغرب» : الثنية العقبة لأنها تقدم الطريق وتعرض، أو لأنها تثني سالكها وتصرفه (أو فدفد كبر) أي قال الله أكبر (ثلاثاً ثم قال: لا إله إلا الله وحده) لا إله إلا الله توحيد الذات، وقوله وحده توحيد الصفات، وقوله (لا شريك له) جملة حالية توحيد الأفعال: أي ليس له مشارك في إيجاد شيء من مصنوعاته (له الملك وله الحمد) أي هو المنفرد بهما كما يؤذن به تقديم ما حقه التأخير (وهو على كل شيء) من الممكنات (قدير) إذ القدرة لا تتعلق بواجب ولا مستحيل (آئبون تائبون عابدون ساجدون لربنا) تنازعه العوامل الأربعة قبله، والتنازع يكون بين عاملين أو أكثر، ومنه حديث «تسبحون وتحمدون وتكبرون الله ثلاثاً وثلاثين» الحديث ويجوز أن يكون للظرف متعلقاً بقوله (حامدون) وحذف متعلق تلك الصفات لدلالته عليه، ويجوز تعلق الظرف بما قبله وهو ساجدون، فحذف متعلق حامدون كما عدا المتعلق به قبله لدلالة ذلك عليه (صدق الله وعده) حذف المفعول الأول لتعلق

الغرض بالمفعول الثاني: أي صدق الله من وعده من نبيه والمؤمنين به. وعده: أي ما وعدهم به فهو مصدر مضاف لفاعله (ونصر عبده) الإضافة فيه تنصرف للفرد الكامل وهو النبي: أي نصره من غير وجود ما يرتبط به النصر عادة من كثرة العدد والعدد كما في غزوة بدر وغزوة الخندق (وهزم الأحزاب وحده) أي الذين تحزّبوا عليه من كفار قريش وأحابيشها فرد كيدهم في نحرهم بألطف الأشياء وهي ريح الصبا، ولم يكن لأحد من الخلق دخل في ذلك (متفق عليه) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد بهذا اللفظ، وقد غفل المزي في كتاب «الأطراف» عن ذكره في ترجمته الإسناد الذي رواه به البخاري وهو صالح بن كيسان عن سالم عن ابن عمر. (وفي رواية لمسلم: إذا قفل من الجيوش والسرايا) أي من الغزوات ذوات الجيش أو ذوات العدد اليسير منه ففي الحديث مضاف (أو الحج والعمرة) وتقدم أنه يستحب هذا الذكر لكل قادم من سفر: أيّ سفر كان (قوله أو في: أي ارتفع) هو بمعنى قول «القاموس» أو في عليه أشرف (وقوله فدفد) بالجر على الحكاية (هو بفتح الفاءين بينهما دال مهملة ساكنة وآخرة دال أخرى) وهو وزان جعفر (وهو الغليظ المرتفع من الأرض) هو تفسير للمراد في الحديث، وإلا ففي «القاموس» : الفدفد الفلاة والمكان الصلب الغليظ والمرتفع والأرض المستوية اهـ. ومنه يعلم أن اعتبار الغلظ في تفسير الفدفد المذكور في الحديث غير لازم، بل المراد أنه كلما ارتفع على نشز وربوة من الأرض رملاً كانت أو غليظة. 4978 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله إني أريد أن أسافر فأوصني) فيه استحباب مجيء المسافر عند إرادة السفر لمن يتبرك به وعرض ذلك عليه ليشير بما رآه لائقاً بالوقت وطلب الوصية منه (قال: عليك بتقوى الله) أي الزمها والباء زائدة في المفعول، وفيه تنبيه على أن تقوى الله الحصن النافع حصراً وسفراً (والتكبير على كل شرف)

بفتح المعجمة والراء وبالفاء: أي كل علوّ ومرتفع، وسكوته في الخبر عن التسبيح عند كل انهباط إما لكونه كان أعلم بذلك قبل، أو لعله أراد ذكره له فعرض ما اشتغل به عن ذلك، أو ذكره وتركه الراوي نسياناً (فلما ولى) بتشديد اللام أي قفل (الرجل قال: اللهم أي يا الله (طوِ له البعيد) إماطياحسيا بانزواء مسافة الأرض بانضمام بعضها إلى بعض، ومنه ما تقدم في حديث «إن الأرض تطوى بالليل» أو معنوياً بأن يتيسر له من النشاط وحسن الدواب ما يصل به مستريحاً سالماً من وعثاء السفر، ويناسبه قوله (وهوّن عليه السفر) أي سهل عليه بدفع مؤذيات السفر وحزونه عنه (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) ورواه النسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة. 5979 - (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كنا نسير مع رسول الله فكنا إذا أشرفنا) أي ارتفعنا (على واد هللنا وكبرنا) أي أتينا بالذكر منهما لتشهد لنا البقاع والجملة الشرطية وجوابها خبر كان وقوله (ارتفعت أصواتنا) جملة حالية من فاعل. هللنا أو استئنافية أو جواب إذا وهللنا بدل من جملة الشرط أو حال (فقال النبي: يأيها الناس اربعوا على أنفسكم) أي في المبالغة برفع الصوت وعلل ذلك بقوله (فإنكم لا تدعون أصمّ ولا غائباً) المحوج نداء كل منهما إلى المبالغة في رفع الصوت، بل المذكور سبحانه أقرب إلى أحدكم من حبل الوريد وهو السميع البصير، كما قال معللاً لذلك بالجملة المستأنفة (إنه) بكسر الهمزة، ويجوز فتحها بتقدير لام العلة قبلها فتخرج عن كونها مع مدخولها جملة (معكم سميع قريب) قرباً معنوياً (متفق عليه. اربعوا) بوصل الهمزة و (فتح الباء الموحدة) وبالعين المهملة (أي ارفقوا بأنفسكم) فلا تبالغوا في رفع الصوت لأنه مع إضراره بكم

172 ـــ باب استحباب الدعاء في السفر

لا حاجة بكم إليه. 172 - باب استحباب الدعاء في السفر 1980 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن) أي في استجابتهن (دعوة) بفتح الدال المهملة أي دعاء (المظلوم) والإتيان بالوحدة تنبيه على أن جميع دعواته بجنس ما ظلم به مستجابة لا لقصر الحكم بالإجابة عليها دون ما فوقها، على أن المفرد المضاف يفيد العموم وتستمر إجابة دعائه حتى ينتصر كما جاء عند البزار (ودعوة المسافر) أي سفراً مباحاً مطلوباً ولو مندوباً وكان ذلك جبراً لمقاساته وعثاء السفر ويستمر ذلك حتى يرجع كما عند البزار (ودعوة الوالد على والده) أي إذا ظلمه ولو بعقوقه، وحينئذ فهو من جنس الأول، وعطفه عليه من عطف الخاص على العام اهتماماً به (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن، وليس في واية أبي داود على ولده) أي وهو المراد كما يومىء إليه قوله الوالد، والمراد من ولده ما يشمل الفرع وإن سفل وقد جاء حذف دعوة الوالد اكتفاء بدخوله في دعوة المظلوم عند البزار من حديث أبي هريرة وأبدله بقوله «والصائم حتى يفطر» وأخرجه ابن ماجه بلفظ «دعوة الوالد لولده» وعليه فعطفه على ما قبله من عطف المغاير والدعوات المجابة باعتبار وصف المجيب أو باعتبار زمن الدعاء جمعها الحافظ السيوطي في جزء سماه «سهام الإصابة في الدعوات المجابة» .

173 ـــ باب ما يدعو به إذا خاف ناسا أو غيرهم

173 - باب ما يدعو به إذا خاف ناساً أو غيرهم من سبع أو نحوه والتنصيص على الناس للنص عليهم في الحديث وغيرهم مقيس عليهم، وهذا شامل للمسافر وغيره، وذكره المصنف في السفر لأنه مظنة الخوف غالباً. 1981 - (عن أبي موسى رضي الله عنه: أن رسول الله كان إذا خاف قوماً) والخوف أمر طبيعي للبشر لأقدح فيه أصلاً، قال تعالى عن موسى وهارون {قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى} (طه: 45) (قال: اللهم إنا نجعلك) أي نجعل وقايتك (في نحورهم) فتدفع عناكيدهم في نحورهم (ونعوذ) نلجأ ونعتصم (بك من شرورهم) فيه السجع في الدعاء ولا منع منه إلا إن كان يؤدي إلى التكلف أو تفويت الخشوع، وفيه إيماء إلى دواء من وقع في كيد الأعادي وترياق من أصابته سموم أفاعي الحساد البواغي، وذلك الاعتصام بحبل الله سبحانه والركون بالقلب إلى الرب (رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح) . باب ما يقول إذا نزل منزلاً أي في مكان من الأمكنة حضراً أو سفراً وذكره لأن السفر مظنه التحوّل إلى المنازل. 1982 - (عن خولة) بفتح المعجمة واللام وسكون الواو (بنت حكيم) بن أمية السلمية زوج

عثمان ابن مظعون، ويقال لها أم شريك، ويقال خويلة بالتصغير، ويقال هي التي وهبت نفسها للنبي. خرج مسلم الخولة هذا الحديث، وخرج عنها الأربعة روي لها عن رسول الله خمسة عشر حديثاً، وانفرد بها مسلم عن البخاري فروى عنها (رضي الله عنها) حديث الباب (قالت: سمعت رسول الله يقول: من نزل منزلاً) أيّ منزل كان فالتنوين للتنكير والشيوع (ثم قال) ظاهره وإن لم يقل عقب النزول (أعوذ بكلمات الله) أي بصفته الأزلية القائمة به وهي لا تعدد فيها وجمعت باعتبار تعدد المتعلق (التامات) أي المنزّهات من تطرق نقص بشيء من الحوادث إليها (من شر ما خلق) أي مما هو ذو شرّ، وإلا فالملائكة والأنبياء لا شرّ فيهم ألبتة فـ «ما» عام مخصوص (لم يضره) بضم الراء على الأفصح كما تقدم في باب حسن الخلق لما اتصل به الضمير (شيء) دخل فيه سائر المضرات من الداخل وهو النفس والهوى ومن الخارج وهو الشيطان وغيره من المؤذيات (حتى يرتحل من منزله ذلك رواه مسلم) وفي «الجامع الكبير» للسيوطي: ورواه أحمد والترمذي عن خولة. 2983 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله إذا سافر) وتلبس بالسفر (فأقبل الليل قال: ياأرض) يحتمل نداؤه لها أن يكون من تنزيلها منزلة العقلاء، وأن يكون بعد أن جعل الله لها إدراكاً تعقل به النداء تشريفاً له. وفي الحرز فيه إشعار بأن الله جعل لها إدراكاً كالكلام الداعي، قلت: وهو محتمل (ربي وربك الله) أي وما كان كذلك لا يضر كل منا صاحبه، وذكر ذلك قبل الاستعاذة من شرها لأنه كالوسيلة في حفظه من ذلك، أو هو إذعان لربوبية من يستعيذ به (أعوذ بالله من شرك) هو صادق بالشرّ المتصل بها، بأن يكون من نفسها لسقوطه في وهدة وتعثره بمرتفع منها (وشرّ ما فيك) أي من المؤذيات (وشرّ ما خلق فيك)

بالبناء للمفعول، ويحتمل أن يكون بالبناء للفاعل: أي ما خلق: هو أي الربّ فيك من فدفد وربوة أو حجر أو شجر بأن يصطدم به (وشر ما يدب) بكسر الدال المهملة وتشديد الموحدة: أي يتحرك (عليك) من الحشرات. قال ابن الجوزي: أي من كل ما يمشي عليك وكل ما يمشي عليها دابة ودبيب (وأعوذ بك) فيه التفات من لفظ الغائب وهو لفظ الجلالة إلى ضمير خطابه، وفي نسخة من «الرياض» «وأعوذ بربك» ففيه تفنن في عبارات الاستعاذة وفي أخرى «أعوذ بالله» وإنما أعاد الاستعاذة لعظم شر ما بعدها بالنسبة لما قبلها (من شر أسد) بفتحتين الحيوان المعروف (وأسود) بالصرف لأنه اسم جنس وليس بصفة، إذ ليس فيه شيء من الوصفية كما هو معتبر في الصفات الغالب عليها الاسمية في منع الصرف وقد جمع على أساود، لكن في الحرز عن بعضهم المسموع من أفواه المشايخ والمضبوط في أكثر النسخ أسود بالفتحة، وعن بعضهم الوجه منع صرفه لأصالته ووصفيته فلا يضرّ عروض اسميته (ومن الحية والعقرب) استعاذ منهما مع دخولهما في عموم ما في كل من قوله ما خلق فيك، وقوله ما يدبّ عليك لعظم خبثهما (ومن ساكن البلد) كذا هو في أصول «الرياض» ، وفي «الحصن» «من شرّ ساكن البلد» بزيادة شر، وفي أصل الجلال من الحصن ساكني بصيغة الجمع وحذفت الباء لفظاً لالتقاء الساكنين واكتفاء بدلالة الكسرة عليها وأريد به على حذفها الجنس (ومن والد وما ولد، رواه أبو داود والنسائي) والحاكم في «مستدركه» كما في الحصن (والأسود الشخص) وقيل هو العظيم من الحيات وخص بالذكر لخبثه، وقال التوربشتي: الأسود الحية العظيمة التي فيها سواد وهي أخبث الحيات، وذكر من شأنها أنها تعارض الركب وتتبع الصوت فلذا خصها بالذكر، وجعلها كجنس مستقل وعطف عليها الحية (قال) أبو سليمان (الخطابي) بفتح المعجمة وتشديد الهاء المهملة وبعد الألف موحدة (وساكن البلد: هو الجن الذين هم سكان الأرض، قال والبلد من الأرض ما كان مأوى الحيوان وإن لم يكن فيه بناء ومنازل) . ومثله في «النهاية» (قال) أي الخطابي (ويحتمل أن المراد بالولد إبليس و) المراد بِـ (ما ولد الشياطين) ويحتمل أن يراد بذلك جميع ما فيه التوالد من سائر الحيوانات أصلاً

175 ـــ باب استحباب تعجيل المسافر الرجوع إلى أهله

وفرعاً. وقيل المراد به آدم وأولاده، وما ذكره الخطابي فيه إيماء إلى إبليس له أولادهم الشياطين، وفي ذلك بسط بينته في باب ما يقول إذا دخل منزله من «شرح الأذكار» . 175 - باب استحباب تعجيل المسافر الرجوع إلى أهله التقييد به باعتبار الغالب من وجود الأهل وإلا فالمراد رجوعه لوطنه سواء كان ذا أهل به أو بغيره أو لا أهل له (إذا قضى حاجته) التي سافر لها. 1984 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: السفر قطعة من العذاب) يحتمل أن يكون من التشبيه البليغ، وأن يكون حقيقة لما فيه من إيلام الجسد وإتعاب النفس. ومن لطيف ما يحكى أن إمام الحرمين سئل أول جلوسه بعد موت أبيه لم كان السفر قطعة من العذاب؟ فقال: لما فيه من فراق الأحباب، ثم علل كونه قطعة من العذاب على سبيل الاستئناف بقوله (يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه) قال المصنف: أي يمنعه كمالها ولذاتها لما فيه من المشقة والتعب ومقاساة الحر والبرد ومفارقة الأهل والوطن وخشونة العيش (فإذا قضى أحدكم نهمته من سفره فليعجل) قال ابن مالك: بفتح الجيم، وفي نسخ من «الرياض» بتشديد الجيم (إلى أهله) قال المصنف المقصود من الحديث الحث على استحباب الرجوع للأهل بعد قضاء الوطر وألا يتأخر مع من ليس منهم (متفق عليه) ورواه مالك وأحمد وابن ماجه كما في «الجامع الصغير» (نهمته) بفتح النون وسكون الهاء (مقصوده) من وجهه الذي توجه إليه.

176 ـــ باب استحباب القدوم على أهله

176 - باب استحباب القدوم على أهله أي زوجته أو حليلته (نهاراً وكراهته في الليل) أي إن لم يعلم علم أهله بقدومه، وإلا فلو أرسل إلى أهله نهاراً بوصوله ليلاً فلا كراهة (لغير حاجة) قيد في الكراهة، فإن احتاج للدخول ليلاً لخوف من عدوه أو لدفع ضرر فلا بأس. 1985 - (عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله قال: إذا طال أحدكم الغيبة) مقتضاه عدم كراهة الطروق ليلاً مع قصر السفر. ومقتضى الحديثين بعده التعميم، ويمكن الجمع بأنه إن كان بحيث لا يتعب الزوجة وتتوقع امرأته إتيانه مدة غيبته لقصرها فلا بأس بالطروق ليلاً وإلا فهو كالطويل (فلا يطرقهن) أي يأتين (أهله ليلاً) التنكير للتعميم فيشمل أول الليل وأناءه وآخره، بل ينبغي الإتيان نهاراً لتمتشط الزوجة وتتأهب له (وفي رواية) أي لهما (أن رسول الله نهى أن يطرق) أي يأتي (الرجل أهله ليلاً، متفق عليه) والحديث الأول رواه أحمد أيضاً. 2986 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله لا يطرق) بضم الراء: أي يأتي (أهله) إذا آب من السفر (ليلاً وكان يأتيهم غدوة) أول النهار (أو عشية) آخره (متفق عليه. الطروق: المجيء في الليل) وفي «المصباح» كل من يأبى ليلا فقد طرق وهو صادق اهـ.

177 ـــ باب ما يقول إذا رجع أي من مسيره

وحينئذ فذكر ليلاً بعده في الحديث إما بعد تحديد مفهوم الطروق عن قيد الليل وأنه بمعنى مطلق الإتيان، أو التقييد به لتعميم كراهة المجيء فيه في سائر أجزائه ويدل للثاني تنكيره في الأحاديث. 177 - باب ما يقول إذا رجع أي من مسيره وإن لم ير البلد وإذا رأى بلدته (فيه حديث ابن عمر السابق في باب تكبير المسافر إذا صعد الثنايا) هو الحديث الثاني من أحاديث فيه. 1987 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: أقبلنا مع النبي) أي في خيبر (حتى إذا كنا بظهر المدينة) أي بمحل تظهر فيه المدينة وهو علم بالغلبة على طيبة، على مشرفها أفضل الصلاة والسلام (قال آئبون تائبون عابدون لربنا حامدون) ففيه مقابلة النعم الإلهية بالخدم على قدر الطاقة، والبداءة بالإيباب إلى الله تعالى من المخالفة لأنها كالتخلية بالمعجمة، ثم التوجه إلى صالح العمل، ثم حمد الله على التوفيق له وتيسيره ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم أحد أبداً (فلم يزل يقول ذلك حتى قدمنا المدينة) هذا دليل الشطر الأخير من الترجمة، وحديث ابن عمر دليل شطرها الأول (رواه مسلم) . 178 - باب استحباب ابتداء القادم بالمسجد الذي في جواره قبل دخوله منزله، والجوار بكسر الجيم مصدر جاور (وصلاته فيه) أي ما شاء وأقله ركعتان.

179 ـــ باب تحريم سفر المرأة وحدها

1988 - (عن كعب بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله كان إذا قدم) بكسر الدال (من سفر) أي سفر كان (بدأ بالمسجد) لأنه أشرف البقاع (فركع فيه ركعتين) بنية التحية (متفق عليه) وتقدم الكلام فيه في باب التوبة في جملة حديث كعب بطوله. 179 - باب تحريم سفر المرأة وحدها أي وإن كان السفر قصيراً كالسفر إلى ميل أو فرسخ، ومحل تحريمه في غير سفر الفرض، أما سفر الحج والعمرة المفروضين عليها فلا حرمة عليها وكان خشيت على نفسها الفتنة في الدين إن أقامت بمحلها. 1989 - (عن أبي هريرة عنه قال: قال رسول الله: ولا يحل) بكسر المهملة: أي لا يجوز ويراد المصنف له بالعاطف تنبيهاً على أنه طرف حديث (لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر) التقييد بالإيمان لأن المؤمنة هي المتقيدة بأحكام الشرائع المنقادة لها، وإلا فالأصح أن الكافر مخاطب بفروع الشريعة: أي ما أجمع عليه منها (تسافر مسيرة يوم وليلة) بتقدير أن المصدرية قبله أو تنزيل الفعل منزلة المصدر نحو: «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» : أي لا يحل لها مسافرة مسافتهما، والتقييد بذلك جرى على الغالب إذ غالب السفر القصير لا يكون أقل منه، وإلا فمسمى السفر حرام عليها إلا مع ذي محرم عليها، ومثله الزوج وألحق به عبدها الأمين إذا كانت أمينة، ولا فرق في جوازه مع المحرم بين كونه صالحاً أو فاسقاً لأن الوازع الطبيعي يحمل على الذبّ عن وصول السوء للمحارم ولو من الفاسق متفق عليه.

2990 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبي يقول: لا يخلون رجل بامرأة) لأن ذلك مظنة الريبة ووسيلة إليها (إلا ومعها ذو محرم) حملة حالية مستثناة من أعم الأحوال، وهو في الحقيقة تأكيد لما تضمنه ما قبله من حرمة الخلوة بالأجنبية مطلقاً، إذ مع حضور المحرم لم تحصل الخلوة بالأجنبية (ولا تسافر المرأة) أي مسمى سفره، ولا يخصص باليوم والليلة المذكورين فيما قبله لما تقدم فيه ولأن ذكر بعض أفراد العام لا يخصصه (إلا مع ذي محرم) أي أو زوج أو عبد أمين وهي أمينة (فقال رجل) لم أقف على من سماه (يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة) أي خرجت للتلبس به (وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا) أي عينت في أسماء من عين لتلك الغزاة. قال في «فتح الباري» : لم أقف على اسم الرجل ولا امرأته ولا تعيين الغزوة. وقال ابن المنير: الظاهر أن ذلك كان في حجة الوداع (قال: انطلق فحج مع امرأتك) أي إعانة لها على تحصيل الحج، والظاهر أن النسك كان مفروضاً أو كان معها محرم وإلا لكان يلزمها بالتأخير إلى وجود ذلك، وأنها لم تخرج حينئذ من غير نحو محرم وإلا لبين لها حرمة ذلك، فإن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز (متفق عليه) . وأفادت أحاديث الباب وما في معناها: حرمة سفر المرأة بما يسمى سفراً من غير محرم ونحوه لأيّ سفر كان من حج أو زيارة النبي أو سفر بتجارة، نعم لها الخروج كذلك للسفر الواجب إن أمنت فيه على نفسها ومالها، والله أعلم.

8 - كتاب الفضائل

8 - كتاب الفضائل جمع فضيلة: وهي الخير والفضل خلاف النقيصة. وفي «فتح الإله» الفضائل: جمع فضيلة بمعنى فاضلة وهي صفة، والأغلب أن تكون محمودة تمييز من قامت به. وفي «القاموس» : الفضل ضد النقص جمعه فضول، ثم قال: والفضيلة الدرجة الرفيعة في الفضل والاسم منه الفاضلة، ثم قال والفواضل: الأيادي الجسيمة أو الجميلة. 180 - باب فضل قراءة تلاوة القرآن 1991 - (عن أبي أمامة) بضم الهمزة وتخفيف الميمين كنية صدى بن عجلان (رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: اقرءوا) الخطاب للحاضرين إذ ذاك من الصحابة رضي الله عنهم وهو سار على جميع الأمة (القرآن فإنه) أي القرآن (يأتي يوم القيامة) قال العلقمي قال شيخة: قيل يصور القرآن بصورة بحيث يجيء يوم القيامة ويراه الناس كما يجعل الله لأعمال العباد خيرها وشرها صورة ووزناً بوضع في الميزان (شفيعاً) أي شافعاً (لأصحابه) أي القارئين له المشتغلين به المتمسكين بأمره ونهيه (رواه مسلم) هو طرف حديث في آخر فضل الزاهدين، والحديث بجملته كذلك رواه أحمد. 2992 - (وعن النواس) بتشديد النون المفتوحة والواو وآخره مهملة (ابن سمعان) بفتح

المهملة الأولى وكسرها (رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: يؤتى) بالبناء للمفعول (يوم القيامة) بالنصب على الظرف (بالقرآن) نائب فاعله (وأهله) وصفهم وصفاً بيانياً بقوله (الذين كانوا يعملون به في الدنيا) فيأتمرون بما أمر وينزجرون عما زجر عنه (تقدمه) بفتح الفوقية وضم المهملة أي تتقدمه (سورة البقرة) فيه رد لمن قال: لا يقال سورة البقرة بل السورة التي يذكر فيها البقرة (وآل عمران) يحتمل أن يكون التقدير وسورة آل عمران فحذف لدلالة ما قبله عليه، ويحتمل أنه من باب قطعت رأس الكبشين أفرد المضاف لكراهة ثقل تثنية المضاف في مثله (تحاجان) بضم الفوقية وتشديد الجيم من المحاجة وهي المجادلة (عن صاحبهما) أي التالي لهما المتدبر لما اشتملتا عليه العامل بما أمرتا به أن يعمل والتارك ما نهتا عنه (رواه مسلم) . 3993 - (وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله: خيركم) يا معشر القراء (من تعلم القرآن) هو يطلق على بعضه وعلى كله، ويصح إرادة البعض هنا باعتبار أن من وجد منه ما يأتي ولو كان في آية خير ممن لم يكن كذلك (وعلمه) مخلصاً في كلا الأمرين مبتغياً به وجه الله تعالى عاملاً بما فيه من الأخلاق والآداب والأحكام، ووجه أخيريته ما جاء في الصحيح من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما «من قرأ القرآن فقد استدرج النبوة بين جنبيه غير أن لا يوحى إليه» وغيره من الاحاديث، فإذا حاز خير الكلام وتسبب مع ذلك أن يكون غيره مثله، فقد ألحق ببعض درجات الأنبياء وكان من جملة الصديقين القائمين بحقوق الله تعالى وحقوق عباده على أقصى الطاعة وأكمل الاتباع. واستفيد من ربط التعلم والتعليم بالقرآن أن المراد به كلام الله لا المعنى النفسي القائم بالذات، بل اللفظ المتعبد بتلاوته المنزل على محمد للإعجاز بأقصر سورة منه (رواه البخاري) في الجامع الصغير أن حديث «خيركم

من تعلم القرآن وعلمه» رواه البخاري والترمذي عن علي، ورواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن عثمان وهو من سبق قلم الناسخ، فحديث عثمان عند البخاري في كتاب فضائل القرآن باللفظ المذكور، وبلفظ «أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه» وليس عنده فيه على شيء. 4994 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله: الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به) جملة حالية: أي مجيد لفظه على ما ينبغي بحيث لا يتشابه ولا يقف في قراءته مع الملائكة (السفرة) أي الرسل لأنهم يسفرون إلى الرسل برسالات ربهم، أو الكتبة لأنهم بكتابتهم سفرة بين الله وخلقه. وفي «القاموس» : السفرة الكتبة جمع سافر والملائكة يحصون الأعمال (الكرام) لعصمتهم عن دنس الآثام (البررة) بفتح أوليه، أو المطيعين من البرّ، وهو الطاعة والإحسان: أي معهم في منازلهم في الآخرة لأنهم مثلهم في حمل كتاب الله تعالى أو نفع المسلمين بإسماعهم القرآن وهدايتهم إلى ما فيه كما أنهم معهم بالحفظ والبركة (والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه) أي يتردد عليه في قراءته (وهو عليه شاق) بثقله على لسانه لضعف حفظه (له أجران) أجر لقراءته وأجر لتتعتعه، ومع ذلك فالأول أكمل كما دلت عليه تلك المعية لمزيد اعتنائه بالقرآن وكثرة دراسته له وإتقانه لحروفه حتى مهر فيه (متفق عليه) رواه أبو داوود وابن ماجه. 5995 - (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله: مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن) أي صفته العجيبة ذات الشأن من حيث طيب قلبه لثبات الإيمان واستراحته بقراءة القرآن واستراحة الناس بصوته وثوابهم بالاستماع إليه والتعلم منه، وعبر

بقوله يقرأ لإفادة تكريره ومداومته عليها حتى صارت دأبه وعادته كفلان يقرى الضيف (مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب) فيستلذ الناس بطعمها ويستريحون بريحها، قيل خصت لأنها أفضل ما يوجد من الثمار في سائر البلدان: أي التي يقصد بها الريح من الفواكه لا مطلقاً وإلا فالثمر والعنب أفضل. وفي أفضلهما خلاف مع ما اشتملت عليه من الخواص الموجودة فيها مع حسن المنظر وطيب الطعام ولين الملمس وأخذها الأبصار صبغة ولوناً فاقع لونها تسرّ الناظرين تتوق إليها النفس قبل التناول، ويستفيد المتناول لها بعد الالتذاذ بها طيب النكهة ودباغ المعدة وقوة الهضم، فاشتركت الحواس الأربع في الاحتفاظ بها الشمّ والبصر والذوق واللمس. وهي في أجزائها تنقسم على طبائع: فقشرها حارّ يابس ولحمها حارّ رطب وحميضها بارد يابس وبزرها حارّ مجفف. وفيها من المنافع ما هو مذكور في الكتب الطيبات (مثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن) من حيث طيب باطنه لثبات الإيمان فيه وعدم استراحته بشيء يظهر منه، والمراد نفي قراءته ما عدة الواجب منه كالفاتحة (كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو) فاشتماله على الإيمان كاشتمال التمرة على الحلاوة، بجامع أن كلاّ أمر باطني، وعدم ظهور ريح لها يستريح الناس لشمه لعدم ظهور قراءة منه يستريح الناس بسماعها (ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن) من حيث تعطل باطنه عن الإيمان واستراحة الناس بقراءته (مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مرّ) فريحها الطيب أشبه قراءته وطعمها المرّ أشبه كفره (ومثل المنافق لا يقرأ القرآن) من حيث تعطل باطنه عن الإيمان وظاهره عن سائر المنافع وتلبسه بالمضارّ (كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مرّ) فسلب ريحها أشبه سلب ريحه لعدم قراءته، وسلب طعمها الحلو أشبه سلب إيمانه (متفق عليه) ورواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة. 6966 - (وعن عمر رضي الله عنه أن النبي قال: إن الله يرفع) رفعة معنوية (بهذا

الكتاب) هو القرآن (أقواماً) هم الذين آمنوا به وائتموا بسائر ما اشتمل عليه (ويضع) أي يخفض (به آخرين) هم من صدّ عن الإيمان به، أي لم يقف عند حدوده (رواه مسلم) وابن ماجه. 7997 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: لا حسد) أي لا غبطة: أي لا تنبغي الغبطة (إلا في اثنتين) من الخصال لعظم شرفهما عند الله تعالى (رجل) بوجوه الإعراب الثلاثة فالجرّ إتباع والآخران على القطع (آتاه) بالمد: أي أعطاه (الله القرآن) أي بتيسير حفظه عليه (فهو يقوم به آناء الليل) أي ساعاته بالمد جمع إني بالكسر والقصر أو أنا بالفتح أو إني بوزن نحى أو إنو بوزن قنو (وآناء النهار) والمراد استغراق أوقاته بالتلاوة مع التدبر والتفكر وامتثال ما فيه (ورجل آتاه الله مالاً) شمل القليل والكثير وإسناد الإتيان إلى الله سبحانه يدل على طيب وصوله إليه وعدم لحاق دنس الحرمة به (فهو ينفق منه آناء الليل وأطراف النهار) أي يجاهد نفسه ببذل ما تصل إليه طاقته قاصداً وجه الله تعالى والتقرب. إليه (متفق عليه) والحديث قد تقدم مع شرحه في باب الكرم والجود وباب فضل الغنيّ الشاكر (الآناء) يمد الهمزة قبل النون (الساعات) . 8998 - (وعن البراء رضي الله عنه قال: كان رجل) هو أسيد بن حضير كما في «تحفة القارىء» (يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط بشطنين فغشيته سحابة فجعلت تدنو) أي تقرب وتنزل (وجعل فرسه) قال في «المصباح» : الفرس يقع على الذكر والأنثى من الخيل (بنفر) بالتحتية والنون والفاء والراء (منها) أي من الصحابة أو بسببها

(فلما أصبح أتى النبي فذكر ذلك) المرئي (له فقال تلك) أتى باسم الإشارة الموضوع للبعيد تفخيماً للمشار إليه (السكينة تنزلت) والتضعيف للمبالغة (للقرآن) لأجله أو السماع قراءته (متفق عليه. الشطن بفتح الشين المعجمة والطاء المهملة) وبالنون (الحبل) بالمهملة والموحدة قال في «المصباح» . وجمعه أشطان كسبب وأسباب. 9999 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من قرأ حرفاً من كتاب الله) القرآن المنزل على رسول الله للإعجاز بأقصر سورة منه المتعبد بتلاوته (فله حسنة) هي ذلك الحرف المقروء (والحسنة) مجزية (بعشر أمثالها) فالقارىء مجازى عن الحرف الواحد بعشر حسنات (لا أقول الم حرف) أي لا أقول إن مجموع الأحرف الثلاثة حرف (بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف) أي فيثاب قارىء ذلك ثلاثين حسنة (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) ولا يشكل على هذا حديث «من قرأ القرآن فأعرب في قراءته كان له بكل حرف منه عشرون حسنة، ومن قرأ بغير إعراب كان له بكل حرف عشر حسنات» رواه البيهقي من حديث ابن عمر لأنه يحتمل أن العشر الحسنات الأخرى في مقابلة الحرص على ضبطه وإتقانه.

101000 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله إن الذي ليس في جوفه) أي ليس في قلبه إطلاقاً لاسم المحل على الحال، واحتيج لذكره ليتم التشبيه له بالبيت الخرب (شيء من القرآن كالبيت الخرب) بفتح المعجمة وكسر الراء، وذلك بجامع أن القرآن إذا كان في الجوف بأن حفظه أو بعضه يكون عامراً مزيناً بحسب قلة ما فيه وكثرته، وإذا خلا عنه الجوف بأن لم يحفظ منه شيئاً يكون شيئاً خرباً كالبيت الخالي عن الأمتعة التي بها زينته وبهجته (رواه الترمذي) والدارمي أيضاً (وقال) الترمذي (حديث حسن صحيح) وفيه تأكيد طلب حفظ القرآن والدأب فيه. 111001 - (وعن عبد الله بن عمرو العاص رضي الله عنهما عن النبي قال: يقال) بالبناء للمفعول وذلك عند دخول الجنة، وتوجه العاملين إلى مراتبهم على حسب أعمالهم كما دل عليه السياق (لصاحب القرآن) أي حافظه عن ظهري قلب، أو حافظه بعضه الملازم لتلاوته وتدبره والعمل به والتأدب بآدابه (اقرأ وارتق) في درج الجنة بقدر ما حفظته من أي القرآن لما جاء في الحديث الذي رواه البيهقي في «الشعب» من حديث عائشة، وصححه الحاكم لكنه شاذّ أنه «عدد درج الجنة عدد آي القرآن، ومن دخل الجنة من أهل القرآن فليس فوقه درجة» أي إن كان من أهله حقيقة لا حفظه فحسب، وإلا كان المراد أنه ليس فوقه درجة لغيره من الحفاظ لباقي الكتب الإلهية، وفي حديث عند النسائي في «مسنده» كذاب خبيث «مقدار درج الجنة على قدر رأي القرآن بكل آية درجة، فتلك ستة آلاف آية ومئتا آية وستة عشر آية بين كل درجتين مقدار ما بين السماء والأرض» واستفيد من حديث المتن وحديث الحاكم أن من استوفى قراءة جميع آي القرآن استولى على أقصى درج الجنة التي لللأتقياء، ومن لا كان رقيه إلى قدر منتهى قراءته، هذا كله إن أريد بالصاحب ما ذكرنا (ورتل) أي قراءتك بالجنة التي هي لمجرد التلذذ والشهود الأكبر كعبادة الملائكة إذ لا تكليف ولا عمل في الجنة (كما كنت

ترتل) قراءتك (في الدنيا) يؤخذ منه أنه لا يقال هذا الثواب العظيم إلا لمن حفظ القرآن وأتقن أداءه وقراءته كما ينبغي له، والترتيل هو التأني بالقراءة على ما رسمه وبينه أئمتنا حتى يكسبه ذلك أبهى رونق وأعظم حسن وزينة، وتخصيص الصاحب في الحديث بالحافظ عن ظهر قلب دون التالي من المصحف، لأن ما في الجنة أصله أن يحكى ما في الدنيا، وفي الدنيا لا يطلق ذلك إلا على الحافظ له، نظراً إلى أن القارىء إنما يطلق على من لا يفارقه القرآن أبداً، وذلك الحافظ له عن ظهر قلب، وقد وردت أحاديث تومىء إلى تفسير الصاحب بالحافظ عن ظهر قلب نبه عليه في «فتح الإله» (فإن) تعليل يفيد الترغيب في حفظ جميع القرآن كما تقدم من أن عدد درج الجنة عدد آية (منزلتك) أي من الجنة (عند آخر آية تقرؤها) فإن قرأت الكل فأعلى المنازل وإلا فمنزلك أدون منه بقدر قراءتك، وقيل إن المراد بالصاحب العامل بالقرآن المتدبر له وهو أفضل من الحافظ المرتل، بغيرهما، والمراد بالدرجات ما نالها من علمه، وحينئذ فلا يقدر في الجنة أن يتلو من الآيات إلا ما هو على مقدار عمله، فلا يستطيع أحد أن يتلو آية إلا وقد أقام ما يجب عليه فيها، وقيل المراد به الحافظ المرتل العالم العامل فيكون له درجات لقراءته ودرجات بعمله، ويرتقي الحافظ له كله والعامل به المتدبر له إلى ما لا نهاية له، قال تعالى: {إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب} () (رواه أبو داود والترمذي وقال) أي الترمذي (حديث حسن صحيح) ورواه أحمد والنسائي أيضاً. (تتمة) قضية هذه الأحاديث وما في معناها الدأب في التلاوة والإكثار منها مع التدبر والتفكر والتأمل، ولو تيسر له مع ذلك الخيم في كل يوم أو ليلة أو ختمات في كل. ومحل النهي عن ختمه في أقل من سبع لمن له شغل يمنعه عنها أو عن التدبر فيها كما تقدم في باب الاقتصاد. قال المصنف في «الأذكار» بعد ذكر الخلاف في مدة الختم المختار أن ذلك مختلف باختلاف الأشخاص، فمن كان يظهر له بدقيق التفكر لطائف ومعارف فليقتصر على قدر يحصل له معه كمال فهم ما يقرأ، وكذا من كان مشغولاً بنشر العلم أو فصل الخصومات بين المسلمين أو غير ذلك من مهمات الدين والمصالح العامة للمسلمين فليقتصر على قدر

لا يحصل بسببه إخلال بما هو مرصد له ولا فوات، كماله، وإن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليستكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حد المال والهذرمة في القراءة اهـ. 181 - باب الأمر بتعهد القرآن والتحذير من تعريضه للنسيان بكسر النون، وهو والنسى والنساوة بكسر النون فيهما أيضاً والنسوة وتفتح النون مصادر نسيه: ضد حفظه. 11002 - (عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي قال: تعاهدوا القرآن) أي حافظوا على قراءته وواظبوا على تلاوته (فوالذي نفس محمد بيده لهو أشدّ تفلتاً) تخلصاً (من الإبل) بكسر أوليه ويسكن الثاني تخفيفاً (في عقلها) بضم المهملة والقاف جمع عقال، وهو حبل يشد به البعير في وسط الذراع. قال الطيبي: شبه للقرآن في كونه محفوظ عن ظهر القلب بالإبل النافرة وقد عقل عليها بالحبل، ولبس بين القرآن والبشر مناسبة قريبة لأنه حادث وهو قديم، والله تعالى بلطفه منحهم هذه النعمة العظيمة فينبغي له أن يتعاهده بالحفظ والمواظبة عليه (متفق عليه) ورواه أحمد. 21003 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: إنما مثل) بفتحتين (صاحب القرآن) أي الحافظ له عن ظهر قلب: أي إنما صفته العجيبة الشأن (كمثل صاحب الإبل المعقلة) بضم الميم وفتح العين المهملة والقاف المشددة: أي المربوطة بالعقال وبين وجه شبهه بقوله (إن عاهد عليها) أي بالربط (أمسكها، وإن أطلقها) أي بفك العقال عنها (ذهبت) وكذا صاحب القرآن إن دام على تعهده بالتلاوة قرّ وإن ترك ذلك فرّ من حفظه ولا يقدر على عوده إلا بعد غاية الكلفة والمشقة، ولا ينافي تشبيه صاحب القرآن

182 ـــ باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن

صاحب الإبل ما مرَّ من تشبيه القرآن بالإبل، لأنه كما يشبه القرآن بالإبل يشبه صاحبه بصاحبها في احتياج كل إلى تعهد ما عنده حتى لا يفقده (متفق عليه) ورواه أحمد والنسائي وابن ماجه كما في «الجامع الصغير» . 182 - باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن أي استعمال السواك ليذهب ما في الحلق مما يخل بحسنه وترقيق الصوت وتحزينه لأن ذلك أوقع في القلوب (وطلب القراءة من حسن الصوت) ليكون أنفع للسامع وأنجع (والاستماع) أي إلقاء السمع (لها) . 11004 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ما أذن الله لشيء ما أذن) ما فيه مصدرية: أي أذنه بفتحتين وجاء عند البخاري بلفظ «ما أذن الله لشيء كأذنه» (لنبي حسن الصوت) والباقي سواء (يتغنى بالقرآن) مصدر بمعنى القراءة والمقروء، والمراد به الكتب المنزلة، والمراد بتغنيه الإفصاح بألفاظه، وقيل إعلانه، والجملة في محل الصفة لنبي، وقوله (يجهر به) تفسير له. وقال الكلاباذي: معنى تغنيه قراءته على خشية من الله تعالى ورقة من فؤاده، وقيل معناه: كشف الغموم، وذلك لأن الإنسان إذا أصابه غم ربما تغنى بالشعر يطلب بذلك فرجة مما هو فيه، والصديقون همومهم همة المعاد وضيق صدورهم عما يشغلهم عن الله، ولا ينفرجون من كربهم إلا بذكر كلام ربهم، وإليه أشار النبي بقوله «من لم يتغنّ بالقرآن فليس منا» أي من لم ينفرج من عمومه بقراءة القرآن والتدبر فيه فليس منا خلقاً وسيرة، وقيل معناه: يستغن بالقرآن عن غيره. لكن أنكره بعض الشراح بأن

الاستغناء به عن الناس وتكليمهم يفضي إلى مفاسد من تصنع القارىء وفوت التبليغ وغيرهما، على أن مجيء تفعل بمعنى استفعل قليل فلا يحمل عليه مع محمل آخر صحيح. قال ابن مالك: وأقول الظاهر أن الاستغناء يكون وقت قراءته، إذ لا دليل في اللفظ على استغراق استغنائه جميع الأوقات فلا يلزم منه الفساد، وقلة الاستعمال لا يمنع احتمال الإرادة، وقيل يتغنى: أي يتطرب لتحسين صوته لأن الغناء من علامات الطرب، وأباحه الجمهور إن لم يؤدّ إلى تغيير يزيادة حرف أو نقصه وإلا فلا. وعلى الأول حمل إباحة الشافعي له، وعلى الثاني حمل منعه منه أشار إليه المؤلف في «شرح مسلم» (متفق عليه) ورواه أحمد وأبو داود والنسائي كما في «الجامع الصغير» (معنى أذن) بفتح الهمزة وكسر الذال المعجمة (الله أي استمع) والمراد بالاستماع لكونه محالاً على الله سبحانه لما فيه من الإصغاء المحال عليه تعالى غايته كما أشار إليه المؤلف بقوله (وهو إشارة إلى الرضا والقبول) وفي «شرح المشارق» : المراد بهذا الاستماع إجزال ثوابه والاعتداد به كما يقال الأمير يسمع كلام فلان، لا الاصغاء إليه لأنه مستحيل على الله تعالى. 21005 - (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله قال له) أي لما سمع قراءته في بهجة (لقد أوتيت) بالبناء للمفعول: أي أعطيت (مزماراً من مزامير آل داود) أي داود نفسه، فآل مقحمة لأن أحداً منهم لم يعط من حسن الصوت ما أعطيه داود (متفق عليه) . (وفي راية لمسلم أن رسول الله قال له: لو رأيتني) أي أبصرتني (وأنا أستمع لقراءتك) جملة حالية وجواب «لو» محذوف: أي لسرك ذلك، فقال أبو موسى: يا رسول الله لو أعلم أنك تسمعه لحبرته لك تحبيراً (البارحة) قال المصنف في التهذيب: اسم لليلة. قال ثعلب:

لا يقال البارحة إلا بعد الزوال، ويقال فيما قبله الليلة، ثم تعقبه بحديث جابر بن سمرة عند مسلم «وكان إذا صلى الصبح أقبل علينا بوجهه فقال: هل رأى أحد منكم البارحة رؤيا» قال المصنف: فيحمل قول ثعلب على أن ذلك حقيقة وهذا مجاز، وإلا فقوله مردود بهذا الحديث. 31006 - (وعن البراء رضي الله عنه قال: سمعت النبي قرأ في العشاء) جاء عن البراء أن النبي كان في سفر فقرأ في العشاء في إحدى الركعتين بالتين والزيتون، أخرجه البخاري في التفسير، وقوله (بالتين والزيتون) أي بالسورة المشتملة عليهما (فما سمعت أحداً أحسن صوتاً منه) وقد جاء عند الترمذي من حديث أنس «ما بعث الله نبياً إلا حسن الوجه حسن الصوت وكان نبيكم أحسنهم وجهاً وأحسنهم صوتاً» (متفق عليه) . 41007 - (وعن أبي لبابة) بضم اللام وتخفيف الموحدتين (بشير) بفتح الموحدة وتخفيف الشين المعجمة (ابن عبد المنذر) الأوسي ثم من بني عمرو بن عوف من بني أمية بن زيد، وقيل اسمه رفاعة وهو بكنيته أشهر، وتوفي (رضي الله عنه) قبل عثمان بن عفان رضي الله عنه، روي له عن رسول الله خمسة عشر حديثاً (أن النبي قال: من لم يتغنّ بالقرآن فليس منا) أي من أهل هدينا وطريقنا (رواه أبو داود بإسناد جيد معنى يتغن: يحسن صوته بالقرآن) وروى الطبراني «حسن الصوت زينته القرآن» وروى الحاكم وغيره «حسنوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً» وروى عبد الرزاق وغيره «لكل شيء حلية

وحلية القرآن الصوت الحسن، قالوا فإن لم يكن حسن الصوت؟ قال حسنه ما استطاع» . 51008 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال لي رسول الله: اقرأ عليّ القرآن) هو دليل طلب القراءة من حسن الصوت والاستماع لهما المذكورين في الترجمة وفي الحديث «من أحب أن يقرأ القرآن غضاً طرياً فليقرأ بقراءة ابن أم عبد» (فقلت: يا رسول الله أقرأ عليك) بتقدير الهمزة قبل المضارع وحذفها لنقل توالي همزتين (وعليك أنزل) جملة حالية من الضمير المجرور (قال: اقرأ فإني أحبّ أن أسمعه) أي سماعه، فهو على تقدير أن المصدرية أو تنزيل الفعل منزلة المصدر (من غيري) ومنه أخذ العلماء الأخيار والصلحاء الأبرار استحباب طلب التلاوة من حسن الصوت والاستماع لها (فقرأت عليه سورة النساء) يحتمل أن يكون قراءته لها لكونها حضرته إذ ذاك أو عن تروّ، وذلك لما اشتملت عليه من الأمر بالتقوى وما فيها من الثناء على المصطفى وذكر ما منّ به عليه مولاه من عظيم الخير والاصطفاء مع ما فيها من أنواع الأحكام (حتى جئت إلى هذه الآية: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء} ) أي أمتك ( {شهيداً} ) ، (قال: حسبك) أي كافيك قراءتك (الآن) أي فإني أخذت من استماعي غرضي (فالتفتّ فإذا عيناه تذرفان) أي تجري دموعهما رحمة لأمته فإن الشاهد لا يكتم شيئاً، فإذا كلف الشهادة عليهم وهو لا يحبّ لهم إلا الكمال، ومن لازم الشهادة أن يذكر ما فعلوه من النقائص خشي عليهم أن يحلّ بهم العذاب بسبب شهادته، فرق قلبه خوفاً وحزناً عليهم حتى جرت دموعه شفقة عليهم، لعل الله بواسطة ذلك يشفعه فيهم، فكان ذلك البكاء غاية الرقة بهم والرحمة لهم قال تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} (التوبة: 128) فعنده من الشفقة عليهم ما ليس عند نبي على أمته، ومن ثم لما أعطي كل نبي دعوة مجابة دعا كل منهم بدعوته لنفسه وخبأ دعوته لأمته (متفق عليه) وقد تقدم مع الكلام عليه في باب فضل البكاء من

183 ـــ باب في الحث على سور جمع سورة،

خشية الله تعالى قال المؤلف: في الحديث استحباب استماع قراءة القرآن والإصغاء إليها والتدبر فيها واستحباب طلب القرآن من الغير ليستمع له، وهو أبلغ في التفهم والتدبر من قراءته بنفسه، وفيه التواضع لأهل العلم والفضل ورفع منزلتهم اهـ. قال في «فتح الإله» ، وقد يؤخذ من الحديث أن الاستماع أفضل من التلاوة، وينبغي أن محله إذا كان فيه من الخشوع والتدبر ما ليس في القراءة. 183 - باب في الحث على سور جمع سورة، وهي كما قال الكافيجي: الطائفة من القرآن المترجمة باسم مخصوص توفيقاً: أي بالنسبة إلى الاسم المشتهرة به، فلا يشكل عليه تسمية كثير من الصحابة والتابعين سوراً بأسماء من عندهم، كتسمية حذيفة التوبة بالفاضحة وسورة العذاب، وكتسمية سفيان ابن عيينة الفاتحة بالوافية، وسماها يحيى بن أبي كثير بالكافية، وتهمز السورة أخذا لها من أسأرت: أي أفضلت كأنها قطعة من القرآن، ولا تهمز من أسارت أيضاً لكن سهلت، ومنهم من يشهدها بسورة البناء: أي القطعة منه لأنها منزلة بعد منزلة مقطوعة عن الأخرى، وقيل من سور المدينة لإحاطتها بآياتها واجتماعها فيها كاجتماع البيوت بالسور، ومنه السوار لإحاطته بالساعد، وقيل لارتفاعها لأنها كلام الله والسورة المنزلة الرفيعة، وقيل لتركب بعضها على بعض من التسوّر بمعنى التصاعد، ومنه {إذ تسوروا المحراب} (ص: 21) (وآيات) جمع آية وفي وزنها أقوال ستة ذكرها ابن الصائغ في «شرح البردة» أرجحها أن أصلها أبية بوزن شجرة والآية طائفة من كلمات القرآن متميزة بفصل ويقال بفاصل وهو آخر الآية (مخصوصة) . 11009 - (عن أبي سعيد رافع بن المعلى) بضم الميم وفتح المهملة وتشديد اللام

المفتوحة، وقيل اسمه الحارث، وقال ابن عبد البر: إنه أصح ما قيل في اسمه، قال: ومن قال اسمه رافع فقد أخطأ لأن رافع بن المعلى قتل ببدر، قال: وأصح ما قيل فيه إنه الحارث بن نفيع بن المعلى بن لوان بن حارثة بن زيد بن ثعلبة بن عدي بن مالك بن زيد بن مناة بن حبيب بن عبد حارثة بن مالك بن عضب الأنصاري الزرقي (رضي الله عنه) وأمه آمنة بنت قرط بن خنساء عن بني سلمة نسبه كما ذكرنا جماعة وحبيب بن عبد حارثة هو أخو زمرمق، وقيل لأبي سعيد الزرقي لأن العرب كثيراً ما تنسب ولد الأخ إلى أخيه المشهور وهو معدود في أهل الحجاز روي له عن رسول الله حديثان، روى عنه البخاري هذا الحديث انفرد به عن مسلم. (قال: قال لي رسول الله: ألا) بتخفيف اللام أتى بها لتنبيه المخاطب لما يلقي إليه بعدها (أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد) وإنما قال له ذلك ولم يعلمه بها ابتداء ليكون أدعى إلى تفريغ ذهنه لتلقيها وإقباله عليها بكليته (فأخذ بيدي) أي بعد أن قال ذلك ومشينا (فلما أردنا أن نخرج قلت: يا رسول الله إنك قلت لأعلمتك) هو رواية بالمعنى إن كان الصادر من النبي ما حكاه عنه أولاً وإن كان قاله له مع ذلك لأعلمنك فيكون رواية باللفظ (أعظم سورة في القرآن، قال: الحمد لله ربّ العالمين) أي سورة الفاتحة، وإنما كانت أعظم سورة لأنها جمعت جميع مقاصد القرآن، ولذا سميت بأم القرآن. ولا ينافيه حديث البقرة أعظم السورلأن المراد به ما عدا الفاتحة من السور التي فصلت فيها الأحكام وضربت فيها الأمثال وأقيمت فيها الحجج إذ لم تشتمل سورة على ما اشتملت عليه سورة البقرة ولذا سميت فسطاط القرآن، ولعظيم فقهها أقام عمر كما في الموطأ ثمان سنين على تعلمها، وحكي ذلك عن ابنه أيضاً، ثم أشار إلى ما تميزت به الفاتحة عن غيرها من بقية السور حتى صارت أعظم منها بقوله (هي السبع المثاني) أي المسماة به جمع مثناة من التثنية لأنها تثنى في الصلاة في كل ركعة كما جاء عن ابن عمر بسند حسن قال «السبع المثاني فاتحة الكتاب تثنى في كل ركعة» أو لأنها تثنى بسورة أخرى أو لأنهانزلت بمكة ونزلت بالمدينة وذلك للجمع بين ما جاء من كونها مكية وكونها مدنية ومثلها في ذلك خواتيم سورة النحل وأول سورة الروم وآية الروح «وأقم الصلاة طرفى النهار» أو سميت بذلك لاشتمالها على قسمين: ثناء ودعاء، أو لما اجتمع فيها من

فصاحة المباني وبلاغة المعاني، أو لأنها تثنى على مرور الزمان وتتكرر فلا تنقطع وتدرس فلا تندرس، أو لأن فوائدها تتجدد حالاً فحالاً إذ لا منتهى لها أو جمع مثناه من الثناء لاشتمالها على ما هو ثناء على الله تعالى فكأنها تثنى عليه بأسمائه الحسنى وصفاته أو لأنها تدعو أبداً بواسطة وصفها المعجز ببراعة النظم وغزارة المعنى إلى الثناء عليها ثم قال من يتعلمها أو من الثنايا لأن الله استناها لهذه الأمة ولا تنافي بين ما هنا وبين قوله تعالى «سبعاً من المثاني» لأن «من» فيه للبيان أو للتبعيض ولا مانع من أن القرآن كله يسمى مثاني أيضاً (والقرآن العظيم) أي وهي المسماة بذلك أيضاً (الذي أوتيته) بالبناء للمجهول: أي أعطيته وتسميتها بالقرآن العظيم وجهه الأئمة بما حاصله كما أخرجه الحسن البصري «إن الله أودع علوم الكتب السابقة في القرآن ثم أودع علومه في الفاتحة، فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسيره» وقد ورد عن عليّ رضي الله عنه. لو شئت أن أوقر على الفاتحة سبعين وقراً لأمكنني ذلك، وهو صحيح لجمعها سائر ما يتعلق بالموجودات دنيا وأخرى وأحكاماً وعقائد، وتفصيل كل ذلك وتوابعه على وجهها يستغرق العمر وزيادة (رواه البخاري) في أول كتاب تفسير القرآن وفي باب فاتحة الكتاب من كتاب فضائل القرآن. 21010 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله قال في قل هو الله أحد) أي السورة المسماة بذلك وبسورة الإخلاص (والذي نفسي بيده) فيه استحباب القسم لتأكيد الأمر والحث على الخير والحض عليه، وقوله بيده: أي بقدرته (إنها) أي سورة الإخلاص المتقدم ذكرها في الحديث الذي حكى المصنف منه هذا المقدار وسيأتي بجملته بأثره (لتعدل) أي باعتبار ثواب قراءتها (ثلث القرآن. وفي رواية) أي عن أبي سعيد أيضاً (أن رسول الله قال لأصحابه: أيعجز) بكسر الجيم على الأفصح (أحدكم) أي الواحد منكم (أن يقرأ بثلث القرآن) الباء فيه مزيدة في المفعول به (في ليلة) ظرف ليقرأ

(فشق ذلك) أي ما ذكر من قراءتهم الثلث في الليلة (عليهم) أي رأوه شاقاً عليهم (وقالوا: أينا يطيق ذلك) لكثرته مع الأمر بتدبر القراءة وإعطاء كل حرف حقه من وجوه الأداء فهو ذلك مشقّ جداً، وقولهم (يا رسول الله) أتوا به إيماء إلى أن المراد سؤالهم منه سؤال الله تعالى التخفيف والرفق بهم لما يعلمون له من علوّ المكانة عند الله سبحانه (فقال) أي مبيناً للمراد وأنه لا مشقة فيه (قل هو الله أحد الله الصمد) الذي في البخاري في باب فضل {قل هو الله أحد} من كتاب «فضل القرآن» فقال {الله أحد الله الصمد} (ثلث القرآن. رواه البخاري) باللفظ المذكور في الباب المذكور، وروى مسلم من حديث أبي الدرداء مرفوعاً «أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن؟ قالوا: وكيف نقرأ ثلث القرآن؟ قال: {قل هو الله} أحد تعدل ثلث القرآن» 31011 - (وعنه) أي عن أبي سعيد (أن رجلاً) قال الشيخ زكريا في «تحفة القاري» : هو أبو سعيد (سمع رجلاً) قال في «التحفة» : قيل هو قتادة بن النعمان (يقرأ قل هو الله أحد يرددها) جملة حالية من فاعل يقرأ أو مستأنفة لبيان كيفية قراءته إياها (فلما أصبح) أي دخل في الصباح (جاء إلى رسول الله فذكر ذلك) أي ما ذكر من قراءة الرجل وترديده السورة (له) أي لرسول الله (وكأن) بتشديد النون (الرجل يتقالها) بفتح التحتية والفوقية والقاف وتشديد اللام: أي يعدّها قليلة في العمل والجملة كلها حالية، وجملة يتقالها خبر كأن (فقال رسول الله: والذي نفسي بيده) أي بتصاريف قدرته (إنها لتعدل ثلث القرآن) هذا هو الحديث الذي ذكر أوّلا طرقه، وعجيب ما فعله المصنف هنا من كونه ذكر بعضه أولاً ثم ذكره، كله، وكان ذكر جملته مغنياً عن ذكر بعضه، والله أعلم (رواه البخاري) في الباب المذكور.

41012 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله، قال في: قل هو الله أحد، إنها) بالكسر لكونها في ابتداء الكلام. ويحتمل كونها جواب قسم مقدر يدل عليه تصريحه به في الرواية قبله (لتعدل ثلث القرآن، رواه مسلم) واختلف في معنى كونها تعدل ثلث القرآن. فقيل إن ثواب قراءتها يعدل ثواب قراءة ثلثه بلا تضعيف، وقيل معناه أن القرآن على ثلاثة أقسام: قسم يتعلق بالقصص، وقسم يتعلق بالأحكام، وقسم يتعلق بصفات الله، وهي متمحضة لها فكانت بمنزلة الثلث. نقلهما المصنف عن المازري، فعلى الأول يلزم من تكريرها ثلاثين مرة استيعاب القرآن وختمه لا على الثاني، وبيان الملازمة أن من قرأها ثلاثين مرة يكون كمن قرأ القرآن مع المضاعفة، لأن كل ثلاث مرات تعدل القرآن كله، فمن قرأ الثلاثين كأنه قرأ القرآن عشر مرات بلا مضاعفة، وهي يمنزلة قراءته مرة مع المضاعفة. وقيل لأن معارف القرآن المهمات ثلاث: معرفة التوحيد، والصراط المستقيم، والآخرة، وهي مشتملة على الأول فكانت ثلثاً. وقيل لأن البراهين القاطعة دلت على وجود الله ووحدانيته وصفاته، وهي: إما صفات الحقيقة، وإما صفات الفعل، وإما صفات الحكم، ويه تشتمل على صفات الحقيقة فهي ثلث. وقيل معظم مطالب القرآن معرفة الله ورسوله ولقائه وهي تفيد الأول، وقيل غير ذلك. ورجح أن المراد ثلثه من حيث الأجر، ولا يرد عليه حديث «من قرأ القرآن أعطي بكل حرف عشر حسنات» إما لأن المراد ثواب الثلث من غير مضاعفة أو معها، ولا بدع أن يجعل الله في الأحرف القليلة من الثواب ما لم يجعله في الكثيرة ألا ترى أن الصلاة بمكة بمائة ألف ألف ألف صلاة فيما عدا مسجد المدينة والقدس وفي مسجد المدينة بمائة ألف ألف، وفي الأقصى بمائة ألف. واختار ابن عبد البر أن السكوت عن ذلك كله أفضل وأسلم كما فعل أحمد وكذا ابن راهويه، فإنه حمل الحديث على أن معناه أن لها فضلاً وثواباً تحريضاً على تعلمها، لا أن قراءتها ثلاث مرات كقراءة القرآن، قال: هذا لا يستقيم ولو قرأها مائتي مرة. 51013 - (وعن أنس رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله إني أحبّ هذه السورة)

وعطف عليها عطف بيان قوله (قل هو الله أحد) أيقانه لاشتمالها على توحيد الله وتعظيمه وتقديسه وذلك يحمل كل ذي إيمان كامل على أن يستمد بقراءتها ما يكمل به إيمانه ويزيد ءيقانه (قال: إن حبها) مصدر مضاف لمفعوله: أي حبك إياها كما جاء هكذا عند الترمذي (أدخلك الجنة) أي أنا لك أفاضل درجاتها، والداعي لتأويله بما ذكر الجمع بينه وبين حديث «لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله» الحديث (رواه الترمذي وقال: حديث حسن، ورواه البخاري في «صحيحه» تعليقاً) أي حذف أول إسناده. 61014 - (وعن عقبة بن عامر) بن عبس بفتح المهملة وسكون الموحدة آخره سين مهملة الجهني القضاعي (رضي الله عنه) قال الحافظ الذهبي: فيه صحابي كبير أمير شريف فصيح مقرىء فرضى شاعر، ولي غزو البحر. وقال الحافظ ابن حجر: اختلف في كنيته على سبعة أقوال أشهرها أبو حماد، وكان عقبة من فضلاء الصحابة ونبلائهم، وباشر فتوح الشام فإذا حزم عزم. وكان البشير إلى عمر بفتح دمشق، ووصل إلى المدينة في سبعة أيام ورجع منها إلى دمشق في يومين ونصف ببركة دعائه عند قبر النبي أن يقرب الله عليه المسافة وكان سكن دمشق ثم انتقل لمصر والياً لمعاوية سنة أربع وخمسين ومات بها سنة ثمان وخمسين، روي له عن رسول الله خمسة وحمسون حديثاً اتفقا على سبعة منها، وانفرد البخاري بحديث ومسلم بتسعة (أن رسول الله قال: ألم تر) أي ألم تبصر والخطاب لعقبة (آيات أنزلت) بالبناء للمفعول: أي لم يبصر (مثلهن) أي فيما جاء في التعويذ (قط) بفتح القاف وتشديد الطاء المهملة ظرف لاستغراق ما مضى من الزمان (قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس) وقد استعاذ بهما لما سحره لبيد بن الأعصم فذهب عنه ذلك بالكلية، وحديثه في الصحيح (رواه مسلم) وما أفاده الحديث من كونهما من

القرآن هو ما أجمع عليه الأمة. وما جاء عن ابن مسعود مما يخالف ذلك محمول على أنه باعتبار ما عنده ثم أجمعوا على خلافه، وفيه أجوبة أخرى ذكرتها أول تفسير سورة المعوذتين. 71015 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله يتعوذ من الجان وعين الإنسان) لعظم ضررهما: أي كان يقول «اللهم إني أعوذ بك من الجان وعين الإنسان» (حتى نزلت المعوذتان، فلما نزلتا) أي المعوذتان (أخذ بهما) في التعوذ لعمومهما لذلك وغيره (وترك ما سواهما) من التعاويذ (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) وإنما اختصا بذلك لاشتمالهما على الجوامع في المستعاذ به والمستعاذ منه، أما الأول فلأن الافتتاح برب الفلق مؤذن بطلب فيض رباني يزيل كل ظلمة في الاعتقاد أو العمل أو الحال، لأن الفلق الصبح وهو وقت فيضان الأنوار ونزول البركات وقسم الأرزاق وذلك مناسب للمستعاذ منه. وأما الثاني لأنه في الأولى ابتدأ في ذكر المستعاذ منه باعلام وهو شرّ كل مخلوق حيّ أو جماد فيه شر في البدن أو المال أو الدنيا أو الدين كإحراق النار وقتل السمّ، ثم بالخاص اعتناء به لخلفاء أمره، إذ يلحق الإنسان من حيث لا يعلم كأنه يغتال به، وهو القمر إذا غاب لأن الظلمة التي تعقب ذلك تكون سبباً لصعوبة التحرز من الشرّ المسبب عنها، ثم نفث الساحرات في عقدهن الموجب لسريان شرهن في الروح على أبلغ وجه وأخفاه فهو أدق من الأول، ثم بشرّ الحاسد في وقت التهاب نار حسده فيه لأنه حينئذ يسعى في إيصال أدق المكائد المذهبة للنفس والدين فهو أدق وأعظم من الثاني، وفي الثانية خص شرّ الموسوس في الصدور من الجنة والناس لأن شرّه حينئذ يعادل تلك الشرور بأسرها، لأنها إذا كانت في صدر المستعيذ ينشأ عنهما كل كفر وبدعة، وضلالة، ومن ثم زاد التأكيد والمبالغة في جانب المستعاذ به إيذاناً بعظمة المستعاذ منه، وكأنه قيل أعوذ من شرّ الموسوس إلى الناس بمن رباهم بنعمه وملكهم بقهره وقوته، وهو إلههم ومعبودهم الذي يستعيذون به ممن سواه

ويعتقدون أن لا ملجأ لهم إلا إياه، وختم به لأنه مختص به تعالى، بخلاف الأولين فإنهما قد يطلقان على غيره. 81016 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: من القرآن سورة ثلاثون آية) صفة سورة أو خبر مبتدأ محذوف: أي هي ثلاثون أية (شفعت) صفة أيضاً أو حال أو خبر بعد خبر أو استئناف (لرجل حتى غفر) بالبناء للمفعول ونائب فاعله قوله (له وهي سورة تبارك الذي بيده الملك) طوّل ما قبله وأبهمه ثم بينه وحصره بقوله وهي الخ ليكون أوقع في شرفها وفخامتها وأبلغ في المواظبة على قراءتها، وقوله شفعت إما على ظاهره إخبار عما وقع بعد نزولها أن رجلاً قرأها فشفعت حتى غفر له، أو اطلع على ذلك فأخبر به ترغيباً فيها، فرجل حينئذ إما باق على تنكيره بالنسبة لعلمه والأمة بأن أخبر به على إبهامه أو للأمة فقط؟ بأن أعلم به وكتمه للأمر له به أو لمصلحة رآها، أو بمعنى تشفع في القيامة على حد {ونادى أصحاب الجنة} (الأعراف: 44) فرجل المراد به جنس القارىء وإثبات الشفاعة للقرآن صحيح باعتبار أنه يجسد فلا معدل عنه (رواه أبو داود والترمذي) زاد في «المشكاة» وأحمد والنسائي وزاد في «فتح الإله» وابن حبان والحاكم (وقال) أي الترمذي (حديث حسن) . (وفي رواية أبي داود تشفع) أي بدل قوله شفعت وخصت بذلك لافتتاحهما بخلق الحياة وختمها بالماء الذي هو سبب الحياة فأنتجت الشفاعة التي هي سبب الحياة الكاملة للمشفوع له، وأيضاً افتتاحها بعظائم عظمته ثم بباهر قدرته وإتقان صنعته، ثم بذم من نازع في ذلك أو أعرض عنه، ثم بذكر عقابهم وماله عليهم من النعيم، ثم ختمها بما اختصها به من بين سائر السور وهو الإنعام بالماء المعين الذي هو سبب الحياة المناسب لذلك لكه أثمر المعافاة عن سوء القطيعة بتشفيع هذه السورة في قارئها وجعلها مانعة عنه منجية له.

91017 - (وعن أبي مسعود) عقبة بن عمرو (البدري) نسبة لبدر لكونه سكنها، وقيل شهد وقعتها (رضي الله عنه عن النبي قال: من قرأ بالآيتين) الباء مزيدة للتأكيد أو الاستعانة وتجويز كونها لإلصاق القراءة به بعيد إذ قراءة الحرف التلفظ به (من آخر سورة البقرة) من {آمن الرسول} إلى آخر السورة (في ليلة كفتاه متفق عليه) ورواه أبو داود والترمذي كما في «الجامع الكبير» ، ورواه الديلمي بلفظ «من قرأ خاتمة سورة البقرة حتى يختمها في ليلة أجزأت عنه قيام تلك الليلة» (قيل كفتاه المكروه تلك الليلة) أي ودفعتا عنه شرّ الإنس والجنّ ويشهد له حديث الحاكم «إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام وأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة، ولا تقرآن في دار فيقربها شيطان ثلاث ليال» (وقيل كفتاه عن قيام الليل) حتى لا يبول الشيطان في أذنيه ولا يقعد على ناصيته: أي فقراءتها تتكفل بمنع ذلك لكن على وجه الاحتمال، لكن تعقب بأن مثل هذا لا يكتفي فيه بالاحتمال. وقيل من الكفاية بمعنى الإجزاء: أي أجزأتاه عن فوائد قراءة سورة الكهف المشتملة على الآيات العشر آخرها التي من قرأها أمن من الدجال، وعن قراءة آية الكرسي المتضمنة لقارئها عند النوم الأمن على داره الحديث الآتي، ويحتمل وهو الظاهر المناسب لنظمها أنهما كفتاه عن تجديد الإيمان لأن من تأمل أولاهما أدنى تأمل حصل له من الرسوخ في الإيمان والإيقان مقام خطير وحظ كبير، لاشتمالها على غاية التفويض والتسليم لأقضية الله وأوامره ونواهيه لأن من تأمل قول أولئك الكمل «سمعنا وأطعنا» حمله ذلك على التأسي بهم في هذا المقام العلي وغاية التواضع للَّه وهضم النفس باعتقاد أنها ليست على شيء، لأن من تأمل قول أولئك الكمل ربما حمله على التأسي بهم فيه أيضاً، وغاية ذكر الموت واستحضار البعث الحامل أو لهما على تكثير العمل وتقليل الأمل، وثانيهما على التبري من حقوق الخلق، لأن من تأمل رجوعه إلى الله تعالى للحساب سارع فيما يبرئه ويخلصه من ورطة المناقشة في الحساب، أو كفتاه عما ورد من الأدعية الكثيرة لأن الدعاء بما فيهما متكفل لخير الدنيا والآخرة.

101018 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله: قال لا تجعلوا بيوتكم مقابر) جمع مقبرة: أي لا تكن بيوتكم مثلها في عدم اشتغال من فيها من الموتى بنحو الصلاة والقراءة، ولا تكونوا كالموتى في ترك ذلك (إن الشيطان ينفر) بكسر الفاء على الأفصح وضمها لغة: أي يصدّ ويعرض إعراضاً بالغاً، فلا يقال إنه ينفر من كل ما يقرأ فيه غير البقرة أيضاً (من البيت الذي تقرأ فيه) بالفوقية في الأصول المصححة مبنياً للمجهول ونائب فاعله (سورة البقرة) ليأسه من إغوائهم وإضلالهم ببركة قراءتها وامتثالها لما فيها، لأنه ليس في سورة من القرآن ما في سورة البقرة من تفصيل الأحكام والحكم وضرب الأمثال وإقامة الحجج والبراهين وبيان الشرائع أو القصص والمواعظ والوقائع الغريبة والمعجزات العجيبة وذكر خاصة أوليائه والمصطفين من عباده، وتفضيح الشيطان ولعنه وكشف ما توسل به إلى التسويل لآدم وذريته، ومن ثم قيل فيها ألف أمر وألف نهي وألف حكم وألف خبر (رواه مسلم) ورواه أحمد والترمذي كما في «الجامع الكبير» .l 111019 - (وعن أبي) بضم الهمزة وفتح الموحدة وتشديد الياء (ابن كعب) الأنصاري البدري وتقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب البكاء. (قال: قال رسول الله: يا أبا المنذر) بصيغة الفاعل من الإنذار ضد التبشير وهي كنية أبي (أتدري أي) اسم الاستفهام معرب ملازم للإضافة، وعند إضافته لمؤنث كما هنا يجوز تذكيره وتأنيثه (آية من كتاب الله معك) حال أي مصاحباً لك، وأشار بذلك: أي أشار بقوله معك إلى أنه رضي الله عنه ممن حفظ جميع القرآن في زمنه، ومن مزاياه التي لم يشاركه فيها غيره أن النبي أقرأ عليه سورة «لم يكن» كما تقدم في باب البكاء (أعظم؟ قلت: الله لا إله إلا هو الحي القيوم) أي جميع آية

الكرسي ثم الذي في مسلم أنه قال: أولاً قلت الله ورسوله أعلم، قال: يا أبا المنذر أتدري أيّ أية في كتاب الله معك أعظم قلت: {الله لا إله إلا هو الحيّ القيوم} فوّض أولاً العلم إلى الله ورسوله لأنه جوّز فضيلة شيء من الآيات غيرها عليها، فلما كرر عليه السؤال علم أن المراد سؤاله عما عنده فأجاب بذلك، أو يقال إنه لم يكن عنده أولاً علم ذلك ففوض، فلما رأى حسن تفويضه ألقى الله عليه من أنوار علومه ومنحه عن مكنون معارفه ما علم به الجواب فسأله ثانياً ليظهر عليه شيء من ذلك الإمناح، فأجابه فزاده تثبيتاً وإمداداً بضربه في صدره وهنأه بما منحه كم قال (فضرب في صدري) عداه بفي مع أنه متعد بنفسه على حد قوله تعالى: {وأصلح لي في ذريتي} (الأحقاف: 15) أي أوقع الصلاح الكامل فيهم حتى يكونوا محلاً له فكذا هنا (وقال: ليهنك العلم أبا المنذر) من هناني الطعام يهنيني ويهناني، وهنأت به: أي تهنأت به: أي جاءني من غير مشقة ولا تعب، والقصد الدعاء له بتيسير العلم ورسوخه فيه، وحقيقته الإخبار على طريق الكناية بأنه راسخ في العلم لإجابته بما هو الحق عند الله تعالى، وأبرز ذلك في صورة أمر العلم بأن يكون هو هناء له مبالغة في البشارة والمنة وإعلاماً بما قدمته من أن النبي أمده من علومه الإلهية بما هنأه به وأزال عنه مشقة التعلم، فأجاب فوراً بالحق، وفي هذا منقبة جليلة لأبيّ، ودليل ظاهر على كثرة علومه وسابغ منته، وأنه خصه من إمداداته الإلهية بما لم يخص به نظراءه وتكريمه بالكنية، وجواز بل ندب مدح الإنسان في وجهه إذا أمن عليه الإعجاب لرسوخه في التقوى وعدم نظره إلى شيء من حظوظ نفسه وكان فيه مصلحة كإظهار علمه للآخذين منه والمنتفعين به. وفيه دليل على تفضيل بعض القرآن على بعض وهو الذي عليه الجمهور، وهو الحق الذي لا مرية فيه. ومن أول أعظم بمعنى عظيم فقد أبعد لأن العقل لا يوجب تأويله، بخلاف قوله «وهو أهون عليه» فإنه يوجب تأويله بهين لتساوي جميع المكوّنات بالنسبة للقدرة الإلهية ويخلاف قوله تعالى: {هو أعلم بكم} (النجم: 32) الآية، فإن العقل أيضاً يوجب تأويله بعالم لتساوي المعلومات بالنسبة للعلم الإلهي، وأما في حديث الباب فالعقل لا يمنع من بقائه على ظاهره، إنما كانت الآية المذكورة أعظم الآيات وسيدتها لما تضمنته من عظم مقتضاها، إذ الشيء إنما يشرف بشرف ذاته ومقتضاه ومتعلقاته، وهي اشتملت على إثبات الذات والصفات والأفعال، ومعرفة هذه الثلاثة هي المقصد الأقصى في العلوم معنى القيوم الذي يقوم

بنفسه ويقوم به غيره وذلك غاية الجلال والعظمة {لا تأخذه سنة ولا نوم} (البقرة: 255) تنزيه وتقديس له عما يستحيل عليه من صفات الحوادث والتقديس عما يستحيل عليه أحد أقسام المعرفة {له ما في السموات وما في الأرض} إشارة إلى الأفعال كلها وأن جمعيها منه وإليه من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه إشارة إلى انفراده بالملك والحكم والأمر، وأنه لا يملك الشفاعة عنده في أمر من الأمور إلا من شرفه بها وأذن له فيها، وهذا نفي للشركة عنه في الملك والأمر يعلم ما بين أيديهم، إلى قوله: بما شاء إشارة إلى صفة المعلم وتفضيل بعض المعلومات والانفراد بالعلم، ولا علم لغيره إلا ما أعطاه ووهبه على قدر مشيئته وإرادته {وسع كرسيه السموات والأرض} إشارة إلى عظم ملكه وكمال قدرته ولا يؤوده حفظهما إشارة إلى صفة العزة وكمالها وتنزيهها عن الضعف والنقص وهو العليّ العظيم إشارة إلى أصلين عظيمين في الصفات، وحينئذ لا تجد في آية غيرها جميع هذه المعاني حتى آية {شهد الله} إذ ليس فيها إلا التوحيد {وقل اللهم مالك الملك} (آل عمران: 26) إذ ليس فيها إلا توحيد الأفعال «والإخلاص» ليس فيها إلا التوحيد والتقديس «والفاتحة» فيها الثلاثة لكنها مرموزة لا مشروحة، نعم يقرب منها في جميعها آخر الحشر وأول الحديد ولكنها آيات لا آية الكرسي اشتمالها على ستة عشر موضعاً فيها اسم الله تعالى لفظاً أو ضميراً، بل إن عدّ المحتمل في الحيّ القيوم والعليّ العظيم والفاعل المقدر في حفظهما المضاف لمفعوله بلغت إحدى وعشرين، وكما وصفت هذه الآية بأنها أعظم أي القرآن كما في حديث الباب وصفت بكونها سيدة أي القرآن في حديث الترمذي والحاكم، ووصفت بهما دون الفاتحة، فإنها إنما وصفت بالأعظمية والأفضلية لما قال الغزالي: إن الجامع بين فنون الفضل وأنواعه الكثيرة يسمى أفضل، فإن الفضل هو الزيادة والأفضل هو الأزيد: وأما السؤدد فهو رسوخ معنى الشرف الذي يقتضي الاستتباع ويأتي التبعية، والفاتحة تتضمن التنبيه على معان كثيرة ومعارف مختلفة فكانت أفضل، وآية الكرسي تشتمل على المعرفة العظمى المقصودة المتبوعة التي يتبعها سائر المعارف فكان اسم السيد بها أليق اهـ. ملخصاً من «فتح الإله» (رواه مسلم) .

121020 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وكلني رسول الله بحفظ) أي في حفظ (زكاة رمضان) أي زكاة الفطر، وأضيفت لرمضان لكون إدراك جزء منه شرطاً لإيجابها ولجبرها خلل ما يقع خلال الصوم مما ينقصه ويمنع كماله فهي بمعنى اللام (فأتاني آت فجعل) أي شرع (يحثو) بسكون المهملة بعدها مثلثة، وللنسائي: فوجد التمر كأنه قد أخذ منه، ولابن الضريس: فإذا قد أخذ منه ملء كف (من الطعام) في إنائه أو ثوره (فأخذته) أي أمسكته، قال السيوطي في «التوشيح» للنسائي: إن أبا هريرة شكا ذلك للنبي أولاً فقال: إن أردت تأخذه فقل: سبحان من سخرك لحمله، قال: فقلتها فإذا أنا به قام بين يديّ فأخذته (فقلت: لأرفعنك) أي والله لأذهبن بك (إلى رسول الله) أي لأعلمه بك وفاء بما فوّض إليّ من الحفظ المقتضى لمنع كل خائن ورفع من سرق أو اختلس شيئاً إليه ليحده أو يعزره بحسب ما يراه (قال: إني محتاج) أي وهذا لذوي الحاجة (وعليّ عيال) أي نفقتهم (وبي حاجة شديدة) أي إلى ما أخذت وهو تأكيد لما قبله بوجه أقوى أو تأسيس حملاً لقوله إني محتاج على أني فقير في نفسي ولهذا عليّ الحاجة للعيال ووصفها بشديدة لأن الحاجة لهم أشد لأنه يصبر أكثر منهم، واقتصار أبي هريرة لما ذكر النبي على قوله شكا حاجة شديدة يؤيد التأكيد (فخليت عنه) اجتهاد منه حمله عليه أن الطعام بجمع لذوي الحاجة، فمن أخذ منه وهو محتاج ملكه والحراسة المفوضة إليه إنما هي من غير المحتاج (فأصبحت فقال رسول الله: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟) واستفهام تقرير لأن الله تعالى أطلع نبيه على ما وقع لأبي هريرة وأن سيقع له، فأراد إعلام أبي هريرة حاله وبأنه سيعود (قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً فرحمته فخليت سبيله) كناية عن إطلاقه وفكه من الأسر (قال: أما) بتخفيف الميم للاستفتاح وتدل على تحقيق ما بعدها (إنه قد كذبك وسيعود) أي إليك فتحذر منه (فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله) وفي نسخة «لقوله» (إنه سعود فرصدته) أي راقبته (فجاء يحثو) حال مقدرة لأن الحثو عقب المجيء لا معه، ويحتمل أن التقدير: فجاء وجعل يحثو (من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله، قال: دعني) أي

اتركني، وأتى به زيادة على ما قبله لأنه طمع في الخلاص بمقتضى ما فعله معه أولاً (فإني محتاج وعليّ عيال) حذف قوله «ولي حاجة شديدة» اكتفاء بوجوده فيما قبله (لا أعود) أي والله لا أرجع (فرحمته فخليت سبيله) وإنما خلاه مع قول النبي له فيه «إنه قد كذبك» لأنه ظن بتقرير النبي على إطلاقه أول مرة أن كذبه لا يوجب حرمانه، أو أنه قد كذب في مجموع الأخبار لا في كل جزء منه، أو أنه قد تاب من كذبه (فأصبحت فقال لي رسول الله: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك) لم يقل له البارحة لأنه لم يمض بعد قوله له غيرها بخلافه في الأول، فإنه لو أطلق لم يقيده بالبارحة لتوهم أن السؤال عما وقع له في عمره أو بعضه (قلت: يا رسول الله شكا حاجة وعيالاً فرحمته فخليت سبيله، فقال: إنه قد كذبك وسيعود) وإنما أقره على إطلاقه بعد أن بين له أنه كاذب لأنه علم أن له عذراً بظنه الذي ذكر آنفاً أو بغيره (فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله) ثم ذكر له ما يقطع طمعه أنه يطلقه فقال (وهذا) أي المجيء الذي جئته (آخر ثلاث مرات إنك) تعليل لما تضمنه كلامه من عدم إطلاقه (تزعم لا تعود ثم تعود، فقال: دعني) أي اتركني (فإني أعلمك كلمات ينفعك الله بها) إنما عبر عنها بالكلمات الموضوعة لجمع القلة إيماء إلى سهولة قراءتها وتيسر تلاوتها تنشيطاً للعامل، والباء فيه للسببية وهي بجعل الله لها سبباً للنفع المذكور (قلت ما هن) أي الكلمات النافعة (قال إذا أويت) بالقصر على الأفصح لكونه قاصراً: أي أتيت (إلى فراشك) المعدّ للنوم (فاقرأ آية الكرسي: الله لا إله إلا هو الحي القيوم حتى تختم الآية، فإنه) أي الشأن (لن يزال عليك من الله حافظ) ومن ابتدائية: أي حافظ مبتدأ من حضرته تعالى، وقيل من للسببية مجرورها محذوف:

أي من أمره تعالى كقوله تعالى: {يحفظونه من أمر الله} (الرعد: 11) أي بسبب أمره لهم بحفظه وتنوين حافظ للتعظيم (ولا يقربك) بفتح الراء وبالنصب عطف على يزال، ويجوز الرفع على الاستئناف (شيطان) أتى بهذه الجملة بعد ما قبلها مع تضمنها لهذه لعظم ضرر الشيطان، فنص على إبعاده فضلاً عن حصول وساوسه وإيذائه (حتى تصبح) أي تدخل في الصباح، وظاهر الخبر انتهاء ذلك بدخول الفجر وإن كان التالي للآية لم يقم من منامه، ويحتمل أن يكون عبر به عن الاستيقاظ حينئذ كما هو الغالب (فخليت) أي تركت (سبيله) لعظم رغبة الصحابة في أعمال البر وتجويزه توبته عن الكذب وحاجته كما أخبر ولأنه قد علم ما يمنعه به عن الوصول لذلك بعد (فأصبحت فقال لي رسول الله) المعطوف عليه من هذه الجملة فيه وفيما تقدم مقدر: أي فأتيته فقال (ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله زعم) أتى به مع صحة معناه واستقامة مبناه، لأنه جوّز ذلك لقوله فيه قد كذبك (أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها) أي بسببها لما رتبه تعالى على ذلك (فخليت سبيله، قال: ما هي) أي الكلمات (قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي) مبتدئاً (من أولها) واستمر (حتى تختم الآية) ثم عطف على آية الكرسي عطف بيان قوله (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) أي إلى قوله: {وهو العليّ العظيم} (وقال لي لا يزل) رواية بالمعنى، وهو مؤيد لقول أهل الحق إن لن مثل «لا» في إفادة النفي من غير تأكيد ولا تأييد، إذ لو أفادت أحدهما لما وضع أبو هريرة موضعها لا هنا، ولما وضع لن موضع لا في الجملة الثانية (عليك من الله حافظ) أحد الطرفين خبر يزال، والثاني في محل الحال من حافظ لتقدمه عليه وكان قبل صفة له لنكارته (ولن يقربك شيطان حتى تصبح، فقال النبي: أما) بفتح الهمزة والميم الخفيفة حرف استفتاح لتنبيه المخاطب لما بعدها (إنه قد صدقك) بتخفيف الدال: أي قال لك قولاً

مطابقاً للواقع (وهو كذوب) جملة حالية من فاعل صدق، أتى بها تتميماً واستدراكاً لما أوهمه صدقك من أنه مدح له برفعه بصيغة المبالغة المبينة لغاية ذمه وقبحه (تعلم) بإضمار الهمزة الاستفهامية قبله: أي أتعلم (من تخاطب) أي تخاطبه (منذ) أي من مدة (ثلاث) أي من الليالي (يا أبا هريرة؟ قلت لا) أي لا أعلمه (قال: ذلك شيطان. رواه البخاري) في مواضع من «صحيحه» . 131021 - (وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله قال: من حفظ) أي عن ظهر قلب (عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال) بفتح المهملة وتشديد الجيم وهو الكذاب، قال ثعلب: الدجال هو المموّه، يقال سيف مدجل: إذا طلي بذهب، وقال ابن دريد: كل شيء غطيته فقد دجلته. واشتقاق الدجال من هذه لأنه يغطي الأرض بالجمع الكثير وجمعه دجلون كذا في «المصباح» ، والمراد أن حفظها يكون عاصماً من فتنة المسيح الدجال الذي يخرج بآخر الزمان مدعياً الألوهية لخوارق تظهر على يديه كقوله للسماء أمطري فتمطر لوقتها، وللأرض أنبتي فتنبت لوقتها زيادة في الفتنة، ولذا لم توجد فتنة في الأرض أعظم من فتنته، وما أرسل نبيّ إلا حذر قومه منه، وكان السلف يعلمون خبره الأولاد في الكتاتيب، وجوّز في «فتح الإله» كون المراد به جنس الدجال: أي من يكثر منه الكذب والتلبس وقد ورد «لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالاً» الحديث وفي حديث آخر «يكون في رخر الزمان دجالون» قلت: وفي هذا بعد. (وفي رواية) أي لمسلم كما صرح به (من آخر سورة الكهف) وسرّ عصمة من حفظ تلك الآيات منه اشتمالها على عجائب وآيات يمنع تدبرها من فتنته، وأيضاً ففي أولها ذكر أولئك الفتية الذين نجاهم الله من جبار زمنهم فتعود بركتهم على قارئها حتى ينجيه الله كماأنجاهم وفي آخرها {أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من

دوني أولياء} (الكهف: 102) (رواهما مسلم) أي الروايتين المذكورتين، وقد روى حديث فضل العشر أولها أحمد وأبو داود والنسائي، ورواه أبو عبيدة وابن مردويه من حديث أبي الدرداء أيضاً بلفظ «من حفظ عشر آيات من أوّل سورة الكهف كانت له نوراً يوم القيامة» . 141022 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما) ما فيه كافة لبين عن الإضافة لما بعده (جبريل قاعد عند النبي سمع نقيضاً) بفتح النون وكسر القاف وسكون التحتية وبالضاد المعجمة وسيأتي معناه (من فوقه فرفع رأسه فقال) ظاهر السياق أن الضمائر الثلاثة لجبريل، وأيد بأنه أكثر اطلاعاً على أحوال المساء وأحق بالإخبار عنها. وقيل هي للنبي، وقال بعضهم: الأولان له والأخير لجبريل أي لأن الظاهر أن جبريل إنما حضر لإعلام النبي بالأمر الغريب الآتي، فالأنسب جعل ذلك النقيض تنبيهاً له ليستعلم جبريل عنه فيقع إخباره له به على غاية من التوجه والتمكن، والظاهر أن مستند ابن عباس في حكاية ذلك التوقيف منه وحذف ذلك لوضوحه، ويحتمل أن الله كشف له حتى رأى جبريل والملك النازل من السماء ورفع رأسه وسمع النقيض والقول (هذا باب من السماء) أي الدنيا لأن الأصح الأشهر الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة أن القرآن نزل من اللوح المحفوظ جملة إلى بيت العزة وهو في سماء الدينا ليلة القدر، ثم نزل منها بعد منجماً بحسب المصالح والوقائع في عشرين أو ثلاث أو خمس وعشرين سنة على الخلاف في مدة إقامته بمكة بعد البعثة (فتح) بالبناء للمفعول (اليوم) أي الآن (لم يفتح) بالبناء للمفعول أيضاً (قط إلا اليوم) أشار به لتخصيصه بالفتح (فنزل منه) أي الباب (ملك قال) أي جبريل (هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل) بوزن يضرب (قط إلا اليوم) اختصاص هذين النورين بهذين الأمرين

اللذين لم يقعا في غيرهما للدلالة على تمييزهما أو أفضليتهما واختصاصهما بما لم يوجد في غيرهما (فسلم) أي ذلك الملك (وقال أبشر) بفتح الهمزة وكسر الشين أو بوصل الهمزة وفتح الشين في «المصباح» بشر بكذا يبشر مثل فرح يفرح وزناً ومعنى، وهو الاستبشار أيضاً ويتعدى بالحركة فيقال بشرته أبشره من باب نصر في لغة تهامة وما والاها، والتعدية بالنقل إلى باب التفعيل لغة عامة العرب، وقرأ السبعة باللغتين اهـ. فقرأ من باب نصر ابن كثير وأبو عمر وحمزة والكسائي قوله تعالى: {ذلك الذي يبشر الله عباده} (الشورى: 23) وقرأ الباقون من باب التفعيل، وفي «مفردات الراغب» بشرت الرجل وبشرته وأبشرته: أخبرته بسار بسط بشرة وجهه، وذلك أن النفس إذا بشرت انتشر الدم فيها انتشار الماء في الشجر، وبين هذه الألفاظ فرقة فبشرته عام وأبشرته أو بشرته على التكثير، وقرىء بالثلاث قوله يبشرك اهـ (وظاهره أن يبشرك قرىء بالثلاث حيث وقع في القرآن وليس كذلك، فإنه لم يقرأ أحد من طريق السبعة ولا من طريق العشرة) بل ولا من طريق الأربعة عشر إلا باللغتين وهما كونه من باب نصر ومن باب التفعيل (بنورين) أي لأن كلاً منهما يكون لصاحبه نوراً يوم القيامة يسعى أمامه لإجلاله وتعظيمه، أو في الدنيا بأن يتأمل في معانيه كناية عن هدايته بسبب ذلك إلى الصراط المستقيم (أوتيتهما) أي أعطيتهما (لم يؤتهما نبيّ قبلك) إن قيل القرآن كله هكذا فما وجه اختصاص هذين بذلك؟ قيل الإشارة إلى علو شأنهما وذلك لما اشتملا عليه من المعني الجامعة المتعلقة بالألوهية وتوابعها مع وجازة لفظهما وبراعة نظمهما مما لم يشتمل على مثله غيرهما من بقية كتاب الله تعالى (فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة) خبر مبتدأ محذوف: أي هما هذان وابتداء خواتيم سورة البقرة من قوله تعالى: {آمن الرسول} (البقرة: 285) كما في «فتح الإله» قلت ولو قيل إنه من قوله تعالى: {لله ما في السموات وما في الأرض} (البقرة: 284) لم يبعد (لن تقرأ) الخطاب له والمراد هو وأمته إذ الأصل مشاركتهم له في كل ما أنزل عليه حتى يجيء ما يدل على التخصيص (بحرف) الباء فيه صلة للتأكيد وتجويز كونها للإلتصاق بعيد، نعم يجوز كونها للاستعانة: أي لن تقرأ مستعيناً بحرف: أي جملة (منهما) على قضاء غرض لك (إلا أعطيته) كيف لا؟ والفاتحة هي الكافية وتلك الخواتيم لمن قرأها في ليلة كافية،

184 ـــ باب استحباب الاجتماع على القراءة

والمراد ثوابه الأعظم من ثواب نظيره في غير هذين، أو المراد بالحرف معناه اللغوي وهو الطرف، وكنى به كل جملة مستقلة بنفسها: أي أعطيت ما تضمنته إن كانت دعائية {كاهدنا} {وغفرانك} الآيتين وثوابهما إن لم يتضمن ذلك كالمشتملة على الثناء والتمجيد (رواه مسلم.t النقيض) بالضبط السابق (الصوت) وقال بعضهم: إنه صوت مثل صوت الباب إذا فتح. 184 - باب استحباب الاجتماع على القراءة وذلك لما فيه من تعظيم القرآن وإظهار شعاره بتكثير مجالسه وتعميم المواظبة بتلاوته. 11023 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: وما اجتمع قوم) المراد به هنا ما يشمل الإناث، ويحتمل تخصيصه بالذكور لأنهم لكمال عقولهم بالنسبة إليهن يقومون بآداب مجلس التلاوة، ولا كذلك هن (في بيت من بيوت الله) أي المساجد، وذكرها لأنها الأعلى لا للتخصيص (يتلون كتاب الله) أي يقرءونه جملة حالية من الفاعل (ويتدارسونه بينهم) أي يتوازعون دراسته، والأولى فيها أن يقرأ الثاني ما قرأ الأول، قيل إنه هكذا كانت مدارسة النبي مع جبريل (إلا نزلت عليهم السكينة) بالتخفيف، وحكي في «النوادر» تشديدها وقال: لا نعرف في كلام العرب فعيلة مثقلة إلا هذا الحرف وهو شاذ كما في «المصباح» ، قل المصنف في «شرح مسلم» : وقد قيل في معنى السكينة أشياء، المختار أنها شيء من مخلوقات الله تعالى فيه طمأنينة ورحمة ومنه الملائكة، والله أعلم (وغشيتهم) أي

185 ـــ باب فضل الوضوء

عمتهم (الرحمة) أي الفضل والإحسان، ويجوز أن يراد بها إرادة ذلك والتعميم باعتبار التعلق (وحفتهم) بفتح المهملة وتشديد الفاء. أي أحاطت بهم (الملائكة) تشريفاً وتعظيماً لهم لما تلبسوا به من التلاوة (وذكرهم الله فيمن عنده) من الملائكة، والعندية عندية مكانة لا عندية مكان تعالى الله عن ذلك، والظاهر أن كل جملة من العطايا فوق ما قبلها فيكون فيه كالترقي، وذلك لأن ذكر الله أعلى المقامات كما قال تعالى: {ولذكر الله أكبر} (العنكبوت: 45) ويليه إحاطة الملائكة بهم، ويليها عموم الرحمة لهم الشاملة لتنزل السكينة إذ هو منها، والله أعلم (رواه مسلم) . 185 - باب فضل الوضوء بضم الواو من الوضاءة: وهي الحسن والنظافة. وشرعاً: استعمال الماء في أعضاء مخصوصة فمتتحاً بنية، وفرض مع فرضية الصلاة ليلة الإسراء. (قال الله تعالى) : ( {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم} ) أي أردتم القيام ( {إلى الصلاة} ) ثم قيل في الآية حذف، والتقدير: وأنتم محدثون. وقال القاضي أبو الطيب: في الآية حذف وتقديم وتأخير ذكره الشافعي عن زيد بن أسلم، تقديرها: إذا قمتم إلى الصلاة من النوم أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فاغسلوا وجوهكم إلى وأرجلكم، وإن كنتم جنباً فاطهروا، وإن كنتم مرضى أو على سفر فلم تجدوا ماء فتيمموا. قال: وزيد من العالمين بالقرآن. والظاهر أنه إنما قدرها توفيقاً مع أن التقدير لا بد منه، فإن نظمها يقتضي أن المرض والسفر حدثان ولا قائل به. قال الشيخ زكريا: ويغني عن تكلف التقديم والتأخير أن يقدر جنباً في قوله: {وإن كنتم مرضى

أو على سفر} (المائدة: 6) وقال آخرون: لا تقدير في الآية ولا تقديم ولا تأخير، فقيل بل الآية على عمومها والأمر شامل للمحدث على سبيل الإيجاب وللمتطهر على سبيل الندب. وقيل إن الآية نزلت للإعلام بأن الوضوء لا يجب إلا عند القيام إلى الصلاة دون غيرها من الأعمال، إذ كان لا يمنع من غيرها من الأعمال عند الحدث. قال العز بن عبد السلام في كتاب «أحكام القرآن» : ظاهر الآية الكريمة إيجاب الوضوء لكل صلاة سواء أحدث أم لا، لكن ورد في «صحيح مسلم» «أن النبي كان يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات الخمس بوضوء واحد، فقال عمر: فعلت شيئاً لم تكن تفعله، قال: عمداً فعلته يا عمر» قال الحازمي: قال الخطابي: ذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يجب الوضوء إلا من حدث، وما روي عن النبيّ أنه كان يتوضأ: أي لكل فرض محمول على التماس الفضل وبين النبي للناس الجواز بالحديث المتقدم. وفيه أيضاً دليل على أنه لا يشترط فعل الوضوء عند القيام إلى الصلاة، بل لو قدمه أو أخره عن الوقت أجزأه وإن كان ظاهر الآية الكريمة لا يشعر بذلك ( {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} ) أي معها لأن الجمهور على دخول المرفقين في الغسل ( {وامسحوا برؤوسكم} ) الباء فيه للإلصاق أو للتبعيض ( {وأرجلكم إلى الكعبين} ) قرىء بالنصب عطفاً على الوجوه أو الأيدي لفظاً، وبالجر لفظاً للجواز، وهي منصوبة محلاً عطفا على أحدهما، أو بالجر لفظاً ومحلاً عطفاً على رؤوس، وتحمل على لابس الخف أو الغسل الخفيف. وهذه الآية الكريمة ذكر فيها أربعة من أركان الوضوء، فمن قال لا ركن إلا تلك الأربعة فأمره واضح، ومن قال بوجوب غيرها كالنية والترتيب عند إمامنا الشافعي أخذ ذلك من أدلة تقتضيه، أما النية فمن نحو قوله «إنما الأعمال بالنيات» ، وأما الترتيب فمن الآية لأنه فصل فيها بالرأس الممسوح بين اليد والرجل المغسولين، والعرب لا تفصل بين المتجانسين إلا لنكتة وهي هنا وجوب الترتيب لا ندبه لأن الآية مسوقة لبيان مفروضاته، وكالتسمية عند جمع، وكغسل الكفين عند القيام من النوم، وكالمضمضة والاستنشاق في أشياء قيل بوجوبها لأدلة أخرى تشهد لها من كتاب أو سنة ( {وإن كنتم جنباً فاطهروا} ) أي فاغتسلوا ( {وإن كنتم مرضى أو على سفر

أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم} ) أي لمستم ( {النساء} ) أي الأجنبيات لا من وراء حائل، وقيد بذلك أخذا من قاعدة يستنبط من النص معنى يعود عليه بالتخصيص ( {فلم تجدوا ماء فتيمموا} ) فاقصدوا ( {صعيداً} ) تراباً ذا غبار يتصاعد (طيباً) طهوراً ( {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} ) مع المرافق ( {منه} ) عوضاً عن استعمال الماء للعجز عنه ( {ما يريد الله ليجعل عليكم} ) بما فرض من الغسل والوضوء والتيمم ( {من حرج} ) ضيق ( {ولكن يريد ليطهركم} ) من الأحداث والذنوب ( {وليتم نعمته عليكم} ) ببيان ما هو مطهرة للقلوب والأبدان من الآثم والأحداث ( {لعلكم تشكرون} ) أي نعمتي فأزيدها عليكم. 11024 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: إن أمتي) أي أمة الدعوة (يدعون) بالنباء للمفعول: أي يسمون والواو نائب فاعله (يوم القيامة) ظرف لما قبله (غراً) بضم الغين المعجمة وتشديد الراء جمع أغر كخمر جمع أحمر وليس أغر أفعل تفضيل كما قال ابن فرحون في إعراب «عمدة الأحكام» ، لأنه لو كان كذلك لما جمع لوجوب إفراد وتذكير أفعل التفضيل النكرة، وغراً مفعول ثان ليدعون: أي يسمون بذلك (ومحجلين) حال من الضمير فيه، ويجوز أن يكونا حالين: أي يدعون يوم القيامة حال كونهم فيها غراً محجلين، أو يدعون بمعنى ينادون وهم بهذه الحالة، وما قيل من أن كلاً من الغرة والتحجيل صفة لازمة لهم في الآخرة غير منتقلة عنهم فكيف يكون حالاً؟ أجيب عنه بأنها هنا في حكم المنتقلة لأن المعلوم من سائر الخلق عدم الغرة والتحجيل، فلما جعل الله ذلك لهذه الأمة دون سائر الأمم صارت في حكم المنتقلة بهذا المعنى، ويحتمل أن تكون هذه علامة لهم في الموقف وعند الحوض ثم تنتقل عنهم عند دخولهم الجنة فتكون منتقلة بهذا المعنى. والغرة: غسل ما زاد على فرض الوجه من أطراف الناصية والأذن وبعض العنق، والتحجيل: غسل ما فوق الواجب من اليد والرجل وغايته استيعاب العضد والساق (من) تعليلية (آثار الوضوء) جمع أثر ويجوز أن تكون من لابتداء الغاية وعليه لا تعارض بينه وبين حديث الترمذي «أمتي يوم القيامة غر من السجود محجلون من الوضو» لأن نور الوجه له

سببان: الوضوء والسجود والظرف تنازعه يدعون وغراً ومحجلين. قال ابن فرحون: قلت قال في «الكشاف» في قوله تعالى: {إذا دعاكم دعوة من الأرض} (الروم: 25) فإن قلت: بم تعلق من الأرض أبالفعل أم بالمصدر؟ قلت: هيهات إذا جاء نهر الله بطل نهر العقل اهـ. وظاهره أنه ليس من التنازع بل يتعلق بالفعل على المذهبين والله أعلم (فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل) وفي رواية الغرة، والمراد منه ما يشمل التحجيل أو حذف اكتفاء بدلالة مقابله عليه، ومن اسم شرط مبتدأ والخبر جملة الشرط، وقيل الخبر الجواب لأن به تتم الفائدة، وقيل الخبر مجموع فعل الشرط والجواب، وقيل ما فيه ضمير منهما والظرف متعلق بالفعل ومن فيه محتملة للتبعيض ولبيان الجنس، وأن يطيل مفعول وعدل إليه عن إطالة لأن المطلوب نفس الفعل لا هيئته. قال السهيلي: إذا قلت كرهت خروجك احتمل أن يكون المكروه نفس الخروج وهيئته، وإذا قلت كرهت أن خرجت كان المكروه نفس الفعل (متفق عليه) قال القلقشندي في «شرح عمدة الأحكام» : وأخرجه أحمد وابن أبي شيبة والنسائي وأبي ماجة والإسماعيلي وأبو عوانة والترمذي وأبو نعيم والبيهقي وغيرهم. 21025 - (وعنه رضي الله عنه قال: سمعت خليلي) أصل الخليل الصديق فعيل بمعنى مفعول وهو المحبوب الذي تخللت محبته في القلب فصارت في خلاله أي باطنه واختلف في الخليل فقيل الصاحب. وقيل الخالص في الصحبة وقيل من ليس في صحبته خلل وقيل الذي يوالي فيه ويعادي وقيل غير ذلك، واختلف في اشتقاقه فقيل من الخلة بفتح المعجمة أي الحاجة وقيل بضمها، أي تخلل المودة في القلب، وقيل من الخلة بالضم نبت تستخليه الإبل، وقد تقدم في صدر الكتاب الخلاف في الأرفع من مقامي المحبة والخلة ولا منافاة بين هذا وقوله «لو كنت متخذاً خليلاً غير ربي» الحديث لأن الممتنع اتخاذ المصطفى لأحد غير مولاه تعالى خليلاً لا اتخاذ غيره له خليلاً (يقول

تبلغ الحلية) بكسر الحاء المهملة وسكون اللام (حيث يبلغ الوضوء) قيل المراد هنا حلية أهل الجنة لما أخرج ابن حبان في «صحيحه» عن أبي هريرة مرفوعاً «تبلغ حلية أهل الجنة مبلغ الوضوء من المؤمن» وقيل المراد أن حلي المؤمن في الجنة يصل ما يصله ماء الطهارة، وفيه تحريض على الغرة والتحجيل (رواه مسلم) وذكر البخاري معناه في آخر كتاب اللباس في باب نقص الصور من طريق أبي قال: دخلت مع أبي هريرة داراً بالمدينة فرأى أعلاها مصوراً بصور فقال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول الحديث. وفيه «ثم دعا بتور من ماء فغسل يديه حتى بلغ إبطيه فقال: يا أبا هريرة أشيء سمعته من النبي؟ قال منتهى اللحية» . 31026 - (وعن عثمان بن عقان رضي الله عنه قال قال رسول الله من توضأ فأحسن الوضوء) أي من توضأ فأحسن الوضوء وهو المشتمل على سننه وآدابه. قال المصنف ففيه الحث على الاعتناء بتعلم أدب الوضوء وشروطه والعمل بذلك والاحتياط فيه والحرص على وجه يصح عند جميع العلماء ولا يترخص بالاختلاف فينبغي أن يحرص على التسمية والنية والمضمضة والاستنشاق والاستنثار وغير ذلك من المختلف فيه اهـ. (خرجت خطاياه) المراد بها الصغائر المتعلقة بحق الله تعالى وخروجها مجاز عن غفرانها لأنها ليست بأجسام (حتى) غاية لتعميم خروجها من جميع جسده كما صرح به في رواية مسلم كما في «المشارق» : أي خرجت من جميع أجزائه حتى (تخرج من تحت أظفاره) قال ابن مالك: وهذا تأكيد لدفع ما يتوهم أن المراد ما يصيبه الوضوء، فإن قيل ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة الآتي «إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن الخ» يدل على أن المغفور ذنوب أعضاء الوضوء فقط فلم لم يحمل الساكت على الناطق؟ قلنا: لا حاجة لأن كلاهما معمول به، فغفران جميع الجسد يكون عند التوضؤ بالتسمية. وفي قوله (فأحسن الوضوء) إشارة لوجودها فيه وغفران أعضاء الوضوء يكون عند عدم التسمية يدل عليه حديث عبد الرزاق عن حسن الكوفي مرسلاً «من ذكر الله أوّل وضوئه طهر به جسده كله وإن لم يذكر الله لم يطهر إلا مواضع الوضوء» (رواه مسلم) .

41027 - (وعنه قال) بعد أن أتى بالوضوء على كمال المشروع (رأيت رسول الله توضأ مثل) في رواية نحو (وضوئي هذا) رأى فيه إن كانت علمية فالجملة تأتي مفعولها وإن كانت بصرية فالجملة في محل الحال بإضمار قد (وقال من توضأ هكذا) أي مثل هذا فالكاف في محل المفعول المطلق صفة لمصدر مقدر، وفي رواية «من توضأ نحو وضوئي هذا» قال المصنف: إنما لم يقل لأن حقيقة مماثلته لا يقدر عليها غيره، لكن يشكل عليه أنه وقع في رواية البخاري «من توضأ مثل هذا الوضوء» وفي رواية لمسلم وابن حبان «من توضأ مثل وضوئي هذا» فظهر أن التعبير بنحو من تصرف الرواة لأنها تطلق على المثلية مجازاً ومثل يطلق على الغالب أيضاً وبه تلتئم الروايتان قاله في «فتح الباري» (غفر له) بالبناء للمفعول نائب فاعله (ما تقدم من ذنبه) أي الذي تقدم أو المتقدم منها، والمراد كما تقدم صغائرها المتعلقة بحق الله تعالى (وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة) عطف على جملة الجواب (رواه مسلم) ورواه بدون قوله «وكانت صلاته» الخ وبزيادة قوله «ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه» البخاري وأبو داود والنسائي وابن خزيمة والطبراني والبزار والإسماعيلي وأبو عوانة والدارقطني والبرقاني وأبو نعيم والبيهقي وغيرهم ذكره القلقشندي في «شرح عمدة الأحكام» . 51028 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: إذا توضأ العبد) أي المكلف حراً أو رقيقاً ذكراً أو أنثى (المسلم أو) شك من الراوي (المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة) كناية عن غفرانها كما تقدم (نظر إليها بعينيه) ذكر تأكيداً للمبالغة وإلا فالنظر لا يكون بغيرها وكذا يقال في يداه ورجلاه الآتيين ثم الكلية فيها مخصوصة بغير الكبائر وحقوق العباد لما ورد مما يشهد بالتخصيص (مع الماء) فيكون خروج خطيئة كل جزء منه

مع جزء الماء الماس له (أو) شك من الراوي (مع آخر قطر) بضم ففتح جمع قطرة أي مع آخر قطرات (الماء) وقيل خصت العين بالذكر مع أن في الوجه الفم والأنف والأذن لأنها طليعة القلب ورائده فأغنت عن غيرها ويؤيده حديث «فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه» اهـ. وتعقبه في «فتح الإله» في قوله إن الأذن من الوجه وفي أن كون العين طليعة لا ينتج الجواب عن تخصيص خطيئتها بالمغفرة، قال: بل الذي يتجه في الجواب أن سبب التخصيص كون كل من الفم والأنف والأذن له طهارة مخصوصة خارجة عن طهارة الوجه فكانت متكلفة بإخراج خطاياه بخلاف العين ليس لها طهارة إلا في غسل الوجه فحطت خطيئتها عند غسله دون غيرها مما ذكر اهـ (فإذا غسل يديه خرج) من يديه (كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقياً) أي منقى ومطهراً (من الذنوب) أي الصغائر بحق الله تعالى كما ذكر آنفاً (رواه مسلم) . 61029 - (وعنه أن رسول الله أتى إلى المقبرة) بتثليث الموحدة: قاله المصنف، والمراد بها البقيع (فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين) هو بنصب دار، قال صاحب «المطالع» : هو منصوب على الاختصاص أو النداء المضاف، والأول أظهر، قال: ويصح الخفض على البدل من الكاف في «عليكم» والمراد بالدار على هذين الوجهين الآخرين الجماعة أو أهل الدار، وعلى الأول مثله أو الثاني (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) قال المصنف أتى بالاستثناء مع أن الموت لاشك فيه. وللعلماء فيه أقوال: أظهرها ليس للشك ولكنه للتبرك وامتثال أمر الله يفعله في قوله: {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله} (الكهف: 23، 24)

والثاني حكاه الخطابي أنه عادة للمتكلم يحسن به الكلام، والثالث أن الاستثناء عائد إلى لحوق في خصوص المكان، وقيل أقوال أخر ضعيفة جداً (وددت) بكسر المهملة الأولى (أنا قد رأينا) أي أبصرنا (إخواننا) أي رأيناهم في الحياة، قال عياض: وقيل المراد تمني لقائهم بعد الموت وفيه جواز التمني لا سيما في الخير ولقاء الفضلاء (قالوا) أي الصحابة الذين معه حينئذ (أو لسنا إخوانك) المعطوف عليه مقدر بين همزة الاستفهام والواو: أي أتتمنى لقاء إخوانك أولسنا إخوانك (قال أنتم أصحابي) وفي نسخة من مسلم بزيادة بل (وإخواننا الذين لم يأتوا بعد) قال المصنف: قال الإمام الباجي ليس هذا نفياً لأخوتهم ولكن ذكر مزيتهم بالصحبة: أي فأنتم إخوة صحابة، والذين لم يأتوا إخوة ليسوا بصحابة كما قال تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} (الحجرات: 10) قال القاضي عياض: ذهب أبو عمر بن عبد البر في هذا الحديث وغيره من الأحاديث في فضل من يأتي آخر الزمان أنه قد يكون فيمن يأتي بعد الصحابة من هو أفضل ممن كان من جملة الصحابة، وأن قوله «خيركم قرني» على الخصوص، معناه خير الناس قرنى: أي السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ومن سلك مسلكهم، فهؤلاء أفضل الأمة وهم المرادون بالحديث، أما من خلط في زمنه وإن رآه وصحبه ولم يكن له سابقة ولا أثر في الدين فقد يكون في القرون التي تأتي بعد القرن الأول من يفضلهم على ما ذلت عليه الآثار. قال القاضي عياض: وقد ذهب إلى هذا أيضاً غيره من المتكلمين على المعاني. قال: وذهب معظم العلماء على خلاف هذا، وأن من صحب النبي ورآه مرة من عمره وحصلت له مزية الصحبة أفضل من كل من يأتي بعد، وأن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل، قالوا: {وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} ، واحتجوا بقوله «لو أنفق أحد منكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» اهـ (قالوا: وكيف تعرف من لم يأت بعد) بالبناء على الضم (من أمتك) متعلق بيأت (يا رسول الله) تشرف لهم بالخطاب لسيد الأحباب (فقال: أرأيت) بفتح الفوقية أي أخبرني (لو أن رجلاً) أي لو ثبت أن رجلاً (له خيل غر محجلة) الغرة بياض

في وجه الفرس، والتحجيل بياض قوائمه إذا جاوز البياض الأرساغ إلى نصف الوظيف أو نحو ذلك. وذلك موضع التحجيل فيه، قاله في «المصباح» (بين ظهري) بفتح الراء، ويقال ظهراني بزيادة الألف والنون، قيل وهو مفخم للتأكيد (خيل) أي بينها (دهم) بضم المهملة وسكون الهاء جمع أدهم وهو الأسود والدهمة السواد (بهم) بضم الموحدة وسكون الهاء، قيل معناه السود أيضاً، وقيل البهيم الذي لا يخالط لونه لوناً سواه، سواء كان أبيض أم أحمر بل يكون لونه خالصاً، وهذا قول ابن السكيت وأبي حاتم السجستاني (ألا يعرف) أي الرجل (خيله) المتميزة من خيل غيره (قالوا بل، قال: فإنهم يأتون غراً محجلين) منصوبين على الحال، ويحتمل أن يكونا مترادفين من فاعل يأتي، وأن يكونا متداخلين بأن يكون الثاني من ضمير ما قبله (من الوضوء) من تعليلية: أي لأجل الوضوء (وأنا فرطهم) بفتح الواو والراء وبالطاء المهملة، قال الهروي وغيره: أي أتقدمهم (إلى الحوض) يقال: فرطت القوم إذا تقدمتهم لترد لهم الماء وتهيى لهم الدلاء. والحوض هو الكوثر الذي أعطيه ، وهو اثنان: واحد في عرصات الموقف من شرب منه لم يظمأ أبداً، والثاني داخل الجنة، قاله القرطبي وغيره. وفي الحديث بشارة لهذه الأمة زاد الله شرفها، فهنيئاً لمن كان رسول الله فرطه (رواه مسلم) . 71030 - (وعنه أن رسول الله قال: ألا) بتخفيف اللام حرف أتى به لتنبيه السامع لما بعده (أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا) بالعفو عنها بالغفران أو يمحوها من ديوان الكتبة فيكون دليل غفرها، جعل العفو مسبباً عن مدخول الباء، يومىء إليه أن الممحو الصغائر المتعلقة بحق الله تعالى لأنها المكفرة بالطاعات، ولما كان تكفير الخطايا تخلية بالمعجمة قدمه على قوله (ويرفع به الدرجات) أي في الجنة لكونه تحلية بالمهملة وهي متأخرة عن تلك. وفيه شرف ما يذكر فيه وإن لم يقتصر على تكفير المأثم بل ضم لذلك إعلاء الدرجات وذكر ذلك قبل ذكر المحدث عنه به، فيه تشويق أي تشويق فيكون ذلك أقر في ذهن السامعين لشدة طلبهم له فلذا قال (قالوا بلى) أي دلنا عليه (يا رسول الله) أي وشأن

الرسول الحرص على ما ينفع أمته، ولا نفع كالمذكور في الحديث (قال إسباغ الوضوء) بالرفع: أي هو إسباغ الوضوء مع ما يعده مما تقدم فيه العطف للربط، وإسباغه إتمامه (على المكاره) أي من نحو شدة البرد (وكثرة الخطا) بضم المعجمة (إلى المساجد) وتلك تكون من بعد الدار وكثرة التكرار. وفي الصحيح أن بنى سلمة أرادوا أن ينتقلوا من محلتهم لمحل بقرب المسجد فقال «دياركم تكتب آثاركم» (وانتظار الصلاة بعد الصلاة) قال الباجي: هذا في المشتركتين من الصلوات في الوقت، وأما غيرهما فلم يكن من علم الناس، قال المصنف: وفي التخصيص نظر (فذلكم الرباط) أي المرغب فيه، وأصل الرباط الحبس على الشيء كأنه حبس نفسه على هذه الطاعة. قيل ويحتمل أنه أفضلها، وجاء في رواية لمسلم تكرار هذه الجملة مرتين، وفي الموطأ تكرارها ثلاثاً، فقيل التكرار للاهتمام به وتعظيم شأنه، وقيل تكراره جرى على عادته من تكراره الكلام ليفهم عنه (رواه مسلم) وقد تقدم الحديث مشروحاً في باب بيان طرق الخير. 81031 - (وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله: الطهور) بضم الطاء المهملة التطهير ويصح فتحها ويكون على تقدير مضاف: أي استعمال الطهور حالة الطهارة (شطر الإيمان) أي شطر الصلاة أو جزء من الإيمان، وعبر عنه بالشطر إيماء إلى تشريفه (رواه مسلم) وغيره (وقد سبق بطوله في باب الصبر) أوائل الكتاب (وفي الباب حديث عمرو بن عبسة) بفتحات (رضي الله عنه السابق) بالرفع (في آخر باب الرجاء، وهو حديث عظيم مشتمل على جمل) بضم ففتح جمع جملة: أي مطالب (من الخيرات) هذا، وكان على المصنف أن يقول: وهما حديثان عظيمان الخ لأن حديث أبي مالك مشتمل

على جملة من الخيرات أيضاً، وقد أفرد شرحه بالتأليف الحافظ العلائي، والمراد منهما ثواب أعمال من الطاعات. 91032 - (وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي قال: ما منكم) الظرف خبر مقدم (من أحد) مزيدة في المبتدأ للتنصيص على العموم (يتوضأ) صفة المبتدأ أو حال منه خبر، والظرف قبله حال من المبتدأ أو من ضميره في الجملة (فيبلغ) بضم أوله وكسر ثالثه مرفوع من الإبلاغ: أي يكمل الوضوء بالإتيان بواجباته، ويحتمل ومندوباته (أو) شك من الراوي (فيسبغ الوضوء) قال المصنف: هو بمعنى يبلغ، قلت: فيؤيد إرادة مندوباته (ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له) مدلول لا إله إلا الله توحيد الذات، والمراد من «وحده» توحيد الصفات، ومن «لا شريك له» توحيد الأفعال (وأشهد أن محمداً عبده) بدأ به لأن عبوديته أشرف من رسالته كما يدل عليه وصفه تعالى له بها على أشرف المواطن (ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية) بضم الفاء فكسر الفوقية المخففة، ويحتمل التشديد للتكثير لتكرر الفعل لتعدد الأبواب والظرف للربط تقول حفظت لزيد ماله (يدخل من أيها شاء) جملة مستأنفة لبيان حال المتطهر أو حال مقدرة، ولا مخالفة بين هذا الحديث وحديث «الريان يدخل منه الصائمون دون غيرهم» لأن ما في حديث الباب أنه ينادي منها كلها لكونه عمل بعمل أهل كل باب شريفاً له في ذلك الموقف، ثم يلهم الدخول من الباب الغالب عليه عمله (رواه مسلم) قال الحافظ العسقلاني في «أمالي الأذكار» بعد إخراج الحديث: هذا حديث صحيح أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي (وزاد الترمذي: اللهم اجعلني من التوابين) صيغة المبالغة إما لتكرارها وإما للمبالغة في إتقانها وضبط

186 ـــ باب فضل الأذان

مكملاتها (واجعلني من المتطهرين) أي من الذنوب والمآثم كما يومىء إليه حذف المعمول، ثم ما عبر به المصنف عبر بمثله في «الأذكار» ، وقد تعقبه فيه الحافظ ابن حجر بأن هذه الزيادة لم تثبت في هذا الحديث، فإن جعفر بن محمد شيخ الترمذي تفرد بها ولم يضبط الإسناد ثم بين وجه عدم ضبطه بمخالفته للثقات، قال ووجدت لهذه الزيادة شاهداً من حديث ثوبان مولى رسول الله قال: قال رسول الله «من توضأ فأحسن الوضوء، ثم قال عند فراغه، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين فتح الله له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء» . 186 - باب فضل الأذان أي والإقامة. والأذان والتأذين والأذين: لغة الإعلام. وشرعاً قول مخصوص يعلم به وقت الصلاة. والأصل فيه قبل الإجماع قوله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} () وقوله {وإذا ناديتم إلى الصلاة} (الجمعة: 9) وخبر عبد الله بن عبد ربه الأنصاري في الأذان والإقامة رواه الشيخان في «صحيحيهما» . 11033 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: لو يعلم الناس) قال الطيبي: أتى بالمضارع محل الماضي إقامة له مقام ما يستدعيه، إذ المراد ثم حاولوا الاستباق عليه لوجب عليهم ذلك، أو ليفيد استمرار العلم فإنه ينبغي أن يكون على بال (ما في النداء) أي الأذان وحذف «من» البيانية لإبهام «ما» إيماء إلى أن الفعل المبين بها إبهامها مما لا تسعه عبارة (والصف الأول) هو على الصحيح الصف الذي يلي الإمام، وإن كان أبعد من الكعبة من

صف أقرب إليها في غير جهة الإمام بل أقربية المأموم على إمامه للكعبة مكروهة مفوتة لفضل الجماعة كما نبه عليه ابن حجر الهيتمي في «تحفته» . قال التيمي: وفضل الصف الأول لاستماع القرآن إذا جهر الإمام والتأمين لقراءته، ومن فضله أنه إذا احتاج الإمام للاستخلاف استخلفه ولينقل صفة الصلاة ويعلمها الناس، والصف الثاني أفضل من الثالث وهكذا (ثم لم يجدوا) أتى به لتراخي رتبة الاتهام عن العلم (إلا أن يستهموا) أي يقترعوا (عليه) لأداء تأذين المتنازعين إلى تهويش وضيق المكان عن قيامهم لاستهموا عليه لعظمه وفضله، وإفراد الضمير لعوده على «ما» العائد هو إليها أو تنزيلاً له منزله اسم الإشارة في نحو قوله تعالى: {عوان بين ذلك} (البقرة: 68) باعتبار لفظه، وقد وقع الأذان على الاستهام: قال البرماوي: حين فتح القادسية صدر النهار فاتبع الناس العدو فرجعوا وقد حانت صلاة الظهر وأصنت المؤذن، فتشاحّ الناس في الأذان حتى كادوا يجتلدون بالسيوف، وأقرع بينهم سعد فأذن من خرج سهمه. والقرعة أصل في الشريعة في تعيين ذي الحق في مواضع (ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه) لما فيه من المسارعة إلى الطاعة ولأن منتظر الصلاة في صلاة ولعدم التضايق فيه زماناً ومكاناً لم يحتج إلى المساهمة فيه وللقرعة (ولو يعلمون ما في العتمة) بفتحتين، قال في «المصباح» : هي من الليل بعد غيبوبة الشفق إلى آخر الثلث الأول، وعتمة الليل ظلام أوله عند سقوط نور الشفق اهـ. والمراد منها هنا صلاة العشاء، والتعبير بها مع النهي عن تسميتها بذلك، إما قبله أو تنبيهاً على أن النهي للتنزيه لا للتحريم، أو لدفع توهم أن المراد بالعشاء المغرب لأنهم كانوا يسمونها عشاء فتفوّت المطلوب فاستعمل العتمة التي لا شك فيها دفعاً لأعظم المفسدتين بأخفهما (والصبح لأتوهما) أي لو علموا ما في فضل صلاتهما جماعة لأتوهما بأي وجه أمكن (ولو حبواً) بفتح المهملة وسكون الموحدة، وهو المشي على اليدين والركبتين، أو على المقعدة (متفق عليه) ورواه مالك وأحمد والنسائي كما في «الجامع الصغير» (الاستهام الاقتراع) وذلك لأنهم كانوا يقترعون بسهام لا ريش فيها (والتهجير: التبكير إلى الصلاة) مطلقاً ولا ينافي تناول عمومه للظهر الأمر بالإبراد بها لأنه لقصر زمنه في الجملة لا يخرج فاعله عن التبكير بها.

21034 - (وعن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: المؤذنون أطول الناس أعناقاً) بفتح الهمزة جمع عنق، واختلف في معناه، فقيل أكثر الناس تشوفاً إلى رحمة الله تعالى لأن المتشوف يطيل عنقه لما يتطلع إليه، فمعناه كثرة ما يرونه من الثواب. وقال النضر بن شميل: إذا ألجم الناس العرق يوم القيامة طالت أعناقهم لئلا ينالهم ذلك الكرب والعرق، وقيل معناه: إنهم سادة ورؤساء، والعرب تصف السادة بطول العنق: وقيل معناه: أكثر أتباعاً. وقال ابن الأعرابي: معناه أكثر الناس أعمالاً، وفي سنن البيهقي عن أبي بكر بن أبي داود عن أبيه: ليس معنى الحديث أن أعناقهم تطول ولكن الناس يعطشون يوم القيامة ومن عطش انطوت عنقه والمؤذنون لا يعطشون فأعناقهم قائمة. قال القاضي عياض وغيره: ورواه بعضهم بكسر الهمزة: أي إسراعاً إلى الجنة وهو من سير العنق (يوم القيامة) ظرف لما قبله (رواه مسلم) ورواه ابن ماجه في «سننه» . 31035 - (وعن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة) بفتح الصادين المهملتين وإسكان العين المهملة الأولى المازني. قال في «الكاشف» : يروي عن أبي سعيد وعنه ابناه عبد الرحمن، ومحمد ثقة خرّج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وصفه الحافظ في «التقريب» بقوله الأنصاري المدني، وزاد من كبار التابعين (أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال له: إني أراك تحب الغنم) بفتحتين معروف (والبادية) هي خلاف الحاضرة والنسبة إليها بدوي على خلاف القياس وجمعها بواد (فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت للصلاة) أي أردت الأذان لها (فارفع صوتك) إلى ما لا يعود عليك بالضرر (بالنداء) بكسر النون وبالمد: أي بالأذان (فإنه) أي الشأن (لا يسمع مدى) بفتحتين والدال المهملة مخففة: أي غاية (صوت المؤذن) قال التوربشتي: وفي زيادة «مدى» مع الغنية عنها تنبيه على أن آخر من ينتهي إليه الصوت يشهد له كما يشهد الأول، ففيه الحث على استفراغ الجهد في رفع الصوت

بالأذان، وقال البيضاوي: إذا شهد من يسمع آخر الصوت مع كونه أخفى لا محالة للبعد فلأن يشهد من هو أدنى وسمع مبادئه أولى (جن ولا إنس) اقتصر عليهما دون غيرهما من أفراد الخاص لكونهما مكلفين بفروع الشريعة (ولا شيء) قيل المراد شيء يصح منه الشهادة كذلك، وقيل عام في كل ما يسمع ولو غير عاقل من سائر الحيوانات دون الجماد، وقيل عام في الجماد وغيره بأن يخلق الله له إدراكاً وعليهما فهو تعميم بعد تخصيص (إلا شهد له يوم القيامة) وفائدة هذه الشهادة «وكفى بالله شهيداً» إشهاره بالفضل يومئذ وعلو الدرجة كما يفضح من يفضح بالشهادة عليه. وفي «فتح الباري» : السر في هذه الشهادة مع أنها تقع عند عالم الغيب والشهادة أن أحكام الآخرة جرت على نسق أحكام الخلق في الدنيا من توجه الدعوى والجواب والشهادة قاله الزين ابن المنير. (قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله) المسموع الكلام الأخير وهو «إنه لا يسمع مدى صوت المؤذن الخ» وذكر الغنم موقوف وهذا ما عليه المصنف في آخرين، وقيل المسموع جميعه وهو ما فهمه الرافعي تبعاً للغزالي وتعقبهم فيه المصنف واستبعده الحافظ في الفتح (رواه البخاري) ورواه مالك والنسائي. 41036 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إذا نودي بالصلاة) بالموحدة في نسخ «الرياض» وهذا لفظ مسلم وكذلك رواه النسائي، وهو عند البخاري للصلاة باللام، ذكره الحافظ قال: ويمكن حملهما على معنى واحد (أدبر الشيطان له ضراط) جملة اسمية حالية وإن لم تكن بواو اكتفاء بالضمير كما في قوله تعالى: {اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ} () وفي رواية الأصيلى «وله ضراط» وهي عند البخاري في بدء الخلق قال عياض: يمكن حمله على ظاهره لأنه جسم متغذ يصح منه خروج الريح، ويحتمل أنه عبارة عن شدة نفاره، ويقرّبه رواية لمسلم «له حصاص» بمهملات مضموم الأول، وفسره الأصمعي بشدة العدوّ، وقال الطيبي: شبه شغل الشيطان وإغفاله نفسه عن سماع الأذان بالصوت الذي يملأ السمع ويمنعه عن سماع غيره، ثم سماه ضراطاً تقبيحاً له، قال الحافظ: والظاهر أن المراد

بالشيطان إبليس ويدل عليه كلام كثير من الشراح، ويحتمل أن المراد به كل متمرد من الجن والإنس لكن المراد هنا شيطان الجن (حتى لا يسمع التأذين) ظاهره أنه يتعمد إخراج ذلك ليشتغل بسماع الصوت الذي يخرجه عن سماع المؤذن أو يصنع ذلك استخفافاً كما يصنعه السفهاء، ويحتمل أنه يتعمد ذلك بل يحصل له عند سماع الأذان شدة خوف يحدث له ذلك الصوت بسببها، ويحتمل أنه يتعمد ذلك ليقابل ما يناسب الصلاة من الطهارة بالحدث، وقد وقع بيان غاية الإدبار عند مسلم في حديث جابر فقال «حتى يكون مكان الروحاء» وحكى مسلم من طريق قتيبة عن جابر أن بين المدينة والروحاء ستة وثلاثين ميلاً. وأدرجها في الخبر قال الحافظ: وهو المعتمد بالنسبة لرواية ابن راهويه في مسنده أن بينهما ثلاثين ميلاً (فإذا قضي النداء أقبل، حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر، حتى إذا قضى) أي فرغ وانتهى (التثويب أقبل حتى يخطر) بضم الطاء المهملة. قال الحافظ: كذا سمعناه من أكثر الرواة وضبطناه عن المتقنين بالكسر وهو أوجه، ومعناه يوسوس، وأصله من خطر البعير بذنبه إذا حركه فضرب به فخذيه، وأما بالضم فمن المرور: أي يدنو من المرء فيمر بينه وبين قلبه فيشغله، وضعف الهجرى في «نوادره» الضم مطلقاً وقال: هو يخطر بالكسر في كل اهـ. قال البرماوي: وإنما هرب الشيطان عند الأذان لما يرى من الاتفاق على إعلان كلمة التوحيد وغيرها من العقائد وإقامة الشعائر، وإنما جاء عند الصلاة مع أن فيها قراءة القرآن لأن غالبها سر ومناجاة فله تطرّق إلى إفسادها على فاعلها أو إفساد خشوعه، وقيل هربه عند الأذان حتى لا يضطر إلى الشهادة لابن آدم يوم القيامة لما تقدم في حديث أبي سعيد (بين المرء ونفسه) يقتضي أن المرء غير نفسه فيحمل على أن المراد بينه وبين قلبه كما في {إن الله يحول بين المرء وقلبه} () قال الحافظ: وجاء كذلك عند البخاري في بدء الخلق (يقول: اذكر كذا واذكر كذا لما) أي لشيء (لم يكن يذكر من قبل) بالبناء على الضم أي قبل شروعه في الصلاة (حتى يظل الرجل) بفتح الظاء المشالة بمعنى يصير، أو يكون ليتناول صلاة الليل أيضاً والقصد أنه يسهيه، ولذا حكى فيه الراوي يضل بكسر الضاد المعجمة: أي ينسى ويذهب وهمه (ما يدري كم صلى) الجملة معلق عنها العامل لوجود ماله صدر الكلام وهو كم الاستفهامية وهي مفعول صلى مقدم عليه لذلك، قال الطيبي: كرر لفظ حتى خمس مرات: الأولى والرابعة

والخامسة بمعنى كي، والثانية والثالثة دخلتا على الجملتين الشرطيتين وليستا للتعليل (متفق عليه) أخرجاه في الأذان وأخرجه مالك وأبو داود والنسائي. (التثويب) كما قال الجمهور (الإقامة) قال الحافظ في «الفتح» : وجزم به أبو عوانة «صحيحه» والخطابي والبيهقي وغيرهم. وقال القرطبي: ثوَّب بالصلاة: أي أقيمت وأصله من ثاب إذا رجع: أي رجع إلى ما يشبه الأذان وكل مردد صوتاً فهو مثوب يدل عليه رواية مسلم في رواية أبي صالح عن أبي هريرة «فإذا سمع الإقامة ذهب» وزعم بعض الكوفيين أن المراد بالتثويب قول المؤذن بين الأذان والإقامة حي على الصلاة حي على الفلاح قد قامت الصلاة. وحكى ذلك ابن المنذر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة وزعم أنه تفرد به، لكن في سنن أبي داود عن ابن عمر أنه كره التثويب بين الأذان والإقامة. فهذا يدل على أنه له سلفاً في الجملة، ويحتمل أن الذي تفرد به القول الخاص. وقال الخطابي: لا تعرف العامة التثويب بعد الأذان إلا قول المؤذن في الأذان «الصلاة خير من النوم» لكن المراد في هذا الحديث الإقامة والله أعلم. 51037 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله يقول: إذا سمعتم النداء) بكسر النون والمد: أي الأذان (فقولوا مثل ما يقول) تعليق الإجابة بسماع الأذان يقتضي ظاهره اختصاص الإجابة بالسامع دون غيره ولو لبعد أو صمم، وإن رأى المؤذن في المنارة في الوقت وعلم أنه يؤذن فلا تشرع له المتابعة، قاله المصنف في مجموعه، وبحث فيه القلقشندي باحتمال أن التقييد بالسماع لكونه الغالب. ويقتضي ندب إجابة كل مؤذن ولو ثانياً، وفيه خلاف حكاه الطحاوي وغيره، وقال المصنف المجموع: لا نص فيه لأصحابنا، والمختار اختصاصه بالأول لأن الأمر لا يقتضي التكرار، وأما أصل الفضيلة والثواب في المتابعة فلا يختص بالأول اهـ. وقال ابن عبد السلام: يجيب كل واحد بإجابة لتعدد السبب، وإجابة الأول أفضل إلا في الصبح والجمعة فهما سواء لأنهما مشروعان قال ابن سيد الناس: ظاهر الحديث أنه يقول مثل ما يقول المؤذن عقب فراغ المؤذن من الأذان،

لكن دلت الأحاديث المتضمنة للإجابة على أن المراد المساوقة. وقال الكرماني: إنما قال مثل ما يقول ولم يقل مثل ما قال ليشعر بأنه يجيب عقب كل كلمة بمثل كلمتها اهـ. وقال الشافعية: يستحب التتابع عقب كل كلمة لا معها ولا يتأخر عنها عملاً بما تقتضيه فاء التعقيب، ظهر هذا الحديث أن الإجابة تكون بحكاية لفظ المؤذن في جميع ألفاظ وبه قال بعض الأئمة منهم الحنابلة. وذهب الشافعي والجمهور إلى أن السامع يبدل الحيعلة بالحوقلة لحديث معاوية المخرّج في «صحيح البخاري» وحديث عمر المخرج في «صحيح مسلم» ففيهما ذلك تصريحاً فيخص بهما عموم هذا الحديث ونحوه، ومن جهة المعنى أن ألفاظ الأذان غير الحيعلة ذكر يحصل الثواب بذكرها للمؤذن والمجيب، والحيعلة يقصد بها الدعاء لصلاة وهو خاص بالمؤذن، فعوّض المجيب من الثواب الذي يفوته بترك الحيعلة الثواب الذي يحصل له بالحوقلة، ثم ظاهر قوله «قولوا» وجوب الإجابة، قال ابن قدامة في «المغني» : لا أعلم أحداً قال به. قلت: حكى الطحاوي والخطابي والقاضي عياض الوجوب عن بعض السلف (ثم صلوا عليّ) أي عقب الإجابة عرفاً فـ «ثم» في محل الفاء وعلل هذا الأمر بقوله على سبيل الاستئناف البياني (فإنه) أي الشأن (من صلى عليّ) أتى بأي صيغة من صيغها (صلاة) أي واحدة (صلى الله عليه بها عشراً) أي شرف عبده بذكره له بالرحمة اللائقة به عشر مرّات وهذا فيه تعظيم شرف الصلاة على النبي إذ جعل جزاءها كجزاء ذكره تعالى قال تعالى: {فاذكروني أذكركم} (البقرة: 152) وقال تعالى: في الحديث في القدسي «أنا عند ظن عبدي بي إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه» وهذا قدر زائد على ما أفاده قوله تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} (الأنعام: 160) الشامل لكل فرد منها (ثم سلوا الله لي الوسيلة) في الإتيان بـ «ثم» رمز إلى استحباب تصدير الدعاء بالثناء على الله تعالى والصلاة والسلام على رسول الله، وإن كان الدعاء لرسول الله (فإنها) أي الوسيلة (منزلة) أي شريفة عالية (في الجنة لا تنبغي) أي لا تليق (إلا لعبد) أي كامل في العبودية فالتنوين للتعظيم (من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا) تأكيد لاسم أكون، وأتى به

في ضربتك أنت، وكل ما جاء من ألفاظ الرجاء في الكتاب والسنة فإنه واجب الوقوع غير جائز الخلف (فمن سأل الله) أي طلب (لي الوسيلة) أي إعطاءها (حلت) أي وجبت (له الشفاعة) أي شفاعتي: فأل بدل من الضمير أو الشفاعة الكاملة العظيمة وهي شفاعته، فأل على بابها (رواه مسلم) وأخرجه مالك وأبو داود والترمذي والنسائي. 61038 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله قال: إذا سمعتم النداء) أي الأذان ومثله الإقامة (فقولوا كما يقول) أي قولا مثل ما يقوله أو مثل قول (المؤذن) وادعى ابن وضاح أن لفظ المؤذن مدرج في الحديث، ولذا حذفه منه في «عمدة الأحكام» ، ولا دليل له على دعواه فأشار المصنف إلى رد ذلك بإثباته وتقدم في شرح الحديث السابق ما يبين إجمال قوله فقولوا كما يقول متفق عليه وأخرجه مالك وأصحاب السنن الأربعة وابن خزيمة وابن حبان والطبراني والإسماعيلي وأبو عوانة والدارقطني والبرقاني وأبو نعيم والبيهقي وغيرهم قاله القلقشندي في كتابه «غاية الإحكام شرح عمدة الأحكام» . 7 - (وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله قال: من قال حين) أي وقت (يسمع النداء) أي سماعه، إما على تقدير أن المصدرية، وإما على تنزيل الفعل منزلة المصدر، الوجهان في قولهم: «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» ، أي سماعك به، والمراد كما دلت عليه الأحاديث بعد إجابته لا قبلها (اللهم) أي الله فلذا لا يجمع بينهما إلا في الضرورة (رب) بدل مما قبله لا وصف له، أو منادى وكرر النداء اهتماماً بالمطلوب (هذه الدعوة) بفتح الدال

المرّة من الدعاء، والمراد بها الأذان أو الإقامة (التامة) أي السالمة من تطرق النقص إليها لجمعها الفائدة بتمامها أو لأنها المستحقة للوقف بالكمال والتمام وغيرها من الدنيا عرضة للنقص والفساد، أو لأنها محمية عن التغيير والتبديل باقية إلى يوم النشور، ومعنى رب هذه الدعوة المستحق لأن يوصف بها (والصلاة القائمة) أي التي ستقوم، أو الباقية لا تغير ولا تنسخ (آت) بمد الهمزة: أي أعط (محمداً الوسيلة) أصلها ما يتوسل به ويتقرب، والمراد منها مابينه في حديث مسلم قبله، ووقع للبيضاوي في «تفسيره» أنه ذكر في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة} (المائدة: 35) ما لفظه: أي ما تتوسلون به إلى ثوابه والزلفى منه فعل الطاعات وترك المعاصي، من توسل إلى كذا إذا تقرب إليه. وفي الحديث منزلة في الجنة اهـ. فحذف قوله آخر الحديث لا تنبغي إلا لعبد الخ، فأوهم ندب طلب كل لها مع أنها مخصوصة بمن اتصف بكمال العبودية وهو سيد البرية (والفضيلة) المرتبة الزائدة على الخلق (وابعثه مقاماً محموداً) مفعول به على تضمين ابعث معنى أعط، أو مفعوله فيه وإن كان مكاناً غير مبهم لكونه نزل منزلة المبهم، أو هو مشبه رميت مرمي زيد، وفي «الكشاف» أنه نصب مقاماً على الظرف: أي فيقيمك مقاماً أو ضمن يبعثك معنى يقيمك، أو حال: أي ذا مقام محمود، وإنما نكر للتفخيم: أي مقاماً أيّ مقام (الذي وعدته) بقولك {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} (الإسراء: 79) وأجمع المفسرون على أن عسى من الله واجب. والموصول بدل مما قبله (حلت) أي وجبت (له شفاعتي) الخاصة به (يوم القيامة) ظرف للوجوب، وفيه تبشير قائل ذلك بالموت على الإسلام إذ لا تجب الشفاعة لغيره (رواه البخاري) وأخرجه مالك وأبو داود والترمذي والنسائي. 81040 - (وعن سعد بن أبي وقاص) بفتح الواو وتشديد القاف آخره مهملة كنية مال كما تقدم (رضي الله عنه عن النبي أنه قال) بفتح الهمزة بدل من النبي بدل اشتمال أو بكسرها

على تقدير قال: أي قال سعد بياناً لقوله عن النبيّ أنه قال (من قال حين يسمع المؤذن) وقوله (أشهد) وفي رواية «وأنا أشهد» (أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) محتمل لأن يكون مقولاً للمؤذن فيكون مفعولاً ليقول المقدر بعده، فإن حذف القول وإبقاء المقول كثير جداً حتى قال أبو علي الفارسي: هو من قبيل حديث البحر «حدث ولا حرج» فيكون مقول قال: رضيت بالله رباً الخ، ومحتمل لأن يكون من جملة ما يقوله سامع المؤذن، وكلام المصنف في «شرح مسلم» ظاهر في الثاني، لكنه يقتضي أنه يأتي بذلك إجابة لقول المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فيقول أشهد، أو، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله الخ، ثم يقول (رضيت بالله رباً) تمييز محول عن المفعول به بواسطة وكذا قرينه وهو قوله (وبمحمد) (رسولاً) وفي رواية نبياً فيجمع بينهما احتياطاً لتحقيق الإتيان بالوارد كما قال المصنف بنظيره في قوله في دعاء عرفة «ظلماً كثيراً كبيراً» (وبالإسلام ديناً غفر له ذنبه) أي صغائره المتعلقة بالله (رواه مسلم) وأخرجه مالك وأبو داود والترمذي، وهو عند البيهقي بزيادة أوردتها في شرح الأذكار. 91041 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: الدعاء لا يرد) بصيغة المجهول للعلم بالفاعل أي لا يرده الله (بين الأذن والإقامة) ظرف للدعاء في محل الحال قدم عليه الخبر لمزيد الاهتمام لما فيه من مزيد التشويق والحث على فعله لذلك (رواه أبو داود والترمذي) وأخرجه النسائي في «السنن الكبرى» (وقال: حديث حسن) وقال الحافظ في

187 ـــ باب فضل الصلوات

«تخريج أحاديث الأذكار» من إملائه بعد تخريجه من طريق الطبراني في كتاب الدعاء. هذا الحديث حسن غريب، قال: وسكت عليه أبو داود إما لحسن رأيه في زيد العمى وإما لشهرته في الضعف وإما لكونه في فضائل الأعمال، وضعفه النسائي. وأما الترمذي فقال: هذا حديث حسن، وقد رواه أبو إسحاق: يعني السبيعي عن يزيد بن أبي مريم عن أنس قال أبو الحسن القطان: إنما لم يصححه لضعف زيد العمي، وأما يزيد فهو موثق عنده فينبغي أن يصحح من طريقه. قال المنذري: طريق يزيد أجود من طريق زيد العمى اهـ. قال الحافظ في «أماليه» : وقد نقل المصنف: يعني مصنف «الأذكار» أن الترمذي صححه، ولم أر ذلك في شيء من النسخ التي وقفت عليها، وكلام ابن القطان والمنذري يعطي ذلك، ويبعد أن الترمذي يصححه مع تفرد زيد العمي به وقد ضعفوه، نعم طريق يزيد التي أشار إليها صححها ابن خزيمة وابن حبان اهـ. وأشار به إلى قول المصنف في «الأذكار» . قل الترمذي: حديث حسن صحيح اهـ. وحينئذ فما هنا من اقتصاره على قوله عن الترمذي حديث حسن هو الحسن، وفي «الأذكار» : وزاد الترمذي في روايته في كتاب الدعوات من «جامعه» «قالوا فماذا نقول يا رسول الله؟ قال: سلوا الله العافية في الدنيا والآخرة» . 187 - باب فضل الصلوات الشاملة للفرض منها والنفل المؤقت وذي السبب والمطلق المؤكد وغيره (قال الله تعالى: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء) المعصية الشنيعة (والمنكر) شرعاً: أي شأنها ذلك ما دام المرء فيها أو أن مواظتبها تحمل على ذلك، وفي الحديث «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً» أو أن مراعاتها تجر إلى الانتهاء وفي الحديث «قيل له عليه الصلاة والسلام إن فلاناً يصلي الليل فإذا أصبح سرق، قال: سينهاه ما تقول» . 11042 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: أرأيتم)

أخبروني (لو أن نهراً) لو ثبت أن نهراً لأن لولا تدخل إلا على فعل وجوابها محذوف: أي لما بقي من درته شيء، والنهر بسكون الهاء ويجمع على نهر بضمتين وبفتحها في لغة وجمعه أنهار كسبب وأسباب، ومثله كل ما كان وزنه وثانيه حرف حلق كبحرْ وبحرَ وشعرْ وشعرَ، وهو مكان الماء الجاري المتسع، ويطلق النهر على الماء الجاري فيه مجازاً للمجاورة فيقال جرى النهر كما يقال جرى الميزاب، كذا في «المصباح» (بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم) ظرف للمضارع قبله (خمس مرات) مفعول مطلق: أي خمس اغتسالات فعامله من معناه، أو يقدر: خمس مرات من الاغتسال (هل يبقى) بفتح التحتية (من درنه) بفتح أوليه المهملين آخره نون وهو الوسخ وفاعل يبقى قوله (شيء) وقدم البيان على المبين اهتماماً به (قالوا لا) حصل به الجواب وإنما صرحوا بالجملة التي كان يمكن حذفها اكتفاء بدلالة وجودها في السؤال عليها وهي قولهم (يبقى من درنه شيء) إطناباً وزيادة توضيح (قال فكذلك) أي فمثل رفع النهر المنغمس فيه خمس مرات كل يوم الدرن الحسي (مثل الصلوات الخمس) في رفعها الدرن المعنوي من الذنب، وبين وجه الشبه بقوله (يمحو الله بهن) أي بسببهن، وفي رواية بها، وفي رواية به: أي بأدائها (الخطايا) أي الصغائر المتعلقة بالله سبحانه والفاء في قوله فكذلك فصيحة: أي إذا قلتم ذلك فهو مثل الصلوات الخمس وفائدة التمثيل التأكيد وجعل المعقول كالمحسوس وقصر الخطايا على الصغائر مأخوذ من تشبيهها بالدرن وهو لا يبلغ مبلغ الجذام ونحوه (متفق عليه) وأخرجه الترمذي والنسائي. 21043 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله) مبيناً شرف الصلوات (مثل) بفتحتين (الصلوات الخمس) أي شأنها الذي هو لغرابته وفخامته كالقصة التي يتحدث عنها

(كمثل نهر جار غمر على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات) وجه الشبه ما تقدم في الحديث قبله من إزالة كل من الغمر والصلوات الدرن (رواه مسلم. الغمر بفتح الغين المعجمة الكثير) وهذا تفسير له بالمعنى المراد هنا المناسب له، وإلا فقال ابن مالك في المثلث: الغمر الماء الكثير والفرس المتقدم في الجري ووصف للبحر، ومنه رجل عمر الرداء وعمر الخلق: أي سخي، والغم بالكسر: الحقد والعطش أيضاً. قلت: والغمر بالضم: الرجل الجاهل بالأمور الغرّ فيها وقد تفتح عينه، ثم هذا الحديث تقدم مع شرحه في باب الرجاء وكذا الحديث بعده. 31044 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه: أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة) بضم القاف اسم مصدر من التقبيل بمعنى اللثم كذا في «المصباح» وهي من الصغائر (فأتى النبي فأخبره) أي بما فعل (فأنزل الله تعالى) : ( {أقم الصلاة طرفي النها وزلفاً من الليل} ) طرفا النهار الصبح والعصر أو الظهر، وزلف الليل ساعات منه. قيل المراد به العشاء أو المغرب والعشاء، وقيل نزول هذه كان قبل وجوب الخمس، فإنه كان يجب صلاتان صلاة قبل طلوع الشمس وأخرى قبل غروبها، وفي أثناء الليل قيام عليه وعلى أمته ثم نسخ ( {إن الحسنات. يذهبن السيئات} ) وفي الحديث «وأتبع السيئة الحسنة تمحها» وفي الحديث الآخر «إذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تمحها» (قال الرجل: ألي) الهمزة للاستفهام: أي أينتهي لي (هذا) دون

غيري (قال لجميع أمتي) أي هذا لجميعهم وأكده بقوله (كلهم) دفعاً لتوهم أن المراد من الجميع الأعم الأغلب (متفق عليه) . 41045 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة) أي مكفرة (لما بينهن) أي من الصغائر والمبالغة في التكفير، باعتبار كثرة المكفر بها، والمراد أن كلاً مما ذكر يكفر ما وقع من تلك بينها وبين ما قبلها فهو من باب: ركب الناس دوابهم: أي كل إنسان ركب دابته من توزيع المفرد على المفرد، وجمع السلامة للمؤنث غير العاقل يجوز معاملته معاملة الواحدة نحو الصلوات أقمتها ومعاملة الجمع نحو أقمتهن وجاء الاستعمالان في الحديث (ما) مصدرية ظرفية (لم تغش) بالبناء المجهول: أي تؤت (الكبائر) أي وذلك مدة عدم إتيان الكبائر، والمراد منه أن الكبائر لا تكفر بأعمال البر لأن إتيانها مانع من تكفير الطاعات للصغائر المتعلقة بالله، هذا ما عليه الجمهور (رواه مسلم) وتقدم في باب بيان كثرة طرق الخير. 51046 - (وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ما من) صلة أنى بها لتأكيد عموم (امرىء مسلم) ومثله المرأة المسلمة (تحضره صلاة مكتوبة فيحسن) يجوز رفعه عطفاً على تحضره ونصبه بأن مضمرة في جواب النفي (وضوءها) إضافته إليها للملابسة لتوقف صحتها عليه عند التمكن منه (وخشوعها) أي إقباله على الله تعالى بقلبه فيها وإضافته لما ذكر قبله من حث إنه كمالها (وركوعها) وإحسان الوضوء: الإتيان به جامع الفرائض والسنن والآداب، وإحسان الخشوع: كمال الإقبال والتوجه (إلا كانت) أي الصلاة (كفارة) أي مكفرة، والتعبير بالمصدر للمبالغة (لما قبلها من الذنوب) أي الصغائر التي هي لله تعالى (ما لم تؤت) بصيغة المجهول، ونائب فاعله (كبيرة) وفي

188 ــــ باب (فضل صلاة)

نسخة الكبائر: أي مدة عدم إتيان الكبائر (وذلك) أي تكفير ما ذكر بقيده (الدهر) بالنصب ظرف للتكفير المدلول عليه بسياق الكلام وسباقه، وأكده بقوله (كله) تنبيهاً على تعميم تكفير الطاعات للصغائر كل زمن، وأن ذلك غير مقصور على أشرف الأزمنة من عصره وعصر الصحابة رضي الله عنهم بل عام لسائر الأعصار (رواه مسلم) . 188 - باب (فضل صلاة) (بالإفراد في عامة النسخ) (الصبح والعصر) وهما أشرف الخمس وهما في الجمعة أشرف منهما في غيرها. 11047 - (وعن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله قال: من صلى البردين دخل الجنة) يحتمل أن يراد مع الناجين: أي إذا لم يقترف الكبائر أو اقترفها وتاب منها، أو لم يتب وتجاوزها الله له، ويحتمل أن يراد دخلها بعد المجازاة، ففيه إيماء إلى حسن خاتمة مصليهما بوفاته على الإسلام، إذ لا يدخلها إلا من مات مسلماً (متفق عليه) والحديث سبق مع شرحه في باب بيان كثرة طرق الخير (البردان الصبح والعصر) سميا بذلك لفعلهما وقت البرد فهو من وصف الشيء بما يلابسه. 21048 - (وعن أبي زهير) بضم الزاي وفتح الهاء وسكون التحتية مصغر زهر (عمارة) بضم العين المهملة وتخفيف الميم وبالراء كما أشار إليه الحافظ ابن حجر في «تبصرة المنتبه» (ابن

رؤيبة) بضم الراء وفتح الواو وبالموحدة وسكون التحتية بينهما، الثقفي من بني خيثم بن ثقيف كوفي، روى عنه ابنه أبو بكر وأبو إسحاق السبيعي وغيرهما، كذا في «أسد الغابة» ، وفي «تقريب التهذيب» للحافظ قال: هو صحابي نزل الكوفة وتأخر إلى بعد السبعين. خرّج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، روي له (رضي الله عنه) عن النبي تسعة أحاديث، قاله الكازروني في «شرح المشارق» ، أخرج له مسلم منها حديثين وانفرد به عن البخاري (قال: سمعت رسول الله يقول: لن يلج) بفتح التحتية وكسر اللام مضارع ولج والأصل يولج حذفت الواو لوقوعها بين حرف مضارعة مفتوح وحرف مكسور: أي لن يدخل (النار) أصلاً بالاعتبار الآتي. ولا ينافي الورود عليها المحتوم على كل أحد لأنه غير الدخول للتعذيب، أو المراد لا يدخلها على التأبيد فيها، وإنما أولت هذا وما قبله بما ذكر فيهما لما في الحديث الصحيح «إن من المسلمين من يأتي يوم القيامة وله صلوات وصيام وغيرهما وعليه ظلامات الناس فيأخذون ذلك منه» قيل ما عدا الصوم لاختصاص عمله به تعالى. قلت: وردّ بأنه جاء في صحيح مسلم «أنه كغيره من العبادات يؤخذ في ظلامات العباد، فإذا لم يبق له عمل وضع عليه من سيائتهم ثم يلقى في النار» (أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها: يعني) أي النبي (الفجر) بما قبل الطلوع (والعصر) بما قبل الغروب، هذا تفسير للصلاة فيهما المذكورة في الحديث المحتملة لهما ولغيرهما من النافلة، وتخصيصهما بالذكر ليس لإفادة حصول النجاة من النار لمن جاء بهما دون باقي الخمس لأنه بخلاف المنصوص، بل لأمر آخر فلا مفهوم للاقتصار عليهما، بل لا بد في النجاة منها من الإتيان بالبقية مع عدم تحمل حق آدمي، وذلك الأمر هو أن وقت الصبح يكون عند النوم ولذته، ووقت العصر يكون عند الاشتغال بتتمات أعمال النهار وتجارته وتهيئة العشاء، ففي صلاة تينك مع ذلك دليل على خلوص النفس من الكسل ومحبتها للعبادة، ويلزم من ذلك إتيانها ببقية الصلوات الخمس، وأنها إذا حافظت عليهما كانت أشد مخافظة على غيرهما، ومن ثم مدح الله تعالى من هجر النوم ولذته والبيع وربحه في جنب عبادته وطاعته فقال عزّ وجل: {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون} (الذاريات: 17) وقال: {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} (النور: 37) الآيتين، ومن هو كذلك

حريّ أن لا يرتكب كبيرة ولا صغيرة لآدمي وإن فعل تاب، وصغائره المتعلقة بالله تعالى تقع مكفرة فحينئذ هو لا يلج النار أبداً (رواه مسلم) ورواه أحمد وأبو داود والنسائي. 31049 - (وعن جندب) بضم الجيم وفتح الدال المهملة وضمها وسكون النون بينهما آخره موحدة (ابن سفيان) بتثليث السين والضم أشهرها، ويقال الكسر.p وحكى الفتح ابن أبي عمران: ثم إن المصنف نسب جندباً هنا إلى جده سفيان وقد نسبه إلى أبيه، إذ أورد الحديث في باب التحذير من إيذاء الصالحين والضعفة حيث قال: وعن جندب بن عبد الله وقدمنا ترجمته (رضي الله عنه) ثم (قال: قال رسول الله: من صلى الصبح) أي جماعة كما قيل به في رواية أخرى (فهو في ذمة الله) أي كلاءته وحفظه (فانظر) أي تدبر (با بن آدم) واحذر من التعرض لمن هو كذلك. وقوله (لا يطلبنك الله من ذمته بشيء) جواب شرط مقدر دل عليه الطلب قبله ولذا أكد، وبه يضعف احتمال الاستئناف لشذوذ تأكيد الفعل لا في طلب أو جواب قسم أو شرط، وفي قوله بشيء مبالغة في التحذير عن التعرض لمن هو كذلك في أي أمر كان وأي شيء عرض (رواه مسلم) . 41050 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار) أي تعقب طائفة منهم طائفة أخرى. قال المصنف: فيه دليل لمن قال من النحويين بجواز إظهار ضمير التثنية والجمع في الفعل إذا تقدم: أي على المثنى والمجموع وهو لغة بني الحارث وحكوا فيه قولهم: أكلوني البراغيث، وحمل عليه الأخفش ومن وافقه قول الله تعالى: {وأسروا النجوى الذين ظلموا} (الأنبياء: 3) وقال سيبويه وأكثر النحويين: لا يجوز إظهار الضمير مع تقدم الفعل، ويتأولون كل هذا ويجعلون الاسم بعده بدلاً من الضمير ولا يرفعونه بالفعل كأنه لما قيل «وأسروا النجوى» وقيل من هم؟ قيل هم

الذين ظلموا، وكذا «يتعاقبون» ونظائره اهـ. وهو تابع لشيخه الإمام جمال الدين ابن مالك في جعله الحديث من هذا القبيل. قال الشيخ جلال الدين السيوطي في الاقتراح بعد أن ذكر من تعقب ابن مالك فيما سلكه من إثبات القواعد العربية بالأحاديث النبوية ما لفظه: ومما يدل لصحة ما ذهب إليه ابن الضائع وأبو حيان من تعقب ابن مالك في ذلك أن ابن مالك استشهد على لغة أكلوني البراغيث بحديث الصحيحين «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار» وأكثر من ذلك حتى صار يسميها لغة «يتعاقبون» وقد استدل به السهيلي ثم قال: لكني أقول إن الواو فيه علامة إضمار لأنه حديث مختصر رواه البزار مطولاً فقال: «إن لله ملائكة يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار» اهـ. قلت: والحديث في صحيح البخاري في بدء الخلق من طريق الأعرج عن أبي هريرة. قال: قال النبي «الملائكة يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار» الحديث، فلو استدرك به لكان أولى لأصحيته لكونه دالاً على أن ما في لفظ الرواية الأولى من تصرف الرواة والله أعلم (ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر) اجتماعهم فيهم من لطف الله تعالى بالمؤمنين وتكرمته لهم، إذ جعل اجتماع الملائكة عليهم ومفارقهم لهم في أوقات عبادتهم واجتماعهم على طاعتههم ربهم فتكون شهادتهم لهم بما شاهدوه من الخير (ثم يعرج) بضم الراء يصعد (الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي) السؤال على ظاهره وحقيقته وهو تعبد منه للملائكة كما أمرهم بكتب الأعمال وهو أعلم بالجميع، قال القاضي عياض: الأظهر قول الأكثرين: إن هؤلاء الملائكة هم الحفظة الكتاب، قال: وقيل يحتمل أن يكونوا من جملة الملائكة كجملة الناس غير الحفظة (فيقولون تركناهم وهم يصلون) أي الفجر (وأتيناهم وهم يصلون) أي العصر (متفق عليه) . 51051 - (وعن جرير) بفتح الجيم وكسر الراء الأولى (ابن عبد الله البجلي رضي الله عنه

قال: كنا) أي جماعة من الصحابة (عند النبي فنظر إلى القمر) أي في (ليلة البدر) هي ليلة الرابع عشر من الشهر، سمي بذلك لمبادرة طلوعه غروب الشمس وطلوعها غروبه (فقال: إنكم سترون) السين فيه لتأكيد الوعد وتحقيق الأمر (ربكم) على ما يلييق به سبحانه من غير جهة ولا إدراك له ولا اتصال شعاع به ولا غير ذلك مما يكون في رؤية المحدث (كما ترون هذا القمر) التشبيه في أصل الرؤية وانجلائها في كل من المشبه والمشبه به لا من كل وجه، إذ القمر مرئي وهو في جهة باتصال شعاع من الرائي به وإدراك له، والله سبحانه وتعالى منزه عن جميع ذلك، والمخاطب بذلك المؤمنون، فالكفار محجوبون عن رؤيته تعالى لا فرق فيه بين منافقيهم وغيرهم على الصحيح الذي عليه الجمهور من أهل السنة كما ذكره المصنف (لا تضامون) قال المصنف: روي بتشديد الميم وتخفيفها فمن شددها فتح التاء ومن خففها ضم التاء (في رؤيته) ومعنى المشدد: لا تتضامون وتتلاصقون في التواصل إلى رؤيته، ومعنى المخفف: لا يلحقكم ضيم وهو المشقة والتعب (فإن استطعتم أن لا تغلبوا) بالبناء للمفعول (على صلاة قبل طلوع الشمس) يعني صلاة الصبح (وقبل غروبها) يعني العصر (فافعلوا) أي ترك المغلوبية التي لازمها الإتيان بالصلاتين كأنه قال صلوا، قال البرماوي في قوله «فإن استطعتم الخ» رمز إلى أن المحافظة على هاتين الصلاتين يرجى بها نيل الرؤية (متفق عليه) . (وفي رواية) للبخاري في أبواب مواقيت الصلاة (فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة) وهي في «صحيح مسلم» عن جرير قال «كنا جلوساً عند رسول الله إذ نظر إلى القمر ليلة البدر» ولعله مراد المصنف أيضاً إلا أنه رواه بمعناه والله أعلم. 61052 - (وعن بريدة) بضم الموحدة وفتح الدال المهملة وسكون التحتية بينهما (رضي الله

189 ـــ باب فضل المشي إلى المساجد

عنه قال: قال رسول الله: من ترك صلاة العصر حبط) بكسر الموحدة: أي بطل وفسد (عمله) والمراد به بطلان ثوابه، فلا حجة للمعتزلة في قولهم إن المعصية تحبط الطاعة، أو المراد من تركها مستحلاً لذلك، أو جاحداً لوجوبها، أو المراد بحبوط العمل الكفر. كما قال الإمام أحمد: إن تارك الصلاة عمداً يكفر، ويشهد له حديث أنس مرفوعاً «من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر جهاراً» أخرجه الطبراني في «الأوسط» ، فيحبط عمله بسبب كفره، أو يقال المراد بالعمل عمل الدنيا الذي شغله عن الصلاة: أي لا ينتفع به ولا يتمتع، أو المراد بالحبوط نقصان عمله في يومه، أو الأعمال بالخواتيم لا سيما في الوقت الذي يقرب أن ترفع فيه الأعمال، أو هو وارد على سبيل التغليظ: أي فكأنما حبط عمله، ذكره البرماوي في «اللامع الصبيح» (رواه البخاري) وأحمد والنسائي. 189 - باب فضل المشي إلى المساجد 11053 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: من غدا) من الغدوّ: وهو السير قبل الزوال (إلى المسجد أو) للتنويع (راح) من الرواح السير بعد الزوال أي سار بعد الزوال إليه: أي ليؤدي فيه عبادة من صلاة أو اعتكاف أو قراءة قرآن أو إقراء علم أو نحو ذلك (أعد) بتشديد الدال المهملة: أي هيأ (الله له في الجنة نزلاً) بضمتين: وهو ما يهيأ للضيف من كرامة عند قدومه، والتنوين فيه للتعظيم كما يومىء إليه إسناد الفعل إلى اسم الذات الجامع لمعاني الأسماء والنعوت الحسنى (كلما غدا أو راح) ظرف لأعد. قال الشيخ أكمل الدين في «شرح المشارق» : عادة الناس تقديم طعام لمن دخل بيتهم، والمسجد بيت الله تعالى فمن دخله أي

وقت كان من ليل أو نهار أعطاه الله تعالى أجره من الجنة لأنه أكرم الأكرمين ولا يضيع أجر المحسنين (متفق عليه) ورواه الإمام أحمد. 21054 - (وعنه رضي الله عنه: أن النبي قال: من تطهر في بيته) شمل أنواع الطهارة حتى التيمم للعاجز حساً أو شرعاً عن استعمال الماء (ثم مضى) أي ذهب إلى بيت من بيوت الله، المراد منها المساجد كما يومىء إليه إضافتها إلى الاسم الكريم الدالة على التبجيل والتعظيم (ليقضي) أي ليؤدي فيه (فريضة) أي مفروضة (من فرائض الله) التي فرضها أصالة كالصلوات الخمس أو إلزام المكلف بها نفسه من القُرَب كالطاعة المنذورة (كانت خطواته) بضم أوليه وسكون ثانيه تخفيفاً جمع خطوة بالضم ما بين القدمين، وفي نسخة بفتح أوليه جمع خطوة بالفتح واحد الخطو: أي رفع القدم للسير (إحداهما) أي الخطوتين المدلول عليهما بالخطوات، رأيته في «الجامع الكبير» معزوّاً إلى روايته بلفظ كانت خطوتاه بصيغة المثنى المرفوع بالألف وهو ظاهر سالم من التكلف، ولعل ما في أصول الرياض من صيغة الجمع من عمل الكتاب لكن رأيت مثل ما في الرياض عند مسلم (تحط خطيئة) أي من الصغائر المتعلقة بالله تعالى (والأخرى) أي منهما (ترفع درجة) أي بعد تكفير الصغائر وتنزيهه منها. فالباقي من الخطوات ترفع بها الدرجات وهذا لمن لا كبائر له، فمن عمل من الخطوات ما يزيد على صغائره المكفرة بها عدداً وله كبائر رجى أن يكفر عنه منها بقدر ما يغفر بها من الصغائر، فإن لم يكن ذا ذنب أصلاً أو كان ذا صغائر وزادت خطواته على المكفر بها رفع له بما زاد الدرجات والله أعلم (رواه مسلم) ورواه ابن حبان كما في «الجامع الكبير» . 31055 - (وعن أُبي) بضم الهمزة ففتح للموحدة فتشديد للياء (ابن كعب رضي الله عنه قال: كان رجل من الأنصار) لم أقف على من سماه (لا أعلم أحداً أبعد من المسجد منه) أي باعتبار داره (وكانت لا تخطئه) بضم الفوقية وكسر المهملة: أي لا تفوته (صلاة) أي في

المسجد كما يدل عليه السياق (فقيل له) القائل هو أبيّ كما عند مسلم في هذا الحديث بزيادة «أو قلت له» وأو للشك، وفي رواية أخرى عنده قال: قال أي أبيّ، فتوجهت له فقلت يا فلان (لو اشتريت حماراً تركبه في الظلماء) فيقيك من أذى الحشرات المنتشرة في أوّل الظلمة (وفي الرمضاء) فيقيك من نصب الحر لأنهم كانوا حفاة (قال ما يسرني) بفتح التحتية: أي يفرحني (أن منزلي إلى جنب المسجد) وعلل ذلك بقوله على سبيل الاستئناف البياني (إني أريد) أي أقصد ولما تعين المقصود منه سكت عن ذكره (أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي) أي أجرهما أو يكتبان هما فيضاعف أجرهما والفعل المضارع بالبناء للمفعول وما بعده نائب الفاعل، ويجوز قراءته مبنيا للفاعل وهو الله سبحانه وتعالى وعاد إليه، وإن لم يتقدم ذكراً (فقال رسول الله) عطف على مقدر: أي فبلغ ذلك النبيّ فقال مخاطباً له (جمع الله لك ذلك) أي ما ذكرت من أجر المشي والرجوع، فاسم الإشارة فيه كهو في قوله تعالى: {لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك} (البقرة: 68) وأكد الجمعية لئلا يذهب الوهم ويسري إلى الفهم أنه تجوز عن الأكثر بذلك فقال (كله) (رواه مسلم) . 41056 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: خلت البقاع) بكسر الموحدة جمع بقعة، قال في المصباح: البقعة من الأرض القطعة منها (حول المسجد) بالنصب على الظرفية لقوله خلت، أو صفة للبقاع لكونه محلى بأل الجنسية، وهي كالنكرة معنى (فأراد بنو سلمة) بفتح المهملة وكسر اللام بطن من الأنصار، والنسبة لهم سلمى بفتح أوليه من تغيير النسب. قال ابن عبد البر في كتاب «الأنساب» : وأما الخزرج فمن بطونهم النجار، وفي النجار بطون كثيرة إلى أن قال: ومنهم سلمة بن سعد بن الخزرج (أن ينتقلوا) إلى المكان الذي خلا قرب المسجد

(فبلغ ذلك) أي إرادتهم الانتقال (النبي فقال لهم: بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد؟ قالوا نعم يا رسول الله) حذف العاطف لأن القصد حكاية لفظ جوابهم من غير تعرض لكونه عقب السؤال المدلول عليه بالفاء أو بعده بمدة المدلول عليه بثم، أو محتملاً لدينك وغيرهما المدلول عليه بالواو، وجملة الجواب وهي قولهم (قد أردنا ذلك) أتوا بها مع كفاية نعم عنها زيادة في الإقرار والتصريح بما كانوا أرادوا (فقال: بني سلمة) بتقدير حرف النداء قبله (دياركم) منصوب على الإغراء (تكتب) بالجزم جواباً للشرط المقدر لكونه في جواب الأمر المدلول عليه بالاسم المنصوب على الإغراء، والفعل مبني للمجهول ونائب فاعله قوله (آثاركم) أي خطاكم الكثيرة إلى المسجد (فقالوا: ما يسرنا أنا كنا تحولنا) لحوز القرب من المسجد لما يفوت عليه من نقص الآثار بقلة الخطا لقرب المكان (رواه مسلم) في كتاب الصلاة، وقد تقدم الحديث مشروحاً في باب بيان كثرة الخيرات (وروى البخاري معناه) في باب احتساب الآثار من كتاب الصلاة وفي فضل المدينة آخر المناسك (من رواية أنس) وهو في الصلاة بلفظ «يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم» وبلفظ «إن بني سلمة أرادوا أن يتحولوا عن منازلهم فينزلون قريباً من النبي، قال: فكره النبي أن يعروا منازلهم فقال: ألا تحتسبون آثاركم» ولفظه في المناسك «أراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد فكره رسول الله أن تعرى المدينة وقال: يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم فأقاموا» . 51057 - (وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إن أعظم الناس أجراً) منصوب على التمييز (في الصلاة) في تعليلية: أي لأجلها (أبعدهم إليها ممشى) اسم مكان،

ويحتمل أن يكون مصدراً ميمياً، والأول أولى لأنه الذي يوصف بالبعد (فأبعدهم) وكلما كان البعد أكثر فيكون ذلك أعظم للأجر (والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام) غاية الانتظار، ويجوز كون حتى تعليلية لبيان علة الانتظار المرتب عليه قوله (أعظم أجراً) أي ثواباً (من الذي يصليها) أول الوقت منفرداً (ثم ينام) وذلك لأن الأول في صلاة مدة انتظاره لها، ولذاكره له ما يكره للمصلي من تشبيك أصابع وفرقعتها وعبث ونحوه مع فضل الجماعة (متفق عليه) . 61058 - (وعن بريدة) بضم الموحدة وفتح الراء والدال المهملتين وسكون التحتية بينهما (رضي الله عنه قال: قال النبي: بشروا) أمر من التبشير وهو في الأصل موضوع للإخبار بالخبر السار، والمخاطب بذلك الصحابة فمن بعدهم، وهكذا هو في الرياض بضمير الجمع، وفي «الجامع الصغير» بصيغة الإفراد، قال شارحه العلقمي نقلاً عن السيوطي: هذا من الخطاب العام ولم يرد به أمر واحد بعينه (المشائين) بالهمز والمد (في الظلم) بضم ففتح جمع ظلمة وهي تعم ظلمة العشاء والفجرلكن في الطبراني عن أبي أمامة «بشر المدلجين إلى المساجد» والإدلاج بالتخفيف المشي جميع الليل، وبالتشديد المشي آخره (إلى المساجد) الجمع نظراً لجمع المشائين وهو نظير ركب الناس دوابهم من مقابلة الجمع بالجمع: أي ركب كل دابته: أي بشر كل ماش إلى المسجد في الظلمة (بالنور التام) أي من جميع جوانبهم فإنهم يختلفون في النور على قدر الأعمال (يوم القيامة) أي على الصراط. قال ابن رسلان: ويحتمل أن يراد بالنور المنابر التي من النور لرواية الطبراني «بشر المدلجين إلى المساجد في الظلم بمنابر من نور يوم القيامة، يفزع الناس ولا يفزعون» وفي الحديث: فضل المشي إلى الصلاة سواء كان المشي طويلاً أو قصيراً، وفضل المشي

إليها للجماعات في ظلم الليل. (رواه أبو داود والترمذي) . 71059 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله قال: ألا) بتخفيف اللام حرف استفتاح لتنبيه المخاطب لما بعده (أدلكم على ما) أي الذي أو شيء (يمحو الله به الخطايا) بإذهابها من ديوان الحفظة أو بترك المؤاخذة عليها في الآخرة، والمراد الصغائر المتعلقة بالله تعالى، ولا يضر كون الباء سببية لأن السببية لذلك يجعل الله سبحانه وتعالى (ويرفع به الدرجات) أي يعطي به المنازل الرفيعة في الجنة، إذ التفاوت فيها إنما يظهر بذلك وظاهره جمع الأمرين لفاعل ما يأتي، وقدم الأول على الثاني لأنه من باب التخلية بالمعجمة، والثاني من باب التحلية بالمهملة، والأول مقدم على الثاني (قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء) أي استيعاب أعضائه بالغسل والمسح مع استيفاء آدابه ومكملاته (على) بمعنى مع (المكاره) جمع مكره بفتح الميم من الكره وهو المشقة، ومنها طلب الماء وشراؤه بثمن المثل بشرطه فإنه يشق على النفس (وكثرة) بفتح الكاف قال في «المصباح» الكسر رديء ويقال خطأ (الخطأ) بضم ففتح وبالقصر جمع خطوة (إلى المساجد) فيه فضل الدار البعيد عن المسجد على القريبة ويدل له أحاديث الباب، ولا ينافيه عده «من شؤم الدار بعدها عن المسجد» لأن بعدها وإن كان فيه شؤم من حيث إنه قد يؤدي إلى تفويت الصلاة عن وقتها لكن فيه فضل عظيم إذا توجه منها إلى الصلاة بالمسجد فشؤمها وفضلها اعتباريان فلا تنافي (وانتظار الصلاة بعد الصلاة) أي الجلوس لانتظارها بعد انقضاء. عمل الأولى منفرداً أو جماعة وذلك لدوام فكره وتعلق قلبه بها، فهو دائم المراقبة والحضور غير ملته عن فضل عبادات بدله بشيء (فذلكم) عدل إليه عن هذا الذي هو القياس للدلالة على بعد منزلته

وعظمها فهو نظير {ذلك الكتاب لا ريب فيه} (البقرة: 2) (الرباط) لا غيره كما أفاده تعريف الجزءين الدالّ على الحصر لكنه إضافي: أي ما ذكر من الثلاث هو المستحق أن يسمى رباطاً، وغيره الذي هو الرابط الحقيقي وهو ملازمة الثغر لحفظ عورة المسلمين لا يستحق ذلك بالنسبة إليه، لما فيه من أعظم القهر لأعدى عدوك الذي هو النفس الأمارة بالسوء وقمع سورتها وقلع مكايد الشيطان وأعوانه من جميع أجزائها، وفي هذا أعظم تأييد لما روي «ورجعنا من الجهاد الأصغر» أي الذي هو جهاد العدو «إلى الجهاد الأكبر» أي الذي هو جهاد النفس، وذلك لأن تلك الأعمال لما كانت تسد طرق الشيطان والهوى عن النفس وتقهرها وتمنعها من قبول الوساوس واتباع الشهوات فيغلب بها حزب الله وجنوده عدوه كانت هي المرابطة الحقيقية. والجهاد الأكبر جهاد الكفار وإن شرع للخروج عن النفوس والأولاد والأموال لإعلاء كلمة الله تعالى مع تكميل النفوس بخروجها عن مألوفاتها ومستلذاتها، لكنه لا يدوم زمنه وإنما يكون برهة ثم ينقضي، وتلك الأعمال دائمة الوجود وذلك التكميل موجود فيها بزيادة، ووقع في نسخة مصححة من «الرياض» قوله (فذلكم الرباط) مرة ثانية وقدمنا أنه كذلك في رواية لمسلم (رواه مسلم) والحديث سبق في فضل الوضوء. 81060 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي قال: إذا رأيتم) أي علمتم (الرجل يعتاد المساجد) وفي رواية «يتعاهد المساجد» والمراد باعتياد المساجد أن يكون قلبه متعلقاً به منذ يخرج منه إلى أن يعود إليه. 4 قال السيوطي: المراد شدة حبه له وملازمة الجماعة فيه، وليس معناه دوام القعود فيه. وقال التوربشتي: هو بمعنى التعهد وهو التحفظ بالشيء وتجديد العهد به، ويروى «يتعاهد» ومعناه لاعتياد معاودته إلى المسجد مرة بعد أخرى لإقامة الصلاة اهـ. وكلاهما حسن. وقال الطيبي: يتعاهد أشمل معنى وأجمع لما يناط به أمر المساجد من العمارة واعتياد الصلاة وغيرهما، ألا ترى كيف استشهد بالآية. قال في «الكشاف» : العمارة تتناول رمّ ما انهدم منها وقمها وتنظيفها وتنويرها بالمصابيح وتعظيمها واعتيادها والذكر فيها (فاشهدوا) أي اقطعوا (له بالإيمان) فإن الشهادة تصدر عن مواطأة

190 ـــ باب فضل انتظار الصلاة أي الجلوس لانتظارها.

القلب اللسان على سبيل القطع كذا في «الكوكب المنير» (قال الله عزّ وجل) : ( {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله} ) أي لا يعمرها إلا المؤمن الموصوف بما في الآية من قوله: {وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله} (التوبة: 18) كما أومأ إليه المصنف بقوله (الآية) بالنصب بإضمار نحو اقرأ وبالرفع بإضمار مبتدأ: أي المتلو الآية وقوله: {فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} (التوبة: 18) إيماء إلى أن الطاعات أمارات على الاهتداء فيرجى الاهتداء عندها لا علامات قطعية (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) ورواه أحمد وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان والحاكم في «المستدرك» والبيهقي في «السنن» . 190 - باب فضل انتظار الصلاة أي الجلوس لانتظارها. 11061 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: لا يزال أحدكم في صلاة) أي من حيث الثواب لا في سائر الأحكام (ما) مصدرية ظرفية صلتها (دامت الصلاة تحبسه) أي تمنعه في مدة حبسها: أي منعها له عن انصرافه لحاجاته، وقوله (لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة) جملة حالية مؤكدة لمضمون عاملها (متفق عليه) .

21062 - (وعنه أن رسول الله قال: الملائكة تصلي) أي تستغفر وتطلب الرحمة (على أحدكم) أي الواحد منكم، وعدّى بعلى لتضمنه معنى الحنوّ أو إيماء إلى علو الرحمة المدعو بها على المدعو له (ما دام في مصلاه) أي مكان صلاته (الذي صلى فيه) عمومه متناول لفرض الصلاة ونقلها (ما لم يحدث) ما فيه مصدرية ظرفية، والمراد بالإحداث الإتيان بالحدث الناقص للوضوء، أو المراد ما لم يتكلم بكلام الدنيا المنهيّ عنه، ثم بين صيغة دعائها له بقوله (تقول) أي الملائكة (اللهم اغفر له) ظاهر عمومه المستفاد من حذف المعمول شامل لكبائر الذنوب، ولا مانع منه لأنه سؤال من الله الغفران والله يغفر ما شاء غير الشرك (اللهم ارحمه. رواه البخاري) . 31063 - (وعن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله أخر ليلة صلاة العشاء إلى شطر الليل) أي نصفه (ثم أقبل بوجهه بعد ما صلى فقال) مبشراً لهم بالفضل الذي نالهم من تأخيره الصلاة بهم (صلى الناس) أي غير من في مسجده المصلي معه فهو عام مراد به خاص (ورقدوا ولم تزالوا في صلاة) أي من حيث الثواب (منذ انتظرتموها) أي من ابتداء وقت انتظاركم إياها، وفي الإتيان بثم إيماء إلى أن ذلك الحكم زال بإتمامهم الصلاة (رواه البخاري) .

191 ـــ باب فضل صلاة الجماعة

191 - باب فضل صلاة الجماعة واختلف فيها هل هي فرض أو سنة؟ وعلى الأول هل هي فرض عين أو كفاية؟ خلاف بين الأئمة. والصحيح في مذهب الشافعي أنها في غير الجمعة فرض كفاية على الأحرار الذكور المقيمين غير أولي العذر، أما في الجمعة ففرض عين لأنها شرط لصحتها في الركعة الأولى، وأقلها في غير الجمعة إمام ومأموم. 11064 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: صلاة الجماعة) الإضافة فيه بمعنى في والظرفية مجازية أو بمعنى اللام (أفضل) أي أكثر ثوابا (من صلاة الفذ) بفتح الفاء وتشديد الذال المعجمة، قال في «المصباح» : هو الواحد وجمعه فذوذ (بسبع وعشرين درجة) لا ينافي هذا ما يأتي في الحديث بعده من أنها تضعف على غيرها خمساً وعشرين، إما لأن العدد القليل لا ينفي الكثير أو أنه أعلم بالقليل أولاً فأعلم به ثم أعلم بالكثير فأخبر به، أو أن ذلك يختلف بحسب كمال الصلاة ومحافظة هيئتها وخشوعها وكثرة جماعتها وشرف البقعة ونحو ذلك. وقال الحافظ في «الفتح» : ظهر لي في الجمع بين الحديثين أن أقل الجماعة إمام ومأموم، فلولا الإمام ما سمي المأموم مأموماً وبالعكس، فإذا تفضل الله على من صلى جماعة بزيادة خمس وعشرين درجة حمل الخبر الوارد بفضلها على الفضل الزائد، والخبر الوارد بلفظ سبعة وعشرين على الأصل والفضل اهـ. قلت هذا أحسن من قول البرماوي بعد حكاية ما ذكر في أوجه الجمع بين الحديثين ما لفظه، وحيئذ يظهر وجه مناسبة السبع والعشرين أن فرائض اليوم والليلة سبع عشر ركعة، والرواتب المؤكدة للدوام عليها عشر، فضعف أجر الجماعة بهذا الاعتبار، وأماالوتر فلا مدخل له لأنه شرع بعد ذلك، وأحسن منه ما نقله الحافظ في الفتح عما كتبه شيخه السراج البلقيني على «العمدة» وقال: إنه لم يسبق إليه أن لفظ الحديث صلاة الجماعة معناه صلاة في الجماعة كما وقع في حديث أبي هريرة «صلاة الرجل في الجماعة» وعلى هذا فكل واحد من المحكوم له بذلك صلى في جماعة. وأدنى الأعداد التي يتحقق فيها ذلك ثلاث حتى يكن، وكل واحد صلى في جماعة وكل واحد منهم أتى بحسنة وهي بعشر فتحصل من مجموعه ثلاثون، فاقتصر في الحديث على

الفضل الزائد وهو سبع وعشرون دون الثلاثة التي هي أصل ذلك اهـ (متفق عليه) ورواه الإمام مالك وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه، كذا في «الجامع الصغير» . 21065 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: صلاة الرجل في جماعة) الظرف إما في محل الحال أو الصفة للرجل لأنه محلى بأل الجنسية، ويجوز جعله لغواً متعلقاً بصلاة (تضعف) بتشديد العين المهملة (على صلاته في بيته وفي سوقه) أي منفرداً كما يومىء إليه مقابلته بصلاة الجماعة، ولأن الغالب في فعلها في البيت والسوق الانفراد (خمساً وعشرين ضعفاً) مفعول مطلق كقوله تعالى: {فاجلدوهم ثمانين جلدة} (النور: 4) قال البرماوي: السرّ في الأعداد خفيّ لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى، نعم يحتمل أن يقال في مناسبة الخمس والعشرين: إن صلوات اليوم والليلة خمس فإذا ضربت في نفسها بلغت ذلك، فأريد تضعيف ثوابها على الانفراد بذلك لمناسبته في جنس الأصل، ويحتمل أن الأربعة لما كانت تؤلف منها العشرة فيقال واحد واثنان وثلاثة وأربعة وهذا المجموع عشرة ومن العشرات المئات ومن المئات الألوف فكانت أصل جميع مراتب العدد، ومع ذلك زيد عليها واحد مبالغة ثم ضعفت بعدد الصلوات الخمس مبالغة أخرى اهـ. (وذلك) إن كان المشار إليه فضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ اقتضى اختصاص ذلك بجماعة المسجد، وقد حكى القرطبي في «المفهم» خلاف العلماء هل الفضل المضاف للجماعة لأجل الجماعة فقط حيث كانت، أو إنما يكون الفضل للجماعة التي تكون بالمسجد لما يلازمها من فضائل تختص بها من إكثار الخطا إليه وكتب الحسنة ومحو السيئة بكل خطوة المذكورة في قوله (إنه) أي الشأن أو الرجل (إذا توضأ فأحسن الوضوء) أي أسبغه مع الإتيان بالسنن والآداب (ثم خرج إلى المسجد) أي متوجهاً إليه (لا يخرجه إلا الصلاة) جملة حالية من

فاعل خرج مقيدة لترتب الثواب الآتي على الخروج إلى المسجد بمضمونها، فإن أخرجه إليه غيرها أو هي مع غيرها فاته ما يأتي، وظاهر أن المفوت الخروج للشغل الدنيوي، أما إذا خرج للصلاة فيه وقراءة قرآن أو علم فذاك برّ ضم إلى بر (لم يخط خطوة) بفتح المعجمة (إلا رفعت) بالبناء للمجهول (له بها درجة) نائب الفاعل، والظرفان إما لغوان كل منهما متعلق بالفعل لاختلاف الجار لفظاً ومعنى، وإما مستقران حالان من درجة كانا صفتين لها فقدما وأعربا حالين، ومثل هذا الإعراب جار في قوله (وحط عنه بها خطيئة) أي من الصغائر المتعلقة بحق الله تعالى، ثم استظهر القرطبي أن الفضل للجماعة لذاتها قال: لأنها هي الوصف الذي علق عليه الحكم، وخالف الحافظ فقال: قوله: وذلك الخ ظاهر في أن الأمور المذكورة علة للتضعيف المذكور إذ التقدير وذلك لأنه، فكأنه يقول التضعيف المذكور سببه كيت وكيت، وإذا كان كذلك فما رتب على موضوعات متعددة لا يوجد بوجودها بعضها إلا إن دل الدليل على إلغاء ما ليس معتبراً أو ليس مقصوداً لذاته، وهذه الزيادة معقولة المعنى، فالأخذ بها متجه والروايات المطلقة لا تنافيها بل يحمل مطلقها على مقيدها (فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه) تترحم وتستغفر له (ما دام في مصلاه) أي جالساً فيه، ويحتمل أن يراد ما دام مستمراً فيه ولو مضطجعاً (ما لم يحدث) وعطف عطف بيان على قوله تصلي عليه قوله (اللهم صل عليه اللهم ارحمه) أي تقول ذلك (ولا يزال) غير النافي للتفنن مع كون المحدث عنه فيما تقدم أمراً منقضياً وفيما هنا أمراً آتياً، واسم يزال مستتر يعود إلى المصلي المفهوم من السياق، والخبر قوله (في صلاة ما انتظر الصلاة) أي مدة انتظاره إياها (متفق عليه) أخرجه البخاري في مواضع من الصلاة من «صحيحه» ومسلم في صلاة الجماعة (وهذا لفظ البخاري) ولفظ مسلم نحوه.

31066 - (وعنه قال: أتى النبيّ رجل أعمى) قال المصنف: وتبعه السيوطي في «الديباج» هو ابن أم مكتوم كما في «سنن أبي داود» وغيره، ونازعه في ذلك ابن حجر في «فتح الإله» فقال فيه لاختلاف سياق الحديثين كما يعلم من هذه وروايته الآتية بعد، قال: إلا أن تكون الواقعة متعددة (فقال: يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله أن يرخص له) في ترك الجماعة (فيصلي) بالنصب عطفاً على ما قبله وبالرعف على الاستئناف (في بيته فرخص له) من الرخصة وهي: تغير الحكم من صعوبة إلى سهولة لعذر مع قيام سبب الحكم الأصلي كتغير الحكم هنا من الصعوبة وهي إلزامه الحضور إلى سهولة، وهي التخفيف عنه بسقوط ذلك لعذر وهو العمى مع قيام سبب الحكم الأصلي وهو طلب اجتماع المسلمين (فلما ولى دعاه فقال له) أي بعد أن جاءه (هل تسمع النداء) أي الأذان (بالصلاة) وعدي بالياء لتضمنه معنى الإعلام وعدي بإلى في قوله تعالى: {وإذا ناديتم إلى الصلاة} (المائدة: 58) لبيان غاية النداء (قال نعم، قال فأجب) أي إن أردت كمال الفضيلة الأليق بك، ومعنى لا رخصة لك الوارد في حديث ابن أم مكتوم عند أبي داود: أي تلحقك بفضيلة من حضرها، والداعي إلى ذلك أنه رخص لعتبان حين شكا ضعف بصره أن يصلي في بيته، فأولنا حديث الباب بما ذكر جمعاً بين الأحاديث المتعين حيث أمكن. قال في «فتح الإله» : وفيه نظر بالنسبة لما ذكر عن عتبان، لأن الأصل في قصته في الصحيح أنه إنما سأل الترخيص في صلاته في منزله عند وجود مانع من حضور مسجد قومه من حيلولة السيل بينه وبينه، ولا شك أن في مثله يرخص حتى في حديث الباب اهـ. وفي الحديث تأكيد طلب الجماعة واحتمال خفيف التعب في حصوله. وذلك أن الغالب على من قرب داره من المسجد أن يعرف مكابد الطريق لقصره فيقل لحاق الضرر به، ثم الترخيص يحتمل أنه كان باجتهاد أو وحي ورفعه الناسخ له كان كذلك (روه مسلم) .

41067 - (وعن عبد الله) حكاه المصنف في «التهذيب» بصيغة التمريض وقال: ويقال عبد الله بن زائدة، ويقال عامر بن زائدة، وقدّم ما حكاه هنا ممرضاً له بقوله (وقيل عمر بن قيس) بن زائدة، ويقال زياد بن الأصم، والأصم جندب بن هرم بن رواحة بن حجر بن عبد بن بغيض بن عامر بن لؤي بن غالب القرشي العامري (المعروف بابن أم مكتوم المؤذن) أي للنبي (رضي الله عنه) قال المصنف في «التهذيب» : الصحيح في اسمه عمرو كما ذكرنا أولاً، وقد ثبت في «صحيح مسلم» أن النبي سماه كذلك فقال لفاطمة بنت قيس في حديثها في طلاق زوجها: «اعتدى في بيت ابن عمك عمرو بن أم مكتوم» ونقل عن ابن الأثير أن الأكثر على أن اسمه عمرو قاله مصعب بن الزبير، وأم مكتوم: بالمثناة بصيغة المفعول اسمها عاتكة بنت عبد الله بن عنكثة بمهملة فنون ساكنة فكاف فمثلثة مفتوحتين ثم هاء: ابن عامر ابن مخزوم وهو ابن خال خديجة أم المؤمنين رضي الله عنهما، لأن أم خديجة فاطمة بنت زائدة بن الأصم. هاجر ابن أم مكتوم إلى المدينة قبل مقدم النبي وبعده مصعب بن عمير، واستخلفه النبي ثلاث عشرة مرة في غزواته على المدينة، وشهد فتح القادسية وقتل بها شهيداً وكان معه اللواء، هذا هو المشهور. وذكر ابن قتيبة في «المعارف» أنه شهد القادسية ثم رجع إلى المدينة فمات بها، ونقل ابن الأثير هذا عن الواقدي، وهو الأعمى الذي ذكره الله تعالى في قوله: {عبس وتولى أن جاءه الأعمى} (عبس: 1، 2) وفضله مشهور، روي له عن رسول الله على ما قال ابن الجوزي ثلاثة أحاديث، قال: وقال البرقاني له حديثان (أنه قال: يا رسول الله إن المدينة) علم بالغلبة على طيبة دار الهجرة (كثيرة الهوام) بتشديد الميم جمع هامة كذلك هي خشاش الأرض ومنها المؤذيات كالأفعى والعقرب (والسباع) بكسر المهملة وتخفيف الموحدة آخر عين مهملة جمع سبع بفتح فضم أو سكون معروف، وقال في «المصباح» إسكان الباء هي اللغة الفاشية عند العامة، ولذا قال الصغاني السبع والسبع لغتان، وقرىء بالإسكان في قوله تعالى: {وما أكل السبع} (المائدة: 3) وهو مروي عن الحسن البصري وطلحة بن سليمان وأبي حيوة، ورواه بعضهم عن ابن كثير أحد القراء السبعة، وبجمع المضموم على سباع كرجل ورجال لا جمع له على هذه اللغة غير ذلك، ويجمع على لغة السكون على

أسبع كفلس وأفلس، وهذا كما خفف ضبع وجمع على أضبع، وقال ابن السكيت: الأصل الضم لكن أسكن تخفيفاً. ويقع السبع على كل ماله ناب يعدو به ويفترس كالذئب لا الثعلب، فإنه وإن كان ذا ناب إلا أنه لا يعدو به ولا يفترس، وكذا الضبع قاله الأزهري اهـ. ومراد ابن أم مكتوم مما ذكره الترخيص له في ترك حضور الجماعة كما جاء عنه مصرحاً في رواية، ففي «المشكاة» بزيادة «وأنا ضرير البصر فهل تجد لي من رخصة أن أصلي في بيتي» (فقال رسول الله: تسمع حي على الصلاة حي على الفلاح) أي تسمع الأذان الذي فيه ما ذكر، وخصا بالذكر لأنهما الداعيان إلى الحضور (فحيهلا) عطف على جواب ابن أم مكتوم المقدر: أي قال نعم المصرح به في رواية «المشكاة» وزاد «ولم يرخص له» وحى هلاً بالتنوين هنا وفيه لغات تقدم بيانها (رواه أبو داود) قال في «المشكاة» بعد أن أورده بما ذكرناه عنه: ورواه النسائي (بإسناد حسن) ورواه الترمذي في الصلاة عن هارون بن زيد بن أبي الزرقاء عن أبيه عن سفيان عن عبد الرحمن بن عابس عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن ابن أم مكتوم (ومعنى حيهلاً: تعال) . 51068 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال) وأقسم مؤكداً للمخبر عنه بقوله (والذي نفسي بيده) أي بقدرته (لقد هممت) أي قصدت (أن آمر بحطب فيحتطب) بالبناء للمجهول: أي يجمع، وفي الصيغة إيماء إلى كلفة معاناة ذلك (ثم آمر بالصلاة فيؤذن) بالبناء للمفعول: أي يعلم (بها) أي بالإقامة المشروعة لها (ثم آمر رجلاً فيؤم الناس) لاشتغاله عن الإمامة بما دل عليه قوله (ثم أخالف) صيغة المفاعلة للمبالغة أذهب (إلى) بيوت (رجال) قال البرماوي: أي أخالف المشتغلين بالصلاة قاصداً إلى بيوت الذين لم

يخرجوا إليها، قال الجوهري: هو يخالف إلى أمرأة فلان: أي يأتيها إذا غاب عنها. وفي «الكشاف» في قوله تعالى: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} (هود: 88) تقول خالفني إلى كذا إذا قصده وأنت مولّ عنه (فأحرق) من التحريق والتفعيل لما ذكر فيما قبله (عليهم بيوتهم) هذا الحديث ظاهره مقوَ لمن قال بفريضة الجماعة عيناً. وأجاب عنه من قال إنها فرض كفاية بأنه ورد في قوم منافقين لا يشهدون الجماعة ولا يصلون العشاء فرادى والسياق يؤيده، فإنه افتتح الحديث في رواية أخرى بقوله «إن أثقل الى المنافقين صلاة العشاء والفجر» ومما يصرح به قوله في حديث ابن مسعود الآتي «ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق» وكيف يظن بأدنى الصحابة رضي الله عنهم أنه يؤثر أدنى غرض دنيوي على الصلاة مع رسول الله أو أن همة بتحريقهم لاستهانتهم بصلاة الجماعة لا لمجرد الترك، أو أن المراد بها الجمعة أو أناس تركوا نفس الصلاة لا الجماعة، وجواز التحريق اللام لهمه به كان قبل تحريم المثلة، وقوله «لا يعذب بالنار إلا خالقها» وتركه إما لكونه هم به اجتهاداً ثم نزل وحي بالمنع أو تغير اجتهاده (متفق عليه) . 61069 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: من سرّه أن يلقى الله غداً) أي يوم القيامة أو في الزمن المستقبل (مسلماً) حال من فاعل يلقى (فليحافظ على هؤلاء الصلوات) أي يبالغ في حفظها مراعياً لأركانها وواجباتها وسننها وآدابها (حيث ينادى بهن) أي في المكان الذي يعلم بهن للاجتماع لصلاتهن من نحو المساجد (فإن الله شرع) أي أظهر وسن (لنبيكم) عبر به دون نحولي إيماء إلى اتباعه في المشروع لأنه الأصل ما لم يقم دليل الخصوصية (سنن) بضم ففتح جمع سنة: أي طرائق (الهدى) ضد الضلال (وإنهن)

أي الصلوات (من سنن الهدى) أي بعضها أو مبتدؤها (ولو أنكم صليتم في بيوتكم) أي المكتوبة منفردين أو جماعة على وجه لا يظهر به الشعار (كما يصلي هذا المتخلف في بيته) فيه أقصى غاية من تحقيره وتبعيده عن مواطن القرب ولم أقف على من سماه (لتركتم سنة نبيكم) أي طريقه وهديه الذي أمر به من إظهار شعار الجماعة (ولو تركتم سنة نبيكم) (لضللتم) أي لوقعتم في الضلال ضد الهدى (ولقد رأيتنا) الواو فيه عاطفة على ما يتصيد مما قبله واللام مؤذنة بالقسم قبلها ورأى بصرية، وجملة (وما يتخلف عنها) أي عن الجماعة المدلول عليها بالسياق (إلا منافق معلوم النفاق) محل الحال في من فاعل رأى أو مفعوله، وجملة (ولقد كان الرجل يؤتى به) بالبناء للمجهول والظرف نائب فاعله مستأنفة (يهادى) بالدال المهملة مبنياً للمفعول: أي يتمايل (بين الرجلين) هما المعتمد عليهما (حتى يقام في الصف) غاية المهاداة (رواه مسلم) وفيه آكد حث وأبلغ داع على المحافظة على الصلوات في الجماعات وتحمل المشاق في تحصيلها ما أمكن (وفي رواية له) أي لمسلم (قال) أي ابن مسعود (إن رسول الله علمنا سنن) بفتح أوليه وبضم ففتح (الهدى) أي طريق الصواب والكمال وحثنا على الاعتناء بتحصيل الفضائل ما أمكن (الصلاة) أي جماعة كما يدل عليه السياق، وهو بالنصب بدل من سنن، وبالرفع مبتدأ محذوف الخبر: أي منها الصلاة جماعة (في المسجد الذي يؤذن فيه) أي الذي يحصل بإقامة الجماعة فيه شعارها، خرج به مسجد البيوت ونحوه مما لا يحصل به ذلك.d 71070 - (وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ما من) مزيدة لتأكيد استغراق النفي (ثلاثة) مقيمين (في قرية) قال في «المصباح» : القرية الضيعة. وفي كفاية

192 ـــ باب الحث على حضور الجماعة في الصبح والعشاء

المتحفظ: القرية كل مكان اتصلت به الأبنية واتخذ قراراً ويقع على المدن وغيرها (ولا بدو) بوزن فلس خلاف الحضر (لا تقام فيهم الصلاة) أي جماعة (إلا قد استحوذ) أي غلب (عليهم الشيطان) حتى فوّتهم هذا الثواب الجزيل والأجر الجميل (فعليكم بالجماعة) أي الزموها، والباء مزيدة في المفعول وعلل ذلك بقوله مستأنفاً بيانياً (فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية) أي الشاة البعيدة عن باقي الغنم المنفردة عنهن، شبه استيلاء الشيطان بوساوسه على المنفرد وتمكنه منه كيفما أراد عند بعده عن الجماعة باستيلاء الذئب على المنفردة من الغنم عند بعدها عن جماعتهنّ، ففي الكلام استعارة مكنية تتبعها استعارة تخييلية (رواه أبو داود) في الصلاة من «سننه» (بإسناد حسن) فرواه عن أحمد بن يونس عن زائدة عن السائب بن خنيس عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء، ورواه النسائي أيضاً في الصلاة عن سويد بن نصر عن عبد الله بن المبارك عن زائدة نحوه، قاله المزي في «الأطراف» . 192 - باب الحث على حضور الجماعة في الصبح والعشاء خصا بالذكر لثقلهما على النفوس غالباً، لأن وقت الأولى وقت طيب النوم ولذته ولذا أمر المؤذن أن يقول في أذانه: الصلاة خير من النوم، والعشاء وقت العشاء مع غلبة الظلمة وقتها فاختصا بالتحريض عليهما لذلك. 11071 - (عن عثمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: من صلى العشاء في جماعة) يشمل قليل الجماعة من إمام ومأموم وكثيرها وفاضلها ومفضولها (فكأنما قام نصف الليل) أي بصلاة التهجد، إذ القيام في عرف الشرع عبارة عن ذلك، ففيه فضل الجماعة في العشاء (ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله) ما أفاده ظاهره من ترتب

حصول ثواب قيام جميع الليل لمن صلى الصبح جماعة وإن لم يصل العشاء جماعة غير مراد، بل إن المراد مجموع صلاتي العشاء والصبح جماعة كقيام الليل كله، فصلاة كل منهما جماعة كقيام نصف الليل كما يشهد بهذا التفصيل الحديث بعده (رواه مسلم) في الصلاة. (وفي رواية للترمذي) في الصلاة من «جامعه» (عن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من شهد العشاء في جماعة كان له كقيام نصف ليلة) أي مثل ثوابه غير مضاعف كما يومىء إليه قوله في الحديث قبله «فكأنما قام نصف الليل» (ومن شهد العشاء والفجر في جماعة كان له كقيام اليلة) وإنما: حمل الحديث الأول على هذا الحديث لأن ذاك مجمل هذا مبين وهو يقضي به على المجمل، وإنما لم يجعل الحديثان من قبيل أنه أعلم أولاً بما اشتمل عليه حديث الترمذي هذا فأخبر به، ثم تفضل الله بما اشتمل عليه حديث مسلم فأخبر به ثانياً لأن الحديث واحد وليس متعدداً، فحمل حديث مسلم المجمل على حديث الترمذي البين الواضح (وقال الترمذي: حديث حسن صحيح) كذا في نسخ «الرياض» . والذي في «أطراف» المزي عنه الاقتصار على قوله حسن، وزاد: وقد روي من وجه عن عثمان موقوفاً ومن غير وجه عن عثمان مرفوعاً. 21072 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ولو يعلمون) أي الناس المذكورون أول الحديث، ولذا أتى المصنف بالعاطف أول الحديث تنبيهاً على أنه قطعة من الحديث (ما في العتمة والصبح) أي ما في شهود جماعتهما من الأجر العظيم المفصح به الحديثان قبله (لأتوهما ولو حبواً) فيه مزيد الحض على حضورهما (متفق عليه) وقد سبق

الحديث بطوله في باب فضل الأذان. 31073 - (وعنه قال: قال رسول الله: ليس صلاة أثقل على المنافقين من صلاة الفجر والعشاء) أي جماعة لو منفرداً، وذلك لأن وقت الصبح وقت طيب الرقاد لحسن الهواء عنده، ووقت العشاء وقت غلبة النوم لمزاولة الأعمال النهارية، والمنافقون لا يؤمنون بالله، ولا يصلون إلا رياء، فهي أثقل الصلوات عليهم، لأنها لكونها تفعل في ظلام لا يحصل غرضهم من المراءاة الحاصلة في صلاة الثلاثة الباقية جماعة مع ما فيها من فوات لذة النوم حينئذ، بخلاف المؤمن فإنهما وإن كانتا في ذينك الوقتين أشق عليه إلا أن عظم ثوابهما المرتب عليهما يخفف عنه ألم معاناتهما (ولو يعلمون ما فيهما) لا يخفى ما فيه من الإيماء إلى عظم ثواب ذلك فكأن العبارة تضيق عن تفصيله (لأتوهما ولو حبواً، متفق عليه) . 193 - باب الأمر بالمحافظة على الصلوات المكتوبات أي التي كتبها الله أي فرضها على عباده (والنهي الأكيد) أي المتأكد (والوعيد)

ضد الوعد فالوعد في الخير والوعيد في الشرّ (الشديد في تركهن) أي أو واحدة منهن. (قال الله تعالى) : ( {حافظوا} ) أي داوموا ( {على الصلوات} ) أي المفروضات ومن المحافظة عليهن الإتيان بأركانهن وشرائطهن. (وقال تعالى) : ( {فإن تابوا} ) أي من الكفر ( {وأقاموا الصلاة} ) من التقويم أي أتوا بها جامعة ما تتوق صحتها عليه لا من الإقامة المقابلة للأذان إذ هي سنة ( {وآتوا} ) أي أعطوا ( {الزكاة} ) المفروضة ( {فخلوا سبيلهم} ) كسائر المؤمنين. ومن هذه الآية وحديث ابن عمر مرفوعاً «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها» أخذ إمامنا الشافعي أن من ترك الصلاة كسلاً حتى أخرجها عن وقت الضرورة يقتل حداً إن لم يتب. 11074 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله أي الأعمال أفضل) أي أكثر ثواباً عند الله تعالى (قال الصلاة على وقتها) أي أداؤها فيه، وعبر بعلى إيماء إلى استعلاء استحقاقها الوقت إذ لا يجوز إخلاؤه عنها بغير عذر، والتفضيل فيه بالنسبة لما بعده كما يدل عليه قوله (قلت: ثم أي) بالتنوين قيل وبتركه (قال بر الوالدين) أي الإلطاف معهما حسب الإمكان (قلت: ثم أي) بالتنوين قيل وبتركه (قال بر الوالدين) أي الإلطاف معهما حسب الإمكان (قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله) أي قتال الكفار لإعلاء كلمة الله طلباً لمرضاته، والحديث صريح في تقديم بر الوالدين على الجهاد، وأصرح منه ما في حديث مسلم وغيره «أن رجلا جاء إلى رسول الله يستأدنه في الجهاد فقال: أحيّ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد» (متفق عليه) وقد تقدم بشرحه في باب بر الوالدين.

21075 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: بني الإسلام على خمس) أي أعمدة أو دعائم كما زاده عبد الرزاق، وفي رواية لمسلم على خمسة بتاء التأنيث وكلاهما جائز عند حذف المميز فإن ذكر أنث أو ذكر بحسب حاله كما قاله المصنف في حديث «من صام رمضان وستاً من شوال» في «شرح مسلم» ، وفعل وعلى فيه بمعنى الباء عند من قال الإسلام قول، ومنه حديث «بني الإسلام على خمس» وفعل واعتقاد، والإلزام أن يكون غيرها ضرورة كون المبني غير المبني عليه أو بمعنى من كما في «إلا على أزواجهم» أي إلا من أزواجهم. وأما عند من قال هو التصديق فبناؤه على الأربعة ظاهر، والشهادة قطبها الذي تدور هي عليه. وفي الحديث على هذا استعارة تمثيلية شبهت حالة الإسلام مع أركانه الخمسة بحالة خباء أقيم على خمسة أعمدة فقطبها التي تدور عليه الأركان وهو الشهادة بمنزلة العمود الذي في وسط الخباء وبقية شعبه بمنزلة الأوتاد، فتكون مغايرته لهذه الأركان كمغايرة الخباء للأعمدة، قاله الكازوني، وخالفه الدلجي فقال: وفي الحديث استعارة مكنية فتشبيهه به استعارة مكنية، وتشبيه الخمس بالأعمدة تشبيه بليغ بشهادة زيادة عبد الرزاق «خمس أعمدة» وهو قرينة المكنية، وقولهم قرينتها تكون تخييلية جرى على الغالب، وإلا فقد تكون تحقيقية كما في {الذين ينقضون عهد الله} () وإسناد البناء إليه ترشيح وليس استعارة تمثيلية وإن زعم، إذ لم يذكر المشبه به الذي هو من شرطها كما في مالي أراك تقدم رجل وتؤخر أخرى. فإن الوليد بن يزيد شبه حال تردد مروان بن الحكم في البيعة له بالخلافة بحالة من قام لأمر فتارة يعزم فيقدم رجلاً وتارة يحجم فيؤخر أخرى فهي تمثيلية، وفي جعله استعارة تبعية تكلف لا يخفى اهـ. وفي «الفتح المبين» لابن حجر الهيتمي: واستعمال البناء الموضوع للمحسوسات في المعاني مجاز علاقته المشابهة، شبه الإسلام ببناء عظيم محكم وأركانه الآتية بقواعد ثابتة محكمة حاملة لذلك البناء، فتشبيه الإسلام بالبناء استعارة مكنية، وإثبات البناء له استعارة ترشيحية اهـ. فتوافقا في المكنية وافترقا في قرينتها، فجعل ابن حجر في قرينتها الترشيحية وجعلها شيخه الدلجي التشبيه البليغ (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) بالجر عطف بيان أو بدل كل من كل إن اعتبر العطف

سابقاً على الإبدال، وبدل بعض من كل إن اعتبر العطف متأخراً عنه، وعلى هذا يحمل إطلاق الدلجي في «شرح الأربعين» أنه بدل بعض وبالرفع خبر مبتدأ محذوف وبالنصب مفعول، أعني قال الكازروني في «شرح الأربعين» : لكن الرواية على الأول (وإقام الصلاة) حذف التاء من إقامة لأن المضاف إليه عوض منها، قاله الزجاج، وقيل هما مصدران، وقال الدلجى: التعويض عن المحذوف منه لازم إما بالتاء أو بالمضاف إليه اهـ، فتحصل فيه ثلاثة أوجه أشهرها الأول وإقامتها الإتيان بها جامعة الأركان والشروط (وإيتاء الزكاة) أي إعطائها مستحقها (وحج البيت) بفتح الحاء لغة الحجاز وكسرها لغة تميم نجد وكلاهما مصدر، وقيل المكسور هو الاسم منه، قال ابن حجر الهيتمي: وفي كونه بالفتح اسم مصدر نظر (وصوم رمضان) وجاء في بعض الروايات تقديمه على الحج والواو لا تقتضي الترتيب وإلا فالصوم فرض قبل الحج إجماعاً، وهذا الحديث أصل عظيم في معرفة الدين وعليه اعتماده فإنه قد جمع أركانه (متفق عليه) . ورواه أحمد والترمذي والنسائي. 31076 - (وعنه قال: قال رسول الله: أمرت) بالبناء للمجهول للعلم بالفاعل: أي أمرني الله (أن أقاتل الناس) أي غير أهل الكتاب ومن ألحق بهم من المجوس (حتى) أي إلى أن (يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) أي يقروا بذلك وينطقوا بمضمونه (ويقيموا الصلاة) أي يأتوا بها جامعة الأركان والشرائط (ويؤتوا) أي يعطوا (الزكاة) الواجبة عليهم، أما أهل الكتاب فيقاتلون حتى يسلموا أو يعطوا الجزية (فإذا فعلوا ذلك) أي ما ذكر (عصموا) أي منعوا (مني دماءهم) فلا يجوز قتلهم (وأموالهم) فلا يجوز أخذها منهم (إلا بحق الإسلام) وذلك في الدماء بالقصاص وزنى المحصن وارتداد المسلم، وفي الأموال بالزكوات والكفارات والنفقات الواجبة عليهم لممونهم (وحسابهم على الله) أي إن الشارع عليه السلام إنما أمر بإجراء الأحكام على الظواهر وتفويض أمر البواطن إلى عالم

السرائر فيحاسبهم على ذلك (متفق عليه) ورواه أصحاب السنن الأربعة، وقد تقدم في باب إجراء أحكام الناس على ظواهرهم. 41077 - (وعن معاذ) هو ابن جبل الأنصاري (رضي الله عنه قال: بعثني) أي أرسلني (النبي إلى اليمن) أي أميراً على بعض أعماله (فقال: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب) لأنهم كانوا يهوداً (فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله) أي إلى الإقرار بذلك لساناً مع الصديق به جناناً، وقدمها لأنها الأساس لسائر الأعمال (فإن هم) فاعل محذوف دل على تعيينه قوله (أطاعوا لذلك) أي انقادوا له (فأعلمهم أن الله افترض) أي فرض. والتعبير بالافتعال إشارة إلى مزيد الاعتناء بذلك الفرض فينبغي مزاولته والاهتمام به (عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لذلك) بالتصديق والعمل به (فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة) هي زكاة الأموال والأبدان (تؤخذ) بالبناء للمفعول (من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم) في محل الصفة لصدقة أو الحال منه لتخصيصه بتقديم الظرف فهو كما في حديث «وصلى وراءه رجال قياماً» أو أنه مستأنف استئنافاً بيانياً كأنه قيل: ماذا يفعل بهذه الصدقة؟ فقال: تؤخذ الخ (فإن أطاعوا لذلك) بالانقياد والبذل (فإياك) منصوب على التحذير بعامل محذوف وجوباً (وكرائم) جمع كريمة: أي نفائس (أموالهم) بل خذ من الوسط من المال فلا تؤخذ من الخيار لئلا يجحف بالمالك، ولا من الأرداء لئلا يجحف بالفقراء (واتق) أي احذر (دعوة المظلوم) حذر من المرة من دعواته ليحذر من دعواته المتكررة بالأحرى، وعلل ذلك بقوله (فإنه) أي الشأن (ليس

بينها وبين الله حجاب) كناية عن سرعة إجابتها ونفوذ أثرها وقضيتها (متفق عليه) وسبق مشروحاً في باب تحريم الظلم. 51078 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: إن بين الرجل) ذكر ليس للتخصيص فالمرأة مثله فيما يأتي (وبين) أعيدت تأكيداً (الشرك والكفر) من عطف العام على الخاص، فالشرك أن يعبد مع الله غيره من صنم أو نحوه، والكفر فعل ذلك وغيره من المكفرات (ترك الصلاة) اسم إن قدم عليه الخبر وهو الظرف لإفادة التخصيص والقصر الإضافي، إذ تقديم المعمول يفيد ذلك غالباً، فالصلاة هي الحد الفاصل بين وجهي الإسلام والكفر، فمن اتصف بصفة الإسلام وصلى فقد أوجد الحاجز بينه وبين الكفر فلا يتطرق إليه الاتصاف به، ومن اتصف بها ولم يصل لم يوجد حاجز بينه وبين الاتصاف بالكفر، إذ لا واسطة بين الوصفين عند أهل السنة، فهذا ما يظهر في تقرير هذا الحديث من أن الحاجز من الاتصاف بالكفر هو الصلاة، وأن تركها بمثابة هدم الحاجز الذي بينك وبين عدوك فيتمكن منك بمجرد هدمه، إذ يصح أن يقال بيني وبين لقاء عدوي هذا الحاجز، فكذا هنا يصح أن يقال بين الإسلام والاتصاف بالكفر هدم الحاجز المانع له منه وهو الصلاة وهدمها تركها، قاله في «فتح الإله» وقال: هو أظهر مما قال الطيبي وغيره لما في قولهم من تأويل الحديث من غير حاجة (رواه مسلم) . 61078 - (وعن بريدة رضي الله عنه عن النبي قال: العهد الذي بيننا وبينهم) قال البيضاوي: الضمير للمنافقين، شبه الموجب لإبقائهم وحقن دماءهم بالعهد المقتضي بقاء المعاهد والكف عنه، والمعنى: أن العمدة في إجراء أحكام الإسلام عليهم تشبيههم

بالمسلمين في حضور صلواتهم ولزوم جماعاتهم وانقيادهم للأحكام الظاهرة، فإذا تركوا ذلك كانوا هم وسائر الكفار سواء: وقال الطيبي: يمكن أن يقال الضمير عام فيمن بايع رسول الله على الإسلام مؤمناً كان أو منافقاً (الصلاة فمن تركها فقد كفر) لا يخفى ما فيه من تعظيم شأن الصلاة والحث على فعلها والحض على ملازمتها (رواه الترمذي) ورواه أحمد وابن ماجه والنسائي وابن حبان والحاكم في «المستدرك» كما في «الجامع الصغير» (وقال: حديث حسن صحيح) . 71080 - (وعن شقيق) بالمعجمة والقافين بوزن رفيق (ابن عبد الله التابعي) هو كما تقدم من اجتمع بالصحابي ولازمه مدة على الصحيح (المتفق على جلالته رحمه الله قال: كان أصحاب محمد) جمع صاحب بمعنى الصحابي، والمراد معظمهم للخلاف الآتي في ذلك (لا يرون) من الرأي (شيئاً من الأعمال) الظرف في محل الصفة لما قبله، وكذا قوله (تركه كفر) أو في محل المفعول الثاني ليرون (غير الصلاة) مستثنى من ضمير شيء المضاف إليه ترك أو صفة أخرى لشيئاً (رواه الترمذي في كتاب الإيمان) من «جامعه» (بإسناد صحيح) خالف ابن حجر الهيتمي فقال في «شرح المشكاة» : وسنده حسن، وقول المصنف في مثل هذا هو المقام. إذا قالت حذام فصدقوها فإن القول ما قالت حذام واختلف العلماء في حكم هذه المسألة الوارد فيها هذه الأحاديث وأحاديث أخر بمضمونها أو قريب منه، فأخذ جماعة من الصحابة ومن بعدهم بظاهره من أن ترك إحدى

الخمس كسلاً كفر حقيقي فيرتب عليه أحكام الردة. وقال الأكثرون: ليس بكفر، وأولوه بحمله على المستحل لتركها إن لم يكن معذوراً بقرب عهد بإسلام أو بنشئه ببادية بعيدة عن العلماء، أو على أن تركها يؤدي إلى الكفر لأن المعاصي بريد الكفر، أو على الزجر والتغليظ ومن ثم قال الشافعي كبعض أئمة السلف من تركها كسلاً قتل مع الحكم بإسلامه. وقال الزهري وجماعة: يحبس ويضرب حتى يصلي، أو على كفر النعمة إذ حقيقة العبودية أن يخضع العبد لربه ويشكر نعماءه الظاهرة والباطنة، وحقيقة المتصف بالكفر أن يستنكف عن ذلك، ولا شك أن الصلاة رأس الشكر قوامه، فكأنه قيل الفرق بين المؤمن والكافر ترك أداء شكر المنعم الحقيقي، فمن أقامها فهو المؤمن الكامل ومن تركها فهو الكافر لنعم مولاه المقصر في شكرها. 81081 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله أي المتعلق بحق الله تعالى (صلاته فإن صلحت) بفتح اللام وذلك باستجماع مصححاتها وفقد مفسداتها (فقد أفلح وأنجح) أي فاز وظفر بمطلوبه (وإن فسدت) لفقد ركن أو شرط أو وجود ما يفسدها من قول أو عمل (فقد خاب) أي لم يظفر بما طلب (وخسر) أي هلك أو خسر في تجارته الأخروية فلم يربح الثواب المرتب على عملها لو كانت صحيحة (فإن انتقص) أي نقص (من فريضته شيئاً) أي غير مفسد تركه لها ويحتمل مطلقاً (قال الرب عزّ وجل) في التعبير بالرب إيماء إلى أن ما ذكر بعده من مظهر التربية لما فيه من الترقية من دنس الإخلال إلى شرف التكميل (انظروا) الخطاب والله أعلم للملائكة الموكلين به (هل لعبدي) في إضافته من التشريف ما يذهب التدنيس (من تطوع) أي من نافلة من الصلاة (فيكمل) بالبناء للمجهول (بها) أي بالنافلة (ما انتقص من الفريضة) فتعود كاملة بعد نقصها (ثم تكون سائر أعماله) من صوم وحج (على هذا) أي فيكمل نقص فرائضة منها بنقلها، ولا منافاة بين حديث الباب وحديث «أول ما يقضي فيه يوم القيامة بين العباد الدماء» الحديث، لأن ذلك بالنسبة لحق العباد وهذا بالنسبة لحق الله

194 ـــ باب فضل الصف الأول

تعالى: (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) وفي «شرح المشكاة» : إنه حديث صحيح، ففيه حث على إتقان الفرائض والاهتمام بمصححاتها وترك مفسداتها، وحض على إكثار النوافل لتكون جابرة لخلل الفرائض الذي لا يخلو منها إلا الفذّ النادر.H 194 - باب فضل الصف الأول هو الصف الذي يلي الإمام على الصحيح وإن تخلله نحو منبر أو مقصورة وإن تأخر أصحابه، وهو في المسجد الحرام من بحاشية محل الطواف دون من تقدم عليه إلى الكعبة، بل قرب المأموم إليها على الإمام في غير جبهته مكروه مفوت لفضل الجماعة كما في «التحفة» لابن حجر. وقيل الأول ما لم يتخلله شيء وإن تأخر أصحابه، وقيل هو من جاء أولاً وإن صلى في صف متأخر. قال المصنف في «شرح مسلم» : وهذان القولان غلط صريح: أي وإن جرى الغزالي على أولهما (والأمر بإتمام الصفوف الأول) أي لا يصف الثاني حتى يتم الأول والثالث حتى يتم الثاني وهكذا (وتسويتها) أي عدم تقدم بعض من بالصف على بعض (والتراص فيها) بحيث لا يكون فيها فرجة تسع مصلياً. 11082 - (عن جابر بن سمرة) بضم الميم كما تقدم (رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله فقال: ألا) بتخفيف اللام حرف استفتاح جيء بها لتنبيه السامع لما بعدها (تصفون) أي تسوون صفوفكم للصلاة (كما تصف الملائكة عند) قيامها لطاعة (ربها، فقلنا يا رسول الله وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصفوف الأول) بضم

ففتح: أي لا يشرعون في صف حتى يكمل ما قبله، ومنه أخذ أصحابنا استحباب ذلك على التأكد فتكره مخالفته ويفوت بها ثواب الجماعة (ويتراصون) من التراص وهو الاجتماع والانتظام قال تعالى: {كأنهم بنيان مرصوص} (الصف: 4) (في الصف) أي بحيث لا يبقى بينهم فرجة وهذا أيضاً سنة متأكدة يترتب على تركها ما ذكر فيما قبله (رواه مسلم) ورواه أبو داود والنسائي. 21083 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله: قال لو يعلم الناس) أي لو علموا (ما في النداء) أي الأذان (والصف الأول) أي من الثواب والشرف الذي يضيق نطاق العبارة عن بيانه كما يومىء إليه حذفه (ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا) أي يقترعوا (عليه) أي على ما ذكر لضيق الصف الأول عن جميعهم والوقت عن أذان كلهم (لاستهموا) لعظم فضلهما (متفق عليه) وتقدم مشروحاً في باب فضل الأذان. 31084 - (وعنه قال: قال رسول الله: خير صفوف الرجال أولها) لقربهم من الإمام واستماعهم قراءته ومشاهدتهم لأحواله وصلوات الله وملائكته عليهم كما جاء في الأحاديث، ويليه في ذلك ثانيها ثم ثالثها وهكذا، والصف الأول أفضل حتى بمكة والمدينة على الأصح عندنا، وذلك لجريان خلاف مشهور عندنا في بطلان صلاة الذين هم أقرب إلى الكعبة في غير جهة الإمام، ففي فضيلة الإتباع ما يزيد على المضاعفة الحاصلة للصف الثاني مثلاً الواقف في الروضة الشريفة، ومن ثم صرحوا بأفضلية النافلة في البيت عليها في مسجد مكة

والمدينة نظراً للاتباع وإن فاتت المضاعفة بناء على اختصاصها بالمسجد (وشرها آخرها) لحرمانهم ثواب تلك الفضائل الحاصلة لمن قبلهم، بل لوقوعهم في فتنة قربهم من النساء المؤدي إلى الاطلاع على بعض ما ينكشف منهن (وخير صفوف النساء آخرها) لبعده عن الرجال بعداً تنتفي معه الفتنة قطعا أو غالباً، ولامتثال أهله لما أمروا به من مزيد الستر والاحتجاب، ويليه في ذلك من قبله وهكذا (وشرها أولها) لقربه من الرجال المؤدي إلى الفتنة بهم والخير والشر في الصفين أمر نسبي باعتبار كثرة الثواب وقلته، وأيضاً فالتأخر عن الكمال مع القدرة عليه فيه غاية الهضم للقدر والتسفيه للرأي والتفنع بسفساف الأمور وعدم التطلع إلى معاليها، فلا يعد في تسميته شراً لذلك ولأنه يجر إليه كما يعلم مما يأتي في شرح قوله «ولا يزال قوم يتأخرون» الخ (رواه مسلم) ورواه أبو داود والترمذي والنسائي. 41085 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله رأى في أصحابه تأخراً) أي في صفوف الصلاة أو في أخذ العلم (فقال لهم: تقدموا فائتموا) أي اقتدوا (بي وليأتم بكم من بعدكم) معناه على الأول: ليقف خلفي من غير تأخر كثير بأن لا يزيد ما بينهم وبينه على ثلاثة أذرع، وكذا ما بين كل صف، وما يليه أهل الفضل والصلاح ثم خلفهم من هو دونهم في ذلك وهكذا، ومعنى ائتمام كل صف بمن قبله أنه يتبعه في حركاته لأن من قبله أسرع علماً بانتقالات الإمام منه، وعلى الثاني ليتعلم كل منكم العلوم الظاهرة والباطنة مني وليتعلم التايعون منكم وهكذا قرناً بعد قرن إلى آخر الدهر (لا يزال قوم يتأخرون) أي عن اكتساب الفضائل واجتناب الرذائل (حتى يؤخرهم الله) عن رحمته وعظيم ثوابه وفضله ورفيع منزلة أهل قربه حتى يكون عاقبة أمرهم النار كما جاء في رواية: (رواه مسلم) وفيه آكد حث على التسبق إلى معالي الأمور والأخلاق، وأبلغ زجر عن الميل إلى الدعة والرفاهية، وأبلغ تنبيه إلى أن ذلك يؤدي إلى تجرع غصص البعد والغضب، أعادنا الله من ذلك بمنه.

51086 - (وعن أبي مسعود) عقبة بن عامر البدري (رضي الله عنه قال: كان رسول الله يمسح مناكبنا في الصلاة) أي يسويها بيده الكريمة حتى لا يخرج بعض الصف عن بعضه (ويقول) أي حال تسوية المناكب كما هو الظاهر من السياق، ويحتمل كونها معطوفة على الجمثة الخيرية قبلها (استووا) في التصاف (ولا تختلفوا) بأن يتدم منكب بعضكم على منكب بعض (فتختلف) بالنصب لأنه في جواب النهي (قلوبكم) أي، أهويتها وإرادتها (ليلني) أي ليدن مني بحذف الياء وتخفيف النون كذا في جميع النسخ هنا، وفي إحدى رواياته بفتح الياء وتشديد النون على أنها للتوكيد كما تقدم في باب توفير العلماء والكبار، وبتخفيف النون مع الياء قيل وهي غلط لأن حقه لكونه أمراً باللام حذف الياء. وأجيب بأن عدم حذف الجازم لحرف العلة لغة صحيحة. قلت: هذا إن كانت الياء ساكنة، فإن كانت مفتوحة والنون للتأكيد خفيفة فلا يحتاج لجواب كما كان مع الثقيلة (منكم أولو الأحلام) جمع حلم بالكسر كأنه من الحلم وهو الأناة والتثبت في الأمر وذلك من شعار العقلاء (والنهي) بضم ففتح جمع نهية بالضم وهو العقل لأنه ينهي صاحبه عن القبائح، هذا ما جرى عليه المصنف في غير «شرح مسلم» وقال فيه: النهي العقول، وأولوا الأحلام هم العقلاء، وقيل البالغون، فعلى الأول اللفظان بمعنى، ولاختلافهما لفظاً عطف أحدهما على الآخر تأكيداً وعلى الثاني معناه البالغون العقلاء اهـ. وفي «المجموع» : أولوا الأحلام معناه البالغون العقلاء الكاملون في الفضيلة، وقد نقل المصنف بعض هذا الخلاف في الباب المذكور آنفاً (ثم الذين يلونهم) كالصبيان المميزين، المراهق وغيره سواء (ثم الذين يلونهم) وهو الخناثى ويصح أن يراد بهم النساء وذكرهم على وزن ما قبله (رواه مسلم) . 61087 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: سووا صفوفكم) بترك تقدم بعض على آخر فيها، قال الشيخ تقي الدين القشيري: تسوية الصفوف اعتدال القائمين بها على سمت واحد، وقد تدل تسويتها أيضاً على سدّ الفرج فيها بناء على التسوية المعنوية،

واتفقوا على أن المراد تسويتها بالمعنى الأول، وأن الثاني أمر مطلوب أيضاً (فإن تسوية الصف) المراد به الجنس بدليل رواية الصوف بصيغة الجمع الآتية (من إقامة الصلاة) وفي رواية «من تمام الصلاة» وفي رواية «من حسن الصلاة» (متفق عليه) . (وفي رواية للبخاري) أي عن أنس أيضاً (فإن تسوية الصفوف) أي بصيغة الجمع (من إقامة الصلاة) وفي «الجامع الصغير» بعد إيراده كذلك رواه أحمد والشيخان وأبو داود وابن ماجه. قال ابن رسلان: في هذا رد على من قال المفرد المحلى بأل لا يعم، ووجهه أنه أضاف. الصفوف بصيغة الجمع فعمت ثم أفردها فلو لم يكن للعموم لتناقض بالعموم في الأول والخصوص في الثاني. 71088 - (وعنه قال: أقيمت الصلاة) وفي رواية ذكرها في «المشكاة» الصفوف (فأقبل علينا رضي الله عنه بوجهه) تأكيداً إذ الإقبال لا يكون إلا به (فقال: أقيموا صفوفكم) أي داوموا على إقامتها واعتنوا بها لعظم جدواها وشرف غايتها، هذا إن كان صدر منه بعد تمام الإقامة وإن كان قبلها فمعناه اجعلوها كذلك (وتراصوا) أي تلاصقوا بالمناكب حتى لا يكون بينكم فرجة (فإني أراكم من وراء ظهري) أي حقيقة فأعلم ما يقع منكم ثم الرؤية قيل بعينه معجزة له، وقيل بغير ذلك مما يأتي (رواه البخاري بلفظه) المذكور (ورواه مسلم بمعناه) ولفظه «أتموا الصفوف فإني أراكم من وراء ظهري» ولا ينافي هذا الحديث حديث «لا أعلم ما وراء جداري» لأن هذا خاص بحالة الصلاة، لأنه لما حصل له فيها قرة العين بما أفيض عليه فيها من غايات القرب المختص بها التي لا يوازيه فيها غيره صار بدنه الشريف كالمرآة الصافية التي لا تحجب ما وراءها، وقل كان له بين جنبيه عينان كسم الخياط لا تحجبهما الثياب (وفي رواية للبخاري) من حديث أنس أيضاً (وكان أحدنا يلزق منكبه) بفتح الميم وكسر الكاف: هو مجتمع رأس العضد والكتف (بمنكب صاحبه

وقدمه بقدمه) مبالغة في التراص الذي أمروا به. وعند البخاري أيضاً: قال النعمان بن بشير «رأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه» . 81089 - (وعن النعمان بن بشير) الأنصاري (رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: لتسوّن) بصيغة المبني للفاعل وحذف الواو الفاعل لملاقاتها ساكنة مع النون المدغمة ودلالة الضمة عليها (صفوفكم) أي بعدم تقدم بعض من فيها على بعض وعدم الانتقال إلى الثاني حتى يكمل الأول (أو) للتنويع (ليخالفنّ الله بين وجوهكم) أي ليكونن أحد الأمرين تسوية الصفوف أو مخالفة الوجوه بتحويلها إلى أدباركم، أو بمسخها على صورة بعض الحيوان أو وجوه قلوبكم الخبر أبي مسعود السابق «فتختلف قلوبكم» أي أهويتها وإرادتها، وحينئذ تثور الفتن وتختلف الكلمة وتنحل شوكة الإسلام والمسلمين فيتسلط العدو ويفشو المنكر وتقل العبادات في ذلك من المفاسد ما لا يحصى (متفق عليه) . (وفي رواية لمسلم) أي عن النعمان أيضاً (أن رسول الله كان يسوي صفوفنا حتى) غاية التسوية (كأنما يسوي بها القداح) جمع قدح بكسر فسكون وهو السهم قبل أن يراش ويركب نصله، وعكس فيه التشبيه إذ الظاهر كأنما يسويها بالقداح مبالغة في استوائها، لأن القدح لا يصلح لما يراد منه إلا بعد نهاية الاستواء، وجمع في مقابلة الصفوف: أي يسوى كل صف بقدح (حتى رأى أنا قد عقلنا عنه) أي لم يبرح يسويها حتى استوينا فيها الاستواء الذي أراده منا وفهمناه من قوله وفعله (ثم خرج يوماً فقام حتى كاد) أي قارب (يكبر) أي للإحرام (فأي رجلاً بادياً) أي ظاهراً (صدره من الصف) لخروجه عن مساواة من فيه،

وبادياً صفة رجل ورجل مفعول رأي البصرية (فقال: عباد الله) لم ينهه بخصوصه جريا على عادته الكريمة مبالغة في الستر (لتسوّن صفوفكم) اللام هي مؤذنة بالقسم المقدر ولذا أكد الفعل بالنون (أو ليخالفن الله بين وجوهكم) أي والله ليكونن أحد الأمرين، فيه من التوبيخ والتهديد الغاية، وفيه آكد حث على تسوية الصفوف وأبلغ زجر عن ترك تسويتها لما يترتب عليه من المخالفة المتقدم معناها والخلاف فيه. 91090 - (وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: كان رسول الله يتخلل الصف) أي يذهب خلله نحو يتأثم ويتحنث: أي يتحرج من الوقوع في الإثم والحنث (من ناحية إلى ناحية) أي يستوعبه من سائر أطرافه (يمسح صدورنا ومناكبنا) بيده الكريمة حتى لا يخرج بعضها عن بعض (ويقول لا تختلفوا) بالتقدم والتأخر في الصف (فتختلف قلوبكم) أي أهويتها المؤدي إلى ما لا يحصى من المفاسد (وكان يقول) حثاً على تكميل الصفوف والمبادرة إلى الأقرب منها للإمام (إن الله وملائكته يصلون على الصفوف الأول) بضم ففتح: أي بأن يكونوا في غير الأخير، وتسمية ما بين الصف الأول وهو الذي يلي الإمام والأخير صفوفاً أول مجاز لأنها كذلك بالنظر للأخير. ففيه تأكيد إتمام الصف الأول ثم الثاني وهكذا، فالصفوف الأول خير الصفوف للرجال وعكسه للنساء كما تقدم في حديث أبي هريرة (رواه أبو داود) في الصلاة من «سننه» ورواه النسائي أيضاً فيها (بإسناد حسن) فرواه أبو داود عن هناد وأبي عاصم أحمد بن خواس الحنفي كلاهما عن أبي الأحوص عن منصور عن طلحة بن مطرف عن عبد الرحمن بن عويجة الهنمي، ويقال الهمداني، ويقال الهمداني الكوفي، ورواه النسائي عن قتيبة عن أبي الأحوص بالسند المذكور، كذا في «أطراف» المزي.

101091 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: أقيموا الصفوف) بتسويتها كما جاء في رواية بلفظ: سووا الصفوف (وحاذوا بين المناكب) وذلك إنما يكون عند مساواة كل للغير في المسامنة في الصف (وسدوا الخلل) أي الفرج التي في الصفوف وذلك بأن تتراصوا حتى لا يبقى فيها فرجة ولا سعة، والفرق بينهما أن الفرجة خلاء ظاهر، والسعة أن يكونوا بحيث لو دل بينهم آخر لوسعه من غير مشقة تحصل لأحد (ولينوا بأيدي إخوانكم) أي إذا أخذوا بها ليقدموكم أو يؤخروكم حتى يستوي الصف لتنالوا فضل المعاونة على البر والتقوى، ويصح أن يراد: لينوا بيد من يجركم من الصف: أي وافقوه ليزيلوا عنه وصمة الانفراد المبطلة للصلاة عند بعض (ولا تذروا فرجات) بضمتين أو بضم فسكون جمع فرجة (للشيطان) أضيفت إليه لأنها محل تردده للإغواء (ومن وصل صفا وصله الله) أي بإدرار أصناف رحمته وإغداق هوامع نعمته والجملة مستأنفة (ومن قطع صفاً قطعه الله) أي عن مواسم الخيرات وحقائق المبرات. وفيه أبلغ حث على وصل الصفوف بسد فروجها وتكميلها بأن لا يشرع في صف حتى يكمل ما قبله، وأبلغ زجر عن قطعها بأن يقف في صف وبين يديه صف آخر ناقص أو فيه فرجة، ومن تأمل بركة دعائه للواصل وخطر دعائه المقبول الذي لا يرد على القاطع وكان عنده أدنى ذرة من الإيمان بادر إلى الوصل وفر عن القطع ما أمكنه (رواه أبو داود) ورواه أحمد والطبراني كما في «الجامع الصغير» (بإسناد صحيح) ورواه أحمد أيضاً كما في «المشكاة» بلفظ «سووا صفوفكم وحاذوا بين مناكبكم ولينوا في أيدي إخوانكم وسدوا الخلل فإن الشيطان يدخل بينكم بمنزلة الحذف» يعني بمنزلة أولاد الضأن الصغار، وعدم تعقيبه الحكم بصحة الإسناد بوصف المتن بما يخالف ذلك يشعر بصحة الحديث عنده على القاعدة في مثله. 111092 - (وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله قال: رصوا صفوفكم) أي حتى

لا يبقى فيها فرجة ولا خلل (وقاربوا بينها) بأن يكون ما بين كل صفين ثلاثة أذرع تقريباً، فإن بعد صف عما قبله أكثر من ذلك كره لهم وفاتهم فضيلة الجماعة حيث لا عذر من حر أو برد شديد وهذا في غير النساء، أما هن فيسن لهن التأخر عن الرجال كثيراً (وحاذوا بالأعناق) ينبغي تفسيره بالمحاذاة بالمناكب التي سبق الأمر بها قولاً وفعلاً، إذ يلزم في المحاذاة بالأعناق بأن لا يتقدم عنق أحدهم ولا يتأخر المحاذاة بالمناكب (فوالذي نفسي بيده إني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصفوف) أي فرجها أو تباعدها عن بعضها بأكثر مما مرّ (كأنها الحذف) ببه بهذا الإقسام العظيم على تأكيد التراص والتقارب لعظم فائدتهما وهي منع دخول الشيطان بينهم المستلزم لتسلطه وإغوائه ووسوسته حتى يفسد عليهم صلاتهم وخشوعهم الذي هو روح الصلاة وعود بركة ما فيها من الأنفاس الطاهرة على البقية، ولا مذهب للشيطان وكيده أعظم من الذكر الصادر من القلب الصالح ثم تأنيث ضمير كأنها الراجع إلى الشيطان صحيح لأنه اسم جنس بمعنى الشياطين فيجوز تذكير ضميره رعاية للفظه كما ورد به أيضاً وتأنيثه رعاية لمعناه وفيه أوجه أخر هذا أحسنها (حديث صحيح رواه أبو داود بإسناد صحيح) فرواه عن مسلم بن إبراهيم عن أبان، عن قتادة، عن أنس (على شرط مسلم) أي برجال روى مسلم حديثهم في الصحيح، وإلا فليس لأحد من الشيخين شرط منصوص عليه في كتابيهما المذكورين، ورواه النسائي في الصلاة أيضاً من «سننه» عن محمد بن عبد الله بن المبارك عن أبي هشام المخزومي عن قتادة. (الحذف بحاء مهملة وذال معجمة مفتوحتين ثم فاء: وهي غنم سود صغار تكون باليمن) أو بالحجاز واحده حذفة بالتحريك سميت بذلك لأنها محذوفة عن مقدار غالب جنسها، وتقدم تفسيرها في حديث أحمد مرفوعاً بنحوه. 121093 - (وعنه أن رسول الله قال: أتموا الصف المقدم) أي الأول وذلك بسد فرجه

حتى لا يبقى منها ما يسع واحداً (ثم) أي بعد تمام الأول أتموا الصف (الذي يليه) وهو الثاني وهكذا (فما كان من نقص فليكن في الصف المؤخر) أي الأخير (رواه أبو داود) في الصلاة من سننه (بإسناد حسن) فرواه عن محمد بن سليمان الأنباري عن عبد الوهاب بن عطاء عن سعيد عن قتادة عن أنس، ومن هذا الحديث الصريح في إتمام الصف الأول والثاني أخذ أصحابنا قولهم يسن إتمام الصف الأول ثم الذي يليه حتى لا يبقى نقص في غير الأخير، وفيه أن من وقف قبل إتمام ما قبله كان مقصراً تاركاً للسنة فيفوته فضل الجماعة. 131094 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله: إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف) أي الصفوف التي في ميمنة الإمام، ومنه أخذ أئمتنا أفضلية الوقوف عن يمين الإمام ولو تعارض مع القرب من الإمام ما استوجهه أئمتنا، والمراد أنه يسن إذا وصل المأموم المسجد ووجد الناس متوسطين الإمام ووجد فرجة على يمينه وأخرى عن يساره أن يسد فرجة اليمين، فلا يلزم من تفضيل التيامن فوات سنة توسيط الإمام المطلوب أيضاً، ومحل طلب التيامن إذا كانت جهته تسع جميع الجاءين وإلا سن التسابق إليها والباقون يصلون في اليسرى، كما أن السنة إتمام الصف الأول ثم الثاني وهكذا (رواه أبو داود بإسناد على شرط مسلم) فرواه عن عثمان بن أبي شيبة عن معاوية بن هشام عن سفيان عن أسامة بن زيد عن عثمان بن عروة عن عروة عن عائشة (وفيه رجل مختلف في توثيقه) هو معاوية بن هشام، قال في «الكاشف» : قال ابن معين: معاوية بن هشام صالح وليس بذاك في «التهذيب» للذهبي: وقال فيه أبو داود إنه ثقة، وقال يعقوب ابن أبي شيبة: كان من أعلمهم بحديث شريك هو إسحاق الأزراق اهـ.e قال المصنف في «الخلاصة» : وفيه رجل

مختلف فيه، وصححه أبو القاسم الطبراني، وأشار البيهقي إلى تضعيفه والمختار تصحيحه فلم يذكر ما يقتضي ضعفاً اهـ. وعبارة البيهقي التي أشار إليها في «الخلاصة» هي قوله بعد إيراد الحديث باللفظ المذكور لك المحفوظ بهذا الإسناد عن النبيّ «إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف» ثم ذكر له طرقاً متنها كما ذكره ثم قال: قال الطبراني: كلاهما صحيحان، قال البيهقي: يعني الإسنادين، أما المتن الأول فإن معاوية بن هشام انفرد به، ولا أراه محفوظاً فقد رواه عبد الله بن وهب وغيره عن أمامة نحو رواية الجماعة «يصلون على الذين يصلون الصفوف» اهـ. وكأن وجه عدم تضعيف ذلك الحدث المذكور أنه لا يلزم من روايتهم بهذا الإسناد ذلك المتن أن لا يروي به غيره متناً آخر، والسكوت عن الشيء لا ينقيها والله أعلم. قال في «الجامع الصغير» : والحديث رواه ابن حبان في «صحيحه» وأبو نعيم في «حليته» أيضاً، والحديث رواه ابن ماجه بهذا الإسناد. 141095 - (وعن البراء رضي الله عنه قال: كنا إذا صلينا خلف النبيّ) فيه الإيماء إلى ندب تأخر المأموم عن الإمام وإن كانت المساواة له في الموقف لا تبطل الصلاة (أحببنا أن نكون عن يمينه) أي واقفين بجهة يمناه، وعلل حبهم ذلك على طريق الاستئناف البياني بقوله (يقبل علينا بوجهه) ولا مخالفة بين هذا الحديث وحديث ابن ماجه «من عمر ميسرة المسجد كتب له كفلان من الأجر» لاختلاف زمنهما كما قال المحدثون، وذلك أنه لما حث على التيامن عمرت جهة اليمين وازدحموا عليها فتعطلت الميسرة فقال ذلك، ذكره الدميري في «الديباجة» (فسمعته يقول) خضوعاً لربه وتعظيماً لأمته (رب قنى عذابك يوم تبعث، أو) شك من الراوي (تجمع عبادك) والمراد منه عليهما يوم القيامة وطلب الوقاية من عذابه لأنه أشد العذاب وأعظمه (رواه مسلم) ورواه ابن ماجه أيضاً مقتصراً على قوله تبعت من غير شك. 151096 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: وسطوا الإمام) أي

195 ـــ باب فضل السنن الراتبة مع الفرائض

اجعلوا موقفه وسط المصلى ليقف المأموم عن يمينه وعن يساره، وما دل عليه صدر هذا الحديث مزيد على الترجمة، ولا عيب في ذلك إنما المعيب خلوّ الباب عن بعض ما في الترجمة (وسدوا الخلل) بأن لا يبقى ثمة ما يسع مصلياً سداً لمداخل الشيطان كما تقدم (رواه أبو داود) وقد رمز السيوطي في «جامعه الصغير» عليه برمز الحسن. 151096 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: وسطوا الإمام) أي اجعلوا موقفه وسط المصلى ليقف المأموم عن يمينه وعن يساره، وما دل عليه صدر هذا الحديث مزيد على الترجمة، ولا عيب في ذلك إنما المعيب خلوّ الباب عن بعض ما في الترجمة (وسدوا الخلل) بأن لا يبقى ثمة ما يسع مصلياً سداً لمداخل الشيطان كما تقدم (رواه أبو داود) وقد رمز السيوطي في «جامعه الصغير» عليه برمز الحسن. 195 - باب فضل السنن الراتبة مع الفرائض التابعة لها قبلية أو بعدية (وبيان أقلها) عدداً (وأكملها) أي عدداً أيضاً أو ثواباً (وما بينهما) أي من المرتبتين من المرتبة الوسطى عدداً أو فضلاً. 11097 - (وعن أم المؤمنين أم حبيبة) بفتح المهملة وكسر الموحدة الأولى وسكون التحتية بينهما (رملة) بفتح الراء وسكون الميم، هذا قول الأكثرين وهو الأصح المشهور، وقيل اسمها هند (بنت أبي سفيان) صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشية الأموية المكية، ثم الحبشية، ثم المدنية (رضي الله عنهما) بضمير المثنى كما في نسخة وهو الأولى لأنها صحابية بنت صحابي، وفي أخرى بضمير الواحدة كنيت بابنتها حبيبة بنت عبيد الله ابن جحش، كانت من السابقات إلى الإسلام هاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى الحبيشة فتوفي عنها، فتزوزجها رسول الله وهي هناك سنة ست من الهجرة، وقيل سنة سبع، وتوفيت سنة أربع وأربعين، وقيل قبل معاوية بسنة واستغرب، والصحيح أنها ماتت بالمدينة قال ابن منده: سنة اثنتين وأربعين، وقيل سنة أربع وأربعين، وكان النجاشي أمهرها أربعة آلاف درهم وبعثها إلى النبي مع شرحبيل بن حسنة، وقال أبو نعيم: أمهرها النجاشي أربعمائة دينار، وقيل غير ذلك، وقدمت المدينة ولها بضع وثلاثون سنة اهـ ملخصاً من «التهذيب» . روى لها عن رسول الله خمسة وستون حديثاً، رويا في «الصحيحين» أربعة منها، اتفقا على اثنين، وانفرد مسلم باثنين (قالت: سمعت رسول الله يقول: ما من

عبد مسلم يصلي لله تعالى) أي مخلصاً لذاته (كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير فريضة) صفة مؤكدة للتطوع، وهو لغة الزيادة، وشرعاً ما عدا الفرائض (إلا بنى الله تعالى له بيتاً في الجنة أو) شك من الراوي (إلا بنى) بالبناء للمجهول وسكت عن ذكر الفاعل للعلم به (له بيت في الجنة) وهذا الحديث بعمومه يعطي أن الوعيد المرتب فيه على صلاة ما ذكر شامل للرواتب وغيرها من الضحا وصلاة الإشراق وغيرهما، فإيراد المصنف له في هذا الباب لأن الرواتب من جملة ما رتب عليه هذا الوعد (رواه مسلم) . 21098 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: صليت مع رسول الله ركعتين قبل الظهر ركعتين بعدها) والركعتان القبليتان والركعتان والبعديتان للظهر من سننه المؤكدة، ويسن أيضاً ركعتان قبل وركعتان أخريان بعد إلا أنهما ليستا مؤكدتين، والمفعول من السنن للظهر هو المفعول للجمعة يومها، فالاقتصار على قوله (وركعتين بعد الجمعة) باعتبار ما فعله ابن عمر مع رسول الله وعاينه (وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء) وفي «الصحيحين» عنه بزيادة في بيته: أي صليت معه ما ذكر في بيته وهو موافق للخبر الصحيح «أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» وسكت عن ركعتي الصبح لما جاء عنه في الصحيح حدثتني حفصة «أن النبي كان يركع ركعتين خفيفتين بعد ما يطلع الفجر، وكانت ساعة لا أدخل على النبي فيها» والله أعلم. فالسنن المؤكدة عشر: ركعتا الفجر وثنتان قبل الظهر وأخريان بعده وركعتان بعد كل من المغرب والعشاء (متفق عليه) .

31099 - (وعن عبد الله بن مغفل) بضم الميم وفتح الغين المعجمة وتشديد الفاء وتقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب المحافظة على السنة وفي باب فضل الزهد أيضاً (قال: قال رسول الله: بين كل أذانين) فيه تغليب الأذان لشرفه على الإقامة (صلاة) مطلوبة وأكد هذا الأمر بتكريره بقوله (بين كل أذانين صلاة) والتكرير عناية بالمقام وحث على فعل ذلك بينهما، وعموم قوله صلاة متناول للركعة، لكن اتفق الفقهاء على أن المراد ركعتان، ويزداد كل من الظهر والعصر ركعتين أيضاً (قال) أي النبي (في المرة الثالثة) من تكريراته (لمن شاء) أي طلبه ذلك بينهما ليس على سبيل الجزم والتحتم بل على سبيل الندب والاستحباب ووكل ذلك لخيرة المكلف، فإن أراد الاستكثار من الثواب وزيادة الدرجات في الجنة جاء بذلك، وإن تركه فلا إثم عليه، نعم قال أصحابنا: مداومة ترك الرواتب مسقط للشهادة (متفق عليه) وفي «الجامع الصغير» بعد إيراده من غير تكرير، ورواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة كلهم من حديث ابن مغفل، ورواه البزار من حديث بريدة بزيادة إلا المغرب (المراد بالأذانين الأذان والإقامة) . 196 - باب تأكيد ركعتي سنة الصبح أي ما جاء مما يدل على تأكدهما من فعله وقوله. 11100 - (عن عائشة رضي الله عنها أن النبي: كان لا يدع) أي لا يترك لاهتمامه بها (أربعاً قبل الظهر) والأفضل فعل كل ركعتين بتسليمة وهذا يقتضي تأكيد أربع قبل الظهر، والمعروف في كتب الفقه أن المؤكد منها اثنتان، وكأنه لحديث آخر ورد بذلك فيه تخفيفاً لأمر

الثنتين بتركهما أحياناً وهذا بحسب ما رأته عائشة مما كان يفعله بمنزلها في نوبتها (وركعتين قبل الغداة) أي الصبح (رواه البخاري) . 21101 - (وعنها قالت: لم يكن النبي على شيء من النوافل أشد) خبر يكن، ويجوز خلاف ذلك، قاله في «فتح الإله» (تعاهداً) قال في «فتح الباري» : وفي رواية معاهدة والمعنى تفقداً، يقال تعاهده وتعهده واعتهده: أي تفقده وأحدث به وهو تمييز عامله أفعل التفضيل (منه على ركعتي الفجر متفق عليه) وأخرجه أبو داود والنسائي والترمذي في رواية لأبي داود من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله «لا تدعوا ركعتي الفجر ولو طردتكم الخيل» . 31102 - (وعنها عن النبي قال: ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها) أي من الجمادات ونحوها، وخير أفعل تفضيل إن قوبلت بما فيه خير كالذكر، وبمعنى أصل الفعل إن قوبلت بما لا خير فيه من أعراض الدنيا وزهرتها (رواه مسلم. وفي رواية لهما) أي ركعتا الفجر (أحب إليّ) ويلزم منه كونهما أحب إلى الله تعالى لأن لا يحب إلا ما أحبه مولاه (من الدنيا جميعاً) وفي النسائي «ركعتان قبل الفجر خير من الدنيا جميعاً» . 41103 - (وعن أبي عبد الله) ويقال أبو عبد الكريم ويقال أبو عبد الرحمن ويقال أبو

عبيد (بلال) بكسر الموحدة (ابن رباح) بفتح الراء الموحدة آخره مهملة الحبشي التيمي مولى أبي بكر الصديق وأمه حمامة رضي الله عنها مولاة لبني جمح (رضي الله عنه مؤذن رسول الله) أي أحد مؤذنيه وعدتهم ستأتي في كتاب الصوم، كان بلال قديم الإسلام والهجرة، شهد بدراً وأحداً والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله، وكان ممن يعذب في الله فيصبر على العذاب، وكان أمية بن خلف يعذبه ويتابع عليه العذاب فقدر الله أن بلالاً قتله ببدر، وكان بلال أول من أسلم أوّل النبوّة ومن أول من أظهر إسلامه وكانوا يطوفون به ويعذبونه وكان من مولدي مكة وقيل من مولد السراة، اشتراه أبو بكر بخمس أواقي ذهب وقيل سبع وقيل تسع وأعتقه لله وآخى رسول الله بينه وبين أبي عبيدة بن الجراح، وكان بلال يؤذن لرسول الله حياته سفراً وحضراً، وهو أول من أذن في الإسلام، ولما توفي رسول الله ذهب للشام للجهاد فأقام بها إلى أن مات وقيل أذن لأبي بكر مدته وأذن لعمر مرّة حين قدم الشام فلم يُرباك أكثر من ذلك اليوم وأذن في قدومه إلى المدينة لزيارة قبره طلب ذلك منه بعض الصحابة فأخذ ولم يتم، روى عنه جماعات من الصحابة منهم الصديق وعمر وعليّ. وكان عمر يقول: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا وفضائله مشهورة، توفي بدمشق سنة عشرين وقيل إحدى وعشرين وقيل ثمانية عشر وهو ابن أربع وستين سنة وقيل غير ذلك، ودفن بباب الصغير من دمشق وقبل غير ذلك. قال ابن السمعاني: والقول بأنه دفن بالمدينة غلط. والصحيح أنه بباب الصغير، انتهى ملخصاً من «التهذيب» للمصنف. روي له أربعة وأربعون حديثاً. وقال البرقي جاء عنه خمسة أحاديث، اتفق الشيخان على حديث منها وانفرد البخاري بحديثين ومسلم بحديث (إنه أتى رسول الله ليؤذنه) أي يعلمه (بصلاة الغداة) أي الصبح، وعند الطبراني في «معجمه الأوسط» عن بلال «أنه كان يقول عند إعلامه: السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته رحمك الله» وعنده في «معجمه الكبير» عن قتادة «أن عثمان كان إذا جاءه المؤذن يؤذنه بالصلاة قال مرحباً بالقائلين عدلاً وبالصلاة مرحباً وأهلاً» وقتادة لم يسمع من عثمان (فشغلت) بفتح حر في الفعل المعجمين وما وبالصلاة مرحباً وأهلاً» وقتادة لم يسمع من عثمان (فشغلت) بفتح حر في الفعل المعجمين وما بعدها والتاء للتأنيث ساكنة (عائشة) رضي الله عنها (بلالاً بأمر سألته عنه) فيه جواز حديث المرأة لعتيق أبيها وسؤالها إياه عما تحتاج إليه وطول الحديث معه وإن كان جاء في حاجة لزوجها وتعظيمه لحرمتها في عدم إنكاره عليها وإعلامها أنها شغلته

ما جاء بسببه وأن المصلين ينتظرون حضور رسول الله ليصلي بهم (حتى أصبح) أي دخل في الصبح (جداً) بكسر الجيم (فقام بلال فآذنه) بالمد: أي أعلمه (بالصلاة وتابع) بالمثناة فالموحدة بينهما ألف: أي وإلى وكرر (أذانه) أي إعلامه بأن أتبع بعضه بعضاً وذلك لما رأى من الإصباح (فلم يخرج رسول الله) أي إليه (فلما خرج) أي بعد ذلك (صلى بالناس) واعتذر إليه بلال (فأخبره) أن سبب تأخره بالأذان (أن عائشة شغلته بأمر سألته عنه حتى أصبح جداً وإنه) أي النبيّ (أبطأ عليه) أي على بلال (بالخروج) حتى تابع أذانه (فقال) وقوله (يعني النبي) من المصنف تعيين لمرجع الصمير الستكنّ في الفعل (إني كنت ركعت ركعتي الفجر) جوز ابن رسلان أن يريد بهما فرضه وأن يريد بهما سنته، ثم قال: ولعل الأخير أصوب. قلت: وهو الذي يدل له صنيع المؤلف (فقال يا رسول الله إنك أصبحت جداً) أي وذلك مقتض للاهتمام بأمر الفريضة وترك النافلة (قال) أي النبي له (لو أصبحت أكثر مما أصبحت) أي ولم أكن ركعتهما (لركعتهما وأحسنتهما) بالإتيان بالسنن والهيئات (وأجملتهما) بالآداب والتطوعات. وفيه أن من ترك فعل الصلاة أول وقتها لغير عذر شرعي بل لنحو بيع أو شراء أن يأتي بها فيه زائدة عما كان يصليها أوله من القراءة والتسبيح والدعاء والطمأنينة والخشوع ما بقي الوقت ويكون فيها خجلاً مستحيياً معترفاً بالتقصير لتأخير الصلاة عن أول وقتها وحرمانه فضيلته لذنب صدر منه ويتصدق ويعتق كما كان يفعل السلف. قال ابن رسلان: وهذا شأن ذوي القلوب اليقظة والناس اليوم عملهم بخلاف ذلك فإنهم يؤخرونها اشتغالاً بأمر دنياهم عن أول الوقت ثم يفعلونها آخره مقتصرين على الفرض دون السنة وينقصون عما كانوا يعتادون من القراءة إذا صلوها أوله ويتركون الأذكار والطمأنينة كما جاء في صلاة المنافق «ينقر فيها أربع نقرات لا يذكر الله إلا قليلاً» انتهى ملخصاً (رواه أبو داود) في الصلاة من «سننه» (بإسناد حسن) فرواه عن أحمد بن حنبل عن أبي المغيرة وهو عبد القدوس ابن الحجاج الحمصي الخولاني عن عبد الله بن العلاء عن أبي زياد عبيد الله بن زياد الكندي عن بلال.

197 ـــ باب تخفيف ركعتي الفجر

197 - باب تخفيف ركعتي الفجر أي قراءة وأركاناً بأن يقتصر من الوارد فيهما على المجزىء في كل منهما مسارعة لأداء الفرض (وبيان ما يقرأ فيهما، وبيان وقتهما) إعادة بيان لمزيد البيان. 11104 - (عن عائشة رضي الله عنها أن النبي كان يصلي ركعتين، خفيفتين) أي وذلك بتخفيفه أركانهما باقتصار على المجزىء منها، وهذا بيان مستند الأول، من الترجمة (بين النداء) أي الأذان (والإقامة من) سببية (صلاة الصبح) أي بسببها أو ابتدائية وهذا بيان لوقتها (متفق عليه. وفي رواية لهما) أي الشيخين من حديث عائشة بلفظ (يصلي ركعتي الفجر) أي السنة بدليل قوله (فيخففهما) لأنه كان شأنه إطالة ركعتي فرضه (حتى أقول) وفي البخاري ومسلم «حتى إني أقول» أي من شدة تخفيفهما (هل قرأ فيهما بأم القرآن) أي حتى أتردد في إتيانه بالفاتحة وليست شاكة في قراءته لها، بل إنه لما بالغ في تخفيفها جداً وعادته تطويل النفل جعلته مبالغة كأنه لم يقرأ، وسميت أمّ القرآن لاشتمالها على معاني القرآن: المبدأ: وهو الثناء على الله تعالى، والمعاش، وهو العبادة، والمعاد: وهو الجزاء (وفي رواية لمسلم) أي أنفرد بها عن البخاري من حديثها أيضاً (كان يصلي ركعتي الفجر إذا سمع الأذان) أي انفرد بها عن البخاري من حديثها أيضاً (كان يصلي ركعتي الفجر إذا سمع الأذان) أي بعد تمامه لأنه حال الأذان مشغول بإجابته (ويخففهما) مسارعة لأداء الفرض الذي كان يطيل قراءته فيه (وفي رواية) أي عنها (إذا طلع الفجر) أي بدل قوله إذا سمع الأذان والمآل واحد لأن وقت الأذان وقت طلوعه فأفادت هذه الرواية مبادرته بهما وإسراعه لأدائهما اعتناء بشأنهما.

21105 - (وعن حفصة رضي الله عنها أن رسول الله: كان إذا أذن المؤذن للصبح وبدأ الصبح) جملة حالية بتقدير قد، وهي لدفع توهم فعلهما عقب الأذان الأول المشروع قبل دخول وقته، والمراد من الصبح الفجر الصادق وهو الذي يطلع معترضاً في الأفق (صلى ركعتين خفيفتين، متفق عليه) . (وفي رواية لمسلم) أي من حديثهما (كان رسول الله إذا طلع الفجر) أي تحقق طلوع الفجر الصادق (لا يصلى) من النوافل (إلا ركعتين خفيفتين) وذلك ليتسع الوقت للفريضة. 31106 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي يصلي من الليل) أي فيه أو يتهجد بعضه، وفيه إيماء إلى أنه لم يقم طول الليل، وأن السنة نوم بعضه أداء لحق البدن والنفس وقيام بعضه أداء لحق الله تعالى (مثنى مثنى) بلا تنوين وتكريره للتأكيد ومنع صرفه للعدل والوصف. قال في «الكشاف» : لتكرر العدل أي ركعتين ركعتين ومن ثم كان الأفضل في صلاة الليل فعلها كذلك (ويوتر بركعة) في آخر جزء (من آخر الليل) فيه أن أقل الوتر ركعة وأنها مفصولة عما قبلها بالتسليم وبه قال الأئمة الثلاثة خلافاً لأبي حنيفة (ويصلي الركعتين) أي سنة الفجر (قبل صلاة الغداة) أي الصبح، ففيه أنها سنة قبلية (وكأن) بالهمز وتشديد النون (الأذان بأذنيه) أي لقرب صلاته من الأذان قال في «فتح الباري» : والمراد بها

هنا الإقامة. والمعنى أنه كان يسرع ركعتي الفجر إسراع من يسمع إقامة الصلاة خشية فوات أول الوقت (متفق عليه) أخرجه البخاري في الوتر ومسلم في الصلاة، ورواه أيضاً فيها الترمذي. وقال حسن صحيح، ورواه ابن ماجه مختصراً فقال «كان يصلي الركعتين قبل الغداة» كأن الأذان بإذنه وقال في موضع آخر منه «وكان يصلي من الليل مثنى مثنى ويوتر بركعة» . 41107 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله كان يقرأ) وفي رواية أبي داود عن ابن عباس أيضاً «أنه كثيراً ما كان يقرأ» (في ركعتي الفجر) وأبدل منهما بدل مفصل من مجمل على اعتبار سبق العطف على الإبدال وأعاد العامل فقال (في الأولى منهما) أي الركعتين (قولوا آمناً بالله وما أنزل إلينا الآية) بالنصب: أي أتم الآية وبالرفع: أي هي الآية (التي في) سورة (البقرة) واحترز بذلك عن الآية التي في سورة آل عمران وهي: {قل آمناً بالله وما أنزل إلينا} () الآية (وفي الآخرة منهما آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون) كذا في نسخ «الرياض» مثل ما في «صحيح مسلم» ، والمراد كما قال ابن رسلان في «شرح سنن أبي داود» أنه يبدأ في الركعة الأولى بقوله «قولوا آمناً بالله» وفي الثانية بقوله «آمناً» ويختم فيهما بقوله «ونحن له مسلمون» كذا قال في شرح حديث أبي داود ولفظه كلفظ هذه الرواية، وما حمله عليه تصحيف العبارة لأن آخر آية {آمناً بالله} التي في آل عمران كآخر آية {آمنا بالله} التي في البقرة، وهو قوله {ونحن له مسلمون} وأما {واشهد بأنا مسلمون} فهو آخر آية أخرى في آل عمران هي قوله: {تعالوا إلى كلمة} (آل عمران: 64) الآية الآتية في الرواية بعده، والذي يظهر لي أن مراده أنه كان يقرأ في الثانية منهما بقوله {آمنا بالله} الآية وبالآية الأخرى إلى آخرها {وأشهد بأنا مسلمون} (آل عمران: 52) فذكر أول إحداهما وآخر الثانية،

ويكون اقتصار الرواية الثانية الآتية على الآية الثانية إما نسياناف من الراوي أو غفلة من المخبر له، والله أعلم. 51108 ـــ...................... (وفي رواية) عن ابن عباس أيضاً (وفي الآخرة التي في آل عمران: تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) أي الآية بجملتها، فذكر في هذه الرواية أولها وفي الرواية الأولى آخرها (رواهما مسلم) من طريقين عن ابن عباس وهما عند أبي داود أيضاً، وعنده أيضاً عن أبي هريرة «أنه سمع النبيّ يقرأ في الركعة الأولى: {قولوا آمناً بالله وما أنزل إلينا} الآية التي في البقرة وفي الآخرة {قل آمناً بالله وما أنزل إلينا} إلى آخر الآية كما صرح به ابن رسلان وبهذه الآية {ربنا آمناً بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين} (آل عمران: 53) أو {إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً ولا تسأل عن أصحاب الجحيم} (البقرة: 119) . 61109 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رمقت النبي شهراً) قال في «المصباح» : رمقته بعيني من باب قتل أطلت النظر له اهـ والمراد به التفحص والتتبع (يقرأ في الركعتين

قبل) فرض (الفجر: قل يا أيها الكافرون) أي في الأولى (وقل هو الله أحد) أي في الثانية (رواه الترمذي وقال حديث حسن) قال الأصحاب: فيسن الجمع بين ذلك كله بأن يأتي في الأولى بآية البقرة وبقل يا أيها الكافرون، وفي الثانية بآية البقرة إنا أرسلناك وآي آل عمران وقل هو الله أحد، ولا ينافي ذلك تخفيفهما لأنه نسبي وهذا تخفيف بالنسبة إلى الصلاة المطولة، والله أعلم. 198 - باب استحباب الاضطجاع بعد ركعتي الفجر أي في المسجد وفي البيت كما يومىء إليه عموم حذفه التقييد بذلك (على جنبه الأيمن) ليتذكر بذلك ضجعته في القبر فيحمله ذلك على الخشوع الذي هو لب العبادة، فإن تعذر الأيمن فالأيسر لأن الميسور لا يسقط بالمعسور. قال في «فتح الباري» : ويحتمل أنه يومىء بالاضطجاع، ولم أقف فيه على نقل إلا أن ابن حزم قال: يومىء ولا يضطجع على الأيسر أصلاً وحمل الأمر بالأيمن على غير الندب اهـ (والحث عليه) أي على الاضطجاع المذكور (سواء كان تهجد بالليل أم لا) وعليه فقيل فائدتها الفصل بين ركعتي الفجر وصلاة الصبح، قال في «الفتح» : وعليه فلا يتقيد بالأيمن، قال الشافعي: تتأدى السنة بكل ما يحصل به الفصل من مشي وكلام وغيره، وقال: المختار أنها سنة لظاهر حديث أبي هريرة، وقد قال أبو هريرة الراوي: إن الفصل بالمشي إلى المسجد لا يكفي، وقال ابن

العربي: لا يستحب إلا للمتهجد، قال في «فتح الباري» : ويشهد له ما أخرجه عبد الرزاق أن عائشة كانت تقول «إن النبي لم يكن يضطجع لسنته، ولكنه كان يدأب ليلته فيستريح» وفي إسناده راو لم يسم، وعلى هذا ففائدتها الراحة، وقيل فائدتها الفصل بين الفرض والسنة، ومقابل استحبابها قول مالك وجماعة من الصحابة ومن بعدهم إنها بدعة، وأيده القاضي عياض وغلطه فيه المصنف وقال: الصواب استحبابه، قال في «فتح الباري» : وهو محمول على أنهم لم يبلغهم الأمر بفعله. على أن كلام ابن مسعود يدل على أنه أنكر تحتمها، وما حكى عن ابن عمر من أنه بدعة قد شذ بذلك اهـ. وقول ابن حزم إنها واجبة وإنها شرط لصحة صلاة الصبح، قال في «فتح الباري» : رد عليه العلماء بعده حتى طعن ابن تيمية ومن تبعه في صحة الحديث لتفرد عبد الرحمن بن زياد به وفي حفظه مقال. والحق أنه تقوم به الحجة ومقابل استحبابه في كل من البيت والمسجد قول بعض السلف إنه مخصوص بالبيت دون المسجد، قال في «فتح الباري» : وهو محكي عن ابن عمر، وقواه بعض شيوخنا بأنه لم ينقل عن النبي أنه فعله في المسجد، وصح عن ابن عمر «أنه كان يحصب من يفعله في المسجد» أخرجه ابن أبي شيبة اهـ. 11110 - (عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن) وذلك لشرفه ولأنها هيئة الإنسان في القبر فيتذكر بذلك فتحمله على الخشوع (رواه البخاري) قال الحافظ في «الفتح» : قيل الحكمة في ذلك أن القلب في جهة اليسار، فلو اضطجع عليه لاستغرق نوماً لكونه أبلغ في الراحة، بخلاف اليمين فيكون القلب معلقاً فلا يستغرق. وفي أن الاضطجاع إنما يطلب إذا كان على الشق الأيمن اهـ. 21111 - (وعنها قالت: كان رسول الله يصلي فيما) أي في الوقت الذي (بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر) أي وقت صلاتها: أي ما بين صلاة العشاء وطلوع

الفجر (إحدى عشرة ركعة) وجاء عنها في رواية أخرى «ما كان يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة» (يسلم بين كل ركعتين) جملة حالية من ضمير يصلي أو مستأنفة (ويوتر بواحدة، فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر) أي من أذان صلاته (وتبين) أي ظهر (له الفجر) الصادق جملة معطوفة على الفعل قبلها، واحترز به عن الأذان الأول للفجر (وجاءه المؤذن) ليؤذنه بالصلاة ودخول وقتها (قام) فإن كان به مقتضي غسل اغتسل وإلا توضأ (فركع ركعتين خفيفتين) أي بالاقتصار على أقل كمالاتهما وتخفيفهما مسارعة لأداء الفرض بعدهما (ثم اضطجع) أي بعد فعلهما (على شقه الأيمن) واستمر كذلك (حتى يأتيه المؤذن للإقامة) أي معلماً له باجتماع الناس للصلاة (رواه مسلم) . (قولها) أي عائشة (يسلم بين كل ركعتين هكذا هو في مسلم) أي فيوهم أنه يسلم بعد كل ركعة ويصدق ذلك على ما عدا الأخيرة وليس دلك مرادها قطعاً (ومعناه) أي وإنما معنى قولها المذكور (بعد كل ركعتين) كما جاء ذلك من فعله وقوله، كقوله «صلاة الليل مثنى مثنى» . 3 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع) أي عقب فعلهما (على يمينه) أي شقة الأيمن (رواه أبو داود والترمذي بأسانيد صحيحة) فرواه أبو داود عن مسدد وأبي كامل الجحدري وعبيد الله بن عمر بن عبد الواحد بن زياد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة: ورواه الترمذي عن بشر بن معاذ الغفاري عن عبد الواحد بسنده المذكور، وحينئذ فمدار الحديث عندهما على عبد الواحد بسنده المذكور فليس له إلا سند واحد، ففي قوله

199 ـــ باب سنة الظهر قبلية وبعدية

بأسانيد ما لا يخفي (قال الترمذي حديث حسن صحيح) غريب. 199 - باب سنة الظهر قبلية وبعدية 11113 - (عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: صليت مع رسول الله ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها. متفق عليه) وتقدم مشروحاً في باب فضل السنن الرواتب، وتقدم أن من السنن المؤكدة ركعتين قبليتين للجمعة ومثلهما بعدها. 21114 - (وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي كان لا يدع) أي لا يترك (أربعاً قبل الظهر) مقتضاه مداومته عليها أبداً فتكون مؤكدة وسبق أن المؤكد ثنتان، وكأنه لما ورد مما يدل على تسهيله في اثنتين منها (رواه البخاري) وسبق مشروحاً في باب تأكيد ركعتي الفجر، وما فعله المصنف فيه تقطيع الحديث والاقتصار على بعض وحذف بعض والصحيح جواز ذلك بشرط أن لا يكون للمذكور تعلق بالمحذوف من كونه غاية له أو شرطاً أو مستثنى منه.

31115 - (وعنها قالت) وفي نسخة رسول الله (كان النبي يصلي في بيتي) إضافة البيت إليها لكونه سكنها وإلا فهو ملك لرسول الله كسائر مساكن أزواجه (قبل الظهر أربعاً ثم يخرج) الظاهر أن التراخي المدلول عليه بثم كان طلب الاجتماع المصلين وتكاثرهم (فيصلي بالناس) أي المكتوبة (ثم يدخل) والإتيان بثم لتراخي الدخول بما قد يشتغل به بعد أدائها من تبليغ شرائع وقضاء بين متخاصمين ونحو ذلك (فيصلي ركعتين) أي عقب الدخول كما تومىء إليه الفاء (وكان يصلي بالناس المغرب ثم يدخل) أي بعد فعلها، والإتيان بثم لذلك (فيصلي ركعتين ويصلي بالناس العشاء ويدخل بيتي فيصلي ركعتين) الإتيان بالواو في قولها (ويدخل) يحتمل أن يكون للإيماء إلى عدم تراخي دخوله عن صلاتها لأنه كان يكره الحديث بعدها إلا في خير، ويحتمل أنها مرادة بها وخالفت بين الحرقين تفننا في التعبير (رواه مسلم) . 41116 - (وعن أم حبيبة) بفتح المهملة وكسر الموحدة الأولى وهي أم المؤمنين سبقت ترجمتها (رضي الله عنها) قريباً (قالت: قال رسول الله: من حافظ) التعبير بصيغة المبالغة للمبالغة: أي من اهتم بالحفظ وبالغ فيه (على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله) أي بفعل ذلك، وفي رواية «حرم الله لحمه» (على النار) أي كونه فيها خالداً مؤبداً كالكافر. ففيه بشارة للمحافظ عليها بالموت على الإسلام فلا ينافي ما تقرر من تعذيب بعض عصاة الموحدين لكن يشكل على هذا التأويل رواية «لم تمسه النار» إلا أن تؤول كذلك وفيه بعد وأجراه راويه على ظاهره، ففي رواية لأبي داود عن حسان بن عطية قال:

لما نزل بعنبسة الموت جعل يتفرز فقيل له في ذلك فقال: أما إني سمعت أم حبيبة زوج النبي تحدث عن النبي «أنه من ركع أربع ركعات قبل الظهر وأربعاً بعدها حرم الله لحمه على النار فما تركتهن منذ سمعتهن» وفي رواية له عن محمد بن أبي سفيان قال «إنه لما نزل به الموت أخذه أمر شديد فقال: حدثتني أختي أم حبيبة قالت: قال رسول الله: من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار» (رواه أبو داود والترمذي) والنسائي (قال) أي الترمذي (حديث حسن صحيح) . 51117 - (وعن عبد الله بن السائب) بالمهملة وبعد الألف همزة فموحدة قال المزي في «الأطراف» : واسمه صيفي بن عائذ بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وكنيته أبو عبد الرحمن المخزومي قارىء أهل مكة (رضي الله عنه) قال الذهبي في «الكاشف» : له صحبة قرأ على أبيّ ابن كعب، روى عنه مجاهد وعطاء. توفي في قتل ابن الزبير. خرج عنه مسلم والأربعة اهـ. قلت: روي له عن النبيّ سبعة أحاديث أخرج له مسلم فيها حديثاً واحداً ولم يخرج له البخاري، كدا في «مختصر التلقيح» لابن الجوزي (أن رسول الله كان يصلي أربعاً بعد أن تزول الشمس) وبه يدخل وقت الظهر (قبل الظهر) أي قبل فعل فرضها (وقال إنها) أي الساعة التي بعد الزوال (ساعة تفتح) بالبناء للمفعول (فيها أبواب السماء) أي لصعود الأعمال من الأرض كما يومىء إليه قوله (فأحب أن يصعد لي) أي يرتفع لي (فيها عمل صالح) وخير الأعمال الصلاة كما جاء كذلك في قوله «واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة» ويحتمل أن فتحها لهبوط الفيوض على أهل الأرض فتعرّض لحوزها بأعمال البر المرتبة تلك لفيوض عليها ترتب المسبب على السبب بالحكمة الإلهية (رواه الترمذي) والنسائي أيضاً (وقال) أي الترمذي (حديث حسن) في إيراد هذا الحديث في هذا الباب ما لا يخفى لأن

200 ـــ باب سنة العصر

الذي فيه سنة الزوال وهي غير سنة الظهر. قال في «فتح الإله» : أخذ أئمتنا من الحديث أنه يسن أربع ركعات عقب الزوال وأقلها ركعتان، وروى خبر «راقبوا زوال الشمس فإذا زالت فصلوا ركعتين، فلكم أجر بعدد كل كافر وكافرة» وكأن وجه تخصيص الكفار بذلك وقوع هذه الصلاة عقب تسجير النار لهم اهـ. إلا أن يقال هي في وقت الظهر لدخوله بالزوال فعدت من سننه وإن كانت شكراً لله تعالى على نعمة تحوّل الشمس من كبد السماء إلى جهة المغرب. 61118 - (وعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي كان إذا لم يصل أربعاً قبل الظهر صلاهن بعدها) فيه مزيد الاهتمام منه بها، وقد جاء أنه بعد الظهر أربعاً أيضاً، وأمر بالمحافظة عليها في حديث أم حبيبة، فمن ثم قال أصحابنا: إن من الرواتب صلاة أربع قبل الظهر وأربع بعدها. وفي كلام عائشة إيماء إلى العناية بالسنة القبلية وتقديمها على المكتوبة، فإن أخرت عنها تدوركت فيما بقي من الوقت أداء وبعده قضاء (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) ومما جاء في فضل الأربع قبل الظهر حديث ابن عمر قال: قال رسول الله «رحم الله امرأ صلى قبل الظهر أربعاً» رواه أحمد والترمذي، وحسنه أبو داود، وصححه ابن خزيمة وحبان وإن أعله ابن القطان. قلت: ومن مظاهر الرحمة المرتبة عليها ما رتب عليها في حديث أم حبيبة السابق في الباب من كونه سبباً للخلوص من الخولد في النار المؤذن بالموت على الإسلام، حققه الله لنا بمنه وكرمه. 200 - باب سنة العصر وليس فيه إلا قبلية غير مؤكدة. 11119 - (عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كان النبي يصلي قبل العصر) أي

قبل صلاته (أربع ركعات) مفعول مطلق نحو قوله تعالى: {فاجلدوهم ثمانين جلدة} (الور: 4) (يفصل) جملة حالية من فاعل يصلي أو خبر بعد خبر أو مستأنفة (بينهن) أي بعد الركعتين (بالتسليم) وهو التحلل من الصلاة (على الملائكة المقربين ومن تبعهم) أي في توحيد الله سبحانه وتعالى (من المسلمين والمؤمنين) من عطف المتساويين، إذ الإسلام والإيمان متحدان ما صدقا وإن اختلفا مفهوماً، وما فعله من الفصل بالتسليم هو الأفضل لما فيه من زيادة الأعمال والأذكار، ويجوز صلاتهن بتسليم واحد، وكذا سنة الظهر قبلية وبعدية وسنة الزوال (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) . 21120 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: رحم الله امرأ) أي أحسن وأنعم، أو أراد ذلك لشخص (صلى قبل العصر أربعاً) عمومه متناول لفعلها موصولة ومفصولة، فقصر ابن رسلان لها على الموصولة أخذاً من حديث عليّ قبله غير ظاهر وجملة رحم الله خبرية لفظاً دعائية معنى نحو غفر الله لك (روه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن) فيه إيماء إلى التبشير لفاعل ذلك بالموت على الإسلام الذي هو أعظم الرحمات وأسنى العطيات لابتناء نعيم الآخرة عليه. 31121 - (وعن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: أن النبي كان يصلي قبل العصر ركعتين) لا مخالفة بينه وبين حديثه السابق، إما لأن مفهوم العدد غير حجة أو أنه كان يلازم أولاً ركعتين ثم زاد الآخرتين أو بالعكس، أو ترك الأخيرتين لأمر أهم أو لغير ذلك (روه أبو

201 ـــ باب سنة المغرب بعدها وقبلها

داود بإسناد صحيح) رواه عن حفص بن عمر الحوصي شيخ البخاري عن أبي إسحاق السبيعي عن عاصم بن ضمرة عن عليّ. قال ابن حجر الهيثمي في «فتح الإله» : الحديث الأول ظاهر في داوم فعله للأربع مبنياً على المتعارف في كان، والثاني ظاهر في ركعتين منهن، وحينئذ فقول أصحابنا إنهن غير مؤكدات فيه نظر بالنسبة لهذين الخبرين المقتضي أولهما لتأكيد الأربع والثاني لتأكيد تنتين منها، وبه قال بعض أصحابنا اهـ. قال ابن رسلان: من قال إنها مؤكدة استدل بهذا الحديث. 201 - باب سنة المغرب بعدها وقبلها ذكر الظرفين هنا دون الظهر للاهتمام بالقبلية للخلاف بين الأصحاب في استحبابها، ولا كذلك سنة الظهر القبلية والبعدية (تقدم في هذه الأبواب حديث ابن عمر) وذكر في باب فضل السنن الرواتي (وحديث عائشة) المذكور في باب سنة الظهر (وهما صحيحان) الأول متفق عليه والثاني لمسلم (أن النبيّ كان يصلي بعد المغرب ركعتين) . 11122 - (وعن عبد الله بن مغفل) بالغين المعجمة والفاء بصيغة المفعول من التغفيل (رضي الله عنه عن النبيّ قال: صلوا قبل المغرب) أي قبل صلاتها أي ركعتين كما في رواية صحيحة، وكرر ذلك ثلاثاً كما يدل عليه السياق حضاً وتحريضاً على الاهتمام بذلك (ثم قال) دفعاً لما يتوهم من الأمر من الوجوب سيما مع التكرار (في الثالثة لمن شاء) وفي

الصحيح زيادة كراهية أن يتخذها الناس سنة: أي عزيمة لازمة متمسكين بقوله: صلوا وأصل الأمر للوجوب فتعليقه بالمشيئة لدفع ذلك كما تقدم (رواه البخاري) في «المشكاة» أنه متفق عليه. 21123 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: لقد رأيت) أي أبصرت (كبار) بكسر الكاف وتخفيف الموحدة جمع كبير (أصحاب النبي يبتدرون) جملة حالية من مفعول رأيت البصرية، ويجوز كونها علمية فتكون في محل المفعول الثاني: أي يستبقونه (السواري) جمع سارية: هي الأسطوانة كجارية وجواري: أي يستبقون أساطين المسجد النبوي، وكانت من جذوع النخل على عهده إلى عهد عثمان رضي الله عنه (عند المغرب. رواه البخاري) بهذا اللفظ في باب الصلاة إلى الأسطوانة وهو ثاني ثلاثياته في «صحيحه» ، ورواه في الأذان من «صحيحه» بلفظ «يبتدرون السواري حتى يخرج النبيّ وهي كذلك يصلون ركعتين قبل المغرب ولم يكن بين الإقامة والأذان شيء» وهذه الزيادة تسفر عن وجه ذكر هذا الحديث في باب سنة المغرب. 31124 - (وعن أنس) الأظهر وعنه كما في نسخة صحيحة (قال: كنا) أي معشر الصحابة (نصلى على عهد) أي زمن (رسول الله ركعتين بعد غروب الشمس) وتكامله (قبل المغرب) أي قبل صلاته (فقيل) لم أقف على تعيين السائل لأنس (أكان رسول الله صلاها) أي فيستدل لاستحبابها بفعله قال (كان يرانا) أي يبصرنا أو يعلمنا (نصليها فلم يأمرنا) أي بها على الانفراد وإلا فهي داخلة في عموم قوله «بين كل أذانين صلاة» (ولم ينهنا) أي وتقريره على العبادة من دلائل ندبها (رواه مسلم) واللفظ المذكور موقوف على

102 ـــ باب سنة العشاء بعدها وقبلها

أنس لفظاً مرفوع حكماً إجماعاً لما فيه من التصريح باطلاع النبيّ على ذلك، الخلاف بين علماء الأثر فيما لم يصرح فيه باطلاعه، قاله العراقي في «شرح ألفيته» . 41125 - (وعنه قال: كنا بالمدينة فإذا أذن المؤذن) أي أتم الأذان (لصلاة المغرب ابتدروا السواري) أي استبقوا إليها (فركعوا ركعتين قبل) فعل (فرضها) وقوله (حتى) غاية لمقدر: أي وأكثروا من ذلك حتى (إن) بكسر الهمزة ويجوز فتحها على تقدير زيادة اللام (الرجل الغريب ليدخل المسجد) أي مسجد المدينة فأل فيه للعهد فيحسب أن الصلاة أي المغرب (قد صليت) أي شرع فيها جماعة وأن القوم واقفون لفعلها (من) تعليلية (كثرة) بفتح الكاف والكسر ردىء وقيل خطأ (من يصليهما. رواه مسلم) في سياق المصنف ما يشعر بأن البعدية مؤكدة دون القبلية، وذلك لأنه بدأ بها وذكر ما ورد فيها من الخبرين الصحيحين المرفوعين الناصين على فعله لها. 102 - باب سنة العشاء بعدها وقبلها لا يظهر لذكر الطرفين هنا دون الظهر وجه (فيه) أي الباب (حديث ابن عمر) المتفق على صحته (السابق) في باب فضل الرواتب، وأبدل منه قوله (صليت مع النبيّ ركعتين بعد العشاء) وهذا دليل صدر الترجمة (و) دليل عجزها (حديث عبد الله بن مغفل

السابق) في الباب قبله وأبدل منه أو عطف عليه عطف بيان قوله (بين كل أذانين صلاة) وعكس المصنف الترتيب الطبيعي، فذكر دليل سنّ البعدية قبل دليل سن القبلية لتأكيد البعدية دون القبلية، وذلك لأن الأول ثابت بفعله والثاني بقوله، والفعل عندنا أقوى دلالة من القول (متفق عليه كما سبق) الذي سبق له في حديث ابن مغفل عند ذكره أنه للبخاري ولم يذكر ثمة أنه عند مسلم، وقد نبهنا ثمة على أنه في «المشكاة» عندهما، وحينئذ فكأن ما وقع له سابقاً من سق القلم عن رقم متفق عليه إلى رقم رواه البخاري، وأحال هنا على ما ظن أنه أورده ثمة من وصف الحديث بكونه متفقاً عليه بقوله هنا ما ذكر. 203 - باب سنة الجمعة اعلم أن الجمعة يسن لها ما يسن للظهر قبلية وبعدية متأكدة وغير متأكدة. (فيه) أي الباب (حديث ابن عمر السابق: أنه صلى مع النبي ركعتين بعد الجمعة) حكى القطعة هنا بالمعنى، وفي الباب قبله باللفظ تفنناً في التعبير وإعلاماً بجواز كل من ذينك باللفظ لكونه الأصل، وبالمعنى إذا صدر من عالم بمدلولات الألفاظ ومواقعها لأداء المعنى المراد. وقوله أنه بفتح الهمزة وهي مع مدخولها بدل من حديث بدل بعض من كل (متفق عليه) . 11126 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً) صرف الأمر عن الوجوب الأحاديث الصريحة في نفي وجوب ما زاد

204 ـــ باب استحباب جعل النوافل

على المكتوبات الخمس (رواه مسلم) زاد في رواية «فإن عجل بك شيء فصل ركعتين في المسجد وركعتين إذا رجعت» والحديث أخرجه أبو داود والترمذي أيضاً. 21127 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي كان لا يصلي بعد الجمعة) أي شيئاً من رواتبها (حتى ينصرف) أي من المسجد ءلى بيته (فيصلي ركعتين في بيته رواه مسلم) وأخرج الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي واللفظ لأبي داود عن نافع «أن ابن عمر رآى رجلاً يصلي ركعتين في المسجد في مقامه فدفعه وقال: أتصلي الجمعة أربعاً؟ وكان يصلي يوم الجمعة ركعتين في بيته ويقول: هكذا فعل رسول الله» وأخرج أبو داود والترمذي عن عطاء قال «كان ابن عمر إذا صلى الجمعة بمكة تقدم فصلى ركعتين ثم يتقدم فيصلي أربعاً، فإذا كان بالمدينة صلى الجمعة ثم رجع إلى بيته فصلى ركعتين ولم يصل في المسجد، فقيل له، فقال: كان النبي يفعله» . 204 - باب استحباب جعل النوافل أي من الصلاة بقرينة المقام (في البيت) لكونه أبعد عن الرياء وإخراج المنزل عن كونه شبيهاً بالقبر ولعود البركة عليه وعلى أهله (سواء الراتبة وغيرها) ما لم يخش بالتأخير نحو فوات لها (والأمر) معطوف على استحباب، وهو أمر ندب فهو من عطف الرديف (بالتحول للنافلة من موضع) فعل (الفريضة) إلى موضع آخر ليتميز بذلك الفرض عن النفل، ولتشهد له المواضع بالطاعة (أو الفصل) معطوف على التحول (بينهما بكلام) . 11128 - (عن زيد بن ثابت) بالمثلثة فالموحدة فالفوقية بن الضحاك بن زيد بن لوذان بفتح اللام وإسكان الواو وبذال معجمة، ابن عمرو بن عوف بن غنم بن مالك بن النجار

الأنصاري النجاري المدني الفرضي الكاتب كاتب الوحي وكاتب المصحف (رضي الله عنه) كان عمره حين قدم رسول الله المدينة إحدى عشرة سنة، وحفظ قبل قدوم النبيّ المدينة مهاجراً ست عشرة سورة، وقتل أبوه ولزيد ست سنين، واستصغره يوم بدر فرده، وشهد أحداً، وقيل لم يشهدها، وشهد الخندق وما بعدها من المشاهد مع رسول الله، وأعطاه النبيّ يوم تبوك راية بني النجار وقال: القرآن مقدم وزيد أكثر أخذاً للقرآن، وكان يكتب الوحي لرسول الله ويكتب له المراسلات إلى الناس، وكتب لأبي بكر وعمر في خلافتهما، وكان أحد الثلاثة الذين جمعوا المصحف، وكان أمر بذلك أبو بكر وعمر، وكان كل من عمر وعثمان يستخلفه إذا حج، ورمى يوم اليمامة بسهم فلم يضره، وولى قسم غنائم اليرموك. قال ابن أبي داود: وكان زيد أعلم الصحابة بالفرائض لحديث «أفرضكم زيد» قال: وكان من الراسخين في العلم، وكان على بيت المال لعثمان، وأحواله كثيرة مشهورة. روي له عن رسول الله اثنان وتسعون حديثاً، اتفقا منها على خمسة، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بحديث. روى عنه جماعات من الصحابة منهم ابن عمرو وابن عباس وأنس وأبو هريرة، وخلائق من كبار التابعين منهم سعيد بن المسيب وسليمان وعطاء بن يسار وآخرون، توفي بالمدينة سنة أربع وخمسين، وقيل ست وخمسين، وقيل أربعين، وقيل غير ذلك. روى البخاري في «تاريخه» بإسناده الصحيح عن أبي عمار قال: لما مات زيد بن ثابت جلسنا إلى ابن عباس فقال: هذا ذهاب العلماء، دفن اليوم علم كذا وكذا، هكذا في «التهذيب» للمصنف بنوع تلخيص، وقد حوى اسمه لطائف في الفرائض نظمها الدميري فقال في كتابه «رموز الكنوز» : لطيفة قواعد الوراثة مرجعها للأحرف الثلاثة فالزاي للأصول والنسوان واليا لأهل الفرض والذكران والدال أسباب ورتبة العدد هبادبز أصحاب فرض بالمدد (أن النبيّ قال: صلوا أيها الناس) الأمر متوجه للذكور والإناث، ففيه تغليب لهم

عليهن لشرفهم في الإتيان بواو جماعة الذكور (في بيوتكم فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) ففعلها في المساجد أفضل للذكور، أما النساء فلا استثناء بالنسبة إليهن، وصلاة النافلة ببيت الإنسان أفضل من فعلها في جوف الكعبة، وإن قيل باختصاص مضاعفة الأعمال بها وذلك لأن في الاتباع من الفضل ما يربو على ذلك (متفق عليه) اقتصر السيوطي في «الجامع الصغير» على رمز البخاري، وكأنه لكون اللفظ له، والمصنف عزاه لهما لاتفاقهما على معناه والله أعلم. 21129 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: اجعلوا من صلاتكم) أي بعضها وهو النفل (في بيوتكم) بكسر الموحدة وضمها وذلك لتعود البركة على المنزل ومن فيه، ولما أشار إليه بقوله (ولا تتخذوها قبوراً) أي كالقبور في عدم من عمل بها شيئاً من عمل البرّ، ففيه تشبيه بليغ (متفق عليه) ورواه الترمذي والنسائي بلفظ «صلوا في بيوتكم ولا تتركوا النوافل فيها» ورواه أبو يعلى والضياء المقدسي من حديث الحسن بن علي بلفظ «صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً» كذا في «الجامع الصغير» . 31130 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إذا قضى) أي أدى (أحدكم صلاته) أي المفروضة (في المسجد فليجعل لبيته نصيباً) التنوين فيه إن كان للتقليل

فلنقص مرتبة النفل عن الفرض، وإن كان للتعظيم ففيه إيماء إلى طلب الإكثار من النفل (من صلاته) أي وذلك النفل، وعلل ذلك بقوله على سبيل الاستئناف البياني بقوله (فإن الله جاعل) عدل عن المضارع إليه ليدل على الدوام والاستمرار (في بيته من) سببية (صلاته خيراً) أي عظيماً كا يومىء إليه التنوين بدليل السياق (رواه مسلم) . 41131 - (وعن عمرو بن عطاء) بن أبي الخوار بضم المعجمة. قال في «الكاشف» : هو صدوق خرّج له مسلم وأبو داود (أن نافع بن جبير) بضم الجيم وفتح الموحدة وسكون التحتية وهو ابن مطعم، قال في «الكاشف» : هو شريف مفت، توفي سنة تسع وتسعين خرّج عنه الستة (أرسله إلى السائب بن يزيد) بفتح التحتية منقول من مضارع الزيادة (ابن أخت نمر) بفتح النون وكسر الميم وبعدها راء الكندي الصحابي توفي (رضي الله عنه) سنة إحدى وتسعين على الصحيح، وقيل سنة ست وثمانين، خرّج عنه الجميع. وفي «التهذيب» للمصنف: هو ابن أخت نمر لا يعرف إلا بذلك، ويقال له أيضاً الأسدي، ويقال الليثي، ويقال الهذلي، وأبوه صحابي، وله حلف في قريش في عبد شمس. ولد السائب سنة ثلاث من الهجرة. روى له عن رسول الله خمسة أحاديث، اتفق الشيخان على واحد منها وانفرد البخاري بأربعة اهـ. روى عن عمر وعنه ابنه عبد الله والزهري ويحيى بن سعيد (يسأله) الضمير المستكن لعمرو والبارز للسائب ويصح عود المستكن لنافع، ويراد منه يسأله بواسطة عمرو (عن شيء رآه منه معاوية) أي ابن أبي سفيان (في الصلاة) أي طلب منه تبيين ذلك الشيء وتعيينه (فقال: نعم صليت معه الجمعة في المقصورة) قال في «المصباح» : مقصورة الدار حجرتها وكذا مقصورة المسجد اهـ. قال المصنف: فيه دليل على جواز اتخاذها في

205 ـــ باب الحث على صلاة الوتر

المسجد إذا رآها ولي الأمر مصلحة، قالوا: وأول من عملها معاوية بن أبي سفيان حين ضربه الخارجي. قال القاضي: واختلفوا في المقصورة فأجازها كثير من السلف وصلوا فيها منهم الحسن والقاسم بن محمد وسالم وغيرهم، وكرهها ابن عمر والشعبي وأحمد وإسحاق وكان ابن عمر إذا حضرت الصلاة وهو في المقصورة خرج منها إلى المسجد (فلما سلم الإمام) أي وسلمت معه (قمت في مقامي) بفتح الميم اسم مكان (فصليت) أي الراتبة (فلما دخل) أي منزله (أرسل إليّ) فيه لزوم الأدب مع أهل الفضل وفيه حسن الإنكار، قال الشافعي: من وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه، ومن وعظه جهراً فقد فضحه وشانه (فقال لا تعد) أي ندباً (لما فعلت) من وصل النافلة بالمكتوبة ثم قال على سبيل الاستئناف البياني ما هو كالدليل لما ذكره (إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة) وقوله (حتى تتكلم أو تخرج) غاية لمقدر: أي واستمر على ترك التنفل إلى أحد هذين، إما الكلام بغير ذكر أو مفارقة محل فعل الفرض، ويصح جعله غاية لما قبله بأن يراد من الوصل فعل الثانية عقيب الأولى (فإن رسول الله أمرنا بذلك) ثم أبدل من المجرور قوله (أن لا نوصل صلاة بصلاة حتى نتكلم أو نخرج) أي من المسجد إلى المنزل وهو أفضل أماكن فعل النفل كما تقدم، أو من محل الفرض الخ، فيحصل الفصل بمفارقة محل فعل الفريضة (رواه مسلم) . 205 - باب الحث على صلاة الوتر بكسر الواو لغة الحجاز وتميم وتفتح في لغة غيرهم، ووقته ما بين فعل فرض العشاء وطلوع الفجر الصادق، وأقله ركعة، وأكمله على الصحيح إحدى عشر ركعة (وبيان أنه سنة متوكدة) أتى به من باب التفعل إيماء إلى مبالغة تأكده، كيف وقد قيل بوجوده (وبيان وقته) الذي ينبغي فعله فيه اتباعاً مؤكداً.

11132 - (عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: قال: الوتر) أي صلاته (ليس بحتم) أي فرض (كصلاة المكتوبة) في كونها حتماً مفروضاً بل هي سنة، وفي الصحيح: لما سأله عن الصلوات المفروضات فقال خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل عليّ غيرها؟ قال لا إلا أن تطوّع. الحديث (ولكن سن) بفتح المهملة وتشديد النون (رسول الله) إن كان سن ماضياً فالعائد محذوف، وإن كان مصدراً فهي بمعنى المفعول مضاف لمرفوعه بعد تحويل إسناده عنه إلى الضمير، ثم بين ما استند إليه في ذلك فقال (قال إن الله وتر) أي واحد ذاتاً وصفة وفعلاً (يحب الوتر) ومن ثمة كان كل من مرات الطواف والسعي والرمي وتسبيحات الصلاة وصلاة الوتر وغيرها كذلك (فأوتروا يا أهل القرآن) قال الخطابي: تخصيصه أهل القرآن بالأمر به يدل على عدم وجوبه إذ لو كان واجباً لعمهم وغيرهم، وأهل القرآن في العرف هم القراء والحفاظ دون العوام (رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن) وقدم هذا الحديث مع تأخره رتبة عما بعده من أحاديث الباب لتعلقه بصدر الترجمة من الحث وتأكيد الندب، للرد على القائلين بوجوبه. 21133 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: من) للتبعيض (كل الليل قد أوتر رسول الله) أي صلاة في جميع أبعاضه في أوقات متعددة كما أشارت إلى ذلك بقولها على سبيل البدل بإعادة العامل (من أول الليل ومن أوسطه ومن آخره) مرادها جميع أجزائه لا خصوص الجزء الأول والجزء الأوسط مثلاً دون ما بينهما، كما يدل على إرادة ذلك قولها

أول الحديث من كل الليل، ويجوز كون من ابتدائية، وكونها ظرفية. وجوَّز في من الثانية كونها بيانية لمعنى البعضية، أو لكل بناء على أنها ابتدائية (وانتهى وتره) أي فله الوتر (إلى السحر) فكان يفعله فيه غالباً كما يعلم من روايات أخر، وإنما حملناه على هذا ليفيد فائدة لا تعلم من سابقه وهو قوله وآخره (متفق عليه) . 31134 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) فيسن جعله الأقل منه والأكمل بعد صلاة الليل التي يريد فعلها فيه من راتبة أو تراويح أو تهجد أو نفل مطلق، وكأن حكمة ذلك أن الوتر أفضل من هذه الصلوات الليلية، فندب وقوعه عقبها ليختم عمله بالأفضل فتعود عليه بركته ويجوز نفعه، وما ورد من صلاته أول الليل محمول على بيان الجواز (متفق عليه) . 41135 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبيّ قال: أوتروا قبل أن تصبحوا. رواه مسلم) ورواه أحمد والترمذي وابن ماجه وهو قريب من حديث ابن عمر الآتي.

51136 - (وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي كان يصلي صلاته بالليل) أي التهجد وبين التهجد والوتر عموم خصوص من وجه، فالوتر المأتي به بعد النوم جامع للأمرين، وقبل النوم وتر لا غير، والنفل بعد النوم من غير الوتر تهجد لا غير (وهي معترضة بين يديه) أي بينه وبين القبلة (فإذا بقي) أي من صلاته الليلية (الوتر) أي صلاته (أيقظها) فتوضأت (فأوترت، رواه مسلم) . (وفي رواية له) أي عنها أيضاً (فإذا بقي الوتر قال: قومي) فيه بيان لإجمال قوله أيقظها في الرواية السابقة، إذ هو محتمل للإيقاظ بالقول وغيره كتحريكها (فأوتري يا عائشة) وفي الإتيان بالفاء إيماء إلى طلب المبادرة بالوتر عقب الاستيقاظ لئلا يغلب عليه كسل النوم لو تماهل عنه فيفوته. 61137 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: بادروا الصبح بالوتر) أفاد زيادة على ما أفاده حديثه السابق من تأخير الوتر عن النفل المبالغة في تأخيره حتى طلب أن يبدر بفعله قبل طلوع الفجر، ومثله حديث أبي سعيد (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح) ووقع في «الجامع الصغير» في رمز مخرّجيه علامة مسلم بدل علامة أبي داود ولعله من قلم الناسخ. 71138 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من خاف) أي ظن أو توهم

206 ـــ باب فضل صلاة الضحى

(أن لا يقوم) أي يستقيظ من نومه (من آخر الليل) أي فيه أو استيقاظ مبتدأ منه (فليوتر أوله) احتياطاً ومسارعة لأداء العبادة (ومن طمع) بحسب عادته أو لوجود من يوقظه (أن يقوم) أي في القيام (آخره) أي الليل (فليوتر آخر الليل فإن صلاة آخر الليل مشهودة) أي شهدها الملائكة المتعاقبون والذين ينزلون بالنفحات الإلهية والفيوض الربانية الدلول عليهم بقوله «إذا بقي ثلث الليل ينزل ربنا» الحديث (وذلك) أي الوقت (أفضل) أوقاته وضح فعلها حينئذ أفضل من فعلها في باقي الأوقات، قال أصحابنا: لو تعارض صلاة الجماعة في وتر رمضان والتأخير إلى آخر الليل فالتأخير أفضل من الجماعة فيه (رواه مسلم) . 206 - باب فضل صلاة الضحى قال العراقي في «شرح التقريب» : وهو بضم الضاد مقصور، قال في «الصحاح» : الضحا ضحوة النهار بعد طلوع الشمس، مقصور يذكر ويؤنث. فمن أنث ذهب إلى أنه جمع ضحوة، ومن ذكر ذهب إلى أنه اسم على وزن فعل مثل صرد ونفر، وهو ظرف غير متمكن مثل سحر، تقول لقيته ضحاً بالتنوين، وإذا أردت به ضحا يومك لم تنونه، ثم بعد الضحاء ممدود مذكر وهو عند ارتفاع النهار الأعلى. وفي «المحكم» : الضحو والضحوة والضحية على مثال العشية ارتفاع النهار، والضحا فويق ذلك، وتصغيرها بغيرها لئلا تلتبس بتصغير ضحوة والضحاء: إذا امتد النهار وقرب أن يتنصف، وفي «النهاية» : الضحوة ارتفاع أول النهار، والضحا بالضم والقصر، سميت صلاة الضحا والضحاء بالفتح والمد إذا علت الشمس إلى ربع السماء فما بعده، وفي «المشارق» : الضحاء بفتح الضاد ممدود والضحا بالضم مقصور، قيل هما بمعنى، وأضحى النهار أشرق ضوؤه، وقيل المقصور المضموم أول ارتفاع الشمس والممدود من حين حرها إلى قرب نصف النهار، وقيل المقصور حين تطلع

الشمس والممدود إذا ارتفعت، وقال ابن العربي: بالضم والقصر طلوع الشمس، وبالفتح والمد إشراقها وضياؤها وبياضها اهـ ملخصاً (وبيان أقلها) وهو ركعتان (وأكثرها) وهو ثمان على ما صححه المصنف في «المجموع» والتحقيق تبعاً لما عليه الأكثرون، وظاهر سياقه هنا الميل إليه، وقيل اثنتا عشرة، وجرى عليه في «المنهاج» لحديث ضعيف فيه، قيل وينبغي حمل ما في «المجموع» ليوافق عبارة الروضة على أن الثمان أفضلها لأنها أكثر ما صح عنه، وإن كان أكثرها الاثنتي عشرة لورود الحديث الضعيف، ويعمل به في مثل ذلك حتى تصح نية الضحا بالزيادة على الثمان (أو وسطها) وهو أربعة (والحث على المحافظة عليها) لعظيم ثوابها ومزيد فضلها الآتي بعضه في الباب. قال الزين العراقي: ومما ألقاه الشيطان في أذهان بعض العامة أن من صلى الضحا ثم تركها عمي، وهذا لا أصل له من كتاب ولا سنة، وإنما قصد به منعهم من حصول هذا الأجر الفخيم. 11139 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي) في التعبير بخليل إيماء إلى الاهتمام بشأن هذه الصلاة، لأن شأن الخيل الاعتناء بنفع من يخالله، ولا ينافي تعبيره بذلك حديث «لو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً» الحديث لأن الممتنع اتخاذه غير ربه خليلاً لا اتخاذ غيره له خليلاً وما نحن فيه من التاني (بصيام ثلاثة أيام من كل شهر) ليكون كصيام الدهر كله كما جاء كذلك في حديث ابن عمر، والأولى أن تكون البيض أو السود أو غيرهما مما يندب صومه بخصوصه (وركعتي الضحا) اللذين هما أقل ما يحصل به صلاته (وأن أوتر) أي أصلي الوتر ولم يذكر فيه عدداً كما قبله كأنه تفنن في التعبير (قبل أن أرقد) وذلك احتياط لأنه قد لا يقوم له فيفوته، ولا ينافي هذا حديث «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً» لأنه لمن وثق بيقظته حينئذ بعادته أو بإيقاظ أحد له كما سيأتي في كلامه (متفق عليه) . (والإيثار) أي فعل صلاة الوتر الحاصل أقله بركعة (قبل النوم إنما يستحب لمن لا يثق بالاستيقاظ آخر الليل) لغلبة نومه حينئذ وانتفاء من يوقظه لذلك (فإن وثق) أي بالاستيقاظ حينئذ (فآخر الليل) بالنصب ظرف لمبتدإ محذوف: أي ففعله

آخر الليل (أفضل) الذ هو الخبر عن ذلك المبتدإ المحذف المدلول عليه بالسياق أو آخر بالرفع مبتدأ وأفضل خبره وثمة مضاف إليه محذوف: أي أفضل وقته. 21140 - (وعن أبي ذرّ رضي الله عنه عن النبيّ قال: يصبح) بمعنى الصيرورة ويصح إبقاؤها على مدلولها (على كل سلامى) بضم المهملة وتخفيف اللام وفتح الميم بعدها ألف مقصورة، تقدم في باب بيان طرق الخير أنها المفصل وتقدم ثمة نقل أقوال أخر (من أحدكم) أي الواحد منكم السليم من الآفات (صدقة) عظيمة شكراً لله تعالى على عظيم مننه بسلامة ذلك (فكل تسبيحة) الفاء لتفصيل إجمال الصدقة قبله: أي مرة من التسبيح بأي صيغة كانت (صدقة وكل تحميدة) أي ذكر الحمد بأي عبارة دلت عليه (صدقة وكل تهليلة) أي قول لا إله إلا الله (صدقة، وكل تكبيرة صدقة) أشير بذلك إلى أن الصدقة المؤداة شكراً لسلامة السلامى لا تختص بالمال، بل تكون به وبغيره من صالح الأقوال والأعمال تخفيفاً من الله ورحمة (وأمر) بالرفع عطف على كل وتعميمه المستفاد من سياقه أغنى عن دخول كل عليه، وغاير بينه وبين ما قبله عليه لاختلاف النوعين، إذ ما قبل ثوابه باعتبار مدلوله من الثناء عليه تعالى وتقديسه وهذا باعتبار ثمرته (بالمعروف) أي ما عرف شرعاً من واجب أو مندوب (صدقة، ونهي عن المنكر) أي ما لم يعرف كذلك من محرم أو مكروه (صدقة) ثم لا يلزم من كون كل مما ذكر صدقة تساويها في الرتبة وتفاوتها بتفاوت ثمرتها أو مدلولها، فمدلول لا إله إلا الله فوق مدلول نحو سبحان الله فلذا فضل عليه (ويجزىء) بضم أوله مع همز آخره من الإجزاء وبفتح أوله من غير همز آخره من الجزاء بمعنى الكفاية (من ذلك) أي بدل ما ذكر من الصدقات المتعددة بتعدد السلامى المتصدق عنها (ركعتان يركعهما) أي يفعلهما أحدكم (من) أي في (الضحا) أو بسببه أو مبتدأة منه، وفيه كمال شرف هذه

الصلاة، وتقدم سبب ذلك في الباب المذكور (رواه مسلم) ورواه أبو داود والنسائي في آخرين تقدموا ثمة. 31141 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يصلي الضحا) في نسخة من الضحا: أي فيه أو من جهته (أربعاً) عند الترمذي في «الشمائل» أربع ركعات (ويزيد ما شاء الله) قضيته أن لا حصر للزيادة، لكن باستقراء الأحاديث الصحيحة والضعيفة علم أنه لم يزد على الثمان ولم يرغب في أكثر من ثنتي عشرة (رواه مسلم) ورواه أحمد في «مسنده» . ولا تنافي بين إثباتها لها من فعله في هذا الحديث ونفيها لها عن فعله في رواية أخرى لما قال المصنف في «شرح مسلم» من أن النبي كان يصليها في بعض الأوقات لفضلها ويتركها في بعضها خشية أن تفرض. 41142 - (وعن أم هانىء) بالهمز آخره كما تقدم كنية (فاختة) بالفاء والخاء المعجمة المكسورة والمثناة الفوقية ثم هاء تأنيث (بنت أبي طالب رضي الله عنها قالت: ذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح) أي زمن فتح مكة وكان في عشرين من رمضان سنة ثمان من الهجرة، وذهابها إليه لسؤاله تنفيذ جوارها لمن أجارته كما يأتي (فوجدته يغتسل) وفاطمة رضي الله تعالى عنها تستره بثوب (فلما فرغ من غسله) أي اغتساله فهو اسم مصدر له (صلى ثماني) بكسر النون وتخفيف الياء (ركعات) زاد ابن خزيمة «يسلم من كل ركعتين» (وذلك) أي المفعول من الصلاة (ضحا) أي صلاته أو المشار إليه مجموع الاغتسال

207 ـــ باب بالتنوين أو بتركه مضافا إلى جملة (تجوز صلاة الضحى من ارتفاع الشمس) كرمح

وما بعده وضحا ظرف متعلق بمحذوف هو الخبر، ولا يقدح عليه في الاستدلال به لصلاة الضحا، لأن في رواية أبي داود التصريح بأنها صلاة الضحا ولفظه «صلى سبحة الضحا ثماني ركعات يسلم من كل ركعتين» (متفق عليه) أي أصل الحديث لا بخصوص هذا اللفظ ولذا قال. (وهذا مختصر لفظ إحدى روايات مسلم) في «صحيحه» ومن ألفاظه في بعض رواياته قالت «ذهبت إلى رسول الله عام الفتح فسلمت، فقال: من هذه فقلت: أم هانىء بنت أبي طالب، فقال: مرحبا يا أمّ هانىء، فلما فرغ من غسله قام فصلى ثماني ركعات ملتحفاً في ثوب واحد، فلما انصرف قلت: يا رسول الله زعم ابن أمي عليّ ابن أبي طالب أنه قاتل رجلاً أجرته فلان ابن هبيرة، فقال رسول الله: قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء، قالت أم هانىء: وذلك ضحا» وله عنها ألفاظ أخر. 207 - بابٌ بالتنوين أو بتركه مضافاً إلى جملة (تجوز صلاة الضحى من ارتفاع الشمس) كرمح في رأى العين (إلى زوالها) أي ميلها عن كبد السماء إلى جهة المغرب، ودخل في عمومه وقت الاستواء فيجوز فعلها فيه، لكن ينبغي أن يكون محله مالم يقصد تأخيرها إليه لأنه بذلك مراغم للشارع قياساً على منع فعل القضاء فيه كذلك، لكن كلامهم صريح في الصحة ولو مع قصد التأخير، وكأنه لأن الوقت وقتها ولا كذلك المقضية المقصود تأخيرها لوقت الكراهة (والأفضل) أي الأكثر ثواباً (أن تصلى عند اشتداد الحر) بسبب ارتفاع الشمس (وارتفاع الضحا) أي وقته. 11143 - (عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أنه رأى قوماً يصلون من الضحا) أي بعضه أن فيه أو لأجله، والمراد يصلون في أول وقته بدليل قوله (فقال: أما) بتخفيف الميم وفتح

208 ـــ باب الحث على صلاة تحية المسجد ركعتين

الهمزة حرف استفتاح أتى به لتنبيه السامع لما بعده لتأكده ولذا أقسم عليه كما تؤذن به اللام المؤذنة بالقسم في قوله (لقد علموا أن الصلاة) أي المعهودة وهي صلاة الضحا (في غير هذه الساعة) من ساعاته (أفضل) ثم قال على سبيل الاستئناف البياني أو النحوي (إن رسول الله قال: صلاة الأوابين) بفتح الهمزة وتشديد الواو ثم موحدة: أي الرجاعين من الغفلة إلى الحضور ومن الذنب إلى التوبة (حين ترمض الفصال) أي فثناؤه عليها حينئذ يدل على فضلها فيه (رواه مسلم) . (ترمض بفتح التاء) المثناة الفوقية (والميم) وسكون الراء بينهما (وبالضاد المعجمة يعني) أي بقوله ترمض الفصال (شدة الحر) أي حين رمضها: أي احتراقها من حر الشمس، قال في «المصباح» : وجدت الفصال الرمضاء فاحترقت أخفافها وذلك وقت صلاة الضحا (والفصال) بكسر الفاء وتخفيف الصاد المهملة (جمع فصيل وهو الصغير من أولاد الناقة) سمي به لأنه يفصل عن أمه، قال في «المصباح» : فهو فعيل بمعنى مفعول والجمع فصلان بضم الفاء وكسرها، وقد يجمع على فصال بالكسر لأنهم توهموا فيه الصفة مثل كريم وكرام. 208 - باب الحث على صلاة تحية المسجد ركعتين هذا بيان أقل ما تحصل به (وكراهة الجلوس قبل أن يصلي) أي الداخل (ركعتين في أيّ وقت دخل) وذكر الجلوس جرى على الغالب، وإلا فالاضطجاع والاستلقاء قبلهما كذلك، وكذا إطالة القيام عند من يرى فوت التحية بها (وسواء) في ارتفاع الكراهة عنه

بصلاتهما (صلى ركعتين بنية التحية) وذلك أفضل وجوهها (أو) صلى (صلاة فريضة أو سنة راتبة أو غيرها) لأنه يفعله هذه الخصال لم يتلبس بالمنهي عنه. وأما الإثابة على ذلك وحصول فضل التحية فاختلف فيه أو يتوقف على نيتها أم لا، فقال بالأول من المتأخرين ابن حجر الهيتمي وبالثاني الرملي والشربيني. 11144 - (وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس) تخصيصه جرى على الغالب وإلا فيكره ترك الصلاة لداخله ولو ماراً فيه، وكذا يكره تركها لمن نام فيه كما مر (حتى يصلي ركعتين) هو بيان لأقل ما يخرج به من الكراهة ولا حد لأكثر التحية، فلو صلى مائة ركعة بتسليمة واحدة كانت تحية بناء على أن ما زيد على الواجب مما لا يقبل التجزؤ كالبعير المخرج عن شاة أو شاتين يكون جميعه فرضاً (متفق عليه) ورواه أحمد في «مسنده» والأربعة في «سننهم» كلهم عن أبي قتادة، ورواه ابن ماجه أيضاً عن أبي هريرة، ورواه العقيلي في «الضعفاء» وابن عدي والبيهقي في «الشعب» من حديث أبي هريرة «بلفظ حتى يركع ركعتين» وبزيادة «وإذا دخل أحدكم بيته فلا يجلس حتى يركع ركعتين، فإن الله جاعل له من ركعتيه في بيته خيراً» كذا في «الجامع الصغير» . 21145 - (وعن جابر رضي الله عنه) هو قطعة من حديث في بيع الجمل منه في السفر (قال: أتيت النبي) أي أتقاضاه ثمن الجمل (وهو في المسجد) فيه جلوس الإمام في المسجد للقيام بمصالح الأمة (فقال: صلّ) هو أمر ندب (ركعتين، متفق عليه) فيه كالحديث قبله حصول المأمور به والخروج عن عهده النهي، يفعل ركعتين أياً كانت والله أعلم.

209 ـــ باب استحباب صلاة ركعتين بعد الوضوء

209 - باب استحباب صلاة ركعتين بعد الوضوء والأفضل عقبه، وفيما تفوت به خلاف بين المتأخرين، قال ابن المزجدي في «فتاويه» . إنها تفوت بالإعراض عنها، وقال محمد بن عبد السلام الناشري بطول الفصل، وأفتى بمثله البرهان ابن ظهيرة، وقول النووي في زيادة «الروضة» ومنه «ركعتان عقب الوضوء» يشهد لذلك، وأفتى الكمال الرداد بأنهما لا يفوتان إلا بالحدث، وأيده «جامع الفتاوى» المزجدية بأنه مقتضى إطلاق الشيخين أن من توضأ في الأوقات المكروهة يصليهما، ولأن المعنى في ذلك صيانة طهارته عن التعطيل وحديث بلال ظاهر فيه، وما تقدم عن الروضة يحمل على ندب المبادرة بهما عقبه لا أن الوقت منحصر فيه، صرح به السيد السمهودي واعتمده في «فتاويه» . 11146 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال) أي عند صلاة الفجر كما أخرجاه كذلك (لبلال) الحبشي مؤذنه (يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام) . (وفي رواية: بم سبقتني إلى الجنة) ومعنى بأرجى عمل: أي بالعمل الذي هو أكثر رجاء في حصول ثوابه، وبين حكمة هذا السؤال بقوله (فإني سمعت دف) وفي رواية بريدة في حديث نحوه «ما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي» وهي بتكرير الخاء والشين المعجمتين مفتوحة الأول والثالث، ذكره أبو موسى المديني في ذيل الغريبين إنها حركة لها صوت كصوت السلاح وهي بمعنى رواية مسلم «خشف نعليك» بفتح الخاء وسكون الشن المعجمتين وفي آخرها فاء، واختلف في معناه، فقيل هو الحركة، وقيل الصوت. وفي رواية خشفة بزيادة الهاء، وعليها ففي الشين التحريك والإسكان. واختلف هل هما بمعنى الحركة والساكن بمعنى الحس (نعليك بين يدي في الجنة) لا ينافي

تقدمه بين يديه حدث «آتي باب الجنة فأستفتح فيقول الخازن من أنت؟ فأقول محمد، فيقول بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك» لأن تقدم الخدم تقدم للمخدوم قال الشاعر: إن سار عبدك أولاً أو آخراً من ظل مجدك ما تعدى الواجبا فإذا تأخر كا خلقك خادماً وإذا تقدم كان دونك حاجباً فالفتح للمخدوم وإن تقدمه خادمه دخولاً كرامة لمخدومه، أو يقال كما قال ابن العربي في «الفتوحات المكية» : معنى سمعت خشخشتك أمامي: أي رأيتك مطرقاً بين يدي كالمطرقين بين يدي ملوك الدنيا، وبمعناه ما يأتي عن الشعراوي (قال: ما عملت عملاً أرجى عندي من أني لم أتطهر طهوراً) بضم الطاء وبفتحها على حذف الجار وشمل الطهور بوجهيه كلاً من الوضوء والغسل والتيمم ولو مندوبة ويومىء إليه قوله (في ساعة من ليل أو نهار) لكن جاء في رواية عنه «ما أحدثت إلا توضأت وصليت ركعتين» وظاهرها أن صلاته إنما كانت عند تطهره من الحدث فقط فلم تشمل الطهارة المجددة إلا أن يقال السكوت عن الشيء لا ينفيه (إلا صليت بذلك الطهور ما) أي الذي أو صلاة (كتب) مبني للمجهول والتذكير على الثاني باعتبار لفظ ما (لي) متعلق به ونائب فاعل الفعل قوله (أن أصلي) والعائد محذوف (متفق عليه. وهذا لفظ البخاري) وفي مسلم «فإني سمعت الليلة خشف نعليك» الحديث وقال «إني لا أتطهر طهوراً تاماً» الحديث (الدف) قال الحافظ العراقي في «شرح التقريب» : اختلف في ضبطه فقيل بالدال المعجمة وقيل بالمهملة وهي مفتوحة عليهما (بالفاء) قال أبو موسى المديني (صوت النعل) عند الوطء (وحركته على الأرض) عطف على النعل: أي وصت حركته، قال الشيخ الشعراوي في كتابه «العهود المحمدية» : والمعنى إني رأيتك مطرقاً بين يدي كالمطرقين بين يدي الملوك والأمراء.

210 ـــ باب فضل يوم الجمعة

210 - باب فضل يوم الجمعة قال المصنف: يقال بضم الميم وإسكانها وفتحها، حكاهن الفراء والواحدي وغيرهما، ووجهوا الفتح بأنها تجمع الناس ويكثرون فيها كما يقال همزة ولمزة لكثير الهمز واللمز ونحو ذلك، سميت جمعة لاجتماع الناس فيها، وحكي كسر الميم وكان يوم الجمعة يسمى في الجاهلية العروبة اهـ. وكانوا يسمون الأحد أول والاثنين أهون والثلاثاء جباراً والأربعاء دباراً والخميس مونساً والسبت شباراً، قال الشاعر: أؤمل أن أعيش وأن يومى بأول أو بأهون أو جبار أو التالي دبار فإن أفته فمونس أو عروبة أو شبار وقد أفرد الحافظ السيوطي فضائل الجمعة وخصائصها في مؤلف وكذا من قبله ابن أبي الصيف اليمني ومن قبله الحافظ النسائي (ووجوبها والاغتسال لها) معطوف على يوم لأن الصحيح من المذهب ندب الاغتسال وتأويل ما يوهم وجوبه، أو على وجوب ويكون حينئذ ساكتاً عن بيان حكمه من ندب وغيره، وإن قام الدليل على الأول فهو أولى (والطيب والتبكير لها) أي الوصول للمسجد من أول النهار (والدعاء يوم الجمعة والصلاة على النبي فيه) ولا يكره إفرادها فيه عن السلام لورود النص بها فيه منفردة كما ذكره الشيخ عبد الرزاق المكي الواعظ (وبيان ساعة الإجابة) أي تعيين وقتها فيه (واستحباب إكثار ذكر الله تعالى بعد الجمعة) أي صلاتها، عبر باستحباب بعد التعبير في الأعمال السابقة بفضل قمنا في التعبير. (قال الله تعالى) : {فإذا قضيت الصلاة} أي فرغتم من الصلاة المعهودة وهي صلاة الجماعة (فانتشروا في الأرض) لقضاء حوائجكم ( {وابتغوا من فضل الله} ) أي رزقه، وهذا أمر إباحة بعد الحظر، عن بعض السلف: من باع واشترى بعد الجمعة

بارك الله ما سبعين مرة ( {واذكروا الله كثيراً} ) في حال انتشاركم وصرح به لئلا يغفل عنه بالاشتغال بطلب الرزق ( {لعلكم تفلحون} ) أي ائتوا بما ذكر راجين الفلاح، ففيه إيماء للحض على ترك الاعتماد على حال أو مقام، والحث على التوجه إلى الله سبحانه وحسن الرجاء منه، وهذه الآية دليل على آخر الترجمة، وقدمها مع ذلك لشرف الكتاب على السنة. 11147 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: خير يوم) حذفت الألف من خير للتخفيف لكثرة استعماله (طلعت عليه الشمس) جملة في محل الصفة ليوم وهي مسوقة لبيان الواقع إذ كل يوم كذلك (يوم الجمعة) فلذا كان سيد أيام الأسبوع ولا ينافيه خبر «سيد الأيام يوم عرفة» لأنه محمول على أيام السنة، وفي كلام العلقمي ما يوهم أن يوم الجمعة أفضل من يوم عرفة. وذكر بعض أحوال اليوم بقوله (فيه خلق آدم) عليه السلام وهو أصل النوع الذي هو أفضل أنواع المخلوقات، وخلقه فيه يحتمل أن يكون سبب فضله أو بسببه، ثم رأيت العلقمي نقل عن شيخه يعني السيوطي عن القاضي يعني عياضا أنه قال: الظاهر أن هذه القضايا المعدودة ليست لذكر فضيله لأن إخراج آدم من الجنة وقيام الساعة لا يعد فضيلة، وإنما هو لبيان ما وقع فيه من الأمور العظام وما سيقع ليتأهب بصالح العمل لينال رحمة الله ويدفع نقمته. وقال أبو بكر بن العربي في كتابه «الأحوزي في شرح الترمذي» الجميع من الفضائل، وخروج آدم من الجنة هو سبب وجود الذرية والنسل والأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين، ولم يخرج منها طرداً بل لقضاء أوطاره ثم يعود إليها، وقيام الساعة سبب تعجيل جزاء النبيين والصديقين اهـ ملخصاً. وقد زيد في رواية «وفيه أهبط وفيه تيب عليه وفيه قبض وفيه تقوم الساعة» (وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها) هذا الحديث هكذا فقط في رواية لمسلم، وفي أخرى له بزيادة «ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة» وأخرجه كذلك أحمد والترمذي (رواه مسلم) هو كلفظ حديث أحمد والترمذي المزيد فيه ما ذكر فيصح أن تنسب روايته لهما.

21148 - (وعنه قال: قال رسول الله: من توضأ فأحسن الوضوء) بالإسباغ والإتيان به بآدابه وسننه (ثم أتى الجمعة) أتى بثم إيماء إلى تأخر الإتيان عن الوضوء لاشتغاله بالأذكار عقب الوضوء وصلاته (فاستمع) أي عقب إتيانه (وأنصت) أي ترك الكلام (غفر له ما بينه وبين الجمعة) أي ما بين صلاة الجمعة وخطبتها إلى مثل ذلك الوقت من الجمعة الثانية ليكون سبعة أيام بلا زيادة ولا نقص، نقله المصنف عن العلماء، وأعاد بين مع أنها لا تضاف إلا لمتعدد لفظاً نحو الود بين زيد وعمرو أو تقديراً نحو لا نفرق بين أحد من رسله» ويلزم على عودها إضافتها لغير متعدد دفعاً للعطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار وهو ممنوع عند الجمهور (وزيادة) بالرفع عطف على الموصول المرفوع بغفر، وقال المصنف: إنه منصوب على الظرف: أي غفر له مدة ما بين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، فحذف المضاف المنصوب على الظرف وأقيم المضاف إليه مقامه فانتصب انتصابه، وما ذكرته أقرب إلا إن كانت الرواية بما قاله المصنف (ثلاثة أيام) أي غفر له ذنوب عشرة أيام: أي الصغائر المتعلقة بحق الله سبحانه المفعولة فيها دون الكبائر فلا تكفر إلا بالتوبة الصحيحة أو فضل إلهي، وحق العباد إذ لا يكفر إلا بارضاء صاحبه. قال المصنف: قال العلماء: معنى المغفرة له ما بين الجمعتين وثلاثة أيام أن الحسنة بعشرة أمثالها، وصار يوم الجمعة الذي فعل فيه هذه الأفعال الجميلة في معنى الحسنة التي تجعل بعشرة أمثالها (ومن مس الحصا فقد لغا) فيه نهي عن مس الحصى وغيره من أنواع العبث في حال الخطبة، وفيه إشارة إلى الحض على إقبال القلب والجوارح على الخطبة، والمراد باللغو هنا الباطل المذموم المردود (رواه مسلم) .g 31149 - (وعنه عن النبيّ قال: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان) يجوز إبقاء الكلام على ظاهره، لأن كلاً من الجمعة ورمضان لما كان محل الأفعال الحسنة صار كأنه حسنة مكفرة كما قال المصنف في الحديث قبله. ويحتمل أن في الكلام

مقدراً: أي وصلاة الجمعة إلى صلاتها وصوم رمضان إلى صوم مثله (مكفرات) أي كل منها صالح لتكفير الصغائر المتعلقة بحق الله تعالى، فإن لم يجد البعض منها ما يكفره كان رفعة في درجاته، وإن وجد كبائر فقط، قال المصنف: رجونا أن يخفف عنه منها بقدر ما يكفر من الصغائر. قال العلقمي: قال شيخنا زكريا: إن قلت يلزم من جعل الصغائر مكفرة بالمذكورات عند اجتناب الكبائر اجتماع سببين على مسبب واحد وهو ممتنع. قلت: لا مانع من ذلك في الأسباب المعرفة لأنها علامات لا مؤثرات كما في اجتماع أسباب الحدث وما هنا كذلك اهـ (ما بينهن) وهو مفعول الوصف قبله إن كان منوناً كما هو في أصل مضبوط، ويؤيده أنه روى «مكفرات لما بينهن» أي بزيادة اللام وإلا فمضاف إليه (إذا اجتنبت الكبائر) قال المصنف: هو مؤول بعدم تكفير العمل الصالح للكبائر وإن كان صريحه أن شرط تكفيره اجتناب الكبائر فليس مراداً وإن قال به بعض (رواه مسلم) ورواه أحمد والترمذي. 41150 - (وعنه عن ابن عمر رضي الله عنهم) في نسخة عنهما والأولى أولى ليشمل الترضي أبا هريرة (أنهما سمعا رسول الله يقول) جملة في محل الحال من رسول الله، وقوله (على أعواد منبره) في محل الحال من ضمير يقول (لينتهين) بفتح الياء لكونه مسنداً للاسم الظاهر وهو قوله (أقوام) وإذا أسند العامل لمرفوع مثنى أو مجموع وجب في الأفصح تجريده من علامة التثنية والجمع وإفراده، ولعل جمعه لتنوع التاركين له باعتبار قبائل المنافقين وفرقهم (عن ودعهم) بفتح الواو وسكون الدال وبالعين المهملتين مصدر ودع المستغني عنه برديفه وهو ترك: أي تركهم (الجمعات) بضمتين ويجوز إسكان الميم تخفيفاً: أي صلاتها (أو ليختمن الله على قلوبهم) فلا يصير فيها تأهل لقبول الهدى ولا استعداداً لتلقي الأنوار، والمعنى: ليكونن أحد الأمرين الانتهاء عن تركهم الجمعة أو الختم

على قلوبهم (ثم ليكونن) بضم النون والفاعل ضمير الجماعة المحذوف لملاقاته ساكناً النون الساكنة المدغمة (من الغافلين) قال المصنف: معنى الختم الطبع والتغطية، قالوا في قوله {ختم الله على قلوبهم} (البقرة: 7) أي طبع، ومثله الرين، وقيل الرين أيسر من الطبع، والطبع أيسر الإقفال الإقفال أشدها، قال القاضي: اختلف المتكلمون في هذا اختلافاً كثيراً، فقيل هو إعدام اللطف وأسباب الخير، وقيل هو خلق الكفر في صدورهم وهو قول أكثر متكلمي أهل السنة، وقال غيرهم: هو الشهادة عليهم، وقيل هو علامة جعلها الله تعالى في قلوبهم لتعرف بها الملائكة من تمدح ومن تذم (رواه مسلم) في أبواب الجمعة من «صحيحه» ، ورواه أحمد. وأبو داود وابن ماجه. 51151 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: إذا جاء أحدكم الجمعة) أي أراد المجيء إليها كما جاء في رواية أخرى «إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة» (فليغتسل) أي وجوباً وعليه طائفة من السلف، وحكي عن بعض الصحابة وبه قال أهل الظاهر، وحكاه ابن المنذر عن مالك أو ندباً، وعليه جمهور العلماء من السلف والخلف وفقهاء الأمصار، قال القاضي: وهو المعروف من مذهب مالك وأصحابه. واحتج الأولون بظاهر هذا الحديث وما بعده وما في معناهما. واحتج الجمهور بأحاديث منها حديث سمرة الآتي قريباً «من توضأ يوم الجمعة الخ» وهو حديث صحيح في السنن ومنها حديث سمرة الآتي قريباً «من توضأ يوم الجمعة الخ» وهو حديث صحيح في السنن ومنها حديث عمر وقوله وهو في الخطبة للرجل المتأخر إلى الآن، فقال ما هو إلا أن سمعت النداء فتوضأت، فقال عمر: والوضوء أيضاً، وقد علمت أن رسول الله كان يأمرنا بالغسل؟ والحديث في البخاري، وأجابوا عن الأحاديث بأنها محمولة على الندب المتأكد جمعاً بين الأحاديث أشار إليه المصنف في «شرح مسلم» (متفق عليه) ورواه مالك والنسائي.

61153 - (وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله قال: غسل الجمعة) وفي رواية «غسل يوم الجمعة» (واجب على كل محتلم متفق عليه) ورواه مالك وأبو داود والنسائي كلهم عن أبي سعيد، وأخرجه الرافعي من حديثه بلفظ «غسل يوم الجمعة واجب كوجوب غسل الجنابة» (المراد بالمحتلم) بصيغة الفاعل (البالغ) أي ولو امرأة تحضر الجمعة بأن كانت عجوزاً، وحينئذ ففي التعبير به مجاز مرسل من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم أو إطلاق الخاص وإرادة العام (والمراد بالوجوب وجوب اختيار) أي يختار فعله ويطلب كما يختار فعل الواجب وإن افترقا يترتب الإثم بترك الواجب دون تركه (كقول الرجل لصاحبه حقك واجب عليّ) أي يطلب مني على سبيل الاختيار والإتيان به (والله أعلم) وقال في «شرح مسلم» : والمراد بالوجوب التأكد كما يقول الرجل لصاحبه حقك واجب على: أي متأكد لا أن المراد الواجب المتحتم المعاقب عليه. 71153 - (وعن سمرة) بفتح فضم (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من توضأ يوم الجمعة فيها) أي فبالرخصة المدلول عليها بالسياق أخذ (ونعمت) هي الرخصة والمخصوص بالمدح محذوف وهو الوضوء لدلالة قوله توضأ عليه (ومن اغتسل) معه (فالغسل أفضل) قال المصنف: فيه دليلان على أن غسل الجمعة ليس بواجب اهـ: أحدهما مدحه للإتيان بالوضوء دون الغسل وتارك الواجب لا يمدح. الثاني قوله فالغسل أفضل فإنه يدل على ندبه وزيادة فضله على الوضوء (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن) قال المصنف

في «شرح مسلم» : هو حديث صحيح في «السنن» مشهور وفي «الجامع الصغير» ، ورواه أحمد في «مسنده» والنسائي في «سننه» وابن خزيمة. 81154 - (وعن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله: لا يغتسل رجل) تقدم أن المرأة كذلك في ندب الغسل للجمعة إن طلب منها الحضور (يوم الجمعة) ظاهره ولو بعد فعلها وهو غير مراد كما يدل عليه باقي الروايات (ويتطهر ما استطاع من طهر) قال البرماوي: التنكير فيه للتكثير ليشمل قص الشارب وقلم الظفر وحلق العانة وتنظيف الثياب وفي نسخة من البخاري من الطهر بالتعريف (ويدّهن) بالتشديد: أي يطلى بالدهن (من دهنه) بضم الدال (أو يمس من طيب بيته) أي يمس شيئاً من ذلك، فأو للتفصيل وفي قوله طيب بيته إيماء إلى ندب اتخاذ الطيب في البيت واعتياد الطيب، وقدم التطهير لما فيه من التخلية بالمعجمة عن الأوساخ ثم الادهان لما فيه من ترك الشعث وختم بالطيب لأنه كالتحلية بالمهملة، وقد زاد أبو داود في روايته «ويلبس من صالح ثيابه» (ثم يخرج) زاد ابن خزيمة «إلى المسجد» وزاد أحمد «ثم يمشي وعليه السكينة» (فلا يفرق) بالرفع عطف على ما قبله (بين اثنين) ولأبي داود «ثم لم يتخط رقاب الناس» قال البرماوي: وقوله فلا يفرق الخ كناية عن التبكير، فإنه إذا بكر لا يتخطى الرقاب ولا يفرق بين الناس (ثم يصلي ما كتب له) أي فرض من صلاة الجمعة أو ما قدر له من الصلاة فرضاً أو نفلاً (ثم ينصت) بضم التحتية على الأفصح من أنصت إذا سكت، ويجوز فتحها، قال المصنف: يقال أنصت وانتصت ونصت بمعنى. وتعقب قول القاضي عياض أن التعبير بانتصت بدل أنصت في حديث أبي هريرة السابق في تكفير الجمعة لما بينها وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام وهم من الراوي بأنه ليس وهماً بل هي لغة صحيحة، قال البرماوي: ويجيء أنصت أيضاً متعدياً يقال أنصته (إذا تكلم الإمام) أي خطب زاد ابن حبان «حتى يقضي صلاته» (إلا غفر له ما بينه) أي بين يوم الجمعة (وبين الجمعة الأخرى) قال البرماوي: يحتمل الجمعة الماضية والمستقبلة لأنها تأنيث الآخر بفتح الخاء لا بالكسر، والمغفرة تكون للمستقبل كالماضي قال تعالى: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} (الفتح: 2) اهـ، وقد عين ابن خزيمة في

روايته أنها الجمعة التي قبلها وزاد ابن حبان «وزيادة ثلاثة أيام من اللتي بعدها» زاد ابن ماجه «ما لم تغش الكبائر» (رواه البخاري) ورواه أحمد في «مسنده» كما في «الجامع الكبير» . 91155 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: من اغتسل يوم الجمعة) ويدخل وقته بطلوع الفجر وتقريبه من الذهاب لصلاتها أولى، ولو تعارض هو والتبكير قدمه (غسل الجنابة) مفعول مطلق ناب فيه عن المصدر اسمه نحو سلمت عليك سلاماً وأعطيتك عطاء، أو هو مما ناب فيه صفته منابه والأصل اغتسالاً مثل غسل الجنابة فحذفت الصفة وأقيم المضاف إليه مقامها في ذلك، وإليه يومىء كلام المصنف الآتي ويؤيده أن عند عبد الرزاق في «مصنفه» «كما يغتسل من الجنابة» وأتى به لدفع توهم الاكتفاء بمسمى الغسل اللغوي في حصول سنة غسلها، بل لا بد فيه من الشرعي الشامل لجميع البشرة والشعر ظاهراً وباطناً وإن كثف (ثم راح) زاد في «الموطأ» «في الساعة الأولى» وراح تستعمل في جميع الأوقات بمعنى ذهب، قاله الأزهري منكراً على من زعم أنه لا يكون، إلا بعد الزوال (فكأنما قرب) بتشديد الراء (بدنة) أي تصدق بها متقرباً إلى الله تعالى، والبدنة هي البعير ذكراً كان أو أنثى والهاء فيه للوحدة لا للتأنيث سميت بذلك لعظم بدنها، وقال الجوهري: البدنة ناقة أو بقرة سميت بذلك لأنهم كانوا يسمونها (ومن راح في الساعة الثانية) أي من النهار (فكأنما قرب بقرة) مشقة من البقر وهو الشق لأنها تبقر الأرض أي تشقها بالحرث (ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن) وصفه بذلك لأنه أكمل وأحسن صورة ولأن قرنه ينتفع به (ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة) ، بفتح الدال المهملة وهو الفصيح وحكي كسرها، وقيل إنه أفصح من الفتح،

حكاه الدماميني، في «مصابيحه» وضمها، واقتصر ابن حبيب على الفتح في ذكورها قال: وأما في الإناث فبالكسر، وذكر الدجاجة وإن لم تكن من نوع ما يتقرب به من النعم لأن المراد مطلق التصدق (ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة) قال السيوطي في «التوشيح» : ذكر الساعات هنا خمساً والنسائي ستاً، وجعل بين الدجاجة والبيضة العصفور. قلت: وفي رواية أخرى له بين الشاة والدجاجة بطة، أوردها عنه البرماوي ولها شواهد. واختلف في المراد بالساعات فقيل المراد بها بيان مراتب المبكرين، ورد بأنها متفاوتة إلى أكثر من هذا العدد، فدل على أن المراد حقيقة الساعات، ثم قيل هي لحظات لطيفة أولها زوال الشمس وآخرها قعود الخطيب على المنبر. قلت: وعليه مالك، وقيل هي من أول النهار، والمراد الساعات الزمانية المتفاوتة بتفاوت زيادة النهار ونقصه. وينقسم النهار إلى اثنتي عشرة ساعة منها طويلاً كان أو قصيراً. وأورد عليه لزوم تساوي الآيتين في طرفيها. وأجيب بالتساوي في مسمى البدنة مثلاً والتفاوت في صفاتها. قال المصنف: قال السيوطي في «تاريخ ابن عساكر» عن ابن عباس بسند ضعيف: أول من قدر النهار اثنتي عشرة ساعة وكذا الليل نوح عليه السلام حين كان في السفينة (فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة) قال البرماوي: أي غير الحفظة، وهم الذي وظيفتهم كتابة حاضري الجمعة، وسيأتي ما ورد فيهم (يستمعون الذكر) لفظ مسلم «فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاءوا يستمعون الذكر» ولابن خزيمة «على كل باب من أبواب المسجد ملكان يكتبان الأول فالأول» وفي «الحلية» «إذا كان يوم الجمعة بعث الله ملائكة بصحف من نور وأقلام من نور» ولابن خزيمة «فيقول بعض الملائكة لبعض ما حبس فلاناً؟ فيقول: اللهم إن كان ضالاً فاهده، وإن كان فقيراً فاغنه، وإن كان مريضاً فعافه» (متفق عليه) قال في «الجامع الكبير» : ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان كلهم عن أبي هريرة. (قوله غسل الجنابة) بالنصب على الحكاية (أي غسلاً كغسل الجنابة في الصفة) وهذا التأويل يحتاج إليه من يرى عدم حصول سنة غسلها بواجب غسل الجنابة إذا لم ينوه، وهو الذي عليه المصنف وهو المختار، والذي عليه الرافعي حصوله وإن لم ينوه،

فلا يحتاج للتأويل إلا من جهة عدم التقييد بكون الغسل واجباً يحصل به وإن كان وإلا فبالمندوب والله أعلم. 101156 - (وعنه أن رسول الله ذكر يوم الجمعة) أي بالثناء عليه وبيان فضله (فقال: فيها ساعة لا يوافقها) أي يصادفها (عبد مسلم وهو قائم) جملة حالية من ضمير وافق المستكن فيه وهو خارج مخرج الغالب فلا يعمل بمفهومه (يصلي) جملة حالية من ضمير قائم، أو جملة تفسيرية لقائم أو بدل منه (يسأل) حال مترادفة أو متداخلة (الله شيئاً) عند البخاري في رواية (خيراً) . ولابن ماجه «ما لم يسأل حراماً» ولأحمد «ما لم يسأل إثماً أو قطيعة رحم» (إلا أعطاه إياه وأشار) أي رسول الله كما في «الموطأ» من رواية أبي مصعب (بيده يقللها) أي يبين أنها لحظة لطيفة خفيفة، وزاد مسلم «وهي ساعة خفيفة» وقد اختلف العلماء من الصحابة والتابعين وغيرهم هل هذه الساعة باقية أو رفعت؟ وعلى الأول هل هي في كل جمعة أو جمعة واحدة من كل سنة؟ وعلى الأول هل هي في وقت من اليوم معين أو مبهم؟ وعلى التعيين هل تستوعب الوقت أو تبهم فيه؟ وعلى الإبهام ما اتبداؤه وما انتهاؤه وعلى كل ذلك هل تستمر أو تنتقل؟ وعلى الانتقال هل تستغرق الوقت أو بعضه؟ وحاصله أن الأقوال فيها خمسة وأربعون قولاً بينها الحافظ في «فتح الباري» والسيوطي في «شرح الموطأ» ، وقد بينتها بدلائلها في كتابي «سطوع البدر في فضائل ليلة القدر» (متفق عليه) . 111157 - (وعن أبي بردة) بضم الموحدة وسكون الراء وفتح الدال المهملتين فهاء تأنيث كنية (ابن أبي موسى) عبد الله بن قيس (الأشعري رضي الله عنه) واسم أبي بردة قيل الحارث وقيل عامر، كان قاضي الكوفة يروي عن أبيه وعلي والزبير وعنه بنوه عبد الله ويوسف وسعيد وبلال وحفيده بريد بن عبد الله، وكان من نبلاء العلماء توفي سنة أربع ومائة، وقيل غير ذلك جاوز الثمانين اهـ ملخصاً من «كاشف الذهبي» و «تقريب الحافظ» بن حجر (قال:

قال عبد الله بن رسول الله) أي مخاطباً لأبي بردة (أسمعت أباك يحدث) جملة حالية من المفعول (عن رضي الله عنه في شأن) أي بيان (ساعة الجمعة؟ قال: قلت نعم) حصل به الجواب وزاد لزيادة البيان قوله (سمعته يقول: سمعت رسول الله يقول: هي) أي ساعة الإجابة فيها (ما) أي الوقت الذي (بين أن يجلس الإمام) أي على المنبر (إلى أن تقضى الصلاة. رواه مسلم) قال المصنف في «شرحه» : هذا الحديث مما استدركه الدارقطني على مسلم وقال: لم يسنده غير مخرمة عن أبيه عن أبي بردة، ورواه جماعة عن أبي بردة من قوله، ومنهم من بلغ به أبا موسى رضي الله عنه عن الثوري عن أبي إسحاق عن أبي بردة وتابعه وأصل الأحدب ومجالد، روياه عن أبي بردة من قوله، وقال النعمان بن عبد السلام: عن الثوري عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبيه موقوف ولا يثبت قوله عن أبيه. وقال أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى عن حماد بن خالد «قلت لمخرمة: سمعت عن أبيك شيئاً؟ قال لا» هذا كلام الدارقطني وهذا الذي استدركه بناه على القاعدة المعروفة له ولأكثر المحدثين أنه إذا تعارض في رواية الحديث وقف ورفع، أو إرسال واتصال حكموا بالوقف والإرسال وهي قاعدة ضعيفة ممنوعة. والصحيح طريقة الأصوليين والفقهاء والبخاري ومسلم ومحققي المحدثين أنه يحكم بالرفع والاتصال لأنها زيادة ثقة اهـ. قال المحب الطبري: أصح الأحاديث فيها حديث أبي موسى وأشهر الأقوال قول عبد الله بن سلام: إنها آخر ساعة بعد العصر، زاد الحافظ ابن حجر: وما عداهما إما ضعيف الإسناد أو موقوف استند قائله إلى اجتهاد دون توقيف. ثم اختلف السلف في أي القولين أرجح فرجح كلاً مرجحون فمن رجح الأول البيهقي وابن العربي والقرطبي، وقال المصنف: إنه الصحيح أو الصواب، ورجح الثاني أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وابن عبد البر وابن الزملكاني من الشافعية، قال القاضي عياض: وليس معنى هذه الأقوال أن هذا كله وقت لها بل معناه أنها تكون في أثناء ذلك لقوله «وأشار بيده يقللها» والحكمة في إبهامها ألا يقتصر على إحيائها،

بل يعمم بالطاعات سائر أوقات الجمعة كإخفاء ليلة القدر بين الليالي، ولا يشكل على كل من القولين قوله في الحديث يصلي، لأن المراد منه عليهما أنه منتظرها وهو في حكم المصلي كما أجاب به ابن سلام رضي الله عنه لمَّا أورد عليه ذلك وهو جار على الوجه الثاني كما في «التوشيح» . 121158 - (وعن أوس) بفتح فسكون وآخره سين مهملة (ابن أوس) بضبط ما قبله، قال المصنف في «التهذيب» : هو الثقفي، وقال يحيى بن معين: يقال له أوس بن أوس، ويقال له أوس بن أبي أوس، وقال البخاري: أوس بن أوس وأوس بن أبي أويس وأوس بن حذيفة الثلاثة اسم لرجل واحد، ووافقه جماعة وخالفه بعضهم. قلت: ممن خالفه الحافظ ابن حجر في «التقريب» فقال: أوس بن أوس الثقفي صحابي سكن دمشق وأوس بن أبي أوس، واسم أبي أوس حذيفة الثقفي صحابي أيضاً، وهو غير الذي قبله على الصحيح اهـ. قال المصنف: نزل أوس هذا دمشق ومسجده ودراه بها في درب العلي وقبره بها، روى حديثين في الجمعة حديث «من غسل واغتسل» وحديث «أكثروا من الصلاة عليّ» وحديثاً في الصيام اهـ. وفي «تقريب الحافظ» : خرج عنه الترمذي وابن ماجه، وفي «محتضر التلقيح» : أوس بن أوس له أربعة وعشرون حديثاً وليس له في الصحيح شيء (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إن من أفضل أيامكم) فيه دليل لأن أفضل أيام السنة يوم عرفة كما جاء «سيد الأيام يوم عرفة» (يوم الجمعة) ويوم الجمعة من الأفضل وهو أفضل أيام الأسبوع (فأكثروا عليّ من الصلاة فيه) ليزكوا ثوابها وينمو فضلها، لأن العمل الصالح يشرف بشرف زمانه ومكانه، وقوله (فإن صلاتكم معروضة عليّ) يحتمل أن يراد عرض خاص وإلا فسائر الأعمال صالحها وفاسدها في سائر الأيام تعرض عليه كما جاء في السنة. قال الشيخ ابن حجر الهيتمي وغيره: ويوم الجمعة كغيره في أن النبي يسمع بأذنيه الصلاة عليه إن كانت بحضرته بين يديه، وإلا فتبلغه الملائكة إياها، وما اشتهر من قول العامة أن النبي ليلة الجمعة يسمع بأذنيه الصلاة عليه محمول على ما ذكر، وللحديث تتمة تأتي في كتاب الصلاة على النبيّ (رواه أبو داود بإسناد صحيح) ورواه أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان

211 ـــ باب استحباب سجود الشكر

والحاكم في «المستدرك» .Y 121158 - (وعن أوس) بفتح فسكون وآخره سين مهملة (ابن أوس) بضبط ما قبله، قال المصنف في «التهذيب» : هو الثقفي، وقال يحيى بن معين: يقال له أوس بن أوس، ويقال له أوس بن أبي أوس، وقال البخاري: أوس بن أوس وأوس بن أبي أويس وأوس بن حذيفة الثلاثة اسم لرجل واحد، ووافقه جماعة وخالفه بعضهم. قلت: ممن خالفه الحافظ ابن حجر في «التقريب» فقال: أوس بن أوس الثقفي صحابي سكن دمشق وأوس بن أبي أوس، واسم أبي أوس حذيفة الثقفي صحابي أيضاً، وهو غير الذي قبله على الصحيح اهـ. قال المصنف: نزل أوس هذا دمشق ومسجده ودراه بها في درب العلي وقبره بها، روى حديثين في الجمعة حديث «من غسل واغتسل» وحديث «أكثروا من الصلاة عليّ» وحديثاً في الصيام اهـ. وفي «تقريب الحافظ» : خرج عنه الترمذي وابن ماجه، وفي «محتضر التلقيح» : أوس بن أوس له أربعة وعشرون حديثاً وليس له في الصحيح شيء (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إن من أفضل أيامكم) فيه دليل لأن أفضل أيام السنة يوم عرفة كما جاء «سيد الأيام يوم عرفة» (يوم الجمعة) ويوم الجمعة من الأفضل وهو أفضل أيام الأسبوع (فأكثروا عليّ من الصلاة فيه) ليزكوا ثوابها وينمو فضلها، لأن العمل الصالح يشرف بشرف زمانه ومكانه، وقوله (فإن صلاتكم معروضة عليّ) يحتمل أن يراد عرض خاص وإلا فسائر الأعمال صالحها وفاسدها في سائر الأيام تعرض عليه كما جاء في السنة. قال الشيخ ابن حجر الهيتمي وغيره: ويوم الجمعة كغيره في أن النبي يسمع بأذنيه الصلاة عليه إن كانت بحضرته بين يديه، وإلا فتبلغه الملائكة إياها، وما اشتهر من قول العامة أن النبي ليلة الجمعة يسمع بأذنيه الصلاة عليه محمول على ما ذكر، وللحديث تتمة تأتي في كتاب الصلاة على النبيّ (رواه أبو داود بإسناد صحيح) ورواه أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم في «المستدرك» .Y 211 - باب استحباب سجود الشكر هو سجدة واحدة تطلب خارج الصلاة، ويشترط لها شروط الصلاة، وأركانها: النية، وتكبيرة الإحرام، والسجود، والسلام (عند حصول نعمة ظاهرة) أي هجومها سواء كانت مما يتوقعها أولا، لكن يظهر من قولهم هجومها أنه يشترط ألا يكون متوقعاً لها، وسواء عمت النعمة المسلمين أو خصت كما صرح به المصنف وغيره (أو اندفاع بلية ظاهرة) ولو تصدق أو صلى شكراً فحسن، قاله في «التهذيب» ، قال الناشري في (الإيضاح) أي يفعل ذلك مع السجود كما صرح به النووي في «مجموعه» ، وفهم الخوارزمي تليمذ صاحب «التهذيب» أنه بدله فقال: لو أقام التصدق أو الصلاة مقام السجود للشكر كان حسناً اهـ. 11159 - (وعن سعد بن وقاص رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله من مكة نريد المدينة) بالتحتية حال من رسول الله على مذهب الفارسي في إجازته مجيء الحال من المضاف إليه من غير شرط، وعى الاشتراط فتعرب الجملة مستأنفة، وبالنون حال من فاعل خرجنا «فلما كنا قريباً من عزوزاء» بفتح العين وضم الزاي وسكون الواو وبالزاي الثانية مثل دبوقاً اسم للمعذرة، وفي بعض النسخ بسكون الزاي وفتح الواو والمد، وهو أقرب، ولابن العبد عزوزاه بالهاء بدل الهمزة قال البكري: هو بضم الزاي وواو وزاي أخرى: موضع بين مكة والمدينة، وأنا أظنه تصحيفاً وأنه بفتح العين المهملة وسكون الزاي وفتح الواو، وراء مهملة: موضع قريب من مكة، قاله ابن رسلان (نزل) أي عن راحلته (ثم رفع يديه فدعا الله) سبحانه وتعالى (ساعة) فيه استحباب رفع اليدين في كل دعاء (ثم خر) أي سقط بعزمة (ساجداً) منصوب على الحال، والسجود هو وضع الجبهة مكشوفة على الأرض وهو غاية الخرور ونهاية الخضوع (فمكث) ضم الكاف وفتحها: أي أقام. قال ابن عطية: وفتح

الكاف أحسن لأنه لغة القرآن في قوله ماكثين إذ هو من مكث بفتحها، ولو كان من مضمومها لكان مكيتين (طويلاً) فيه فضيلة تطويل سجدة الشكر ومثلها سجدتا السهو والتلاوة وغيرهما (ثم قام) أي من سجوده وسلم (فرفع يديه) أي للدعاء (ساعة) ويحتمل أن يكون المراد ثم قام للدعاء بعد التحلل من سجدة الشكر، فيؤخذ منه ندب القيام للدعاء بعد التحلل من سجدة الشكر (ثم خر ساجداً) لله عزّ وجل (فعله) أي ما ذكر من الخرور والسجود (ثلاثاً وقال: إني سألت ربي) سبحانه وتعالى حذف المفعول للتعميم أو لأنه المراد بقوله (وشفعت لأمتي) بفتح الفاء ظاهره حصولها منه لهم في الدنيا، ولا يشكل عليه حديث الصحيحين «لكل نبي دعوة مستجابة وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي» خلافاً لمن توهمه لأنها وقعت منه لهم في الدنيا، وهناك شفاعة خاصة جعلها دعوته المقطوع بإجابها، وفيه مزيد كمال شفقته بأمته ورأفته بهم واعتنائه بالنظر في مصالحهم المهمة (فأعطاني) أي بالدعاء الأول (ثلث أمتي) أي أن يدخلهم الجنة (فخررت) بكسر الراء الأولى (ساجداً لربي) عز وجل (شكراً) نصب على المصدرية: أي خرور شكر، أو على العلة أو الحال فيه: أي ولما استجاب الله دعوته في أمته وذلك من أعظم النعم عنده وأثمها خر ساجداً شكراً لذلك. ففيه استحباب سجود الشكر عند تجدد النعمة، وظاهر الحديث أن سجوده كان خارج الصلاة وهو كذلك فإنها لا تشرع فيها (ثم رفعت رأسي) أي من سجدة الشكر (فسألت ربي وشفعت لأمتي) حذف المسؤول إيماء إلى كثرته وعظمته، وأنه فوق ما تحيط ببيانه العبارة، والمطلوب بهذا السؤال الثاني الزيادة على الحاصل الأول (فأعطاني ثلث أمتي) الثاني: أي أن يدخلوا الجنة (فخررت ساجداً لربي شكراً) فيه تكرير السجود بتكرير المقتضي له (ثم رفعت رأسي) أي من السجدة الثانية (فسألت ربي) وشفعت (لأمتي فأعطاني الثلث الآخر) بكسر الخاء (فخررت ساجداً لربي) سجدة ثالثة شكراً له سبحانه (رواه أبو داود) في «الجهاد» من «سننه» .

212 ـــ باب فضل قيام الليل أي التهجد فيه.

212 - باب فضل قيام الليل أي التهجد فيه. (قال الله تعالى) : ( {ومن الليل} ) أي بعضه ( {فتهجد به} ) أترك الهجود والتهجد ترك الهجود للصلاة كالتأثم والتحرج ( {نافلة لك} ) فإنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فجمع نوافله زيادة في رفع درجته أو معناه: فريضة زائدة لك على الصلوات المفروضة. وعن كثير من السلف أن التهجد كان واجباً عليه، ونصبها بالعلية أو بتقدير فرضها فريضة، أو حال من مضير به ( {عسى أن يبعثك ربك مقاماً} ) أي في مقام أو تقديره فيقيمك مقاماً ( {محموداً} ) وهو مقام الشفاعة لأنه يحمده فيه الأولون والآخرون. وفي الآية إيماء إلى أن ارتقاء المقامات المحمودة من نتائج قيام الليل فإن للوارث مشرباً من بحار مورثه. (وقال تعالى) : ( {تتجافى} ) ترتفع وتتنحى ( {جنوبهم عن المضاجع} ) أي الفرش ومواضع النوم ( {يدعون ربهم} ) داعين ( {خوفاً} ) من عقابه ( {وطمعاً} ) في ثوابه ( {ومما رزقناهم ينفقون} ) في مصارف الخير، والمراد التهجد وقيام الليل، وفي الأحاديث الصحيحة ما يدل عليه وهو المناسب لسياق المصنف، وقال آخرون: هو صلاة العشاء والصبح في جماعة. وقال آخرون هو صلاة الأوابين بين العشاءين، وعن بعض: هو انتظار صلاة العتمة. (وقال تعالى) في مدح المحسنين ( {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون} ) ينامون، وما زائدة، ويهجعون خبر كان، وقليلاً إما ظرف: أي زماناً قليلاً، ومن الليل إما صفة أو متعلق بيهجعون وإما مفعول مطلق: أي هجوعاً قليلاً، ولو جعلت ما مصدرية فما يهجعون فاعل قليلاً، ومن الليل بيان أو حال من المصدر. وأما جعلها نافية: أي الهجوع في قليل من الليل منتف بمعنى أن عادتهم إحياء

جميع أجزاء الليل فلا نوم لهم أصلاً، وأن عادتهم التهجد في جميع الليالي فلا يمكن أن يناموا جميع ليل واحد، فجائز عند من يجوز عمل ما بعد ما النافية فيما قبلها إذا كان ظرفاً، ذكره الصفوي في «جامع البيان» . 11160 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي يقوم من الليل) أي بعضه ولم يستوف ليلة بالقيام تخفيفاً على أمته (حتى تتفطر) بفتح الفاء والمهملة: أي تتشقق وفي نسخة تنفطر بالنون الساكنة فالفاء (قدماه) وهذا غاية لما دل عليه ما قبله: أي دأب في الطاعة إلى تفطر قدميه من طول القيام واعتماده عليها (فقلت له لم تصنع هذا) سؤال عن حكمة الدأب والتشمير في الطاعة (يا رسول الله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر) أتت به طبق الآية المكنى بها عن رفعة شأنه وعلو مكانه، لا أن هناك ذنباً فيغفر لوجوب العصمة له كسائر الأنبياء (قال: أفلا أكون عبداً شكوراً) أي أأترك صلاتي لأجل مغفرته فلا أكون عبداً شكوراً؟ فالفاء عاطفة على مقدر بعد الهمزة كما جرى عليه «الكشاف» ، ظن السائل أن سبب تحمل مشاق الطاعة خوف الذنب، أو رجاء العفو فبين أن له سبباً آخر هو أعلى وأكمل وهو الشكر على التأهل لها مع المغفرة وإجزال النعمة والشكر: الاعتراف بالنعمة والقيام بالخدمة، فمن أدام بذل الجهد في ذلك كان شكوراً وقليل ما هم، ولم يوف أحد بعلي هذا المنصب إلا الأنبياء وأعلاهم فيه نبينا، وإنما ألزموا أنفسهم الجهد في العبادة لكمال علمهم بعظيم نعمة ربهم من غير سابقة استحقاق (متفق عليه) وتقدم مشروحاً في باب المجاهدة. (وعن المغيرة) ابن شعبة (نحوه) ولفظه «إن كان رسول الله ليقوم أو ليصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه فيقال له فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً (متفق عليه) رواه البخاري بهذا اللفظ ومسلم بنحوه، ورواه الترمذي في «الشمائل» بلفظ «صلى رسول الله حتى انتفخت قدماه فقيل له: أتتكلف هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من

ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟» والحديث تقدم في باب المجاهدة. 31161 - (وعن علي رضي الله عنه: أن النبي طرقه وفاطمة) بالنصب عطف على الضمير المنصوب (ليلة) الإتيان به على تجريد الطروق عن جزء معناه الآتي وإرادة مطلق الإتيان، ونحو قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً} (الإسراء: 1) بناء على أن الإسراء السير ليلاً وفائدته الدلالة بتنكيره على تقليل مدة الإتيان (فقال ألا تصليان) ألا أداة عرض، واقتصر عليه المصنف لأنّه مقصود الترجمة لما فيه من طلب القيام حينئذ من عليّ وفاطمة، ووصوله إليهما إيقاظاً لهما من نومهما، أو تنبيهاً على عظم الصلاة حينئذ وفضلها. قال ابن جرير: لولا ما علم النبي من عظم فضل الصلاة في الليل ما كان يزعج ابنته وابن عمه في وقت جعله الله لخلقه سكنا، لكنه اختار لهما تلك الفضيلة على الدعة والسكون، وسكت عما أجاب به على رضي الله عنه وما قاله النبيّ لعدم تعلقه بغرض الترجمة (متفق عليه. طرقه: أتاه ليلاً) . 41162 - (وعن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب) القرشي العدوي أبي عمر أو أبي عبد الله المدني أحد فقهاء المدينة السبعة، كان ثبتاً عابداً فاضلاً، وكان يشبه بأبيه في الهدي والسمت، من كبار التابعين مات آخر سنة ست ومائة على الصحيح كذا في التقريب للحافظ وفي قوله (رضي الله عنهم) تغليب لأبيه وجده الصحابيين عليه. (عن أبيه أن النبيّ) هو مرسل صحابي لأنه يرويه عن أخته حفصة عن النبيّ أنه (قال) لما عرضت عليه حفصة ما رآه ابن عمر من المنام المذكور في «الصحيحين» (نعم الرجل عبد الله) قال

القرطبي: إنما فسر الشارع من رؤيا عبد الله ما هو محمود لأنه عرض على النار ثم عوفي منها، وقيل له: لا روع عليك وذلك لصلاحه، وفيه جواز الثناء على من أمن عليه الإعجاب (لو كان يصلي من الليل) قال البرماوي: لو للتمني لا شرطية، قال المهلب: إنما فسرها بقيام الليل لأنه لم ير شيئاً منه يغفل عنه من الفرائض فيذكر بالنار وعلم مبيته في المسجد فعبر ذلك بأنه منبه على قيام الليل. وفي الحديث إيماء إلى أن قيام الليل ينجي من النار، وفيه تمني الخير (قال سالم: فكان عبد الله بعد ذلك) أي التمني الصادر من رسول الله (لا ينام الليل) أي بعضه (إلا قليلاً) أي إلا بعضا قليلاً أو إلا نوماً قليلاً. ففيه إيماء لاستغراق قلبه بالتوجه للخدمة وإن نامت عينه فلا يستغرق قلبه فيه (متفق عليه) والحديث أخرجه أحمد. 51163 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله) مخاطباً له (يا عبد الله لا تكن مثل فلان) أي لا تماثله وتشابهه فيما بينه بقوله (كان يقوم الليل) هو كناية عن التهجد فيه/ وفي البخاري «من الليل» بزيادة من (فترك قيام الليل) ففيه ذم قطع ما يعتاده الإنسان من عمل البر ولذا أمر الإنسان ألا يفعل من البر إلا ما يطيق إدامته، والحديث تقدم في باب المحافظة على الأعمال (متفق عليه) . 61164 - (وعن) عبد الله (بن مسعود رضي الله عنه قال ذكر) بالبناء للمجهول (عند

النبي رجل) حذف الذاكر وأبهم المذكور ستراً على كل، ففيه أن من الأدب الستر في مثل ذلك (نام ليله) بالإضافة إلى الضمير (حتى أصبح) أي لم يقم فيه للتهجد (فقال: ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه) بالتثنية (أو) شك من الراوي هل قاله بالتثنية (أو قال) أي النبي في (أذنه) بالإفراد. واختلف في معناه فقال قوم: هو على ظاهره وحقيقته لأن الشيطان ممن يبول، ولا يلزم من بوله رؤية البول ولونه فيها إذ اللفظ محتمل لكون في أذنيه ظرفاً للبول وكونه ظرفاً للشيطان، وأصل الطهارة محقق فلا يجب التطهر ما لم يتحقق التنجيس. قال الشيخ عبد الوهاب الشعراوي في العهود المحمدية: ولقد رأيت عياناً إنساناً من أهل الزاوية نام حتى الفجر، فقام والبول يسيل من أذنه، قال: وكان يكذب بذلك، فينبغي الإيمان به وبما شاكله، وقيل إنه كناية أو استعارة عن كمال استهانة الشيطان به وتمكنه تمكن قاضي الحاجة من محل قضائها، وقيل معناه أفسده يقال بال في كذا: أي أفسده، وقيل استخف به واحتقره، يقال لمن استخف بإنسان وخدعه بال في أذنه، وأصل ذلك في دابة تفعل ذلك بالأسد إذلالاً له، وقيل معناه: ظهر عليه وسخر منه (متفق عليه) وفيه أن إهمال حق الله تعالى إنما ينشأ عن تمكن عدو الله في ذلك الإنسان حتى يحول بينه وبين القيام بحق الله سبحانه. 71165 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: يعقد الشيطان) أي إبليس أو أحد أولاده (على قافية رأس أحدكم) قيل العقد كناية عن تثقيله بالنوم وتثبيطه، وقيل مجاز عن تثبيطه عن قيام الليل قال في النهاية: المراد منه تثقيله في النوم وإطالته كأنه شد عليه شداداً وعقد عقداً، وقيل على ظاهره فعند ابن ماجه يعقد في حبل وهو من باب عقد السواحر النفاثات في العقد وذلك بأن يأخذن خيطاً فيعقدن عليه عقدة منه ويتكلمن عليه بالسحر فيتأثر المسحور بمرض أو تحريك فلب أو نحوه. وقال المصنف: هو عقد حقيقي بمعنى عقد السحر للإنسان ومنعه من القيام، فهو قول يقوله فيؤثر في تثبيط النائم كتأثير

السحر، ويحتمل أن يكون فعلاً يفعله كفعل النفاثات في العقد، وقيل هو من عقد القلب وتصميمه فكأنه يوسوسه ويحدثه بأن عليك ليلاً طويلاً فيتأخر عن القيام (إذا هو نام) أي تلبس به أو إذا أراده (ثلاث عقد) قال البيضاوي: الثلاث إما للتأكيد وإما لحل كل منها بواحد من الذكر والوضوء والصلاة، قال: وتخصيص القفا لأنه محل الواهمة ومجال تصرفها وهي أطوع القوى للشيطان وأسرعها إجابة لدعوته (يضرب على كل عقدة) أي عندها كما في رواية (عيك ليل طويل) مبتدأ وخبر مقدم، أو فاعل لفعل محذوف: أي بقي عليك ليل، قال المصنف: هو في معظم نسخ بلادنا: أي من مسلم، وكذا نقله القاضي عن رواية الأكثرين «عليك ليلاً طويلاً» بالنصب على الإغراء، ورواه بعضهم «عليك ليل طويل» بالرفع: أي بقي عليك ليل طويل اهـ. قال البرماوي: هو أولى وأمكن في المعنى من حيث إنه يخبره عن طول الليل ثم يأمره فيقول له (فارقد) فإذا كان إغراء كان أمراً بملازمة طول الرقاد فلا يبقى لهذا الأمر كبير فائدة، والجملة مقول قول محذوف: أي قائلاً هذا الكلام، قال ابن بطال: هو تفسير لمعنى العقد كأنه يقولها إذا أراد النائم الاستيقاظ اهـ. والظاهر أنه يقول ذلك عند نومه ليحمله على الاستغراق في النوم وعدم القلق فيه فيفوته القيام (فإن استيقظ فذكر الله تعالى) بأي ذكر من الأذكار (انحلت عقدة) بالتنوين (فإن توضأ انحلت عقدة) أي ثانية، وفي رواية لمسلم «فإن توضأ انحلت عقدتان» قال المصنف: معناه تمام عقدتين: أي انحلت عقدة ثانية وتم بها عقدتان وهو بمعنى قوله تعالى: {أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين} () إلى قوله {في أربعة أيام} (فصلت: 9، 10) أي في تمام أربعة أيام، ومعناه في يومين آخرين تمت الجملة بهما أربعة أيام، ومثله في الحديث الصحيح «من صلى على جنازة فله قيراط، ومن اتبعها حتى توضع في القبر فقيراطان» هذا لفظ إحدى روايات مسلم، ورواه البخاري ومسلم من طرق كثيرة بمعناه، والمراد فله قيراط بالأول أي يحصل له بالصلاة قيراط، وبالاتباع قيراط: أي تتم به الجملة قيراطان، ومثله حديث مسلم «من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله» اهـ. ملخصاً (فإن صلى) أي ولو ركعة أو أقل ما يعتاد وهو ركعتان كل محتمل (انحلت عقدة) روى بالإفراد كما قبله وبالجمع، قال البرماوي: ويؤيده رواية البخاري في بدء الخلق «عقده كلها» (فأصبح نشيطاً) لسروره بما وفقه الله (طيب النفس) لما بارك الله له في نفسه من

هذا التصرف الحسن (وإلا) أي وإن لم يأت بما ذكر من الأمور الثلاثة (أصبح خبيث النفس) أي بتركه ما كان اعتاده أو نواه من فعل الخير، ولا يعارض هذا الحديث «لا يقل أحدكم خبثت نفسي» لأن النهي لمن يقول ذلك عن نفسه، وهنا إنما أخبر عن غيره بأنه كذلك (كسلان) أي لبقاء أثر تثبيط الشيطان ولشؤم تفريطه وظفر الشيطان به بتفويته الحظ الأوفر من قيام الليل فلا يكاد تخف عليه صلاة ونحوها من القرب، وهو غير منصرف للوصف وزيادة الألف والنون ومؤنثه كسلى، وبما تقرر علم أنه يصبح كذلك ما لم يصل وإن أتى بما قبلها (متفق عليه) وهذا لفظ البخاري، ورواه مالك وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان في «صحيحه» كذا في الجامع الكبير (قافية الرأس) بالرفع مبتدأ وبالجر على الحكاية (آخره) وقافية كل شيء مؤخره، ومنه قافية الشعر، وقال الزركشي: قافية أي القفا بالقصر وهو مؤخر العنق. 81166 - (وعن عبد الله بن سلام) بتخفيف اللام الإسرائيلي تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في كتاب السلام (أن النبيّ قال: أيها الناس) حذف حرف النداء اختصاراً وإيماء إلى شدة التوجه لما بعده (أفشوا السلام) بقطع الهمزة: أي أشيعوه وأذيعوه بينكم (وأطعموا الطعام وصلوا بالليل) أي التهجد بأن يكون بعد نوم أو ائتوا بها فيه مطلقاً (والناس نيام) لأن هجر المصلي فراشه وآداب نفسه في طاعة ربه وحرمان نفسه لذيذ المنام شديد، فلذا جوزي من محض الفضل بقوله (تدخلوا الجنة بسلام) أي مسلمين من العذاب قبل دخولها، ففيه بشارة لفاعل مجموع ذلك بالدخول لها ابتداء والله أعلم (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) ورواه أحمد وعبد الله بن حميد والدارمي وابن أبي شيبة وابن ماجه وابن سعد

وسعيد بن منصور والحاكم في «المستدرك» والطبراني وابن زنجويه/ كلهم عن عبد الله بن سلام بزيادة «وصلوا أرحامكم» قبل قوله «وصلوا بالليل» كذا في «الجامع الكبير» . 91167 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: أفضل الصيام) أي النفل المطلق منه (بعد رمضان شهر الله المحرم) أي صومه كما يدل عليه قرينة المقام وإضافته إلى الله تعالى للتشريف وتخصيصه بلفظ المحرم، مع أن كلا من الأشهر الحرم يوصف به لما قيل إنه اسم إسلامي وإن تحريمه كذلك فلم تغير حرمته بما كان يفعله أهل النسىء (وأفضل الصلاة) من النفل المطلق (بعد الفريضة صلاة الليل) لأنه وقت السكون والخشوع والخضوع مع ما فيه من البعد عن الرياء (رواه مسلم) ورواه الأربعة والدارمي أيضاً بلفظ «أفضل الصلاة بعد المكتوبة الصلاة في جوف الليل، وأفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم» ولا يخالفه حديث الترمذي والبيهقي في الشعب عن أنس مرفوعاً «أفضل الصوم بعد رمضان شعبان» لتعظيم رمضان لأن سبب الفضل مختلف، فالمحرم لكونه فاضلاً في ذاته، وشعبان لتعظيم غيره والله أعلم. 101168 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: صلاة الليل مثنى مثنى) أي ركعتان ركعتان، وهما معدولان عن اثنين اثنين، فلذا مع الوصف منع الصرف كما تقدم في باب تخفيف ركعتي الفجر (فإذا خفت) وفي رواية «فإذا خشي أحدكم» (الصبح) أي خشيت طلوعه بأن بدأ الصبح الكاذب أو نحوه مما يكون قبل الفجر الصادق (فأوتر بواحدة) فيؤخذ منه فضل فضل ركعات الوتر ركعتين ركعتين فركعة الوتر وهو الأصح من مذهبنا لأنه أكثر عملاً، وفي رواية زيادة «توتر له ما صلى» وفي أخرى «فإن الله وتريحب الوتر» (متفق عليه) ورواه مالك وأحمد وأصحاب السنن الأربعة.

111169 - (وعنه قال: كان النبي يصلي من الليل) أي يتهجد، والتهجد يحصل بالوتر وغيره من كل نفل مفعول بعد نوم (مثنى مثنى ويوتر بركعة) والحديث تقدم بجملته في باب تخفيف ركعتي الفجر (متفق عليه) . 121170 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله يفطر من الشهر) أي بعضه ويديم الفطر (حتى نظن) لطول فطره (أن لا يصوم منه) استصحاباً لفطره (ويصوم) أي بعض الشهر ويتابع الصوم (حتى نظن أن لا يفطر) منه شيئاً من الأيام أو من الفطر، وفي الإتيان به هنا دون الجملة السابقة إيماء إلى أن متابعة الصوم إذا صام أطول من متابعة الفطر إذا أفطر (وكان) أي الشأن (لا تشاء) أي لا زمن تحب (أن تراه) تبصره (من الليل مصلياً) أي فيه (إلا رأيته) أي إلا زمان رؤيتك إياه كذلك ففي الكلام مضاف مقدر (ولا نائماً إلا رأيته) وقال القسطلاني: لا بمعنى ليس أو لم: أي لست تشاء أو لم تكن تشاء، أو تقديره: لا زمن تشاء، فعلى هذا يكون التركيب من باب الاستثناء على البدل، والتقدير على الإثبات: إن تشأ رؤيته متهجداً رأيته متهجداً، وإن تشأ رؤيته نائماً رأيته نائماً، فكان أمره قصداً لا إسراف ولا تقتير، وقال بعضهم: الحصر فيه إضافي باعتبار تعاور هاتين الحالتين عليه مع غلبة التهجد على النوم تارة وعكسه أخرى والحكم للغالب فبالنظر لذلك صح الحصر فيها. ما كان يعين بعض الليل للنوم وبعضه للصلاة كأصحاب الأوراد وكذا الصوم، بل كان يخالف بين أوقاتهما ليكونا مشقين على النفس لا عادتين لها، فإنه إذا صام مدة صار عادة له واطمأنت له النفس، فإذا أفطر كان شاقاً عليها وكذا عكسه/ قال الحافظ ابن حجر: لم يكن لتهجده وقت معين بل بحسب ما يتيسر له القيام، ولا يعارضه قول أنس: «كان إذا سمع الصارخ قام» لأنه محمول على ما وراء صلاة القيام، ولا يعارضه قول أنس: «كان إذا سمع

الصارخ قام» لأنه محمول على ما وراء صلاة، الليل، وحديث الباب محمول على صلاته، ولا قول عائشة «كان إذا صلى صلاة داوم عليها» وقولها «كان عمله ديمة» لأنّ المراد به ما اتخذه راتباً لا مطلق النفل اهـ ملخصاً، وهذه الطريقة المشار إليها بحديث أنس أعلى طبقات العبادة وأسناها، وهناك طرائق أخر: فمنهم من شدد على نفسه بالمرة فمنعها حقها وحظها، ومنهم من أعطاها كليهما، وخير الأمور أوسطها: إعطاؤها حقها وحظها واستعمالها معه في خدمة ربها (رواه البخاري) والترمذي في «الشمائل» . 131171 - (وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله كان يصلي) أي للتهجد والوتر (إحدى عشرة ركعة) وقول الراوي (تعني) بالفوقية: أي عائشة تريد بتلك الركعات النفل الذي كان يتهجد به (في الليل) وفيه أنه قد يتهجد بالوتر (يسجد السجدة من ذلك) أي القدر المذكور (قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه) ظرف ليقرأ، وجملة يسجد مستأنفة لبيان كيفية قيامه بها ولاستحباب إطالتها، أو حالية من ضمير يصلي (ويركع ركعتين) عدل إليه عن قول يصلي ركعتين تفنناً في التعبير، وفيه مجاز مرسل أطلق الجزء وأريد به الكل (قبل صلاة الفجر) بعد طلوع الفجر هما سنتاه القبليتان (ثم يضطجع على شقه) بكسر الشين المعجمة: أي جانبه (الأيمن) تشريعاً للأمة ليذكروا بها ضجعة القبر، فتحملهم على الخشوع الذي هو لب الصلاة ويستمر مضطجعاً عليه (حتى يأتيه المنادي) هو بلال (للصلاة) وذلك بعد اجتماع المصلين (رواه البخاري) . 141172 - (وعنها قالت: ما كان رسول الله يزيد) أي في الوتر (في رمضان ولا في غيره

على إحدى عشرة ركعة) فهي أكثره، ورواية أنه صلاه ثلاث عشرة محمولة على أن الراوي عد الركعتين اللتين كان يأتي بهما قبله لإزالة ما يبقي من كسل النوم معه ثم أتت على طريق الاستئناف البياني مفصلة لذلك بقولها (يصلي أربعاً) أي من الركعات (فلا تسأل عن حسنهن) لكما اشتمالهن على الآداب المطلوبة فيها وطولهن وكان ذلك أول الدخول لتوفر النشاط، كما قال الفقهاء باستحباب السورة في الأولين لذلك دون الأخيرتين مع ورود السنة بها فيهما أيضاً (ثم يصلي أربعاً فلا تسأل) بالجزم (عن حسنهن وطولهن) أي أن ظهور هذين الوصفين فيهن يغني عن السؤال، وأتت بذلك لئلا يتوهم أنهم دون الأربع قبلهن كما هو العادة من غيره من الناس (ثم يصلي ثلاثاً) أي كذلك وسكتت عنه لما ذكر من استواء أحواله في حسن الصلاة وإكمالها (فقلت: يا رسول الله أتنام قبل أن توتر) استفهام لبيان حكمة النوم قبله مع أن النوم ربما يغلب على النائم فيؤدي النوم قبله إلى فواته (فقال) مرشداً للفرق بينه وبين باقي الأمة (يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي) قال المصنف: هذا من خصائص الأنبياء، ولذا لا ينتقض وضوؤهم بالنوم، وأما نومه في قصة الوادي حتى طلعت الشمس وفات وقت الصلاة فلأن طلوع الفجر والشمس متعلق بالعين وهي نائمة لا بالقلب، وأماأمر الحدث فمتعلق بالقلب، وقيل إنه كان لا ينام قلبه تارة وينام أخرى، وصادف قصة الوادي نومه، قال المصنف: والصواب الأول اهـ. (متفق عليه) . 151173 - (وعنها: أن النبي كان ينام أول الليل) أداء لكل من العين والنفس حقها منه وذلك أن الجسد يصيبه الكلال من مزاولة الأعمال (ويقوم آخره) أي في أواخره/ وتقدم في حديث أنس «أنه كان يقوم إذا صرخ الصارخ» يعني الديك وهو يقوم وقت انتصاف الليل،

وقوله (فيصلي) تنبيه على المقصود من قيامه حينئذ، وفيه تنبيه على أن أفضل القيام لمن صلى به حينئذ وبها ترتفع العقد كما تقدم. بخلاف مجرد القيام وإن اقترن به نحو ذكر فلا يحلها كلها (متفق عليه) ورواه ابن ماجه بلفظ «كان ينام أول الليل ويحيى آخره» . 161174 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: صليت مع النبي ليلة) أي مقتدياً به في تهجده، ففيه جواز الجماعة في النفل المطلق (فلم يزل) بفتح الزاي (قائماً) أي ما برح على قيامه (حتى هممت) أي قصدت، والهم بمعنى القصد ويعدى بالباء (بأمر سوء) بالفتح نقيض المسرة مصدر وشاعت الإضافة إليه كرجل سوء ولا يقال بالضم وكما في الصحاح، وفي نسخة «بأمر سوء» على الوصف دون الإضافة. قال القسطلاني: الرواية بالإضافة كما أفهمه كلام الحافظ في «فتح الباري» (قيل وما هممت) به (قال هممت أن أجلس) وفي رواية الترمذي في «الشمائل» «أن أقعد» (وأدعه) أي بأن ينوي قطع القدوة ويتم صلاته منفرداً لا أنه يقطع صلاته كما ظنه القسطلاني وغيره، لأن ذلك لا يليق بجلالة ابن مسعود، وترك الاقتداء به والحرمان من مداومة جماعته أمر سوء، وفي الحديث تطويل الإمام لكن محله عند الشافعية عند انحصار الجمع إذا رضوا ولم يطرأ غيرهم ولم يتعلق بعينهم حق (متفق عليه) .

171175 - (وعن حذيفة رضي الله عنه قال: صليت مع النبي) أي مؤتماً به في تهجده (ذات ليلة فافتتح البقرة) أي بعد الفاتحة لا أنه افتتح بها من غير قراءة الفاتحة فإنه كان يقرؤها، وصح عنه «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» وإنما يذكره الراوي اعتماداً على فهم السامع (فقلت: يركع عند المائة) بكسر الميم وفتح الهمزة وبينهما في الرسم ألف، وبعض الجهال يقوله بفتح الميم والتحتية بينهما ألف، قال الراعي: وهذا جهل كأنه قائله ما قرأ القرآن، وإنما كتبت الألف على خلاف قاعدة الخط دفعاً للالتباس بمنه الجار (ثم مضى فقلت: يصلي بها في ركعة) أي فيركع عند تمامها (فمضى فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها) هذا ترتيب مصحف ابن مسعود، فلا يقال إن ترك ترتيب السور وقراءة الأخيرة ثم ما قبلها خلاف الأولى، ولعل الترتيب كان حينئذ كذلك، ثم أمر النبي بتقديم آل عمران، وقال المصنف: فيه دليل لمن قال إن ترتيب السور اجتهاد لا توقيف فيه، وبه قال مالك والجمهور والباقلاني وقال إنه أصح القولين مع احتمالهما. قال المصنف: ومن قال إنه توقيفي حدده كما استقر في المصحف العثماني، وإنما اختلفت المصاحف قبل أن يبلغهم التوقيف والعرض الأخير فيتناول قراءته النساء فآل عمران، على أنه كان قبل التوقيف في الترتيب وكانت هاتان السورتان هكذا في مصحف أبيّ. قال المصنف: ولا خلاف في أنه يجوز للمصلي أن يقرأ في الركعة الثانية سورة قبل التي قرأها في الأولى، وإنما يكره ذلك في ركعة ولمن يتلو خارج الصلاة، وأباحه آخرون وحملوا التنكيس المنهي عنه على من قرأ من آخر السورة إلى أولها، ولا خلاف أن ترتيب الآيات توقيفي اهـ. ملخصاً، وقد نقله هو عن القاضي عياض، وقوله (يقرأ مترسلاً) جملة مستأنفة أو

حالية لبيان كيفية قراءته، والترسل ترتيل الحروف وأداؤها حقها (إذ مر بآية فيها تسبيح) كقوله تعالى: {وسبحوه بكرة وأصيلاً} (الأحزاب: 42) (سبح) أي قال سبحان الله (وإذا مر بسؤال) أي بآية فيها ذلك كقوله تعالى: {واسألوا الله من فضله} (النساء: 32) وقوله: {فليستجيبوا لي} (البقرة: 186) (سأل وإذا مر بتعوذ) أي بآية فيها ذلك كقوله تعالى عن أم مريم: {وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم} (آل عمران: 36) أو طلبه كقوله تعالى: {فإما ينزغك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله} (الأعراف: 200) (تعوذ) أي سأل الله العوذ من الشيطان وخالف في تعبيره بما في الشرطية الأولى وبما في الأخيرتين تفننا في التعبير. ويؤخذ من الحديث استحباب جميع ما ذكر للقارىء (ثم ركع فجعل) أي عقب تمام ركوعه وهو من أفعال الشروع أي أخذ (يقول) فيه (سبحان ربي العظيم) أي يكرره لقوله (فكان ركوعه نحواً) أي قريباً (من قيامه) أي كان زمن ركوعه قريباً من زمن قيامه، ففيه تطويل الركوع (ثم قال) أي مع رفع رأسه من الركوع (سمع الله لمن حمده) أي تقبله منه (ربنا لك الحمد) قاله حال انتصابه (ثم قام) في الاعتدال من الركوع قياماً (طويلاً قريباً مما ركع) قال المصنف: فيه دليل لجواز تطويل الاعتدال عن الركوع وأصحابنا يمنعونه ويبطلون به الصلاة (ثم سجد فقال: سبحان ربّي الأعلى) صح «أنه لما نزل: {فسبح بسم ربك العظيم} (الواقعة: 74) ، قال: اجعلوها في ركوعكم، فلما نزلت: {سبح اسم ربك الأعلى} (الأعلى: 14) قال: اجعلوها في سجودكم» وحكمته أنه ورد «أقرب ما يكون العبد من ربه إذا كان ساجداً» فخصه بالأعلى: أي عن الجهات والمسافات لئلا يتوهم بالأقربية ذلك، وقيل لما كان الأعلى أفعل تفضيل وهو أبلغ من العظيم والسجود

أبلغ في التواضع فجعل الأبغ للأبلغ (فكان سجوده قريباً من قيامه. رواه مسلم) وتقدم في باب المجاهدة. 181176 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: سئل) بالبناء للمجهول ولم أقف على السائل (رسول الله: أي الصلاة) أي أعمالها (أفضل؟ قال: طول القنوت. رواه مسلم المراد بالقنوت القيام) قال المصنف: فيه دليل لمن فضل تطويل القيام على تطويل السجود وتكثير الركوع، وهو مذهب الشافعي وجماعة لحديث جابر هذا، ولأن ذكر القيام القراءة وذكر السجود التسبيح والقرآن أفضل، ولأن المنقول عن النبيّ أنه كان يطول القيام أكثر من تطويل السجود. وفي المسألة مذاهب أخر، قيل تطويل القيام في الليل أفضل وتكثر الركوع والسجود نهاراً أفضل، وعليه إسحاق بن راهويه، وقيل تطويل السجود وتكثير الركوع أفضل مطلقاً، وقيل إنهما سواء. 191177 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله قال) مخاطباً (له) لما أمره بترك مداومة الصوم والقيام وأن يصوم ويفطر ويقوم وينام (أحب الصلاة) أي التهجد (إلى الله) أي أرضاها إليه وأكثرها ثواباً عنده (صلاة داود) عليه السلام (وأحب الصيام إلى الله) أي النفل المطلق منه (صيام داود) عليه السلام، ثم بين ذلك على طريق الاستئناف البياني أو العطف البياني بناء على مجيئه في الجمل بقوله (كان ينام نصف الليل) إعطاء للعين والجسد حقهما منه (ويقوم ثلثه) بضمتين ويخفف الثاني فيسكن: أي

يحييه بالقيام بالتهجد (وينام سدسه) إراحة للجسد مما أصابه من مرادفة الصلاة. وفيه طلب إخفاء عمل البر وستره عن الغير ليكون أقرب للإخلاص، فإن من قام ونام ما ذكر كان لم يقم لذهاب كلال ذلك السهر بالنوم، ففيه إخفاء التهجد بخلاف المستمر على السهر إلى الفجر فإنه يبدو عليه الأثر ففيه تعرّض لظهور عمله الليلي (ويصوم يوماً ويفطر يوماً) اختلف هل الصوم كما ذكر أفضل من صوم الدهر بشرطه لكل أحد أو ذلك خاص بابن عمرو؟ والجمهور على الأول وذلك لما فيه من المشقة على النفس ومن إعطاء النفس حقها، إذ يحصل لها من القوى يوم الفطر ما يجبر ما قام بها من ضعف يوم الصوم (متفق عليه) ورواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه. 201178 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول) مؤكداً بمؤكدات إسمية الجملة وتصديرها بأن وتقديم خبرها والإتيان باللام، وكأن الداعي إليه استبعاد كون الليل محل التجليات لكونه جعل سكناً، ومع ذلك الاستبعاد بأن فيض الله على حسب مشيئته فيجعله فيما شاء من ليل أو نهار (إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم) التقييد به لكونه جريا على الغالب من قيام الرجل حينئذ لا مفهوم له فمن وافقها من النساء المسلمات كذلك (يسأل الله خيراً) مفعول مطلق: أي سؤال خير وأضافه إليه لكونه أثره وحاصلاً عنه أو مفعول به، وفيه إيماء إلى كمال كرم الله سبحانه وتعالى من عدم الوعد بإجابة السائل شراً حينئذ من أمر الدنيا والآخرة كالعافية فيهما وحصول التوفيق في الدنيا والجنة في العقبى (إلا أعطاه إياه) ففيه حث على الدعاء في الليل وحض عليه، وأبهم الساعة في جميعه طلباً لعمارته بالتوجه للمولى وعدم الغفلة فيه بالنوم وإراحة الجسم عنه فإن التوجه بالقلب

وهو لا ينافي النوم بالعين والجوارح، ويمكن أن تكون الساعة المطلقة في هذا الخبر محمولة على ما جاء من التقييد في رواية بأنها بعد مضي الثلث من الليل، وفي أخرى أنها في الثلث الأخير، ولا منافاة بينها إما بجعل الجميع على أنها في الثلث الأخير لصدق جميع الروايات عليه، وإما بأنها تنتقل فتارة تكون قبل النصف الأخير، وأخرى في النصف الأخير قبل الثلث الأخير، وأخرى في الثلث الأخير، أو على أنه أخبر أوّلاً أنها في الثلث الأخير فأخبر به، ثم أخبر بأنها نم نصف الليل فأخبر به، ثم أخبر بأنها من الثلث الأول فأخبر به، وفيه على كل وجه إيماء إلى اتساع زمنها، بخلاف ساعة الإجابة يوم الجمعة، ويؤيد ذلك أنه أشار لضيق ساعة الجمعة بقول الصحابي، وأشار: أي النبي بيده يقللها، ولم يقل مثل ذلك في الساعة التي في الليل، والله أعلم (وذلك) أي المذكور من إعطاء السائل ما سأل (كل ليلة) بالنصب ظرف والخبر متعلقة أي كائن فيها، وفيه شرف الليل على النهار لأن التجليات الإلهية لا تختص بليلة دون ليلة بخلاف النهار فهي فيه مختصة بيوم الجمعة (رواه مسلم) ورواه أحمد. قال المصنف: في هذا الحديث إثبات ساعة الإجابة في كل ليلة، ويتضمن الحث على الدعاء في سائر ساعات الليل رجاء مصادفتها اهـ. 211179 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: إذا قام أحدكم من الليل) أي لأجل قيامه أو فيه (فليفتتح الصلاة بركعتين خفيفتين) لإذهاب ما قد يبقى في الجسد من كسل النوم فتشد الأعصاب وتقوى الأعضاء من فتورها فتتوجه بكمال نشاط لصلاة الليل (رواه مسلم) ورواه أحمد. 221180 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله إذا قام من الليل) للتهجد

(افتتح صلاته بركعتين خفيفتين) لإذهاب أثر النوم وليدخل الصلاة بكمال النشاط/ والفتور أثر النوم طبع البشر فلا نقص فيه كسائر العوارض والأمراض (رواه مسلم) . 231181 - (وعنها رضي الله عنها قالت: كان رسول الله إذا فاتته الصلاة من الليل) المفعولة تهجداً (من) تعليلية (وجع أو غيره) كاشتغاله بأهم منه (صلى من النهار) أي فيه (ثنتي عشرة ركعة) يحتمل أنه يأتي بها قضاء لما فاته من نافلة الليل، فيؤخذ منه ندب قضاء النفل المؤقت، ويحتمل أنه لحوز ثوابه عوضاً عما فات من صلاة الليل لا قضاء عنه وعليه جرى ابن حجر في «شرح المشكاة» (رواه مسلم) . 241182 - (وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من نام من حزبه) بكسر المهملة وسكون الزاي. قال في «النهاية» : هو ما يجعله الرجل على نفسه من قراءة أو صلاة كالورد، والحزب النوبة في ورود الماء اهـ. (أو عن شيء منه) أي ولو يسيراً (فقرأه فيما) أي في وقت (بين صلاة الفجر وصلاة الظهر) الظرف في محل الصفة لما، ويجوز كونها موصولة صفة لمحذوف: أي في الوقت الذي بين الوقت المذكور (كتب) بالبناء للمجهول (له كأنما قرأه من الليل) فيه استحباب تدارك النفل المؤقت، وأن ما ترك لعذر وقضى كتب بمحض الفضل كثواب المؤدي، وأتى بالكاف إيماء إلى نقص ثواب القضاء ولو لعذر عن ثواب الأداء (رواه مسلم) والحديث سبق في باب المحافظة على الأعمال.

251183 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: رحم الله) جملة خبرية لفظاً دعائية معنى عدل عنها إلى الخبرية تفاؤلاً بالإجابة كأنها حصلت وأخبر عنها بما يخبر به عن الحاصل.d وفيه مزيد حث على الإتيان بما يذكر بالدعاء لفاعله (رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته) للصلاة، فيه تعاون على البر والتقوى وإيثار اتباع الأمر الإلهي على الهوى النفساني (فإن أبت) أي امتنعت من القيام (نضح) أي رش (في وجهها الماء) ليذهب عنها النوم الغالب لها (رحم الله امرأة قامت من الليل) تتهجد (فصلت وأيقظت زوجها) للصلاة (فإن أبى) أي امتنع من أن يقوم (نضحت في وجهه الماء. رواه أبو داود بإسناد صححي) ورواه أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم في «المستدرك» كذا في «الجامع الصغير» ، ورواه الطبراني من حديث أبي مالك الأشعري عن رسول الله قال «ما من رجل يستيقظ من الليل فيوقظ امرأته، فإن غلبها النوم نضح في وجهها الماء، فيقومان في بيتهما فيذكران الله عزّ وجل ساعة من الليل إلا غفر لهما» وهذا الحديث مطلق يشمل ذكر الله تعالى في الصلاة وخارجها كما في الآية، والنضح بالنون والضاد المعجمة وإهمال الحاء وإعجامها، قال في «فتح الباري» : قال الأصمعي: النضح بالمعجمة أكثر منه بالمهملة، وسوّى بينهما أبو زيد، وقال ابن كيسان: بالمعجمة لما ثخن، وبالمهملة لما رق: أي من الطيب ونحوه. 261184 - (وعنه وعن أبي سعيد رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله: إذا أيقظ الرجل أهله) هو أعم من امرأته، وفيه فضيلة أمر الرجل أهله بصلاة النوافل والتطوعات كما في الفرض (من) جوف (الليل فصلياً) أي كلاهما جميعاً، فعند النسائي «فصلياً جميعاً» ففيه اقتداء

المرأة بزوجها في النافلة، وفيه مشروعية الجماعة فيها، وقال ابن رسلان: قد يقال لا دلالة في جميعا على الجماعة لصدقه على فعلهما النافلة جماعة ومنفردين (أو) شك من الراوي (صلى) أي كل منهما (ركعتين جميعاً) هكذا وقع/ ووجه الكلام فصلياً جميعاً أو صلى كل منهما منفرداً ركعتين (كتب) بالإفراد وكذا هو بخط ابن رسلان في شرحه لسنن أبي داود، وفي نسخة من «الرياض» كتباً بألف التثنية (في) جملة (الذاكرين والذاكرات) أي المذكورين في قوله تعالى: {والذاكرين الله كثيراً والذاكرات} (الأحزاب: 35) وذكر الجلالة وكثيراً ليس في الراوية، وهذا من تفسير الكتاب بالسنة (رواه أبو داود بإسناد صحيح) قال ابن رسلان: ورواه ابن حبان في «صحيحه والحاكم» ، وهذا الحديث من جملة الحديث قبله من حيث المعنى، ولعل الإتيان به على احتمال أن الرواية أو صلى بإفراد الفعل أفاد ظاهرها ترتب ثواب الرجل لإيقاظ امرأته على إيقاظها وصلاته سواء أصلت هي أم لا، والله أعلم. 271185 - (وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي قال: إذا نعس أحدكم) قال في «المصباح» : حقيقة النعاس الوسن من غير نوم، يقال نعس ينعس من باب قتل والاسم منه النعاس، وقال الفقهاء: علامة النعاس سماع كلام الحاضرين وإن لم يفهم معناه (في الصلاة) التي تقوم بها بالليل (فليرقد) ندباً (حتى يذهب عنه النوم) وذلك أن لب الصلاة الخشوع والخضوع والحضور مع الله عزّ وجل، وإنما يكون ذلك مع النشاط وصحة اللب وسلامته من الكسل، وعلل الأمر بالرقاد بقوله (فإن أحدكم إذا صلى) أي دخل في الصلاة (وهو ناعس) حال من فاعل صلى (لعله يذهب يستغفر) جملة لعل واسمها وخبرها في محل الخبر لإن، قال القاضي عياض: أي يدعو (فيسبّ نفسه) بسبب غلبة النعاس وتلجلج اللسان عند إرادة النطق (متفق عليه) ورواه مالك وأبو داود والترمذي وابن ماجه.

213 ـــ باب استحباب قيام رمضان

281186 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إذا قام أحدكم من الليل) يتهجد (فاستعجم القرآن) والتبس (على لسانه فلم يدر) من النعاس القائم به (ما يقول) من القرآن أو الذكر (فليضطجع) لأن غلبة النعاس عليه تمنعه من تدبر القرآن، ولا خير في قراءة لا تدبر فيها (رواه مسلم) ورواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، وختم الباب بهذين الحديثين إعلاماً بأن محل فضل القيام ما لم يكن في مثل هذا الحال، والله أعلم. 213 - باب استحباب قيام رمضان (وهو) أي القيام الموعود عليه بالغفران في الحديث الصحيح (التراويح) أي حاصل بها، وهي عندنا لغير أهل المدينة عشرون ركعة بعشر تسليمات، كما أطبقوا عليه كذلك في زمن عمر رضي الله عنه لما اقتضاه نظره السديد من جمع الناس على إمام واحد فوافقوه ينوي بهما من التراويح أو من قيام رمضان وكانوا يوترون عقبها بثلاث، وسر العشرين أن الرواتب المؤكدة في غير رمضان عشر، فضوعفت فيه لأنه وقت جدّ وتشمير، ولهم فقط لشرفهم بجواره ست وثلاثون جبراً لهم بزيادة ست عشرة في مقابلة طواف أهل مكة أربعة أسباع بين كل ترويحتين من العشرين سبع، وابتداء حدوث ذلك كان في أواخر القرن الأول، ثم اشتهر ولم ينكر، فكان بمنزلة الإجماع السكرتي، ولما كان فيه ما فيه قال الشافعي: العشرون لهم أحب إليّ، وقال الحليمي: عشرون مع القراءة فيها بما يقرأ في ست وثلاثين أفضل، لأن طول القيام أفضل من كثرة الركعات، ووقتها كالوتر ما بين صلاة العشاء ولو مجموعة جمع تقديم وطلوع الفجر الصادق، وسميت تراويح لأنهم لطول قيامهم كانوا يستريحون بعد كل تسليمتين.

11187 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: من قام رمضان) أي أحيا لياليه بالعبادة أو بالتراويح فيها (إيماناً) أي تصديقاً بثوابه (واحتساباً) أي إخلاصاً ونصبهما على الحالية أو على أنه مفعول له (غفر له ما تقدم من ذنبه) أي الصغائر المتعلقة بحق الله بالعفو عنها وعدم المؤاخذة بها (متفق عليه) ورواه أصحاب السنن الأربع. 21188 - (وعنه رضي الله عنه قال: كان رسول الله يرغب) بتشديد الغين المعجمة: أي يذكر الثواب (في قيام رمضان) أي بإحياء لياليه لعنايته بالأمة ودلالته لهم على محل الفضل (من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة) أي لا يأمرهم أمر إيجاب وتحتيم بل أمر ندب وترغيب، ثم فسر صيغة ترغيبه بقوله (فيقول) بالرفع عطفاً على يرغب (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه. رواه مسلم) في أبواب النوافل ويؤخذ من الحديث فضل صلاة التراويح حيث رتب عليها ما ذكر فيه، وإنما فضل عليها نوفل أخر من العيدين والكسوفين والرواتب لمواظبته على تلك دون التراويح فإنه صلاها ثلاث ليال، فلما كثر الناس في الثالثة حتى غص المسجد تركها خوفاً من أن تفرض عليهم، ونفي الزيادة ليلة الإسراء نفي لفرض متكرر مثلها فلم يناف خشية فرض هذه.

214 ـــ باب فضل قيام ليلة القدر

214 - باب فضل قيام ليلة القدر بإسكان الدال المهملة، قيل إنه بمعنى مفتوحها لأنها التي فيها يفرق كل أمر حكيم ويقدر على الأصح، وقيل إنه بمعنى الشرف، فقيل لشرف قدرها عند الله تعالى، وقيل لأن من لا شرف له إذا صادفها فقامها صار ذا قدر وشرف، وقيل غير ذلك مما بينته في سطوع البدر في فضل ليلة القدر (وبيان أرجى لياليها) أي ليالي رمضان لها. واختلف فيها على أكثر من أربعين قولاً، ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري أن الأصح منها أنها باقية وفي كل رمضان، وأنها تلزم ليلة بعينها من العشر الأخير، واختير القول بانتقالها فتكون تارة في الحادية والعشرين وتارة أخرى في أخرى من العشر الأخير، قال المصنف: وبه يجمع بين الأخبار ويرتفع التعارض عنها. (قال الله تعالى) : ( {إنا أنزلناه} ) أي القرآن المدلول عليه بقرينة المقام ( {في ليلة القدر} ) بإنزاله فيها جملة نم اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في سماء الدنيا، ثم نزل مفصلاً بعد بحسب الوقائع ( {وما أدراك ما ليلة القدر} ) تعظيم لشأنها ( {ليلة القدر خير من ألف شهر} ) أي من ألف شهر ليس فيها ليلة قدر: أي العمل في تلك الليلة أفضل من عبادة ألف شهر ليس فيها تلك الليلة. نزلت هذه الآية حين ذكر رجلاً من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فعجب أصحابه من ذلك وتقاصرت إليهم أعمالهم، فأعطوا ليلة هي خير من مدة ذلك الغازي. والأصح أنها من خصائص هذه الأمة ( {تنزل} ) أي تتنزل ( {الملائكة والروح} ) أي جبريل أو ضرب من الملائكة ( {فيها بإذن ربهم} ) مع نزول البركة والرحمة، قال «الملائكة في الأرض تلك الليلة أكثر من عدد الحصى» وعن كعب الأحبار: لا تبقى بقعة إلا وعليها ملك يدعو للمؤمنين والمؤمنات سوى كنيسة أو بيت نار أو وثن أو موضع فيه النجاسة أو السكران أو الجرس، وجبريل لا يدع أحداً إلا صافحه، فمن اقشعر جلده ورق قلبه ودمعت عيناه فمن أثر مصافحته ( {من كل أمر} ) أي لأجل كل أمر قدر في تلك السنة ( {سلام هي} ) ليس هي إلا سلامة لا يقدر فيها شر وبلاء، أو لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءاً. أو ما هي إلا سلام لكثرة تسليم الملائكة فيها على أهل المساجد. وعن مجاهد سلام هي من كل خطر ( {حتى مطلع الفجر} ) غاية

تبين انتهاء تعميم السلامة أو السلام كل ليلة قدر إلى وقت طلوعه، والمطلع بالفتح مصدر على القياس، وبالكسر مصدر أيضاً كالمرجع، أو اسم زمان كالمشرق على خلاف القياس، وقد قرىء في السبع بهما. (وقال تعالى) : ( {إنا أنزلناه} ) أي الكتباب المبين ( {في ليلة مباركة} ) هي ليلة القدر ( {إنا كنا منذرين} ) محذرين بإنزال الكتاب: جملة مستأنفة لبيان فائدة الإنزال ( {فيها} ) أي في تلك الليلة ( {يفرق} ) يفصل ويثبت ( {كل أمر حكيم} ) محكم لا يبدل من الأرزاق والآجال وجميع أمورهم إلى السنة ( {أمراً من عندنا} ) نصب على الاختصاص: أي أعني به أمراً حاصلاً من عندنا أو حال من كل أو من ضمير حكيم ( {إنا كنا مرسلين} ) إلى الناس رسلاً تتلو عليهم آياتنا بدل من «إنا كنا منذرين» أي أنزلناه لأن عادتنا الإرسال ( {رحمة من ربك} ) مفعول له، وقيل «إنا كنا» علة لِ «يفرق» و «رحمة» مفعول به: أي تفصل فيها الأمور لأن من شأننا أن نرسل رحمتنا وفصل الأمور من باب الرحمة ( {إنه هو السميع العليم} ) للأقوال والأفعال والرب لا بد وأن يكون كذلك. 11189 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: من قام) أي أحيا بالعبادة (ليلة القدر) ويحصل أصل قيامها بصلاة العشاء فيها جماعة والعزم على صلاة الصبح كذلك (إيماناً واحتساباً) أي مؤمناً ومحتسباً (غفر له ما تقدم من ذنبه) . قال المصنف: قد يقال هذا الحديث مع حديث «من قام رمضان» الخ يغني أحدهما عن الآخر. وجوابه أن يقال: قيام رمضان من غير موافقة ليلة القدر ومعرفتها سبب لغفران الذنوب، وقيام ليلة القدر لمن وافقها وعرفها سبب للغفران وإن لم يقم غيرها اهـ. (متفق عليه) ورواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن جان كلهم من حديث أبي هريرة، ورواه النسائي أيضاً من حديث عائشة كذا في «الجامع الكبير» .

21190 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجالاً من أصحاب النبي) قال الحافظ ابن حجر في «الفتح» : لم أقف على تسمية أحد منهم (أروا) بضم أوله (ليلة القدر في المنام) أي قيل لهم فيه إنها (في السبع الأواخر) أي آخر سبع من الشهر، وقيل المراد بها التي أولها ليلة الثاني والعشرين وآخرها ليلة الثامن والعشرين. قال الدماميني في «المصابيح» : الأواخر جمع آخرة بكسر الخاء لا جمع أخرى لأنها لا دلالة لها على المقصود وهو الآخر في الوجود وإنما تقتضي المغايرة كقولك مررت بامرأة حسنة وأخرى: أي مغايرة لها، ويصح هذا التركيب سواء كان المرور بهذه المغايرة سابقاً أو لاحقاً، وهذا عكس العشر الأول لأنه جمع أولى، ولا يصح الأوائل لأنه جمع أول الذي هو للمذكر وواحد العشر ليلة وهي مؤنثة فلا توصف بمذكر اهـ (فقال رسول الله: أرى) بالفتح أي أبصر مجازاً (رؤياكم) قال القاضي عياض: كذا هو بالإفراد، والمراد رؤياكم لأنها لم تكن رؤيا واحدة. وقال الدماميني: فهو ما عاقب فيه الإفراد الجمع لأمن اللبس وهو مسموع، وقال السفاقسي: كذا يرويه المحدثون بتوحيد الرؤيا وهو جائز لأنها مصدر، وأفصح منه رؤاكم جمعاً لتكون جمعاً في مقابلة جمع، ولم يبدل ذلك وإن كان أشبه بكلام النبي لكراهة تغيير ما أدته الرواية. قلت: مع حصول معنى الجمع بذلك لأن المفرد المضاف للعموم فهو كالجمع المضاف (قد تواطأت) بالهمز: أي توافقت وزناً ومعنى، وأصله أن يطأ الرجل برجله مكان رجل صاحبه، وهو في مسلم تواطت بطاء فتاء. قال المصنف: هكذا هو في النسخ وهو مهموز، فكان ينبغي كتابة ألف بعد الطاء صورة للمهموز ولا بد من قراءته مهمورا، قال الله تعالى: {ليواطئوا عدة ما حرم الله} (التوبة: 37) اهـ (في السبع الأواخر، فمن كان متحريها) أي متوخياً مصادفتها (فليتحرها في السبع الأواخر) وجاء عند مسلم في حديث ابن عمر مرفوعاً «من كان ملتمسها فليلتمسها في العشر الأواخر» وعنده من حديثه أيضاً كذلك عمر مرفوعاً «من كان ملتمسها فليلتمسها في العشر الأواخر» وعنده من حديثه أيضاً كذلك بلفظ «التمسوها في العشر الأواخر/ فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي. قال

الحافظ في الفتح: هذا السياق يرجح الأول من الاحتمالين في تفسير السبع الأواخر (متفق عليه) قال في الفتح: في الحديث دلالة على عظم قدر الرؤيا وجواز الاستناد إليها في الأمور الوجودية بشرط أن لا تخالف القواعد الشرعية. 31191 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يجاور) أي يعتكف (في العشر الأواخر من رمضان) وأوله الحادي والعشرون منه وآخره انقضاء رمضان (ويقول: تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان) أخذ أصحابنا بقضية هذا الحديث فقالوا: إذا علق رجل طلاق زوجته بليلة القدر، فإن كان قبل الحادي والعشرين من رمضان طلقت بانقضائه وإن كان في الحادي والعشرين منه فما بعد فلا يقع الطلاق حتى يحول الحول ويأتي مثل يوم التعليق (متفق عليه) . 41192 - (وعنها أن رسول الله قال: تحروا ليلة القدر) قال في النهاية: التحري القصد والاجتهاد في الطلب والعزم على تخصيص الشيء بالقول والفعل (في الوتر) هذا مقيد لإطلاق الحديث قبله الشامل لأوتار العشر وأشفاعه (في العشر الأخير) في محل الصفة أو الحال من الوتر لكونه محلي بأل الجنسية وكذا قوله (من رمضان) والحديث محتمل لكل

من القول بلزومها لليلة معينة من الأوتار والقول بانتقالها في لياليها والله أعلم (رواه البخاري) ورواه أحمد والترمذي، كذا في «الجامع الصغير» . 51193 - (وعنها قالت: كان رسول الله إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا الليل) أي قامه بأنواع العبادات من الصلاة والذكر والفكر، أو أحيا نفسه بالسهر فيه لأن النوم أخو الموت، وأضافه إلى الليل اتساعاً لأن النائم إذا حيى باليقظة حيى ليله بحياته (وأيقظ أهله) تنبيهاً على وقت الخير ليتعرضوا للنفحات. فعند الترمذي «لم يكن النبيّ إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحداً من أهله يطيق القيام إلا أقامه» (وجد) أي بذل جهده وطاقته في أداء الطاعة (وشد المئزر) بكسر الميم الإزار، قال في النهاية: كنى بشده عن اعتزال النساء، وقبل إرادة تشميره للعبادة، يقال شددت لهذا الأمر مئزري: أي تشمرت له اهـ. وقال القرطبي: ذهب بعضهم إلى أن اعتزال النساء كان بالاعتكاف، وفيه نظر لقوله فيه «وأيقظ أهله» فإنه يشعر بأنه كان معهن في البيت، فلو كان معتكفاً لكان في المسجد ولم يكن معه أحد. ونظر فيه بأنه قد روى «أنه اعتكف مع النبيّ امرأة من أزواجه» وبتقدير عدم اعتكاف أحد منهن فيحتمل أن يوقظهن من موضعه وأن يوقظهن عند دخوله البيت لحاجة الإنسان. قال الخطابي: يحتمل أن يريد به الجد في العبادة، كما يقال شددت لهذا الأمر مئزري: أي شمرت له، ويحتمل أن يكون كناية عن التشمير والاعتزال معاً، ويحتمل أن يراد الحقيقة والمجاز معاً فيكون المراد شد مئزره حقيقة فلم يحله واعتزل النساء وشمر للعبادة. واعترض بأنه قد جاء في رواية «شد مئزره واعتزل النساء» فعطف بالواو فقوى الاحتمال الأول (متفق عليه) كذا أورده المصنف بلفظ للعشر الأواخر وعزاه لهما، والذي فيها «إذا دخل

العشر شد مئزره» الخ من غير وصف للعشر، ونبه السيوطي على أن زيادة الوصف لابن أبي شيبة فقال الأخير، ونبه العلقمي أنه كذلك من حديث علي عند ابن أبي شيبة والبيهقي، وحديث الباب من غير لفظ الأواخر، ورواه أيضاً أبو داود والنسائي وابن ماجه. 61194 - (وعنها قالت: كان رسول الله يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره) لشرفه على باقي الأشهر. وفي الحديث عن أبي سعيد عن رسول الله «سيد الشهور شهر رمضان» الحديث رواه البيهقي في الشعب يجتهد (وفي العشر الأواخر منه ما لا يجتهد في غيره) من باقي أيامه لفضله على عشريه الأولين لكون ليلة القدر فيه (رواه مسلم) واقتصر في «الجامع الصغير» على الجملة الأخيرة من هذا الحديث وعزاها لأحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه. 71195 - (وعنها قالت: قلت يا رسول الله أرأيت) بفتح التاء أي أخبرني (إن علمت أي ليلة ليلة القدر) برفع أي مبتدأ خبره ليلة القدر، والجملة منصوبة المحل منع العامل من العمل في اللفظ اسم الاستفهام (ما) أي أي شيء مرفوع على الابتداء، والرابط للجملة الخبرية محذوف: أي أقوله، أو منصوب على أنه مفعول مقدم وجوباً لقولها (أقول فيها؟ قال: قولي اللهم إنك عفو) بصيغة فعول الموضوعة للمبالغة لأبلغية عفوه سبحانه كيفا وكما يعفو عن الكبائر غير الشرك، وعنه بعد الإسلام وعما لا يعلم عدده سواه (تحب العفو) خبر بعد خبر أو حال من ضمير الخبر قبله أو جملة مستأنفة أتى بها إطناباً (فاعف عني) وفيه إيماء إلى أن أهم المطالب انفكاك الإنسان من تبعات الذنوب وطهارته من دنس العيوب، فإن بالطهارة من ذلك يتأهل للانتظام في سلك حزب الله وحزب الله هم المفلحون (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) . تتمة: من علامات ليلة القدر أنها معتدلة، والشمس تطلع صبيحتها

215 ــــ باب فضل السواك

بيضاء وليس لها كبير شعاع، وفائدة ذلك معرفة يومها، إذ يسن الاجتهاد فيه كليلتها. 215 - باب فضل السواك بكسر السين المهملة، قال المصنف في «شرح مسلم» : قال أهل اللغة: السواك بكسر السين يطلق على الفعل وعلى العود الذي يتسوك به وهو مذكر، قال الليث: وتؤنثه العرب أيضاً. قال الأزهري: هذا من عدد الليث: أي من أغاليطه القبيحة. وذكر صاحب المحكم أنه يذكر ويؤنث، والسواك فعلك بالمسواك، يقال ساك فمه يسوكه سواكاً. فإن قلت: استاك لم تذكر الفم، وجمع السواك سوك بضمتين ككتاب وكتب، وذكر صاحب المحكم أنه يجوز أيضاً سؤك بالهمزة، ثم قيل إن السواك مأخوذ من ساك إذ دلك، وقيل من جاءت الإبل تساوك: أي تتمايل هزالا. وفي اصطلاح العلماء استعمال عود أو نحوه في الأسنان لإزالة ما عليها، ويحصل بكل خشن ولو نحو سعد وأشنان لحصول المقصود من النظافة بهما، نعم يكره بمبرد وعود ريحان يؤذي، ويحرم بذي سم ومع ذلك يحصل به أصل سنة السواك لأن الكراهة والحرمة لأمر خارج، والعود أفضل من غيره، وأولاه ذو الريح الطيب، وأولاه الأراك للاتباع مع ما فيه من طيب طعم وريح وشعيرة لطيفة تنقى ما بين الأسنان، ثم بعده النخل لأنه آخر سواك استاك به. وصح أيضاً أنه كان أراكا لكن الأول أصح، وكل راو قال بحسب علمه، ثم الزيتون لخبر الطبراني «نعم السواك الزيتون من شجرة مباركة تطيب الفم وتذهب بالحفر» أي وهو داء في الأسنان «هو سواكي وسواك الأنبياء قبلي» واليابس المندى بالماء أولى من الرطب ومن المندي بماء الورد، ويظهر أن اليابس المندي بغير الماء أولى من الرطب لأنه أبلغ في الإزالة وكذا في التحفة لابن حجر وفيه حديث في «مسند البزار» ، ثم إن السواك سنة ليس بواجب في حال من الأحوال بالإجماع اهـ. (وخصال الفطرة) بكسر الفاء لأنها لبيان الهيئة، يقال فطر يفطر فطراً بالفتح وهو الابتداء والاختراع، وقيل الإيجاد على غير مثال. قال القلقشندي في «شرح العمدة» : المراد بها هنا السنة كما نقله الخطابي عن أكثر العلماء، وصوبه النووي في مجموعه: أي سنن الأنبياء، وقيل هي الدين، وجزم به أبو نعيم في «المستخرج» والماوردي وأبو إسحاق الشيرازي وآخرون وقيل هي الجبلة التي خلق الله الناس عليها وجبلهم على فعلها ورجحه أبو عبد الله القزاز في تفسير غريب البخاري ورد البيضاوي الفطرة إلى مجموع ما قيل في معناها فقال: هي السنة القديمة التي اختارها الأنبياء واتفقت عليها الشرائع القديمة، فكأنها أمر جبلي اهـ.

11196 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: لولا أن أشق على أمتي) أي كراهة أو مخافة أن أشق على أمتي: أي أمة الدعوة بدليل قول الراوي على سبيل الشك (أو على الناس لأمر بهم) أي أمر إيجاب فلا دليل فيه لمن قال: المندوب ليس مأموراً به (بالسواك) إن أريد به الفعل فلا حذف، وإن أريد به الآلة فعلى تقدير مضاف: أي باستعمال السواك (مع كل صلاة) أي عند إرادتها، قال الشيخ شهاب الدين الرملي: ولو نسيه حتى دخل في الصلاة أتى به في أثنائه بعمل خفيف، وخالفه ابن حجر الهيتمي قال: لبناء الصلاة على السكون (متفق عليه) ورواه مالك وأحمد والترمذي والنسائي كلهم من حديث أبي هريرة، ورواه أحمد وأبو داود والنسائي أيضاً من حديث زيد بن خالد، ورواه أحمد والترمذي أيضاً والضياء من حديث زيد بن خالد هذا بزيادة «ولأخرت العشاء إلى ثلث الليل» رواه الحاكم في «المستدرك» من حديث العباس بلفظ «لفرضت عليهم السواك عند كل صلاة كما فرضت عليهم الوضوء» كذا في «الجامع الصغير» . قال المصنف: في الحديث دليل على جواز الاجتهاد للنبيّ فيما لم يرد فيه نص من الله تعالى، وهو مذهب أكثر الفقهاء وأصحاب الأصول وهو الصحيح المختار، وفيه ما كان النبيّ عليه من الرفق بأمته، وفيه فضل السواك عند كل صلاة وقد ورد نم حديث أم الدرداء مرفوعاً «ركعتان بسواك أفضل من سبعين ركعة بلا سواك» الحديث رواه ابن النجار والديلمي في الفردوس. قال السيوطي نقلا عن الزين العراقي: وحكمة الأمر به للصلاة أنا مأمورون في كل حالة من أحوال التقرب إلى الله تعالى أن نكون في حالة كمال ونظافة إظهاراً لشرف العبادة، وقد قيل إن ذلك أمر يتعلق بالملك، وهو أنه يضع فاه على «في» القاريء فيتأذى بالرائحة الكريهة فسن السواك لأجل ذلك. وفيه حديث في «مسند البزار» . وقال الحافظ زين الدين العراقي: يحتمل أن يقال حكمته عند إرادة الصلاة ما ورد من أنه يقطع البلغم ويزيد في الفصاحة، وتقطيع البلغم مناسب للقراءة لئلا يطرأ عليه فيمنعه القراءة وكذلك الفصاحة اهـ. 21197 - (وعن حذيفة رضي الله عنه قال: كان النبي إذا قام) أي استيقظ (من النوم)

وفي لفظ «من الليل» (يشوص فاه بالسواك) تشريعاً للأمة لما ينشأ منهم من التغير عند النوم ففعل ذلك ليفعلوه فيذهب ذلك الأثر (متفق عليه) ورواه أحمد والنسائي وابن ماجه. (الشوط: الدلك) . 31198 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كنا نعد) بضم النون من الإعداد أي نهيء (لرسول الله سواكه) أي ما يستاك به (وطهوره) بفتح الطاء (فيبعثه الله) أي يوقظه من نومه، وفي عبارتها استعارة مكنية يتبعها استعارة تخييلية (ما شاء أن يبعثه) أي وقت مشيئته إيقاظه فما مصدرية ظرفية، وقولها (من الليل) حال من الضمير المفعول به (فيتسوك) أي عقب قيامه كما تومىء إليه الفاء (ويتوضأ) يحتمل أنه كان يكتفي عن السواك المسنون فيه بما قبله لقربه وأنه كان يؤتى له بسواك ثان (ويصلي) أي صلاة الليل (رواه مسلم) . 41199 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: أكثرت) قال الحافظ في «الفتح» في رواية الإسماعيلي «لقد أكثرت» (عليكم في السواك) أي بالغت في تكرير طلبه منكم. وفي إيراد الأخبار في الترغيب فيه. وقال ابن التين: معناه أكثرت عليكم وحقيق أن أفعل وحقيق أن تطيعوا. وحكى الكرماني أنه روى بضم أوله: أي بولغت من عند الله بطلبه منكم، ولم أقف على هذه الرواية إلى الآن صريحة اهـ (رواه البخاري) ورواه أحمد والنسائي.

51200 - (وعن شريح) بضم المعجمة وفتح الراء وسكون التحتية (ابن هانىء) بكسر النون وهمزة آخره ابن زيد الحارثي المذحجي أبي المقدام، قال في التقريب: الكوفي ثقة مخضرم، قتل مع ابن أبي بكر بسجستان كذا في «التقريب» (قال: قلت لعائشة رضي الله عنه: بأي شيء) أي من الخصال التي ندب إليها (كان يبدأ النبي إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك) . فيه ندب السواك عند دخول المنزل وذلك لإزالة ما يحصل عادة بسبب كثرة الكلام الناشئة عن الاجتماع (رواه مسلم) . 61201 - (وعن أبي موسى) هو الأشعري، وليس في الصحابة من يكنى بذلك غيره. واسمه عبد الله بن قيس (رضي الله عنه قال: دخلت على النبي وطرف السواك على لسانه) فيه جواز الدخول على الكبار حال الاستياك (متفق عليه) وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان والطبراني والخوارزمي والإسماعيلي أبو عوانة والبرقاني وأبو نعيم والبيهقي وغيرهم، كذا في «غاية الأحكام» (وهذا لفظ مسلم) رواه في أبواب الطهارة مختصراً وأورده في أبواب الإمارة من جملة حديث بلفظ «أقبلت إلى النبيّ والنبي يستاك، قال: فكأني أنظر إلى سواكه تحت شفته وقد قلصت» الحديث، وكأنهما قضيتان في إحداهما رأى السواك على طرف اللسان وفي أخرى تحت الشفة، أو رآه في تلك القصة فيما ذكر في الحديثين في زمن بعد آخر، وعزا صاحب «عمدة الأحكام» اللفظ المذكور لهما وزاد «وهو يقول أع أع والسواك في فيه كأنه يتهوع» . 71202 - (وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي قال: السواك مطهرة للفم مرضاة للرب)

قال المصنف في المجموع: المطهرة بفتح الميم وكسرها لغتان ذكرهما ابن السكيت وغيره والكسر أشهر: كل آلة يتطهر بها شبه السواك لأنه ينظف الفم، والطهارة النظافة، وقال زين العرب في «شرح المصابيح» : مطهرة ومرضاة بالفتح مصدران بمعنى الفاعل: أي مطهر ومرض، أو باقيان على معناهما المصدري: أي سبب الطهارة والرضا، ويجوز كون مرضاة بمعنى المفعول: أي مرضية للرب. وقال الكرماني: مطهرة ومرضاة إما مصدران ميميان بمعنى اسم الفاعل أو بمعنى الآلة. فإن قلت: كيف يكون سبب مرضاة الله تعالى؟ فالجواب أنه من حيث الإتيان بالمندوب يوجب الثواب، ومن جهة أنه مقدمة الصلاة وهي مناجاة الرب ولا شك أن طيب الرائحة يقتضي طيب المناجاة. وقال الطيبي: يمكن أن يقال إنها مثل «الولد مبخلة مجبنة» أي السواك مظنة الطهارة والرضا: أي يحمل السواك الرجل على طهارة الفم ورضا الرب، وعطف مرضاة يحتمل الترتيب بأن تكون الطهارة علة للرضا وأن يكونا مستقلين في العلية (رواه النسائي وابن خزيمة في «صحيحه» بأسانيد صحيحة) قال السيوطي في «الجامع الصغير» : رواه أحمد عن أبي بكر ورواه الشافعي وأحمد وابن حبان والحاكم في «المستدرك» والبيهقي في «السنن» كلهم عن عائشة، ورواه ابن ماجه عن أبي أمامة (وذكر البخاري رحمه الله في «صحيحه» هذا الحديث تعليقاً أي محذوف أول سنده (بصيغة جزم) أي وما رواه كذلك محكوم بصحته (فقال: وقالت عائشة رضي الله عنها) الخ. 81203 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: الفطرة خمس أو) شك من الراوي (خمس من الفطرة) ويتعين حمل الرواية الأولى على هذه، فقد جاء عند أحمد وغيره بلفظ «من الفطرة خمس» وعند مالك «خمس من الفطرة» سيما وقد ثبتت الرواية بزيادة على الخمس بكثير كما سيأتي في الحديث بعده، فعلم أن الحصر غير مراد. والنكتة في الإتيان بهذه الصيغة إما التنبيه على أن مفهوم الدلالة ليس بحجة، وإما أنه أعلم أولاً بالخمس نظير

حديث «الدين النصيحة» أي معظمه، ويدل له ما أخرجه الترمذي والنسائي عن زيد بن أرقم مرفوعاً «من لم يأخذ من شاربه فليس منا» وورد مثله في عدم حلق العانة وتقليم الأظفار، وساغ الابتداء بخمس على الرواية الثانية لكونها صفة لموصوف محذوف تقديره خصال خمس أو مضافة لمحذوف، والتقدير خمس خصال، أو الجملة خبر مبتدإ محذوف تقديره: المشروع لكم خمس من الفطرة، وأما الرواية الأولى فالقدير: خصال الفطرة خمس، فحذف المضاف، قاله في غاية الأحكام. وفي قوله والجملة خبر مبتدإ محذوف الخ ما لا يخفي، وليس المراد بالسنة المفسر بها لفطرة هنا ما يقابل الواجب بل المراد الطريقة، كما جزم به جماعة من الأئمة منهم أبو حامد والماوردي، إذ منها الخنان وهو واجب عندنا، والمضمضة والاستنشاق وهما واجبان عند بعض الأئمة (الختان) بكسر الخاء المعجمة وتخفيف الفوقية مصدر ختن بفتحات: أي قطع، وكان قياس مصدره ختنا بسكون الفوقية وهو قطع جزء مخصوص (والاستحداد) أي استعمال الحديد لحلق شعر العانة وتنظيف محلها، وهو الشعر الذي حول كل من ذكر الذكر وفرج المرأة كما سيأتي (وتقليم الأظفار) تفعيل من القلم وهو القطع، يقال قلمت ظفري بتخفيف اللام وتشديدها للتكثير والمبالغة، والأظفار جمع ظفر بضم الظاء المعجمة والفاء وبسكون الفاء. وحكى كسرها وكسر أوليه، وأنكره انب سيده، وحكي أيضاً أظفور بوزن عصفور، والمراد قطع ما طال عن اللحم من الظفر لأن الوسخ يجتمع فيه فيستقذر، وربما منع وصول الماء إلى ما يجب غسله في الطهارة. وفي ترتيب قصها أوجه أشهرها: يبدا بمسبحة اليد اليمنى فالوسطى إلى الخنصر ويختم بإبهامها ثم بخنصر اليسرى إلى إبهامها، ويبدأ في الرجل اليمنى بإبهامها إلى الخنصر وفي اليسرى من خنصرها إلى الإبهام (ونتف الإبط) أي نتف شعره النابت فيه وهو سنة اتفاقاً كما قاله المصنف، ويستحب أن يبدأ باليمين وأن يتولاه بنفسه، ولو حلقه أو أزاله بالنورة جاز لحصول المقصود. وقال ابن دقيق العيد: من نظر إلى اللفظ وقف مع النتف، ومن نظر إلى المعنى أجازه بكل مزيل، لكن يظهر أن النتف مقصود لما فيه من إضعاف الشعر وبذلك تضعف الرائحة، والإبط تذكر وتؤنث، ويقال تأبط الشيء: إذا وضعه تحت إبطه (وقص الشارب) وهو الشعر النابت على الشفة العليا، وقيل الإطار بكسر الهمزة وبالطاء المهملة وهو الذي يباشر به المشروب. والحكمة في قصه مخالفة المجوس كما ورد في الحديث أو النظافة والأمن من التشويش عند الأكل ومن بقاء زهومة المأكول فيه. وقال ابن العربي: يشرع القص لأن الماء النازل من الأنف يتلبد به الشعر لما فهي من اللروجة فتعسر إزالته عند غسله

وهو بإزاء حاسة شريفة وهي الشم فشرع تخفيفه ليتم الجمال والمنفعة به، والمستحب أن يبدأ بالجانب الأيمن منه، وهو مخير بين أن يتولى ذلك بنفسه أو يتولى ذلك غيره لحصول المقصود من غير هتك مروءة ولا حرمة بخلاف الإبط والعانة، ويحصل أصل السنة بالأخذ بالمقص وغيره. فائدة: هذه الخصال هي الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام فأتمهن فجعله الله إما ما يقتدي به ويستن بسننه كما قاله ابن عباس وهو أول من أمر بها من الأنبياء، قاله الخطابي، وقيل كانت عليه فرضاً وهي لنا سنة (متفق عليه) وأخرجه أحمد وأصحاب السنن الأربعة وابن خزيمة وابن حبان والإسماعيلي وأبو عوانة والدارقطني والبرقاني وأبو نعيم وأبو الشيخ ابن حبان والبيهقي وغيرهم، وأخرجه مالك والنسائي أيضاً موقوفاً، ورواه مالك خارج «الموطأ» مرفوعاً (الاستحداد: حلق العانة، وهو حلق الشعر الذي حول الفرج) قال الراعي: كأن مأخوذ نم الحديد لأنهم كانوا لا يعرفون النورة اهـ. والعانة: الشعر الذي قول الفرج وحواليه من الرجل والمرأة، ونقل ابن شريح أنها الشعر النابت حول حلقة الدبر، فتحصل من مجموع هذا استحباب حلق جميع ما على القبل والدبر وحولهما، قاله المصنف ويحصل المقصود بالنتف لكن السنة الحق لها. وقال المصنف في «التهذيب» : النتف في حق المرأة أولى، وسبقه إليه الذرماري. واستشكله الفاكهي بأن فيه ضرراً على الزوج باسترخاء المحل باتفاق الأطباء، وقال ابن العربي: النتف في حق الشابة أولى لأن به يربو فكان التنف، والأولى في حق الكهلة التنور والضابط في إزالته الحاجة. 9 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله: عشر) أي خصال عشر (من الفطرة قص الشارب) واختلف في السبالين وهما طرفاً الشارب (وإعفاء اللحية) أي عدم التعرض لشعرها بأخذ شيء منه، قال في «شرح مسلم» : قال العلماء: يكره في اللحية خصال بعضها أشد قبحاً من بعض: خضابها بالسواد لا لغرض الجهاد، وخضابها بالصفرة تشبيها بالصالحين لا اتباعاً للسنة، وتبييضها بالكبريت أو غيره استعجالاً للشيخوخة لأجل الرياسة

والتعظيم وإيهام لقيّ المشايخ، ونتفها أول طلوعها إيثاراً للمرودة وحسن الصورة، ونتف الشيب وتصفيفها طاقة فوق طاقة تصنعاً ليستحسنه النساء وغيرهن، والزيادة فهيا والنقص منها بالزيادة في شعر العذارين من الصدغين، أو أخذ بعض العذار في حلق الرأس ونتف جانبي العنفقة وغير ذلك، ونسريحها تصنعاً لأجل الناس، وتركها شعثة متشعثعة إظهاراً للزهادة وقلة المبالاة بنفسه، والنظر إلى سوادها أو بياضها إعجاباً وخيلاء، وغرة بالشباب وفخراً بالمشيب وتطاولاً على الشباب، وعقدها وضفرها وحلقها إلا إذا نبتت للمرأة فيستحب لها حلقها اهـ (والسواك) أي الاستياك (واستنشاق الماء) أي إيصاله إلى الأنف وهو مطلوب في كل من الوضوء والغسل (وقص الأظفار) لإذهاب ما يجتمع تحتها من الوسخ (وغسل البراجم) دفعاً لما يجتمع في غضونها منه، ويلتحق بالبراجم ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن وقعر الصماخ فيزيله بالمسح لأنه ربما أضرت كثرته بالسمع، وكذا ما يجتمع داخل الأنف وسائر الوسخ المجتمع في أي موضع كان من البدن بالعرق والغبار ونحوهما (ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء. قال الراوي) هومصعب ابن شيبة كما صرح به مسلم (ونسيت العاشرة) أي من الخصال (إلا أن تكو المضمضة) قال المصنف: هذا شك من الراوي، قال القاضي عياض: ولعلها الختان المذكور مع الخمس وهو أولى (قال وكيع) بفتح الواو بوزن بديع (وهو أحد رواته) وراه عند مسلم بواسطة (انتقاص الماء) أي بالقاف والصاد المهملة (الاستنجاء) أي انتقاص البول بالماء لأنه ينقص البول من مجراه ويوقفه داخل الفرج، وقال أبو عبيد وغيره: معناه انتقاص البول بسبب استعمال الماء في غسل مذاكيره، وقيل هو الانتضاح، وقد جاء في رواية الانتضاح بالماء بدل انتقاص الماء، قال الجمهور: الانتضاح نضح الفرج بماء قليل بعد الوضوء لينتفي عنه الوسواس، وقيل هو الاستنجاء بالماء. وذكر ابن الأثير أنه روى انتفاص بالفاء والصاد المهملة، قال: والمارد نضحه على الذكر من قولهم لنضح الدم القليل نقصه وجمعها نفص، وهذا الذي نقله شاذ والصواب ما سبق قاله المصنف في «شرح مسلم» (رواه مسلم) قال السيوطي في «الجامع الصغير» : ورواه أحمد والأربعة (البراجم بالياء الموحدة) أي المفتوحة (وبالجيم) وبعد الموحدة راء خفيفة وهي جمع برجمة بضم الموحدة والجيم (وهي عقد) بضم ففتح جمع عقدة (الأصابع) ومفاصلها

(وإعفاء اللحية معناه) توفيرها: أي (لا يقص منها شيئاً) قال المصنف: وهو بمعنى «أوفوا اللحى» في رواية وكان من عادة الفرص قص اللحية فنهى الشارع عنه. 10 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: أحفوا الشوارب) قال المصنف: أي أخفوا ما طال منها على الشفتين (وأعفوا) بقطع الهمزة فيه كالذي قبل: أي وفروا (اللحى) قال ابن السكيت وغيره: يقال في جمع اللحية لحى ولحى بالكسر والضم لغتان والكسر أفصح. قال المصنف: حصل من مجموع روايات هذا اللفظ في «الصحيحين» خمس روايات أعفوا وأوفوا وأرخوا ووفروا، ومعناها كلها تركها على حالها، هذا هو الظاهر من الحديث الذي تقتضيه ألفاظه، وهو الذي قاله جماعة من أصحابنا وغيرهم من العلماء (متفق عليه) ورواه الترمذي والنسائي من حديث ابن عمر، ولم يعز السيوطي في الجامع الصغير الحديث للبخاري بل اقتصر فيه على ذكر مسلم، ولعل هذا اللفظ لمسلم، وللبخاري من حديث ابن عمر بلفظ «خالفوا المشركين» وعنده من حديثه أيضاً «أنهكوا الشوارب وأعفوا اللحى» اهـ. قال السيوطي: ورواه ابن عدي من حديث أبي هريرة، ووراه الطحاوي من حديث أنس وزاد في آخره «ولا تشبهوا باليهود» ورواه ابن عدي والبيهقي في الشعب من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وزاد بدل وقوله «ولا تشبهوا» قوله «وانتفوا الشعر الذي في الآناف» .

216- باب: في تأكيد وجوب الزكاة وبيان فضلها وما يتعلق بها

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 216- باب: في تأكيد وجوب الزكاة وبيان فضلها وما يتعلق بها قال الله تعالى (¬1) : (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) . وَقَالَ تَعَالَى (¬2) : (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ باب تأكيد وجوب الزكاة هي لغة النماء والتطهير وشرعاً جزء مخصوص يخرج من مال مخصوص على وجه مخصوص (وبيان فضلها) معطوف على تأكيد (و) بيان (ما يتعلق بها) من بيان بعض ما يجب فيه الزكاة، ومن يجب عليه (قال الله تعالى: وأقيموا الصلاة) أي: بإتمام أركانها وشرائطها من قولهم أقمت العود أزلت عوجه (وآتوا) أي: اعطوا (الزكاة) دل قرن إعطائها بإقامة الصلاة على عظم تاكيد ذلك (وقال تعالى: وما أمروا إلا ليعبدوا الله) أي: ليتذللوا غاية التذلل له (مخلصين له الدين) بأن لا يشركوا معه فيه شركاً جلياً بأن يعبدوا غيره معه كما يفعل المشركون أو شركاً خفياً بأن يرائي العامل بعمله، أو يسمع به فإن الأول يمنع أصل الإِيمان، والثاني يمنع ثواب الأعمال المفعولة كذلك (حنفاء) مائلين عن كل دين باطل (ويقيموا الصلاة) عطف على يعبدوا (ويؤتوا) أي: يعطوا (الزكاة وذلك) أي: ما ذكر من الإِيمان مخلصاً وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة (دين القيمة) أي: دين الملة أو الشريعة المستقيمة، وقيل: هي جمع القيم أي: الأمة القائمين لله تعالى. وتقدم تفسير هذه الأية أول باب الإخلاص (وقال تعالى: خذ من أموالهم) أي: أموال المؤمنين (صدقة تطهرهم) عن الذنوب ورذيلة البخل (وتزكيهم بها) أي: ترفعهم بالصدقة إلى منازل المصدقين ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 43. (¬2) سورة البينة، الآية: 5.

وَقَالَ تَعَالَى (¬1) : (خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) . 1204- وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "بُنِيَ الإسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أنْ لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ، وَأنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإقَامِ الصَّلاَةِ، وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ البَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ" متفقٌ عَلَيْهِ. (¬2) . 1205- وعن طَلْحَةَ بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب التيمي رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرُ الرَّأسِ نَسْمَعُ ـــــــــــــــــــــــــــــ المخلصين. ففي الحديث والصدقة برهان. 1204- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: بُنِيَ الإسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ) أي: من الخصال (شهادة أن لا إله إلا الله) (وشهادة أن محمداً رسول الله) الشهادتان خصلة واحدة ويجوز في شهادة وجوه الإِعراب الثلاثة الجر على الإِتباع، والآخران على القطع. (وإقام الصلاة) بحذف التاء للتخفيف. (وإيتاء) أي: إعطاء (الزكاة وحج البيت وصوم رمضان) . المصادر فيه محتملة؛ لكونها مبنية للفاعل، مضافة للمفعول أي: شهادة المكلف وإقامته وإيتاؤه وحجه وصومه؛ ولكونها مبنية للمفعول أي: أن تشهد الشهادتان وتقام الصلاة الخ. (متفق عليه) وتقدم مشروحاً في باب الأمر بالمحافظة على الصلوات المكتوبات. 1205- (وعن طلحة) بفتح المهملتين وسكون اللام بينهما. (ابن عبيد الله) بالتصغير (ابن عثمان بن عمرو بن كعب) بن سعد بن تيم بن مرة القرشي (التيمي) أبي محمد المكي المدني أحد العشرة المبشرة بالجنة (¬3) ، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر رضي الله عنه، وأحد الستة أصحاب (¬4) الشورى الذين توفي رسول الله عليه - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض (رضي الله عنه) سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلحة الخير، وطلحة الجود، وهو من المهاجرين الأولين ولم يشهد بدراً؛ لكن ضرب له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسهمه، وأجره كمن حضرها وشهد ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآية: 103. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الإِيمان، باب: دعاؤكم إيمانكم (1/ 46، 48) . وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: بيان أركان الإِسلام ودعائمه العظام، (الحديث: 20) . (¬3) وإنما نفعت التوبة هنا بخلاف سائر الحدود لأن القتل ليس على الإخراج عن الوقت فقط بل مع الامتناع من القضاء وبصلاته يزول ذلك اهـ حج في شرح المنهاج. (¬4) التنقير البحث. ع.

دَوِيَّ صَوْتِهِ، وَلاَ نَفْقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا مِنْ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَإذا هُوَ يَسألُ عَنِ الإسْلاَم، فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَمْسُ صَلَواتٍ في اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ" قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ: "لاَ، إِلاَّ أنْ تَطَّوَّعَ" ـــــــــــــــــــــــــــــ أحداً وما بعدها من المشاهد، وكان أبو بكر رضي الله عنه إذا ذكر يوم أحد قال: ذلك يوم كله كان لطلحة وفضائله أشهر من أن تذكر روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية وثلاثون حديثاً اتفقا على حديثين منها وانفرد البخاري بحديثين ومسلم بثلاثة، وقتل يوم الجمل لعشر خلون من جمادى الأولى سنة ست وثلاثين، وهذا لا خلاف فيه، وإنما الخلاف في قدر عمره، فقيل أربع وستون، وقيل ثمان وخمسون، وقيل اثنان وستون، وقيل: ستون. وقبره بالبصرة مشهور يزار ويتبرك به، ومن فضائله أن عائشة رضي الله عنها قالت: طلحة ممن قضى نحبه، وما بدلوا تبديلاً، وثبت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، ووقاه بيده ضربة فصد بها فشلت يده. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أوجب طلحة، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه انتهى. ملخصاً من التهذيب. (قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل نجد) قال الجلال البلقيني: في مبهمات البخاري قال القاضي عياض: هو ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر، كذا قال ابن بطال وغيره وفيه نظر؛ لأن ضماماً إنما هو في حديث أنس. أما حديث طلحة فلا، فالظاهر أنهما قضيتان لتباين الألفاظ نبه عليه القرطبي اهـ وكأنه لهذا التنظير قال السيوطي في التوشيح قيل هو ضمام (ثائر الرأس) أي: منتشره منتفشه وهو بالرفع صفة رجل، وقيل: يجوز نصبه على الحال. (نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول) قال المصنف: بالنون المفتوحة فيهما، وروي بالتحتية المضمومة فيهما، والأول هو الأشهر الأكثر الأعرف، ودوي الصوت بفتح الدال المهملة على المشهور، وحكى صاحب المطالع ضمها وخطأ القاضي عياض ضمها، وكسر الواو وتشديد الياء وهو بعده في الهواء، ومعناه شدة صوت لا يفهم. وقال الخطابي: الدوي صوت مرتفع متكرر لا يفهم وذلك لأنه نادى من بعد (حتى دنا) أي: قرب غاية لمقدر أي: فسار إلى أن قرب (من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا) فجائية (هو) مبتدأ خبره جملة (يسأل عن الإِسلام) أي: عن شرائعه، وعند البخاري في الصوم فقال: أخبرني ماذا فرض الله علي من الصلاة؟ فقال: الصلوات الخمس، وكذا قال في الزكاة. قال في التوشيح: وبه يتبين مطابقة الجواب هنا للسؤال. (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خمس صلوات في اليوم والليلة) أي: مفروضة فيهما على كل مكلف بها لا نحو حائض ونفساء ومجنون. (فقال: هل عليّ غيرها؟) أي: علي فرض من الصلاة غير الخمس؟ (قال لا إلا أن تطوع) بتشديد الطاء والواو وأصله تتطوع فادغمت التاء في الطاء، ويجوز تخفيف

فَقَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "وَصِيامُ شَهْرِ رَمَضَانَ" قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: "لاَ، إِلاَّ أنْ تَطَّوَّعَ" قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزَّكَاةَ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: "لاَ، إِلاَّ أنْ تَطَّوَّعَ" فَأدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللهِ لاَ أُزِيدُ عَلَى هَذَا وَلاَ أنْقُصُ مِنْهُ، فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفْلَحَ إنْ صَدَقَ" ـــــــــــــــــــــــــــــ الطاء على حذف إحدى التاءين، والاستثناء منقطع، أي: لا شيء واجب عليك غيرها؛ لكن يستحب أن تتطوع، ومنه أخذ أصحابنا عدم وجوب الوتر، وأنه سنة، وجعله بعض العلماء متصلاً، واستدل به على أن من شرع في نفل من صوم، أو صلاة، وجب عليه إتمامه، ومذهبنا أنه يستحب الإِتمام، ولا يجب. قاله المصنف (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وصيام شهر رمضان) عطف على خمس (قال: هل عليّ غيره؟ قال: لا إلا أن تطوع) والمراد بيان الواجب منهما بأصل الشرع وإلا فيجب في الصلاة زيادة على الخمس بنذر، وفي الصوم بنذر، أو كفارة (قال) أي: الراوي (وذكر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة) أي: المفروض منها (فقال: هل عليّ غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع) قال الدماميني في المصابيح: لا يخفى أن هذا الرجل إنما وفد بالمدينة، وأقل ما قيل فيه أنه وفد سنة خمس، وقد تقرر في ذلك الزمن النهي عن أمور كالقتل، والزنى، والعقوق، والظلم، والسرقة. فثبت أن عليه وظائف أخرى غير الصلاة والزكاة والصيام. وأجاب ابن المنير بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجيب بما يقتضيه الحال، وبالأهم فالأهم، إذ لا يمكن بيان الشريعة دفعة، لا سيما لحديث عهد بالإِسلام، أو أن الرواة اقتصروا على بعض ما ذكره - صلى الله عليه وسلم - كما سيأتي عن المصنف. (قال: فأدبر الرجل وهو يقول) جملة حالية، أو معطوفة (والله لا أزيد على هذا ولا أنقص) أحسن ما يقال فيه: أن المعنى أبلغها قومي على ما سمعتها من غير زيادة ولا نقص؛ لأنه كان وافداً لهم ليتعلم تسلمهم. قاله ابن المنير قال الدماميني: ولا ينافيه ما في كتاب الصوم من البخاري من قوله والذي أكرمك بالحق لا أتطوع شيئاً ولا أنقص مما فرض الله عليَّ شيئاً؛ لأن ما في الصوم من حديث أنس، وما فيه قضية غير القضية التي في حديث طلحة، كما تقدم عن القرطبي. (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفلح إن صدق) معناه ظاهر باعتبار ما تقدم، وقال ابن العربي في كتابه القبس: إنما قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك لأنه أول ما أسلم فأراد أن يطمئن فؤاده، وبعد ذلك يفعل ما سواها بما يظهر له من ترغيب الإِسلام، وقال المصنف: أثبت له الفلاح لأنه أتى بما عليه، ومن أتى بما عليه كان مفلحاً، وليس فيه أنه إذا أتى بزائد لا يكون مفلحاً، فإنه إذا أفلح بالواجب فلأن يفلح بالواجب والمندوب أولى، فإن قيل كيف قال لا أزيد على هذا وليس في الحديث جميع الواجبات، ولا المنهيات الشرعية ولا السنن المندوبات؟

متفقٌ عَلَيْهِ (1) . 1206 - وعن ابن عباس - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعث مُعاذاً - رضي الله عنه - إِلَى اليَمَنِ، فَقَالَ: "ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أنْ لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ وَأنِّي رسول اللهِ، فإنْ هُمْ أطَاعُوا لِذلِكَ، فَأعْلِمْهُمْ أن اللهَ تَعَالَى، افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَواتٍ في كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فالجواب أنه جاء في رواية البخاري في آخر هذا الحديث زيادة توضح المقصود قال: فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشرائع الإِسلام فأدبر الرجل وهو يقول والله لا أزيد ولا أنقص مما فرض الله علي شيئاً، فعلى عموم قوله بشرائع الإسلام، وعموم قوله مما فرض عليّ، يزول الإشكال في الفرائض، وأما النوافل فقيل: يحتمل أنه كان قبل شرعها، ويحتمل أنه أراد، لا أزيد على الفريضة بصلاة النافلة مع عدم الإخلال بشيء من الفرائض، وهذا مفلح بلا شك وإن كانت مواظبته على ترك السنن مذمومة، وترد بها الشهادة، إلا أنه ليس بعاص، بل مفلح ناج. اهـ وتقدم في كلام الدماميني منع الاستدلال بما في رواية البخاري المذكورة لما في هذا الحديث لاختلاف قضيتهما (متفق عليه) أخرجه البخاري في الإيمان، وفي الصوم وفي الشهادات، وفي ترك الحيل. وأخرجه مسلم في الإِيمان، ورواه أَبو داود في الصلاة من سننه، والنسائي في الصلاة وفي الصوم وفي الإِيمان من سننه، كذا في الأطراف للمزي ملخصاً. 1206- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذاً) هو ابن جبل الأنصاري (رضي الله عنه إلى اليمن) عاملاً على بعض منها (فقال:) أي: في أثناء الحديث وتقدم بجملته في باب الأمر بالمحافظة على الصلوات المكتوبات، وكذا حديث ابن عمر المذكور بعده. (ادعهم) حذف العاطف وهو الفاء المذكورة قبله؛ لعدم تعلق غرض ما أورد له الحديث بها؛ أي: ادع أهل الكتاب الذين تقدم عليهم. (إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله) بدأ بالدعاء إليهما لأنهما الأساس للاعتداد بالطاعات. (فإن هم أطاعوا لذلك) بالإذعان له والإِقرار به (فاعلمهم أن الله افترض) أي: فرض، والعدول إلى صيغة الافتعال إيماء إلى الاهتمام بالمفروض، (عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة) ظرف لأداء المقدر ـــــــــــــــــــــــــــــ (1) أخرجه البخاري في كتاب: الإِيمان، باب: الزكاة من الإِسلام، (1/97، 99) . وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإِسلام، (الحديث: 8) .

فَإنْ هُمْ أطَاعُوك لِذلِكَ، فَأعْلِمْهُمْ أنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤخَذُ مِنْ أغْنِيَائِهِمْ، وتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ" متفقٌ عَلَيْهِ (¬1) . 1207- وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أنْ لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ، وَأنَّ مُحَمَّداً رسول الله، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤتُوا الزَّكَاةَ، فَإذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِني دِمَاءهُمْ وَأمْوَالَهُمْ، إِلاَّ بِحَقِّ الإسْلاَمِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ قبل خمس (فإن هم أطاعوا لذلك) بالتصديق بوجوبها والتزام فعلها (فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة) إن قيل توقف الصلاة على الشهادتين ظاهر؛ لأن الصلاة لا تصح إلا بعد الإسلام، فما وجه توقف الزكاة على الصلاة مع استوائهما في كونهما ركنين من الإسلام؟ فالجواب أن المعنى فإن أطاعوا باعتقاد الصلاة فرضاً فاذكر لهم الزكاة، والغرض بذلك التدريج حتى لا ينفروا من كثرتها لو جمعت، وتقديم الصلاة؛ لشرفها ولكونها بدنية أسهل من الزكاة؛ لكونها مالية، وبذل المال مشق (تؤخذ من أغنيائهم) يشمل الصغير فتجب الزكاة في ماله والمدين غني باعتبار الحال الحاضر، فلذا لم يمنع الدين وجوب الزكاة عليه على الأصح (وترد على فقرائهم) اقتصر عليهم مع أن مستحقها أصناف مذكورة في آية (إنما الصدقات) (¬2) لمقابلة الفقراء بالأغنياء ولأن الفقراء هم الأغلب، والإِضافة تقتضي منع صرف الزكاة لكافر، وإنما لم يذكر في الحديث الصوم والحج؛ لأن اهتمام الشرع بالصلاة والزكاة أكثر؛ ولذا كُررا في القرآن كثيراً، وأيضاً فإن الصوم قد يسقط بالفدية، والحج بفعل الغير في المعضوب، قال البرماوي: أو أن الحج لم يكن شرع، وفيه نظر لا يخفى لأن إرساله إلى اليمن كان قبيل موته - صلى الله عليه وسلم -، وقد استقر وجوب الحج حينئذ بلا خلاف (متفق عليه) . 1207- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمرت) بصيغة المجهول، ولم يذكر الفاعل وهو الله تعالى للعلم به (أن أقاتل الناس) أي: الكفرة غير الكتابيين ومن ألحق بهم (حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة) فيه أن تارك الصلاة كسلاً ومانع الزكاة لا يمتنع قتالهما وهو مذهب إمامنا الشافعي فيقتل بإخراج الصلاة عن وقت الضرورة إن لم يتب (¬3) ، ويقاتل الإمام تاركي الزكاة إذا توقف أخذها منهم عليه، (فإذا فعلوا ذلك) أي: ما ذكر من الشهادتين وما بعدهما، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: وجوب الزكاة، باب: (3/255) . وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإِسلام، (الحديث: 29) . (¬2) سورة التوبة، الآية: 60. (¬3) الضمير عائد إلى القول المفهوم من "قالها".

وَحِسَابُهُم عَلَى الله" متفقٌ عَلَيْهِ (¬1) . 1208- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه - وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ العَرَبِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ وفيه تغليب الفعل على القول (عصموا) أي: منعوا (مني دماءهم) فلا يجوز قتلهم إلا بسبب خاص من قصاص أو زنى مع إحصان أو ارتداد (وأموالهم) فلا يجوز أخذها إلا بطريقه من كفارة أو بدل ما أتلفوه. (وحسابهم على الله) يعني أن الشريعة الشريفة إنما تجري على الظواهر ولا تنقر عما في القلب، فمن أتى بالشهادتين والتزم أحكام الإِسلام جرت عليه أحكامهم، سواء كان في الباطن كذلك أم لا. أما الكتابي وما ألحق به من المجوسي فيقاتل حتى يسلم أو يؤدي الجزية. (متفق عليه) ورواه أصحاب السنن الأربع، قال السيوطي في الجامع الصغير: وهو متواتر. 1208- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما توفي) بصيغة المجهول، ونائب فاعله (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وسكت عن ذكر الفاعل للعلم به. (وكان أبو بكر رضي الله عنه) أي: خليفة أو التقدير وكانت خلافة أبي بكر أي: وجدت فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وذكر العامل؛ لتذكير مرفوعه (وكفر) أي: ارتد (من كفر من العرب) وما بقي على الإِيمان سوى أهل الحرمين، ومن حولهما وأُناس قليل، وقيل: المراد منه وترك الزكاة من ترك، وأطلق الكفر على مانع الزكاة تغليظاً، أو أن الذين أراد الصديق قتالهم كان بعضهم مرتداً كأصحاب مسيلمة، وبعضهم بغاة بمنع الزكاة، وأُطلق على الجميع الكفر؛ لأنه كان أعظم خطباً، وصار مبدأ قتال أهل البغي مؤرخاً بزمان على إذ كانوا منفردين في عصره لم يختلطوا بأهل الشرك، ولا منافاة بين إيمانهم مع إنكارهم الزكاة، الذي يكفر به غير المعذور لأن التكفير بذلك إنما هو في زماننا لتقرر الأركان، وحصول الإجماع عليها، وكونها معلومة من الدين بالضرورة. وأما أولئك فلم يكفروا بذلك لكونهم كانوا قريبي عهد بزمان الشريعة الذي كان يقع فيه تبديل الأحكام بالنسخ، وبوقوع الفترة بموت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا جهالاً ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الإِيمان، باب: فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم وغيرهم (1/70، 72) . وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ... (الحديث: 36) .

فَقال عُمَرُ - رضي الله عنه -: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولوُا لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ، فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى الله" فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللهِ لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بين الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، فَإنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ المَالِ. وَاللهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالاً كَانُوا يُؤدُّونَهُ إِلَى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ. قَالَ عُمَرُ - رضي الله عنه -: فَوَاللهِ ـــــــــــــــــــــــــــــ بأمور الدين، فدخلتهم الشبهة فغدروا، فسموا بذلك بغاة، وذلك لأن المناظرة بين الصحابة إنما هي في قتال مانعي الزكاة (فقال عمر رضي الله عنه: كيف تقاتل الناس) بالفوقية إنكار على أبي بكر أمره به أو بالنون أي نتلبس به، والفاء عاطفة على محذوف دل عليه السياق، أي: فأراد أبو بكر قتالهم وأمر به فقال عمر: إلخ (وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) أي: مع قرينتها وهي محمد رسول الله، وظاهر هذه الرواية الاكتفاء في رفع القتال بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، وإن لم يأت قبله بقوله أشهد، والرواية قبله تقتضي اعتبار ذلك، والصحيح الاكتفاء به من غير لفظ أشهد. (فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه) عمومه متناول الصادق في إيمانه والمنافق فيه فذلك منه عاصم لهما منه، ويدل له قوله (وحسابه على الله) أي: فإن كان صادقاً نفعه في الآخرة، وإلا فلا، وهذا من سند الصديق، فإن من حق المال الزكاة، فلا تعصم الشهادة من أخذها (فقال:) أي: أبو بكر رضي الله عنه (والله لأقاتلن من فرق) بالتشديد والتخفيف (بين الصلاة والزكاة) أي: بأن قال إحداهما واجبة دون الأخرى، أو امتنع من إحداهما (فإن الزكاة حق المال) أي: والشهادتان لا يعصمان من أخذه من المال (¬1) ، فهي داخلة في قوله - صلى الله عليه وسلم - إلا بحقه (والله لو منعوني عقالاً) بكسر المهملة وبالقاف. قال في النهاية: أراد به الحبل الذي يعقل به البعير الذي كان يؤخذ في الصدقة؛ لأن على صاحبها التسليم، وإنما يقع القبض بالرباط، وقيل: أراد ما يساوي عقالاً من حقوق الصدقة، وقيل: إذا أخذ المصدق أعيان الإِبل قيل أخذ عقالاً، وإذا أخذ أثمانها قيل أخذ نقداً وقيل: أراد بالعقال صدقة العام، يقال أخذ المصدق عقال هذا العام إذا أخذ منهم صدقته، واختاره أبو عبيد. وقال: هو أشبه عندي بالمعنى، وقال الخطابي: إنما يضرب المثل في هذا بالأقل إلا بالأكثر وليس بسائر في لسانهم أن العقال صدقة عام، وفي أكثر الروايات عناقاً، وفي أخرى جدياً. اهـ (كانوا يؤدونه) أي: يدفعونه (إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعه) أي: لأجل منعهم إياه (قال ¬

_ (¬1) أي من أخذ حق المال من المال.

مَا هُوَ إِلاَّ أنْ رَأيْتُ اللهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبي بَكْرٍ لِلقِتَالِ، فَعَرَفْتُ أنَّهُ الحَقُّ. متفقٌ عَلَيْهِ (¬1) . 1209- وعن أَبي أيُّوب - رضي الله عنه -: أنّ رَجُلاً قَالَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أخْبِرْنِي بعمل يُدْخِلُنِي الجَنَّة، قَالَ: "تَعْبُدُ اللهَ، وَلاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً، وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق) أي: اجتهد فطابق اجتهاده. قال البرماوي: إن عمر أخذ بظاهر أول الحديث قبل أن ينظر في آخره، فقال أبو بكر: إن الزكاة حق المال، فدخلت في قوله إلا بحقه، وقاسه على الممتنع من الصلاة، لأنها كانت بالإِجماع، فرد المختلف فيه إلى المتفق عليه والعموم يخص بالقياس، على أن هذه الرواية مختصرة من الرواية المصرح فيها بالزكاة، وهو حديث ابن عمر السابق قبله، وسبب الاختصار أنه حكى ما جرى بين الشيخين لا جميع القصة اعتماداً على علم المخاطبين بها، أو اكتفى بما هو الغرض حينئذ، وقال الخطابي: الخطاب في الكتاب ثلاثة أضرب: عام نحو: إذا أقمتم إلى الصلاة، وخاص بالرسول - صلى الله عليه وسلم - نحو فتهجد حيث قيد بذلك، وخطاب يواجه به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو والأمة فيه سواء كآية (خذ من أموالهم صدقة) (¬2) ، فعلى القائم بعده بأمر الأمة أن يحتذي حذوه في أخذها منهم. وأما التطهير والتزكية والدعاء من الإمام لصاحبها، فإن الفاعل فيها قد ينال ذلك كله بطاعة الله ورسوله فيها، وكل ثواب موعود على عمل كان في زمنه - صلى الله عليه وسلم - فهو باق، فيستحب للإمام أن يدعو للمتصدق ويرجى أن يستجيب الله منه ولا يخيبه (متفق عليه) . 1209- (وعن أبي أيوب) خالد بن زيد الأنصاري (رضي الله عنه أن رجلاً) نقل عن الصريفيني (¬3) أنه روى الحديث من طريق أبي أيوب وقال فيه: أنه وافد بني المنتفق، قاله الدماميني في المصابيح، وقال البرماوي: حكى ابن قتيبة في غريب الحديث أنه أبو أيوب نفسه، وتقدم شرح الحديث في باب بر الوالدين وصلة الأرحام (قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرني بعمل يدخلني الجنة) بالرفع جملة في محل الصفة لما قبله، وإسناد الإدخال إليه مجاز من الإِسناد للسبب. (فقال) أي: (النبي - صلى الله عليه وسلم - تعبد الله) هو من حذف أن قبل المضارع، أو تنزيل الفعل منزلة المصدر كما في تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، وكذا المعطوفات (ولا تشرك ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: وجوب الزكاة، (3/217) . وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا ... (الحديث: 32) . (¬2) سورة التوبة، الآية: 103. (¬3) نسبة لصريفين مكان بالعراق.

وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ" متفقٌ عَلَيْهِ (¬1) . 1210- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ أعْرَابياً أتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: يَا رسولَ اللهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ، دَخَلْتُ الجَنَّةَ. قَالَ: "تَعْبُدُ اللهَ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً، وتُقِيمُ الصَّلاَةَ، وتُؤتِي الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ" قَالَ: وَالذي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا أزيدُ عَلَى هَذَا، فَلَمَّا وَلَّى، قَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَرَّهُ أنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ ـــــــــــــــــــــــــــــ به شيئاً) جملة خبرية حالية من فاعل الفعل قبله، رابطها الواو والضمير (وتقيم الصلاة) أي: تأتي بها جامعة الأركان والشرائط (وتؤتي الزكاة) أي: تؤديها للفقراء وباقي مستحقيها، وسكت عن الصوم والحج إن كانا قد وُجبا إما اكتفاء بعلم المخاطب أنهما كاللذين قبلهما في سببية دخولها؛ أو لأن الحاجة إلى ما ذكره في الحديث أهم لتقصير السائل في تلك الأمور، لا في نحو الصوم والحج، فبين له شأنهما تحريضاً عليهما، أو ذكراً وسقطاً من الراوي (وتصل الأرحام متفق عليه) . 1210- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابياً) هو ساكن البادية، وهذا الأعرابي لعله عبد الله بن الأحزم، قاله البلقيني في الإِفهام (أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته) عبر بها لثقته بتوفيق الله تعالى له، فكأنه مقطوع بحصوله (دخلت الجنة قال تبعد الله ولا تشرك به شيئاً) من الشرك، أو من المعبودات، والجملة حال رابطها الضمير (وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤتي الزكاة المفروضة) احترازاً من صدقة التطوع (وتصوم رمضان) سكت عن الحج والجهاد، إما لعدم طلبهما من السائل، أو لعلمه بأنه يعلم ثوابهما وعلو مكانهما (قال: والذي نفسي بيده) أي: بقدرته (لا أزيد على هذا) زاد مسلم: ولا أنقص منه. قال الطبراني: هذا الحديث ونحوه خوطب به أعراب حديثو عهد بالإِسلام فاكتفى منهم بفعل الواجب في ذلك الحال؛ لئلا يثقل ذلك عليهم فيملوا، حتى إذا انشرحت صدورهم للفهم عنه والحرص على تحصيل ثواب المندوبات سهلت عليهم. كذا في التوشيح (فلما ولى) أي: أدبر (قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا) قال البرماوي: فيه أن المبشر بها أكثر من العشرة، كما ورد النص في الحسن والحسين وأمهما وجدتهما وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتحمل بشارة العشرة على أنهم بشروا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: وجوب الزكاة، (3/208، 209) . وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: بيان الإِيمان الذي يدخل به الجنة ... ، (الحديث: 12) .

أهْلِ الجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا" متفقٌ عَلَيْهِ (¬1) . 1211- وعن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه -، قَالَ: بايَعْتُ النبيَ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى إقَامِ الصَّلاَةِ، وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. متفقٌ عَلَيْهِ (¬2) . 1212- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ، وَلاَ فِضَّةٍ، لا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلاَّ إِذَا كَانَ يَومُ القِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ ـــــــــــــــــــــــــــــ دفعة واحدة، أو بلفظ بشره بالجنة، أو أن العدد لا ينفي الزائد (متفق عليه) . 1211- (وعن جرير بن عبد الله) بالجيم والرائين بوزن قتيل وهو البجلي (رضي الله عنه قال بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم -) من مبايعة الجند الأمير، وهو التزام ما يلزم (على إقام الصلاة) مصدر أقام بحذف التاء المزيدة عوضاً عن ألف الافتعال تخفيفاً، وذلك خاص بحال إضافته (وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم) أي: ذي إسلام من ذكر أو أنثى (متفق عليه) وقد تقدم في باب النصيحة. 1212- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من) مزيدة لتأكيد استغراق قوله (صاحب ذهب ولا فضة) أي مما تجب فيه الزكاة منهما، فالوعيد مخصوص بذلك، وقول ابن حجر في شرح المشكاة: فذلك الوعيد لا يستثنى منه أحد، مراده ممن وجد عنده أحد النقدين الواجبة زكاتهما فلم يؤدها (لا يؤدي منها حقها) أي: الحق الواجب فيها وهو الزكاة، والإِضافة للملابسة وإفراد الضمير، إما لإِرجاعه إلى القصة لأنها أقرب، والذهب يعلم مما ذكر فيها بالأولى أو لأنها الأغلب، أو لأنهما في معنى الدنانير والدراهم، وهذا على منوال قوله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها) (¬3) (إلا) استثناء من أعم الأحوال أي: لا يحصل له حال من الأحوال إلا حالة واحدة هي أنه (إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح) بالرفع ويصح النصب على أنه المفعول الثاني، والأول ضمير الذهب والفضة وأفرد لما مر ولمطابقة الثاني. قال التوربشتي: تصفيح الشيء جعله عريضاً، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: وجوب الزكاة، (3/210) . وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: بيان الإِيمان الذي يدخل به الجنة ... ، (الحديث: 15) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: البيعة على ايتاء الزكاة (3/212) . وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: بيان أن الدين النصيحة، (الحديث: 97) . (¬3) سورة التوبة، الآية: 34.

مِنْ نَارٍ، فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا في نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ، وَجَبِينُهُ، وَظَهْرُهُ، كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ في يَومٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ العِبَادِ فَيَرَى سَبيلَهُ، إمَّا ـــــــــــــــــــــــــــــ والصفائح ما طبع من الحديد وغيره عريضاً (من نار (¬1) فاحمى عليها في نار جهنم) بيان لمعنى كونها من نار لأن حقيقتها من غيرها، لكن لهذا الإِحماء الذي يصيرها كالنار في رأي العين سميت ناراً، والآية (يوم يحمى عليها في نار جهنم) (¬2) إلخ ظاهرة في هذا، وذكر أحمى هنا ويحمي في الآية؛ لإِسناده إلى الظرف، والأصل أحميت النار عليها أي: صارت ذات توقد وحر شديد، ثم حول الإِسناد إلى الظرف مبالغة؛ لأن كونها يحمى عليها أبلغ من كونها محماة؛ لإِشعار الأول بمزيد علاج واعتناء أتم، ومن ثم كان المراد أن تلك الصفائح تعاد إلى النار عوداً متكرراً إلى أن تبلغ في مزيد حرها ولهبها واشتداد إحراقها الغاية، وإنما كان الأصل ذلك لأنه لا يقال أحميت على الحديد بل أحميت الحديد وحميته (¬3) كذا في فتح الإله، وبه يندفع منع التوربشتي من جهة الدراية لا من جهة الرواية لرفع الصفائح، زاعماً تعين نصبها؛ لأن على الرفع يتعين كون من نار لبيان الجنس ولا يستقيم، وذلك لأن الأموال هي التي جعلت صفائح ليعذب بها صاحبها، ولو كانت الصفائح متخذة من نار لم يكن لقوله (يحمى عليها) وجه، ووجه الاندفاع أنه لا منافاة بين كون التعذيب بنفس الأموال، وبين كونها من النار؛ لأن الأول حقيقة والثاني مجاز؛ لأنه لشدة التهابها بالنار صارت كأنها عينها، وقوله ثم يكن لقوله (يحمى عليها) وجه ممنوع، بل له وجه وهو المبالغة في ذلك العذاب والله أعلم بالصواب. (فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره) خصت هذه الثلاثة؛ لأن إمساك المال عن أداء الواجب لأجل الوجاهة وملء البطن من الأطعمة وستر الظهر باللباس، أو لأنه أعرض بوجهه عن الفقير، وأزور عنه بجانبه وولاه ظهره؛ أو لأنها أشرف الأعضاء الظاهرة؛ لاشتمالها على الأعضاء الرئيسية الدماغ والقلب والكبد، أو المراد منها جهات البدن الأربع أمامه ووراءه ويمينه ويساره (كلما بردت) عن الحمو ردت إلى النار لزيادة حموها وشدتها (أعيدت له) أحر وأشد مما كانت. قال القرطبي: معناه دوام التعذيب واستمرار شدة الحرارة في تلك الصفائح، كاستمرارها في حديدة محماة ترد إلى الكير وتخرج منها ساعة فساعة (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) على الكافرين ونحوهم من الفسقة المتمردين المانعين حق الله تعالى وحق عباده، أما المؤمنون فهو على بعضهم كركعتي الفجر، وعلى ¬

_ (¬1) قوله من نار من لابتداء الغاية وكأنها لشدة كونها محماة في نار جهنم جعلت كأنها مأخوذة من نار. (¬2) سورة التوبة، الآية: 35. (¬3) في الصحاح أحميت الحديد في النار ولا يقال حميته. ع.

إِلَى الجَنَّةِ، وَإمَّا إِلَى النَّارِ" قيل: يَا رسولَ الله، فالإبلُ؟ قَالَ: "وَلاَ صَاحِبِ إبلٍ لا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا، وَمِنْ حَقِّهَا حَلْبُهَا يَومَ وِرْدِهَا، إِلاَّ إِذَا كَانَ يَومُ القِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ أوْفَرَ مَا كَانَتْ، لاَ يَفْقِدُ مِنْهَا فَصيلاً وَاحِداً، تَطَؤُهُ بِأخْفَافِهَا، وَتَعَضُّهُ بِأفْوَاهِهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ باقيهم كنصف يوم من أيام الدنيا كما أشير إليه بقوله تعالى: (وأحسن مقيلاً) (¬1) ولا يزال تعذيبه مستمراً في هذه المدة الطويلة (حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله) . قال الطيبي: رويناه بضم الياء وفتحها وبرفع سبيله ونصبه. اهـ وعلى ضم التحتية فسبيله أما نائب فاعل أو مفعول به، وعلى فتحها فهو مفعول به فقط. والسبيل كالطريق وزناً ومعنى يذكر ويؤنث (إما إلى الجنة) أي: إن كان مؤمناً والظرف في محل الحال (وإما إلى النار) بأن كان كافراً ومنه مستحل ترك الزكاة (قيل: يا رسول الله فالإِبل) أي: عرفنا حكم النقدين فما حكم الإِبل؟ (قال:) عطفاً على قوله ما من صاحب ذهب إلخ (ولا صاحب إبل) بكسرتين وبكسر فسكون، أي: وما من صاحب إبلٍ (لا يؤدي منها حقها) الواجب (ومن) أي: بعض (حقها) المندوب ذكر استطراداً وبياناً لما ينبغي أن يعتني به من له مروءة، وإن لم يكن فيه عذاب؛ لأن العذاب لا يكون إلا بترك واجب وفعل حرام (حلبها) بفتح المهملة واللام على الأشهر، وإسكانها غريب لكنه القياس (يوم ورودها) أي: ورودها الماء بأن تحلب حينئذ ويسقى من ألبانها للمارة والواردين للماء، ونظير ذلك الأمر بالصرام (¬2) نهاراً ليحضر المحتاج والنهي عنه ليلاً (إلا إذا كان يوم القيامة بطح) أي: طرح على وجهه. قال المصنف وقال القاضي: قد جاء في رواية البخاري تخبط وجهه بأخفافها، وهذا يقتضي أنه ليس من شرط البطح كونه علي الوجه، وإنما هو في اللغة بمعنى المد والبسط، فقد يكون على وجهه، وقد يكون على ظهره، ومنه سميت بطحاء مكة لانبساطها (لها) وفي نسخة له: ولا يصح رواية بل معنى خلافاً للطيبي كالتوربشتي؛ لأن الضمير لها وذكر باعتبار الجنس (بقاع) أي في صحراء واسعة مستوية (قرقر) بقافين وراءين أي: مستو فهو صفة كاشفة كذا في فتح الإِله، والظاهر أنها صفة مؤكدة. قال التوربشتي: القرقر في معنى القاع، وعبر عنه بلفظين مختلفين؛ للمبالغة في استواء ذلك المكان. قال: وروي بقاع قرق وهو مثله (أوفر) أي: أسمن (ما كانت) أي: أوقات أكوانها وأحيائها ليزداد ثقلها عليه عند وطئها له؛ ولكون إضافة أفعل غير محضة لم تمنع وقوعه حالاً، كذا في فتح الإِله وهو وهم، فإن الصفة التي تكون إضافتها لفظية هي اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة، كما في التوضيح، ونصبه في ¬

_ (¬1) سورة الفرقان، الآية: 24. (¬2) ويقال بالصوم كما في الصحاح والمراد به قطف الثمار بعد نضجها وكمالها. ع.

كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولاَهَا، رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا، في يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضى بَيْنَ العِبَادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ، إمَّا إِلَى الجَنَّةِ، وَإمَّا إِلَى النَّارِ" قِيلَ: يَا رَسولَ اللهِ، فَالبَقَرُ وَالغَنَمُ؟ قَالَ: "وَلاَ صَاحِبِ بَقَرٍ وَلاَ غَنَمٍ لاَ يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا، إِلاَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ، بُطِحَ لَهَا بقَاعٍ قَرْقَرٍ، لاَ يَفْقِدُ مِنْهَا شَيْئاً، لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءُ، وَلاَ جَلْحَاءُ، وَلاَ عَضْبَاءُ، تَنْطَحُهُ بقُرُونها، وَتَطَؤُهُ بِأظْلاَفِهَا، كُلَّمَا مرَّ عَلَيْهِ أُولاَهَا، رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا، في يَومٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَة حَتَّى يُقْضى بَيْنَ العِبَادِ، فَيَرى سَبيِلَهُ، إمَّا إِلَى الجَنَّةِ، وَإمَّا إِلَى النَّارِ" قيل: يَا رسول الله فالخَيْلُ؟ قَالَ: "الخَيلُ ثَلاَثَةٌ: هِيَ لِرَجُلٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث على الظرفية أي: وقت أوفرِ أكوانها والله أعلم (لا يفقد منها) جملة حالية من فاعل كان التامة العائد للإِبل (فصيلاً واحداً تطؤه بأخفافها) حال أيضاً متداخلة، أو استئناف بياني جواب لسؤال مقدر تقديره لم بطح لها وقت كونها أوفر (وتعضه بأفواهها كلما) ظرف لقوله ردت (مر عليه أولاها رد عليه أخراها) قيل: الأنسب. رواية مسلم: كلما مر عليه أخراها رد عليه أولاها، بل قال المصنف: إنه الأصوب وإن به يستقيم الكلام، وكذا قال التوربشتي في شرح المصابيح، لكن قال في فتح القدير: وفيه ما فيه، بل المقصود من العبارتين تتابعها عليه واحداً بعد واحد (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار. قيل: يا رسول الله فالبقر) اسم جنس شامل للذكر والأنثى من الحيوان المعروف سمي به؛ لأنه يبقر الأرض للحرث أي: يشقها (والغنم؟ قال: ولا صاحب بقر ولا غنم) أي: مما تجب فيه الزكاة بأن يكون نصاباً بدليل قوله (لا يؤدي منها حقها) أي: الزكاة الواجبة فيها (إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد) بكسر القاف أي: لا يعدم (منها شيئاً ليس فيها عقصاء) بالمهملتين بينهما قاف هي ملتوية القرنين (ولا جلحاء) بالجيم والمهملة أي: لا قرن لها (ولا عضباء) بالمهملة والمعجمة هي المكسورة القرن استفيد من هذه أن قرونها في غاية السلامة والقوهّ ليكون أوجع للمنطوح (تنطحه) بكسر الطاء وفتحها لغتان، ذكرهما الجوهري وغيره، وقال المصنف: الكسر أفصح وهو المعروف في الرواية (بقرونها وتطؤه بأظلافها) هي للبقر والغنم والظباء بمنزلة الخف للإِبل، فالظلف المنشق من القوائم، والخف للبعير، والقدم للآدمي، والحافر للفرس والبغل والحمار. (كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد) والفعل فيه وفيما قبله مبني للمجهول، وسكت عن ذكر الفاعل للعلم به لتعيينه (فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار. قيل: يا رسول الله فالخيل) قال في

وِزْرٌ، وَهِيَ لِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَهِيَ لِرَجُلٍ أجْرٌ. فَأمَّا الَّتي هي لَهُ وِزْرٌ فَرَجُلٌ ربطها رِيَاءً وَفَخْراً وَنِوَاءً عَلَى أهْلِ الإسْلاَمِ، فَهِيَ لَهُ وِزْرٌ، وَأمَّا الَّتي هي لَهُ سِتْرٌ، فَرَجُلٌ رَبَطَهَا في سَبيلِ الله، ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقَّ اللهِ في ظُهُورِهَا، وَلاَ رِقَابِهَا، فَهِيَ لَهُ سِتْرٌ، وَأمَّا الَّتي هي لَهُ أجْرٌ، فَرَجُلٌ رَبَطَهَا في سَبيلِ الله لأهْلِ الإسْلاَمِ في مَرْجٍ، أَوْ رَوْضَةٍ فَمَا أكَلَتْ مِنْ ذَلِكَ المَرْجِ أَوْ الرَّوْضَةِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ كُتِبَ لَهُ عَدَدَ مَا أَكَلَتْ ـــــــــــــــــــــــــــــ المصباح: معروفة، وهي مؤنثة لا واحد لها من لفظها. سميت خيلاً لاختيالها وهو إعجابها بنفسها مرحاً، ومنه يقال اختال الرجل وبه خيلاء أي: كبر وإعجاب، والمسئول عنه وجوب الزكاة فيها (قال الخيل ثلاثة) أي: لها أحكام غير ما مر، فلا زكاة فيها، هذا ما دل عليه السياق ويؤيده حديث "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه زكاة" وقال الطيبي، خولف بين إيراد جواب هذا وأجوبة الأنعام، فما هنا وارد على أسلوب الحكيم، فالتقدير على مذهب الشافعي دع السؤال عن الوجوب، فليس فيها حق واجب؛ ولكن سل عن اقتنائها، وعما يرجع إلى صاحبها من النفع، أو المضرة (هي لرجل وزر) بكسر الواو أي: إثم أي: سببه (وهي: فالرجل ستر) أي: للحالة التي هو فيها من الفقر أو الضيق (وهي لرجل أجر فأما التي) قال المصنف: كذا في أكثر النسخ أي من مسلم، ووقع في بعضها الذي هو أوضح وأظهر (هي له) وفي المشكاة لرجل بالاسم الظاهر محل المضمر (وزر فرجل ربطها رياء وفخراً) حال أو علة (ونواء) بكسر النون وتخفيف الواو بالمد: المعاداة (لأهل الإِسلام فهي له وزر) جملة مؤكدة مشعرة بتمام عنايته - صلى الله عليه وسلم - بتمام هذا الأمر والتحذير منه، ويأتي هذا في نظيره الآتي (وأما التي هي له ستر) أي: من إظهار الحاجة (فرجل ربطها في سبيل الله) أي: طاعته لا خصوص الجهاد لئلا يتحد مع ما بعده، ومن ثم عبر بدله في رواية بقوله: فرجل ربطها تغنياً وتعففاً أي: استغناء بنتاجها وتعففاً به عن سؤال الناس عند حاجته إلى الركوب، وهذا أشبه بصنيع ذوي الهيئات وأخلاق أهل الكرم والمروءة (ثم لم ينس حق الله في ظهورها) بأن يركبها للطاعات وعند الحاجات ندباً تارة ووجوباً أخرى (ولا رقابها) بأن يتعهدها بما يصلحها ويدفع ضررها (فهي له ستر) أي: حجاب يمنعه عن الحاجة للناس (وأما التي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله) أي: بقصد الجهاد عليها والإِعانة بها (لأهل الإِسلام في مرج) بالميم والراء والجيم بوزن فلس أي: أرض ذات نبات ومرعى والظرف متعلق بربط (أو روضة) عطف خاص على عام (فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة من شيء) من مزيدة مؤكدة؛ لعموم مجرورها إذ هو نكرة في سياق النفي (إلا كتب له عدد ما) أي: الذي (أكلت)

حَسَنَات وكُتِبَ لَهُ عَدَدَ أرْوَاثِهَا وَأبْوَالِهَا حَسَنَات، وَلاَ تَقْطَعُ طِوَلَهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفاً أَوْ شَرَفَيْنِ إِلاَّ كَتَبَ اللهُ لَهُ عَدَدَ آثَارِهَا، وَأرْوَاثِهَا حَسَنَاتٍ، وَلاَ مَرَّ بِهَا صَاحِبُهَا عَلَى نَهْرٍ، فَشَرِبَتْ مِنْهُ، وَلاَ يُرِيدُ أنْ يَسْقِيهَا إِلاَّ كَتَبَ اللهُ لَهُ عَدَدَ مَا شَرِبَتْ حَسَنَاتٍ " قِيلَ: يَا رسولَ اللهِ فالحُمُرُ؟ قَالَ: " مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ في الحُمُرِ شَيْءٌ إِلاَّ هذِهِ الآية الفَاذَّةُ الجَامِعَةُ (¬1) : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ـــــــــــــــــــــــــــــ العائد محذوف (حسنات) نائب فاعل كتب (وكتب له عدد) بالنصب مفعول مطلق (أرواثها وأبوالها) باعتبار أن بذلك بقاء حياتها مع كون أصلها قبل الاستحالة مالاً لمالكها، وفي ذكرهما غاية المبالغة؛ لأنهما إذا كتبا مع استقذارهما فغيرهما أولى (حسنات ولا تقطع طولها) بكسر المهملة وفتح الواو الخفيفة، ويقال طيل بوزن ما ذكر وقلب الواو ياء لإِنكسار ما قبلها. قال المصنف: وكذا جاء في الموطأ وهو حبل طويل يشد طرفه في نحو وتد وطرفه الآخر في يد الفرس (¬2) أو رجلها لتدور فيه وترعى من جوانبها وتذهب لوجهها (فاستنت) أي: عدت في مرجها لتوفر نشاطها (شرفاً أو شرفين) أي: طلقاً (¬3) أو طلقين قال التوربشتي: لأنها تعدو حتى تبلغ شرفاً من الأرض وهو ما يعلو منها فتقف عند ذلك وقفة ثم تعدو ما بدا لها، فعبر عن الطلق بالشرف، أو المراد تعدو إلى طرف المرج ثم تعود إلى محلها (إلا كتب الله له) أتى بصيغة المعلوم تفنناً في التعبير (عدد آثارها) لخطاها (وأرواثها) أراد بها هنا ما يشمل البول، وأسقط للعلم به منها (حسنات ولا مر بها صاحبها) يحتمل أن يراد به مالكها، وأن يراد من صاحبها وإن كان غيره، وإذا أثيب بالمصاحبة فالمالك أولى بالثواب. (على نهر) بسكون الهاء وفتحها (فشربت منه) ما أفادته الفاء من التعقيب هو باعتبار الغالب، وإلا فما يأتي مرتب على شربها منه ولو مع مهلة (ولا يريد أن يسقيها) بفتح التحتية على الأفصح وضمها لغة والجملة حالية من صاحب (إلا كتب الله له عدد ما شربت حسنات) وكتب له ذلك؛ لأنه نشأ عن فعله الذي هو إطعامها حتى احتاجت للشرب، وإذا أثيب بما ذكر من غير قصد السقي فمع قصده أولى (قيل: يا رسول الله فالحمر) بضمتين أي: أهي كالانعام في وجوب الزكاة أو كالخيل فيما ذكر؟ (قال: ما أنزل) بالفعل المبني للمجهول وفي نسخة مصححة ما أنزل الله (عليّ في الحمر شيء) أي: من الأحكام (إلا هذه الآية) بالرفع ويجوز فيه النصب (الفاذة) بالمعجمة المشددة أي: المنفردة في معناها (الجامعة) لأبواب البر لإِطلاق اسم الخير على سائر الطاعات، يقال: فذ الرجل عن أصحابه ¬

_ (¬1) سورة الزلزلة، الآيتان: 7، 8. (¬2) الفرس يقع على الذكر والأنثى ولا يقال للأنثى فرسه. (¬3) الطلق بفتح اللام الشوط. ع.

217- باب وجوب صوم رمضان وبيان فضل الصيام وما يتعلق به

ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) متفقٌ عَلَيْهِ، وهذا لفظ مسلم. ومَعْنَى "الْقاعُ": المكانُ الْمُسْتَوي مِنَ الْأرْضِ الواسِعُ و"القَرْقَرُ" الأمْلَسُ (¬1) . 217- باب وجوب صوم رمضان وبيان فضل الصيام وَمَا يتعلق بِهِ قَالَ الله تَعَالَى (¬2) : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُم الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا شذ عنهم فبقى منفرداً، وعطف عليها عطف بيان. قوله (فمن يعمل مثقال ذرة) أي: زنة نملة صغيرة أو جزء من أجزاء الهباء (خيراً يره) فإن كان مؤمناً رأى جزاءه في الدارين، وإن كان كافراً ففي الدنيا وقد يخفف عنه من عذاب الآخرة (ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره متفق عليه) أي: باعتبار أصل الوعيد في ترك الزكاة؛ لأن حديث البخاري ليس فيه ذكر وعيد النقدين، ولا ما في الخيل والحمر (وهذا) أي: المذكور (لفظ مسلم) في كتاب الزكاة، وسكت فيه عما تجب فيه الزكاة من الأقوات وعروض التجارة. باب وجوب صوم رمضان وبيان فضل الصيام عبر به ثانياً بعد التعبير أولاً بالصوم تفنناً في التعبير، وأصله صوام قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها (وما يتعلق به) أي: برمضان من الاعتكاف والإكثار من عمل البر، ثم الصوم والصيام مصدران لصام بمعنى أمسك ومنه قول مريم (إني نذرت للرحمن صوماً) (¬3) أي: إمساكاً وسكوتاً عن الكلام، وشرعاً الإمساك عن المفطرات في زمن مخصوص على وجه مخصوص. ووجوب صوم رمضان بالكتاب والسنة والإجماع، معلوم من الدين بالضرورة، فيكفر جاحده ما لم يكن معذوراً بأن يكون قريب عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة عن العلماء (قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا) نداء لهم باشرف أَوصافهم وفيه تشريف بعد تشريفهم بالخطاب (كتب عليكم الصيام) قيل: هو صوم رمضان وقيل: ثلاثة أيام من كل شهر وعاشوراء ثم نسخ (كما كتب على الذين من قبلكم) فيه حمل لثقله على النفوس لأن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: إثم مانع الزكاة مختصراً (3/212) . وأخرجه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: إثم مانع الزكاة، (الحديث: 24) . (¬2) سورة البقرة، الآية: 183. (¬3) سورة مريم، الآية: 26.

إِلَى قَوْله تَعَالَى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدَىً لِلنَّاسِ وَبَيّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أيَّامٍ أُخَر) الآيةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأمر الشاق إذا عم سهل تعاطيه، واختلف على الأول هل التشبيه في أصل الصوم أو في خصوص رمضان؟ الأصح الأول وأن رمضان من خصائص هذه الأمة تشريفاً لنبيها محمد - صلى الله عليه وسلم - (لعلكم تتقون) المعاصي، فإن الصوم يضيق مسالك الشيطان (أياماً معدودات) تقديره صوموا أياماً، وليس معمول الصيام لتحليته بأل وإعماله إذا كان كذلك شاذ والتعبير بجمع القلة للتنشيط على ملابسته والدخول فيه، ثم بعد التمرن يهون الأمر (فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر) أي: فعليه، أو فواجبه، أو فيجب عليه صوم عدة أيام المرض أو السفر من أيام أخر إن أفطر، فحذف الشرط والمضاف للقرينة (وعلى الذين يطيقونه) أي: الأصحاء المقيمين (فدية) أي: إن أفطروا (طعام مسكين) كان في بدء الإِسلام الخيار بين الصوم والإِطعام عن كل يوم مسكيناً فنسخ (¬1) ، أو الآية غير منسوخة، والمراد الشيخ الكبير الهرم، والمرأة الكبيرة اللذان لا يستطيعان الصوم، ومعنى يطيقونه يصومونه طاقاتهم وجهدهم، ويؤيده قراءة (يطوقونه) بتشديد الواو أي: يكلفونه ولا يطيقونه (فمن تطوع خيراً) بأن أطعم أكثر من مسكين عن كل يوم (فهو خير له وأن تصوموا) أي: صومكم (خير لكم) أيها المطيقون (إن كنتم تعلمون) فضائل الصوم (شهر رمضان) مبتدأ خبره ما بعده أو ذلكم شهر رمضان (الذي أنزل فيه القرآن) جملة ليلة القدر إلى السماء الدنيا، ثم نزل منجماً إلى الأرض، وهو خبر شهر، أو صفته (هدى للناس) أي هادياً (وبينات) أي: آيات واضحات (من الهدى) مما يهدي إلى الحق، من الأحكام (والفرقان) ومما يفرق بين الحق والباطل (فمن شهد) حضر، ولم يكن مسافراً (منكم الشهر) أي: فيه (فليصمه) أي: فيه (ومن كان مريضاً) أي: مرضاً يشق أو يضر معه الصوم (أو على سفر فعدة من أيام أخر) الآية الأولى تخيير المريض والمسافر والمقيم هذه لهما دون المقيم فلا تكرار بل علم من هذه نسخ الأولى (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) فلذا أباح الفطر للسفر والمرض (ولتكملوا العدة) عطف على اليسر، مثل (يريدون ليطفئوا) (¬2) ، أو ¬

_ (¬1) قوله فنسخ أي بتعيين الصوم بقوله تعالى (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) كما في الجلالين. (¬2) المماثلة من حيث دخول اللام على معمول يريد لأنه إذا عطف على اليسر صار التقدير ويريد لتكملوا العدة. ع. (2) سورة الصف، الآية: 8.

وَأما الأحاديث فقد تقدمت في الباب الَّذِي قبله. 1213- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَالَ اللهُ - عز وجل -: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَام، فَإنَّهُ لِي وَأنَا أجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، ـــــــــــــــــــــــــــــ تقديره شرع لكم ذلك، أي: جملة أحكام الصوم لتكملوا عدد أيام الشهر بقضاء ما أفطرتم في المرض والسفر (ولتكبروا الله) لتعظموه (على ما هداكم) أرشدكم إليه من وجوب الصوم، ورخصة الفطر بالعذر، والمراد تكبيرات ليلة الفطر (ولعلكم تشكرون) الله على نعمته، أو رخصة الفطر. انتهى من جامع البيان. وهذا المفسر مراد المصنف بقوله (من أيام أُخر) الآية، وهي بالرفع مبتدأ خبره محذوف أي: معروفة وبالنصب أي: أتمها، ويجوز الخفض على حذف الجار لكنه ضعيف؛ لأن حذف الجار وإبقاء عمله سماعي في غير أن وإن وكي المصدريات (وأما الأحاديث) أي: الدالة على وجوبه (فقد تقدمت في الباب الذي قبله) في جملة ما يدل على وجوب الزكاة (و) مما فيها، بيان فضله ما ثبت. 1213- (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال الله عز وجل:) هو من الأحاديث القدسية (كل عمل ابن آدم له) قال الخطابي: أي: له فيه حظ ومدخل، وذلك لاطلاع الناس عليه، فهو يتعجل به ثواباً من الناس، ويحوز به حظاً من الدنيا جاهاً وتعظيماً ونحوهما (إلا الصيام فإنه لي) أي: خالص لي لا يطلع عليه أحد غيري، ولا حظ فيه للنفس، وفيه كسرها، وتعريض البدن للنقص والصبر على حراقة العطش ومضض الجوع، وقال الخطابي: معناه الصوم عبادة خالصة لا يستولي عليها الرياء والسمعة؛ لأنه عمل بر لا يطلع عليه إلا الله، وهذا كما روي: نية المؤمن خير من عمله، وذلك لأن محلها القلب، فلا يطلع عليها غير الله تعالى أي: أن النية المنفردة عن العمل خير من عمل خال عن النية، كما في (ليلة القدر خير من ألف شهر) (¬1) أي ألف شهر ليس فيها ليلة قدر، وقيل معناه: أن الاستغناء عن الطعام والشراب من صفات الله تعالى، فإنه يطعم ولا يُطعم، فكأنه قال: الصائم يتقرب إلي بأمر هو متعلق بصفة من صفاتي، وإن كانت صفات الله تعالى لا يشبهها شيء، وقيل: هو إضافة تشريف كبيت الله، وقيل: غير ذلك مما يأتي بعضه (وأنا أجزي به) معناه مضاعفة الجزاء من غير عدد ولا حساب لأن تولي الكريم للعطاء يدل على سعته (والصيام جنة) بضم الجيم أي: ترس أي: فيكون مانعاً من النار أو من المعاصي كما يمنع الترس من إصابة السهم، لأنه يكسر الشهوة ويضعف القوة، زاد أحمد: وحصن حصين من النار، والنسائي: كجنة أحدكم من القتال، زاد أحمد من وجه آخر: ما لم يخرقها. قال ¬

_ (¬1) سورة القدر، الآية: 2.

فَإذَا كَانَ يَومُ صَوْمِ أحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ فإنْ سَابَّهُ أحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ. وَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ. لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أفْطَرَ فَرِحَ بفطره، وَإذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ" متفقٌ ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن العربي: إنما كان جنة من النار لأنه إمساك عن الشهوات والنار محفوفة بها (فإذا كان) أي: وجد (يوم صوم أحدكم فلا يرفث) بضمِ الفاء وكسرها على أن ماضيه رفث بالفتح، وأما على أنه بكسرها فالمضارع يرفث بالفتح رفثاً بالسكون في المصدر، وبالفتح في اسمه أي لا يتكلم بالكلام الفاحش (ولا يصخب) بفتح الخاء أي: لا يكثر لغطه (فإن سابه أحد) أي: سبه والمفاعلة للمبالغة لا للمغالبة، أو على بابها لأن من شأن من سب أن يسب (أو قاتله) أي: نازعه أو خاصمه (فليقل) بقلبه (¬1) لينزجر (إني صائم) (¬2) وقيل: بلسانه لينزجر خصمه عنه أي: إن أمن نحو رياء، وعليه فقيل: يجمع بينهما ليزجر بلسانه خصمه وبقلبه نفسه، ويكون من حمل اللفظ على حقيقته ومجازه وذلك جائز عند الشافعي، وهذا وإن لم يخص الصائم إلا أنه فيه آكد (والذي نفس محمد بيده) أي: بقدرته أتى به للتأكيد ففيه ندب القسم لتأكيد الأمر عند السامع (لخلوف) بضم الخاء واللام وسكون الواو وبالفاء، قال عياض: هكذا الرواية الصحيحة، وبعض الشيوخ يقوله: بفتح الخاء، قال الخطابي: وهو خطأ. وحكي عن القابسي الوجهين، وبالغ المصنف فقال في مجموعه: لا يجوز فتح الخاء، واحتج غيره لذلك بأن المصادر التي جاءت على فعول بفتح أوله قليلة، ذكرها سيبويه وغيره، وليس هذا منها (فم الصائم) فيه دليل على إثبات الميم في فم حال إضافته لظاهر؛ خلافاً لمن منع منه، والمراد تغير فيه الناشىء عن الصوم، وهو مطلق مقيد بحديث: أعطيت أمتي في رمضان خمساً إلى أن قال والثانية أنهم يمسون، وخلوف أفواههم أطيب عند الله من ريح المسك، وبه أيضاً استدل على أن ذلك في الدنيا، كما قاله ابن الصلاح والجمهور، خلافاً لابن عبد السلام في قوله: إن ذلك في الآخرة، كدم الشهيد (أطيب عند الله من ريح المسك) قال المازري: هو مجاز عن تقريب الصوم منه تعالى؛ لأنه جرت عادتنا بتقريب الروائح الطيبة منا فاستعير ذلك للصوم؛ لتقريبه من الله تعالى أي: إنه أطيب عند الله من ريح المسك عندكم أي: يقرب إليه تعالى أكثر من تقرب المسك إليكم، وإليه أشار ابن عبد البر، وقيل: المعنى أن حكم الخلوف والمسك عند الله على ضد ما هو عندكم، وهذا ¬

_ (¬1) أي يحدث بها نفسه ليمنعها من مشاتمته. (¬2) الذي في نسخة صحيحه من صحيح البخاري إني امرؤ صائم. ع.

عَلَيْهِ، وهذا لفظ روايةِ البُخَارِي. وفي روايةٍ لَهُ: "يَتْرُكُ طَعَامَهُ، وَشَرَابَهُ، وَشَهْوَتَهُ مِنْ أجْلِي، الصِّيَامُ لي وَأنَا أجْزِي بِهِ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمْثَالِهَا". وفي رواية لمسلم: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يضاعَفُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ قريب من الأول، وقيل: إن المراد أن الله يجزيه في الآخرة، فتكون نكهته فيها أطيب من ريح المسك، كما يأتي الكلوم وريح جرحه يفوح مسكاً، وقيل: المراد أن صاحبه ينال من الثواب ما هو أفضل من ريح المسك، لا سيما بالإِضافة إلى الخلوف، حكاهما عياض، وقال الداودي وجماعة: المراد أن الخلوف أكثر ثواباً من المسك المندوب إليه في الجمع ومجالس الذكر، ورجح المصنف هذا، وحاصله حمل معنى الطيب؛ لاستحالة قيام حقيقته بذاته تعالى على القبول والرضى، وقد نقل القاضي حسين في تعليقه أن للطاعات يوم القيامة ريحاً يفوح، فرائحة الصوم بين العبادات المسك، وقال البيضاوي: هو تفضيل لما يستكره من الصائم على أطيب ما يستلذ من جنسه، وهو المسك ليقاس به ما فوقه من آثار الصوم، وقيل: إنه من مجاز الحذف أي: عند ملائكة الله أي: إنهم يستطيبون ريح الخلوف أكثر مما يستطيبون ريح المسك (للصائم فرحتان يفرحهما) فيه توسع بحذف الجار والأصل يفرح بهما، كما في قوله تعالى: (فليصمه) (¬1) أي: فليصم فيه، أو هو مفعول مطلق أي: يفرح الفرحتين، فجعل الضمير بدله، نحو عبد الله أظنه منطلقاً (إذا أفطر فرح بفطره) أي: لإتمام الصوم، وخلوه من المفسدات، أو لتناوله الطعام (وإذا لقي ربه فرح بصومه) أي: بلقاء ربه، أو برؤية ثوابه، وعلى الاحتمالين فهو مسرور بقبول صومه (متفق عليه) أخرجاه في الصوم، وكذا رواه فيه النسائي في سننه. (وهذا) أي: اللفظ المذكور (لفظ رواية البخاري) في باب هل يقول: إني صائم إذا شتم؟ (وفي رواية له) أي: للبخاري في باب فضل الصوم، من حديث أبي هريرة مرفوعاً لفظاً قدسياً معنى لقوله (يترك طعامه وشرابه وشهوته) من الجماع، ومقدماته (من أجلي) من فيه تعليلية (الصيام لي) أي: لم يتعبد به لأحد غيري، وإن كانت العبادات كلها لله تعالى، وكان الكفار يعظمون معبوداتهم بسجود وصدقة، أما بالصيام فلا. (وأنا أجزي به) بفتح الهمزة أي: أتولى جزاءه، وذلك دال على شرفه، وعظم جزائه (والحسنة بعشر أمثالها) هو أقل مراتب التضعيف (وفي رواية لمسلم) لهذا الحديث، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو باعتبار أوله حديث مرفوع لا قدسي (كل عمل ابن آدم يضاعف) ظاهره أن نفس العمل يضاعف، ويؤيده قوله (وإن تك حسنة ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 185.

الحسنةُ بِعَشْرِ أمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِئَةِ ضِعْفٍ. قَالَ الله تَعَالَى: إِلاَّ الصَّوْمَ فَإنَّهُ لِي وَأنَا أجْزِي بِهِ؛ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أجْلِي. للصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ. وَلَخُلُوفُ فِيهِ أطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ" (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ يضاعفها) (¬2) وقيل: المراد ثوابه لقوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) (¬3) وقوله هنا يضاعف بالتحتية خبر كل، وفي نسخة بالفوقية مسند إلى قوله (الحسنة عشر أمثالها) وعشر بالنصب ثاني مفعولي يضاعف؛ لتضمنه معنى يجعل، والجملة الخبرية رابطها ضمير محذوف، والأصل تضاعف الحسنة فيه، وعلى أنه بالتحتية فجملة الحسنة عشر أمثالها مركبة من مبتدأ وخبر مستأنفة استئنافاً بيانياً، كأنه قيل كيف تلك المضاعفة؟ فقال: الحسنة إلخ وقد تضاعف (إلى سبعمائة ضعف) قال تعالى: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) (¬4) (قال الله تعالى: إلا الصوم) بالنصب مستثنى من حصر المضاعفة في عدد مخصوص، وقوله: (فإنه لي وأنا أجزي به) جملة مستأنفة، أتى بها كالتعليل؛ للاستثناء المذكور وذلك أن تولي الله سبحانه لجزائه، يدل على عظمه وأنه لا يحصره عد، فهو كالصبر الذي قال الله لعالى فيه: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) (¬5) (يدع شهوته) أي: ما تشتاق النفس إليه (وطعامه) أراد به ما يطعم، فشمل الشراب (من أجلي) أي: بسببي (للصائم فرحتان فرحة عند فطره) لتمام عبادته، وسوغ الابتداء بالنكرة؛ كونه مسوقاً للتفصيل، فهو كقوله "فيوم لنا ويوم علينا" (وفرحة عند لقاء ربه) بلقائه ورؤية جزيل ثوابه (ولخلوف) بفتح اللام، أي: لام جواب القسم أكد به دفعاً لما يستبعد من الحكم بأطيبيته، مع كونه مستقذراً عند الناس أي: لتغير (فيه) الناشىء عن الصوم الكائن من بعد الزوال؛ لأن التغير قبله قد يحال على ما أكله وقت السحر، بخلافه بعده، فيتمحض كونه أثره (أطيب عند الله من ريح المسك) وهذه الجملة مسوقة لبيان شرف الصوم عند الله تعالى، وزيادة مكانته، كما تقدم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: وجوب صوم رمضان (4/88، 94) . وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: فضل الصيام، (الحديث: 163) . (¬2) سورة النساء، الآية: 40. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 160. (¬4) سورة البقرة، الآية: 261. (¬5) سورة الزمر، الآية: 10.

1214- وعنه رضي الله عنه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَنْ أنْفَقَ زَوْجَيْنِ في سَبِيلِ اللهِ نُودِيَ مِنْ أبْوَابِ الجَنَّةِ، يَا عَبْدَ اللهِ هَذَا خَيرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الصَّلاَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ" ـــــــــــــــــــــــــــــ 1214- (وعنه) أي: أبي هريرة (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من أنفق زوجين) في بعض طرق الحديث، قيل: وما زوجان؟ قال: فرسان أو عجلان أو بعيران، وقال ابن عرفة: كل شيء قرن بصاحبه فهو زوج، وقيل: يحتمل أن يكون هذا الحديث في جميع أعمال البر، من صلاتين، أو صيام يومين، أو شفع صدقة بأخرى، ويدل عليه قوله في بقية الحديث "فمن كان من أهل الصلاة" "ومن كان من أهل الصيام" والزوج الصنف أيضاً، ومنه (وكنتم أزواجاً ثلاثة) (¬1) ، (في سبيل الله) هو عام في جميع وجوه الخير، وقيل: خاص بالجهاد، والأول أصح وأظهر، قاله المصنف (نودي من أبواب الجنة يا عبد الله هذا خير) قيل: هو اسم أي: ثواب وغبطة، وقيل: أفعل تفضيل أي: هذا فيما نعتقد خير لك من غيره من الأبواب؛ لكثرة ثوابه، ونعيمه فتعال فادخل منه. قال المصنف: ولا بد من تقدير ما ذكرناه، أن كل منا يعتقد أن ذلك الباب أفضل من غيره، وقال الحافظ في فتح الباري: هو بمعنى فاضل لا أفضل، وإن كان اللفظ قد يوهمه، وفائدته زيادة ترغيب السامع في طلب الدخول من ذلك الباب (فمن كان من أهل الصلاة) أي: بأن أكثر من التطوع منها، بحيث كان الغالب عليه في عمله ذلك، وليس المراد الواجبات؛ لاستواء الناس فيها قاله القرطبي، وظاهر جريانه في الصوم والصدقة (دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد، دعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان) سُمي به على جهة مقابلة العطشان، الذي هو الصائم، وإشارة إلى أنه يجازى على عطشه بالري الدائم في الجنة التي يدخل إليها من ذلك الباب (ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة) بقي من أركان الإِسلام الحج، ولا شك أن له باباً، وأما الثلاثة الباقية من الثمانية فمنها: باب الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس. روى أحمد بن حنبل عن الحسن مرسلاً: إن لله باباً في الجنة لا يدخله إلا من عفا عن مظلمة، ومنها: الباب الأيمن، وهو باب المتوكلين الذي يدخل منه من لا حساب عليه، ولا عذاب، وأما الثالث فلعله باب الذكر، فإن عند الترمذي ما يوميء إليه، ويحتمل أن يكون ¬

_ (¬1) سورة الواقعة، الآية: 7.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه -: بِأبي أنْتَ وَأُمِّي يَا رسولَ اللهِ! مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرورةٍ، فهل يُدْعى أحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأبوَابِ كُلِّهَا؟ فَقَالَ: "نَعَمْ، وَأرْجُو أنْ تَكُونَ ـــــــــــــــــــــــــــــ باب العلم، ويحتمل أن يراد بالأبواب التي يدعى منها أبواب من داخل أبواب الجنة الأصلية؛ لأن الأعمال الصالحة أكثر عدداً من ثمانية. اهـ من فتح الباري. وقال السيوطي في الديباج: قال القاضي عياض: وقد جاء ذكر بقية الأبواب في أحاديث أخر: باب التوبة، وباب الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، وباب الراضين، والباب الأيمن الذي يدخل منه من لا حساب عليه. قال الحافظ في الفتح: الإنفاق في الصدقة والجهاد والعلم والحج ظاهر، وأما في غيرها فمشكل، ويمكن أن يراد بالإِنفاق في الصلاة الإِنفاق في تحصيل آلاتها، من ماء وطهارة وثوب ونحو ذلك، وفي الصيام الإِنفاق فيما يقويه عليه من سحور وفطور، والإنفاق في العفو عن الناس، أن يترك ماله عليهم من حق، والإِنفاق في التوكل، ما ينفقه على نفسه في مرضه المانع له من التصرف في طلب المعاش مع الصبر على المصيبة، أو ينفقه على من أصابه مثل ذلك طلباً للثواب، والإِنفاق في الذكر على نحو من ذلك، ويحتمل أن المراد من الإِنفاق في الصلاة والصيام بذل النفس فيهما، فإن العرب تسمي ما يبذله الإِنسان من نفسه في ذلك نفقة، يقول أحدهم فيما تعلم من الصنعة: أنفقت فيها عمري، فإتعاب الجسم في الصوم والصلاة إنفاق اهـ ملخصاً (قال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي) أي: مفدى بهما (يا رسول الله ما على من دعي من تلك الأبواب) أي: من أحدها (من ضرورة) (¬1) ، أي نقص ولا خسارة (فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها) فيه إشعار بقلة من يدعي من كلها، ودعاء من تجتمع له تلك الأعمال من كلها تشريف له، وإلا فإنما يدخل من باب واحد، ولعله باب العمل الذي يكون أغلب عليه، ولا يشكل على ذلك خبر مسلم: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله الحديث، وفيه "فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء" لأنه يحمل على أنها تفتح له إكراماً له ولا يدخل إلا من باب العمل الذي يكون أغلب عليه. قال الزركشي: ويحتمل أن الجنة كقلعة لها أسوار يحيط بعضها ببعض، وعلى كل سور باب، فمنهم من يدعى من الباب الأول فقط، ومنهم من يتجاوز عنه إلى الباب الداخل، وهلم جراً (قال: نعم وأرجو أن تكون ¬

_ (¬1) قال الكرماني نقلاً عن ابن بطال: معنى ما على من دعى من تلك إلخ أن من لم يكن إلا من أهل خصلة واحدة ودعي لها من بابها لا ضرر عليه لأن الغاية المطلوبة دخول الجنة. اهـ. ع.

مِنْهُمْ" متفقٌ عَلَيْهِ (¬1) . 1215- وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إنَّ في الجَنَّةِ بَاباً يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَومَ القِيَامَةِ، لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أحدٌ غَيْرُهُمْ، يقال: أيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ لاَ يَدخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ" متفقٌ عَلَيْهِ (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ منهم) قال العلماء: الرجاء من الله تعالى، ومن نبيه - صلى الله عليه وسلم - واقع (متفق عليه) قال المصنف: في الحديث منقبة لأبي بكر رضي الله عنه، وفيه جواز الثناء على الإِنسان في وجهه إذا لم يخف عليه فتنة منه بإعجاب أو غيره. 1215- (وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن في الجنة) في بمعنى اللام، كما عبر بها في رواية أخرى، كذا في التوشيح، وقال ابن المنير: أتى بفي دون اللام إشارة إلى أن في الباب من النعيم والراحة ما في الجنة فيكون أبلغ في التشويق (باباً يقال له الريان) بفتح الراء وتشديد الياء التحتية، فعلان من الري، وهو مناسب لجزاء الصائمين، كما تقدم. واكتفى بذكر الري عن الشبع؛ لأنه يدل عليه من حيث إنه يستلزمه (يدخل منه الصائمون يوم القيامة) لبيان الواقع إذ دخولها إنما يكون يومئذ، ويحتمل أن يكون احترازاً عن دخول أرواح الشهداء والمؤمنين لها مدة هذا العالم، فلا يتقيد بالصائمين (لا يدخل منه أحد غيرهم) أي: في ذلك اليوم (يقال: أين الصائمون فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم فإذا دخلوا) لمسلم: فإذا دخل آخرهم، وفي بعض نسخه فإذا دخل أولهم إلى آخره. قال عياض وغيره: وهو وهم، والصواب آخرهم (أغلق فلم يدخل منه أحد) كرر نفي دخول غيرهم منه تأكيداً، وأما قوله: فلم يدخل، فهو معطوف على أغلق، أي: لم يدخل منه غير من دخل، وجاء الحديث بلفظ مسلم الأول عند ابن أبي شيبة في مسنده، وأبي نعيم في مستخرجه، وابن خزيمة، والنسائي وزاد: من دخله لم يظمأ أبداً، ورواه النسائي من طريق آخر موقوفاً على أبي حازم الراوي عن سهل. قال الحافظ في الفتح: وهو مرفوع قطعاً (¬3) ؛ لأن مثله لا مجال للرأي فيه (متفق عليه) أخرجاه في الصوم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: الريان للصائمين (4/96) وغيره. وأخرجه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: من جمع الصدقة وأعمال البر، (الحديث: 85) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: الريان للصائمين، (4/95، 96) . وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: فضل الصيام، (الحديث: 166) . (¬3) قوله: وهو مرفوع قطعاً إلخ هذا الحكم إنما قرره علماء المصطلح في الموقوف على الصحابي

1216- وعن أَبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْماً في سَبِيلِ اللهِ إِلاَّ بَاعَدَ اللهُ بِذَلِكَ اليَوْمِ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفَاً" متفقٌ عَلَيْهِ (¬1) . 1217- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إيمَاناً وَاحْتِسَاباً، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" متفقٌ عَلَيْهِ (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1216- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من) مزيدة؛ لاستغراق النفي (عبد) أي: مكلف، والجارية كالعبد فيما يأتي، والاقتصار عليه جري على الغالب، أو لشرفه، ويوضحه أنه جاء في رواية لمسلم: "من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً" (يصوم يوماً في سبيل الله) قيل: المراد به الجهاد للكفار، وقيل: المراد منه طاعة الله (إلا باعد الله تعالى وجهه) أي: أبعده، وصيغة المفاعلة للمبالغة (عن النار سبعين خريفاً) أي: مدة سير سبعين سنة وكنى عنها بالخريف؛ لأنه ألطف (¬3) فصولها؛ لما فيه من اعتدال البرودة والحرارة؛ ولأنه يجري فيه الماء في الأغصان (متفق عليه) . 1217- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من صام رمضان إيماناً) أي: حال كونه مصدقاً بما ورد فيه من الثواب، أو منصوب على العلة (احتساباً) أي: محتسباً قاصداً به وجه الله تعالى (غفر له ما تقدم من ذنبه) زاد النسائي وأحمد وغيرهما بسند حسن "وما تأخر". والمغفور من الذنوب بالطاعات، الصغائر المتعلقة بحق الله سبحانه (متفق عليه) هو آخر حديث أورده البخاري في باب من صام رمضان إيماناً واحتساباً ولفظه "من قام ليلة القدر إيماناً وإحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ومن صام رمضان" فذكره فكان على المصنف أن يأتي بالعاطف لينبه على أنه بعض حديث. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: فضل الصوم في سبيل الله (6/35) . وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: فضل الصيام في سبيل الله لمن يطيقه ... ، (الحديث: 167) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: من صام رمضان إيماناً واحتساباً (4/221) . وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: فضل الصيام، (الحديث: 175) . فيه موقوف على التابعين فالحكم بكونه مرفوعاً يحتاج إلى نظر. ع. (¬3) قوله: لأنه الخ فيه أن هذه الخواص للربيع لا للخريف.

1218- وعنه - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ، فُتِحَتْ أبْوَاب الجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أبْوَابُ النَّارِ، وَصفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ" متفقٌ عَلَيْهِ (¬1) . 1219- وعنه - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأفْطِرُوا لِرُؤيَتِهِ، فَإنْ غَبِيَ عَلَيْكُمْ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1218- (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا جاء رمضان فتحت) بتخفيف التاء الفوقية وتشديدها مبنياً للمفعول، وسكت عن ذكر الفاعل؛ للعلم به (أبواب الجنة) الأظهر: أن المراد فتح بالحقيقة لمن مات (¬2) فيه، أو عمل عملاً لا يفسد عليه، وقيل: مجاز أي: العمل فيه يؤدي إلى ذلك، أو عن كثرة الرحمة والمغفرة، بدليل رواية لمسلم "فتحت أبواب الرحمة" إلا أن يقال الرحمة من أسماء الجنة (وغلقت أبواب النار) فيه ما مر فيما قبله، ويحتمل أنه كناية عن تنزه أنفس الصوام عن رجس الفواحش، والتخلص من البواعث على المعاصي، بقمع الشهوات، قال الطيبي: فائدة ذلك (¬3) توقيف الملائكة على استحماد فعل الصائمين، وأنه من الله تعالى بمكان عظيم وأن المكلف إذا علم ذلك بإخبار الصادق زاد نشاطه (وصفدت) بضم أوله وتشديد الفاء أي: غلت (الشياطين) يحتمل ما مر قبله من الحقيقة، ومن أنه مجاز عن منعهم فيه من كثرة إيذاء المؤمنين، والتهويش عليهم، فيصيرون كالمسلسلين، أو عن كف المكلفين عما ينكفون عنه فيه من المخالفات (متفق عليه) . 1219- (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: صوموا لرؤيته) أي: هلال رمضان كما يوميء إليه المقام، ولو كان الرائي واحداً وهو عدل شهادة لا رواية (وأفطروا لرؤيته) أي: هلال شوال، واللام فيهما محتملة؛ لكونها بمعنى عند كقوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس) (¬4) ولكونها للتعليل (فإن غبي) بفتح المعجمة، وكسر الموحدة مخففة وفي نسخة مشددة، مبنياً للمفعول، وفي أخرى من البخاري بلفظ " غم عليكم " أي: حال بينكم وبينه غيم، يقال: غم وأغمى وغمى وغمي بتشديد الميم وتخفيفها والغين مضمومة فيهما، ويقال: غبي بفتح ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: هل يقال رمضان؟ أو شهر رمضان، (4/97) . وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: فضل شهر رمضان، (الحديث: 1) . (¬2) قوله: لمن مات الخ هذا التقييد غير ظاهر الحديث والظاهر بناء على أن الفتح حقيقي ما سيذكره عن الطيبي من أن المقصود توقيف الملائكة إلخ. (¬3) أي الفتح والغلق على أنهما حقيقيان. ع. (¬4) سورة الإسراء، الآية: 78.

218- باب الجود وفعل المعروف والإكثار من الخير في شهر رمضان والزيادة من ذلك في العشر الأواخر منه

فَأكمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ" متفقٌ عَلَيْهِ، وهذا لفظ البخاري. وفي رواية مسلم: "فَإنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَصُومُوا ثَلاَثِينَ يَوْماً". (¬1) . 218- باب الجود وفعل المعروف والإكثار من الخير في شهر رمضان والزيادة من ذَلِكَ في العشر الأواخر منه 1220- وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجْوَدَ ـــــــــــــــــــــــــــــ المعجمة، وبالموحدة، وكلها صحيحة قاله المصنف. (فأكملوا عدة شعبان ثلاثين) ومنه أخذ أصحابنا: عدم استحباب الخروج من خلاف من أوجب صوم ثلاثين شعبان، إذا منع الغيم من رؤية الهلال؛ لأن الخلاف إنما يخرج منه ما لم يعارض سنة صحيحة، ولم يشتد ضعفه، ولم يوقع الخروج منه في خلاف آخر (متفق عليه وهذا لفظ البخاري وفي رواية مسلم) هي إحدى رواياته (فإن غم عليكم) أي: هلال شوال (فصوموا ثلاثين يوماً) ومنه يؤخذ أنه إذا أكملت عدة الثلاثين، ولم ير الهلال، وجب الفطر سواء كان رؤية رمضان من واحد، أو من أكثر منه، وهو كذلك لإِكمال العدة بحجة شرعية، وما يلزم عليه من ثبوت شوال بواحد، يجاب عنه بأن الشيء يثبت ضمناً بما لا يثبت به مستقلاً. باب ندب الجود هو لغة: الكرم، وشرعاً: إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي، وهو أعم من الصدقة (وفعل المعروف) أي: ما يعرف شرعاً من واجب ومندوب (والإكثار من الخير) لينمو ثوابه بشرف زمانه (في شهر رمضان) خبر عن الجميع أي ندب ذلك أي: تأكده كائن في شهر رمضان؛ لأنه أشرف الشهور، فندب إحياؤه بذلك لينمو ثواب العمل (والزيادة من ذلك) أي: المذكور (في العشر الأواخر منه) ابتداؤه من ليلة الحادي والعشرين، وانتهاؤه بخروج رمضان تاماً كان أو ناقصاً، وعليه فإطلاق العشر عليه بطريق التغليب للتمام، لأصالته. 1225- (عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس) أكثرهم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الصيام، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رأيتم الهلال فصوموا ... (4/106) . وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: فضل شهر رمضان، (الحديث: 17) .

النَّاسِ، وَكَانَ أجْوَدَ مَا يَكُونُ في رَمَضَانَ ـــــــــــــــــــــــــــــ جوداً، وقد نقل عنه - صلى الله عليه وسلم - ما لم ينقل مثله عن غيره (وكان أجود ما يكون في رمضان) برفع أجود إما على أنه اسم كان مضافاً إلى المصدر المنسبك من ما يكون، أي: أجود أكوانه، وفي رمضان الخبر، أو على أنه بدل اشتمال من اسم كان الضمير المستكن فيها، وهو العائد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو بنصبه على أنه خبر كان واسمها الضمير المستكن، وما حينئذ مصدرية ظرفية أي: كان متصفاً بالأجودية مدة كونه في رمضان، مع أنه أجود الناس مطلقاً وإنما التفضيل بين حالتيه في رمضان وغيره. قال الدماميني: ولك مع نصبه أن تجعل (ما) نكرة موصوفة بيكون، وفي رمضان متعلقاً بكان على القول بدلالتها على الحدث. وهو الصحيح واسم كان ضمير يعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو إلى جوده المفهوم مما سبق أي: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان أجود شيء يكون، أو كان جوده في رمضان أجود شيء يكون، فجعل الجود متصفاً بالأجودية مجازاً، كقولهم شعر شاعر. اهـ وقال الحافظ في الفتح: أجود بالرفع في أكثر الروايات على أنه اسم كان وخبرها محذوف، نحو أخطب ما يكون الأمير في يوم الجمعة، أو أنه مرفوع على أنه مبتدأ مضاف للصدر المنسبك، والخبر في رمضان، والتقدير أجود ما يكون (¬1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان، وإلى هذا جنح البخاري في كتاب الصوم إذ قال: باب أجود ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكون في رمضان، قلت: وعلى الثاني من إعراب الحافظ، فالجملة خبر كان، وقال المصنف: الرفع أشهر وأصح، والنصب جائز، وذكر أنه سأل ابن مالك عنه فخرج الرفع من ثلاثة أوجه والنصب من وجهين. قال في الفتح: ويرجح الرفع وروده بدون كان عند البخارى في الصوم، وعليه اقتصر ابن الحاجب في أماليه، وقال: هو الوجه. قال: لأنك إذا جعلّت في كان ضميراً يعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن أجود بمجرده خبراً؛ لأنه مضاف إلى ما يكون، فوجب أن يكون هو الكون ولا يستقيم الخبر بالكون عما ليس بكون ألا ترى أنك لا تقول زيد أجود ما يكون، فوجب أن يكون إما مبتدأ، وذكر الثاني من وجهي الحافظ وزاد: فيكون الخبر الجملة بتمامها كقولك: زيد كان أحسن ما يكون في يوم الجمّعة، وإما بدل اشتمال من ضمير كان وذكر ما تقدم. قال: وإن جعلت الضمير للشأن تعين رفع أجود على الابتداء والخبر، وإن لم تجعل في كان ضميراً تعين " الرفع على أنه اسمها، والخبر محذوف قامت الحال مقامه على ما تقرر في: أخطب ما يكون الأمير قائماً، وإن شئت جعلت في رمضان الخبر، كقولهم ضربي زيداً في الدار؛ لأن ¬

_ (¬1) الأنسب أن يقول والتقدير كان أجود أكوانه حاصلاً إذا كان في رمضان. ع.

حِيْنَ يَلْقَاهُ جِبْريلُ، وَكَانَ جِبْريلُ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، حِيْنَ يَلْقَاهُ جِبرِيلُ أجْوَدُ بالخَيْرِ مِن الرِّيحِ المُرْسَلَةِ. متفقٌ عَلَيْهِ (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ المعنى الكون الذي هو أجود الأكوان حاصل في هذا الوقت، فلا يتعين أن يكون من باب أخطب ما يكون الأمير قائماً. اهـ ملخصاً. وقولي: وعليه اقتصر ابن الحاجب أي: على الرفع، فإنه لم يعرج على النصب، لا على الوجه المذكور للرفع، فقد ذكر له خمسة أوجه توارد مع ابن مالك في وجهين، وزاد ثلاثة، كما في الفتح. (حين يلقاه جبريل) أي: وقت لقائه إياه وجملة (وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان) معطوفة على الجملة الفعلية السابقة، أو مستأنفة؛ لبيان تواصل لقائه له فيه (فيدارسه القرآن) قيل: الحكمة فيه (¬2) أن مدارسة القرآن تجدد له العهد بمزيد غنى النفس، والغنى سبب الجود وأيضاً فرمضان موسم الخيرات؛ لأن نعم الله فيه على عباده زائدة على غيره، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤثر متابعة سنة الله تعالى في عباده، فمجموع ما ذكر من الوقت والنازل فيه والمنزول به والمذاكرة حصل من يد الجود، والله أعلم (فلرسول الله - صلى الله عليه وسلم -) الفاء للسببية، واللام للابتداء، زيدت تأكيداً وهي جواب قسم مقدر (حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة) أي: المطلقة يعني أنه في الإِسراع بالجود أسرع من الريح وعثر بالمرسلة؛ إشارة إلى دوام هبوبها بالرحمة، وإلى عموم النفع بجوده، كما تعم الريح المرسلة كل ما هبت عليه، ووقع عند أحمد في آخر هذا الحديث: لا يسأل شيئاً إلا أعطاه (متفق عليه) قال المصنف: في هذا الحديث فوائد منها: الحث على الجود في كل وقت، والزيادة منه في رمضان وعند الاجتماع بأهل الصلاح وفيه زيارة الصلحاء وأهل الفضل، وتكرار ذلك إذا كان المزور لا يكرهه، واستحباب الإِكثار من القراءة في رمضان، وكونها أفضل من سائر الأذكار إذ لو كان الذكر أفضل أو مساوياً لها لفعلاه (¬3) ، وكون المقصود تجويد القرآن، يجاب عنه بأن الحفظ كان حاصلاً والزيادة عليه تحصل ببعض هذه المجالس. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: بدء الوحي وغيره، (4/99) . وأخرجه مسلم في كتاب: الفضائل، باب: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس بالخير من الريح المرسلة، (الحديث: 50) . (¬2) (فيه) أي في زيادة جوده عند لقاء جبريل. ع. (¬3) أي دائماً أو في أوقات مع تكرر اجتماعهما.

219- باب النهي عن تقدم رمضان بصوم بعد نصف شعبان إلا لمن وصله بما قبله أو وافق عادة له بأن كان عادته صوم الإثنين والخميس فوافقه

1221- وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا دَخَلَ العَشْر أحْيَا اللَّيْلَ، وَأيْقَظَ أهْلَهُ، وَشَدَّ المِئْزَرَ. متفقٌ عَلَيْهِ (¬1) . 219- باب النهي عن تقدم رمضان بصوم بعد نصف شعبان إِلاَّ لمن وصله بما قبله أَوْ وافق عادة لَهُ بأن كَانَ عادته صوم الإثنين والخميس فوافقه 1222- عن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "لاَ يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُم رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، إِلاَّ أنْ يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَومَهُ، فَليَصُمْ ذَلِكَ ـــــــــــــــــــــــــــــ 1221- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل العشر) (أل) فيه للعهد الذهني والمراد الأخير (أحيا الليل) بالقيام فيه (وأيقظ أهله) دلالة لهم على محل الخير، وإعانة لهم على تحصيله (وشد المئزر) مبالغة في الجد، وعمل الخيم-، والحديث سبق مشروحاً قريباً، وأورده المصنف هنا شاهداً لقوله: والزيادة من ذلك في العشر الأواخر (متفق عليه) . باب النهي على سبيل التحريم (عن تقدم رمضان بصوم) قل أو كثر (بعد نصف شعبان) وذلك من سادس عشره (إلا لمن وصله بما قبله) أي: بالخامس عشر (أو) لمن (وافق عادة له بأن كان عادته صوم الاثنين أو الخميس) أو صوم يوم وفطر يوم (فوافقه) أي: النصف الأخير من شعبان، فيصوم عادته. 1222- (عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين) أي: من النصف الثاني بدليل حديث الترمذي بعده، وذكر اليومين، لإفادة تحريم صوم ما زاد على اليوم، كحرمة صوم اليوم من ذلك دفعاً؛ لتوهم أن بالانضمام ترتفع الحرمة، كما ترتفع كراهة صوم كل من الجمعة والسبت والأحد بضم غيره منها إليه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: العمل في العشر الأواخر من رمضان (4/233 و234) . وأخرجه مسلم في كتاب: الاعتكاف، باب: الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان، (الحديث: 7) .

اليَوْمَ" متفقٌ عَلَيْهِ (¬1) . 1223- وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تَصُومُوا قَبْلَ رَمضَانَ، صُومُوا لِرُؤيَتِهِ، وَأفْطِرُوا لِرُؤيَتِهِ، فَإنْ حَالَتْ دُونَهُ غَيَايَةٌ فَأكْمِلُوا ثَلاثِينَ يَوْماً" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسنٌ صحيح". "الغَيايَةُ" بالغين المعجمة وبالياءِ المثناةِ من تَحْت المكررةِ، وهي: السحابة (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ (إلا) استثناء من أعم الأحوال أي: لا تصومن فيه في حال من الأحوال إلا حال (أن يكون رجل كان) أي: اليوم المقدم على رمضان (يوم يصومه) أي: اليوم الذي يعتاد صومه، وهو عند البخاري في أول الصوم بلفظ " إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه فليصم ذلك اليوم " ولم أر ما ذكره المصنف فيهما (فليصم ذلك اليوم) وإن كان فيه تقدم على رمضان به؛ لأنه لاعتياده له، لا يقال فيه عرفاً إنه متقدم به رمضان، ومثله في ذلك من عليه قضاء رمضان، ولم يقصد تأخيره؛ ليوقعه فيه قياساً على قضاء الصلوات في الأوقات التي تكره فيها الصلاة (متفق عليه) . 1223- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تصوموا قبل رمضان) هو وإن تناول شعبان بجملته المراد به: من نصفه الأخير للحديث بعده (صوموا لرؤيته) أي: عند رؤية هلال رمضان (وأفطروا لرؤيته) أي: هلال شوال، واعتمد في مرجع الضمير على السياق، ويجوز إرجاع الضمير الأول؛ لشهر رمضان أي: لرؤية هلاله، فيكون على تقدير مضاف (فإن حالت دونه غياية) فمنعت رؤيته (فأكملوا ثلاثين يوماً) أي: فلا تصوموا حتى تكمل عدة شعبان، كذلك وأفطروا إذا كملت عدة رمضان كذلك (رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح) قال السيوطي في الجامع الكبير: ورواه النسائي والطبراني في الكبير، وابن حبان في صحيحه (الغياية بالغين المعجمة وبالياء المثناة من تحت المتكررة وهي السحابة) أي: معنى وكذا وزناً قال العراقي: هذا هو المشهور في ضبط هذا الحديث. وقال ابن العربي يجوز أن يجعل بدل الياء الأخيرة باء موحدة؛ لأنه من: الغيب تقديره ما خفي عليكم واستتر، أو نون من الغين، وهو الحجاب. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: لا يتقدمن رمضان بصوم يوم ولا يومين، (4/109) . وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، (الحديث: 21) . (¬2) أخرجه الترمذي في كتاب: الصوم، باب: ما جاء أن الصوم لرؤية الهلال والافطار له، (الحديث: 688) .

وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا بَقِيَ نِصْفٌ مِنْ شَعْبَانَ فَلاَ تَصُومُوا" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" (¬1) . 1225- وعن أَبي اليقظان عمارِ بن يَاسِرٍ رضي الله عنهما، قَالَ: مَنْ صَامَ اليَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ، فَقَدْ عَصَى أَبَا القَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم -. رواه أَبُو داود والترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1224- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا بقي نصف من شعبان فلا تصوموا) خص منه ما تقدم لما ورد فيه، وبقي ما عداه على المنع؛ لأن أصل النهي للتحريم، والأصل في العبادات إذا لم تطلب عدم الانعقاد (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) . 1225- (وعن أبي اليقظان) بفتح التحتية، وبالظاء المعجمة كنية (عمار) بتشديد الميم (ابن ياسر) الصحابي ابن الصحابي (رضي الله عنهما) وتقدمت ترجمته في باب الوعظ (قال) أي: موقوفاً عليه، لكنه مرفوع حكماً، إذ لا مجال للرأي فيه (من صام اليوم الذي يشك فيه) أهو من شعبان، أم من رمضان، وهو يوم ثلاثين شعبان، إذا تحدث الناس برؤيته، أو شهد بها من لا تثبت به من عبد، أو فاسق أو صبية رشداء (فقد عصى أبا القاسم (¬3) - صلى الله عليه وسلم -) فيه تحريم صومه كغيره من باقي النصف الأخير من شعبان، سواء كان في ليلة غيم، أو لا. وخصه الإِمام أحمد بغير ما في ليلة غيم فاختار صوم ما كان كذلك احتياطاً (رواه أبو داود والترمذي وقال) أي الترمذي: حديث عمار (حديث حسن صحيح) قال العراقي: جمع الصاغاني في تصنيف له الأحاديث الموضوعة، فذكر فيه حديث عمار المذكور، وما أدري ما وجه الحكم عليه بالوضع، وليس في إسناده من يتهم بالكذب، وكلهم ثقات. قال: وقد كتبت على الكتاب المذكور كراسة في الرد عليه في أحاديث منها هذا الحديث قال: نعم في اتصاله نظر، فقد ذكر المزي في الأطراف أنه روي عن أبي إسحاق السبيعي أنه قال: حدثت عن صلة بن زفر، لكن جزم البخاري بصحته إلى صلة ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب: الصوم، باب: ما جاء في كراهية الصوم في النصف ... (الحديث: 738) . (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب: الصوم، باب: كراهية صوم يوم الشك، (الحديث: 2334) . وأخرجه الترمذي في كتاب: الصوم، باب: ما جاء في كراهية صوم يوم الشك، (الحديث: 686) . (¬3) قوله (أبا القاسم) فائدة ذكر هذه النية الإشارة إلى أنه هو الذي يقسم بين عباد الله أحكام الله زماناً ومكاناً وغيرهما اهـ كرماني.

220- باب ما يقال عند رؤية الهلال

220- باب مَا يقال عند رؤية الهلال 1226-عن طلحة بن عبيدِ اللهِ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا رَأى الهلاَلَ، قَالَ: "اللَّهُمَّ أهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالأمْنِ وَالإيمانِ، وَالسَّلاَمَةِ وَالإسْلاَمِ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ، هِلالُ رُشْدٍ وخَيْرٍ" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال في صحيحه: وقال صلة، وهذا يقتضي صحته عنده، وقال البيهقي في المعرفة: إنه إسناد صحيح. اهـ. باب ما يقال عند رؤية الهلال أي من الأذكار والدعوات. في المصباح: الهلال الأكثر أنه القمر في حالة مخصوصة. قال الأزهري: يسمى القمر هلالاً لليلتين من أول الشهر، وفي ليلة ست وعشرين وما بعدها، وما بين ذلك قمراً، وقال الفارابي وتبعه الجوهري: الهلال لثلاث ليال من أوله، ثم هو قمر بعد ذلك، والجمع أهلة، كسلاح وأسلحة. 1226- (عن طلحة بن عبيد الله) التيمي أحد العشرة المبشرة بالجنة (رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأى الهلال قال:) أي: مستقبلاً للقبلة، كما هو شأنه حال الدعاء؛ ولأنها أشرف الجهات (اللهم) أي: يا الله (أهله علينا بالأمن) أي: من المخاوف الدينية والدنيوية (والإِيمان) أي: بدوامه، وثباته، ودفع ما يزيغ عنه (والسلامة) عطف عام على خاص؛ لشموله للأمراض والأعراض البدنية، وفقد الأحباء (والإسلام) وفيه جناس الاشتقاق أولاً وثانياً، ثم خاطب القمر بقوله (ربي وربك الله) أي: كلانا مربوبان له نافذ فينا أمره؛ لدفع توهم أن الهلال بذاته له إحداث نفع أو ضر، بل هو تحت جري الأقدار، كغيره من المكونات (هلال رشد) بالرفع، أي: هذا هلال رشد، والرشد بضم، فسكون وبفتحتين ضد الغي (وخير) مصدر كالمعطوف عليه (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) قال ابن حجر الهيثمي في الأمداد: ويزيد بعد قوله: وربك الله، قوله: ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أسألك خير هذا الشهر، وأعوذ بك من شر القدر، ومن شر المحشر، هلال رشد وخير، ثلاثاً، آمنت بالذي خلقك ثلاث مرات، ثم يقول: الحمد لله الذي أذهب شهر كذا، وجاء ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب: ما يقول عند رؤية الهلال، (الحديث: 3451) .

221- باب فضل السحور وتأخيره ما لم يخش طلوع الفجر

221- باب فضل السحور وتأخيره مَا لَمْ يخش طلوع الفجر 1227- عن أنس - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَسَحَّرُوا؛ فَإنَّ في السُّحُورِ بَرَكَةً" متفقٌ عَلَيْهِ (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ بشهر كذا، للإِتباع في كل ذلك. اهـ وقد ذكر مخرجيه ابن همام في السلاح وابن الجزري في الحصن. باب فضل السحور بفتح السين ما يتناول في السحر، وبالضم التناول له حينئذ (وتأخيره) إن أريد الأول ففي الكلام مضاف أي: وتأخير تناوله (ما لم يخش طلوع الفجر) ما فيه مصدرية ظرفية، قيد للتأخير. 1227- (عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تسحروا) أمر ندب، ويحصل أصل السنة بقليل الطعام، لو جرعة ماء، ففي حديث عبد الله بن سراقة مرفوعاً "تسحروا ولو بجرعة من ماء" رواه ابن عساكر: وبكثيره (فإن في السحور بركة) قال في النهاية: قيل: الصواب هنا الضم؛ لأن البركة والأجر والثواب في الفعل الذي هو تناول السحور لا في نفسه، وإن قيل: إن أكثر الروايات بالفتح. اهـ وفي كون الفتح خلاف الصواب، ما لا يخفى خصوصاً وهو صحيح، إما على تقدير مضاف، أو على سبيل المجاز من وصف الشيء بوصف ملابسه، وقال الحافظ: هو بفتح السين وضمها؛ لأن المراد بالبركة: إما الأجر والثواب فيناسب الضم؛ لأنه مصدر بمعنى التسحر، أو كونه يقوي على الصوم، وينشط له، ويخفف المشقة فيه، فيناسب الفتح، وقيل: البركة ما يتضمنه من الاستيقاظ والدعاء في السحر. والأولى أن يقال إن البركة تحصل بجهات متعددة، إتباع السنة ومخالفة أهل الكتاب، والتقوي به على العبادة والتسبب للذكر، والدعاء وقت مظنة الإِجابة، وتارك نية الصوم لمن أغفلها قبل أن ينام. اهـ (متفق عليه) ورواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث أنس، ورواه النسائي أيضاً من حديث أبي هريرة وابن مسعود، ورواه أحمد من حديث ابن مسعود، كذا في الجامع الصغير. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: بركة السحور (4/120) . وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: فضل السحور وتأكيد استحبابه ... (الحديث: 45) .

بِلاَلٌ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنْ بِلالاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ" قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا إِلاَّ أنْ يَنْزِلَ هَذَا وَيَرْقَى هَذَا. متفقٌ عَلَيْهِ (¬1) . 1230- وعن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "فَصْلُ ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال: إن أخا صداء أذن، ومن أذن فهو يقيم" رواه أبو داود وغيره، لكنه لم يكن راتباً ولذا عد مؤذنو النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة. قال الشافعي: وأحب أن أقتصر في المؤذنين على اثنين؛ لأنا إنما حفظنا أنه أذن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنان ولا نضيق إذ أذن أكثر من اثنين (بلال وابن أم مكتوم) الأعمى ففيه جواز كونه مؤذناً إذا كان له معرفة بالأوقات ولو بالتعريف (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن بلالاً يؤذن بليل) فيه ندب الأذان للصبح قبل دخول وقته؛ ليستعد للصلاة بالغسل من الجنابة، ونحو ذلك، وذلك من النصف الأخير (فكلوا واشربوا) لبقاء الليل المباح فيه الأكل (حتى يؤذن ابن أم مكتوم) فيه جواز نسبة الإِنسان إلى أمه (قال) أي: ابن عمر (ولم يكن بينهما) أي: بين أذانيهما (إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا) قال العلماء: المعنى أن بلالاً كان يؤذن قبل الفجر ويتربص بعد أذانه للدعاء ونحوه، ثم يرقب الفجر، فإذا قارب طلوعه نزل ذ فأخبر ابن مكتوم، فتأهب بالطهارة وغيرها، ثم يرقى، ويشرع في الأذان مع أول طلوع الفجر؛ ثم قد جاء عند ابن حبان في صحيحه، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ابن أم مكتوم يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال " وعند النسائي من حديث أنيسة بنت حبيب "إذا أذن ابن أم مكتوم فكلوا واشربوا وإذا أذن بلال فلا تأكلوا ولا تشربوا" قال العراقي: هاتان الروايتان معارضتان للرواية المشهورة. قال ابن عبد البر: المحفوظ والصواب هو الأول. وقال ابن خزيمة: يجوز أن يكون بينهما نوب. وجزم به ابن حبان في الجمع بينهما (متفق عليه) . 1230- (وعن عمرو بن العاص) كذا في النسخ بحذف الياء، وتقدم ما فيه عند ذكر ولده عبد الله، في باب تحريم الظلم، وتقدم في ترجمته في باب بيان كثرة طرق الخير، نسب عمرو هذا. قال المصنف في التهذيب: أسلم عام خيبر أول سنة سبع، وقيل: في صفر سنة، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: أذان الأعمى والشهادات وغيرها، (4/117) . وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام باب: بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع ... (الحديث: 36) .

222- باب في فضل تعجيل الفطر وما يفطر عليه، وما يقوله بعد إفطاره

فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وصِيَامِ أهْلِ الكِتَابِ، أكْلَةُ السَّحَرِ" رواه مسلم (¬1) . 222- باب في فضل تعجيل الفطر وَمَا يفطر عَلَيْهِ، وَمَا يقوله بعد إفطاره ـــــــــــــــــــــــــــــ ثمان، قبل الفتح بستة أشهر، وقيل: غير ذلك، وقدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - هو وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة، فأسلموا، ثم أمره - صلى الله عليه وسلم - في سرية ذات السلاسل، وهي السرية السابعة عشر، على جيوش هم ثلاثمائة، ثم أمده بجيش فيهم أبو بكر وعمر، وأميرهم أبو عبيدة بن الجراح وقال له: لا تختلف. فكان عمرو يصلي حتى رجعوا واستعمله - صلى الله عليه وسلم -، على عمان فلم يزل عليها حتى توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم أرسله أبو بكر أميراً إلى الشام فشهد فتوحها وولي فلسطين لعمر ثم أرسله عمر في جيش إلى مصر ففتحها، ولم يزل والياً عليها حتى توفي عمر، ثم أقره عثمان عليها أربع سنين، ثم عزله، فاعتزل عمرو بفلسطين، فكان يأتي المدينة أحياناً، ثم استعمله معاوية على مصر، فبقي والياً عليها حتى توفي ودفن بها، وكانت وفاته ليلة عيد الفطر سنة ثلاث وأربعين على الأصح، وعمره سبعون سنة، وصلى عليه ابنه عبد الله، وكان من أبطال العرب، ودهاتهم، وكان فيصلاً وذا رأي ولما حضرته الوفاة قال: اللهم أمرتني فلم أءتمر، ونهيتني فلم أنزجر، ولست قوياً فانتصر، ولا بريئاً فاعتزر، ولا مستكبراً بل مستغفراً لا إله إلا أنت، فلم يزل يرددها حتى توفي، وفي وفاته حديث مليح، في كتاب الأيمان من صحيح مسلم، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة وسبعون حديثاً اتفقا على ثلاثة، ولمسلم اثنان، وللبخاري بعض حديث. اهـ ملخصاً (رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال فصل) بالمهملة أي: فاصل (ما) موصولة والأصل الفاصل الذي (بين صيامنا وصيام أهل الكتاب) أي: اليهود والنصارى (أكلة السحر) بفتح الهمزة، وهي المرة وإضافة فصل إلى ما من إضافة الموصوف لصفته (رواه مسلم) وفيه التصريح بأن السحور من خصائصنا، وأن الله تعالى تفضل به، وميزه من الرخص على هذه الأمة، ما لم يتفضل به على غيرها من الأمم. باب فضل تعجيل الفطر أي عند تيقن الغروب، ويجوز عند ظنه باجتهاد صحيح، والأفضل تأخيره حينئذ لتيقنه (وما يفطر عليه وما يقوله بعد إفطاره) أي: بيان كل منهما، فهو معطوف على فضل لا على مدخوله. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: فضل السحور وتأكيد استحبابه ... (الحديث: 46) .

1231- عن سهل بن سعد - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "لاَ يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الفِطْرَ" متفقٌ عَلَيْهِ (¬1) . 1232- وعن أَبي عطِيَّة، قَالَ: دَخَلْتُ أنَا وَمَسْرُوقٌ عَلَى عائشة رضي الله عنها، فَقَالَ لَهَا مَسْرُوق: رَجُلاَنِ مِنْ أصْحَابِ محَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، كِلاَهُمَا لا يَألُو عَنِ الخَيْرِ: ـــــــــــــــــــــــــــــ 1231- (عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يزال الناس بخير) جاء في رواية "لا يزال الدين ظاهراً وظهور الدين مستلزم لدوام الخير" (ما عجلوا الفطر) زاد أحمد في حديثه عن أبي ذر: وأخروا السحور، وما مصدرية ظرفية أي مدة فعلهم ذلك امتثالاً للسنة، واقفين عند حدها غير مستنبطين بعقولهم ما يغيروا به قواعدها، زاد أبو هريرة في حديثه "لأن اليهود والنصارى يؤخرون" أخرجه أبو داود وابن خزيمة وغيرهما، وتأخير أهل الكتاب له أمد وهو إلى ظهور النجم، وجاء من حديث سهل أيضاً بلفظ "لا تزال أمتي على سنتي ما لم تنتظر بفطرها النجوم" رواه ابن حبان والحاكم، وفيه بيان الغاية في ذلك. قال المهلب: والحكمة فيه أنه لا يزاد في النهار من الليل؛ ولأنه أرفق بالصائم وأقوى له على العبادة، واتفق العلماء على أن محل ذلك إذا تحقق غروب الشمس بالرؤية، أو بأخبار عدلين، وكذا عدل واحد في الأرجح. قال الشافعي في الأم: تعجيل الفطر مستحب، ولا يكره تأخيره إلا لمن تعمده ورأى الفضل فيه. قال الحافظ في الفتح: ومن البدع المنكرة إيقاع الأذان الثاني قبل الفجر بنحو ثلث ساعة، في رمضان يفعلونه للاحتياط في العبادة، ولا يعلم بذلك إلا أحاد الناس، وجرهم في ذلك إلى أن صاروا لا يؤذنون المغرب، إلا بعد الغروب بدرجة لتمكين الوقت فيما زعموا فأخروا الفطر وعجلوا السحور، فخالفوا السنة فلذا قل فيهم الخير وكثر الشر، والله المستعان (متفق عليه) . 1232- (وعن أبي عطية) الوادعي الهمداني يروي عن ابن مسعود وأبي موسى وعنه أبو إسحق والأعمش ثقة من كبار التابعين. قال الحافظ في التقريب: اسمه مالك بن عامر أو ابن أبي عامر أو ابن عوفٍ أو ابن حمزة أو ابن أبي حمزة مات في حدود السبعين، روى له البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي (قال: دخلت أنا ومسروق) ابن الأجدع بن مالك الهمداني الوادعي أبو عائشة الكوفي، ثقة فقيه عابد مخضرم، روى عنه أصحاب السنن (على عائشة رضي الله عنها فقال لها مسروق: رجلان) مبتدأ، سوغ الابتداء به وصفه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الصيام، باب: تعجيل الإِفطار (4/173) . وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: فضل السحور وتأكيد استحبابه ... (الحديث: 48) .

أحَدُهُمَا يُعَجِّلُ المَغْرِبَ وَالإفْطَارَ، وَالآخَرُ يُؤَخِّرُ المَغْرِبَ وَالإفْطَارَ؟ فَقَالَتْ: مَنْ يُعَجِّلُ المَغْرِبَ وَالإفْطَارَ؟ قَالَ: عَبْدُ اللهِ - يعني: ابن مسعود - فَقَالَتْ: هكَذَا كَانَ رسولُ اللهِ يَصْنَعُ. رواه مسلم. قَوْله: "لا يَألُو" أيْ: لاَ يُقَصِّرُ في الخَيْرِ (¬1) . 1233- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَالَ اللهُ ـــــــــــــــــــــــــــــ بقوله (من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كلاهما) مبتدأ ثان، ولا يجوز على مذهب البصريين كونه تأكيد رجلان لنكارته؛ وهم يمنعون فيها (لا يألو) فرد الخبر، باعتبار لفظ كلاهما، كما هو الأصح ومنه قوله تعالى: (كلتا الجنتينءَاتت أكلها) (¬2) ويجوز التثنية باعتبار المعنى، وقد اجتمعا في قول الشاعر: كلاهما حين جد السير بينهما ... قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي (عن الخير أحدهما يعجل المغرب) أي: صلاته (والإِفطار) أي: عند تحقق الغروب (والآخر يؤخر المغرب والإِفطار) أتى بالظاهر محل الضمير؛ زيادة في الاستفسار (فقالت: من يعجل المغرب والإِفطار) سألت عنه دون الثاني؛ لأنه أتى بما يثنى عليه، فأحبت معرفته؛ لتثني عليه بذلك، ويحصل مقصود بيان فعل الثاني، من الثناء على ضده (قال عبد الله) وقوله (يعني ابن مسعود) يحتمل أن يكون من أبي عطية، أو ممن دونه، وذلك لأن المسمين بعبد الله من الصحابة عدد كثير جداً، لكنه إذا أطلق في حديث الكوفيين فالمراد منه ابن مسعود، وإذا أطلق في حديث الحجازيين فالمراد: منه ابن عمر (فقالت هكذا) أي: كفعل ابن مسعود (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع) في التعبير به دون يفعل، إيماء إلى الاهتمام بذلك، لأن الصنع من عمل الإنسان ما صدر منه بعد تدرب فيه وترو، وتحري إجادته (رواه مسلم) وفيه وزاد أبو كريب: والآخر أبو موسى (قوله: لا يألو أي لا يقصر في الخير) في مطاء المطول الألو التقصير، وقد استعمل معدى لاثنين في قولهم: لا آلوك جهداً، أي: لا أمنعك جهداً. اهـ. ومقتضاه: أن أصله التقصير كما استعمل في الحديث، وإن نصب المفعولين به لتضمنه معنى منع. 1233 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال الله عز وجل: أحب ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: فضل السحور وتاكيد استحبابه ... (الحديث: 49) . (¬2) سورة الكهف، الآية: 33.

عز وجل: أحَبُّ عِبَادِي إلَيَّ أعْجَلُهُمْ فِطْراً" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (¬1) . 1234- وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا أقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هاهُنَا، وَأدْبَرَ النهارُ مِنْ هَاهُنَا، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَدْ أفْطَر الصَّائِمُ" متفقٌ عَلَيْهِ (¬2) . 1235- وعن أَبي إبراهيم عبدِ الله بنِ أَبي أوفى رضي الله عنهما، قَالَ: سِرْنَا ـــــــــــــــــــــــــــــ عبادي إلي) أي: أرضاهم عندي وأدناهم من جنابه، إدناء المحب من حبيبه، ولا يخفى ما في إضافة العباد من الإيماء إلى التشريف (أعجلهم فطراً) وذلك لما فيه من متابعة السنة (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) وأخرجه الحافظ العلائي في الأحاديث القدسية بأسانيد متعددة، تنتهي إلى أبي عاصم النبيل، وبإسناد ينتهي إلى الضحاك بن مخلد بسندهما إلى أبي هريرة، ثم أورد الحديث وقال: لفظهم واحد رواه الترمذي من طريق أبي عاصم النبيل قال: فوقع لنا بدلاً عالياً. 1234- (وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أقبل الليل ها هنا) أي: من جهة المشرق (وأدبر النهار من ها هنا) أي من جهة المغرب والجمع بينهما للتأكيد وإلا فأحدهما يستلزم الثاني، وكذا يستلزم قوله (وغربت الشمس) بأن غاب جميع قرصها، ولا يضر بعد تحققه بقاء الشعاع، قال المصنف: وإنما جمعها؛ لأنه قد يكون في واد ونحوه، بحيث لا يشاهد غروب الشمس فيعتمد إقبال الظلام وإدبار الضياء (فقد أفطر الصائم) أي: مفطراً شرعاً، وإن لم يتناول شيئاً؛ لخروج وقت الصوم وهو النهار بذلك، فالإِمساك بعد الغروب تعبداً، كصوم يوم العيد قاله بعض العلماء. وقيل: معناه دخل وقت إفطاره. قال ابن ملك: وهذا أولى لما جاء في الحديث "من أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر" (متفق عليه) رواه أبو داود والترمذي. 1235- (وعن أبي إبراهيم) كنية (عبد الله بن أبي أوفى) بالفاء، وأسمه علقمة بن خالد بن الحارث الأسلمي الصحابي، تقدمت ترجمته، في باب الصبر، ومنها أنه هو وأبوه صحابيان ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب: الصوم، باب: ما جاء في تعجيل الإِفطار، (الحديث: 700) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: متى يحل فطر الصائم (4/171) . وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: وقت انقضاء الصوم وخروج النهار، (الحديث: 51) .

مَعَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَهُوَ صَائِمٌ، فَلَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، قَالَ لِبَعْضِ القَوْمِ: "يَا فُلاَنُ انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا"، فَقَالَ: يَا رسول الله، لَوْ أمْسَيْتَ؟ قَالَ: "انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا" قَالَ: إنَّ عَلَيْكَ نَهَاراً، قَالَ: "انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا" قَالَ: فَنَزَلَ فَجَدَحَ لَهُمْ فَشَرِبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ قَالَ: "إِذَا رَأَيْتُمُ اللَّيْلَ قَدْ أقْبَلَ مِنْ هاهُنَا، فَقَدْ أفْطَرَ الصَّائِمُ" وَأشَارَ بِيَدِهِ قِبَلَ المَشْرِقِ. متفقٌ عَلَيْهِ. قَوْله: "اجْدَحْ" بِجيم ثُمَّ دال ثُمَّ حاءٍ مهملتين، أيْ: اخْلِطِ ـــــــــــــــــــــــــــــ (رضي الله عنهما قال: سرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو صائم) لعله كان في فتح مكة، فإنه - صلى الله عليه وسلم - خرج لذلك في رمضان من سنة ثمان. (فلما غربت الشمس) أي: تكامل مغيب قرصها (قال لبعض القوم: يا فلان) قيل: هو بلال، أخرجه أبو داود عن مسدد شيخ البخاري في الحديث وفيه، فقال يا بلال. وأخرجه الإِسماعيلي وأبو نعيم، من طريق عبد الواحد، وهو ابن زياد شيخ مسدد، بلفظ يا فلان. فاتفقت روايتهم على قوله - صلى الله عليه وسلم -: يا فلان، قال الحافظ في الفتح: ولعلها تصحيف، وجاء عند ابن خزيمة عن عمر رضي الله عنه قال: قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا أقبل الليل. الخ، فيحتمل أن المخاطب بذلك عمر، فإن الحديث واحد، فلما كان المقول له إذا أقبل الليل عمر، احتمل أن يكون هو المقول له أولاً أجدح، لكن يؤيد كونه بلالاً، قوله في رواية شعبة عند أحمد، فدعا صاحب شرابه، فإن بلالاً هو المعروف بخدمته - صلى الله عليه وسلم -. اهـ ملخصاً (انزل فاجدح لنا) أي حرك السويق ونحوه، بالماء بعود يقال له المجدح مجنح الرأس (فقال: يا رسول الله لو أمسيت) إن كانت للتمني فلا حذف، وإن كانت للشرط فالجواب محذوف، مدلول عليه بقرينة الحال، أي: لكان أحسن (قال: انزل فاجدح لنا، قال: إن عليكم نهاراً) يحتمل أن يكون المذكور كان يرى شدة الضوء، من شدة الصحو فظن أن الشمس لم تغرب، وأنها قد غطاها جبل أو نحوه، أو أن هناك غيماً، فلا يتحقق غروبها، وأما قول الراوي: قد غربت الشمس فإخبار عما في نفس الأمر، وإلا فلو تحقق الصحابي، حكم المسئلة لما توقف (قال: انزل فاجدح لنا قال) أي: الراوي للحديث، وهو ابن أبي أوفى (فنزل فجدح لهم فشرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: وشربنا وسكت عنه لوضوحه (ثم قال: إذا رأيتم) أي: إذا علمتم (الليل قد أقبل من ها هنا) فالليل مفعول أول، وجملة قد أقبل سد مسد المفعول الثاني، ولك أن تجعل رأى بصرية فتكون الجملة حالية من المفعول (فقد أفطر الصائم) قال ابن أبي أوفى (وأشار) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - (بيده قبل المشرق) مبيناً للمكان المشار إليه بقوله ها هنا (متفق عليه قوله: اجدح، بجيم ثم دال ثم حاء مهملتين) بوزن اسأل (أي اخلط السويق) قال في المصباح: هو ما يعمل من الحنطة،

السَّويقَ بِالمَاءِ (¬1) . 1236- وعن سلمان بن عامر الضَّبِّيِّ الصحابي - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إِذَا أفْطَرَ أحَدُكُمْ، فَلْيُفْطِرْ عَلَى تَمْرٍ، فَإنْ لَمْ يَجِدْ، فَلْيُفْطِرْ عَلَى مَاءٍ؛ فإنَّهُ طَهُورٌ" ـــــــــــــــــــــــــــــ أو الشعير. اهـ زاد في الفتح بعد قوله السويق أو نحوه (بالماء) بعود يقال له المجدح بكسر الميم، مجنح الرأس تساط به الأشربة، وقد تكون له ثلاث شعب، وزعم الداودي أن معنى اجدح احلب، وغلطوه في ذلك. 1236- (وعن سلمان) بسكون اللام (ابن عامر) بالمهملة ابن أوس بن حجر بن عثمان بن عمرو بن الحارث (الضبي) بالمعجمة وتشديد الموحدة، نسبة إلى ضبة بن داود بن طائحة بن إلياس بن مضر، قاله ابن الأثير في الأنساب (الصحابي) سكن البصرة (رضي الله عنه) خرج عنه البخاري، وأصحاب السنن الأربعة، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في مختصر التلقيح وغيره ثلاثة عشر حديثاً، أخرج له البخاري حديثاً واحداً، ولم يخرج له مسلم شيئاً، قال في أسد الغابة: قال مسلم بن الحجاج: لم يكن في ضبة صحابي غيره (عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أفطر أحدكم) أي: أراد الفطر (فليفطر على تمر) زاد الترمذي في رواية: فإنه بركة، أي: إن لم يجد رطباً وإلا فهو المقدم عليه، لما يأتي في الخبر بعده، وأخذ من الحديث حصول السنة، ولو بواحدة، لكن الحديث بعده يوميء إلى أنها بثلاث، والحكمة فيه أنه إن وجد في المعدة فضلة لها وإلا كان غذاء، وأنه يجمع ما تفرق من ضوء البصر بسبب الصوم. وقول الأطباء: إنه مضعف للبصر، محمول على الإِكثار منه، ورب شيء كثيره مضر، وقليله نافع كالسقمونيا (فإن لم يجد) التمر بأن لم يسهل تحصيله (فليفطر على ماء) دخل فيه ماء زمزم، فلا يعدل إليه إلا عند فقد التمر، خلافاً لمن قال بتقديمه على التمر، وإن جمع بينهما فحسن، فإنه مردود. أما الأول: فتصادمه السنة. وأما الثاني: فللاستدراك عليها. وقد صام - صلى الله عليه وسلم - بمكة أياماً عام الفتح، وما نقل عنه أنه خالف عادته من تقديم التمر، ولو فعل لنقل (فإنه طهور) أي: مزيل للخبائث المعنوية ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: متى يحل فطر الصائم (4/172) . وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار، (الحديث: 52) .

رواه أَبُو داود والترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" (¬1) . 1237- وعن أنس - رضي الله عنه -، قَالَ: كَانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُفْطِرُ قَبْلَ أنْ يُصَلِّي عَلَى رُطَبَاتٍ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبَاتٌ فَتُمَيْرَاتٌ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ تُمَيْرَاتٌ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ. رواه أَبُو داود والترمذي، وقال: "حديث حسن" (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ والحسية، وما هو كذلك ينبغي إيثاره على غيره (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح) ورواه أحمد وابن ماجه والدارمي، ونحوه خبر الترمذي وغيره، وصححوه: إذا كان أحدكم صائماً فليفطر على التمر، فإن لم يجد التمر فعلى الماء، فإنه طهور، وهذا الترتيب لكمال السنة لا لأصلها، كما هو واضح، فمن أفطر على ماء مع وجود التمر حصل له أصل سنة الإفطار على الماء الطهور. 1237- (وعن أنس) رضي الله عنه (قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفطر قبل أن يصلي) أي: صلاة المغرب (على رطبات فإن لم تكن) أي: توجد (رطبات) بأن عزت، أي. لم يسهل تحصيلها (فتميرات) بالتصغير، أي: فثلاث؛ لأنه أقل الجمع (فإن لم تكن تميرات) أي: توجد كما ذكر (حسا) أي: شرب (حسوات) بفتح أوليه المهملين، جمع حسوة بالفتح، وهي المرة من الشرب، وأما الحسوة بالضم فهو لغو الفم مما يحسى، ويجمع على حسوات وحسى كمدية ومدى ومديات، قاله في المصباح. (من ماء) متعلق بحسوات، أو مستقر صفة لحسوات (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن) وصححه الدارقطني والحاكم، وقال: على شرط مسلم. قال في فتح الإله: ومنه أخذ أئمتنا أنه يسر أن يكون الفطر على ثلاث رطبات، فإن عز فثلاث تمرات، فإن عز فثلاث غرفات من ماء، سواء كان ذلك في الصيف، أو الشتاء. وقيل: يقدم التمر في الشتاء، والماء في الصيف لرواية به، ولما في ذلك من المناسبة، وما ذكر من التثليث والترتيب هو لكمال السنة، وإلا فأصلها يحصل بواحدة، وبتقديم المؤخر نظير ما مر. " تنبيه " عقد المصنف الترجمة لفضل التعجيل، وما يفطر عليه، وما يقوله عند الفطر، ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: الصوم، باب: ما يفطر عليه، (الحديث: 2355) . وأخرجه الترمذي في كتاب: الصوم، باب: ما جاء في الصدقة على ذي القرابة، (الحديث: 658) . (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب: الصوم، باب: ما يُفطر عليه، (الحديث: 2356) . وأخرجه الترمذي في كتاب الصوم، باب: ما جاء ما يستحب عليه الإفطار، (الحديث: 696) .

223- باب في أمر الصائم بحفظ لسانه وجوارحه عن المخالفات والمشاتمة ونحوها

223- باب في أمر الصائم بحفظ لسانه وجوارحه عن المخالفات والمشاتمة ونحوها 1238- عن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ، فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإنْ سَابَّهُ أحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ" متفقٌ عَلَيْهِ (¬1) . 1239- وعنه، قَالَ: قَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ" ـــــــــــــــــــــــــــــ وترك ما يتعلق بالثالث نسياناً، فحاء عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أفطر قال: ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله تعالى" رواه أبو داود وعن معاذ بن زهرة قال: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أفطر قال: اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت رواه أبو داود مرسلاً. باب في أمر الصائم بحفظ لسانه وجوارحه من المخالفات وجوباً في المحرم، وندباً في المكروه، فلا يقول الخنا، ولا يفعل المحرمات (والمشاتمة ونحوها) كالغيبة والنميمة وقول الزور، وهذه الأمور وإن كان يؤمر بها كل من المفطر والصائم، إلا أنها في الصائم أولى. 1238- (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا كان) أي: وجد (يوم) فاعلها (صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب) لمنافاتهما للمطلوب منه، من قمع النفس بالسكون والسكوت (فإن سابه أحد أو) للتنويع (قاتله) أي: ضاربه، أو طاعنه (فليقل: إني صائم) ويكف عن خصمه ويكن عبد الله المظلوم، ولا يكن الظالم (متفق عليه) وتقدم بأبسطيته أول الصوم. 1239- (وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من لم يدع) أي: يترك (قول الزور) بضم الزاي أي: الكذب (والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) قال ابن بطال: ليس ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: هل يقول إني صائم إذا شتم (4/88، 89) . وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: حفظ اللسان للصائم، (الحديث: 160) .

224- باب في مسائل من الصوم

رواه البخاري (¬1) . 224- باب في مسائل من الصوم 1240- عن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ، ـــــــــــــــــــــــــــــ معناه أنه يؤمر بالأكل والشرب، وإنما معناه التحذير من قول الزور وما معه، وهو كقوله - صلى الله عليه وسلم - "من باع الخمر فليشقص الخنازير" أي: يذبحها، ولم يأمره بذبحها، ولكنه على التحذير والتعظيم لإثم بائع الخمر، وقوله حاجة أي: إرادة (¬2) في صيامه، إذ الله تعالى لا حاجة له في شيء، وقيل: هو كناية عن عدم القبول، كما يقول من غضب على من أهدى له شيئاً، لا حاجة لي في هديتك، أي: هي مردودة عليك، وقال ابن العربي: إن مقتضى هذا الحديث، أن من فعل ما ذكر لا يثاب على صومه. قلت: ونص عليه الشافعي والأصحاب، وأقرهم المصنف في مجموعه، وقال الأذرعي: يبطل صومه، وهو قياس مذهب أحمد في إبطاله الصلاة في المغصوب، وخبر: خمس يفطرن الصائم: الغيبة والنميمة والكذب والقبلة واليمين الفاجرة، باطل كما في المجموع وبفرض صحته، فالمراد: بطلان أجر الصوم، لا الصوم نفسه. قال الدماميني: ولو أبطل الصوم لأوجب الشارع قضاءه، وإنما المراد به التخويف من الإحباط بطريق المواربة، هذا وقد ضمن هذا الحديث أبو بكر غالب بن عبد الرحمن بن عطية المحاربي فقال: إذا لم يكن في السمع مني تصاون ... وفي بصري غض وفي منطقي صمت فحظي إذن من صومي الجوع والظما ... وإن قلت إني صمت يوماً فما صمت (رواه البخاري) ورواه أحمد وأبو داود والترمذي، كذا في الجامع الصغير، وزاد في الكبير رمز ابن ماجه وابن حبان، وفي متن الحديث بعد قوله: به، قوله: والجهل. باب في مسائل من الصوم أي: في ذكر أحاديثها. 1240- (عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا نسي أحدكم) عبر بإذا إيماء ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: من لم يدع قول الزور (4/99، 100) . (¬2) قوله: أي: إرادة هذا مشكل سواء أريد بالإِرادة معناها أم أريد بها الرضا فإن ترك الطعام والشراب حاصل فهو مراد لله تعالى وهو أيضاً مرضي عنه في ذاته فلعل المراد بالإرادة الرضا عن هذا الترك من حيث ما يصاحبه من الزور ونحوه. ع.

فَأكَلَ، أَوْ شَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإنَّمَا أطْعَمَهُ اللهُ وَسَقَاهُ" متفقٌ عَلَيْهِ (¬1) . 1241- وعن لَقِيط بن صَبِرَةَ ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى غلبة النسيان على الإنسان؛ لكونه طبعاً، وفي نسخة: إذا نسي الصائم، وعلى الأول فالمفعول محذوف، أي: الصوم مدلول عليه بالسياق إلى الصوم. قال الحافظ: وجاء عند ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم والدارقطني، من حديث أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: من أفطر (¬2) في شهر رمضان ناسياً، فلا قضاء عليه ولا كفارة، قال: ففيه تعيين رمضان، وتصريح بأن لا قضاء، ثم نقل الكلام في حال الحديث بما فيه طول وحاصله قبوله (فأكل أو شرب فليتم صومه) وعند الترمذي: فلا يفطر، والاقتصار على الأكل والشرب؛ لأنهما الأغلب، وإلا فكل المفطرات حكمها كذلك، ولا فرق بين قليل ما ذكر وكثيره حينئذ، وفارق بطلان الصلاة بالأكل ناسياً كثيراً بأن لها هيئة تذكر بها، ولا كذلك الصوم (فإنما أطعمه الله وسقاه) وفي رواية الترمذي " فإنما هو رزق رزقه الله ". وفي رواية الدارقطني "فإنما هو رزق ساقه الله تعالى إليه" قال القاضي زكريا في شرح الإعلام: ومقتضى الحديث أن لا قضاء عليه، وقد زاد الدارقطني في روايته: ولا قضاء عليه "لطيفة" روى عبد الرزاق عن عمرو بن دينار أن إنساناً جاء أبا هريرة فقال: أصبحت صائماً فدخلت على رجل فنسيت فطعمت، فقال: لا بأس. قال: ثم دخلت على آخر فنسيت فطعمت وشربت فقال: لا بأس أطعمك الله وسقاك. قال: ثم دخلت على آخر فنسيت فطعمت قال أبو هريرة: أنت إنسان لم تتعود الصيام. (متفق عليه) . 1241- (وعن لقيط) بفتح اللام وكسر القاف آخره طاء مهملة (ابن صبرة) بفتح المهملة وكسر الموحدة. قال الحافظ في التقريب: ويقال: إنه جده واسم أبيه عامر، صحابي مشهور، خرج عنه البخاري في التاريخ وأصحاب السنن الأربعة، وقال المصنف في التهذيب: قال ابن عبد البر: يقال فيه لقيط بن صبرة، ولقيط بن عامر، ولقيط بن المشفق، قال الترمذي: وقال أكثر أهل الحديث: لقيط بن صبرة هو لقيط بن عامر، وجعلهما مسلم في كتاب الطبقات اثنين، كما سلك ذلك الدارمي. روى عنه ابن أخيه وكيع بن عدس، وقال ابن بغدسي وعاصم بن لقيط وعمرو بن أوس وغيرهم قالوا: أو كان يكره السائل فإذا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: إذا أكل أو شرب ناسياً (4/135) . وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر، (الحديث: 171) . (¬2) أتى بهذا الحديث للرد على من يحمل الحديث الأول على صوم التطوع.

رضي الله عنه، قَالَ: قُلْتُ: يَا رسول الله، أخْبِرْني عَنِ الوُضُوءِ؟ قَالَ: "أسْبغِ الوُضُوءَ، وَخَلِّلْ بَيْنَ الأَصَابِعِ، وَبَالِغْ في الاسْتِنْشَاقِ، إِلاَّ أنْ تَكُونَ صَائِماً" رواه أَبُو داود والترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" (¬1) . 1242- وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُدْرِكُهُ الفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أهْلِهِ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ. متفقٌ عَلَيْهِ (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ سأله أبو رزين أعجبه مسألته. اهـ وقوله (رضي الله عنه) جملة خبرية لفظاً دعائية معنى (قال: قلت: يا رسول الله أخبرني عن الوضوء) أي: عن سننه ومكملاته، بدليل قوله (قال: أسبغ الوضوء) أي: أتممه بغسل ما زاد على الفرائض، من الغرة والتحجيل (وخلل بين الأصابع) وذلك بالتشبيك بين أصابع اليدين، وفي الرجلين بأي كيفية كانت. قال ابن حجر في شرح المنهاج: والأفضل بخنصر اليسرى من يديه، ومن أسفل مبتدياً بخنصر يمنى رجليه، مختتماً بخنصر يسراهما للأمر بتخليل اليدين والرجلين، في حديث ورد أنه - صلى الله عليه وسلم - "كان يدلك أصابع رجليه بخنصره" ومحل كونه من السنن ما لم يتوقف وصول الماء عليه، وإلا كالأصابع الملتفة، فيجب إذا لم يصل الماء لباطنها إلا به، كتحريك خاتم، كذلك ويحرم فتق ملتحمة (وبالغ في الاستنشاق) أي: بإيصال الماء إلى الخيشوم، وجذبه بالنفس مع إدخال خنصر يسراه، وإزالة ما في أنفه من أذى ولا يستقصي فيه فإنه يصير سعوطاً، لا استنشاقاً أي: كاملاً وإلا فيحصل به أصل السنة، وكذا يبالغ غير الصائم في المضمضة ندباً بأن يبلغ بالماء إلى أقصى الحنك ووجهي الإِنسان واللثات، ويسن إمرار الإصبع اليسرى عليها ومج الماء (إلا أن تكون صائماً) أي: فلا تبالغ، فمن ثم كرهت له خشية السبق إلى حلقه، أو دماغه فيفطر، وإنما حرمت القبلة المحركة للشهوة؛ لأن أصلها غير مندوب مع أن قليلها يدعو لكثيرها والإنزال المتولد منها لا حيلة في دفعه، وهنا يمكنه مج الماء (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث صحيح) وفي نسخة مصححة لزيادة: حسن (¬3) . ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الصوم، باب: الصائم يُصب عليه الماء من العطش ... (الحديث: 2366) . وأخرجه الترمذي في كتاب: الصوم، باب: ما جاء في كراهية مبالغة الاستنشاق للصائم، (الحديث: 788) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: اغتسال الصائم (4/123) . وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، (الحديث: 75) . (¬3) هنا حديث في المتن عن عائشة وليس في نسخة الشرح وهو في صحيح البخاري منسوب الى عائشة وأم سلمة معاً وكذا في عمدة الأحكام والجامع الصغير.

225- باب فضل صوم المحرم وشعبان والأشهر الحرم

1243- وعن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما، قالتا: كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصْبحُ جُنُباً مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ، ثُمَّ يَصُومُ. متفقٌ عَلَيْهِ (¬1) . 225- باب فضل صوم المحرم وشعبان والأشهر الحرم 1244- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفْضَلُ ـــــــــــــــــــــــــــــ 1243- (وعن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما قالتا: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبح جنباً) وقولهما (من جماع غير احتلام) (¬2) وصف تقييدي (¬3) إذ جنابته - صلى الله عليه وسلم - لا تكون بالاحتلام إذ هو من تلاعب الشيطان، ولا وصلة له إليه - صلى الله عليه وسلم -، أو تخصيصي بناء على أن الاحتلام نوعان: عن إمتلاء البدن: وهو لكونه من العوارض البشرية، جائز في حقه، وعن تلاعب الشيطان: وهو الممتنع عليه كسائر الأنبياء صلى الله عليه وعليهم وسلم (ثم يصوم) وقد أومأ إلى صحة صوم من أصبح جنباً قوله تعالى: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم، إذ يلزم من حله آخر أجزاء الليل طلوع الفجر عليه وهو جنب، فيدل حله على صحة صومه، ذكره الأصوليون في دلالة الإِشارة (متفق عليه) . باب بيان فضل صوم المحرم سمي بذلك دون باقي الأشهر الحرم، تشريفاً، وقيل: لغير ذلك، كما بينته في مؤلفي في عاشوراء، المسمى بفتح الكريم القادر، في متعلقات عاشوراء، من الأعمال والمآثر (وشعبان والأشهر الحرم) لعل حكمة فضله بشعبان بين المحرم، وباقي الأشهر الحرام مع فضل صومها على صومه، إكثار صومه - صلى الله عليه وسلم - له كما سيأتي دونها، وإلا فهو بعده في الفضل، خلافاً لبعض منهم ابن رجب في اللطائف كما بينته في المؤلف المذكور مع رده. 1244- (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفضل الصيام) أي: من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: اغتسال الصائم (4/133، 134) . وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، (الحديث: 80) . (¬2) قوله: (من جماع غير احتلام) كذا في نسخ الشرح وكذا أيضاً في صحيحي البخاري ومسلم والذي في بعض نسخ المتن يصبح جنباً من غير حلم. (¬3) المراد أنه صفة كاشفة كما في قوله تعالى (ويقتلون النبيين بغير الحق) .

الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ: شَهْرُ الله المُحَرَّمُ، وَأفْضَلُ الصَّلاَةِ بَعدَ الفَرِيضَةِ: صَلاَةُ اللَّيْلِ" رواه مسلم (¬1) . 1245- وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: لَمْ يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُ مِنْ شَهْرٍ أكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ، فَإنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ النانلة المطلقة (بعد) صيام (شهر رمضان شهر الله المحرم) أي: صيامه وإضافة الشهر لله كإضافة البيت والناقة إليه تعالى في قولنا: الكعبة بيت الله، وقوله تعالى: (ناقة الله) (¬3) للتشريف والتفخيم (وأفضل الصلاة) أي: من النافلة المطلقة (بعد الفريضة صلاة الليل) أي: التهجد وذلك؛ لأنه أبعد عن الرياء وأقرب إلى الإِخلاص، مع حصول الحضور حينئذ؛ لعدم وجود ما يصد عنه؛ ولأنه وقت التجليات الإِلهية والفيوض الربانية (رواه مسلم) وتقدم مشروحاً في باب فضل قيام الليل. 1245- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يصوم) أي: صوم نفل مطلق، (من شهر) أي: فيه، أو بعضه (أكثر من شعبان) وفعله - صلى الله عليه وسلم - لذلك، مع الحديث قبله الدال على أفضلية صوم المحرم على صومه، لما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - من قوله: "إنه شهر ترفع فيه الأعمال فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم" وفي حديث آخر " إنه شهر تكتب فيه الآجال فأحب أن يكتب أجلي وأنا صائم " وفي حديث آخر " إنه شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان فأحب إحياءه "؛ أو لأنه لم يطلع على فضل صوم المحرم إلا في أواخر عمره الشريف، أو لم يتمكن من صومه؛ لكونه أول السنة، فكان يتجهز فيها للحروب ويخرج لجهاد أعداء الدين، وعلى كل فلا دليل في إكثاره صومه، دون المحرم على فضله على المحرم مع ما ذكر (فإنه كان يصوم شعبان كله) قيل: المراد أنه كان يصوم معظمه بدليل قوله: (وفي رواية) لمسلم (كان يصوم شعبان إلا قليلاً) وعند البخاري: ما رأيته أكثر صياماً منه في شعبان، فلذا قال المصنف: (متفق عليه) قال المصنف في شرح مسلم: قوله كان يصوم شعبان إلا قليلاً، هذا ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: فضل صوم المحرم، (الحديث: 202) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: صوم شعبان (4/186) . وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: صيام النبي - صلى الله عليه وسلم - في غير رمضان واستحباب ... (الحديث: 176) . (¬3) سورة هود، الآية: 64.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تفسير للأول، وبيان أن قوله كله أي: غالبه، وقيل: كان يصومه كله في وقت وبعضه في وقت آخر، وهذا أنسب باللفظ. قال المصنف قال العلماء: وإنما لم يستكمل غير رمضان؛ لئلا يظن وجوبه، وقيل: في قولها كله أي: يصوم في أوله وفي وسطه وفي آخره، ولا يخص شيئاً منه بل يعمه بصيامه، ذكر هذه الأجوبة المصنف في شرح مسلم، وقيل: غير ذلك، وقد تعقب الدماميني في المصابيح كلامه. "أما الأول": فإن إطلاق الكل على الأكثر مع الإِتيان به توكيداً، غير معهود. وتعقبه الحافظ زين الدين العراقي، بأن في حديث أم سلمة عند الترمذي: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم شهرين متتابعين إلا رمضان وشعبان، فعطفه على رمضان يبعد أن يراد به أكثره، إذ لا جائز أن يراد من رمضان بعضه، والعطف يقتضي المشاركة فيما عطف عليه، وإن مشى ذلك فإنما يمشي على رأي من يقول إن اللفظ الواحد يحمل على حقيقته ومجازه، وفيه خلاف لأهل الأصول قال في عمدة القاري: ولا يمشي على ذلك الرأي أيضاً؛ لأن من قال ذلك قاله في اللفظ الواحد، وهما لفظان رمضان وشعبان، لكن نقل الترمذي عن ابن المبارك أن العرب يتجوزون بذلك فيقولون: إذا صام أكثر الشهر وقام أكثر ليله صام الشهر كله، وقام ليله أجمع، ولعله قد تعشى واشتغل ببعض أمره. "وأما الثاني": فقال الدماميني: إن قولها: كان يصوم شعبان يقتضي تكرار ذلك الفعل له عادة على ما هو المعروف في مثل هذه العبارة اهـ أي: بناء على إفادتها له، والذي اختاره المصنف وعزاه للأكثرين والمحققين أنها تقتضيه عرفاً. "وأما الثالث": فقال الدماميني: إن أسماء الشهور إذا ذكرت غير مضاف إليها لفظ شهر كان العمل عاماً لجميعها، فلا تقول سرت المحرم، وقد سرت بعضه، فإن أضفت الشهر إليه لم يلزم التعميم، هذا مذهب سيبويه، وتبعه عليه غير واحد، ولم يخالفه إلا الزجاج، وأما قولها في رواية: وما رأيته أكثر صياماً منه في شعبان، فلا ينافي صيامه لجميعه، فإن المراد، أنه - صلى الله عليه وسلم - أكثر الصيام فيه على غيره من الشهور التي لم يفرض فيها الصوم، وذلك صادق بصومه كله؛ لأنه إذا صام جميعه صدق عليه أن الصوم الذي أوقعه فيه أكثر من الصوم الذي أوقعه في غيره، ضرورة أنه لم يصم غيره، مما عدا رمضان كاملاً، وأما قولها: لم يستكمل إلا رمضان فيحمل على الحذف أي: وشعبان بدليل الطريق الآخر، كان يصوم شعبان كله، وحذف المعطوف والعاطف جميعاً ليس بعزيز في كلامهم، ويمكن

1246- وعن مُجِيبَةَ البَاهِليَّةِ، عن أبيها أَوْ عمها: أنه أتى رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ انطَلَقَ فَأَتَاهُ بَعْدَ سَنَةٍ - وَقَدْ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ وَهيئَتُهُ - فَقَالَ: يَا رسولَ الله، أمَا تَعْرِفُنِي؟ قَالَ: "وَمَنْ أنْتَ"؟ قَالَ: أَنَا الباهِليُّ الَّذِي جِئْتُك عام الأَوَّلِ. قَالَ: "فَمَا غَيَّرَكَ، وَقَدْ كُنْتَ حَسَنَ الهَيْئَةِ! " قَالَ: مَا أكَلْتُ طَعَاماً مُنْذُ فَارقتُكَ إِلاَّ بِلَيْلٍ. فَقَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "عَذَّبْتَ نَفْسَكَ! " ثُمَّ قَالَ: "صُمْ شَهْرَ الصَّبْرِ، وَيَوماً مِنْ كُلِّ شَهْرٍ" ـــــــــــــــــــــــــــــ الجمع بطريق أخرى، وهي أن قولها: كان يصوم شعبان كله، محمول على محذوف أداة الإِستثناء والمستثنى أي: إلا قليلاً منه؛ بدليل رواية عبد الرزاق بلفظ "ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر منه صياماً في شعبان فإنه كان يصومه كله إلا قليلاً. اهـ ملخصاً من القسطلاني على البخاري. 1246- (وعن مجيبة) بضم أوله وكسر الجيم بعدهما تحتية، ثم موحدة، امرأة من الصحابة، كذا في تقريب الحافظ (الباهلية) قال ابن الأثير: (¬1) (عن أبيها) وفي أطراف المزي، اسم أبي مجيبة عبد الله بن الحارث الباهلي صحابي (أو عمها) قال أبو موسى: ذكر فيمن لم يسم، وقال أبو عمر: لا أعرفه، وأخرجه أبو عمر وأبو موسى مختصراً، فيمن روى عن أبيه (أنه أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: أتاه وافداً عليه (ثم انطلق) إلى أهله (فأتاه بعد سنة) الفاء فيه مستعارة لموضع ثم وجملة (وقد تغيرت حاله) أي: صفته، والحال يذكر ويؤنث في محل الحال من الفاعل (وهيئته) هي الحال الظاهرة فعطفها على الحال من عطف الخاص على العام (فقال) عطف على مقدر أي: فلم يعرفه فقال: (يا رسول الله أما) بتخفيف الميم، أداة استفتاح (تعرفني؟ قال: ومن أنت؟ قال: أنا الباهلي الذي جئتك عام الأول) من إضافة الموصوف لصفته، وهو مؤول عند البصريين على تقدير عام الوقت الأول ليمنع ذلك اتحاد المتضايفين، وأجازه الكوفيون من غير تأويل (قال: فما غيرك وقد كنت حسن الهيئة) جملة حالية من فاعل غير (قال: ما أكلت طعاماً منذ) ظرف لدخولها على الجملة الفعلية وهي (فارقتك إلا بليل) أي: لم أزل صائماً، ومراده ما عدا أيام العيد والتشريق، ويحتمل أنه أراد ما يعمها، وكان لم يعلم تحريم صومها، ويؤيد الأول أنه لم ينهه عن صومها، ولم يبين له تحريمها (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عذبت نفسك) أي: بمنعها من مألوفاتها وقطعها عن معتاداتها، بما يضر بالنفس التي مطية العبد للوصول إلى ساحة الفضل (ثم قال: صم) المراد من الأمر فيه مطلق الطلب الشامل للوجوب والندب (شهر الصبر) ¬

_ (¬1) كذا بالأصول. ع.

226- باب في فضل الصوم وغيره في العشر الأول من ذي الحجة

قَالَ: زِدْنِي، فَإنَّ بِي قُوَّةً، قَالَ: "صُمْ يَوْمَيْن" قَالَ: زِدْنِي، قَالَ: "صُمْ ثَلاثَةَ أيَّامٍ" قَالَ: زِدْنِي، قَالَ: "صُمْ مِنَ الحُرُم وَاتركْ، صُمْ مِنَ الحُرُمِ وَاتركْ، صُمْ مِنَ الحُرُمِ وَاتركْ" وقال بأصابِعه الثَّلاثِ فَضَمَّها، ثُمَّ أرْسَلَهَا. رواه أَبُو داود. وَ "شَهْر الصَّبر": رَمَضَان (¬1) . 226- باب في فضل الصوم وغيره في العشر الأول من ذي الحجة 1247- وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ ¬

_ أي: الصوم وهو رمضان (ويوماً من كل شهر) نفلاً (قال: زدني فإن لي قدرة) على أكثر منه (قال: صم يومين) أي: من كل شهر (قال: زدني قال: صم ثلاثة أيام) وذلك كصيام الدهر كله؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها (قال: زدني قال: صم من الحرم) بضمتين، جمع حرام أي: من الأشهر الحرم، فحذف الموصوف؛ لاختصاص الصفة به، وهي رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم (واترك) أتى به؛ لعلمه أنه يشق عليه صومها كلها تباعاً (صم من الحرم واترك صم من الحرم واترك) كرره تأكيداً لطلبه وتنبيهاً على شرفه؛ ولأنه يشق عليه صوم كلها (وقال:) أي: أشار (بأصابعه الثلاث فضمها ثم أرسلها) أي: صم ثلاثاً منها ثم اترك، وهكذا وذلك لأن في ضم الثالث من القوة ما يجبر الضعف الحاصل من صوم اليومين؛ لأن المرء إذا اعتاد عمل بر ألفته النفس، وارتفعت مشقته، ولذا أشار إلى الإِفطار بعدها؛ لئلا يصير الصوم معتاداً له فلا يجد كلفة بخلاف ما إذا أفطر ثم عاد له فيكون فيه عليه مشقة، فينمو ثوابه (رواه أبو داود) قال المزي في الأطراف: ورواه النسائي (وشهر الصبر) قال الخطابي: (رمضان) قال: وأصل الصبر الحبس وسمي الصوم صبراً لما فيه من حبس النفس عن الطعام، ومنعها عن وطء النساء في نهار الشهر. باب فضل الصوم وغيره من عمل البر (في العشر الأول من ذي الحجة) وآخره يوم النحر، ومعلوم أن صومه لا ينعقد، فالمراد صوم ما عداه من باقي العشر، وعرفة إنما يسن صومه لغير حاج وقف نهاراً، لما سيأتي في الباب بعده فيستثنى أيضاً. 1247- (عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من) مزيدة؛

227- باب فضل صوم يوم عرفة وعاشوراء وتاسوعاء

أيَّامٍ، العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هذِهِ الأَيَّام" يعني أيام العشر. قالوا: يَا رسولَ اللهِ، وَلاَ الجِهَادُ في سَبيلِ اللهِ؟ قَالَ: "وَلاَ الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيءٍ" رواه البخاري (¬1) . 227- باب فضل صوم يوم عرفة وعاشوراء وتاسوعاء ـــــــــــــــــــــــــــــ لاستغراق النفي (أيام العمل الصالح) مبتدأ (فيها) ظرف مستقر في محل الوصف أو الحال مما قبله؛ لأنه محلى بأل الجنسية، أو لغو متعلق بالخبر وهو (أحب إلى الله من العمل الصالح في هذه الأيام) ولا يضر تعدد المتعلق لاختلاف اللفظ (يعني) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأيام المشار إليها (أيام العشر) أي: من ذي الحجة (قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله) أي: المفعول في غيرها أفضل من غيره من عمل البر فيها (قال: ولا الجهاد في سبيل الله) أي: فلا يفوق عمل البر فيها (إلا رجل) أي: إلا عمل رجل فالاستثناء متصل، والرفع على البدل، وقيل: منقطع أي لكن رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء أفضل من غيره، وقال الدماميني: إنما يستقيم هذا على اللغة التميمية، وإلا فالمنقطع عند أهل الحجاز واجب النصب (خرج يخاطر بنفسه وماله) أي: خرج يقصد قهر عدوه، ولو أدى ذلك إلى قتل نفسه وذهاب ماله (فلم يرجع من ذلك بشيء) أي: بأن رزقه الله الشهادة، ولأبي عوانة: إلا من لا يرجع بنفسه، ولا ماله، وله من طريق آخر، إلا أن لا يرجع، وله أيضاً: إلا من عقر جواده وأهريق دمه. زاد أبو عوانة في رواية عن ابن عمر "فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير، فإن صيام يوم منها يعدل صيام سنة، والعمل فيها بسبعمائة ضعف " وللترمذي عن أبي هريرة "يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر". "قلت" وبهذه الروايات يتخصص حديث: أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم (رواه البخاري) ورواه أبو داود والترمذي، وقال: حسن صحيح غريب. وابن ماجه. باب فضل صوم يوم عرفة وعاشوراء وتاسوعاء ممدودان على وزن فاعولاء، والصحيح أن عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم وتاسوعاء اليوم الذي قبله، كما بينته في كتابي في فضل عاشوراء وبيان أعماله. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: العيدين، باب: فضل العمل في أيام التشريق (2/381 و383) .

1248- وعن أَبي قتادة - رضي الله عنه -، قَالَ: سُئِلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صَومِ يَوْمِ عَرَفَةَ، قَالَ: "يُكَفِّرُ السَّنَةَ المَاضِيَةَ وَالبَاقِيَةَ" رواه مسلم (¬1) . 1249- وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - صَامَ يَومَ عاشوراءَ وَأمَرَ بِصِيامِهِ. متفقٌ عَلَيْهِ (¬2) . 1250- وعن أَبي قتادة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنْ صِيامِ يَوْمِ عَاشُوراءَ، فَقَالَ: "يُكَفِّرُ السَّنَةَ المَاضِيَةَ" ـــــــــــــــــــــــــــــ 1248- (عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم عرفة) أي: ما له من الفضل بدليل قوله: (قال: يكفر السنة الماضية) أي: التي آخرها سلخ ذي الحجة (والباقية) أي: الآتية وأولها المحرم حملاً على المعنى المتعارف في السنة، والمكفر صغائر الذنوب المتعلقة بحق الله، والمراد بغفران ما سيأتي. أما العصمة عن ملابسته، أو وقوعه مغفوراً إن وقع ثم صومه إنما يندب لغير الحاج الواقف بعرفة نهاراً، أما هو فالأفضل له الفطر، اتباعاً لفعله - صلى الله عليه وسلم -، وهل صومه له مكروه أو خلاف الأولى قولان مبنيان على أن حديث النهي عن صومه للحاج هل هو ثابت أو لا؟ (رواه مسلم) . 1249- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صام عاشوراء) وفي نسخة بزيادة يوم (وأمر بصيامه) وهل كان الأمر به قبل فرضية رمضان على سبيل الوجوب أو الندب؟ الصحيح عند الجمهور أنه على سبيل الندب المؤكد أكمل التأكد، وأنه بعدها بقي أصل التأكد؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - ما زال يصومه، وعزم أن يضم إليه التاسع في العام المقبل وقد بينته ثمة (متفق عليه) . 1250- (وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن صوم يوم عاشوراء) أي: عما فيه من الفضل (فقال: يكفر السنة الماضية) ينبغي أن يكون هو آخرها، لا آخر ذي الحجة؛ لئلا يلزم الفصل بين المكفر والمكفر. والله أعلم. وإنما فضل يوم عرفة فكفر سنتين؛ لأنه يوم محمدي وعاشوراء يوم موسوي؛ ولأن يوم عرفة سيد الأيام فاقتضى فضل ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر ... (الحديث: 196) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الصيام، باب: صيام عاشوراء (4/214 و215) . وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء، (الحديث: 128) .

229- باب في استحباب صوم الإثنين والخميس

229- باب في استحباب صوم الإثنين والخميس 1253- عن أَبي قتادة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنْ صَومِ يَوْمِ الإثْنَيْنِ، فَقَالَ: "ذَلِكَ يَومٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَومٌ بُعِثْتُ، أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ" رواه مسلم (¬1) . 1254- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "تُعْرَضُ الأَعْمَالُ يَومَ الإثْنَيْنِ وَالخَمِيسِ، فَأُحِبُّ أنْ ـــــــــــــــــــــــــــــ في الجامع الصغير، وفيه من صام رمضان وشوالاً والأربعاء والخميس، دخل الجنة. رواه أحمد عن رجل، وفي الجامع الكبير رواه البغوي والبيهقي في الشعب عن عكرمة بن خالد عن عريف من عرفاء قريش عن أبيه. باب استحباب صوم الاثنين والخميس سميا بذلك بناث على أن أول الأسبوع الأحد. 1253- (عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن صوم يوم الاثنين) أي: عن حكمة إيثاره بالصوم عن باقي الأيام (فقال ذلك) عبر عنه بذلك تنويهاً بشأنه، كما في قوله تعالى (ذلك الكتاب) (¬2) والتنوين في قوله: (يوم) للتعظيم، كما يشير إليه وصفه بقوله (ولدت فيه ويوم بعثت) أي: فيه، أفاد به أن شرفه بما ظهر فيه من ولادته وبعثته (أو) شك من الراوي هل قال: بعثت فيه أو قال: (أنزل علي فيه) ؟ أي: الوحي فنائب الفاعل مستتر، أو هو الظرف أي: وجد الإِنزال علي فيه (رواه مسلم) في الصوم، وإنما لم يطلب في يوم مولده - صلى الله عليه وسلم - من الأعمال ما طلب في يوم الجمعة؛ لزيادة شرفه - صلى الله عليه وسلم - فخفف عن أمته ببركته. 1254- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: تعرض الأعمال) أي: تعرضها الملائكة الحفظة، أو غيرهم (يوم الاثنين والخميس) يحتمل عرض مجموع عمل الأسبوع في الآخر منهما، بعد عرض عمل ما قبل الاثنين مع عمله فيه، ويحتمل أن المعروض في الثاني ما عمل بعد الأول، وما قبل ذلك ففي الأول فقط منهما (فأحب أن ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر ... (الحديث: 197) . (¬2) سورة البقرة الآية: 2.

230- باب في استحباب صوم ثلاثة أيام من كل شهر

يُعْرَضَ عَمَلِي وَأنَا صَائِمٌ" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن"، ورواه مسلم بغير ذِكر الصوم (¬1) . 1255- وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: كَانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَتَحَرَّى صَومَ الإثْنَيْنِ وَالخَمِيس. رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (¬2) . 230- باب في استحباب صوم ثلاثة أيام من كل شهر والأفضل صومُها في الأيام البيض وهي الثالثَ عشر والرابعَ عشر والخامسَ عشر، ـــــــــــــــــــــــــــــ يعرض عملي وأنا صائم) جملة في محل الحال من المضاف إليه، لكون المضاف كبعض المضاف إليه، فهو كقوله تعالى (أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً) (¬3) (رواه الترمذي وقال: حديث حسن ورواه مسلم بغير ذكر الصوم) ولفظه "تعرض أعمال الناس في كل جمعة مرتين، ويوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد مؤمن، إلا عبداً بينه وبين أخيه شحناء فيقال: اتركوا هذين حتى يفيئا" ورواه الطبراني عن أسامة بن زيد مرفوعاً بلفظ، "تعرض الأعمال على الله تعالى يوم الاثنين والخميس فيغفر الله إلا ما كان من متشاحنين أو قاطع رحم" ورواه الحاكم عن والد عبد العزيز، " بلفظ تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس على الله، وتعرض على الأنبياء وعلى الآباء والأمهات يوم الجمعة، فيفرحون بحسناتهم، وتزداد وجوههم بياضاً وإشراقاً، فاتقوا الله ولا تؤذوا موتاكم ". 1255- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحرى) أي: يتوخى (صوم الاثنين والخميس) أي: لعظم فضلهما (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) ورواه النسائي. باب استحباب صوم ثلاثة أيام من كل شهر سواء كانت البيض، أو السود أو غيرها (والأفضل صومها في أيام البيض) بكسر الموحدة، وسكون التحتية، من إضافة الموصوف لصفته؛ وسميت بذلك لبياض نهارها بالشمس وليلها بالقمر (وهي الثالث عشر) ببناء الجزأين، كما قاله الدماميني، وكذا ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب: الصوم، باب: ما جاء في صوم يوم الاثنين والخميس، (الحديث: 747) . (¬2) أخرجه الترمذي في كتاب: الصوم، باب: ما جاء في صوم يوم الاثنين والخميس، (الحديث: 745) . (¬3) سورة النحل، الآية: 123.

وقِيل: الثاني عشر، والثالِثَ عشر، والرابعَ عشر، والصحيح المشهور هُوَ الأول. 1256- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: أوْصاني خَلِيلي - صلى الله عليه وسلم - بِثَلاثٍ: صِيَامِ ثَلاَثَةِ أيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَي الضُّحَى، وَأنْ أُوتِرَ قَبْلَ أنْ أنَامَ. متفقٌ عَلَيْهِ (¬1) . 1257- وعن أَبي الدرداءِ - رضي الله عنه -، قَالَ: أوصاني حَبِيبي - صلى الله عليه وسلم - بِثَلاثٍ لَنْ أدَعَهُنَّ مَا عِشتُ: ـــــــــــــــــــــــــــــ المركبات بعده (والرابع عشر والخامس عشر) يستثنى من ذلك ذو الحجة، فصوم الثالث عشر منه حرام. قال الناشري في الإِيضاح: وهل يعوض عنه السادس عشر أو يوم من التسعة الأول؟ فيه احتمالان: "قلت" في العباب عن ابن عبد السلام: يصوم السادس عشر عوضاً عن الثالث عشر (وقيل: الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر والصحيح المشهور هو الأول) وفي الروضة أن الثاني وجه غريب، حكاه الصيمري الماوردي والبغوي وصاحب البيان فالاحتياط صومهما. اهـ. 1256- (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم -) الخلة من أبي هريرة فلا ينافي لو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً. الحديث (بثلاث) أي: من الخصال (صيام ثلاثة أيام من كل شهر) أي: سواء كانت البيض، أو السود أو غيرها أو ذلك؛ ليحصل مثل ثواب الشهر كله (وركعتي الضحى) هما أقل صلاة الضحي. وتقدم أن أكملها وهو أكثرها على الصحيح ثمان (وأن أوتر تبل أن أنام) احتياطاً؛ لئلا يغلبه النوم فيفوت عليه الوتر، وهو محمول على من لم يعتد الاستيقاظ آخر الليل، وإلا فالتأخير إليه أفضل لحديث "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً" (متفق عليه) وقد سبق مشروحاً في باب فضل صلاة الضحى لكن بلفظ "أرقد" بدل "أنام". 1257- (وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: أوصاني حبيبي) في تعبير أبي هريرة بالخلة، إيماء إلى شدة ملازمته ومرابطته، وهذا دونه فيها (- صلى الله عليه وسلم - بثلاث لن أدعهن) أي: أتركهن (ما عشت) أي: مدة عيشي، أي: حياتي وهو كناية عن المداومة على ذلك وعدم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: التهجد، باب: صلاة الضحى (3/47) ، وفي الصوم، باب: صيام البيض، (الحديث: 1981) بنحوه. وأخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب صلاة الضحى ... (الحديث: 85) .

1260- وعن أَبي ذر - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا صُمْتَ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاَثاً، فَصُمْ ثَلاَثَ عَشْرَةَ، وَأرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (¬1) . 1261- وعن قتادة بن مِلْحَان - رضي الله عنه -، قَالَ: كَانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَأمُرُنَا بِصِيَامِ أيَّامِ البِيضِ: ثَلاثَ عَشْرَةَ، وَأرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ. رواه أَبُو داود (¬2) . 1262- وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لاَ يُفْطِرُ أيَّامَ البِيضِ في حَضَرٍ وَلاَ سَفَرٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ داود والترمذي، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه. 1260- (وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا صمت من الشهر ثلاثاً) أي: إذا أردت صوم ثلاثة منها، وحذف التاء؛ لحذف المعدود وفي الإتيان بإذا إيماء؛ لشدة حرص المخاطب على ذلك وملازمته إياه (فصم ثالث عشره ورابع عشره وخامس عشره وأورده في الجامع الصغير، بلفظ "ثلاث عشره وأربع عشره وخمس عشره "وكذا هو في بعض نسخ الرياض، والجزءان مبنيان على الفتح على كلا الروايتين (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) ورواه أحمد والنسائي وابن حبان كما في الجامع الصغير. 1261- (وعن قتادة بن ملحان) بكسر الميم وسكون اللام بعدها مهملة، القيسي بالقاف المفتوحة، فالتحتية الساكنة، فالمهملة ابن قيس بن ثعلبة، مسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه ووجهه قاله في أسد الغابة. روي له (رضي الله عنه) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثان، كما ذكره ابن الأحزم في سيرته وغيره. (قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا بصيام أيام البيض) أبدل منها بدل مفصل من مجمل قوله (ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة) ببناء الجزأين لفظاً وجرهما محلاً (رواه أبو داود) في الصوم ورواه فيه النسائي وابن ماجه، وبه يعلم شذوذ أقوال تسعة أو عشرة، حكاها الغزالي في تعيين أيام البيض، في غير ما ذكر، فلا يعوّل على شيء منها. 1262- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يفطر أيام البيض في حضر ولا سفر) أي: أنه لازم عليها فيهما فصومها سنة مؤكدة، وحكمته أن في هذه الأيام ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب: الصوم، باب: ما جاء في صوم ثلاثة أيام من كل شهر، (الحديث: 761) . (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب: الصوم، باب: في صوم الثلاث من كل شهر، (الحديث: 2449) .

1264- وعن أُمِّ عُمَارَةَ الأنصارِيَّةِ رَضِيَ اللهُ عنها: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَيْهَا، فَقَدَّمَتْ إِلَيْهِ طَعَاماً، فَقَالَ: "كُلِي" فَقَالَتْ: إنِّي صَائِمَةٌ، فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الصَائِمَ تُصَلِّي عَلَيْهِ المَلاَئِكَةُ ـــــــــــــــــــــــــــــ الترغيب والترهيب: ورواه النسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، ولفظ ابن خزيمة والنسائي "من جهز غازياً أو جهز حاجاً أو خلفه في أهله أو فطر صائماً كان له مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء" وقال في حديث سلمان الذي رواه ابن خزيمة في صحيحه "ومن فطر فيه صائماً" يعني في رمضان "كان مغفرة لذنوبه، وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء" قالوا: ليس كلنا يجد ما يُفطر به الصائم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يعطي الله تعالى هذا الثواب، من فطر صائماً على تمرة، أو شربة ماء، أو مزقة لبن؛ الحديث. 1264- (وعن أم عمارة) بضم المهملة وتخفيف الميم (الأنصارية رضي الله عنها) المكنى بهذه الكنية، اثنتان من الأنصار. إحداهما: نسيبة بنت كعب بن عمرو بن عوف بن مندول بن عمرو بن مازن بن النجار الأنصارية المازنية. والثانية: غير مسماة كما ذكر ابن الأثير في أسد الغابة، وقال المزي: وهي جدة حبيب بن زيد ويقال: اسمها نسيبة بنت كعب بن عمرو، وذكر النسب إلى النجار وقد ذكر الترمذي نسبتها فقال: عن أم عمارة بنت كعب الأنصارية؛ ومقتضاه أنها الأولى كما صرح به المزي، وقد وقع في كلام بن عبد البر ما يقتضي أنها واحدة، وحكاه عن ابن الأثير، وقال: إن ابن منده وأبا نعيم جعلاهما اثنتين وذكرا لكل ترجمة، وفي التقريب للحافظ أنهما واحدة، كما في كلام ابن عبد البر ومثله في الأطراف للمزي، وهو ظاهر صنيع المؤلف، إذ لو كان يرى تعددهما لأتى بما يميز الراوية عن الثانية، وقد صرح الدميري بأنها نسيبة، وقال: شهدت العقبة مع السبعين وشهدت أحداً، وأبليت يومئذ بلاءً حسناً، هي وولدها عبد الله بن زيد وزوجها زيد بن عاصم وشهدت بيعة الرضوان وشهدت اليمامة، وجرحت يومئذ أحد عشر جرحاً وقطعت يدها. روى لها أصحاب السنن ثلاثة أحاديث، هذا أحدها. اهـ والله أعلم (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها) أي: زائراً ففيه زيارة أهل الفضل أتباعهم (فقدمت إليه طعاماً) فيه إكرام الضيف بإحضار الطعام (فقال: كلي) فيه إيماء إلى استحباب بدء رب المنزل بالأكل قبل الضيف لينشط لذلك (فقالت: إني صائمة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الصائم) أي: لأي صوم كان، من فرض بأنواعه، أو نفل (تصلي عليه الملائكة) أي

إِذَا أُكِلَ عِنْدَهُ حَتَّى يَفْرغُوا" وَرُبَّمَا قَالَ: "حَتَّى يَشْبَعُوا" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (¬1) . 1265- وعن أنسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَاءَ إِلَى سعد بن عبادة - رضي الله عنه - فَجَاءَ بِخُبْزٍ وَزَيْتٍ، فَأكَلَ، ثُمَّ قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ؛ وَأكَلَ طَعَامَكُمُ الأَبرَارُ، وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ المَلاَئِكَةُ" رواه أَبُو داود بإسناد صحيح (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ تستغفر له (إذا أكل عنده حتى يفرغوا) أي: الآكلون، المدلول على تعددهم بالجملة الشرطية (وربما قال:) حتى (يشبعوا) وضمير قال: الأقرب عوده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويؤيده أنه أورده في المشكاة بهذا اللفظ مقتصراً عليه، والمراد منه الإِشارة إلى اختلاف ألفاظه - صلى الله عليه وسلم -، ويحتمل على بعد عوده إلى أحد الرواة، وهذه الجملة مسوقة للشك في اللفظ النبوي على هذا. وعلى الأول لبيان صدور كل منهما منه - صلى الله عليه وسلم -. الأول كثيراً والثاني قليلاً (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) ورواه أحمد وابن ماجه والدارمي وانتهى حديث ابن ماجه إلى تصلي عليه الملائكة، ورواه النسائي أيضاً، كما في الأطراف للمزي. 1265- (وعن أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء إلى سعد بن عبادة) سيد الخزرج رضي الله عنه (فجاء بخبز وزيت) فيه إحضار ما سهل وأنه لا ينافي الجود فقد جاء سعد كأبيه من أجواد العرب (فأكل) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - (ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي: بعد تمام الأكل (أفطر عندكم الصائمون) أي: أثابكم الله إثابة من فطر صائماً، فهي خبرية لفظاً دعائية معنى كجملة (وأكل طعامكم الأبرار) جمع بر، وهو التقي (وصلت عليكم الملائكة) أي: استغفرت لكم (رواه أبو داود بإسناد صحيح) ورواه أحمد والبيهقي في السنن وابن السني من حديث أنس، ورواه ابن ماجه وابن حبان والطبراني. من حديث ابن الزبير، ولفظ ابن السني " كان - صلى الله عليه وسلم - إذا أفطر عند قوم دعا لهم فقال: أفطر عندكم " إلخ وروى ابن ماجه عن الزبير "قال: أفطر - صلى الله عليه وسلم - عند سعد بن معاذ فقال: أفطر عندكم إلى آخره" ورواه ابن ماجه في، صحيحه عنه لكن قال: ابن عبادة بدل ابن معاذ. قال القارىء في الحرز: ويمكن الجمع بتعدد القضة. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب الصوم، باب: ما جاء في فضل الصائم إذا أكل عنده، (الحديث: 785) . (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب: الأطعمة باب: [ما جاء] في الدعاء لرب الطعام [إذا أكل عنده] ، (الحديث: 3854) .

8- كتاب: الاعتكاف

8- كتاب: الاعتكاف 232- باب: في فضل الاعتكاف 1266- عن ابن عمر رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ. متفقٌ عَلَيْهِ (¬1) . 1267 - وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ تَعَالَى، ثُمَّ اعْتَكَفَ أزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ. متفقٌ عَلَيْهِ (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ كتاب الاعتكاف هو لغة: لزوم الشيء ولو شراً، وشرعاً: مكث مخصوص على وجه مخصوص، والأصل فيه الكتاب والسنة والإِجماع. وهو من الشرائع القديمة، وسكت المصنف عن ذكر ما يتعلق به من الكتاب، كقوله تعالى: (وطهر بيتي للطائفين والقائمين) (¬3) الآية نسياناً. 1266- (عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف العشر الأواخر من مضان) بالنصب على الظرفية أي: يوقعه فيها (متفق عليه) . 1267- (وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان) لما بعد العشرين منه ولو كان ناقصاً، فإطلاق العشر عليه تغليب (حتى توفاه الله) غاية لما دلت عليه كان من الدوام، قيل: لغة، وقيل: عرفاً (ثم اعتكف أزواجه بعده) أي: في العشر المذكور (متفق عليه) . ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري فى كتاب: أبواب الاعتكاف، باب: الاعتكاف في العشر الأواخر (4/235 و236) . وأخرجه مسلم في كتاب: الاعتكاف، باب: اعتكاف العشر الأواخر من رمضان، (الحديث: 1) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: أبواب الاعتكاف، باب: الاعتكاف في العشر الأواخر، (4/235) . وأخرجه مسلم في كتاب: الاعتكاف، باب: اعتكاف العشر الأواخر من رمضان، (الحديث: 5) . (¬3) سورة الحج، الآية: 26.

1268- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: كَانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَعْتَكِفُ في كُلِّ رَمَضَانَ عَشْرَةَ أيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ العَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْماً. رواه البخاري (¬1) . *** ـــــــــــــــــــــــــــــ 1268- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتكف في كل رمضان عشرة أيام) وكان أولاً يعتكف العشر الأوسط طلباً لليلة القدر، ثم علم أنها في العشر الأخير فصار يعتكف كما يومىء إليه حديث سعيد المذكور في باب الاعتكاف من البخاري (فلما كان العام) بالنصب على الظرفية خبراً لكان، وبالرفع على أنها تامة (الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً) زيادة اجتهاد في الطاعة؛ لدنو الأجل ولعله أخلذه، أي: دنو الأجل كما صرح به في خطابه لبنته السيدة فاطمة رضي الله عنها، من مدارسته جبريل معه ذلك العام القرآن مرتين، ففي الحديث الحض على الاجتهاد في التعبد، والإِعراض عن الأعراض الدنيوية عند خواتم العمر وسن الكبر (رواه البخاري) وما أومأ إليه أحاديث الباب من كون المعتكف صائماً والمدة متطاولة هو الأفضل، وإلا فأقله عند إمامنا الشافعي ما يسمى لبثاً إذا اقترن بالنية ولا يشترط فيه محموم خلافاً لبعض الأئمة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: أبواب الاعتكاف، باب: الاعتكاف في العشر الأوسط من رمضان، (4/245) .

9- كتاب: الحج

9- كتاب: الحج 233- باب: في فضل الحج قَالَ الله تَعَالَى: (وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فإنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ) (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ كتاب الحج هو بفتح الحاء وكسرها لغة: القصد، أو كثرته إلى من يعظم، وشرعاً: قصد الكعبة لأداء أعمال مخصوصة، والأصل فيه الكتاب والسنة والإِجماع، وهو من الشرائع القديمة. روي أن آدم عليه الصلاة والسلام حج أربعين سنة من الهند ماشياً وأن جبريل قال له: إن الملائكة كانوا يطوفون قبلك بهذا البيت سبعة آلاف سنة. وقال ابن إسحاق: لم يبعث الله نبياً بعد إبراهيم إلا حج، والذي صرح به غيره أن ما من نبي إلا حج. خلافاً لمن استثنى هوداً وصالحاً صلى الله على نبينا وعليهم وسلم. وفي وجوبه على من قبلنا خلاف. قيل: الصحيح، إنه لم يجب إلا علينا واستغرب، والصحيح أنه من أفضل العبادات، خلافاً للقاضي حسين في قوله: إنه أفضلها لاشتماله على المال والبدن (قال الله تعالى: ولله على الناس) قيل: دخل فيه الجني بناء على أنه من نوس إذا تحرك، وبه صرّح في عباب اللغة، فيجب الحج على مستطيعه وبه صرّح التقي السبكي (حج البيت) علم بالغلبة على الكعبة (من استطاع إليه سبيلاً) بأن وجد الزاد والراحلة، كما ثبت تفسيره بذلك مرفوعاً في حديث رواه الحاكم في المستدرك، ومن فيه فاعل المصدر المضاف لمفعوله. أي: ولله على الناس أن يحج البيت المستطيع منهم، فإن لم يحج المستطيع أثم الناس أجمع، أو بدل بعض من الناس، والرابط مقدر، أي: منهم وعليه اقتصر المحقق البيضاوي، أو في موضع رفع بالابتداء على أنها موصولة ضمنت معنى الشرط، أو شرطية، وحذف الخبر والجواب أي: من استطاع فليحج، ويؤيد الابتداء قوله: (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) قال ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 97.

1269- وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "بُنِي الإسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أنْ لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ، وَأنَّ مُحَمَّداً رسولُ اللهِ، وَإقَامِ الصَّلاَةِ، وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ البَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ" متفقٌ عَلَيْهِ (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ البيضاوي: وضع من كفر موضع من لم يحج تأكيداً لوجوبه وتغليظاً على تاركه، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً" وقد أكد أمر الحج في هذه الآية من وجوه الدلالة على وجوبه، بصيغة الخبر وإبرازه في الصورة الاسمية، وإيراده على وجه يفيد أنه حق واجب لله في رقاب الناس، وتعميم الحكم أولاً وتخصيصه ثانياً، فإنه كإيضاح بعد إبهام، وتنبيه وتكرير للمراد. وتسمية ترك الحج كفراً من حيث إنه فعل الكفرة، وذكر الاستغناء فإنه في هذا الموضع مما يدل على المقت والخذلان، وقوله (عن العالمين) بدل عنه؛ لما فيه من مبالغة التعميم والدلالة على الاستغناء عنه بالبرهان، والإِشعار بعظيم السخط؛ لأنه تكليف شاق جامع بين كسر النفس، وإتعاب البدن، وصرف المال والتجرد، عن الشهوات، والإقبال على الله عز وجل. روي أنه لما نزل صدر الآية "جمع رسول الله أرباب الملل فخطبهم وقال: إن الله كتب عليكم الحج فحجوا فآمنت به ملة واحدة وكفرت به خمس الملل (¬2) : فنزل (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) (¬3) ". 1269- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي) وفي نسخة رسول الله (- صلى الله عليه وسلم - قال بني الإِسلام على خمس شهادة) بالجر على الأوجه، كما تقدم بيانه في شرح هذا الحديث، المتكرر غير مرة، في أبواب كالزكاة والصيام (أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة) أل فيها وفيما قبلها للعهد. أي: المفروض منها (وحج البيت) أي: من استطاع إليه سبيلاً، كما جاء كذلك في أحاديث أخر، والمطلق يحمل على المقيد (وصوم رمضان متفق عليه) . ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الإِيمان، باب: دعاؤكم إيمانكم (1/46، 47) . وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام، (الحديث: 20) ، وقد تقدم برقم (1075) و (1206) . (¬2) في نسخه جميع الملل وعلى الأولى قيل: هم اليهود والنصارى والصابئون والمجوس والذين أشركوا. ع. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 97.

1270- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: خَطَبَنَا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: "أيُّهَا النَّاسُ، قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُم الحَجَّ فَحُجُّوا" فَقَالَ رَجُلٌ: أكُلَّ عَامٍ يَا رَسولَ اللهِ؟ فَسَكَتَ، حَتَّى قَالَهَا ثَلاثاً. فَقَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ" ثُمَّ قَالَ: "ذَرُوني مَا تَرَكْتُكُمْ؛ فَإنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤالِهِمْ، وَاخْتِلاَفِهِمْ ـــــــــــــــــــــــــــــ 1270- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا) يتعدى بنفسه وبعلى كما في المصباح (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:) عطف تفسير (يا أيها الناس إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا) أي: ادوا ذلك الواجب (فقال رجل) قال ابن حجر الهيثمي: هو الأقرع ابن حابس انتهى. وقد جاء تعيينه في حديث رواه أحمد والنسائي والدارمي، وسنده حسن (أكل عام) بالنصب ظرف لفرض مقدراً (يا رسول الله فسكت) - صلى الله عليه وسلم - عن جوابه (حتى قالها) أي: المقالة المذكورة (ثلاثاً) منصوب على المصدرية، وسكوته عنه، لينزجر عن سؤاله الواقع في غير محله؛ لوجوه منها: أن مدلول الأمر مدة وما زاد عليها لا بد له من دليل خارجي، ومع ملاحظة ذلك فلا وجه لسؤاله، فكان فيه نوع تعنت وسؤال عما لا يحتاج إليه، ومنها: أنه - صلى الله عليه وسلم - أرسل لتبليغ الأحكام بغاية الإِيضاح والبيان، فلو وجب التكرار لأفاده صريحاً وإن لم يسأل عنه فالسؤال حينئذ ضائع، ولما علم - صلى الله عليه وسلم - من تكريره له أنه لا ينزجر بذلك ولا يقنع إلا بجواب صريح أجابه بما فيه نوع توبيخ له (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو قلت نعم) أي: فرض عليكم كل عام (لوجبت) أي: الحجة كذلك (ولما استطعتم) ذلك: لأن فيه من المشقة ما لا يطاق تحمله فأفادت (لو) الدالة على انتفاء الثاني لانتفاء المقدم الذي لم يخلفه غيره، أنه لا يجب كل عام أي: باعتبار الأصل، فلا يرد وجوبه بنحو قضاء أو نذر، وأفاد ثانيها أن الأمر للوجوب إذ لا يجب الحج كل سنة، بقوله: حجوا كل سنة إلا إذا كان الأمر للوجوب، وما بعده أنه إنما لم يتكرر لما فيه من الحرج الذي لا يطاق، وإن الأمر على السهولة واليسر لا على الصعوبة والعسر كما توهمه السائل، وإن العاقل لا ينبغي له أن يستقبل الكلف الخارجة عن وسعه وأن لا يسأل عما يسؤه لو أبدى قال تعالى: (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) (¬1) (ثم قال) زجراً لذلك السائل أيضاً (ذروني ما تركتكم) أي: لأني لا أنطق إلا بما شرعه الله لكم، ولا أحتاج إلى تنبيه؛ لأني لا أخل بشيء مما يحتاج إلى البيان عند الحاجة إليه (فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم) أي: من غير حاجة بل لقصد التعنت المؤدي للإيذاء أو التكذيب (واختلافهم على أنبيائهم) فيتقولون عليهم ما لم يقولوه، ويحرفون ما ¬

_ (¬1) سورة المائدة، الآية: 101.

عَلَى أنْبِيَائِهِمْ، فَإذَا أمَرْتُكُمْ بِشَيءٍ فَأتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَن شَيْءٍ فَدَعُوهُ" رواه مسلم (¬1) . 1271- وعنه، قَالَ: سُئِلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أيُّ العَمَلِ أفْضَلُ؟ قَالَ: "إيمَانٌ بِاللهِ وَرسولِهِ" قيل: ثُمَّ ماذا؟ قَالَ: "الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ" قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ قالوه إيثاراً لما ينالهم من ضعفائهم واتباعهم على رضا الله تعالى واتباع أنبيائه ورسله (فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم) كالعاجز عن بعض أعمال الطهارة، أو الصلاة من ركن أو شرط يأتي بالمستطاع له، دون ما عجز عنه (وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه) وفيه أن الأوامر مقيدة بالاستطاعة دون النواهي؛ لأن الأولى: من باب جلب المصالح، والثانية: من باب درء المفاسد، ودرؤها مقدم على جلب تلك، فلذا سومح في هذه ما لم يسامح في تلك (رواه مسلم) وهذا الحديث من أجل قواعد الإِسلام، ومن جوامع الكلم لأنه يدخل فيه من الأحكام ما لا يحصى، والحديث من قوله: ذروني إلى آخره، تقدم في باب الأمر بالمحافظة على السنة. 1271- (وعنه قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم -) السائل أبو ذر، كما في التوشيح (أي العمل أفضل) أي: أكثر ثواباً عند الله تعالى (قال: إيمان بالله ورسوله) هو عمل القلب؛ لأنه التصديق بكل ما علم مجيء الرسول به ضرورة، والإِقرار للساني بذلك شرط لإِجراء الأحكام (قيل: ثم ماذا؟ قال الجهاد: في سبيل الله) قال السيوطي في التوشيح: في مسند بن أبي أسامة: جهاد، وهو موافق لقوله: إيمان، ولقوله قال: حج. قال الحافظ: فالتعريف في رواية الصحيح من تصرف الرواة. اهـ ثم لعل هذا بالنسبة لحال المتكلم بذلك؛ لقوة تسلط الكفار حينئذ، فكأن القيام به لما فيه من تأسيس الإِسلام أفضل، حتى من الصلاة فلا ينافي حديث " خير أعمالكم الصلاة " ولا حديث ابن مسعود "سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على ميقاتها. قلت: ثم أي: قال: ثم بر الوالدين قلت: ثم أي: قال: الجهاد في سبيل الله " الحديث رواه الشيخان، وقال المصنف: ذكر هنا بعد الإِيمان الجهاد والحج، وفي حديث أبي ذر، بدل الحج العتق، وفي حديث أبي موسى: السلامة من اليد واللسان، وفي حديث ابن مسعود: الصلاة ثم البر ثم الجهاد، وقال العلماء: واختلاف الأجوبة لاختلاف الأحوال واحتياج المخاطبين وذكر ما لا يعلمه السائل وترك ما علمه (قيل: ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الحج، باب: فرض الحج مرة في العمر، (الحديث: 412) .

قَالَ: "حَجٌّ مَبرُورٌ" متفقٌ عَلَيْهِ. "المبرور" هُوَ: الَّذِي لا يرتكِبُ صاحِبُهُ فِيهِ معصيةً (¬1) . 1272 - وعنه، قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يقول: "مَنْ حَجَّ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أمُّهُ" متفقٌ عَلَيْهِ (¬2) . 1273 - وعنه: أنَّ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَينَهُمَا، وَالحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الجَنَّةَ" ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم ماذا؟ قال: حج مبرور. متفق عليه) رواه البخاري ومسلم في الإِيمان، وكذا رواه فيه النسائي (المبرور) اسم مفعول من البر وهو الطاعة (هو الذي لا يرتكب صاحبه فيه معصية) ولو صغيرة وإن تاب منها من إحرامه به إلى تحلله الثاني، هذا أحد القولين فيه. وقيلِ: هو المقبول وعلامة القبول أن يرجع خيراً مما كان عليه بأن يصير عابداً بعد أن كان غافلاً. 1272- (وعنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من حج) أي: أتى بالحج (فلم يرفث) بضم الفاء معطوف على جملة حج أي: لم يلغ (ولم يفسق) أي: بارتكاب كبيرة أو إصرار على صغيرة (رجع) أي: انقلب من نسكه معرى عن الذنب بالعفو (كيوم ولدته أمه) بفتح يوم؛ لأنه أضيف إلى جملة صدرها مبني، والمراد يكفر بالحج عنه صغائر الذنوب، المتعلقة بحق الله تعالى كما قدمنا التنبيه عليه (متفق عليه) ورواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وعند الترمذي بلفظ "غفر له ما تقدم من ذنبه". 1273- (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: العمرة) بضم فإسكان، وبضمتين وبفتح فإسكان لغات، أفصحها أولها (إلى العمرة كفارة) أي: مكفرتان، وأفرد؛ لأنه مصدر (لما بينهما) من صغائر الذنوب المتعلقة بالله تعالى، وعليه يحمل قوله في رواية: من الذنوب والخطايا (والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) يحتمل أن يكون من جزائه إلهام صاحبه التوبة من كل ذنب، وتوفيقه لذلك وحفظه من المخالفة باقي عمره فيدخل الجنة مع الفائزين، والله ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الإِيمان، باب: من قال إن الإِيمان هو العمل (3/302) . وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: بيان كون الإِيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، (الحديث: 135) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الحج، باب: فضل الحج المبرور، (3/302, 303) . وأخرجه مسلم في كتاب: الحج، باب: في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة، (الحديث: 438) .

متفقٌ عَلَيْهِ (¬1) . 1274 - وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها، قَالَت: قُلْتُ: يَا رسول الله، نَرَى الجِهَادَ أفْضَلَ العَمَلِ، أفَلاَ نُجَاهِدُ؟ فَقَالَ: "لَكُنَّ أفْضَلُ الجِهَادِ: حَجٌّ مَبْرُورٌ" رواه البخاري (¬2) . 1275 - وعنها: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَا مِنْ يَوْمٍ أكْثَرَ مِنْ أن ـــــــــــــــــــــــــــــ أعلم. (متفق عليه) ورواه مالك وأحمد والأربعة، كذا في الجامع الصغير. 1274- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله نرى) أي: نعتقد (الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد) لحوز ثوابه (فقال: لكن) باللام الجارة لضمير خطاب النسوة، وهو حال (أفضل الجهاد حج مبرور) وأفضل مبتدأ خبره حج، وقال الدماميني في المصابيح: معترضاً الزركشي في إعرابه أفضل مبتدأ، خبره حج، بأنه على ظن أن لكن ظرف لغو، متعلق بأفضل والمانع موجود، فالصواب أن الخبر قوله لكن، وحج بدل أو خبر لمحذوف، تقديره هو حج مبرور، والضمير عائد إلى أفضل الجهاد. اهـ ثم هذا الضبط هو الذي عند أبي ذر، وعند غيره، لكن بكسر الكاف وزيادة ألف قبلها وبتسكين النون، فعليها أفضل مبتدأ خبره حج مبرور، وبتشديدها فأفضل اسمها وحج خبرها، ولا بد عليها من تقدير مستدرك عليه، وظرف بعد الاستدراك، دل عليه المقام أي: ليس لكن الجهاد أفضل، ولكن أفضل منه لكن حج مبرور. قال المهلب: وهذا بين على أن قوله تعالى؛ (وقرن في بيوتكن) (¬3) ليس على الفرض لملازمة البيوت (رواه البخاري) في الحج والجهاد، وفي رواية لهما عنها " قلت: استأذنت النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجهاد فقال: جهادكن الحج " ورواه النسائي وابن ماجه ولفظ النسائي "قلت: يا رسول الله أفلا نخرج فنجاهد معك". وفي التعبير عنه بالجهاد إيماء إلى عظيم فضله وحض عليه النساء فكيف بالرجال. 1275- (وعنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما من) صلة لتأكيد استغراق النفي في قوله: (يوم أكثر) بالنصب خبر ما الحجازية (من أن يعتق الله فيه عبداً من النار) متعلق بيعتق (من يوم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: العمرة، باب: وجوب العمرة وفضلها، (3/476) . وأخرجه مسلم في كتاب: الحج، باب: في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة، (الحديث: 437) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الحج، باب: فضل الحج المبرور (3/302) . (¬3) سورة الأحزاب، الآية: 33.

يَعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْداً مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ" رواه مسلم (¬1) . 1276 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "عُمْرَةٌ في رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً - أَوْ حَجَّةً مَعِي" متفقٌ عَلَيْهِ (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ عرفة) متعلق بأكثر وهذا صدر حديث آخره "وإنه ليدنو ثم ويباهي الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء" (رواه مسلم) . 1276 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: عمرة في رمضان) أي: بأن يتبع تحرمها في جزء منه وإنْ أتى بأعمالها في شوال (تعدل) أي: تماثل (حجة أو) شك من الراوي أي: هل اقتصر على ذلك؟ أو قال: (حجة معي. متفق عليه) ورواه أحمد وأبو داود ابن ماجه من حديث ابن عباس، ورواه من حديث جابر، أحمد والبخاري وأبو داود، ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن أم معقل، وابن ماجه عن وهب ابن حنيس، والطبراني في الكبير، عن ابن الزبير، وميمونة عن أنس بلفظ "عمرة في رمضان كحجة معي"، كذا في الجامع الصغير وظاهره أنه لا فرق بين من أحرم بها من ذي الحليفة ومن أحرم بها من التنعيم مثلاً؛ ولا تخصيص بكونه وارداً في امرأة تخلفت عن الحج معه - صلى الله عليه وسلم - فقال لها: اعتمري إن عمرة إلخ، وذلك؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. والظاهر أن المراد بالعدل هنا ما لقوه في نحو خبر: إن قراءة الإِخلاص تعدل ثلث القرآن، من أن في القليل مثل ثواب الكثير من غير مضاعفة، لئلا يلزم تساوي القليل والكثير، فيكون حاملاً للناس على الإِعراض عنِ الكثير، وهذا أولى من قول الطيبي أنه من باب المبالغة، وإلحاق الناقص بالكامل ترغيباً، وحثاً عليه. اهـ وذلك؛ لأن الله امتن على ضعفاء عباده العاجزين عن الإِتيان بذلك الكثير، بأن جعل لهم ما يصلون به إلى مراتب الأقوياء القادرين على الكثير، ولا يلزم منه الرغبة عن الكثير، لما تقرر من الفرق بينهما. وفي الحديث "إن ثواب العمل القليل يزيد بزيادة شرف الوقت" كما يزيد ثواب الكثير بمزيد الحضور ودوام الشهود اللذين يبلغ الشخص بهما مبلغاً لا يحصل له بدون ذلك، وما اقتضاه الحديث من أفضليتها في رمضان عليها ولو في ذي القعدة هو مذهبنا، وأجابوا عن تكرير عمرته - صلى الله عليه وسلم - في ذي القعدة دونه بأنه ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الحج، باب: في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة، (الحديث: 436) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: العمرة، باب: عمرة في رمضان (3/480، 481) . وأخرجه مسلم في كتاب: الحج، باب: فضل العمرة في رمضان، (الحديث: 222) .

1277 - وعنه - رضي الله عنه - أنَّ امرأة قالت: يَا رسول الله، إنَّ فَرِيضَةَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ في الحَجِّ، أدْرَكَتْ أَبي شَيْخاً كَبِيراً، لاَ يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أفَأحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: "نَعَمْ" متفقٌ عَلَيْهِ. (¬1) . 1278 - وعن لقيط بن عامر - رضي الله عنه -: أنَّه أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: إنَّ أَبِي ـــــــــــــــــــــــــــــ كان لمصلحة، هي رد ما كان عليه الجاهلية من اعتقاد أنها في أشهر الحج من أفجر الفجور، فكررها - صلى الله عليه وسلم - فيه مبالغة في إخراج ما رسخ في قلوبهم من ذلك، وعدم إيقاعه لها في رمضان في عام الفتح يحتمل أن يكون لكثرة اشتغاله بمصالح أهل مكة، ثم بتجهيز تلك الجيوش لحنين والطائف على أن ظاهر سبب حديث الباب أنه لم ينطق - صلى الله عليه وسلم - به إلّا بعد حجة الوداع، فيحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يبلغه ذلك إلا حينئذ. 1277- (وعنه أن امرأة) هي من خشعم، كما في الحديث نفسه في الصحيح (قالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي) فيه مجاز عقليِ من الإِسناد للسبب، وهو قوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت) (¬2) الآية (شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة) جملة في محل الصفة، أو الحال، والمراد: لا يثبت عليها ولو في نحو محارة، كما يومىء إليه إطلاقها (أفأحج عنه) أي: أيجب عليه فأحج عنه نيابة (قال: نعم) ففيه الحج عن المعضوب (متفق عليه) أخرجه البخاري في الحج وفي المغازي وفي الاستئذان، ومسلم في الحج، ورواه فيه أبو داود والنسائي في سننهما، كذا في الأطراف، وتعقب بأن حديث النسائي بطرقه حديث آخر لا يطابق هذا الحديث لا لفظاً ولا معنى، وسياقه هكذا "أن امرأة سألت سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمها ماتت ولم تحج قال: حجي عن أمك" قال أحد الرواة: عن النسائي هذا حديث غريب، تفرد به علي بن حكيم. اهـ ورواه البزاز عن ابن عباس عن أخيه الفضل، ورواه أيضاً عن سلمان ابن يسار الراوي عن ابن عباس عن الفضل من غير واسطة عبد الله. اهـ وعلى الأول فهو مرسل صحابي. والله أعلم. 1278- (وعن لقيط) بفتح اللام وكسر القاف وسكون التحتية، ثم طاء مهملة (ابن عامر) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الحج، باب: وجوب الحج وفضله (3/300) . وأخرجه مسلم في كتاب: الحج، باب: الحج عن العاجز لزمانه وهرم ونحوهما أو للموت، (الحديث: 407) . (¬2) سورة آل عمران، الآيه: 97.

قَالَ: حُجَّ بي مَعَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، في حَجةِ الوَدَاعِ، وَأنَا ابنُ سَبعِ سِنينَ. رواه البخاري (¬1) . 1280 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَقِيَ رَكْباً بالرَّوْحَاءِ، فَقَالَ: "مَنِ القَوْمُ؟ " قالوا: المسلِمُونَ. قالوا: مَنْ أنْتَ؟ قَالَ: "رسولُ اللهِ". فَرَفَعَتِ امْرَأةٌ صَبيّاً، فَقَالَتْ: ألِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَلَكِ أجْرٌ" ـــــــــــــــــــــــــــــ استحباب جعل النوافل في البيت (قال: حج) بالبناء للمفعول ونائب فاعله (بي) كذا في الأصول المصححة من الرياض، وكذا هو في البخاري. عند الترمذي قال: حج بي أبي بالبناء للفاعل، وبيان أنه أبوه (مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع) بكسر الواو مصدر وادع لوداعته فيها الناس، وبفتحها اسم مصدر منه (وأنا ابنِ سبع سنين) ففيه جواز إحجاج الصبي قبل البلوغ، أو مباشرته النسك أي: إذا كان مميزاً وذلك ليتمرن على العبادة فيألفها بعد البلوغ (رواه البخاري) والترمذي وفي روايته زيادة قوله: في حجة الوداع، وليست عند البخاري، فقوله رواه البخاري أي أصل الحديث لا بجميع الألفاظ المذكورة. والله أعلم. 1280- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقي ركباً) جمع راكب أو اسم جمعه كصحب وصاحب وبجمع راكب على ركبان أيضاً (بالروحاء) ظرف لغو متعلق بلقي، والروحاء قال في التهذيب: هي بفتح الواو والحاء المهملة وسكون الواو بينهما ممدودة، موضع من عمل الفرع بضم فسكون، بينها وبين المدينة ستة وثلاثون ميلاً، كما روى ذلك مسلم في صحيحه في الأذان عن أبي سفيان، وحكى صاحب المطالع أن بينهما أربعين ميلاً، وأن في كتاب ابن أبي شيبة بينهما ثلاثون ميلاً. اهـ ملخصاً (فقال: من القوم؟ فقالوا: المسّلمون) أي: نحن المسلمون (فقالوا: من أنت؟ قال) وعند أبي داود "قالوا: من أنتم قالوا: (رسول الله، فرفعت امرأة صبياً) عند أبي داود "ففزعت امرأة فأخذت بعضد صبي وأخرجته من محفتها" (فقالت: يا رسول الله ألهذا حج) أي: أيصح الإِحرام عنه بالحج ويثاب عليه وإن كان غير مميز، كما يدل لذلك أخذها له بعضده وإخراجه كذلك من المحفة، إذ من كان كذلك لا تمييز له (قال: نعم ولك أجر) أي: بسبب الحمل وتجنيبه ما يحرم على المحرم، أو بسبب إحرامها عنه إن كانت وصيته من جهة الأب أو أذن لها، الوصي، إذ لا يصح الإِحرام به إلا لولي المال من أب أو جد أو مأذونه. قال أصحابنا: يكتب ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الحج، باب: حج الصبيان، (4/61) .

رواه مسلم (¬1) . 1281 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حَجَّ عَلَى رَحْلٍ وَكانت زَامِلَتهُ. رواه البخاري (¬2) . 1282 - وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَتْ عُكَاظُ، وَمَجِنَّةُ ـــــــــــــــــــــــــــــ للصبي ثواب جميع ما يعمله من الحسنات، ولا يكتب عليه معصية بالإِجماع وكذا يكتب للأصل مثل ثواب عمل الفرع من الصالحات دون إثم ما يجتنيه من السيئات (رواه مسلم) ورواه أبو داود. 1281- (وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حج) أي: في عام حجة الوداع إذ لم يحج بعد الهجرة غيرها (على رحل) بفتح فسكون كل ما يعد للرحيل من وعاء المتاع ومركب البعير، أي: حج على قتب الراحلة من غير محمل ولا محاره (وكانت) أي: الراحلة التي ركبها وإن لم يجر لها ذكر، لكن دل عليه ذكر الرحل (زاملته) والزاملة البعير الذي يحمل عليه الطعام والمتاع، من الزمل وهو الحمل، والمراد: أنه لم يكن معه زاملة لحمل طعامه ومتاعه، بل كان ذلك محمولاً معه على راحلته وكانت هي الراحلة والزاملة. وروى سعيد بن منصور من طريق هشام بن عروة قال: كان الناس يحجون وتحتهم أزودتهم، وكان أول من حج وليس تحته شيء عثمان بن عفان رضي الله عنه (رواه البخاري) ورواه ابن ماجه بلفظ آخر وهو "حج النبي - صلى الله عليه وسلم - على رحل وقطيفة خلقة تسوى أربعة دراهم ولا تسوى، ثم قال: اللهم اجعله حجاً لا رياء فيه ولا سمعة". 1282- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت عكاظ) قال في المصباح: بوزن غراب، سوق من أعظم أسواق الجاهلية، وراء قرن المنازل بمرحلة من عمل الطائف على طريق اليمن، وقال أبو عبيد: هي صحراء مستوية لا جبل بها ولا علم، وهي بين نجد والطائف، وكان يقام بها السوق في ذي القعدة نحواً من نصف شهر، ثم يأتون موضعاً دونه إلى مكة يقال له: سوق مجنة، فيقام فيه السوق إلى آخر الشهر، ثم يأتون موضعاً قريباً منه، يقال له: ذو المجاز، فيقام فيه السوق إلى يوم التروية، ثم يصدرون إلى منى والتأنيث لغة الحجاز، والتذكير لغة تميم. اهـ (ومجنة) بكسر الميم والجيم المفتوحة والنون المشددة ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الحج، باب: صحة حج الصبي وأجر من حج به، (الحديث: 409) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الحج، باب: الحج على الراحل (3/301) .

10 - كتاب: الجهاد

10 - كتاب: الجهاد 234- باب: في فضل الجهاد قال الله تعالى (¬1) : (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) . وَقَالَ تَعَالَى (¬2) : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ ـــــــــــــــــــــــــــــ كتاب الجهاد أي: مقاتلة الكفرة؛ لإعزاز الدين (قال الله تعالى: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) أي: جميعاً (كما يقاتلونكم كافة) هو محمول على ما عدا أهل الذمة من أهل الكتاب، بدليل قوله تعالى في الآية الآخرى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله) (3) إلى قوله: (من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) ، (¬3) والآية فيها الإِيماء إلى تقديم داعي قتال الكفار على داعي الطبع، من ترك قتال نحو قريب وخليل وصاحب كفار، أي: لأنهم إذا لم يراعوا لكم ذلك وجهادهم في سبيل الكفر، فأنتم أحق بأن لا تراعوه منهم (واعلموا أن الله مع المتقين) الشرك بالنصر والإِعانة، وهو تشجيع على الإِقدام عليهم وإن كثرت جموعهم، فمن ينصره الله لا يغلب (وقال تعالى: كتب) أي: فرض (عليكم القتال) أي: قتال الكفرة (وهو كره لكم) جملة في محل الحال من نائب الفاعل أي: وهو مكروه لكم بحسب الطبع لما فيه من تعريض النفس للقتل (وعسى) للترجي (أن تكرهوا شيئاً) هو أو غيره (وهو) أي: المكروه (خير لكم) في نفس الأمر (وعسى) للإِشفاق (أن تحبوا شيئاً) بحسب الطبع (وهو ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآية: 36. (¬2) سورة البقرة، الآية: 216. (¬3) سورة التوبة، الآية: 29.

شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) . وقال تعالى (¬1) : (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) . وقال تعالى (¬2) : (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ شر لكم) في نفس الأمر (والله يعلم) النافع لكم من الضار (وأنتم لا تعلمون) ذلك جملة اسمية معطوفة على الاسمية قبلها، أو حالية، وفي الآية إيماء إلى وجوب التفويض في كل الأمور لله عز وجل، والرضى بما جرى به قدره، وإن لم يكن ملائماً للطبع ولا مشتهى للنفس فالخيرة في الواقع (وقال تعالى: انفروا) أي: اخرحوا (خفافاً وثقالاً) شمالاً وشيوخاً أو نشاطاً وغير نشاط، أو ركباناً ومشاة، أو فقراء وأغنياء، أو قليلي العيال وغير قليل، أو خفافاً من السلاح وثقالاً منه، أو أصحاء ومرضى، أو مسرعين بعد الاستعداد، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله بشراء آلات الحرب وبذل النفس إعزازاً لدين الله (وقال تعالى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم) التي هو خلقها (وأموالهم) التي هو رزقها (بأن لهم الجنة) قيل: هو (¬3) تمثيل لإثابة الله من بذل نفسه وماله في سبيله على هذا البذل بالجنة (يقاتلون في سبيل الله فيقتلون) الأعداء (ويقتلون) في ميدان الحرب، والجملة مستأنفة لبيان ما لأجله الشراء (وعداً عليه حقاً) مصدران مؤكدان، فإن الاشتراء بالجنة مستلزم الوعد بها (في التوراة) حقاً (والإِنجيل والقرآن) أي: هذا الوعد الموعود به المجاهد ثابت فيهما، كما هو ثابت في القرآن. قال بعضهم: الأمر بالجهاد ثابت في جميع الشرائع، وقال بعض: بين فيهما أنه اشترى من أمة محمد أنفسهم وأموالهم بالجنة كما بين في القرآن (ومن أوفى بعهده من الله) أي: لا أحد أوفى بعهده منه فهو كقوله تعالى: (ومن أصدق من الله قيلاً) (¬4) (فاستبشروا بيعكم الذي بايعتم به) أي: افرحوا به غاية الفرح فإنه موجب للفرح الأبدي (وذلك هو الفوز العظيم) نزلت حين قال عبد الله بن رواحة وأصحابه ليلة العقبة ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآية: 41. (¬2) سورة التوبة، الآية: 111. (¬3) هو أي البيع والشراء المدلول عليهما بأشتري. ع. (¬4) سورة النساء، الآية: 122.

وقال تعالى (¬1) : (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) ـــــــــــــــــــــــــــــ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم. قالوا: فما لنا؟ قال: الجنة. قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل (وقال تعالى: لا يستوي القاعدون) عن الجهاد (من المؤمنين غير أولي الضرر) بالرفع صفة القاعدون فإنه ما أراد به قوماً معيناً فهو كالنكرة أو بدل، ومن قرأ منصوباً فهو حال أو استثناء، وبالجر صفة المؤمنين أو بدل منه كما مر في الرفع نزلت أولاً (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله) إلى آخر الآية فجاء ابن أم مكتوم وهو أعمى فقال: يا رسول الله فكيف بمن لا يستطيع الجهاد فغشي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مجلسه، ثم سري عنه فقرأ لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر (وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) أي: لا مساواة بينهم وبين من قعد عن الحرب غير أولي الضرر (فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين) غير أولي الضرر صرّح به ابن عباس (¬2) والحديث الصحيح يدل عليه (درجة) الجملة موضحة لما نفي الاستواء فيه ونصب درجة بنزع الخافض أي: بدرجة عظيمة تندرج تحتها الدرجات، أو على المصدر، لأنه تضمن معنى التفضيل (وكلاً) أي: من القاعدين لغير عذر والمجاهدين (وعد الله الحسنى) الجنة والجزاء الجزيل (وفضل الله المجاهدين على القاعدين) بلا عذر (أجراً عظيماً) ثم أبدل منه قوله (درجات منه ومغفرة ْورحمة) كل واحد منهما بدل من أجر، أو كرر تفضيل المجاهدين، وبالغ فيه إجمالاً وتفصيلاً تعظيماً للجهاد وترغيباً فيه، وقيل: الأول: ما خولهم به في الدنيا من الغنيمة والظفر وجميل الذكر. والثاني: ما جعل لهم في الآخرة، وقيل: المراد بالدرجة ارتفاع منزلتهم عند الله، ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآيتان: 95، 96. (¬2) لعله يريد أنها قراءة لابن عباس. ع.

وَقَالَ تَعَالَى (¬1) : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) والآياتُ في آلْبابِ كَثيرَة مَشْهورَة. وأَمًا الْأحَاديثُ في فَضْلِ الْجِهادِ فَأكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ، فَمِنْ ذَلِكَ: ـــــــــــــــــــــــــــــ وبالدرجات منازلهم في الجنة، وقال بعض المفسرين: القاعدون. الأول: هم الأضراء أي: هم أولو الضرر فإن المجاهدين أفضل منهم بدرجة واحدة؛ لأن لهم نية بلا عمل وللمجاهدين نية وعمل والقاعدون. الثاني: هم غير أولي الضرر فإن بين المجاهدين وبينهم درجات كثيرة، وهذا خلاف ما قدمناه (وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكنم من عذاب أليم) المراد به عذاب الله مطلقاً (تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم) استئناف مبين للتجارة كأنهم قالوا: دلنا يا ربنا فقال: تؤمنون إلخ (ذلكم) أي: المذكور من الإيمان والجهاد (خير لكم إن كنتم تعلمون) أي: إن كنتم غير جاهلين (يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم) جواب الشرط مقدر؛ لكونه جواباً للأمر المذكور بلفظ الخبر، للمبالغة أي: آمنوا وجاهدوا فإن تؤمنوا وتجاهدوا يغفر لكم، وسميت جنة عدن؛ لخلود المؤمن فيها يقال: عدن بالمكان إذا أقام فيه (وأخرى) أي: ولكم نعمة أخرى (تحبونها) فإن الأمر العاجل محبوب للنفوس (نصر من الله) بدل أو بيان (وفتح قريب) عاجل (وبشر المؤمنين) يا محمد بثواب الدارين عطف على تؤمنون فإنه بمعنى آمنوا ويكون جواباً للسؤال. وزيادة كأنهم قالوا: دلنا يا ربنا قيل: آمنوا يكن لكم كذا وبشرهم يا محمد بثبوته، وقل عطف على محذوف أي: قل يا أيها الذين آمنوا وبشر (والآيات في فضل الجهاد في الكتاب) أي: القرآن (كثيرة) يؤدي استيعابها إلى طول زائد (مشهورة) واضحة (وأما الأحاديث) النبوية (في فضل الجهاد فأكثر من أن تحصر) ؛ لكثرتها (فمن ذلك) أي: فبعض المذكور ما ثبت. ¬

_ (¬1) سورة الصف، الآيات: 10-13.

1285- وعن أَبي ذرّ - رضي الله عنه -، قَالَ: قُلْتُ: يَا رسول الله، أيُّ العَمَلِ أفْضلُ؟ قَالَ: "الإيمَانُ بِاللهِ، وَالجِهَادُ في سَبِيلهِ" متفقٌ عَلَيْهِ (¬1) . 1286- وعن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "لَغَدْوَةٌ في سَبيلِ اللهِ، أَوْ رَوْحَةٌ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا" متفقٌ عَلَيْهِ (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1285- (وعن أبي ذر رضى الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أى الأعمال أفضل) هو كالعمل في اللذين قبله؛ لأن أل الجنسية تبطل معنى الجمعية وتصيره كالواحد، ويدل عليه قوله (قال: الإِيمان بالله) أي: ورسوله فاكتفى بما ذكر عن قرينه لتلازمهما شرعاً ولجمع إليه الضمير في قوله: (والجهاد في سبيله) وذلك لأنه ولو كان باقياً على معنى الجمعية لأجاب بثلاث فما فوقها، ولا يلزم من كون المذكورين فيه أفضل الأعمال تساويهما فيها، يخالف ما قبله يقال: أفضل علماء البلد زيد وعمر وإن تفاوتا فيما بينهما (متفق عليه) وتقدم أن اختلاف الأفضل في الأخبار إما باعتبار حال السائل، أو باعتبار زمن الجواب أو نحو ذلك. 1286- (وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لغدوة) بفتح المعجمة وسكون المهملة قال في النهاية: الغدوة المرة من الغدو وهو سير أول النهار نقيض الرواح. اهـ واللام مؤذنة بالقسم المقدر أتى بها لتأكيد الأمر عند السامع، وقال العيني: هي لام التأكيد لا لام القسم (في سبيل الله) ظرف لغو متعلق بغدوة أو مستقر صفة لها (أو) للتنويع لا للشك، قاله العيني (روحة) بفتح المهملتين وسكون الواو بينهما المرة من الرواح (خير من الدنيا وما فيها) وذلك للثواب المرتب على كل منهما، وقد ورد أن أقل أهل الجنة منزلة من يعطى قدر الدنيا عشر مرات فما بالك بأوساطهم، فضلاً عن أعلاهم، والتفضيل بينه وبين الدنيا باعتبار ما استقر في النفوس من حب الدنيا ورؤيا خيرها، وإلّا فلا مناسبة بين ديني عظيم ثوابه باقٍ وبين دنيوي مخدج فانٍ، لكنه - صلى الله عليه وسلم - خاطبنا بما نألف. ويحتمل أن يكون المراد، أن هذا القدر من الثواب خير من الثواب الذي يحصل لمن حصلت له الدنيا وأنفقها في طاعة الله غير الجهاد (متفق عليه) . ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: العتق، باب: أي الرقاب أفضل (5/105) . وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: بيان كون الإِيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، (الحديث: 136) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: الغدوة والروحة في سبيل الله (6/11) . وأخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: فضل الغدوة والروحة في سبيل الله، (الحديث: 112) .

1287- وعن أَبي سعيدٍ الخدريِّ - رضي الله عنه -، قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: أيُّ النَّاسِ أفْضَلُ؟ قَالَ: "مُؤْمنٌ يُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ في سَبيلِ اللهِ" قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "مُؤْمِنٌ في شِعبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ اللهَ، وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ" متفقٌ عَلَيْهِ (¬1) . 1288- وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "رِبَاطُ يَوْمٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ 1287- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أتى رجل) قال الحافظ في الفتح: لم أقف على اسمه، وقد سبق أن أبا ذر سأل عن مثل ذلك (إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: أي الناس أفضل) أي: أكثر ثواباً (قال: مؤمن يجاهد) الكفار (بنفسه وماله) بأن يبذلهما لله تعالى طلباً لمرضاته (في سبيل الله) قال العيني في شرح البخاري: أي: أفضل الناس مؤمن مجاهد، قالوا: هذا عام مخصوص والتقدير من أفضل الناس، وإلا فالعلماء أفضل وكذا الصديقون، كما تدل عليه الأحاديث، ويدل له أن في بعض طرق النسائي لحديث أبي سعيد "أن من خير الناس رجلاً عمل في سبيل الله على ظهر فرسه". اهـ (قال: ثم من؟ قال: مؤمن في شعب من الشعاب) ابتدأ بالنكرة فيهما؛ لكونها للتنويع فهو كقوله: فيوم لنا ويوم علينا، والشعب بكسر المعجمة وسكون المهملة قيل: هو الطريق وقيل: الطريق في الجبل وجمعه شعاب وذكره جري على الغالب، من تيسر الخلوة فيه عن الناس فالمراد: هي لا هو بخصوصه، وقوله: (يعبد الله ويدع الناس من شره) خبر بجملة بعد خبر بمفرد، أو جملة حالية من الضمير المستقر في الظرف، أو مستأنفة جواب عن سؤال تقديره ماذا يعمل فيه. والحديث تقدم مشروحاً في باب العزلة، وتقدم بلفظ "رجل يعتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه" وفي رواية "يتقي الله ويدع الناس من شره" (متفق عليه) . 1288- (وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: رباط) بكسر الراء مصدر كالمرابطة، وإضافته إلى (يوم) (¬1) على معنى في كقوله تعالى: (تربص أربعة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: أفضل الناس مؤمن ... الخ (6/4) . وأخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: فضل الجهاد والرباط، (الحديث: 122) . (¬1) قوله: يوم فيه دلالة على صدق الرباط على يوم واحد خلافاً لمالك في قوله أقله أربعون يوماً.

فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنَ الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا العَبْدُ في سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى، أَوْ الغَدْوَةُ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا" متفقٌ عَلَيْهِ (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ أشهر) (¬2) (في سبيل الله) (¬3) في محل الصفة لرباط (خير من الدنيا وما عليها) عبر بفي في الحديث قبله وبعلى هنا؛ تفنناً في التعبير. ويحتمل أن يكون من نيابة الحرف الجار عن مثله، كما هو مذهب الكوفيين. قال العيني: وفائدة العدول عن في إلى على أن معنى الاستعلاء أعم من الظرفية وأقوى فقصد؛ لزيادة المبالغة (وموضع سوط أحدكم من الجنة) أي: هذا القدر اليسير منها، (خير من الدنيا وما فيها) من الزهرات والشهوات والمستلذات؛ لأنه فانٍ لا بقاء له (والروحة يروحها العبد في سبيل الله تعالى) بائعاً لنفسه من الله تعالى بالجنة، والرضى منه تعالى (والغدوة) حذف الجملة الواقعة صفة أو حالاً اكتفاء بدلالة قرينتها عليها (خير من الدنيا وما عليها) خبر عنهما وأفرد؛ لأنه أفعل تفضيل مجرد من أل والإِضافة، وإذا كان كذلك يجب إفراده وتذكيره، أخبر أن صغير الزمان وصغير المكان في الآخرة خير من طويل الزمان وكبير المكان في الدنيا، تزهيداً فيها وتصغيراً لها، وترغيباً في الجهاد، إذ بهذا القليل يعطيه الله في الآخرة أفضل من الدنيا وما فيها، فما ظنك بمن أتعب نفسه وأنفق ماله، وقال القرطبي: أي: الثواب الحاصل على مشيئة واحدة في الجهاد خير لصاحبها من الدنيا وما فيها لو جمعت له بحذافيرها، والظاهر أنه لا يختص ذلك بالغدو والرواح من بلدته، بل يحصل هذا الثواب بكل غدوة أو روحة في طريقه إلى الغزو. قال المصنف: وكذا غدوة أو روحة في موضع القتال؛ لأن الجميع يسمى غدوة وروحة في سبيل الله (متفق عليه) ورواه أحمد والترمذي. وقال: حديث حسن صحيح، ثم هذا الحديث فيه فضل الرباط، وهو ملازمة المكان الذي بين المسلمين والكفار لحراسة المسلمين منهم، وقال العيني: الرباط هو المرابطة، وهي ملازمة ثغر الحدود، قال ابن قتيبة: أصل الرباط أن يربط هؤلاء خيولهم وهؤلاء خيولهم في الثغر، كل يعد لصاحبه واشترط ابن التين أن يكون غير وطنه ونقله عن ابن حبيب عن مالك، ونظر فيه العيني بأنه قد ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: فضل رباط يوم في سبيل الله (6/11، 64) . وأخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: فضل الغدوة والروحة في سبيل الله، (الحديث: 113) . (¬2) سورة البقرة، الآية: 226. (¬3) السبيل يضاف كثيراً إلى الله والمراد به كل عمل خالص يتقرب به إليه لكن غلب إطلاقه على الجهاد حتى صار حقيقة شرعية فيه في كثير من المواطن. ع.

1289- وعن سَلمَانَ - رضي الله عنه -، قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: "رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ الفَتَّانَ" رواه مسلم (¬1) . 1290- وعن فَضَالَةَ بن عُبَيْدٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ يكون بوطنه وينوي بالإِقامة فيه دفع العدو، ويقال: الرباط المرابطة في نحور العدو وحفظ ثغور الإِسلام، وصيانتها عن دخول الأعداء إلى حوذة بلاد المسلمين. 1289- (وعن سلمان) هو الفارسي (رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: رباط يوم وليلة) هو ظاهر فيما ذهب إليه ابن مالك، في آخرين من مجيء الإِضافة على معنى في أيضاً كما تقدم. ومن منع ذلك قال: هي فيه على معنى اللام والإِضافة لأدنى ملابسة (خير من صيام شهر وقيامه) وذلك لأن نفع الرباط متعد وعام ونفعها قاصر خاص (وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمل) أي: أجر ما كان يعمله حال رباطه، وأجر رباطه قاله القرطبي (وأجري عليه رزقه) أي: يرزق من الجنة، كما ترزق الشهداء الذين تكون أرواحهم في حواصل الطير تأكل من ثمر الجنة. ذكر المصنف نحوه (وأومن) هو وما قبله بالبناء للمفعول، وضبط أمن بالبناء للفاعل أيضاً بلا واو حكاه العلقمي عن السيوطي (الفتان) بفتح الفاء وتشديد الفوقية، أي: فتان القبر، ففي رواية لأبي داود في سننه "وأمن من فتاني القبر" بصيغة المثنى، وهو مراد من رواية مسلم؛ لأن المفرد المحلى بأل الجنسية يصدق بالواحد والمتعدد، وضبط أيضاً بضم الفاء جمع فتن. قال القرطبي: وتكون أل للجنس، أي: كل ذي فتنة، وقال العلقمي: المراد فتان القبر من إطلاق الجمع على اثنين أو على أنهم أكثر من اثنين، فقد ورد أن فتان القبر ثلاثة أو أربعة، وقد استدل غير واحد بهذا الحديث على أن المرابط لا يسأل في قبره كالشهيد، وقال الشيخ ولي الدين العراق: المراد به مسألة منكر ونكير. قال: ويحتمل أن يراد أنهما لا يجيئان إليه ولا يختبرانه بالكلية، ويكتفي بموته مرابطاً في سبيل الله شاهداً على حصة إيمانه، ويحتمل إنهما يجيئان إليه لكنه يأنس بهما بحيث أنهما لا يضرانه ولا يروعانه، ولا يحصل له بسبب مجيئهما فتنة، اهـ. (رواه مسلم) . 1290- (وعن فضالة) بفتح الفاء، وتخفيف الضاد المعجمة واللام (ابن عبيد) بصيغة ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: فضل الرباط في سبيل الله عز وجل، (الحديث: 163) .

رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلاَّ المُرَابِطَ فِي سَبيلِ اللهِ، فَإنَّهُ يُنْمى لَهُ عَمَلهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَيُؤَمَّنُ فِتْنَةَ القَبْرِ" رواه أَبُو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح (¬1) . 1291- وعن عثمان - رضي الله عنه -، قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: ـــــــــــــــــــــــــــــ مصغر، عبد بن نافذ بن قيس الأنصاري الأوسي (رضي الله عنه) أول ما شهد أحداً، وشهد ما بعدها من المشاهد ومنها: بيعة الرضوان، وشهد فتح مصر، ثم نزل دمشق وولي قضاها لمعاوية، ومات سنة ثمان وخمسين، وقيل: قبلها، كذا في التقريب للحافظ. وفيه خرج له البخاري في التاريخ ومسلم، والأربعة روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسون حديثاً، روى مسلم منها حديثين. اهـ، ودفن بباب الصغير من دمشق سنة ثلاث وخمسين، وقيل: تسع وستين، والصحيح الأول فقد نقلوا أن معاوية حمل نعشه، وقال لابنه: أعني يا بني فإنك لا تحمل بعده مثله، وتوفي معاوية سنة ستين قاله المصنف في التهذيب. (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كل ميت يختم على عمله) فلا يزداد ثواباً ولا عقاباً (إلا المرابط) بالنصب على الاستثناء (في سبيل الله) ثم بين وجه الاستثناء بقوله (فإنه ينمي) بفتح أوله، وسكون النون، وتخفيف الميم المكسورة وبالياء (¬2) قال السيوطي في قوت المغتذى: قال العراقي: كذا وقع في رواية الترمذي بياء في آخره وفي رواية أبي داود "ينمو" بالواو، والأفصح ما هنا وهو الذي ذكره ثعلب في الفصيح. اهـ أي: يزداد (له عمله إلى يوم القيامة) بتنمية ثوابه والزيادة فيه ْ (ويؤمن من فتنة القبر) فلا يسأله الملكان عن إيمانه بل موته مرابطاً آية إيمانه كما تقدم (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيحاً ورواه الطبراني في الكبير وأبو نعيم في الحلية من حديث العرباض بن سارية، بلفظ "كل عمل منقطع عن صاحبه إذا مات، إلَّا المرابط في سبيل الله فإنه ينفي له عمله ويجري عليه رزقه إلى يوم القيامة" أورده في الجامع الصغير. 1291- (وعن عثمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: رباط يوم في ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: في فضل الرباط، (الحديث: 2500) . وأخرجه الترمذي في كتاب: فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فضل من مات مرابطاً، (الحديث: 1621) (¬2) وفي الصحاح قال الكسائي: ولم أسمعه بالواو إلا من أخوين من بني سليم ثم سألت عنه بني سليم فلم يعرفوه بالواو وحكى أبو عبيدة نما ينمو وينمى اهـ. ع.

"رِبَاطُ يَوْمٍ في سَبيلِ اللهِ، خَيْرٌ مِنْ ألْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ المَنَازِلِ" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" (¬1) . 1292- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَضَمَّنَ الله لِمَنْ خَرَجَ في سَبيلِهِ، لا يُخْرِجُهُ إِلاَّ جِهَادٌ في سَبيلِي، وَإيمَانٌ بِي، وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي، فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ أنْ أُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، أَوْ أُرْجِعَهُ إِلَى مَنْزِلهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ بِمَا نَالَ مِنْ أجْرٍ، أَوْ غَنيمَةٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل) قال الحافظ في الفتح: نقلاً عن ابن بريرة، لا تنافي بينه وبين حديث "خير من صيام شهر"، لأنه يحمل على الإعلام بالزيادة في الثواب على الأول، أو باختلاف العاملين. اهـ قال العلقمي: أو باختلاف العمل قلة وكثرة. قال البيهقي في الشعب: القصد من هذا ونحوه الإِخبار بتضعيف أجر المرابط على غيره، ويختلف ذلك بحسب اختلاف حال الناس نيةً وإخلاصاً، وباختلاف الأوقات (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) وقال الحافظ في الفتح: ورواه أحمد وابن حبان، وفي الجامع الصغير ورواه النسائي والحاكم في المستدرك. 1292- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تضمن الله) أي: التزم فضلا وإحساناً (لمن خرج في سبيله (¬2) لا يخرجه إلا جهاد (¬3) في سبيلي وإيمان بي) أي: بوعدي (وتصديق برسلي) أي: بأخبارهم، وبنبوتهم ورسالتهم، وجملة لا يخرجه الخ في محل الحال من فاعل خرج (فهو) أي: الله تعالى (ضامن) أي ملتزم تفضلاً وكرماً لمن كان كذلك (أن أدخله الجنة) ابتداءً من غير سابقة عذاب، أي: إن قتل في الحرب (أو أرجعه) بفتح الهمزة، من رجع المتعدي، ومنه قوله تعالي: (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم) (¬4) الآية (إلى منزله الذي خرج منه) للجهاد مصحوباً (بما نال) أي: بالذي ناله (من أجر) أخروي (أو غنيمه) أصابها من مال الكفار، ويصح أن يكون ضامن بمعنى مضمون، كماء ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب: فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فضل المرابط، (الحديث: 1667) . (¬2) يمكن أن يقال إن في الكلام حذفاً تقديره بقوله: إن علي عهداً لمن خرج في سبيلي لا يحرجه. (¬3) وفي كثير من النسخ جهاداً وإيماناً وتصديقاً بالنصب فيكون على أنه مفعول له أي لا يخرجه المخرج إلا الجهاد الخ وقوله فهو ضامن الأولى أن تكون من كلام الله تعالى جواباً عن شرط فقدر تقديره من كان كذلك فهو على ضامني أن أدخله الخ كما في العمدة ونسخة قديمة من شرح مسلم. (¬4) سورة التوبة، الآية: 83.

وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا مِنْ كَلْمٍ يُكْلَمُ في سَبيلِ اللهِ، إِلاَّ جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ كُلِم؛ لَوْنُهُ لَوْنُ دَمٍ، وَرِيحُهُ ريحُ مِسْكٍ. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــ دافق أي: مدفوق أو بمعنى ذو ضمان أي: حفظ ورعاية كلابن وتامر وعليهما، فضمير هو راجع إلى الغازي، هذا واختلف في معنى أو فقيل للتقسيم أي: بأجر فقط وهو لمن لم يغنم وتارة بغنيمة فقط. قال العيني: وليس كذلك بل هو راجع بالأجر كانت غنيمة، أو لا. قاله ابن بطال، ويدل لأجره مطلقاً حديث ابن عمرو بن العاص مرفوعاً "ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة، وبقي لهم الثلث فإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم" فهذا يدل على أنه لا يرجع بدون أجر، لكن ينقص أجر من أصاب الغنيمة، وتضعيف هذا الحديث بحميد بن هانىء وهو غير مشهور، رد بأنه غير ملتفت إليه فهو ثقة محتج به عند مسلم، ووثقه النسائي وابن يونس وغيرهما، ولا يعرف فيه تجريح لأحد، وفي رواية البخاري من حديث أبي هريرة "وتوكل الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالماً مع أجره أو غنيمة" قال العيني: أي: ضمن الله بملابسة التوفي إدخال الجنة، وبملابسة عدم التوفي الرجوع بالأجر أو الغنيمة. قال الكرماني: يعني لا يخلو من الشهادة أو السلامة، فعلى الأول: يدخل الجنة بعد الشهادة في الحال، وعلى الثاني: لا ينفك عن أجر أو غنيمة، مع جواز الجمع بينهما في قضية مانعة خلو لا مانعة جمع. قال: ولفظ الضمان والتكفل والتوكيل والانتداب الواقعة في الأحاديث كلها بمعنى تحقيق الوعد على وجه الفضل منه. وعبّر عليه الصلاة والسلام عن تفضل الله سبحانه وتعالى بالثواب بلفظ الضمان ونحوه مما جرت به العادة بين الناس؛ لتطمئن به النفوس وتركن إليه القلوب (والذي نفس محمد) أظهر مكان الإِضمار؛ لفخامة هذا الاسم فهو كقول الخليفة الخليفة فعل كذا دون فعلت (بيده) أي: بقدرته، وفيه ندب القسم لتأكيد الأمر عند السامع (ما من كلم) أي: جرح، والتنكير للإِشاعة فيصدق بالقليل منه والكثير (يكلم) بالبناء للمفعول (في سبيل الله) الظرف مستقر في محل الحال، والمراد به الجهاد، ومثله كل من جرح في ذات الله وكل ما دافع فيه المرء بحق فأصيب فهو مجاهد (إلا جاء يوم القيامة كهيئة) أي: جاء حال كونه مماثلاً لهيئته (يوم كلم) أي: في الدنيا وبين وجه الشبه على طريقة الاستئناف البياني بقوله (لونه لون دم وريحه ريح مسك) وروى البخاري هذه الجملة القسمية من حديث أبي هريرة أيضاً بلفظ "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة واللون لون دم والريح ريح المسك" وجملة لونه لون دم حالية. وفي الحديث: أن الشهيد يبعث في حالته

لَوْلاَ أنْ يَشُقَّ عَلَى المُسْلِمِينَ مَا قَعَدْتُ خِلاَفَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو في سَبيلِ اللهِ أبداً، وَلكِنْ لاَ أجِدُ سَعَةً فأحْمِلُهُمْ وَلاَ يَجِدُونَ سَعَةً، وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ أنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي. وَالَّذِي نَفْس مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوَدِدْتُ أنْ أغْزُوَ في سَبيلِ اللهِ، فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أغْزُوَ فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أغْزُوَ فَأُقْتَلَ"، ـــــــــــــــــــــــــــــ التي قبض عليها، والحكمة فيه أن يكون معه شاهد فضيلته ببذل نفسه في طاعة ربه ويشهد له على ظالمه بفعله، وفائدة رائحته الطيبة أن ينشهر في أهل الموقف إظهاراً لفضله (والذي نفس محمد بيده) أعاد جملة القسم؛ لأن المقسم عليه ثانياً غير المقسم عليه أولاً (لولا أن أشق على المسلمين) أي: العاجزين عن الخروج للجهاد (ما قعدت خلف سرية) منصوب على الظرفية، بدليل رواية مسلم الآخرى "ما قعدت خلف سرية" وبه فسر المصنف هذا الحديث في شرح مسلم، أو على الحال أي: مخالف سرية بأن يخالف فعلى فعلها فتذهب وأقيم، والسرية القطعة من الجيش يبلغ أقصاها أربع مائة، تبعث إلى العدو، وجمعها سرايا سموا بذلك؛ لأنهم خلاصة العسكر وخيارهم من السرى وهو الشيء النفيس وجملة (تغزو في سبيل الله) في محل الصفة لسرية (أبداً) أي: في زمان من الأزمنة الآتية (ولكن) استدراك من حاصل الكلام السابق ببيان المانع عن خروجه مع كل (لا أجد سعة) بفتح أوليه المهملين، أي: ما يسع سائر المسلمين (فاحملهم) بالنصب في جواب النفي (ولا يجدون سعة) فيخرجوا بأنفسهم (ويشق عليهم أن يتخلفوا عني) لما فيه من فقدهم الاجتماع عليه - صلى الله عليه وسلم - تلك المدة، مع فوات أجر الغزو الذي تخلفوا عن شهوده (والذي نفس محمد بيده لوددت) بكسر الدال الأولى (أن أغزو في سبيل الله فأقتل) بالنصب عطفاً على المنصوب قبله (ثم أغزو فاقتل ثم أغزو فاقتل) ولفظ البخاري من طريق الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة قال: "سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: والذي نفسي بيده لولا أن رجالاً من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني، ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل" قال العيني: استشكل بعضهم صدور هذا اليمين من النبي - صلى الله عليه وسلم -، مع علمه بأنه لا يقتل. وأجاب ابن المنير بأنه لعنه كان قبل نزول قوله تعالى: (والله يعصمك من الناس) (¬1) وأعترض بأن نزولها كان أوائل قدومه المدينة، وقد صرح أبو هريرة بسماعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو إنما قدم أوائل سنة سبع. وأجاب بعضهم بأن تمني الفضل والخير لا يستلزم الوقوع. قال العيني: أو ورد على المبالغة في فضل الجهاد والقتل فيه. وجاء عن أنس ¬

_ (¬1) سورة المائدة، الآية: 67.

رواه مسلم، وروى البخاري بعضه. "الكَلْمُ": الجَرْحُ (¬1) . 1293- وعنه، قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَم في سَبيِلِ الله إِلاَّ جَاءَ يَومَ القِيَامةِ، وَكَلْمُهُ يدْمِي: اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، وَالرِّيحُ ريحُ مِسكٍ" متفقٌ عَلَيْهِ (¬2) . 1294- وعن معاذٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ قَاتَلَ في سَبِيلِ الله من رَجُلٍ مُسْلِمٍ فُوَاقَ نَاقَةٍ، وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ، وَمَنْ جُرِحَ جُرْحاً في سَبِيلِ اللهِ ـــــــــــــــــــــــــــــ مرفوعاً في الشهيد "أنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة" رواه مسلم وسيأتي، وروى الحاكم بسند صحيح عن جابر "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر أصحابه الذين استشهدوا في أحد قال: والله لوددت أني غودرت مع أصحابي بفحص الجبل وفحص الجبل ما بسط منه وكشف من نواحيه". اهـ (رواه مسلم) في الجهاد (وروى البخاري بعضه) بل كله بنحوه، لكن مفرقاً كما علمت (الكلم) بفتح فسكون (الجرح) كذلك. 1293- (وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من مكلوم) أي: مجروح (يكلم) بالبناء للمفعول، فيعم ما كان الكلم من الكفار وما كان من غيرهم، كدق حجر أو شجر أو عود (في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمى) جملة حالية مصدرة بواو الحال وقوله (اللون لون دم والريح ريح مسك) جملة حالية أيضاً من فاعل يدمى، أو مستأنفة استئنافاً بيانياً جواب سؤال، تقديره كيف صفة ذلك (متفق عليه) اقتصر السيوطي في الجامع الكبير على عزوه للبخاري، ولم أر هذا اللفظ في باب من يخرج في سبيل الله من البخاري، ولا في فضل الجهاد من صحيح مسلم والله أعلم. 1294- (وعن معاذ رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قاتل في سبيل الله من رجل مسلم) من فيه بيانية للإِبهام الذي في من (فواق ناقة) بضم الفاء وتخفيف الواو وآخره قاف، وسيأتي معناه: وهو كناية عن قليل الجهاد (وجبت له الجنة) ففيه بشارة لمن جاهد في سبيل الله طلباً ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: فضل الجهاد والخروج في سبيل الله، (الحديث: 103) . وأخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: من يخرج في سبيل الله عز وجل (6/154) ، وباب. تمني المجاهد أن يرجع إلى الدنيا وتمني الشهادة وغيرها مع اختلاف في الألفاظ. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الذبائح، باب: المسك واللفظ له (9/569 و6/15) . وأخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: فضل الجهاد والخروج في سبيل الله، (الحديث: 103) .

أَوْ نُكِبَ نَكْبَةً فَإنَّهَا تَجِيءُ يَوْمَ القِيَامَةِ كَأَغزَرِ مَا كَانَتْ؛ لَونُها الزَّعْفَرَانُ، وَريحُها كَالمِسْكِ" رواه أَبُو داود والترمذي، وقال: "حديث صحيح (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ لمرضاة الله بالموت على الإِسلام إذ لا تجب الجنة لغيره (ومن جرح) بالبناء للمجهول (جرحاً في سبيل الله) ظرف لغو متعلق بجرح، أو مستقر في محل الوصف للمصدر والأول أولى. قال في الكشاف في قوله تعالى: (ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض) (¬2) إن قلت الظرف متعلق بالفعل، أو بالمصدر قلت بالفعل، وإذا جاء نهر الله بعلل نهر معقل (أو نكب نكبة) بضم النون وسكون الكاف، ثم موحدة وحذف الظرف المعتبر فيها أيضاً اكتفاءً بدلالة ذكره في قرينتها على ذلك، وهي كما قال ابن الأثير: ما يصيب الإِنسان من الحوادث، وقال الجوهري: النكبة واحدة نكبات الدهر يقال أصابته نكبة. اهـ وعطفها على الجرح من عطف العام على الخاص، وقد ترجم البخاري في صحيحه لكل منهما باباً فقال: باب من ينكب في سبيل الله ثم باب من يجرح في سبيل الله (فإنها) أي: المرة من الجرح أو النكبة، أو فإن النكبة وأعيد الضمير إليها؛ لقربها ولأنها تعم ما قبلها (تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت لونها لون الزعفران) والكاف في كأغزر مزيدة وما مصدرية، أي: تجيء ودمها أغزر مما كانت في غير ذلك الوقت، فالوقت مقدر قاله العاقولي (وريحها كالمسك) وهذا محمول على ما كان منها ذا مادة كجرح ونحوه، ولا يخالف ما ورد من أن لونها لون الدم؛ لجواز جمعه لكل من الحمرة والصفرة، أو لأن الأمر فيهما تقريبي، وأغزر أفعل تفضيل من الغزارة بالغين والزاي المعجمتين، وهي الكثرة يقال: غزر الماء بالضم غزراً وغزارة فهو غزير، كذا في المصباح (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث صحيح) وفي نسخة: حسن صحيح، وأورده في الجامع الكبير وزاد بعد قوله: "من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة، ومن سأل الله القتل من نفسه صادقاً ثم مات أو قتل فإن له أجر شهيد، وقال: في آخره: وريحها ريح المسك، وزاد: ومن خرج به خراج في سبيل الله كان عليه طابع الشهداء" أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال: صحيح، والنسائي وابن حبان والطبراني والبيهقي عن معاذ بن جبل، ورواه ابن ماجه والحاكم في المستدرك إلى قوله: أجر شهيد، وروى أحمد ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: فيمن سأل الله تعالى الشهادة، (الحديث: 2541) . وأخرجه الترمذي في كتاب: فضائل الجهاد، باب: من جاء فيمن يُكلم في سبيل الله، (الحديث: 1657) . (¬2) سورة الروم، الآية: 25.

1295- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ مِنْ أصْحَابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بِشِعبٍ فِيهِ عُيَيْنَةٌ مِنْ مَاءٍ عَذْبَة، فَأعْجَبَتْهُ، فَقَالَ: لَو اعْتَزَلْتُ النَّاسَ فَأقَمْتُ في هَذَا الشِّعْبِ، وَلَنْ أفْعَلَ حَتَّى أسْتَأْذِنَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فذكَرَ ذَلِكَ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: "لاَ تَفعلْ؛ فَإنَّ مُقامَ أَحَدِكُمْ في سَبيلِ اللهِ أفْضَلُ مِنْ صَلاَتِهِ في بَيْتِهِ سَبْعِينَ عَاماً، أَلاَ تُحِبُّونَ أنْ يَغْفِرَ الله لَكُمْ، وَيُدْخِلَكُمُ الجَنَّةَ؟ أُغْزُوا في سَبيلِ الله، ـــــــــــــــــــــــــــــ وابن زنجويه عن عمرو بن عنبسة مرفوعاً "من قاتل في سبيل الله فواق ناقة حرم الله على وجهه النار" اهـ. 1295- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: مر رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) لم أر من سماه (بشعب) بكسر فسكون، الطريق في الجبل (فيه عيينة) بضم المهملة، وتكسر إتباعاً للياء، تصغير عين وكأنه لقلة مائها وهي مؤنثة تأنيثاً معنوياً فلذا ظهرت التاء حال تصغيره (من ماء) صفة عُينية وكذا قوله (عذبة) بفتح فإسكان أي: سائغة الشراب، قال العاقولي: جيء بها ليلتذ السامع ويستروح إلى ذكرها، فكيف بالكون عندها، (فأعجبته) أي: العين (فقال: لو) للتمني ولذا لم يؤت لها بجواب، ويحتمل أنها للشرط، والجواب محذوف أي لو (اعتزلت الناس) أي: تركت الخلطة معهم (فأقمت في هذا الشعب) منفرداً أتعبد لكان أولى وأفضل، وجملة فأقمت معطوفة على جملة اعتزلت (ولن أفعل) شيئاً من الاعتزال والإِقامة (حتى أستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) غاية للفعل لمنفي، وجملة ولن أفعل معطوفة على لو ومدخولها، وفيه ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من لزوم الأدب معه - صلى الله عليه وسلم -، وأنه كان لا يبت (¬1) أحد منهم أمراً ولو في خاصته حتى يعرض ذلك عليه - صلى الله عليه وسلم -. (فذكر) عطف على مقدر أي فرجع من الشعب فذكر (ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: لا تفعل) هو نهي تنزيه عن المفضول وتحريض على ضده ولذا قال: (فإذا مقام أحدكم) مصدر ميمي أي: قيام أحدكم (في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاماً) هذا كان في ابتداء الأمر، ومثله ما إذا ألجأ الأمر للجهاد، بأن هجم الكفار على بلاد المسلمين، وخشي استيلاؤهم عليها، فالاشتغال بالجهاد حينئذٍ لما فيه من إنقاذ المسلمين أفضل من صلاة النافلة وذلك؛ لأنه نفع متعد، وأما إذا لم ينته الأمر لذلك فأفضل العبادات البدنية الصلاة كما قاله الجمهور (ألا) بتخفيف اللام أداة عرض (تحبون أن يغفر الله لكم) حذف المفعول؛ إيماءً للتعميم ¬

_ (¬1) يبت بضم الباء أي لا يقطع وتقال بالكسر شذوذاً لأن المضعف المكسور لم يتعد إلا قليلاً.

القَانتِ بآياتِ الله لا يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ، وَلاَ صَلاَةٍ، حَتَّى يَرْجِعَ المُجَاهِدُ في سَبِيلِ اللهِ" متفقٌ عَلَيْهِ، وهذا لفظ مسلمٍ. وفي رواية البخاري: أنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رسول الله، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الجِهَادَ؟ قَالَ: "لاَ أجِدُهُ" ثُمَّ قَالَ: "هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ المُجَاهِدُ أنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتقومَ وَلاَ تَفْتُرَ، وَتَصُومَ وَلاَ تُفْطِرَ"؟ فَقَالَ: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟! (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ معناه لكل ما قبله، ويصح كونها للتعدية متعلقة على سبيل التنازع بالقائم، أو بالقانت ويراد به القارىء، ومنه حديث "أفضل الصلاة طول القنوت" أي: القراءة على أحد قولين فيه أو يراد به المطيل للقيام. قال العاقولي: يطلق القنوت على القيام وعلى طوله، وقوله (لا يفتر) بضم الفوقية أي: لا يغفل (من صلاة ولا صيام حتى يرجع المجاهد في سبيل الله) أتى بالظرف إطناباً. (متفق عليه وهذا لفظ مسلم) في أواخر الجهاد من صحيحه (وفي رواية البخاري) أي: واللفظ في روايته، بنحو رواية مسلم وهو قوله: (أن رجلاً) قال الحافظ في الفتح: لم أقف على اسمه (قال: يا رسول الله دلني على عمل) التنوين فيه للتعظيم باعتبار ثوابه (يعدل الجهاد) بفتح التحتية (قال: لا أجده) أي: لا أجد عملاً يعدله من حيث الثواب، وهذا جواب السؤال (ثم قال) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - مستأنفاً مخاطباً للسائل عن ذلك (هل تستطِيع) أي: تقدر (إذا خرج المجاهد) أي: للحرب (أن تدخل مسجدك فتقوم) بالنصب عطفاً على الفعل قبله، وكذا الأفعال التي بعده (ولا تفتر) أي: تسكن عن حدتك قال في المصباح: فتر عن العمل فتوراً من باب قعد سكن عن حدته، ولان بعد شدته (وتصوم ولا تفطر) أي: تداوم على الصلاة والصوم مدة غيبته عن أهله (فقال) أي: ذلك الرجل (ومن يستطيع ذلك) استفهام إنكاري أي: لا طاقة بذلك، وهذا باعتبار العادة البشرية المألوفة، وإلا فذلك داخل تحت الإِمكان لا سيما لأرباب المجاهدات. قال السيوطي في التوشيح: ْإن قيل تقدم حديث ما لعمل في أيام أفضل منها في هذه الأيام يعني أيام العشر عشر ذي الحجة، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله. أجيب بأنه يحتمل أن يخص بهذا الحديث حديث الباب أو يحمل على ما في تتمة الحديث: إلا رجل خرج يخاطر بماله ونفسه فلم يرجع من ذلك بشيء. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: فضل الجهاد والسير، (الحديث: 2785) . وأخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: فضل الشهادة في سبيل الله تعالى، (الحديث: 110) .

1297- وعنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لَهُمْ، رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ فَرَسِهِ في سَبِيلِ اللهِ، يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ، كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً أَوْ فَزْعَةً طَارَ عَلَيْهِ يَبْتَغِي القَتْلَ وَالمَوْتَ مَظَانَّهُ أَوْ رَجُلٌ في غُنَيْمَةٍ في رَأسِ شَعَفَةٍ مِنْ هَذَا الشَّعَفِ، أَوْ بَطْنِ وَادٍ مِن الأَوْدِيَةِ، يُقِيمُ الصَّلاَةَ، وَيُؤتي الزَّكَاةَ، وَيَعْبُدُ رَبَّهُ حَتَّى يَأتِيَهُ اليَقِينُ، لَيْسَ مِنَ النَّاسِ إِلاَّ في خَيْرٍ" رواه مسلم (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1297- (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من خير معاش) أي: ما يعيش به (الناس لهم) الظرف الأول في محل الخبر لقوله (رجل ممسك بعنان فرسه) على تقدير مضاف أي: معاش رجل، والعنان بكسر المهملة وتخفيف النون بينهما ألف، اللجام. قال في المصباح: سمي بذلك لأنه يعن أي: يعترض الفم فلا يلجه، والظرف الثاني في محل الحال من الاستقرار في الأول (في سبيل الله) حال من ضمير ممسك (يطير) بفتح التحتية الأولى وسكون الثانية أي: يسرع (على متنه) بفتح فسكون للفوقية وبعدها نون أي: ظهره (كلما سمع هيعة) بنصب كل على الظرفية لطار المذكور بعد، والهيعة بفتح فسكون التحتية بعدها عين مهملة، هي الصوت للحرب (أو) للشك من الراوي (فزعة) قال المصنف: فيما تقدم هي نحو الهيعة (طار على متنه) وقوله: (يبتغي) أي: يطلب بإسراعه لذلك (القتل أو الموت) شك من الراوي، أي: في اللفظين الواردين، وعلى الثاني ففيه إيماء لفضل الموت في الحرب، ولو بغير القتل فبه أولى (مظانه) بفتح الميم والظاء المعجمة، وتشديد النون منصوب على الظرفية، أي: يطلبه في المحل الذي يظن وجوده فيه طلباً لمرضاة الله سبحانه وتعالى (ورجل) معطوف على المبتدأ بتقدير المضاف (في غنيمة) صفة لما قبله، أو متعلق بمعاش المقدّر إن جعل مصدراً، وهو تصغير غنم، وهي مؤنث معنوي فلذا برزت التاء في ْالتصغير (في رأس شعفة) بفتح الشين المعجمة والعين المهملة وبالفاء فالهاء (من هذه الشعف) في محل الصفة للمجرور قبله، أي: في أعلا جبلِ من هذه الجبال (أو) للتنويع في بطن واد من هذه الأودية) وذلك لتيسر الخلوة فيهما غالباً، وقوله: (يقيم الصلاة ويؤتى الزكاة ويعبد ربه) هو من عطف العام على الخاص (حتى يأتيه اليقين) أي: الموت جمل في محل الحال من الاستقرار في الظرف الوصفي (ليس من الناس) أي: من أحوالهم في حال من الأحوال (إلا في) حال (خير) فهو استثناء متصل مما قبله باعتبار المضاف المقدر (رواه مسلم) وتقدم مشروحاً في باب استحباب العزلة عند فساد الزمان. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: فضل الجهاد والرباط، (الحديث: 125) .

1298- وعنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إنَّ في الجنَّةِ مِئَةَ دَرَجَةٍ أعَدَّهَا اللهُ لِلْمُجَاهِدِينَ في سَبِيلِ اللهِ مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ" رواه البخاري (¬1) . 1299- وعن أَبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبّاً، وَبِالإسْلاَمِ ديناً، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً، وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ"، فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعيدٍ، فَقَالَ: أَعِدْهَا عَلَيَّ يَا رسولَ اللهِ، فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "وَأُخْرَى يَرْفَعُ اللهُ بِهَا العَبْدَ مِئَةَ دَرَجَةٍ في الجَنَّةِ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَينِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ", ـــــــــــــــــــــــــــــ 1298- (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله) الجملة الفعلية محتملة؛ لكونها خبرًا بعد الخبر الظرفي؛ ولكونها حالاً من الاستقرار في الخبر فتكون على تقدير قد ولكونها مستأنفة، وفيه عظيم فضل المجاهد وعظم عناية الله به، وأتى بلفظ الجلالة آخراً والمقام للإِضمار إظهاراً لتفخيم الجهاد إذا أضيف إلى الاسم العلم الأعظم (ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض) ما فيهما موصول اسمي وصلته في كل منهما الظرف، والمراد بذلك بيان علو منزلتهم في الجنة ورفعة مقامهم فيها (رواه البخاري) . 1299- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من رضي بالله رباً وبالإِسلام ديناً وبمحمد رسولاً وجبت له الجنة) أي: بدخولها إما ابتداءً مع الناجين أو بعد مكث في النار، ففيه إيماء إلى الموت على الإِسلام (فعجب لها أبو سعيد) اللام فيه للتعليل (فقال: أعدها علي يا رسول الله) استلذاذاً بذكر المحبوب (فأعادها عليه ثم قال) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - (وأخرى) أي: خصلة أخرى من البر (يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة) ظرفاً لعفو، متعلق بيرفع (ما بين كل درجتين) من المائة (كما بين السماء والأرض) جملة اسمية مسوقة لبيان عظم رفعة المجاهد، وعظم رتبته. قال السيوطي في الديباج: قال القاضي عياض: يحتمل أن هذا على ظاهره وأن الدرجات هناك المنازل التي بعضها أرفع من بعض في الظاهر، وهذه صفة منازل الجنة، كما جاء أهل الغرف وأنهم ليراءون كالكوكب الدري قال: يحتمل أن يكون المراد بالرفعة الرفعة في المعنى من كثرة تعدد النعم وعظيم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، باب: درجات المجاهدين لا سبيل الله (6/9 و10) .

قَالَ: وَمَا هيَ يَا رسول الله؟ قَالَ: "الجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ، الجهَادُ في سَبيلِ اللهِ" رواه مسلم (¬1) . 1300- وعن أَبي بكر بن أَبي موسى الأشعريِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبي - رضي الله عنه -، وَهُوَ بَحَضْرَةِ العَدُوِّ، يقول: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أبْوَابَ الجَنَّةِ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ" ـــــــــــــــــــــــــــــ الإِحسان مما لا يخطر على قلب بشر ولا يصفه مخلوق، وأن أنواع ما أنعم الله به عليهم من البر والكرامة تتفاضل تفاضلاً كثيراً، ويكون تباعدها في الفضل كما بين السماء والأرض في البعد. قال القاضي: والأول أظهر. قال المصنف: وهو كما قال والله أعلم، وقال القرطبي: ْالدرجة المنزلة الرفيعة، ويراد بها غرف الجنة ومراتبها التي أعلاها الفردوس. قال: ولا يظن من هذا أن درجات الجنة محصورة بهذا العدد؛ بل هي أكثر من ذلك ولا يعلم حصرها ْإلا الله تعالى، ألا ترى أن في الحديث الآخر يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها. فهذا يدل على أن في الجنة درجات عدد آي القرآن وهي تنوف على ستة آلاف، فإذا اجتمعت للإِنسان فضيلة الجهاد مع فضيلة القرآن جمعت له تلك الدرجات كلها وهكذا ما زادت أعماله اهـ (قال) أي: أبو سعيد (وما هي) أي: الخصلة المشار إليها بما ذكر (يا رسول الله قال: الجهاد في سبيل الله الجهاد في سبيل الله) كرره تعظيماً له وتحريضاً عليه، وهو بالرفع خبر محذوف أي: هو اكتفاءً بدلالة وجوده في السؤال (رواه مسلم) في الجهاد من صحيحه، ورواه فيه النسائي وكذا في عمل اليوم والليلة له. 1300- (وعن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري) . قال الحافظ في التقريب: إسمه عمرو أو عامر، ثقة من أوساط التابعين، مات سنة ست ومائة، وكان أسن من أخيه أبي بردة. خرج من حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي (قال: سمعت أبي رضي الله عنه وهو بحضرة العدو يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف) قال القرطبي: هذا من الكلام النفيس البديع، فإنه استفيد منه الحض على الجهاد والإِخبار بالثواب عليه، والحض على مقاربة العدو، واستعمال السيوف والاعتماد عليها، واجتماع المتقاتلين حين الزحف بعضهم لبعض، حتى تكون سيوفهم بعضها تقع على العدو وبعضها ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: بيان ما أعده الله تعالى للمجاهدين في الجنة من الدرجات، (الحديث: 116) .

فَقَامَ رَجُلٌ رَثُّ الهَيْئَةِ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُوسَى أأنْتَ سَمِعْتَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَرَجَعَ إِلَى أصْحَابِهِ، فَقَالَ: أقْرَأُ عَلَيْكُم السَّلاَمَ، ثُمَّ كَسَرَ جَفْنَ سَيْفِهِ فَألْقَاهُ، ثُمَّ مَشَى بِسَيْفِهِ إِلَى العَدُوِّ فَضَربَ بِهِ حَتَّى قُتِلَ. رواه مسلم (¬1) . 1301- وعن أَبي عبسٍ عبد الرحمان بن جَبْرٍ - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ في سَبيلِ اللهِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ" ـــــــــــــــــــــــــــــ ترتفع عليهم، حتى كأن السيوف أظلت الضاربين بها، والمراد أن الضارب بالسيف في سبيل الله يدخله الله الجنة بذلك. اهـ ملخصاً وتقدم سوقه بلفظه في آخر باب الصبر (فقام رجل رث الهيئة) بفتح الراء وتشديد المثلثة، أي: خلق الثياب، وهذا الرجل لم أقف على اسمه لا في شرح مسلم للمصنف ولا في شرح غيره (فقال: يا أبا موسى أأنت) بتخفيف الهمزتين، ويجوز تسهيل الثانية بقلبها ألفاً، كما هو كذلك في أصل مصحح من الرباض، وفي أخرى بألف واحدة بلا مد، وهو على نية حذف همزة الاستفهام (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: هذا) أراد بهذا الاستفهام المبالغة في تحقيق الخبر وقلة الوسائط بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن كثرتها مظنة الغلط والسهو وإلا فمرسل الصحابي حجة، كما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عبرة بمن خالف فيه، فألحقه بمرسل غيره (قال: نعم فرجع إلى أصحابه) وكأنه ليوصيهم بما عليه الوصية به ويودعهم ولذا قال: (فقال: أقرأ عليكم السلام) أي: مودعاً لكم (ثم كسر جفن سيفه) بفتح الجيم وسكون الفاء وبالنون أي: غلافه، وجمعه جفون وقد يجمع على جفان (فألقاه) وإنما فعل ذلك قطعاً لطمع نفسه من الحياة، وإيئاساً لها من العود (ثم مشى بسيفه إلى العدو) لكفرة المقاتلين (فضرب به حتى قتل) بالبناء للمجهول، وحتى غاية لاستمرار مقدر (رواه مسلم) قال المنذري في الترغيب: ورواه مسلم والترمذي وغيرهما. 1301- (وعن أبي عبس) بفتح المهملة وسكون الموحدة، فسين مهملة، كنية (عبد الرحمن بن أجبر) بفتح الجيم وسكون الموحدة، ابن ريد بن جثم الأنصاري (رضي الله عنه) وقيل: اسمه عبد الله، وقيل: معدٍ حكاه الحافظ في التقريب، وفيه: أنه صحابي شهد بدراً وما بعدها، ومات سنة أربع وثلاثين، عن سبعين سنة خرج حديثه البخاري والترمذي والنسائي. اهـ روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث الباب (قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار) بالنصب بأن في جواب النفي، وفيه بشارة للمجاهد ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب: ثبوت الجنة للشهيد، (الحديث: 146) .

لاَ تَمسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ في سَبيلِ اللهِ" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (¬1) . 1304- وعن زيد بن خالد - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَنْ جَهَّزَ غَازياً في سَبيلِ اللهِ فَقَدْ غَزَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ شخصان، فهو من التعبير باسم الجزء الأشرف عن الكل، ويحتمل على بعد أنه إن دخل فيها لا تتألم العين بالعذاب (لا تمسها النار عين بكت من خشية الله) أي: لخشيته، فمن تعليلية ويجوز كونها ابتدائية، والخشية الخوف الناشىء عن تعظيم ومعرفة، ولذا خصّها الله تعالى بالعلماء قال تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) (¬2) (وعين باتت تحرس في سبيل الله) شامل لمن حرس الجيش من عدو، ومن حرس الثغر بالرباط فيه (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) ورواه أبو يعلى والضياء من حديث أنس، ورواه الطبراني في المعجم الأوسط من حديث أنس أيضاً، لكن بلفظ "عينان لا تريان النار أبداً عين بكت في جوف الليل من خشية الله، وعين باتت تكلأ في سبيل الله". 1304- (وعن زيد بن خالد) هو الجهني (رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من جهز غازياً في سبيل الله) بأن أعانه بآلات السفر من زاد ونفقة ومركوب وآلته أو بشيء من ذلك (فقد غزا) يفسره ما رواه ابن ماجه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من جهز غازياً حتى يستقل كان له مثل أجره حتى يموت أو يرجع " وما اقتضاه من ترتب الأمر على الاستقلال المقتضي لتمام التجهيز غير مقيد؛ لإِطلاق التجهيز في حديث الباب الشامل للقليل منه والكثير؛ لأن حديث ابن ماجه ضعيف؛ لأن فيه وائلة، وعن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من جهز غازياً أو خلفه في أهله بخير فإنه ّمعنا". وأخرج الطبراني عن زيد بن ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من جهز غازياً فله مثل أجره ومن خلف غازياً في أهله بخير أو أنفق على أهله فله مثل أجره" (ومن خلف) بفتح المعجمة وتخفيف اللام وبالفاء (غازياً في أهله بخير) بأن قام بحوائجهم أو بعضها، يقال: خلف فلان فلاناً إذا كان خليفته (فقد غزا) أي: أنه مثله في الأجر، وإن لم يغز حقيقة قاله ابن حبان، ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب: فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فضل الغبار في سبيل الله، (الحديث: 1639) . (¬2) سورة فاطر، الآية: 28.

وَمَنْ خَلَفَ غَازياً في أهْلِهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا" متفقٌ عَلَيْهِ (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال الطبراني: فيه أن من أعان مؤمناً على عمل فللمعين عليه مثل أجر العامل، ومثله الإِعانة على معاصي الله تعالى للمعين عليها من الوزر ثقل ما على العامل منه، وقال القرطبي: ذهب بعض الأئمة إلى أن المثل المذكور في هذا الحديث وشبهه إنما هو بغير تضعيف قال: لأنه يجتمع في تلك الأشياء أفعال أخر وأعمال من البر، لا يفعل الدال الذي ليس عنده إلا مجرد النية الحسنة، وقد قال: أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير فله مثل نصف أجر الخارج، وقد قال: لينبعث من كل رجلين أحدهما والأجر بينهما، والحديث أخرجه مسلم. قال القرطبي: ولا حجة في هذا الحديث لوجهين: أحدهما: أنه لم يتناول محل النزاع وهو أن ناوي الخير والمعروف هل له مثل أجر فاعله من غير تضعيف أو به، وهذا الحديث إنما اقتضى المشاركة والمشاطرة في العمل المضاعف فانفصلا. ثانيهما: أن القائم على مال الغازي وأهله نائب عنه في عمل لا يتأتى له الغزو إن لم يكن ذلك العمل فصار كأنه باشر معه الغزو، فليس مقتصراً على النية فقط بل هو عامل في الغزو، ولما كان كذلك كان له مثل أجر الغازي كاملاً وافراً مضاعفاً، بحيث إذا أضيف ونسب إلى أجر الغازي كان نصفاً له، وبهذا يجمع بين حديث "من خلف غازياً في أهله بخير فقد غزا" وقوله في الحديث الثاني: "فله مثل نصف أجر الغازي ويبقى للغازي النصف" فإن الغازي لم يطرأ عليه ما يوجب تنقيص ثوابه، وإنما هذا كما قال: من فطر صائماً كان مثل أجر الصائم لا ينقص من أجره شيء. اهـ وعليه فقد صارت كلمة نصف مقحمة هنا بين مثل وأجر وكأنها زيادة ممن تسامح في إيراد اللفظ، بدليل قوله في الرواية الأخرى: والأجر بينهما، وأما إن تحقق عجزه وصدقت نيته، فلا ينبغي أن يختلف في أن أجره يضاعف كأجر العامل المباشر قاله العيني (متفق عليه) قال السيوطي في الجامع الكبير: ورواه أحمد وعبد بن حميد وأبو داوود والترمذي والنسائي وابن حبان عن زيد بن خالد، وأخرجه الدارمي والطبراني عنه بزيادة في آخره، ورواه ابن ماجه عنه بلفظ "من جهز غازياً في سبيل الله كان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الغازي شيئاً" ورواه ابن ماجه أيضاً " عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلفظ "من جهز غازياً حتى يستقل كان له مثل أجره حتى ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: فضل من جهز غازياً وخلفه بخير (6/37) . وأخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: فضل إعانة الغازي في سبيل الله ... (الحديث: 135) .

1311- وعن أَبي قتادة - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَامَ فِيهِم فَذَكَرَ أنَّ الجِهَادَ في سَبيلِ اللهِ، وَالإيمَانَ بِاللهِ، أفْضَلُ الأعْمَالِ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رسولَ اللهِ، أرأيْتَ إنْ قُتِلْتُ في سَبيلِ اللهِ، أتُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ لهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نَعَمْ، إنْ قُتِلْتَ في سَبيلِ الله وَأنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ"، ثُمَّ قَالَ ـــــــــــــــــــــــــــــ 1311- (وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام فيهم) أي: في الصحابة (خطيباً فذكر أن الجهاد في سبيل الله) قدمه ذكراً على قرينه الأفضل منه، اهتماماً به؛ لقوة الداعية حينئذٍ إليه (والإِيمان بالله أفضل الأعمال) أي: مجموعها أفضل فالمخبر عنه بأفعل التفضيل واحد، ويجوز أن يكون المراد كل منهما أفضل الأعمال، ويكون ذلك بالنظر للجهاد ولدعاية الحاجة حينئذٍ إليه، على أن أفعل التفضيل المضاف لمعرفة تجوز مطابقته وتركها (فقام رجل) لم يسمه المصنف، ولا السيوطي (فقال: يا رسول الله أرأيت) بفتح التاء أي: أخبرني (إن قتلت في سبيل الله تكفر) بضم الفوقية وفتح الكاف والفاء المشددة أي تمحى (أعني خطاياي) وفي نسخة بزيادة همزة الاستفهام، أي: لفظاً وإلا فهي مرادة، والخطايا جمع خطيئة أصلها خطائي وزن فعائل، فأبدلت الياء بعد ألف الجمع همزة فصار خطائىء، بهمزتين ثم أبدلت الثانية ياء لتطرفها، ثم قلبت الكسرة قبلها فتحة على حد عذارى، ثم قلبت الياء ألفاً لتحركها، وانفتاح ما قبلها فصار خطآءاً بألفين بينهما همزة، فاجتمع شبه ثلاث ألفات، فابدلت الهمزة ياءً فصار خطاياً بعد خمسة أعمال، والخطية فعيلة من الخطي بكسر أوله، وهو الذنب. اهـ من شرح العمدة للقلقشندي (فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم) أي: تكفر (إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب) أي: طالب ثواب الله تعالى بالبناء للمجهول فهما شرِطان (مقبل غير مدبر) أي: على وجه الفرار ْالمحرم، أما إذا أدبر ليكر أو فر فراراً مباحاً بأن زاد الكفار على ضعف المسلمين، فالظاهر أنه لا يؤثر، ويحتمل أن ذلك مؤثر في عدم التكفير المذكور، وإن لم يأثم به فاعله ويؤيده ما يأتي عن المصنف، وجواب الشرط محذوف أي: تكفر عنك خطاياك لدلالة ما قبله عليه والجملة الاسمية حالية من رفوع قتلت، وقال الزملكاني: يحتمل أن يريد به مقبلاً غير مدبر، في وقت من الأوقات، فقد يقبل الشخص ثم يدبر، ويحتمل حمله على التأكيد، أو تمكين المعنى بالاحتراز عن إرادة التحيز كقوله تعالى: (أموات غير أحياء) (¬1) ويحتمل أن يكون أحدهما محمولاً على الجوارح، والآخر على القلوب، ويحتمل خلاف ذلك، كذا في قوت ¬

_ (¬1) سورة النحل، الآية: 21.

الله عنه -: يَا رسولَ اللهِ، جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّماوَاتُ وَالأرْضُ؟ قَالَ: "نَعَمْ" قَالَ: بَخٍ بَخٍ؟ فَقَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَولِكَ بَخٍ بَخٍ؟ " قَالَ: لاَ وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ إِلاَّ رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أهْلِهَا، قَالَ: "فَإنَّكَ مِنْ أهْلِهَا" فَأخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ، فَجَعَلَ يَأكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَييتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هذِهِ إنّهَا لَحَياةٌ طَوِيلَةٌ، فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ. رواه مسلم. "القَرَن" بفتح القاف والراء: هُوَ جُعْبَةُ النشَّابِ (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ (يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض) استفهام تثبت وتحقق للأمر (قال: نعم. قال: بخ بخ) قال المصنف: فيه لغتان سكون الخاء وكسرها منوناً، وهي كلمة تطلق لتفخيم الأمر وتعظيمه في الخير. اهـ وقد تقدم الكلام في معناها، وضبطها قبل وأفاد العاقولي أنها مبنية على السكون فإن وصلت حركت بالكسر، وتؤنث وربما شددت (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما يحملك على قولك بخ بخ) أي: أخوفاً قلته أم رجاءً لكونك من أهلها (قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها) المنفي بلا محذوف مقدر بأعم العلل، والاستثناء مفرغ أي: لا قلت ذلك لعلة من العلل، إلا لرجاء كوني من أهلها (قال: فإنك من أهلها) هو من جملة معجزاته - صلى الله عليه وسلم - إذ أخبر عن أمر مغيب قبل كونه بأنه يكون فكان كما أخبر (فأخرج تمرات من قرنه فجعل يكل منهن) إما لقوة الجوع عليه، أو استرواحاً للنفس لسماع ذلك الخبر السار، كما هو العادة من تناول الأطعمة واللذائذ عند سماع الخبر السار (ثم قال: لئن أنا حييت) اللام فيه موطئة للقسم، وإن شرطية، وأنا مؤكد لفاعل فعل مضمر، هو وفاعله ويفسره ما بعده والتقدير، لئن حييت أنا، وذلك المضمر فعل الشرط (حتى آكل تمراتي هذه) غاية للحياة (إنها لحياة طويلة) جملة جواب القسم، واكتفى بها عن جواب الشرط لتقدم القسم عليه. قال العاقولي: ويجوز أن يكون على مذهب أهل المعاني قد قدم الضمير المنفصل؛ للاختصاص على نحو: قل لو أنتم تملكون، فكأنه وجد نفسه مختارة للحياة على الشهادة، فأنكر عليها فقال ما قال استبطاء للانتداب؛ لما ندب إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله قوموا إلى جنة الخ، فعد حياته قدر ما يأكل تلك الحبات التي هي دون العشرة، كما يؤذن به جمع القلة المنكر حياة طويلة مسارعة للبر (فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل رواه مسلم) مطولاً في الجهاد، ورواه أبو داود مختصراً في سننه (القرن بفتح القاف) (الراء) وبالنون (هو جعبة) بفتح فسكون (النشاب) وجمعها جعاب، مثل كلبة وكلاب. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الإمارة باب ثبوت الجنة للشهيد، (الحديث 145) .

وَلِلفُقَرَاءِ، فَبَعَثَهُمُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَعَرَضُوا لَهُمْ فَقَتَلُوهُمْ قَبْلَ أنْ يَبْلغُوا المَكَانَ، فَقَالُوا: اللَّهُمَّ بَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّنَا أنَّا قَدْ لَقِينَاكَ فَرضِينَا عَنْكَ وَرَضِيتَ عَنَّا، وَأتَى رَجُلٌ حَراماً خَالَ أنَسٍ مِنْ خَلْفِهِ، فَطَعَنَهُ بِرُمْحٍ حَتَّى أنْفَذَه، فَقَالَ حَرَامٌ: فُزْتُ وَرَبِّ الكَعْبَةِ، فَقَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ إخْوَانَكُمْ قَدْ قُتِلُوا وَإنَّهُمْ قَالُوا: اللَّهُمَّ ـــــــــــــــــــــــــــــ لهم في مؤخر مسجده، وتقدم بسط أحوالهم في باب فضل الزهد في الدنيا (وللفقراء) من عطف العام على الخاص؛ للتعميم (فبعثهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم) ليدعوهم إلى الإِيمان ويعلموهم القرآن (فعرضوا لهم) أي: فعرض لهم عدو الله عامر بن الطفيل، فقتل حامل الكتاب حرام بن ملحان طعن في رأسه ففاض الدم بكفه، ثم نضحه على وجهه وقال: فزت ورب الكعبة واستصرخ عليهم بني عامر فأبوا أن يجيبوه وقالوا: لا نخفر أبا براء، وقد عقد لهم جواراً فاستصرخ عليهم قبائل من عصية وسليم ورعل فأجابوه، فخرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم فقاتلوهم (فقتلوهم) في معرك الحرب (قبل أن يبلغوا المكان) الذي أرادوا الوصول إليه، وهو منزل أبي براء ابن ملاعب الأسنة (فقالوا) يحتمل أنه عند إحاطة عدوهم بهم، وقد جاء ما يدل لذلك في كتب السير، فعند ابن سعد قال: لما أحيط بهم قالوا: اللهم إنا لا نجد من يبلغ رسولك منا السلام غيرك، فاقرئه منا السلام، فأخبره جبريل بذلك فقال: وعليهم السلام (اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك) لعظيم فضلك (ورضيت عنا) بإثابتك، ويحتمل أنهم قالوا ذلك وهم في حضرة الله سبحانه وتعالى، بعد أن ماتوا وظاهر كلامهم يعطيه، وعلى الأول فمعنى رضينا عنك أي: رضينا بأقضيتك، ورضيت عنا بالتوفيق للصالحات التي من أسناها الرضا بالقضاء (وأتى رجل) لم أقف على اسمه (¬1) (حراماً خال أنس من خلفه) أي: من ورائه (فطعنه برمح) في رأسه (حتى أنفذه) أي: نفذ منه الرمح (فقال حرام) أي: بعد أن نضح الدم على رأسه ووجهه (فزت) أي: بالشهادة التي هي سبب السعادة (ورب الكعبة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن إخوانكم قد قتلوا) أي: قتلهم العدو (وإنهم قالوا: اللهم) أي: يا الله ¬

_ = وهي مكان منقطع عن المسجد مطل عليه يبيتون فيه ومنه يؤخذ جواز اتخاذ الصفة في المسجد وجواز المبيت فيه بلا كراهة وهو مذهب الشافعية والجمهور. ع. (¬1) قوله: لم أقف على اسمه، انظر هذا مع قوله آنفاً: فعرض لهم عدو الله عامر ابن الطفيل فقتل حامل الكتاب حرام بن ملحان تأمل.

المُسْلِمُونَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي اعْتَذِرُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هؤُلاءُ - يعني: أصْحَابَهُ - وَأبْرَأُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هؤُلاءِ - يَعنِي: المُشْرِكِينَ - ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ فَقَالَ: يَا سَعَدَ بنَ مُعَاذٍ، الجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ، إنِّي أجِدُ ريحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ! فَقَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رسولَ اللهِ مَا صَنَعَ! قَالَ أنسٌ: فَوَجدْنَا بِهِ بِضعاً وَثَمَانِينَ ضَربَةً بِالسَّيْفِ، أَوْ طَعْنَةً برُمح أَوْ رَمْيةً بِسَهْمٍ، وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَمَثَّلَ بِهِ المُشْرِكُونَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الموقف الذي عينه لهم - صلى الله عليه وسلم -، وأمرهم ألا يفارقوه، حتى يأتيهم الإِذن فخالفوا فوقع ما وقع (فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني) بالمشار إليهم (أصحابه) أي: المسلمين (وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين) وما صنع الأولون هو مفارقة ما أنزلوا فيه، وما صنعه الكفار هو مقاتلة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والكفر بالله وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - (ثم تقدم) أي: إلى العدو (فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا سعد) بضم الدال ويجوز فتحها لكونه وصف بقوله (ابن معاذ) المنصوب لا غير (الجنة ورب النضر) الجملة القسمية معترضة بين المبتدأ وجملة الخبر التي هي (إني أجد ريحها من دون أحد) ولا مانع من إبقاء الكلام على حقيقته من إنشاقه عرفها؛ ليبعثه على الجهاد فيكتسب عرفها، ويحتمل أن يكون أراد أنه استحضر الجنة التي أعدت للشهيد، تصور أنها في ذلك الموضع الذي يقاتل فيه، والمعنى إني لأعلم أن الجنة تكتسب في هذا الموضع فأنا مشتاق لها (قال سعد: فما استطعت يا رسول الله أن أصنع ما صنع) أي: ما قدرت أن فعل في الجهاد مثل فعله من الإقدام على العدو وطرح النفس في نحر الكفار والخروج عنها لله تعالى، وفيه الشهادة بحسن العمل عند الأكابر والأشراف (قال أنس) أي: ابن مالك (فوجدنا به بضعاً) بكسر الموحدة، وبعض العرب يفتحها وبسكون الضاد المعجمة وبالمهملة، تستعمل في الثلاثة والتسعة وما بينهما ويستوي فيه المذكر والمؤنث، وقال في المصباح: البضع أيضاً يستعمل من ثلاثة عشر إلى تسعة عشر، لكن تثبت الهاء في بضع مع المذكر وتحذف مع المؤنث، ولا يستعمل فيما زاد على العشرين، وأجازه بعض المشايخ، فيقال بضعة وعشرون رجلاً وبضع وعشرون امرأة، وهكذا قاله أبو زيد، وقالوا على هذا معنى البضع، والبضعة في العدد قطعة مبهمة غير محدودة اهـ قلت: وحديث الباب شاهد لإِطلاقه على ما فوق العشرين والله أعلم (وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم) وتعريف السيف دون المذكورين معه، تفنن في التعبير وأو فيه للتقسيم (ووجدناه قد قتل) بالبناء للمجهول لعدم العلم بالفاعل (وقد مثل به المشركون) قال في المصباح: مثلت بالقتيل مثلاً من بابي قتل وضرب إذا جدعته (¬1) وظهر ¬

_ (¬1) جدعته بالدال المهملة قطعت أنفه أو أذنه أو يده أو شفته كما في الصحاح. ع.

رَجُلَيْنِ أتيَانِي، فَصَعِدَا بِي الشَّجرةَ فَأدْخَلاَنِي دَاراً هِيَ أحْسَنُ وَأَفضَلُ، لَمْ أَرَ قَطُّ أحْسَنَ مِنْهَا، قالا: أمَّا هذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ". رواه البخاري، وَهُوَ بعض من حديث طويل فِيهِ أنواع من العلم سيأتي في باب تحريم الكذب إنْ شاء الله تَعَالَى (¬1) . 1317- وعن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ أمَّ الرُّبيعِ بنتَ البَرَاءِ وهي أُمُّ حَارِثة بن سُرَاقَةَ، أتَتِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَتْ: يَا رسولَ اللهِ، ألاَ تُحَدِّثُنِي ـــــــــــــــــــــــــــــ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: رأيت الليلة) في المنام بالنصب ظرف زمان (رجلين) أي: على صورتهما لما تبين بعد أنهما جبريل وميكائيل (أتياني فصعدا) من باب علم (بي الشجرة فأدخلاني داراً هي أحسن وأفضل) حذف المفضل عليه إيماءً إلى تفخيم الدار وشرفها (لم أر) أي: أبصر (قط) بالبناء على الضم ظرف، لما مضى من الزمان (أحسن منها) وقوله: (قالا: أما هذه الدار فدار الشهداء) هو غير متصل بما معه في سياق الحديث، بل بينهما فواصل ستراها إن شاء الله تعالى، وهذا الذي صنعه المصنف، هو على رأي من يجوز تقطيع الحديث والاقتصار على بعضه، إذا لم يكن للمذكور بالمتروك ارتباط من نحو كونه مستثنى أو غاية (رواه البخاري) في أبواب الجنائز (وهو) أي: المذكور هنا (بعض) بالتنوين (من حديث طويل فيه أنواع من العلم سيأتي في باب تحريم الكذب إن شاء الله تعالى) . 1317- (وعن أنس رضي الله عنه أن أم الربيع) بصيغة التصغير مع تشديد الياء (بنت البراء) بفتح الموحدة وتخفيف الراء وبالمد (وهي أم حارثة) بالمهملة والمثلثة آخره (بن سراقة) بن الحارث بن عدي من بني عدي بن النجار، ذكره ابن إسحاق، وتكنية أم حارثة بأم الربيع وجعلها بنت البراء وهم من البخاري نبه عليه غير واحد آخرهم الدمياطي. فقال: إنما هي الربيع بنت النضر عمة أنس بن مالك بن النضر، وعمة أخيه البراء، قلت: وجاء كذلك في رواية الترمذي وابن خزيمة، فكأنه كان في الحديث عمة البراء فحرفه بعض الرواة وزاد لفظة أم (¬2) (أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله ألا) بتخفيف اللام أداة عرض (تحدثني ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب. الجنائز، باب: ما قيل في أولاد المشركين (6/10) . (¬2) مراده بقوله فكأنه كان الخ الدفاع عن الإِمام البخاري بأن التعبير المشار إليه ليس منه وإنما هو من بعض الرواة الناقلين عنه والكتبة الناسخين لصحيحه وأجاب الكرماني بأجوبة طويلة لا تخلو من تكلف.

عَنْ حَارِثَةَ - وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ - فَإنْ كَانَ في الجَنَّةِ صَبَرْتُ، وَإنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ في البُكَاءِ، فَقَالَ: "يَا أُمَّ حَارِثَةَ إنَّهَا جِنَانٌ في الجَنَّةِ، وَإنَّ ابْنَكِ أصابَ الفِرْدَوْسَ الأَعْلَى" رواه البخاري (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن حارثة وكان قتل يوم بدر) بسهم أصابه ولم يعرف راميه، ولذا قال في الحديث في البخاري: أصابه بسهم غرب بتنوين سهم وفتح الغين المعجمة وسكون الراء وبموحدة، كذا في الرواية أي: لا يعرف راميه، أو لا يعرف من أي جهة جاء، ومثله سهم عرض، فإن عرف راميه فليس بغرب ولا عرض، وقيل: قتله حبان بن عرقة، بفتح العين المهملة وكسر الراء وبالقاف، رماه بسهم فأصاب نحره فقتله، وعليه فلا يقال في السهم الذي أصابه غرب ولا عرض قاله العيني، وقال ابن قتيبة: العامة تقوله بالتنوين والإِسكان، والأجود بالإِضافة وفتح الراء، وقال أبو زيد: إن جاء من حيث لا يعرف راميه فهو بالتنوين والإِسكان، وإن عرف لكن أصاب من لم يقصده، فهو بالإِضافة والفتح، وقال الأزهري: هو بالفتح لا غير، وحكى جماعة من اللغويين الوجهين مطلقاً، وحذف المصنف هذه الجملة لعدم تعلق غرضه بها، وكان حارثة قد خرج نظاراً، كما رواه أحمد. زاد النسائي: ما خرج لقتال (فإن كان في الجنة صبرت) أي: يسليني عنه علمي بشرف مصيره (وإن كان غير ذلك) أي: وإن كان في النار إذ ليس ثمة سوى المنزلتين (اجتهدت عليه في البكاء) قال الخطابي: أقرهما النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا، فيؤخذ منه الجواز، وأجيب بأنه كان قبل تحريم النوح فلا دلالة فيه، فإن تحريمه كان عقب غزوة أحد، وهذه عقب غزوة بدر، وفي رواية للبخاري في الرقاق: فإن كان في الجنة لم أبك عليه (فقال: يا أم حارثة إنها) الضمير للقصة (جنان) بكسر فنونين بينهما ألف، أي: جنات كثيرة، كما جاء كذلك في رواية البخاري المذكورة في الرقاق (في الجنة) صفة لما قبله (وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى) الفردوس البستان الذي يجمع كل شيء، وقيل: الذي فيه العنب، وقيل: هو بالرومية، وقيل: بالقبطية، وقيل: بالسريانية وبه جزم الزجاج، والمراد به أنه محل مخصوص من الجنة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنها أوسط الجنة وأعلى الجنة، وأراه فوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة" رواه البخاري ومعنى أوسط الجنة خيارها، وأفضلها وأوسعها فلا يشكل بكونها أعلاها (رواه البخاري) ورواه الترمذي وابن خزيمة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: من أتاه سهم غرب فقتله (6/20، 21) .

1318- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قَالَ: جِيءَ بِأَبِي إِلَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَدْ مُثِّلَ بِهِ، فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ فَذَهَبْتُ أكْشِفُ عَنْ وَجْهِهِ فَنَهَانِي قَوْمِي، فَقَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَا زَالتِ المَلائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا" متفقٌ عَلَيْهِ (¬1) . 1319- وعن سهل بن حنيف - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ سَألَ اللهَ تَعَالَى الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ" رواه مسلم (¬2) . 1320- وعن أنس - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ طَلَبَ الشَّهَادَةَ صَادِقاً أُعْطِيَهَا ولو لَمْ تُصِبْهُ" رواه مسلم (¬3) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1318- (وعن جابر بن عبد الله) الأنصاري السلمي بفتحتين (رضي الله عنهما قال: جيء بأبي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -) وذلك يوم أحد (قد مثل به) بتشديد المثلثة مبني للمفعول جملة حالية من أبي (فوضع بين يديه) معطوف على جملة جيء بأبي (فذهبت أكشف عن وجهه) أي: متوجعاً له مما مثل به الكفار (فنهاني قوم) أي: عن ذلك (فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها) تشريفاً له، وزاد البخاري في رواية له: "حتى رفعتموه" وفي رواية له حتى رفع (متفق عليه) . 1319- (وعن سهل بن حنيف) بضم ففتح فسكون (رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من سأل الله تعالى الشهادة) أي: بذلها له وجعله شهيداً (بصدق) فيِ السؤال (بلغه الله منازل الشهداء) لصدقه (وإن مات على فراشه رواه مسلم) وتقدم مشروحاً في باب الصدق. 1320- (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من طلب) أي: سأل (الشهادة صادقاً أعطيها) أي: أعطي ثوابها (ولو لم تصبه) بأن لم يمت شهيداً (رواه مسلم) ورواه أحمد. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: ظل الملائكة على الشهيد (6/24) . وأخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر (¬2) أخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: استحباب طلب الشهادة في سبيل الله تعالى، (الحديث: 157) . (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الإِمارة، باب: استحباب طلب الشهادة في سبيل الله تعالى، (الحديث: 156) .

1321- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ مَسِّ القَتْلِ إِلاَّ كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسِّ القَرْصَةِ" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" (¬1) . 1322- وعن عبد الله بن أَبي أوْفَى رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في بَعْضِ أيَّامِهِ الَّتي لَقِيَ فِيهَا العَدُوَّ انْتَظَرَ حَتَّى مَالَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ قَامَ في النَّاسِ فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ، لا تَتَمَنَّوا لِقَاءَ العَدُوِّ، وَاسْأَلُوا اللهَ العَافِيَةَ، فَإذَا لَقِيتُموهُمْ فَاصْبِروا؛ وَاعْلَمُوا أنَّ ـــــــــــــــــــــــــــــ 1321- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما يجد الشهيد من مس) بفتح الميم وتشديد السين المهملة أي: نصب (القتل) وألمه (إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة) أي: قرصة نحو النملة من كل مؤلم ألماً خفيفاً، سريع الانقضاء لا يعقب علة، ولا سقماً (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) قال العاقولي: القرص الأخذ بأطراف الأصابع، وأدخل عليها أداة الحصر؛ دفعاً لما يتوهم أن ألمه أعظم من ألمها. 1322- (وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أيامه التي لقي فيها العدو) أي: الكفار المقاتلين (انتظر حتى مالت الشمس) تفاؤلاً بانتقال الحال من الكرب إلى الفرج (ثم قام في الناس) خطيباً (فقال: أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو) (¬2) نهى عنه؛ لما فيه من الاعتماد على قوة النفس والركون، إليها وذلك سبب الفشل والكسر قال تعالى: (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً) (¬3) الآية (واسألوا الله العافية) أي: السلامة من جميع المؤلمات والمخالفات دنيا وأخرى، وذلك لأن في حصونها الراحة والسلامة من المحن والنجاة من الإِحن (فإذا لقيتموهم) أي: وقع لقاؤهم لكم من غير طلب منكم (فاصبروا) على قتالهم ولا تفروا منهم، وعلل الأمر بالصبر بقوله عطفاً عليه (واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف) بكسر الظاء المعجمة، جمع ظل وتقدم معناه عند شرح الحديث في باب الصبر مبسوطاً واضحاً في هذا الباب ملخصاً، ثم زاد في تشجيعهم بدعائه (وقال: اللهم منزل) اسم فاعل من الإِنزال (الكتاب) (أل) فيه للجنس فيعم الكتب ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب: فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فضل المرابط، (الحديث: 1668) . (¬2) لا تتمنوا الخ إنما نهى عن تمني لقاء العدو لما فيه عن صورة الإعجاب أو الاتكال على النفس والوثوق بالقوة وهو نوع بغي وقد ضمن الله لمن بغي عليه لينصرنّه الله ولأنه يتضمن قلة الاهتمام بالعدو واحتقاره وهذا مخالف للاحتياط والحزم. (¬3) سورة التوبة، الآية: 25.

الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ" ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الكِتَابِ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الأحْزَابِ، أهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ" متفقٌ عَلَيْهِ (¬1) . 1323- وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثِنْتَانِ لاَ تُرَدَّانِ، أَوْ قَلَّمَا تُرَدَّانِ: الدُّعَاءُ عِنْدَ النِّدَاءِ وَعِنْدَ البَأسِ حِيْنَ يُلْحِمُ بَعْضُهُم بَعضَاً" ـــــــــــــــــــــــــــــ المنزلة كلها وقد سبق بيانها في باب الصبر، أو للعهد أي القرآن (ومجري السحاب) من مكان من السماء إلى آخر، وهو بمعنى قوله تعالى: (والسحاب المسخر بين السماء والأرض) (¬2) (وهازم الأحزاب) (أل) فيه للعهد إن أريد منهم الذين هزموا في غزوة الخندق، وكانت سنة خمس، وكانوا نحو عشرة آلاف نسمة، أو للجنس إن أريد بهم ما هو أعم من جيوش الكفر فإنهم مهزومون مخذولون، وجند الله المؤمنون هم المنصورون، والأول أظهر؛ لأنها كانت منّة إلهية امتن بها الله تعالى على نبيه في كتابه في سورة الأحزاب، وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول في تهليله "وهزم الأحزاب وحده" (اهزمهم) أي: العدو الملاقين لنا حالاً (وانصرنا عليهم متفق عليه) وسبق في باب الصبر. 1323- (وعن سهل بن سعد الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: دعوتان (¬3) بفتح الدال المهملة تثنية دعوة المرة من الدعاء (لا تردان أو) شك من الراوي (قلما) ما كافة للفعل فتكتب موصولة به (تردان) ثم يحتمل أنه كنى بالقلة عن العدم فتتفق الروايتان (¬4) ، ويحتمل أن تكون باقية على موضوعها، فيكون فيه أن الدعوة فيهما قد ترد، لكن نادراً (الدعاء عند النداء) أي: الأذان والإِقامة (وعند البأس) بالموحدة وبعدها همزة فسين أي: الحرب (حين يلحم بعضهم بعضاً) قال المصنف في الأذكار: في بعض النسخ المعتمدة يلحم بالحاء وفي بعضها بالجيم وكلاهما ظاهر. اهـ فمعناه على الحاء يتقاربون فيصيرون كالذين يلتصق لحم بعضهم ببعض، وعلى الجيم كان كلاً يلجم صاحبه بالسلاح (رواه أبو ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: لا تمنوا لقاء العدو (6/85) . وأخرجه مسلم في كتاب: الجهاد والسير، باب: كراهة تمني لقاء العدو، والأمر بالصبر عند اللقاء، (الحديث: 20) . (¬2) سورة البقرة، الآية: 164. (¬3) قوله: دعوتان، هكذا في نسخ الشرح وفي كثير من نسخ المتن: ثنتان، والمراد دعوتان. ع. (¬4) قوله: فتتفق الروايتان هذا مشكل فإن الرواية واحدة والراوي شك هل المقول الأول أو الثاني. ع.

رواه أَبُو داود بإسناد صحيح (¬1) . 1324- وعن أنس - رضي الله عنه -، قَالَ: كَانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا غَزَا، قَالَ: "اللَّهُمَّ أنْتَ عَضْديِ وَنَصِيرِي، بِكَ أَحُولُ، وَبِكَ أَصُولُ، وَبِكَ أُقَاتِلُ" رواه أَبُو داود والترمذي، وقال: "حديث حسن" (¬2) . 1325- وعن أَبي موسى - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا خَافَ قَوماً، قَالَ: "اللَّهُمَّ إنَّا نَجْعَلُكَ في نُحُورِهِمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهمْ" رواه أَبُو داود بإسناد ـــــــــــــــــــــــــــــ داود في الجهاد من سننه. (بإسناد صحيح) وأخرجه الدارقطني في غرائب مالك من حديث سهل مرفوعاً بلفظ "ساعتان تفتح فيهما أبواب السماء وقلما ترد على داع دعوته: عند النداء وعند الصف في سبيل الله" ذكره الحافظ في تخريج أحاديث الأذكار. 1324- (وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا غزا) أي: أراده أو شرع فيه (قال:) خروجاً من الحول ولرد الأمر لصاحبه (اللهم أنت عضدي) بفتح المهملة وضم الضاد أي: ناصري أتم نصر وأبلغه، كما يدل له عطف (ونصيري) عليه عطف تفسير (بك) أي: وحدك (أحول) أي: أنتقل من مكان أو شأن إلى غيره (وبك أصول) على أعداء الدين، يقال: صال القرن على قرنه يصول بلا همز إذا وثب عليه (وبك أقاتل) ففيه تعريض بطريق حصول النصر، وأنه الخروج عن النفس والاعتماد على الله سبحانه وتعالى (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن) قال في الجامع الصغير: ورواه أحمد وابن ماجه وابن حبان صحيحه والضياء المقدسي. 1325- (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خاف قوماً قال: اللهم إنا نجعلك) أي: نجعل أمرك أو حكمك (في نحورهم) فيدفعهم ذلك عما يريدون (ونعوذ) أي: نعتصم (بك من شرورهم) فيه التحصن بأسماء الله تعالى واللوذ به واللجأ إليه تعالى فيما ينزل بالإِنسان مما يشفق منه، وأنه لا ينافي التوكل (رواه أبو داود ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: الدعاء عند اللقاء، (الحديث: 2540) . (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: ما يُدعى عند اللقاء، (الحديث: 2632) . وأخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، باب: في الدعاء إذا غزا، (الحديث: 3584) .

صحيح (¬1) . 1326- وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "الخَيْلُ مَعقُودٌ في نَوَاصِيهَا الخَيْرُ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ" متفقٌ عَلَيْهِ (¬2) . 1327- وعن عروة البارِقِيِّ - رضي الله عنه ـــــــــــــــــــــــــــــ بإسناد صحيح) ورواه أحمد والحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن كما في الجامع الصغير. 1326- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الخيل) قال في المصباح: معروفة وهي مؤنثة لا واحد لها من لفظها، والجمع خيول وسميت خيلاً لاختيالها، وهو إعجابها بنفسها مرحاً ومنه يقال: اختال الرجل وبه خيلاء، والخيل عام مخصوص بالغازية في سبيل الله والمرتبطة له بدليل الحديث السابق في الزكاة الخيل ثلاثة، وليس المراد هي على كل وجه ذكره ابن المنذر، وقال الحافظ: ويجوز أن يراد جنس الخيل أي: أنها بصدد أن يكون فيها الخير، فأما من ارتبطها لعمل غير صالح، فحصول الوزر لطريان ذلك الأمر العارض. اهـ (معقود في نواصيها) النواصي جمع ناصية وهي قصاص الشعر، وهو الشعر المسترسل على الجبهة، وخمست بالذكر لأن العرب تقول: فلان مبارك الناصية فتكنى بها عن الإِنسان قاله العيني، وفيه إيماء إلى أنه كني بها عن جميع ذات الفرس، واستبعده الحافظ ورأي بقاءها على ظاهرها قال: ويحتمل أنها خصّت بذلك لكونها المقدم منها، فيكون إشارة إلى أن الفضل في الإِقدام بها على العدو دون المؤخر لما فيه من الإِشارة إلى الإِدبار (الخير) العاجل والآجل (إلى يوم القيامة) أي إلى انقضاء بقاء الدين الحنيفي، وذلك إلى قبيل أواخر الدنيا وعند عموم الكفر جميع الأرض، ففي الحديث تجوز (متفق عليه) ورواه مالك وأحمد والنسائي وابن ماجه، ورواه البخاري عن أنس، ورواه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة، ورواه أحمد عن أبي ذر وعن أبي سعيد، ورواه الطبراني عن سواد بن الربيع وعن النعمان بن بشير وعن أبي كبشة. 1327- (وعن عروة البارقي رضي الله عنه) هو الجعد، ويقال ابن أبي الجعد، وقيل: ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: ما يقول الرجل إذا خاف قوماً، (الحديث: 1537) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: الخيل معقود.. الخ (6/40) . وأخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، (الحديث: 96) .

أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "الخَيْلُ مَعقُودٌ في نَوَاصِيهَا الخَيْرُ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ: الأجْرُ، وَالمَغْنَمُ" متفقٌ عَلَيْهِ (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ اسم أبيه عياض، والبارقي بالموحدة والواو والقاف، صحابي سكن الكوفة، وهو أول قاض بها خرج حديثه الجميع، كذا في التقريب، وفي التهذيب للمصنف: بارق بطن من الأزد، وهو بارق بن عدي بن حارثة بن امرىء القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن برسبان بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وإنما قيل له بارق؛ لأنه نزل عند جبل يقال له بارق فنسب إليه، وقيل: غير ذلك. قلت: منه ما ذكره الحافظ في الفتح قال: وقيل: ماء بالمدار (¬2) نزله بنو عدي بن حارثة بن عمرو قبيلة من الأزد ولقب به منهم سعد بن عدي فكان يقال له بارق، وزعم الدمياطي أنه منسوب إلى ذي بارق، قبيلة من ذي رعين. اهـ ما في الفتح روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة عشر حديثاً اتفقا منها على حديث، وكان مرابطاً معه عدة أفراس مربوطة للجهاد في سبيل الله تعالى، منها فرس اشتراه بعشرة آلاف درهم، وقال شبيب بن غرقد: قد رأيت في دار عروة سبعين فرساً مربوطة للجهاد في سبيل الله تعالى. اهـ (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر) أي: الثواب المرتب على ربطها، وهو خير آجل (والمغنم) الذي يكتسبه من مال الكفرة، وهو خير عاجل، والأجر والمغنم بدل من الخير، أو عطف بيان له قال الطيبي: يحتمل أن يكون الخير المفسر بالأجر والغنيمة استعارة لظهوره وملازمته، وخصّ الناصية لرفعة قدرها، فكأنه شبهه لظهوره بشيء محسوس معقود على مكان مرتفع فنسب الخير إلى لازم المشبه به، وذكر الناصية تجريد للاستعارة نقله الحافظ في الفتح (متفق عليه) ورواه أحمد والترمذي والنسائي، ورواه أحمد ومسلم والنسائي عن جرير، ورواه الطبراني في الأوسط من حديث جابر بلفظ "الخيل معقود في نواصيها الخير واليمن إلى يوم القيامة، وأهلها معانون عليها قلدوها ولا تقلدوها الأوتار" ورواه أحمد أيضاً من حديث جابر "بلفظ الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وأهلها معانون عليها، فامسحوا بنواصيها وادعوا لها بالبركة، وقلدوها ولا تقلدوها الأوتار" ورواه الطبراني في الكبير من حديث غريب المكي بلفظ "الخيل معقود بنواصيها الخير والنيل إلى يوم القيامة وأهلها، معانون عليها والمنفق عليها كالباسط يده في الصدقة، وأبوالها وأرواثها لأهلها عند الله يوم القيامة من مسك الجنة"، كذا في الجامع الصغير. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الجهاد، باب: الجهاد ماض مع البر والفاجر (6/40) . وأخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة, (الحديث: 98) . (¬2) المدار قرية باليمن.

كُلُّهَا مَخْطُومَةٌ" رواه مسلم (¬1) . 1330- وعن أَبي حمادٍ - ويقال: أَبُو سعاد، ويقال: أَبُو أسدٍ، ويقال: أَبُو عامِر، ويقال: أَبُو عمرو، ويقال: أَبُو الأسود، ويقال: أَبُو عبسٍ - عُقبة بن عامِر الجُهَنيِّ - رضي الله عنه -، قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ، يقول: " (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) ، أَلاَ إنَّ القُوَّةَ الرَّميُ، ألاَ إنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ، ألاَ إنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ" رواه مسلم (¬2) . 1331- وعنه، قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يقول: "سَتُفْتَحُ ـــــــــــــــــــــــــــــ (كلها مخطومة) وذلك لأن خطامها يمكن صاحبها من أن يعمل بها ما أراد (رواه مسلم) . 1330- (وعن أبي حماد) بفتح المهملة وتشديد الميم (ويقال: أبو سعاد، ويقال: أبو أسيد) قال في التهذيب: ويقال: أبو أسد أي: بلا يا (ويقال: أبو عامر، ويقال: أبو عمرو، ويقال: أبو الأسود، ويقال: أبو عبس) وفي التهذيب ويقال: أبو لبيد، وفي التقريب للحافظ: اختلف في كنيته على أقوال، أشهرها أنه أبو حماد (عقبة بن عامر الجهني) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في أوائل كتاب الفضائل (قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر يقول: واعدوا لهم) أي: الكفار (ما استطعتم) أي: الذي استطعتموه (من قوة) بيان لما والمحكي بالقول قوله (إلا) بتخفيف اللام (أن القوة الرمي ألا أن القوة الرمي ألا أن القوة الرمي) أي: أعظم أنواعها نكاية في العدو وأنفعها في الحرب، فالحصر كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الحج عرفة والبر حسن الخلق" قال ابن رسلان: ولما علم عقبة راوي الحديث فضل الرمي بالقوس وأنه أنفع آلات الجهاد، أعد للجهاد سبعين قوساً في سبيل الله. اهـ (رواه مسلم) ورواه أبو داود والترمذي والنسائي. 1331- (وعنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ستفتح عليكم أرضون) بفتح الراء جمع تكسير لأرض، أعرب إعراب جمع المذكر السالم حملا عليه (ويكفيكم الله) أي: الحرب ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: فضل الصدقة في سبيل الله وتضعيفها، (الحديث: 132) . (¬2) أخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: فضل الرمي والحث عليه، وذم من علمه ثم نسيه، (الحديث: 167) .

عَلَيْكُمْ أَرْضُونَ، وَيَكْفِيكُمُ اللهُ، فَلاَ يَعْجِز أَحَدُكُمْ أنْ يَلْهُوَ بِأَسْهُمِهِ" رواه مسلم (¬1) . 1332- وعنه: أنَّه قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ عُلِّمَ الرَّمْيَ، ثُمَّ تَرَكَهُ، فَلَيْسَ مِنَّا، أَوْ فَقَدْ عَصَى" رواه مسلم (¬2) . 1333- وعنه - رضي الله عنه -، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يقول: "إنَّ اللهَ يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الوَاحِدِ ثَلاَثَةَ نَفَرٍ الجَنَّةَ: صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ في صَنْعَتِهِ الخَيْرَ، وَالرَّامِي بِهِ، ومُنْبِلَهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ والقتال (فلا يعجز) بكسر الجيم على الأفصح (أحدكم أن يلهو بأسهمه) جمع قلة لسهم، ويجمع على سهام في الكثرة. قال المصنف: معنى الحديث الندب إلى الرمي والتمرن عليه (رواه مسلم) . 1332- (وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من علم الرمي ثم تركه فليس منا) أي: من أهل هدينا (أو) شك من الراوي (فقد عصي) قال المصنف: هذا تشديد عظيم في نسيان الرمي بعد علمه، وهو مكروه كراهة شديدة لمن تركه بلا عذر (رواه مسلم) ذكره والذين قبله في الجهاد، ورواه الخطيب من حديث أبي هريرة مرفوعاً بلفظ "من علم الرمي ونسيه فهي نعمة جحدها". 1333- (وعنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة) الباء فيه للسببية، أي: جعل الله ذلك سبباً لدخولهم إياها (صانعه) بالنصب على الاتباع وبالرفع بالابتداء، أو النصب بتقدير أعني على القطع (يحتسب في صنعه الخير) أي: يقصد بعمله التقرب إلى الله به وإثابته (والرامي به ومنبله) بصيغة اسم الفاعل من التنبيل، قال في النهاية: يجوز أن يراد به الذي يرد النبل على الرامي من الهدف. اهـ، وقال ابن رسلان: فالضمير عائد إلى الرامي، يقال: نبلته إذا ناولته السهم ليرمي به العدو، وقال البغوي: هو الذي يناول الرامي النبل، وهو يكون على وجهين: أحدهما: أن يقوم بجنب الرامي أو خلفه، فيناوله النبل واحداً بعد واحد. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: فضل الرمي والحث عليه ... (الحديث: 168) . (¬2) أخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: فضل الرمي والحث عليه ... (الحديث: 169) .

1336- وعن أَبي يحيى خُرَيْم بن فاتِكٍ - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أنْفَقَ نَفَقَةً في سَبيلِ اللهِ كُتِبَ لَهُ سَبْعُمِئَةِ ضِعْفٍ" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ عمرو الأنصاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "من رمى بسهم في سبيل الله فقصر أو بلغ كان ذلك له نوراً يوم القيامة" وأخرج الحاكم في المستدرك من حديث أبي نجيح السلمي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "من رمى بسهم في سبيل الله فله عدل محرر ومن بلغ بسهم في سبيل الله فله درجة في الجنة" وأخرج ابن حبان من حديث كعب بن مرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "من رمى بسهم في سبيل الله كان كمن أعتق رقبة" أورد ذلك كله في الجامع الكبير. 1336- (وعن أبي يحيى خريم) قال في التقريب: بالتصغير (ابن فاتك) بالفاء وبعد الألف تاء مثناة من فوق، ثم كاف الأسدي (رضي الله عنه) وهو خريم بن الأخرم بن شداد بن عمرو بن فاتك فهو نسبة لجد جده صحابي شهد الحديبية، ولم يصح أنه شهد بدراً، مات بالرقة في خلافة معاوية، خرّج حديثه أصحاب السنن الأربع. اهـ، وخالفه المصنف في التهذيب، وحكى الخلاف في شهوده بدراً وصحّح شهوده إياها قال: وبه قال البخاري والأكثرون وهو معدود في الشاميين، وقيل: في الكوفيين. اهـ روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة أحاديث كما في مختصر التلقيح وغيره (قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أنفق نفقة في سبيل الله كتب) أي: أثبت المنفق (له) في صحف الأعمال أو في عالم الملكوت في علم الله (سبعمائة ضعف) وتقدم أن الآية تشهد لتضعيف كل ما أنفق في سبيل الله، إلى هذا العهد (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) قال في الجامع الكبير: وروى أحمد والنسائي وابن حبان في صحيحه والبغوي والماوردي، والحاكم في المستدرك عن خريم بن فاتكة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فبسبعمائة ضعف، ومن أنفق على نفسه أو على أهله، أو عاد مريضاً، أو أماط أذى عن الطريق، فهي حسنة بعشر أمثالها والصوم جنة ما لم يخرقها، ومن ابتلاه الله في جسده فهو له حطة" (¬2) رواه الطبراني وأحمد ¬

_ = أخرجه الترمذي في كتاب: فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فضل الرمي في سبيل الله، (الحديث: 1638) . (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب: فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فضل النفقة في سبيل الله، (الحديث: 1625) . (¬2) أي يحط به منه ذنوبه.

1337- وعن أَبي سعيد - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْماً فِي سَبيلِ اللهِ إِلاَّ بَاعَدَ اللهُ بِذلِكَ اليَوْمِ وَجهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرْيفاً" متفقٌ عَلَيْهِ (¬1) . 1338- وعن أَبي أُمَامَة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَنْ صَامَ يَوْماً في سَبيلِ اللهِ جَعَلَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ خَنْدَقاً كما بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ" ـــــــــــــــــــــــــــــ وابن منيع والدارمي وأبو يعلى والشاشي وابن خزيمة، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في الشعب والدارقطني وأبو يعلى الموصلي عن أبي عبيدة بن الجراح، كذا في الجامع الكبير. 1337- (وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من عبد) أي: مكلف فيشمل الذكر والأنثى، أو يراد به الذكر، وخص بالذكر جرياً على الغالب من مثابرته على الطاعة دونها، فلا مفهوم له (يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم) أي: بسبب صومه (وجهه) أي: ذاته كما في قوله تعالى: (كل شيء هالك إلا وجهه) (¬2) وهو في الحديث مجاز مرسل، ويحتمل إجراء الحديث على ظاهره، ويلزم من صرف الوجه عنها قدر ما يأتي صرف جميع البدن (عن النار سبعين خريفاً متفق عليه) ورواه الطبراني وأحمد والترمذي والنسائي، وجاء من حديث أبي هريرة بنحوه، إلا أنه قال: بدل باعد زحزح. رواه أحمد والترمذي وقال: غريب، ورواه النسائي من حديث أبي سعيد، لكن أبدل لفظ "خريفاً" بقوله "عاماً" كذا في الجامع الكبير، وتقدم مشروحاً في باب فضل الصوم. 1338- (وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من صام يوماً في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقاً) بفتح الخاء المعجمة والمهملة وسكون النون بينهما، وآخره قاف بوزن جعفر، حفير حول أسوار المدينة معرب كندة، كذا في القاموس، وهو هنا كناية أو مجاز مرسل عن البعد (كما بين السماء والأرض) قال السيوطي في كتابة للهيئة السنية: أخرج ابن راهويه في مسنده، والبزار بسند صحيح وأبو الشيخ عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام" وأخرج أحمد في مسنده وأبو داود والترمذي، وحسنه وابن ماجه وابن أبي عاصم في الستة وأبو يعلى وابن خزيمة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: فضل الصوم في سبيل الله (6/35) . وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: فضل الصيام في سبيل الله لمن يطيقه ... (الحديث: 167) . (¬2) سورة القصص، الآية: 88.

يَا رسولَ اللهِ، الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُذْكَرَ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ ليُرَى مَكَانُهُ؟ وفي رواية: يُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً. وفي رواية: يُقَاتِلُ غَضَباً، فَمَنْ في سبيل الله؟ فقالَ رسولُ اللهِ: "مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا، فَهُوَ في سَبيلِ اللهِ" متفقٌ عَلَيْهِ. (¬1) . 1342- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ غَازِيَةٍ، أَوْ سَرِيّةٍ تَغْزُو، فَتَغْنَمُ وَتَسْلَمُ، إِلاَّ كَانُوا قَدْ تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ ـــــــــــــــــــــــــــــ (أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله الرجل) (ال) فيه للعهد الذهني نحوها في داخل السوق (يقاتل للمغنم) أي: لأجل الغنيمة (والرجل يقاتل ليذكر) أي: بين الناس ويشتهر (والرجل يقاتل ليرى) بصيغة المجهول (مكانه) نائب الفاعل، أي: مرتبته في الشجاعة (وفي رواية) أي: لهما وهي التي أوردها المصنف في باب الإِخلاص، وقال: متفق عليه (الرجل يقاتل شجاعة) أي: تحمله شجاعته على لقاء الأقران كما في رواية (ويقاتل حمية) بفتح المهملة وكسر الميم وتشديد التحتية، أي: أنفة وغيرة ومحاماة عن نحو العشيرة (ويقاتل غضباً) أي: للعقب القائم به (فمن) من هؤلاء الأنواع معدود (في سبيل الله) موعود بالثواب المرتب على المقاتلة فيه (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قاتل لتكون كلمة الله) أي: كلمة التوحيد، أي: لتكون الملة الحنيفية (هي) ضمير فصل أتى به؛ لإفادة الحصر (العليا فهو في سبيل الله) دون من قاتل لغرض دنيوي من طلب مغنم، أو حمية أو قاتل للرياء والسمعة (متفق عليه) والحاصل أن المثاب من قاتل الكفار إيماناً واحتساباً، لا المقاتل لغرض دنيوي أو عرض دني. 1342- (وعن عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من غازية) أي: طائفة غازية (أو) يحتمل أن تكون للتنويع، وأن تكون للشك من الراوي (سرية) قطعة من الجيش، فعلية بمعنى فاعله؛ لأنها تسري ليلا في خفية، والجمع سرايا وسريات، مثل عطية وعطايا وعطيات، وتقدم فيها بسط وهي محتملة؛ لأن تكون من مصدر ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: من قاتل لتكون كلمة الله ... (6/21، 22) . وأخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، (الحديث: 149) .

أُجُورِهْم، ومَا مِنْ غَازِيَةٍ أوْ سَرِيةٍ تُخْفِقُ وتُصابُ إِلّا تَمَّ لَهُمْ أُجُورُهُمْ " رَوَاهُ مُسلمٌ (¬1) . 1343- وعَنْ أَبي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَ رجُلًا قَالَ: يَا رسُولَ اللهِ ائْذَنْ لي في ـــــــــــــــــــــــــــــ سرى، أي: سار ليلا كما ذكر، ومن السري وهو الجبار (¬2) (تغزو فتغنم) بالنصب في جواب النفي (وتسلم) أي: من الموت، ويحتمل أن يراد وتسلم حتى من نحو الجرح (إلا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجورهم) جاء في رواية زيادة: من الآخرة، ويبقى لهم الثلث كما في الجامع الكبير والصغير، وذكر مخرجيه الآتيين. قال المصنف: معناه يكون أجرهم أقل من أجر من لم يسلم أو سلم ولم يغنم، وإن الغنيمة في مقابلة جزء من أجر غزوهم، فإذا حصلت لهم فقد تعجلوا ثلثي أجرهم المرتب على الغزو وتكون هذه الغنيمة من جملة الأجر، ولا ينافي هذا الحديث السابق أن المجاهد رجع بما نال من أجر وغنيمة، أنه لا يتعرض في ذلك لنقص الأجر، ولا قال أجره كأجر من لم يغنم فهو مطلق وهذا مقيد فوجب حمل المطلق على المقيد. اهـ ملخصاً كا (وما من غازية أو سرية تخفق) بضم الفوقية وسكون المعجمة وكسر الفاء، قال أهل اللغة: الإخفاق أن يغزوا فلا يغنموا شيئاً وكذا كل طالب حاجة إذا لم تحصل فقد أخفق، ومنه أخفق الصائد إذا لم يقع له صيد (وتصاب) أي: بالموت أو بنحو الجرح (إلا تمّ لهم أجورهم) قال المصنف: وحاصل معنى الحديث وهو الصواب الذي لا يجوز غيره، أن الغزاة إذا سلموا وغنموا يكون أجرهم أقل من أجر من لم يسلم أو سلم ولم يغنم، وهذا موافق للأحاديث الصحيحة المشهورة عن الصحابة، كقولهم: فمنا من مضى ولم يأكل من أجره شيئاً ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهديها، أي: يجتنيها. قال القرطبي بعد أن نقل ترجيح ذلك عن القاضي عياض: ويدل لصحة هذا التأويل قوله إلا تعجلوا ثلثي أجرهم. قال القرطبي: ويحتمل أن هذه التي أخفقت إنما يزاد في أجرها لشدة ابتلائها وأسفها على ما فاتها من الظفر والغنيمة، قلت فيه بعد: لأن الكامل من قاتل لإِعلاء كلمة الله فهو باذل نفسه لله غير ناظر لعرض ولا غرض (رواه مسلم) وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه كذا في الجامعين. 1343- (وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن رجلاً) لم يسمه ابن رسلان في شرحه (قال: يا رسول الله ائذن لي في السياحة) بكسر المهملة وبالتحتية، أراد مفارقة الوطن، والذهاب في ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: بيان قدر ثواب من غزا فغنم، ومن لم يغنم، (الحديث: 154) . (¬2) كذا بالنسخ ولعله وهو الجدول كما في المصباح.

الغَزْوِ بَعدَ فَرَاغِهِ؛ ومعناه: أنه يُثَابُ في رُجُوعِهِ بعد فَرَاغِهِ مِنَ الغَزْوِ (¬1) . 1345- وعن السائب بن يزيد - رضي الله عنه -، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ غَزْوَةِ تَبُوك تَلَقَّاهُ النَّاسُ، فَتَلَقّيتُهُ مَعَ الصِّبْيَانِ عَلَى ثَنيَّةِ الوَدَاعِ. رواه أَبُو داود بإسنادٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ ثانيهما: أنهم إذا انصرفوا ظاهرين لم يأمنوا أن يقفو العدو أثرهم فيوقعوا بهم وهم غارون، فربما استظهر الجيش أو بعضهم بالرجوع على أدراجهم، فإن كان من العدو طلب كانوا مستعدين للقائهم، وإلا فقد سلموا وأحرزوا ما معهم من الغنيمة، وقيل: يحتمل أن يكون عن قوم قفلوا لخوفهم أن يدهمهم من عدوهم من هو أكبر منهم عدداً، وقفلوا يستضيفوا إليهم عددا آخر من أصحابهم، ثم يكروا على عدوهم. اهـ والمعنى الأول مذكور في الأصل (رواه أبو داود بإسناد جيد) ورواه أحمد والحاكم في المسند، كما في الجامع الصغير (القفلة: الرجوع) فيه تجوز والمراد أنها المرة منه وإلا فالرجوع هو المقفول. في المصباح: قفل من سفره قفولاً من باب رجع، والاسم القفل بفتحتين (والمراد الرجوع من الغزو بعد فراغه ومعناه) أي: ومعنى الحديث بجملته (أنه يثاب في رجوعه بعد فراغه من الغزو) كما يثاب في ذهابه إليه لما في القفول من المعاني السابقة الداعية للإِثابة. 1345- (وعن السائب بن يزيد) بفتح التحتية الأولى وسكون الثانية وكسر الزاي بينهما تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في كتاب الحج (قال: لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك) بمنع الصرف على الأرجح للعلمية والتأنيث المعنوي (تلقاه الناس) أي: المتخلفون بالمدينة من المنذرين والمنافقين (فلقيته مع الصبيان) بكسر الصاد المهملة وضمها جمع صبي أي الغلمان قبل البلوغ (على ثنية الوداع) محل بقرب المدينة وهو بفتح الواو، وسميت بذلك لأن المسافر كان يودع عندها ويشيع إليها قاله في القاموس، والوداع بفتح الواو، اسم مصدر ودع، والظرف تنازعه كل من الفعلين قبله والأولى إعمال الثاني وإلا لأعيد الظرف، وقيل: عليها (رواه أبو داود) أواخر كتاب الجهاد من سننه (بهذا اللفظ ورواه البخاري) من حديث السائب (قال: ذهبنا نتلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع الصبيان إلى ثنية الوداع) قال العيني: هي هنا من جهة تبوك، وفي غيره يحتمل أن تكون الثنية التي من كل جهة يصل إليها المشيعون تسمى ثنية الوداع، والثنية طريق العقبة. وحكى صاحب المحكم في الثنية أقوالاً فقال: والثنية الطريق في الجبل كالنقب، وقيل: الطريق إلى الجبل، وقيل: هي العقبة، وقيل: ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: الجِهِاد، بابِ: في فِضل اِلقَفْل سبيل الله تعالى، (الحديِث: 2487) .

صحيح بهذا اللفظ ورواه البخاري قَالَ: ذَهَبنا نَتَلَقَّى رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، مَعَ الصِّبْيَانِ إِلَى ثَنِيَّةِ الوَدَاعِ (¬1) . 1346- وعن أَبي أُمَامَة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَنْ لَمْ يَغْزُ، أَوْ يُجَهِّزْ غَازِياً، أَوْ يَخْلُفْ غَازياً في أهْلِهِ بِخَيرٍ، أصَابَهُ اللهُ بِقَارعَةٍ قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ" رواه أَبُو داود بإسنادٍ صحيحٍ (¬2) . 1347- وعن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "جَاهِدُوا المُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأنْفُسِكُمْ وَألْسِنَتِكُمْ" رواه أَبُو داود بإسنادٍ صحيح (¬3) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الجبل نفسه، وقال الداودي: ثنية الوداع من جهة مكة وتبوك من الشام مقابلتها كالمشرق من المغرب، إلا أن تكون ثنية أخرى في تلك الجهة. قال: والثنية الطريق في الجبل، ورد عليه صاحب التوضيح بقوله وليس كذلك إنما الثنية. ما ارتفع من الأرض. قلت كأن هذا ما اطلع على ما قاله صاحب المحكم فلذا أسرع بالرد. اهـ. 1346- (وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من لم يغز) أي: بالخروج له (أو يجهز غازياً) أي: يهيء له أسباب سفره (أو يخلف) بفتح التحتية وضم اللام (غازياً في أهله بخير) أي: يكون قائماً عنه بمصالحهم (أصابه الله بقارعة) أي: داهية تقرعه وتقلقه (قبل يوم القيامة) أشار إلى تعجيلها (رواه أبو داود) في الجهاد (بإسناد صحيح) ورواه الدارمي وابن ماجه والطبراني والدارقطني والموصلي، كذا في الجامع الكبير. 1347- (وعن أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: جاهدوا المشركين بأموالكم) بأن تنفقوها في عدد الحرب وآلاته من خيل وكراع وسلاح (وأنفسكم) بأن تقاتلوهم (وألسنتكم) بأن تقرعوهم بكفرهم وتوبخوهم بشركهم، أو بإقامة الحجة على ضلالهم وبطلان أعمالهم (رواه أبو داود بإسناد صحيح) ورواه أحمد والنسائي وابن حبان والحاكم في المستدرك، كذا في الجامع الصغير. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: في التلقي، (الحديث: 2779) . وأخرجه البخاري في أول باب من كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى كسرى وقيصر (6/133) . (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: كراهية ترك الغزو، (الحديث: 2503) . (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: كراهية ترك الغزو، (الحديث: 2504) .

1348- وعن أَبي عمرو - ويقالُ: أَبُو حكيمٍ - النُّعْمَانِ بن مُقَرِّن - رضي الله عنه - قَالَ: شَهِدْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ من أوَّلِ النَّهَارِ أخَّرَ القِتَالَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، وَتَهُبَّ الرِّيَاحُ، وَيَنْزِلَ النَّصْرُ. رواه أَبُو داود والترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" (¬1) . 1349- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وَاسْأَلُوا اللهَ العَافِيَةَ، فَإذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا" ـــــــــــــــــــــــــــــ 1348- (وعن أبي عمرو) بفتح العين (ويقال أبو حكيم) بفتح المهملة وكسر الكاف (النعمان بن مقرن) بضم الميم وفتح القاف وتشديد الراء وبالنون، أخره ابن عائد المزني أحد الأخوة السبعة الذين هاجروا معاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (رضي الله عنه) صحابي مشهور، استشهد بنهاوند سنة إحدى وعشرين، ووهم من زعم أنه النعمان بن عمرو بن مقرن، فذاك آخر هو ابن أخي هذا، وهو تابعي، وهذا الصحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة، كذا في التقريب للحافظ، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستة أحاديث، انفرد البخاري بحديث منها ومسلم بآخر (قال: شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا لم يقاتل من أول النهار) حال برد الصبح، وهبوب نسماته (آخر القتال حتى تزول الشمس) من كبد السماء إلى جرة المغرب (وتهب الرياح وينزل النصر) وذلك ليبرد الوقت، ويسهل لبس السلاح على المقاتلة، وعلى الخيل الكر والفر، ويكون مع ذلك النصر بالتأييد الإِلهي (وراه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح) قال ابن رسلان: وحربه عند هبوب الرياح استبشار بما نصره الله من الرياح، وهذا مفهوم من قوله "نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور" ويرجو أن يهلك الله أعاديه بالدبور، كما أهلك عاداً بها، ونصر بالصبا. وعند البخاري: وتهب رياح النصر، وفي رواية: ويحضر الصلوات أوقاتها، فأوقاتها أفضل الأوقات ويستجاب فيها الدعاء. 1349- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تتمنوا لقاء العدو) لئلا تفتتنوا عند لقائهم (فإذا لقيتموهم) أي: إذا لقوكم لا عن طلب منكم، وتعرض له (فاصبروا) أي: فأنتم حينئذ معانون، لأنكم مبتلون، وقريب منه حديث "لا تطلب الإِمارة ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: في أي وقت يستحب اللقاء، (الحديث: 2655) . وأخرجه الترمذي في كتاب: السير، باب: ما جاء في الساعة التي يستحب فيها القتال، (الحديث: 1613) .

خَمْسَةٌ: المَطْعُونُ (¬1) , وَالمَبْطُونُ (¬2) ، وَالغَرِيقُ، وَصَاحِبُ الهَدْمِ (¬3) ، وَالشَّهِيدُ في سَبِيلِ اللهِ" متفقٌ عَلَيْهِ (¬4) . 1352- وعنه قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا تَعُدُّونَ الشُّهَدَاءَ ـــــــــــــــــــــــــــــ به ثم زيد في عددهم، فأخبر به ثانياً (المطعون) أي: الذي أصابه الطاعون، وهو وخز الجن ومحله ما لم يسمع به ببلد فيقدم عليه للنهي عن ذلك (والمبطون) من مات بمرض البطن، وقيل: بالإِسهال (والغريق) أي: منِ مات بالغرق (وصاحب الهدم) أي: من مات تحته (والشهيد في سبيل الله) المقاتل إيماناً واحتساباً (متفق عليه) ورواه مالك والترمذي. 1352- (وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما تعدون الشهداء فيكم؟ قالوا: يا رسول الله من قتل في سبيل الله) أي: في معركة الكفار إيماناً واحتساباً (فهو شهيد. قال: إن شهداء أمتي إذاً لقليل) قال البدر الزركشي الشافعي في كتاب البرهان في علوم القرآن: إذن نوعان: الأول: أن تكون مؤكدة لجواب ارتبط بمقدم، أو منبهة على مسبب على سبب حصل في الحال وهي في الحال غير عاملة؛ لأن المؤكدات لا يعتمد عليها، والعامل يعتمد عليه، وتدخل هذه الاسمية. ويجوز توِسيطها وتأخيرها ومنه قوله تعالى: (ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين) (¬5) فهي مؤكدة للجواب مرتبطة بما تقدم. وذكر بعض المتأخرين لها معنى ثالثاً هو أن يكون من إذ التي ظرف زمان ماض، ومن جملة بعدها تحقيقاً أو تقديراً، لكن حذفت الجملة تخفيفاً، وأبدل التنوين منها كما في قولهم حينئذ، وليست هذه الناصبة لاختصاص الناصبة بالمضارع، وهذه تدخل على الماضي نحو (إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ) (¬6) وعلى الاسم نحو إن كنت ظالماً إذا حكمك فيّ تافه. وقوله تعالى: (وإنكم إذاً لمن المقربين) (¬7) وأعلم أن هذا المعنى لم يذكره النحاة، لكن قياس قولهم: إنه يحذف المضاف إليها، إذ ويعوض عنها التنوين كيومئذ، وإن لم يذكروا حذف ¬

_ (¬1) الذي أصابه الطاعون. (¬2) من مات بمرض البطن. (¬3) أي من مات تحته. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: الشهادة سبع سوى القتل (6/32 و33) . وأخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: بيان الشهداء، (الحديث: 164) . (¬5) سورة البقرة، الآية: 145. (¬6) سورة الإِسراء، الآية: 100. (¬7) سورة الشعراء, الآية: 42.

فِيكُمْ؟ " قالوا: يَا رسولَ اللهِ، مَنْ قُتِلَ في سَبيلِ اللهِ فَهُوَ شَهِيدٌ. قَالَ: "إنَّ شهَدَاءَ أُمَّتِي إِذَاً لَقَليلٌ"! قالوا: فَمَنْ هُمْ يَا رسول الله؟ قَالَ: "مَنْ قُتِلَ في سَبيلِ الله فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ في سَبيلِ الله فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ في الطَّاعُونِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ في البَطْنِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَالغَرِيقُ شَهِيدٌ" رواه مسلم (¬1) . 1353- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ" (¬2) ـــــــــــــــــــــــــــــ الجملة من إذا وتعويض التنوين عنها. قال أبو حبان: وليس هذا بقول نحوي، ثم نقل الزركشي عن القاضي ابن الجويني نحو ما قاله ذلك البعض، وأنه لا ينافي جعل إذا من نواصب المضارع، لأنه محمول على إذن الأصلية لا على ما كانت إذن وأضيفت لجملة حذفت عوض عنها التنوين، فيرفع المضارع بعد تلك اهـ ملخصاً، وحاصله أنها فيما ذكر، إما للتنبيه على قلة الشهيد الحاصل من قصر الشهادة على ما ذكروه، أو أنها من تنوين إذ المضافة للجملة عوضاً عنها، والأصل إذا كان شهداء أمتي من ذكرتم فقط (قالوا: فمن يا رسول الله؟ قال: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله) أي: بسبب غير القتال كأن سقط عن فرسه أو مات حتف أنفه (فهو شهيد، ومن مات في الطاعون) أي: بسببه كما تقدم في الحديث قبله ففي سببية كهي في حديث "دخلت النار امرأة في هرة حبستها" الحديث (فهو شهيد، ومن مات من) وفي نسخة: في، وكلاهما للتعليل (البطن) شامل لسائر أدوائه (فهو شهيد، والغريق شهيد رواه مسلم) . 1353- (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قتل دون ماله) قال القرطبي: دون في أصلها ظرف مكان بمعنى تحت، وتستعمل للتنبيه مجازاً، ووجهه أن الذي يقاتل عن ماله غالباً إنما يجعله خلفه، أو تحته ثم يقاتل عليه (فهو شهيد) قال ابن المنذر: الذي عليه أهلم العلم أن للرجل أن يدفع عن من أراد أن يأخذ ماله ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: بيان الشهداء، (الحديث: 165) . (¬2) قال ابن المنذر: الذي عليه أهل العلم أن للرجل أن يدفع من أراد أن يأخذ ماله أو شيئاً منه ظلماً من غير تفصيل ألا أن كل من يحفظ عنه من علماء الحديث كالمجمعين على استثناء السلطان للآثار الواردة بالأمر بالصبر على جوره.

فَقَالَ: يَا رسولَ اللهِ، أرَأيتَ إنْ جَاءَ رجلٌ يُرِيدُ أخْذَ مَالِي؟ قَالَ: "فَلاَ تُعْطِهِ مَالَكَ" قَالَ: أَرَأَيْتَ إنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: "قَاتِلْهُ" قَالَ: أرَأَيْتَ إنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: "فَأنْتَ شَهِيدٌ" قَالَ: أَرَأيْتَ إنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: "هُوَ فِي النَّارِ" رواه مسلم (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ رسول الله أرأيت) بفتح التاء، أي: أخبرني (إن جاء رجل يريد أخذ مالي) أي: بغير حق حذف جوابه لدلالة المقام عليه، أي: فما أفعل (قال: فلا تعطه مالك) جواب لشرط دل عليه وجوده في السؤال (قال: أرأيت إن قاتلني) أي: لأخذ مالي (قال: قاتله) الأمر للإِباحة (قال: أرأيت إن قتلني) أي: وقد قاتلته لذلك (قال: فأنت شهيد) أي: من شهداء الآخرة، فيغسل ويصلى عليه (قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: فهو في النار) أي: مخلد إن استحل ذلك، أو يدخلها إن أريد تعذيبه، ثم يخرج منها إن كان غير مستحل (رواه مسلم) وقد جمع بعض الأفاضل شهداء الآخرة ونظمهم في أبيات فقال: من بعد حمد الله والصلاة ... على النبي وآله الهداة خذ عدة الشهداء سرداً نظماً ... وأحفظ هديت للعلوم فهما محب آل المصطفى ومن نطق ... عند إمام جائر بعين حق وذوا اشتغال بالعلوم ثم من ... على وضوء نومه نال المنن ومن يمت فجأة حريق ... ومائت بفتنة غريق لديغ أو مسحور أو مسموم ... ذو عطش مجوعة مولوم أكيل سبع عاشق مجنون ... والنفساء ذو الهرم والمبطون ومن بذات الجنب أو ظلماً قتل ... أو دون مال أو دم أهل نقل أو دين أو في الحرب أو مات به ... مؤذن محتسب لربه وجالب مبيع سعر يومه ... أو مات في الطاعون بين قومه كذا الغريب وبعين قد قرا ... أواخر الحشر بها نال الذرا ومن يلازم وتره. وورده ... عند الضحا وصوم حتم سعده ومن يصل ثالث الأسبوع ... عند الزوال عاشر الركوع ويقرأ الكرسي بعد الفاتحة ... وسورة الإِخلاص حتماً صالحة ومن يقل في الموت بارك ثم في ... ما بعده خمساً وعشرين اصطفى ومن بصدق يسأل الشهادة ... نال بذاك غاية السعادة ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره ... (الحديث: 225) .

236- باب فضل العتق

236- باب فضل العتق قَالَ الله تَعَالَى (¬1) : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ) الآية. 1356- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً أعْتَقَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ، عُضْواً مِنْهُ في النَّارِ، حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ" ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو إزالة الرق عن الآدمي من عتق سبق أو استقل تقرباً إلى الله تعالى. فخرج بالآدمي الطير والبهائم، فلا يصح عتقها على الأصح قال ابن الصلاح: الخلاف فيما يملك بالاصطياد. أما البهائم، فإعتاقها من قبيل سوائب الجاهلية، وهو باطل قطعاً. اهـ. ورواية أبي نعيم أن أبا الدرداء رضي الله عنه "كان يشتري العصافير من الصبيان ويرسلها". يحمل إن صحت على أن ذلك رأي له (قال الله تعالى: فلا اقتحم العقبة) اقتحم: دخل وتجاوز بشدة، جعل الأعمال الصالحة عقبة وعملها اقتحاماً لها، فيه من مجاهدة النفس، أي: فلم يشكر ما أنعم الله به عليه من أعمال الحسنات (وما أدراك ما العقبة) أي: لم تدرك صعوبتها وثوابها (فك رقبة) تفسير للعقبة أي: تخليصها من الرق (الآية) بالنصب وبالرفع، كما تقدم توجيهها ومراده (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) (¬2) ، فالعقبة عتق الرقبة، وإطعام من ذكر، والتواصي بالصبر والمرحمة، وقجل: إن المعطوف بثم عليه قوله: (فلا اقتحم العقبة) فالمعنى: لا اقتحم ولا كان من المؤمنين، وثم لتباعد رتبة الإِيمان عن العتق والإِطعام، فالعقبة مفسرة بالعتق والإِطعام، وخصا، لما فيه من النفع المتعدي. 1356- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من) أي: أي مسلم كما قيد به في الخبر الآتي (أعتق رقبة مسلمة) ذكراً كان المعتق أو أنثى نفيساً أو خسيساً، كما يومىء إليه النكرة في سياق الشرط (أعتق الله بكل عضو منه) أي: بدل كل عضو من المعتق، فالتذكير باعتبار ما ذكر (عضواً منه) أي: المعتق (من النار) صلة أعتق (حتى) عاطفة (فرجه) بالنصب عطفاً على المنصوب أي: حتى أعتق فرج المعتق (بفرجه) أي: بدل فرجه، أو ¬

_ (¬1) سورة البلد، الآيات: 11، 12، 13. (¬2) سورة البلد، الآيات: 14، 15، 16، 17.

1358- وعنِ المَعْرُورِ بن سُوَيْدٍ، قَالَ: رَأيْتُ أَبَا ذَرٍ - رضي الله عنه -، وَعَلَيهِ حُلَّةٌ وَعَلَى غُلاَمِهِ مِثْلُهَا، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَذَكَرَ أنَّهُ قَدْ سَابَّ رَجُلاً عَلَى عَهْدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فَعَيَّرَهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِليَّةٌ هُمْ إخْوَانُكُمْ وَخَوَلُكُمْ جَعَلَهُمُ الله تَحْتَ أيديكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا ـــــــــــــــــــــــــــــ 1358- (وعن المعرور) بإهمال العين والراء بصيغة المفعول (بن سويد) بضم المهملة وفتح الواو وسكون التحتية بعدها مهملة الأسدي، أبو أمية الكوفي ثقة من كبار التابعين عاش مائة وعشرين سنة خرج حديثه الستة (قال: رأيت أبا ذر) الغفاري (رضي الله عنه وعليه حلة) بضم المهملة وتشديد اللام، ثوب مركب من ظهارة وبطانة من جنس واحد جمعها حلل كغرفة وغرف (وعلى غلامه مثلها) أي: حلة مثل حلتها (فسألته عن ذلك) أي: سبب مساواته ملبوس عبده لملبوسه، والعادة التفاوت بينهما، (فذكر أنه ساب) بتشديد الموحدة أصله سابب، فأدغمت إحداهما في الأخرى (رجلاً) هو بلال رضي الله عنه (على عهد) أي: زمن (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعيره بأمه) بقوله يا ابن السوداء (فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنك امرؤ فيك جاهلية) أتى بالمؤكد في الحكم الملقى لخالي الذهن تنزيلاً له منزلة المنكر، كقول الشاعر: جاء فلان عارضاً رمحه ... إن بني عمك فيهم رماح فالمخاطب غير شاك في ذلك، لكن لما جاء عارضاً رمحه صار كالمنكر لذلك فعومل معاملته، أي: خلق من أخلاق الجاهلية، وهي ما قبل الإِسلام، سموا به لكثرة جهالاتهم وذلك الفخر بالأنساب (هم) أي: الأرقاء (إخوانكم) لأنهم من الأب الأول وهو آدم، ومن الأب الثاني وهو نوح عليهما الصلاة والسلام. ويحتمل أن يراد الأخوة في الإِسلام ويكون العبد الكافر بطريق التبع، أو يختص الحكم بالمؤمن (وخولكم) بفتح الخاء والواو. قال في المصباح: مثل الخدم والحشم وزناً ومعنى (جعلهم الله) أي: صيرهم، وقدم المفعول لكونه ضميراً متصلاً؛ ولأن المقام له، وقال الحافظ في الفتح: الخول والخدم سموا بذلك؛ لأنهم يتخولون الأمر أي: يصلحونه، ومنه الخولي لمن يقوم بإصلاح البستان. اهـ (تحت أيديكم) مجاز عن القدرة والملك ثم فرع على أصله مما ذكر قوله (فمن كان أخوه) عثر به حملاً على الشفقة وتحريضاً على الإِحسان كما هو شأن الإِخوان (تحت يده فليطعمه مما يأكل) أي: من جنس ما يأكل بدليل قوله في الحديث بعده: "فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة"، والمراد: المواساة من كل وجه، لكن أخذ بالأكمل أبو ذر فعل المواساة، وهو الأفضل فلا يستأثر عياله

يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ" متفقٌ عَلَيْهِ. (¬1) . 1359- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِذَا أَتَى أحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ، فَإنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ، فَلْيُنَاوِلْهُ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ أَوْ أُكْلَةً أَوْ أُكْلَتَيْنِ؛ فَإنَّهُ وَلِيَ عِلاَجَهُ" رواه البخاريُّ ـــــــــــــــــــــــــــــ بطعام وإن كان جائزاً (وليلبسه) بضم التحتية فيه وفي يطعمه (مما يلبس) بفتح التحتية والموحدة. والأمران محمولان عند الجمهور على الندب، والواجب ما يسد بهما حاجتهما، من الطعام واللباس المعتاد للحزم في ذلك البلد لا خصوص مطعوم وملبوس السيد، وفي الموطأ ومسلم عن أبي هريرة مرفوعاً "للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف، ولا يكلف من العمل ما لا يطيق"، وهو يقتضي رد ذلك إلى المعروف فمن زاد عليه كان متطوعاً (ولا تكلفوهم) تلزموهم كلفة (ما يغلبهم) بفتح أوله، أي: عمل ما يعجزون عنه أو تلحقه به مشقة لا تحتمل لعادة أمثاله (فإن كلفتموهم) أي: ما يغلبهم وحذف للعلم به (فأعينوهم) ليرتفع عنهم بعض التعب (متفق عليه) أخرجه البخاري في الإيمان، وفي العتق، وفي الأدب. ومسلم في النذور. ورواه أبو داود في الأدب من سننه، والترمذي في البر، والصلة من جامعه. وقال: حسن صحيح وابن ماجه في الأدب ببعضه "إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم" قال الحافظ في الفتح: ويلتحق بالرقيق من في معناه من أجير وغيره. 1359- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أتى أحدكم خادمه) قدم المفعول على الفاعل؛ لئلا يعود الضمير لو جاء على الأصل إلى متأخر لفظاً ورتبة من مواضعه، وهو يشمل الرقيق والأجير وغيرهما من الخادم بالنفقة من غير عقد إجارة أو على سبيل التبرع بها (بطعامه فإن لم يجلسه معه) كما هو الأفضل لما فيه من التواضع وعدم الترافع على المسلم (فليناوله) وفي نسخة فلينوله والأمر للندب (لقمة أو لقمتين) في المصباح: اللقمة من الخبز (أو) شك من الراوي (أكلة أو أكلتين) وعلل الأمر المندوب بقوله (فإنه ولي علاجه) قال في النهاية: أي: عمله، وقال غيره: أي: مزاولته من تحصيل آلاته ووضع القدر على النار وغير ذلك (رواه البخاري) في كتاب الأطعمة بلفظ "فقد كفاه دخانه وعلاجه فليجلسه معه، فإن لم يجلسه معه فليناوله أكلة أو أكلتين" متفق عليه ورواه أبو داود ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: العتق، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - العبيد إخوانكم (1/80 و81) . وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: إطعام المملوك مما يأكل ... (الحديث: 38) .

مُتَفَق عَلَيْهِ (¬1) . 1362- عن أَبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المَمْلُوكُ الَّذِي يُحْسِنُ عِبَادَةَ رَبِّهِ، وَيُؤَدِّي إِلَى سَيِّدِهِ الَّذِي عَلَيْهِ مِنَ الحَقِّ، وَالنَّصِيحَةِ، وَالطَّاعَةِ، لهُ أجْرَانِ" رواه البخاري (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنه كان يرى للعبد التصرف في ماله بغير إذن سيده اهـ ملخصاً من الفتح (متفق عليه) . 1362- (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المملوك الذي يحسن عبادة ربه ويؤدي) أي: يعطي (إلى سيده الذي عليه) أي: واجب لسيده (من الحق والطاعة والنصيحة له أجران) بيان للإِبهام الذي في الموصول (رواه البخاري) في العتق. 1363- (وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ثلاثة لهم أجران) الاقتصار عليهم؛ لدعاية المقام إليه فلا ينافي أن الذي يعطى أجره مرتين عدد كثير، جمعهم السيوطي في الجزء المشار إليه ونظمهم في آخره فقال: وجمع أتى فيما رويناه أنهم ... يثنى لهم أجرحروه محققا فأزواج خير الخلق أولهم ومن ... على زوجها أو للقريب تصدقا وفاز بجهد واجتهاد أصاب والـ ... ـوضوء اثنتين والكتابي صدقا وعبد أتى حق الإله وسيد ... وغاز تسرى مع غنى له تقا ومن أمة يشرِى فأدب محسناً ... وينكحها من بعده حين أعتقا ومن سن خيراً أو أعاد صلاته ... كذاك جبان إذ يجاهد ذا شقا فذاك شهيد في البحار ومن أتى ... له القتل من أهل الكتاب فألحقا وطالب علم مدرك ثم مسبغ ... وضوء لدى البرد الشديد فحققا ومستمع في خطبة قد دنا ومن ... بتأخير صف أول مسلماً وقا وحافظ عصر مع إمام مؤذن ... ومن كان في وقت الفساد موفقا وعامل خير مخفيا ثم إن بدا ... برى فرحاً مستبشراً بالذي ارتقى ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: العتق، باب: العبد إذا أحسن ... (5/127) . وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: ثواب العبد وأجره ... (الحديث: 44) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: العتق، باب: كراهية التطاول على الرقيق (5/128) .

1363- وعنه، قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "ثَلاثَةٌ لَهُمْ أجْرَانِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ، وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ، وَالعَبْدُ المَمْلُوكُ إِذَا أدَّى حَقَّ الله، وَحَقَّ مَوَالِيهِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ فَأدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأدِيبَهَا، وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، ثُمَّ أعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا؛ فَلَهُ أَجْرَانِ" ـــــــــــــــــــــــــــــ ومغتسل في جمعة عن جنابة ... ومن فيه حقاً قد غدا متصدقا وماش يصلي جمعة ثم من أتى ... ندا اليوم خيراً ما فضعفه مطلقا ومن حتفه قد جاء من سلاحه ... ونازع نعل إن لخير تسبقا وماش لدى تشييع ميت وغاسل ... يده بعد أكل والمجاهد أخفقا ومتبعاً ميتاً حياء من أهله ... ومستمع الآثار فيما روى التقى ومن مصحف يقرا وقاريه معرباً ... بفهم لمعناه التسريف محققا وقال المهلب: جاء النص على هؤلاء الثلاثة لينبه به على سائرِ من أحسن في معنيين في أي فعل كان من أفعال البر. اهـ (رجل من أهل الكتاب) يهودياً كان أو نصرانياً، كما استوجهه السيوطي تبعاً للطيبي، وذلك مستمر إلى يوم القيامة، كما رجّحه البلقيني، وأيده تلميذه الحافظ في الفتح، وزاد "والمرأة في ذلك كالرجل" (آمن بنبيه وآمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم -) فأجر أجرين لإِيمانه بالنبيين، فلا يلحق به الكافر المشرك إذا أسلم خلافاً للداودي. وقال الحافظ: يحتمل أن يكون تعدد أجره؛ لكونه لم يعاند كما عاند غيره ممن أضله الله على علم فحصل له الأجر الثاني لمجاهدته نفسه على مخالفة أنظاره (والعبد المملوك إذ أدى) بتشديد الدال المهملة (حق الله) بالفعل لما طلب فعله إيجاباً أو ندباً، وترك ما نهي عن فعله تحريماً أو كراهة (وحق مواليه) فإن قيل: يلزم عليه أن يكون أجر المماليك ضعف أجر السادات، أجاب الكرماني بأنه لا محذور في ذلك ويكون أجره مضاعفاً لما تقدم. وقد يكون للسيد جهات أخرى يستحق بها إضعاف أجر العبد، أو المراد ترجيح العبد المؤدي للحقين على المؤدي لأحدهما. والمراد تضعيف أجره على عمل يتخذ طاعة لله وطاعة للسيد، فيعمل عملاً واحداً ويؤجر عليه أجرين بالاعتبارين (ورجل كانت له أمة فأدّبها) علمها الآداب الشرعية (فأحسن تأديبها وعلمها) ما تحتاج إليه معاشاً ومعاداً (فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها) أي: بمهر جديد سوى العتق، كما يؤخذ من رواية الترمذي "أعتقها ثم أصدقها" فأفادت هذه الرواية ثبوت الصداق (فله أجران) هو تكرير لطول الكلام؛ للاهتمام

كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) . 1365- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَقَاضَاهُ فَأغْلَظَ لَهُ، فَهَمَّ بِهِ أصْحَابُهُ، فَقَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "دَعُوهُ، فَإنَّ لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقَالاً" ثُمَّ قَالَ: "أعْطُوهُ سِنّاً مِثْلَ سِنِّهِ" قالوا: يَا رسولَ اللهِ، لا نَجِدُ إِلاَّ أمْثَلَ مِنْ سِنِّهِ، قَالَ: ـــــــــــــــــــــــــــــ الموضع (وإذا كالوهم) أي: كالوا لهم (أو وزنوهم) أي: لهم فهو من باب حذف الجار وإيصال الفعل. وقيل: فيه حذف المضاف أي: كالوا مكيلهم، أو موزونهم (يخسرون) أي: ينقصون، وهؤلاء عادتهم في أخذ حقهم من الناس الكيل والوزن، لتمكنهم باكتيال من الاستيفاء والسرقة، بتحريك المكيال ونحوه ليسعه، وأما إذا أعطوا كالوا أو وزنوا لتمكنهم من النوعين جميعاً، ولذا ما ذكر الوزن في الأول (ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون) فإن ظن البعث راح عن مثل هذه القبائح (ليوم عظيم) لعظم ما فيه (يوم) منصوب بأعني أو مبعوثون أو بدل من الجار وفتح لإِضافته للجملة على مذهب من يرى جواز ذلك (يقوم الناس لرب العالمين) . 1365- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً) لعله زيد بن شعبة الكناني وأسلم بعد وحديثه مذكور في الشفاء إلا أن ذاك في حب (¬1) وفي رواية لأحمد "جاء أعرابي يتقاضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعيراً له " (أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يتقاضاه) أي: يطلب منه قضاء ماله عنده (فأغلظ) أي: الدائن كعادة الأعراب (له) اللام فيه للتبليغ والضمير للنبي - صلى الله عليه وسلم - (فهم به أصحابه) أي: أرادوا أن يفعلوا به جزاء إغلاظه (فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - دعوه) أي: اتركوه وعلل الأمر بقوله: (فإن لصاحب الحق مقالاً) أي: نوعاً خاصاً من المقال، وهو ما فيه علو على المدين (ثم قال: أعطوه سناً مثل سنه) طلباً للمماثلة في القضاء. قال الحافظ في الفتح: المخاطب بذلك أبو رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما أخرجه مسلم (فقالوا: يا رسول الله لا نجد إلا أمثل) أي: إلا سناً أعلى (من سنه قال: أعطوه) أي: الأعلى (فإن خيركم أحسنكم قضاء) منصوب على التمييز، وفي رواية "فإن من خيركم أو خيركم" على الشك، والمراد خيركم في المعاملة أو يكون من مقدرة، ويدل عليه الرواية المذكورة. وفي رواية "فإن أفضلكم أحسنكم قضاء". ¬

_ (¬1) في حب أي تقاضاه في ثمن حب.

1367- وعن أَبي قتادة - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ سَرَّهُ أنْ يُنَجِّيَهُ اللهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ القِيَامَةِ، فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ أَوْ يَضَعْ عَنْهُ" رواه مسلم (¬1) . 1368- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، وَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ: إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِراً فَتَجَاوَزْ عَنْهُ، لَعَلَّ اللهَ أنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَلَقِيَ اللهَ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ" متفقٌ عَلَيْهِ (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1367- (وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من سره) أي: أفرحه (أن ينجيه الله) أي: يجعله ذا نجاة (من كرب) بضم ففتح، جمع كربة، وهي غم يأخذ بالنفس لشدته وفي نسخة من كرب بفتح فسكون، وهو بمعنى الكربة قاله الجوهري (يوم القيامة فلينفس) بتشديد الفاء (عن معسر) أي: ليؤخر مطالبة الدين عن المدين المعسر. وقيل: معناه يفرج عنه (أو يضع عنه) أي: يحط عنه وهذا مقتبس من مشكاة قوله تعالى: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم) (¬3) (رواه مسلم) قال في الجامع الكبير: ورواه الطبراني عن أنس، وعن أبي قتادة بلفظ "من سره أن يأمن من غم يوم القيمة فلينظر معسراً أو ليضع عنه ". وفي فتح الباري بعد ذكر حديث الباب، ولأحمد عن ابن عباس نحوه، وقال: وقاه الله من فيح جهنم. 1368- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كان رجل) أي: ممن قبلكمِ (يداين الناس) صيغة المفاعلة؛ للمبالغة لا للمغالبة (وكان يقول لفتاه: إذا أتيت معسراً) أي: لمطالبة ما عنده (فتجاوز عنه) يدخل في التجاوز الإنظار والوضيعة وحسن التقاضي (لعل الله أن يتجاوز عنا) فيكون الجزاء من جنس العمل (فلقي الله) كناية عن الموت أو لقيه بعده (فتجاوز) أي: عفا عنه. (متفق عليه) . ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: المساقاة، باب: فضل إنظار المعسر، (الحديث: 32) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: البيوع، باب: من أنظر معسراً (4/262) . وأخرجه مسلم في كتاب: المساقاة، باب: فضل إنظار العسر، (الحديث: 31) . (¬3) سورة: البقرة الآية: 280.

1369- وعن أَبي مسعود البدريِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حُوسِبَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مِنَ الخَيْرِ شَيْءٌ، إِلاَّ أنَّهُ كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَكَانَ مُوسِراً، وَكَانَ يَأمُرُ غِلْمَانَهُ أنْ يَتَجَاوَزُوا عَن المُعْسِر. قَالَ اللهُ - عز وجل -: نَحْنُ أَحَقُّ بذلِكَ مِنْهُ؛ تَجَاوَزُوا عَنْهُ" رواه مسلم (¬1) . 1370- وعن حذيفة - رضي الله عنه - قَالَ: أُتَي اللهُ تَعَالَى بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ آتَاهُ اللهُ مَالاً، فَقَالَ لَهُ: مَاذَا عَمِلْتَ في الدُّنْيَا؟ قَالَ: "وَلاَ يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً" قَالَ: يَا رَبِّ آتَيْتَنِي مَالَكَ، فَكُنْتُ أُبَايعُ النَّاسَ، وَكَانَ مِنْ خُلُقِي الجَوَازُ، فَكُنْتُ أَتَيَسَّرُ عَلَى ـــــــــــــــــــــــــــــ 1369- (وعن أبي مسعود البدري) واسمه عقبة بن عامر، ونسب لبدر؛ لكونه نزلها وإلا فلم يشهد وقعتها كما تقدم في ترجمته (رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: حوسب رجل ممن كان قبلكم) أي: من الأمم الكائنة قبلكم (فلم يوجد له من الخير شيء إلا أنه كان يخالط الناس) أي: يعاملهم بالبيوع والمداينة (وكان موسراً) جملة حالية من فاعل يخالط (وكان يأمر غلمانه) بكسر الغين المعجمة، وفي رواية لمسلم: فتيانه (أن يتجاوزوا عن المعسر) بالإنظار وبالوضع (قال الله عز وجل: نحن أحق) أي: أولى (بذلك) أي: بالتجاوز (منه) وهذا تقريب للأذهان، وإلا فلا مشاركة بين الخالق والمخلوق في وصف بالحقيقة، حتى يفاضل بينهما فيه (تجاوزوا عنه) سهل عليه في معاملته معه، كما سهل هو في معاملته مع الخلق (رواه مسلم) . ورواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. 1370- (وعن حذيفة رضي الله عنه قال: أتى الله بعبد من عباده آتاه) بالمد أي: أعطاه (مالاً فقال له: ماذا عملت في الدنيا؟ قال:) أي: حذيفة (ولا يكتمون الله حديثاً) وجملة القول، والمحكى به معترضة بين السؤال والجواب؛ لكونها كالدليل على تحقق ما يجيب به وأن لا شبهة فيه؛ لأن ذلك الموقف الحق ليس فيه إلا الصدق (قال: يا رب آتيتني مالاً) أتى بهذه الجملة تلذذاً بالخطاب، وإلا فذكرها في السؤال مغن عن إعادتها (فكنت أبايع الناس وكان من خلقي) بضم الخاء المعجمة، وهو ملكة للنفس يصدر عنها الفعل بسهولة (الجواز) أي الصبر على المعسر وقبول ما جاء به الموسر، وإن كان فيه بعض النقص، وقد فسر ذلك ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: المساقاة، باب: فضل إنظار العسر، (الحديث: 30) .

المُوسِرِ، وَأُنْظِرُ المُعْسِرَ. فَقَالَ الله تَعَالَى: "أنَا أَحَقُّ بِذا مِنْكَ تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي" فَقَالَ عُقْبَةُ بن عامِر، وأبو مسعودٍ الأنصاريُّ رضي الله عنهما: هكَذا سَمِعْنَاهُ مِنْ فيِّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. رواه مسلم (¬1) . 1371- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً، أَوْ وَضَعَ لَهُ، أظَلَّهُ اللهُ يَومَ القِيَامَةِ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ يَومَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ" رواه ـــــــــــــــــــــــــــــ الإِبهام بقوله: (فكنت أتيسر على الموسر) بقبول ما قد يتوقف في قبوله من نقص يسير أو عيب في المأتي به (وأنظر) أي: أمهل (المعسر) إلى سعة (فقال الله تعالى: أنا أحق بذا) أي: التخفيف والتجاوز، وفي نسخة بذلك، وأشير إليه بما يشار به للبعيد؛ تفخيماً نحو قوله تعالى: (ذلك الكتاب) (¬2) (منك تجاوزوا عن عبدي) خطاب للآيتين به، وفي قوله عبدي غاية التشريف، وإيماء إلى حكمة التجاوز (فقال عقبة بن عامر) الجهني (وأبو مسعود الأنصاري رضي الله عنهما) وهو عقبة بن عمرو الأنصاري البدري، السابق حديثه بنحوه (هكذا سمعناه من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال المصنف: هكذا وقع في جميع نسخ صحيح مسلم فقال عقبة بن عامر وأبو مسعود، وقال الحفاظ: هذا الحديث إنما هو محفوظ لأبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري وحده، وليس لعقبة بن عامر فيه رواية، قال الدارقطني: والوهم في هذا الإسناد من أبي خالد الأحمر قال: وصوابه فقال عقبة بن عمرو أبو مسعود الأنصاري. كذا رواه أصحاب أبي مالك سعد بن طارق، وتابعهم نعيم بن أبي هند، وعبد الملك بن عمير ومنصور وغيرهم عن ربعي عن حذيفة فقالوا في آخر الحديث: فقال عقبة بن عمرو أبو مسعود. اهـ وفي الأطراف للمزي قال: خلف قوله عقبة بن عامر وهم لا أعلم أحداً قاله غيره يعني أبا سعيد الأشج، والحديث إنما يحفظ من حديث عقبة بن عمرو أبي مسعود اهـ (رواه مسلم) (¬3) فالحديث عن حذيفة موقوف عليه، وله حكم المرفوع؛ لأن مثله لا يقال رأياً. 1371- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أنظر معسراً) أي: أخر مطالبته (أو وضع) أي: حط (له) أي لأجله أوعنه (أظله الله) من حر الشمس التي تدنو من العباد قدر ميل (يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله) ففيه غاية التشريف، وقد ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: المساقاة، باب: فضل إنظار المعسر، (الحديث: 29) . (¬2) سورة البقرة، الآية: 2. (¬3) قال المنذر: رواه مسلم هكذا موقوفاً على حذيفة ومرفوعاً عن عقبة وأبي مسعود.

الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" (¬1) . 1372- وعن جابر - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، اشْتَرَى مِنْهُ بَعِيراً، فَوَزَنَ لَهُ فَأرْجَحَ. متفقٌ عَلَيْهِ (¬2) . 1373- وعن أَبي صَفْوَان سُويْدِ بنِ قيسٍ - رضي الله عنه - ـــــــــــــــــــــــــــــ تقدم عدة من يظلهم الله تحت ظله، وأنها تسعة وثمانون خصلة في باب فضل الحب في الله (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) وفي الجامع أن الحديث باللفظ المذكور أخرجه أحمد، ومسلم من حديث أبي اليسر، فكان ذكر كونه في الصحيح أولى. 1372- (وعن جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى منه بعيراً) وكان ذلك في رجوعه معه من غزوة. رجح الحافظ في الفتح في أبواب الشروط أنها غزوة ذات الرقاع. قال القاضي عياض: وجمع بين الروايات المختلفة في قدر ثمنه بأن سبب الاختلاف أنهما رووا بالمعنى، وهو جائز فالمراد أوقية من الذهب والأربع الأواق والخمس، أي: من الفضة وهي بقدر قيمة الأوقية من الذهب والأربعة دنانير مع العشرين ديناراً محمولة على اختلاف الوزن والعدد. وكذا رواية أربعين درهماً مع المائتين. قال: وكان الإِخبار بالفضة عما وقع عليه العقد، وبالذهب عما حصل به الوفاء، أو بالعكس. اهـ ملخصاً قال الحافظ بعد نقل نحوه عن أبي جعفر الداودي: ولا يخفى ما فيه من التعسف. قال القرطبي: اختلفوا في ثمنه اختلافاً لا يقبل التلفيق، وتكلف ذلك بعيد عن التحقيق والذي تحصل من مجموع الروايات أنه باعه الجمل بثمن معلوم عندهما، وزاده عند الوفاء زيادة معلومة، ولا يضر عدم العلم بحقيقة ذلك (فوزن له) أي الثمن: أي: أمر بذلك بلالاً وأن يرجح له (فأرجح) جاء أنه زاده قيراطاً قال جابر: فقلت: لا تفارقني زيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث، وفيه ذكر أخذ أهل الشام له يوم الحرة: رواه مسلم (متفق عليه) . 1373- (وعن أبي صفوان) بفتح المهملة وسكون الفاء (سويد) بضم المهملة وفتح الواو وسكون التحتية فدال مهملة (ابن قيس) قال ابن الأثير: ويكنى بأبي مرحب (رضي الله عنه) وقال الحافظ في التقريب: نزل الكوفة خرّج حديثه الأربعة، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب: البيوع، باب: ما جاء في إنظار المعسر والرفق به، (الحديث: 1306) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: البيوع، باب: شراء الدواب والحمير (4/269) . وأخرجه مسلم في كتاب: المساقاة، باب: بيع البعير واستثار ركوبه، (الحديث: 115) .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لما اتخذ الله إبراهيم خليلاً أوحى إليه أن وار عورتك عن أهل الأرض، فكان لا يتخذ من كل شيء إلا واحداً إلا السراويل، فإنه كان يتخذ سروالين، فإذا غسل أحدهما لبس الآخر لئلا يأتي عليه حال إلا وعورته مستورة. وروى أبو نعيم في تاريخ أصبهان من حديث مالك بن عتاهية مرفوعاً: أن الأرض لتستغفر للمصلي بالسراويل. وروى أحمد عن أبي أمامة قال: قلنا: يا رسول الله أهل الكتاب يتسرولون ولا يأتزرون؟ قال: تسرولوا واتزروا، وخالفوا أهل الكتاب. اهـ ملخصاً.

11- كتاب العلم

11- كتَابُ العِلم 241- باب فضل العلم تعلماً وتعليماً لله قَالَ اللهُ تَعَالَى (¬1) : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمَاً) ، وقال تَعَالَى (¬2) : (قُلْ هَلْ يَسْتَوي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ) ، وقال تَعَالَى (¬3) : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ) ، وقال تَعَالَى (¬4) : (إنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ كتاب العلم أي: فضله، والمراد الشرعي، وهو الحديث والتفسير والفقه وآلاتها (قال الله تعالى: وقل رب زدني علماً) هذا من أعظم أدلة شرف العلم وعظمه، إذ لم يؤمر - صلى الله عليه وسلم - أن يسأل ربه الزيادة إلا منه. أخرج ابن ماجه عن أبي هريرة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علماً. والحمد لله على كل حال" وأخرجه الترمذي من غير طريق، وزاد في رواية له "وأعوذ بالله من حال أهل النار". (وقال تعالى: قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) أي: لا استواء بينهم، فهو استفهام إنكاري في معنى النفي (وقال تعالى: يرفع الله الذين آمنوا منكم) بطاعتهم للرسول (والذين أوتوا العلم درجات) أي: ويرفع الله العلماء منهم خاصة درجات، بما جمعوا من العلم والعمل، ونصب درجات بالبدل من الذين آمنوا والذين أتوا العلم، أو بالتمييز قاله في جامع البيان. ¬

_ (¬1) سورة طه، الآية: 114. (¬2) سورة الزمر، الآية: 9. (¬3) سورة المجادلة، الآية: 11. (¬4) سورة فاطر، الآية: 28.

1374- وعن معاوية - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ" متفقٌ عَلَيْهِ (¬1) . 1375- وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا حَسَدَ إِلاَّ في اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالاً، فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الحِكْمَةَ، فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا" ـــــــــــــــــــــــــــــ 1374- (وعن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من يرد الله به خيراً) تنكيره للتفخيم (يفقهه في الدين) أي: يجعله عالماً بالأحكام الشرعية ذا بصيرة فيها بحيث يستخرج المعاني الكثيرة من الألفاظ القليلة (متفق عليه) ورواه أحمد من حديث معاوية، ورواه أحمد وللترمذي عن ابن عباس، ورواه ابن ماجه عن أبي هريرة كذا في الجامع الصغير وزاد في الجامع الكبير: ورواه ابن حبان من حديث معاوية. ورواه الدارمي من حديث ابن عباس، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، ورواه الطبراني في الأوسط عن ابن عمر. ورواه في الأوسط عن أبي هريرة، ورواه تمام، وابن عساكر عن عبد الملك بن مروان، عن أبي خالد عن أبيه، ورواه الطبراني في الكبير وأبو نعيم في الحلية كلاهما من حديث ابن مسعود وزاد في آخره "ويلهمه رشده"، ورواه أحمد من حديث أبي هريرة وزاد "وإنما أنا قاسم والله يعطي". 1375- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا حسد) أي: لا غبطة محمودة كما سيأتي (إلا في اثنتين) من الخصال؛ لشرفها ففيها يتنافس المتنافسون (رجل) بالجر بدل على تقدير مضاف، أي: خصلة رجل، وبالنصب باضمار أعني، وبالرفع بإضمار مبتدأ، أي: أحدهما رجل (آتاه) بالمد أي: أعطاه (الله مالاً) التنوين فيه يحتمل أن يكون للتعظيم، وأن يكون لغيره (فسلطه على هلكته) بفتح أوليه، أي: إهلاكه ففيه مبالغتان: التعبير بالتسليط المقتضي لفعله، وبالهلكة المشعرة بفناء الكل، أي: إنفاقه (في الحق) أي: ما يحق فيه إنفاق المال من القرب (ورجل آتاه الله الحكمة) العلم النافع (فهو يقضي بها) أي: يفصل بين المترافعين إليه، إن كان قاضياً أو المستفتين إن كان مفتياً (ويعلمها) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: العلم، باب: من يرد الله به خيراً، (1/150، 151) . وأخرجه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: النهي عن المسألة، (الحديث: 98) .

متفقٌ عَلَيْهِ. والمراد بالحسدِ: الغِبْطَةُ، وَهُوَ أنْ يَتَمَنَّى مِثله (¬1) . 1376- وعن أَبي موسى - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ مَا بَعَثَنِي الله بِهِ مِنَ الهُدَى وَالعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أصَابَ أرْضاً؛ فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبةٌ قَبِلَتِ المَاءَ فَأَنْبَتَتِ الكَلأَ، وَالعُشْبَ الكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أجَادِبُ أمْسَكَتِ المَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا ـــــــــــــــــــــــــــــ أي: الناس، وحذفه ليعم كل متعلم والحديث سبق مشروحاً في باب الكرم والجود (متفق عليه والمراد بالحسد) المحرض عليه بالسياق (الغبطة وهو) بالتذكير نظراً لقوله (أن يتمنى مثله) أي: مثل حال المغبوط أي: لا يغبط أحوالاً على إحدى هاتين، كما تقدم عن المصنف. ويجوز التأنيث نظراً لمرجع الخبر، وما جرى عليه المصنف من اعتبار الخبر أولى؛ لأنه محط الفائدة، وليس المراد بالحسد معناه الحقيقي أي: تمني زوال نعمة المحسود، فذلك حرام من الكبائر. 1376- (وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مثل) بفتح أوليه (ما بعثني الله به من الهدى) هو كالرشد والرشاد ضد الضلال (والعلم) هو صفة توجب تمييزاً لا يحتمل النقيض، أي: صفة ذلك العجيبة التي لغرابتها صارت كالقصة (كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة) أنث العامل مع الفصل بينه وبين معموله، وفي مثله يجوز هو والتذكير، وجاء القرآن بكل، قال تعالى: (قد جاءتكم موعظة) (¬2) وقال تعالى: (من بعد ما جاءهم البينات) (¬3) (قبلت الماء) فشربته (فانبتت الكلأ) بفتح أوليه والهمز، أي: المرعى (والعشب) بضم المهملة وسكون المعجمة وبالموحدة، قال في المصباح: هو الكلأ الرطب في أول الربيع (الكثير) وصفه به لتأكيد ما دل عليه من العموم، أو هو اسم جنس محلى بأل، وما كان كذلك فمن ألفاظ العموم (وكان منها أجادب) بالجيم والدال المهملة، أي: أرض لا تنبت كلأ، وقيل: هي التي تمسك الماء فلا يسرع إليه النضوب (أمسكت الماء فنفع الله بها) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: العلم، باب: الاغتباط في العلم والحكمة (1/152 و153) . وأخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقمرها، باب: فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه ... ، (الحديث: 268) . (¬2) سورة يونس، الآية: 57. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 105.

النَّاسَ، فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَى إنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ؛ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ كلأً، فَذلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ في دِينِ اللهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذلِكَ رَأسَاً، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ". متفقٌ عَلَيْهِ (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ أي: بسببها (الناس فشربوا منها وسقوا مواشيهم وزرعوا) كذا عند البخاري، والذي في جميع نسخ مسلم: ورعوا، بالراء من الرعي، قال المصنف: وكلاهما صحيح (وأصاب طائفة منها أخرى) وصفها بذلك دون ما قبلها كأنها لسلب الانتفاع منها رأساً جنس آخر (إنما هي قيعان) الأصل قوعان، فأبدلت الواو ياء؛ لسكونها وانكسار ما قبلها (لا تمسك ماء) ؛ لكونها رملاً (ولا تنبت كلأ) لذلك (فذلك مثل من فقه) بضم القاف، على المشهور وقيل: بكسرها، وقد روي بالوجهين، والمشهور الضم قاله المصنف (في دين الله) أي: صار عالماً بالشرعيات (ونفعه ما بعثني الله به) أي: من الشريعة الغراء (فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به) قال المصنف معنى الحديث أن الأرض ثلاثة أنواع وكذا الناس، فالأول من الأرض ينتفع بالمطر فيحيى بعد أن كان ميتاً وينبت الكلأ فينتفع به الناس والدواب بالشرب والرعي والزرع وغيرها وكذا النوع الأول من الناس يبلغه الهدى والعلم فيحفظه فيحيي به قلبه ويعمل به ويعلمه غيره فينتفع وينفع. والثاني من الأرض لا تقبل الانتفاع في نفسها لكن فيها فائدة وهي إمساك الماء لغيرها فينتفع به الناس والدواب، وكذا النوع الثاني من الناس لهم قلوب واعية لكن ليست لهم أفهام ولا رسوخ لهم في العلم يستنبطون به المعاني والأحكام، ولا اجتهاد عندهم في الطاعة فهم يحفظونه حتى يأتي طالب متعطش لما عندهم فينتفع به فهؤلاء نفعوا بما بلغهم. والثالث من الأرض السباخ التي لا تنبت ونحوها فهي لا تنتفع بالماء ولا تمسكه لينتفع به غيرها، وكذا الثالث من الناس لا قلب له حافظ ولا فهم واعي فإذا سمع العلم لا ينتفع به ولا يحفظه لينفع غيره اهـ من شرح مسلم للمصنف ملخصاً (متفق عليه) وقد سبق مشروحاً في باب الأمر بالمحافظة على السنة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: العلم، باب: أفضل من علم وعلَّم، (1/160، 161) . وأخرجه مسلم في كتاب: الفضائل، باب: بيان مثل ما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - من الهدى والعلم، (الحديث: 15)

1377- وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ لِعَلِيٍّ - رضي الله عنه -: "فَوَاللهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِداً خَيْرٌ لَكَ مِنْ أنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ". متفقٌ عَلَيْهِ (¬1) . 1378- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ ـــــــــــــــــــــــــــــ 1377- (وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه) لما أعطاه الراية يوم خيبر وأرسله لقتالهم وأمره أن يدعوهم أولاً إلى الإِسلام (فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحداً) أتى به لدفع توهم أن المراد برجل الجنس كما في تمرة خير من جرادة (خير لك من حمر) بضم فسكون (النعم) بفتحتين من إضافة الصفة لموصوفها أي من الأبل الحمر وهي أشرف أموال العرب فلذا خصت بالذكر، والتفضيل بحسب ما عند أهل الدنيا من شرفها في الجملة وإلا فلا مناسبة بين العرض الفاني والشيء الباقي، والحديث سيق في خطبة الكتاب (متفق عليه) . 1378- (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: بلغوا) أمر على الوجوب الكفائي (عني ولو آية) قال البيضاوي: لم يقل ولو حديثاً لأن الأمر بتبليغ الحديث يفهم من هذا بطريق الأولى، فإن الآيات مع انتشارها وكثرة حملتها وتكفل الله سبحانه بحفظها وصونها عن الضياع والتحريف إذا كانت واجبة التبليغ، فالأحاديث التي ليس فيها شيء مما ذكر أولى بذلك اهـ (وحدثوا عن بني إسرائيل) اسم سرياني ليعقوب معناه عبد الله (ولا حرج) قال العلماء معناه ولا ضيق عليكم في التحديث عنهم، لأنه كان تقدم منه - صلى الله عليه وسلم - الزجر عن الأخذ عنهم والنظر في كتبهم ثم حصلت التوسعة فيه، وقيل: معنى لا حرج لا تضيقوا صدوركم بما تسمعونه عنهم من الأعاجيب فإن ذلك قد وقع لهم كثيراً، وقيل: لا حرج في أن لا تحدثوا عنهم لأن قوله أولاً حدثوا صيغة أمر تقتضي الوجوب فأشار إلى عدم الوجوب، وأن الأمر فيه للإِباحة أي لا حرج في ترك التحديث عنهم وقيل لا حرج على حاكي ألفاظهم المستبشعة نحو قولهم (فاذهب أنت وربك فقاتلا) (¬2) وقولهم (اجعل لنا إلها) (¬3) وقيل: المعنى حدثوا عنهم بأي صورة اتصلت بها القصة عنهم من انقطاع أو ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، (7/58) . وأخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، (الحديث: 34) . (¬2) سورة المائدة، الآية: 24. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 138.

عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ". رواه البخاري (¬1) . 1379- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً، سَهَّلَ اللهُ لَهُ طَرِيقاً إِلَى الجَنَّةِ" ـــــــــــــــــــــــــــــ بلاع لتعذر الاتصال في التحديث عنهم، بخلاف الأحكام الإِسلامية، فإن الأصل في التحديث فيها الاتصال ولا يتعذر ذلك لقرب العهد، وعلى كل حال فلا يجوز التحديث بالكذب عليهم. قال الشافعي: من المعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يجيز التحديث بالكذب فالمعنى حدثوا عنهم بما لا تعلمون كذبه، وأما ما تجوزونه فلا حرج عليكم في التحديث به عنهم، وهو نظير حديث "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم" (ومن كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) فيه دليل على أن الكذب عليه - صلى الله عليه وسلم - من الكبائر، بل حكي عن والد إمام الحرمين: أن فاعل ذلك مخلد في النار البتة. وحمل على من استحل ذلك أو على أنه زلة قلم، والجملة الجوابية طلبية لفظاً خبرية معنى، أي: فقد هيأ مقعده من النار. (رواه البخاري) ورواه أحمد والترمذي. 1379- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ومن سلك طريقاً) أتى بالعاطف أوله؛ تنبيهاً على أنه بعض حديث، وتقدم بجملته في باب قضاء حوائج المسلمين، وسكت عما ترك؛ لعدم تعلقه بالترجمة (يلتمس) أي: يطلب فاستعير له اللمس كذا في النهاية (فيه علما) أي: مقرباً إلى الله تعالى ويدل على التقييد به قوله: (سهل الله له طريقاً إلى الجنة) لورود الوعيد لمن تعلم بعض العلوم المحرمة، والباقي منها كذلك بجامع التحريم. فشمل الحديث أنواع علوم الدين واندرج تحته قليلها وكثيرها. وفي رواية "سلك الله به" قال الطيبي: الضمير في به عائد إلى من والباء للتعدية، أي: يوفقه أن يسلك طريق الجنة، ويجوز أن يرجع الضمير إلى العلم، والباء سببية، ويكون سلك بمعنى سهل والعائد إلى من محذوف، والمعنى سهل الله له بسبب العلم طريقاً من طرق الجنة، فعلى الأول سلك من السلوك معدى بالباء، وعلى الثاني من السلك، والمفعول محذوف كقوله تعالى: (يسلكه عذاباً صعداً) (¬2) قيل: عذاباً مفعول ثان، وعلى التقديرين نسبة سلك ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل (1/14، 141) و (2/275) و (3/181 و366، 4166) . (¬2) سورة الجن، الآية: 17.

رواه مسلم (¬1) . 1380- وعنه أَيضاً - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَنْ دَعَا إِلَى هُدىً كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً". رواه مسلم (¬2) . 1381- وعنه قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى الله تعالى على طريق المشاكلة اهـ (رواه مسلم) . 1380- (وعنه أيضاً) كلمة تقال بين شيئين متفقين معنى ولا يمكن الاستغناء بأحدهما عن الآخر. وهي بالنصب حال أي: أخبر عنه راجعاً إلى الإِخبار عنه أو مفعول مطلق، وهي كلمة عربية كما أوضحت ذلك في شرح الأذكار (رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من دعا إلى هدى) ولو بإبانته وإظهاره قليلاً كان أو كثيراً (كان له من الأجر مثل أجور من تبعه) مثل بالرفع اسم كان، وخبرها أحد الظرفين المذكورين قبل، والآخر حال وقوله: (لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً) جملة مستأنفة؛ لبيان عظم فضل الله وكمال كرمه، وإنما لم ينقص ذلك ثواب العامل؛ لاختلاف وجهتي الإِثابة فهي للداعي من حيث الدعوة، وللعامل من حيث العمل. كما تقدم بيانه في خطبة الكتاب عند ذكر المصنف الحديث. وفي باب الدلالة على خير (رواه مسلم) وتتمته "ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً". وفي الجامع الكبير بعد ذكر الحديث بجملته، رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي، وابن ماجه عن أبي هريرة، ورواه الطبراني في الكبير عن ابن عمر اهـ ثم لا مخالفة بين الجملة الأخيرة التي هي في معنى قوله تعالى: (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم) (¬3) . وقوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) (¬4) ؛ لأن الدال على الضلالة إنما أثم بعمل العامل لها؛ لكونه الدال عليها. فإثمه لدلالته، وهي من عمله فما أخذ بعمل غيره ووزره، بل بعمله ووزره والله أعلم. 1381- (وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا مات ابن آدم انقطع عمله) أي: من إثابته على ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر (الحديث: 38) ، مطولاً. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب: العلم، باب: من سنَّ سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، (الحديث: 16) . (¬3) سورة النحل، الآية: 25. (¬4) سورة الأنعام، الآية: 164.

انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ". رواه مسلم (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ العمل المتجددة، بتجدد العمل المترتبة عليه، ترتب المسبب على السبب بالحكمة الإلهية وذلك؛ لأنه بالموت يقف العمل فيقف الثواب المرتب عليه (إلا من ثلاثة) فإن ثوابها يدوم للعامل بعد موته، وذلك لدوام أثره فدام ثوابه، وأثبت التاء إما لأن المعدود مذكر، أي: ثلاثة أعمال، أو لحذفه، أي: ثلاث خصال، والأول أقرب (صدقة جارية) هي الوقف (أو علم ينتفع به) هو التعليم والتصنيف، والثاني أقوى؛ لطول بقائه على ممر الزمان قاله القاضي تاج الدين السبكي (أو ولد صالح) أي: مسلم (يدعو له) أي: بالمغفرة كما يأتي في حديث أنس أو بأعم منها (رواه مسلم) ورواه البخاري في الأدب المفرد، والنسائي. قال العلقمي: قال شيخ الحديث: يعني شيخه السيوطي: روى الطبراني من حديث أبي أمامة مرفوعاً "أربعة تجري عليهم أجورهم بعد الموت: مرابط في سبيل الله، ومن علّم علماً، ورجل تصدق بصدقة فأجرها له ما جرت، ورجل ترك ولداً صالحاً يدعو له" وللبزار من حديث أنس مرفوعاً "سِبع يجري للعبد أجرها بعد موته وهو في قبره: من علّم علماً، أو أجرى نهراً، أو حفر بئراً، أو غرس نخلاً، أو بنى مسجداً، أو ورث مصحفاً، أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته". ولابن ماجه وابن خزيمة من حديث أبي هريرة. "أن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علماً نشره أو ولداً صالحاً تركه، أو مصحفاً ورثه، أو مسجداً بناه أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه بعد موته ". ولابن عساكر في تاريخه من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً "من علم آية من كتاب الله أو باباً من علم أنمى الله أجره إلى يوم القيامة"، ثم قال: وقد تحصل من ذلك أحد عشر أمراً وقد نظمتها في أبيات. اهـ وقد تقدم في باب الصدقة عن الميت ذكرها، ونظمتها أيضاً فقلت: خصال عليها المرء من بعد موته ... يثاب فلازمها إذا كنت ذا ذكر رباط بثغر ثم توريث مصحف ... ونشر لعلم غرس نخل بلا نكر وحفر لبئر ثم إجراء نهر ... وبيت غريب في التصدق إذ يجري وتعليم قرآن وتشييد منزل ... لذكر ونجل مسلم طيب الذكر وفي خبر من ذا إذا حج فرضه ... أو الدين عنه قد قضى كامل الفخر روى ابن عماد ذا بحسن ذريعة ... ولم يذكر الراوي لذلك ما يدري ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الوصية، باب: ما يلحق الإِنسان من الثواب بعد وفاته، (الحديث: 14) .

1382- وعنه، قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا، إِلاَّ ذِكْرَ الله تَعَالَى، وَمَا وَالاهُ، وَعَالِماً، أَوْ مُتَعَلِّماً". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" قَوْله: "وَمَا وَالاَهُ": أيْ طَاعة الله تعالى (¬1) . 1383- وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ خَرَجَ في طَلَبِ العِلْمِ فَهُوَ في سَبيلِ اللهِ حَتَّى يَرْجِعَ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (¬2) . 1384- وعن أَبي سعيدٍ الخدري - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "لَنْ يَشْبَعَ مُؤْمِنٌ مِنْ خَيْرٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ 1382- (وعنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول الدنيا) تقدم أن الصحيح أنها ما عدا الآخرة، من جميع الأعراض والجواهر العاجلة (ملعونة) أي بعيدة عن الله (ملعون) أي: بعيد (ما فيها) ؛ لأنها رأس كل خطيئة (إلا ذكر الله وما والاه وعالماً ومتعلماً) وليس من الدنيا الطاعات، ولا الأصفياء من الأنبياء والأولياء. وتقدم الجمع بين الوارد في ذم الدنيا، والوارد في مدحها، بحمل الأول على ما يبعد عن الله تعالى، والثاني على ما يقرب إليه كما يومىء إليه الإِستثناء المذكور في الحديث، وهو متصل، نظراً لكون المستثنى منها باعتبار الظاهر، وإن كان في الحقيقة فيها لا منها. "تقدم الحديث مشروحاً في باب فضل الزهد في الدنيا (رواه الترمذي وقال: حديث حسن. قوله) - صلى الله عليه وسلم - (وما والاه أي طاعة الله) أي: فكأنه قال إلا ذكر الله وطاعته، والذكر حينئذ القول الذي يثنى به عليه سبحانه وتعالى وينزه به. 1383- (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من خرج في طلب العلم) أي لطلب العلم الشرعي ومثله آلاته (فهو في سبيل الله) أي: طاعته (حتى يرجع) إلى منزله، قال المظهري: وجه مشابهة طلب العلم بالجهاد في سبيل الله أنه إحياء الدين، وإذلال الشيطان، وإتعاب النفس، وكسر الهوى واللذة (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) ورواه الضياء. 1384- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لن يشبع مؤمن من خير) أي: من كل مقرب إلى الله تعالى من سائر الطاعات وأشرفها، كما جاء في رواية ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب: الزهد [باب: 14] ، (الحديث: 2322) . (¬2) أخرجه الترمذي في كتاب: العلم، باب: فضل طلب العلم، (الحديث: 2647) .

حَتَّى يَكُونَ مُنْتَهَاهُ الجَنَّةَ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن". (¬1) . 1385- وعن أَبي أُمَامَة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "فَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أدْنَاكُمْ" ثُمَّ قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَأهْلَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ حَتَّى النَّمْلَةَ في جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ ـــــــــــــــــــــــــــــ زيادة: يسمعه (حتى يكون منتهاه الجنة) حتى فيه محتملة؛ لكونها غاية للشبع، أي: لا ينتهي عن الخير حتى يموت فيدخل الجنة بما اكتسب في حياته من العمل الصالح، ولكونها تعليلية، أي: عدم قناعته بيسير من الطاعة ليكون مآله الجنة، فإنها تتفاوت منازلها بتفاوته (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) ورواه ابن حبان في صحيحه. 1385- (وعن أبي إمامة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فضل العالم) أي: المقتصر على فرائض العبادات، ويصرف باقي أوقاته في العلم (على العابد) أي: العارف بما يجب عليه تعلمه من الديانات فقط ويصرف ما زاد عليه في التعبد (كفضلي على أدناكم) فيه عظم شرف العلماء. قال: الزملكاني، في كتابه المسمى تحقيق الألى (¬2) من أهل الرفيق الأعلى بعد كلام طويل ساقه في وجوه التفضيل وأسبابه ما لفظه: والذي استقر من ذلك أن العالم المستحق للتفضيل بالعلم، هو الذي تعلم العلم النافع في الدنيا والآخرة، وقام بحق علمه من عمل أو نفع أو هداية أو غير ذلك، من حقوق العلم النافع فذلك هو العالم المفضل بعلمه اهـ (ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله وملائكته وأهل السموات) عطف عام على خاص، إن أريد بهم جميع الملائكة، وإن أريد بالملائكة المقربون كما يوميء إليه إضافتهم للاسم الكريم، وبأهل السموات باقي الملائكة كان من عطف المغاير (والأرض حتى النملة) بالنصب عطفاً على أهل، وهي غاية لما قبلها في القلة والصغر مستوعبة لثواب البر. وجوّز ابن حجر في فتح الإِله كونها جارة. (في جحرها) بضم الجيم (وحتى الحوت) أتى بالواو (¬3) كأنه والله أعلم لئلا يتوهم أن هذه بدل من تلك وهي غاية مستوعبة لدواب البحر (ليصلون) هو من استعمال اللفظ في معانيه دفعه واحدة، وهل هو مشترك بينهما أو حقيقة في أحدها مجاز في غيره؟ خلاف يأتي تحقيقه أول كتاب الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن شاء الله ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب: العلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة، (الحديث: 2686) . (¬2) الألى من غير واو بمعنى الذين. ع (¬3) لعل المراد أنه أتى بالواو مع حتى ولم يأت بأو بدلهما لئلا يتوهم أنها للشك فليتأمل. ع

عَلَى مُعَلِّمِي النَّاسِ الخَيْرَ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (¬1) . 1386- وعن أَبي الدرداء - رضي الله عنه -، قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: "مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَبْتَغِي فِيهِ عِلْماً سَهَّلَ اللهُ لَهُ طَريقاً إِلَى الجَنَّةِ، وَإنَّ المَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ العِلْمِ رِضاً بِمَا يَصْنَعُ، وَإنَّ العَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالى، وهي من الله رحمة مقرونة بتعظيم، ومن الملائكة استغفار، ومن المؤمنين تضرع ودعاء. والظاهر أنها من الحيوانات تضرع ودعاء أيضاً (على معلمي الناس الخير) عدل إليه عن العالم الذي اقتضاه السياق؛ لبيان سبب شرف العالم وامتيازه على العابد، وهو عموم نفعه وتعديه (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) قال في المشكاة: ورواه الدارمي عن مكحول مرسلاً. 1386- (وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من سلك طريقاً يبتغي فيه) وفي رواية يطلب فيه (علماً) أي: شرعياً أو آلته، ولو وسيلة كما تقدم (سهل الله له طريقاً إلى الجنة) وذلك الأعمال الصالحة لتوصله بها إلى الجنة. ومنها أن يسهل عليه ما يزداد به علمه؛ لأنه من جملة الأسباب الموصلة إلى الجنة، بل إلى أعلاها لتوقف صحة الأعمال وقبولها عليه (وإن الملائكة) يحتمل أن يراد بهم ملائكة الرحمة ونحوهم من الساعين في مصالح بني آدم، ويحتمل أن يراد الكل، وهذا أنسب بالمعنى المجازي الآتي. والأول أنسب بالمعنى الحقيقي (لتضع أجنحتها) حقيقة وإن لم نشاهده للقاعدة: أن كل ما ورد وأمكن حمله على ظاهره حمل عليه ما لم يصرفه عنه صارف. وحينئذ فهي تكف أجنحتها عن الطيران وتنزل لسماع العلم، إذ هو أشرف الذكر. وقيل: هو مجاز إما عن التواضع نظير (واخفض جناحك) (¬2) أو عن المعونة وتيسير السعي في طلب العلم (لطالب العلم رضاً) مفعول له مستوفى للشروط أي: لأجل الرضا الحاصل منها، أو لأجل إرضائها (بما يصنع) من حيازة الوراثة العظمى، وسلوك السنن الأسمى (وإن العالم) ترق إلى ذكر ما هو أبلغ في فضله بإثبات وصف العلم له بعد إثبات فضل طلبه، فيما قبله. وبإثبات استغفار من يأتي إلا رفع من مجرد وضع الأجنحة، كذا قيل: واستوجه في فتح الإِله أن وضع الأجنحة للطالب قبل أن يسمى عالماً، والاستغفار للعالم فلا ترقى (ليستغفر له من في ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب: العلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة، (الحديث: 2685) . (¬2) سورة الشعراء، الآية: 215.

السَّماوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ حَتَّى الحيتَانُ في المَاءِ، وَفضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِ القَمَرِ عَلَى سَائِرِ الكَوَاكِبِ، وَإنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأنْبِيَاءِ، وَإنَّ الأنْبِيَاءَ لَمْ يَوَرِّثُوا دِينَاراً وَلاَ دِرْهَماً وَإنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بحَظٍّ وَافِرٍ" ـــــــــــــــــــــــــــــ السموات ومن في الأرض حتى الحيتان) بالرفع والجر نظير ما مر. ويؤيد الأول أن في رواية: والحيتان بالواو العاطفة بدلها (في) جوف (الماء) وأتى بذلك؛ مبالغة في التعميم خصوصاً إن أريد بالحيتان الحيوان البحري فهو أكثر من البري، لما جاء أن عوالم البر أربعمائة عالم وعوالم البحر ستمائة عالم، وسبب عموم استغفار هذه الموجودات للعلماء؛ طالبين تخليهم عما لا يليق بمقامهم من الأدناس شمول بركة علمهم وعملهم لجميع أولئك. إذ لا إله يقوم نظام العالم إلا بالعلم. ولا مانع من جعل الاستغفار من غير العقلاء من نحو الجماد على حقيقته؛ لأنه ممكن فهو من قبيل قوله تعالى: (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) (¬1) (وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب) هو بالنصب عطف على اسم أن السابق، ويؤيده أن في رواية المشكاة: وإن فضل الخ، وزاد في هذه الرواية بعد قوله "كفضل القمر" قوله "ليلة البدر" ووجه ذلك أن نور العبادة وكمالها ملازم لذات العابد لا يتخطاه، فهو كنور الكواكب ونور العلم وكماله، يتعدى إلى الغير فيستضيء به العالم، لكنه ليس من ذاته، وإنما استفاده من شمس الوجود الذي لا أكمل منه محمد - صلى الله عليه وسلم -، فهو كنور القمر المكتسب من نور الشمس التي لا أضوء منها، وبما ذكر علم أن الكلام في عالم غير مخل بشيء من الواجبات وإلا كان إثماً مذموماً (وأن العلماء ورثة الأنبياء) علماً وعملاً وكمالاً وتكميلاً، ولا يتم ذلك إلا لمن صفت مصادر علمه وعمله ومواردهما عن الهوى والحظوظ، حتى أمدته كلمات الله التي لا تفنى إلى أن صار من الراسخين في العلم، القائمين بصور الأعمال على ما ينبغي، فسلم من الإخلاد إلى أرض الشهوات الخافضة إلى أرذل الدركات (إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً) أي: مالاً وخصا بالذكر؛ لأنهما أغلب أنواعه، وفي نفيهما عنهم إيماء إلى رذالة الدنيا فأعرضوا عنها ولم يأخذوا منها إلا قدر الضرورة، فلم يورثوا شيئاً منها، لئلا يتوهم أنهم كانوا يطلبون شيئاً منها يورث عنهم (إنما ورثوا العلم) بأحوال الظاهر والباطن، على تباين أجناسه واختلاف أنواعه بتعليمهم لأممهم (فمن أخذه) أي: فبسبب ما ذكر من تلك الفضائل العلية من ورث العلم (أخذ بحظ) أي: نصيب من الكمال (وافر) لا نهاية له، ومن ثم قال الثوري: لا أعلم ¬

_ (¬1) سورة الإِسراء، الآية: 44.

رواه أَبُو داود والترمذيُّ (¬1) . 1387- وعن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يقول: "نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئاً، فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أوْعَى مِنْ سَامِعٍ". رواه ـــــــــــــــــــــــــــــ اليوم شيئاً أفضل من طلب العلم، قيل له: ليس لهم نية؟ قال: طلبهم له نية، وقال الحسن: من طلب العلم يريد ما عند الله، كان خيراً له مما طلعت عليه الشمس، وقال مالك: لمن أراد المبادرة إلى الصلاة، وترك ما هو فيه من العلم ليس ما تذهب إليه فوق ما أنت فيه إذا صحت النية. وقال الشافعي: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة (رواه أحمد وأبو داود والترمذي) وقال: بعد أن أخرجه في العلم من جامعه، من طريق محمود بن حداس الطالقاني بإسناده بنحوه ما لفظه هكذا "حدثنا محمود" وإنما يروى هذا الحديث عن عاصم عن الوليد بن جميل عن كثير بن قيس عن أبي الدرداء. وهذا أصح من حديث محمود، ولا نعرف هذا الحديث من حديث عاصم، وليس إسناده عندي بمتصل. اهـ ورواه ابن ماجه والدرامي كما في المشكاة، ورواه ابن حبان في صحيحه والبيهقي في الشعب كما في الجامع الكبير. 1387- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: نضر الله امرأً) بالضاد المعجمة المشددة ويروى بالتخفيف. يقال: نضره وأنضره ونضره، أي: نعمه من النضارة، وهي في الأصل حسن الوجه والبريق. والمراد حسن خلقه وقدره. قاله في النهاية. قال بعضهم: إني لأرى في وجوه أهل الحديث نضرة أشار به إلى إجابة الدعوة لهم (سمع منا) بغير توسطه، والضمير يحتمل أنه للجماعة فيشمل من روى عن الصحابة (¬2) شيئا فأداه كما سمعه (شيئاً) قليلاً كان أو كثيراً (فبلغه كما سمعه) أي: من حيث المعنى فلا يضر في ذلك الرواية بالمعنى بشرطه، ويحتمل أن تختص الدعوة بمن أدى باللفظ لما فيه من مزيد الاعتناء والتوجه، حتى حفظ لفظه واستحضره (فرب) هي للتكثير واستعمالها فيه حقيقة لا مجاز خلافاً لزاعمه (مبلغ) بصيغة المفعول، من التبليغ كذا في الأصول (أوعى) أكثر وعياً، أي: تنبهاً لخبايا عرائس المعاني ونفائس المقاصد (من سامع) فلذا دعا - صلى الله عليه وسلم - للضابط الحافظ ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: العلم باب: الحث على طلب العلم (الحديث: 3641 و3642) . وأخرجه الترمذي في كتاب: العلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة (الحديث: 2682) . (¬2) قوله: (الصحابة) أي أو غيرهم من العلماء. ع

الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" (¬1) . 1388- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سُئِلَ عن عِلْمٍ فَكَتَمَهُ، أُلْجِمَ يَوْمَ القِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ" رواه أَبُو داود والترمذي، وقال: "حديث حسن" (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ ألفاظ السنة الراوي لها، كذلك بما ذكر، لأن حفظه للسنة مع أدائها كما سمع سعي في نضارتها، فكأنه جعل المعنى بذلك غضاً طرياً، بخلاف ما لو أبدلها ولو بمرادف فإنه جعله مبتذلاً، ألا ترى أنه لو أبدل نضر، بنحو حسن لفاتت الدقيقة المستفادة من نضر، وقس عليه الباقي. ثم قيل: التقدير من سامع له منه - صلى الله عليه وسلم - فيؤخذ منه أنه قد يكون في التابعين من يمتاز على بعض الصحابة، بكونه أفقه منه وأفهم منه فيما بلغه له عنه - صلى الله عليه وسلم -، ولا بدع في ذلك فإنه قد يكون في المفضول مزايا لا تكون في الفاضل (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) ورواه الدرامي من حديث أبي الدرداء، ورواه الشافعي والبيهقي في المدخل عن ابن مسعود أيضاً بلفظ "نضر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" الحديث ورواه أحمد والترمذي، وأبو داود وابن ماجه والدرامي والضياء عن زيد بن ثابت. قال في فتح الإِله: أعلم أن في تغيير ألفاظ هذين الحديثين مع اتحادهما في أن كلاً منهما مسوق للحث على تبليغ ما سمعه من غير تغيير شيء منه، تأييداً لجواز الرواية بالمعنى للعارف بمؤدى الألفاظ والمراد بها، ودلالة على أن القصد إنما هو أصل المعنى دون المحسنات التي ينتجها باهر بلاغته - صلى الله عليه وسلم -، التي لا يصل أحد إلى معشار عشرها؛ لأن رعاية ذلك متعذرة فيلزم عليها منع الرواية بالمعنى مطلقاً، وفي ذلك حرج وضياع لكثير من السنة، فاقتضت المصلحة العامة التوسيع للناس في طرق الرواية نظر إلى أن المقصود أصل المعنى لا غير اهـ. 1388- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من سئل عن علم) أي: شرعي محتاج إليه حالاً (وكتمه) أي: لم يبينه للسائل (ألجم) بالبناء للمفعول (يوم القيامة بلجام من نار) فيه عظم وعيد كتم العلم الشرعي بشرطه (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن) ورواه أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم في المستدرك كما في الجامع ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب: العلم، باب: ما جاء في الحث على التبليغ السماع، (الحديث: 2658) . (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب: العلم، باب: كراهية منع العلم، (الحديث: 3658) . وأخرجه الترمذي في كتاب: العلم، باب: ما جاء في كتمان العلم، (الحديث: 2649) .

1389- وعنه، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَعَلَّمَ عِلْماً مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللهِ - عز وجل - لا يَتَعَلَّمُهُ إِلاَّ لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضاً مِنَ الدُّنْيَا، لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ" يَعْنِي: رِيحَهَا. رواه أَبُو داود بإسناد صحيح (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصغير. 1389- (وعنه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من تعلم علماً مما يبتغى) بالبناء للمفعول أي: يطلب (به وجه الله عز وجل) يحتمل أن هذا صفة كاشفة؛ لأن الكلام في العلم المحمود، وذلك الابتغاء لازم له وأنه احتراز عن العلوم التي ليست كذلك؛ لعدم وجوبها كعلم العروض أو لتحريمها كعلم السحر (لا يتعلمه) جملة حالية من الفاعل أو المفعول (¬2) ؛ لتخصصه بالوصف (إلا) استثناء من أعم العلل، أي: لا يطلبه لغرض من الأغراض إلا (ليصيب به غرضاً) بالمعجمتين أي: شيئاً (من الدنيا) أي: من تمتعاتها وإن قل، ومعلوم أن قصد هذا ولو مع قصد الآخرة موجب للإِثم، فيحتمل أن التقييد به ليترتب العقاب الآتي عليه، أو لأن الغالب أن من قصد الدنيا لا يقصد معها الآخرة (لم يجد عرف الجنة يوم القيامة يعني) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: عرف الجنة، بفتح المهملة وسكون الراء وبالفاء (ريحها) وهذا كناية عن مباعدته عنها، فقد جاء عند الطبراني: "وإن عرفها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام" وعن عدم دخولها إما مطلقاً إن استحل ذلك، لأن حرمة طلب العلم لذلك مجمع عليها، معلومة من الدين بالضرورة، أو مقيداً بأنه لا يدخلها مع الناجين، أو لا يجد عرفها في الموقف الذي هو المراد بيوم القيامة حقيقة إن لم يستحل ذلك، وعلى الثالث فيكون في الحديث إيماء إلى أن من صح قصده في طلب العلم الشرعي يمده الله برائحة الجنة يوم القيامة، تقوية لقلبه، وإزالة لكربه، بخلاف من لم يكن كذلك، فإنه لمرض قلبه يصير يوم القيامة كذي مرض بدماغه يمنعه من إدراك الروائح. وفي الحديث إيماء إلى أن من أخلص في طلبه لله ثم جاءته الدنيا من غير قصدها به لا يضره ذلك (رواه أبو داود بإسناد صحيح) ورواه أحمد وابن ماجه والحاكم في المستدرك، والبيهقي في الشعب، ورواه الترمذي من حديث ابن عمر بلفظ "من تعلم علماً لغير الله فليتبوأ مقعده من النار" وروى ابن ماجه من حديث أبي هريرة "من تعلم العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء أو يصرف ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: العلم، باب: في طلب العلم لغير الله تعالى، (الحديث: 3664) . (¬2) لو كانت حالاً من المفعول لكانت حالاً جارية على غير ما هي له. ع

13- كتاب حمد الله تعالى وشكره

13- كتَاب حَمد الله تَعَالَى وَشكره 242- باب وجوب الشكر قَالَ الله تَعَالَى (¬1) : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) . وقال تَعَالَى (¬2) : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) . وقال تَعَالَى (¬3) : (وَقُلِ الحَمْدُ للهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ كتاب حمد الله تعالى أي: ما جاء في فضله والحض عليه. وتقدم صدر الكتاب أنه لغة: الثناء باللسان على الجميل الاختياري على جهة التعظيم، وعرفاً فعل ينبىء عن تعظيم المنعم، لكونه منعماً على الحامد أو غيره، وأن النسبة بينهما العموم والخصوص الوجهي (وشكره) عطفه على الحمد قرينة على أن المراد بالحمد الحمد اللغوي، وإلاّ فمعنى الحمد العرفي هو معنى الشكر لغة، أو أن المراد بالشكر معناه العرفي، أي: صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه لما خلق لأجله، كصرف السمع لسماع الآيات: والنظر للتفكر في المصنوعات، ويصح أن يراد من كل ما يعم المعنى اللغوي والعرفي وأتى بهما؛ لأن كلاً منهما مطلوب وإن تقاربا (قال الله تعالى: فاذكروني) أي: بالطاعة أو في الرخاء (أذكركم) بالمغفرة أو في الشدة. وفي الحديث "من أطاع الله فقد ذكره وإن لم يذكره بلسانه، ومن عصى الله فقد نسيه وإن ذكره بلسانه" أورده الواحدي في الوسيط (واشكرو لي) نعمتي (وقال تعالى لئن شكرتم) نعمتي وأطعتموني (لأزيدنكم) في النعمة. والخطاب وإن كان لبني إسرائيل فهذه الأمة أولى بالزيادة عند الشكر منهم؛ لفضلها عليهم (وقال تعالى) مخاطباً لنبيه (وقل الحمد لله) حذف ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 152. (¬2) سورة إبراهيم، الآية: 7. (¬3) سورة الإِسراء، الآية: 111.

وقال تَعَالَى (¬1) : (وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أنِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ) . 1391- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، أُتِيَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِقَدَحَيْنِ مِنْ خَمْرٍ وَلَبَنٍ، فَنَظَرَ إِلَيْهمَا فَأَخَذَ اللَّبَنَ. فَقَالَ جِبريل: "الحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَاكَ لِلفِطْرَةِ لَوْ أخَذْتَ الخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ" رواه مسلم (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ باقي القول وهو (وسلام على عباده الذين اصطفى) (¬3) ؛ لعدم تعلقه بالترجمة. وأورد ما ذكر؛ لأن في الآية دلالة على شرف الحمد، إذ ورد الأمر له بأن يقوله: (وقال تعالى وآخر دعواهم) أي: في الجنة (أن) أي: أنه (الحمد لله رب العالمين) أي: مالك العالمين، عن كثير من السلف أن أهل الجنة كلما اشتهوا شيئاً قالوا: سبحانك اللهم، فيأتيهم الملك بما يشتهون ويسلم عليهم فيردون عليه، وذلك قوله تعالى: (تحيتهم فيها سلام) (¬4) فإذا أكلوا حمدوا الله، وذلك قوله تعالى: (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) (¬5) . 1391- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى) أي: أتاه جبريل (ليلة أسري به) وهي ليلة المعراج، وكان قبل الهجرة بثمانية عشر شهراً على أحد الأقوال، وسكت عن كونه. وقيل: المعراج ببيت المقدس أو بعده عند سدرة المنتهى، وقد جاء في كل رواية وجمع بتعدد ذلك لأنها كانت ليلة إكرامه - صلى الله عليه وسلم - (بقدحين) بفتح أوليه (من خمر ولبن) أي مملوئين أحدهما من خمر والآخر من لبن ولظهور المراد عبر بما ذكر (فنظر إليهما - صلى الله عليه وسلم -) أي وكان خير بينهما فألهم - صلى الله عليه وسلم - اختيار اللبن (فأخذ اللبن فقال جبريل: الحمد لله الذي هداك للفطرة) قال المصنف: فسروا الفطرة هنا بالإسلام والاستقامة ومعناه والله أعلم: اخترت علامة الإِسلام والاستقامة، وجعل اللبن علامة ذلك لكونه سهلاً طيباً طاهراً سائغا للشاربين سليم العاقبة، والخمر أم الخبائث جالبة لأنواع من الشر حالاً ومآلاً اهـ. (لو أخذت الخمر غوت أمتك رواه مسلم) ففيه إيماءً إلى التفاؤل بالفأل الحسن. ¬

_ (¬1) سورة يونس، الآية: 10. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: الإِسراء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السماوات وفرض الصلوات، (الحديث: 272) . (¬3) سورة النمل، الآية: 59. (¬4) سورة إبراهيم، الآية: 23. (¬5) سورة يونس، الآية: 10.

1392- وعنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "كُلُّ أمْرٍ ذِي بَالٍ لاَ يُبْدأُ فِيهِ بِالحَمْدُ للهِ فَهُوَ أقْطَعُ". حديث حسن، رواه أَبُو داود وغيره (¬1) . 1393- وعن أَبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إِذَا مَاتَ وَلَدُ العَبْدِ قَالَ اللهُ تَعَالَى لِمَلائِكَتِهِ: قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدي؟ فَيقولون: نَعَمْ، فيقول: قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤادِهِ؟ فيقولون: نَعَمْ، فيقول: ماذا قَالَ عَبْدِي؟ فَيقولون: حَمدَكَ وَاسْتَرْجَعَ، فيقُولُ اللهُ تَعَالَى: ابْنُوا لِعَبْدي بَيتاً في الجَنَّةِ، وَسَمُّوهُ بَيْتَ الحَمْدِ". رواه الترمذي، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1392- (وعنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كل أمر ذي بال) أي شأن يهتم به شرعاً (لا يبدأ فيه بالحمد لله) برفع الحمد على الحكاية فيكون المراد خصوص هذه الجملة أو بالجر فيكون المراد البدء بما فيه معنى الحمد بأي صيغة كانت (فهو أقطع) أي: ناقص البركة (حديث حسن) حسنه ابن الصلاح وغيره بل صححه الشرف الدمياطي (رواه أبو داود وغيره) كابن ماجه والبيهقي في السنن، وقد أطلت الكلام في مخرجي هذا الحديث واختلاف ألفاظ رواته في أول كتاب الحمد من شرح الأذكار. 1393- (وعن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا مات ولد العبد) هو شامل للبالغ وغيره وللذكر وغيره (قال الله تعالى لملائكته: قبضتم) بفتح الموحدة والاستفهام مقدر فيه أي: أقبضتم وهو استفهام تقريري أو على ظاهره لينبههم على عظم فضل ثواب الصابر وإلا فهو غني عن الأسئلة لإِحاطة علمه بكل شيء (ولد عبدي فيقولون: نعم) هي حرف للإِعلام لكونها في جواب الاستفهام (فيقول: قبضتم ثمرة فؤاد) بفتح المثلثة والميم هو كناية عن الولد لكونه بمنزلة خلاصة الخلاصة إذ القلب خلاصة البدن، وخلاصته اللطيفة المودعة فيه من كمال الإِدراكات والعلوم التي خلق لها وشرف بشرفها، فلشدة شغف هذه اللطيفة بالولد صار كأنه ثمرتها المقصودة منها، وهو ترق بين به وجه عظم هذا المصاب وعظم الصبر عليه مع ذلك، بل ترقي عن مقام الصبر لمقام الحمد (فيقولون: نعم. فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع) أي: قال: إنا لله وإنا إليه راجعون أي: فحقيق أن من فقد هذه الثمرة الخطيرة ومع ذلك لم يعدها مصيبة من كل وجه بل مصيبة من وجه فاسترجع، ونعمة من وجه فحمد، أن يقابل بالحمد في تسمية محله به (فيقول الله: ابنوا ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: الهدى في الكلام، (الحديث:4840) .

وقال: "حديث حسن" (¬1) 1394- وعن أنس - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله لَيرْضَى عَنِ العَبْدِ يَأكُلُ الأَكْلَةَ، فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا، وَيَشْرَبُ الشَّرْبَة، فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا" رواه مسلم (¬2) . *** ـــــــــــــــــــــــــــــ لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد رواه) أحمد و (الترمذي وقال: حديث حسن) ففيه كمال فضل الصبر على فقد الصفي، وفي حديث "ما لعبدي المؤمن إذا قبضت صفيه من الدنيا فاحتسب إلا الجنة". 1394- (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة) قال المصنف: كما تقدم في باب بيان طرق الخير بفتح الهمزة وهي الغدوة أو العشوة. اهـ قلت: وبضم الهمزة، معناها اللقمة كما في المصباح (فيحمده) بالرفع (عليها) أي: لأجلها فعلى هنا مثلها في قوله تعالى: (ولتكبروا الله على ما هداكم) (¬3) في كونها للتعليل (ويشرب الشربة فيحمده عليه رواه مسلم) وتقدم الحديث مشروحاً في الباب المذكور. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب: الجنائز، باب: فضل المصيبة إذا احتسب، (الحديث: 1021) . (¬2) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء والتوبة..، باب. استحباب حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب، (الحديث: 89) . (¬3) سورة البقرة، الآية: 185.

13- كتاب: الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

13- كتاب: الصَّلاة عَلَى رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - 243- باب: في فضل الصلاة عَلَى رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ الله تَعَالَى (¬1) : (إنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا ـــــــــــــــــــــــــــــ كتاب الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي: ما جاء فيها. وتقدم المراد بالصلاة أول الكتاب وهي مخصوصة بالمعصوم من نبي وملك، وكذا الخضر وإلياس ولقمان ومريم وإن قلنا بعدم نبوتهم فيكره استعمالها في حق غيرهم إلا تبعاً له؛ لأنه في العرف صار شعاراً لذكر الرسل، ولذا كره أن يقال محمد عز وجل وإن كان عزيزاً جليلاً. قال البيضاوي: وأما حديث "إن الله وملائكته يصلون على أصحاب العمائم البيض يوم الجمعة"، وحديث "كان - صلى الله عليه وسلم - يصلي على آل أبي أوفى عند مجيئه بالزكاة"، فأجيب عنه بأن الكراهة بالنسبة إلينا، وأما بالنسبة إليه - صلى الله عليه وسلم - وإلى الملائكة فهي لهم، فلهم إطلاق ذلك على من شاءوا. وما ذكرنا من أن سائر الأنبياء يصلى عليهم كنبينا - صلى الله عليه وسلم - هو الصحيح، خلافاً لمن شذ فيه فقال: باختصاصه - صلى الله عليه وسلم - بها. أخرج ابن أبي عمر والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة والخطيب عن أنس مرفوعاً "صلوا على أنبياء الله ورسله فإن الله بعثهم كما بعثني " وأخرج الشاشي وابن عساكر عن وائل بن حجر مرفوعاً "صلوا على أنبياء الله إذا ذكرتموني فإنهم قد بعثوا كما بعثت" (قال الله تعالى: إن الله وملائكته يصلون على النبي) أي: يعتنون بإظهار شرفه وتعظيم شأنه. وأشار ابن هشام الأنصاري إلى أن الصواب كون الصلاة فيها بمعنى العطف، والعطف بالنسبة إلى الله تعالى الرحمة، وإلى الملائكة الاستغفار، والعباد دعاء بعضهم لبعض، وقرىء شاذاً وملائكته بالرفع، واستدل بها الكوفيون على جواز عطف المرفوع على اسم إن قبل استكمال خبرها. والبصريون المانعون ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، الآية: 56.

عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) . 1395- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما: أنَّه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْراً" ـــــــــــــــــــــــــــــ منه قدروا لاسم إن وهو لفظ الجلالة خبراً أي: إن الله يصلي وملائكته يصلون فيكون كقول الشاعر: نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف (يأيها الذين آمنوا صلوا عليه) اعتنوا أنتم أيضاً فإنكم أولى بذلك، وقولوا: اللهم صلِّ على محمد (وسلموا تسليماً) أي: قولوا الصلاة والسلام على سيدنا محمد أو انقادوا لأوامره. والآية قيل: نزلت في شهر شعبان ومن ثم سمي شهر الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم -. قيل: في ثاني سني الهجرة. وقيل: ليلة الإِسراء ويؤيد الأول أن السورة مدنية أمر الله تعالى كل مؤمن بالصلاة والسلام عليه ووطأ قبله بالإِخبار عنه تعالى وعن ملائكته الكرام، بأنهم دائمون على ذلك وتجديده وقتاً فوقتاً كما اقتضته الجملة الاسمية، باعتبار صدرها المضارعية، باعتبار عجزها فهي ذات وجهين بعثاً للمؤمنين على الاعتناء وامتثال ذلك الأمر وحثاً لهم على الدوام والاستمرار عليه؛ ليفوزوا بقربه ويتحفوا بلحظه وإمداده. وأكد السلام بالمصدر؛ ليعادل الصلاة فإنها مؤكدة بالتصدير بأن وبإعلام الله تعالى أنه يصلي عليه وملائكته بالتقديم، وأضيف السلام لنا فقط؛ لأنه بمعنى التحية والانقياد وهو إنما يتأتى فينادون الله وملائكته، فلو استعمل فيه تعالى وفيهم لأوهم ذلك، وهو محذور بالنسبة إليه تعالى، وغير مقصود بالنسبة للملائكة في مثل هذا المحل فلا ينافيه قوله تعالى (سلام على إبراهيم) (¬1) ولا قوله تعالى: (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) (¬2) (¬3) ثم فائدة الصلاة تعود عليه - صلى الله عليه وسلم - بالزيادة على ما هو فيه، لأن الكامل يقبل الكمال وعلى المصلي بالثواب والإِمداد في الحال والمآب. انتهى ملخصاً من فتح الإِله. 1395- (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من صلى عليّ) أي: بأي صيغة من صيغها (صلاة) أي: واحدة كما يومىء إليه إفرادها (صلى الله عليه بها) أي: بسببها (عشراً) وهذا زائد على ما أفاده قوله تعالى: (من جاء ¬

_ (¬1) سورة الصافات، الآية: 109. (¬2) سورة الرعد، الآية: 23. (¬3) أي لأن هاتين الآيتين فيهما قرينة على أن المراد بالسلام التحية فقط بخلاف الآية التي نحن بصددها إذ يجوز فيها إرادة التحية والانقياد معاً. ع.

رواه مسلم (¬1) . 1396- وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "أَوْلَى النَّاسِ بِي يَومَ القِيَامَةِ أكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلاَةً". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (¬2) . 1397- وعن أوس بن أوس - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ مِنْ ـــــــــــــــــــــــــــــ بالحسنة فله عشر أمثالها) (¬3) لأن فيه أن الله تعالى يصلي عليه أي: يذكره وذكر الله أكبر، وقد بسطت الكلام في هذا الحديث في باب إجابة المؤذن من شرح الأذكار (رواه مسلم) في الجامع الصغير بعد ذكر الحديث باللفظ المذكور ما لفظه رواه، أحمد ومسلم والنسائي من حديث أبي هريرة، وزاد في الجامع الكبير: ورواه الترمذي وابن حبان، ورواه بهذا اللفظ الطبراني عن أنس وعن أبي طلحة، ورواه الطبراني أيضاً عن ابن عمر، ورواه أيضاً عن أبي موسى بلفظ "صلى الله عليه عشر صلوات وحط عنه عشر خطيئات، ورفع له عشر درجات" وقال: رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والحاكم في المستدرك من حديث أنس، وزاد في الكبير فذكر فيمن خرجه بهذا الأخير أبو يعلى الموصلي وابن حبان والبيهقي في الشعب. 1396- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أولى الناس بي) أي: قرباً أو شفاعه أي: أخص أمتي بي وأقربهم مني وأحقهم بشفاعتي (يوم القيامة) فأولى من الولي أي: القرب ضمن معنى الاختصاص فعدي بالباء (أكثرهم عليّ صلاة. رواه الترمذي) ورواه البخاري في التاريخ وابن ماجه وابن حبان كما في الجامع الصغير (وقال) أي: الترمذي (حديث حسن) غريب، لأن في سنده موسى بن يعقوب الربيعي قال الدارقطني: إنه تفرد به، وقال النسائي: إنه ليس بالقوي، لكن وثقه يحيى بن معين وأبو داود وابن حبان وابن عدي وجماعة. وفي رواية عن أنس "إن أقربكم مني يوم القيامة في كل موطن، أكثركم علي صلاة في الدنيا" الحديث رواة البيهقي بسند ضعيف وكذا رواه آخرون. 1397- (وعن أوس ابن أوس) بفتح الهمزة وسكون الواو وبالمهملة في كلها. وقد تقدمت ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: أستحجاب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه ... ، (الحديث: 89) . (¬2) أخرجه الترمذي في كتاب: الصلاة/ الوتر، باب: ما جاء في فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، (الحديث: 484) . (¬3) سورة الأنعام، الآية: 160.

أفْضَلِ أيَّامِكُمْ يَومَ الجُمُعَةِ، فَأكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلاةِ فِيهِ، فَإنَّ صَلاَتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ". قَالَ: قالوا: يَا رسول الله، وَكَيفَ تُعْرَضُ صَلاتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرَمْتَ؟ (قَالَ: يقولُ بَلِيتَ) ـــــــــــــــــــــــــــــ ترجمته (رضي الله عنه) في باب فضل الجمعة عند ذكر أول هذا الحديث إلى قوله عليّ (قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة) أتى بمن تنبيهاً على أنه ليس أفضلها، بل أفضل أيام السنة من حيث الأيام يوم عرفة؛ لما جاء أنه سيد الأيام وأفضل الأسبوع يوم الجمعة، ومن حيث الشهر شهر رمضان، وفرع على فضل يوم الجمعة قوله: (فأكثروا علي من الصلاة فيه) وذلك لنمو ثواب العمل بشرف زمانه أو مكانه (فإن صلاتكم معروضة علي) يعرضها عليه ملائكة موكلون بذلك كما ورد في حديث ابن مسعود مرفوعاً "أن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام" رواه أحمد وأبو داود والبيهقي في الدعوات الكبير. وهذا فيمن صلى عليه من بعد. أما من صلى عليه عند قبره الشريف فيسمعه كما جاء في حديث أبي هريرة مرفوعاً "من صلى علي عند قبري سمعته ومن صلى علي نائياً بلغته" رواه البيهقي في الشعب (قالوا: يا رسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت) بفتحتين فسكون ففتح أصله أرممت، أي: صرت رميماً حذفت إحدى ميميه، وهي لغة لبعض العرب كما يقال ظلت في ظللت، أو بضم الهمزة والراء مضمومة أو مكسورة، والميم مشددة وإسكان التاء أي: أرمت العظام (قال) أي: الراوي (يقول) كذا في نسخ الرياض بالإِفراد والذي في أبي داود يقولون بضمير الجمع، أي: يعنون بقولهم: أرمت (بليت) قال ابن رسلان: أصل هذه الكلمة من رم الميت إذا بلي، وقاعدة التصريف تقتضي في مثله أرممت بميمين ثانيتهما ساكنة، لملاقاتها ضمير الرفع المتحرك، لكن الذي جاء في الرواية ميم واحدة فإن صحت الرواية ولم تكن محرفة خرج على لغة بعض العرب كما تقدم، فإن الخليل زعم أن ناساً من بني وائل يقولون: ردت وردت يعني بتشديد الدال والتاء (¬1) للمتكلم والمخاطب كأنهم قدروا الإِدغام قبل دخول التاء، فيكون لفظ الحديث أرمت بتشديد الميم فتح التاء اهـ ملخصاً. وتحصل فيه ثلاثة أوجه (¬2) أشهرها أولها وهو أنه ¬

_ (¬1) قوله: والتاء أي المتحركة بلا تشديد. ع. (¬2) بل أربعة ولعله اعتبر الثاني والثالث وجهاً واحداً وذكر ابن حجر في الدر المنضود ثلاثة أوجه الأول كالأول هنا والثاني بفتحتين فتشديد فسكون ولم يذكره الشارح والثالث كالثالث هنا.

قَالَ: "إنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى الأرْضِ أَجْسَادَ الأَنْبِيَاءِ". رواه أَبُو داود بإسنادٍ صحيح (¬1) . 1398- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رَغِمَ أنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ بوزن ضرب كما في النهاية وضبطه بذلك المنذري (¬3) (قال) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - (إن الله حرم على الأرض) أن تأكل كما في رواية النسائي (أجساد الأنبياء) عليهم الصلاة والسلام لأنهم أحياء في قبورهم؛ ولذا لا تكره الصلاة في مقابرهم؛ لانتفاء علة الكراهة وهي محاذاة النجاسة (رواه أبو داود بإسناد صحيح) ورواه أحمد وابن أبي عاصم والبيهقي في عدة من كتبه، والنسائي وابن ماجه في سننهما؛ والطبراني في معجمه، وابن خزيمة وابن حبان والحاكم في صحاحهم. وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري، وكذا صححه المصنف في الأذكار، وأشار إليه هنا، وقال الحافظ عبد الغني: هذا حديث صحيح، والمنذري أنه حسن، وقال ابن دحية: إنه صحيح محفوظ بنقل العدل عن العدل، والاعتراض عليهم بأن فيه علة خفية مردود بأنه سالم منها كما بينه الدارقطني، فقول أبي حاتم أنه منكر، وابن العربي أنه لم يثبت، وابن أبي الصيف اليمني أنه غريب، مردود بما ذكرت، كذا في فتح الإِله. 1398- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رغم) بكسر الغين المعجمة، أي: لصق بالرغام أي: التراب، وهو كناية عن الذل والحقارة أي: ذل (أنف رجل) والمرأة كذلك (ذكرت عنده فلم يصل علي) أخذ منه بعض الحنفية، وابن عبد البر من المالكية، وابن بطة من الحنابلة. وجوب الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - كلما ذكر (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) وهو صدر حديث وتمامه "ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة". ورواه الحاكم في المستدرك، وسكت المصنف عن باقي الحديث لعدم تعلقه بغرض الترجمة كما تقدم نظيره. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: فضل الجمعة وليلة الجمعة، (الحديث: 1047) . (¬2) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، باب: قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "رغم أنف رجل"، (الحديث: 3545) . (¬3) قد ضبطه المنذري في الترغيب والترهيب بالوجه الأول فلعل ضبطه المذكور في شرحه لسنن أبي داود.

1399- وعنه - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيداً، وَصَلُّوا عَلَيَّ، فَإنَّ صَلاَتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ". رواه أَبُو داود بإسنادٍ صحيح. (¬1) . 1400- وعنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلاَّ رَدَّ اللهُ عَلَيَّ رُوحِي ـــــــــــــــــــــــــــــ 1399- (وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تجعلوا قبري عيداً) قال التوربشتي: إذا فسرنا العيد بواحد الأعياد ففي الحديث مضاف، أي: لا تجعلوا زيارة قبري عيداً أو لا تجعلوا قبري مظهر عيدٍ، ومعناه: النهي عن الاجتماع لزيارته - صلى الله عليه وسلم - اجتماعهم للعيد، إذ هو يوم رخص لهم فيه اللهو واتخاذ الزينة ويبرزون فيه للنزهة وإظهار السرور، وكان أهل الكتاب يسلكون ذلك في زيارة قبور أنبيائهم حتى ضرب الله على قلوبهم حجاب الغفلة واتبعوا سنن أهل الأوثان في زيارة طواغيتهم، فاتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" ويحتمل أنه اسم من الاعتياد، والعيد ما اعتادك من هم أو غيره. أي: لا تجعلوه محل اعتياد تعتادونه، أو إنما نهاهم لما ذكر في الوجه قبله، ولئلا يسلكوا مسلك العادة في العبادة، ولئلا يشتغلوا بذلك عما هو الأصلح لدينهم والأهم في وقتهم، ولأن اعتياده يفضي بالأكثرين إلى إضاعة الوقت وسوء الأدب والتعرض لما ينتهي بهم إلى حال يرتفع دونها حجاب الحشمة، ويؤيد هذين التأويلين تعقيبه لهما بقوله: (وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم) أي: لا تتكلفوا المعاودة إليه فقد استغنيتم عنها بالصلاة علي اهـ ملخصاً. وحاصله أن المنهي عنه على الأول: الاجتماع عند قبره للزينة والرقص واللهو والطرب وغيرها، من المحرمات التي تعمل في الأعياد. وعلى الثاني المنهي عنه معاودة تؤدي إلى الإِخلال لعظيم الحرمة، أو الملل أو سوء الأدب أو نحو ذلك. وذكر بعض العلماء للحديث معنى آخر فقال: أي لا تتخذوه كالعيد الذي لا يؤتى إليه إلا مرتين في العام، فيكون فيه حث على إكثار زيارته، والتملي بمحادثته ومخاطبته، أي على وجه لا يؤدي لما ذكر فيما قبله (رواه أبو داود بإسناد صحيح) ورواه أحمد والنسائي، وصححه المصنف في الأذكار وأشار إليه هنا. 1400- (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ما من أحد) أي: من مكلفي الإنس والجن ويحتمل قصره على الأول (يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي) أي: نطقي، للنصوص والإِجماع على ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: المناسك، باب: زيارة القبور، (الحديث: 2042) .

حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ". رواه أَبُو داود بإسنادٍ صحيح (¬1) . 1401- وعن عليّ - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "البَخِيلُ مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ، فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ". رواه الترمذي، وقال: "حديث ـــــــــــــــــــــــــــــ أنه - صلى الله عليه وسلم - حي في قبره على الدوام (حتى أرد عليه السلام) وعلاقة التجوز بالروح عن النطق ما بينهما من التلازم، إذ يلزم من وجوده وجودها دائماً وبالعكس بالقوة دائماً وبالفعل غالباً، وفي الحديث أقوال كثيرة منها قول السبكي: يحتمل أنه رد معنوي لاشتغال روحه الشريفة بشهود الحضرة الإلهية والملأ الأعلى عن هذا العالم، فإذا سلم عليه أقبلت روحه الشريفة إلى هذا العالم ليدرك سلام من يسلم عليه وليرد عليه " واعترض " بأنه يلزم استغراق روحه في الرد لعدم خلو الزمن عن مسلم عليه، فأي وقت للاشتغال بالحضرة وللعود إلى هذا العالم. وأجيب بأن أمور الآخرة لا تدرك بالعقل، وأحوال البرزخ بأحوال (¬2) الآخرة. والحاصل أن روحه المقدسة كانت مستغرقة في شهود الحضرة الإلهية، لكنها عند السلام عليه ترد من تلك الحال للرد على المسلم عليه من غير أن تشتغل عما كانت فيه، ولا بعد في ذلك فإنه شأنه وعادته في الدنيا مع ضيقها بالنسبة لأحوال البرزخ، وقد بسط الكلام في معنى الحديث الحافظ السيوطي في حاشيته على سنن أبي داود بل أفرد لذلك جزءاً (رواه أبو داود بإسناد صحيح) ورواه أحمد والبيهقي في الدعوات الكبير والطبراني، وأبو اليمن ابن عساكر، وسنده حسن، بل صححه المصنف في الأذكار وهنا. 1401- (وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: البخيل) أي: كامل البخل كما يدل عليه رواية: البخيل كل البخيل (من ذكرت عنده فلم يصل عليّ) لأنه بامتناعه من الصلاة عليه قد شح وامتنع من أداء حق يتعين عليه أداؤه امتثالاً للأمر، ولما فيه من مكافأة جزئية لمن كان سبباً في سعادته الأبدية، بل في الحقيقة إنما شح وبخل عن نفسه، ومنعها أن يصل إليها عطاء عظيم ممن يعطي بلا حساب ولا تنقص خزائنه بالعطاء، فبهذا الشح تفوته تلك الكنوز التي لولاه لكان يكتالها بالمكيال الأوفى من غير أدنى مشقة، فلا أبخل من هذا كما يومىء إليه حديث "ليس البخيل من يبخل بمال نفسه ولكن البخيل من يبخل بمال غيره" وأبلغ منه من أبغض الجود حتى يحب أن لا يجاد عليه (رواه الترمذي وقال: حديث ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: المناسك، باب: زيارة القبور، (الحديث: 2041) . (¬2) لعله كأحوال أو من أحوال. ع

حسن صحيح (¬1) . 1403- وعن أَبي محمدٍ كعبِ بن عُجْرَة - رضي الله عنه -، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ عَلِمْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ ـــــــــــــــــــــــــــــ تنزيهه عما لا يليق به (ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -) بالرفع خبر لمبتدأ محذوف والجملة معطوفة على ما قبلها، وخالف بين لفظي الجملتين لتفاوت رتبتي مضمونهما من الثناء على الخالق والدعاء لأفضل الخلق (ثم يدعو بعد) بالضم، أي: بعدما ذكر من الحمد والصلاة بأي صيغة كانا (بما شاء. رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح) وكذا صححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وقال: هو على شرط مسلم: وفي موضع آخر هو على شرطهما أي: الشيخين، ولا أعرف له علة، ورواه النسائي بنحوه. 1403- (وعن أبي محمد) كنية (كعب بن عجرة) بضم المهملة وسكون الجيم وبالراء قاله المصنف في التهذيب (رضي الله عنه) في التهذيب أيضاً: عجرة بن أمية بن عدي بن عبيد بن الحارث بن عمرو بن عوف بن غنم بن سواد بن مري بن أراشة بن عامر بن غيلة بن قسميل بن قراد بن علي (¬2) ، حليف الأنصار اختلف في كنيته فقيل ما تقدم، وقيل: أبو عبد الله، وقيل: أبو إسحاق تأخر إسلامه، وشهد بيعة الرضوان وغيرها، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعة وأربعون حديثاً اتفقا منها على حديثين وانفرد مسلم بآخر، سكن الكوفة، وتوفي بالمدنية سنة إحدى وقيل: اثنتين، وقيل: ثلاث وخمسين، وله سبع وسبعون، وقيل: خمس وسبعون سنة انتهى ملخصاً (قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: يا رسول الله قد علمنا) أي: عرفنا (كيف نسلم عليك) أي: بما علمهم في التشهد من قولهم: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته (فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا اللهم صل على محمد) أي: ارحمه رحمة مقرونة بتعظيم لائق بمقامه الذي لا يعلمه إلا أنت (وعلى آل محمد) يحتمل أن يراد بهم من تحرم عليهم الصدقة الواجبة من أقاربه المؤمنين ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: الدعاء، (الحديث: 1481) . وأخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، [باب: 65] ، (الحديث: 3476) . (¬2) وفي نسخة بلى.

إنَّكَ حَمِيدٌ مَجيدٌ. اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّكَ حَمِيدٌ مَجْيدٌ". متفقٌ عَلَيْهِ (¬1) . 1404- وعن أَبي مسعودٍ البدري - رضي الله عنه -، قَالَ: أتَانَا رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَنَحنُ في مَجْلِسِ سَعدِ بن عُبَادَةَ - رضي الله عنه -، فَقَالَ لَهُ بَشْيرُ بْنُ سَعدٍ: أمَرَنَا الله تَعَالَى أنْ نُصَلِّي عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ ـــــــــــــــــــــــــــــ من بني هاشم وبني المطلب، وأن يراد بهم أمة الإِجابة. والأول: أقرب إلى السياق. والثاني: أنسب بالعموم الأتم (كما صليت على إبراهيم) في هذا التشبيه وجوه كثيرة نحو العشرين أودعتها في شرح الأذكار أقربها أنه من باب التوسل إلى الفضل بالفضل، أي: تفضل على حبيبك وخليلك، كما تفضلت على خلليك. ولا شك أن تفضله على الخليل سابق في عالم الشهادة، على تفضله على الحبيب الخليل صلى الله وسلم عليهما (إنك حميد مجيد) بكسر الهمزة، على الاستئناف وبفتحها، بتقدير لام التعليل قبلها، أي: لأنك أهل الثناء والمجد أي: إن العظمة تستحقها بالذات (اللهم بارك) من البركة، وهي الزيادة والنماء وصيغة المفاعلة للمبالغة (على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم) وفي نسخة زيادة آل بين الجار والمجرور (أنك حميد مجيد) فصل هذه الجملة الدعائية عن الجملة قبلها إعلاماً بأن كلاً من المدعو به فيهما مقصود لذاته (متفق عليه) رواه البخاري في الصلاة وفي الدعوات وفي التفسير، ورواه مسلم في الصلاة، وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه كلهم في الصلاة، وقال الترمذي: حسن صحيح. 1404- (وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن في مجلس سعد بن عبادة) جملة حالية من مفعول أتى (فقال له بشير) بفتح الموحدة وكسر المعجمة (ابن سعد) (¬2) الأنصاري الخزرجي (أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله) أي: بقوله (يا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الأنبياء [باب: 10] ، (الحديث: 3370) بنحوه وفي التفسير، باب: إن الله وملائكته، (الحديث: 4797) . وفي الدعوات، باب: الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، (الحديث: 6357) . وأخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد التشهد، (الحديث: 66 و67 و68) . (¬2) هو بشير بن سعد بن ثعلبة وليس هو ابن سعد بن عبادة.

فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ فَسَكَتَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، حَتَّى تَمَنَّيْنَا أنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ، ثُمَّ قَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَالسَّلاَمُ كَمَا قَدْ عَلِمْتُمْ". رواه مسلم (¬1) . وعن أَبي حُمَيدٍ السَّاعِدِيِّ - رضي الله عنه -، قَالَ: قالوا: يَا رسولَ الله ـــــــــــــــــــــــــــــ أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً) (¬2) (فكيف نصلي عليك) لنخرج من عهدة الواجب به (¬3) (فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى) غاية لمقدر أي: وأطال سكوته حتى تمنينا (أنه لم يسأله) شفقة لما رأوه منه حالتئذ، وسكوته يحتمل أن يكون لإِنتظار وحي وأن يكون أن يكون لاجتهاد (ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم) من جملة وجوه التشبيه السابق الإشارة إليها، وهو من أقربها أن التشبيه للصلاة على الآل بالصلاة على إبراهيم، فيكون على أصل كون المشبه به أعلى من المشبه في وجه التشبيه (وبارك على محمد وعلى آل محمد) أي: بركة مبالغاً فيها كما تومىء إليه الصيغة (كما باركت على إبراهيم) وفي نسخة بزيادة آل، وآله إسماعيل وإسحاق وأولادهما (إنك حميد) أي: محمود وعدل عنها إلى ذكره لما فيه من المبالغة إذ هو من صيغها (مجيد والسلام) أي: المأمور به بقوله تعالى: (وسلموا تسليماً) (2) (كما قد علمتم) بضم المهملة وتشديد اللام المكسورة، أي: علمكم الله بقوله: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) . وبفتح أوله وكسر ثانيه، وهو ما أشير إليه بقولهم في حديث كعب بن عجرة "قد علمنا كيف نسلم عليك" (رواه مسلم) في كتاب الصلاة من صحيحه. ورواه أبو داود فيها، والترمذي في التفسير من جامعه. وقال: حسن صحيح، والنسائي في الصلاة، وفي اليوم والليلة. 1405- (وعن أبي حميد) بضم المهملة وفتح الميم وسكون التحتية (الساعدي) نسبة لبني ساعدة بطن من الأنصار تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب تحريم الظلم (قال: قالوا: ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد التشهد، (الحديث: 65) . (¬2) سورة الأحزاب، الآية: 56. (¬3) أي بالأمير.

14- كتاب الأذكار

14- كتاب الأذْكَار 244- باب فَضلِ الذِّكْرِ وَالحَثِّ عليه قَالَ الله تَعَالَى (¬1) : (وَلذِكْرُ الله أكْبَرُ) ، وقال تَعَالَى (¬2) : (فَاذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ) ، وقال تَعَالَى (¬3) : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ ـــــــــــــــــــــــــــــ كتاب الأذكار باب فضل الذكر والحث عليه بفتح المهملة وتشديد المثلثة، أي: الحض (عليه) المراد بذكر الله هنا: الإتيان بالألفاظ التي ورد الترغيب فيها، وطلب الإِكثار منها. وقيل: الذكر شرعاً قول سيق لثناء أو دعاء، وقد يستعمل لكل قول يثاب قائله. قال الحافظ في الفتح: ويطلق ويراد به المواظبة على العمل بما أوجبه الله أو ندب إليه. وقال الرازي: المراد بذكر اللسان الألفاظ الدالة على التسبيح والتحميد والتمجيد، والذكر بالقلب التفكر في أدلة الذات والصفات وفي أدلة التكاليف من الأمر والنهي حتى يطلع على أحكامها، وفي أسرار مخلوقات الله تعالى. والذكر بالجوارح هو أن تصير مستغرقة في الطاعات. (قال الله تعالى: ولذكر الله أكبر) أي: ذكر العبد ربه أفضل من كل شيء، والصلاة لما كانت مشتملة على ذكره كانت أكبر من غيرها من الطاعات. وقيل: المراد ذكر الله عبيده برحمته أكبر من ذكرهم إياه بطاعته، وهذا هو المنقول عن كثير من السلف. وقال التوربشتى: الذكر من الله هو حسن قبوله منه والمجازاة له بالحسنى اهـ (وقال تعالى: فاذكروني) أي: بالطاعات أو في الرخاء (أذكركم) بالمغفرة أو في الشدة. وقد تقدم ذكر هذا في أول باب الحمد (وقال تعالى: واذكر ربك في ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت، الآية: 45. (¬2) سورة البقرة، الآية: 152. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 205.

بِالغُدُوِّ والآصَالِ وَلاَ تَكُنْ مِنَ الغَافِلِينَ) ، وقال تَعَالَى (¬1) : (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرَاً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ، وقال تَعَالَى (¬2) : (إنَّ المُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ) … إِلَى قَوْله تَعَالَى: (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأجْرَاً عَظِيماً) ، وقال تَعَالَى (¬3) : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) ـــــــــــــــــــــــــــــ نفسك) أي: سراً (تضرعاً) أي: تذللاً (وخيفة) أي: خوفاً منه، فالنصب على العلة، ويصح كونه على الحال، أي: متضرعاً وخائفاً (ودون الجهر من القول) أي: قصداً بينهما، وهو كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: أن تسمع نفسك دون غيرك (بالغدو والآصال) أوائل النهار وأواخره، وخصا بطلب الذكر فيهما دون غيرهما؛ لفضلهما ولأن بدء اليوم وختمه بالبر والعمل الصالح مقتض لغفران ما يقع بينهما من المخالفات كما في حديث (ولا تكن من الغافلين) عن ذكر الله (وقال تعالى: واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون) جملة الترجي في محل الحال من فاعل، اذكروا أي: ائتوا بعمل البر راجين الفلاح من الله تعالى، فإن الأعمال أمارات ظنية وليست بدلالات قطعية، ففيه إيماء إلى نهي العامل عن الركون إلى عمله دون الله تعالى، وتنبيه على أن المطلوب كون الظاهر مستعملاً في أعمال البر مع عدم النظر لذلك بالقلب (وقال تعالى إن المسلمين والمسلمات) أتى بذلك توطئة لقوله (إلى قوله تعالى والذاكرين الله كثيراً والذاكرات) المناسب للترجمة إذ لو بدأ به لتوهم أن الثواب المذكور بعده مرتب عليه بانفراده، وإنما هو جزء للمرتب عليه ذلك (أعد الله لهم) أي: هيأ لهم (مغفرة) لذنوبهم عظيمة كما يومىء إليه إسناد ذلك إليه سبحانه، مع ما في ذلك من الإيماء إلى مزيد العناية وكمال الرعاية (وأجراً عظيماً) على الطاعات (وقال تعالى يأيها الذين أمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً) في الحديث عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا أو صلى ركعتين جميعاً كتبا في الذاكرين الله كثيراً والذاكرات" هذا حديث مشهور رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه في سننهما. وفي الحديث "أكثروا ذكر الله حتى يقولوا (¬4) مجنون"، وفى الأذكار للمصنف: سئل ابن الصلاح عن القدر ¬

_ (¬1) سورة الجمعة، الآية: 10. (¬2) سورة الأحزاب، الآية: 35. (¬3) سورة الأحزاب، الآيتان: 41، 42. (¬4) أي المنافقون ومن ألحق بهم أهـ. مناوي ملخصا.

خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان الى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم" متفق عليه (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ (خفيفتان على اللسان) قال الطيبي: الخفة مستعارة للسهولة شبه سهولة جريان هذا الكلام على اللسان بما يخف على الحامل من بعض المحمولات ولا يشق عليه، فذكر المشبه به وأراد المشبه (ثقيلتان في الميزان) الثقل فيه على حقيقته؛ لأن الأعمال تتجسم عند الميزان، والميزان هو ما يوزن به أعمال العباد يوم القيامة. وفي كيفيته أقوال الأصح أنه جسم محسوس ذو لسان وكفتين، والله تعالى يجعل الأعمال كالأعيان موزونة أو توزن صحف الأعمال. وسئل بعضهم عن سبب ثقل الحسنة على الإِنسان، وخفة السيئة عنه فقال: إن الحسنة حضرت مرارتها وغابت حلاوتها فثقلت فلا يحملنك ثقلها على تركها، والسيئة حضرت حلاوتها وغابت مرارتها فخفت فلا يحملنك خفتها على ارتكابها (حبيبتان إلى الرحمن) أي: محبوب قائلهما وخص الرحمن بالذكر؛ لأن القصد من الحديث بيان سعة رحمة الله بعباده، حيث يجزي على العمل القليل بالثواب الكثير الجزيل. قال العيني: ويجوز أن يكون لأجل السجع، وهو من محسنات الكلام، وإنما نهى عن سجع الكهانة لكونه متضمناً لباطل (سبحان الله وبحمده) الواو للحال، أي: أسبحه متلبساً بحمدي له من أجل توفيقه لي، وقيل: عاطفة أي: وأتلبس بحمده. وقدم التسبيح؛ لأنه من باب التخلية بالمعجمة، والحمد من باب التحلية بالمهملة. قال الكرماني: التسبيح إشارة للصفات السلبية، والحمد إشارة إلى الصفات الوجودية (سبحان الله العظيم) كرر التسبيح تأكيداً للاعتناء بشأن التنزيه من جهة كثرة المخالفين الواصفين له بما لا يليق به بخلاف صفة الكمال فلم ينازع في ثبوتها له أحد، ثم سبحان فيهما منصوب على المصدرية بإضمار فعل واجب الحذف على المرضي، أتى لقصد الدوام واللزوم بحذف ما هو موضوع للتجدد والحدوث، ثم صار علم جنس للتسبيح، وأضيف إلى الله في نحو سبحان الله أولاً وأريد بهما اللفظ، فلذا كان ابتدائين. قال الدماميني في المصابيح: إن قلت المبتدأ مرفوع وسبحان منصوب فكيف وقع مبتدأ مع ذلك؟ قلت: المراد لفظهما محكياً، فإن قلت الخبر مثنى والمخبر عنه غير متعدد ضرورة، أنه ليس ثم حرف عطف يجمعهما، ألا ترى أنه لا يصح زيد عمرو قائمان، قلت هو على حذف العاطف أي: سبحان الله وبحمده وسبحان الله العظيم كلمتان الخ (متفق عليه) ورواه أحمد والترمذي وابن ماجه وهو آخر حديث في صحيح البخاري. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: (إذا قال والله لا أتكلم اليوم) والدعوات باب فضل التسبيح =

1407- وعنه - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأَنْ أَقُولَ: سُبْحَانَ اللهِ؛ وَالحَمْدُ للهِ؛ وَلاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ، وَاللهُ أكْبَرُ، أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ". رواه مسلم (¬1) . 1408- وعنه: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ قَالَ لا إلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ؛ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، في يَوْمٍ مِئَةَ مَرَّةٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ 1407- (وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لأن أقول) اللام فيه مؤذنة بالقسم المقدر قبلها، لتأكيد ما بعدها عند السامع؛ لأن المقام يدعو للتأكيد لما ركز في الطباع من عظم الدنيا فيستبعد أن تفضلها هذه الكلمات (سبحان الله) أي: تنزيه الله عما لا يليق به (والحمد لله) أي: ثناءً عليه بنعوت الكمال (ولا إله) أي: لا إله مستغن عن كل ما سواه ومفتقر إليه كل ما عداه (إلا الله) بالرفع بدل من محل لا مع اسمها وهو الرفع بالابتداء عند سيبويه (والله أكبر) من أن يوصف بما لا يليق (احب إلي مما طلعت عليه الشمس) كناية عن الدنيا، وذلك لأن هذه الأعمال من أعمال الآخرة وهي الباقيات الصالحات، وثوابها لا يبيد وأجرها لا ينقطع، والدنيا بمعرض الفناء والزوال والتغير والانتقال، ومقتضى ما ذكرناه من التعليل أن كل واحدة منهن أحب إليه من الدنيا لدوامه وانقطاعها ولا يخالفه الحديث، لأن إثبات الأمر المتعدد لا ينافي ثبوته لكل من أفراده (رواه مسلم) ورواه النسائي. 1408- (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من قال لا إله إلا الله وحده) بالنصب على الحالية، وجازت مع تعريفه لفظاً لتأويله بمنفرد (لا شريك له) جملة حالية، حذف معمولها؛ ليعم أي: فلا شريك له في شيء من صفاته ولا في شيء من أفعاله ولا في شيء من ملكه (له الملك) بضم الميم، أي: السلطنة والقهر له دون غيره قال تعالى: (وهو القاهر فوق عباده) (¬2) (وله الحمد) فالحمد حقيقة مختصة أفراده كلها به تعالى، فلا فرد منه لما عداه إلا باعتبار ظاهر الأمر، إذ الحمد تابع للمثنى عليه، وهو خلق الله تعالى (وهو على كل شيء قدير) قدم معمول الصفة المشبهة عليها، لكونه ظرفاً والممنوع تقديمه عليها في قولهم، ¬

_ = والتوحيد (11/175) . وأخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: فضل التهليل والتسبيح والدعاء، (الحديث: 31) . (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء، باب: فضل التهليل والتسبيح والدعاء، (الحديث: 32) . (¬2) سورة الأنعام، الآية: 61.

كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ وكُتِبَتْ لَهُ مِئَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِئَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزاً مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِي، وَلَمْ يَأتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلاَّ رَجُلٌ عَمِلَ أكْثَرَ مِنْهُ". وقال: "مَنْ قَالَ سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ، في يَوْمٍ مِئَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ خَطَايَاهُ ـــــــــــــــــــــــــــــ والعبارة للخلاصة، وسبق ما تعمل فيه مجتنب. هو إذا كان عملها من حيث كونها صفة مشبهة وعملها في الظرف ليس لذلك، بل لتضمن معنى الفعل، وبه يندفع اعتراض المحقق بدر الدين بن مالك على أبيه فيما ذكرناه بالآية السابقة (في يوم) هو شرعاً ما بين طلوع الفجر الصادق وغروب الشمس (مائة مرة) كتب الألف فيه، دفعاً لاشتباهه بمن الجارة لضمير الغائب، وظاهر إطلاقه أنه لا فرق في ترتب الثواب الآتي عليه بين ما إذا والاها أو أتى بها مفرقة (كانت له عدل عشر رقاب) أي: في ثواب عتقها. قال ابن التين: قرأناه بفتح العين، وقال في المصباح: عدل الشيء بالكسر مثله من جنسه أو مقداره. قال ابن فارس: والعدل بالكسر الذي يعادل في الوزن والقدر اهـ. وعدله بالفتح ما يقوم مقامه من غير جنسه ومنه قوله تعالى: (أو عدل ذلك صياماً) (¬1) وهو في الأصل مصدر يقال: عدلت هذا بهذا عدلاً، من باب ضرب إذا جعلته مثله قائماً مقامه اهـ (وكتبت له مائة حسنة) بالنصب ثاني مفعولي كتب المبني للمفعول؛ لتضمنه معنى جعل، والمفعول الأول نائب الفاعل المستكن في الفعل، وفي رواية الكشميهني: وكتب بالتذكير. قال العيني: أي: القول المذكور. قلت: ولو روي بالرفع لكان نائب فاعل الفعل فيناسب قوله: (ومحيت عنه مائة سيئة) أي: رفعت من ديوان الحفظة أو محي عنه المؤاخذة بها فلم يعذب بها (وكانت له حرزاً) بكسر المهملة وسكون الراء وبالزاي الموضع الحصين والعوذة (من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي) غاية للجملة الأخيرة أي: إنه يكون في عوذة من الشيطان مدة بقاء النهار (ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به) من الأذكار المأثورة (إلا رجل) بالرجع بدل من أحد (عمل أكثر منه) بأن زاد على المائة من التهليل فكلما زاد منه زاد الثواب. وسمي ذلك عملاً؛ لأنه عمل اللسان (ومن قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة) مفعول مطلق نحو قوله تعالى: (فاجلدوهم ثمانين جلدة) (¬2) وفي المصباح فعلت الشيء مرة، أي: تارة اهـ. وفيه التارة المرة فإن ريد مرة من الزمان، كان النصب على الظرفية (حطت خطاياه) ببناء الفعل للمجهول؛ لأن من المعلوم أن هذا الفعل لا يقدر عليه غيره تعالى فهو نظير قوله تعالى: (وغيض الماء) (¬3) إذ لا يتصور ¬

_ (¬1) سورة المائدة، الآية: 95. (¬2) سورة النور، الآية: 4. (¬3) سورة هود، الآية: 44.

أَوْ تَمْلأُ - مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ". رواه مسلم (¬1) . 1412- وعن سعد بن أَبي وقاصٍ - رضي الله عنه - قَالَ: جَاءَ أعْرَابيٌّ إِلَى رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: عَلِّمْنِي كَلاَماً أقُولُهُ. قَالَ: "قُلْ لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَريكَ لَهُ، اللهُ أكْبَرُ كَبِيراً، وَالحَمْدُ للهِ كَثيراً، وَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَالِمينَ، وَلاَ حَولَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ" قَالَ: فهؤُلاءِ لِرَبِّي، فَمَا لِي؟ قَالَ: "قُلْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ـــــــــــــــــــــــــــــ كما قال: أو (تملأ) أي: كل واحدة بانفرادها (ما بين السموات والأرض) أي: أنهما لعظم مدلولهما لو كانا جسمين لملأ ما ذكر أو لملأه أحدهما، ففيه عظم فضلهما وعلو مقامهما (رواه مسلم) . 1412- (وعن سعد بن أبي وقاص) بفتح الواو والقاف المشددة آخره صاد مهملة هي كنية مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب الزهري (رضي الله عنه قال: جاء أعرابي) هو ساكن البادية عربياً كان أو لا (إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: علمني كلاماً أقوله) بالرفع جملة في موضع الصفة لكلام لنكارته، ولم يقيد القول بحال ولا زمان إيماءً إلى أن المطلوب قول يكون شأنه العموم (قال: قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له) قدمها على ما بعدها لأنها أشرف قرائنها، ولذا جعلت كلمة الإِسلام ومفتاح الجنة خصوصاً، وقد ضم إليها ما يزيد في تأكيد مدلولها من التوحيد بالحال المفردة فالجملة (¬2) (الله أكبر كبيراً) فصل هذه الجملة عما قبلها إيماءً، إلى استقلال كل جملة فيما سأل، وكبيراً بالموحدة منصوب على أنه مفعول مطلق عامله الوصف (والحمد لله كثيراً) بالمثلثة إعرابه كإعراب كبيراً، ووصل هذه الجملة بما قبلها لمشاركتها لها في الدلالة على اتصاف الباري بأوصاف الكمال، ولما لم يشاركها فيه ما بعد فصلها كما يأتي، وبين كبيراً بالموحدة وكثيراً بالمثلثة جناس مصحف ومنه حديث "ارفع إزارك فإنه أنقى وأبقى وأتقى" (وسبحان الله رب) أي: مالك وخالق (العالمين) بفتح اللام اسم جمع لعالم لاختصاصه بالعقلاء من الجن والإِنس والملك، وعموم دلالة عالم على ما سوى الله تعالى من سائر الأجناس، والجمع لا يكون أخص من مفرده (ولا حول) بالفتح أو الرفع أي: عن المعصية (ولا قوة) بالفتح أو النصب أو الرفع عطفاً على حول على الوجه الأول وبما عدا النصب على الثاني، أي: على الإِتيان بالطاعة (إلا بالله العزيز) أي: ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الطهارة، باب. فضل الوضوء، (الحديث: 1) . (¬2) المفردة هي وحده والجملة هي لا شريك له.

وَارْحَمْنِي وَاهْدِنِي، وَارْزُقْنِي". رواه مسلم (¬1) . 1413- وعن ثَوبانَ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلاَتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلاثَاً، وَقَالَ: "اللَّهُمَّ أنْتَ السَّلاَمُ، وَمِنْكَ السَّلاَمُ، تَبَارَكْتَ ـــــــــــــــــــــــــــــ الذي لا يغالب في مراده (الحكيم) الموقع للأشياء مواقعها بحسب حكمته البالغة، وفي الختم بهذين الاسمين رد لما اشتهر من ختم الحوقلة بالعلي العظيم كما بيناه سابقاً (¬2) ، ومناسبة هذين للحوقلة أظهر؛ لأن شأن من كان عزيزاً حكيماً أن لا يصدر خير ولا يندفع شر إلاّ بقوته (قال) أي: الأعرابي (فهؤلاء) أي: الجمل (لربي) لما فيها الثناء عليه مع إثبات الوحدانية له دون غيره بالجملة الأولى، وتنزيهه عما لا يليق به بالجملتين الأخيرتين (فمالي) أي: فأي شيء أدعو به مما يعود لي بنفع ديني أو دنيوي؟ (قال: قل اللهم اغفر لي) بدأ به، لأنه من باب التخلية بالمعجمة، وما بعده من قبيل التحلية بالمهملة. والأول مقدم على الثاني كما تقدم نظيره في حكمة تقديم التسبيح على التحميد، وإنما قدمه في هذا الخبر على التسبيح لأنه لما شارك التكبير في إثبات الكمال، لذي الجلال ولذا عطفت جملته على جملة التكبير اقتضى قرنه به فتأخر عنه التسبيح (وارحمني واهدني وارزقني) من عطف بعض أفراد الخاص على العام، لأن المراد بالرحمة غايتها من إرادة التفضل أو نفسه على الخلاف السابق مراراً، وخصا بالذكر لاشتمالهما على مهم الدين وهو الهداية التي هي الإِيصال إلى مرضاة الله تعالى، ومهم الدنيا من الرزق الذي ينتفع به، وبه قوام البدن وفي حصوله ستر الوجه عن الابتذال للغير (رواه مسلم) قال الحافظ في تخريج أحاديث الأذكار بعد أن أخرجه وذكر أن مسلماً رواه قال: ورواه البزار، لكن وقع عنده العلي العظيم بدل العزيز الحكيم. 1413- (وعن ثوبان) بفتح المثلثة وسكون الواو، وبالموحدة هو مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف من الصلاة) انصرافاً معنوياً بالتحلل منها بالتسليم (استغفر) الله (ثلاثاً) إيماءً إلى أنه ينبغي عدم النظر لما يأتي به العبد من الطاعة، فذلك أقرب للقبول، والتكرار للمبالغة في رؤية النقص فيما جاء به، وأنه لشدته محتاج ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: فضل التهليل والتسبيح والدعاء، (الحديث: 33) . (¬2) أي في خطبة الكتاب.

لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ". متفقٌ عَلَيْهِ (¬1) . 1415- وعن عبدِ الله بن الزُّبَيْرِ رضي الله تَعَالَى عنهما أنَّه كَانَ يَقُولُ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ، حِيْنَ يُسَلِّمُ: "لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ، لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ، وَلاَ نَعْبُدُ إِلاَّ إيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــ في العدول عن تنوينه على قول البغداديين إرادة التنصيص على الاستغراق؛ لأنه مع التنوين يكون الاستغراق ظاهراً لا نصاً لقولهم أن لا العاملة عمل إن لنفي الجنس مطلقاً، فيحصل نفيه ظاهراً مع التنوين، ونصاً مع عدمه. وقيل: إنه مخصوص عند بعضهم بما إذا بني اسمها من جهة تضمن معنى من الاستغراقية. وبتسليم الإِطلاق فبني ليكون نصاً على الاستغراق إذ مع التنوين يحتمل كون النصب بفعل محذوف، أي: لا نجد أو لا نرى مانعاً ولا معطياً فعدل إلى البناء لسلامته من هذا الاحتمال. اهـ قلت: هو مع وجاهته يبعده ما يلزم عليه من حذف متعلق الظرِف مع وجود متعلقه، نعم. الثاني: أقرب من الأول: وأنه غير متعلق بالاسم فصار مفرداً. والله أعلم (ولا ينفع ذا الجد) بفتح الجيم الحظ والغنى (منك) أي: عندك (الجد) أي: غناه إنما ينفعه عنايتك وما قدمه من صالح العمل قال تعالى: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (¬2) وروي بكسر الجيم بمعنى الجد في الطاعة، أي: لا ينفع ذا الجد فيها جده إنما ينفعه رحمتك كما في الحديث الصحيح "لن ينجي أحداً عمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته (متفق عليه) . 1415- (وعن عبد الله بن الزبير) بضم الزاي القرشي الأسدي (رضي الله عنهما أنه) بالفتح بدلاً مما قبله بدل اشتمال (كان يقول دبر) بالنصب على الظرفية المكانية، لكونه شبيهاً بالمكان أي خلف (كل صلاة حين يسلم) بدل من الظرف قبله، أي: عقب السلام (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ولا حول ولا قوة إلا بالله) فصل جملة الحوقلة عن الجملة قبلها، لأنها جنس آخر من الثناء وإن كان مدلولها ملزوماً لمدلول ما قبلها (لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه) جملة حالية من مقدر أي أقوالها حال كوننا غير عابدين غيره، وفصل الضمير الممكن اتصاله، للدلالة على الحصر الذي لا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: الذكر بعد الصلاة، (2/275) . وأخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، (الحديث: 137) . (¬2) سورة الشعراء، الآيتان: 88، 89.

الفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الحَسَنُ، لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ" قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: وَكَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، يُهَلِّلُ بِهِنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ. رواه مسلم (¬1) . 1416- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ فُقَراءَ المُهَاجِرِينَ أَتَوْا رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: ذَهَبَ أهْلُ الدُّثورِ بِالدَّرَجَاتِ العُلَى، وَالنَّعِيمِ المُقِيمِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَلَهُمْ ـــــــــــــــــــــــــــــ يحصل إلاّ به، لأن المتصل لا يقع بعد إلا (له النعمة) بكسر النون الخفض والدعة والمال وجمعها نعم وأنعم والتنعم الترفه. والاسم النعمة بالفتح قاله في القاموس وشرعاً الأمر المسلتذ المحمود العاقبة. مقتبس من قوله تعالى: (وما بكم من نعمة فمن الله) (¬2) (وله الفضل) ضد النقص أي: له دون غيره الكمال المطلق فلا يعتريه النقص بوجه (وله الثناء الحسن) بالمثلثة والنون والمد والتقييد بالحسن إطناب، فإن الثناء على الصحيح مختص بالجميل والذي في ضده نثاء بتقديم النون. وقيل: بل يستعمل فيهما، وعليه العز بن عبد السلام والحديث يشهد له (لا إله إلا الله مخلصين) تقدم نظيره آنفاً (له الدين) فلا نعبد معه غيره (ولو كره الكافرون) الواو الداخلة على لو، وإن الوصلية قيل: عاطفة على مقدر، وقيل: حالية، وصنيع السعد التفتازاني يدل على الثاني (قال ابن الزبير) هو موصول بسند الحديث الموقوف قبله (وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهلل بهن) فيه تغليب له على باقي ما ذكر معه، لشرفه عليه أو لما كان ما معه أحوال مما ذكر فيه صار هو المقصود الأصلي وغيره كالقيد له (دبر كلل صلاة) أي: مكتوبة كما في نسخة معتمدة من الرياض (رواه مسلم) . 1416- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن فقراء المهاجرين) من إضافة الصفة إلى الموصوف (أتوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: ذهب أهل الدثور) بضمتين جمع دثر أي الأموال الكثيرة (بالدرجات العلا) بضم ففتح جمع عليا (والنعيم المقيم) أي: الذي لا ينقطع ولا ينقضي وبينوا وجه ذلك بقولهم على سبيل الاستئناف البياني (يصلون كما نصلي) ما يحتمل كونها مصدرية، وكونها موصولاً اسمياً، والعائد محذوف فالتشبيه على الأول في الفعل وعلى الثاني في المفعول (ويصومون كما نصوم) أي: فساوونا في الأجر المرتب عليهما (ولهم ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، (الحديث: 139) . (¬2) سورة النحل، الآية: 53.

اللهِ، وَالحَمْدُ للهِ واللهُ أكْبَرُ، حَتَّى يَكُونَ مِنهُنَّ كُلُّهُنَّ ثَلاثاً وَثَلاثِينَ. متفقٌ عَلَيْهِ. وزاد مسلمٌ في روايته: فَرَجَعَ فُقَراءُ المُهَاجِرينَ إِلَى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: سَمِعَ إخْوَانُنَا أهْلُ الأمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا فَفَعَلُوا مِثْلَهُ؟ فَقَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤتِيهِ مَنْ يَشَاءُ". "الدُّثُورُ" جمع دَثْر - بفتح الدال وإسكان الثاء المثلثة - وَهُوَ: المال الكثير (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذكوان بالمعجمة السمان الزيات الما سئل عن كيفية ذكرهن قال: يقول: سبحان الله والحمد لله والله أكبر) قال: في فتح إلاله ما أفهمه. كلامه من أن الإتيان بها مختلطات لا بكل نوع على حدته غير معمول به بالنسبة للأكمل، إذ هو أن يأتي بكل عدد على حدته. قال القاضي عياض: وهو أولى من تأويل أبي صالح (حتى يكون) اسمها مضمر يرجع لما دل عليه الكلام، أي: حتى يكون المأتي به (منهن كلهن ثلاثاً وثلاثين) قال البرماوي: هو منصوب في أكثر الروايات، ويروى بالرفع على أنه اسم كان. والأول أظهر وأنه خبرها، وهو محتمل لما تقدم من أن المراد أن يكون من المجموع هذا العدد أو من كل من المركب من هذه الأنواع والثاني أقرب لكلامه (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة، وكذا مسلم ورواه النسائي في اليوم والليلة، وللحديث طرق انفرد ببعضها مسلم عن البخاري في صحيحه، وذلك كرجاء بن حيوة عن أبي صالح، فقد أخرجه مسلم في صحيحه في الصلاة، والبخاري في الأدب المفرد (وزاد مسلم في روايته) للحديث من طريق رجاء بن حيوة عن أبي صالح (فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: سمع إخواننا) أي المؤمنون (أهل الأموال بما فعلنا) فيه إطلاق الفعل على القول؛ لأنه فعل اللسان (ففعلوا مثله) أي: فساوونا في العبادة التي فوقتنا عليهم لو أتينا بها دونهم وزادوا علينا بالعبادة المالية (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) المشار إليه إما الفضل الذي أرشدهم إليه - صلى الله عليه وسلم - وأن به يسبقون أي: ذلك الفضل بيده فله أن يخص به قائلاً دون قائل، فلا عليكم إن شركوكم في القول فإن الثواب المذكور مقصور على الفقراء، وأما تفضيل الجامعين بين عبادة البدن والمال. ويبتني عليه الخلاف هل الفقير الصابر أفضل أو الغني الشاكر؟ الجمهور على الثاني لتعدي نفعه وقصور نفع الأول (الدثور) بضمتين (جمع دثر بفتح الدال) المهملة (وإسكان الثاء المثلثة) وذلك كفلوس جمع فلس (وهو) أي الدثر (المال الكثير) تقدم بسط ذلك في حديث أبي ذر بقريب منه في شكوى فقراء المهاجرين من تقدم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: الذكر بعد الصلاة (2/270، 272) =

1417- وعنه، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَنْ سَبَّحَ الله في دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاثاً وَثَلاثِينَ، وحَمِدَ اللهَ ثَلاثاً وَثَلاَثِينَ، وَكَبَّرَ الله ثَلاثاً وَثَلاَثِينَ، وقال تَمَامَ المِئَةِ: لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَإنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ". رواه مسلم (¬1) . 1418- وعن كعب بن عُجْرَةَ - رضي الله عنه -، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مُعَقِّباتٌ لاَ يَخِيبُ قَائِلُهُنَّ - أَوْ فَاعِلُهُنَّ - دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ: ثَلاثٌ وَثَلاثونَ تَسْبِيحَةً. وَثَلاثٌ ـــــــــــــــــــــــــــــ الأغنياء عليهم في ذلك في باب بيان كثرة طرق الخير. 1417- (وعنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من سبح الله في دبر) بضم الدال المهملة والموحدة أي عقب (كل صلاة) أي: مكتوبة ولا يضر الفصل بين المكتوبة والذكر عقبها بالراتبة (ثلاثاً وثلاثين وحمد الله ثلاثاً وثلاثين وكبر الله ثلاثاً وثلاثين) العدد منصوب على المفعولية المطلقة (وقال تمام المائة) منصوب على أنه مفعول له أي: لإتمامها (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غفرت خطاياه) تقدم أنه جمع خطيئة (وإن كانت) أي: الخطايا في الكثرة (مثل زبد البحر) وتقرر مراراً أن المكفر بالطاعات صغائر الذنوب المتعلقة بحق الله سبحانه (رواه مسلم) وروى النسائي من حديث أبي هريرة "من سبح دبر صلاة الغداة مائة تسبيحة وهلل مائة تهليلة غفر له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر". 1418- (وعن كعب بن عجرة) سبقت ترجمته (رضي الله عنه) في باب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - (عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: معقبات) قال المصنف: قال الهروي: قال شمر: معناه تسبيحات تفعل أعقاب الصلاة: وقال أبو الهيثم: سميت معقبات؛ لأنها تفعل مرة بعد أخرى. اهـ قال العاقولي: وهي صفة أقيمت مقام المبتدأ الموصوف المحذوف، وخبره (لا يخيب) من الخيبة، وهي الحرمان والخسران (قائلهن أو) للشك بينه وبين قوله (فاعلهن) والقول فعل اللسان، فيجوز إطلاق الفعل عليه، ولا يطلق عليه غالباً إلا إذا صار القول مستمراً ثابتاً، راسخاً رسوخ الفعل، ويحتمل أن تكون هذه الجملة صفة معقبات وقوله (ديز ¬

_ = وأخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، (الحديث: 142) . (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، (الحديث: 146) .

وثَلاَثونَ تَحْمِيدَةً، وَأرْبَعٌ وَثَلاَثونَ تَكْبِيرَةً". رواه مسلم (¬1) . 1419- وعن سعد بن أَبي وقاص - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَتَعَوَّذُ دُبُرَ الصَّلَواتِ بِهؤُلاءِ الكَلِمَاتِ: "اللَّهُمَّ إنِّي أَعوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ وَالبُخْلِ، وَأعُوذُ بِكَ مِنْ أنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ، وَأعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ القَبْرِ". رواه البخاري (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ كل صلاة مكتوبة) صفة أخرى أو خبر آخر أو متعلق بقائلهن (ثلاثاً وثلاثين تسبيحة) مفعول مطلق للقائلين، نحو ضربته مائة ضربة. ووقع في المصابيح بالرفع فجوز العاقولي إعرابه خبراً آخر لمعقبات، أو لمبتدأ محذوف أي: هن ثلاث وثلاثون (وثلاثاً وثلاثين تحميدة وأربعاً وثلاثين تكبيرة رواه مسلم) وفي الجامع الصغير بعد أن أورده بلفظ "وثلاث وثلاثون تكبيرة" رواه أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وفي الجامع الكبير بعد إيراده بلفظ "وأربع وثلاثون تكبيرة في دبر كل صلاة مكتوبة" ذكر مخرجيه المذكورين، وزادوا: ابن حبان في صحيحه. 1419- (وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان) تعليماً وتشريعاً (يتعوذ دبر الصلوات) في نسخة كل صلاة (بهؤلاء الكلمات) وعطف عليها عطف بيان، بناء على مجيئه في الجمل، وهو الصحيح كما بينته في شرح نظم قواعد ابن هشام قوله (اللهم إني أعوذ) أي: أعتصم وألتجىء (بك من الجبن) بضم الجيم وسكون الموحدة، مصدر جبن بضم الموحدة، مثل قرب قرباً وهو ضد الشجاعة، قال في المصباح: هو ضعف القلب (والبخل) بضم فسكون وبفتحتين، جاء من بابي قرب وتعب، وهو شرعاً منع الواجب، وعند العرب منع السائل مما يفضل عنه اهـ (وأعوذ بك) أعاده لأن هذا نوع غير ما قبله (من أن أرد) بالبناء للمفعول (إلى أرذل العمر) أي: أخسه وهو الهرم، وعن علي رضي الله عنه أنه خمس وسبعون سنة، ففيه ضعف القوى، وسوء الحفظ، وقلة العلم (وأعوذ بك من فتنة الدنيا) بأن أبتلى بالغنى أو الفقر المشغل عن الله تعالى المبعد عن ساحات فضله (وأعوذ بك من فتنة القبر) الناشىء عن سؤال الفتنين فيه فإن المؤمن يثبت والمنافق بضده (رواه البخاري) . ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، (الحديث: 145) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: التعوذ من البخل وفي الجهاد، باب: ما يتعوذ به من =

1421- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ مِنْ أرْبَعٍ، يقول: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ" ـــــــــــــــــــــــــــــ بالآخر، إشارة إلى أن الآخرة وشهودها، وما يؤدي إليها هو المقصود بداية ونهاية اهـ ملخصاً. وعطف وحسن عبادتك على الشكر عطف خاص على عام، إذ الشكر أداء العبودية لما تقدم من أنه شرعاً صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه لما خلق لأجله، لكن منه ما هو حسن وهو ما صحب بالحضور والخضوع والخشوع، فيكون أقرب إلى القبول، ومنه ما ليس كذلك (رواه أبو داود بإسناد صحيح) ورواه النسائي أيضاً وسند أبي داود عبيد الله بن عمر القواريري عن أبي عبد الرحمن المقرىء عن حيوة بن شريح عن عقبة بن مسلم عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن الصنابحي عن معاذ، زاد أبو داود: وأوصى معاذ الصنابحي بذلك وأوصى بذلك الصنابحى الحبلي. 1421- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا تشهد أحدكم) أي: أتم للتشهد أي: التحيات الخ سمي تشهداً لاشتماله عليه (فليستعذ بالله) الأمر للندب عند الجمهور (من أربع) حذف التاء لحذف المعدود والأصل من أربعة أشياء وهي في الحقيقة خمسة، لكنه عد فتنة الحياة والموت واحدة، لتقابلهما ولذا لم يعد لفظ فتنة في الممات (يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم) اسم أعجمي فمنع صرفه للعلمية والعجمة، ْأو عربي مشتق من قولهم بئر جهنام لبعيدة القعر، فمنع صرفه للعلمية والتأنيث المعنوي، وهي مشتركة بين طبقة من الطباق التي للنار، وبين ما يعم جميع طباقها والمراد الأخير (ومن عذاب القبر) أي: الكائن فيه لمن لم يثبت عند السؤال من الملكين له (ومن فتنة المحيا والممات) أي: من جميع البلايا والمحن الواقعة في الحياة، مما يضر ببدن أو دين أو دنيا للداعي، ولمن له به تعلق، لا سيما مع عدم الصبر. وفي الموت قبيله عند الاحتضار من تسويل الشيطان الكفر حينئذ بطرائق جاءت في الأخبار وبعده من سؤال الملكين له مع الخوف والانزعاج وأهوال القبر وشدائده (ومن شر فتنة المسيح) بالحاء المهملة على المعروف، بل الصواب أي: الممسوح إحدى عينيه أو الماسح للأرض فإنه يقطعها كلها إلا الحرمين في أقصر مدة، وحمى الله منه الحرمين لفضلهما (الدجال) أي: المبالغ في الكذب ْبإدعائه الإِحياء والإِماتة وغيرهما، مما يقطع كل عاقل فضلاً عن المؤمن بكذبه فيه، لكنه لما سخر له طاعة بعض الجوامد عظمت فتنته، واشتدت بليته، حتى أنذر منه كل نبي أمته، وحتى أمرنا - صلى الله عليه وسلم - بالاستعاذة منها فإنه لا يسلم منها إلا الفذ النادر أعاذنا الله منها بمنه، وحكمة

رواه مسلم (¬1) . 1422- وعن عليٍّ - رضي الله عنه -، قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ يَكُونُ مِنْ آخِرِ مَا يَقُولُ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أخَّرْتُ، وَمَا أسْرَرْتُ وَمَا أعْلَنْتُ، وَمَا أسْرَفْتُ، وَمَا أنْتَ أعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أنْتَ الْمُقَدِّمُ، وَأنْتَ المُؤَخِّرُ، لا إلهَ إِلاَّ أنْتَ" رواه مسلم (¬2) . 1423- وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: كَانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ أنْ يَقُولَ في ـــــــــــــــــــــــــــــ تقديم عذاب القبر على هذه مع أنها أفظع وأخوف، لطول زمنه وأبلغية نكايته، وفظاعة موقعه، واستعاذته - صلى الله عليه وسلم - من هذه الأربع للتشريع، وتحريض الأمة عليها وإلا فهو - صلى الله عليه وسلم - آمن من ذلك كله (رواه مسلم) . 1422- وعن علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة يكون من) أي: بعض (آخر ما يقول فيها بين التشهد) أي: وما هو كالجزء منه، وهو الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - (والتسليم اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت) أي: أخفيت (وما أعلنت) وعطف عليه عطف عام على خاص قوله: (وما أسرفت) وزاد في التعميم بقوله: (وما أنت أعلم به مني) وتقدم أن هذا خضوع منه - صلى الله عليه وسلم - لربه، وأداء لحق مقام العبودية، وحث للأمة على الاستغفار، لأنه - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى بهذا الكلام وما فيه من الإطناب، مع استحالة صدور ذنب منه فمن هو محل صدور الآثام أجدر بالدوام عليه والدأب فيه والملازمة عليه (أنت المقدم وأنت المؤخر) قال البيهقي: قدم من شاء بالتوفيق إلى مقامات السابقين، وأخر من شاء عن مراتبهم وثبطهم بمحنها، وأخر الشيء عن حين توقعه لعلمه بما في عواقبه من الحكمة. وقيل: قدم من أحب من أوليائه، وأخر من أبغض من أعدائه، فلا مقدم لما أخر ولا مؤخر لما قدم، ويكون المؤخر والمقدم بمعنى المضل والهادي، قدم من شاء لطاعته بفضله لسعادته، وأخر من شاء بقضائه لشقاوته اهـ (لا إله إلا أنت. رواه مسلم) . 1423- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول) على تقدير الجار ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: ما يستعاذ منه في الصلاة، (الحديث: 130) . (¬2) أخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه، (الحديث: 201) .

رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي" متفقٌ عَلَيْهِ (¬1) . 1424- وعنها: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يقولُ في رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: "سبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ المَلاَئِكَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــ أي: من قوله: (في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك) الصحيح أن رب منادى بحذف حرف النداء لا صفة لقوله اللهم عند سيبويه. قال مكي: لأنه قد تغير بما في آخره، وقال أبو البقاء: لأن الميم تمنع من ذلك. قال السفاقسي: يحتمل أن يريد لأنها فاصلة بين النعت والمنعوت، أو لأنها غيرته كما قال مكي، وقال بعضهم: لأنه لما اتصلت به الميم صار بمنزلة صوت نحو يا هناه، ويحتمل أن يكون هذا مراد مكي بقوله قد تغير بما في آخره، وأجاز المبرد والزجاج وصفه اهـ. فيحتمل أن يكون قوله ربنا صفة اللهم (اغفر لي) حذف المعمول طلباً للتعميم (متفق عليه) زاد مسلم قوله: "يتأول القرآن" أي: "يكثر" ذلك مبيناً ما هو المراد من قوله تعالى: (فسبح بحمد ربك واستغفره) (¬2) أي: أتى بمقتضاه وهو وإن لم يقيد بحال من الأحوال، لكنه - صلى الله عليه وسلم - جعله في أفضل الأحوال، وهو الصلاة ليكون أبلغ في الامتثال، وأظهر في التعظيم والإِجلال، قال المصنف: ومعنى وبحمدك أي: وبتوفيقك لي وهدايتك وفضلك على سبحتك، لا بحولي وقوتي ففيه شكر الله تعالى على هذه النعمة والاعتراف بها، والتفويض إليه تعالى وأن كل الإِفضال له. اهـ، وفي الحديث ندب هذا الذكر حال الركوع والسجود. 1424- (وعنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في ركوعه وسجوده: سبوح قدوس) بضم أولهما، وهو الأكثر، وبفتحه وهو الأقيس، وهما اسمان وضعا للمبالغة في النزاهة، والطهارة عن كل ما لا يليق بجلاله تعالى وكبريائه وعظمته وإفضاله، أي: ركوعي وسجودي لمن هو البالغ في النزاهة والطهارة المبلغ الأعلى (رب الملائكة) الذين هم أعظم العوالم وأطوعهم لله تعالى وأدومهم على عبادته، ومن ثم أضيفت التربية إليهم بخصوصهم، ولا يستفاد منها فضل الملائكة على بني آدم لما تقرر، من أن سببها كونهم أعظم خلق الله فيما ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: صفة الصلاة، باب: التسبيح والدعاء في السجود وباب: الدعاء في الركوع (2/247) . وأخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: ما يقال في الركوع والسجود، (الحديث: 217) . (¬2) سورة النصر، الآية: 3.

وَالرُّوحِ". رواه مسلم (¬1) 1425- وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "فَأمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ - عز وجل -، وَأمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا في الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ". رواه مسلم (¬2) ـــــــــــــــــــــــــــــ ذكر. (والروح) جبريل لقوله تعالى: (نزل به الروح الأمين) (¬3) أو أعظم الملائكة خلقاً، أو حاجب لله تعالى يقوم بين يديه يوم القيامة، وهو أعظم الملائكة لو فتح فاه لوسع جميع الملائكة، فالخلق ينظرون إليه فمن مخافته لا يرفعون طرفهم إلى من فوقه، أو ملك له عشرة آلاف جناح، جناحان منهما ما بين المشرق والمغرب، له ألف وجه في كل وجه ألف لسان وعينان وشفتان، يسبحان الله إلى يوم القيامة. أقوال هذه بعضها، وثمة أقوال أخر في تعيينه واتفقت على عظمه (رواه مسلم) . 1425- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فأما الركوع) بالرفع مبتدأ خبره (فعظموا فيه الرب) أي: بذكر الثناء عليه والمبالغة في التنزيه والتقديس وأفضله: سبحان ربي العظيم وبحمده، وأقل السنة مرة، وأقل الكمال ثلاث، والأكمل إحدى عشرة، ويسن أن يأتي معه بقوله: "اللهم لك ركعت " الخ ويقدم عليه التسبيح، فإن اقتصر على أحدهما اقتصر على التسبيح، وثلاث تسبيحات معه أفضل من الاقتصار على التسبيح (وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فيه فقمن) بفتح القاف والميم مصدر لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، وبكسر الميم وصف يثنى ويجمع ويؤنث. وكذا قمين أي: حقيق (أن يستجاب لكم فيه) لما فيه من القرب المعنوي، المشار إليه بحديث "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" الحديث الآتي عقبه، ومن ثم كان - صلى الله عليه وسلم - يكثر فيه من الدعاء (رواه مسلم) وهو قطعة من حديث وأوله "إلاّ أني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً". فأما الركوع الخ، وقال المصنف في الأذكار وهذا الحديث هو مقصود الفصل (¬4) ، وهو تعظيم الرب سبحانه وتعالى ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: ما يقال في الركوع والسجود، (الحديث: 223 و 224) . (¬2) أخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، (الحديث: 207) . (¬3) سورة الشعراء، الآية: 193. (¬4) أي: الفصل الذي عقده النووي في أذكاره لبيان أذكار الركوع.

1426- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "أقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ". رواه مسلم (¬1) . 1427- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "أقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ". رواه مسلم (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ في الركوع يأتي لفظ كان، ولكن الأفضل أن يجمع بين الأذكار الواردة فيه إن تمكن من ذلك، بحيث لا يشق على غيره، فإن أراد الاقتصار فيستحب التسبيح ويستحب إذا اقتصر على البعض أن يفعل في بعض الأوقات بعضاً آخر، وهكذا حتى يكون فاعلاً لجميعها. وكذا ينبغي في أذكار جميع الأبواب اهـ ملخصاً. 1426- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أقرب ما يكون العبد من ربه) أقرب مبتدأ مضاف للمصدر المنسبك من ما وصلتها، والخبر محذوف وجوباً، أي: أقرب ما يكون العبد من ربه قرباً معنوياً حاصل إذا كان (وهو ساجد) الجملة الحالية سادة مسد الخبر المحذوف، فلذا وجب حذفه. والدليل على أنها ليست خبراً أن الجملة الواقعة خبراً لا يدخلها الواو، وأخذ منه رد القول بالجهة لله تعالى عن ذلك (فأكثروا الدعاء) أي: فيه لأنه من مواطن الإِجابة، وظاهر أنه أولاً يقدم الذكر الوارد فيه وأفضله سبحان ربي الأعلى وبحمده، وأقل السنة مرة والكمال ثلاث، وأكمل ما يكون إحدى عشرة، ويزيد عليه قوله: اللهم لك سجدت الخ (رواه مسلم) ورواه أبو داود والنسائي. 1427- (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في سجوده) تشريعاً للأمة أو لغيره مما تقدم قريباً (اللهم اغفر لي ذنبي كله) توكيد للإِحاطة والشمول أتى به، لدفع توهم أن المراد به ذنب مخصوص، ولبيان أن العوم المفاد من إضافته مراد (دقه) بكسر الدال المهملة، أي: صغيره وقدم سلوكاً للترقي في السؤال الدال على التدريج في ترجي الإِجابة، أو إشارة إلى أن الكبائر إنما تنشأ غالباً عن الصغائر، أو الإِصرار عليها وعدم المبالاة بها فهي وسيلة، والوسيلة من حقها التقدم (وجله) بكسر الجيم أي: كبيره (وأوله) وفي نسخة بحذف الواو (وآخره وعلانيته) بتخفيف التحتية اسم مصدر علن (وسره. رواه مسلم) . ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: ما يقال في الركوع والسجود، (الحديث: 215) . (¬2) أخرجه مسلم: في كتاب: الصلاة، باب: ما يقال في الركوع والسجود، (الحديث: 216) .

1428- وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: افْتَقَدْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَتَحَسَّسْتُ، فإذا هُوَ راكِعٌ - أَوْ سَاجِدٌ - يقولُ: "سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، لاَ إلهَ إِلاَّ أنت" وفي روايةٍ: فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ، وَهُوَ في المَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ، وَهُوَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وأعُوذُ ـــــــــــــــــــــــــــــ 1428- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: افتقدت) أي: فقدت كما في رواية فزيادة الألف والتاء. للمبالغة في المدلول (النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة) لعلها كانت ليلة النصف من شعبان، ففي جزء ابن الأخضر في فضائل شعبان "عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال لها: أي ليلة هذه؟ قالت: الله ورسوله أعلم! قال: هي ليلة النصف من شعبان، قالت: فقام وصلى، فخفف القيام فقرأ الحمد لله وسورة خفيفة، وسجد إلى شطر الليل، وقام في الركعة الثانية فقرأ فيها نحو قراءته الأولى، وكان في سجوده إلى الفجر. قالت عائشة: فكنت أنتظره قائمة أراوح بين قدمي (¬1) فلما طال علي ظننت أن الله عز وجل قد قبض رسوله فدنوت منه حتى مسست أخمص قدميه فتحرك فسمعته يقول في سجوده: أعوذ بعفوك من عقوبتك وبرضاك من سخطك الخ، فقلت: يا رسول الله لقد سمعتك تقول في سجودك الليلة شيئاً ما سمعتك تذكره قط؟ قال: وعلمت ذلك؟ قلت: نعم. قال: تعلميهن وعلميهن، فإن جبريل أمرني أن أكررهن في السجود" وأخرجه محمد بن عيسى بن حبان من حديث أبي سعيد الخدري عن عائشة فذكره كذلك (فتحسست) بالمهملة أي: تطلبته (فإذا) فجائية (هو راكع أو) شك من الراوي (ساجد يقول) أي: في الركن الذي كان فيه منهما (سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت وفي رواية) أي: لمسلم أيضاً (فوقعت يدي على بطن قدميه) يحتمل أنه كان من وراء حائل فلا دليل فيه لعدم النقض بلمس الأجنبية؛ لأن وقائع الأحوال متى طرقها الاحتمال سقط بها الاستدلال (وهو في المسجد وهما منصوبتان) فيه سن نصب القدمين، ويجب أن يكون رءوس أصابعهما للقبلة (وهو يقول) أي: في سجوده (اللهم إني أعوذ) أي: أعتصم وأتحفظ (برضاك) عني ففيه تضمن لسؤال الرضا عنه (من) وقوع (سخطك) بفتحتين وبضم فسكون الانتقام (و) أعوذ (بمعافاتك) أي: بعفوك وأتى بالمفاعلة مبالغة، وصرحّ بهذا مع تضمن الأول له؛ لأن الإِطناب في مقام الدعاء محمود، ولأن المطابقة أقوى من التضمن، على أن الراضي قد يعاقب لمصلحة أو لحق الغير، فكان التصريح بذلك لا بد منه (من عقوبتك) لي وهذا باب التدلي من صفات الذات ¬

_ (¬1) أي: أقوم على إحداهما مرة وعلى الآخرى مرة.

"أيعجزُ أحَدُكُمْ أنْ يَكْسِبَ في كلِّ يومٍ ألْفَ حَسَنَةٍ! " فَسَأَلَهُ سَائِلٌ مِنْ جُلَسائِهِ: كَيْفَ يَكْسِبُ ألفَ حَسَنَةٍ؟ قَالَ: "يُسَبِّحُ مِئَةَ تَسْبِيحَةٍ فَيُكْتَبُ لَهُ ألْفُ حَسَنَةٍ، أَوْ يُحَطُّ عَنْهُ ألفُ خَطِيئَةٍ". رواه مسلم. قَالَ الحُمَيْدِيُّ: كذا هُوَ في كتاب مسلم: "أَوْ يُحَطُّ" قَالَ البَرْقاني: ورواه شُعْبَةُ وأبو عَوَانَة، وَيَحْيَى القَطَّانُ، عن موسى ـــــــــــــــــــــــــــــ أيعجز) بكسر الجيم على الأفصح (أحدكم أن يكسب في كل يوم ألف حسنة فسأله سائل) لم أقف على من سماه (من جلسائه كيف يكسب ألف حسنة قال: يسبح مائة تسبيحة) أي: كأن يقول سبحان الله مائة مرة (فيكتب) بالتحتية وفي أخرى بالفوقية وبكل منهما جاء القرآن ففي آية (من بعد ما جاءتهم البينات) (1) وفي أخرى: (وجاءهم البينات) (2) والفعل مبني للمفعول، وترك ذكر الفاعل للعلم به وهو الله تعالى واللام في (له) للنفع كهي في قوله تعالى: (من عمل صالحاً فلنفسه) (3) والظرف في محل الحال قدم من تأخير ونائب الفاعل (ألف حسنة أو) يحتمل أن تكون بمعنى الواو كما في قول الشاعر: جاء الخلافة أو كانت له قدراً ويؤيده مجيئه بها في اللفظ الثاني ويحتمل أنها للتنويع فنوع يكتب له بالتسبيح مائة ألف حسنة، لأنه حسنة، وقد قال تعالى: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) (4) وآخر يحط عنه بذلك ألف خطيئة من الصغائر المتعلقة بحق الله تعالى، ويحتمل أنها للشك من الراوي (يحط عنه ألف خطيئة رواه مسلم) في الدعوات وكذا رواه فيها الترمذي. وقال: حسن صحيح، والنسائي في اليوم والليلة (قال) الحافظ أبو عبد الله محمد بن نصر (الحميدي) بضم المهملة وفتح الميم وسكون التحتية، نسبة لجده الأعلى الأندلسي صاحب كتاب الجمع بين الصحيحين (كذا هو في كتاب مسلم) ثم بين المشار إليه بقوله: (أو يحط) أي: بالهمزة قبل الواو (قال) الحافظ أبو بكر أحمد بن محمد بن غالب المحدث الصالح (البرقاني) بفتح الموحدة وبكسرها، نسبة لقرية كانت بنواحي خوارزم خربت كذا في لب اللباب. قال الحافظ في فتاويه التي جمعها تلميذه السخاوي: كل ما ينقله البرقاني إنما هو من كتابه المستخرج على الصحيحين، فإنه جمع كتاباً جمع فيه بين الصحيحين، ورتبه على أسماء الصحابة، وعليه عول الحميدي في الجمع بين الصحيحين اهـ (ورواه شعبة) أي: ـــــــــــــــــــــــــــــ (1) سورة البقرة، الآية: 213. (2) سورة آل عمران، الآية: 86. (3) سورة فصلت، الآية: 46. (4) سورة الأنعام، الآية: 160.

الَّذِي رواه مسلم من جهتِهِ فقالوا: "ويحط" بغير ألِفٍ (¬1) . 1430- وعن أَبي ذر - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "يُصْبحُ عَلَى كُلِّ سُلاَمَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقةٌ: فَكُلُّ تَسْبيحَةٍ صَدَقةٌ، وَكُلُّ تَحْميدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبيرَةٍ صَدَقَةٌ، وأمْرٌ بالمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ المُنْكَرِ صَدَقَةٌ؛ وَيجْزئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن الورد العتكي وهو أول من قيل له أمير المؤمنين في الحديث. قال الحافظ في فتاويه: وهو كما قال البرقاني والحميدي، لكن وجدته في مسند أحمد من طريق شعبة وغيره، بالواو تارة وبأو تارة، وكان الإِمام أحمد شديد الحرص على ألفاظ الرواية اهـ (أبو عوانة) بفتح المهملة وبالنون، الوضاح بن عبد الله اليشكري ثقة متقن (ويحيى) بن سعيد (القطان) البصري قال أحمد: ما رأيت مثله وقال بندار وهو إمام أهل زمانه واختلفت إليه عشرين سنة، فما أظن أنه عصى الله قط، وكان رأساً في العلم والعمل (عن موسى الذي رواه مسلم) في صحيحه (من جهته) أي: من طريقه، وهو موسى الجهني وعليه مدار الحديث، وهو يرويه عن مصعب بن سعد عن أبيه (فقالوا ويحط بغير ألف) وحديث يحيى بن سعيد رواه الترمذي في الدعوات من جامعه. وقال: هذا حديث حسن صحيح، أي: والروايات يفسر بعضها بعضاً وهذا من المصنف، للتنبيه على أن أو ليست للشك، وإن كان محتملاً، بل عاطفة وظاهر كلامه أنها بمعنى الواو. وتقدم أيضاً احتمال أنها على بابها للتنويع، وقد بسطت الكلام في ذلك في شرح الأذكار. 1430- (وعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يصبح على كل سلامى) بضم المهملة وباللام والميم أي: عضو (من أحدكم صدقة) أي: عظيمة شكراً لله تعالى على عظيم منته بسلامة ذلك (فكل تسبيحة) أي: كقول سبحان الله (صدقة وكل تحميدة) أي: ثناء على الله بأوصافه العلية نحو الحمد لله (صدقة وكل تهليلة) أي: قول لا إله إلا الله (صدقة وكل تكبيرة) أي: قول الله أكبر (صدقة وأمر) بالرفع وغير النظم لاختلاف النوع (بالمعروف) أي: ما عرف شرعاً من واجب أو مندوب (صدقة ونهي عن المنكر) أي: من محرم أو مكروه (صدقة ويجزي) بفتح التحتية بلا همز وبالضم معه (من ذلك) أي: بدل المذكور من القول والعمل، في أداء شكر النعم التي على كل سلامى (ركعتان يركعهما) ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: فضل التهليل والتسبيح والدعاء، (الحديث: 37) .

روايةٍ لَهُ: "سُبْحانَ الله عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبْحَانَ الله رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ اللهِ زِنَةَ عَرْشِهِ، سُبْحَانَ الله مِدَادَ كَلِمَاتِهِ". وفي رواية الترمذي: "ألا أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ تَقُولِينَهَا؟ سُبحَانَ الله عَدَدَ خَلْقِهِ؛ سُبحَانَ الله عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبحَانَ الله عَدَدَ خَلْقِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ واقتصر عليه العاقولي أي: تسبيحاً عدد خلقه ويجري هذان في قوله: (ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته، رواه مسلم، وفي رواية له، سبحان الله عدد خلقه سبحان الله رضا نفسه) أي: ذاته العلية (سبحان الله زنة عرشه سبحان الله مداد كلماته) بكسر الميم مصدر كالمد، بمعنى المدد، وهو ما كثرت به الشيء يقال مددت الشيء أمده، ويحتمل أنه جمع مد بالضم للمكيال المعروف فإنه يجمع كذلك، وكلمات الله قيل: كلامه القديم المنزه عن أوصاف الكلام الحادث، وقيل: علمه، وقيل: القرآن، ثم قيل: معناه مثلها في العدد أو في عدم التقدير، أو في الكثرة أي: كل من التسبيح وما معه بمقدار هذه أو عددها لو فرض حصره، فذكر القدر والعدد مجاز عن المبالغة في الكثرة، وإلا فكلماته لا تعد ولا تحصى، ولذا ختم بها إيماءً إلى أن تسبيحه وحمده لا يحدان بعد ولا مقدار، وقيل: فيه ترق، لكن لا يتم ذلك في الكل؛ لأن رضا النفس أبلغ من زنة العرش، ولعله مراد المصنف بقوله والمراد المبالغة في الكثرة؛ لأنه ذكر أولاً ما يحصره العدد الكثير من عدد الخلق، ثم ارتقى إلى ما هو أعظم من ذلك، وهو رضا النفس، ثم زنة العرش، ثم ارتقى إلى ما هو أعظم من ذلك، وعبر عنه بقوله ومداد كلماته، أي: لا يحصيه عدد، كما لا تحصي كلمات الله تعالى، وصرّح في الأولى بالعدد، وفي الثالثة بالزنة، ولم يصرح في الآخرين بشيء منهما إيذاناً بأنهما لا يدخلان في جنس المعدود والموزون، ولا يحصرهما المقدار لا حقيقة ولا مجازاً، فحصل الترقي من عدد الخلق إلى رضا النفس، ومن زنة العرش إلى مداد الكلمات (وفي رواية الترمذي: ألا أعلمك) بكسر الكاف (كلمات تقولينها: سبحان الله عدد خلقه سبحان الله عدد خلقه سبحان الله عدد خلقه) التكرير لزيادة التفخيم والتعظيم "وقد سأل" المحقق جلال الدين المحلي الحافظ ابن حجر عما ورد من نحو هذا الخبر فقال: ما المراد منه حتى ارتفع فضل التسبيح الأقل زمناً على الأكثر زمناً "فأجاب" قد قيل: في الجواب إن في ألفاظ الخبر سراً تفضل به على لفظ غيره، فمن ثم أطلق على اللفظ القليل أنه أفضل من اللفظ الكثير، ويحتمل أن يكون سببه أن اللفظ القليل مشتمل على عددٍ لا يمكن حصره، فما كان منها من الذكر بالنسبة إلى عدد ما ذكر في الخبر قليل جداً فكان أفضل من هذه الحيثية اهـ. وقد بسطت الكلام في هذا المقام في شرح الأذكار في باب فضل الذكر بنقل

سُبْحَانَ اللهِ رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ اللهِ رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ الله رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ الله زِنَةَ عَرْشِهِ، سُبْحَانَ اللهِ زِنَةَ عَرشِهِ، سُبْحَانَ الله زِنَةَ عَرشِهِ، سُبْحَانَ الله مِدَادَ كَلِمَاتِهِ، سُبْحَانَ الله مِدَادَ كَلِمَاتِهِ، سُبْحَانَ الله مِدَادَ كَلِمَاتِهِ" (¬1) . 1432- وعن أَبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لا يَذْكُرُهُ مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ". رواه البخاري. ورواه مسلم فَقَالَ: "مَثَلُ البَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللهُ فِيهِ، وَالبَيْتِ الَّذِي لا يُذْكَرُ اللهُ فِيهِ، مَثَلُ الحَيِّ ـــــــــــــــــــــــــــــ أجوبة الأئمة وكلامهم في ذلك بما تغني مراجعته (سبحان الله رضا نفسه) فيه إطلاق النفس على الله تعالى من غير مشاكلة، واختلف في ذلك فمن منع قال: لتوهم أنه مأخوذ من النفس المستحيل في حقه تعالى ومن أجاز ذلك، لما ورد كذلك قال: إنه مأخوذ من الشيء النفيس، ثم كرر لما تقدم فقال: (سبحان الله رضا نفسه سبحان الله رضا نفسه سبحان الله زنة عرشه سبحان الله زنة عرشه سبحان الله زنة عرشه سبحان الله مداد كلماته سبحان الله مداد كلماته سبحان الله مداد كلماته) فيه شرف هذا الذكر بأي صيغة من صيغه المذكورة. في هذه الأحاديث، وكذا ما يؤدي مؤداها وأن الأجر ليس على قدر النصب، بل لله أن يأجر على العمل القليل بالأجر الجزيل. 1432- (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: مثل) بفتحتين (الذي يذكر ربه والذي لا يذكر) أي: صفة من ذكر العجيبة الشأن التي لغرابتها كادت أن تكون في ذلك كالمثل، ولا يخفى ما في التعبير بربه هنا، من البعث على الذكر والرمز إلى الذم لمن تركه كما قال: (مثل الحي والميت) . فالأول: ظاهره مزين بالحياة والعمل، وباطنه معمور بالسر فيه. والثاني: ظاهره عاطل وباطنه باطل. وقال العيني: وجه الشبه بين الذكر والحي الاعتداد والنفع والنضرة ونحوها وبين تارك الذكر والميت التعطيل في الظاهر والبطلان في الباطن. (رواه البخاري) (¬2) . ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء، باب: التسبيح أول النهار وعند النوم، (الحديث: 79) . (¬2) في نسخ المتن هنا زيادة ورواه مسلم الخ.

والمَيِّتِ" (¬1) . 1433- وعَنْ أبي هُرْيْرَةَ رَضِيَ الفَهُ عَنْة أَنً رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "يَقولُ اللهُ تعالَى: أَنَا عِنْدَ ظَن عَبْدي بي، وأَنَا مَعَه إِذَا ذَكَرني؛ فَإِنْ ذَكَرَني في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَمسي، وإنْ ذَكَرَني في مَلٍأ ذَكَرْتُهُ في مَلٍأ خَيْرٍ مِنْهُمْ" ـــــــــــــــــــــــــــــ 1433- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يقول الله تعالى) تقدم أن هذه إحدى الصيغ لرواية الحديث القدسي، والمشهور أن يقال عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: (أنا عند ظن عبدي بي) قال التوربشتي: الظن فيه بمعنى اليقين أي أنا عند يقينه بي في الاعتماد على الاستيثاق بوعدي والرهبة من وعيدي والرغبة فيما عندي. وقال ابن حجر في فتح الإِله: جاء في رواية: فلا يظن بي إلا خيراً فإني أحققه له، ولا يظن بي شراً فإني أحققه له لتقصيره بذلك، لأن رحمتي سبقت غضبي ومن ثم كان اليأس من رحمة الله كفراً كما أن أمن مكره كذلك (وأنا معه) أي: بالحفظ من الشيطان وجنده، أو بالتوفيق والإِعانة (إذا ذكرني) بلسانه أو قلبه، ثم فرع عليه ما يفيد أنه مع الذاكر سواء ذكره في نفسه أو مع غيره فقال: (فإن ذكرني في نفسه) أي: سراً وإخلاصاً وبعداً عن مظان الرياء (ذكرته في نفسي) ذكر هذا مع استحالة الظرفية، والنفس على الله للمشاكلة على حد (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) (¬2) قال التوربشتي: الذكر من الله حسن قبوله منه والمجازاة له بالحسنى. والمراد من هذا أن الله يؤتي المسر بذكره ثوابه سراً على منوال عمله، أي: فيخفي ذلك عن ملائكته، ويعطيه من غير أن يكل إثابته إلى مخلوق، وفائدة ذكر الله له في الغيب الاصطفاء والاستئثار، وأنه تعالى إنما يدع علم الشيء بمكان من الغيب استئثاراً به، واصطفاءً له، وفيه صيانة سر العبد من اطلاع الملأ الأعلى وتوقي عمله عن إحاطة الخلق بكنه ثوابه، ونظيره في هذا حديث "الصوم لي وأنا أجزي به" (وإن ذكرني في ملأ) من الذاكرين (ذكرته في ملأ خير منهم) أي: وهم الملائكة، ولا دليل فيه لتفضيل مطلق الملك على البشر، لإِمكان أن يحمل على أن المراد من الملائكة خواصهم، وهو الأفضل من عوام البشر، كما يعلم من تفصيل التفضيل، بين النوعين المقرر في كتب علم الكلام، أي: أن خواص البشر من الأنبياء والمرسلين أفضل من خواص الملك، وخواصهم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: فضل ذكر الله عز وجل (11/175 و117) . (¬2) سورة المائدة، الآية: 116.

متفق عَلَيْهِ (¬1) 1434- وعنه قَالَ: قَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "سَبَقَ المُفَرِّدُونَ" قالوا: وَمَا المُفَرِّدُونَ؟ يَا رسولَ الله قَالَ: "الذَّاكِرُونََ اللهَ كثيراً والذَّاكِرَاتِ". رواه مسلم. وَرُوي: "المُفَرِّدُونَ" بتشديد الراءِ وتخفيفها والمشهُورُ الَّذِي قَالَهُ الجمهُورُ: التَّشْديدُ (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ كجبريل وميكائيل والكروبيين أفضل من عوام البشر، وعوامهم وهم المطيعون أفضل من عوام الملك، وعوامهم أفضل من العصاة من البشر. قال التوربشتي: فإن ذكر العبد ربه في ملأ في غمارهم أحد المفضلين على الملائكة كالذكر بمسمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المفضل على الكل قدر الأمر على أنه بمسمعه - صلى الله عليه وسلم - في أفاضل الملائكة فصار هو، أيضاً من جملة أولئك الملأ فبانضمامهم إليه صار ذلك الملأ خيراً من الملأ الأول، ثم الخيرية محتملة لأن تكون راجعة إلى ما يكون الذكر مصدره أي: ملأ خير من الملأ الذي ذكره فيهم؛ لمواظبة أولئك الملأ أبد الدهر في محال القرب، وأبدية القدس على الدعاء للمؤمنين كما يشهد به قوله تعالى عنهم: (ويستغفرون للذين آمنوا) (¬3) الآية (متفق عليه) . 1434- (وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سبق المفردون) أي: إلى مرضات المولى، والدرجات العلا، والشهود الأكمل، والحال الأفضل (قالوا وما المفردون) أتى بما لان المسؤول عنه الوصف، فهو كقول (فرعون وما رب العالمين) (¬4) لأنه سؤال عن صفة الربوبية لا عن ذات الرب (¬5) وقوله تعالى: (فانكحوا ما طاب لكم) (¬6) (يا رسول اللهّ) أي: ما صفتهم حتى نتأسى بهم فنسبق إلى ما سبقوا إليه (قال) صفتهم أنهم (الذاكرون الله كثيراً) تقدم ما يندرج به العبد في الموصوفين بذلك (والذاكرات) أي: الله كثيراً، كما دل عليه السياق فلذا حذف (رواه مسلم، روى المفردون بتشديد الراء وتخفيفها، والمشهور الذي قاله الجمهور التشديد) قال التوربشتي: روي المفردون بتشديد الراء وكسرها وبفتحها (¬7) والتخفيف، واللفظان وإن اختلفا في الصيغة، فإن كل واحد منهما في المعنى قريب من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: التوحيد، باب: ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وروايته عن ربه (3/125 و326) . وأخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء، باب: الحث على ذكر الله تعالى، (الحديث: 2) . (¬2) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء، باب: الحث على ذكر الله تعالى، (الحديث: 4) . (¬3) سورة غافر، الآية: 7. (¬4) سورة الشعراء، الآية: 23. (¬5) الذي في البيضاوي وغيره أن فرعون إنما سأل عن الحقيقة فليتأمل. (¬6) سورة النساء، الآية: 3. (¬7) قوله وبفتحها لعل صوابه وبكسرها. ع.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المائة، لكن تقدم في التهليل ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به. فيحتمل الجمع بكون التهليل أفضل، وأنه مما زيد فيه من رفع الدرجات، وكتب الحسنات، ثم ما جعل مع ذلك من عتق الرقاب قد يزيد على فضل التسبيح وتكفيره جميع الخطايا، لأنه جاء "من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار" فيحصل بهذا العتق تكفير جميع الخطايا عموماً بعدما عدد منها خصوصاً مع زيادة رفع الدرجات، ويؤيده حديث "أفضل الذكر لا إله إلا الله" وأنها أفضل ما قاله والنبيون من قبله، وأنها كلمة التوحيد والإِخلاص. وقيل: إنها اسم الله الأعظم. ولا يعارض حديث فضل التهليل حديث أبي ذر "قلت يا رسول الله أخبرني بأحب الكلام إلى الله؟ قال: إن أحب الكلام إلى الله سبحان الله وبحمده" أخرجه مسلم، وفي لفظ سئل "أي الكلام أفضل؟ قال: ما اصطفاه الله لملائكته، سبحان الله وبحمده" قال الطيبي: ويمكن أن يكون قوله سبحان الله وبحمده مختصراً من الكلمات الأربع وهي: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، لأن سبحان الله تنزيه عما لا يليق بجلاله، وتقديس لصفاته عن النقائص فيندرج فيه معنى لا إله إلا الله، وقوله: وبحمده، صريح في معنى الحمد لله لأن الإِضافة في وبحمده بمعنى اللام ويستلزم ذلك معنى الله أكبر لأنه إذا كان كل الفضل والإِفضال له تعالى ومنه لا من شيء غيره فلا أكبر منه، ومع ذلك كله فلا يلزم فضل التسبيح على التهليل، لصراحة التهليل في التوحيد وتضمن التسبيح له، ولأن نفي الألوهية في قول لا إله نفي لما في ضمنها من الخلق والرزق والإِثابة والعقوبة، وقول إلا الله إثبات لذلك، ويلزم منه نفي ما يضاده ويخالفه من النقائض فمنطوق سبحان الله تنزيه ومفهومه توحيد، ومنطوق لا إله إلا الله توحيد ومفهومه تنزيه، يعني فيكون لا إله إلا الله أفضل، لأن التوحيد أفضل والتنزيه ينشأ عنه. وقد جمع القرطبي بأن هذه الأذكار إذا أطلق على بعضها أنه أفضل، أو أحب إلى الله تعالى فالمراد إذا انضمت إلى أخواتها بدليل حديث سمرة عند مسلم "أحب الكلام إلى الله تعالى أربع لا يضرك بأيهن بدأت" الحديث، ويحتمل أن يكتفي في ذلك بالمعنى فيكون من اقتصر على بعضها كفي، لأن حاصلها التعظيم والتنزيه، ومن عظمه فقد نزهه، وبالعكس. قال الحافظ في الفتح: ويمكن الجمع بأن من مضمرة في قوله "أفضل الذكر لا إله إلا الله، وفي قوله: "إن أحب الكلام إلى الله سبحان الله"، بناء على أن لفظ أفضل وأحب متساويان، لكن يظهر مع ذلك تفضيل لا إله إلا الله، لأنها ذكرت بالتنصيص عليها بالأفضلية الصريحة، وذكرت مع أخواتها بالأحبية فحصل لها الفضل تنصيصاً وانضماماً اهـ ملخصاً، وقال الطيبي: قال بعض المحققين: إنما جعل التهليل أفضل الذكر، لأن لها تأثيراً في تطهير الباطن عن الأوصاف الذميمة التي هي معبودة في

رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (¬1) . 1437- وعن عبد الله بن بسر - رضي الله عنه -: أنَّ رجلاً قَالَ: يَا رسولَ الله، إنَّ شَرَائِعَ الإسْلامِ قَدْ كَثُرَتْ عَليَّ، فَأَخْبِرْنِي بِشَيءٍ أَتَشَبثُ بِهِ قَالَ: "لا يَزالُ لِسَانُكَ رَطباً مِنْ ذِكْرِ الله". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الظاهر. قال تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) (¬3) فيفيد نفي عموم الإِلهية بقوله " لا إله وإثبات الوحدانية بقوله إلا الله، ويعود الذكر من ظاهر اللسان إلى باطن الجنان، فيتمكن فيه ويستولي على جوارحه، ويجد حلاوة هذا من ذاق. اهـ (رواه الترمذي) بزيادة: وأفضل الدعاء الحمد لله (وقال: حديث حسن) قال الحافظ في الفتح: ورواه النسائي، وصححه ابن حبان والحاكم. 1437- (وعن عبد الله بن بسر) بضم الموحدة وسكون المهملة المازني (رضي الله عنه) (¬4) نزل حمص (¬5) وروى عنه جرير بن عثمان، وحسان بن نوح، وعاش أربعاً وتسعين سنة، خرّج حديثه الستة (أن رجلاً) لم يتعرض السيوطي في قوت المغتذي لتسميته، وجاء في حديث آخر له: أن أعرابياً سأل أي الأعمال أفضل؟ فقال: أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله اهـ وبه يعلم أنه من البادية (قال: يا رسول الله إن شرائع الإِسلام) جمع شريعة بمعنى مشروعة أي: مشروعاته من واجب، أو مندوب التي شرعها الله لعباده من الأحكام (قد كثرت علي) أي غلبتني حتى عجزت عنها لضعفي وقلة جهدي (فأخبرني بشيء أتشبث) بفتح الفوقية والمعجمة والموحدة وبالثاء المثلثة، أي: أتعلق وأعتصم (به) ليكون مغنياً لي عن النوافل التي كثرت علي فعجزت عن استقصائها، ثم الفعل يجوز فيه الرفع على أن الجملة صفة شيء، والجزم على أنها جواب شرط مقدر؛ لكونها في جواب الطلب (قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله) قال الطيبي: رطوبة اللسان عبارة عن سهولة جريانه، كما أن يبسه عبارة عن ضده، ثم إن جريان اللسان حينئذ عبارة عن مداومة الذكر فكأنه قال: دوام الذكر فهو من أسلوب قوله تعالى: (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) (¬6) وقال العاقولي: بعد ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعاء، باب: ما جاء أن دعوة المسلم مستجابة (الحديث: 3383) . (¬2) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعاء، باب: في فضل الذكر (الحديث: 3375) . (¬3) سورة الجاثية، الآية: 23. (¬4) الأولى (عنهما) لأن أباه صحابي كما في الاستيعاب. (¬5) أي ومات بها سنة ثمان وثمانين وهو آخر من مات بالشام اهـ استيعاب. (¬6) سورة آل عمران، الآية: 102.

إسناده صحيحٌ (¬1) . 1440- وعَنْ سَعْدِ بنِ أَبي وقاص رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلى امْرَأَةٍ وبَيْنَ يَديْها نَوى أوْ حَصًى تُسَبِّحُ بِهِ فَقالَ: "أُخْبِرُكَ بِما هُوَ أَيْسَرُ عَلَيْكِ ـــــــــــــــــــــــــــــ وجهاد يخلص منه في زمان يسير، لأن الصبر على مضاضة القتل ساعة واحدة، والصبر على مداومة الحضور مع الذكر طويل، وفي فتح الباري: الجمع بحمل حديث الباب ونحوه مما يدل على أن الذكر أفضل من سائر الأعمال على الذكر الكامل، وهو ما اجتمع فيه ذكر اللسان والقلب والتفكر في المعنى واستحضار عظمة الله تعالى، فالذي يحصل له ذلك أفضل من المجاهد للكفار من غير استحضار لذلك، وإن أفضلية الجهاد بالنسبة لذكر اللسان المجرد فمن اجتمع له كل ذلك بأن ذكر الله بقلبه ولسانه واستحضر عظمته تعالى في كل حال، وقاتل الكفار مثلاً فهو الذي بلغ الغاية القصوى والعلم عند الله اهـ. وفي فتح الاله: يمكن الجمع بحمل الخيرية هنا على أنها من وجه، هو امتلاء القلب بالذكر المستلزم لدفع الشيطان، وطرده عن ساحة القلب الذي بطهارته وصلاحه يطهر ويصلح البدن كله، فالذكر لتأثيره فيه ما لا يؤثره الإِنفاق وبذل النفس يكون خيراً منهما من هذه الحيثية، وإن كانا أفضل منه من سائر الحيثيات غير ذلك، فاعتبار قيد الحيثية يدفع التنافي فتأمله. وقول ابن عبد السلام في قواعده يعني السابق عنه جارٍ على الأخذ بظاهر الحديث، مع قطع النظر عن مقتضى كلام أئمة المذهب اهـ. ملخصاً (رواه الترمذي) ومالك وأحمد وابن ماجه، إلا أن مالكاً وقفه على أبي الدرداء أي: وذلك غير ضار، لأن مثله لا يقال رأياً فهو مرفوع حكماً، ولأن الأصح تقديم الرفع على الوقف (قال الحاكم أبو عبد الله) صاحب المستدرك (إسناده صحيح) . 1440- (وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه دخل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على امرأة) يحتمل كونها صفية بنت حيي فقد جاء عنها عند الترمذي وغيره حديث فيه نحو ما في هذا الحديث، ويحتمل كونها جويرية السابق ذكر حديثها، وقد أثار الاحتمالين صاحب السلاح، ويحتمل أنها غيرهما ولعلها كانت من محارم سعد، أو كان ذلك قبل نزول الحجاب، إن نظر لوجهها، وإلا فلا إشكال وأما هو (¬2) - صلى الله عليه وسلم - فمن خصائصه أن الأجانب منهن بمنزلة المحارم منه ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعاء، [باب: 6] ، (الحديث: 3377) . (¬2) هذا إنما يأتي على الاحتمال الثالث.

مِنْ هَذَا - أَوْ أفْضَلُ -" فَقَالَ: "سُبْحَانَ الله عَدَدَ مَا خَلَقَ في السَّمَاءِ، وسُبْحَانَ الله عَدَدَ مَا خَلَقَ في الأرْضِ، وسُبْحَانَ الله عَدَدَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ، وسُبحَانَ الله عَدَدَ مَا هو خَالِقٌ، واللهُ أكْبَرُ مِثْلَ ذَلِكَ، والحَمْدُ للهِ مِثْلَ ذَلِكَ؛ وَلاَ إلَهَ إِلاَّ اللهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلاَ حَولَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ مِثْلَ ذَلِكَ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن". (¬1) . 1341- وعن أَبي موسى - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا ـــــــــــــــــــــــــــــ في جواز الخلوة بهن، والدخول عليهن للأمن من الفتنة لعصمته - صلى الله عليه وسلم - (وبين يديها نوى) بالقصر، وهو العجم (¬2) واحدة نواة، والجمع نوايات وأنواء كما في المصباح (أو حصى) بالقصر واحده حصاة (تسبح به فقال: ألا أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا) أي: التسبيح بما عندها من النوى أو الحصى (أو أفضل) شك من سعد، ويحتمل أن أو بمعنى الواو، وإنما كان أفضل؛ لأن قوله عدد ما خلق وما ذكر بعده يكتب له به ثواب بعدد المذكورات كما علم مما تقدم في حديث جويرية. وما تعده بالنوى أو الحصى قليل تافه بالنسبة لذلك الكثير الذي لا يعلم كنهه إلا بارئه (فقال سبحان الله عدد ما خلق) ما عام في الأجناس كلها ما يعقل منها وما لا يعقل (في السماء وسبحان الله) أتى بالعاطف لاختلاف المقدر به (عدد ما خلق في الأرض وسبحان الله عدد ما) خلق (بين ذلك) أي: المذكور من السماء والأرض أو المذكور مما خلق فيهما (وسبحان الله عدد ما هو خالق) أي: خالقه من بدء الخلق إلى منتهاه. قال العاقولي: أجمل بعد التفصيل لأن اسم الفاعل إذا أسند إلى الله تعالى أفاد الاستمرار فلا يقصد منه زمان دون زمان بل استغراق سائر الأزمنة. قال في فتح الإِله: إلا أن يقال أن مقابلته بخلق يدل على أن المراد عدد ما خلق قبل تكلمي بهذا الذكر وعد ما هو خالق بعده إلى ما لا نهاية له وهذا أولى (والله أكبر مثل ذلك) بالنصب على المصدر كالنظاير قبله (والحمد لله مثل ذلك. ولا إله إلا الله مثل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك. رواه الترمذي وقال: حديث حسن) غريب. قال في السلاح: ورواه أبو داود، والنسائي، والحاكم في مستدركه، وابن حبان في صحيحه. 1441- (وعن أبي موسى) الأشعري (رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا) بفتح ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، [باب: 114] ، (الحديث: 3568) . (¬2) في الصحاح: العجم بالتحريك النوى وكل ما كان في جوف مأكول كالزبيب وما أشبهه اهـ.

245- باب ذكر الله تعالى قائما أو قاعدا ومضطجعا ومحدثا وجنبا وحائضا إلا القرآن فلا يحل لجنب ولا حائض

أدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ؟ " فقلت: بلى يَا رسولَ الله قَالَ: "لا حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ باللهِ" متفق عَلَيْهِ (¬1) . 245- باب ذكر الله تَعَالَى قائماً أَوْ قاعداً ومضطجعاً ومحدثاً وجنباً وحائضاً إِلاَّ القرآن فَلاَ يحل لجنب وَلاَ حائض قَالَ الله تَعَالَى (¬2) : (إنَّ في خَلْقِ السَّماوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ـــــــــــــــــــــــــــــ بالهمزة وتخفيف اللام للتنبيه (أدلك على كنز من كنوز الجنة) أي: ذخيرِة من ذخائرها أو من محصلات نفائسها. قال المصنف: المعنى أن قائلها يحصل ثواباً نفيساً يدخر له في الجنة (فقلت: بلى يا رسول الله قال: لا حول ولا قوة إلا بالله) أي: لا تحويل للعبد عن معصية الله، ولا قوة له على طاعة الله إلا بتوفيق الله. وقيل: معنى لا حول لا حيلة. وقال النووي: هي كلمة استسلام وتفويض، وأن العبد لا يملك من أمره شيئاً، ولا له حيلة في دفع شر، ولا في جلب خير إلا بإرادة الله تعالى (متفق عليه) ورواه ابن ماجه، والحاكم في مستدركه، من حديث أبي هريرة بلفظ "ألا أدلك على كلمة من تحت العرش من كنز الجنة تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فيقول الله: أسلم عبدي واستسلم". باب فضل ذكر الله تعالى قائماً وقاعداً ومضطجعاً حال من فاعل المصدر المحذوف، أي: ذكر العبد الله حال قيامه الخ، والمراد من المضطجع ما يعم المستلقي ونحوه (ومحدثاً) حدثاً أصغر، من نحو نوم بدليل قوله (وجنباً وحائضاً) والنفساء إما داخلة في الحائض؛ لأن النفاس دم حيض مجتمع وإن لم يعط حكمه من كل وجه، أو مقايسة عليها (إلا القرآن) وبين وجه الاستثناء بقوله: (فلا يحل لجنب ولا حائض) شيء منه ولو حرفاً واحداً بقصد القرآن ولو مع غيره، أما عند قصد نحو الذكر أو الإِطلاق فلا يحرم، بل يستحب لهما التسمية عند نحو الأكل قاصدين التبرك، وكذا الأذكار المطلوبة في أماكنها من نحو إنا الله وإنا إليه راجعون عند المصيبة. (قال الله تعالى إن في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: قول لا حول ولا قوة إلا بالله وفي المغازي والقدر (11/159) ، وأخرجه مسلم في كتاب: الدعاء والذكر، باب: استحباب خفض الصوت بالذكر (الحديث: 2704) . (¬2) سورة آل عمران، الآيتان: 190، 191.

لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) . 1442- وعَنْ عائِشَةَ رَضِيَ الفهُ عَنْهَا قَالَتْ: كانَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَذْكُرُ اللهَ عَلى كل أَحْيانِهِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1) . 1443- وعَنِ ابنِ عَباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَوْ أَنَ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتى أَهْلَهُ قَالَ: بِسْمِ اللهِ، اللهُمَّ جَنبْنا الشَّيْطانَ وجَنبِ الشَّيْطانَ مَا رَزَقْتَنا. فَقُضِيَ ـــــــــــــــــــــــــــــ خلق السموات والأرض) إذ جعل. الأولى: مرفوعة لا على عمد. والثانية: مدحوة مسطحة على ماء جمد (واختلاف الليل والنهار) أي: وفي اختلافهما بالظلمة والإِضاءة، أو تعاقبهما أو تكوير أحدهما على الثاني وإيلاجه فيه، أو تعارضهما بالطول والقصر، فتارة يطول هذا أو يقصر ذاك ثم يعتدلان، ثم يقصر الذي كان طويلاً ويطول الذي كان قصيراً، كل ذلك بتقدير العزيز العليم، ويجوز عطف الاختلاف على مدخول الخلق، ويراد به التقدير (لآيات لأولي الألباب) دلالات على الوجود والوحدة، والعلم، والقدرة لذوي العقول الخالصة، وقد ورد ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها (الذين يذكرون الله) وصف لأولي (قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم) أي: يصلون قائمين، فإن لم يستطيعوا فقاعدين، فعلى (¬2) جنب، أو المراد مداومة الذكر، فإن الإِنسان قلما يخلو عن إحدى هذه الحالات. والثاني: أنسب بالترجمة. 1442- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على) أي في (كل) أي: جميع (أحيانه) سواء كان متطهراً من الحدثين أو به أحدهما، وظاهر أنه ليس المراد حال الإِحداث، فقد أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الله يمقت الكلام حينئذ، وجاء أن الكلام وقت الجماع منهي عنه (رواه مسلم) في الجامع الصغير، ورواه أحمد وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه. 1443- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لو أن) بفتح الهمزة بتقدير فعل عامل بعد لولا اختصاصها بالفعل أي: لو ثبت أن (أحدكم) أي: الواحد منكم (إذا أتى أهله) أي: عند الجماع أي: إرادته (قال باسم الله) أي: أتحصن ويكتب بالألف، كما قال ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الحيض، باب: ذكر الله تعالى في حال الجنابة وغيرها، (الحديث: 117) . (¬2) لعله (فإن لم يستطيعوا فعلى الخ) . ع.

246- باب ما يقوله عند نومه واستيقاظه

بَيْنَهُمَا وَلَدٌ، لَمْ يَضُرَّهُ". متفق عَلَيْهِ (¬1) . 246- باب مَا يقوله عِنْدَ نومه واستيقاظه 1344- عن حُذَيفَةَ، وأبي ذرٍ رضي الله عنهما، قالا: كَانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أوَى إِلَى فِرَاشِهِ، قَالَ: "بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ أَحْيَا وَأموتُ" وَإذَا اسْتَيقَظَ قَالَ: "الحَمْدُ للهِ الَّذِي ـــــــــــــــــــــــــــــ المصنف: وحذفها تخفيفاً خاص بالبسملة (اللهم جنبنا الشيطان) أي: بعده عنا يتعدى للثاني مخففاً، ومثقلاً كما في المصباح. قال فيه: جنبت الرجل الشر جنوباً من باب قعد أبعدته عنه، وجنبته بالتثقيل مبالغة اهـ (وجنب الشيطان ما رزقتنا) دخل فيه الجماع، لأن الرزق ما ينتفع به البدن، والجماع منه لما فيه من إذهاب المواد المفسد بقاؤها للبدن (فقضي) عطف على قال (بينهما ولد لم يضره) أي: الشيطان وحذف المعمول ليعم كما جاء في لفظ: لم يضره الشيطان أبداً والمراد أن الضرر الناشيء من تسلط الشياطين كالصرع، وإلقاء الوسوسة في الصدر يندفع بقوله هذا عند إرادة الجماع (متفق عليه) ورواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة. باب ما يقوله عند نومه أي: إرادته، وهو زوال الشعور بسبب انحلال أعصاب الدماغ بالرطوبات الصاعدة إليه من المعدة. والصحيح أنه غير السنة كما يدل عليه عطفه عليها في آية الكرسي، وغير النعاس، وعلامة النوم الرؤيا، وعلامة النعاس سماع كلام الحاضرين وإن لم يفهمه (واستيقاظه) . 1444- (عن حذيفة وأبي ذر رضي الله عنهما قالا: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أوى) بالقصر كما هو الأفصح (إلى فراشه) أي: دخل فيه أو انزوى إليه (قال: باسمك) أي: بذكر اسمك (اللهم أحيا) ما حييت (و) عليه (أموت) أي: الموت الحقيقي أو الموت المجازي، وهو النوم، فعليه في الحديث استعارة تبعية مصرحة، ووجه شبهه به زوال الشعور، والحركة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق، باب: صفة إبليس والنكاح باب ما يقول الرجل إذا أتى أهله، والدعوات، باب: ما يقول إذا أتى أهله، والتوحيد، باب: السؤال بأسماء الله تعالى (11/161) . وأخرجه مسلم في كتاب: النكاح، باب: ما يستحب أن يقوله عند الجماع، (الحديث: 1160) .

أَحْيَانَا بعْدَ مَا أماتَنَا وإِلَيْهِ النُّشُورُ". رواه البخاري (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الاختيارية مع كل منهما، وفيه إيماء إلى أن مقصود الحياة، وهو التقرب إلى الله تعالى بأداء عبادته لما فات من النائم ألحق بالميت فأطلق عليه ذلك. وقال العيني: قيل: فيه دليل على أن الاسم غير المسمى، ومنع لا سيما أن لفظ الاسم يحتمل أن يكون مقحماً كهو في قوله ثم اسم السلام عليكما (وإذا استيقظ) أي: تيقظ (قال: الحمد لله الذي أحيانا) بالاستيقاظ المعد لتحصيل مراضي الله تعالى (بعدما أماتنا) أي: بالنوم الذي هو أخو الموت فيما تقدم. فهو كما تقدم استعارة مصرحة تبعية. وقال الكرماني: الموت تعلق انقطاع الروح بالبدن، وذلك قد يكون ظاهراً فقط وهو النوم. ولذا يقال إنه أخو الموت وظاهراً وباطناً، وهو الموت المتعارف. اهـ. وظاهره أن الموت مشترك بينهما فيكون ما في الحديث إطلاق حقيقي، وقال أبو إسحاق الزجاج: النفس التي تفارق الإِنسان عند النوم هي التي للتمييز، والتي تفارقه عند الموت هي التي للحياة، وهي التي يزول بزوالها النفس (وإليه النشور) هو الحياة بعد الموت. يقال نشر الميت ينشر نشوراً، والمراد بالنشور إليه تعالى الذهاب إليه ليجازي العامل بمقتضى عمله خيراً أو شراً، وأتى بهذه ليحمل استحضارها المرء على التيقظ للإِقبال على مولاه يقظة ونوماً، فلا يقضي به نومه لتكاسل أو تباطؤ عما طلب منه، ولا تيقظه لغفلة عما طلب منه من دوام مراقبة وحضور (رواه البخاري) في الدعوات، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي في الكبرى، وابن ماجه كلهم من حديث حذيفة. وقد رواه البخاري من حديث أبي ذر أيضاً، وكذا رواه النسائي في الكبرى أيضاً، ورواه مسلم والنسائي من حديث البراء، إلا أنه قال: إذا دخل مضجعه من الليل بدل قوله: إذا أوى إلى فراشه. قال الحافظ في أمالي الأذكار: بعد أن أخرجه من حديث حذيفة وأبي ذر والبراء، وذكر مخرج حديث كل من ذكرناه ما لفظه، وحاصل ما سقته أن المتن متفق عليه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه البخاري من حديث حذيفة وأبي ذر ولم يخرج حديث البراء إلاّ مسلم فقط، ففات الشيخ التنبيه على تخريج مسلم له. اهـ والحديث سبق مشروحاً في باب آداب النوم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: ما يقول إذا نام وفي التوحيد والسؤال بأسماء الله تعالى (11/96، 97، 111) .

247- باب فضل حلق الذكر والندب إلى ملازمتها والنهي عن مفارقتها لغير عذر

247- باب فضل حِلَقِ الذكر والندب إِلَى ملازمتها والنهي عن مفارقتها لغير عذر قَالَ الله تَعَالَى (¬1) : (واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُريدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ) . 1445- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ للهِ تَعَالَى مَلائِكَةً يَطُوفُونَ في الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أهْلَ الذِّكْرِ، فإذا وَجَدُوا قَوْمَاً يَذْكُرُونَ اللهَ ـــــــــــــــــــــــــــــ باب فضل حِلَقِ بكسر المهملة وفتح اللام، جمع حلقة بفتح المهملة وسكون اللام، نحو قصعة وقصع، وبدرة وبدر قاله الأزهري: وقيل: حلق بفتحتين على غير قياس. وحكى يونس عن أبي عمرو بن العلاء أن حلقة بفتح الحاء واللام لغة في السكون، قال: وعليه فالجمع بفتح الحاء كقصبة وقصب، وجمع ابن السراج بينهما فقال: قالوا حلق بفتح الحاء ثم خففوا الواحد حين ألحقوه الزيادة اهـ من المصباح (الذكر) بكسر الذال تقدم معناه (والندب) أي الدعاء (إلى ملازمتها) بذكر فضلها (والنهي) تنزيهاً (عن مفارقتها لغير عذر، قال تعالى: واصبر نفسك) أي: احبسها (مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي) طرفي النهار (يريدون وجهه) أي: يريدون الله لا عرضاً من الدنيا (ولا تعد) تنصرف (عيناك) بصرك (عنهم) أي: إلى غيرهم بالنظر إلى ذوي الغنى، أو الرتب من كفار قريش الطالبين منه - صلى الله عليه وسلم - أن يفرد لهم مجلساً لا يكون فقراء الصحابة فيه، وهو سبب النزول وعدي تعد بعن، مع أنه متعد بنفسه لتضمنه معنى النبوة، يقال: ثبت عنه عينه إذا ازدرته فلم تعلق به. 1445- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن لله تعالى ملائكة يطوفون في الطرق) بضمتين والجملة الفعلية في محل الصفة لاسم إن والطرق خبرها قدم للاختصاص (يلتمسون أهل الذكر) جملة حالية من ضمير يطوفون، أو صفة بعد صفة، والذكر يتناول الصلاة، وقراءة القرآن، والدعاء بخير الدارين، وتلاوة الحديث، ودراسة العلم، ومناظرة العلماء ونحوها. قال الحافظ في الفتح: الأشبه اختصاص ذلك بمجالس ¬

_ (¬1) سورة الكهف، الآية: 28.

عز وجل -، تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ، فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِم إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْألُهُمْ رَبُّهُمْ - وَهُوَ أعْلَم -: مَا يقولُ عِبَادي؟ قَالَ: يقولون: يُسَبِّحُونَكَ، ويُكبِّرُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ، ويُمَجِّدُونَكَ، فيقول: هَلْ رَأَوْنِي؟ فيقولونَ: لا واللهِ مَا رَأَوْكَ. فيقولُ: كَيْفَ لَوْ رَأوْني؟! ـــــــــــــــــــــــــــــ التسبيح والتكبير ونحوهما. والتلاوة فحسب، وإن كان قراءة الحديث، ودراسة العلم، والمناظرة فيه من جملة ما دخل تحت مسمى ذكر الله تعالى (فإذا وجدوا) من الوجدان مفعوله (قوماً يذكرون الله عز وجل) عند مسلم: فإذا وجدوا مجلساً فيه ذكر (تنادوا) وفي رواية الإِسماعيلي: يتنادون، أي: ينادي بعضهم بعضاً دلالة على المطلوب (هلموا) أي: تعالوا وهذا ورد على لغة تميم، وأهل نجد حيث يلحقون بهم ضمائر المخاطب، تأنيثاً وتثنية وجمعاً، ولغة أهل الحجاز استعمالها في الجميع بلفظ واحد، واختلف في أصل هذه الكلمة فقيل: أصلها هل لك في كذا أمه؟ أي: أقصده، فركبت الكلمتان فقيل: هلم أي: اقصد. وقيل: أصلها هالم بضم اللام وتشديد الميم والهاء، للتنبيه حذفت ألفها تخفيفاً (إلى حاجتكم) وفي رواية إلى بغيتكم (فيحفونهم) بفتح التحتية وضم الحاء المهملة أي: يطوفون ويدورون حولهم (بأجنحتهم) وقيل: معناه يدفون أجنحتهم حول الذاكرين، فالباء للتعدية. وقيل: للاستعانة. قاله الحافظ في الفتح (إلى السماء الدنيا قال: فيسألهم ربهم) أي سؤالاً صورياً. بدليل قوله لدفع توهم حمله على حقيقته من استكشاف ما يجهله السائل (وهو أعلم بهم) والجملة حالية أو معترضة، ومن حكم السؤال إقرار الملائكة أن في بني آدم المسبحين والمقدسين، فيكون كالاستدراك لما سبق من قولهم (أتجعل فيها من يفسد فيها) (¬1) (ما يقول عبادي) الجملة بيان لقوله فيسألهم ربهم، أو مفعول لقول مقدّر أي: قائلاً أولاً تقدير، بل هو ناصب بنفسه؛ لأنه نوع من القول (قال يقولون: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك) وفي رواية الإِسماعيلي "مررنا بهم وهم يذكرونك، ويهللونك، ويحمدونك، ويسألونك " وفي حديث أنس عن البزار "يعظمون آلاءك، ويتلون كتابك، ويصلون على نبيك، ويسألونك لآخرتهم ودنياهم والمجد العز والشرف " (قال: فيقول: هل رأوني) أي: أبصروني (فيقولون: لا والله ما رأوك) قال الحافظ في الفتح: كذا ثبت بلفظ الجلالة في جميع نسخ البخاري، وكذا في بقية المواضع وسقط لغيره (قال: فيقول: كيف لو رأوني؟ ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 30.

قَالَ: يقُولُونَ: لَوْ رَأوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيداً، وأكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحاً. فَيقُولُ: فماذا يَسْألونَ؟ قَالَ: يقُولُونَ: يَسْألُونَكَ الجَنَّةَ. قَالَ: يقولُ: وَهل رَأَوْها؟ قَالَ: يقولون: لا واللهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا. قَالَ: يقول: فَكيفَ لَوْ رَأوْهَا؟ قَالَ: يقولون: لَوْ أنَّهُمْ رَأوْهَا كَانُوا أشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصاً، وأشدَّ لَهَا طَلَباً، وأعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً. قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ قَالَ: يقولون: يَتَعَوَّذُونَ مِنَ النَّارِ؛ قَالَ: فيقولُ: وَهَلْ رَأوْهَا؟ قَالَ: يقولون: لا واللهِ مَا رَأوْهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة) أتى به كذلك ليزدوج مع ما بعده الممتنع بناء صيغة التفضيل منه؛ لكونه ثلاثياً مزيداً فيه. وإلاّ فأفعل التفضيل يبنى من العبادة ويقال كانوا أعبد لك (وأشد تمجيداً) أعاد أفعل التفضيل ومتعلقه إطناباً (وأكثر لك تسبيحاً) عربه دون ما عربه في قرينه تفنناً (قال: فيقول) هكذا رواية أبي ذر أحد رواة البخاري بالفاء، وفي رواية غيره بحذفها (فما يسألون) وفي الرواية الآتية وماذا يسألوني؟ وعند أبي معاوية فأي شيء يطلبون؟ (قال: يقولون: يسألونك الجنة، وفي رواية جنتك) ثم علمهم بأنهم يسألونها يحتمل أن يكون لسماعهم له منهم، ويحتمل أن ذلك لظهوره وبدوه إذ المكلف يطلب من فضل ربه النعيم وكفاية الجحيم (قال: يقول: وهل رأوها) أي: أبصروها، وعند مسلم كما يأتي: فهل رأوا جنتي (قال: يقولون: لا والله يا رب) أتى به تلذذاً بالخطاب وطلباً لإِطالة الكلام مع الأحباب (ما رأوها قال: فيقول) أي: الله تعالى، ولأبي ذر فيقول (فكيف لو رأوها) الفاء عاطفة على مقدر أي: هذا طلبهم لها وما رأوها فكيف طلبهم لها لو رأوها؟ (قال: يقولون لو أنهم) أي: لو ثبت أنهم (رأوها كانوا أشد عليها حرصاً وأشد لها طلباً وأعظم فيها رغبة) هو هكذا في صحيح البخاري، وفي الفتح للحافظ ما يوهم أنه ليس عنده عليها، وعبارته قوله: كانوا أشد حرصاً: زاد أبو معاوية في روايته عليها، وفي رواية ابن أبي الدنيا "كانوا أشد حرصاً، وأشد طلبة، وأعظم فيها رغبة" اهـ. والظرف في كل من القرائن متعلق بأفعل قبله لا بالمصدر بعده، لمنع تقديم معمول المصدر عليه، ولو ظرفاً على خلاف في الظرف (قال) أي: الله (فمم) بتشديد الميم الثانية وإدغام نون من الجارة في ميمها وأصلها ما استفهامية فحذفت ألفها تخفيفاً أي: فمن أي شيء (يتعوذون) أي: يلوذون بالذكر ويعتصمون منه (قال) كذا هو بالإِفراد، وفي الكلام حذف، وهو قال: يقولون يتعوذون من النار، فسقط من قلم الشيخ يقولون، ففاعل قال: هو النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفاعل يقولون الملائكة (يتعوذون من النار) أي: بك فحذف لدلالة المقام عليه (قال: فيقول: وهل رأوها؟ قال:

فيقولُ: كَيْفَ لَوْ رَأوْهَا؟! قَالَ: يقولون: لَوْ رَأوْهَا كانوا أشَدَّ مِنْهَا فِرَاراً، وأشَدَّ لَهَا مَخَافَةً. قَالَ: فيقولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُم، قَالَ: يقولُ مَلَكٌ مِنَ المَلاَئِكَةِ: فِيهم فُلاَنٌ لَيْسَ مِنْهُمْ، إنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ، قَالَ: هُمُ الجُلَسَاءُ لا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ". متفق عَلَيْهِ. وفي رواية لمسلمٍ عن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إن للهِ مَلاَئِكَةً سَيَّارَةً فُضُلاً ـــــــــــــــــــــــــــــ يقولون لا والله ما رأوها) صرحوا به مع دلالة عليها؛ إطناباً ولما تقدم (قال: فيقول فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون لو رأوها كانوا أشد منها فراراً) بكسر الفاء (وأشد لها مخافة) أي: خوفاً، وعدل عنه لما قاله تفخيماً لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى (قال: فيقول فأشهدكم) عطف على مقدّر أي: فأعذتهم فأشهدكم (أني قد غفرت لهم) حذف المفعول؛ للتعميم (قال: يقول ملك من الملائكة فيهم) أي: في جملتهم (فلان) تقدم أنه كناية عما يجهل من الإِعلام (ليس منهم) صفة أو حال مما قبله؛ لتخصيصه بتقديم الخبر (إنما جاء لحاجة) أي: غير ما ذكر من الذكر وما بعده (قال: هم الجلساء) أي: الكاملون المكملون (لا يشقى جليسهم) صفة أو حال أو خبر بعد خبر، أو مستأنفة لبيان المقتضى لكونهم أهل الكمال. قال الحافظ في الفتح: أخرج جعفر في الذكر عن الحسن البصري قال: "بينما قوم يذكرون الله إذ أتاهم رجل فقعد إليهم قال: فنزلت الرحمة ثم ارتفعت فقالوا: ربنا فيهم عبدك فلان! قال: غشوهم رحمتي، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم" وفي هذه العبارة مبالغة في نفي الشقاء عن جليس الذاكرين، فلو قال: يسعد بهم جليسهم لكان ذلك في غاية الفضل، لكن التصريح بنفي الشقاء أبلغ في حصول المقصود (متفق عليه) فيه أن هذا اللفظ للبخاري فقط أخرجه في الدعوات، من طريق جرير، عن الأعمش عن أبي صالح، عن أبي هريرة انفرد به عن مسلم وقوله: (وفي رواية لمسلم) هي المتفق عليها فإنها عند مسلم في الدعوات من طريق وهيب بن خالد، عن سهيل، عن أبيه عن أبي هريرة. وأخرجه البخاري في الدعوات عقيب حديث جرير، إلا أنه لم يسق لفظه (عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لله ملائكة سيارة) بفتح المهملة وتشديد التحتية أي: سياحين في الأرض (فضلاً) قال المصنف: أرجح وجوه ضبطه وأشهرها في بلادنا ضم أوليه. وضبط ْأيضاً بضم فسكون ورجحها بعضهم، وادعى أنها أكثر وأصوب، وضبط بفتح فسكون. قال القاضي: هي الرواية عند جمهور مشايخنا في الصحيحين، وبضم أوليه ورفع اللام على أنه خبر مبتدأ محذوف، وبضم ففتح آخره ألف ممدودة جمع فاضل، قال العلماء: معناه على

يَتَتَبُّعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ، فَإذَا وَجَدُوا مَجْلِساً فِيهِ ذِكْرٌ، قَعَدُوا مَعَهُمْ، وَحَفَّ بَعْضُهُمْ بَعْضاً بِأجْنِحَتِهِمْ حَتَّى يَمْلَؤُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّماءِ الدُّنْيَا، فإذَا تَفَرَّقُوا عَرَجُوا وَصَعدُوا إِلَى السَّمَاءِ، فَيَسْأَلُهُمْ اللهُ - عز وجل - وَهُوَ أعْلَمُ -: مِنْ أيْنَ جِئْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: جِئْنَا مِنْ عِنْدِ عِبادٍ لَكَ في الأرْضِ: يُسَبِّحُونَكَ، ويُكبِّرُونَكَ، وَيُهَلِّلُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ، وَيَسْألُونَكَ. قَالَ: وَمَاذا يَسْألُونِي؟ قالوا: يَسْألُونَكَ جَنَّتَكَ. قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قالوا: لا، أَيْ رَبِّ. قَالَ: فكيْفَ لَوْ رَأَوْا جَنَّتي؟! قالوا: ويستجيرونكَ. قَالَ: ومِمَّ ـــــــــــــــــــــــــــــ جميع الروايات أنهم زائدون على الحفظة وغيرهم من المرتبين مع الخلائق فهؤلاء السيارة لا وظيفة لهم إلا قصد حلق الذكر (يتتبعون) ضبط بالمهملة من التتبع، وهو البحث والتفتيش عن الشيء وبالغين المعجمة من الابتغاء والطلب. قال المصنف: وكلاهما صحيح (مجالس الذكر فإذا وجدوا مجلساً فيه ذكر قعدوا معهم وحف بعضهم بعضاً بأجنحتهم) قال المصنف: كذا في كثير من نسخ بلادنا بالمهملة وبالفاء، وفي بعضها بالضاد المعجمة، أي: حث على الحضور والاستماع، وحكى القاضي عن بعض رواتهم، وحط بالمهملتين واختاره القاضي. قال: ومعناه أي: أشار بعضهم إلى بعض بالنزول، ويؤيدها قوله بعده في رواية البخاري "هلموا إلى حاجتكم" ويؤيد الرواية بالفاء قوله في البخاري "يحفونهم بأجنحتهم" أي: يحدقون ويستديرون حولهم، ويحف بعضهم بعضاً (حتى يملأوا ما بينهم وبين السماء الدنيا) أي: أنهم يكثرون في مجلسه حتى يعلو بعضهم على بعض، ويملأوا ما ذكر (فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا) بكسر المهملة الثانية من باب علم (إلى السماء قال فيسألهم الله عز وجل وهو أعلم، من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عباد) التنوين فيه للتعظيم (لك) صفة (في الأرض) صفة بعد صفة لا حال؛ لأن شرط مجيء الحال من المضاف إليه مفقود، نعم يجوز جعل الظرف حالاً من المستقر في الظرف قبله وكذا قوله (يسبحونك ويكبرونك ويهللونك ويحمدونك ويسألونك) فتكون أحوالاً مترادفة، ويجوز أن تكون أحوالاً من المستقر في الظرف قبلها، فتكون على إعراب الظرف، كذلك أحوالاً متداخلة وحذفوا المفعول، طلباً لحصول السؤال عنه فيطول الكلام المستعذب، فالحذف هنا نظير قول موسى (ولي فيها مآرب أخرى) (¬1) (قال: وماذا يسألوني؟ قالوا: يسألونك جنتك، قال: وهل رأوا جنتي؟ قالوا: لا أي رب) بحذف ضمير المتكلم، ومعه غيره والأصل ربنا فيكون مفتوحاً، ويحتمل أن يكون الأصل أي: ربي بياء المتكلم، فحذفت ¬

_ (¬1) سورة طه، الآية: 18.

يَسْتَجِيرُونِي؟ قالوا: مِنْ نَارِكَ يَا رَبِّ. قَالَ: وَهَلْ رَأوْا نَاري؟ قالوا: لا، قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا نَارِي؟! قالوا: وَيَسْتَغفِرُونكَ؟ فيقولُ: قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، وَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَألُوا، وَأجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا. قَالَ: فيقولون: ربِّ فيهمْ فُلانٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ إنَّمَا مَرَّ، فَجَلَسَ مَعَهُمْ. فيقُولُ: ولهُ غَفَرْتُ، هُمُ القَومُ لاَ يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ" (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ اجتزاءً بدلالة الكسرة عليها، وهو مضبوط في الأصول من مسلم، والرياض بكسر الباء (قال: فكيف لو رأوا جنتي) سكت الراوي عن جوابهم عن هذا نسياناً وقد بينه في الرواية السابقة عند البخاري (قالوا: ويستجيرونك) أي: يسألونك الجوار أي الأمان (قال: ومما) بإثبات الألف. هكذا في الأصول، وجاء على خلاف الغالب من حذف ألفها عند جرها تخفيفاً، أي: ومن أي شيء (يستجيروني) بنون مخففة، والأصل يستجيرونني بنونين نون الرفع ونون الوقاية، فحذفت أحداهما تخفيفاً وفي تعيينها خلاف، الأرجح أنها نون الوقاية كما قاله ابن هشام (قالوا: من نارك) حذف المتعلق لدلالة وجوده في السؤال عليه (يا رب) غاير بين حرفي النداء تفنناً في التعبير، وأتى بحرف النداء الموضوع للبعيد دون العكس تفخيماً، قاله الشيخ خالد في شرح التوضيح. (قال: وهل رأوا ناري؟ قالوا: لا، قال: فكيف لو رأوا ناري) أظهر في محل الإِضمار في الجملتين؛ للتعظيم والتهويل (قالوا: يستغفرونك) كذا هو بحذف الواو في صحيح مسلم مصححاً عليه وهي مقدرة؛ لأنها معطوفة كالجمل قبلها، وليست جواب قوله: (فكيف لو رأوا ناري؟ فيقول: قد غفرت لهم) بدأ به في الجواب؛ لأنه أقرب مطلوب؛ وأسنى مرغوب؛ ولأن ما بعده مبني عليه فلذا فرع عليه قوله: (فأعطيتهم ما سألوا) يعني الجنة (وأجرتهم) بالقصر أي: آمنتهم (مما استجاروا) بحذف العائد المنصوب بما قبله محلاً والمجرور بمن أي: منه (قال: يقولون رب فيهم فلان عبد خطاء) بفتح المعجمة وتشديد المهملة وبالهمزة آخره، أي: كثير الخطايا (إنما مر) هو بمعنى قوله فيما قبله، إنما جاء لحاجة (فجلس معهم قال: فيقول: وله غفرت) بتقديم الظرف، للاهتمام (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) قال الحافظ في الفتح: في الحديث فضل الذكر والذاكرين، وفضل الاجتماع على ذلك، وأن جليسهم يندرج معهم في جميع ما يتفضل عليهم إكراماً لهم، وإن لم يشاركهم في أصل الذكر. وفيه محبة الملائكة لبني آدم واعتناؤهم بهم، وفيه أن السؤال قد يصدر ممن هو أعلم بالمسؤول عنه من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: فضل ذكر الله عز وجل (11/177 و179) . وأخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: فضل مجالس الذكر، (الحديث: 25) .

1446- وعنه وعن أَبي سعيدٍ رضي الله عنهما، قالا: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَقْعُدُ قَومٌ يَذكُرُونَ اللهَ - عز وجل - إِلاَّ حَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ وغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ؛ وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ". رواه مسلم (¬1) . 1447- وعن أَبي واقدٍ الحارث بن عوف - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ـــــــــــــــــــــــــــــ المسؤول؛ لإِظهار الغاية بالمسؤول عنه، والتنويه بقدره والإِعلان بشرف منزلته، وفيه بيان كذب من ادعى من الزنادقة أنه يرى الله تعالى جهراً في الدنيا، وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي أمامة رفعه "واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا" وغير ذلك. 1446- (وعنه) أي: أبي هريرة (وعن أبي سعيد) الخدري (رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يقعد قوم) التقييد بالقعود وبالقوم جري على الغالب، فالاجتماع للذكر بأي ومن أي ترتب عليه ما يأتي، ويؤيده أنه تقدم من حديث أبي هريرة "وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله " والحديث تقدم بجملته في باب قضاء حوائج المسلمين (يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة) أي: أحدقت بهم، وطافت بحفافيهم تشريفاً لهم وتنويهاً لما هم فيه من الذكر (وغشيتهم الرحمة) أي: آثارها من الفيض والفضل (ونزلت عليهم السكينة) بوزن فعيلة ما تسكن به نفسهم قال التوربشتي: هي الحالة التي يطمئن بها القلب فيسكن عن الميل إلى الشهوات، وعن الرعب والأصل فيها الوقار، وقيل: هي ملكة تسكن قلب المؤمن وتؤمن اهـ (وذكرهم الله فيمن عنده) عندية مكانة، لاستحالة المكان في حقه تعالى (رواه مسلم) . 1447- (وعن أبي واقد) بالقاف والمهملة (الحارث بن عوف) بالفاء هو الليثي من بني ليث بن بكر بن عبد مناة من كنانة بن خزيمة، مشهور بكنيته، وما ذكره المصنف في اسمه واسم أبيه، هو أحد الأقوال، وقيل: عوف بن الحارث، وقيل: الحارث بن مالك، قيل: إنه شهد بدراً، وقيل: لم يشهدها، وكان معه لواء بني ضمرة، وبني ليث، وبني سعد بكر بن عبد مناة، يوم الفتح، وقيل، أنه من مسلمة الفتح. قال ابن الأثير: والصحيح أنه شهد الفتح مسلماً، يعد في أهل المدينة، وشهد اليرموك بالشام، وجاور بمكة سنة، ومات بها، ودفن ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، (الحديث: 39) .

بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ في المَسْجِدِ، والنَّاسُ مَعَهُ، إذْ أقْبَلَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ، فأقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَذَهَبَ واحِدٌ؛ فَوَقَفَا عَلَى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. فأمَّا أحَدُهُما فَرَأَى فُرْجةً في الحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وَأمَّا الآخرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وأمَّا الثَّالثُ فأدْبَرَ ذاهِباً. فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "ألاَ أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلاَثَةِ: أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأوَى إِلَى اللهِ فآوَاهُ اللهُ ـــــــــــــــــــــــــــــ في مقبرة المهاجرين بفخ سنة ثمان وستين، وهو ابن خمس وسبعين سنة، وقيل: خمس وثمانين (رضي الله عنه) روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة وعشرون حديثاً، وقال البرقي: جاء عنه سبعة أحاديث، وفي مختصر التلقيح له في الصحيحين أحد وعشرون حديثاً اتفقا على أحد عشر منها، وانفرد البخاري باثنتين، ومسلم بثمانية (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينما هو جالس في المسجد والناس معه) جملة حالية (إذ أقبل ثلاثة نفر) بفتح أوله تمييز لما قبله أي: ثلاثة، هم نفر لا أنه نوع الثلاثة على عدد نفر فيكونون تسعة، وهذا كما يقال ثلاثة رجال ليس المراد ثلاثة جموع رجل، وهو يطلق على الثلاثة والتسعة وما بينهما كما تقدم، والجملة أضيف إليها الظرف (فأقبل اثنان) ذكره بعد فأقبل ثلاثة إما لأن التقدير فأقبل اثنان منهم وإما لأن إقبال الثلاثة، إقبال إلى المجلس أو إلى جهته، وإقبال الاثنين (إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذهب واحد فوقفا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأما أحدهما فرأى) أي: أبصر (فرجة في الحلقة) بسكون اللام أي: المستديرين بين يديه - صلى الله عليه وسلم - (فجلس فيها وأما الآخر) بفتح الخاء (فجلس خلفهم) أي: خلف أهل الحلقة (وأما الثالث فأدبر ذاهباً) أي: لم يرجع، بل استمر في إدباره وإلا فأدبر مفرغر (¬1) ذاهباً، قلت أو يكون من قبيل (فتبسم ضاحكاً) (¬2) أي: حال مؤكدة (فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: مما كان فيه من الخطبة أو تعليم العلم أو الذكر (قال: ألا) حرف تنبيه، ويحتمل أن تكون الهمزة للاستفهام ولا نفي، وفي الكلام طي فكأنهم قالوا: أخبرنا فقال: ألا (أخبركم عن النفر الثلاثة أما أحدهم فأوى) بالقصر أي: رجع (إلى الله فآواه الله) بالمد قال أئمة اللغة: في كل منهما القصر والمد ومصدر المقصور أويا على فعول ومصدر الممدود إيواء، ونسبة الإِيواء إلى الله تعالى، وكذا الاستحياء والإِعراض مجاز لاستحالتها في حقه تعالى، فالمراد بها لوازمها من إرادة إيصال الخير، وترك العقاب والإِذلال، أو نحو ذلك، وقرينة الصرف عن الحقيقة فيه وفي مثله مما يستحيل قيامه به تعالى ¬

_ (¬1) هكذا في النسخ. ع. (¬2) سورة النمل، الآية: 19.

وَأمَّا الآخَرُ فاسْتَحْيَى فَاسْتَحْيَى اللهُ مِنْهُ، وأمّا الآخَرُ، فَأعْرَضَ، فَأَعْرَضَ اللهُ عَنْهُ". متفقٌ عَلَيْهِ (¬1) . 1448- وعن أَبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قَالَ: خرج معاوية - رضي الله عنه - عَلَى حَلْقَةٍ في المَسْجِدِ، فَقَالَ: مَا أجْلَسَكُمْ؟ قالوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللهَ. قَالَ: آللهِ مَا أجْلَسَكُمْ إِلاَّ ذاك؟ قالوا: مَا أجْلَسَنَا إِلاَّ ذَاكَ، قَالَ: أما إنِّي لَمْ اسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً ـــــــــــــــــــــــــــــ العقل. وفائدته: بيان الشيء بطريق عقلي وزيادة توضيح وتحسين اللفظ، ويسمى مثل هذا المجاز مجاز المشاكلة والمقابلة. انتهى ملخصاً من اللامع الصبيح (وأما الآخر) بفتح الخاء وفيه لكونه استعمله في غير الأخير رد على من زعم أنه لا يستعمل إلا في الأخير (فاستحيا) من المزاحمة لما فيها من التضييق، والحياء كذلك محمود والمذموم فيه الحياء الباعث على ترك التعلم، ولما كان ما فعله من الحياء الممدوح غفر الله له كما قال (فاستحيا الله منه) كما تقدم (وأما الآخر) بفتح المعجمة (فأعرض) عن مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الذي هو مجلس العلم (فأعرض الله عنه) فيه ذم الإعراض عن مجلس العلم بغير عذر، وأن من أعرض كذلك فقد تعرض لسخط الله، فإنه أخبر بأن الله أعرض عنه (متفق عليه) رواه البخاري في العلم، وليس لأبي واقد في صحيحه إلا هذا الحديث. وقد وهم صاحب الكمال فقال في ترجمة أبي واقد: خرج عن الخمسة إلا البخاري، ورواه مسلم في الاستئذان، ورواه أيضاً أبو داود في الاستئذان والنسائي في العلم. 1448- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج معاوية رضي الله عنه على حلقة) بإسكان اللام على المشهور، قال العسكري: هي كل مستدير خالي الوسط، وحكي فتح اللام، وهو قليل (في المسجد فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا) أعادوه وزيادة في الإيضاح (نذكر الله قال: آلله) بمد الهمزة والأصل أألله بهمزتين أولاهما للاستفهام والأخرى همزة أل فأبدلت الثانية مدة، وجر الاسم الكريم. قيل: بالهمزة وهي من حروف القسم، وقيل: إن حرف القسم مقدر بعدها، وهو الذي صححه ابن هشام (ما أجلسكم إلا ذلك) أي: الذكر، وأتى فيه باسم الإِشارة الموضوع للبعيد مع قربه تشريفاً له كما في قوله تعالى: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: العلم، باب: من قعد حيث ينتهي به المجلس (1/143 و144) . وأخرجه مسلم في كتاب: السلام، باب: من أتى مجلساً فوجد فرجة فجلس فيها وإلا وراءهم، (الحديث: 26) .

لَكُمْ، وَمَا كَانَ أحَدٌ بِمَنْزِلَتِي مِنْ رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَقَلَّ عَنْهُ حَديثاً مِنِّي: إنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أصْحَابِهِ فَقَالَ: "مَا أجْلَسَكُمْ؟ " قالوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ الله وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا للإسْلاَمِ؛ وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا. قَالَ: "آللهِ مَا أجْلَسَكُمْ إِلاَّ ذَاكَ؟ " قالوا: واللهِ مَا أجْلَسَنَا إِلاَّ ذَاكَ. قَالَ: "أمَا إنِّي لَمْ أسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، ولكِنَّهُ أتَانِي جِبرِيلُ فَأخْبَرَنِي أنَّ الله يُبَاهِي ـــــــــــــــــــــــــــــ (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ) (¬1) والجملة جواب القسم (قالوا: ما أجلسنا إلا ذلك) الأقرب أن الجملة جواب قسم حذف المقسم به اكتفاء بدلالة وجوده في السؤال عليه، ويدل عليه قوله: (قال: أما) بتخفيف الميم، أداة استفتاح (إني لم أستحلفكم تهمة لكم) بضم الفوقية، وفتح الهاء وسكونها كما في المصباح هي الشك والريبة، والتاء بدل من الواو لأنها من الوهم (وما كان أحد بمنزلتي) أي: بمكانتي وقربي (من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وذلك، لكون أخته أم حبيبة أم المؤمنين، ولتآلف النبي - صلى الله عليه وسلم - له لما علم فيه من السر الإِلهي المصون والظرف. الأول: في محل الصفة. والثاني: لغو متعلق بمنزلة (أقل) بالنصب خبر كان (منه) أي: من ذلك الأحد (حديثاً) تمييز (مني) أي: لم يكن أحد مماثلاً لي في القرب، أقل مني حديثاً، وذلك احتياطاً وتحرزاً من أن يسهو بزيادة أو نقص، عند ذكر حديث، وهذه الجملة أتى بها إظهاراً لعنايته بالمخاطبين إذ حدثهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مع إقلاله منه فقال: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على حلقة من أصحابه فقال: ما أجلسكم) لكونهم كانوا في زمن لا يؤلف منهم الجلوس فيه في المسجد (قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده) من عطف الخاص على العام، إن أريد بالذكر ما يعم أنواعه، وإن أريد به فرد خاص منه، وبالحمد الثناء عليه بالأوصاف الثبوتية كان من عطف المغاير (على ما هدانا للإِسلام) على فيه للتعليل، وما فيه مصدرية أي: نحمده لذلك، والحمد في مقابلة النعمة يثاب عليه ثواب الواجب الفائق ثواب المندوب بسبعين ضعفاً (ومن به علينا) حذف الممتن به إيماء؛ لكثرته وقصور العبارة عن الإِحاطة به قال سبحانه وتعالى: (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) (¬2) (قال: آلله) بالمد (ما أجلسكم إلا ذلك) أي: دون غيره من الأعراض والأغراض، وحذف المصنف جوابهم، وهو في مسلم ولفظه "قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذلك" وكذا وقع له في الأذكار، بأنه غير مذكور في صحيح مسلم، كما يأتي عنه مرات أخرج أصل الحديث، لا بخصوص هذه الزيادة، وهو من قلم الناسخ (أما أني لم أستحلفكم تهمة لكم ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي) ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآيتان: 1، 2. (¬2) سورة إبراهيم، الآية: 34.

248- باب الذكر عند الصباح والمساء

بِكُمُ المَلاَئِكَةَ". رواه مسلم (¬1) . 248- باب الذكر عِنْدَ الصباح والمساء قَالَ الله تَعَالَى (¬2) : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ في نَفْسِكَ تَضَرُّعَاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُنْ مِنَ الغَافِلِينَ) . قَالَ أهلُ اللُّغَةِ: "الآصَالُ": جَمْعُ أصِيلٍ، وَهُوَ مَا بَيْنَ العَصْرِ وَالمَغْرِبِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أي: يفاخر ويعاظم (بكم الملائكة) والاستدراك المفاد بلكن لمفهوم قوله لم أستحلفكم تهمة، الخ فإنه ربما يؤخذ منه انتفاء مقتضى الاستخلاف فاستدركه لذلك (رواه مسلم) قال الحافظ في تخريج أحاديث الأذكار: وأخرجه أبو عوانة والترمذي، وقال: حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. اهـ. باب الذكر عند الصباح هو لغة: كما قال ابن دريد في الجمهرة: من نصف الليل إلى الزوال (والمساء) بالمد، وهو: منه إلى نصف الليل، قال السيوطي: إنه لم يظفر بما ذكر فيهما إلا فيها، وأما الصباح شرعاً فمن طلوع الفجر الصادق إلى طلوع الشمس، ثم الضحا، فالاستواء فالزوال ومنه المساء (قال الله تعالى واذكر ربك في نفسك تضرعاً) تذللاً وخضوعاً (وخيفة) أصلها خوفة فأبدلت الواو ياء؛ لسكونها وانكسار ما قبلها (ودون الجهر من القول بالغدو والآصال) قال ابن عطية: معناه دأباً في كل وقت وفي أطراف النهار (ولا تكن من الغافلين) عن ذكر الله، وتقدم بعض فوائد الآية أول كتاب الأذكار (قال أهل اللغة) أي: علماء متن اللغة وحدها: أصوات وأعراض يعبّر بها كل قوم عن مرادهم (الآصال) بالمد (جمع أصيل) على وزن فعيل كأيمان جمع يمين، ويجمع على أصل بضمتين وأصلان، أي: بضم فسكون وأصائل كما في القاموس (وهو ما بين العصر والمغرب) ثم ما ذكره من كونه جمع أصيل بلا واسطة هو قول الجمهور، وحكى ابن عطية في التفسير قولاً: أنه جمع لأصل بضمتين وهو ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، (الحديث: 40) . (¬2) سررة الأعراف، الآية: 205.

1449- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَالَ حِيْنَ يُصْبِحُ وَحينَ يُمْسِي: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، مِئَةَ مَرَّةٍ، لَمْ يَأتِ أَحَدٌ يَوْمَ القِيَامَةِ بِأفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلاَّ أحَدٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ أَوْ زَادَ". رواه مسلم (¬1) . 1450- وعنه، قَالَ: جَاءَ رجلٌ إِلَى النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: يَا رسولَ الله مَا لَقِيْتُ مِنْ عَقْرَبٍ لَدَغَتْنِي البَارِحَةَ! قَالَ: "أمَا لَوْ قُلْتَ حِيْنَ أمْسَيْتَ: أعُوذُ ـــــــــــــــــــــــــــــ وقت إشراق الشمس، وهو وقت الضحا. وحكمة تخصيص أول النهار وآخره بما ذكر؛ ليكون البدء والختم بعمل ديني وطاعة. فيكون كفارة لما يكون في باقي النهار. 1449- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله عنه من قال حين يصبح) أي: يدخل في الصباح الشرعي؛ لأن الألفاظ الشرعية إنما تحمل على عرف الشرع ما لم يصرف عنه صارف (وحين يمسي) أي: يدخل في المساء فالفعلان تامان كما في قوله: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون) (¬2) (سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت) أي: لم يجىء (أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به) أي: من ألفاظ الأذكار المأثورة (إلا واحد) بالرفع بدل من أحد على لغة تميم المجوزين الإِبدال في الاستثناء المنقطع (قال مثل ما قال) مثل قوله أو مثل ما قاله (أو زاد) أي: فالأول: جاء بمثل ما جاء به. والثاني: زاد عليه، هذا إن جعلنا أو ليست للشك من الراوي، بل للتنويع وإن جعلناها للشك فالاستثناء متصل على الوجه الثاني: منقطع على الأول: وعلى كل ففيه إيماء إلى أن الاستكثار من هذا محبوب إلى الله تعالى، وأنه ليس له حد لا يتجاوز عنه، كعدد المعقبات عقب المكتوبات (رواه مسلم) قال في السلاح: ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وعند أبي داود: سبحان الله العظيم وبحمده، ورواه الحاكم وابن حبان بنحوه وروي في الجامع الكبير من حديث ابن عمر مرفوعاً "من قال: سبحان الله وبحمده كتب له عشر حسنات، ومن قالها: عشراً كتب الله له مائة حسنة، ومن قالها: مائة مرة كتب الله له ألف حسنة، ومن زاد زاده الله" الحديث رواه ابن ماجه. 1450- (وعنه قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله ما لقيت) أي: شيء ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء، باب: فضل التهليل وتسبيح والدعاء، (الحديث: 29) . (¬2) سورة الروم، الآية: 17.

بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ: لَمْ تَضُرَّك". رواه مسلم (¬1) . 1451- وعنه، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه كَانَ يقولُ إِذَا أصْبَحَ: "اللَّهُمَّ بِكَ أصْبَحْنَا، وَبِكَ أمْسَيْنَا، وَبِكَ نَحْيَا، وَبِكَ نَمُوتُ، وَإلَيْكَ النُّشُورُ". وإذا أمسَى قَالَ: "اللَّهُمَّ بِكَ أمْسَيْنَا، وبِكَ نَحْيَا، وَبِكَ نَمُوتُ. وَإلْيَكَ النُّشُورُ". رواه أَبُو داود والترمذي، ـــــــــــــــــــــــــــــ عظيم لقيته (من عقرب) ظرف لغو (لدغتني) بالمهملة فالمعجمة، قال في المصباح من باب نفع (البارحة) الليلة الماضية وفي كلامه الإِيماء إلى عظيم ما أصابه من الألم والوصب من ذلك (قال: أما) أداة إستقباح أنك (لو قلت حين أمسيت) أي: دخلت في المساء (أعوذ) أي: أعتصم وألتجىء (بكلمات الله) أي: بأقضيته وشؤونه (التامات) لتنزهها عن كل نقص (من شر ما خلق) متعلق بأعوذ وما عام يدخل فيه سائر المؤذيات من الخلق، ومنه الهوى والشهوات (لم يضرك) يجوز في مثله من المضاعف المضموم العين المجزوم أربع لغات: الإِدغام مع الحركات الثلاث، والضم اتباعاً، والفتح، لأنه أخف الحركات، والكسر تخلصاً من التقاء الساكنين، والرابعة فك الإِدغام والجزم بالسكون (رواه مسلم) قال في السلاح: ورواه ما عدا البخاري من أصحاب الكتب الستة. 1451- (وعنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -) بدل اشتمال (أنه كان يقول: إذا أصبح اللهم بك) أي: بقدرتك الباهرة (أصبحنا) أي: دخلنا في الصباح (وبك أمسينا) ذكر لحضوره في الذهن عند ذكر ضده (وبك نحيا وبك نموت وإليك النشور) بضمتين أي: الرجوع (وإذا أمسى قال) عبر بالماضي تفنناً في التعبير، والمراد منه المستقبل (اللهم بك أمسينا) أي: دخلنا في المساء، وجعلهما الطيبي ناقصين فقال: الباء متعلقة بمحذوف هو الخبر ولا بد من تقدير مضاف، أي: أصبحنا أو أمسينا متلبسين بنعمتك أي: بحياطتك وكلاءتك أو بذكر اسمك (وبك نحيا وبك نموت وإليك المصير) قال في النهاية: أي إليك المرجع، يقال: صرت إلى فلان أصير مصيراً، وهو شاذ والقياس مصار مثل معاش اهـ. وتقدم الكلام على هذا الذكر في آداب النوم، لكن بلفظ: باسمك أموت وأحيا، وحينئذ فحديث الباب محتمل، لأن يكون على تقدير المضاف المصرح به في تلك أو على تقدير نحو قدرتك، أو إرادتك وعبّر بالمضارع حكاية عن الحال المستمر أي: مستمر حالنا على ذلك وعبر بالنون هنا، ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره، (الحديث: 55) .

فإنَّهُ لا يَدْرِي مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ: بِاسمِكَ رَبِّي وَضَعْتُ جَنْبي، وَبِكَ أرْفَعُهُ، إنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا، وَإنْ أَرْسَلْتَهَا، فاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ" متفق عَلَيْهِ (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الذي يلي الجسد. قال البيضاوي: إنما أمر بالنفض بالداخلة؛ لأن الذي يريد النوم يحل بيمينه خارج الإِزار وتبقى الداخلة معلقة فينفض بها، وقال في التوشيح: قيل: حكمته أنه يستر بالثياب فيتوارى ما يناله من الوسخ (فإنه لا يدري ما خلفه) بفتح الخاء المعجمة، واللام بصيغة الماضي (عليه) أي: أنه يستحب نفض الفراش قبل الدخول فيه، لئلا يكون قد دخل فيه حية أو عقرب أو غيرهما من المؤذيات وهو لا يشعر، ولينفض ويده مستورة بطرف إزاره لئلا يحصل في يده مكروه إن كان شيء هناك، وقال الطيبي: معنى لا يدري ما خلفه لا يدري ما وقع في فراشه بعدما خرج منه من تراب، أو قذاره أو هوام (ثم يقول: باسمك ربي) الظرف متعلق بقوله وضعت، وفي نسخة من البخاري رب بحذف الياء اجتزاء، بدلالة الكثرة عليها، وفي رواية القطان: اللهم باسمك، وفي رواية أبي حمزة: ثم يقول: سبحانك ربي بك (وضعت جنبي وبك أرفعه) حكمة ترك الإِتيان بالمشيئة في مثله مما قدم فيه الظرف على متعلقه، أن مقصود الكلام إنما هو الظرف لا متعلقه فعمدة الكلام هو الظرف، والمعنى أن الرفع كائن باسمك. قال الشيخ تقي الدين السبكي: فافهم هذا السر اللطيف ولا تنظر إلى قولهم الجار والمجرور فضلة في الكلام لا عمدة وتأخذه على إطلاقه بلا تأمل موارد تقدمه، وتأخره في الكتاب والسنة، وكلام الفصحاء، يتبين لك أنه إذا قدم المتعلق كان الظرف فضلة، وإذا قدم الظرف كان عمدة الكلام. قال: وقواعد العربية تقتضي أن الظرف فضلة في الكلام لا عمدة، وإن الفعل هو المخبر به والاسم هو المخبر عنه، هذا هو الأصل والوضع ثم قد يكون ذلك مقصود المتكلم، وقد لا يكون فإنه قد يكون جزءا الإِسناد معلومين، أو كالمعلومين، ويكون محط الفائدة في كونه على الصفة المستفادة من الظرف، كما فيما نحن فيه، فإن وضع المضطجع جنبه معلوم ورفعه كالمعلوم، ولم نقل معلوم لأنه قد يموت وإنما المراد الإِخبار بكونه باسم الله. اهـ ملخصاً، وقد سقته بلفظه في شرح الأذكار (إن أمسكت نفسي) إمساكها كناية عن الموت بدليل (فارحمها) لأن الرحمة تناسبه وفي رواية الترمذي فاغفر لها (وإن أرسلتها) من الإِرسال كناية عن الإِبقاء في الدنيا (فاحفظها) أي من سائر المكاره ديناً ودنيا (بما تحفظ به عبادك الصالحين) قال الطيبي: الباء فيه مثل الباء في قولك كتبت بالقلم، وكلمة ما مبهمة وبيانها ما دلت عليه صلتها (متفق عليه) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: التعوذ والقراءة عند المنام وفي التوحيد (11/107، =

1462- وعن حذيفة - رضي الله عنه -: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْقُدَ، وَضَعَ يَدَهُ اليُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ، ثُمَّ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ قِني عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن". ورواه أَبُو داود من رواية حَفْصَةَ رَضِيَ اللهُ عنها، وفيهِ أنه كَانَ يقوله ثلاث مراتٍ (¬1) . *** ـــــــــــــــــــــــــــــ ورواه أحمد وأصحاب السنن الأربع. 1462- (وعن حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يرقد وضع يده اليمنى تحت خده) أي: الأيمن، ومن لازمه الاضطجاع على الجانب الأيمن (ثم يقول) أي: بعد الاضطجاع (اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك) هذا منه - صلى الله عليه وسلم - خضوع كذلك لمولاه وأداء لحق مقام الربوبية المطلوب من العبد أداؤه، وتنبيه للأمة أن لا يأمنوا مكر الله فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون (رواه الترمذي) في كل من الجامع والشمائل (وقال) في الجامع (حديث حسن) زاد في السلاح: صحيح (ورواه أبو داود) في سننه (من رواية حفصة) أم المؤمنين (رضي الله عنها وفيه) أي: حديثها المروي من طريقها (أنه كان يقوله ثلاث مرات) قال في السلاح: ورواه الترمذي من حديث البراء بن عازب بمعناه وليس فيه ذكر التثليث، وقال: حديث حسن غريب. من هذا الوجه. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات [باب: 18] ، (الحديث: 3398) . وأخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: ما يقول عند النوم، (الحديث: 5045) .

15- كتاب الدعوات

15- كتَاب الدَعَوات 250- باب في فضل الدعوات قَالَ الله تَعَالَى (¬1) : (وقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ كتاب الدعوات بفتح المهملتين جمع دعوة، بفتح أوله، وهي المسألة الواحدة يقال: دعوت فلاناً فسألته، والدعاء إلى الشيء الحث على فعله، وفي شرح الأسماء الحسنى للقشيري ما ملخصه: الدعاء جاء في القرآن على وجوه منها العبادة نحو (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك) (¬2) ومنها الإِستعانة نحو (وادعوا شهداءكم) (¬3) منها: السؤال نحو (ادعوني أستجب لكم) ومنها: القول نحو (ودعواهم فيها سبحانك اللهم) (¬4) ومنها النداء نحو (يوم يدعوكم) (¬5) ومنها الثناء نحو (قل ادعوا الله (¬6) أو ادعوا الرحمن) (¬7) اهـ قال الله تعالى: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) قال في فتح الباري: هذه الآية ظاهر في ترجيح الدعاء على التفويض، وقالت طائفة: الأفضل ترك الدعاء والاستسلام للقضاء وأجابوا الآية بأن آخرها دل على أن المراد بالدعاء العبادة، وفي حديث النعمان بن بشير الآتي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "الدعاء هو العبادة ثم قرأ (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي) (1) أخرجه الأربعة، وصححه الترمذي والحاكم قال الحافظ: وعمدة من أول الدعاء في الآية بالعبادة أن كثيراً يدعو فلا يجاب فلو كانت على ظاهرها لم يتخلف، ¬

_ (¬1) سورة غافر، الآية: 60. (¬2) سورة يونس، الآية: 106. (¬3) سورة البقرة، الآية: 23. (¬4) سورة يونس، الآية: 10. (¬5) سورة الإسراء، الآية: 52. (¬6) الذي في البيضاوي أن الدعاء هنا بمعنى التسمية. (¬7) سورة الإسراء، الآية: 110.

رواه أَبُو داود والترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" (¬1) . 1464- وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: كَانَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَحِبُّ الجَوَامِعَ مِنَ الدُّعَاءِ، وَيَدَعُ مَا سِوَى ذَلِكَ. رواه أَبُو داود بإسناد جيدٍ (¬2) . 1465- وعن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ أكثرُ دعاءِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" متفقٌ عَلَيْهِ. زاد مسلم في ـــــــــــــــــــــــــــــ سواه. اهـ (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح) وتقدم أنه رواه أيضاً النسائي وابن ماجه، وأن الحاكم صححه أيضاً، وفي الحصن ورواه ابن أبي شيبة في المصنف وابن حبان والإمام أحمد في مسنده زاد شارحه وأخرجه البخاري في تاريخه، والطبراني في كتاب الدعاء له. 1464- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستحب) أي: يحب وصيغة الافتعال للمبالغة (الجوامع من الدعاء) أي: الدعاء الجامع للمهمات والمطالب، فيكون قليل المبنى جليل المعنى (ويدع) أي: يترك (ما سوى ذلك) وذلك لأن القوى البشرية تعجز عن الدوام على القيام بأداء الآداب المستحقة للربوبية المطلوبة من الداعي، فندب له الإتيان باللفظ اليسير لسهولة القيام بالآداب زمنه، وندب أن يكون جامعاً ليصل لمطلوبه بأسهل طريق (رواه أبو داود بإسناد جيد) ورواه الحاكم في مستدركه وصححه، وقال الحافظ السخاوي في تتمة تخريج أحاديث الأذكار: وقد أخرجه من طريق الطبراني ما لفظه: هذا حديث حسن أخرجه أحمد وغيره. 1465- (وعن أنس رضي الله عنه قال: كان أكثر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي: أكثر ما يداوم عليه من الدعاء (اللهم) أي: يا الله (آتنا) (¬3) أي: أعطنا (في الدنيا حسنة) يدخل فيها كل خير دنيوي وصرف كل شر (وفي الآخرة حسنة) مثل ذلك (وقنا عذاب النار) تخصيص بعد ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعاء، باب: ما جاء في فضل الدعاء، (الحديث: 3371) . وهو عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الدعاء مخ العبادة". وأخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: الدعاء، (الحديث: 1479) . (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: الدعاء، (الحديث: 1482) . (¬3) قوله (اللهم آتنا) للكشميهني اللهم ربنا آتنا اهـ قسطلاني.

روايتهِ قَالَ: وَكَانَ أَنَسٌ إِذَا أرادَ أنْ يَدْعُوَ بِدَعْوَةٍ دَعَا بِهَا، وَإِذَا أرادَ أنْ يَدْعُوَ بِدُعَاءٍ دَعَا بِهَا فِيهِ (¬1) . 1466- وعن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يقول: "اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ الهُدَى، والتُّقَى، والعَفَافَ، والغِنَى". رواه مسلم (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ تعميم، لأنه هو الفوز، وبعض السلف خصص الحسنة في الموضعين بشيء خاص والتعميم أولى (متفق عليه) ورواه أحمد وأبو داود (زاد مسلم في روايته) للحديث على البخاري (قال:) أي: الراوي (وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة) بفتح الدال مرة من الدعاء (دعا بها فإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها) أي: بهذه الدعوة (فيه) أي: في جملته وذلك اقتداء به - صلى الله عليه وسلم - لإِكثاره منها لقلة ألفاظها وإحاطتها بخير الدارين. 1466- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: اللهم إني أسالك الهدى) بضم الهاء وفتح الدال، ضد الضلالة (والتقى) بضم الفوقية بمعنى التقوى (¬3) ، وهي اسم مصدر من قولهم اتقيت الله اتقاءً، وهي امتثال الأوامر واجتناب النواهي (والعفاف) بفتح المهملة وبالفاءين، مصدر عف من باب ضرب أي: الكف عن المعاصي والقبائح (والغنى) بكسر المعجمة والقصر، أي: الاستغناء عن الحاجة إلى الخلائق، وقدم الهدى لأنه الأصل، والتقى مبني عليه، وعطف عليه العفاف عطف خاص على عام اهتماماً به، لأن النفس تدعو إلى ضده فسأل من الله الإعانة على تركه، وبعد أن أتم مطالب الدين توجه لبعض مطالب الدنيا، وهو الغنى أي: عدم الحاجة إلى الناس (رواه مسلم) قال الحافظ السخاوي في تتمة تخريج أحاديث الأذكار: ورواه أبو داود والطيالسي، وأحمد بن حنبل والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. اهـ. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ربنا آتنا في الدنيا حسنة (8/140) و (161/11) . وأخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: فضل الدعاء باللهم آتنا في الدنيا حسنة ... ، (الحديث: 26) . (¬2) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل، (الحديث: 72) . (¬3) في النسخة جمع التقوى والذي في الصحاح التقوى والتقى واحد والواو مبدلة من الياء اهـ.

سفيان: أَشُكُّ أنِّي زِدْتُ واحدةً مِنْهَا (¬1) . 1470- وعنه، قَالَ: كَانَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللَّهُمَّ أصْلِحْ لِي ـــــــــــــــــــــــــــــ الشقاء الحقيقي، أو من جهة المعاش وذلك أما من جهة غيره وهو شماتة الأعداء، أو من جهة نفسه وهو جهد البلاء، وإنما تعوذ - صلى الله عليه وسلم - من هذه الأمور تعليماً لأمته وإلا فإن الله تعالى أمنه من ذلك أجمع، أو أنه أتى به دفعاً لوقوع ذلك بأمته (متفق عليه) ورواه النسائي (وفي رواية) أي: للبخاري في الدعوات، وكذا هو عند مسلم باللفظ الذي ساقه المصنف (قال سفيان) هو ابن عيينة راوي الحديث المذكور (أشك أني زدت واحدة منها) أي: الأربع ولا أدري أيتهن المزيدة. قال الحافظ في فتح الباري: أخرجه ابن الجوزي من طريق علي بن عبد الله بن هاشم عن سفيان فاقتصر على ثلاثة، ثم قال: قال سفيان: وشماتة الأعداء. وأخرجه الإِسماعيلي من طريق أبي عمير عن سفيان، وبين فيه أن المزيدة هي شماتة الأعداء، وعرف منه تعين الخصلة المزيدة، اهـ، قال الكرماني: كيف جاز له خلط كلامه بكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحيث لا يفرق بينهما، ثم أجاب بأنه ما خلط، ولكن اشتبهت عليه تلك الثلاثة بعينها، وعرف أنها من هذه الأربعة فذكرها تحقيقاً لرواية الثلاثة قطعاً إذ لا مخرج عنها، ولفظ البخاري قال سفيان: الحديث ثلاث وزدت واحدة فصارت أربعاً، وقد أخرجه البخاري في القدر عن سفيان بالخصال الأربع بغير تمييز وأجاب الحافظ عما أورده الكرماني بأن سفيان كان إذا حدث عينها، ثم طال الأمر فطرقه السهو عن تعيينها فحفظ بعض من سمع تعيينها منه، قبل أن يطرقه السهو، ثم بعد أن طرقه السهو وخفي عليه تعيينها تذكر كونها مزيدة، مع إبهامها، ثم بعد ذلك إما أن يحمل الحال حيث لم يقع تمييزها لا تعييناً ولا إبهاماً على أن يكون ذهل عن ذلك، أو عين وميز فذهل بعض من سمع منه، ويترجح كون الخصلة المزيدة هي الشماتة بأنها تدخل في عموم كل واحدة من الثلاث اهـ. ومن الخبط العجيب قول القارىء في الحرز جلالة سفيان تمنعه أن يزيد من قبل نفسه ما يدرج في لفظ النبوة، بل إنما هي زيادة في روايته على سائر الروايات وزيادة الثقة مقبولة، وستاتي هذه الزيادة في حديث آخر. اهـ. وذلك لأنه قد ثبت عنه التصريح بأنه أدرج ذلك فما بقي لغيره مجال. 1470- (وعنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: اللهم أصلح لي ديني) بأن توفقني للقيام ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: القدر، باب: من تعوذ بالله من درك الشقاء وسوء القضاء، (11/449) . وأخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره، (الحديث: 53) .

دِيني الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أمْرِي، وأصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتي فِيهَا مَعَاشِي، وأصْلِحْ لِي آخِرتِي الَّتي فِيهَا مَعَادي، وَاجْعَلِ الحَيَاةَ زِيَادَةً لِي في كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ المَوتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ". رواه مسلم (¬1) . 1471- وعن علي - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قُلْ: اللَّهُمَّ اهْدِني، وسَدِّدْنِي" وفي رواية: "اللَّهمَّ إنِّي أسْألُكَ الهُدَى والسَّدَادَ". رواه مسلم (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ بآدابه على الوجه الأكمل الأتم (الذي هو عصمة أمري) أي: ما أعتصم به في جميع أموري، وفي الصحاح: العصمة المنع والحفظ، وقيل: هو مصدر بمعنى الفاعل، وقد قال تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً) (¬3) (وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي) أي: مكان عيشي وزمان حياتي، أي: بإعطاء الكفاف فيما يحتاج إليه، وبأن يكون حلالاً ومعيناً على طاعة الله (وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي) أي: مكان عودي، أو زمان إعادتي باللطف والتوفيق، على العبادة والإخلاص في الطاعة وحسن الخاتمة (واجعل الحياة) أي: طول عمري (زيادة لي في كل خير) أي: من إيقان العلم، وإتقان العمل (واجعل الموت) أي: تعجيله (راحة لي من كل شر) أي: من الفتن والمحن والابتلاء بالمعصية والغفلة، ومحصل آخر هذا الدعاء: اجعل عمري مصروفاً فيما تحب، وجنبني ما تكره، وهو من الأدعية الجوامع (رواه مسلم) . 1471- (وعن علي رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قل: اللهم اهدني وسددني) من التسديد في الأمر الإتيان به سديداً (وفي رواية: اللهم إني أسالك الهدى والسداد رواه مسلم) وفي مسلم زيادة: واذكر بالهدى هدايتك الطريق، وبالسداد سداد السهم. قال المصنف: السداد بفتح السين وسداد السهم تقويمه، ومعنى سددني وفقني، واجعلني مصيباً في جميع أموري، وأصل السداد الاستقامة والقصد في الأمر، وأما الهدى هنا فهو الرشاد، يذكر ويؤنث، ومعنى اذكر بالهدى الخ أي: تذكر ذلك في حال دعائك ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل، (الحديث: 71) . (¬2) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل، (الحديث: 78) . (¬3) سورة آل عمران، الآية: 103.

وأَنْتَ المُؤَخِّرُ، لا إلهَ إِلاَّ أنْتَ". زَادَ بَعْضُ الرُّوَاةِ: "وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ باللهِ" متفق عَلَيْهِ (¬1) . 1479- وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها: أنَّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يدعو بِهؤُلاءِ الكَلِمَاتِ: "اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ النَّارِ، وَعَذَابِ النَّارِ، وَمِنْ شَرِّ الغِنَى وَالفَقْرِ". رواه ـــــــــــــــــــــــــــــ تغاير العطف بتغاير الصيغة (أنت المقدم وأنت المؤخر) فلا يذل من واليت ولا يعز من عاديت. إذا لم يعنك الله فيما تريده ... فليس لمخلوق إليه سبيل وإن هو لم يرشدك في كل مسلك ... ضللت ولو أن السماك دليل (لا إله إلا أنت) وفي رواية للبخاري أو قال "لا إله غيرك". وفي رواية: لا إله غيرك بالجزم بها فقط، وهذه كالدليل لما أفاده الحصر في الجملتين قبله (زاد بعض الرواة) هو عبد الكريم أبو أمية ذكره البخاري في باب التهجد (ولا حول ولا قوة إلا بالله) هو في المعنى كالجملة قبله وأتى به زيادة في الدلالة لما تقدمه. وفيه كمال الرجوع إلى الله تعالى والركون إليه في الأحوال كلها، والاعتصام بحبله، والتوكل عليه، واللوذ به دون غيره (متفق عليه) رواه البخاري في التهجد والدعاء، والتوحيد، ومسلم في الصلاة وفي الدعاء، ورواه النسائي في القنوت، ورواه ابن ماجه في الصلاة. 1479- (وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو بهؤلاء الكلمات) وبينتها بقولها (اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار) أي: الفتنة المسبب عنها النار أو الإِضافة بيانية أي: من ابتلاء هو النار ويكون عطف قوله (وعذاب النار) من عطف الرديف سوغه اختلاف لفظ المضاف، ويحتمل أن يراد بفتنة النار توبيخ خزنتها كما أشار إليه قوله تعالى: كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير) (¬2) (ومن شر الغنى والفقر) أي: أكثر المرتب عليهما كالكبر والعجب والشره والحرص، والجمع للمال من الحرام والبخل بأداء حق الله ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: التهجد والدعاء، باب: الدعاء إذا انتبه من الليل، (الحديث: 3/2 و4) . وأخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه، (الحديث: 199) . (¬2) سورة الملك، الآية: 8.

رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (¬1) . 1481- وعن شَكَلِ بن حُمَيدٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قلتُ: يَا رسولَ الله، علِّمْنِي دعاءً، قَالَ: "قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ سَمْعِي، وَمِنْ شَرِّ بَصَرِي، وَمِنْ شَرِّ لِسَانِي، وَمِنْ شَرِّ قَلْبِي، وَمِنْ شَرِّ مَنِيِّي". رواه أَبُو داود والترمذي، وقال: "حديث حسن" (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ المنكرة كالزنى، وشرب الخمر، وسائر المحرمات. والأهواء المنكرة كالاعتقادات الفاسدة، والمقاصد الباطلة (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) ورواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، والطبراني، وزاد الترمذي في رواية له: والأوداء جمع داء أي: وأعوذ بك من الأدواء المنكرة، كالبرص والجذام فيكون بمعنى ما جاء في حديث أنس: وأعوذ بك من سيىء الأسقام. 1481- (وعن شكل) بفتح المعجمة والكاف باللام (ابن حميد) بضم المهملة العبسي بالمهملتين بينهما موحدة الصحابي (رضي الله عنه) قال في التقريب: له حديث واحد، كما ذكره ابن الجوزي وغيره، وقال في السلاح وليس لشكل في الكتب الستة إلا في هذا الحديث (قال: قلت: يا رسول الله علمني دعاء) أي: ذا شأن كما يدل عليه طلبه لذلك من عين الرحمة من أوتي جوامع الكلم (قال: قل: اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي) أي: بأن أسمع كلام الزور والبهتان، وغيره من العصيان، أو بأن لا أسمع به حقاً (ومن شر بصري) أعاد الجار والمجرور، مع أن العاطف يقوم مقامهما اهتماماً بالمعطوف، وإيماء إلى أنه جنس غير ما قبله، وذلك بأن أنظر إلى محرم، ومنه النظر على وجه الاحتقار لأحد من العباد، أو أهمل النظر والاعتبار في مصنوعات مولانا سبحانه (ومن شر لساني) بأن أتكلم فيما لا يعنيني، أو أسكت عما يعنيني (ومن شر قلبي) بأن أشغله بغير الله، وبغير أمره (ومن شر مني) بأن أوقعه في غير محله، أو يوقعني في مقدمات الزنى من النظر، واللمس، والمشي، والعزم، وأمثال ذلك، وقال في السلاح: أراد به فرجه، ووقع في رواية أبي: داود يعني فرجه، وقيل: هي جمع منية وهي طول الأمل (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن) ورواه النسائي، والحاكم في المستدرك. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، باب: دعاء أم سلمة، (الحديث: 3591) . (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: في الاستعاذة، (الحديث: 1551) . وأخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، [باب: 75] ، (الحديث: 3492) .

1482- وعن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يقول: "اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ البَرَصِ، والجُنُونِ، والجُذَامِ، وَسَيِّيءِ الأسْقَامِ". رواه أَبُو داود بإسناد صحيحٍ (¬1) . 1483- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الجُوعِ، فَإنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ، وأعوذُ بِكَ منَ الخِيَانَةِ، فَإنَّهَا بِئْسَتِ ـــــــــــــــــــــــــــــ 1482- (وعن أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من البرص) هو إنسداد المسام، وانحباس الدم فيتولد عنه ذلك (والجنون) أي: زوال العقل أي: التمييز به أو بغيره (والجذام) قال في القاموس: هو كغراب علة تحدث من انتشار السوداء في البدن كله فيفسد مزاج الأعضاء، وهيئتها وربما انتهى إلى أكل الأعضاء، وسقوطها عن تقرح. اهـ واستعاذ - صلى الله عليه وسلم - من هذه الأمراض مع أن في الصبر عليها مزيد الأجر خشية من ضعف الطاقة عن الصبر، والوقوع في الضجر، فيفوت به الأجر، وعم بعد تخصيص المذكورات الاستعاذة فقال: (وسيىء الأسقام) أي: قبيحها كالفالج والعمى، وإنما قيد بسيئها لأن الأمراض مطهرة للآثام مرقاة للأنام مع الصبر، فأراد ألا يسد باب الأجر خصوصاً، وقد جاء: أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء، فالنفوذ من جميع الأسقام، ليس من دأب الكرام، وقال ميرك: لأن منها ما إذا تحامل الإِنسان فيه على نفسه بالصبر خفت مؤنته، مع عدم إزمانه كالحمى والصداع والرمد ولا كذلك المرض المزمن، فإنه ينتهي بصاحبه إلى حالة يعرض عنه منها الحميم، ويقل دونها المداوي مع ما يورثه من الشين (رواه أبو داود بإسناد صحيح) وروي بزيادة عند ابن حبان في صحيحه، والحاكم في المستدرك والطبراني في المعجم الصغير. 1483- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: اللهم إني أعوذ بك من الجوع) أي: المفرط المانع من الحضور (فإنه بئس الضجيع) أي: المضاجع وهو الذي ينام معك في فراش واحد، أي: بئس المصاحب لأنه يمنع استراحة النفس والقلب، فإن الجوع يضعف القوى ويثير أفكاراً رديئة، وخيالات فاسدة فيخل بوظائف العبادة، ومن ثم حرم الوصال (وأعوذ بك من الخيانة) أي: في أمانة الخلق، أو الخالق (فإنها بئست البطانة) بكسر الموحدة خاصة الرجل، أي: الخصلة الباطنة من خاصته، واستعاذته - صلى الله عليه وسلم - من هذه لتعليم الأمة وإرشادهم للاقتداء ليفوزوا بخير الدارين، أو المراد بالاستعاذة منها طلب ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: في الاستعاذة، (الحديث: 1554) .

حُصَيْناً كَلِمَتَيْنِ يَدْعُو بهما: "اللَّهُمَّ ألْهِمْني رُشْدِي، وأعِذْنِي مِنْ شَرِّ نَفْسي". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (¬1) . 1486- وعن أَبي الفضل العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - قَالَ: قُلْتُ: يَا رسول الله عَلِّمْني شَيْئاً أسْألُهُ الله تَعَالَى، قَالَ: "سَلوا الله العَافِيَةَ" فَمَكَثْتُ ـــــــــــــــــــــــــــــ حصيناً) عطف بيان أو بدل (كلمتين) بالمعنى اللغوي أي: جملتين (يدعو بهما: اللهم ألهمني رشدي) بضم فسكون، ويقال بفتحتين، وهو والرشاد ضد الضلال، أي: ألهمني الهدى بالتوفيق للأعمال المرضية لك والمقربة من فضلك (وأعذني) أي: اعصمني (من شر نفسي) فإنها الداعية لحتفي وطردي، إلا إن تداركتني بالإِحسان، قال تعالى: (إن النفس لأمارة بالسوء) (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) . 1486- (وعن أبي الفضل العباس) بفتح المهملة، وتشديد الموحدة، آخره سين مهملة، وكني بأكبر أولاده (ابن عبد المطلب) عم سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان (رضي الله عنه) أسن من النبي - صلى الله عليه وسلم -، بسنتين أو ثلاث، ولم يزل معظماً في الجاهلية والإِسلام، وكان إليه أمر السقاية في الجاهلية، وأقره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، وحضر ليلة العقبة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأكد له العقد مع الأنصار، وخرج إلى بدر مع المشركين مرائياً لهم، وأسر ففادى نفسه، وابني أخويه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث، وأسلم عقب ذلك، وعذره - صلى الله عليه وسلم - في الإِقامة بمكة من أجل سقايته، ولقي النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر الفتح مهاجراً ببنيه، فرجع معه وكان سبب تسكين الشر وحقن الدماء، ثم خرج إلى حنين وثبت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حين انهزم الناس، عنه، وكان يعظمه ويبجله، ومناقبة كثيرة أفردت بالتأليف، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة وثلاثون حديثاً، اتفق الشيخان على واحد منها والبخاري انفرد بواحد، وانفرد مسلم بثلاثة، وخرج عنه الأربعة وغيرهم، وتوفي بالمدينة يوم الجمعة لثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رجب سنة اثنتين، أو أربع وثلاثين، وهو ثابت اللحم معتدل القامة، وقبره مشهور بالبقيع (قال: قلت يا رسول الله علمني شيئاً) أي: مما ينبغي طلبه (أسأله الله تعالى) لشرفه وعظم نتائجه (قال: سلوا الله العافية) كذا في الأصول بواو الجماعة وفيه إرشاد إلى أنها ينبغي لكل أحد سؤالها وطلبها ولا يختص بذلك العباس دون الناس، وهي اسم مصدر من عافاه الله محا عنه الذنوب والأسقام، وقال في المصباح: وهي مصدر جاءت على فاعله، ومثله ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، [باب: 70] ، (الحديث: 3483) .

دُعاءِ دَاوُدَ: اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَالعَمَلَ الَّذِي يُبَلِّغُنِي حُبَّكَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أحَبَّ إلَيَّ مِنْ نَفْسِي، وأهْلِي، وَمِنَ الماءِ البارِدِ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ ضعيف، وذكر الحديث الذي سبق عن الطبراني، وقال: ورويناه في فوائد النسوي، وسنده ضعيف أيضاً. وقد ثبت عن ابن عباس اختصاص ذلك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أخرجه ابن أبي شيبة عنه، قال: "ما أعلم الصلاة تنبغي من أحد على أحد إلا على النبي - صلى الله عليه وسلم -) وسنده صحيح. وحكي القول به عن مالك، وقال: ما تعبدنا به، وجاء نحوه عن عمر بن عبد العزيز، وعن مالك يكره. وقال عياض: عامة أهل العلم على الجواز، وقال سفيان: يكره إلا أن يصلى على نبي (¬2) ، ووجدت بخط بعض الشيوخ، مذهب مالك لا يجوز أن يصلى إلا على محمد، وهذا غير معروف عن مالك إنما قال: أكره الصلاة على غير الأنبياء فلا ينبغي لنا أن نتعدى ما أمرنا به. وقال يحيى بن يحيى: لا بأس بذلك اهـ (اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك) المصدر فيهما محتمل، لأن يكون مضافاً إلى الفاعل ولأن يكون مضافاً للمفعول، والثاني أبلغ وأنسب بما بعده. والمراد من محبة الله تعالى للعبد غايتها من التوفيق والإِثابة والثناء الحسن عليه. وتقدم حديث "إذا أحب الله عبداً نادى جبريل إن الله يحب فلاناً" الحديث (والعمل الذي يبلغني حبك) أي: وحب العمل فالمضاف مقدر، وجاء مصرحاً به في حديث والمصدر المقدر مضاف لمفعوله البتة (اللهم اجعل حبك) أي: محبتي إياك أو محبوبيتي لك (أحب إلي من نفسي وأهلي ومن الماء البارد) أي: ارزقني من الأنوار ما يجلي عن عين بصيرتي الأقذاء والأقذار لأحبك حباً طبيعياً، فوق ما أحب ما ذكر. فالحب التكليفي فوق ما ذكر لمن ذكر ثبت به الحديث، وعلى كل عبد مجاهدة نفسه في تقديم طاعة الله وطاعة رسوله على نفسه وأهله، وخص الماء البارد بالذكر لشدة ميل النفس ونزعها إليه زمن الصيف، فهو أحب المستلذات إليها. قال بعضهم: أعاد الجار، ليدل على الاستقلال للماء البارد في كونه محبوباً، وذلك في بعض الأحيان فإنه يعدل بالروح للإِنسان، وعن بعض الفضلاء: الماء ليس له قيمة لأنه لا يشترى إذا وجد، ولا يباع إذا فقد، كذا في الحرز (رواه الترمذي وقال حديث حسن) ولفظه بعده قال: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر داود عليه السلام يحدث عنه وقال: كان أعبد البشر. اهـ. وهو محتمل، لأن يراد به أعبد أهل زمانه، ولأن ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، [باب: 73] ، (الحديث: 3490) . (¬2) لعله على النبي - صلى الله عليه وسلم - تأمل. ع.

1489- وعن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألِظُّوا بـ (يَاذا الجَلاَلِ والإكْرامِ") . رواه الترمذي، ورواه النسائي من رواية ربيعة بن عامِرٍ الصحابي، قَالَ الحاكم: "حديث صحيح الإسناد". "ألِظُّوا": بكسر اللام وتشديد الظاء المعجمة، معناه: الزَمُوا هذِهِ الدَّعْوَةَ وأكْثِرُوا مِنْهَا (¬1) . 1490- وعن أَبي أُمَامَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: دعا رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، بدُعاءٍ كَثيرٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ يراد به أشكر الناس، قال تعالى: (اعملوا آل داود شكراً) (¬2) أي: بالغ فيه، وبذل وسعه في ذلك، وفي ذكره - صلى الله عليه وسلم - لهذا الذكر إيماء إلى التحريض عليه، والحث على الإتيان به. 1489- (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألظوا بياذا الجلال) هي النعوت القهرية، كالانتقام والقهر والجبر، نحو المنتقم القهار الجبار العزيز (والإكرام) هو النعوت الجمالية كالكريم الستار الرؤوف الرحيم الغفار (الجلال والإكرام اسم الله الأعظم) وهو أحد ما قيل في تعيين الاسم الأعظم، ذكره الحافظ في الفتح وقال: أخرج الترمذي من حديث معاذ بن جبل قال: "سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يقول يا ذا الجلال والإِكرام، فقال: قد استجيب لك فسل" واحتج له الفخر الرازي بأنه يشمل جميع الصفات المعتبرة في الألوهية، لأن في الجلال إشارة إلى جميع الصفات السلبية، وفي الإِكرام إشارة إلى جميع الصفات الثبوتية. (رواه الترمذي ورواه النسائي) وكذا أحمد والحاكم في المستدرك (من رواية) أي: من حديث (ربيعة) بفتح الراء وكسر الموحدة، وبالعين المهملة (ابن عامر) بن بجاد بموحدة وجيم ودال مهملة، بينهما ألف، وقيل: ابن الهادي الأزدي أو الديلي (الصحابي) وسقط من النسخ ذكر الترضية، ولعله من النساخ. قال الحافظ في التقريب: له حديث واحد خرج عنه النسائي، وقال الزهري في الكاشف: روى عنه يحيى بن حبان (قال الحاكم) في المستدرك في حديث ربيعة (حديث صحيح الإِسناد: ألظوا) بفتح الهمزة و (بكسر اللام وتشديد الظاء المعجمة معناه: الزموا هذه الدعوة وأكثروا منها) هو تقدير معنى، وأما تقدير الإعراب لازموا الدعاء، أو ابدءوه بياذا الجلال والإِكرام، وإطلاق الدعاء عليه على الوجه الأول، لأنه يفتتح به الدعاء كإطلاقه في حديث "أفضل الدعاء يوم عرفة لا إله إلا الله" الحديث. 1490- (وعن أبي إمامة رضي الله عنه قال: دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدعاء كثير) بالمثلثة (لم ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، [باب: 92] ، (الحديث: 3524) . (¬2) سورة سبأ، الآية: 13.

لَمْ نَحْفَظْ مِنْهُ شَيْئاً؛ قُلْنَا: يَا رسول الله، دَعَوْتَ بِدُعاءٍ كَثِيرٍ لَمْ نَحْفَظْ مِنْهُ شَيْئاً، فَقَالَ: "ألا أدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ؟ تقول: اللَّهُمَّ إنِّي أسَألُكَ مِنْ خَيْر مَا سَأَلَكَ مِنْهُ نَبِيُّكَ محمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم -؛ وأعوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا استَعَاذَ مِنْهُ نَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم -، وأنتَ المُسْتَعانُ، وَعَليْكَ البَلاَغُ، وَلاَ حَولَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ باللهِ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (¬1) . 1491- وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ من دعاءِ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ، والسَّلامَةَ مِنْ كُلِّ إثْمٍ، والغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ نحفظ منه شيئاً قلنا: يا رسول الله دعوت بدعاء كثير لم نحفظ منه شيئاً فقال: ألا) بتخفيف اللام (أدلكم على ما يجمع ذلك) أي: مقصوده ومطلوبه (كله) وسكت عن جوابهم أي: قالوا بلى إما نسياناً، أو لكونهم لم يأتوا به اكتفاء بظهور حاجتهم إليه عن بيانه (تقول: اللهم إني أسألك من خير ما سألك منه نبيك) من للتبعيض فيهما وعطف على نبيك عطف بيان أو أبدل منه قول: (محمد - صلى الله عليه وسلم - وأعوذ) وفي نسخة "ونعوذ" بالنون (بك من شر ما استعاذ منه (¬2) نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -) أي: من الشرور الدنيوية بدناً أو أهلاً أو مالاً، والدينية حالاً أو مآلاً (وأنت المستعان) أي: المطلوب منه الإِعانة (وعليك البلاغ) أي: الكفاية أو ما يبلغ إلى المطلوب من خير الدارين (ولا حول ولا قوة إلا بالله رواه الترمذي وقال: حديث حسن) غريب. 1491- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان من) أي: بعض (دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: الجامع للخير كما جاء أنه كان يحب الجوامع من الأدعية (اللهم إني أسألك موجبات رحمتك) أي: ما يوجبها مما رتبتها عليه من الأعمال بالوعد الصادق كقوله تعالى: (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون) (¬3) الآية (وعزائم مغفرتك) أي: موجبات غفرانك. قال المصنف: جمع عزيمة وهي ما عزم الله على العباد أن يعطوه، ليغفر لهم، قاله ابن الجزري. قيل: وصوابه أن يطيعوه. قلت، ويمكن رد الأول إليه أي: يعطوه من الطاعة (والسلامة من كل إثم) أي: معصية (والغنيمة) أي: الإِكثار (من كل بر) بكسر ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، [باب: 89] ، (الحديث: 3521) . (¬2) قوله (ما استعاذ منه) الذي في الأذكار (ما استعاذك منه) . (¬3) سورة الأعراف، الآية: 156.

251- باب فضل الدعاء بظهر الغيب

والفَوْزَ بالجَنَّةِ، والنَّجَاةَ مِنَ النَّارِ". رواه الحاكم أَبُو عبد الله، وقال: "حديث صحيح عَلَى شرط مسلمٍ" (¬1) . 251- باب فضل الدعاء بظهر الغيب قَالَ الله تَعَالَى (¬2) : (والَّذِينَ جَاءوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ولإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بالإيمَانِ) . وقال تَعَالَى (¬3) : (واسْتَغْفِرْ لِذنْبِكَ وَلِلْمُؤمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ) . وقال تَعَالَى إخْبَاراً عَن إبْرَاهِيمَ - صلى الله عليه وسلم -: (¬4) (رَبَّنا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤمِنِينَ يَومَ يَقُومُ ـــــــــــــــــــــــــــــ الموحدة أي: طاعة (والفوز) أي: الظفر (بالجنة والنجاة) أي: الخلاص (من النار. رواه الحاكم أبو عبد الله) ابن البيع في المستدرك (وقال: حديث صحيح على شرط مسلم) وفي ختم المصنف الباب بهذا الدعاء، إيماء إلى أن المطلوب من الأدعية كغيرها من الأعمال، وهو بعد أداء العبودية لحق الربوبية، طلب النجاة من النار، ودخول الجنة. قال تعالى: كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز (¬5) وقال الشاعر: إن ختم الله برضوانه ... فكل ما لاقيته سهل باب فضل الدعاء بظهر الغيب أي: في غيبة المدعو له إذا لحق إخوته من حيث الإِيمان. (قال الله تعالى) في الثناء على ذلك (والذين جاءوا من بعدهم) أي: التابعين بإحسان (يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان) أثنى عليهم البارىء بدعائهم للمؤمنين السابقين الغائبين عنهم حال الدعاء لهم (وقال تعالى واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) أي: ادع لهم ولهن بغفر الخطايا أجمع، كما نوه به حذف المعمول أمره بالاستغفار للجميع، ومن المعلوم أنهم حينئذ غير حاضرين لأنهم يظهرون جيلاً فجيلاً (وقال تعالى إخباراً عن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -) وقد قال ¬

_ (¬1) الحاكم: (1/525) . (¬2) سورة الحشر، الآية: 10. (¬3) سورة محمد، الآية: 19. (¬4) سورة إبراهيم، الآية: 41. (¬5) سورة آل عمران، الآية: 185.

الحِسَابُ) . 1492- وعن أَبي الدرداء - رضي الله عنه -: أنَّه سَمِعَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلمٍ يدعُو لأَخِيهِ بِظَهْرِ الغَيْبِ إِلاَّ قَالَ المَلَكُ: وَلَكَ بِمِثْلٍ". رواه مسلم (¬1) . 1493- وعنه: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يقول: "دَعْوَةُ المَرْءِ المُسْلِمِ لأَخيهِ بِظَهْرِ الغَيْبِ ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) (¬2) وقال تعالى: (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي) (¬3) الآية (ربنا اغفر لي ولوالدي) إن ثبت أن أباه آزر، وهو ما جرى عليه البيضاوي في آخرين يحمل على أن استغفاره له كان أولاً كما قال تعالى: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه) (¬4) الآية وإن كان آزر عمه وسلسلة النسب كانوا مسلمين فالأمر ظاهر (وللمؤمنين يوم يقوم الحساب) ظرف للغفران المسؤول. وفيه الدعاء للمؤمنين فهو كالذي قبله. 1492- (وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما من عبد مسلم يدعو لأخيه) أي: في الإِسلام (بظهر الغيب إلا قال الملك) بفتح أوليه (ولك بمثل) قال المصنف: الباء مزيدة، ومثل بكسر الميم وسكون المثلثة هذه الرواية المشهورة. قال القاضي: ورويناه بفتحهما أيضاً يقال هو مثله ومثله بزيادة الباء، أي: عديله سواء. قال المصنف: فيه فضل الدعاء لأخيه المسلم بظهر الغيب، ولو دعا لجماعة من المسلمين حصلت له هذه الفضيلة، ولو دعا لجملة المسلمين، فالظاهر حصولها أيضاً (رواه مسلم) . 1493- (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: دعوة المرء) أي: الشخص (المسلم لأخيه بظهر الغيب) أي: في غيبة المدعو له وفي سر، والتقييد به لأنه أبلغ في الإِخلاص، ثم الظرف ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب، (الحديث: 86) . (¬2) سورة الممتحنة، الآية: 4. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 68. (¬4) سورة التوبة، الآية: 114.

252- باب: في مسائل من الدعاء

مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَأسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ كُلَّمَا دَعَا لأَخِيهِ بِخَيْرٍ قَالَ المَلَكُ المُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ، وَلَكَ بِمِثْلٍ". رواه مسلم (¬1) . 252- باب: في مسائل من الدعاء 1494- وعن أسَامة بن زيد رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ، فَقَالَ لِفاعِلهِ: جَزَاكَ اللهُ خَيراً، فَقَدْ أبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ حال من المضاف إليه، لأن الدعوة مصدر أضيف لفاعله، أو ظرف للمصدر، أي الدعوة الكائنة في غيبة المدعو له (مستجابة) أي: مجابة والسين والتاء، للمبالغة (عند رأسه ملك موكل) أي: بالإتيان بما يأتي عنه (كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين) بالمد وتخفيف الميم أي: استجب وهذا سؤال منه تعالى وخاطب الداعي فقال: (ولك بمثل) أي: مثل ما دعوت به له. قال المصنف: كان بعض السلف إذا أراد أن يدعو لنفسه دعا لأخيه المسلم بتلك الدعوة، لأنها تستجاب، ويحصل له مثلها (رواه مسلم) ورواه أحمد والنسائي وأخرجه أبو بكر في الغيلانيات عن أم كرز، ورواه البزار عن عمران بن حصين مرفوعاً بلفظ "دعاء الأخ لأخيه بظهر الغيب لا يرد". باب في مسائل من الدعاء أي: في ذكر أحاديث تتعلق بمسائل منه. 1494- (عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من صنع) بالبناء للمجهول (إليه معروف) من نحو إطعام، أو كسوة أو جلب مصلحة، أو دفع مضرة، وكذا إذا كان المعروف معنوياً كإفادة علم أو إفاضة معرفة (فقال لفاعله) عبر به دون صانعه تفنناً في التعبير (جزاك الله خيراً) التنكير فيه للتعظيم كما يوميء إليه سؤاله من الله تعالى (فقد أبلغ في الثناء) أي: بالغ في ثنائه على فاعله وجازى المحسن إليه بأحسن مما أسداه إليه حيث أظهر عجزه، وأحاله على ربه (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) وفي الحرز، وقال ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب، (الحديث: 88) (¬2) أخرجه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في المتشبع بما لم يعطه، (الحديث: 2035) .

1495- وعن جابر - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ وَلاَ تَدعُوا عَلَى أوْلادِكُمْ، وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أموَالِكُمْ، لا تُوافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسألُ فِيهَا عَطَاءً فَيَسْتَجِيبَ لَكُمْ". رواه مسلم (¬1) . 1496- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "أقْرَبُ مَا يكونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأكْثِرُوا الدُّعَاءَ" رواه مسلم (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الترمذي: حسن غريب، وقال في السلاح: رواه الترمذي والنسائي، وابن حبان في صحيحه بهذا اللفظ، وقال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه من حديث أسامة إلا من هذا الوجه. 1495- (وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم) أعاد الفعل المنهي عنه في كلا الجملتين المعطوفتين، إيماءً إلى استقلال كل بالنهي عنه. وحذف المعمول يؤذن بالعموم أي: لا تدعوا على من ذكر، وما ذكر بشيء من الضرر (لا توافقوا) علة للنهي أي: لئلا توافقوا والفعل منصوب بأن المقدرة مع لام الجر، لدلالة المقام عليهما، ويجوز أن يقال إنه مجزوم وهو جواب شرط مقدر؛ لكونه في جواب النهي أي: إن لا تدعوا لا توافقوا الخ حال الدعاء بذلك (من الله ساعه يسأل) بصيغة المجهول ونائب فاعله يعود إلى الجلالة، وهو مفعوله الأول (فيها عطاء) أي: شيئاً معطى (فيستجيب) بالرفع عطف على المرفوع قبله، أو على إضمار هو وبالنصب جواب النهي، من قبيل لا تدن من الأسد فيأكلك على مذهب الكسائي (¬3) (لكم) لكون الوقت وقت إجابة (رواه مسلم) ورواه أحمد ومسلم وأبو داود من حديث أم سلمة بلفظ "لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون". 1496- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أقرب ما يكون العبد من ربه) أي: قرباً معنوياً قرب مكانة لا قرب مكان (وهو ساجد) وقد تقدم الحديث مشروحاً في باب فضل الذكر والحث عليه وقوله: (فأكثروا الدعاء) أي فيه، الفاء فيه تفريعية أو فصيحة (رواه مسلم) . ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الزهد والرقائق، باب: حديث جابر الطويل وقصه أبي اليسر، (الحديث: 74) . (¬2) أخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: ما يقال في الركوع والسجود، (الحديث: 215) . (¬3) هذا غير ظاهر إذ الخلاف في الجزم عند حذف الفاء أما النصب عند ذكرها فمتفق عليه.

1497- وعنه: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "يُسْتَجَابُ لأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ: يقُولُ: قَدْ دَعْوتُ رَبِّي، فَلَمْ يسْتَجب لِي" متفق عَلَيْهِ. وفي روايةٍ لمسلمٍ: "لا يَزالُ يُسْتَجَابُ لِلعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بإثْمٍ، أَوْ قَطيعَةِ رحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ" قيل: يَا رسولَ اللهِ مَا الاستعجال؟ قَالَ: "يقول: قَدْ دَعوْتُ، وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَمْ أرَ يسْتَجِبُ لي، فَيَسْتحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ" (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1497- (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يستجاب لأحدكم ما) مصدرية ظرفية (لم يعجل) أي: مدة عدم عجلته (يقول (¬2)) استئناف لبيان العجلة المانعة من الإِجابة (قد) للتحقيق (دعوت ربي فلم يستجب لي) بالبناء للفاعل وذلك لأن الله تعالى (وقد جعل الله لكل شيء قدراً) (¬3) (وقد من بإجابة دعوة من دعاه، لكن في الوقت الذي قدره سبحانه وقضاه قد جعل الله لكل شيء قدراً) أفلا يتقدم شيء عن إبانه، ولا يتأخر عن أوانه (متفق عليه) قال في الجامع الكبير: رواه مالك وأبو داود والترمذي وابن ماجه (وفي رواية لمسلم) والترمذي (لا يزال) اسمها ضمير الشأن والخبر (يستجاب للعبد) دعاؤه (ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم) هو داخل فيما قبله فعطفه عليه كعطف جبريل وميكال في قوله (من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال) (¬4) وذلك للاهتمام (ما لم يستعجل) بدل مما قبله بدل بداء، وقال العاقولي: كان حق الظاهر أن يؤتى بالعاطف هنا فترك على تقدير عامل آخر، إشارة إلى استقلال كل من القيدين، أي: يستجاب له ما لم يدع بإثم، وكأن سائلاً قال: هل الاستجابة مقصورة على ذلك؟ فقيل: لا بل يستجاب له ما لم يستعجل. اهـ وقال: ابن حجر في فتح الإله: ترك العاطف فيه استئنافاً تنبيهاً على أن كل واحد منهما مستقل بمنع الاستجابة، أي: يستجاب لأحدكم ما لم يدع بإثم، يستجاب لأحدكم ما لم يستعجل أهـ. وما ذكرته وجه آخر قريب. والله أعلم (قيل: يا رسول الله ما الاستعجال) المرتب عليه المنع من الإجابة (قال: يقول: قد دعوت وقد دعوت) أي: تكرر مني الدعاء، وذكر الاثنين المراد به الإِشارة إلى كثرة الدعاء وتكراره لا خصوص الاثنينية (فلم أر يستجب لي فيستحسر) بالرفع عطف على يقول أي: فيعيى (عند ذلك) الاستعجال (ويدع) بفتح الدال أي: يترك (الدعاء) والحاصل ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: يستجاب للعبد ما لم يعجل، (11/119) . وأخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: بيان أنه يستجاب للداعي ما لم يعجل فيقول دعوت فلم يستجب لي، (الحديث: 90) . (¬2) قوله: لأحدكم أي لكل واحد منكم، وقوله: يعجل بفتح المثناة والجيم وسكون العين، وقوله: يقول أي بلسانه أو في نفسه. ع. (¬3) سورة الطلاق، الآية: 3. (¬4) سورة البقرة، الآية: 98.

1498- وعن أَبي أمامة - رضي الله عنه - قَالَ: قيل لِرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الدُّعاءِ أَسْمَعُ؟ قَالَ: "جَوْفَ اللَّيْلِ الآخِرِ، وَدُبُرَ الصَّلَواتِ المَكْتُوباتِ" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ أن الإجابة حاصلة؛ لكن تكون تارة معجلة، وتارة مؤخرة. ذكر مكي رحمه الله أن المدة بين دعاء زكريا - صلى الله عليه وسلم - بطلب الولد والبشارة أربعون سنة. وحكى ابن عطية عن ابن جريج ومحمد بن علي والضحاك أن دعوة موسى وهرون على فرعون لم تظهر إجابتها إلا بعد أربعين سنة، وحكى الإمام أبو حامد الغزالي عن بعضهم أنه قال: إني أسال الله عز وجل منذ عشر سنين حاجة وما أجابني وأنا أرجو الإجابة، سألت الله أن يوفقني لترك ما لا يعنيني. انتهى منقولاً من السلاح. 1498- (وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله أي الدعاء أسمع) أي: أقرب للإِجابة (قال: جوف الليل (¬2)) أي: وسطه. وتقدم في شرح حديث داود: أن أفضل القيام قيام الثلث بعد نوم النصف، وينام السدس الأخير وإنما كان ذلك حينئذٍ، لكمال التوجه وفقد العلائق والعوائق؛ لأنه وقت التجليات الإِلهية وتنزل الفيوض الربانية (ودبر) بضمتين أي: عقب (الصلوات المكتوبات) أي: الفرائض، وذلك لأن الصلاة مناجاة العبد لربه ومحل مسألته من فضله، وبعد تمام العمل يظهر الأمل (رواه الترمذي) ورواه النسائي (وقال: حديث حسن) قال الترمذي: وقد روي عن أبي ذر، وابن عمر رضي الله تعالى عنهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "جوف الليل الآخر الدعاء فيه أفضل وأرجى أو نحو هذا" وروى أبو داود، والترمذي والنسائي، والحاكم عن عمر بن عبسة رضي الله عنه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن" قال الترمذي: بعد أن أخرجه بهذا اللفظ هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، [باب: 79] ، (الحديث: 3499) . وأخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، [باب: 119] ، (الحديث: 3579) . (¬2) قوله (جوف) هو بالرفع وفي الكلام مضاف محذوف أي دعاء جوف الليل.

1499- وعن عُبَادَةَ بنِ الصامت - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَا عَلَى الأرْضِ مُسْلِمٌ يَدْعُو الله تَعَالَى بِدَعْوَةٍ إِلاَّ آتَاهُ اللهُ إيَّاها، أَوْ صَرفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا، مَا لَمْ يَدْعُ بإثْمٍ، أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ"، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَومِ: إِذاً نُكْثِرُ قَالَ: "اللهُ أكْثَرُ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح". ورواه الحاكم من روايةِ أَبي سعيدٍ وزاد فِيهِ: "أَوْ يَدخِرَ لَهُ مِن الأَجْرِ مثْلَها" (¬1) . 1500- وعن ابنِ عباس رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يقولُ عِنْدَ ـــــــــــــــــــــــــــــ 1499- (وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما على الأرض مسلم يدعو الله تعالى بدعوة) بفتح الدال المرة من الدعاء، والتنوين فيه للشيوع يشمل الدعاء بالجليل والحقير، وبالقليل والكثير (إلا آتاه الله) أي: أعطاه (إياها) حالاً أو بعد (أو) للتنويع (صرف) بالبناء للفاعل (عنه من السوء مثلها) أي: الدعوة المسؤولة أي: ما يكون نفع دفعه كنفع حصولها (ما لم يدع) سكون الدال (بإثم أو قطيعة رحم) أي: فلا تجاب تلك الدعوة المقترنة بشيء من ذلك؛ لأن الإجابة تنتفي عن سائر الدعوات غيرها إذا دعا بهما كما قد يتوهم، ونظيره حديث: "الصلوات الخمس مكفرات لما بينهن ما لم تغش الكبائر" أي: فإن الكبائر غير مكفرة لا أن الصغائر غير مكفرة حينئذٍ، والله أعلم (فقال رجل من القوم) لم أقف على من سماه (إذاً نكثر) بالنصب أي: إذا كانت الدعوة بما عدا ما ذكر مجابة نكثر من سؤال خيري الدارين لتحصيلهما بالوعد الذي لا يخلف (فقال: الله أكثر) بالمثلثة أي: أكثر إحساناً ونوالاً مما تطلبون وتسألون (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح ورواه الحاكم من رواية أبي سعيد) هو الخدري (وزاد فيه) قوله: (أو يدخر) أصله يذتخر بالمعجمة والفوقية، قلبت الفوقية دالاً مهملة دفعاً للثقل فأدغمت فيها الذال لتقارب مخرجها منها أي: يجعل (له) أي: الداعي (من الأجر مثلها) أي: من حيث النفع. 1500- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول (¬2) عند الكرب) بفتح ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، باب: في انتظار الفرج وغير ذلك، (الحديث: 3573) . وصححه الحاكم: (1/493) . أخرجه الترمذي في كتاب: الدعاء، باب: ما جاء أن دعوة المسلم مستجابه، (الحديث: 3381) . "وهو من حديث جابر ... ". (¬2) في الجامع الصغير "كان يدعو عند الكرب" الخ.

الكَرْبِ: "لا إلهَ إِلاَّ اللهُ العَظِيمُ الحَليمُ، لا إلهَ إِلاَّ اللهُ رَبُّ العَرْشِ العَظيمِ، لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ رَبُّ السَّمَاواتِ، وَرَبُّ الأَرْضِ، وَرَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ" متفق عَلَيْهِ (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ فسكون وهو الأمر الذي يشق على الإِنسان ويملأ صدره غيظاً (لا إله إلا الله العظيم) قدراً (الحليم) فلا يعاجل بالعقوبة (لا إله إلا الله رب العرش العظيم) بالجر عند الجمهور وصف به العرش بعد أن وصف به الذات ليكون من باب الترقي، لأنه إذا اتصف بها بعض مكوناته فلأن يتصف بها هو بالأولى، وقال ابن التين عن الداودي: هو بالرفع صفة رب (لا إله إلا الله رب السموات) زاد في رواية السبع (ورب الأرض رب العرش) أي: مالك كل شيء وخالقه ومصلحه، وأعاد لفظ الرب مع كل القرائن إيماء إلى أن لكل بالاستقلال من غير نظر لتبعيته لغيره المتوهمة لولا ذلك، وروي ورب العرش بإثبات واو (الكريم) بالجر صفة العرش ووصف به لأن الرحمة تنزل منه أو لأنه منسوب إلى أكرم الأكرمين لا إله إلا هو. وفي الإتيان بهذه إيماء إلى أن الدواء من الكرب توحيد الله عز وجل، وعدم النظر إلى سواه أصلاً فمن صفا له هذا المشرب فرج عنه الكرب، ونال من الفضل الأسنى ما أحب، وفي شرح البخاري للعيني، قال ابن بطال: حدث أبو بكر الرازي قال: كنت بأصبهان عند أبي نعيم أكتب الحديث عنه، وهناك شيخ يقال له أبو بكر بن علي عليه مدار الفتيا، فسعى به عند السلطان فحبسه فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام وجبريل عليه السلام عن يمينه يحرك شفتيه بالتسبيح لا يفتر فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - قل: لأبي بكر بن علي يدعو بدعاء الكرب الذي في صحيح البخاري حتى يفرج الله عنه. قال: فأصبحت فأخبرته فدعا به فلم يكرر إلا قليلاً حتى أخرج من السجن، وقال الحسن البصري: أرسل إلي الحجاج فقلتهن فقال: والله ما أرسلت إليك إلا وأنا أريد قتلك، فلأنت اليوم أحب إليّ من كذا وكذا. وزاد في لفظ: فسل حاجتك اهـ (متفق عليه) ورواه أحمد والترمذي وابن ماجه والطبراني في الكبير، وزاد: اصرف عني شر فلان، كما في الجامع الصغير. قال العيني: اشتملت الجملة الأولى: على التوحيد الذي هو أصل التنزيهات المسماة بالأوصاف الجلالية، وعلى العظمة التي تدل على القدرة العظيمة، إذ العاجز لا يكون عظيماً، وعلى الحلم الذي لا يتصور من الجاهل بالشيء إذ الجاهل بالشيء لا يتصور منه الحلم، وهما أصل الصفات الوجودية الحقيقة المسماة بالأوصاف الإِكرامية. وحكمة تخصيص الحليم بالذكر أن كرب المؤمن غالباً إنما هو من نوع ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: الدعاء عند الكرب، (11/123) . وأخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: دعاء الكرب، (الحديث: 83) .

253- باب: في كرامات الأولياء وفضلهم

253- باب: في كرامات الأولياء وفضلهم ـــــــــــــــــــــــــــــ تقصير في الطاعات، أو غفلة في الحالات، وهذا يشعر برجاء العفو المقلل للحزن، وكون الحلم حقيقة الطمأنينة عند الغضب؛ وذلك لا يطلق عليه تعالى يجاب عنه بأن المراد به لازمها، أي: تأخير العقوبة وإطلاق الدعاء على هذا؛ لأنه يفتتح به الدعاء لكشف الكرب كما تقدم نظيره، واشتملت الجملة الثانية على التوحيد والربوبية وعظم العرش، ووجه ذكر الرب من بين سائر الأسماء الحسنى، هو كونه مناسباً لكشف الكرب الذي هو مقتضى التربية، ووجه تخصيص العرش بالذكر كونه أعظم أجسام العالم فيدخل الجميع تحته دخول الأدنى تحت الأعلى، وخص السموات والأرض بالذكر لأنهما من أعظم المشاهدات انتهى ملخصاً. باب كرامات الأولياء وفضلهم الكرامات: جمع كرامة، وهي: إحدى الخوارق للعادات. وهي خمس: إرهاص، ومعجزة، وكرامة، ومعونة، ومهونة. فالإِرهاص الخارق للعادة المتقدم على تحدي النبي ودعواه النبوة كإظلال الغمام فإنه لم يقع له - صلى الله عليه وسلم - إلا قبل النبوة خلافاً لمن وهم فيه. وسمي إرهاصاً لما فيه من تأسيس النبوة، والمعجزة الخارق للعادة المقرون بالتحدي الواقع على طبق ما ادعاه مع الأمن من المعارضة فيه، والتحدي طلب المعارضة والمقابلة. وقال المحققون: دعوى الرسالة. وسميت معجزة لعجز البشر عن الإِتيان بمثله. أما ما لا يؤمن معارضته فيسمى سحراً. وجوز قوم قلب الأعيان وإحالة الطبائع كصيرورة الإِنسان حماراً، ومنعه آخرون قالوا: وإلاّ لم يكن فرق بين النبي والساحر. ويرد بوضوح الفرق بينهما فإن قالها عند التحدي لا يمكن معارضته لإِطراد العادة الإِلهية، إن المدعي النبوة كاذباً لا يظهر على يديه خارق كذلك مطلقاً، وعند عدمه يمكن المعارضة بتعلم ذلك السحر، فظهر أن قيد التحدي لا بد منه، لكنه لا يشترط عند كل معجزاته؛ لأن أكثر معجزاته - صلى الله عليه وسلم - صدر من غير تحد، بل قيل: لم يتحد بغير القرآن وتمني الموت وإنما الشرط وقوعها ممن تسبق منه دعوى التحدي، والكرامة الخارق للعادة لا على سبيل التحدي. ويدخل ما وجد من خوارق العادات بعد التحدي كما روي بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - من نطق بعض الموتى بالشهادتين وشبهه مما تواترت به الأخبار فيسمى كرامة. وجرى القاضي عياض في الشفاء على أن منها ما يبدو من الخوارق على يد النبي لا على سبيل التحدي. وتقدم آنفاً خلافه. والمعونة خارق للعادة يبدو على يد بعض المؤمنين كإنقاذ من مهلكة وتخليص من ورطة بوجه خارق للعادة.

قَالَ الله تَعَالَى (¬1) : (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) . وقال تَعَالَى (¬2) : (وَهُزِّي إلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً (25) فكُلِي وَاشْرَبِي) الآية. ـــــــــــــــــــــــــــــ والمهونة: خارق للعادة على خلاف دعوى المتحدي، كما وقع لمسيلمة أنه تفل في بئر ليكثر ماؤها فغار. والأولياء جمع ولي. وهو المؤمن المطيع لمولاه فعيل بمعنى فاعل لأنه والى الله باتباع مرضاته، أو بمعنى مفعول لأن الله تعالى والاه. وكرامات الأولياء متنوعة ذكر منها الشيخ تاج الدين السبكي في الطبقات نيفاً وعشرين نوعاً. ويجمع ذلك كل ما جاز وقوعه معجزة للنبي جاز كونه كرامة للولي. وهي على إطلاقها من غير استثناء خلافاً لبعضهم. (قال الله تعالى: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم) حين يخاف الناس عقاب الله (ولا هم يحزنون) على فوات مأمول (الذين آمنوا وكانوا يتقون) بيان لأولياء الله (لهم البشرى في الحياة الدنيا) الرؤيا الحسنة هي البشرى يراها المسلم أو ترى له، وقال بعضهم: بشرى الملائكة عند احتضاره بالجنة. وعن الحسن هي ما يبشر الله المؤمنين في كتابه من جنة ونعيمها (وفي الآخرة) الجنة ورضوان الله وقال بعضهم: المراد بتبشير الملائكة في القبر (لا تبديل لكلمات الله) لا خلاف لمواعيده (ذلك) أي: كونهم مبشرين في الدارين (هو الفوز العظيم. وقال تعالى) خطاباً لمريم (وهزي إليك بجذع النخلة) الباء مزيدة للتأكيد، أو بمعنى افعلي الهز (تساقط) أي: تساقط النخلة (عليك رطباً جنياً) تمييز إن كان التساقط من التفاعل، ومفعول إن كان من المفاعلة، أي: غضاً، وكانت تلك النخلة يابسة، فأورقت كرامة لمريم لتكون كرامة أخرى ليطمئن قلبها، أو مثمرة لكن لم يكن حين ثمرها (فكلي) من الرطب (واشربي) من النهر أو من عصير الرطب (وقري عيناً) وهو من القر أي: البرد فإن دمعة السرور باردة، ودمعة الحزن حارة، أو من القرار فإن العين إذا رأت ما يسر سكنت إليه من النظر إلى غيره (الآية) وأشار بها إلى تكلم عيسى ومخاطبته لقومها ومحاورته عنها ومن ¬

_ (¬1) سورة يونس، الآيات: 62، 63، 64. (¬2) سورة مريم، الآيتان: 25، 26.

وقال تَعَالَى (¬1) : (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكرِيّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قالت هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) . وقال تَعَالَى (¬2) : (وَإذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ ـــــــــــــــــــــــــــــ ولادته إرهاصاً لنبوته وكرامة لها (وقال تعالى: كلما دخل عليها زكريا المحراب) أي: الغرفة التي بناها لها في المسجد (وجد) هو الناصب لكلما على الظرفية (عندها رزقاً) قيل: كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وبالعكس، وقيل: صحف فيها علم، والأول أصح (قال يا مريم أنى لك هذا) من أين لك في غير أوانه والأبواب مغلقة (قالت: هو من عند الله) فلا يستبعد. قيل: هي كعيسى تكلمت صغيرة ولم ترضع ثدياً، ويأتي رزقها من الجنة (إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) لكرمه وسعته. قال الشيخ تاج الدين السبكي في إثبات الكرامة: ومنها قصة مريم من جهة حبلها من غير ذكر، وحصول الرطب الطري من الجذع اليابس، ودخول الرزق عندها في غير أوان حضور أسبابه، وهي لم تكن نبية لا عندنا لقوله ْتعالى: (وأمه صديقة) (¬3) ولا عند الخصم (¬4) لاشتراطه الذكورة في النبي وهو متفق عليه بيننا وبينه، ولا جائز أن يكون ذلك معجزة لزكريا لأن المعجزة يجب كونها بمشهد من الرسول والقوم حتى تقوم الدلالة عليهم وما حكيناه من كرامتها نحو قول جبريل لها (وهزي إليك بجذع النخلة) (¬5) الآية لم يكن بحضور أحد بدليل (فإما ترين من البشر أحداً) (¬6) وأيضاً فالمعجزة تكون بالتماس الرسول، وزكريا ما كان يعلم بحصولها بدليل قوله: (أنى لك هذا) وأيضاً فهذه الخوارق إنما ذكرت لتعظيم شأن مريم فيمتنع كونه كرامة لغيرها، ولا جائز أن يكون إرهاصاً لعيسى، لأن الإِرهاص أن يخص الرسول قبل رسالته بالكرامات، وأما ما يحصل به كرامة الغير لأجل أنه يستحيي بعد ذلك فذلك هو الكرامة التي يدعيها، ولأنه لو جاز ذلك لجاز في كل معجزة ظهرت على يد رسول أنها إرهاص لنبي آخر يجيء بعد وتجويز هذا يؤدي إلى سد الاستدلال بالمعجزة على النبوة. اهـ (وقال تعالى) حكاية عن تخاطب أهل الكهف فيما بينهم (وإذ اعتزلتموهم) أي: الكفرة الذين في البلد المرجفين بهم (وما يعبدون) أي: معبوداتهم أو الذين تعبدونهم (إلا الله) فإنهم كانوا يعبدونه صريحاً، أو في ضمن عبادتهم (فأووا) انضموا (إلى الكهف ينشر) يبسط (لكم ربكم من رحمته) ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 37. (¬2) سورة الكهف، الآيتان: 16، 17. (¬3) سورة المائدة، الآية: 75. (¬4) قوله (الخصم) مراده من ينكر كرامة الأولياء. (¬5) سورة مريم، الآية: 25. (¬6) سورة مريم، الآية: 26.

رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ) الآية. 1501- وعن أَبي محمد عبد الرحمن بن أَبي بكرٍ الصديق رضي الله عنهما ـــــــــــــــــــــــــــــ يستركم بها من قومكم (ويهيىء) ييسر (لكم من أمركم) الذي أردتم (مرفقاً) بفتح أوله وكسر ثالثه وبالعكس ما ترتفقون وتنتفعون به (وترى الشمس) لو رأيتهم (إذا طلعت تزاور) أي تميل (عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم) أي: تقطعهم وتميل عنهم (ذات الشمال. الآية) أي: قوله (وهم في فجوة) (¬1) أي: متسع (منه) أي: من الكهف، فلا يؤذيهم حر الشمس، وينالهم روح الهواء. قال بعضهم: صرف الله عنهم الشمس بقدرته، وحال بينهم وبينها لأن باب الكهف على جانب لا تقع الشمس إلا على جبليه، فيكون كرامة لهم كما قال: (ذلك من آيات الله) (1) إذ أرشدهم إلى ذلك الغار، وصرف عنهم الأضرار. 1501- (وعن أبي محمد عبد الرحمن ابن أبي بكر الصديق) عبد الله، لقب به لمبادرته بتصديق النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإِسراء (رضي الله عنهما) الأولى عنهم، لأن محمداً ولد عبد الرحمن كان صحابياً أيضاً كما صرح به المصنف نفسه في التهذيب، فقال: قال العلماء: لا يعرف أربعة ذكور مسلمين متوالدين بعضهم من بعض أدركوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبوه إلا أبو قحافة، وأبو بكر وابنه عبد الرحمن وابنه محمد بن عبد الرحمن أبو عتيق، وعبد الرحمن شقيق عائشة أمه أم رومان بضم الراء على المشهور. وحكى ابن عبد البر ضمها وفتحها، وشهد عبد الرحمن بدراً وأحداً مع الكفار وأسلم في هدنة الحديبية وحسن إسلامه وكان اسمه عبد الكعبة، وقيل: عبد العزى فسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الرحمن، وكان شجاعاً حسن الرأي، وشهد اليمامة مع خالد فقتل سبعة من الكفار، وهو قاتل محكم اليمامة ابن طفيل رماه بسهم في نحره فقتله، وكان محكم في ثلمة الحصن، فلما قتله دخل المسلمون. قال الزبير بن بكار: كان عبد الرحمن أسن ولد أبي بكر. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية أحاديث اتفقا على ثلاثة منها. توفي بالحشى جبل بينه وبين مكة ستة أميال، وقيل: عشرة أميال، ثم حمل على الرقاب إلى مكة سنة ثلاث، وقيل: خمس، وقيل: ست وخمسين. والصحيح الأول، وكانت وفاته فجأة، ولما أتي بالبيعة ليزيد بن معاوية بعثوا إليه بمائة ألف درهم ليستعطفوه ¬

_ (¬1) سورة الكهف، الآية: 17.

أنَّ أَصْحَابَ الصُّفّةِ كَانُوا أُنَاساً فُقَرَاءَ وَأَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ مَرَّةً: "مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ، فَلْيَذْهَبْ بثَالِثٍ، وَمنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ أرْبَعَةٍ، فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ بِسَادِسٍ" أَوْ كما قَالَ، وأنَّ أَبَا بكرٍ - رضي الله عنه -، جَاءَ بِثَلاَثَةٍ، وانْطَلَقَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعَشَرَةٍ، وأنَّ أَبَا بَكرٍ تَعَشَّى عِنْدَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ لَبِثَ حَتَّى صَلَّى العِشَاءَ، ثُمَّ رَجَعَ، فجاءَ بَعْدَ مَا مَضَى مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللهُ. قالت امْرَأتُهُ: مَا حَبَسَكَ عَنْ أضْيَافِكَ؟ قَالَ: ـــــــــــــــــــــــــــــ فردها، وقال: لا أبيع ديني بدنياي رضي الله عنه. اهـ ملخصاً من التهذيب (أن أصحاب الصفة) الظلة التي جعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مؤخر مسجده لما بناه يأوي إليها من لا أهل له، ولا صاحب من المحتاجين، إذا نزل المدينة، وتقدمت عدتهم في باب فضل الزهد في الدنيا (كانوا أناساً فقراء وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال مرة) أي: فيها (من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث) أي: فإن طعامه كافيهم وقع عند مسلم بثلاث. قال عياض: وهو غلط، والصواب ما عند البخاري، ووجه المصنف رواية مسلم بأنها على تقدير مضاف، أي: بتمام ثلاث، وهو الثالث فتتفق الروايتان (ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس بسادس) بحذف الواو أي: وبسادس أو بحذف أو التي للشك في أنه قال: فليذهب بخامس، أو قال: فليذهب بسادس، ويؤيد الثاني قوله: (أو كما قال) فإنه ظاهر في الشك وجاء كما تقدم في باب الإِيثار من حديث جابر مرفوعاً: وطعام الأربعة يكفي الثمانية. وقال الحافظ في الفتح أي: ليذهب بخامس إن لم يكن عنده ما يقتضي أكثر من ذلك، وإلا فيذهب مع الخامس بسادس إن كان عنده أكثر من ذلك، قال: والحكمة في كونه يزيد واحداً فقط أن عيشهم يومئذ لم يكن متسعاً فمن عنده مثلاً ثلاثة أنفس لا يضيق عليه أن يطعم الرابع من قوتهم، وكذا الأربعة وما فوقها بخلاف ما لو زيد بالإِضعاف بعدد العيال، فإن ذلك يحصل الاكتفاء به عند إتساع الحال (وإن أبا بكر) وفي نسخة: الصديق، وليست عند البخاري وكذا قوله (رضي الله عنه) وأتى به المصنف تنبيهاً على أن الإِتيان بمثله مطلوب لا يعد زيادة في المروي (جاء بثلاثة) أي: منهم (وانطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - بعشرة) منهم (وإن أبا بكر رضي الله عنه تعشى عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم لبث) أي: قام عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده لأمر اقتضى المكث (حتى صلى العشاء) أي: معه - صلى الله عليه وسلم - (ثم رجع) إلى منزله بعد أن كان جاء أولاً إليه بالأضياف كما يدل عليه صريح قوله السابق، وإن أبا بكر جاء بثلاثة ثم عاد لمنزله - صلى الله عليه وسلم -، وتعشى عنده، وصلى معه، ويدل له الرواية الآتية بعد (فجاء بعد ما مضى من الليل) بيان لما في قوله (ما شاء الله) . وفيه إيماء إلى مزيد تأخره عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وإبطائه (قالت له امرأته ما حبسك عن أضيافك؟ قال: أو ما عشيتهم) بكسر

أوَما عَشَّيْتِهمْ؟ قالت: أَبَوْا حَتَّى تَجِيءَ وَقَدْ عَرَضُوا عَلَيْهِمْ، قَالَ: فَذَهَبتُ أَنَا فَاخْتَبَأْتُ، فَقالَ: يَا غُنْثَرُ، فَجَدَّعَ وَسَبَّ، وقالَ: كُلُوا لاَ هَنِيئاً وَاللهِ لا أَطْعَمُهُ أَبَداً، قَالَ: وايْمُ اللهِ مَا كُنَّا نَأخُذُ مِنْ لُقْمَةٍ إلا ربا من أسفلِها أكثرَ منها حتى شبعوا، وصارتْ أكثرَ مما كانتْ قبلَ ذلكَ، فنظرَ إليها أبو بكر فقالَ لامرأتِهِ: يا أختَ بني فراسٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ الفوقية، وفي بعض النسخ بزيادة تحتية بعدها لإشباع كسر الفوقية، قال: والواو عاطفة على مقدر بعد الهمزة (قالت: أبوا) أي: امتنعوا (حتى تجيء وقد عرضوا) بصيغة الفاعل، والضمير يرجع إلى الخدم أو الأهل، ووقع في رواية للبخاري قد عرضنا عليهم فامتنعوا (عليهم) أي: الأضياف (قال) أي: عبد الرحمن (فذهبت أنا فاختبأت) أي: خوفاً من خصام أبيه له، وتغيظه عليه (فقال: يا غنثر) سيؤتى ضبطه ومعناه (فجدع) بتشديد الدال المهملة أي: دعا بالجدع، وهو القطع من الأذن والأنف، أو الشفة، وقيل: المراد به السب والأول أصح (وسب) أي: شتم وحذف المعمول للعلم به، ظن أن عبد الرحمن قصر في حق الأضياف فلما علم الحال أدبهم بقوله: (وقال: كلوا لا هنيئاً) أي: لا أكلتم هنيئاً وهو دعاء عليهم. وقيل: أي: خير لم تهنئوا به أو لا بصحة. وقيل: إنما خاطب بهذا أهله لا الأضياف (والله لا أطعمه) بفتح العين أي: لا أذوقه (أبداً قال) أي: عبد الرحمن (وأيم الله) همزته همزة وصل عند الجمهور. وقيل: يجوز القطع وهو مبتدأ وخبره محذوف، أي: قسمي وأصله أيمن وأصل الهمزة فيه القطع، ولكنها لكثرة الاستعمال خففت فوصلت، وفيها لغات أيمن مثلث الميم، ومن مختصرة منه مثلثة الميم، وأيم كذلك ويم كذلك، قال ابن مالك: وليس الميم بدلاً من الواو ولا أصلها من خلافاً لمن زعمه ولا أيمن جمع يمين خلافاً للكوفيين (ما كنا نأخذ من لقمة إلا ربا) بالموحدة أي: زاد (من أسفلها) أي: الموضع الذي أخذت منه (أكثر منها) بالرفع فاعل ربا (حتى شبعوا وصارت أكثر) بالمثلثة (مما كانت قبل ذلك) أي: قبل أكلهم (فنظر إليها) أي: القصعة (أبو بكر فقال لامرأته) أم رومان (يا أخت بني فراس) بكسر الفاء وتخفيف الراء آخره مهملة من كنانة. قيل: التقدير يا من هي من بني فراس، والعرب تطلق على من كان متبعاً لقبيلة أنه أخوهم. وفيه نظر لأن أم رومان من ذرية الحارث بن غنم، وهو ابن مالك بن أوس بن غنم. قال في الفتح: فلعله نسبها إلى بني فراس بكونهم أشهر من بني الحارث ويقع في النسب كثيراً الانتساب إلى أخي جدهم. والمعنى يا أخت القوم المنتسبين إلى بني فراس، ولا شك أن الحارث أخو فراس، فأولاد كل منهما إخوة للآخرين بكونهم في درجتهم. وحكى عياض أنه قيل في أم رومان أنها من

ما هذا؟ قالت: لا وقُرَّةِ عيني لهي الآنَ أكثرُ منها قبلَ ذلكَ بثلاثِ مراتٍ! فأكل منها أبو بكرٍ وقال: إنَّما كانَ ذلكَ من الشيطانِ، يعني: يمينَهُ. ثم أكلَ منها لقمةً، ثُمَّ حَمَلَهَا إِلَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَصْبَحَتْ عِنْدَهُ. وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ، فَمَضَى الأجَلُ، فَتَفَرَّقْنَا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً، مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أُنَاسٌ، اللهُ أعْلَمُ ـــــــــــــــــــــــــــــ بني فراس بن غنم لا من بني الحارث، وعليه فلا حاجة إلى هذا التأويل، ولم أر في كتاب ابن سعد لها نسبا إلى بني حارث، ساق لها نسبين مختلفين (ما هذا) الاستفهام للتعجب (قالت لا) زائدة أو نافية على تقدير لا شيء غير ما أقول (وقرة) بجرها على القسم (عيني) يعبر بها على المسرة ورؤية ما يحبه الإِنسان ويوافقه، يقال ذلك لأن عينه قرت عن التلفت إلى الغير بحصول غرضها فلا تستبشر لشيء آخر، فكأنه مأخوذ من القرآن، وأقسمت بذلك لما وقع عندها من السرور وبالكرامة التي حصلت لهم ببركة الصديق رضي الله عنه. وزعم الداودي أنها أرادت بقرة عينها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأقسمت به. قال الحافظ: وفيه بعد قال الشيخ زكريا: ولعله كان قبل النهي عن الحلف بغير الله تعالى (لهي) أي: القصعة أو البقية (الآن أكثر منها قبل ذلك بثلاث مرات) أكثر بالمثلثة للأكثر ولبعضهم بالموحدة (فأكل منها أبو بكر وقال: إنما كان ذلك من الشيطان يعني) بالمشار إليه بذلك (يمينه ثم أكل منها لقمة) لحديث الصحيح: "إني لا أحلف يميناً، فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني، وفعلت الذي هو خير" ولقصد إرغام الشيطان فيما زينه له من اليمين أن لا يأكل منه، وفائدة قوله: ثم أكل مع قوله فيما سبق فأكل، وليس إلا أكل واحد لدفع الإِيهام وأنه إنما أكل لقمة واحدة لما ذكر من تكفير يمينه، أو أن مراده لا أطعمه منكم، أو في هذه الساعة أو عند الغضب، ولكن هذه الثلاثة الأخيرة مبنية على جواز تخصيص العموم في اليمين، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الوارد عليه (ثم حملها) أي: الجفنة (إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأصبحت) أي: الجفنة على حالها (عنده) وإنما لم يأكلوا منها في الليل لكون ذلك وقع بعد مدة طويلة (وكان بيننا وبين قوم عهد فمضى الأجل) الذي هو عدواً إليه (فتفرقنا اثني عشر رجلاً) فيه الفاء فصيحة أي: جاءوا إلى المدينة ففرقنا من التفريق أي: ميزنا وجعل كل رجل من اثنتي عشر فرقة. وفي بعض الروايات: فعرفنا بالمهملة وشد الراء أي: جعلناهم عرفاء. قال الكرماني والبرماوي: وفي بعضها فقرينا من الفري وهي الضيافة قال الحافظ في الفتح: على ذلك، وأفاد أن روايات مسلم اختلفت فيه هل قال: فرقنا أو قال عرفنا؟ وأن رواية الإِسماعيلي وعرفنا بالعين وجهاً واحداً، وسمي المعرف عريفاً لأنه يعرف الإِمام أحوال العسكر. وبما ذكرت من اختلاف ألفاظ الروايات يعلم أن زيادة التاء في قوله فتعرفنا من قلم

كَمْ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ فَأَكَلُوا مِنْهَا أَجْمَعُونَ. وَفِي رِوَايةٍ: فَحَلَفَ أَبُو بَكْرٍ لا يَطْعَمُهُ، فَحَلَفَت المَرْأَةُ لا تَطْعَمُهُ، فَحَلَفَ الضَّيْفُ. - أَو الأَضْيَافُ - أنْ لاَ يَطْعَمُهُ أَوْ يَطْعَمُوهُ حَتَّى يَطْعَمَهُ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هذِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ! فَدَعَا بالطَّعَامِ فَأكَلَ وأكَلُوا، فَجَعَلُوا لا يَرْفَعُونَ لُقْمَةً إِلاَّ رَبَتْ مِنْ أسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا، فَقَالَ: يَا أُخْتَ بَني فِرَاسٍ، مَا هَذَا؟ فَقَالَتْ: وَقُرْةِ عَيْنِي إنَّهَا الآنَ لأَكْثَرُ مِنْهَا قَبْلَ أنْ نَأكُلَ، فَأكَلُوا ـــــــــــــــــــــــــــــ الناسخ خصوصاً. وهذا اللفظ كله لمسلم واثني عشر بالنصب عند مسلم حال، وعند البخاري بالألف. قال ابن مالك: هو على لغة من من يلزم المثنى الألف في الأحوال كلها، ومنه (إن هذان لساحران) (¬1) (رجلاًَ مع كل رجل منهم أناس الله أعلم كم مع كل رجل) جملة معترضة أي: أناس الله يعلم عددهم ومميزكم محذوف أي: كم رجل (فأكلوا منها أجمعون) أي: كل ذلك الجيش من تلك الجفنة، والذي وقع فيها في بيت أبي بكر ظهور أول البركة فيها، وأما انتهاؤها إليه أن كفت الجيش، فما كان الأبعد أن صارت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - على ظاهر الخبر (وفي رواية) هي للبخاري في باب الأدب في صحيحه (فخلف أبو بكر) لما أخبر بإباء أضيافه عن الأكل حتى يحضر وأكل معهم (لا يطعمه) بفتح المثناة التحتية والمهملة الثانية (فحلفت المرأة) أي: زوجته (لا تطعمه فحلف الضيف) المراد به الجيش لأنهم كانوا ثلاثة واسم الضيف يقع على الواحد وما فوقه، وقال الكرماني: أو هو مصدر يتناول المثنى والمجموع. قال في الفتح: وليس بواضح (أو) شك من الراوي (الضيفان ألا يطعمه) أفرد باعتبار لفظ الضيف (أو يطعموه) ظاهر السياق أنه مع الأضياف، ولو جاء مع لفظ الضيف، لكان مستقيماً ويكون الجمع بالنظر للمعنى (حتى يطعمه فقال أبو بكر: هذه) أي: اليمين أو الحالة من الغضب الناشىء عنها اليمين (من الشيطان) أي: من وسواسه (فدعا بالطعام فأكل وأكلوا) أتي بالواو إيماء إلى أنهم لم يؤخروا أكلهم عن أكله (فجعلوا لا يرفعون) أي: من القصة (لقمة إلا ربت من أسفلها أكثر) بالمثلثة بالنصب مفعول ربا (منها فقال: يا أخت بني فراس ما هذا؟ فقالت: وقرة عيني إنها الآن) أي: بعد الأكل منها (أكثر منها قبل أن نأكل) يعني أهل هذا البيت والضيف (فأكلوا) . قال الحافظ في الفتح: الصواب ما في هذا الرواية وذلك لأن تلك تقتضي أن سبب أكل أبي بكر من الطعام ما رآه من البركة، وهذه تقتضي أن سببه لجاج الأضياف، وحلفهم أن لا يطعموا حتى يأكل، ويمكن رد تلك إلى هذه بأن يجعل قوله في الرواية السابقة "فأكل منها أبو بكر" معطوفاً على أطعمه لا على ¬

_ (¬1) سورة طه، الآية: 63.

وَبَعَثَ بِهَا إِلَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَذَكَرَ أنَّهُ أكَلَ مِنْهَا. وَفِي رِوايَةٍ: إنَّ أَبَا بكْرٍ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمانِ: دُونَكَ أضْيَافَكَ، فَإنِّي مُنْطلقٌ إِلَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَافْرُغْ مِنْ قِراهُم قَبْلَ أنْ أَجِيءَ، فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمانِ، فَأَتَاهُمْ بما عِنْدَهُ، فَقَالَ: اطْعَمُوا؛ فقالوا: أين رَبُّ مَنْزِلِنا؟ قَالَ: اطْعَمُوا، قالوا: مَا نحنُ بِاكِلِينَ حَتَّى يَجِيءَ رَبُّ مَنْزِلِنَا، قَالَ: اقْبَلُوا عَنْا قِرَاكُمْ، فَإنَّهُ إنْ جَاءَ وَلَمْ تَطْعَمُوا، لَنَلْقَيَنَّ مِنْهُ فأبَوْا، فَعَرَفْتُ أنَّهُ يَجِدُ عَلَيَّ، فَلَمَّا جَاءَ تَنَحَّيْتُ عَنْهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ القصعة، التي دلت على بركة الطعام، وغايته أن حلف الأضياف أن لا يطعموه لم يذكر فيها. ويحتمل الجمع بينهما بأن يكون أبو بكر أكل لأجل تحليل يمينهم، ثم لما رأى البركة الظاهرة عاد فأكل منها؛ لتحصل له. وقال كالمعتذر عن يمينة التي حلف: إنما ذلك من الشيطان. والحاصل أن الله أكرم أبا بكر فأزال ما حصل له من الحزن فأعاده سروراً وانقلب الشيطان مدحوراً، واستعمل الصديق مكارم الأخلاق فحنث نفسه زيادة في إكرام ضيفانه، ليحصل مقصوده من أكله ولكونه أكثر قدرة منهم على الكفارة. ووقع في رواية عند مسلم فقال: "أبو بكر: يا رسول الله بروا وحنثت فقال: بل أنت أبرهم وخيرهم" قال الحافظ: ولم يبلغني كفارته، ولعل سبب عدم تكفيره ما تقدم من احتمال أنه أضمر وقتاً معيناً، أو صفة مخصوصة أي: الآن أو معكم، أو عند الغضب، أو بناء على أن اليمين هل يقبل التقليد بما في النفس أولا؟ اهـ ملخصاً. (وبعث بها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر) أي: عبد الرحمن (أنه) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - (أكل منها وفي رواية) هي للبخاري في أبواب الأدب من صحيحه قبيل الباب المذكور فيه اللفظ قبله (أن أبا بكر قال لعبد الرحمن) أي: ابنه وقد جاء الصديق بضيفه (دونك) أي: خذ (أضيافك) وتوجه للقيام بهم (فإني منطلق إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فافرغ من قراهم) أن ضيافتهم بالطعام والإِكرام (قبل أن أجيء) أي: أرجع من عنده - صلى الله عليه وسلم - (فانطلق عبد الرحمن فأتاهم) بالقصر أي جاءهم (بما عنده) من قراهم (فقال اطعموا) بوصل الهمزة وفتح العين (فقالوا: أين رب) أي: صاحب (منزلنا) أي: الذي أنزلنا ضيوفاً، سكت عن الجواب اختصاراً وكأنه، والله أعلم قال: إنه غائب فأبوا الأكل (قال: اطعموا) أعاده توكيداً في الطلب (قالوا: ما نحن بآكلين) أكدوا باسمية الجملة وزيادة الباء في الخبر (حتى يجيء رب منزلنا) (قال اقبلوا عنا) وفي نسخة عني (قرأكم) أي: ما هيىء لضيافتكم فتناولوه، وإنما كرر عبد الرحمن ذلك؛ خشية أن يجيء أبوه قبل قضائهم أمرهم فيوهم أنه من تقصيره فيغتاظ عليه كما قال. (فإنه) أي: أبا بكر والشأن (إن جاء ولم تطعموا لنلقين) أي شيئاً

فَقَالَ: مَا صَنَعْتُمْ؟ فَأخْبَرُوهُ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ الرَّحمانِ، فَسَكَتُّ: ثُمَّ قَالَ: يَا عَبْدَ الرَّحْمانِ، فَسَكَتُّ، فَقَالَ: يَا غُنْثَرُ أقْسَمْتُ عَلَيْكَ إنْ كُنْتَ تَسْمَعُ صَوتِي لَمَا جِئْتَ! فَخَرَجْتُ، فَقُلْتُ: سَلْ أضْيَافَكَ، فقالُوا: صَدَقَ، أتَانَا بِهِ، فَقَالَ: إنَّمَا انْتَظَرْتُمُونِي والله لا أَطْعَمُهُ اللَّيْلَةَ. فَقَالَ الآخَرُونَ: واللهِ لا نَطْعَمُهُ حَتَّى تَطْعَمَهُ فَقَالَ: وَيْلَكُمْ مَا لَكُمْ لا تَقْبَلُونَ عَنَّا قِرَاكُمْ؟ هَاتِ طَعَامَكَ، فَجَاءَ بِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ فَقَالَ: بِسْمِ اللهِ، الأولَى مِنَ الشَّيْطَانِ، فَأَكَلَ وَأَكَلُوا. متفق عَلَيْهِ ـــــــــــــــــــــــــــــ عظيماً وذلك لما جبل عليه من مكارم الأخلاق، ومنه إكرام الضيف، فيتوهم إذا لم يتم أمرهم أن ذلك من القصور في الإِكرام. وجملة لنلقين جواب للقسم المقدر واستغني بجوابه عن جواب الشرط بعده (فأبوا فعرفت أنه يجد) يأتي ضبطه ومعناه (على) لما ذكر (فلما جاء تنحيت عنه) هو بمعنى قوله في الرواية قبل: فاختبأت، وذلك خوف خصامه وتغيظه عليه (فقال) مخاطباً لزوجه وأهله (ما صنعتم) أي: بالضيف (فأخبروه) (فقال: يا عبد الرحمن فسكت) بضمير المتكلم خشية مما يقع في أول سورة الغضب وحدته (ثم قال: يا عبد الرحمن فسكت فقال: يا غنثر أقسمت عليك) أي: بالله تعالى الذي لا يقسم بغيره فاكتفى بدلالة عليك عن الذكر (إن كنت تسمع صوتي لما جئت) جواب قسم المكتفي لتقدمه عن جواب الشرط (فخرجت فقلت: سل أضيافك) أي: هل وقع مني تقصير فالأمر عليه أم هم أبوا فلا لوم علي وقوله (فقالوا صدق) أي: فيما أومأ إليه كلامه من إتيانه بالقري وإبائنا منه (أتانا به) جملة مفسرة للمصدق المقدر (فقال: إنما انتظرتموني والله لا أطعمه الليلة فقال الآخرون) بفتح الخاء أي: الأضياف (والله لا نطعمه حتى تطعمه) الأول بالنون والثاني ْبالفوقية المفتوحتين (فقال) لم أر في الشر كالليلة كذا في البخاري وسقط من الشيخ (ويلكم) كلمة تقال على سبيل الدعاء على المدعو عليه (ما لكم لا تقبلون عنا قراكم) وفي البخاري ما أنتم لا تقبلون بضمير جماعة الذكور بدل ضمير لجمع المجرور باللام، وزيادة همزة قبل لا خطاباً لولده أو غيره (هات طعامك) بفتح الكاف أي: قدم ضبط في نسخة البخاري بكسر الكاف ويدفعه أن الأنسب حينئذ هاتي بياء المخاطبة وقوله (فجاء به فوضع) أي أبو بكر (يده فقال بسم الله) أي: آكل (الأولى) أي: الحالة التي نشأ عنها اليمين من سورة الغضب (من الشيطان) عليه أي: وسواسه (فأكل وأكلوا. متفق عليه) أي: أصل القصة وإلا فقد علمت أن الروايتين الأخيرتين للبخاري. قال الحافظ: وفي الحديث ما يقع من لطف الله بأوليائه، وذلك أن خاطر أبي بكر تشوش، وكذا ولده وأهله وضيفه، بسبب

قَوْله: "غُنْثَرُ" بغينٍ معجمةٍ مَضمُومَةٍ ثُمَّ نُونٍ ساكِنَةٍ ثُمَّ ثاءٍ مثلثةٍ وَهُوَ: الغَبِيُّ الجَاهِلُ. وقولُهُ: "فَجَدَّعَ" أَيْ شَتَمَهُ، والجَدْعُ القَطْعُ. قولُه "يَجِدُ عَليّ" هُوَ بكسرِ الجِيمِ: أيْ يَغْضَبُ (¬1) . 1502- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَقَدْ كَانَ فيما قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ نَاسٌ مُحَدَّثُونَ، فَإنْ يَكُ في أُمَّتِي أحدٌ فإنَّهُ عُمَرُ". رواه البخاريُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ امتناعهم من الأكل وتكدر خاطر أبي بكر من ذلك حتى احتاج إلى ما تقدم من الحرج، بالحلف والحنث ولغير ذلك، فتدارك الله ذلك ورفعه بالكرامة، التي أبداها فانقلب ذلك الكدر صفاء، والتكدر سروراً (قوله: غنثر بغين معجمة مضمومة ثم نون ساكنة ثم ثاء مثلثة) سكت عن ضبطها، والمشهور فيها الفتح، وحكي ضمها. وحكي القاضي عياض عن بعض شيوخه فتح أوله وثالثه. وحكى الخطابي مثل اسم الشاعر (¬2) بفتح العين المهملة والتاء الفوقية وسكون النون بينهما (وهو الغبي) بفتح العين المعجمة وكسر الموحدة (الجاهل) وقيل: السفيه، وقيل: اللئيم، وقيل: هي الذباب وسمي به لصوته فشبهه به تحقيراً وتصعيراً له، وقيل: مأخوذ من الغين (¬3) ، والنون زائدة أي: الذباب الأزرق وشبهه به لما ذكر (وقوله فجدع) تقدم ضبطه وأنه بالدال المهملة (أي شتمه) ودعا عليه بالجدع. قال الحافظ: وقيل: المراد السب، والأول أصح (والجدع القطع) أي: من الأذن أو الأنف أو الشفة (وقوله: يجد عليّ هو بكسر الجيم أي يغضب) ومصدره موجدة. 1502- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لقد كان فيما) أي: الخلق الذين (قبلكم من الأمم محدثون) صفة محذوف اسم كان، واحد الظرفين حال، والثاني خبر، ومحدثون بفتح الدال جمع محدث، واختلف في تأويله فقال الأكثرون: هو الملهم. وقالوا: المحدث الرجل الصادق الظن، وهو من ألقي في روعه شيء من قبل الملأ الأعلى فيكون كالذي حدثه غيره، وبهذا جزم أبو أحمد العسكري. وقيل: من يجري ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: مواقيت الصلاة، باب: السمر مع الأهل وفي المناقب (6/436 و 442) و (10/434) . وأخرجه مسلم في كتاب: الأشربة، باب: إكرام الضيف وفضل إيثاره، (الحديث: 177) . (¬2) أي "عنتر" ولكن اسم الشاعر "عنترة" بهاء التأنيث. ع (¬3) كذا والصواب (الغنثرة) كما في القاموس. ع.

ورواه مسلم من رواية عائشة ـــــــــــــــــــــــــــــ الصواب على لسانه من غير قصد. وقيل: مكلم بكلمة الملائكة بغير نبوة، وهذا ورد في حديث أبي سعيد مرفوعاً ولفظه "قيل: يا رسول الله كيف يحدث؟ قال: تتكلم الملائكة على لسانه". ورويناه في فوائد الجوهري وحكاه المقابسي وآخرون، ويمكن رده إلى المعنى الأول أي تكلمه في نفسه، وإن لم ير مكلماً في الحقيقة فيرجع إلى الإلهام، وفسره ابن التين بالمتفرس، ووقع في مسند الحميدي عقب حديث عائشة: المحدث الملهم بالصواب الذي يقع على فيه. وعند مسلم من رواية ابن وهب: وهم ملهمون وهي الإِصابة بغير نبوة وفي رواية الترمذي عن بعض أصحاب ابن عيينة: محدثون يعني مفهمون. وفي رواية الإِسماعيلي قال إبراهيم يعني ابن سعد رواية قوله محدث أي: يلقى في روعه. اهـ ويؤيده حديث "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه" أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر. اهـ من فتح الباري ملخصاً (فان يك في أمتي أحد) وعند بعض رواة البخاري من أحد بزيادة من قبل لم يورد القول مورد التردد فإن أمته أفضل الأمم، وإذا ثبت أنه وجد في غيرهم، فإن وجوده فيهم أولى، وإنما أورده مورد التأكيد، كقول القائل: إن كان لي صديق ففلان يريد اختصاص كمال الصداقة لا نفيها عن غيره. وقيل: بل على الترديد، وذلك لثبوت هذا المعنى في بني إسرائيل، وسبب احتياجهم حيث لا يكون حينئذ منهم نبي، فاحتمل عنده - صلى الله عليه وسلم - ألا تحتاج هذه الأمة لذلك لاستغنائها بالقرآن عن حدوث نبي، وقد وقع الأمر كذلك حتى إن المحدث منهم إذا تحقق وجوده لا يحكم بما يقع له، بل لا بد من عرض ذلك على القرآن، فإن وافقه أو السنة عمل به وإلا فلا. واقتضت الحكمة وجودهم وكونهم بعد العصر الأول زيادة في شرف هذه الأمة بوجود أمثالهم فيها، وقد تكون الحكمة في تكريمهم مضاهاة بني إسرائيل في كثرة الأنبياء فيهم فلما فات هذه الأمة كثرة الأنبياء فيهم، لكون نبيها خاتم الأنبياء، عوضوا بكثرة الملهمين (فإنه عمر) قال الطيبي: معنى الحديث لقد كان فيما قبلكم من الأمم أنبياء ملهمون، وإن يك في أمتي أحد شأنه أي الإِلهام فهو عمر، وكان جعله في انقطاع قرينه في ذلك هل نبىء أم لا؟ فلذلك أتى بلفظ إن، ويؤيده حديث "لو كان نبي بعدي لكان عمر" فلو فيه بمنزلة إن في الآخر على سبيل الفرض والتقدير. اهـ (رواه البخاري) أي: من حديث أبي هريرة (ورواه مسلم من رواية عائشة) قال الحافظ في الفتح نقلاً عن أبي مسعود صاحب الأطراف في الحديث: من طريق أبي سلمة فرواه أصحاب إبراهيم بن سعد عنه، عن أبيه عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وخالفهم ابن وهب فرواه بهذا الإِسناد فقال: عن أبي سلمة عن أبي هريرة لا عن عائشة.

وفي روايتهما قَالَ ابن وهب: "محَدَّثُونَ" أيْ مُلْهَمُونَ (¬1) . 1503- وعن جابر بنِ سُمْرَةَ رضي الله عنهما، قَالَ: شَكَا أهْلُ الكُوفَةِ سَعْداً يعني: ابنَ أَبي وقاص - رضي الله عنه -، إِلَى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال محمد بن عجلان: فكأن أبا سلمة سمعه من عائشة، ومن أبي هريرة جميعاً. قلت: وله أصل من حديث عائشة أخرجه ابن سعد من طريق ابن أبي عتيق عنها (وفي روايتهما) أي: البخاري ومسلم، يكن قضية كلام الحافظ السابق أنه عند مسلم فقط (قال ابن وهب: محدثون أي ملهمون) تقدم بسطه. قال المصنف في بستان العارفين، وفي رواية "قد كان فيمن قبلكم من بنى إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء" الحديث رواه البخاري، وكان على المصنف أن يذكر ما فيه للختنين، فمن كرامة عثمان رضي الله عنه ما ذكره الحافظ ابن سيد الناس في كتاب المقامات العلية في الكرامات الجلية، فأخرج من طريق ابن سعد عن ابن عمر قال: "بينا عثمان يخطب إذ قام إليه جهجاه الغفاري فأخذ العصا من يده فكسرها على ركبتيه، فدخلت منها شظية في ركبتيه فوقعت فيها الأكلة" قال ابن سعد: حديث عبد الله بن إدريس هذا لم أسمعه منه وهو عرض عليه. وأخرج أيضاً عن أنس بن مالك قال: " تناول النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأرض سبع حصيات فسبحن في يده، ثم ناولهن أبا بكر فسبحن في يده كما سبحن في يد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم ناولهن عمر فسبحن في يده كما سبحن في يد أبي بكر، ثم ناولهن عثمان فسبحن في يده كما سبحن في يد أبي بكر وعمر. ومن كرامات علي رضي الله عنه، أخرج الحافظ ابن سيد الناس في كتابه المذكور بسنده عن الحسن بن علي قال: قال لي علي: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح ظهري الليلة في منامي، فقلت: يا رسول الله ما لقيت من أمتك من الأود واللدد؟ قال: ادع عليهم، قلت: اللهم أبدلني بهم من هو خير لي منهم، وأبدلهم بي من هو شر مني، فخرج فضربه الرجل ". 1503- (وعن جابر بن سمرة) بفتح المهملة وضم الميم السوائي (رضي الله عنهما قال: شكا أهل الكوفة سعداً) وقوله: (يعني ابن أبي وقاص رضي الله عنه) من الراوي عنه تعيين له لتعدد المسمين بذلك (إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فعزله) إجابة لما طلبوه بالإِيماء ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: فضائل الصحابة، باب مناقب عمر ومن كتاب الأنساء (7/40 و41) . وأخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر رضي الله تعالى عليه (الحديث: 23) .

واسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّاراً، فَشَكَوا حَتَّى ذَكَرُوا أنَّهُ لا يُحْسِنُ يُصَلِّي، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا إسْحَاقَ، إنَّ هَؤُلاَءِ يَزْعَمُونَ أنَّكَ لا تُحْسِنُ تُصَلِّي، فَقَالَ: أَمَّا أنا واللهِ فَإنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ صَلاَةَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، لا أُخْرِمُ عَنْها، أُصَلِّي صَلاَتَي العِشَاءِ فَأَرْكُدُ فِي الأُولَيَيْنِ، وَأُخِفُّ في الأُخْرَيَيْنِ، قَالَ: ذَلِكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إسْحَاقَ، وأَرْسَلَ مَعَهُ رَجُلاً - أَوْ رِجَالاً - إِلَى الكُوفَةِ يَسْأَلُ عَنْهُ أهْلَ الكُوفَةِ، فَلَمْ يَدَعْ مَسْجِداً إِلاَّ سَأَلَ عَنْهُ، وَيُثْنُونَ مَعْرُوفاً، حَتَّى دَخَلَ مَسْجِداً لِبَنِي عَبْسٍ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، يُقالُ لَهُ أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ، يُكَنَّى أَبَا سَعْدَةَ، فَقَالَ: أمَا إذْ ـــــــــــــــــــــــــــــ والإشارة (واستعمل) أي: ولى عاملاً (عليهم عماراً) هو ابن ياسر وقوله (فشكوا) عطف على شكا أهل الكوفة كرره للإِطناب وليعطف عليه قوله: (حتى ذكروا) في شكواهم منه (أنه لا يحسن يصلي فأرسل إليه) أي: أبلغه قولهم كما عطف عليه عطف تفسير قوله: (فقال: يا أبا إسحاق إن هؤلاء يزعمون) عبّر به إيماءً إلى تكذيبه لهم فيما قالوا فيه باطناً ففيه إيماء إلى أن عزله ليس لتصديق ما قالوه فيه، وإنما هو ليفهم إجابة مطلوبهم (أنك لا تحسن تصلي) على تقدير أن، كما يدل عليه ذكرها فيما قبل، أوعلى تنزيل الفعل منزلة المصدر أي: لا تحسن الصلاة (فقال أما) بفتح الهمزة وتشديد الميم، حرف فيه معنى الشرط والتفصيل والتأكيد (أنا والله فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: مثلها (لا أخرم) بفتح الهمزة وبالخاء المعجمة وكسر الراء، أنقص (عنها) وحذف المفعول؛ للتعميم (أصلي صلاتي العشاء) هكذا للجرجاني من رواة البخاري، وعند غيرهم من العشاء (فأركد) أي: أقوم طويلاً (في الأوليين) بضم الهمزة، وفتح اللام والتحتية الأولى (وأخفف) وفي نسخة من البخاري: وأخف، بالإِدغام من باب أخف، وعلى كل فالهمزة مضمومة والخاء مفتوحة في رواية الأصل مكسورة في الأخرى (في الأخريين) بضم الهمزة وفتح الراء، والتحتية الأولى (قال) أي: عمر (ذلك الظن بك يا أبا إسحاق) وذلك لأنه من قدماء الصحابة وكبارهم، وأحد العشرة المبشرة بالجنة (وأرسل معه رجلاً) هو محمد بن مسلم (أو رجالاً) شك من الرواة في المرسل معه أو أحد أم فوقه (إلى الكوفة يسأل عنه أهل الكوفة) أتي بالظاهر والمقام للضمير زيادة في الإِيضاح (فلم يدع مسجداً إلا سأل عنه) أي: أهله (ويثنون معروفاً) أي: خيراً (حتى دخل مسجداً لنبي عبسى) بفتح المهملة، وسكون الموحدة، وبالسين المهملة (فقام رجل منهم يقال له أسامة) بضم الهمزة (ابن قتادة يكنى أبا سعدة) بفتح المهملة الأولى وسكون الثانية (فقال أما) بفتح الهمزة وتشديد الميم (إذ) ظرف لمقدر، أي: ما جوابنا وقت

نَشَدْتَنَا فَإنَّ سَعْداً كَانَ لا يَسِيرُ بالسَّرِيَّةِ وَلاَ يَقْسِمُ بالسَّوِيَّةِ، وَلاَ يَعْدِلُ في القَضِيَّةِ. قَالَ سَعْدٌ: أمَا وَاللهِ لأَدْعُونَّ بِثَلاَثٍ: اللَّهُمَّ إنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِباً، قَامَ رِيَاءً، وَسُمْعَةً، فَأَطِلْ عُمُرَهُ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ لِلْفِتَنِ. وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا ـــــــــــــــــــــــــــــ (نشدتنا) بفتح النون والشين المعجمة، أي: طلبت منا القول وجواب أما قوله (فإن سعداً كان لا يسير بالسرية) أي: معها وهو كناية عن وقت الحسن (¬1) ، أي: لا يخرج معها لذلك، وهي القطعة من الجيش (ولا يقسم بالسوية) أي: يؤثر بالعطاء من يشاء لغرض (ولا يعدل في القضية) أي: الحكومة (قال سعد أما) بتخفيف الميم (والله لأدعون بثلاث) أي: من الدعوات إنما دعا بها لأنه رماه بثلاث معايب فدعا عليه بعددها، وحذف المعدود لدلالة قوله أدعون عليه وبينها بقوله: (اللهم إن كان عبدك هذا كاذباً قام رياء وسمعة) أي: ليراه الناس ويسمعوه فيشهروا ذلك عنه فيكون له بذلك ذكر (فأطل عمره) بضم أوليه، وتسكين الثاني تخفيفاً وذلك ليدوم تحسره وتعبه لقوله: (وأطلق فقره) فإن أصعب الفقر ما كان حال الكبر؟ لأنه وقت الضعف والعجز عن العمل فالفقر معه أشد، وجاء في رواية زيادة: وأكثر عياله (وعرضه) بتشديد الراء (للفتن) أي: اجعله عرضة لها أوأدخله في معرضها أي: أظهره بها. ففيه جواز الدعاء على الظالم بالفتنة في دينه. قال ابن المنير: وكان في النفس من ذلك شيء، وذلك أن الدعاء بمثله مستلزم وقوع المعاصي، حتى تأملت هذا الحديث فوجدته سائغاً. والسبب فيه أن وقوع المعاصي لم يطلب من حيث كونها معاصي، لكن من حيث ما فيها من نكاية الظالم وعقوبته، كما أبيح تمني الشهادة، وندب مع أن فيه تمني قتل الكافر المسلم وذلك معصية ووهن في الدين، وذلك لأن الغرض من تمني الشهادة؛ ثوابها لأنفسها ووجدت في دعوات الأنبياء كقول موسى (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم) (¬2) . وقول نوح (ولا تزد الظالمين إلا ضلالاً) (¬3) . قال ابن المنير في الدعوات الثلاث: مناسبة للحال، أما طول عمره فليراه من سمع بأمره، فيعلم كرامة سعد. وأما طول فقره فلنقيض مطلوبه، لأن حاله يشعر بأنه طلب أمراً دنيوياً. وأما تعرضه للفتن فلكونه قام فيها ورضيها دون أهل بلده. وقال غيره: لما نفى عن سعد الفضائل الثلاث الشجاعة التي هي كمال القوة العصبية حيث قال: لا يسير والعفة التي هي كمال القوة الشهوية، حيث قال: لا يقسم. والحكمة التي هي كمال القوة العقلية حيث قال: لا يعدل، وهذه الثلاثة متعلقة ¬

_ (¬1) كذا ولعله "شدة الجبن". ع. (¬2) سورة يونس، الآية: 88. (¬3) سورة نوح، الآية: 24.

لا أسْألُكَ بَيِّنَةً بَعْدَ هَذَا، فَقَالَ سعيد: اللَّهُمَّ إنْ كَانَتْ كاذِبَةً، فَأعْمِ بَصَرَها، وَاقْتُلْهَا في أرْضِها، قَالَ: فَما ماتَتْ حَتَّى ذَهَبَ بَصَرُهَا، وَبَيْنَما هِيَ تَمْشِي في أرْضِهَا إذ وَقَعَتْ في حُفْرَةٍ فَماتَتْ. متفق عَلَيْهِ. وفي روايةٍ لِمُسْلِمٍ عن محمد بن زيد بن عبد الله بن عُمَرَ بِمَعْنَاهُ، وأنه رآها عَمْيَاءَ تَلْتَمِسُ الجُدُرَ تقولُ: أصابَتْنِي دَعْوَةُ سَعيدٍ، وأنَّها مَرَّتْ عَلَى بِئرٍ في الدَّارِ الَّتي خَاصَمَتْهُ فِيهَا، فَوَقَعَتْ فِيهَا، وكانتْ قَبْرَها (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الظلم، وفي الحديث أقوال أخر ذكرها في الفتح وغيره (فقال له مروان: لا أسألك بينة بعد هذا) أي فعلمك بذلك مع خوفك من الله ومعرفتك بالله، ومعرفتك بعذابه أقوى مانع من أخذ شيء من ذلك (فقال سعيد: اللهم إن كانت كاذبة) أتى بإن مع تحققه كذبها لاحتمال صدقها في نفس الأمر بأن دخل بعض أرضها في أرضه غفلة، أو فعله بعض الخدم من غير علم به (فأعم) بقطع الهمزة (بصرها واقتلها في أرضها) أي: اجعل موتها بسببها أو ناشئاً عنها (قال) أي عروة (فما ماتت حتى ذهب بصرها) أي: القوة المودعة في العينين. جاء في رواية ذكرها الحافظ في الفتح عند ابن حبان: أن سعيداً ترك لها ما ادعت فيه. وفي رواية لغيره فجاء سيل فأبدا عن حفيرتها فإذا حقها خارج عن حق سعيد، فجاء سعيد إلى مروان فركب معه والناس حتى نظروا إليها (وبينما هي تمشي في أرضها) لسقي النخل والقيام بأمره (إذ وقعت في حفرة فماتت) فحقق الله كذبها بوجود ما سئل معلقاً عليه (متفق عليه وفي رواية لمسلم) في الصحيح أيضاً (عن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر) قال في التقريب: هو ثقة من الثالثة أي: أواسط التابعين الحديث (بمعناه) أي: وإن اختلف بعض مبناه (وأنه رآها عمياء تلتمس الجدر) لتهتدي بها إلى مقصدها (تقول) جملة حالية من مفعول رأى أو مستأنفة (أصابتني دعوة سعيد) ففيه إجابة دعاء سعيد (وأنها مرت على بئر في الدار التي خاصمته فيها فوقعت فيها) فماتت (فكانت) أي: صارت (قبرها) أي: محله بأن دفنت فيه، وكان غور الماء منها بسببها، أو صارت سبب ولوجها قبرها، وفي الفتح في المثل يقولون إذا دعوا "كعمى الأروي". قال ابن الزبير: في روايته "كان أهل المدينة يقولون عماه الله تعالى ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق، باب: ما جاء في سبع أرضين وأخرجه في كتاب: المظالم (6/211) . وأخرجه مسلم في كتاب المساقاة باب: تحريم الظلم وغضب الأرض وغيرها (الحديث: 137) .

عَيْناً، وأمَّرَ عَلَيْهَا عاصِمَ بنَ ثَابِتٍ الأنْصَارِيَّ - رضي الله عنه -، فانْطلقوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بالهَدْأةِ؛ بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ؛ ذُكِرُوا لِحَيٍّ مِنْ هُذَيْل يُقالُ لَهُمْ: بَنُو لحيانَ، فَنَفَرُوا لَهُمْ بِقَريبٍ مِنْ مِئَةِ رَجُلٍ رَامٍ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ، فَلَمَّا أحَسَّ بِهِمْ عَاصِمٌ وأصْحَابُهُ، لَجَأُوا إِلَى مَوْضِعٍ، فَأَحاطَ بِهِمُ القَوْمُ، فَقَالُوا: انْزِلُوا فَأَعْطُوا بِأيْدِيكُمْ وَلَكُمُ العَهْدُ وَالمِيثَاقُ أنْ لا نَقْتُلَ مِنْكُمْ أحَداً. فَقَالَ عَاصِمُ بنُ ثَابِتٍ: أَيُّهَا القَوْمُ، أَمَّا أنا، فَلاَ أنْزِلُ عَلَى ذِمَّةِ كَافِرٍ: اللَّهُمَّ أَخْبِرْ عَنَّا نَبِيَّكَ - صلى الله عليه وسلم -، فَرَمُوهُمْ بِالنّبْلِ فَقَتلُوا عَاصِماً، وَنَزَلَ إلَيْهِمْ ـــــــــــــــــــــــــــــ " الآخرين كانوا أتباعاً فلم يحصل الاعتناء بتسميتهم. اهـ (وأمر) بتشديد الميم (عليهم عاصم بن ثابت) بمثلثة قبل الألف وموحدة ففوقية (الأنصاري رضي الله عنه) الأنسب عنهم (فانطلقوا حتى إذا كانوا) أي: صاروا (بالهداة) بوزن القضاة والدال مهملة، وقيل: إنه بسكون الدال وهمزة بعدها مفتوحة. وعند ابن إسحاق: الهدة بتشديد الدال بغير ألف محل (بين عسفان) بضم المهملة الأولى وسكون الثانية. سميت به لعسف السيول لها (ومكة) وهي على سبعة أميال من عسفان (وذكروا) بالبناء للمفعول (لحي) بفتح المهملة وتشديد الياء القبيلة من العرب وجمعه أحياء (من هذيل يقال لهم بنو لحيان) بكسر اللام. وقيل: بفتحها وسكون المهملة، هو ابن هذيل نفسه، وهذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر، وقيل: إن لحيان من بقايا جرهم، فدخلوا في هذيل فنسبوا إليهم (فنفروا) أي: اللحيانيون (لهم) أي: للرهط (بقريب من مائة رجل رام) بالنبل والأحجار وغيرهما مما يعتادون الرمي به في حروبهم (فاقتصوا) بتشديد الصاد المهملة أي: قصوا وتتبعوا (آثارهم) حتى وصلوا إليهم (فلما أحس) أي: شعر (بهم عاصم وأصحابه) باقي الرهط (لجئوا) قصدوا (إلى موضع) يكون ملجأ لهم من العدو لامتناعه (فأحاط بهم القوم) أي: من جميع جهات ذلك الموضع (فقالوا: انزلوا فأعطوا بأيديكم) الباء مزيدة؛ للتأكيد. وهو كناية عن الدخول في الطاعة (ولكم العهد والميثاق) عطف تفسير (ألا نقتل منكم أحداً) أي: على ترك قتل أحد منكم، والجملة حال من فاعل. أعطوا (فقال عاصم بن ثابت: أيها القوم) بحذف حرف النداء، لأن المقام مقام الإيجاز والاقتصار (أما) بفتح الهمزة وتشديد الميم (أنا فلا أنزل على ذمة كافر) أي: مهما أكن عليه من الأحوال من السلامة، أو ضدها فلا أنزل على ذمة كافر أي: عقد كافر وعهده، وفي رواية عنه: لا أقبل اليوم عهداً من مشرك، لما فيه من تعظيم الكافر في الجملة والتذلل له (اللهم أخبر عنا نبيك محمداً - صلى الله عليه وسلم -) أي: بالوحي إليه وذلك ليدعوا لهم فتعلو رتبتهم عند الله على رتبة الشهادة الحاصلة إذا قتلوا حينئذٍ (فرموهم بالنبل) بفتح النون

ثَلاَثَةُ نَفَرٍ عَلَى العَهْدِ والمِيثاقِ، مِنْهُمْ خُبَيْبٌ، وَزَيدُ بنُ الدَّثِنَةِ وَرَجُلٌ آخَرُ. فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ أطْلَقُوا أوْتَارَ قِسِيِّهِمْ، فَرَبطُوهُمْ بِهَا. قَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ: هَذَا أوَّلُ الغَدْرِ واللهِ لا أصْحَبُكُمْ إنَّ لِي بِهؤُلاءِ أُسْوَةً، يُريدُ القَتْلَى، فَجَرُّوهُ وعَالَجُوهُ، فأبى أنْ يَصْحَبَهُمْ، فَقَتَلُوهُ، وانْطَلَقُوا بِخُبَيبٍ، وزَيْدِ بنِ الدَّثِنَةِ، حَتَّى بَاعُوهُما بِمَكَّةَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ؛ فابْتَاعَ بَنُو الحارِثِ بن عامِرِ بنِ نَوْفَلِ بنِ عبدِ مَنَافٍ خُبيباً، وكان خُبَيْبٌ هُوَ قَتَلَ الحَارِثَ يَوْمَ بَدْرٍ. فَلِبثَ خُبَيْبٌ عِنْدَهُمْ أسيراً حَتَّى أجْمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ، فاسْتَعَارَ مِنْ ـــــــــــــــــــــــــــــ وسكون الموحدة، وهي السهام العربية اسم جمع لا واحد لها من لفظها، بل من معناها وهو سهم (فقتلوا عاصماً) حينئذٍ شهيداً (ونزل إليهم ثلاثة نفر) باقون من الرهط (على العهد والميثاق) الذي عاهدوهم عليه (منهم) خبر مقدم اهتماماً به (خبيب) بضم المعجمة، وفتح الموحدة الأولى وسكون التحتية، هو ابن عدي (وزيد بن الدثنة) تقدم ضبطه (ورجل آخر) بفتح الخاء. قال الحافظ في الفتح في رواية ابن إسحاق: فأما خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة وعبد الله بن طارق فاستأسروا وعرف منه تسمية الرجل الثالث (فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار) جمع وتر بفتح الواو، والفوقية كسبب وأسباب (قسيّهم) بكسر القاف والسين المهملة وتشديد التحتية والأصل على فعول، ويجمع أيضاً على أقواس وقياس، وهو القياس ْكثوب وأثواب وثياب (فربطوهم فقال الرجل الثالث) أيهم في رواية الصحيح (هذا أول الغدر والله لا أصحبكم إن لي بهؤلاء أسوة) بضم الهمزة وكسرها أي: قدوة (يريد) بالمشار إليهم بقوله هؤلاء (القتلى) بفتح فسكون جمع قتيل كجريح وجرحى (فجروه وعالجوه فأبى أن يصحبهم) قال الحافظ: هذا يقتضي أن ذلك وقع منه أول ما أسروهم، لكن في رواية ابن إسحاق فخرجوا بالنفر الثلاثة حتى إذا كان بمر الظهران، وإلا فما في الصحيح أولى (فقتلوه وانطلق) بصيغة المجهول (بخبيب وزيد بن الدثنة حتى باعوهما بمكة) جاء عند ابن إسحاق وابن سعد أن زيداً ابتاعه صفوان بن أمية فقتله بأبيه، وعند ابن سعد الذي تولى قتله بسطاس مولى صفوان (بعد وقعة بدر) لأن وقعتهم كانت أواخر سنة ثلاث، كما عند ابن إسحاق: وبدر في رمضان من السنة الثانية (فابتاع) أي: اشترى (بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف خبيباً) بين ابن إسحاق أن الذي تولى شراءه هو جحش بن أبي إهاب التميمي. حليف بني نوفل، وكان (¬1) الحارث بن عامر. وفي رواية: أنهم شروه بأمة ¬

_ (¬1) قوله (وكان الحارث) لعل بينهما سقطاً فليتأمل. ع.

بَعْضِ بَنَاتِ الحَارثِ مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا فَأعَارَتْهُ، فَدَرَجَ بُنَيٌّ لَهَا وَهِيَ غَافِلَةٌ حَتَّى أَتَاهُ، فَوَجَدتهُ مُجْلِسَهُ عَلَى فَخْذِهِ وَالموسَى بِيَدِهِ، فَفَزِعَتْ فَزْعَةً عَرَفَهَا خُبَيْبٌ. فَقَالَ: أَتَخَشَيْنَ أن أقْتُلَهُ مَا كُنْتُ لأَفْعَلَ ذَلِكَ! قالت: واللهِ مَا رَأيْتُ أسيراً خَيراً مِنْ خُبَيْبٍ، فواللهِ لَقَدْ وَجَدْتُهُ يَوماً يَأكُلُ قِطْفاً مِنْ عِنَبٍ في يَدِهِ وإنَّهُ لَمُوثَقٌ بِالحَدِيدِ وَمَا بِمَكَّةَ ـــــــــــــــــــــــــــــ سوداء، وفي رواية: باعوهما بأسيرين من هذيل كانا بمكة. قال الحافظ: ويمكن الجمع (وكان خبيب هو قتل الحارث) يعني ابن عامر المذكور (يوم بدر) قال في الفتح: كذا وقع في هذا الحديث، واعتمد البخاري فعد خبيب بن عدي فيمن شهد بدراً. وهو اعتماد متجه وتعقبه الدمياطي بعدم ذكر المغازي خبيب بن عدي فيمن شهد بدراً، وأنه قتل عامراً بأنهم ذكروا أن قاتله ببدر خبيب ابن أساف، وهو خزرجي وخبيب بن عدي أوسي. اهـ ونظر فيه الحافظ بأنه يلزم منه رد الحديث الصحيح، ولو لم يقتل خبيب بن عدي الحارث، ما كان لاعتنائه بنية شرائه معنى ولقتله المصرح به في الصحيح، لكن يحتمل أنهم قتلوه لكونه من الأنصار جرياً على عادة الجاهلية بقتل بعض القبيلة عن بعض. ويحتمل أن ابن عدي شارك ابن إساف في قتل الحارث (فلبث خبيب عندهم أسيراً) مدة الأشهر الحرم (حتى أجمعوا على قتله فاستعار من بعض بنات الحارث موسى يستحد بها) واسمها زينب بنت الحارث، وهي أخت عتبة بن الحارث، الذي قتل خبيباً وقتل امرأته كما في الأطراف بحلف، وهذه الجملة مندرجة في القصة من غير طريق الأولى، نبه عليه الحافظ قال: وموسى يجوز فيه الصرف وعدمه، ويستحد أي يحلق عانته (فأعارته) أي: الموسى، وحذف اكتفاء بدلالة ما قبله عليه (فدرج بني) بالتصغير (لها وهي غافلة) بالغين المعجمة والفاء. ذكر الزبير بن بكار أن هذا الصبي هو أبو حسين المكي المحدث، وهو من أقران الزهري (حتى أتاه فوجدته مجلسه) بصيغة الفاعل (على فخذه) بفتح فكسر، ويجوز كسرهما وكسر الثالث، وفتح الأول مع سكون الثاني (والموسى بيده) جملة حالية من مفعول وجدت (ففزعت فزعة عرفها خبيب) لظهور أثرها وبدوه (فقال: أتخشين أن أقتله ما كنت لأفعل ذلك) بكسر الكاف ذلك من مكارم أخلاقه، ومقابلة السيئة بالحسنة. والصفح عن المذنب وعدم مجازاته، والاكتفاء بقصاص الله له (قالت: والله ما رأيت) أي: أبصرت (أسيراً خيراً من خبيب) وبينت وجه ذلك بقولها على سبيل الاستئناف (فوالله لقد وجدته يوماً يأكل قطفاً) بضم القاف وسكون الطاء المهملة وبالفاء أي عنقوداً (من عنب) جاء في رواية عن سارية مولاة جحش بن أبي إهاب "قالت: لقد اطلعت عليه يوماً وإن في يده لقطفاً من عنب مثل رأس الرجلين يأكل منها" (في يده وإنه لموثق بالحديد) أي: مشدود فيه (وما بمكة من ثمرة) بالمثلثة أتى بذلك

مِنْ ثَمَرَةٍ، وَكَانَتْ تَقُولُ: إنَّهُ لَرِزْقٌ رَزَقَهُ اللهُ خُبَيْباً. فَلَمَّا خَرَجُوا بِهِ مِنَ الحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ في الحِلِّ، قَالَ لَهُمْ خُبَيْبٌ: دَعُونِي أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَتَرَكُوهُ، فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ: واللهِ لَوْلاَ أنْ تَحْسَبُوا أنَّ مَا بِي جَزَعٌ لَزِدْتُ: اللَّهُمَّ أحْصِهِمْ عَدَداً، وَاقْتُلهُمْ بِدَدَاً، وَلاَ تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَداً. وقال: فَلَسْتُ أُبَالِي حِيْنَ أُقْتَلُ مُسْلِماً ... عَلَى أيِّ جَنْبٍ كَانَ للهِ مَصْرَعِي وَذَلِكَ في ذَاتِ الإلَهِ وإنْ يَشَأْ ... يُبَارِكْ عَلَى أوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ ـــــــــــــــــــــــــــــ تمهيداً لقوله عنها (وكانت تقول: إنه لرزق رزقه الله خبيباً) فيه إثبات كرامة لخبيب وفي طي ذلك آية لإِثبات رسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإقامة الحجة على الكفار، لأنه لم يصل لذلك إلا بالإيمان به - صلى الله عليه وسلم - واتباع هديه. والذي عليه الجمهور كما تقدم أول الباب أن كل ما جاز كونه معجزة لنبي جاز كونه كرامة لولي من غير استثناء، ومن يقع على يده الخوارق متمسكاً بالكتاب والسنة متنسكاً كان ذلك كرامة له. وإلا فتارة يكون معونة، وتارة يكون استدراجاً، وتارة يكون سحراً وكهانة (فلما خرجوا من الحرم ليقتلوه في الحل) بين ابن إسحاق أنهم أخرجوه إلى التنعيم (قال لهم خبيب: دعوني أصلي ركعتين) هذه رواية جماهير البخاري بإثبات الياء، وللكشميهني بحذفها ووجهها ظاهر (فتركوه فركع ركعتين) عند موسى بن عقبة أنه صلاهما في موضع مسجد التنعيم (فقال: والله لولا أن تحسبوا أن ما بي جزع) أي: من الموت كما في البخاري (لزدت) في رواية عنه: لزدت سجدتين أخريين (اللهم أحصهم) بقطع الهمزة (عدداً) تمييز محول عن المفعول به أي: احص عددهم (واقتلهم بدداً ولا تبق) بضم الفوقية (منهم أحداً) جاء في رواية فلم يحل الحول ومنهم أحد حي غير رجل كان استلبد بالأرض حال دعاء خبيب لئلا يصيبه معهم. وفي رواية أخرى فجاء يخبر عنه، فقال خبيب: "اللهم إني لا أجد من يبلغ رسولك مني السلام فبلغه". جاء في رواية أخرى: "فجاء جبريل فأخبره فأخبر أصحابه بذلك" وعند موسى بن عقبة فزعموا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك اليوم، وهو جالس: وعليك السلام، خبيب قتلته قريش (وقال: فلست أبالي) هذه رواية الكشميهني وللأكثر: ما إن أبالي. قال الحافظ: والأول أوزن، وهذا جائز، لكنه مخروم ويكمل بزيادة الفاء، وما نافية، وإن بكسر الهمزة وسكون النون نافية أيضاً للتوكيد (حين أقتل مسلماً، على أي جنب كان لله مصرعي) أي: موتي ومراده استواء كيفيات الموت عنده حال موته مسلماً شهيداً (وذلك في ذات الإِله) استدل به على جواز إطلاق الذات

وكان خُبَيبٌ هُوَ سَنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ قُتِلَ صَبْراً الصَّلاَةَ. وأخْبَرَ (يعني: النبيّ - صلى الله عليه وسلم -) أصْحَابَهُ يَوْمَ أُصِيبُوا خَبَرَهُمْ، وَبَعَثَ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى عَاصِمِ بنِ ثَابتٍ حِيْنَ حُدِّثُوا أَنَّهُ قُتِلَ أن يُؤْتَوا بِشَيءٍ مِنْهُ يُعْرَفُ، وكَانَ قَتَلَ رَجُلاً مِنْ عُظَمائِهِمْ، فَبَعَثَ الله لِعَاصِمٍ مِثْلَ الظُّلَّةِ مِنَ الدَّبْرِ فَحَمَتْهُ مِنْ رُسُلِهِمْ، فَلَمْ يَقْدِروا أنْ يَقْطَعُوا مِنْهُ ـــــــــــــــــــــــــــــ على الله تعالى (وإن يشأ يبارك على أوصال) جمع وصل وهو العضو (شلو) بكسر المعجمة وسكون اللام الجسد وقد يطلق على العضو والمراد هنا الأول (ممزع) بالزاي ثم المهملة أي: مقطع والمعنى أعضاء جسد يقطع. وعند أبي الأسود عن عروة زيادة في هذا الشعر: لقد أجمع الأحزاب حولي وألبوا ... قبائلهم واستجمعوا كل مجمع وفيه إلى الله أشكو غربتي بعد قربتي ... وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي وساقها ابن إسحاق ثلاثة عشر بيتاً. قال ابن هشام: ومن الناس من ينكرها لخبيب. وفي البخاري: فقام إليه عقبة بن الحارث فقتله، وحذفه المصنف لعدم تعلقه بغرض الترجمة (وكان خبيب هو سن) في البخاري في رواية أول من سن (لكل مسلم قتل صبراً) قال في الصحاح: كل ذي روح يوثق حتى يقتل فقد قتل صبراً (الصلاة) ويؤخذ استحباب ذلك من إقرار المصطفى - صلى الله عليه وسلم - (وأخبر يعني - صلى الله عليه وسلم - أصحابه يوم أصيبوا خبرهم) ففيه معجزة له بإطلاعه على ما هو مغيب عنه بعيد منه، بالوحي إليه وإعلامه به (وبعث ناس من قريش إلى عاصم بن ثابت حين حدثوا) بصيغة المجهول (أنه قتل) بفتح الهمزة وبناء الفعل للمجهول، وهو ساد مسد المفعولين الثاني والثالث (أن يؤتوا بشيء منه) على تقدير اللام أو مضاف مفعول له أي: ليؤتوا أو إرادة أن يؤتوا، وهو بصيغة المجهول وكذا قوله: (يعرف وكان عاصم قتل رجلاً من عظمائهم) قال الحافظ: لعله عقبة بن أبي معيط فإن عاصماً قتله صبراً بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن انصرفوا من بدر، ووقع عند ابن إسحاق: أن عاصماً لما قتل أرادت هذيل أخذ رأسه، ليبيعوه من سلاقة بنت سعيد بن نهشل، وهي أم شافع وجداس أبي طلحة العبدري، وكان عاصم قتلها يوم أحد، فمنعته الدبر فإنه كان محفوظاً، احتمل أن تكون قريش لم تشعر بما جرى لهذيل من منع الدبر له فيتمكنون من أخذه (فبعث الله لعاصم مثل الظلة من الدبر) بضم المعجمة السحابة، والدبر بفتح الدال المهملة وسكون الموحدة الزنابير. وقيل: ذكور النحل لا واحد له من لفظه، وسيأتي اقتصار المصنف على هذا غير مقيد بالذكر (فحمته) بتخفيف الميم أي: منعته (من رسلهم) بضمتين ويسكن الثاني تخفيفاً

شَيْئاً. رواه البخاري (¬1) . قولُهُ: "الهَدْأَةُ": مَوْضِعٌ، "والظُّلَّةُ": السَّحَابُ. "والدَّبْرُ": النَّحْلُ. وَقَوْلُهُ: "اقْتُلْهُمْ بِدَداً" بِكَسْرِ الباءِ وفتحِهَا، فَمَنْ كَسَرَ قَالَ هُوَ جمع بِدَّةٍ بكسر الباء وهي النصيب ومعناه: اقْتُلْهُمْ حِصَصاً مُنْقَسِمَةً لِكُلِّ واحدٍ مِنْهُمْ نَصيبٌ، وَمَنْ فَتَحَ قَالَ معناهُ: مُتَفَرِّقِينَ في القَتْلِ واحداً بَعْدَ واحِدٍ مِنَ التَّبْدِيد. وفي الباب أحاديث كثيرةٌ صَحيحةٌ سَبَقَتْ في مَوَاضِعِها مِنْ هَذَا الكِتَابِ، مِنْهَا حديثُ الغُلامِ الَّذِي كَانَ يأتِي الرَّاهِبَ والسَّاحِرَ، ومنْها حَدِيثُ جُرَيْج، وحديثُ أصْحابِ الغَارِ الذين أطْبِقَتْ عَلَيْهِم الصَّخْرَةُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ (فلم يقدروا) بكسر الدال (أن يقطعوا منه شيئاً) وفي رواية أبي الأسود "فبعث الله عليهم الدبر تطير في وجوههم وتلدغهم فحالت بينهم وبين أن يقطعوا". وفي رواية ابن إسحاق: وكان عاصم أعطى الله عهداً ألا يمس مشرك أبداً، ولا يمسه مشركاً، وكان عمر يقول لما بلغه خبره: يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته كما حفظه في حياته. وإنما استجاب الله في حماية لحمه منهم دون منعهم من قتله، لما في القتل من الشهادة والكرامة، وفي قطع اللحم من هتك الحرمة والمثلة (رواه البخاري) في أماكن المغازي (قوله: الهداة) تقدم ضبطها (موضع) بين مكة وعسفان (والظلة السحاب والدبر النحل) تقدم (وقوله: اقتلهم بدداً بكسر الباء وفتحها) والدال مفتوحة فيها (فمن كسر قال: هو جمع بدة بكسر الباء) الموحدة وتشديد الدال (وهي النصيب) فيكون نظير قربة وقرب (ومعناه اقتلهم حصصاً منقسمة لكل منهم نصيب) منه (ومن فتح قال: معناه متفرقين في القتل واحداً بعد واحد) فيكون مصدر بددت الشيء أبده، من باب قتل إذا فرقه. قال في المصباح: والتثقيل مبالغة وتكثير. اهـ وعليه فيكون بدداً اسم مصدر (من التبديد. وفي الباب) أي: الكرامات (أحاديث كثيرة) تأكيد للكثرة المدلول عليها بصيغة جمع الكثرة، ودفعاً لتوهم أنه تجوز به عن جمع القلة، كما في قوله تعالى: (ثلاثة قروء) (¬2) (صحيحه سبقت في مواضعها من هذا الكتاب منها حديث الغلام الذي كان يأتي الراهب والساحر) تقدم في باب الصبر (ومنها حديث جريج) تقدم في باب الإِخلاص (ومنها حديث أصحاب الغار الذين أطبقت عليهم الصخرة) تقدم في باب ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: المغازي، باب: غزوة الرجيع كتاب الجهاد، باب هل يستأثر الرجل (7/240، 291، 295) (¬2) سورة البقرة، الآية: 228.

دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين تأليف العالم العلَّامة المفسِّر محمد بن علّان الصِدّيقي الشافعي الاشعري المكي المتوفي سنة 1057 هـ طبعة جديدة مصحّحة مرقمة مخرّجة الآيات والأحاديث اعتنى بها الشيخ خليل مأمون شيحا الجزء الثامن

16- كتاب الأمور المنهي عنها

16- كتَاب الأمُور المَنهي عَنْهَا 254- باب تحريم الغيبة والأمر بحفظ اللسان قَالَ الله تَعَالَى (¬1) : (وَلاَ يَغْتَبْ بَعضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) . وقال تَعَالَى (¬2) : (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً) . ـــــــــــــــــــــــــــــ كتاب الأمور بضم أوليه جمع أمر بمعنى الحال أما الأمر بمعنى الطلب فجمعه أوامر (المنهي عنها) تحريماً أو تنزيهاً بالمعنى الشامل لخلاف الأولى. (باب تحريم الغيبة) بكسر المعجمة وسكون التحتية (والأمر بحفظ اللسان) أي: عن كل منهي عنه من الكلام ومنه المباح الذي لا يعني. (قال الله تعالى: ولا يغتب بعضكم بعضاً) والغيبة ذكرك أخاك بما يكره، مع أنه فيه فإن لم يكن فيه فبهتان (أيحب أحدكم أن جمل لحم أخيه) تمثيل لما ينال من عرض أخيه على أفحش وجه (ميتاً) حال من اللحم والأخ (فكرهتموه) الفاء فصيحة أي إن عرض عليكم هذا فقد كرهتموه، فهو تقرير وتحقيق للأول (واتقوا الله إن الله تواب) بليغ في قبول التوبة (رحيم) بالغ الرحمة. وقال تعالى: (ولا تقف) أي: تتبع (ما ليس لك به علم) ما لم يتعلق به علمك من قول وفعل، فيدخل فيه شهادة الزور والكذب والبهتان (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك) أي: السمع والبصر والفؤاد، وأولئك تجيء لغير العقلاء (كان عنه مسؤولاً) من جوز تقديم مفعول ما لم يسم فاعله: لأنه في المعنى مفعول سيما ¬

_ (¬1) سورة الحجرات، الآية: 12. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 36.

وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ" متفق عَلَيْهِ (¬1) . 1512- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّه سمع النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَزِلُّ بِهَا إِلَى النَّارِ أبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ" متفق عَلَيْهِ. ومعنى: "يَتَبَيَّنُ" يُفَكِّرُ أنَّها خَيْرٌ أم لا (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأبرزه في سورة التمثيل: ليكون التأكيد فيه بليغاً. وما بين لحييه هو اللسان فلا يتكلم إلا فيما أمر به، ويسكت في غيره (وما بين رجليه) أي: فرجه فلا يأتي به حراماً (أضمن) بالرفع على الاستئناف، وبالجزم جواب الشرط المقدر: لكونه في جواب الطلب، وقصد به الجزاء (له الجنة متفق عليه) في الجامع الصغير رمز البخاري فقط، وكذا صنع في الجامع الكبير وزاد فيه رمزاً للبيهقي في الشعب، فلعل الحديث عند مسلم كما قاله المصنف لا من حديث سهل أو لا بخصوص هذا اللفظ. ّ1512- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول إن العبد) أي: الإِنسان المكلف حراً كان أو غيره (ليتكلم بالكلمة) ينبغي أن يراد بها كل من معنييها اللغويين أي: القول المفرد والجملة المفيدة، من استعمال المشترك في معنييه جملة، وهو جائز عند إمامنا الشافعي في آخرين، ثم رأيت العلقمي، أشار لذلك، بقوله أي: الكلام المشتمل على ما يفهم الخير والشر، سواء طال أو قصر، كما يقال كلمة الشهادة، ويقال للقصيدة كلمة (ما يتبين فيها) جملة مستأنفة أو حالية من ضمير يتكلم، وفي محل الصفة فالكلمة: لكون أل فيها جنسية (يزل) بكسر الزاي وتشديد اللام (بها) أي: بسببها (إلى النار) أي: إلى جهتها ويقرب منها (أبعد مما بين المشرق والمغرب) والجملة مضارعية مستأنفة، بيان لموجب تلك الكلمة، ومقتضاها كان قائلاً، قال ماذا يناله بها، فقيل يزل بها وأبعد، صفة مصدر محذوف أي: زللاً بعيد المبدأ أو المنتهى جزاء (متفق عليه) ورواه أحمد (ومعنى يتبين) مضارع من التبين (يفكر أنها) أي: الكلمة (خير أم لا) . ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: حفظ اللسان (1/264، 265) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: حفظ اللسان (11/265، 266) . وأخرجه مسلم في كتاب: الزهد والرقائق، باب: التكلم بالكلمة يهوى بها في النار (وفي نسخة، باب: حفظ اللسان، (الحديث: 49 و50) .

1513- وعنه، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ الله تَعَالَى مَا يُلْقِي لَهَا بَالاً يَرْفَعُهُ اللهُ بِهَا دَرَجاتٍ، وإنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلَمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ تَعَالَى لا يُلْقِي لَهَا بَالاً يَهْوِي بِهَا في جَهَنَّمَ". رواه البخاري (¬1) . 1514- وعن أَبي عبد الرحمان بِلالِ بن الحارِثِ المُزَنِيِّ - رضي الله عنه -: أنَّ ـــــــــــــــــــــــــــــ 1513- (وعنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى) بكسر الراء وضمها، ومن فيه: بيانية حال من الكلمة، وكذا قوله (ما يلقي لها بالاً) بالموحدة أي: لا يسمع إليها ولا يجعل قلبه نحوها (يرفعه الله بها درجات) جملة مستأنفة، بيان للموجب، كما تقدم نظيره، وفي نصبه أوجه أحدها أنه منصوب على الظرف، ومفعول الفعل محذوف، أي: يرفعه الله فيها، والثاني أنها تمييز محول عن المفعول المحذوف، والأصل يرفع الله درجاته، فحذف المضاف، ووقع الفعل على المضاف إليه المدلول عليه بالسياق، فحصل إجمال في النسبة فرفع بالإتيان به تمييزاً. والثالث أنها على نزع الخافض، أي: إلى درجات. كذا لخص من شرح الشاطبية، للشهاب الحلبي المعروف الشهير، ومن خطه نقلت، وهو ذكر ذلك في قوله تعالى: (نرفع درجات من نشاء) (¬2) (وإن العبد لا يتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بألا يهوي) بكسر الواو أي: ينزل (بها في) دركات (جهنم) وفي الجملة الأولى الوعد على التكلم بالخير، من أمر بمعروف أو نهي عن منكر وفي الثانية الوعيد على ضده (رواه البخاري) ورواه أحمد. 1514- (وعن أبي عبد الرحمن بلال) بكسر الموحدة (ابن الحارث) بن عاصم بن سعد بن قرة بن خلاوة، بفتح المعجمة ابن ثعلبة بن ثور بن هدية، بضم الهاء وإسكان الذال المعجمة ابن لاطم بن عثمان بن عمرو بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر بن نزار (المزني رضي الله عنه) قال المصنف: ووفد عثمان، قيل لهم مزنيون نسبوا إلى أمه وبلال مزني وفدا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وفد مزينة سنة خمس من الهجرة، وأقطعه - صلى الله عليه وسلم - المعادن القبلية، بفتح القاف والموحدة، وكان يحمل لواء مزينة يوم فتح مكة، ثم سكن البصرة، وتوفي بها سنة ستين، وهو ابن ثمانين سنة. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمانية أحاديث اهـ. من التهذيب للمصنف ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: حفظ اللسان (11/266، 267) . (¬2) سورة الأنعام، الآية: 83.

وإنَّ أبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللهِ القَلْبُ القَاسِي". رواه الترمذيُّ (¬1) . 1517- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ وَقَاهُ اللهُ شَرَّ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ، وَشَرَّ مَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ دَخَلَ الجَنَّةَ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (¬2) . 1518- وعن عقبة بن عامرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قُلْتُ: يَا رسولَ اللهِ مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ". رواه الترمذيُّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ وفي تنوين الخير إيماء إلى غلظها وعظمها (وإن أبعد الناس من الله تعالى) أي: من فيضه ورحمته (القلب القاسي) فإنه لقساوته لا يأتمر بخير ولا ينزجر عن شر، فيبعد عن وصف المفلحين، وينتظم في زمرة الأشقياء المبعدين (رواه الترمذي) قال في الجامع الكبير وقال الترمذي غريب. ورواه ابن شاهين في الترغيب في الذكر، ورواه البيهقي في الشعب من حديث ابن عامر. 1517- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من وقاه الله شر ما بين لحييه) أي: لسانه بأن حبسه عن الشر وأجراه في الخير (وشر ما بين رجليه) أي: فرجه حفظه عن الحرام (دخل الجنة) أي: مع الفائزين أي: إن لم يأت بكبائر ولم يتب عنها، وإلا فأمره إلى الله. وظاهر أن الكلام في المؤمنين، فالعام مراد به خاص، أو يقال هو على عمومه، ولا وقاية من شرهما لغيره (رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح) قال في الجامع الصغير ورواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه. 1518- (وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله ما النجاة) أي: ما سببها المحصل لها (قال أمسك عليك لسانك) أي: لا تجره إلا بما يكون لك لا عليك، وكان الظاهر أن يقال حفظ اللسان، فأخرجه على سبيل الأمر المقتضي للتحقيق مزيداً للتقرير. وقيل الحديث من أسلوب الحكيم، فإن السؤال عن حقيقة النجاة، والجواب بسببها: لأنه أهم (وليسعك بيتك) الأمر للبيت، وفي الحقيقة لصاحبه: أي اشتغل بما هو سبب لزومه، وهو طاعة الله تعالى والاعتزال عن الأغيار (وابك على خطيئتك) ضمن إبك معنى الندامة، ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب: الزهد، [باب: 61] ، (الحديث: 2411) . (¬2) أخرجه الترمذي في كتاب: الزهد، باب: ما جاء في حفظ اللسان، (الحديث: 2409) .

وقال: "حديث حسن" (¬1) . 1519- وعن أَبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِذَا أصْبَحَ ابْنُ آدَمَ، فَإنَّ الأعْضَاءَ كُلَّهَا تَكْفُرُ اللِّسانَ، تَقُولُ: اتَّقِ اللهَ فِينَا، فَإنَّما نَحنُ بِكَ؛ فَإنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وإنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا". رواه الترمذي. معنى: "تَكْفُرُ اللِّسَانَ": أيْ تَذِلُّ وَتَخْضَعُ (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ فعداه بعلى أي: اندم على خطيئتك باكياً (رواه الترمذي وقال حديث حسن) . 1519- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أصبح ابن آدم) أي: دخل في الصباح (فإن الأعضاء كلها) جمع عضو بضم أوله وكسره، كل لحم وافر بعظمه، قاله في القاموس. ويطلق على القطعة من الشيء والجزء منه أي: كما في المصباح، والظاهر أن هذا مراد هنا (تكفر اللسان) بينه بمَوله (تقول اتق الله فينا) فالجملة بدل مما قبلها أو بيان له (فإنما نحن بك) أي: مجازون بما يصدر عنك، والحصر إضافي. (فإن استقمت استقمنا) القوام بالفتح العدل والاعتدال، أي: إن اعتدلت اعتدلنا (وإن اعوججت اعوججنا) العوج بفتحتين، في الأجساد، خلاف الاعتدال وهو مصدر من باب تعب يقال عوج العود فهو أعوج والعوج بكسر ففتح في المعاني، يقال في الدين عوج وفي الأمر عوج. قال أبو زيد في الفرق وكل ما رأيته بعينك فهو مفتوح، وما لم تره بعينك فمكسور اهـ. من المصباح واستشكل الطيبي الجمع بين هذا الحديث، وحديث: "إن في الجسد مضغة" ثم أجاب بما حاصله أن اللسان خليفة القلب وترجمانه، وأن الإِنسان عبارة عن القلب واللسان، والمرء بأصغريه. لسان الفتى نصف ونصف فؤاده. (رواه الترمذي) وابن خزيمة والبيهقي في الشعب (معنى تكفر) بضم الفوقية وتشديد الفاء (أي تذل وتخشع) والتكفير هو انحناء قريب من الركوع، كذا في النهاية، ونقله الطيبي وسكت عليه. قال بعض، شراح الجامع الصغير: ولا مانع أن يكون التكفير هنا، كناية عن تنزيل الأعضاء اللسان، إذا أخطأ منزلة الكافر النعم، أو الخارج من الإِسلام إلى الكفر مبالغة، فهي تكفره بهذا الاعتبار وبلسان الحال، ولا ينافي هذا قوله تقول الخ وكأنه الحامل لصاحب النهاية لما جنح له، فإنه لولا توهمه المنافاة، ما اقتصر على ما ذكره. وقد علم مما قررته (¬3) بل هو أبعد عن التأويل، ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب: الزهد، باب: ما جاء في حفظ اللسان، (الحديث: 2406) . (¬2) أخرجه الترمذي في كتاب: الزهد، باب: ما جاء في حفظ اللسان، (الحديث: 2407، 2409) . (¬3) كذا، ولعل الأصل "وقد علم صحة ما قررته". ع.

1521- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟ " قالوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ، قَالَ: "ذِكْرُكَ أخَاكَ بِما يَكْرَهُ" قِيلَ: أفَرَأيْتَ إنْ كَانَ في أخِي مَا أقُولُ؟ قَالَ: "إنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ، فقد اغْتَبْتَهُ، وإنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ" رواه مسلم (¬1) . 1522- وعن أَبي بَكْرة - رضي الله عنه -: أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ في خُطْبَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى في حَجَّةِ الوَدَاعِ: "إنَّ دِماءكُمْ، وَأمْوَالَكُمْ، وأعْرَاضَكُمْ، حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ كذا في نسخة، وفي أخرى بزيادة (قبل هذا) وهو باب (¬2) . 1521- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أتدرون ما الغيبة) أي: ما حقيقتها الشرعية (قالوا الله ورسوله أعلم) ردوا العلم إليهما، عملاً بالأدب، ووقوفاً عند حد العلم (قال ذكرك) خبر محذوف دل عليه ذكره في السؤال أي: هي ذكرك (أخاك بما يكره) أي: بمكروه، أو بالذي يكرهه، وبين المعنيين تفاوت لا يخفى (قيل أفرأيت) أي: أخبرني (إن كان في أخي ما أقول) حذف الجواب أي: فهو غيبة، كما يومىء إليه تعريفها السابق، فإنه يشمل ما كان فيه وما لا (قال إن كان فيه ما تقول) الظرف خبر مقدم لكان، وما اسمها، وعائدها محذوف إن قدرت موصولاً أو موصوفاً، فإن قدرت مصدرية فالاسم، المصدر المنسبك منها مع صلتها (فقد اغتبته) لصدق الحد السابق لها على ذلك (وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) بفتح أوليه أي: افتريت عليه الكذب. وأفادت هذه الجملة، اعتبار قيد، كون المكروه الذي ذكرته قائماً به (رواه مسلم) . 1522- (وعن أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته يوم النحر بمنى) هي من خطب الحج المسنونة عند إمامنا الشافعي وأصحابه، قال ابن حجر الهيتمي وقد تركت، من منذ ثلثمائة عام اهـ. قلت وقد يسر الله إحياءها، في هذه الأزمنة، يباشرها الفقراء احتساباً لله تعالى بفضل الله تعالى عليه والإِنابة (في حجة الوداع) بفتح الواو وكسرها، كما تقدم وجههما (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم) أي: يحرم التعرض لدم مسلم أو ماله أو عرضه، بما لم يأذن به الشارع، حرمة شديدة (كحرمة يومكم هذا) أي: يوم ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الغيبة، (الحديث: 70) . (¬2) لم يذكر الباب الذي قدم فيه الشرح ولم نقف عليه. ع.

وَقُبْحِهَا. وهذا الحَديثُ مِنْ أبلَغِ الزَّواجِرِ عَنِ الغِيبَةِ (¬1) قَالَ الله تَعَالَى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (¬2) . 1524- وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَمَّا عُرِجَ بي مَرَرْتُ بِقَومٍ لَهُمْ أظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ فَقُلْتُ: مَنْ هؤُلاءِ يَا جِبرِيلُ؟ قَالَ: هؤُلاءِ الَّذِينَ يَأكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ في أعْرَاضِهِمْ! " ـــــــــــــــــــــــــــــ النون، والفوقية مصدر نتن من باب تعب (وقبحها) وهذا على الرواية المذكورة في الحديث. قال العاقولي: وفي المصابيح لو مزج بها البحر لمزجته. وكذا هو في نسخ أبي داود، وكان حق اللفظ لو مزجت بالبحر لكن المزج يستدعي الامتزاج، فكل من الممتزجين يمتزج بالآخر، ومثله فاختلط به نبات الأرض، كان من حق اللفظ فاختلط بنبات الأرض. ووجه مجيئه فيما قال صاحب الكشاف: أن كل مختلطين موصوف كل واحد منهما، بصفة صاحبه على أن هذا التركيب، أبلغ: لأنه حينئذ من باب عرض الناقة على الحوض اهـ. وفي كون القلب مطلقاً أبلغ نظر: الذي رجحه الخطيب، أنه إن تضمن سلاسة كان مقبولاً، وإلا فيرد فضلاً عن كونه أبلغ (وهذا الحديث من أبلغ الزواجر عن الغيبة) والمنع منها لشدة قبحها، فإذا كانت هذه الكلمة بهذه المثابة، في مزج البحر، الذي هو من أعظم المخلوقات، فما بالك بغيبة أقوى منها. (قال الله تعالى) في حق نبيه - صلى الله عليه وسلم - (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (¬3) . 1524- (وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لما عرج) بالبناء للمفعول، نائب فاعله قوله (بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس) بضم النون (يخمشون) بسكون المعجمة وكسر الميم (بها وجوههم وصدورهم) أي: يجرحونها، والجملة الفعلية محتملة للحالية، والوصفية، والاستناف. (فقلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس) ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في الغيبة، (الحديث: 4875) . وأخرجه الترمذي في كتاب: صفة القيامة، [باب: 51] ، (الحديث: 2502 و 2503) . (¬2) سورة النجم، الآيتان: 3، 4. (¬3) سورة النجم، الآيتان: 3، 4.

255- باب: في تحريم سماع الغيبة وأمر من سمع غيبة محرمة بردها والإنكار علي قائلها، فإن عجز أو لم يقبل منه فارق ذلك المجلس إن أمكنه

رواه أَبُو داود (¬1) . 1525- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "كُلُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَعِرْضُهُ وَمَالُهُ" رواه مسلم (¬2) . 255- باب: في تحريم سماع الغيبة وأمر من سمع غيبةً محرمةً بردها والإِنكار علي قائلها، فإن عجز أو لم يقبل منه فارق ذلك المجلس إن أمكنه ـــــــــــــــــــــــــــــ باغتيابهم فيه استعارة تصريحية تبعية، شبهت الغيبة بأكل اللحم بجامع التلذذ بكل، فاستعير أكل اللحم للغيبة، ثم سرت منه للفعل، وعطف عليه على وجه التفسير قوله: (ويقعون في أعراضهم) وفي هذه استعارة مكنية، شبهت أعراض الناس المعبر عنها، على وجه الاستعارة باللحوم بشفا جرف هار. فالتشبيه المضمر في النفس، استعارة مكنية، وإثبات الوقوع استعارة تحييلية "فائدة" روى الإمام أحمد أنه قيل يا رسول الله إن فلانة وفلانة صائمتان وقد بلغتا الجهد، فقال أدعهما فقال لإِحداهما قيئي، فقاءت لحماً ودماً غبيطاً وقيحاً، والأخرى مثل ذلك، ثم قال - صلى الله عليه وسلم - صامتاً عما أحل الله، وأفطرتا على ما حرم الله عليهما، أتت إحداهما الأخرى، فلم يزالا يأكلان لحوم الناس، حتى امتلأت أجوافهما قيحاً. وهذا الحديث شاهد لإجراء صدر الحديث على ظاهره وحقيقته (رواه أبو داود) . 1525- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كل المسلم على المسلم حرام) أي: محرم (دمه وعرضه وماله) بالجر بدل من المسلم المضاف، بدل اشتمال. والعرض بالكسر قال في المصباح: النفس والحسب اهـ وظاهر، أن المراد هنا الثاني، فتقدم الأول في قوله دمه. (رواه مسلم) . باب تحريم سماع الغيبة ومثلها سائر المحرمات القولية، من نميمة وقذف وكلام كذب (وأمر من سمع غيبة محرمة بردها) أي: بالإِبطال (والإِنكار على قائلها) ليرتدع عنه، وهذا لمن قدر عليه (فإن عجز عنه) لضعف مثلاً (أو) أنكر ولكن (لم يقبل منه) لقوة العناد وداعية الفساد (فارق ذلك المجلس) أي: المشتمل على ما ذكر (إن أمكنه) بأن أمن نفساً ومالاً محترمين، وسائر ما ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في الغيبة، (الحديث: 4878) . (¬2) أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله، (الحديث: 32) .

قال الله تعالى (¬1) : (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) . وَقَالَ تَعَالَى (¬2) : (والَّذينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) . وَقَالَ تَعَالَى (¬3) : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) . وَقَالَ تَعَالَى (¬4) : (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ في آيَاتِنا فَأعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا في حَدِيثٍ غَيْرِهِ وإمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَومِ الظَّالِمِينَ) . 1526- وعن أَبي الدرداء - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أخيهِ، رَدَّ اللهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَومَ القيَامَةِ". رواه الترمذي، وقال: ـــــــــــــــــــــــــــــ يعتبر الخوف عليه شرعاً. (قال الله تعالى: وإذا سمعوا اللغو) أي: القبيح من القول (أعرضوا عنه) تكرماً وتنزهاً. (وقال تعالى: والذين هم عن اللغو) أي: كل ما لا يعنيهم من قول وفعل (معرضون) . (وقال تعالى: إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً) تقدم ما يتعلق بها في الباب قبله (وقال تعالى: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا) أي: بالطعن والاستهزاء (فأعرض عنهم) بترك مجالستهم (حتى يخوضوا في حديث غيره) الضمير للآيات باعتبار القرآن (وإما ينسينك الشيطان) النهي عن مجالستهم لوسواسه (فلا تقعد بعد الذكرى) أي: بعد أن تذكر (مع القوم الظالمين) أي: منهم فإنهم ظلمة، بوضع التكذيب والاستهزاء موضع التصديق والتعظيم. 1526- (وعن أبي الدرداء رضي الله عنه: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من رد عن عرض أخيه) أي: في الإيمان وهو المسلم، أي: بأن يمنع من يريد اغتياب المؤمن عنها، إما قبل الوقوع بالزجر والردع عنها، وإما بعده لرد ما قاله عليه. وإن كان ذلك الإِنسان بخلافه كما يأتي فيما بعد (رد الله عن وجهه النار يوم القيامة) وذلك: لأنه رد مريد الغيبة عن عذابها لو فعلها، فجوزي بردها عنه في الآخرة ورد عن المغتاب ما يلقاه مما رمى به ممن اغتابه، فردها الله ¬

_ (¬1) سورة القصص، الآية: 55. (¬2) سورة المؤمنون، الآية: 3. (¬3) سورة الإِسراء، الآية: 36. (¬4) سورة الأنعام، الآية: 68.

حَدِيث حَسَنٌ (¬1) . 1527- وعن عِتبَانَ بنِ مَالكٍ - رضي الله عنه -، في حديثه الطويل المشهور الَّذِي تقدَّمَ في بابِ الرَّجاء قَالَ: قام النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي فَقَالَ: "أيْنَ مالِكُ بنُ الدُّخْشُمِ؟ " فَقَالَ رَجُلٌ: ذَلِكَ مُنَافِقٌ لا يُحِبُّ اللهَ ولا رَسُولهُ، فَقَالَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تَقُلْ ذَلِكَ ألاَ تَراهُ قَدْ قَالَ: لا إلهَ إِلاَّ اللهُ يُريدُ بِذَلكَ وَجْهَ اللهِ! وإنَّ الله قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ ـــــــــــــــــــــــــــــ عنه (رواه الترمذي وقال حديث حسن) ورواه البيهقي في السنن من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أيضاً بلفظ من رد عن عرض أخيه، كان له حجاباً من النار. وفي الجامع الكبير للسيوطي بعد إيراده باللفظ الذي أورده المصنف رواه أحمد وابن أبي الدنيا في ذم الغيبة. وباللفظ الثاني رواه عبد بن حميد بن زنجويه والروياني والخرائطي في مكارم الأخلاق والطبراني وابن النجار في عمل يوم وليلة، ورواه الطبراني والخرائطي من حديث أبي الدرداء بلفظ: "من رد عن عرض أخيه كان له حجاباً من النار" وفي رواية: "كان حقاً على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة" ورواه ابن أبي الدنيا في ذم الغيبة من حديث أم الدرداء بلفظ: "من رد عن عرض أخيه كان حقاً على الله أن يرد عن عرضه يوم القيامة". ورواه ابن أبي الدنيا، من حديث أسماء بنت يزيد بلفظ: "من رد عن عرض أخيه بالغيبة، كان حقاً على الله أن يعتقه من النار" اهـ. 1527- (وعن عتبان بن مالك رضي الله عنه في حديثه الطويل المشهور) أي: بين الناس، وليس مراده المشهور اصطلاحاً ثلاثة عن ثلاثة إلى منتهاه (الذي تقدم في باب الرجاء) بجملته (قال قام النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي فقال) أي: للحاضرين حينئذ (أين مالك بن الدخشم فقال رجل ذلك) أتي به إيماء إلى تحقيره وإبعاده عن ذلك المجلس السامي، كما أخبر عنه بقوله (رجل) توطئة لقوله (منافق) وقوله: (لا يحب الله ولا رسوله) صفة بعد صفة، أو حال، أو استئناف (فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تقل ذلك) نهي تحريم. وجاء باسم الاشارة المذكور إيماء إلى فخامة ما أتي به وعظمه في الإِثم (ألا تراه) بفتح الفوقية أي: تبصره حال كونه (قد قال لا إله إلا الله يريد بذلك وجه) أي: ذات (الله) جملة حالية من فاعل، قال ولعل القائل ما تقدم في مالك المخاطب بذلك كان من أكمل الصحابة أرباب القلوب، وصدر منه ما صدر من فلتات اللسان، فإن إرادة وجه الله بالشهادة، لا يطلع عليها إلا من أطلعه الله على بعض المغيبات، وكشف له عما في القلوب، (وإن الله) بكسر الهمزة والواو للاستئناف (قد حرم على النار) ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في الذب عن عرض المسلم، (الحديث: 1931) .

مَنْ قَالَ: لا إلهَ إِلاَّ اللهُ يَبْتَغي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ". متفق عَلَيْهِ. "وَعِتْبان" بكسر العين عَلَى المشهور وحُكِيَ ضَمُّها وبعدها تاءٌ مثناة مِن فوق ثُمَّ باءٌ موحدة. و "الدُّخْشُم" بضم الدال وإسكان الخاء وضم الشين المعجمتين (¬1) . 1528- وعن كعب بن مالك - رضي الله عنه - في حديثه الطويل في قصةِ تَوْبَتِهِ وَقَدْ سبق في باب التَّوبةِ. قَالَ: قَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ جالِسٌ في القَومِ بِتَبُوكَ: "مَا فَعَلَ كَعبُ بن مالكٍ؟ " فَقَالَ رَجلٌ مِنْ بَنِي سَلمَةَ: يَا رسولَ الله، حَبَسَهُ بُرْدَاهُ والنَّظَرُ في عِطْفَيْهِ. فَقَالَ لَهُ مُعاذُ بنُ جبلٍ - رضي الله عنه -: بِئْسَ مَا قُلْتَ، والله يَا رسولَ الله مَا علمنا عَلَيْهِ إِلاَّ ـــــــــــــــــــــــــــــ أي: المعدة لعذاب الكفار أو على سبيل الخلود المؤبد، فلا ينافي ما ثبت من تعذيب بعض عصاة المؤمنين بها (من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله) فيه تنبيه على أن العمل الصالح، لا ينفع منه إلا ما أريد به وجه الله تعالى، وأداء عبوديته، والتقرب به إليه (متفق عليه. وعتبان بكسر العين) أي: المهملة (على المشهور) ومقابله ما حكاه بقوله (وحكي ضمها وبعدها تاء مثناة من فوق) بالضم لقطعه عن الإِضافة لفظاً، والتاء ساكنة (ثم باء موحدة والدخشم بضم الدال) أي: المهملة واستغنى عنه المصنف، بوصف ما بعده بالإِعجام في قوله: (وإسكان الخاء وضم الشين المعجمتين) . 1528- (وعن كعب بن مالك رضي الله عنه في حديثه الطويل في قصة توبته) عن تخلفه في غزوة تبوك (وقد سبق) أي: بجملتّه (في باب التوبة قال) أي: كعب (قال - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس في القوم بتبوك) يجوز صرفه ومنعه لما تقدم فيهما (ما فعل كعب بن مالك فقال رجل من بني سلمة) بفتح فكسر (يا رسول الله حبسه برداه) بضم الموحدة (والنظر في عطفيه) بكسر المهملة الأولى (فقال له) أي: لذلك المغتاب (معاذ بن جبل) رداً عن كعب (بئس ما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً) جواب القسم، وجملة النداء، معترضة للاهتمام والاعتناء (فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: مقراً لإِنكار معاذ على من فعل غيبة، أو تلبس بها، ¬

_ (¬1) انظر الحديث رقم (417) . أخرجه البخاري في كتاب: الصلاة، باب: المساجد في البيوت (3/49، 50) . وأخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر، (الحديث: 263) .

عَلَى تَغْيِيرِ المُنْكَرِ، وَرَدِّ العَاصِي إِلَى الصَّوابِ، فيقولُ لِمَنْ يَرْجُو قُدْرَتهُ عَلَى إزالَةِ المُنْكَرِ: فُلانٌ يَعْمَلُ كَذا، فازْجُرْهُ عَنْهُ ونحو ذَلِكَ ويكونُ مَقْصُودُهُ التَّوَصُّلُ إِلَى إزالَةِ المُنْكَرِ، فَإنْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ كَانَ حَرَاماً. الثَّالِثُ: الاسْتِفْتَاءُ، فيقُولُ لِلمُفْتِي: ظَلَمَنِي أَبي أَوْ أخي، أَوْ زوجي، أَوْ فُلانٌ بكَذَا فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ؟ وَمَا طَريقي في الخلاصِ مِنْهُ، وتَحْصيلِ حَقِّي، وَدَفْعِ الظُّلْمِ؟ وَنَحْو ذَلِكَ، فهذا جَائِزٌ لِلْحَاجَةِ، ولكِنَّ الأحْوطَ والأفضَلَ أنْ يقول: مَا تقولُ في رَجُلٍ أَوْ شَخْصٍ، أَوْ زَوْجٍ، كَانَ مِنْ أمْرِهِ كذا؟ فَإنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ الغَرَضُ مِنْ غَيرِ تَعْيينٍ، وَمَعَ ذَلِكَ، فالتَّعْيينُ جَائِزٌ كَمَا ـــــــــــــــــــــــــــــ بالمهملة والنون (على تغيير المنكر ورد العاصي) بالمهملتين (إلى الصواب) شرعاً وهو إزالة المنكر في الأول، والطاعات في الثاني (فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر) من حاكم، أو قادر على ذلك الفاعل للمنكر، ومن نحو الأب، ولا يقول ذلك لمن لا يرجو قدرته على إزالتها، إذ لا فائدة فيه إلا إن كان متجاهراً، وقصد بإشاعة ذلك عنه زجره: ليرتدع وينزجر (فلان يعمل كذا) أي: المنكر الذي يراد إزالته (فازجره عنه ونحو ذلك) من العبارات المؤدية إلى زجره (ويكون مقصوده) أي: من ذلك الكلام الممنوع، لولا السبب المذكور (التوصل إلى إزالة المنكر فإن لم يقصد ذلك) سواء قصد شفاء نفسه منه: لإِشاعة َقبيح فعله: لكونه عدوه، أو لم يقصد شيئا (كان حراماً) : لما تقدم من تقرير ما أبيح لحاجة يقدر بقدرها. (الثالث الاستفتاء) أي: طلب الفتيا، أي: ذكر حكم الحادثة التي يكره فاعلها ذكرها عنه (فيقول للمفتي ظلمني أبي أو أخي أو زوجي أو فلان بكذا) فهذه غيبة جوزت للاستفتاء المذكور بقوله (فهل له ذلك وما طريقي في الخلاص منه، وتحصيل حقي ودفع الظلم ونحو ذلك فهذا جائز للحاجة) أي: إلى الاستفتاء (ولكن الأحوط) قال في المصباح: احتاط للشيء افتعال، وهو طلب الاحظ والأخذ بأوثق الوجوه. وبعضهم يجعل الاحتياط من الياء، وحاط الحمار عانته، والأمم الحيط حوطاً، في باب قال إذا ضمها وجمعها، ومنه قولهم إفعل الأحوط، والمعنى إفعل ما هو أجمع لأصول الأحكام، وأبعد عن شوائب التأويل، وليس مأخوذاً من الاحتياط: لأن أفعل التفضيل لا ينى من خماسي (والأفضل) أي: الأكثر ثواباً (أن يقول) أي: المستفتى (ما تقول) بالفوقية (في رجل أو شخص أو زوج كان من أمره كذا فإنه يحصل به الغرض) أي: بيان حكم الحادثة (من غير تعيين) : لأن الأحكام لا تتوقف عليه (ومع ذلك) أي: الحصول (فالتعيين جائز كما سنذكره في حديث

سَنَذْكُرُهُ في حَدِيثِ هِنْدٍ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. الرَّابعُ: تَحْذِيرُ المُسْلِمينَ مِنَ الشَّرِّ وَنَصِيحَتُهُمْ، وذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: مِنْهَا جَرْحُ المَجْرُوحينَ مِنَ الرُّواةِ والشُّهُودِ وذلكَ جَائِزٌ بإجْمَاعِ المُسْلِمينَ، بَلْ وَاجِبٌ للْحَاجَةِ. ومنها: المُشَاوَرَةُ في مُصاهَرَةِ إنْسانٍ أو مُشاركتِهِ، أَوْ إيداعِهِ، أَوْ مُعامَلَتِهِ، أَوْ غيرِ ذَلِكَ، أَوْ مُجَاوَرَتِهِ، ويجبُ عَلَى المُشَاوَرِ أنْ لا يُخْفِيَ حَالَهُ، بَلْ يَذْكُرُ المَسَاوِئَ الَّتي فِيهِ بِنِيَّةِ النَّصيحَةِ. ومنها: إِذَا رأى مُتَفَقِّهاً يَتَرَدَّدُ إِلَى مُبْتَدِعٍ، أَوْ فَاسِقٍ يَأَخُذُ عَنْهُ العِلْمَ، وخَافَ أنْ يَتَضَرَّرَ المُتَفَقِّهُ بِذَلِكَ، فَعَلَيْهِ نَصِيحَتُهُ بِبَيانِ حَالِهِ، بِشَرْطِ أنْ يَقْصِدَ النَّصِيحَةَ، وَهَذا مِمَّا يُغلَطُ فِيهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ هند إن شاء الله تعالى) وتعييبها لأبي سفيان وإقراره - صلى الله عليه وسلم - لها وعدم إنكاره (الرابع تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم وذلك) أي: المذكور (من وجوه منها جرح المجروحين من الرواة) للحديث (والشهود) على القضايا (وذلك جائز بإجماع المسلمين) : لما فيه من المصلحة والمنفعة (بل واجب) : لما في الأول من صون الشريعة، والذب عنها، وفي الثاني من حفظ الحقوق، ولذا قال المصنف: (للحاجة ومنها المشاورة في مصاهرة إنسان) أي: تزويجه موليته (أو مشاركته) في المعاملة (أو إيداعه أو معاملته) بمبايعة أو غيرها (أو غير ذلك) من أمور الأموال كالارتهان أو المساقاة (أو مجاورته) أي: السكنى بجواره (ويجب على المشاور) بصيغة المفعول (ألا يخفى حاله) أي: حال المسئول عنه، بل ذكر أصحابنا وجوب ذكر ذلك، لأحد هذه الأسباب، وإن لم يسأل عنه بذلاً للنصيحة (بل) إن لم يحصل المقصود، بنحو تركه أو لا يصلح لذلك (يذكر المساوي) التي يندفع بها، فإن لم يندفع إلا بالجميع ذكر المساوي (التي فيه بنية النصيحة) لا بقصد إيذائه وتنقيصه. قال في المصباح المساءة نقيض المسرة، وأصلها مسواة على مفعلة بفتح الميم والعين. لذا ترد الواو في الجمع فيقال المساوي، لكن استعمل الجمع مخففاً، وبدت مساويه، أي: نقائصه ومعايبه (ومنها إذا رأى متفقهاً) بتشديد القاف أي: أخذ الفقه بالتدريج (يتردد إلى مبتدع أو فاسق) يخفي ذلك (يأخذ عنه العلم وخاف أن يتضرر المتفقه بذلك) أي: بأن يزيغ عن اعتقاد الحق بتزيين الأول: أو يقع في الفسوق بتسويل الثاني، وكل قرين بالمقارن يقتدي (فعليه نصيحته ببيان حاله بشرط أن يقصد النصيحة) لإِشفاء نفسه من المقول فيه: لكونه عدواً مثلاً، كما قال المصنف (وهذا مما) أي: من الأمر الذي (يغلط) بالبناء للمفعول (فيه

وَقَدْ يَحمِلُ المُتَكَلِّمَ بِذلِكَ الحَسَدُ، وَيُلَبِّسُ الشَّيطانُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، ويُخَيْلُ إِلَيْهِ أنَّهُ نَصِيحَةٌ فَليُتَفَطَّنْ لِذلِكَ. وَمِنها: أنْ يكونَ لَهُ وِلايَةٌ لا يقومُ بِهَا عَلَى وَجْهِها: إمَّا بِأنْ لا يكونَ صَالِحاً لَهَا، وإما بِأنْ يكونَ فَاسِقاً، أَوْ مُغَفَّلاً، وَنَحوَ ذَلِكَ فَيَجِبُ ذِكْرُ ذَلِكَ لِمَنْ لَهُ عَلَيْهِ ولايةٌ عامَّةٌ لِيُزيلَهُ، وَيُوَلِّيَ مَنْ يُصْلحُ، أَوْ يَعْلَمَ ذَلِكَ مِنْهُ لِيُعَامِلَهُ بِمُقْتَضَى حالِهِ، وَلاَ يَغْتَرَّ بِهِ، وأنْ يَسْعَى في أنْ يَحُثَّهُ عَلَى الاسْتِقَامَةِ أَوْ يَسْتَبْدِلَ بِهِ. الخامِسُ: أنْ يَكُونَ مُجَاهِراً بِفِسْقِهِ أَوْ بِدْعَتِهِ كالمُجَاهِرِ بِشُرْبِ الخَمْرِ، ومُصَادَرَةِ النَّاسِ، وأَخْذِ المَكْسِ، وجِبَايَةِ الأمْوَالِ ظُلْماً، وَتَوَلِّي الأمُورِ الباطِلَةِ، فَيَجُوزُ ذِكْرُهُ بِمَا يُجَاهِرُ بِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ ويحمل) أي: يبعث المتكلم (بذلك) أي القدح فيه اعتقاداً أو عملاً (الحسد) أي: تمني زوال نعمة ذلك المتكلم فيه (يُلبس) بتشديد الموحدة أي: يخلط (الشيطان عليه ذلك) فيوهمه (ويخيل إليه أنه نصيحة) : ليتأتى بها وفي نفس الأمر، إنما الباعث الحسد، والداعي البغض (فليتفطن لذلك) : لئلا يقع في الغيبة المحرمة بإيهامه أنها من الجائزة، ومن حذر سلم، ومن اغتر ندم (ومنها أن يكون له ولاية) بكسر الواو (لا يقوم بها على وجهها) وفصل القيام المنفي بقوله (إما بأن لا يكون صالحاً لها) أي: غير متأهل لها، فتكون ولايته باطلة (وأما بأن) يكون صالحاً لها لكن (يكون فاسقاً) لا يقف عند حد ولايته، ويجاوز ذلك (أو مغفلاً) بتشديد الفاء بصيغة المفعول من الغفلة، أي: ليست له فطنة، فقد تفوته مقاصد تلك الولاية، التي لا يقوم بها على وجهها، ونفس المخلّ بالقيام بولايته (فيجب ذكر ذلك لمن له عليه ولاية عامة ليزيله ويولي من يصلح) حال كونه غير صالح لها (أو) لا ليعزله في الثانية، ولكن (يعلم ذلك منه ليعامله بمقتضى حاله) وينزله منزلته، فقد أمر - صلى الله عليه وسلم - بإنزال الناس منازلهم (ولا يغتر به) ولئلا يغتر المولى. له بظاهر حاله، فيظن صلاحه وفطنته لأعمال ولايته (وأن يسعى) أي: يجتهد وهو عطف على مدخول لام الجر في قوله ليزيله (في أن يحثه) بضم المهملة وتشديد المثلثة أي: يحرضه (على الاستقامة) المطلوبة في تلك الولاية (أو يستبدل به) من يصلح لها، وللقيام بها (الخامس أن يكون مجاهراً بفسقه أو بدعته) أي: مظهراً لذلك (كالمجاهر بشرب الخمر ومصادرة الناس) قال في القاموس صادره على كذا: أخذه به (وأخذ المكس) في القاموس مكس في البيع يمكس، إذا جبى مالاً والمكس النقص أو الظلم، ودراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في الأسواق في الجاهلية، أو درهم

وَيَحْرُمُ ذِكْرُهُ بِغَيْرِهِ مِنَ العُيُوبِ، إِلاَّ أنْ يكونَ لِجَوازِهِ سَبَبٌ آخَرُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ. السَّادِسُ: التعرِيفُ، فإذا كَانَ الإنْسانُ مَعْرُوفاً بِلَقَبٍ، كالأعْمَشِ، والأعرَجِ، والأَصَمِّ، والأعْمى، والأحْوَلِ، وغَيْرِهِمْ جاز تَعْرِيفُهُمْ بذلِكَ، وَيَحْرُمُ إطْلاقُهُ عَلَى جِهَةِ التَّنْقِيصِ، ولو أمكَنَ تَعْريفُهُ بِغَيرِ ذَلِكَ كَانَ أوْلَى، فهذه ستَّةُ أسبابٍ ذَكَرَهَا العُلَمَاءُ وأكثَرُها مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَدَلائِلُهَا مِنَ الأحادِيثِ ـــــــــــــــــــــــــــــ كان يأخذه المصدق بعد فراغه من الصدقة. وفي المصباح مكس في البيع مكساً من باب ضرب، نقص الثمن والمكس الجباية، وهو مصدر من باب ضرب أيضاً، وفاعله مكاس ثم سمي المأخوذ مكساً، تسمية بالمصدر وقد غلب استعمال المكس، فيما يأخذه أعوان السلطان ظلماً، عند البيع والشراء قال الشاعر: وفي كل أسواق العراق أتاوة ... وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم (وجباية) بكسر الجيم وبالموحدة والتحتية أي: جمع (الأموال ظلماً) هو كالتفسير للمكس، على أحد الأقوال فيه، أو عطف عام على خاص، وظلماً حال أو مفعول له، وتولي الأمور الباطلة من الوظائف المبتدعة الحادثة (فيجوز ذكره بما يجاهر به) ولا غيبة بذلك (ويحرم ذكره بغيره من العيوب) التي يجاهر بها: لأن ما جاز لسبب يقدر بقدره (إلا أن يكون لجوازه سبب آخر مما ذكرناه. السادس التعريف إذا كان الإِنسان معروفاً بسبب كالأعمش) وممن لقب به: سليمان بن مهران المحدث (والأعرج) بالمهملة وبالجيم قال الحافظ في الألقاب: لقب به جماعة أشهرهم: عبد الرحمن بن هرمز، وشيخ أبي الزناد تابعي (والأصم) قال الحافظ لقب به جماعة: منهم مالك بن حبان الكلبي، ومطرف صاحب مالك بن أنس الفقيه (والأعمى) لقب ولم يذكر الحافظ أحداً ممن لقب به (والأحول بالمهملة لقب به جماعة) عاصم بن سليمان التابعي (وغيرهم) من أولي الألقاب التي يكره ظاهرها (جاز تعريفهم بذلك) اللقب المعروفين به، وإن كانوا يكرهونه لحاجة التعريف (ويحرم إطلاقه على جهة التنقيص وإذا أمكن تعريفه) أي: صاحب اللقب (بغير ذلك) اللقب المكروه (كان أولى) : لحصول المقصود، مع السلامة من الغيبة، وإنما جاز مع ْحصوله بذلك: لأن داعيهَ التعريف في الجملة، مصلحة يفتقر لها بذلك، بشرط أن يقصده بإطلاقها (فهذه ستة أسباب ذكرها العلماء وأكثرها مجمع عليه) وقد جمعها الشيخ كمال

الصَّحيحَةِ مشهورَةٌ. فمن ذَلِكَ: 1529- عن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها: أنَّ رجلاً اسْتَأذَنَ عَلَى النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: "ائْذَنُوا لَهُ، بِئسَ أخُو العَشِيرَةِ؟ ". متفق عَلَيْهِ. احتَجَّ بِهِ البخاري في جوازِ غيبَة أهلِ الفسادِ وأهلِ الرِّيبِ (¬1) . 1530- وعنها، قالت: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا أظُنُّ فُلاناً وفُلاناً يَعْرِفانِ مِنْ دِينِنَا شَيْئاً". رواه البخاري. قَالَ: قَالَ اللَّيْثُ بن سعدٍ أحَدُ رُواة هَذَا ـــــــــــــــــــــــــــــ الدين بن أبي شرف في قوله: القدح ليس بغيبة في ستة ... متظلم ومعرف ومحذر ومجاهر بالفسق ثمت سائل ... ومن استعان على إزالة منكر ونظمتها في قولي يباح اغتياب للفتى إن تجاهرا ... بفسقٍ وللتعريف أو للتظلم كذاك لتحذير ومن جاء سائلا ... كذا من أتى يبغي زوال المحرم (ودلائلها من الأحاديث الصحيحة مشهورة) عند الفقهاء (فمن ذلك) . 1529- (عن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً) هو عيينة بن حصن وقيل مخرمة بن نوفل (استأذن على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال إئذنوا له بئس أخو العشيرة) أي: القبيلة أي: بئس هو منهم (متفق عليه احتج به) الإِمام المجتهد (البخاري في) أي: على (جواز غيبة أهل الفساد وأهل الريب) تحذيراً منهم، ومن الاغترار بظواهرهم، والريب بكسر الراء وفتح التحتية ثم موحدة جمع ريبة. 1530- (وعنها قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أظن فلاناً وفلاناً يعرفان من ديننا شيئاً) نفي عنهم المعرفة اللازم نفيها، لنقي العمل فكأنه قال ليسوا على شيء من الإِسلام حقيقة (رواه البخاري قال) أي: البخاري (قال الليث بن سعد) عالم مصر عصري الإِمام مالك المجتهد ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: ما يجوز من اغتياب أهل الفساد (10/393) . وأخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب: مداراة من يتقي فحشه، (الحديث: 73) .

الحديثِ: هذانِ الرجلانِ كانا من المنافِقِينَ (¬1) . 1531- وعن فاطمة بنتِ قيسٍ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: أتيت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقلتُ: إنَّ أَبَا الجَهْم وَمُعَاوِيَةَ خَطَبَانِي؟ فَقَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمَّا مُعَاوِيَةُ، فَصُعْلُوكٌ لاَ مَالَ لَهُ، وأمَّا أَبُو الجَهْمِ، فَلاَ يَضَعُ العَصَا عَنْ عَاتِقِهِ" متفق عَلَيْهِ. وفي رواية لمسلم: "وَأمَّا أَبُو الجَهْمِ فَضَرَّابٌ لِلنِّساءِ" وَهُوَ تفسير لرواية: "لا يَضَعُ العَصَا عَنْ عَاتِقِهِ" وقيل: معناه: كثيرُ الأسفارِ (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ (أحد رواة هذا الحديث هذان الرجلان) المكنى عنهما بفلان وفلان (كانا من المنافقين) فقال - صلى الله عليه وسلم - مبيناً لما أخفياه من النفاق، حذر أن يلتبس ظاهر حالهما، على من يجهل أمرهما. 1531- (وعن فاطمة بنت قيس) بن خالد الأكبر بن وهب بن ثعلبة الفهرية القرشية، أخت الضحاك في تهذيب المصنف، قيل كانت أكبر من أخيها بعشر سنين، وكانت من المهاجرات الأول ذات عقل وافر وكمال، في بيتها اجتمع أصحاب الشورى، روى لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة وثلاثون حديثاً. روى عنها جماعة من كبار التابعين رضي الله عنها، وعنهم أجمعين، (قالت أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت إن أبا الجهم) بفتح الجيم وسكون الهاء (ومعاوية خطباني) أي: فما ترى (فيهما فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما) بفتح الهمزة وتشديد الميم (معاوية فصعلوك) رأيت بخط الشيخ محمد الخطابي المالكي، في حاشية النهاية الصعلوك بضم الصاد: الفقير والجمع صعاليك اهـ. وهذه المادة لم أرها في القاموس (¬3) ، ولا في النهاية ولا في المصباح وقوله (لا مال له) في معنى الصفة مبين لما قبله (وأما أبو الجهم فلا يضع العصا عن عاتقه متفق عليه وفي رواية لمسلم وأما أبو الجهم فضراب للنساء وهو: تفسير لرواية لا يضع العصا عن عاتقه) أي: بيان للمراد فيها بطريق الكناية (وقيل معناه) أي: المراد بهذا الكلام، كناية عنه (كثير الأسفار) والأول أولى: لأن الروايات يفسر بعضها ببعض، وإن كان لا مانع من الجمع. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: ما يكون من الظن (10/405) . (¬2) أخرجه مسلم في كتاب: الطلاق، باب: المطلقة ثلاث لا نفقة لها، (الحديث: 36) . (¬3) فيه نظر إذ هي في القاموس في حرف اللام. ع.

1532- وعن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قَالَ: خرجنا مَعَ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في سَفَرٍ أصَابَ النَّاسَ فِيهِ شِدَّةٌ، فَقَالَ عبدُ اللهِ بن أُبَيّ: لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى يَنْفَضُّوا، وقال: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ، فَأَتَيْتُ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأخْبَرْتُهُ بذلِكَ، فَأرْسَلَ إِلَى عبدِ الله بن أُبَيِّ، فَاجْتَهَدَ يَمِينَهُ: مَا فَعلَ، فقالوا: كَذَبَ زيدٌ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَوَقَعَ في نَفْسِي مِمَّا قَالُوهُ شِدَّةٌ حَتَّى أنْزلَ اللهُ تَعَالَى تَصْدِيقِي: (إِذَا جَاءكَ المُنَافِقُونَ) (¬1) ثُمَّ دعاهُمُ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لِيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ فَلَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ. متفق عَلَيْهِ (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1532- (وعن زيد بن أرقم) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب إكرام آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قال خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر) هي غزوة بني المصطلق (أصاب الناس) مفعول مقدم (فيه شدة) فاعل (فقال عبد الله بن أبيّ) بضم الهمزة وفتح الموحدة وتشديد الياء، المنافق (لا تنفقوا على من) أي: الذين (عند رسول الله) أي: من الصحابة (حتى) أي: كي (ينفضوا) أي: يتفرقوا عنه (وقال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) فأراد من الأعز نفسه ومن الأذل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بذلك) أي: الذي صدر من ابن أبيّ (فأرسل إلى عبد الله بن أبي فاجتهد يمينه) أي: حلف وأكد الأيمان بتكراره، ويمينه منصوب بنزع الخافض (ما فعله فقالوا) أي: الصحابة (كذب) بتخفيف الذال المعجمة المفتوحة (زيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: أخبره عن أمر بخلاف ما هو عليه (فوقع في نفسي مما قالوا شدة) أي: كرب شديد واستمر ذلك فيها (حتى أنزل الله تعالى على نبيه تصديقي) أي: إخباري المطابق للواقع، وبيّنه بقوله (إذا جاءك المنافقون) أي: سورة المنافقين (ثم دعاهم) أي: المنافقين الذين رأسهم ابن أبيّ (النبي - صلى الله عليه وسلم - ليستغفر لهم) مما قالوه (فلووا رءوسهم) أي: أمالوها إعراضاً ورغبة عن الاستغفار (متفق عليه) أخرجه البخاري في التفسير، ومسلم في التوبة، ورواه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي حسن صحيح. ¬

_ (¬1) سورة المنافقون، الآية: 1. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: التفسير، باب: سورة المنافقون (8/494، 495) . وأخرجه مسلم في كتاب: صفات المنافقين وأحكامهم، باب: ... (الحديث: 1) .

257- باب في تحريم النميمة وهي نقل الكلام بين الناس على جهة الإفساد

1533- وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: قالت هِنْدُ امْرَأةُ أَبي سفْيَانَ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَلَيْسَ يُعْطِينِي مَا يَكْفيني وولَدِي إِلاَّ مَا أَخَذْتُ مِنْهُ، وَهُوَ لا يَعْلَمُ؟ قَالَ: "خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلدَكِ بِالمَعْرُوفِ". متفق عَلَيْهِ (¬1) . 257- باب في تحريم النميمة وهي نقل الكلام بَيْنَ الناس عَلَى جهة الإفساد قَالَ الله تَعَالَى (¬2) : (هَمَّازٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ 1533- (وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت قالت هند) هي بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشية (امرأة أبي سفيان) وهي أم معاوية، أسلمت عام الفتح بعد إسلام زوجها بليلة وبايعت (للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن أبا سفيان رجل شحيح) من الشح بتثليث أوله، وهو البخل والحرص، كما في القاموس (وليس) اسمها يعود إليه وجملة (يعطيني) في محل الخبر، وثاني مفعول يعطي. قوله (ما يكفيني) بفتح التحتية من الكفاية (وولدي) عطف على المفعول به الضمير (إلا ما أخذت منه) استثناء منقطع أي: لكن الذي أخذت منه (وهو لا يعلم) جملة حالية، وخبر ما محذوف أي: فهو يكفيني (فقال خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) أي: من غير سرف ولا تقتير (متفق عليه) والقصد من الحديث الترجمة: للاستدلال بإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - لها في قولها إن أبا سفيان رجل شحيح: لما أنه على وجه الاستفتاء. باب تحريم النميمة (وهو نقل الكلام بين الناس على جهة الإِفساد) في القاموس: النم التوريش والإِغراء، ورفع الحديث إشاعة له وإفساداً، وتزيين الكلام بالكذب اهـ. وبه يعلم، أن ما عرفه الصنف، به، هو أحد معانيه المراد بما عقد له الترجمة. (قال الله تعالى) في وصف المنهي عن إطاعته، قيل وهو الوليد بن المغيرة (هماز) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: النفقات، باب: نفقة المرأة إذا غاب زوجها والبيوع، باب: من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون وغيرهما (9/444 و445) . وأخرجه مسلم في كتاب: الأقضية، باب: قضية هند، (الحديث: 7) . (¬2) سورة القلم، الآية: 11.

مَشَّاءٍ بِنَميمٍ) . وقال تَعَالَى (¬1) : (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) . وعن حُذَيْفَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ نَمَّامٌ". متفق عَلَيْهِ (¬2) . 1535- وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ: "إنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ في كَبيرٍ! بَلَى إنَّهُ كَبِيرٌ: أمَّا أَحَدُهُمَا، فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ، وأمَّا الآخَرُ فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ". متفق عَلَيْهِ. وهذا لفظ إحدى روايات البخاري، ـــــــــــــــــــــــــــــ مغتاب غياب (مشاء بنميم) نقال للكلام سعاية وإفساداً. وقال تعالى (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) تقدم ما يتعلق بها قريباً. 1534- (وعن حذيفة رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يدخل الجنة) أي: مع الفائزين، أو مطلقاً، إن استحل ذلك، وعلم أنه مجمع على تحريمه معلوم من الدين بالضرورة، أو نزل منزلة العالم به: لكونه قديم الإِسلام بين أظهر العلماء (نمام) أتي فيه بصيغة المبالغة: لعظيم الوعيد، وإلا فأصل النمّ منهى عنه، من الكبائر، كما يدل عليه الحديث بعده (متفق عليه) أورده في الجامع الكبير بلفظ "قتات" بدل "نمام"، وقال في لفظ "نمام" ثم قال رواه الطيالسي وأحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي والطبراني في الكبير. 1533- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بقبرين) جاء في رواية أنهما من المشركين (فقال إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير بلى إنه كبير. أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر) بفتح المعجمة (فكان لا يستبرىء من بوله) أي: لا يطلب البراءة منه، فأخذ بعضهم منه وجوب الاستبراء، وأن تركه من الكبائر، وهو قويّ من حيث الدليل، لكن الذي عليه أصحابنا ندبه، وحمل الحديث ونحوه على من تيقن عدم انقطاع البول إلا بالتنحنح فيجب، والاستحباب على من لم يكن كذلك (متفق عليه وهذا لفظ إحدى روايات ¬

_ (¬1) سورة ق، الآية: 18. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: ما يكره من النميمة (10/394) . وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: بيان غلظ تحريم النميمة، (الحديث: 168) .

قَالَ العلماءُ معنى: "وَمَا يُعَذَّبَانِ في كَبيرٍ" أيْ: كَبيرٍ في زَعْمِهِمَا. وقِيلَ: كَبيرٌ تَرْكُهُ عَلَيْهِمَا (¬1) . 1536- وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ مَا العَضْهُ؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ البخاري) رواه هكذا في أبواب الطهارة إلا أن في نسخة، يستتر من البول بتاءين من الاستتار. قال القلقشندي: وهو أكثر الروايات وفي رواية يستنزه، بنون ساكنة بعدها زاي من النزاهة. وهاتان في الصحيح، وفي رواية لا يستبرىء، بموحدة بعد الفوقية وهي عند البخاري، وقال الإِسماعيلي: إنه أشبه بالروايات. وقوله لا يستتر بالفوقيتين محتمل لا يستتر عن الأعين، فيكون العذاب على كشف العورة، أو لا يتنزه عن البول، فيكون في الكلام مجاز. والعلاقة أن التستر عن الشيء فيه، بعد عنه واحتجاب، وذلك شبيه بالبعد عن البول (قال العلماء وما يعذبان في كبير أي كبير في زعمهما) أي: أنهما لاستخفافهما بأمور الديانة، يريان ذلك غير كبير. (وقيل كبير تركه عليهما) وقد جاء أن المنافق يرى ذنبه كذباب، وقع على أنفه فدفع فاندفع، وأن المؤمن يراه كالجبل يخشى أن يقع عليه. والحاصل أنهما لاستخفافهما يريان ذلك غير كبير، فلا يريان بتعاطيه حرجاً، أو لا يريان بتركه مشقةً: لخفة ذلك عندهما؛ وهو عند الله كبير، وهو المراد بقوله - صلى الله عليه وسلم - بلى في كبير أي: باعتبار ما عند الله وباعتبار إثمه وتبعته. وقال القلقشندي في شرح العمدة، واختلفوا في معنى قوله "وإنه لكبير" فاستدرك، ويحتمل أن ضمير وأنه عائد إلى العذاب فقد ورد عند أبي حيان "عذاباً شديداً في ذنب هين ". وقيل الضمير عائد إلى أحد الذنبين. وهو النميمة، فإنها كبيرة، بخلاف ستر العورة وضعف، وقيل معنى كبير المنفي أكبر أي: ليس في أكبر الكبائر، ومعنى المثبت واحد الكبائر. فعليه يكون الحديث، بيان أن التعذيب لا يخص أكبر الكبائر بل يكون في الكبائر، وقيل معناه ليس كبيراً صورة، إذ تعاطيه يدل على الزبانة والحقارة، وهو كثير في الإثم وقيل غير ذلك. 1536- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ألا أنبئكم ما العضه) سكت عن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الوضوء، باب: الذي بعد باب ما جاء في غسل البول والجنائز باب: عذاب القبر من الغيبة والبول، وباب: الجريد على القبر وغيرهما (10/273) . وأخرجه مسلم في كتاب: الطهارة، باب: الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه، (الحديث: 111) .

258- باب في النهي عن نقل الحديث وكلام الناس إلى ولاة الأمور إذا لم تدع إليه حاجة كخوف مفسدة ونحوها

هي النَّمَيمَةُ: القَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ". رواه مسلم. "العَضْهُ": بفتح العين المهملة وإسكان الضاد المعجمة، وبالهاء عَلَى وزن الوجهِ، ورُوِي "العِضةُ" بكسر العين وفتح الضاد المعجمة عَلَى وزن العِدَة، وهي: الكذب والبُهتان، وعلى الرِّواية الأولى: العَضْهُ مصدرٌ يقال: عَضَهَهُ عَضهاً، أيْ: رماهُ بالعَضْهِ (¬1) . 258- باب في النهي عن نقل الحديث وكلام الناس إِلَى ولاة الأمور إِذَا لَمْ تَدْعُ إِلَيْهِ حاجة كخوف مفسدة ونحوها قال الله تعالى (¬2) : (وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالعُدْوانِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ جوابهم لظهور استدعائهم أي قالوا بلى قال (هي النميمة) وأنث المبتدأ نظراً لتأنيث الخبر، وهو الأحسن في مثله، أي: مراعاة الخبر لأنه محط الفائدة؛ (القالة) بتخفيف اللام (بين الناس) أي: كثرة القول، وإيقاع الخصومة بين الناس، بما يحكى للبعض عن البعض، قاله في النهاية (رواه مسلم والعضه بفتح العين المهملة وإسكان الضاد المعجمة وبالهاء على وزن الوجه) قال في النهاية يروى هكذا في كتب الحديث (وروي العضة بكسر العين وفتح الضاد على وزن العدة) قال في النهاية هذا الذي جاء في كتب الغريب. قال الزمخشري أصلها العضهة، فعلة من العضه وهو البهت، فحذفت لامه كما حذفت من السنة والشفة، ويجمع على عضين (وهي) بالراويتن (الكذب والبهتان وهي الرواية الأولى العضه مصدر يقال عضهه) يعضهه من باب سأل يسأل (عضها رماه بالعضه) . باب النهي عن نقل الحديث وكلام الناس إلى ولاة الأمور إذا لم تدع إليه الحاجة عبر بإذا إيماء إلى تركه عند الشك، في وجود الحاجة. وفسر بعض الحاجة بقوله (كخوف مفسدة ونحوها) من وقوع ضرر. (قال الله تعالى: ولا تعاونوا على الإِثم) أي: المعاصي (والعدوان) أي: الظلم (وفي الباب الأحاديث السابقة في الباب قبله) لأنه دفع الحديث الضار لقائله، أو لغيره إلى ولاة الأمور، من أفراد النميمة، لصدق تعريفها السابق عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم النميمة، (الحديث: 102) . (¬2) سورة المائدة، الآية: 2.

259- باب في ذم ذي الوجهين

وفي الباب الأحاديث السابقة في الباب قبله. 1537- وعن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُبَلِّغُنِي أَحَدٌ مِنْ أصْحَابِي عَنْ أَحَدٍ شَيْئاً، فإنِّي أُحِبُّ أنْ أخْرُجَ إِلَيْكُمْ وأنَا سَليمُ الصَّدْرِ". رواه أَبُو داود والترمذي (¬1) . 259- باب في ذمِّ ذِي الوَجْهَيْن قَالَ الله تَعَالَى (¬2) : (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ القَولِ وكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحيطاً) الآيَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1537- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يبلغني) بسكون الغين (أحد من أصحابي عن أحد شيئاً) أي: مما أكرهه له أويعود إليه بضرر. ففيه الحث على الستر، وإقالة ذوي الهيئات عثراتهم (فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر) أي: وذلك إنما يتحقق عند عدم سماع ما يؤثر في النفس، حرارة أو أثراً ما، بحسب الطبع البشري (رواه أبو داود والترمذي) وقال: غريب، ورواه أحمد والدارقطني كما في الجامع الكبير. باب ذم ذي الوجهين (قال الله تعالى: يستخفون من الناس) أي: يستترون منهم حال سرقتهم، ومثلها في ذم من يكون كذلك سائر المخالفات (ولا يستخفون من الله) وهو أحق أن يستحيا منه (وهو معهم) لا يخفي عليه شيء، وطريق إخفاء شيء عنه عدم فعله. كذا في جامع البيان (إذ يبيتون) يدبرون، وأصله أن يكون بالليل (ما لا يرضى) الله (من القول) كرمي البريء، وشهادة الزور، والقذف (وكان الله بما يعملون محيطاً) فيجازيهم عليه (الآيتين) يعني قوله (هأنتم هؤلاء) مبتدأ وخبر (جادلتم) خاصمتم (عنهم) وهي جملة مبينة لوقوع هؤلاء خبراً، وصلة عند من يقول أنه موصول (في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم) إذا ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: رفع الحديث [من المجلس] ، (الحديث: 4860) . وأخرجه الترمذي في كتاب: المناقب، باب: فضل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، (الحديث: 3896 و3897) . (¬2) سورة النساء، الآية: 108.

1538- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَجِدُونَ النَّاسَ مَعادِنَ: خِيَارُهُم في الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ في الإسْلاَمِ إِذَا فَقُهُوا، وتَجِدُونَ خِيَارَ النَّاسِ في هَذَا الشَّأنِ أَشَدَّهُمْ كَرَاهِيَةً لَهُ، وَتَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ ذَا الوَجْهَينِ، الَّذِي يَأتِي هؤُلاءِ بِوَجْهٍ، وَهَؤُلاءِ بِوَجْهٍ". متفق عَلَيْهِ (¬1) . 1539- وعن محمد بن زيدٍ: أنَّ ناساً قالوا لِجَدِّهِ عبدِ اللهِ بن عمر رضي الله ـــــــــــــــــــــــــــــ أخذهم بعذابه (يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلاً) فيروج دعواهم (ومن يعمل سوءاً) يسوء به غيره أو صغيرة أو باعثاً دون الشرك (أو يظلم نفسه) مما لا يتعداه (ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً) فيه فرض التوبة. 1538- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تجدون الناس معادن) أي: ذوي أصول ينسبون إليها ويتفاخرون بها (خيارهم) أي: أشرفهم (في الجاهلية) ما قبل الإِسلام (خيارهم) أي: أشرفهم في (الإِسلام إذا فقهوا) قال المصنف كما تقدم في باب التقوى، بضم القاف على المشهور، وحكي كسرها أي: علموا الأحكام الشرعية. (وتجدون خيار الناس في هذا الشأن) أي: الخلافة والإِمارة (أشدهم) متعلق بقوله كراهية (وقدم عليه مع أنه مصدر، ومعموله لا يكون إلا مؤخراً: لكونه ظرفاً، وهو يتوسع فيه ما يتوسع في غيره، وكراهية بتخفيف التحتية مصدر، أي: خير الناس في تعاطي الأحكام، من لم يكن حريصاً على الإِمارة، فإذا ولي شدد ووقف، بخلاف الحريص عليها، كما تقدم في باب كراهة الحرص على الإِمارة (وتجدون شر الناس) مفعول ثان، قدم اهتماماً به (ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء) أي: قوماً (بوجه) فيوهمهم أنه منهم لا من أضدادهم (و) يأتي (هؤلاء) أي: الأضداد (بوجه) أي: غير ما لقي به الأولين، كما يؤذن به التنكير. قال المصنف: المراد من يأتي كل طائفة ويظهر لهم أنه منهم، ومخالف للآخرين: متبغض، فإن أتى كل طائفة بالإِصلاح فمحمود (متفق عليه) . 1539- (وعن محمد بن زيد) بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، المدني الحافظ ثقة من أوساط التابعين (أن ناساً قالوا لجده عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: خيار الناس، (الحديث: 199) . وأخرجه البخاري في كتاب: أول باب المناقب (6/384، 385 و10/395) .

260- باب: في تحريم الكذب

عنهما: إنَّا نَدْخُلُ عَلَى سَلاَطِيننَا فَنَقُولُ لَهُمْ بِخِلاَفِ مَا نَتَكَلَّمُ إِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِمْ. قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ هَذَا نِفَاقاً عَلَى عَهْدِ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. رواه البخاريُّ (¬1) . 260- باب: في تحريم الكذب قَالَ الله تَعَالَى (¬2) : (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) . وقال تَعَالَى (¬3) : (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَولٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ عنهما إنا ندخل على سلاطيننا) أي: ذوي السلطنة والولاية علينا، أعم من أن يكون خليفة ومن دونه، والمراد الجنس بدليل قوله (فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم) أي: بأن نثني عليهم بحضورهم، ونذمهم إذا خرجنا (قال كنا نعد هذا نفاقاً) أي: من نفاق العمل، أو من أعمال المنافقين، إذ الصدق في الحضرة والغيبة، شأن المؤمنين الصادقين (على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: زمنه (رواه البخاري) "فائدة" ذكرها الشيخ تاج الدين السبكي في الطبقات الكبرى، قال: مصطلح الدول أن السلطان من ملك إقليمين فأكثر، فإن لم يملك إلا إقليماً واحداً سمي بالملك، وإذا اقتصر على مدينة واحدة لم يسم بالملك ولا بالسلطان. بل بأمير البلد، وصاحبها، ومن شرط السلطان، ألا يكون فوق يده يد، وكذا الملك اهـ. وهذا اصطلاح حادث فلا ينافي ما تقدم قبله. باب تحريم الكذب بفتح فكسر هو الإِخبار عن الشيء، بخلاف ما هو عليه، ويأثم المخبر إذا علم بذلك، ثم إن علم الضرر فيه، كأن من الكبائر، وإلا فمن الصغائر، وإن كانت فيه مصلحة تقاوم ذلك الضرر، صار مندوباً تارة، وواجباً أخرى. كما سيأتي في باب بيان ما يجوز منه قال الله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) . وقال تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) تقدم ما يتعلق بهما قريباً. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الاحكام، باب: ما يكره من ثناء السلطان (13/149، 150) . (¬2) سورة الإِسراء، الآية: 36. (¬3) سورة ق، الآية: 18.

1540- وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقاً. وإنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّاباً" متفقٌ عَلَيْهِ (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1540- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الصدق) أي: تحري الصدق في القول (يهدي) بفتح التحتية من الهداية، قال الحافظ في الفتح: وهي الدلالة الموصلة إلى المطلوب اهـ. ولعله تفسير للمراد هنا (إلى البر) بكسر الموحدة وتشديد الراء أي: الطاعة قال الحافظ: أصله التوسع في فعل الخير، وهو اسم جامع للخيرات كلها، ويطلق على العمل الخالص الدائم (وإن البر يهدي إلى الجنة) قال ابن بطال: مصداقه في كتاب الله تعالى (إن الأبرار لفي نعيم) (¬2) (وإن الرجل ليصدق) أي: يتكرر منه الصدق، وعند مسلم "ليتحرى الصدق" وكذا قال في الكذب (حتى يكتب عند الله صديقاً) أي: يستحق اسم المبالغة في الصدق عنده سبحانه وتعالى، قال العاقولي: وصديق من أبنية المبالغة، من تكرر منه الصدق حتى يصير سجية له وخلقاً (وإن الكذب يهدي إلى الفجور) قال الراغب: أصل الفجر: الشق، والفجور: شق الديانة، ويطلق على الميل إلى الفساد، وعلى الانبعاث في معاصي، وهو اسم جامع للشر (وإن الفجور يهدي إلى النار) أي يوصل إليها، والإِسناد في الجمل الأربع، من الإِسناد إلى السبب (وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) والمراد بالكتابة: الحكم عليه بذلك، وإظهاره للمخلوقين من الملأ الأعلى، وإلقاء ذلك في قلوب أهل الأرض. وقد ذكره مالك بلاغاً عن ابن مسعود، وأورد فيه زيادة مفيدة، ولفظه "لا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب فينكت في قلبه نكتة سوداء حتى يسوَد قلبه فيكتب عند الله من الكذابين". قال المصنف: قال العلماء: في الحديث الحث على تحري الصدق، وهو قصده والاعتناء به. وعلى التحذير من الكذب، والتساهل فيه. فإنه إذا تساهل فيه أكثر منه فعرف به فكتب. (متفق عليه) وقد تقدم مشروحاً في باب الصدق. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ... ) د 10 (423) . وأخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: قبح الكذب، وحسن الصدق، وفضله، (الحديث: 103) . (¬2) سورة المطففين، الآية: 22.

1541- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "أرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ، كَانَ مُنَافِقاً خَالِصاً، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ، كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ نِفاقٍ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا أؤْتُمِنَ خانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ". متفق عَلَيْهِ. وَقَدْ سبق بيانه مَعَ حديث أَبي هريرة بنحوه في "باب الوفاءِ بالعهدِ" (¬1) (¬2) . 1542- وعن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ تَحَلَّمَ بِحُلْمٍ لَمْ يَرَهُ، كُلِّفَ أنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْن وَلَنْ يَفْعَلَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1541- (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أربع) أي: من الخصال (من كن فيه كان منافقاً خالصاً) في نفاق العمل (ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها) أي: يتركها (إذا أؤتمن) بالهمز (خان) جواب إذا، وهو العامل فيها، وهي والمعطوف عليها خبر لمحذوف أي: هي تعود للأربع (وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر) من الغدر ضد الوفاء (وإذا خاصم فجر) بالأيمان الكاذبة، والدعاوى الباطلة (متفق عليه وقد سبق بيانه) مع شرحه مبسوطاً (مع حديث أي هريرة بنحوه) في بعض خصال النفاق في باب الوفاء بالعهد. 1542- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من تحلم) بفتح التاء والمهملة وتشديد اللام أي: تكلف الحلم أي: كذب بما لم يره في منامه كما علق به قوله: (بحلم لم يره) والحلم بضم المهملة، والمراد به هنا مطلق ما يرى مناماً، خيراً كان أو شراً، وإن كان قد يخص الأخير، كما تقدم في حديث: "الرؤيا من الله والحلم من الشيطان" (كلّف) بصيغة المجهول (أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل) عند أحمد: "من تحلم كاذباً دفع إليه شعيرة حتى يعقد بين طرفيها وليس بعاقد وعنده عذب حتى يعقد بين شعيرتين وليس عاقداً". قال الحافظ: وذلك ليطول عذابه في النار؛ لأن عقده بين طرفي الشعيرة غير ممكن؛ قال الحافظ في الفتح: الحق أن التكليف ليس هو المصطلح عليه في الدنيا، وإنما ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: علامات المنافق (1/84) . وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان خصال المنافق، (الحديث: 106، 107) . (¬2) انظر الحديث رقم (689) ورقم (690) .

وَمَنِ اسْتَمَعَ إِلَى حَديثِ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، صُبَّ في أُذُنَيْهِ الآنُكُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَمَنْ صَوَّرَ صُورَةً عُذِّبَ وَكُلِّفَ أنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيْسَ بنافِخٍ". رواه البخاري. "تَحَلم": أيْ قَالَ إنَّه حلم في نومه ورأى كذا وكذا، وَهُوَ كاذب. و"الآنك" بالمدّ وضمِّ ـــــــــــــــــــــــــــــ هو كناية عن التعذيب اهـ. قال الطبري: إنما أسند الوعيد فيه، مع أن الكذب في اليقظة، قد يكون أشد مفسدة منه، كشهادة الزور في قتل مسلم، أو أخذ ماله: لأن الكذب في المنام كذب على الله؛ وذلك لحديث "الرؤيا جزء من النبوة" وما كان من أجزاء النبوة فمن الله (ومن استمع إلى حديث قوم وهم له) أي: لاستماعه المدلول عليه بالفعل؛ (كارهون) قال الشيخ أكمل الدين: جملة وهم له كارهون حالية، وذو الحال فاعل استمع، والذي سوغ ذلك تضمنها ضميره، ويجوز أن تكون صفة للقوم، والواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف، فإن الكراهة حاصلة لا محالة (صب) بالبناء للمجهول (في أذنيه الآنك) فيه وعيد شديد، والجزاء من جنس العمل (يوم القيامة ومن صور صورة) أي: من ذوات الأرواح (عذب وكلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ) عبر به وعبر فيما تقدم بقوله وأن ينفخ تفنناً في التعبير. قال العارف بن أبي جمرة: مناسبة الوعيد للكاذب في منامه وللمصور: أن الرؤيا خلق من خلق الله تعالى، وهو صورة معنوية، فأدخل لكذبه صورة معنوية لم تقع، كما أدخل المصور في الوجود، صورة ليست بحقيقية، لأن الصورة الحقيقية هي التي فيها الروح؛ فكلف صاحب الصورة بتكليفه أمراً شديداً، وهو أن يتم ما خلقه بزعمه، فينفخ الروح فيه. ووقع عند كل منهما بأن يعذب حتى يفعل ما كلف، وليس بفاعل، وهو كناية عن دوام تعذيب كل منهما. قال: والحكمة في هذا الوعيد، أن الأول كذب على جنس النبوة، والثاني نازع الخالق في قدرته اهـ (رواه البخاري) وفي الجامع الكبير: "من تحلم كاذباً كلف يوم القيامة، أن يقعد بين شعيرتين، ولن يقعد بينهما". رواه الترمذي بعد إيراد الجمل الثلاث، لكن قدم التصوير، وقال عذبه الله يوم القيامة حتى ينفخ، ثم الحلم ثم الاستماع، وقال: رواه أحمد وأبو داود وهو حسن صحيح من حديث ابن عباس قال: ورواه أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً، لكن قال: ودفع إليه شعيرة، وكلف أن يعقد بين طرفيها، وليس بعاقد. وصححه ابن ماجه وابن جرير من حديث ابن عباس، وحديث: "من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك ومن أري عينيه في المنام ما لم ير كلف أن يعقد شعيرة". رواه الطبراني في الكبير من حديث ابن عباس، ولم يذكره البخاري وهو عجيب (تحلم أي: قال إنه حلم في نومه ورأى كذا وكذا وهو كاذب والآنك بالمد وضم

النون وتخفيف الكاف: وَهُوَ الرَّصَاصُ المذاب (¬1) . 1543- وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَفْرَى الفِرَى أنْ يُرِيَ الرَّجُلُ عَيْنَيْهِ مَا لَمْ تَرَيَا". رواه البخاري. ومعناه: يقول: رأيتُ، فيما لَمْ يَرَهُ. (¬2) . 1544- وعن سَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِمَّا يُكْثِرُ أنْ يَقُولَ لأَصْحَابِهِ: "هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ رُؤْيَا؟ " ـــــــــــــــــــــــــــــ النون وتخفيف الكاف وهو الرصاص المذاب) وقيل هو الرصاص الأبيض، وقيل هو الأسود، وقيل هو الخالص منه، ولم يجىء واحد على أفعل، غير هذا، وقيل يحتمل أنه فاعل لا أفعل، وهو شاذ أيضاً، وفي المصباح الآنك وزان أفلس، ومنهم من يقول الآنك فاعل، قال وليس في العربي فاعل بضم العين، وأما الآنك والأجر فيمن خفف وآمل وكابل فأعجميات اهـ. 1543- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفرى الفري) بكسر الفاء وتخفيف الراء مقصوراً جمع فرية (أن يري الرجل عينيه ما لم تريا) أي: بأن يسند إليهما رؤيا ما لم ترياه. وتقدم شرح الحديث في باب الرؤيا في أثناء حديث واثلة (رواه البخاري) في التعبير (ومعناه يقول رأيت فيما لم يره) ظاهره شمول اليقظة والنوم، وظاهر لفظ أبي داود والبخاري في باب التعبير: اختصاصه بالأخير. ومقتضى إيراد المصنف، ثم تفسيره شموله لها. 1544- (وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما يكثر) خبر مقدم مبتدؤه (أن يقول) أي: قوله، والجملة خبر كان، والرابط محذوف أي: منه. وقال الطيبي: مما يكثر خبر كان، وما موصول: صلته يكثر، والعائد على ما: فاعل يقول، وأن يقول فاعل يكثر. وهل رأى أحد منكم الخ هو المقول أي: رسول الله من النفر الذين كثر منهم هذا القول، فوضع ما وضع من تفخيماً وتعظيماً لجانبه، هذا من جهة البيان، ومن حيث النحو يجوز أن تكون هل رأى أحد منكم الخ مبتدأ. والخبر مقدم عليه على تأويل هذا القول مما يكثر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول. ثم أشار إلى ترجيح الوجه السابق قال الحافظ في الفتح: فالمتبادر الثاني، وعليه أكثر الشارحين (لأصحابه هل رأى أحد منكم من رؤيا) من: مزيدة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: التعبير، باب: من كذب في حلمه (12/374، 375) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: التعبير، باب: من كذب في حلمه (12/376، 377) .

فَيَقُصُّ عَلَيْهِ مَنْ شَاءَ اللهُ أنْ يَقُصَّ، وإنَّهُ قَالَ لنا ذَات غَدَاةٍ: "إنَّهُ أَتَانِيَ اللَّيْلَةَ آتِيَانِ، وإنَّهُمَا قَالا لِي: انْطَلِقْ، وإنِّي انْطَلَقتُ مَعَهُمَا، وإنَّا أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ، وَإِذَا آخَرُ قائِمٌ عَلَيْهِ بِصَخْرَةٍ، وَإِذَا هُوَ يَهْوِي بِالصَّخْرَةِ لِرَأْسِهِ، فَيَثْلَغُ رَأسَهُ، فَيَتَدَهْدَهُ الحَجَرُ هَا هُنَا، فَيَتْبَعُ الحَجَرَ فَيَأخُذُهُ فَلاَ يَرْجِعُ إِلَيْهِ حَتَّى يَصِحَّ رَأسُهُ كَما كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ، فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ المَرَّةَ الأوْلَى! " قَالَ: "قُلْتُ لهما: سُبْحانَ اللهِ! مَا هَذَان؟ قَالا لي: انْطَلِقِ انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا، فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَديدٍ، وَإِذَا هُوَ يَأتِي ـــــــــــــــــــــــــــــ للاستغراق، وشمول كل منام بأيّ وصف وشأن (فيقص) بضم القاف وتشديد المهملة (من شاء الله أن يقص) أي: يعلمه برؤياه التي أراد الله أن يعلمه بها (وأنه قال لنا ذات غداة) أي: صبح يوم، وذات: زائدة وهو من إضافة الشيء إلى نفسه، قاله الحافظ (إنه) أي: الشأن (أتاني الليلة آتيان) بمد الهمزة وبعدها فوقية مكسورة فتحتية مخففة (وإنهما قالا لي انطلق) أي: معنا بدليل قوله (وإني انطلقت معهما) أي: ذهبت معهما (وإنا) عطف على إن ومعموليها (أتينا على رجل مضطجع وإذا آخر) بفتح الخاء وبالرفع مبتدأ خبره (قائم عليه بصخرة وإذا هو) أي: الرجل، والضمير مبتدأ خبره (يهوي) بكسر الواو أي: يسقط (بالصخرة) الباء فيه للتعدية (لرأسه) متعلق بيهوى أيضاً (فيثلغ) بالرفع أي: يشدخ الحجر أو الرجل القائم بعذاب ذلك المضطجع (رأسه فيتدهده الحجر ها هنا فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع) أي: الحجر (إليه) أي: الرجل أولاً يرجع الرجل أي: يصل إلى الحجر (حتى يصح رأسه كما كان) أي: قبل شدخه. والكاف في محل المفعول المطلق، أي: صحة مثل ما كان، والتذكير باعتبار لفظها (ثم يعود) أي: القائم (عليه) أي: المضطجع (فيفعل به مثل ما فعل) أي: فعله، أو الذي فعله؟ وفي نسخة فعل به وهو يؤيد الثاني (من الأولى) كذا لأبي ذر والنسفي ولغيرهما. وفي نسخة "المرة الأولى" وهو كذلك عند أبي عوانة. قال ابن العربي: جعلت العقوبة في رأس هذا: لنومه عن الصلاة؛ والنوم موضع الرأس (قال قلت لهما سبحان الله) كلمة تنزيه، تستعمل حال التعجب من الشيء (ما هذا) أي: ما حاله (قالا: لي انطلق انطلق) أي: دع السؤال عن بيان حاله، وانطلق لرؤية التعجب (فانطلقنا فأتينا على رجل مستلق لقفاه) أي: عليها نحو قوله تعالى: (يخرُّون للأذقان) (¬1) (وإذا آخر) بفتح ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، الآية: 107.

أحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ، ومِنْخَرَهُ إِلَى قَفَاهُ، وعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الجانبِ الآخَرِ، فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بالجَانِبِ الأوَّلِ، فَمَا يَفْرَغُ مِنْ ذَلِكَ الجانبِ حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ الجانبُ كما كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي المرَّةِ الأُوْلَى " قَالَ: " قُلْتُ: سُبْحَانَ اللهِ! مَا هذانِ؟ قالا لي: انْطَلِقِ انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا، فَأَتَيْنَا عَلَى مِثْلِ التَّنُّورِ " فَأَحْسِبُ أنَّهُ قَالَ: " فإذا فِيهِ لَغَطٌ، وأصْواتٌ، فَاطَّلَعْنَا فِيهِ فإذا فِيهِ رِجَالٌ وَنِساءٌ عُرَاةٌ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الخاء، وآخر: غير مصروف مبتدأ خبره (قائم عليه بكلوب من حديد وإذا هو) أي: القائم (يأتي أحد شقي) بكسر المعجمة أي: جانبي (وجهه) أي: الملتقى (فيشرشر) بضم التحتية (شدقه) قال في المصباح: هو جانب الفم، يقال بالفتح والكسر. وجمع الأول شدوق، والثاني أشداق (إلى قفاه) القفا مقصوراً: مؤخر العنق (ومنخره) بالنصب عطفاً على شدقه، بفتح الميم وكسر المعجمة، ويقال بكسرهما باتباع حركة الميم بحركة المعجمة لسكون النون الحاجز بينهما؛ (إلى قفاه وعينيه إلى قفاه ثم يتحول) بتشديد الواو، والفاعل ضمير القائم، والمفعول محذوف لدلالة المقام؛ أي: نحو الكلوب. (إلى الجانب الآخر) أي: جانب الشق الآخر من الوجه (فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول) من الشق من الجانب الثاني، أي: من الشدق أو من العين، وشق المنخر في الأول، كاف عن شقه الثاني، أو من الشدق ومن العين ثانياً، ظاهر اللفظ يومىء للأول. (فما يفرغ من ذلك الجانب) عبر بذلك عن هذا: إيماء إلى طول فعل ذلك به، لعظم بدنه؛ فكأنه بعيد فلذا عبر فيه بما يشار به إليه (حتى يصبح ذلك الجانب) أي: المبدوء به أولاً (كما كان) قبل الشرشرة (ثم يعود) أي: القائم (عليه) أي: الجانب الذي صح (فيفعل مثل ما فعل في المرة الأولى) قال ابن العربي: شرشرة شدقي الكاذب: إنزال العقوبة بمحل المعصية، وعلى هذا تجري العقوبة في الآخرة، بخلاف الدنيا. (قال قلت سبحان الله ما هذان) أي: المضطجع والموكل بعذابه (قالا لي: انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا على مثل التنور) تنور الخبز، قال الكواشي في تفسيره: هو في جميع اللغات مستعمل بهذا المعنى، قالوا: ولا لفظ له سواه. قال البرماوي: وهو من الغرائب. وقال السيوطي في التوشيح: قيل هو معرب. وقيل: عربي. وهو في الأكثر يكون حفيرة في الأرض، وربما كان على وجه الأرض. ووهم من خصه بالأول اهـ. (فأحسب) أي: أظن بكسر المهملة (أنه قال فإذا فيه لغط) بفتح اللام والغين المعجمة وبالطاء المهملة قال في المصباح: هو كلام فيه جلبة واختلاط، ولا يتبين (وأصوات فاطلعنا فيه) بتشديدء الطاء المهملة (فإذا فيه رجال ونساء عراة) بضم المهملة

وَإِذَا هُمْ يَأتِيِهمْ لَهَبٌ مِنْ أسْفَلَ مِنْهُمْ، فإذا أتاهُمْ ذَلِكَ اللَّهَبُ ضَوْضَوْا. قُلْتُ: مَا هَؤلاءِ؟ قَالا لِي: انْطَلِقِ انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا، فَأَتَيْنَا عَلَى نَهْرٍ " حَسِبْتُ أنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " أَحْمَرُ مِثْلُ الدَّمِ، وَإِذَا في النَّهْرِ رَجُلٌ سابحٌ يَسْبَحُ، وَإِذَا عَلَى شَطِّ النَّهْرِ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ حِجَارَةً كثيرةً، وَإِذَا ذَلِكَ السَّابحُ يَسْبَحُ، مَا يَسْبَحُ، ثُمَّ يَأتِي ذَلِكَ الَّذِي قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ الحِجَارَةَ، فَيَفْغَرُ لَهُ فاهُ، فَيُلْقِمُهُ حَجَراً، فَينْطَلِقُ فَيَسْبَحُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ، كُلَّمَا رَجَعَ إِلَيْهِ، فَغَرَ لَهُ فَاهُ، فَألْقَمَهُ حَجَراً، قُلْتُ لهُما: مَا هذانِ؟ قالاَ لِي: انْطَلِقِ انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا، فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ كَريهِ المرْآةِ، أَوْ كَأكْرَهِ مَا أنتَ رَاءٍ رجُلاً مَرْأىً، فإذا هُوَ عِنْدَهُ نَارٌ يَحُشُّهَا وَيَسْعَى حَوْلَهَا. قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَذَا؟ قالاَ لي: انْطَلِقِ انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا، فَأتَيْنَا عَلَى رَوْضَةٍ مُعْتَمَّةٍ فِيهَا مِنْ كُلِّ نَوْرِ ـــــــــــــــــــــــــــــ وتخفيف الراء: جمع عار كغاز وغزاة (وإذا هم يأتيهم لهب) بفتح أوله (من أسفل منهم) جر بالفتحة نيابة عن الكسرة لمنع صرفه؛ ويتعلق به قوله (فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا) أي: رفعوا أصواتهم مختلفة (قلت ما هؤلاء قالا لي انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا على نهر) بإسكان الهاء، ويجوز فتحها (حسبت أنه كان يقول) إن كان هذا الكلام من الصحابي، شك في المأتي به بعدها. فالضمائر تعود للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان مما بعده فيرجع للراوي المحدث عنه (أحمر مثل الدم) وكل من أحمر ومثل: مجروران صفةً لنهر، وفي نسخة من الرياض: ضبطهما بالرفع، ولعله على قطعهما عن المنعوت وجعلهما مبتدأ (وإذا في النهر رجل سابح) بالموحدة (يسبح وإذا على شط) بفتح المعجمة وتشديد المهملة أي: جانب (النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة) أتي بالوصف لدفع توهم أن التنوين للتقليل؛ (وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح) قال الحافظ: بفتح أوليه والموحدة خفيفة، لكن رأيته في نسخ من الرياض بالمضارع (ثم يأتي ذلك) أي: إلى الجالس على الشط (الذي قد جمع عنده الحجارة فيفغر له فاه فيلقمه) بضم التحتية (حجراً فينطلق ليسبح ثم يرجع إليه كلما رجع ّإليه فغر له فاه فألقمه حجراً فقلت لهما ما هذان) أي: السابح والملقم له الحجر (قال لي انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا على رجل كريه المرآة) كريه بالكاف والراء والتحتية، بوزن فعيل من الكراهية، والمرآة يأتي الكلام عليها (أو) شك من الراوي في أنه قال كريه المرآة، أو قال (كأكره ما أنت راء رجلاً مرأى) وفي نسخة "مرآة"، وراء اسم فاعل، من رأي البصرية. ورجلا مفعوله، ومرأى تمييز (وإذا هو عند نار يحشها ويسعى حولها) بالنصب على الظرفية

الرَّبيعِ، وَإِذَا بَيْنَ ظَهْرَي الرَّوْضَةِ رَجُلٌ طَويلٌ لا أَكادُ أَرَى رَأسَهُ طُولاً في السَّماءِ، وَإِذَا حَوْلَ الرَّجُلِ مِنْ أَكْثَرِ وِلدانٍ رَأيْتُهُمْ قَطُّ، قُلْتُ: مَا هَذَا؟ وَمَا هؤلاءِ؟ قالا لي: انْطَلقِ انْطَلقْ، فَانْطَلَقْنَا، فَأَتَيْنَا إِلَى دَوْحَةٍ عَظيمةٍ لَمْ أَرَ دَوْحَةً قَطُّ أعْظمَ مِنْهَا، وَلاَ أحْسَنَ! قالا لي: ارْقَ فِيهَا، فارْتَقَيْنَا فِيهَا إِلَى مَدينَةٍ مَبْنِيَّةٍ بِلَبنٍ ذَهَبٍ وَلَبنٍ فِضَّةٍ، فَأَتَيْنَا بَابَ المَدِينَةِ فَاسْتَفْتَحْنَا، فَفُتِحَ لَنَا فَدَخَلْنَاها، فَتَلَقَّانَا رِجالٌ شَطْرٌ مِنْ خَلْقِهِمْ كأَحْسَنِ مَا أنت راءٍ! وَشَطْرٌ مِنْهُمْ كأقْبَحِ مَا أنتَ راءٍ! قالا لَهُمْ: اذْهَبُوا فَقَعُوا في ـــــــــــــــــــــــــــــ (قلت لهما ما هذان قالا لي انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا على روضة معتمة) أي: مخصبة (فيها من كل نور) كذا في الرياض، بفتح النون وآخره راء زهر وهي رواية الكشميهني، والأكثر وفي رواية للبخاري لون بلام أوله، ونون آخره أي: لون (الربيع وإذا بين ظهري) بفتح الراء وكسر التحتية لالتقاء الساكنين؛ تثنية ظهر أي: وسط (الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولاً) تمييز (في السماء) متعلق به (وإذا حول الرجل من أكثر ولدان) بكسر الواو (ما رأيتهم) أي: أبصرتهم (قط) قال الطيبي: أصل الكلام وإذا حول الرجل ولدان، ما رأيت ولدانا قط أكثر منهم، ونظيره قوله بعد ذلك، لم أر روضة قط أعظم منها، ولما أن كان هذا التركيب يتضمن معنى النفي، جازت زيادة من وقط، التي تختص بالماضي المنفي. وقال ابن مالك: جاز استعمال قط في المثبت في هذه الرواية وهو جائز، وغفل عنه أكثرهم، فخصوه بالمنفى، قال في الفتح: والذي وجه به الطيبي حسن جداً، ووجهه الكرماني: بأنه يجوز أن يكون المنفي، المعنى الذي يلزم من التركيب. إذ المعنى ما رأيتهم أكثر من ذلك، أو أداة النفي مقدرة (قلت ما هذا وما هؤلاء قالا لي انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا إلى دوحة عظيمة لم أر دوحة قط أعظم منها ولا أحسن) قال الحافظ في الفتح: قوله يعني البخاري فأتينا إلى روضة عظيمة لم أر روضة قط، أعظم منها ولا أحسن، قال: قالا لي أرق، فإنه بعد أن ذكر المتن. كذلك في رواية أحمد والنسائي وأبي عوانة والإِسماعيلي. ودرجة بدل روضة اهـ. فهذا صريح في أن لفظ البخاري: روضته، وحينئذ فما في الرياض، لعله من قلم النساخ (قالا لي أرق فيها فارتقينا فيها إلى مدينة مبنية بلبن) بفتح فكسر اسم جنس جمعي واحده لبنة (ذهب ولبن فضة) قال في الفتح: أصل اللبن ما يبنى به من طين (فأتينا باب المدينة فاستفتحنا ففتح) بصيغة المجهول نائب فاعله لنا فدخلناها فتلقانا رجال شطر من خلقهم) بفتح الخاء المعجمة وسكون اللام، وبالقاف أي: هيئتهم المدركة بحاسة البصر. وفي نسخة "شطر منهم" (كأحسن ما) أي: الذي (أنت راء) أي: إليه (حسن) بفتح

ذَلِكَ النَّهْرِ، وَإِذَا هُوَ نَهْرٌ مُعْتَرِضٌ يَجْرِي كأنَّ ماءهُ المَحْضُ في البَيَاضِ، فَذَهَبُوا فَوَقَعُوا فِيهِ. ثُمَّ رَجَعُوا إلَيْنَا قَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ السُّوءُ عَنْهُمْ، فَصَارُوا في أحْسَنِ صُورَةٍ" قَالَ: "قالا لِي: هذِهِ جَنَّةُ عَدْنٍ، وهذاك مَنْزِلُكَ، فسَمَا بَصَري صُعُداً، فإذا قَصْرٌ مِثْلُ الرَّبَابَةِ البَيضاءِ، قالا لي: هذاكَ مَنْزلكَ؟ قلتُ لهما: باركَ اللهُ فيكُما، فذَراني فأدخُلَه. قالا لي: أمَّا الآنَ فَلاَ، وأنتَ دَاخِلُهُ، قُلْتُ لَهُمَا: فَإنِّي رَأيتُ مُنْذُ اللَّيْلَة عَجَباً ـــــــــــــــــــــــــــــ أوليه المهملين (وشطر) أي: نصف (منهم كأقبح ما أنت راء) شطر مبتدأ، وكأحسن خبر، والكاف زائدة، والجملة صفة رجال. قال الحافظ: وهذا الإِطلاق، يحتمل أن يكون المراد منه أن نصفهم حسن كلّه، ونصفهم قبيح كله. ويحتمل أن يكون المراد كله: واحد نصفه حسن، ونصفه قبيح، والثاني هو المراد. ويؤيده في قوله في صفتهم هؤلاء، قوم خلطوا عملاً صالحاً أي: عمل كل منهم عملاً صالحاً خلطه بسيء (قالا) أي: الملكان (لهم) للرجال المذكورين (اذهبوا فقعوا في ذلك النهر) أي: انغمسوا فيه لتغسل تلك الصفة القبيحة، بهذا الماء الصافي الخالص (وإذا هو) أي: النهر المشار إليه (نهر معترض) أي: يجري عرضاً (كان ماءه) المحض أي: اللبن الخالص عن الماء، حلواً كان أولاً، وبين جهة التشبيه بقوله (في البياض) قال الطيبي: ويحتمل أن يراد بالماء المذكور عفو الله تعالى عنهم، وتوبته عليهم، كما في الحديث: "اغتسل خطاياي بالماء والثلج والبرد" (فذهبوا فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم) أي: صار الشطر القبيح، كالشطر الحسن. ولذا قال: (فصاروا في أحسن صورة) والجملة مدخول قد حالية، ومدخول الفاء معطوفة على جملة رجعوا (قال) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - (فقالا لي هذه جنة عدن) يعني المدينة، وهي بفتح المهملة الأولى، وسكون الثانية، من عدن بالمكان إذا أقام به (وهذا منزلك) بالرفع، خبر لاسم الاشارة (فسما) بفتح المهملة، والميم الخفيفة، أي: نظر (بصري) إلى فوق (صعدا) قال الحافظ: ضبط بضم المهملتين، أي: ارتفع كثيراً، وضبطه ابن التين: بفتح العين واستبعد ضمها (فإذا قصر مثل الربابة) يأتي معناها، وفي رواية: "فرفعت رأسي فإذا هو في السحاب" وقصر مبتدأ، ومثل صفته، والخبر محذوف. وقيل: هو إذا الفجائية، ووصف الربابة زيادة في الإِظهار بقوله: (البيضاء قالا لي هذا منزلك قلت لهما بارك الله فيكما فذراني فأدخله قالا أما الآن فلا) ويأتي بيان ذلك في الرواية الثانية. وقولهما بقي لك عمر (وأنت داخله) دون غيرك، كما يؤذن به تعريف الجزأين (قلت لهما فإني رأيت منذ الليلة) أي: فيها (عجباً) بفتح أوله المهمل، فالجيم وبالموحدة، أي: أموراً يتعجب منها

فما هَذَا الَّذِي رأيتُ؟ قالا لي: أمَا إنَّا سَنُخْبِرُكَ: أَمَّا الرَّجُلُ الأوَّلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُثْلَغُ رَأسُهُ بالحَجَرِ، فإنَّهُ الرَّجُلُ يَأخُذُ القُرآنَ فَيَرفُضُهُ، ويَنَامُ عَنِ الصَّلاةِ المَكتُوبَةِ. وأمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أتَيْتَ عَلَيْهِ يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ، ومِنْخَرُهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنُهُ إِلَى قَفَاهُ، فإنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ فَيَكْذِبُ الكِذْبَةَ تَبْلُغُ الآفاقَ. وأمَّا الرِّجَالُ والنِّسَاءُ العُراةُ الَّذِينَ هُمْ في مثْلِ بناءِ التَّنُّورِ، فَإنَّهُمُ الزُّنَاةُ والزَّواني، وأما الرجلُ الذي أتيتَ عَليهِ يَسْبَحُ في النهرِ، ويلقم الحجارةَ، فإنَّهُ آكلُ الربا، وأمَّا الرَّجُلُ الكَريهُ المرآةِ الَّذِي عِنْدَ النَّارِ يَحُشُّهَا ـــــــــــــــــــــــــــــ (فما هذا الذي رأيت) يحتمل السؤال عن الحقيقة والوصف القائم بها، وكذا يحتملهما الجواب (قالا لي أما) بتخفيف الميم (إنا سنخبرك) السين فيه لتأكيد الوعد (أما الرجل الأول الذي أتيت) بقصر الهمزة أي: مررت (عليه) حال كونه (يثلغ رأسه) بضم التحتية، وبالمثلثة، وبالمعجمة (بالحجر فإنه الرجل يأخذ القرآن) أي: يحفظه (فيرفضه) بكسر الفاء وبضمها (وينام عن الصلاة المكتوبة) قال ابن هبيرة: رفض القرآن بعد حفظه كبيرة عظيمة، لأنه يوهم أنه رأى فيه ما يوجب رفضه؛ فلما رفض أشرف الأشياء، وهو القرآن، عوقب في أشرف الأعضاء، وهو الرأس. (وأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه فإنه الرجل) ذكره لكونه هو الغالب لا مفهوم له مخرجاً للمرأة؛ (يغدو) أي: يخرج (من بيته فيكذب الكذبة) بفتح فسكون المرة من الكذب (تبلغ الآفاق) بمد الهمزة، وبالفاء والقاف: جمع أفق بضم أوليه وبضم فسكون. قال في القاموس: هو الناحية، أو ما ظهر من نواحي الفلك، أو مهب الجنوب والشمال والدبور والصبا اهـ. (وأما الرجال والنساء العراة) بضم العين المهملة جمع عار، هو المجرد عن الثوب (الذين هم في مثل بناء التنور فهم الزناة) أي: من الرجال (والزواني) من النساء، مناسبة العرى لهم لاستحقاقهم. أن يفضحوا، لأن عادتهم أن يستتروا في الخلوة؛ فعوقبوا في الهتك. والحكمة في كون العذاب لهم من تحتهم كون، جنايتهم من أعضائهم السفلى. (وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويلقم) بالبناء للمفعول (الحجارة فإنه آكل الربا) قال ابن هبيرة: إنما عوقب آكل الربا بسباحته في النهر الأحمر وإلقامه الحجر: لأن أصل الربا يجري في الذهب وهو أحمر؛ وأما إلقام الملك له الحجر فإنه إشارة إلى أنه لا يغني عنه شيئاً؛ وكذلك الربا فإن صاحبه يتخيل أن ماله يزداد، والله تعالى من ورائه يمحقه (وأما الرجِل الكريه المرآة) بفتح الميم والهمزة الممدودة أي: المنظر (الذي عنده النار يحشها

وَيَسْعَى حَوْلَهَا، فإنَّهُ مالكٌ خازِنُ جَهَنَّمَ، وأمَّا الرَّجُلُ الطَّويلُ الَّذِي في الرَّوْضَةِ، فإنَّهُ إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، وأمَّا الولدان الَّذِينَ حَوْلَهُ، فكلُّ مَوْلُودٍ ماتَ عَلَى الفِطْرَةِ" وفي رواية البَرْقانِيِّ: "وُلِدَ عَلَى الفِطْرَةِ" فَقَالَ بعض المُسلمينَ: يَا رسولَ الله، وأولادُ المُشركينَ فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "وأولادُ المشركينَ، وأما القومُ الذينَ كانُوا شَطْرٌ مِنْهُمْ حَسَنٌ، وشَطْرٌ مِنْهُمْ قَبيحٌ، فإنَّهُمْ قَومٌ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وآخَرَ سَيِّئاً، تَجاوَزَ الله عنهم". رواه البخاري. وفي روايةٍ لَهُ: "رَأيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أتيَانِي فأخْرَجَانِي إِلَى ـــــــــــــــــــــــــــــ ويسعى حولها فإنه مالك خازن النار) وإنما كان كريه الرؤية، زيادة في تعذيب أهل النار (وأما الرجل الطويل الذي في الروضة) قال في المصباح: هو الموضع المعجب بالزهور (فإنه إبراهيم) وإنما اختص إبراهيم بذلك: لأنه أبو المسلمين؛ قال تعالى: (ملة أبيكم إبراهيم) (¬1) وقال تعالى: (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه) (¬2) الآية (وأما الوالدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة) أي: الإِسلام (وفي رواية) أخرى (للبرقاني ولد على الفطرة) قال الحافظ في الفتح: وهو أشبه بقوله (فقال بعض المسلمين يا رسول الله وأولاد المشركين) قال الحافظ: لم أقف على اسم القائل، وهذا يسمى بالعطف التلقيني، نظير الاستثناء التلقيني في قول العباس، إلا الأذخر (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وأولاد المشركين) ظاهره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألحقهم بأولاد المسلمين في حكم الآخرة، ولا يعارض قوله في الحديث الآخر: "هم من آبائهم" لأن ذلك في حكم الدنيا؛ (وأما القوم الذين كانوا) وجملة (شطر) أي: نصف (منهم حسن) خبر، والرابط الضمير المجرور. وأعرب الحافظ كان: تامة، وجعل الجملة حالية (وشطر منهم قبيح فإنهم قوم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً) قال السيد معين الدين الصفوي في جامع البيان: قيل الواو بمعنى الباء، كما في بعت الشاة شاة ودرهماً أي: بدرهم. والأولى: أن الواو على أصله، دال على أن كل واحد مخلوط بالآخر، كما تقول: خلطت الماء واللبن أي: خلطت كل واحد منهما بصاحبه، كما إذا قلت خلطت الماء باللبن واللبن بالماء (تجاوز الله عنهم) أي: غفر لهم (رواه البخاري) قال الحافظ المزي: حديث "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الصبح أقبل علينا بوجهه" الحديث بطوله، رواه مقطعاً في الصلاة، وفي الجنائز، والبيوع، والجهاد وبدء الخلق وصلاة الليل، وأحاديث ¬

_ (¬1) سورة الحج، الآية: 78. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 68.

أرْضٍ مُقَدَّسَةٍ" ثُمَّ ذَكَرَهُ وقال: " فَانْطَلَقْنَا إِلَى نَقْبٍ مثلِ التَّنُّورِ، أعْلاهُ ضَيِّقٌ وَأسْفَلُهُ واسِعٌ؛ يَتَوَقَّدُ تَحْتَهُ ناراً، فإذا ارْتَفَعَتِ ارْتَفَعُوا حَتَّى كَادُوا أنْ يَخْرُجُوا، وَإِذَا خَمَدَتْ! رَجَعُوا فِيهَا، وفيها رِجالٌ ونِساءٌ عراةٌ ". وفيها: " حَتَّى أتَيْنَا عَلَى نَهْرٍ مِنْ دَمٍ " ولم يشكَّ " فِيهِ رَجُلٌ قائِمٌ عَلَى وَسَطِ النَّهْرِ وعلى شطِّ النَّهرِ رجلٌ، وبينَ يديهِ حِجارةٌ، فأقبلَ ـــــــــــــــــــــــــــــ الأنبياء والتفسير والتعبير. ورواه مسلم في الرؤيا، ورواه الترمذي مختصراً وقال: حسن صحيح. ورواه النسائي اهـ. وتعقب المزي، بأن البخاري، ساق الحديث بتمامه في كل من الجنائز والتعبير، وفيما عداه في كل موضع قطعة. ورواه في صلاة الليل بقصر مجحف للغاية، وكذا اختصره في التفسير، وهو في تفسير براءة (وفي رواية له) أي: للبخاري، أو ردها في الجنائز (رأيت الليلة رجلين) أي: على صورتهما (أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة) بصيغة المفعول من التقديس أي: التطهير (ثم ذكره) أي: الإِخراج إليها أي: من بيته (قال فانطلقنا إلى نقب) بفتح النون وسكون القاف أي: خرق. مصدر نقبت الحائط أنقبه من باب قتل (مثل التنور) وبين وجه شبهه بقوله: (أعلاه ضيق وأسفله) بالرفع (واسع يتوقد) بالتحتية (تحته) أي: النقب (ناراً) قال الدماميني في المصابيح: كلام ابن مالك صريح في أن تحته ظرف منصوب، لا مرفوع فإنه قال: نصب ناراً على التمييز، وفاعل يتوقد: ضمير يعود على النقب، والأصل يتوقد ناره تحته. قال: ويجوز أن يكون فاعل يتوقد موصولاً بتحته، فحذف. وبقيت صلته دالة عليه لوضوح المعنى؛ أي: يتوقد الذي، أو ما تحته ناراً، وهو مذهب الكوفيين والأخفش. واستصوبه ابن مالك، واستدل عليه بأمور قررها في توضيحه فلتراجع فيه اهـ. (فإذا ارتفعت ارتفعوا) بحمل لهيبها لهم (حتى كادوا) أي: قاربوا (أن يخرجوا) فيه إدخال أن في خبر كاد ومنه قول عمر رضي الله عنه: ما كدت أن أصلي العصر، حتى كادت الشمس أن تغرب. والأكثر تجرده منها، قال تعالى: (وما كادوا يفعلون يكاد زيتها يضيء) (¬1) (وإذا خمدت) بالمعجمة أي: سكن لهبها مع بقاء حمرة الجمر بحالها (¬2) (رجعوا فيها) إلى الأسفل (وفيها رجال ونساء عراة وفيها) أي: هذه الرواية (حتى أتينا على نهر من دم) بالجزم (ولم يشك) الراوي، كما شك في الأولى، حيث قال: حسبت أنه قال أحمر مثل الدم (فيه) أي: النهر (رجل قائم على وسط النهر) بفتح السين المهملة على الأفصح، ويجوز إسكانها، وبإسكان الهاء، ويجوز فتحها (وعلى شطر النهر ¬

_ (¬1) سورة النور، الآية: 35. (¬2) عبارة المصباح: خمدت النار خموداً من باب تعب ماتت فلم يبق منها شيء وقيل سكن لهبها وبقي جمرها اهـ. ع.

الرجلُ الذي في النَّهرِ، فَإذَا أرَادَ أَنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ في فِيهِ، فَرَدَّهُ حَيثُ كَانَ، فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ جَعَلَ يَرْمِي في فِيهِ بِحَجَرٍ، فَيْرَجِعْ كما كَانَ ". وفيها: " فَصَعِدَا بي الشَّجَرَةَ، فَأدْخَلاَنِي دَاراً لَمْ أرَ قَطُّ أحْسَنَ مِنْهَا، فيهَا رِجَالٌ شُيُوخٌ وَشَبَابٌ ". وفيها: " الَّذِي رَأيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ فَكَذَّابٌ، يُحَدِّثُ بِالكِذْبَةِ فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الآفَاقَ، فَيُصْنَعُ بِهِ مَا رَأَيْتَ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ "، وَفِيهَا: " الَّذِي رَأيْتَهُ يُشْدَخُ رَأسُهُ فَرَجُلٌ عَلَّمَهُ اللهُ القُرْآنَ، فَنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ، وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ بالنَّهارِ، فَيُفْعَلُ بِهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ رجل وبين يديه حجارة فأقبل الرجل الذي في النهر فإذا أراد أن يخرج) أي: منه (رمى) الذي في الشط (حجراً في فيه) أي: الرجل المريد للخروج، إيماء إلى خيبته، كما في الحديث "وللعاهر الحجر" (فرده حيث كان فجعل) أي: الذي في الشط (كلما جاء ليخرج) أي: الذي في النهر (جعل يرمي) أي: الذي في الشط (في فيه) أي: الذي في النهر (بحجر فيرجع كما كان) أي: على كونه فيه. قال الدماميني في قوله رمى الخ: وقوع خبر جعل، التي هي من أفعال الشروع، جملة فعلية مصدرة بكلما، والأصل أن يكون مضارعاً. تقول جعلت أفعل كذا، وما جاء بخلافه: فمبني على أصلٍ متروك، وهو أن أفعال المقاربة مثل كان، في الدخول على مبتدأ وخبر، فالأصل كون خبرها كخبر كان في وقوعه مفرداً وجملة اسمية وفعلية وظرفية، فترك ذلك والتزم كون الخبر مضارعاً. وقد يجيء على الأصل المتروك شذوذاً (وفيها) أي: الرواية المذكورة (فصعدا) بكسر المهملة الثانية (بي الشجرة) قبله فانطلقنا حتى انتهينا إلى روضة خضراء، فيها شجرة عظيمة، إلى أن قال: فصعدا بي الشجرة (فأدخلاني داراً لم أر قط أحسن منها فيها رجال شيوخ) بضمتين، أو بكسر فضم: أحد جموع لفظ شيخ (وشباب) بمعجمة وموحدتين (وفيها) أي: الرواية المذكورة في قوله: (الذي رأيته يشق شدقه) بالبناء للمفعول (فكذاب) قال ابن مالك: أدخل الفاء لتضمن الموصول العموم؛ إذ ليس المراد به معيناً، بل هو وأمثاله. وكذا الباقي اهـ. وهذا أحسن مما يأتي عن الدماميني لما فيه من إجرائه، على العام الغالب، والمبالغة باعتبار الكيف كما قال (يحدث بالكذبة) بالكسر قال البرماوي أي: ينشئها كما تقدم في الرواية قبلها (فتحمل) بصيغة المجهول، فالميم مخففة. وقال الزركشي مشددة (عنه حتى تبلغ الآفاق فيصنع) بصيغة المجهول (به) ونائب الفاعل مستتر، يعود إلى ما ذكر من العذاب (إلى يوم القيامة وفيها) أي: الرواية المذكورة (الذي رأيته يشدخ في رأسه فرجل علمه الله القرآن) قال الدماميني في المصابيح: الأصل في الموصول، الذي تدخل الفاء في حيزه، أن يكون

" ضَوْضَوا " وَهُوَ بضادين معجمتين: أيْ صاحوا. قَوْله: " فَيَفْغَرُ " هُوَ بالفاء والغين المعجمة، أيْ: يفتح. قَوْله " المَرآة " هُوَ بفتح الميم، أيْ: المنظر. قَوْله: " يَحُشُّها " هُوَ بفتح الياءِ وضم الحاء المهملة والشين المعجمة، أيْ: يوقِدُها. قَوْله: " رَوْضَةٍ مُعْتَمَّةٍ " هُوَ بضم الميم وإسكان العين وفتح التاء وتشديد الميم، أيْ: وافية النَّباتِ طَويلَته. قَولُهُ: " دَوْحَةٌ " وهي بفتحِ الدال وإسكان الواو وبالحاءِ المهملة ـــــــــــــــــــــــــــــ المشددة وهو معروف) قال الجوهري: هو المنشار، وكذا الكلاب، والجمع كلاكليب وقال ابن بطال: الكلوب: خشبة في رأسها غفافة. قال الدماميني: لا يتأتى تفسير الحديث بهذا لتصريحه بأنه من حديد؛ قلت: لعل مراد ابن بطال أنه من الحديد، بصورة الذي في الخشب، ثم رأيت البرماوي فسرها بذلك، فقال: حديدة لها شعب يعلق فيها اللحم (قوله فيشرشر أي: يقطع) بتشديد الطاء والتفعيل لتكرير الفعل؛ (ضوضوا هو بضادين معجمتين) مفتوحتين، قال في الفتح: بغير همز للأكثر، وحكي الهمز، ومنهم من يسهله (أي: صاحوا) بأصوات مختلفة وفي النهاية: الضوضأة أصوات الناس ولغطهم، وكذا الضوضي: بلا هاء مقصور قال الحميدي: المصدر بغير همز (قوله فيفغر هو بالفاء والغين المعجمة أي: يفتح) هو بمعناه وبوزنه (قوله المرآة هو بفتح الميم) وسكون الراء، وهمزة ممدودة بعدها هاء تأنيث (أي: المنظر) قال ابن التين: أصله المرأية، تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفاً، ووزنها مفعلة (قوله يحشها هو بفتح الياء) التحتية (وضم الحاء المهملة وبالشين المعجمة) أي: المشددة من الثلاثي، وحكي في المطالع ضم أوله من الرباعي. وفي الرواية الثانية التي أشار إليها المصنف، يخشها بضم المعجمتين (أي: يوقدها وقوله روضة) وهي كما تقدم الموضع المعجب بالزهور (معتمة هو بضم الميم وإسكان العين) المهملة (وفتح التاء) الفوقية (وتشديد الميم) هذا الضبط، نسبه في الفتح لبعضهم، وبدأ قبله بأنه بكسر المثناة وتخفيف الميم (أي: وافية النبات طويلته) قال في الفتح يقال: اعتم النبت إذا اكتمل، ونخلة عتمة طويلة. وقال الداودي: اعتمت الروضة غطاها الخصب، هذا على روايته بتشديد الميم. قال ابن التين: ولا يظهر للتخفيف وجه. قلت الذي يظهر: أنه من العتمة، وهي شدة الظلام، فوصفها بشدة الخضرة كقوله تعالى: (مدهامتان) (¬1) وضبطه ابن بطال روضة مغنة، بكسر الغين وتشديد النون. ثم نقل عن أبي زيد، روض غن ومغن، إذا كثر ¬

_ (¬1) سورة الرحمن، الآية: 64.

261- باب في بيان ما يجوز من الكذب

وهي الشَّجَرَةُ الكَبيرةُ. قَوْلهُ: " المَحْضُ " هُوَ بفتح الميم وإسكان الحاء المهملة وبالضَّادِ المعجمة، وَهُوَ: اللَّبَنُ. قَوْلهُ " فَسَمَا بَصَري " أيْ: ارْتَفَعَ. و" صُعُداً " بضم الصاد والعين، أيْ: مُرْتَفعاً. وَ" الربَابَةُ " بفتح الراءِ وبالباء الموحدة مكررةً، وهي: السَّحابَة (¬1) (¬2) . 261- باب في بيان مَا يجوز من الكذب اعلَمْ أنَّ الكَذِبَ، وإنْ كَانَ أصْلُهُ مُحَرَّماً، فَيَجُوزُ في بَعْضِ الأحْوَالِ بِشُروطٍ قَدْ ـــــــــــــــــــــــــــــ شجره، وقال الخليل روضة غناء، كثيرة العشب (قوله دوحة هي بفتح الدال المهملة وإسكان الواو وبالحاء المهملة وهي الشجرة الكبيرة) أي: شجرة كانت قال في المصباح والجمع دوح و (قوله المحض هو بفتح الميم وإسكان الحاء المهملة وبالضاد المعجمة وهو اللبن) يفيد أن لا يخالطه ماء، والمحض: الخالص الذي لم يخالطه غيره. وأنت الضمير أولاً باعتبار أنها كلمة، وذكره ثانياً نظراً لأنه لفظ، أو لأن الخبر مذكر؛ و (قوله فسما بصرى) بالفاء العاطفة، وسها فعل ماض (أي: ارتفع وصعداً بضم الصاد والعين) بمهملات (أي: مرتفعاً) أي: إن صعداً بمعنى صاعد، وهو بمعنى مرتفع، فهو منصوب على الحال (والربابة بفتح الراء وبالباء الموحدة مكررة وهي السحابة) البيضاء، ويقال لكل سحابة منفردة عن السحاب، ولو لم تكن بيضاء، وقال الخطابي: الربابة السحابة التي ركب بعضها على بعض. باب بيان ما يجوز من الكذب للمصلحة المترتبة عليه: (اعلم أن الكذب وإن كان أصله محرماً) أي: إذا كان على وجه التعمد (فيجوز) أي: لا يمتنع (في بعض الأحوال) وتارة يكون واجباً، وتارة يكون مندوباً، وأخرى مباحاً، (بشروط) جمع شرط، وهو لغة العلامة. وشرعاً ما يلزم من عدمه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: التعبير، باب: تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح (3/200، 201) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الصلح، باب: ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس (5/220) . وأخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب. باب: تحريم الكذب، وبيان المباح منه (الحديث: 101) .

أوْضَحْتُهَا في كتاب: " الأَذْكَارِ "، ومُخْتَصَرُ ذَلِكَ: أنَّ الكلامَ وَسيلَةٌ إِلَى المَقَاصِدِ، فَكُلُّ مَقْصُودٍ مَحْمُودٍ يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِغَيْرِ الكَذِبِ يَحْرُمُ الكَذِبُ فِيهِ، وإنْ لَمْ يُمْكِنْ تَحْصِيلُهُ إِلاَّ بالكَذِبِ، جازَ الكَذِبُ. ثُمَّ إنْ كَانَ تَحْصِيلُ ذَلِكَ المَقْصُودِ مُبَاحاً كَانَ الكَذِبُ مُبَاحاً، وإنْ كَانَ وَاجِباً، كَانَ الكَذِبُ وَاجِباً. فإذا اخْتَفَى مُسْلِمٌ مِنْ ظَالِمٍ يُريدُ قَتْلَهُ، أَوْ أَخذَ مَالِهِ وأخفى مالَه وَسُئِلَ إنْسَانٌ عَنْهُ، وَجَبَ الكَذِبُ بإخْفَائِه. وكذا لو كانَ عِندَهُ وديعَةٌ، وأراد ظالمٌ أخذها، وجبَ الكذبُ بإخفائها. وَالأحْوَطُ في هَذَا كُلِّهِ أن يُوَرِّيَ. ومعْنَى التَّوْرِيَةِ: أنْ يَقْصِدَ بِعِبَارَتِهِ مَقْصُوداً صَحيحاً لَيْسَ هُوَ كَاذِباً بالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وإنْ كَانَ كَاذِباً في ظَاهِرِ اللَّفْظِ، وبالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَفْهَمُهُ المُخَاطَبُ، وَلَوْ تَرَكَ التَّوْرِيَةَ وَأطْلَقَ عِبَارَةَ الكَذِبِ، فَلَيْسَ بِحَرَامٍ في هَذَا الحَالِ. وَاسْتَدَل العُلَمَاءُ بِجَوازِ الكَذِبِ ـــــــــــــــــــــــــــــ العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته (قد أوضحتها في كتاب الأذكار ومختصر ذلك) أي: ملخص ما فيه (إن الكلام وسيلة) أي: متوسلاً به (إلى المقاصد) فلذا كان من ألطاف وضع اللغة، ليعبر الإِنسان عن مقصوده؛ (فكل مقصود محمود) شرعاً (يمكن تحصيله بغير الكذب يحرم الكذب فيه) لأنه لا داعي إلى الإتيان والمقصود حاصل بدونه، فارتكابه حينئذ، ارتكاب محرم بلا داع (وإن لم يمكن تحصيله إلا بالكذب جاز الكذب) أي: لا يمتنع، وليس المراد به الجواز بمعنى الإباحة، حتى يشكل بأنه يكون حينئذ واجباً تارة، ومندوباً أخرى، كما قال (ثم إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحاً كان الكذب مباحاً) لأنه وسيلة لمباح؛ وللوسائل حكم المقاصد (وإن كان واجباً كان الكذب واجباً فإذا اختفى مسلم من ظالم يريد قتله) أي: ظلماً، كما يومىء إليه لفظة ظالم (أو أخذ ماله) كذلك، (وسئل إنسان عنه، وجب الكذب بإخفائه) وأنه ما رآه (وكذا لو كان عنده وديعة، وأراد ظالم أخذها وجب الكذب باخفائها) ومحل وجوب الكذب فيهما، ما لم يخش التبين، ويعلم أنه يترتب عليه ضرر شديد، لا يحتمل (والأحوط في هذا كله أن يوري) من التورية، وهي إيراد لفظ له معنيان، قريب وبعيد، ويراد البعيد منهما كما قال (ومعنى التورية) المأخوذة من قوله يوري (أن يقصد بعبارته مقصوداً صحيحاً ليس هو كاذباً فيه بالنسبة إليه) أي: لذلك المقصود (وإن كان كاذباً في ظاهر اللفظ بالنسبة إلى ما يفهمه المخاطب) لكونه المعنى القريب؛ كأن يريد بقوله: ما رأيته ما ضربت رئته، وبقوله ما له عندي مال دانقاً، أو نحوه بما ليس من جنس المسئول عنه (ولو ترك التورية وأطلق عبارة (الكذب) إضافة بيانية (فليس

فهل عَلَيَّ جُنَاحٌ إنْ تَشَبَّعْتُ مِنْ زَوْجِي غَيْرَ الَّذِي يُعْطِيني؟ فَقَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "المُتَشَبِّعُ بِما لَمْ يُعْطَ كَلاَبِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ". متفق عَلَيْهِ. "وَالمُتَشَبِّعُ": هُوَ الَّذِي يُظْهِرُ الشَّبَعَ وَلَيْسَ بِشَبْعَان. ومعناهُ هُنَا: أنْ يُظْهِرَ أنَّهُ حَصَلَ لَهُ فَضيلَةٌ وَلَيْسَتْ حَاصِلَةً. "وَلابِسُ ثَوْبَي زُورٍ" أيْ: ذِي زُورٍ، وَهُوَ الَّذِي يُزَوِّرُ عَلَى النَّاسِ، بِأنْ يَتَزَيَّى بِزِيِّ أهْلِ الزُّهْدِ أَو العِلْمِ أَو الثَّرْوَةِ، لِيَغْتَرَّ بِهِ النَّاسُ وَلَيْسَ هُوَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ. وَقَيلَ غَيرُ ذَلِكَ واللهُ أعْلَمُ. (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ ضرة) بفتح الضاد المعجمة، وتشديد الراء. قال في المصباح: وهي امرأة الزوج، والجمع ضرات على القياس، وسمع ضرائر، كأنها جمع ضريرة مثل كريمة وكرائم. ولا يكاد يوجد لها نظير (فهل عليّ جناح) بضم الجيم أي: (أن) بفتح الهمزة أي: في أن (تشبعت) بتشديد الموحدة (من زوجي غير الذي يعطيني) وذلك تفعله المرأة إظهاراً لرفعتها على ضرتها عند الزوج: لتغيظها به؛ (فقال - صلى الله عليه وسلم - المتشبع بما لم يعط) بصيغة المجهول (كلابس ثوبي زور متفق عليه) . ورواه أحمد وأبو داود من حديثها. ورواه مسلم من حديث عائشة (المتشبع هو الذي يظهر الشبع وليس بشبعان) هذا معنى اللفظ لغة (ومعناه) أي: المراد منه (هنا أنه) أي: المتشبع (يظهر أنه يحصل له فضيلة) من علم، أو جاه، أو رفعة. (وليست حاصلة ولابس ثوبي زور) المشبه به، المتشبع، فيه مضاف مقدر (أي: ذي زور، وهو الذي يزور على الناس، بأن يتزيا بزي) بكسر الزاي، أي: الهيئة. وأصله زوي (أهل الزهد) من خشونة الملبوس، والترفع على أهل الدنيا (أو) أهل (العلم) بأن يلبس لباسهم المعروف بهم (أو) أهل (الثروة) بفتح المثلثة وسكون الراء كثرة المال (ليغتر به الناس) فيتبركوا به في الأول، ويعطوه وظائف أهل العلم في الثاني، ويأمنوه على أموالهم في الثالث. (وليس هو بتلك الصفة) جملة حالية من ضمير يتزيا (وقيل غير ذلك) وفي فتح الباري: وقيل المراد بالثوب النفس، لقولهم: فلان نقي الثوب، إذا كان بريئاً من الدنس، ودنس الثوب، إذا كان مغموصاً عليه في دينه. قال الخطابي: الثوب مثل، ومعناه أنه صاحب زور وكذب. كما يقال لمن يوصف بالبراءة من الأدناس، طاهر الثوب. والمراد به نفس الرجل. وقيل المراد أن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: النكاح، باب: التشبع بما لم ينل (9/278، 279) . وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: النهي عن التزوير في اللباس وغيره والتشبع بما لم يُعط، (الحديث: 127) .

264- باب في تحريم لعن إنسان بعينه أو دابة

264- باب في تحريم لعن إنسان بعينه أَو دابة 1549- عن أَبي زيدٍ ثابت بن الضَّحَّاك الأنصاريِّ - رضي الله عنه -، وَهُوَ من أهلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، قَالَ: قَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإسْلاَمِ كاذِباً مُتَعَمِّداً، فَهُوَ كَما قَالَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيءٍ، عُذِّبَ بِهِ يَومَ القِيَامَةِ، وَلَيْسَ عَلَى رَجُلٍ نَذْرٌ فيما لا يَمْلِكُهُ، وَلَعْنُ المُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ". متفق عَلَيْهِ (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ باب تحريم لعن إنسان بعينه أي: إن لم يتيقن موته على الكفر، أما من تيقن موته عليه فلا، سواء مات، كأبي جهل وأمثاله، أولا كإبليس وأجناده. وإنما حرمت اللعنة فيما عداه، لأنها طرد عن رحمة الله؛ ولا يعلم ذلك إلا بتوقيف. والحي الكافر إيمانه مرجو، فيدخل في أهلها (أو دابة) أي مثلاً وكذا كل مخلوق من النبات والجماد. 1549- (وعن أبي زيد ثابت) بالمثلثة وبعد الألف موحدة (ابن الضحاك الأنصاري رضي الله عنه وهو من أهل بيعة الرضوان) أي: البيعة التي نزل فيها قوله تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) (¬2) وكانت بالحديبية، سنة ست من الهجرة، سببها، أنه أشيع، أن قريشاً قتلوا عثمان بن عفان، فبايع - صلى الله عليه وسلم - أصحابه على قتالهم إن صح ذلك الخبر. (قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حلف على يمين بملة غير الإِسلام كاذباً متعمداً) كأن قال والله إن فعلت كذا، فهو يهودي أو نصراني (فهو كما قال) أي: إذا أراد التدين بذلك، والعزم عليه إن فعل ذلك، فيصير كافراً حالاً، لأن العزم على الكفر كفر. أما إذا أراد المبالغة في منع نفسه من ذلك، وألا يفعله ألبتة من غير عزم على ذلك المحلوف به ألبتة، فمعصية يستغفر الله منها. وأتى بعلى التي للاستعلاء إيماء إلى عقد قلبه على تلك اليمين، وأنه لو جرى ذلك على لفظه، من غير قصدٍ لم يكن كما ذكر في الحديث (ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة) ليكون الجزاء من جنس العمل؛ (وليس على رجل نذر فيما ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الجنائز واللعن، والإِيمان باب: من حلف بملة سوى الإِسلام مع اختلاف في بعض الألفاظ، باب: ما جاء في قاتل النفس وفي الأدب، باب ما ينهى عنه من السباب، (الحديث: 10/389) . وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: غلظ تحريم قتل النفس ... (الحديث 176) . (¬2) سورة الفتح، الآية: 18.

وَلاَ بِغَضَبِهِ، وَلاَ بِالنَّارِ" رواه أَبُو داود والترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" (¬1) . 1553- وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ المُؤْمِنُ بالطَّعَّانِ، وَلاَ اللَّعَّانِ، وَلاَ الفَاحِشِ، وَلاَ البَذِيِّ" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (¬2) . 1554- وعن أَبي الدرداء - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ العَبْدَ إِذَا لَعَنَ شَيْئاً، صَعدَتِ اللَّعْنَةُ إِلَى السَّماءِ، فَتُغْلَقُ أبْوابُ السَّماءِ دُونَهَا، ثُمَّ تَهْبِطُ إِلَى ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا بغضبه ولا بالنار) يحتمل أن تكون المفاعلة على بابها، ويحتمل أنها للمبالغة، لا للمغالبة. وقوله ولا بغضبه ولا بالنار، أي: ولا يدعو أحدكم على أحد بكل منهما، وذلك لعظم شأنهما؛ (رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح) ورواه الطيالسي والطبراني والحاكم في المستدرك، وأبو يعلى، وسعيد بن منصور، كما في الجامع الكبير. 1553- (وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس المؤمن) أي: الكامل الإِيمان (بالطعان) أي: الوقاع في أعراض الناس، بالذم والغيبة ونحوهما، وهو فعال من طعن فيه وعليه بالقول، يطعن بالفتح والضم إذا عابه: ومنه الطعن في النسب. قاله في النهاية (ولا اللعان) قال السيوطي في الدرر: اللعن من الله: الطرد والإِبعاد. ومن الخلق السب والدعاء (ولا الفحاش) هو: ذو الفحش في كلامه وفعاله (ولا البذاء) قال في النهاية: البذاء المباذاة، وهي المفاحشة، وقد بذأ يبذو بذاءة. وقال في المصباح: بذا على القوم يبذو بالفتح والمد سفه وأفحش في منطقه، وإن كان كلامه صدقاً فهو بذي على فعيل، وامرأة بذية كذلك، وأبذى بالألف وبذى وبذو، من بابي تعب وقرب، لغات فيه وبذأ يبذأ مهموز بفتحهما، بذاء وبذاءة بفتح الأول وبالمد (رواه الترمذي وقال حديث حسن) ورواه أحمد، والبخاري في الأدب، وابن حبان، والحاكم في المستدرك. 1554- (وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن العبد إذا لعن شيئاً) أدمياً كان، أو غيره، كما يؤذن به التعميم، المستفاد من ذكرها في سياق النكرة (صعدت) بكسر المهملة الثانية (اللعنة إلى السماء فتغلق) بالفوقية مبني للمجهول، للعلم بالفاعل ونائبه ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في اللعن، (الحديث: 4906) . وأخرجه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في اللعنة، (الحديث: 1976) . (¬2) أخرجه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في اللعنة، (الحديث: 1977) .

1556- وعن أَبي بَرْزَةَ نَضْلَةَ بْنِ عُبَيْدٍ الأَسْلَمِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: بَيْنَمَا جَارِيَةٌ عَلَى نَاقَةٍ عَلَيْهَا بَعْضُ مَتَاعِ القَوْمِ. إِذْ بَصُرَتْ بِالنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَتَضَايَقَ بِهِمُ الجَبَلُ فَقَالَتْ: حَلْ، اللَّهُمَّ الْعَنْهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تُصَاحِبْنَا نَاقَةٌ عَلَيْهَا لَعْنَةٌ". رواه مسلم. قَوْله: "حَلْ" بفتح الحاء المهملة وَإسكانِ اللاَّم: وَهِيَ كَلِمَةٌ لِزَجْرِ الإبِلِ. وَاعْلَمْ أنَّ هَذَا الحَدِيثَ قَدْ يُسْتَشكَلُ مَعْنَاهُ، وَلاَ إشْكَالَ فِيهِ، بَلِ المُرَادُ النَّهْيُ أنْ تُصَاحِبَهُمْ تِلْكَ النَّاقَةُ، وَلَيْسَ فِيهِ نَهْيٌ عَنْ بَيْعِهَا وَذَبْحِهَا وَرُكُوبِهَا فِي غَيْرِ صُحْبَةِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، بَلْ كُلُّ ذَلِكَ وَمَا سِوَاهُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ جائِزٌ لا مَنْعَ مِنْهُ، إِلاَّ مِنْ مُصَاحَبَةِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِهَا؛ لأنَّ هذِهِ التَّصَرُّفَاتِ كُلَّهَا كَانَتْ جَائِزَةً فَمُنِعَ بَعْض مِنْهَا، فَبَقِيَ البَاقِي عَلَى مَا كَانَ، واللهُ أَعلم (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1556- (وعن أبي برزة) بفتح الموحدة وسكون الراء والزاي (نضلة) بفتح النون، وسكون الضاد المعجمة (ابن عبيد) بصيغة التصغير (الأسلمي) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب الخوف (قال بينما جارية) امرأة شابة (على ناقة عليها بعض متاع القوم إذ بصرت) بضم المهملة (بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وتضايق بهم) أي: بالقوم الذين فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - (الجبل فقالت حل) لتسرع في السير؛ (اللهم العنها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تصاحبنا) لم يضبطه المصنف، أهو بسكون الباء، أو بفتحها وتشديد النون للتوكيد. وحذفت نون الضمير، فيكون نهياً أو بالفعل المرفوع فيكون خبراً لفظا نهياً معنى (ناقة عليها لعنة، رواه مسلم قوله حل بفتح الحاء المهملة وإسكان اللام وهي كلمة لزجر الإِبل) كما أن عدس بالمهملتين المفتوحتين، فالساكنة لزجر البغل (واعلم أن هذا الحديث قد يستشكل) بالبناء للمجهول (معناه) وذلك لما فيه من تسيب تلك الناقة؛ ولا سائبة في الإِسلام (ولا إشكال فيه) أي: عند التأمل والإمعان، وذلك أنه لم يأمر بتسييبها، ومنع التصرف فيها رأساً (بل المراد النهي أن تصاحبهم تلك الناقة) في سفر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - (وليس فيه نهي عن بيعها وذبحها وركوبها، في غير صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم -. بل كل ذلك وما سواه من التصرفات، جائز لا منع منه، إلا من مصاحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بها) أي: استثناء منقطع. (لأن هذه التصرفات كلها كانت جائزة فمنع بعضها) وهو صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بها (فبقي الباقي على ما كان) عليه وقوفاً مع الوارد (والله) تعالى (أعلم) . ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: النهي عن لعب الدواب وغيرها (الحديث: 82) .

265- باب في جواز لعن أصحاب المعاصي غير المعينين

265- باب في جواز لعن أصحاب المعاصي غير المعينين قَالَ الله تَعَالَى (¬1) : (ألاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) . وَقَالَ تَعَالَى (¬2) : (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَعنَ اللهُ الوَاصِلَةَ وَالمُسْتَوْصِلَةَ" (¬3) وَأنَّهُ قَالَ: "لَعَنَ اللهُ آكِلَ الرِّبَا" (¬4) ـــــــــــــــــــــــــــــ باب جواز أي إباحة (لعن أصحاب المعاصي غير المعينين. قال الله تعالى: ألا لعنة الله على الظالمين وقال تعالى: فأذن مؤذن بينهم) أي نادى مناد (أن) مخففة من الثقيلة أي أن الشأن (لعنة الله على الظالمين وثبت في الصحيح) أي الحديث الصحيح (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعن الله الواصلة) وهي التي تصل شعرها بشعر آدمي، ولا فرق في حرمته، بين الزوجة غيرها، فإن وصلته بشعر غير آدمي، وهو نجس: حرم لأنه حمل نجاسة في صلاة وغيرها عمداً، أو وهو طاهر جاز إن كانت ذات حليل وأذن لها هذا تفصيل مذهبنا ومذهب مالك والطبري والأكثرون إلى تحريم الوصل مطلقاً سواء كان بشعر أو صوف أو خرق. وقال الليث بن سعد النهي عن الوصل بالشعر ولا بأس بوصله بغيره. والصحيح عن عائشة كقول الجمهور أما ربط خيوط الحرير الملونة مما لا يشبه الشعر فليس بمنهي عنه لأنه ليس بوصل ولا في معنى مقصود الوصل وإنما هو للتجمل والتزين قال المصنف وفي الحديث أن وصل الشعر من الكبائر للعن فاعلته (والمستوصلة) هي التي تطلب من يفعل بها ذلك ويقال لها موصولة. والحديث رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة (وأنه) - صلى الله عليه وسلم - (لعن آكل الربا) هو شامل ¬

_ (¬1) سورة هود، الآية: 18. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 44. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم فعل الواصلة والمستوصلة ... (الحديث: 115) و (الحديث: 119) . (¬4) أخرجه مسلم في كتاب: المساقاة، باب: لعن آكل الربا ومؤكله، (الحديث: 105) .

مُحْدِثاً فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلاَئِكَة والنَّاسِ أجْمَعينَ" (¬1) وأنَّه قَالَ: "اللَّهُمَّ الْعَنْ رِعْلاً، وَذَكْوَانَ، وعُصَيَّةَ: عَصَوُا اللهَ وَرَسُولَهُ" (¬2) وهذِهِ ثَلاَثُ قَبَائِلَ مِنَ العَرَبِ. وأنَّه قَالَ: "لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ" (¬3) وأنهُ "لَعَنَ المُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بالنِّساءِ والمُتَشَبِّهاتِ مِنَ النِّسَاءِ بالرِّجالِ" (¬4) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشيخان. قال المصنف قال القاضي: معناه من أتى فيها إثماً، أو آوى من أتاه وضمه إليه وحماه. ومحدثاً قال المازري: بفتح الدال، فيكون مصدراً ميمياً أي: الإِحداث نفسه. ومن كسر أراد فاعل الحدث، واستدلوا به على أن ذلك من الكبائر، لأن اللعن لا يكون إلا في كبيرة، ومعناه أن الله تعالى يلعنه، وكذا الملائكة والناس أجمعون، وهذا مبالغة في إبعاده عن رحمة الله تعالى، فإن اللعن لغة الطرد والإِبعاد. قالوا والمراد باللعن هنا العذاب الذي يستحقه على ذنبه، والطرد عن الجنة أول الأمر، وليست هي كلعنة الكفار المبعدين عن رحمة الله كل الإِبعاد (وأنه) - صلى الله عليه وسلم - (قال اللهم العن رعلاً) بكسر الراء وسكون العين المهملة (وذكوان) بفتح المعجمة وسكون الكاف (وعصية) بصيغة التصغير وأولاه مهملان (عصوا الله ورسوله) استئناف بياني لسبب لعنهم (وهذه) القبائل المذكورة (ثلاث قبائل من العرب) تقدم الفرق بين القبيلة والشعب والبطن والفخذ، في باب (1) والحديث رواه البخاري في صحيحه، لكن بلفظ "يدعو عليهم" (وأنه) - صلى الله عليه وسلم - (قال لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يتعبدون بعبادتها، رواه البخاري في الجنائز (وأنه) - صلى الله عليه وسلم - (لعن المتشبهين من الرجال) من بيانية (بالنساء) صلة متشبهين المحاكي منهم لهن في أفعالهن وأقوالهن وأحوالهن (والمتشبهات من النساء بالرجال) رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه وابن ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الحج باب: فضل المدينة ودعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها بالبركة ... (الحديث 463) . (¬2) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة، (الحديث: 294) . (¬3) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: النهي عن بناء المساجد على القبور ... (الحديث: 19) . (¬4) بياض بالأصل.

266- باب في تحريم سب المسلم بغير حق

وَجَميعُ هذِهِ الألفاظِ في الصحيح؛ بعضُها في صَحيحَيّ البُخاري ومسلمٍ، وبعضها في أحَدِهِمَا، وإنما قصدت الاختِصَارَ بالإشارةِ إِلَيهمَا، وسأذكر معظمها في أبوابها من هَذَا الكتاب، إن شاء الله تَعَالَى. 266- باب في تحريم سب المسلم بغير حق قَالَ الله تَعَالَى (¬1) : (والَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا، فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وإثْماً مُبِيناً) . 1557- وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتالُهُ كُفْرٌ" ـــــــــــــــــــــــــــــ ماجة من حديث ابن عباس (وجميع هذه الألفاظ المذكورة) عنه - صلى الله عليه وسلم - (في الصحيح) أي: في جملة الحديث الصحيح (وبعضها في صحيحي البخاري ومسلم) الأقصر في الصحيحين (وبعضها في أحدهما) وبعضها خارج عنهما كما علم مما ذكرنا (وإنما قصدت الاختصار بالإِشارة إليها) أي: الأحاديث المذكورة، الدالة لما عقد له الترجمة (وسأذكر معظمها في أبوابها من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى) . باب تحريم سب المؤمن بغير حق أي: من اقتصاص منه بمثلها، قالوا مما لا يؤدي، لكذب أو سب أصلي الساب أو لا أو من تعزيز، أو تأديب. أما لذلك فلا يحرم، بل يجب تارة ويندب أخرى. قال الله تعالى: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا) من جناية أو استحقاق لأذى (فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً) فذكر فيها سائر أنواع الأذى، القولية من غيبة ونميمة وسخرية به، والفعلية من ضرب وإهانة له، وغير ذلك. قيل: ونزلت في الذين يسبون علياً رضي الله عنه. 1557- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سباب) بكسر السين المهملة للمبالغة؛ أي: سب (المسلم كقتاله) أي: في الإِثم والتحريم. قال المصنف في شرح مسلم: السب في اللغة: الشتم والتكلم في عرض الإِنسان بما يعيبه، والظاهر أن المراد من قتاله المقاتلة المعروفة. قال القاضي: ويجوز أن يراد بها المشادة والمدافعة. قال ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، الآية: 58.

متفق عَلَيْهِ (¬1) 1558- وعن أَبي ذرٍ - رضي الله عنه -: أنهُ سَمِعَ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لاَ يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلاً بِالفِسْقِ أَوِ الكُفْرِ، إِلاَّ ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ، إنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كذَلِكَ". رواه البخاري (¬2) . 1559- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "المُتَسَابَّانِ ـــــــــــــــــــــــــــــ الداودي يحتمل مساواة ذنب الساب للمقاتل. قال الطبري: وجه التشبيه بين اللعن والقتل: أن اللعن هو الإِبعاد من رحمة الله، والقتل إبعاد من الحياة (متفق عليه) ورواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة، كلهم من حديث ابن مسعود. ورواه ابن ماجة أيضاً من حديث أبي هريرة وسعد. ورواه الطبراني من حديث عبد الله بن مغفل، ومن حديث عمرو بن النعمان بن مقرن. ورواه الدارقطني في الإِفراد من حديث جابر. وفي نسخة بدل هذا الحديث "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" وهو للشيخين أيضاً. والفعال فيهما يحتمل أنه على بابه، ويحتمل أنه للمبالغة أي: سبه وقتله أي: كل منهما كفر، أي: إن استحله أو المراد به كفران النعمة، وعدم أداء حق أخوة الإِيمان. 1558- (وعن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لا يرمي رجل رجلاً بالفسق) كأن يقول فيه فاسق (أو الكفر) كأن قال فيه كافر مثلاً وأو للتنويع (إلا ارتدت) وفي نسخة إلا ردت، أي: رجعت المرمية (عليه) أي: القائل (إن لم يكن صاحبه) أي: المقول فيه (كذلك رواه البخاري) ففيه تفسيق من رمى غير الفاسق بالفسق، أي: خروجه عن الطاعة. ويحتمل صيرورته فاسقاً بذلك، إن أصر عليه. وفيه تكفير من رمى المؤمن بالكفر، أي: إن قصد به ظاهره واستحل ذلك. 1559- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال المتسابان) أي: اللذان ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: ما ينهى من السباب واللعن، وفي الإِيمان والفتن (10/387) . وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"، (الحديث: 116، 117) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب ما ينهى من السباب واللعن (10/388) .

مَا قَالاَ فَعَلَى البَادِي منهُما حَتَّى يَعْتَدِي المَظْلُومُ". رواه مسلم (¬1) . 1560- وعنه، قَالَ: أُتِيَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، بِرَجُلٍ قَدْ شرِبَ قَالَ: "اضربوهُ" قَالَ أَبُو هريرةَ: فَمِنَّا الضارِبُ بيَدِهِ، والضَّارِبُ بِنَعْلِهِ، والضَّارِبُ بِثَوْبِهِ. فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ بَعْضُ القَوْمِ: أخْزَاكَ اللهُ! قَالَ: "لا تَقُولُوا هَذَا؛ لا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَان" ـــــــــــــــــــــــــــــ يسبب كل منهما الآخر (ما قالا) أي: إثم ما قالا من السب، وهو مبتدأ خبره (فعلى البادي منهما حتى) أي: إلى أن (يعتدي) أي: يتجاوز (المظلوم) بأن يتجاوز حد الانتصار. قال المصنف معناه أن إثم السباب الواقع بينهما يختص بالبادي منهما كله، إلا أن يجاوز الثاني قدر الانتصار فيؤذي الظالم بأكثر مما قاله. وفيه جواز الانتصار ولا خلاف فيه، وتظاهر عليه الكتاب والسنة. ومع ذلك فالصبر وللعفو أفضل، كما قال تعالى (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور) (¬2) وكحديث "وما ازداد عبد بعفو إلا عزا" "فإن قلت" إذا لم يكن المسبوب آثماً، وبرىء البارىء عن ظلمه بوقوع القصاص منهما، فكيف صح تقدير إثم ما قالا؟ "قلت": إضافته بمعنى في، يعني إثم كائن فيما قالا، وهو إثم الابتداء، فعلى البادىء (رواه مسلم) ورواه أحمد وأبو داود والترمذي. ثم هو في نسخ مسلم "المتسابان" بصيغة الافتعال. وكذا عزاه إليه صاحب المشارق وغيره. والذي رأيته في نسخ الرياض، ما ذكرنا من التفاعل. 1560- (وعنه قال أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل قد شرب) أي: الخمر. قال الدماميني: يصح تفسير هذا الرجل بالنعيمان وبعبد الله الملقب بحمار (فقال اضربوه) أي: حدا (قال أبو هريرة فمنا الضارب بيده والضارب بنعله، والضارب بثوبه) فيه جواز إقامة حد الخمر بالضرب بغير السوط، وقد اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال، أصحها الجلد بالسوط، ويجوز الاقتصار على الضرب، بالأيدي والثياب (فلما انصرف قال بعض القوم) قال الحافظ: وفي الرواية التي بعده في البخاري، فقال رجل، وذلك الرجل هو عمر بن الخطاب، إن كانت القضية متحدة مع حديث عمر في قصة حمار (أخزاك الله فقال لا تقولوا هكذا) وفي نسخة "هذا" (لا تعينوا عليه الشيطان) لا الثانية: ناهية أيضاً، والجملة كالتعليل لما قبلها. ووجه عونهم الشيطان بذلك، أن الشيطان يريد بتزيينه له المعصية حصول الخزي ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: النهي عن السباب، (الحديث: 68) . (¬2) سورة الشورى، الآية: 43.

267- باب في تحريم سب الأموات بغير حق ومصلحة شرعية

رواه البخاري (¬1) 1561- وعنه، قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ بِالزِّنَى يُقَامُ عَلَيْهِ الحَدُّ يَومَ القِيَامَةِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ كما قَالَ". متفق عَلَيْهِ (¬2) . 267- باب في تحريم سب الأموات بغير حق ومصلحةٍ شرعية وَهِيَ التَّحْذِيرُ مِنَ الاقْتِدَاء بِهِ في بِدْعَتِهِ، وَفِسْقِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَفِيهِ الآيةُ والأحاديثُ السَّابِقَةُ في البَابِ قَبْلَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإذا دعوا عليه به، فكأنهم قد حصلوا، مقصود الشيطان (رواه البخاري) وأشار في فتح الباري إلى أن أبا داود أيضاً رواه وزاد في آخره: "ولكن قولوا اللهم اغفر له اللهم ارحمه" فيستفاد منه منع الدعاء، بنحو ذلك على العاصي. 1561- (وعنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول من قذف) أي: رمى (مملوكه) ذكراً كان أو أنثى (بالزنى يقام عليه الحد يوم القيامة) إظهاراً لكمال العدل؛ (إلا أن يكون) أي: المملوك (كما قال) بحذف العائد لما وصرح به في رواية أي: كما قاله السيد فيه من كونه زانياً، فلا حد عليه. وظاهر عموم الحديث انتفاء الحد، عند كون المملوك كذلك، وإن لم يعلم به السيد (متفق عليه) ورواه أحمد وأبو داود والترمذي. واللفظ الذي ساقه المصنف لمسلم، ولفظ الباقين "من قذف مملوكه وهو برىء مما قاله جلد يوم القيامة حداً إلا أن يكون كما قال" أشار إليه السيوطي في الجامع الكبير. باب تحريم سب الأموات بغير حق ومصلحة شرعية (وهي) أي: المصلحة الشرعية المرادة بالحق أيضاً، فعطفها عليه لتغاير الصفة (التحذير من الاقتداء به في بدعته وفسقه) متعلق بالاقتداء (ونحو ذلك) مما كان الميت متلبساً به، مما لا يحسن التلبس به، لإِخلاله بالمروءة؛ وكجرح رواة الحديث لأن أحكام الشرع مبنية عليه؛ (فيه الآية والأحاديث السابقة في الباب قبله) وكذا السابقة في باب حفظ اللسان. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الحدود، باب: ما يكره من لعن شارب الخمر (12/57) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الحدود، باب: قذف العبيد (12/163، 164) . وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: التغليظ على من قذف مملوكه بالزنى، (الحديث: 37) .

268- باب في النهي عن الإيذاء

1562- وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: قَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ، فَإنَّهُمْ قَدْ أفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا". رواه البخاري (¬1) . 268- باب في النهي عن الإيذاء قَالَ الله تَعَالَى (¬2) : (والَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإثْماً مُبِيناً) . 1563- وعن عبدِ الله بن عمرو بن العاصِ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، والمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ ـــــــــــــــــــــــــــــ 1562- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تسبوا الأموات) النهي فيه للتحريم، وأل لإبطال معنى الجمعية، أي: أيّ ميت. وعلل النهي بقوله (فإنهم قد أفضوا) أي: وصلوا (إلى ما قدموا) من عملهم خيراً كان أو شراً، إذ لا فائدة في سبهم. والحديث في سب أموات المسلمين. أما أموات الكفار فيجوز سبهم عموماً وأما المعين منهم، فلا يجوز سبه، لاحتمال أنه مات مسلماً، إلا أن يكون ممن نص الشارع على موته كافراً، كأبي لهب وأبي جهل (رواه البخاري) ورواه أحمد والنسائي من حديثها. ورواه أحمد والترمذي والطبراني من حديث المغيرة، بلفظ "لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء". ورواه الطبراني عن صخر الغامدي بلفظ: "ولا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما اكتسبوا" ورواه بهذا اللفظ أي: لفظ البخاري، عن عائشة، كذا في الجامع الكبير. باب النهي عن الإِيذاء (قال الله تعالى: والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا) فيه دليل تسمية فعل المكلف كسباً، وأتي به من صيغة الافتعال، إيماءً إلى المزاولة والإِقبال على المعصية، لكونها حظ النفس؛ (فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً) . 1563- (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلم) أي: الكامل (من سلم المسلمون من لسانه ويده) أي: منه بالمرة. وذكراً لصدور ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الجنائز، باب: ما ينهى من سب الموتى وفي الرقاق، باب: سكرات الموت (3/206) . (¬2) سورة الأحزاب، الآية: 58.

مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ". متفق عَلَيْهِ (¬1) . 1564- وعنه، قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أحَبَّ أنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، ويُدْخَلَ الجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ". رواه مسلم. وَهُوَ بعض حديثٍ طويلٍ سبق في بابِ طاعَةِ وُلاَةِ الأمُورِ (¬2) (¬3) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأذى بهما في العادة الغالبة. (والمهاجر) أي: الكامل (من هجر) أي: ترك امتثالاً لأمر الله وإجلاله، وخوفاً منه (ما نهى الله عنه) شمل صغائر الذنوب وكبائرها. وكامل الهجرة من هجر المعاصي رأساً وتحلي بالطاعة (متفق عليه) لكن في الجامع الصغير: الاقتصار على عزوه للبخاري فقط، وأنه رواه أيضاً أبو داود والنسائي. وعند مسلم من حديث جابر "المسلم من سلم المسلمون من لسانه، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم" اهـ. ولعل المصنف أراد اتفاقهما على أصل الحديث. 1564- (وعنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحب أن يزحزح) بصيغة المجهول، وبالزاي والحاء المهملة أي: يبعد (عن النار ويدخل الجنة) بصيغة المجهول أيضاً (فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر) جملة حالية من الضمير المفعول به، والمراد: ليدم على الإيمان، وما معه حتى يأتيه الموت، وهو على ذلك. وهذا كقوله تعالى (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) (¬4) (وليأت) يجوز في مثله كسر لام الأمر، وهو الأصل، وإسكانها: لتقدم الواو العاطفة؛ وكذا يجوزان مع ثم والفاء العاطفتين (إلى الناس الذي يحب) أي: يود (أن يؤتى إليه) أي: منهم والمراد أن يحسن معاملتهم بالبشر وكف الأذى وبذل الندي كما يحب ذلك منهم له (رواه مسلم وهو بعض حديث طويل سبق) بطوله مشروحاً (في باب طاعة ولاة الأمور) . ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الإِيمان، باب: المسلم من سلم المسلمون (1/50، 51) . وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: بيان تفاضل الإِسلام وأي الأمور أفضل، (الحديث: 64) . (¬2) أخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول، (الحديث: 46) . (¬3) انظر الحديث رقم (668) . (¬4) سورة آل عمران، الآية: 102.

269- باب في النهي عن التباغض والتقاطع والتدابر

269- باب في النهي عن التباغض والتقاطع والتدابر قال الله تعالى (¬1) : (إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ) . وَقَالَ تَعَالَى (¬2) : (أذِلَّةٍ عَلَى المُؤمِنينَ أعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرينَ) . وَقَالَ تَعَالَى (¬3) : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) . 1565- وعن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ تَقَاطَعُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخْوَاناً، وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ باب النهي عن التباغض بالقلوب (والتقاطع) ترك التواصل، المؤدي إلى البغضاء والنفرة (والتدابر) بالأجساد، أي: يولي الرجل أخاه إذا لقيه ظهره إعراضاً عنه. (قال الله تعالى: إنما المؤمنون إخوة) أي: وشأن الأخوة التواصل. قال تعالى في مدح المؤمنين (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل) (¬4) . (وقال تعالى: أذلة على المؤمنين) أي: متذللين لهم، عاطفين عليهم، خافضين لهم أجنحتهم (أعزة على الكافرين) متغلبين عليهم (وقال تعالى: محمد رسول الله والذين معه) أي: من الصحابة (أشداء على الكفار) أي غلاظ عليهم قال تعالى مخاطباً لنبيه (واغلظ عليهم) (¬5) (رحماء بينهم) أي: يتراحمون ويتعاطفون لرحمة الإيمان وصلته بينهم. 1565- (وعن أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا تباغضوا) أي: لا تفعلوا ما يؤدي إلى التباغض، وحذفت إحدى تاءيه تخفيفاً، وكذا فيما بعده (ولا تحاسدوا) أي: لا يتمن بعضكم زوال نعمة أخيه، (ولا تدابروا ولا تقاطعوا) هي كالمتلازمة في الأداء إلى التقاطع والتهاجر (وكونوا عباد الله) منادى بحذف حرفه، أو منصوب على الاختصاص، بناء على وقوعه بعد ضمير المخاطب، وقد خرج عليه بعضهم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "سلام عليكم دار قوم مؤمنين" (إخواناً) خبر كان، أو عباد خبر كان وإخواناً: خبر بعد خبر، أي: خاضعين لأمره ¬

_ (¬1) سورة الحجرات، الآية: 10. (¬2) سورة المائدة، الآية: 54. (¬3) سورة الفتح، الآية: 29. (¬4) سورة الرعد، الآية: 21. (¬5) سورة التوبة، الآية: 73.

270- باب في تحريم الحسد وهو تمني زوال النعمة عن صاحبها، سواء كانت نعمة دين أو دنيا

وذَكَرَ نَحْوَهُ (¬1) . 270- باب في تحريم الحسد وَهُوَ تمني زوالُ النعمة عن صاحبها، سواءٌ كَانَتْ نعمة دينٍ أَوْ دنيا قَالَ الله تَعَالَى (¬2) : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) . وفِيهِ حديثُ أنسٍ السابق في الباب قبلَهُ. 1567- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إيَّاكُمْ وَالحَسَدَ؛ فَإنَّ الحَسَدَ يَأكُلُ الحَسَنَاتِ كَمَا تَأكُلُ النَّارُ الحَطَبَ" أَوْ قَالَ: "العُشْبَ". رواه أَبُو داود (¬3) . ـــــــــــــــــــــــــــــ أي: على رأسه وذلك لشرفه الصالح بالثناء عليه في الملكوت الأعلى وضده بضده (وذكر) أي: مسلم (نحوه) أي: نحو ما في الحديث قبله. باب تحريم الحسد وهو من الكبائر لما سيأتي فيه (وهو تمني زوال النعمة عن صاحبها سواء كانت نعمة دين أو دنيا) أما تمني مثلها. فغبطة، فإن كان في الدين: فمحمود، وإلا فلا. (قال الله تعالى) في ذم اليهود (أم يحسدون الناس) أي: العرب أو محمداً - صلى الله عليه وسلم - (على ما آتاهم الله من فضله) باعتبار اللفظ. (وفيه حديث أنس السابق في الباب قبله) أي: قوله ولا تحاسدوا. 1567- (وعن أي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إياكم) منصوب على التحذير (والحسد) وعلل النهي بقوله (فإن الحسد يأكل الحسنات) أي: يذهبها، ففيه استعارة مكنية، تتبعها استعارة تخييلية (كلما تأكل النار الحطب أو) شك من الراوي (قال العشب) بضم المهملة وسكون المعجمة، والمراد هنا الكلأ أي: الحشيش، وهذا إيماء إلى سرعة إبطاله الحسنات كما في المشبه به (رواه أبو داود) . ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: النهي عن الشحناء والتهاجر، (الحديث: 35) . (¬2) سورة النساء، الآية: 54. (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في الحسد، (الحديث: 4903) .

فَإنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ، ولا تحسَّسوا وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَنَافَسُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخْوَاناً كَمَا أَمَرَكُمْ. المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ: لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هاهُنَا التَّقْوَى هاهُنَا" وَيُشِيرُ إِلَى ـــــــــــــــــــــــــــــ مجرد عن الدليل، ليس مثبتاً ولا تحقيق نظر، كما قاله عياض. وكذا قال القرطبي الظن الشرعي: وهو تغليب أحد الجانبين، ليس مراداً من الآية ولا من الحديث، فلا يُنظر لمن استدل بهما على إنكار الظن (فإن الظن أكذب الحديث) قيل أريد من الكذب، عدم الطابقة للواقع، سواء كان قولاً أم لا، ويحتمل أن يراد بالظن، ما ينشأ من القول، فيوصف به الظن مجازاً؛ (ولا تحسسوا ولا تجسسوا) إحداهما بالجيم والأخرى بالحاء المهملة، وفي كل منهما وفي المنهيات بعدهما حذف إحدى التاءين تخفيفاً. قال الخطابي أي: لا تجسسوا عن عيوب الناس ولا تتبعوها، وأصله بالمهملة من الحاسة إحدى الحواس الخمس، وبالجيم من الجس، بمعنى اختبار الشيء باليد، وهي إحدى الحواس الخمس، فتكون التي بالحاء أعم، وقيل هما بمعنى: وذكر الثاني تأكيداً كقولهم بعداً وسحقاً. وقيل بالجيم البحث عن العورات، وبالمهملة استماع حديث القوم. وقيل بالجيم: البحث عن بواطن الأمور، وأكثر ما يكون في الشر، وبالمهملة عما يدرك بحاسة العين أو الأذن، ورجحه القرطبي، وقيل بالجيم تتبعه لأجل غيره، وبالحاء تتبعه لأجل نفسه، ثم يستثنى من النهي عن التجسس، ما إذا تعين لإِنقاذ نفس من هلاك، كان يخبر باختلاء إنسان بآخر ليقتله ظلماً؛ أو بامرأة ليزني بها؛ فهذا التجسس مشروع حذراً عن فوات استدراكه. نقله المصنف عن الأحكام السلطانية للماوردي واستجاده (ولا تنافسوا) بالفاء والسين المهملة، من المنافسة، الرغبة في الشيء والإِنفراد به (ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا) والتدابر، قيل: المعاداة، وقيل: الإِعراض، وقيل: استئثار الإِنسان عن أخيه (وكونوا عباد الله إخواناً) أي: اكتسبوا ما تصيرون به إخوة، من التآلف والتحابب، وترك هذه المنهيات. قال الحافظ: الجملة كالتعليل لما قبلها، أي: إذا تركتم هذه صرتم كالإِخوان، ومفهومه إذا لم تتركوها تصيروا أعداء. وقيل معناه كونوا كإخوان النسب في الشفقة والرحمة والمحبة والمواساة والمعاونة والنصيحة. (كما أمركم) قال القرطبي: لعله أشار بذلك، إلى الأوامر المتقدم ذكرها، فإنها جامعة لمعاني الآخرة. والفاعل مضمر، يعود إلى "الله" وهو مصرح به في مسلم، وهذه الجملة عند البخاري في أبواب الأدب، إلا أنه ليس فيه "كما أمركم" وفي الجامع الصغير للسيوطي، رواه مالك وأحمد والشيخان وأبو داود والترمذي (المسلم أخو المسلم) لاجتماعهما في الإِسلام (لا يظلمه) في نفسٍ ولا مالٍ ولا عرضٍ بوجه. والجملة

وَفِي رواية: "لاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَحَسَّسُوا، وَلاَ تَنَاجَشُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخْواناً". وفي رواية: "لاَ تَقَاطَعُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخْواناً" وَفِي رِواية: "وَلاَ تَهَاجَرُوا وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ". رواه مسلم بكلّ هذِهِ الروايات، وروى البخاريُّ أكْثَرَهَا (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ جوده على أصحابها، وإن كانت معرضة عنه مشغولة بما سواه، أعرض عن أصحابها. وهذا كما قال في الحديث الآخر "ألا وإن في الجسد مضغة إذا أصلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب". والحديث عند مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم". ورواه ابن ماجة أيضاً كما في الجامع الصغير (وفي رواية لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا) أي: من النجش، وهو الزيادة في السلعة لا لرغبة، بل ليغر غيره ويخدعه، وهو من أسباب البغضاء كما قيل، وقيل المراد به هنا ذم بعض بعضاً. قال المصنف: والصحيح الأول (وكونوا) أي: صيروا (عباد الله إخواناً) أي: متحابين يحب كل لصاحبه ما يحب لنفسه (وفي رواية لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخواناً وفي رواية ولا تهاجروا) أي: يهجر الرجل أخاه فلا يبدؤه بالسلام، ولا يجيبه بالكلام (ولا يبع بعضكم على بيع بعض) ومثله الشراء على شرائه، والسوم على سومه، بعد استقرار الثمن، والرضا به (رواه مسلم بكل هذه الروايات) أي: من حديث أبي هريرة كما يومىء إليه صنيعه (وروى البخاري أكثرها) فحديث "إياكم والظن" إلى قوله: "وكونوا عباد الله إخواناً" رواه البخاري أيضاً، وزاد فيه "ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك" ورواه كذلك مالك وأحمد وأبو داود والترمذي، وعند البخاري، في باب ما ينهى عنه من التحاسد. من حديث أنس مرفوعاً "لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث". وعنده في أبواب البيوع من حديث أبي هريرة مرفوعاً "لا يبع المرء على بيع أخيه، ولا تناجشوا ولا بيع حاضر لباد". ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظن والتجسس والتنافس والتناجش ونحوها، (الحديث: 28، 29، 30، 31) . وأخرجه أيضاً في كتاب: البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم ... (الحديث: 32) . وأخرجه البخاري في كتاب: أبواب متفرقة كالنكاح والوصايا والاكراه والمظالم (10/404) .

272- باب في النهي عن سوء الظن بالمسلمين من غير ضرورة

1569- وعن معاوية - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّكَ إنِ اتَّبَعْتَ عَوْرَاتِ المُسْلِمينَ أفْسَدْتَهُمْ، أَوْ كِدْتَ أنْ تُفْسِدَهُمْ". حديث صحيح، رواه أَبُو داود بإسناد صحيح (¬1) . 1570- وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أنَّهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ فَقِيلَ لَهُ: هَذَا فُلاَنٌ تَقْطُرُ لِحْيَتُهُ خَمْراً، فَقَالَ: إنَّا قَدْ نُهِيْنَا عَنِ التَّجَسُّسِ، ولكِنْ إنْ يَظْهَرْ لَنَا شَيْءٌ، نَأخُذ بِهِ. حديث حسن صحيح، رواه أَبُو داود بإسنادٍ عَلَى شَرْطِ البخاري ومسلم (¬2) . 272- باب في النهي عن سوء الظنّ بالمسلمين من غير ضرورة ـــــــــــــــــــــــــــــ 1569- (وعن معاوية رضي الله عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إنك إن اتبعت عورات المسلمين) بالتجسس عنها واكتشاف ما يخفونه منها (أفسدتهم أو كدت) أي: قاربت (أن تفسدهم) بإدخال "أن" في خبر كاد، وهو قليل. وفيه إيماء إلى توكيد الأمر للمسلمين، ففيه إعجاز له - صلى الله عليه وسلم - بالإِخبار عن المغيب، في وقت إخباره (حديث صحيح رواه أبو داود) في الأدب من سننه (بإسناد صحيح) رواه عن عيسى بن محمد الرملي ومحمد بن عوف، كلاهما عن الفرياني عن ثور بن يزيد عن راشد بن سعد المقري الحمصي عن معاوية. 1570- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه أتي) بالبناء للمجهول (برجل فقيل له هذا فلان تقطر لحيته خمراً) تمييز محول عن الحال، وكونه خمر لحيته لملابسته لها (قال إنا قد نهينا عن التجسس) يحتمل أن يكون مراده النهي عن ذلك في القرآن، أو السنة أي: سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضاً (ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به) ونعامله بمقتضاه من حد أو تعزير (حديث صحيح رواه أبو داود بإسناد على شرط البخاري ومسلم) موقوف لفظاً، مرفوع حكماً لقوله نهينا. ومن المعلوم أن ذلك، إنما يسند إليه - صلى الله عليه وسلم -: وقول الصحابي أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا، من الألفاظ المكنى بها عن الرفع عن المحدثين، كما تقرر في علم الأثر. باب النهي عن ظن السوء بالمسلمين من غير ضرورة كأن يظن بهم نقصاً في دين، أو مروءة من غير أن يدل لذلك دليل. وقوله من غير ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في النهي عن التجسس (الحديث: 4888) . (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في النهي عن التجسس (الحديث: 4890) .

273- باب في تحريم احتقار المسلمين

قَالَ الله تَعَالَى (¬1) (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ) . 1571- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إيَّاكُمْ والظَّنَّ، فإنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ الحَدِيثِ". متفق عَلَيْهِ (¬2) . 273- باب في تحريم احتقار المسلمين قَالَ الله تَعَالَى (¬3) : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَومٍ عَسَى أنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ـــــــــــــــــــــــــــــ ضرورة، مخرج لما إن دعت إليه، كأن وقف مواقف التهم، أو بدا عليه علامة الريب. قال الله تعالى: (يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن) هو ظن السوء بأخيك المسلم (إن بعض الظن إثم) فكونوا على حذر، حتى لا توقعوا فيه. 1571- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال) محذراً من ظن السوء (إياكم والظن فإن الظن اكذب الحديث. متفق عليه) وهو طرف من حديث، تقدم مشروحاً بجملته في الباب قبله. باب تحريم احتقار المسلم أي: إهانته وإسقاطه من النظر والاعتبار (قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم) السخرية: الازدراء والاحتقار. وقوم أي: رجال (عسى أن يكونوا) أي: المسخور بهم (خيراً منهم) أي: الساخرين. استئناف علة للنهي، واكتفى عسى "بأن" ومنصوبها عن الخبر. والذي اختاره ابن مالك، أنها حينئذ تامة (ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن) أي: عند الله (ولا تلمزوا أنفسكم) أي: لا يعتب بعضكم بعضاً فإن عيب أخيه، عيب نفسه. أو لأن المؤمنين كنفس واحدة. واللمز: الطعن باللسان (ولا ¬

_ (¬1) سورة الحجرات، الآية: 12. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: أبواب متفرقة كالنكاح والوصايا والاكراه، والمظالم (10/404) . وأخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظن والتجسس ... (الحديث: 28) . (¬3) سورة الحجرات، الآية: 11.

وَلاَ تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيْمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) . وقال تَعَالَى (¬1) : (وَيلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لمزَةٍ) . وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ المُسْلِمَ". رواه مسلم، وَقَدْ سبق قريباً بطوله (¬2) (¬3) . ـــــــــــــــــــــــــــــ تنابزِوا بالألقاب) أي: يدعو بعضكم بعضاً، باللقب السوء، والنبز مختص باللقب السوء عرفاً، ومنه يا فاسق يا كافر (بئس الاسم الفسوق) يعني السخرية واللمز والتنابز، وبئس الذكر، الذي هو الفسق (بعد الإِيمان) يعني لا ينبغي أن يجتمعا فإن الإِيمان يأبى الفسوق، أو كان في شتائمهم، يا يهودي يا فاسق، لمن أسلم فنهوا عنه (ومن لم يتب) من ذلك (فأولئك هم الظالمون) . (وقال تعالى: ويل) كلمة عذاب، أو واد في جهنم (لكل همزة لمزة) أي: كثير الهمز واللمز، أو الغيبة. وقيل الهمزة: من اعتاد كسر أعراض الناس، واللمزة من اعتاد الطعن فيهم، وعن بعض السلف الأول الطعن بالغيب، والثاني في الوجه. وقيل باللسان وبالحاجب. نزلت فيمن كان يغتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، كأمية بن خلف، والأخنس بن شريف. وعن مجاهد وهي عامة. 1572- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال بحسب) أي: كافي (امرىء) أي: إنسان (من الشر أن يحقر أخاه المسلم) أي: وذلك لعظمه في الشر، كاف له عن اكتساب آخر، ولا يخفى ما فيه من فظاعة هذا الذنب، والنداء عليه بأنه غريق في الشر حتى إنه لشدته فيه، يكفي من تلبس به عن غيره (رواه مسلم) في أثناء حديث (وقد سبق قريباً) في باب النهي عن التجسس (بطوله) مشروحاً، وسبق معظمه في باب تعظيم حرمات المسلمين. ¬

_ (¬1) سورة الهمزة، الآية: 1. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم ظلم المسلم ... (الحديث: 32) . (¬3) أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم ظلم المسلم ... (الحديث: 32) ، وقد سيق بطوله.

274- باب في النهي عن إظهار الشماتة بالمسلم

رَجُلٌ: وَاللهِ لا يَغْفِرُ اللهُ لِفُلانٍ، فَقَالَ اللهُ - عز وجل -: مَنْ ذا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أنْ لا أغْفِرَ لِفُلانٍ! فَإنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُ، وَاحْبَطْتُ عَمَلَكَ". رواه مسلم (¬1) . 274- باب في النهي عن إظهار الشماتة بِالمُسْلِم قَالَ الله تَعَالَى (¬2) : (إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ) . قَالَ تَعَالَى (¬3) : (إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ في الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَليمٌ في الدُّنْيَا والآخِرَةِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال رجل والله لا يغفر الله لفلان) وذلك من القائل، احتقاراً للمقول عنه، وازدراء له أن تناله المغفرة لعظمها وجلالتها؛ (فقال الله عز وجل: من ذا الذي) قال السفاقسي في إعراب نظيره، من آية الكرسي: الأولى أن "من" ركبت مع ذا للاستفهام، والمجموع في موضع رفع بالابتدا والموصول بعد هو (يتألى) أي يحلف قال في المصباح: يقال آلى إيلاء، مثل آتى إيتاء إذا حلف، فهو مولٍ وتألي وائتلي كذلك (علي ألا أغفر لفلان) أي: بأن لا أغفر له (إني قد غفرت له) جملة مستأنفةً لبيان أن المحتقر عند ذلك القائل، هو عند الله بمكان، وأن القائل بضده كما قال (وأحبطت عملك) أي: أبطلت ثوابه. وفي الحديث تحذير من احتقار أحد من المسلمين، وإن كان من الرعاع. فإن الله تعالى أخفى سره في عباده (رواه مسلم) . باب النهي عن إظهار الشماتة بالمسلم قال في المصباح: شمت به يشمت أي: من باب فرح، إذا فرح بمصيبة نزلت به، والاسم: الشماتة. واحترز بقوله "إظهار" عن الفرح الباطني، فإن طبع الإِنسان، الفرح بلحاق المصيبة لمن يعاديه وينافيه، إلا من طهره الله من ذلك. (قال الله تعالى: إنما المؤمنون إخوة) أي: وشأن الأخوة، أن يتحرك الأخ لما يلحق أخاه من الضرر. (وقال تعالى: إن الذين يحبون أن تشيع) أي: تفشو (الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة) وجه استشهاده بالآية أنه إذا توعد على محبة شيوع الأمر القبيح الذي ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: النهي عن تقنيط الإِنسان من رحمه الله تعالى، (الحديث: 137) . (¬2) الحجرات، الآية: 10. (¬3) سورة النور، الآية: 19.

275- باب في تحريم الطعن في الأنساب الثابتة في ظاهر الشرع

275- باب في تحريم الطعن في الأنساب الثابتة في ظاهر الشرع قَالَ الله تَعَالَى (¬1) : (والَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وإثْماً مُبِيناً) . 1576- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اثْنَتَان في النَّاسِ هُمَا بهم كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى المَيِّتِ". رواه مسلم (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ باب تحريم الطعن في الأنساب الثابتة في ظاهر الشرع ولا نظر لطعن طاعن، فيما كان كذلك. (قال الله تعالى: والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً) ولا شبهة في أن الطعن في النسب، من أعظم أنواع الأذى فالآية تشمله شمولاً بيناً. 1576- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنتان) مبتدأ، وساغ الابتداء به لوصفه بقوله (في الناس هما) أي: الثنتان، وهو مبتدأ ثان (بهم) أي: فيهم (كفر) أي: إن استحلا مع العلم بالتحريم. والإِجماع عليه (الطعن في النسب والنياحة) بكسر النون وتخفيف التحتية، رفع الصوت بالبكاء (على الميت رواه مسلم) في كتاب الإِيمان. قال المصنف في شرحه، فيه أقوال أصحها: أن معناها أنهما من أعمال الكفار وأخلاق الجاهلية، والثاني: أنه يؤدي إلى الكفر، والثالث: أنه كفر النعمة والإِحسان، والرابع: أنه في المستحل. وفي الحديث تغليظ تحريم النياحة والطعن في النسب، وقد جاء في كل واحد منهما نصوص معروفة. باب النهي عن الغش بكسر الغين أي: ترك النصيحة والتزيين لغير المصلحة (والخداع) بكسر الخاء ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، الآية: 58. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة (الحديث: 121) .

276- باب في النهي عن الغش والخداع

276- باب في النهي عن الغش والخداع قَالَ الله تَعَالَى (¬1) : (والَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وإثْماً مُبِيناً) . 1577- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا، وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا". رواه مسلم. وفي رواية لَهُ: أنَّ ـــــــــــــــــــــــــــــ المعجمة مصدر خادعه. وفي القاموس: خدعه كمنعه خدعاً، ويكسر ختله، وأراد به المكروه، من حيث لا يعلم والاسم الخديعة. (قال الله تعالى: والذين يؤذون المؤمنين، والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً) ومن أشد الإِيذاء الغش، لما فيه من تزيين غير المصلحة، والخديعة لما فيها من إيصال الشر إليه من غير علمه. 1577- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال من حمل علينا السلاح) كناية عن البغي، الخروج عن جماعة المسلمين وبيعتهم (فليس منا) أي: على هدينا ومن أهل طريقتنا، وإلا فذلك لا يخرج عن الإسلام، عن أهل الحق (ومن غشنا فليس منا) ومن الغش خلط الجيد بالرديء، ومزج اللبن بالماء، وترويج النقد الزغل (رواه مسلم) وكذا رواه ابن ماجه بجملته، وروى الجملة الأولى من الحديث مالك والشيخان والنسائي والحاكم في المستدرك، من حديث ابن عمر، والأخيرة الترمذي من حديث أبي هريرة، ولكن قال: "غش" بلا ضمير. ورواه الطبراني وأبو نعيم في الحلية من حديث ابن مسعود بلفظ "غشنا" وزاد في آخره "والمكر والخداع في النار" كذا في الجامع الصغير. وفي الجامع الكبير روى البخاري من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "من حمل علينا السلاح فليس منا ولا راصد بطريق". وقال في حديث: "من حمل علينا السلاح فليس منا" زيادة في مخرجيه على من ذكر في الجامع الصغير. ورواه أبو داود والطيالسي وعبد بن حميد عن ابن عمر رواه الشيخان والترمذي وابن ماجه عن أبي موسى، ورواه ابن نافع والطبراني عن سلمة بن الأكوع والطبراني عن ابن الزبير (وفي رواية له) أي: مسلم (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على صبرة طعام) بضم الصاد المهملة وسكون الموحدة، جمع صبر، كغرفة وغرف. وعن أبي زيد اشتريت الشيء صبرة أي: بلا كيل ولا وزن. قال في المصباح نقلاً عن التهذيب للأزهري: إذا أطلق أهل الحجاز لفظ الطعام، عنوا به البر خاصة. وفي العرف اسم لما يؤكل، ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، الآية: 58.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا فَنَالَتْ أصابِعُهُ بَلَلاً، فَقَالَ: "مَا هذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟ " قَالَ: أصَابَتهُ السَّمَاءُ يَا رسول الله. قَالَ: "أفَلاَ جَعَلْتَهُ فَوقَ الطَّعَامِ حَتَّى يرَاهُ النَّاسُ! مَنْ غشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا" (¬1) . 1578- وعنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لاَ تَنَاجَشُوا" متفق عَلَيْهِ (¬2) . 1579- وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، نَهى عن النَّجْشِ ـــــــــــــــــــــــــــــ كالشراب لما يشرب (فأدخل يده فيها فنالت) أي: أصابت (أصابعه بللاً) مستوراً بالطعام اليابس (فقال ما هذا) أي: البلل المنبىء غالباً عن الغش. (يا صاحب الطعام) يحتمل أن ترك نداءه باسمه، لعدم العلم به؛ أو أنه للتسجيل عليه، بإضافته إلى ما غش به زيادة في زجره وتنكيله (قال أصابته السماء) أي: المطر لأنه ينزل منها، فهو من مجاز التعبير، بالمحل عن الحال فيه وقوله: (يا رسول الله) أتى به تيمناً وتلذذاً به (قال) أسترت ما ابتل غشاً (أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس) فتسلم من الغش الذي هو أقبح الأوصاف، القاطعة لرحم الإِسلام، الموجبة لكون المسلم للمسلم، كالبنيان يشد بعضه بعضاً، ومن قطع رحم الإِسلام خشي عليه الخروج من عدادهم، كما ينشأ عن ذلك ما هو مقرر في شرعنا (من غشنا فليس منا) المراد بالغش هنا، كتم عيب المبيع أو الثمن، والمراد بعيبه هنا: كل وصف يعلم من حال آخذه، أنه لو اطلع عليه لم يأخذه بذلك الثمن، الذي يريد بدله فيه. 1578- (وعنه) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لا تناجشوا) الأولى ولا تناجشوا، ليعلم أنه بعض من حديث (متفق عليه) تقدم قريباً. 1579- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النجش) بفتح فسكون أو بفتحتين، في المصباح نجش الرجل نجشاً، من باب قتل، إذا زاد في سلعته أكثر من ثمنها، وليس قصده أن يشتريها، بل يغر غيره فيوقعه فيها، وكذا في النكاح. وغيره النجش ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "من غشنا فليس منا"، (الحديث: 164) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: أبواب متفرقة كالنكاح والوصايا والإِكراه والمظالم (10/404) . وأخرجه مسلم في كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه وسومه ... (الحديث: 11) .

متفق عَلَيْهِ (¬1) . 1580- وعنه، قَالَ: ذَكَرَ رَجُلٌ لِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: أنَّهُ يُخْدَعُ في البُيُوعِ؟ فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ بَايَعْتَ، فَقُلْ: لاَ خِلاَبَةَ". متفق عَلَيْهِ. "الخِلاَبَةُ" بخاءٍ معجمةٍ مكسورةٍ وباءٍ موحدة، وهي: الخديعة (¬2) . 1581- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ خَبَّبَ زَوْجَةَ امْرِئٍ، أَوْ مَمْلُوكَهُ، فَلَيْسَ مِنَّا". رواهُ أَبُو داود. "خَبب" بخاءٍ معجمة، ثُمَّ باءٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ بفتحتين، وأصل النجش الاستتار، لأنه يستر قصده؛ (متفق عليه) ورواه النسائي وابن ماجه. 1580- (وعنه قال ذكر رجل) وهو حبان بفتح الحاء ابن منقذ (لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يخدع) بصيغة المجهول أي: يغبن (في البيوع) أي: يغلب فيها لعدم فطانته للدسائس فيها (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من بايعت فقل لا خلابة. متفق عليه) قال في الوشيح: زاد الدارقطني والبيهقي "ثم أنت بالخيار في كل سلعة ابتعتها ثلاث ليال فإن رضيتها فأمسك". فبقي حتى أدرك زمن عثمان، فكان إذا اشترى شيئاً فقيل له إنك غبنت فيه، رجع فيشهد له الرجل من الصحابة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جعله بالخيار ثلاثاً، فيرد له دراهمه اهـ. (والخلابة بخاء وبالموحدة) حقيقة اسم مصدر، من خلب من باب قتل وضرب إذا خدعه، ولذا قال المصنف إنها (الخديعة) . 1581- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من خبب زوجة امرىء) أفسدها عليه، أو أوقع بينهما الشقاق والتنافر، فحملها على الخروج عن طاعته (أو مملوكه) ذكراً كان أو أنثى (فليس منا) أي: على هدينا، لأن شأن المؤمن التعاون والتناصر؛ وهذا بخلافه (رواه أبو داود) ورواه أحمد والدارقطني من حديث أبي هريرة "من خبب خادماً على أهلها فليس منا، ومن أقسر امرأة على زوجها فليس منا". ورواه الشيرازي في الألقاب من حديث ابن عمر بلفظ "من خبب عبداً على مولاه فليس منا". كذا في الجامع الكبير (خبب ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: البيوع باب النجش (4/298) . وأخرجه مسلم في كتاب: البيوع، باب: تحريم بيع الرجل على بيع أخيه ... (الحديث: 13) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: البيوع، باب: ما يكره من الخداع (4/283) . وأخرجه مسلم في كتاب: البيوع، باب: من يخدع في البيع، (الحديث: 48) .

وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ". متفق عَلَيْهِ (¬1) . 1583- وعن ابن مسعودٍ، وابن عمر، وأنس - رضي الله عنهم - قالوا: قَالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "لِكُلِّ غادِرٍ لِواءٌ يَوْمَ القِيَامَةِ، يُقَالُ: هذِهِ غَدْرَةُ فلانٍ". متفق عَلَيْهِ (¬2) . 1584- وعن أَبي سعيدٍ الخدريّ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ عِنْدَ اسْتِهِ يومَ القِيَامَةِ يُرْفَعُ لَهُ بِقَدَرِ غَدْرِهِ، ألاَ وَلاَ غَادِرَ أعْظَمُ غَدْراً مِنْ ـــــــــــــــــــــــــــــ حقها أن تكون قائمة بالمنافق، كما هو شأنهم، فينبغي للمؤمن التباعد منها والتنزه عنها (إذا ائتمن) بصيغة المجهول (خان) أي: في الأمانة (وإذا حدث كذب) أي: أخبر بما لا يطابق الواقع (وإذا عاهد غدر) أي: نقض عهده (وإذا خاصم فجر) أي: دفع الحق ولم ينقد إليه، وخرج عنه بالإِيمان الكاذبة، والقول الباطل (متفق عليه) . 1583- (وعن ابن مسعود وابن عمر وأنس رضي الله عنهم قالوا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لكل غادر لواء يوم القيامة) ينشر زيادة في فضيحته، وشناعة أمره، وشهرته بذلك، في ذلك الملأ العام (يقال هذه غدرة) بفتح المعجمة، المرة من الغدر (فلان، متفق عليه) ظاهر كلام المصنف متفق عليه، عند كل من الثلاثة، لكن في الجامع الصغير أنه كذلك من حديث أنس، ولفظه رواه أحمد والشيخان عن أنس وأحمد، ومسلم عن ابن مسعود، ومسلم عن ابن عمر. 1584- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لكل غادر لواء عند استه) بوصل الهمزة وسكون المهملة بعدها فوقية أي: دبره (يوم القيامة يرفع له) في ذلك الموقف ْ (بقدر غدره) ليكون التشهير بقدر الجرم (ألا) بتخفيف اللام (ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامة) قال المصنف، قال: أهل اللغة: اللواء الراية العظيمة، لا يمسكها إلا صاحب جيش الحرب، أو صاحب دعوة الجيش، ويكون الناس تبعاً له، قالوا فمعنى لكل غادر لواء أي: علامة يشهر بها في الناس، لأن موضع اللواء الشهرة، وكانت العرب تنصب الألوية في الأسواق، الحفلة لغدر الغادر، ليشتهر بذلك. وأما الغادر فهو الذي يعاهد، ولا يفي. يقال غدر يغدر من باب ضرب. وفي هذه الأحاديث بيان غلظ تحريم الغدر، ولا سيما من ¬

_ (¬1) سبق تخريجه أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: علامات المنافق (1/84) . وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: بيان خصال المنافق، (الحديث: 106) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: إثم الغادر (10/464) . وأخرجه مسلم في كتاب: الجهاد والسير، باب: تحريم الغدر، (الحديث: 9 و13، و14 و15) .

أمِيرِ عَامَّةٍ". رواه مسلم (¬1) . 1585- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "قَالَ الله تَعَالَى: "ثَلاَثَةٌ أنا خَصْمُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ: رَجُلٌ أعْطَى بي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرَّاً فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأجَرَ أجيراً، فَاسْتَوْفَى مِنْهُ، وَلَمْ يُعْطِهِ أجْرَهُ". رواه ـــــــــــــــــــــــــــــ صاحب الولاية العامة، لأن غدره يتعدى ضرره إلى خلق كثير؛ وقيل لأنه غير مضطر إلى الغدر، لقدرته على الوفاء. والمشهور أن هذا وارد في ذم الإِمام الغادر. وذكر القاضي فيه احتمالين، وهذا أحدهما. والثاني: أن يكون لذم غدر الرعية بالإِمام، ولا يشقون عليه العصا، ولا يتعرضون لما يخاف حصول فتنه بسببه. والأول هو الصحيح اهـ. وفي حمله اللواء على الكناية عن الشهرة، صرف اللفظ عن ظاهره، بلا صارف والله أعلم (رواه مسلم) . 1585- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله تعالى ثلاثة) أي: من الأوصاف، أو أوصاف ثلاثة (أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه، ولم يعطه أجره) قال الشيخ تقي الدين السبكي: الحكمة في كون الله تعالى خصمهم، أنهم جنوا على حقه سبحانه وتعالى، فإن الذي أعطي به ثم غدر، جنى على عهد الله بالخيانة والنقض وعدم الوفاء، ومن حق الله أن يوفي بعهده. والذي باع حراً وأكل ثمنه جنى على حق الله، فإن حقه في الحر إقامته على عبادته، التي خلق الجن والإِنس لها. قال الله تعالى: (وما خلقت الجن والإِنس إلا ليعبدون) (¬2) فمن استرق حراً فقد عطل عليه العبادات المختصة بالأحرار، كالجمعة والحج والجهاد والصدقة وغيرها، وكثير من النوافل المعارضة لخدمة السيد، فقد ناقض حكم الله ْفي الوجود، ومقصوده عن عباده، فلذا عظمت الجريمة، والرجل الذي استأجر أجيراً، بمنزلة من استعبد الحر، وعطله عن كثير من نوافل العبادات، فشابه الذي باع حراً وأكل ثمنه، فلذا عظم ذنبه اهـ. ملخصاً. وقال ابن بطال قوله: "أعطى بي ثم غدر" يريد نقض العهد الذي عاهد الله عليه، وقوله: "وأكل ثمنه". انتفع به على أي وجه كان، وذكر الأكل لأنه أخص المنافع؛ كما في قوله تعالى: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً) (¬3) (رواه ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الجهاد والسير، باب: تحريم الغدر، (الحديث: 16) (¬2) سورة الذاريات، الآية: 56. (¬3) سورة النساء، الآية: 10.

279- باب في النهي عن الافتخار والبغي

والمَنَّانُ، وَالمُنْفِقُ سِلْعَتَهُ بالحَلِفِ الكَاذِبِ". رواه مسلم. وفي روايةٍ لَهُ: "المُسْبِلُ إزَارَهُ" يَعْنِي: المُسْبِلَ إزَارَهُ وَثَوْبَهُ أسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ لِلخُيَلاَءِ (¬1) . 279- باب في النهي عن الافتخار والبغي قَالَ الله تَعَالَى (¬2) : (فَلاَ تُزَكُّوا أنْفُسَكُمْ هُوَ أعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) وقال تَعَالَى (¬3) : (إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ في الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَليمٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ بتشديد النون الأولى والعدول إليه عن المانّ، إيماء إلى عدم دخول، من صدر منه المن مرة مثلاً في ذلك الوعيد، وإن كان مطلقه منهياً عنه محرماً. (والمنفق) بصيغة الفاعل من الإِنفاق (سلعته) بكسر المهملة الأولى أي: متاعه (بالحلف الكاذب) وجاء في الحديث عند البخاري الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة (رواه مسلم) ورواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة (وفي رواية له المسبل إزاره) وذكر الإِزار لا للتخصيص به، بل لكون إسباله هو الغالب، فإسبال غيره مثله، كما قال المصنف (يعني المسبل إزاره وثوبه أسفل من الكعبين للخيلاء) أما إسبال ذلك، لا على وجه الخيلاء، فمكروه تنزيهاً. باب النهي عن الافتخار والبغي (قال الله تعالى: فلا تزكوا أنفسكم) أي: لا تمدحوها، ولا تنسبوها إلى الطهارة (هو أعلم بمن اتقى) فربما تنسبون أحداً إلى التقوى، والله يعلم إنه ليس كذلك. ولذا ورد في الحديث الصحيح: "إن كان أحدكم مادحاً صاحبه لا محالة، فليقل حسب فلاناً والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحداً أحسبه كذا وكذا" إن كان يعلم ذلك. (وقال تعالى: إنما السبيل) أي: بالمعاقبة (على الذين يظلمون الناس) لا على من انتصر بعد ظلامته (ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك) أي: الظالمون الباغون (لهم عذاب أليم) لظلمهم وبغيهم. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: بيان غلظ تحريم إسبال الأزار ... (الحديث: 171) . (¬2) سورة النجم، الآية: 32. (¬3) سورة الشورى، الآية: 42.

1587- وعن عياضِ بن حمارٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ اللهَ تَعَالَى أوْحَى إلَيَّ أنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أحَدٍ، وَلاَ يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أحَدٍ". رواه مسلم. قَالَ أهلُ اللغةِ: البغيُ: التَّعَدِّي والاستطالَةُ (¬1) . 1588- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إِذَا قَالَ الرجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ، فَهُوَ أهْلَكُهُمْ". رواه مسلم. والرواية المشهورة: "أهْلَكُهُمْ" بِرَفعِ الكاف وروي بنصبها. وذلكَ النْهيُ لِمنْ قَالَ ذَلِكَ عُجْباً بِنَفْسِهِ، وتَصَاغُراً للنَّاسِ، وارْتِفاعاً عَلَيْهِمْ، فَهَذَا ـــــــــــــــــــــــــــــ 1587- (وعن عياض) بكسر العين المهملة وتخفيف التحتية آخره ضاد معجمة (ابن حمار) بكسر المهملة تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب التواضع (قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله تعالى أوحى إلي أن تواضعوا) "أن" مفسرة أو مصدرية، بتقدير الجار، قبلها، أي: أمرني وإياكم بالتواضع، والمبالغة فيه (حتى) غائية أو تعليلية (لا يبغي) بالنصب أي يستطيل (أحد) لفضل فيه من علم أو جاه أو مال (على أحد) خلا عن ذلك (ولا يفخر) بضم الخاء المعجمة، وبالنصب على ما قبله (أحد على أحد رواه مسلم) وأبو داود وابن ماجه كلهم من حديث عياض (قال أهل اللغة البغي التعدي والاستطالة) قال في المصباح: بغى على الناس بغياً، ظلم واعتدى، فهو باغ اهـ. وفي القاموس: بغى عليه يبغي بغياً علا وظلم وعدل عن الحق، واستطال وكذب. 1588- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا قال الرجل) أي: إعجاباً بنفسه، وازدراء بغيره (هلك الناس) وفي معناه فسدوا وفسقوا ونجو ذلك (فهو أهلكهم) أي: أشدهم هلاكاً، لرضاه عن نفسه وبغيه على سائر الناس، (رواه مسلم، والرواية المشهورة أهلكهم برفع الكاف) أفعل تفضيل كما شرحت عليه، ثم الأولى بضم الكاف أو برفع أهلك (وروي بنصبها) أي: بفتحها لأن هذه فتحة بناء لقب الرفع، والنصب من ألقاب الإِعراب (وهذا النهي) المتصيد عن الكلام المدلول عليه، بنسبة قائل ذلك إلى الهلاك (لمن قال ذلك عجباً) بفتحتين أو بضم فسكون (بنفسه وتصاغراً للناس) أي: ازدراء بهم، مصدران ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار (الحديث: 64) .

هُوَ الحَرامُ، وَأمَّا مَنْ قَالَهُ لِما يَرَى في النَّاسِ مِنْ نَقْصٍ في أمرِ دِينِهم، وقَالَهُ تَحَزُّناً عَلَيْهِمْ، وعَلَى الدِّينِ، فَلاَ بَأسَ بِهِ. هكَذَا فَسَّرَهُ العُلَماءُ وفَصَّلُوهُ، وَمِمَّنْ قَالَهُ مِنَ الأئِمَّةِ الأعْلامِ: مالِكُ بن أنس، وَالخَطَّابِيُّ، والحُميدِي وآخرونَ، وَقَدْ أوْضَحْتُهُ في كتاب الأذْكار (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ منصوبان حالاً، وهما بمعنى الفاعل أو على بابهما، والنصب على أنه مفعول له (فهذا هو الحرام) أي: فالقول بما ذكر، الصادر على ذلك هو الحرام المنهي عنه، بالجملة الخبرية، لأنه أبلغ (وأما من قاله لما يرى في الناس من نقص في أمر دينهم، وقاله تحزناً عليهم وعلى الدين فلا بأس به) بل إذا رجى أنه يحصل بقوله ذلك، إقبال على أمر الدين، وإعراض عن الاخلال به (هكذا فسره العلماء وفصلوه وممن قاله من الأئمة الأعلام) جمع علم بفتحتين، وهو في الأصل الجبل، وأريد به من هو في غاية الظهور، ففيه استعارة تصريحية، وعطف على الأئمة عطف بيان. قوله بعد العطف (مالك بن أنس) إمام دار الهجرة (والخطابي) واسمه حمد بصيغة المصدر نسبة إلى جده خطاب (والحميدي) بضم المهملة وفتح الميم وسكون التحتية ثم دال مهملة، وهو ابن عبد الله الحميدي الأندلسي (وآخرون وقد أوضحته في كتاب الأذكار) المسمى بحلية البررة. قال فيه: ويؤيد الرفع أنه جاء في رواية رويناها في حلية الأولياء، في ترجمة سفيان الثوري، هو من أهلكهم. قال الإِمام الحافظ أبو عبد الله الحميدي في الجمع بين الصحيحين في الرواية الأولى: قال بعض رواته: لا أدري أهو بالرفع أم بالنصب؟ قال الحميدي: الأظهر الرفع أي: هو الأشد هلاكاً للازدراء عليهم والاحتقار لهم؛ وتفضيل نفسه عليهم، لأنه لا يدري سر الله تعالى في خلقه، هكذا كان بعض علمائنا يقول، هذا كلام الحميدي والخطابي، معناه: لا يزال الرجل يعيب الناس، ويذكر مساويهم، ويقول فسد الناس وهلكوا ونحو ذلك، فإذا قاله كذلك، فهو أهلكهم أي: أسوأ حالاً، فيما يلحقه من الإِثم في عيبهم والوقيعة فيهم، وربما أداه ذلك إلى العجب بنفسه، ورؤيته أن له فضلاً عليهم، وأنه خير منهم فيهلك. هذا كلام الخطابي، فيما روينا عنه في معالم السنن ورويناه في سنن أبي داود ومن طريق مالك، ثم قال: قال مالك إذا قال ذلك تحزناً عليهم، لما يرى في الناس، يعني في أمر دينهم، فلا أرى به بأساً. وإذا قال ذلك عجباً بنفسه، وتصاغراً للناس، فهو المكروه الذي نهي عنه. قلت فهذا تفسير بإسنادٍ، في ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب النهي عن قول: هلك الناس (الحديث: 139) .

رواه مسلم. "التَّحْرِيشُ": الإفْسَادُ وتَغييرُ قُلُوبِهِمْ وتَقَاطُعُهُم (¬1) . 1593- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أنْ يَهْجُرَ أخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ، فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلاَثٍ فَمَاتَ، دَخَلَ النَّارَ". رواه أَبُو داود بإسناد عَلَى شرط البخاري ومسلم (¬2) . 1594- وعن أَبي خِراشٍ حَدْرَدِ بنِ أَبي حَدْرَدٍ الأسلميِّ. ويقالُ: السُّلمِيّ الصحابي - رضي الله عنه -: أنَّه سمع النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، يقولُ: "مَنْ هَجَرَ أخَاهُ سَنَةً ـــــــــــــــــــــــــــــ والترمذي (التحريش) بالحاء المهملة وبالشين المعجمة (الإِفساد وتغيير قلوبهم وتقاطعهم) وذلك مما يوسوس به، مما يؤدي لذلك ويفضي إليه. 1593- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث) بأن يتلاقيا يسلم أحدهما على صاحبه ولا يكلم، تقدم تفسيره بذلك في الحديث المتفق عليه (فمن هجر فوق ثلاث فمات) مصراً على الهجر والقطيعة (دخل النار) إن شاء الله تعذيبه مع عصاة الموحدين، أو دخل النار خالداً مؤبداً، إن استحل ذلك، مع علمه بحرمته والإِجماع عليها (رواه أبو داود بإسناد، على شرط البخاري ومسلم) فرواه عن رجال، رويا عنهم في الصحيح، على وجه مخصوص، أي: في الأوصول عن محمد بن الصباح البزار، عن يزيد بن هارون، عن سفيان عن منصور، عن أبي مزاحم. 1594- (وعن أبي خراش) بكسر الخاء المعجمة، بعدها راء وإعجام الشين (حدرد) بفتح المهملة الأولى وسكون الثانية وفتح الراء، آخره دال مهملة (ابن أبي حدرد) بالوزن المذكور، واسمه سلامة بن عمير بن أبي سلامة بن سعد بن سارب بن الحارث بن عيسى بن هوازن بن أسلم بن أقصى بن حارثة (الأسلمي ويقال السلميمي) منسوب إلى سليم، مصغر أسلم، تصغير ترخيم. وفي نسخة "السلمي" بضم ففتح نسبة إلى ما ذكر، بحذف الياء كالجهني نسبة إلى جهينة. وقال الحافظ في الإِصابة: كذا وقع في هذه الرواية السلمي وإنما هو الأسلمي (الصحابي رضي الله عنه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: من هجر أخاه سنة) بفتح ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: صفات المنافقين وأحكامهم، باب: تحريش الشيطان، وبعثه سراياه لفتنة الناس ... (الحديث: 65) . (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: فيمن يهجر أخاه المسلم، (الحديث: 4914) .

قَالَ: لا يَضُرُّكَ. ورواه مالك في "الموطأ": عن عبد الله بن دينارٍ، قَالَ: كُنْتُ أنَا وابْنُ عُمَرَ عِنْدَ دَارِ خَالِدِ بنُ عُقْبَةَ الَّتي في السُّوقِ، فَجَاءَ رَجُلٌ يُريدُ أنْ يُنَاجِيَهُ، وَلَيْسَ مَعَ ابْنِ عُمَرَ أَحَدٌ غَيْرِي، فَدَعَا ابْنُ عُمَرَ رَجُلاً آخَرَ حَتَّى كُنَّا أَرْبَعَةً، فَقَالَ لِي وَللرَّجُلِ الثَّالِثِ الَّذِي دَعَا: اسْتَأْخِرَا شَيْئاً، فَإنِّي سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقُولُ: "لا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ" (¬1) . 1597- وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أنَّ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِذَا كُنْتُمْ ثَلاَثَةً، فَلاَ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الآخَرِ حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ، مِنْ أجْلِ أنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ" ـــــــــــــــــــــــــــــ بالنصب أي: فإن كانوا أربعة ما حكم تناجي اثنين منهم (قال لا يضرك) أي: لا إثم فيه، ولا حرمة، ولا ضرر فيه (ورواه) الإِمام المجتهد (مالك في الموطأ) بصيغة المفعول، من التوطئة التمهيد والتدليل. (وعن عبد الله بن دينار) التابعي الجليل مولى ابن عمر، ثقة من طبقة تلي أوساط التابعين. مات سنة سبع وعشرين ومائة، قاله الحافظ في التقريب (قال كنت أنا وابن عمر عند دار خالد بن عقبة التي بالسوق فجاء رجل يريد أن يناجيه) أي: ْيساره (وليس مع ابن عمر أحد غيري) جملة حالية من مفعول يناجيه (فدعا ابن عمر رجلاً آخر حتى كنا) أي: صرنا (أربعة فقال لي وللرجل الثالث) أي: بالنسبة إليه وإلى ابن عمر (الذي دعا) بحدف العائد المنصوب (استأخرا شيئاً) أي: من التأخر، وذلك ليبلغ المناجي مراده، وعلل نداءه الآخر، ثم ناجاه بعد مجيئه بقوله: (فأني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يتناجى اثنان دون واحد) فيه التناجي دون ما زاد على الواحد. 1597- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث حتى يختلطوا) أي: الثلاثة بالناس، والنهي على سبيل التحريم، بدليل تعليله بقوله (من أجل أن ذلك يحزنه) بفتح أوله وثالثه، وبضم أوله، وكسر ثالثه. ومن المعلوم أن ذلك إيذاء له، والله تعالى يقول: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الاستئذان، باب: لا يتناجى اثنان دون الثالث (11/68، 69) . وأخرجه مسلم في كتاب: السلام، باب: تحريم مناجاة الاثنين دون الثالث، بغير رضاه (الحديث: 36) . وأخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في التناجي، (الحديث: 4852) .

1601- وعن أَبي عليٍّ سويدِ بن مُقَرِّنٍ - رضي الله عنه - قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي سَابِعَ سَبْعَةٍ مِنْ بَنِي مُقَرِّنٍ مَا لَنَا خَادِمٌ إِلاَّ وَاحِدَةٌ لَطَمَهَا أصْغَرُنَا فَأَمَرَنَا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ نُعْتِقَهَا. رواه مسلم. وفي روايةٍ: "سَابعَ إخْوَةٍ لِي" (¬1) . 1602- وعن أَبي مسعودٍ البدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنْتُ أضْرِبُ غُلامَاً لِي بالسَّوْطِ، فَسَمِعْتُ صَوْتاً مِنْ خَلْفِي: "اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ" فَلَمْ أفْهَمِ الصَّوْتِ مِنَ ـــــــــــــــــــــــــــــ 1601- (وعن أبي علي سويد) بضم المهملة وفتح الواو وسكون التحتية بعدها مهملة (ابن مقرن) بصيغة الفاعل من القرين بالقاف والراء والنون ابن عائذ بن منجا بن هجير بن نضر بن حشية بن كعب بن نور بن هدمة بن الأطم بن عثمان بن عمر بن اد المزني، يقال لولد عثمان بن عمرو وأخيه، أوس مزينة نسبوا إلى أمهم مزينة، بنت كلب بن وبرة يكنى أبا عدي، وقيل أبو عمرو سكن الكوفة. روى له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أحاديث، أخرج عنه مسلم حديثاً واحداً، ولم يذكر ابن الأثير عام وفاته ولا محلها (رضي الله عنه قال لقد رأيتني) ْبضم التاء، ومن خصائص أفعال القلوب، جواز اتحاد فاعلها ومفعولها، أي: علمتني (سابع سبعة) ويصح كون رأى: بصرية، وسابع منصوب على أنه حال (من بني مقرن) وهم سبع إخوة كلهم صحابة مهاجرون، لم يشاركهم أحد في مجموع ذلك، كما قاله ابن عبد البر، وغيره النعمان ومعقل وعقيل وسويد وسنان وعبد الرحمن. قال ابن الصلاح: وسابع لم يسم لنا، قال الحافظ زين الدين العراقي، في شرح ألفية الحديث: قد سماه ابن فتحون في ذيل الاستيعاب، عبد الله بن مقرن. وذكر أنه كان على سيرة أبي بكر، في قتال أهل الردة، وأن الطبري ذكر ذلك، وحكى ابن فتحون، أن بني مقرن عشرة فالله أعلم. وذكر الطبري في الصحابة أيضاً: ضرار بن مقرن، خلف أخاه لما قتل بنهاوند اهـ. (ما لنا خادم إلا واحدة) جملة في محل المفعول الثاني لرأى، إن كانت علمية. وسابع حال من المفعول الأول. وإن كانت بصرية فهي محل الحال من الياء، فتكون مع ما قبلها حالاً مترادفة. (لطمها أصغرنا) لم يعينه المحدثون فيما رأيته، أي: ضربها ببطن كفه (فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نعتقها) ليكون اعتاقها كفارة لضربها؛ ففيه غلظ تعذيب المملوك، والاعتداء عليه (رواه مسلم. وفي رواية) له (سابع إخوة لي) بدل قوله سابع: سبعة. 1602- (وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: كنت أضرب غلاماً لي بالسوط ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: صحبة المماليك، وكفارة من لطم عبده، (الحديث: 32) .

الغَضَبِ، فَلَمَّا دَنَا مِنِّي إِذَا هُوَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا هُوَ يَقُولُ: "اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أنَّ اللهَ أقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الغُلامِ". فَقُلتُ: لا أضْرِبُ مَمْلُوكاً بَعْدَهُ أَبَداً. وَفِي روايةٍ: فَسَقَطَ السَّوْطُ مِنْ يَدِي مِنْ هَيْبَتِهِ. وفي روايةٍ: فَقُلتُ: يَا رسولَ الله، هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى، فَقَالَ: "أمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ". رواه مسلم بهذه الروايات (¬1) . 1603- وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَنْ ضَرَبَ غُلاَمَاً لَهُ حَدّاً لَمْ يَأتِهِ أَوْ لَطَمَهُ فإنَّ كَفَارَتَهُ أنْ يُعْتِقَهُ" رواه ـــــــــــــــــــــــــــــ فسمعت صوتاً من خلفي اعلم أبا مسعود) أتى به للتنبيه على ما بعده (فلم أفهم الصوت) أي: ما اشتمل عليه من الكلام ومن في قوله (من الغضب) تعليلية، كهي في قوله تعالى (مما خطيئاتهم أغرقوا) (فلما دنا) أي: قرب (مني إذا) فجائية (هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا هو يقول: إعلم) بصيغة الأمر (أبا مسعود) بحذف حرف النداء، اختصاراً (أن الله تعالى أقدر عليك منك على هذا الغلام) أي: فاحذر انتقامه، ولا يحملك قدرتك على ذلك المملوك، أن تتعدى فيما منع الله منه، من ضربه عدواناً. (فقلت لا أضرب مملوكاً بعده) أي: بعد هذا القول الذي سمعته (أبدأ وفي رواية) هي لمسلم كما ستأتي (فسقط السوط من يدي من هيبته) من تعليلية (وفي رواية فقلت يا رسول الله هو حر لوجه الله تعالى) أي: لذاته طلباً لمرضاته (فقال أما) بتخفيف الميم (إنه لو لم تفعل) فيه إطلاق الفعل على الفاعل (للفحتك النار) بتخفيف الفاء، وبالحاء المهملة، أي: أحرقتك (أو) شك من الراوي (لمستك النار) ويلزم من مسها الإِحراق (رواه مسلم بهذه الروايات) . 1603- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من ضرب غلاماً له حداً) مفعول له (لم يأته) أو لم يفعل ما يقتضي ذلك الحد الذي حد به (أو لطمه) أي: ضربه ببطن كفه، من غير سبب (فإن كفارته) أي: مكفر إثم ذلك عنه (أن يعتقه) أي: محو ذلك الإِثم عنه، بإعتاقه. قال القاضي عياض: أجمعوا على أن الإعتاق غير واجب، وإنما هو مندوب. لكن أجر هذا الإِعتاق، لا يبلغ أجر الإِعتاق شرعاً. وفي الحديث الرفق بالمماليك، إذا لم يذنبوا أما إذا أذنبوا فقد رخص - صلى الله عليه وسلم - بتأديبهم بقدر إثمهم، ومتى زادوا يأخذ بقدر الزيادة (رواه ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: صحبة المماليك، وكفارة من لطم عبده، (الحديث: 35) .

مسلم (¬1) . 1604- وعن هِشام بن حكيمِ بن حِزَامٍ رضي الله عنهما: أنَّه مَرَّ بالشَّامِ عَلَى أُنَاسٍ مِنَ الأَنْبَاطِ، وَقَدْ أُقيِمُوا في الشَّمْسِ، وَصُبَّ عَلَى رُؤُوسِهِمُ الزَّيْتُ! فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قيل: يُعَذَّبُونَ في الخَرَاجِ - وفي رواية: حُبِسُوا في الجِزْيَةِ - فَقَالَ هِشَامٌ: أشهدُ لَسَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، يقولُ: "إنَّ اللهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاس في الدُّنْيَا" ـــــــــــــــــــــــــــــ مسلم) 1604- (وعن هشام بن حكيم بن حزام) بن خويلد بن أسد القرشي الأسدي، صحابي ابن صحابي، فلذا قال المصنف (رضي الله عنهما) قال في التقريب: له ذكر في الصحيحين، في حديث عمر، حيث سمعه يقرأ سورة الفرقان. مات قبل أبيه، ووهم من زعم أنه استشهد بأجنادين، خرّج عنه مسلم وأبو داود والنسائي. وفي التهذيب أسلم يوم الفتح، توفي قبل حكيم أبيه، قاله ابن عبد البدر وغيره. وقيل: استشهد باجنادين، قاله إبراهيم الأصبهاني وغيره، وغلطهم فيه ابن الأثير وقال: إنه وهم. والذي قتل باجنادين، هو هشام بن العاص، سنة ثلاث عشر وقصة هشام بن حكيم، مع عياض بن غنم. وهو حديث الباب، يدل على أنه عاش بعد اجنادين، فإنه مر على عياض وهو وال على حمص وإنما فتحت بعد اجنادين بزمان طويل، روى عنه جماعة من التابعين. قال محمد بن سعد: وكان هشام بن حكيم رجلاً صليباً (¬2) مهيباً. وقال الزهري: كان يأمر بالمعروف في رجال معه، وكان عمر بن الخطاب يقول: إذا بلغه أنه ينكر أمراً ما، بقيت أنا وهشام فلا يكون هذا. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث شتى، روى مسلم واحداً منها (أنه مر بالشام على أناس من الأنباط) ويقال فيهم النبط بفتح أوليه، هم قوم من العرب، دخلوا في العجم والروم، واختلطت أنسابهم، وفسدت ألسنتهم، سموا بذلك لمعرفتهم بأنباط الماء واستخراجه، لكثرة معالجتهم الفلاحة. قاله في التوشيح. وقال قوم: هم فلاحو العجم وجملة (وقد أقيموا في الشمس) حالية، وعطف عليها قوله (وصب على رؤوسهم الزيت) والفعل فيهما مبني للمجهول (فقال ما هذا قيل يعذبون في الخراج) أي: من أجله وبسببه (وفي رواية حبسوا في الجزية فقال هشام أشهد لسمعت) جواب قسم مقدر، أو جواب أشهد، لتنزيله، لتحققه منزلة القسم؛ (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا) أي: بغير ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: صحبة المماليك، وكفارة من لطم عبده، (الحديث:29) . (¬2) الصليب الشديد وكذا الصلب بضم الصاد. ع.

283- باب تحريم التعذيب بالنار في كل حيوان حتى النملة ونحوها

1606- وعنه: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ عَلَيْهِ حِمَارٌ قَدْ وُسِمَ في وَجْهِهِ، فَقَالَ: "لَعَنَ اللهُ الَّذِي وَسَمَهُ". رواه مسلم. وفي رواية لمسلم أَيضاً: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الضَّرْبِ في الوَجْهِ، وَعَنِ الوَسْمِ في الوَجْهِ (¬1) . 283- باب تحريم التعذيب بالنار في كل حيوان حَتَّى النملة ونحوها 1607- عن أَبي هريرةَ - رضي الله عنه - قَالَ: بعثنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في بَعْثٍ، فَقَالَ: "إنْ وَجَدْتُمْ فُلاَناً وَفُلاناً" لِرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ سَمَّاهُمَا "فَأَحْرِقُوهُمَا بالنَّارِ" ثُمَّ قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حِيْنَ أرَدْنَا الخرُوجَ: "إنِّي كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ أنْ تُحْرِقُوا فُلاناً وفُلاناً ـــــــــــــــــــــــــــــ 1606- (وعنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر عليه حمار قد وسم) بصيغة المجهول (في وجهه فقال) محرماً لذلك، ومنبهاً أنه من الكبائر (لعن الله الذي وسمه. رواه مسلم وفي رواية لمسلم أيضاً نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الضرب في الوجه وعن الوسم في الوجه) قال العلماء: لأن الوجه لطيف، يجمع المحاسن، وأعضاؤه نفيسة لطيفة، وأكثر الإِدراك بها، فقد يبطلها ضرب الوجه، وقد ينقصها وقد يشوه الوجه، والشين فيه فاحش، لأنه بارز ظاهر، لا يمكن ستره، ومتى ضربه لا يسلم من الشين غالباً. وشمل النهي، ضرب الخادم والزوجة والولد للتأديب، فليجتنب الوجه وتأثير الوسم أشد. باب تحريم التعذيب بالنار في كل حيوان حتى القملة ونحوها بالجر عطفاً على المجرور قبله. 1657- (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعث) بفتح الموحدة وسكون المهملة، وبعدها مثلثة، أي: جيش مبعوث به (فقال إن وجدتم فلاناً وفلاناً لرجلين من قريش سماهما) أي: عينهما النبي - صلى الله عليه وسلم - ونسيهما الراوي (فأحرقوهما بالنار ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أردنا الخروج) إلى ذلك المحل المرسل إليه (إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً) أي: وقد رجعت عنه (وإن النار لا يعذب بها إلا الله) جملة مستأنفة ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: النهي عن ضرب الحيوان في وجهه ووسمه فيه (الحديث:107) وهو عن جابر ...

وإنَّ النَّارَ لا يُعَذِّبُ بِهَا إِلاَّ الله، فإنْ وَجَدْتُمُوهُما فاقْتُلُوهُما". رواه البخاري (¬1) . 1608- وعن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كنَّا مَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سَفَرٍ، فانْطَلَقَ لحَاجَتِهِ، فَرَأيْنَا حُمَّرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ، فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا، فَجَاءتِ الحُمَّرَةُ فَجَعَلَتْ تَعْرِشُ فَجَاءَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "مَنْ فَجَعَ هذِهِ بِوَلَدِهَا؟ ، رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْها". ورأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا، فَقَالَ: "مَنْ حَرَّقَ هذِهِ؟ " قُلْنَا: نَحْنُ قَالَ: "إنَّهُ لا يَنْبَغِي أنْ يُعَذِّبَ بالنَّارِ إِلاَّ رَبُّ النَّارِ". رواه أَبُو داود بإسناد صحيح. قَوْله: "قَرْيَةُ نَمْلٍ" مَعْنَاهُ: مَوضْعُ النَّمْلِ مَعَ النَّمْلِ (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو حالية (فإن وجدتموهما فاقتلوهما) في الحرب أو صبراً (رواه البخاري) . 1608- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فانطلق لحاجته) أي: حاجة الإِنسان (فرأينا حمّرة) بضم الحاء وتشديد الميم، أي: مع ضمها، وقد تخفف وتشدد الراء: طائر صغير كالعصفور (معها فرخان) بفتح الفاء وبالراء والخاء المعجمة، تثنية فرخ أي: ولدان. والجملة حالية، رابطها الضمير (فأخذنا فرخيها فجاءت الحمرة فجعلت تعرش) قال في النهاية: التعريش أن ترتفع وتظلل بجناحيها على من تحتها (فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال من فجع) من باب نفع أي: رزأ (هذه بولدها ردوا ولدها) المراد منه الجنس، فيشمل ما فوق الواحد (إليها) فردوه وسكت عنه، لظهور أنهم لا يتخلفون عن امتثال أمره - صلى الله عليه وسلم - (ورأى قرية نمل قد حرقناها) بالتضعيف اعتباراً بتعداد النمل (فقال من حرق هذه) أي: القرية (قلنا نحن قال إنه لا ينبغي) أي: لا يجوز ولا يحل (أن يعذب بالنار إلا رب النار) نعم من قتل بالنار، قتل بها قصاصاً، إن شاء الولي ذلك، وإن شاء اقتص بالسيف (رواه أبو داود بإسناد صحيح، قوله قرية نمل) بفتح القاف والتحتية (معناه موضع النمل مع النمل) قال في النهاية: قرية النمل: هي مسكنها وبيتها، والجمع قرى اهـ. وحينئذ فقول المصنف مع النمل ليس تفسيراً لقرية النمل لغة، إنما هو بيان للمراد في الحديث، وأن المنهى عنه إحراق النمل، لا بيته الخالي منه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: لا يعذب بعذاب الله (6/104، 105) . (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: في كراهية حرق العدو بالنار، (الحديث: 2675) .

284- باب في تحريم مطل الغني بحق طلبه صاحبه

284- باب في تحريم مطل الغني بحقٍّ طلبه صاحبه قَالَ الله تَعَالَى (¬1) : (إنَّ اللهَ يَأمُرُكُمْ أنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أهْلِهَا) . وقال تَعَالَى (¬2) : (فَإن أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أمَانَتَهُ) . 1609- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أُتْبعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَع". متفق عَلَيْهِ. معنى "أُتبع": ـــــــــــــــــــــــــــــ باب تحريم مطل الغني أي: تأخيره (بحق طلبه صاحبه) أي: وكان له الطلب، أما لو كان الحق مؤجلاً، فطلبه قبل الأجل، فلا عبرة بطلبه، ولا تحريم في مطله. (قال الله تعالى: إن الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها) وإن أنزلت في خصوص رد المفتاح، لعثمان بن طلحة الحجبي، لكن الأمانات فيها عام. لذلك ولغيره. والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (وقال تعالى: فإن أمن بعضكم بعضاً) من غير رهن ولا إشهاد (فليؤد الذي اؤتمن أمانته) وجوباً ومقابلة لائتمانه بأمانه. 1609- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال مطل الغني) من إضافة المصدر للفاعل، والمطل المد (¬3) والمراد به هنا تأخير ما استحق أداؤه بغير عذر (ظلم) قال السبكي: تسمية المطل ظلماً، يشعر بكونه كبيرة كالغصب. وقال المصنف: هو صغيرة (وإذا أتبع) بسكون المثناة مبنياً للمفعول أي: أحيل (أحدكم علي مليء) بالهمز وقد يسهل الغني (فليتبع) بالتخفيف والتشديد: فليحتل، وهو أمر ندب، وقيل إباحة وإرشاد، وقيل وجوب. "تنبيه" قال الرافعي: الأشهر في الروايات "وإذا أتبع" وأنهما جملتان، لا تعلق لإِحداهما بالأخرى. ووجه الفاء: أن الجملة الأولى: كالتوطئة، والعلة لقبول الحوالة، أي: إذا كان مطل الغني ظلماً، فليقبل من يحال بدينه عليه، فإن المؤمن من شأنه، أن يحترز عن الظلم فلا يمطل (متفق عليه) ورواه أصحاب السنن الأربعة (معنى أتبع) بضم الهمزة وسكون ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 58. (¬2) سورة البقرة، الآية: 283. (¬3) في الأصل (والمدافعة) بدل (والمراد به) وهو تحريف. ع.

يَقِيءُ، ثُمَّ يَعُودُ في قَيْئِهِ فَيَأكُلُهُ" وفي روايةٍ: "العائِدُ في هِبَتِهِ كالعائِدِ في قَيْئِهِ" (¬1) . 1611- وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قَالَ: حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ في سَبيلِ اللهِ فَأَضَاعَهُ الَّذِي كَانَ عِندَهُ، فَأَرَدْتُ أن أشْتَرِيَهُ، وَظَنَنْتُ أنَّهُ يَبِيعُهُ بِرُخْصٍ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: "لاَ تَشْتَرِهِ وَلاَ تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ وإنْ أعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ؛ فَإنَّ العَائِدَ في صَدَقَتِهِ كَالعَائِدِ في قَيْئِهِ". متفق عَلَيْهِ. قَوْله: "حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبيلِ الله" مَعنَاهُ: تَصَدَّقْتُ بِهِ عَلَى بَعْضِ ـــــــــــــــــــــــــــــ لها شأن في القبح يتحدث به، كصفة الكلب، حال كونه أو الذي (يقيء ثم يعود في قيئه) أي: ما تقايأه (¬2) من إطلاق المصدر على اسم المفعول (فيأكله وفي رواية) لهما، وهي عند أحمد وأبي داود والنسائي من حديثه أيضاً (العائد في هبته كالعائد في قيئه) قال المصنف: والحديث ظاهر في التحريم، وهو محمول على هبته لأجنبي. أما إذا وهب لولده وإن سفل، فله الرجوع أي بشرطه. قال ابن دقيق العيد: وقع التشديد في التشبيه من وجهين: أحدهما تشبيه الراجع بالكلب، والثاني تشبيه المرجوع فيه بالقيء. 1611- (وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال حملت على فرس) اسمه الورد، كان لتميم الداري فإهداه للنبي - صلى الله عليه وسلم - فأعطاه لعمر (في سبيل الله) أي أعطى رجلاً فرساً، ليجاهد الكفار عليه، وهو يطلق على المذكر والمؤنث، بلفظ واحد كما تقدم (فأضاعه الذي كان عنده) أي: لم يكرمه بالإِطعام والعناية به (فأردت أن أشتريه) وظن أن استعادته بالشراء، لا يكون رجوعاً في الهبة، فلا يتناول ما ورد فيه (وظننت أنه يبيعه برخص) أي: في السعر لضعفه وهزاله (فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي: عن ذلك (فقال لا تشتره ولا تعد) أي: ترجع (في صدقتك وإن أعطاكه) أي: بالبيع منك (بدرهم فإن العائد في صدقته) أي: ولو بشرائها من المتصدق بها عليه (كالعائد في قيئه متفق عليه) رواه البخاري في الزكاة وفي الهبة وفي الجهاد. ومسلم في الفرائض، ورواه أيضاً في صحيحه. قال المزي وتعقب بأنه رواه في الهبة، وهي بين الفرائض والوصايا، قال الحافظ: ورواه أيضاً النسائي في الأحكام ورواه ابن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الهبة في أبواب متعددة (5/160) . وأخرجه مسلم في كتاب: الهبات، باب: تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض إلا ... (الحديث: 5، 6، 7) . (¬2) لعل الصواب (ما تقيأه) بتشديد الياء كما في القاموس وغيره. ع.

قَالَ اللهُ تَعَالَى (¬1) : (الَّذِينَ يَأكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذَلِكَ بأنَّهُمْ قَالُوا إنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأولئِكَ أصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) - إِلَى قَوْله تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا) الآية. ـــــــــــــــــــــــــــــ أفتى الشهاب الرملي بخلافه، وتحريمه تعبدي، وما أبدى له إنما يصح حكمة لا علة. (قال تعالى: الذين يأكلون الربا لا يقومون) من قبورهم (إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان) أي إلا قيام المصروع (من المس) أي الجنون وهو متعلق بيقوم. وفي الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإِسراء، مر على قوم بطونهم كالبيوت، وأخبر أنهم أكلة الربا (ذلك) أي: العذاب (بأنهم) أي: بسبب أنهم (قالوا إنما البيع مثل الربا) اعترضوا على أحكام الله تعالى، وقالوا البيع مثل الربا، فإذا كان الربا حراماً، فلا بد أن يكون البيع كذلك (وأحل الله البيع وحرم الربا) يحتمل أن يكون تتمة المعترض (¬2) المشرك، ويحتمل أن يكون من كلام الله رداً عليهم، أي: اعترضوا، والحال أن الله فرق بين هذا وهذا، وهو الحكيم العليم (فمن جاءه موعظة من ربه) أي: بلغه وعظ من الله (فانتهى) أي: فاتعظ وامتثل، حال وصول الشرع إليه. (فله ما سلف) من المعاملة أي: له ما كان أكل من الربا زمن الجاهلية (وأمره إلى الله) يحكم بينهم يوم القيامة (ومن عاد) إلى تحليله وأكله (فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) لكفرهم (يمحق الله الربا) أي: يذهب بركته فلا ينتفع في الدنيا والآخرة به (ويربي الصدقات) أي: يكثرها وينميها، وقد ورد كما تقدم أن الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة، كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله، حتى يكون مثل أحد (والله لا يحب) أي: لا يرضى (كل كفار) أي: مصر على تحليل الحرام (أثيم) فاجر بارتكابه (إن الذين آمنوا) (¬3) بما جاء من الله (وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة) ذكرهما بعد الأعم لشرفهما (لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم) من آت (ولا هم يحزنون) على فائت (يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين) اتركوا ما لكم ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآيات: 275-278. (¬2) لعله (كلام المعترض) . (¬3) هذه والأخيرة ليستا في نسخ المتن.

قَالَ الله تَعَالَى (¬1) : (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) الآيةَ. وقال تعالى (¬2) : (لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالمَنِّ وَالأَذَى كالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ) الآيةَ. وقال تَعَالَى (¬3) : (يُرَاءونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً) . 1614- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "قَالَ الله تَعَالَى: أنَا أغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي ـــــــــــــــــــــــــــــ إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) أي: فلا يشرك مع ربه في عبادته أحداً، شركاً خفياً، وهو الرياء (حنفاء) مائلين عن كل ما سوى الدين الحنيفي إليه (ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيِّمة) تقدم ما يتعلق بها في باب وجوب الزكاة (وقال تعالى: لا تبطلوا صدقاتكم) أي: ثوابها (بالمن) تعداد النعمة على المحسن إليه (والأذى) إبطالاً (كـ) ابطال (الذي ينفق ماله رئاء الناس) الضعفين اجتمعا في إحباط الثواب، وجعل العمل معرى منه، سوى ما صحبه في كل منهما (ولا يؤمن بالله واليوم الآخر) وإحسان الكافر لا يكسبه ثواباً، وإنما يتوقع بها تخفيف العقاب (فمثله) أي: صفته العجيبة الشأن، (كمثل صفوان) حجر أملس (عليه تراب) جملة في محل الصفة (فأصابه وابل) مطر غزير (تركه صلداً) أملس نقياً من التراب، كذلك عمل المرائين، يضمحل عند الله، وإن ظهر لهم أعمال، فيما يرى الناس كالتراب (لا يقدرون) الضمير للذين ينفقون، باعتبار المعنى، فأنهم كثيرون (على شيء مما كسبوا) لا ينتفعون بما فعلوا (والله لا يهدي القوم الكافرين) إلى خير، وفيه إيماء إلى أن الرياء من صفة الكفار، فعلى المؤمن أن يحذر منها وقال تعالى: في وصف المنافقين (يراءون الناس) بأعمالهم وطاعاتهم (ولا يذكرون الله إلا قليلا) أي: في قليل من الزمان، وهو حال اجتماعهم على المسلمين، أو إلا ذكراً قليلاً. 1614- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله تعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري) بأن قصد مراءاته، أو ¬

_ (¬1) سورة البينة، الآية: 5. (¬2) سورة البقرة، الآية: 264. (¬3) سورة النساء، الآية: 142.

289- باب فيما يتوهم أنه رياء وليس هو رياء

1618- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَعَلَّمَ عِلْماً مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللهِ - عز وجل - لاَ يَتَعَلَّمُهُ إِلاَّ لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضاً مِنَ الدُّنْيَا، لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ" يَعْنِي: رِيحَهَا. رواه أَبُو داود بإسنادٍ صحيحٍ (¬1) . والأحاديث في الباب كثيرةٌ مشهورةٌ. 289- باب فيمَا يتوهم أنَّه رياء وليس هُوَ رياء 1619- وعن أَبي ذرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قِيلَ لِرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: أرَأيْتَ الرَّجُلَ ـــــــــــــــــــــــــــــ 1618- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من تعلم علماً مما) أي: من العلم الذي (يبتغي) أي يقصد (به وجه الله عز وجل) أي: التقرب إليه وذلك العلم الشرعي والآلة (لا يتعلمه) لفرض من الأغراض (إلا ليصيب به عرضاً) بفتح العين المهملة والراء وبالضاد المعجمة قال في النهاية العرض: هو متاع الدنيا وحطامها، ولذا قيده في الحديث بقوله: (من الدنيا لم يجد عرف الجنة) وأدرج في الحديث تفسير بعض الرواية بقوله (يعني) أي: بقوله عرف الجنة (ريحها) جاء عند الطبراني: "وإن عرفها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام". ولا يلزم من منعه، من وجد إن عرفها منعه من دخولها، إما بعد التعذيب أو قبله. بل يجوز ذلك معه كما تقدم في منع شارب الخمر، من شرب خمر الجنة، ولابس الحرير منه فيها والله أعلم (يوم القيامة) ظرف الفعل المذكور قبله، والحكمة في منع الطالب لما ذكر من عرف الجنة، أنه قصر طلبه على الحقير الفاني واستبدل الأدنى بالذي هو خير فناسب أن يمنع ما أعد لمن علت همته زيادة في تشريفه، وتعجيل المسرة لكون هذا على الضد من ذلك والله أعلم (رواه أبو داود بإسناد صحيح) قال في الجامع الكبير ورواه أحمد وابن ماجه والحاكم في المستدرك والبيهقي في الشعب ثم الحديث مقصوداً في المعقود له الباب، بل هو من جملة الغرض المقصود له، فلذا أورده المصنف هنا (والأحاديث في الباب) أي: تحريم الرياء (كثيرة مشهورة) وفيما ذكر كفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. (باب ما يتوهم) بالبناء للمجهول (أنه رياء وليس هو) مؤكد لضمير الفاعل المستتر (رياء) أي: لعدم صدق تعريفه عليه. 1619- (عن أبي ذر رضي الله عنه قال قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أرأيت) بفتح التاء أي أخبرني ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: العلم، باب: في طلب العلم لغير الله تعالى، (الحديث 3664) .

292- باب في تحريم تشبه الرجال بالنساء وتشبه النساء بالرجال في لباس وحركة وغير ذلك

فَيَخُونُهُ فِيهِمْ إِلاَّ وَقَفَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيَأْخُذُ مِنْ حَسَنَاتِهِ مَا شَاءَ حَتَّى يَرْضى" ثُمَّ التَفَتَ إلَيْنَا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "مَا ظَنُّكُمْ؟ ". رواه مسلم (¬1) . 292- باب في تحريم تشبه الرجال بالنساء وتشبه النساء بالرجال في لباس وحركة وغير ذَلِكَ 1629- عن ابن عباس رضي الله عنهما، قَالَ: لَعَنَ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - المُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَالمُتَرَجِّلاَتِ مِنَ النِّسَاءِ. وفي رواية: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - المُتَشَبِّهِينَ ـــــــــــــــــــــــــــــ ًعنه بحوائجهم (فيخونه) بالنصب في جواب النفي (فيهم إلا وقف) بالبناء للمفعول (له يوم القيامة فيأخذ) بالرفع أي: المجاهد (من حسناته) أي: الخائن والظرف بيان لقوله (ما شاء) قدم عليه اهتماماً به وقوله (حتى يرضى) غاية الأخذ أي: لا يمنع منه ولا يوقف عند حد دون ما يرضيه (ثم التفت إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال) مخاطباً بقوله (ما ظنكم) أي: تظنون وقد أذن الله له في أخذ ما يرضيه منها، وطبع الإِنسان الحرص أن يترك منها شيئاً (رواه مسلم) فيه غلظ إثم الخالف للمجاهد في أهله بالخيانة تحذيراً عنها وتثبيطاً. باب تحريم تشبه الرجال بالنساء (وتشبه النساء بالرجال في لباس وحركة وغير ذلك) من جلوس أو نوم، الظرف الثاني في محل الحال، أو الصفة من المضاف إليه فيهما، أي: الكائنين، أو كائنين في ذلك، ولا حاجة إلى جعله من التنازع. 1629- (عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المخنثين) بالمعجمة والنون المشددة والثاء المثلثة، بصيغة اسم الفاعل وبصيغة اسم المفعول: من يشبه خلقه النساء في حركاته وكلماته، وإن كان ذلك خلقياً فلا لوم عليه، وعليه تكلف إزالته، فإن تمادى عليه ولم يتكلف إزالته: ذم، وإن كان بقصد منه وتكلف له فهو المذموم. قال ابن حبيب: المخنث هو المؤنث من الرجال وإن لم تعرض منه الفاحشة، مأخوذ من التكسر في المشي ونحوه، وبينه بقوله (من الرجال والمترجلات) أي: اللاتي كالرجال تشبيهاً (من ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: حرمة نساء المجاهدين، وإثم من خانهم فيهن (الحديث: 139) .

293- باب في النهي عن التشبه بالشيطان والكفار

لأَكْتَافِهِنَّ، وقيلَ: مائلاتٌ يَمْتَشطنَ المِشْطَةَ المَيلاءَ: وهي مِشطةُ البَغَايا، و "مُميلاتٌ" يُمَشِّطْنَ غَيْرَهُنَّ تِلْكَ المِشْطَةَ. "رُؤوسُهُنَّ كَأسْنِمَةِ البُخْتِ" أيْ: يُكَبِّرْنَهَا وَيُعَظِّمْنَهَا بِلَفِّ عِمَامَةٍ أَوْ عِصَابَةٍ أَوْ نَحْوِهَا (¬1) . 293- باب في النهي عن التشبه بالشيطان والكفار 1632- عن جابر - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تَأكُلُوا بِالشِّمَالِ ـــــــــــــــــــــــــــــ زوجها، فتميل عن ذلك لضده، وقيل معناه كاسيات من الثبات، عاريات من فعل الخير والاعتناء بالطاعات، والاهتمام لآخرتهن (مميلات أي: يعلمن غيرهن فعلهن المذموم) من الميل عن طاعة الله تعالى وإهمال ما يلزم حفظه (وقيل مائلات يمشين متبخرات مميلات لأكتافهن) بالفوقية جمع كتف بفتح فكسر، أو فتح أو كسر فسكون فيهما (وقيل مائلات يمتشطن المشطة) بكسر الميم (الميلاء) بفتح الميم أي: المائلة (وهي مشيطة البغايا) جمع بغى أي: الزواني لتدل تلك المشطة منها، على ما هي بصدده من البغاء؛ (مميلات يمشطن غيرهن تلك المشطة) أي: يفعلن ذلك بأنفسهن ولغيرهن. وقيل مائلات إلى الرجال، مميلات بما يبدينه من زينتهن وغيرها، واختاره القاضي عياض ومعنى قوله (رءُوسهن كأسنمة البخت أي: يكبرنها) أي: الرءوس (ويعظمنها) فتصير كبيرة الجرم عظيمة (بلف عمامة أو عصابة أو نحوها) وفي ذلك تشبه بالرجال. قال السيوطي في الدر: وهو من شعار المغنيات، قال المصنف نقلاً عن المازري: ويجوز أن يكون معناه يطمحن إلى الرجال، ولا يغضضن عنهم، ولا ينكسن رءُوسهن. واختار القاضي عياض: أن المائلات يتمشطن المشطة الميلاء، وهي ضفر الغدائر وشدها إلى فوق، وجمعها وسط الرأس، فتصير كأسنمة البخت، إنما هو ارتفاع الغدائر فوق رؤوسهن، وجمع عقائصها هناك، وتكبيرها بما تضفر به، حتى تميل إلى ناحية من جوانب الرأس، كما يميل السنام، قال ابن دريد يقال ناقة ميلاء، إذا كان سنامها يميل إلى أحد شقيها. باب النهي عن التشبه بالشيطان والكفار آل فيهما للجنس، فيصدق بكل فرد من ذلك. 1632- (عن جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تأكلوا بالشمال) النهي للتنزيه ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: النساء الكاسيات العاريات المائلات المميلات، (الحديث: 125) .

فَإنَّ الشَّيْطَانَ يَأكُلُ ويَشربُ بِالشِّمَالِ". رواه مسلم (¬1) . 1633- وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "لاَ يَأكُلَنَّ أَحَدُكُمْ بِشِمَالِهِ، وَلاَ يَشْرَبَنَّ بِهَا، فَإنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِهَا". رواه مسلم (¬2) . 1634- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إنَّ اليَهُودَ وَالنَّصَارى لاَ يَصْبغُونَ، فَخَالِفُوهُمْ". متفق عَلَيْهِ. المُرَادُ: خِضَابُ شَعْرِ اللَّحْيَةِ والرَّأسِ الأبْيَضِ بِصُفْرَةٍ أَوْ حُمْرَةٍ؛ وأمَّا السَّوَادُ، فَمَنْهِيٌّ عَنْهُ كَمَا سَنَذْكُرُهُ في البَابِ بَعْدَهُ، إنْ ـــــــــــــــــــــــــــــ ودعاؤه على من يأكل بها ليس لذلك، بل لكبره عن امتثال الأمر النبوي ونعلله بما لا أصل له (¬3) وعلل النهي بقوله (فإن الشيطان يأكل بالشمال) فيه تصريح بأن الشيطان يأكل، والأصل الحقيقة، ويؤيده ما جاء من أن له ضراط، فهذا يدل على أن له جوفاً يحيل الطعام والشراب. وتقدم حديث "ذاك رجل بال الشيطان في أذنه" (رواه مسلم) ورواه ابن ماجة، وعليه اقتصر السيوطي في جامعه الكبير والصغير. 1633- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يأكلن أحدكم بشماله ولا يشربن بها) أكد الفعل بالنون، مبالغة في النهي فهو بها مكروه كراهة شديدة (فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بها) لأنه لاستقذاره وخساسته، يستعمل الخسيس في النفيس (رواه مسلم) ورواه الترمذي، ورواه الخليلي في مشيخته، وحديث ابن عمر باللفظ المذكور ولكن بغير نون تأكيد فيهما، ورواه أبو يعلى وابن جرير من حديث ابن عمر. 1634- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إن اليهود والنصارى لا يصبغون) أي: لا يخضبون شعورهم أصلاً (فخالفوهم) وأخضبوا بما عدا السواد (متفق عليه) ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجة (المراد) من قوله (لا يصبغون خضاب شعر اللحية والرأس الأبيض) صفة الشعر (بصفرة أو حمرة) أي: مثلاً فيجوز بما عدا السواد كما قال (أما السواد) أي: الخضاب (فمنهي عنه) على سبيل التحريم، إلا في الجهاد لإرهاب العدو (كما سنذكره في الباب بعده، إن شاء الله تعالى) . ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الأشربة، باب: آداب الطعام والشراب وأحكامهم، (الحديث: 104) . (¬2) أخرجه مسلم في كتاب: الأشربة، باب: آداب الطعام والشراب وأحكامهم، (الحديث: 105) . (¬3) أي اختلاقه علة هو كاذب فها. ع.

294- باب في نهي الرجل والمرأة عن خضاب شعرهما بسواد

شَاءَ اللهُ تَعَالَى (¬1) . 294- باب في نهي الرجل والمرأة عن خضاب شعرهما بسواد 1635- عن جابر - رضي الله عنه - قَالَ: أُتِيَ بِأَبِي قُحَافَةَ والِدِ أَبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنهما، يَومَ فَتْحِ مَكَّةَ وَرَأسُهُ وَلِحْيَتُهُ كَالثَّغَامَةِ بَيَاضاً. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "غَيِّرُوا هَذَا وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ". رواه مسلم (¬2) . 295- باب في النهي عن القَزَع وَهُوَ حلق بعض الرأس دون بعض، وإباحة حَلْقِهِ كُلّهِ للرجل دون المرأة ـــــــــــــــــــــــــــــ باب نهي الرجل والمرأة ومثلها الخنثى وسكت عنه لندرته ولأنه في الحقيقة يرجع إلى أحدهما (عن خضاب شعرهما بسواد) والنهي للتحريم، ولا يباح كما سبق إلا للجهاد وإرهاب العدو. 1635- (عن جابر) بن عبد الله (رضي الله عنهما قال: أتي) بالبناء للمجهول (بأي قحافة) عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة (والد أبي بكر الصديق) أسلم يوم الفتح، ومات في خلافة عمر، ولكونه صحابياً قال المصنف: (رضي الله عنهما) وقوله (يوم فتح مكة) ظرف لقوله أتي (ورأسه ولحيته) أي: شعرهما (كالثغامة) بفتح المثلثة وبالغين المعجمة والميم. قال في النهاية هو نبت أبيض الزهر والثمر، يشبه به الشيب، تبيض كأنها الثلج (بياضاً) تمييز لبيان وجه المشبه، والجملة في محل الحال من أبي قحافة (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واهذا) أي: الشيب بالخضاب (واجتنبوا السواد) وجوباً ولا تخضبوا به (رواه مسلم) . باب النهي عن القزع تنزيهاً (وهو) بفتح القاف والزاي وبالعين المهملة (حلق بعض الرأس دون بعض) قال ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: اللباس، باب: الخضاب (10/299) . وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: في مخالفة اليهود في الصبغ، (الحديث: 80) . (¬2) أخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: استحباب خضاب الشيب بصفرة أو حمرة، وتحريمه بالسواد، (الحديث: 78 و79) .

1638- وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، أمْهَلَ آلَ جَعْفَر ثَلاَثاً ثُمَّ أتَاهُمْ فَقَالَ: "لاَ تَبْكُوا عَلَى أخِي بَعْدَ اليَوْمِ" ثُمَّ قَالَ: "ادْعُوا لِي بَنِي أَخِي" فَجِيءَ بِنَا كَأنَّنَا أفْرُخٌ فَقَالَ: "ادْعُوا لِي الحَلاَّقَ" فَأمرَهُ، فَحَلَقَ رُؤُوسَنَا. رواه أَبُو داود بإسناد صحيح عَلَى شرط البخاري ومسلم (¬1) . 1639- وعن عليٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: نَهَى رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ تَحْلِقَ المَرْأةُ رَأسَهَا ـــــــــــــــــــــــــــــ 1638- (وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمهل آل جعفر) أي: أولاد جعفر بن أبي طالب وأهله (ثلاثاً) أي: من الليالي أو من الأيام، وحذف التاء لحذف المعدود، أو لتغليب الليالي عليها، لأن المراد أنه أمهلهم ثلاثة أيام وليالي؛ (ثم أتاهم فقال: لا تبكوا على أخي بعد اليوم) النهي في للتنزيه، لإِباحة البكاء الخالي عن المحرم على الميت بعد الثلاث، وإن كان الأولى تركه ثم قال (ادعوا لي بني أخي) وهم محمد وعبد الله وعوف (فجيء بنا كأننا أفرخ) بضم الراء، جمع فرخ ولد الطائر، وذلك لما اعتراهم من الحزن على فقده؛ (فقال ادعوا لي الحلاق) الصفة فيه للنسبة كالتمار والبزاز (فأمره فحلق رءوسنا) ليكون كالتفاؤل بإزالة الحزن، وانجلاء الكرب. ومناسبة الحديث للترجمة بقوله رءوسنا، فإنه ظاهر في تعميم كل شعرها (رواه أبو داود (¬2) بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم) فرواه في الترجل من سننه، عن عقبة بن مكرم، هو العمي وابن المثنى، كلاهما عن وهب بن جرير بن حازم عن أبيه قال: سمعت محمد بن أبي يعقوب عن الحسن بن سعد مولى الحسن بن علي بن عبد الله بن جعفر. ورواه النسائي في المناقب، ْعن محمد بن المثنى. وفي الزينة عن إسحاق بن منصور عن وهب بن جرير بنحوه، وأعاده في السيرة عن إسحاق بن منصور بتمامه وأوله عنده، بعث جيشاً واستعمل عليهم زيداً رضي الله عنه كذا في الأطراف للمزي. 1639- (وعن علي رضي الله عنه قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) عن (أن تحلق المرأة رأسها) أي: شعره لما فيه من المثلة؛ والنهي للتنزيه. ومحله ما لم ينهها عنه. نحو حليل وإلا ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: الترجل، باب: في حلق الرأس، (الحديث: 4192) . (¬2) نسخة رواه أحمد وأبو داود الخ. ع.

1640- وعن أسماءَ رضي الله عنها: أنَّ امْرَأَةً سَأَلَتِ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: يا رسولَ اللهِ إنَّ ابْنَتِي أصَابَتْهَا الحَصْبَةُ، فَتَمَرَّقَ شَعْرُهَا، وإنّي زَوَّجْتُهَا، أفَأَصِلُ فِيهِ؟ فقالَ: "لَعَنَ اللهُ الوَاصِلَةَ وَالمَوْصُولَةَ". متفق عليه. وفي روايةٍ: "الوَاصِلَةَ، والمُسْتوْصِلَةَ". قَوْلُهَا: "فَتَمَرَّقَ" هو بالراءِ ومعناهُ: انْتَثَرَ وَسَقَطَ. "وَالوَاصِلَةُ": التي تَصِلُ شَعْرَهَا، أو شَعْرَ غَيْرِهَا بِشَعْرٍ آخَرَ. "وَالمَوْصُولَةُ": التي يُوصَلُ شَعْرُهَا. "والمُسْتَوْصِلَةُ": التي تَسْألُ مَنْ يَفْعَلُ لها ذلك. وعن عائشة رضي الله عنها نَحوهُ ـــــــــــــــــــــــــــــ الخضاب والوشم أو دين الله (ومن يتخذ الشيطان ولياً) يطيعه ولا يطيع الله (من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً) أي: ضيع بالكلية رأس ماله، وباع الجنة بالدنيا (يعدهم) ولا ينجز (ويمنيهم) ما لا يدركون (وما يعدهم الشيطان إلا غروراً) هو إيهام النفع، فيما فيه الضر (أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصاً) معدلاً ومهرباً. 1640- (وعن أسماء) هي بنت الصديق (رضي الله عنها) وعنه (ان امرأة سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت:) عطف تفسير على سألت (يا رسول الله إن ابنتي أصابتها الحصبة) بفتح المهملة الأولى، وسكون الثانية وفتحها وكسرها، كما في النهاية. قال: هي شيء يظهر في الجلد (فتمرق شعرها) أي: من الحصبة (وإني زوجتها) هو السبب الداعي إلى الوصل من تحسينها للزوج بالشعر، فلذا قالت: (أفأصل فيه) أي: تأذن لي في الوصل فأصل فيه، عوض ما سقط عنه بالحصبة (فقال: لعن الله الواصلة) أي: فاعلة ذلك (والموصولة) المفعول بها ذلك (متفق عليه) أخرجه البخاري في اللباس، وابن ماجه ونسبه لمسلم، لأن عنده الرواية المشار إليها، بقوله (وفي رواية) هي لهما كما في الأطراف، فأخرجها البخاري في اللباس، وكذا مسلم فيه، ورواه النسائي وابن ماجة (الواصلة والمستوصلة) أي: طالبة وصل الشعر المحرم بها، أو بغيرها. وهذه أعم من تلك، باعتبار عمومها وغيرها، كما أن تلك أعم من أن يكون الموصول فيها، وصل عن طلب أو عن غيره، وتقدم في باب جواز اللعن على العموم، ما يحرم الوصل به وغيره (قولها فتمرق هو بالراء) وبالقاف (ومعناه انتثر) افتعال من النثر أي: سقط فعطف قوله (وسقط) من عطف التفسير (والواصلة هي التي تصل شعرها، أو شعر غيرها، بشعر آخر. والموصولة هي التي يوصل شعرها) بالفعل المبني للمجهول (والمستوصلة التي تطلب) وفي نسخة تسأل (من يفعل ذلك لها) الظاهر

297- باب في النهي عن نتف الشيب من اللحية والرأس وغيرهما، وعن نتف الأمرد شعر لحيته عند أول طلوعه

قالَ اللهُ تعالى (¬1) : (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) متفق عليه. "المُتَفَلِّجَةُ" هيَ: الَّتي تَبْرُدُ مِنْ أسْنَانِهَا لِيَتَبَاعَدَ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ قَلِيلاً، وتُحَسِّنُهَا وَهُوَ الوَشْرُ. "وَالنَّامِصَةُ": الَّتي تَأخُذُ مِنْ شَعْرِ حَاجِبِ غَيْرِهَا، وتُرَقِّقُهُ لِيَصِيرَ حَسَناً. "وَالمُتَنَمِّصَةُ": الَّتي تَأمُرُ مَنْ يَفْعَلُ بِهَا ذَلِكَ (¬2) . 297- باب في النهي عن نتف الشيب من اللحية والرأس وغيرهما، وعن نتف الأمرد شعر لحيته عند أول طلوعه ـــــــــــــــــــــــــــــ آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا، متفق عليه المتفلجة) بصيغة الفاعل من التفلج (هي التي تبرد من أسنانها) أي بعضها، والمراد أن تبرد ما بين الثنايا والرباعيات. قال: وتفعل ذلك العجوز ومن قاربتها (ليتباعد بعضها عن بعض قليلاً وتحسنها) أي: لتصير لطيفة حسنة المنظر، وتوهم أنها صغيرة (وهو) أي البرد كما ذكر (الوشر) بفتح الواو وسكون المعجمة، قال المصنف: وهذا الفعل حرام على الفاعلة، وعلى المفعول بها، لهذه الأحاديث، ولأنه: تغيير لخلق الله؛ ومحله إن فعلته للحسن، أما لو احتاجت إليه لعلاج أو عيب فلا بأس (والنامصة) بالنون وآخره صاد مهملة (هي التي تأخذ من شعر حاجب غيرها وترققه ليصير حسناً) كذا قصره هنا على شعر الحاجب. وفي شرح مسلم هي التي تزيل الشعر من الوجه، وهذا الفعل حرام، إلا إذا نبت للمرأة لحية أو شوارب، فلا يحرم إزالتها بل يستحب عندنا. والنهي إنما هو في الحواجب، وما في أطراف الوجه (والمتنمصة) بتقديم النون على الميم، قال المصنف: رواه بعضهم بتقديم الميم، والمشهور تأخيرها (هي التي تأمر من يفعل بها) أو بغيرها (ذلك) . باب النهي عن نتف الشيب من اللحية والرأس وغيرهما، وعن نتف الأمرد شعر لحيته عدوانا وفي نسخة أول طلوعه إيثاراً للمرودة، كذا قال المصنف في شرح مسلم: ذكر العلماء ¬

_ (¬1) سورة الحشر، الآية: 7. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: اللباس، باب: المتفلجات للحسن (10/313، 314) . وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم فعل الواصلة والمستوصلة ... (الحديث: 120) .

299- باب في كراهة المشي في نعل واحدة أو خف واحد لغير عذر وكراهة لبس النعل والخف قائما لغير عذر

وفي الباب أحاديث كثيرة صحيحة. 299- باب في كراهة المشي في نعل واحدة أو خف واحد لغير عذر وكراهة لبس النعل والخف قائماً لغير عذر 1647- عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لاَيَمشِ أحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ، لِيَنْعَلْهُمَا جَمِيعاً، أو لِيَخْلَعْهُمَا جَمِيعاً". وفي رواية: ـــــــــــــــــــــــــــــ أي: حال الشرب، لأنه يخرج مع النفس، نحو نخامة فيقذر الماء ولأنه يكسب الإِناء رائحة كريهة، بل يفصل الإناء عن فيه ويتنفس. (متفق عليه وفي الباب أحاديث كثيرة صحيحة) قال المصنف في الخلاصة: وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت يد النبي - صلى الله عليه وسلم -: اليمين لطهوره وطعامه، وكانت يده اليسرى لخلائه وما كان من أذى؛ حديث صحيح رواه أبو داود، ورواه من رواية حفصة قالت: كان يجعل يمينه لطعامه وشرابه وثيابه، وفي النهي عن الاستنجاء باليمين، أحاديث. باب كراهة المشي في نعل واحدة وخف واحد على وجه التنزيه إذا كان أفراد ما ذكر (لغير عذر) أي بخلاف ما كان له، كأن كان بإحدى قدميه مانع من لبس النعل والخف، بلا كراهة حينئذ (وكراهة لبس النعل والخف قائماً لغير عذر) أعاد لفظ كراهة، وقوله لغير عذر؛ لاختلاف جنس المحكوم عليه؛ ومع ذلك فكان الأصوب حذف كراهة الثاني، والعاطف يقوم مقامه. وقوله لغير عذر الأول؛ اكتفاء بالثاني، لأنه قيد لما قبله. 1647- (عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لا يمشي أحدكم) أي: الواحد منكم (في نعل واحدة) وذلك لما فيه من التشويه والمثلة ومخالفة الوقار، ولأن المنتعلة تصير أرفع من الأخرى فيعسر مشيه وربما كان سبباً لعثاره (لينعلهما جميعاً) حال أي: في آن واحد (أو ليخلعهما) أي: القدمين من النعلين (جميعاً) قال السيوطي في الجامع الكبير: رواه مالك والشيخان وأبو داود والترمذي وابن ماجة، كلهم من حديث أبي هريرة (وفي رواية) هي للبخاري (أو ليحفهما) بدل قوله أو ليخلعهما (جميعاً) قال المصنف في شرح مسلم:

"أو لِيُحْفِهِمَا جَمِيعاً". متفق عليه (¬1) . 1648- وعنه، قال: سمعت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: "إذا انْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلِ أَحَدِكمْ، فَلاَ يَمْشِ في الأُخْرَى حَتَّى يُصْلِحَهَا". رواهُ مسلم (¬2) . 1649- وعن جابر - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أنْ يَنْتَعِلَ الرَّجُلُ قَائِماً. رواه أبو داود بإسناد حسن (¬3) . ـــــــــــــــــــــــــــــ يخلعهما بالخاء المعجمة، واللام والعين المهملة. وفي صحيح البخاري ليحفهما، فالحاء المهملة والفاء، من الحفاء وكلاهما صحيح ورواية البخاري أحسن اهـ. (متفق عليه) أي: على أصل الحديث لما علمت من تخالفهما في اللفظ المذكور. 1648- (وعنه قال سمعت رسول - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا انقطع شسع) بكسر الشين المعجمة وسكون السين المهملة ثم عين مهملة (نعل أحدكم) أي: أحد سيورها الذي في صدر النعل المشدود في الزمام. والزمام هو السير الذي يعقد فيه الشسع، جمعه شسوع (فلا يمشي في) النعل (الأخرى حتى يصلحها) أي: فينعل القدمين جميعاً. وقيل إصلاحها بنزع الصحيحة فيحفيها لئلا يمشي في نعل واحدة (رواه مسلم) . 1649- (وعن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن ينتعل الرجل قائماً) حمل على ما إذا احتاج في الانتعال إلى الاستعانة باليد، في إدخال سيورها في الرجل، لئلا يصير حينئذ على هيئة قبيحة؛ أما إذا لم يحتج فيه إلى الاستعانة بها فلا، (رواه أبو داود بإسناد حسن) رواه عن محمد بن عبد الرحيم وهو العدويّ المعروف، بصاعقة شيخ البخاري عن أبي أحمد الدينوري عن إبراهيم بن طهمان عن أبي الزبير عن جابر. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: اللباس، باب: لا يمشي في نعل واحد (10/261، 262) . وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: استحباب لبس النعل في اليمنى أولاً، والخلع ... (الحديث: 67) . (¬2) أخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: استحباب لبس النعل في اليمنى أولاً، والخلع ... (الحديث: 69) . (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب: اللباس، باب: في الانتعال، (الحديث: 4135) .

300- باب في النهي عن ترك النار في البيت عند النوم ونحوه سواء كانت في سراج أو غيره

300- باب في النهي عن ترك النار في البيت عند النوم ونحوه سواء كانت في سراج أو غيره 1650- عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لاَ تَتْرُكُوا النَّارَ فِي بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُونَ". متفق عليه (¬1) . 1651- وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -، قال: احْتَرَقَ بَيْتٌ بالمَدِينَةِ عَلَى أهْلِهِ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا حُدِّثَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِشَأنِهِم، قالَ: "إنَّ هذِهِ النَّارَ عَدُوٌّ لَكُمْ، فَإذا نِمْتُمْ، فَأطْفِئُوهَا" متفق عليه (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ باب النهي على سبيل التنزيه (عن ترك النار في البيت عند النوم ونحوه) مما يخشى معه التهابها من غيبة عن المنزل والتهاء بأمر (سواء كانت) أي: النار (في سراج أو غيره) نعم لا كراهة فيما يؤمن معه ذلك، كالقنديل المعلق. 1650- (عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون) وذلك لئلا يشعل البيت على صاحبه؛ وصرف النهي عن التحريم عدم تحقق الضرر (متفق عليه) . 1651- (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: احترق بيت بالمدينة) النبوية (على أهله من الليل) أي: في بعضه (فلما حدث) بالفعل المبني للمجهول (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشأنهم) أي: بأمرهم (قال: إن هذه النار عدو لكم) قال ابن العربي: معنى كونها عدواً لنا، أنها تنافى أموالنا وأبداننا، منافاة العدو، وإن كانت لنا بها منفعة، لكن لا يحصل لنا منها إلا بواسطة، فاطلق أنها عدو لنا، لوجود معنى العداوة فيها (فإذا نمتم) أي: أردتم النوم (فأطفئوها) بقطع الهمزة قال القرطبي: هو أمر إرشاديّ. قال: وقد يكون للندب. وجزم المصنف بأنه للإرشاد، لكونه لمصلحة دنيوية؛ وتعقب بأنه قد يفضي إلى مصلحة دينية، وهي حفظ النفس المحرم قتلها، والمال المحرم تبذيره، (متفق عليه) . ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الاستئذان، باب: لا تترك النار في البيت عند النوم (11/71) . وأخرجه مسلم في كتاب: الأشربة، باب: الأمر بتغطية الإناء وإيكاء السقاء ... (الحديث: 100) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الاستئذان، باب: لا تترك النار في البيت عند النوم (11/71) . وأخرجه مسلم في كتاب: الأشربة، باب: الأمر بتغطية الاناء وإيكاء السقاء ... (الحديث: 101) .

1652- وعن جابر - رضي الله عنه -، عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "غَطُّوا الإنَاءَ، وَأَوْكِئُوا السِّقَاءَ، وَأَغْلِقُوا الأَبْوَابَ. وَأطْفِئُوا السِّرَاجَ، فإنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَحُلُّ سِقَاءً، وَلاَ يَفْتَحُ بَاباً، وَلاَ يَكْشِفُ إنَاءً. فإنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إلاَّ أنْ يَعْرُضَ عَلَى إنَائِهِ عُوداً، وَيَذْكُرَ اسْمَ اللهِ، فَلْيَفْعَل، فإنَّ الفُوَيْسِقَةَ تُضْرِمُ عَلَى أهْلِ البَيْتِ بَيْتَهُمْ". رواه مسلم. "الفُويْسِقَةُ": الفَأرَةُ ـــــــــــــــــــــــــــــ 1652- (وعن جابر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال) على سبيل الإِرشاد، كما قال المصنف والقرطبي (غطوا الإِناء) وذلك صوناً له من الحشرات، وسائر المؤذيات (وأوكئوا) بكسر الكاف بعدها همز أي: اربطوا (السقاء) الوكاء ما يربط به من خيط أو نحوه، والسقاء بالمد ظرف من الجلد يكون للماء، والمعنى سدوا فم السقاء بخيط أو نحوه (أغلقوا الأبواب واطفئوا السراج) وعلل هذه الأوامر بقوله: (فإن الشيطان لا يحل سقاء) أي: وكاء (ولا يفتح باباً ولا يكشف إناء) أي: إذا ذكر اسم الله تعالى حال غلقه، وعند تغطية الإناء. قال ابن دقيق العيد: ويحتمل أنه لا يفتح باباً مغلقاً يسمي الله عليه حال غلقه أولا. ويحتمل أن يكون المانع من ذلك أمر خارج عن جسمه. قال: والحديث يدل على منع الشيطان الخارج من الدخول، أما الشيطان الذي كان داخلاً، فلا دلالة للخبر على خروجه. قال: فيكون ذلك لتخفيف المفسدة لا رفعها، ويحتمل أن تكون التسمية عند الإِغلاق، تقتضي طرد من في البيت من الشياطين، وعليه فينبغي التسمية من ابتداء الغلق إلى آخره اهـ. (فإن لم يجد أحدكم) ما يغطي به الإِناء (إلا أن يعرض) بضم الراء كما في الأصول المصححة، وهو قد جاء من باب قتل ومن باب ضرب (على إنائه عوداً) أي: يضعه عليه بالعرض (ويذكر اسم الله عليه) وفي نسخة أو بدل الواو، فإن تثبتت فهي بمعنى الواو كما في قوله تعالى (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) (¬1) ويحتمل كونها للتنويع (فليفعل) أي: بالمقدور عليه ندباً، وعلل الأمر باطفاء السراج بقوله (فإن الفويسقة تضرم) بضم الفوقية وبالضاد المعجمة أي: تشعل (على أهل البيت بيتهم) أي: تكون سبباً لذلك، بأن تجر الفثيلة إلى المتاع، فتضرمه ناراً (رواه مسلم) ورواه أحمد من حديث أبي أمامة بلفظ: "أجيفوا أبوابكم، وأكفئوا آنيتكم، وأوكئوا أسقيتكم، وأطفئوا سرجكم، فإنهم لم يؤذن لهم بالتسور عليكم" كذا في الجامع الصغير (الفويسقة) بالتصغير (الفأرة) بالهمز وتسهل، وأطلق عليها كالمؤذيات ¬

_ (¬1) سورة الصافات، الآية: 147.

301- باب في النهي عن التكلف وهو فعل وقول ما لا مصلحة فيه بمشقة

و"َتُضْرِمُ": تُحْرِقُ (¬1) . 301- باب في النهي عن التكلف وهو فعل وقول ما لا مصلحة فيه بمشقة قال الله تعالى (¬2) : (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) . 1653- وعن عمر - رضي الله عنه - قال: نُهِينَا عَنِ التَّكَلُّفِ. رواه البخاري (¬3) . 1654- وعن مسروقٍ، قال: دَخَلْنَا على عبدِ اللهِ بْنِ مَسعُودٍ - رضي الله عنه - فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ عَلِمَ شَيْئاً فَلْيَقُلْ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ، فَلْيَقُلْ: اللهُ أعْلَمُ، فَإنَّ مِنَ العِلْمِ أَنْ يَقُولَ لِمَا لاَ يَعْلَمُ: اللهُ أعْلَمُ. قالَ اللهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) . رواه البخاري (¬4) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الخمس، استعارة من الفسق وامتهاناً لهن، لكثرة خبثهن؛ حتى يقتلن في الحل والحرم وفي الصلاة، ولا تبطل بذلك (وتضرم تحرق) وإسناد الإِضرام إليها مجاز عقلي من الإِسناد للسبب كما علم مما تقدم. باب النهي عن التكلف وهو فعل وقول الواو فيه بمعنى أو (ما لا مصلحة فيه) أفرد الضمير نظراً للفظ ما (بمشقة) ظرف مستقر، حال أو صفة لفعل وما بعده أما فعل الأمر ذي المصلحة الشرعية بمشقة على النفس، لا ضرر لها في البدن أو العقل فمحمود (قال الله تعالى) لنبيه (قل ما أسالكم عليه) أي: التبليغ (من أجر) بل اسأل أجري عليه من الله تعالى (وما أنا من المتكلفين) نفى عن نفسه التكلف، إيماء إلى أن تركه محمود وفعله مذموم. 1653- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال نهينا عن التكلف رواه البخاري) وهو موقوف لفظاً مرفوع حكماً (¬5) . ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الأشربة، باب: الأمر بتغطية الإِناء وإيكاء السقاء ... (الحديث: 96) . (¬2) سورة ص، الآية: 86. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب: الاعتصام، باب: ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه (13/229) . (¬4) أخرجه البخاري في كتاب: التفسير/ص باب: قوله تعالى (وما أنا من المتكلفين) (8/420) . (¬5) هنا حديث في المتن سقط من نسخ الشرح.

302- باب في تحريم النياحة على الميت ولطم الخد وشق الجيب ونتف الشعر وحلقه والدعاء بالويل والثبور

302- باب في تحريم النياحة على الميت ولطم الخد وشق الجيب ونتف الشعر وحلقه والدعاء بالويل والثبور 1655- عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: "المَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ". وَفِي روايةٍ: "مَا نِيحَ عَلَيْهِ". متفق عليه (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ باب تحريم النياحة بكسر النون وتخفيف التحتية وبالحاء المهملة، وقلبت الواو ياء فيها، وفي صيام وقيام لانكسار ما قبله (على الميت) ظرف لغو متعلق بالنياحة (ولطم الخد) قال في المصباح: هو ْمن اللحى إلى اللحى من الجانبين، وجمعه خدود. واللطم بفتح فسكون: الضرب ببطن الكف (وشق الجيب) بفتح الجيم وسكون التحتية والموحدة: مدخل الرأس من القميص (ونتف الشعر وحلقه) أو قصه أو حرقه (والدعاء بالويل والثبور) بالمثلثة والموحدة. 1655- (عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - الميت) أل فيه للجنس (يعذب) بالبناء للمجهول وصلته قوله (في قبره بما نيح عليه) أي: بسبب النوح (وفي رواية ما نيح عليه) أي مدة النوح (متفق عليه) قال المصنف: رحمه الله تعالى: اختلف العلماء في هذه الأحاديث، فتأولها الجمهور على من أوصى بأن يبكي عليه ويناح بعد موته، فنفذت وصيته فهذا يعذب ببكاء أهله عليه ونوحهم لأنه بسببه؛ ومنسوب إليه أما من بكى عليه أهله أو ناحوا بغير وصية منه، فلا يعذب. لقوله تعالى (ولا تزر وازرة وزر أخرى) (¬2) وقال طائفة: محمول على من أوصي بالبكاء والنوح، أو لم يعرض بتركهما أو أهمل الوصية بتركهما، فيعذب لتفريطه بإهمال الوصية بتركهما، فأما من أوصى بتركهما فلا يعذب بهما، إذ لا صنع له فيهما ولا تفريط منه. وحاصل هذا القول: إيجاب الوصية بتركهما، ومن ْأهملها عذب بهما. وقيل إنهم كانوا ينوحون عليه بما هو محرم شرعاً، نحو يا ميتم الولدان، ومرمل النسوان، مما يرونه شجاعة وفخراً، وهو محرم شرعاً. وقيل: معناه إن الميت يعذب أو بسماعه بكاء أهله رقة عليهم وشفقة لهم، وإليه ذهب ابن جرير وغيره. وقال القاضي ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الجنائز، باب: ما يكره من النياحة على الميت (3/130) . وأخرجه مسلم في كتاب: الجنائز، باب: الميت يعذب ببكاء أهله عليه، (الحديث: 17) . (¬2) سورة الأنعام، الآية: 164.

وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الخُدُودَ، وَشَقَّ الجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ". متفق عليه (¬1) . 1657- وَعَنْ أبي بُرْدَةَ، قال: وَجعَ أبو مُوسَى، فَغُشِيَ عَلَيْهِ، وَرَأسُهُ فِي حِجْرِ امْرَأَةٍ مِنْ أهْلِهِ، فَأَقْبَلَتْ تَصِيحُ بِرَنَّةٍ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا شَيْئاً، فَلَمَّا أفَاقَ قَالَ: أنَا بَرِيءٌ مِمَّنْ بَرِىءَ مِنْهُ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إنَّ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَرِيءٌ مِنَ الصَّالِقَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــ عياض: هو أولى الأقوال. واحتج له بحديث فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - زجر امرأة عن البكاء، وقال: إن أحدكم إذا بكى، استعبر له صويحبه، فيا عباد الله لا تعذبوا إخوانكم". وقالت عائشة معناه: أن الكافر وغيره من أصحاب الذنوب، يعذب في حال بكاء أهله عليه بذنبه، لا ببكائهم. والصحيح من هذه الأقوال ما قدمناه عن الجمهور. وأجمعوا كلهم على اختلاف مذاهبهم: أن المراد من البكاء فيه، البكاء بصوت ونياحة، لا مجرد دمع العين اهـ. ملخصاً. 1656- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس منا") أي: من أهل هدينا وطريقنا (من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية) نحو واجملاه واكفهاه (متفق عليه) والحديث فيمن جمع الأمور الثلاثة، واجتماعها غير شرط فيما ذكر، بل أحدها مقتض للخروج عن الهدى والطريق، ويمكن جعل الواو فيه بمعنى أو. 1657- (وعن أبي بردة) بن أبي موسى الأشعري، قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث. قال الحافظ في التقريب: ثقة من أوساط التابعين. مات سنة أربع ومائة، وقيل غير ذلك، جاوز الثمانين، خرّج عنه الجميع (قال وجع أبو موسى الأشعري) عبر به دون أبي لأنه أشهر (رضي الله عنه فغشي) بالبناء للمجهول نائب فاعله (عليه ورأسه في حجر امرأة من أهله) جملة حالية من الضمير المجرور، والمرأة هي زوجته أم عبد الله صفية بنت أبي دوم، ذكره السيوطي في التوشيح (فأقبلت تصيح برنة) بفتح الراء وتشديد النون، أي: صيحة (فلم يستطع أن يرد عليها شيئاً) لغلبة الإِغماء عليه (فلما أفاق) من إغمائه (قال أنا بريء) بالمد فعيل بمعنى فاعل أي: (ممن برىء) بصيغة الماضي المعلوم (منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ثم استأنف بيان من برىء منهم، استئنافاً بيانياً فقال (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بريء من الصالقة) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الجنائز، باب: ليس منا من شق الجيوب (3/133) . وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية، (الحديث: 165) .

والحَالِقَةِ، والشَّاقَّةِ. متفق عليه. "الصَّالِقَةُ": الَّتِي تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِالنِّيَاحَةِ والنَّدْبِ. "وَالحَالِقَةُ": الَّتِي تَحْلِقُ رَأسَهَا عِنْدَ المُصِيبَةِ. "وَالشَّاقَّةُ": الَّتي تَشُقُّ ثَوْبَهَا (¬1) 1658- وعن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ، فَإنَّهُ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيهِ يَومَ القِيَامَةِ". متفق عليه (¬2) . 1659- وعن أُمِّ عَطِيَّةَ نُسَيْبَةَ - بِضَمِّ النون وفتحها - رضي الله عنها، قالت: أخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عِندَ البَيْعَةِ أنْ لاَ نَنُوحَ ـــــــــــــــــــــــــــــ بالصاد ويقال بالسين المهملتين (والحالقة والشاقة، متفق عليه، الصالقة) بالصاد المهملة وبالقاف (التي ترفع صوتها بالنياحة والندب) أي: تعداد أوصاف الميت، من الصلق وهو الصوت الشديد. كما في المصباح (والحالقة التي تحلق رأسها) والمراد بالحلق الإِزالة بأي وجه كان (عند المصيبة والشاقة) بالمعجمة والقاف (التي تشق ثوبها) أي: عند المصيبة، وذلك لما في فعل هذه الأمور من التبرم من القضاء الإِلهي، والتضجر منه، وذلك سبب لاحباط الثواب وحلول العقاب. 1658- (وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول من نيح) بكسر النون مبني للمجهول، نائب فاعله (عليه) ويجوز في مثله ضم النون، فتبقى الواو كما تبقى مع الاشمام أيضاً (فإنه يعذب بما نيح عليه يوم القيامة) لا يخالف الرواية السابقة فإنه يعذب بما نيح عليه، لأن السكوت عن الشيء لا ينفيه، فذكر في كل من الحديثين، عذاب أحد المنزلين. وتقدم المراد من الوعيد فيه (متفق عليه) . 1659- (وعن أم عطية) بفتح المهملة الأولى وكسر الثانية (نسيبة بضم النون) وفتح المهملة وسكون التحتية بعدها موحدة فهاء (وفتحها) أي: النون أي: إنها تقال بالتصغير والتكبير (رضي الله عنها قالت: أخذ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند البيعة) منه للنساء المؤمنات (أن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الجنائز، باب: ما ينهى من الحلق عند المصيبة (3/132) . وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية، (الحديث: 167) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الجنائز، باب: يكره من النياحة (3/130) . وأخرجه مسلم في كتاب: الجنائز، باب: الميت يعذب ببكاء أهله عليه، (الحديث: 38) .

1666- عن عائشة رضي الله عنها، قالت: سأل رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنَاسٌ عَنِ الكُهَّانِ، فَقَالَ: "لَيْسُوا بِشَيءٍ" فَقَالُوا: يا رَسُولَ اللهِ إنَّهُمْ يُحَدِّثُونَا أحْيَاناً بِشَيءٍ، فَيَكُونُ حَقّاً؟ فقالَ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "تِلْكَ الكَلِمَةُ مِنَ الحَقِّ يَخْطَفُهَا الجِنِّيُّ فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ، فَيَخْلِطُونَ مَعَهَا مئَةَ كَذْبَةٍ". متفق عليه. وفي رواية للبخاري عن عائشة رضي الله عنها: أنَّها سمعتْ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنَّ المَلائِكَةَ تَنْزِلُ فِي العَنَانِ (وَهُوَ السَّحَابُ) ـــــــــــــــــــــــــــــ والعين المهملة جعله القاضي عياض نوعاً من التنجيم، فإنه قال بعدما تقدم عنه في المنجم، ومنه العرافة، وصاحبها عراف، وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدّعي معرفتها بها، وقد يعتضد بعض هذا الفن ببعض في ذلك بالزجر والطرق والنجوم وأسباب معتادة، وهذه الأضرب كلها تسمى كهانة اهـ. (وأصحاب الرمل) بفتح الراء وسكون الميم، وهي من طرق استكشاف المغيبات، وهو حرام كما في الروضة وغيرها (والطرق) بفتح الطاء المهملة وسكون الراء وبالقاف (بالحصى) بالمهملتين، وفي نسخة والطوارق بالحصى (وبالشعير ونحو ذلك) قال عياض: وقد كذبهم كلهم الشرع، ونهى عن تصديقهم وإتيانهم. 1666- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أناس) فاعل سأل (عن الكهان فقال ليس) أي: عملهم المدلول عليه بالسياق (بشيء) أي: من الحق والصدق بدليل (قالوا يا رسول الله إنهم يحدثونا أحياناً بشيء فيكون حقاً) أي: يطابقه الواقع، ويكون على وفق أخبارهم، (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الكلمة) المشار إليه، هو ما يطابقه من الواقع حديثهم، والكلمة المراد بها هنا، المعنى اللغوي، أي: الجمل المفيدة لوصفها بقوله (من الحق) أي: الذي أوحى به الملك (يخطفها الجني) بفتح الطاء المهملة أي: يسلبها بسرعة. وقد جاء خطف، من باب ضرب، في لغة أشار إليها في المصباح (فيقرها) بفتح فضم، من قرير الدجاجة أي: فيصيرها (في أذن وليه) من الكهان (فيخلطون) بضم اللام (¬1) (معها مائة كذبة) بفتح الكاف وكسرها والذال ساكنة فيهما، كما تقدم في باب التوبة بما فيه (متفق عليه. وفي رواية للبخاري) أردها في باب الملائكة من صحيحه (عن عائشة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الملائكة تنزل في العنان وهو السحاب) هو تفسير ¬

_ (¬1) كذا ولعله بكسر اللام. ع.

الخَطُّ. قالَ الجَوْهَريُّ في الصِّحَاحِ: الجِبْتُ كَلِمَةٌ تَقَعُ عَلَى الصَّنَمِ وَالكاهِنِ والسَّاحِرِ وَنَحْوِ ذلِكَ (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ والمهملة المسددة، يأتي بيانه في حديث معاوية في الباب (قال) إسماعيل بن حماد أبو نصر (الجوهري) الإمام اللغوي المشهور في النحو واللغة والصرف. قال الفيروزأبادي: وبخطه يضرب المثل في الجودة، أصابه اختلاط ووسواس في آخر عمره، ومات بسبب غريب. ذكرته في شرح الأندلسية في العروض. توفي سنة ثمان وتسعين وثلثمائة، كما سبق مع بيان سببه في باب بيان كثرة طرق الخير (في الصحاح) قال البدر الدماميني في تحفة الغريب: وهو بفتح الصاد اسم مفرد بمعنى الصحيح والجاري على ألسنة كثير، كسرها على أنه جمع صحيح، وبعضهم ينكره بالنسبة لتسمية الكتاب، ولا أعرف له مستنداً. فالمعنيان مستقيمان فيه، إلا إن ثبتت رواية من مصنفه أنه بالفتح فيصار إليها البتة. ومما وقع لي قديماً، أني احتجت إلى استعارته من بعض الرؤساء فكتبت إليه: مولاي إن وافيت بابك طالبا ... منك الصحاح فليس ذاك بمنكر البحر أنت وهل يلام فتى أتى ... للبحر كي يلقى صحاح الجوهر اهـ. ملخصاً. الفيروزأبادي: صنف الصحاح للأستاذ أبي منصور السبكي، ورسمه من أوله إلى باب الضاد المعجمة، ثم اعتراه اختلاط ووسوسة فمات، وبقي الصحاح غير منقح، فنقحه وبيضه أبو إسحاق صالح الوراق، وكان الغلط في النصف الأخير أكثر اهـ. وقد كمل عليه الصغاني في أربع مجلدات وقال فيه: ما أهمل الجوهري من لغة ... إلا وفي ذيله وحاشيته توجه الله يوم يبعثه ... بتاج رضوانه ومغفرته (الجبت) بكسر الجيم وسكون الموحدة بعدها فوقية (كلمة تقع) أي: تطلق (على الصنم) ومنه قوله تعالى في حق أهل الكتاب (يؤمنون بالجبت والطاغوت) (¬2) (والكاهن والساحر ونحو ذلك) من العراف والمنجم، قال: وليس من محض العربية، لاجتماع الجيم والباء في كلمة واحدة من غير حرف ذلقي. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: الطب، باب: في الخط وزجر الطير، (الحديث: 3907) . (¬2) سورة النساء، الآية: 51.

1669- وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ اقْتَبَسَ عِلْماً مِنَ النُّجُوم، اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ زَادَ ما زَادَ". رواه أبو داود بإسناد صحيح (¬1) . 1670- وعن مُعاوِيَةَ بنِ الحَكَمِ - رضي الله عنه - قال: قلتُ: يا رسُولَ اللهِ إنِّي حديثُ عَهْدٍ بالجاهِليَّةِ، وَقَدْ جَاءَ اللهُ تَعَالَى بالإسْلاَمِ، وإنَّ مِنَّا رِجَالاً يَأتُونَ الكُهَّانَ؟ قال: ـــــــــــــــــــــــــــــ 1669- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اقتبس علماً) قال في القاموس أي: استفاده (من النجوم) أي: ما ينشأ من الحوادث عن مسيرها، أما علم الوقت والقبلة فليسا مرادين هنا البتة، لأنهما فرضا كفاية تارة وعين أخرى؛ (اقتبس شعبة) بضم المعجمة وسكون المهملة أي: قطعة (من السحر) أي: وهو من باب الكبائر، وقد يكون كفراً (زاد) أي: من السحر (ما زاد) أي: من علم النجوم. قال الخطابي علم النجوم المنهي عنه: هو ما يدعيه أهل التنجيم من علم الكوائن والحوادث، التي لم تقع وستقع في مستقبل الزمان، كأوقات هبوب الرياح، ومجيء المطر، وتغير السعر، وما في معناها، مما يزعمون إدراكه من الكواكب في مجاريها واجتماعها وافتراقها، ويدعون أن لها تأثيراً في السفليات، وأنها تجري على ذلك وهذا منهم، تحكم على الغيب وتعاط لعلم، قد استأثر الله تعالى، به لا يعلم الغيب سواه. وأما علم النجوم الذي يدرك بالمشاهدة والخبر، كالذي يعرف به الزوال، ويعلم به جهة القبلة، فغير داخل فيما نهى عنه، لأن مدار ذلك على ما يشاهد من الظل في الأول، والكواكب في الثاني اهـ. ملخصاً. (رواه أبو داود بإسناد صحيح) ورواه أحمد وابن ماجه. وقال الذهبي في مختصر سنن البيهقي: إنه حديث صحيح. 1670- (وعن معاوية بن الحكم) بفتح المهملة والكاف، السلمي: بضم المهملة وفتح اللام، الصحابي: تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب الوعظ (قال قلت يا رسول الله إني حديث عهد) من إضافة الصفة لموصوفها، أي: ذو عهد قريب (بجاهلية) هي ما قبل الإِسلام، سميت بذلك لكثرة ما فيها من الجهالات (وقد جاء الله تعالى بالإِسلام) معطوفة على ما قبلها، أو حالية (وإن منا رجالاً يأتون الكهان) أي: يعرفون منهم أموراً مغيبات (قال ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: الطب، باب: في النجوم، (الحديث: 3905) .

وَيُعْجِبُني الفَألُ" قالُوا: وَمَا الفَألُ؟ قَالَ: "كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ". متفق عَلَيْهِ (¬1) . 1673- وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ. وإنْ كَانَ الشُّؤمُ في شَيْءٍ فَفِي الدَّارِ، وَالمَرْأَةِ، والفَرَسِ" ـــــــــــــــــــــــــــــ وفتح التحتية: اسم من التطير، وهي: بمعنى النهي أي: يتطيروا من شيء من السوانح والبوارح وغيرهما، مما يعتاد التطير منه (ويعجبني الفأل) قال في المصباح: بهمزة ساكنة ويجوز التخفيف (قالوا وما الفأل) أي: الذي يعجبك لنفرح به اتباعاً (قال كلمة طيبة) وفي رواية لمسلم وأحمد من حديث أبي هريرة "الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم" قال في المصباح: هو أن تسمع كلاماً حسناً، فتتيمن به. وإن كان قبيحاً فهو الطيرة. وجعل أبو زيد الفأل: في سماع الكلامين اهـ. قلت ويشهد له قوله في رواية "الفأل الحسن". (متفق عليه) وفي الجامع الكبير: "لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل الحسن". والفأل الصالح: الكلمة الطيبة. رواه الطيالسي وأحمد والشيخان وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة: عن أنس. وفيه حديث "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر". الحديث. رواه أحمد والبخاري من حديث أبي هريرة. وفيه حديث "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة، قيل يا رسول الله البعير يكون به الجرب". الحديث. ورواه أحمد وابن ماجه من حديث ابن عمر وفيه حديث "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ألم ترو إلى الإِبل، تكون في الصحراء" الحديث. ورواه الشيرازي في الألقاب والطبراني وأبو نعيم في الحلية، وابن عساكر من حديث عمير بن سعد الأنصاري وماله غيره، ونفي العدوى والطيرة أورده في الجامع الكبير في عدة أحاديث، وفي استيعابها طول. 1673- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا عدوى ولا طيرة) يجوز في مجموعها الوجوه الخمسة المعروفة في نحو لا حول ولا قوة إلا بالله (وإن كان الشؤم) بضم المعجمة وسكون الهمزة وقد تسهل ضد اليمن (في شيء ففي الدار والمرأة والفرس) خصها بالذكر لطول ملازمتها، ولأنها أكثر ما يستطير به الناس، فمن وقع في نفسه منها شيء، تركه واستبدل به غيره. وقال بعضهم شؤم المرأة إذا كانت غير ولود، وشؤم الفرس إذا لم يغز عليها، وشؤم الدار جار السوء. ويؤيده حديث الطبراني: "شؤم الدار ضيق ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الطب، باب: الفأل (10/181) . وأخرجه مسلم في كتاب: السلام، باب: الطيرة والفأل، وما يكون فيه من الشؤم، (الحديث: 111) .

متفق عَلَيْهِ (¬1) . 1674- وعن بُريْدَةَ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ لا يَتَطَيَّرُ. رواه أَبُو داود بإسناد صحيح (¬2) . 1675- وعن عُروة بن عامر - رضي الله عنه - ـــــــــــــــــــــــــــــ ساحتها، وخبث جيرانها، وشؤم الدابة منعها ظهرها، وشؤم المرأة عقر رحمها وسوء خلقها". وللحاكم "ثلاث من الشقاء: المرأة تراها تسوءك أو تحمل لسانها عليك، والدابة تكون قطوفاً فإن ضربتها أتعبتك وإن تركتها لم تلحق أصحابك، والدار تكون ضيقة قليلة المرافق" وقال ابن العربي: لم يرد إضافة الشؤم إليها فعلاً، وإنما هو عبارة عن جري العادة فيها، فأشار إلى أثر ينبغي للمرء المفارقة لها صيانة، لاعتقاده عن التعليق بالباطل، زاد غيره وإراحة للقلب من تعذيبه لها. "فائدة" قال السيوطي في التوشيح: زاد ابن ماجه والدارقطني في الغريب من حديث أم سلمة والسيف (متفق عليه) . 1674- (وعن بريدة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يتطير) أي: من شيء، كما يؤذن به حذف المعمول (رواه أبو داود) في التطير من سننه (بإسناد صحيح) رواه عن مسلم بن إبراهيم عن هشام عن كهمس بن الحسن القيسي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه. ورواه النسائي أيضاً في السير من سننه، عن أبي مثنى عن معاذ بن هشام عن أبيه بسنده المذكور. 1675- (وعن عروة) بن عامر المكي قال الحافظ في التقريب: اختلف في صحبته، له أحاديث في الطيرة. وذكره ابن حبان في ثقات التابعين. خرّج حديثه أصحاب السنن وكتب بهامش نسخته من الغابة أنه تابعي. وفي أسد الغابة بعد ذكره في الصحابة، قال أبو أحمد العسكري: عروة بن عامر الجهني، روي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً ذكرناه بعروة اهـ. وفي مختصر كتابي المراسل، لابن أبي حاتم الرازي، وجامع التحصيل، في أحكام المراسيل للحافظ العلائي، الذي اختصره المرشدي، عروة بن عامر، عن ابن أبي حاتم قال: سمعت أبي يقول روى الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة بن عامر قال: سئل ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الطب، باب: الطيرة (10/180، 181) . وأخرجه مسلم في كتاب: السلام، باب: الطيرة والفأل وما يكون فيه من الشؤم، (الحديث: 115 و116 و118) . (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب: الطب، باب: في الطيرة، (الحديث: 3920) .

305- باب في تحريم تصوير الحيوان في بساط أو حجر أو ثوب أو درهم أو مخدة أو دينار أو وسادة وغير ذلك وتحريم اتخاذ الصور في حائط وسقف وستر وعمامة وثوب ونحوها والأمر بإتلاف الصورة

قال: ذُكِرَتِ الطِّيَرَةُ عِنْدَ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: "أحْسَنُهَا الفَألُ. وَلاَ تَرُدُّ مُسْلِماً فإذا رَأى أحَدُكُمْ ما يَكْرَهُ، فَليْقلْ: اللَّهُمَّ لاَ يَأتِي بِالحَسَناتِ إلاَّ أنْتَ، وَلاَ يَدْفَعُ السَّيِّئَاتِ إلاَّ أنْتَ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِكَ" حديث صحيح رواه أبو داود بإسناد صحيح (¬1) . 305- باب في تحريم تصوير الحيوان في بساط أو حجر أو ثوب أو درهم أو مخدة أو دينار أو وسادة وغير ذلك وتحريم اتخاذ الصور في حائط وسقف وستر وعمامة وثوب ونحوها والأمر بإتلاف الصورة ـــــــــــــــــــــــــــــ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الطيرة فقال: "اصدقها الفأل". قال البغوي: لا أدري أله صحبة أم لا. وقال أبي هو: تابعي، روى عن ابن عباس وعبيد بن رفاعة. قلت ذكره غير واحد في الصحابة اهـ. قلت وكان مستند المصنف إذا قال رضي الله عنه الظاهر في أنه صحابي (قال ذكرت الطيرة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أحسنها الفأل) لما فيه من حسن الظن بالله عز وجل، عن الأصمعي قال: سألت ابن عوف عن الفأل قال: هو أن يكون مريضاً، فيسمع يا سالم، أو يكون طالباً فيسمع يا واجد، قال في النهاية: فيقع في ظنه أنه يبرأ من علته ويجد ضالته. وإنما أحب - صلى الله عليه وسلم - الفأل الحسن، لأن الناس إذا أملوا فائدة الله، ورجوا عائدته عند كل سبب ضعيف أو قوي، فهم على خير، ولو غلطوا في جهة الرجاء، فإن الرجاء لهم خير، وإذا قطعوا أملهم ورجاءهم من الله كان ذلك من الشر. وأما الطيرة فإن فيها سوء الظن بالله، وتوقع البلاء. والطيرة في هذا الخبر بمعنى الجنس، والفأل بمعنى النوع اهـ. ملخصاً (ولا ترد مسلماً) نفي بمعنى النهي، أي: شأن المسلم ألا يرجع عما عزم عليه من أجلها، لعلمه أن لا أثر لغير الله تعالى أصلاً (فإذا رأى) أي: علم (أحدكم ما يكره) مما يتطير به (فليقل اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع السيئات) المكروهات للأنفس (إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك حديث حسن صحيح رواه أبو داود بإسناد صحيح) رواه في الطب عن أحمد بن حنبل، وأبي بكر بن أبي شيبة، كلاهما عن وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة. باب تحريم تصوير الحيوان أل فيه للجنس (في بساط أو حجر أو ثوب أو درهم أو دينار أو مخدة) بكسر الميم ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: الطب، باب: الطيرة (الحديث: 3919) .

1676- عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الَّذينَ يَصْنَعُونَ هذِهِ الصُّوَرَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ القِيامَةِ، يُقَالُ لَهُمْ: أحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ". متفق عليه (¬1) . 1677- وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قَدِمَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ سَفَرٍ، وَقَدْ سَتَرْتُ سَهْوَةً لِي بِقِرامٍ فِيهِ تَمَاثيلُ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تَلَوَّنَ وَجْهُهُ، وقالَ: "يَا عائِشَةُ، أشَدُّ النَّاسِ عَذَاباً عِندَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ الَّذينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللهِ! " قَالَتْ: فَقَطَعْنَاهُ فَجَعَلْنَا مِنهُ وِسَادَةً أوْ ـــــــــــــــــــــــــــــ وفتح المعجمة: ما توضع تحت الخد (أو وسادة) بكسر الواو قال في المصباح: هي المخدة. والجمع جمع وسادات ووسائد، فعطفها على ما قبلها من عطف الرديف (وغير ذلك وتحريم اتخاذ الصورة في حائط) بالمهملة بناء (وسقف) معروف، وجمعه سقوف، كفلس وفلوس، وسقف بضمتين أيضاً. وهذا فعل جمع على فعل بضمتين، وهو نادر وقال الفراء: إنه جمع سقيف مثل بريد وبرد (وستر وعمامة) بكسر المهملة جمعها عمائم (وثوب ونحوها) من كان ما فيه تعظيم للمرفوع (والأمر بإتلاف الصورة) مطلقاً، بكسرها إن كانت من نحو حجر أو خشب، وشقها إن كانت بنحو ثوب. 1676- (عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الذين يصنعون هذه الصور) أي: صور ذات الروح، كما يدل عليه قوله (يعذبون يوم القيامة يقال لهم أحيوا ما خلقتم) والجملة الثاني يحتمل كونها تفسيراً للتعذيب، أي: يبكتون ويلزمون بإحياء ما صوروه، ولا قدرة لهم على ذلك البتة، ويحتمل أن يكون خبراً بعد خبر، أو حالاً من مرفوع الفعل قبله (متفق عليه) . 1677- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سفر وقد سترت سهوة لي) جملة حالية (بقرام فيه تماثيل) أي: أمثال ذي روح (فلما رآه) أي: أبصره (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلون وجهه وقال: يا عائشة أشد الناس) أي: من أشد الموحدين عذاباً، أو أشد الكفار، لجمعه بين الكفر والتصوير، (عذاباً عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله) أي: بما يكون بتصويرهم خلق الله (قالت: فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: اللباس، باب: عذاب المصورين (10/323) . وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم تصوير صورة الحيوان ... (الحديث: 97) .

وِسَادَتَيْنِ. متفق عليه. "القِرامُ" بكسرِ القاف هو: السِّتْرُ. "وَالسَّهْوَةُ" بفتح السينِ المهملة وهي: الصُّفَّةُ تَكُونُ بَيْنَ يَدَيِ البَيْتِ، وقيلَ: هِيَ الطَّاقُ النَّافِذُ في الحائِطِ (¬1) . 1678- وعن ابن عباس رضي اللهُ عنهما، قال: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "كُلُّ مُصَوِّرٍ في النَّارِ يُجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسٌ فَيُعَذِّبُهُ في جَهَنَّمَ". قال ابن عبَّاسٍ: ـــــــــــــــــــــــــــــ وسادتين) أي: وزال به الصورة المحرمة، إن كان بقاؤها مطلقاً، يمنع من دخول ملائكة الرحمة، لأن ذلك لا يرضى به - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان لا تحريم باستعمال الصورة في ممتهن، وإن كان المانع من دخولهم، اتخاذ الصورة على الوجه المحرم، بأن ترفع ما هي فيه على جدار. أو سقف، فلا يحتاج إلى أن يقيد حديثها بإزالة الصورة المحرمة، لأنها حينئذ اتخذت للامتهان. واتخاذ الصور كذلك جائز. والحديث سبق بطوله في باب الغضب إذا انتهكت حرمات الشرع (متفق عليه. القرام بكسر القاف) وتخفيف الراء (وهو الستر والسهوة بفتح السين المهملة) وسكون الهاء (وهي الصفة) بضم المهملة وتشديد الفاء: البيت أمام البيت. كما قال المصنف (تكون بين يدي البيت وقيل: هي الطاق النافذ في الحائط) فإن لم يكن نافذاً فهي المشكاة. 1678- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: كل مصور في النار) أي: إن استحل ذلك، مع علمه بتحريمه والإجماع عليه، وإنه من المعلوم من الدين بالضرورة. أو هذا جزاؤه إن لم يكن كذلك، وهو كغيره من سائر الكبائر، تحت خطر المشيئة (يجعل له بكل صورة) أي: بسببها أو بدلها (صورها نفس فيعذبه) أي: الله (في جهنم) الظاهر أن المراد بإيراد النار، الشامل لسائر طباقها، لا خصوص الطبقة الأخرى (¬2) المعدة للمنافقين، هذا على أن يعذب بالتحتية، ويحتمل أن يكون بالفوقية، وإسناد التعذيب إلى النفس مجاز عقلي (قال ابن عباس) لمن قال له إنه لا يعرف من الحرف غير التصوير ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: اللباس، باب ما وطىء من التصاوير (10/325) . وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم تصوير صورة الحيوان ... (الحديث: 92) مطولاً. (¬2) قوله (بإيراد) لعله (التعذيب بإيراد) ، وقوله (الأخرى) لعله (الأخيرة) . ع.

فإنْ كُنْتَ لاَ بُدَّ فَاعِلاً، فَاصْنعِ الشَّجَرَ وَمَا لاَ رُوحَ فِيهِ. متفق عليه (¬1) . 1679- وعنه، قال: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يقول: "مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فِي الدُّنْيَا، كُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ يَومَ القِيَامَةِ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ". متفق عليه (¬2) . 1680- وعن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنَّ أشَدَّ النَّاسِ عَذَاباً يَومَ القِيَامَةِ المُصَوِّرُونَ". متفق عليه (¬3) . ـــــــــــــــــــــــــــــ (فإن كنت لا بد) أي: لا محالة (فاعلاً) أي: التصوير (فاصنع الشجر وما لا روح فيه) كالجبال والأرض والأمكنة (متفق عليه) . 1679- (وعنه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من صور صورة في الدنيا) أي: من ذوات الروح (كلف) تعجيزاً له (أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة) ولما كان تكليفه بذلك، ربما يوهم إمكان ذلك منه، نفاه مؤكداً للنفي بالباء المزيدة، فقال: (وليس بنافخ متفق عليه) . 1680- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن أشد الناس عذاباً) أتى بالمؤكد هنا تأكيداً لمضمونه عند السامع، وتركه من حديث عائشة، كأنه كان ذلك أول ما أعلمهم به، فكان ابتداء، ولما اقتضى المقام التأكيد، لوجود من وقع منه سبب الوعيد السابق، وكان حاله كالمنكر، أتى به والله أعلم. (يوم القيامة) ظرف لعذابا (عند الله) كذلك، والعندية للمكانة لا للمكان، ففيه إيماء إلى عظم ذلك العذاب (المصورون) أي: لذي روح (متفق عليه) . ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: البيوع، باب: بيع التصاوير وكذلك أخرجه في باب: التصاوير من كتاب اللباس (4/345) . وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم تصوير صور الحيوان ... (الحديث: 99) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: اللباس، باب: من صور صورة كلف ... الخ (10/330) . وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم تصوير صورة الحيوان ... (الحديث: 100) . (¬3) أخرجه البخاري في كتاب: اللباس، باب: عذاب المصورين يوم القيامة (10/321، 322) . وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم تصوير صورة الحيوان وتحريم ... (الحديث: 98) .

1681- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "قال اللهُ تَعَالَى: وَمَنْ أظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي! فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً أوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً، أوْ لِيَخْلُقُوا شَعِيرَةً". متفق عليه (¬1) . 1682- وعن أبي طلحة - رضي الله عنه -: أنَّ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لاَ تَدْخُلُ المَلاَئِكَةُ بَيْتاً فيهِ كَلْبٌ وَلاَ صُورَةٌ". متفق عليه (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1681- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله تعالى ومن أظلم) أي: لا أظلم (ممن ذهب يخلق كخلقي) أي: باعتبار التصوير والتقدير وإلا فالخلق الذي هو الإِيجاد، لا يكون من غيره تعالى أصلاً (فليخلقوا ذرة) بفتح المعجمة وتشديد الراء: أي نملة، وصحفه بعض الرواة فضم المعجمة وخف الراء وغير قوله بعد (أو ليخلقوا حبة) أي: من القمح (أو ليخلقوا شعيرة) لأنها من أنواع الحبوب وأو: فيه للتنويع واللام بعد الفاء يجوز إسكانها تخفيفاً، وكسرها وهو الأصل، وفي هذه المواضع، اللام على سبيل التعجيز والتبكيت، تارة بتكليفهم خلق حيوان وهذا أشد، وأخرى في تكليفهم بخلق جماد، وهو أهون ومع ذلك لا قدرة لهم على ذلك (متفق عليه) ورواه أحمد. 1682- (وعن أبي طلحة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تدخل الملائكة) أي: ملائكة الرحمة، إذ الحفظة لا يفارقون بسبب ذلك (بيتاً) ومثله باقي الأمكنة غير البيت (فيه كلب) قال الشيخ ولي الدين العراقي، قيل: حكمته أنه لما نهى عن اتخاذها ثم اتخذها، عوقب بتجنب الملائكة صحبته، غضباً عليه لمخالفة الشرع، فحرم بركتها واستغفارها وإعانتها له على طاعة الله تعالى، وعلى هذا فلا تمتنع الملائكة من دخول بيت فيه كلب، أذن في اتخاذه بناء على أنه يجوز أن يستنبط من النص معنى يخصصه. وقيل: ذلك لنجاستها، وهم المطهرون المقدسون على مقاربتها. وقيل: لأنها من الشياطين على ما ورد، والملائكة أعداؤهم في كل حال. وقيل: لقبح رائحتها وهم يكرهون الرائحة الخبيثة، ويحبون الرائحة الطيبة (ولا صورة) ظاهر عمومه متناول للصورة المحرمة وغيرها، ولاتخاذ المحرم وغيره، ويحتمل التخصيص بالمحرم منها، على أن العلة في عدم دخولها عصيان المخالف بالاتخاذ لها بعد النهي عنه (متفق عليه) . ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: اللباس، باب: نقض الصور (10/324) . وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم تصوير صورة الحيوان ... (الحديث: 101) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: اللباس، باب: التصاوير (10/328) . =

1683- وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: وَعَدَ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جِبْرِيلُ أنْ يَأتِيَهُ، فَرَاثَ عَلَيْهِ حَتَّى اشْتَدَّ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَخَرَجَ فَلَقِيَهُ جِبريلُ فَشَكَا إلَيهِ، فَقَالَ: إنَّا لاَ نَدْخُلُ بَيْتاً فِيهِ كَلْبٌ وَلاَ صُورَةٌ. رواهُ البُخاري. "راث": أبْطَأَ، وهو بالثاء المثلثة (¬1) . 1684- وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: واعدَ رسولَ اللهِ- صلى الله عليه وسلم -، جبريلُ عليهِ السَّلامُ، في سَاعَةٍ أنْ يَأتِيَهُ، فَجَاءتْ تِلْكَ السَّاعَةُ وَلَمْ يَأتِهِ! قَالَتْ: وَكَانَ بِيَدِهِ عَصاً، فَطَرَحَهَا مِنْ يَدِهِ وَهُوَ يَقُولُ: "ما يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلاَ رُسُلُهُ" ثُمَّ التَفَتَ، فإذَا جَرْوُ كَلْبٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ 1683- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال وعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قدم المفعول به على فاعله، اهتماماً (جبريل عليه السلام أن يأتيه) أي: في وقت معين (فراث عليه) وأطال التأخر (حتى اشتد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: نفس تأخره أو ما لحقه لذلك من الهم (فخرج فلقيه جبريل) أي: عقب خروجه كما يومىء إليه (فشكا) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لقي من تأخره، عن الوقت الذي وعد المجيء فيه (إليه فقال إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة) يؤخذ من، حديث القرام السابق، ما يزيد تخصيص امتناعها بالاتخاذ المحرم للصورة المحرمة عقوبة له، إذا فعل ذلك، بمنعهم من بركتهم (رواه البخاري) في أبواب الملائكة (راث أبطأ) وألفه منقلبة عن ياء وهو من باب باع (وهو بالمثلثة) أي: ومصدره: ريث بفتح فسكون للتحتية. 1684- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: واعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل عليه السلام) فاعل، مؤخر عن المفعول المقدم للاهتمام (أن يأتيه في ساعة فجاءت تلك الساعة ولم يأته قالت: وكان بيده عصا) جملة معطوفة على واعد أو حال من فاعله (فطرحها) أي: ألقاها (من يده وهو يقول) جملة حالية من الضمير المضاف إليه بعضه (ما يخلف الله وعده) أي: لأحد من خلقه. ثم هو مخصوص بالخير، ويقال في الشر وعيد (ولا رسله) ويسكن الثاني تخفيفاً، جمع رسول ودخل فيهم الملائكة. قال تعالى: (جاعل الملائكة رسلاً) (¬2) (ثم التفت فإذا جرو) بالجيم والراء بوزن قنو (كلب) قال في المصباح: الجرو بالكسر ولد الكلب والسباع. ¬

_ = وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم تصوير صورة الحيوان وتحريم اتخاذ ما فيه ... (الحديث: 83 و84) . (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: اللباس، باب: لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة (10/329) . (¬2) سورة فاطر، الآية: 1.

تَحْتَ سَرِيرِهِ. فقالَ: "مَتَى دَخَلَ هَذَا الكَلْبُ هَهُنا؟ " فَقُلْتُ: واللهِ مَا دَرَيْتُ بِهِ، فَأمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ، فَجَاءهُ جِبْرِيلُ - عليه السلام -، فقال رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "وَعَدْتَنِي، فَجَلَسْتُ لَكَ وَلَمْ تَأتِني" فقالَ: مَنَعَنِي الكَلْبُ الَّذِي كانَ في بَيْتِكَ، إنَّا لاَ نَدْخُلُ بَيْتاً فِيهِ كَلْبٌ وَلاَ صُورَةٌ. رواه مسلم (¬1) . 1685- وعن أبي الهَيَّاجِ حَيَّانَ بِن حُصَيْنٍ، قال: قال لي عَليُّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -: ألاَ أبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ـــــــــــــــــــــــــــــ والفتح والضم لغة فيه. قال ابن السكيت: والفتح أفصح. قال في البارع: الجرو الصغير من كل شيء (تحت سريره فقال متى دخل هذا الكلب فقلت والله ما دريت به) هو ظاهر في أن ذلك كان في بيتها (فأمر به) بالبناء للفاعل (فأخرج) بالبناء للمفعول وحذف المفعول به في الأولى، والفاعل في الثانية، لعدم تعلق العناية بقصته؛ (فجاءه جبريل فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعدتني) أي: الساعة المعينة (فجلست لك) أي: منتظراً لك أو لأجلك؛ فالظرف على الأول مستقر حال، وعلى الثاني صلة جلس (ولم تأتني فقال: منعني الكلب الذي كان في بيتك) هذا يؤيد الاحتمال الثاني السابق، في كلام الولي العراقي" من أنهم لا يدخلون البيت الذي فيه كلب، وإن لم يعص أهله باتخاذه، لأنه إذا منع وجوده من دخولهم البيت، مع ولوجه عن غير علم، فلأن يمنع منه مع العلم بالأولى. وإن كان نقص الثواب الآتي في حديث الباب بعده مقيداً باتخاذه، في غير ما أذن فيه، لأن ذلك أقوى من هذا؛ فاعتبر فيه قوة المخالفة عن قصد. والله أعلم (إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة) أي يحرم تصويرها، أو اتخذت على وجه يحرم اتخاذها لما تقدم (رواه مسلم) . 1685- (وعن أبي التياح) بفتح الفوقية وتشديد التحتية آخره مهملة (حيان) بفتح المهملة وتشديد التحتية (ابن حصين) بضم المهملة الأولى، وفتح الثانية، وسكون التحتية، آخره نون. أبو الهياج بالتحتية والجيم: الأسدي الكوفي. قال الحافظ: ثقة من أوساط التابعين (قال قال لي علي) بن أبي طالب (رضي الله عنه ألا) بفتح الهمزة وتخفيف اللام حرف استفتاح (أبعثك على ما) أي: الذي (بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ثم أبدل من الموصول قوله ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الجنائز، باب: الأمر بتسوية القبر، (الحديث: 93) .

306- باب في تحريم اتخاذ الكلب إلا لصيد أو ماشية أو زرع

أن لاَ تَدَعَ صُورَةً إلاَّ طَمَسْتَهَا، وَلاَ قَبْراً مُشْرفاً إلاَّ سَوَّيْتَهُ. رواه مسلم (¬1) . 306- باب في تحريم اتخاذ الكلب إلا لصيد أو ماشية أو زرع 1686- عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعتُ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يقولُ: "مَنِ اقْتَنَى كَلْباً إلاَّ كَلْبَ صَيْدٍ أوْ مَاشِيَةٍ فَإنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ أجْرِهِ كُلَّ يَومٍ قِيرَاطَانِ". متفق عليه. وفي رواية: "قِيرَاطٌ" (¬2) . 1687- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أمْسَكَ ـــــــــــــــــــــــــــــ (ألا تدع صورة) أي: على عدم ترك صوره محرمة (إلا طمستها) أي: أزلتها إزالة للنكر باليد (ولا قبراً مشرفاً) بصيغة المفعول (إلا سويته) أي: بالأرض (رواه مسلم) ففيه أن التصوير للصورة المحرمة من المنكرات، الذي على ولاة الأمور إزالتها. والله أعلم. باب تحريم اتخاذ الكلب إلا لصيد أو ماشية أو زرع أي: لحراسة، ومثله حراسة الدار لمن احتاج إليه لها، ويشملها قوله في رواية مسلم الآتية ولا أرض. 1686- (عن ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من اقتنى) افتعال من القنية، وهي اتخاذ الشيء لا للتجارة فيه (كلباً إلا كلب صيد أو ماشية) أي: يحرم اقتناؤه إلا لصيد الخ. بدليل رواية مسلم الآتية، عن أبي هريرة وفيها "ليس بكلب صيد" الخ قال في المصباح، قال ابن السكيت جماعة: الماشية المال من الإبل والغنم. وبعضهم يجعل البقر من الماشية (فإنه ينقص من أجره) أي: أجر عمله (كل يوم قيراطان متفق عليه) ورواه بنحوه مالك وأحمد والترمذي وصححه النسائي (وفي رواية) لمسلم (قيراط) . 1687- (وعن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أمسك) أي: على ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الجنائز، باب: الأمر بتسوية القبر، (الحديث: 93) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الذبائح، باب: من اقتنى كلباً ليس بكلب صيد (9/525) . وأخرجه مسلم في كتاب: المساقاة، باب: الأمر بقتل الكلاب، وبيان نسخه وبيان تحريم ... (الحديث: 50) .

307- باب في كراهية تعليق الجرس في البعير وغيره من الدواب وكراهية استصحاب الكلب والجرس في السفر

307- باب في كراهية تعليق الجرس في البعير وغيره من الدواب وكراهية استصحاب الكلب والجرس في السفر 1688- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تَصْحَبُ المَلاَئِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا كَلْبٌ أوْ جَرَسٌ" ـــــــــــــــــــــــــــــ القيراط باعتبار قلتها، وقيل القيراطان لمن اتخذها بالمدينة النبوية خاصة، والقيراط بما عداها. وقيل: القيراطان للمدن، والقيراط للبوادي، وهو ملتفت لمعنى كثرة البادي وقلته. واختلف في القيراطين المذكورين في صلاة الجنازة واتباعها. فقيل: نعم، وقيل: ما: في الجنازة من باب الفضل. وما: هنا من باب العقوبة، وباب الفضل أوسع من غيره اهـ. ملخصاً. باب كراهية تعليق الجرس بفتح الجيم والراء والسين المهملة: جلاجل معروفة. هذا المشهور في ضبطه. وقاله الجوهري: وقيل: إنها كذلك رواية الأكثرين. قال وضبطناه عن أبي بحر بسكون الراء وهو اسم للصوت، وأصل الجرس الصوت الخفي، جمعه أجراس كسبب وأسباب (في البعير) هو كالإِنسان في وقوعه على الذكر منه والأنثى (وغيره من الدواب) جمع دابة والمراد منها هنا ذات الحافر. قال السيوطي: قيل إنما كره لأنه يدل على أصحابه بصوته، وكان - صلى الله عليه وسلم - يحب أن لا يعلم العدو به، حتى يأتيهم فجأة. ذكره في النهاية اهـ. (وكراهة استصحاب الكلب والجرس في السفر) الظرف في محل الحال من كراهة المعطوف والمعطوف عليه، أي: كائنين فيه، والكراهة تنزيهية. كما يدل عليه إطلاقها عن التقييد بالتحريم والسفر معروف، سمي به لأنه يسفر عن أخلاق الرجال كما تقدم. 1688- (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تصخب الملائكة) أي: ملائكة الرحمة، قال الولي العراقي: يحتمل لا تصحبهم مطلقاً، ويحتمل لا تصحبهم بالكلاءة، أي: والحفظ والاستغفار من قولهم اللهم أنت الصاحب في السفر (رفقة) بتثليث الراء، وفي المصباح الرفقة: الجماعة ترافقهم في سفرك، فإذا تفرقتم زال اسم الرفقة، وهي بضم الراء في لغة تميم. والجمع رفاقة كبرمة وبرامة وكسرها في لغة قيس وجمعها رفق كسدرة وسدر (فيها كلب) أي: ليس مأذوناً في اتخاذه (ولا جرس) قال المصنف في المناسك: وينبغي لمن رأى ذلك وعجز عنه، أن يقول اللهم إني أبرأ إليك مما فعله هؤلاء،

308- باب في كراهة ركوب الجلالة وهي البعير أو الناقة التي تأكل العذرة فإن أكلت علفا طاهرا فطاب لحمها، زالت الكراهة

رواه مسلم (¬1) . 1689- وعنه: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "الجَرَسُ مِنْ مَزَامِيرُ الشَّيْطَانِ". رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم (¬2) . 308- باب في كراهة ركوب الجَلاَّلة وهي البعير أو الناقة التي تأكل العَذِرَة فإنْ أكلت علفاً طاهراً فطاب لَحمُهَا، زالت الكراهة 1690- وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: نهَى رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الجَلاَّلَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا تحرمني ثمرة صحبة ملائكتك وبركتهم (رواه مسلم) قال في الجامع الكبير: رواه أحمد وابن أبي شيبة أبو داود الترمذي وابن حبان. 1689- (وعنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الجرس من مزامير الشيطان رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم) قال السيوطي: الجرس الجلجل الذي يعلق على الدواب. قال ابن رسلان: هذا الحديث يدل على أن سبب الكراهة، كونه مزمار الشيطان. وعلى هذا فمن سمعه عليه وضع أصبعيه في أذنيه، لئلا يسمعه؛ وقد صرح أصحابنا بأن من كان بجواره آلات محرمة، عجم عن إزالتها، إنما يحرم عليه استماعها لإسماعها من غير قصد فكذا هنا. باب كراهة ركوب الجلالة بفتح الجيم وتشديد اللام الأولى وتخفيف الثانية (وهي البعير) الاسم العام كما تقدم، ويحتمل أن يراد به الجمل لمقابلته بقوله (أو الناقة) وهي الأنثى من الإِبل (التي تأكل العذرة) بفتح المهملة وكسر المعجمة. قال في المصباح: ولا يعرف تخفيفها وهي الخرء وهي مثال، فأكل غيرها من النجاسات كذلك؛ ومحل الكراهة إن اعتادت ذلك وظهر عليها ريحه، (فإن أكلت) بعد النجاسة (علفاً) بفتح المهملة واللام (طاهراً فطاب لحمها) وزال ريح النجاسة (زالت الكراهة) لزوال سببها. 1690- (عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجلالة في الإِبل) ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: كراهة الكلب والجرس في السفر، (الحديث: 103) . (¬2) أخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: كراهة الكلب والجرس في السفر، (الحديث: 104) .

309- باب في النهي عن البصاق في المسجد والأمر بإزالته منه إذا وجد فيه والأمر بتنزيه المسجد عن الأقذار

في الإبِلِ أنْ يُرْكَبَ عَلَيْهَا. رواه أبو داود بإسناد صحيح (¬1) . 309- باب في النهي عن البصاق في المسجد والأمر بإزالته منه إذا وجد فيه والأمر بتنزيه المسجد عن الأقذار 1691- عن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "البُصاقُ في المَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا". متفق عليه. والمرادُ بِدَفْنِهَا إذَا كَانَ المَسْجِدُ تُرَاباً أوْ رَمْلاً ونَحْوَهُ، فَيُوَارِيهَا تَحْتَ تُرَابِهِ. قالَ أبُو المحاسِنِ الرُّويَانِي ـــــــــــــــــــــــــــــ بكسر أوليه وتسكين ثانيهما تخفيفاً (أن يركب عليها) بدل اشتمال من الجلالة (رواه أبو داود بإسناد صحيح) وكذا رواه الحاكم في المستدرك، وآخر الحديث: "وإنه شرب من ألبانها". والحديث صححه المصنف في المناسك، وقال فيه للحديث الصحيح فذكره. باب النهي عن البصاق بضم الموحدة وبالصاد المهملة وبالزاي. قال ابن النحوي في لغات المنهاج ثلاث لغات بمعنى واحد، والسين غريبة. قال المصنف في شرح المهذب: وقد أنكرها بعض أهل اللغة، وإنكاره باطل، فقد نقلها الثقات، وثبتت في الحديث الصحيح (في المسجد والأمر) معطوف على النهي، والأمر للندب (بإزالته منه إذا وجد فيه) أى: منه أو من غيره. (والأمر بتنزيه المسجد عن الأقذار) وجوباً عن القذر النجس أو المقذر للمكان كنحو ماء غسل، وأكل طعام يتلوث منه المكان، وندبا فيما ليس كذلك. 1691- (عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: البصاق في المسجد خطيئة) أي: معصية (وكفارتها) أي: تكفير دوام إثمها (دفنها) أما أصل الفعل فلا يكفره إلا التوبة، أو فضل الله سبحانه، أو عمل صالح. إذ هو من الصغائر (متفق عليه) ورواه أبو داود والترمذي والنسائي (والمراد بدفنها) أي: المكفر لما ذكر (إذا كان المسجد تراباً أو رملاً أو نحوه) أفرد الضمير لكون مرجعه معطوفاً بأو، التي هي لأحد الشيئين (فيواريها) من المواراة وهي التغيب (تحت ترابه قال أبو المحاسن الروياني) بضم الراء وسكون الواو بلا همزة قال في ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: في ركوب الجلَّالة، (الحديث: 2558) .

310- باب في كراهة الخصومة في المسجد ورفع الصوت فيه ونشد الضالة والبيع والشراء والإجارة ونحوها من المعاملات

310- باب في كراهة الخصومة في المسجد ورفع الصوت فيه ونشد الضالة والبيع والشراء والإجارة ونحوها من المعاملات 1694- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّه سمعَ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يقولُ: "مَنْ سَمِعَ رَجُلاً يَنْشُدُ ضَالَّةً في المَسْجِدِ فَلْيَقُلْ: لاَ رَدَّها اللهُ عَلَيْكَ، فإنَّ المَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهذَا". رواه مسلم (¬1) . 1695- وعنه: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إِذَا رَأيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ ـــــــــــــــــــــــــــــ باب كراهة الخصومة بضم المعجمة والمهملة (في المسجد ورفع الصوت فيه) أي: ولو بالذكر. ومحله إن حصل منه تشويش على نائم أو مصل أو نحوه ولم يشتد به ضرره، وإلا فيحرم (ونشد الضالة) أي: السؤال عنها، والنشد مصدر نشد من باب قتل والاسم منه النشدة والنشدان بكسر نونيهما (والبيع والشراء والإِجارة ونحوها من المعاملات) لأن هذه أمور دنيوية، والمساجد إنما هي للدينيات والتعبدات، وليست منها، وخرج بالمعاملات، النكاح، فيستحب جعله في المسجد، لحديث الترمذي: "اعلنوا النكاح واجعلوه في المساجد". 1694- (عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من سمع رجلاً ينشد) بضم المعجمة أي: يطلب (ضالة) في المصباح: الضالة بالهاء تقال للحيوان الضائع، ذكراً كان أو أنثى، والجمع الضوال كدابة ودواب. ويقال لغير الحيوان ضائع اهـ. وظاهر أن المراد بها في الحديث: ما يعم الحيوان وغيره (في المسجد) صلة ينشد (فليقل) ندباً (لا ردها الله عليك) وقوله (فإن المساجد لم تبن) بصيغة المجهول (لهذا) أي: النشد جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً محتملة، لكونها علة الأمر بالقول المذكور، فيقتصر منه على قوله عليك. ويحتمل أنه مما يقال للناشد كالبيان لسبب الدعاء عليه، إذ أوقع الشيء في غير محله. وحديث الترمذي بعده مؤيد للاحتمال الأول (رواه مسلم) قال في الجامع الكبير: ورواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. 1695- (وعنه رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا رأيتم) أي: أبصرتم، ويلحق به ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: النهي عن نشد الضالة في المسجد وما يقوله من سمع الناشد، (الحديث: 79) .

أَوْ يَبْتَاعُ في المَسْجِدِ، فَقُولُوا: لا أرْبَحَ اللهُ تِجَارَتَكَ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ ضَالَّةً فَقُولُوا: لا رَدَّهَا الله عَلَيْكَ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (¬1) . 1696- وعن بُريَدَةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رَجُلاً نَشَدَ في المَسْجِدِ فَقَالَ: مَنْ دَعَا إِلَى الجَمَلِ الأَحْمَرِ؟ فَقَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لا وَجَدْتَ؛ إنَّمَا بُنِيَتِ المََسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ". رواه مسلم (¬2) . 1697- وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّهِ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَن الشِّراءِ والبَيْعِ في المَسْجِدِ، وَأنْ تُنْشَدَ فِيهِ ضَالَّةٌ ـــــــــــــــــــــــــــــ علم الأعمى ومن في ظلمة بذلك. (من يبيع أو) للتنويع (يبتاع) أي: يشتري (في المسجد) تنازعه ما قبله فيعمل فيه الثاني، وحذف معمول الأول لدلالة هذا عليه فأل في المسجد للجنس (فقولوا) ندباً (لا أربح الله تجارتك) أي: لا أوقع الله فيها الربح لكونك أتيت بها في محل المتاجر الأخروية، دون محلها من الأسواق وخارج المساجد (وإذا رأيتم من ينشد ضالة) أي: في المسجد. وفي الجامع بلفظ "وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالة" لدلالة السياق والسباق عليه (فقولوا) ندباً (لا ردها الله عليك رواه الترمذي وقال حديث حسن) قال السيوطي: ورواه الحاكم في المستدرك. 1696- (وعن بريدة رضي الله عنه أن رجلاً) لم أقف على من سماه (نشد في المسجد) بفتح النون المعجمة أي: طلب (ضالة فقال: من دعا إليّ) بتشديد الياء، قال الحافظ معناه من تعرف إلى (الجمل الأحمر) مفعول دعا (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا وجدت) دل مع حديث أبي هريرة قبله، أن المطلوب لمن سمع الناشد عن الضالة في المسجد أن يدعو عليه بأن لا يلقاها. ويحتمل الاقتصار على أحد اللفظين الواردين (إنما بنيت المساجد لما) أي: الذي (بنيت له) أي: من الصلاة والذكر ونشر العلم (رواه مسلم) . 1697- (وعن عمرو بن شعيب عن أبيه) شعيب (عن جده) أبي شعيب وهو عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الشراء و) عن (البيع) الكائنين (في المسجد) لأنها لم تبن لذلك (و) نهى (أن تنشد فيه ضالة) أي: عنها وأمر أن يقال ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب: البيوع، باب: النهي عن البيع في المسجد، (الحديث: 1321) . (¬2) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: النهي عن نشد الضالة في المسجد (الحديث: 80) .

1700- وعن أنس - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَكَلَ مِنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ فَلاَ يَقْرَبَنَّا، وَلاَ يُصَلِّيَنَّ مَعَنَا". متفق عَلَيْهِ (¬1) . 1701- وعن جابر - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أكَلَ ثُوماً أَوْ بَصَلاً فَلْيَعْتَزلنا، أو فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا". متفق عَلَيْهِ. وفي روايةٍ لمسلم: "مَنْ أكَلَ البَصَلَ، والثُّومَ، والكُرَّاثَ، فَلاَ ـــــــــــــــــــــــــــــ افترقا في أن أفراد الأول مفردات، والثاني جموع. وقيل أفراد وفي أن في رواية مسجدنا، إيهام الاختصاص بالمسجد النبوي ورواية مسلم المذكورة سالمة منه. 1700- (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكل من هذه الشجرة) سكت عن تعيين المشار إليه، لوجود ما يعينه من قرينة حالية أو مقالية؛ والمراد الثوم (فلا يقربنا) أي: في المساجد وغيرها، وذلك لئلا يؤذي الغير بالرائحة الكريهة الخبيثة، وقد صرح أصحابنا بأن على الإِمام أن يمنع الأبخر ونحوه، من مخالطة الناس دفعا لأذى ريحه عنهم، والفعل مؤكد بالنون الخفيفة، والثانية نون ضمير المتكلم ومعه غيره (ولا يصلين معنا) خص بالذكر مع تناول ما قبله له اهتماماً بأمر بالصلاة، ودفعا لسلب الخشوع عن المصلى، ليأتي بها على الكمال المطلوب منا، ومع بفتح العين ظرف مكان (متفق عليه) . 1701- (وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أكل ثوماً أو بصلاً) أو فيه للتنويع ومثله كل ذي ريح كريه من الكراث وكذا الفجل باعتبار ما يتولد عنه من الجشاء القبيح (فليعتزلنا أو) شك من الراوي (فليعتزل مسجدنا) أي: ولو في غير أوقات الصلاة، لأن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم. وهو في الجامع الصغير بلفظ "فليعتزلنا وليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته" بالواو في الجميع فأفاد الأمر باعتزاله الناس مطلقاً والمساجد بالتخصيص وأكد مفهوم الجملة الأولى بقوله وليقعد الخ (متفق عليه، وفي رواية لمسلم من أكل البصل والثوم والكراث) الجمع بينها ليس قيداً في النهي عنه للاكتفاء فيه بأحدها في الرواية قبله، في المصباح: الكراث بقلة معروفة والكراثة أخص منه، وهي خبيثة الريح (فلا ¬

_ = وأخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: نهي من أكل ثوماً أو بصلاً أو كراثاً أو نحوها، (الحديث: 68) . (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: أبواب الصلاة، باب: ما جاء في الثوم النيء (9/489) . وأخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة باب: نهي من أكل ثوماً أو بصلاً (الحديث: 70) .

يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَإنَّ المَلاَئِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ" (¬1) . 1702- وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أنَّه خَطَبَ يومَ الجمْعَةِ فَقَالَ في خطبته: ثُمَّ إنَّكُمْ أيُّهَا النَّاسُ تَأكُلُونَ شَجَرتَيْنِ مَا أرَاهُمَا إِلاَّ خَبِيثَتَيْن: البَصَلَ، وَالثُّومَ. لَقَدْ رَأَيْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، إِذَا وَجدَ ريحَهُمَا مِنَ الرَّجُلِ في المَسْجِدِ أَمَرَ بِهِ، فَأُخْرِجَ إِلَى البَقِيعِ، فَمَنْ أكَلَهُمَا، فَلْيُمِتْهُمَا طَبْخاً. رواه مسلم (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ يقربن مسجدنا) نهى عن القرب، مبالغة في الإِبعاد لمن كان كذلك، عن المسجد وعلل ذلك بقوله: (فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم) أي: غالباً فلا ينافي استطابتها، للخلوف الناشىء عن الصيام، مع تأذي الناس منه. أو ذلك لأن الله تعالى يجعلهم يجدونه ذا عرف أطيب من المسك، لا كما يجده النوع الإِنساني والله على كل شيء قدير. 1702- (وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خطب يوم جمعة فقال في خطبته ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين) بفتح المعجمة والجيم والشجرة ما له ساق صلب يقوم عليه (لا أراهما) بفتح الهمزة أي أعلمهما، وبضمها أي: أظنهما (إلا خبيثتين) في المصباح. يطلق الخبيث على الحرام كالزنى، وعلى الرديء المستكره طعمه أو ريحه كالثوم والبصل. ومنه الخبائث التي كانت العرب تستخبثها كالحية والعقرب (البصل والثوم) بالنصب بدل من شجرتين، وبالرفع على القطع خبر محذوف (لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: أبصرته (إذا وجد ريحهما في الرجل في المسجد أمر) بالبناء للفاعل أي: أوقع أمره (به) أي: بإخراجه من المسجد دفعاً لضرر الناس به؛ (فأخرج إلى البقيع) مدفن موتى أهل المدينة، مبالغة في الإِبعاد عن المسجد وتنظيفه وتنزيهه عن الروائح الرديئة (فمن أكلهما) أي: أراد أكلهما (فليمتهما) باذهاب ريحهما (طبخاً) تمييز عن نسبة الأمانة إليهما (رواه مسلم) . ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: ما جاء في الثوم النيء، (9/498) . وأخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: نهي من أكل ثوماً أو بصلاً أو كراثاً أو نحوها، (الحديث: 74) . (¬2) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: نهي من أكل ثوماً أو بصلاً أو كراثاً أو نحوها، (الحديث: 78) مطولاً.

313- باب في نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة وأراد أن يضحي عن أخذ شيء من شعره أو أظفاره حتى يضحي

313- باب في نهي من دخل عَلَيْهِ عشر ذي الحجة وأراد أنْ يضحي عن أخذ شيء من شعره أَوْ أظفاره حَتَّى يضحّي 1704- عن أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كَانَ لَهُ ذِبْحٌ يَذْبَحُهُ، فَإذَا أَهَلَّ هِلاَلُ ذِي الحِجَّةِ، فَلاَ يَأخُذَنَّ من شَعْرِهِ وَلاَ مِنْ أظْفَارِهِ شَيْئاً حَتَّى يُضَحِّيَ" ـــــــــــــــــــــــــــــ باب نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة هي الأيام المعلومات (وأراد أن يضحي) أو يذبح هدياً تطوعاً، أو لنحو تمتع أو لغير جناية وصرح بالهدي ابن سراقة وقال: إنه أولى بذلك من الأضحية (عن أخذ شيء من شعره وأظفاره حتى يضحى) ليكون ذلك مبعداً عن النار، بما يذبحه تقرباً إلى الله تعالى. 1704- (عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كان له ذبح) بكسر الذال المعجمة، وسكون الموحدة: أي مذبوح. والإِطلاق من مجاز الأول (يذبحه) أي: يريد ذبحه (فإذا أهل) بصيغة المجهول كما بيناه في مؤلفات (1) اتحاف الفاضل بمعرفة الفعل المبني لغير الفاعل (هلال) وحذف الفاعل للعلم بأنه الله تعالى، والهلال اسم للقمر، ثلاثة أيام في أول الشهر، ثم هو بعهد قمر. وسمي بذلك لما يعتاد من الإِهلال أي: رفع الصوت عند رؤياه (ذي الحجة) بكسر الحاء المهملة على الأفصح (فلا يأخذن) ندباً (من شعره ولا من أظفاره شيئاً) قل أو كثر كما يومىء إليه عموم النكرة المذكورة في سياق النهي (حتى يضحى) قال ابن حجر في شرح العباب: وصرفه عن الوجوب قول عائشة: كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يقلدها هو بيده ثم يبعث بها فلا يحرم عليه شيئاً أحله الله تعالى له ْحتى ينحر الهدي والمعنى في النهي، شمول المغفرة لجميع أجزائه، ومقتضى قوله "حتى يضحي" أنه لو أخرها إلى آخر أيام التشريف امتدت الكراهة، وهو كذلك. وأنه لو أراد التضحية بأعداد زالت الكراهة بذبح الأول لحصول المقصود من شمول المغفرة لجميع أجزائه. ويحتمل بقاء النهي إلى آخرها. وخرج الأسنوي في التمهيد هذا على قاعدة أصولية: هي أن الحكم المعلق على معنى كلي، هل يكتفي فيه بأدنى المراتب، لتحقق المسمى، أم يجب الأعلى احتياطاً؟ قال: والصحيح القول الأول اهـ. ومحل الكراهة عند عدم الحاجة، أما معها كقلع سن أوجعه فلا كراهة، بل قد يسن كختان الصغير وقد يجب كختان البالغ وقطع يد الجاني أو السارق، وظاهر كلامهم أن حضور الجمعة ليس من

314- باب في النهي عن الحلف بمخلوق كالنبي والكعبة والملائكة والسماء والآباء والحياة والروح والرأس وحياة السلطان ونعمة السلطان وتربة فلان والأمانة، وهي من أشدها نهيا

رواه مسلم (¬1) . 314- باب في النهي عن الحلف بمخلوق كالنبي والكعبة والملائكة والسماء والآباء والحياة والروح والرأس وحياة السلطان ونعمة السلطان وتربة فلان والأمانة، وهي من أشدها نهياً 1705- عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إنَّ الله تَعَالَى يَنْهَاكُمْ أنْ تَحْلِفُوا بِآبائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفاً، فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ، أَوْ لِيَصْمُتْ". متفق عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحاجة، فيزيل الشعر له في الأيام المذكورة. نعم إذا توقف إزالة الأوساخ على ذلك فهو حاجة فلا يكره (رواه مسلم) . باب النهي عن الحلف بمخلوق (كالنبي والكعبة والملائكة والسماء والآباء والحياة والروح والرأس) أي: السلطان (¬2) أو غيره (وحياة السلطان ونعمة السلطان وتربة فلان والأمانة وهي من أشدها نهياً) النهي على سبيل التحريم، إن قصد الحالف بها تعظيماً لها في الجملة. فإن قصد تعظيمها كتعظيم الله تعالى كفر. وإن جرى على لسانه القسم بها بقصد ادغام الكلام كره، وإن جرى عليه من غير قصد فلا كراهة بل هو من لغو اليمين وسيأتي زيادة في الأحاديث. 1705- (عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله تعالى ينهاكم أن تحلفوا) أي: عن أن تحلفوا (بآبائكم) اختلف في النهي، هل هو للتحريم أو للكرهة قولان: المشهور عند المالكية والراجح عند الشافعية الكراهة، ما لم يعتقد في المحلوف به من التعظيم، ما يعتقده في الله تعالى، وإلا فيكفر. والمشهور عند الحنابلة وبه جزم الظاهرية: التحريم (فمن كان حالفاً) أي: مريد الحلف (فليحلف بالله) قال الفقهاء ومثل لفظ الجلالة ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الأضاحي، باب: نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة وهو مريد التضحية ... ، (الحديث:42) . (¬2) كذا، ولعله (مؤلفنا) . ع.

وفي رواية في الصحيح: "فَمَنْ كَانَ حَالِفاً فَلاَ يَحْلِفْ إِلاَّ بِاللهِ، أَوْ لِيَسْكُتْ" (¬1) . 1706- وعن عبد الرحمان بن سَمُرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تَحْلِفُوا بِالطَّوَاغِي، وَلاَ بِآبَائِكُمْ". رواه مسلم. "الطَّواغِي": جَمْعُ طَاغِيَةٍ، وهِيَ الأصنَامُ. وَمِنْهُ الحَدِيثُ: "هذِهِ طَاغِيَةُ دَوْسٍ" أيْ: صَنَمُهُمْ وَمَعْبُودُهُمْ ـــــــــــــــــــــــــــــ ذات الله وصفاته العلية. قال الحافظ ويمكن أن يراد منه الذات لا خصوص لفظ الجلالة فيتناول ما ذكر (أو ليصمت) بضم الميم أي: يسكت بالقصد عن الحلف بغير الله تعالى، أي: مريد اليمين مخير بين الحلف بالله تعالى وترك الحلف بغيره والام فيهما للأمر ويجوز كسرها على الأصل وإسكانها تخفيفاً (متفق عليه) ورواه الترمذي والنسائي (وفي رواية في الصحيح) هي عند مسلم في الإِيمان والنذر، لكن ليس فيه قوله أو ليسكت (فمن كان حالفاً فلا يحلف) بالجزم على النهي وبالرفع خبر يعني النهي (إلا بالله أو ليسكت) الروايتان متلازمتان لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده وكذا عكسه أي: يستلزم كل الآخر. 1706- (وعن عبد الرحمن بن سمرة) بضم الميم تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب النهي عن سؤال الإِمارة (قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تحلفوا بالطواغي ولا بآبائكم) النهي عن الحلف بالأول على سبيل التحريم، وعن الثاني على سبيل التنزيل. ففيه استعمال اللفظ الموضوع للنهي في حقيقته ومجازه، ومن منع إطلاقه عليهما يقول: إنه مستعمل في معنى مجازي عام لهما هو طلب الترك لذينك (رواه مسلم) قال في الجامع الكبير: بعد أن أورده بلفظ "لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت" رواه أحمد والنسائي وابن ماجة من حديث عبد الرحمن بن سمرة وفيه حديث "لا تحلفوا بالطواغيت ولا تحلفوا بآبائكم واحلفوا بالله وإنه أحب إليه أن تحلفوا به ولا تحلفوا بشيء من دونه" رواه الطبراني عن حبيب بن سليمان بن سمرة عن أبيه عن جده، سكت فيه عن عز وحديث مسلم إليه في شرح مسلم للمصنف. قال أهل اللغة والغريب (الطواغي) بالطاء المهملة والغين المعجمة (جمع طاغية وهي الأصنام ومنه الحديث هذه طاغية دوس أي: صنمهم ومعبودهم) هذا لفظ النهاية بعينه ودوس بالدال والسين المهملتين بوزن قوس قبيلة معروفة، منها أبو هريرة قال في النهاية ويجوز أن يكون المراد بالطواغي من طغى في الكفر وجاوز القدر في الشر، وهم عظماؤهم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الأيمان، باب: لا تحلفوا بآبائكم وفي الشهادات وغيرها (11/461، 462) . وأخرجه مسلم في كتاب: الأيمان، باب: النهي عن الحلف بغير الله تعالى، (الحديث: 4) .

وَرُوِيَ في غير مسلم: "بِالطَّوَاغِيتِ" جَمعُ طَاغُوت، وَهُوَ الشَّيْطَانُ وَالصَّنَمُ (¬1) . 1707- وعن بُريدَةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَنْ حَلَفَ بِالأمَانَةِ فَلَيْسَ مِنَّا" حديث صحيح، رواه أَبُو داود بإسناد صحيح (¬2) . 1708- وعنه، قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ حَلَفَ فَقَالَ: إنِّي بَرِيءٌ مِنَ الإسْلاَمِ، فَإنْ كَانَ كَاذِباً، فَهُوَ كمَا قَالَ، وإنْ كَانَ صَادِقاً، فَلَنْ يَرْجِعَ إِلَى الإسْلاَمِ سَالِماً" ـــــــــــــــــــــــــــــ ورؤساؤهم (وروى في غير مسلم بالطواغيت) كما تقدم عن الجامع الكبير والطواغيت (جمع طاغوت وهو الشيطان) أو ما يزين لهم أن يعبدوه من دون الله (والصنم) قال في النهاية الطاغوت يكون واحداً وجمعاً. 1707- (وعن بريدة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لمن حلف بالأمانة) بفتح الهمزة وتخفيف الميم (فليس منا) أي: من ذوي طريقتنا. قال السيوطي نقلاً عن الخطابي: سببه أن اليمين لا تنعقد إلا بالله تعالى أو بصفاته، وليست منها الأمانة وإنما هي أمر من أمره وفرض من فروضه، فنهوا عنه لما يوهمه الحلف بها من مساواتها لأسماء الله وصفاته. وقال ابن رسلان أراد بالأمانة الفرائض أي: لا تحلفوا بالحج والصوم ونحوهما (حديث صحيح رواه أبو داود) في الإِيمان والنذور (بإسناد صحيح) رواه عن أحمد بن يونس عن زهير عن الوليد بن ثعلبة الطائي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه، وهو عند أحمد بلفظ "ليس منا من حلف بالأمانة" الحديث - قال السيوطي في الجامع الكبير: ورواه ابن حبان والحاكم في المستدرك. 1708- (وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حلف فقال إني بريء من الإِسلام، فإن كان كاذباً فهو كما قال، وإن كان صادقاً فلن يرجع إلي الإِسلام سالماً) المراد به التهديد والتشديد، وهذا يمين عند بعض الأئمة، فيه الكفارة. وعند الشافعي ومالك ليس بيمين، فلا تجب به كفارة. لكن قائله آثم. قال أصحابنا: إن قصد العزم على الكفر فهو كافر في ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الأيمان، باب: من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله (الحديث: 6) . (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب: الأيمان والنذور، باب: في كراهية الحلف بالأمانة، (الحديث: 3253) . وأحمد (5/352) .

رواه أَبُو داود (¬1) . 1709- وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّهُ سَمِعَ رَجُلاً يقُولُ: لاَ وَالكَعْبَةِ، فَقَالَ ابنُ عُمَرَ: لاَ تَحْلِفْ بَغَيْرِ اللهِ، فَإنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يقولُ: "مَنْ حَلَفَ بِغَيرِ اللهِ، فقد كَفَرَ أَوْ أشْرَكَ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن". وفَسَّرَ بَعْضُ العُلَمَاءِ قولَهُ: "كفَرَ أَوْ أشْرَكَ" عَلَى التَّغْلِيظِ، كما روي أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "الرِّياءُ شِرْكٌ" (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحال، وإن قصد الامتناع من ذلك المحلوف عليه أبداً ولم يقصد شيئاً فلا كفر، لكنه لفظ شنيع قبيح يستغفر الله تعالى من إثمه ويأتي بالشهادتين ندباً (رواه أبو داود) قال في الجامع الكبير رواه أحمد وأبو يعلى الموصلي والحاكم في المستدرك والدارقطني وسعيد بن منصور من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه. 1709- (عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رجلاً يقول لا والكعبة. فقال ابن عمر: لا تحلف بغير الله فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من حلف بغير الله فقد كفر أو) شك من الراوي (أشرك. رواه الترمذي وقال حديث حسن) قال في الجامع الكبير بعد إيراده بلفظ: "فقد أشرك من غير شك" رواه أبو داود الطيالسي وأحمد والشاشي أبو يعلى والطبراني والحاكم في المستدرك والدارقطني وابن منصور عن ابن عمر (قال) أي: الترمذي (وفسر بعض العلماء قوله كفر أو أشرك) أي: ليس المراد منه في الحديث ظاهره، وأنه ليس على حقيقته، لأن المعصية ولو كبيرة غير الكفر لا تخرج عن الإِيمان بل هو محمول (على التغليظ) من ترك ذلك والتنفير عنه (كما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الرياء) بالتحتية (شرك) فإنه معصية لا تخرج عن الإِيمان، بل هو محمول على التنفير عنه وتقدم أول الباب حمل آخر لهذا الحديث أي: من اعتقد في المحلوف به من العظمة مثل العظمة التي لله عز وجل ذكره الحافظ في فتح الباري. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: الأيمان والنذور، باب: ما جاء في الحلف بالبراءة وبمله غير الإسلام، (الحديث: 3258) . (¬2) أخرجه الترمذي في كتاب: النذور والأيمان، باب: ما جاء في كراهية الحلف بغير الله، (الحديث: 1535) .

وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الجَنَّةَ" فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإنْ كَانَ شَيْئاً يَسِيراً يَا رسولَ اللهِ؟ قَالَ: "وإنْ كَانَ قَضِيباً مِنْ أرَاكٍ" رواه مسلم (¬1) . 1712- وعن عبد اللهِ بن عمرو بن العاصِ رضي الله عنهما، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "الكَبَائِرُ: الإشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، واليَمِينُ الغَمُوسُ" ـــــــــــــــــــــــــــــ بحق ليعم المال والاختصاص؛ ومثل المسلم فيما ذكر الذمي. (بيمينه) أي: من أخذ حق من ذكر، بيمين هو فيه "فاجر مستحلاً لذلك. وقد علم الحرمة والإِجماع عليها (فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة، فقال له: رجل وإن كان) أي: المقتطع باليمين (شيئاً يسيراً) أي: يشمله هذا الوعيد الشديد (يا رسول الله قال وإن) بكسر الهمزة وسكون النون شرطية وصلية، والواو الداخلة عليها حالية. وقيل عاطفة، وجوابها محذوف لدلالة ما تقدم عليه؛ (قضيباً) فاعل فعل الشرط المقدر (¬2) أي: وإن اقتطع قضيباً (من أراك) والقضيب بالضاد المعجمة والتحتية والموحدة: الغصن المقطوع، فعيل بمعنى مفعول، جمعه قضبان: والأراك بفتح الهمزة وبالراء: شجر من الحمض يستاك بقضبانه، الواحدة أراكة. ويقال: هي شجرة طويلة ناعمة كثيرة الورق والأغصان، خوارة العود، ولها ثمر في عناقيد يسمى البرير، يملأ العنقود الكف. كذا في المصباح (رواه مسلم) في الإِيمان. ورواه النسائي في القضاء، وابن ماجة فيه أيضاً قاله المزي في الأطراف. 1712- (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الكبائر) الحصر إضافي، والسكوت على ما ذكره لدعاء الحال إليها وشدة أمرها وغلظه، وهي على الصحيح ما توعد عليه بالعذاب أو الغضب في الكتاب أو السنة (الإِشراك بالله) أي: الكفر بإشراك أو بغيره، وذكر الإشراك لأنه كان الغالب في عصره - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ كانوا يعبدون الأصنام، ويشركونها مع الله في الألوهية. (وعقوق الوالدين) أي: أن يفعل معهما أو مع أحدهما، ما يتأذى به عرفاً، تأذياً ليس بالهين (وقتل النفس) (¬3) أي: عدواناً (واليمين الغموس) بفتح الغين المعجمة: اسم فاعل لأنها تغمس صاحبها في الإِثم؛ لأنه حلف كاذباً على علم منه؛ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الأيمان، باب: وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فأجره بالنار (الحديث: 218 و219) . (¬2) في نسخ المتن (كان قضيباً) وعليه لا حذف. ع. (¬3) في بعض نسخ المتن (وقتل النفس التي حرم الله) . ع.

317- باب في العفو عن لغو اليمين وأنه لا كفارة فيه، وهو ما يجري على اللسان بغير قصد اليمين كقوله على العادة: لا والله، وبلى والله، ونحو ذلك

وَلاَ يُكَفِّرُ، وَقَولُهُ: "آثَمُ" هُوَ بالثاء المثلثة، أيْ: أَكْثَرُ إثْماً (¬1) . 317- باب في العفو عن لغو اليمين وأنَّه لا كفارة فِيهِ، وَهُوَ مَا يجري عَلَى اللسان بغير قصد اليمين كقوله عَلَى العادة: لا والله، وبلى والله، ونحو ذَلِكَ قَالَ الله تَعَالَى (¬2) : (لاَ يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ في أَيْمَانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ ـــــــــــــــــــــــــــــ يتمادى فيها ولا يكفر) بتركه الخير المحلوف على تركه (وقوله آثم) بالمد و (بالثاء المثلثة) أفعل تفضيل (أي: أكثر إثماً) قال العاقولي: أصله أن يطلق للأج الإِثم، فأطلقه للجاج الموجب للإثم على سبيل الاتساع. باب العفوعن لغو اليمين وأنه لا كفارة فيه وهو أي: لغو اليمين عند إمامنا الشافعي وأصحابه: (ما يجري على اللسان بغير قصد اليمين) وكذا ما تكلم به جاهلاً لمعناه، كما قال البيضاوي، وذهبت الحنفية إلى أنه الحلف على ما يظن أنه كذلك، ولم يكن (كقوله على العادة لا والله وبلى والله ونحو ذلك) من الألفاظ التي يعتاد الحلف بها، إذا صدرت من غير قصد اليمين. (قال الله تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) أي: إذا حنثتم أو بنكث اللغو (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان) بما وثقتم الأيمان عليه بالقصد والنية، والمعنى ولكن يؤاخذكم بما قدمتم، إذا حنثتم، أو ينكت ما عقد (فكفارته) أي: كفارة نكثه أي: الفعلة التي تذهب إثمه وتستره (إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم) من اقصده في النوع والقدر، وهو مد لكل مسكين عندنا. ومحله النصب صفة لمفعول محذوف، تقديره أن تطعموا عشرة مساكين، طعاماً من أوسط ما تطعمون، أو الرفع على البدل من إطعام. وقرىء "أهاليكم" بسكون الياء، على لغة من يسكنها في الأحوال الثلاث، كالألف. وهو جمع أهل، كالليالي في جمع ليل. (أو كسوتهم) عطف على إطعام، أو من أوسط أن جعل بدلاً وقرىء بضم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في فاتحة كتاب الأيمان (11/452، 453) . وأخرجه مسلم في كتاب: الأيمان، باب: النهي عن الإصرار على اليمين فيما يتأذى به أهل الحالف مماليس بحرام، (الحديث: 26) . (¬2) سورة المائدة، الآية: 89.

أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أيْمَانَكُمْ) . 1717- وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: أُنْزِلَتْ هذِهِ الآية: (لاَ يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ في أَيْمَانِكُمْ) في قَوْلِ الرَّجُلِ: لا واللهِ، وَبَلَى واللهِ. رواه البخاري (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الكاف وهو كعروة. وقرىء كأسوتهم، بمعنى أو كمثل ما تطعمون أهليكم إسرافاً أو تقتيراً تساوون بينهم وبينكم، إن لم تطعموهم الأوسط. والكاف في محل الرفع، وتقديره أو إطعامهم كأسوتهم (أو تحرير رقبة) أي: إعتاق إنسان، ومعنى "أو" إيجاب إحدى الخصال الثلاث مطلقاً، وتخيير المكلف في التعيين (فمن لم يجد) أي: واحداً منها (فصيام ثلاثة أيام) أي: فكفارته صيامها (ذلك) أي: المذكور (كفارة أيمانكم إذا حلفتم) أي: وحنثم (واحفظوا أيمانكم) بأن تصونوها ولا تبذلوها لكل امر، أو بأن تبروا فيها ما استطعتم ولم يفت بها خير، وبأن تكفروها إذا حنثتم. 1717- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أنزلت هذه الآية) وعطفت عليها عطف بيان قولها (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) (في قول الرجل) أي: الإِنسان، وخص لأنه الأشرف؛ (لا والله وبلى والله) مما جرت عادة الإِنسان بالإِتيان به في كلامه، من غير قصد لتحقق اليمين (أخرجه البخاري) (¬2) قال السيوطي في الدر المنثور: أخرجه مالك في الموطأ ووكيع والشافعي في الأم وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه والبيهقي في سننه من طرق، وفي الدر أخرج أبو داود وابن جرير وابن حبان وابن مردويه والبيهقي، من طريق عطاء بن أبي رباح: أنه سئل عن اللغو في اليمين فقال: قالت عائشة إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "هو كلام الرجل في يمينه كلا والله وبلى والله" ثم أخرج في الدر آثاراً أخر عن عائشة كذلك، موقوفة عليها. قال: وأخرج أبو الشيخ من طريق عطاء عن عائشة وابن عباس وابن عمرو، أنهم كانوا يقولون: اللغو لا والله وبلى والله. وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي عن عائشة أنها كانت تتأول هذه الآية (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) (¬3) وتقول: هذا الشيء يحلف عليه أحدكم لا يريد منه إلا الصدق، فيكون على غير ما حلف عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: التفسير/المائدة، باب: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك، (11/476) . (¬2) كذا في نسخ الشرح، وفي نسخ المتن (رواه) . ع. (¬3) سورة البقرة، الآية: 225.

319- باب في كراهة أن يسأل الإنسان بوجه الله - عز وجل - غير الجنة، وكراهة منع من سأل بالله تعالى وتشفع به

319- باب في كراهة أن يسأل الإنسان بوجه الله - عز وجل - غير الجنة، وكراهة منع من سأل بالله تعالى وتشفع به 1720- عن جابر - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ يُسْأَلُ بِوَجْهِ اللهِ الا الجَنَّةُ". رواه أبو داود (¬1) . 1721- وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ اسْتَعَاذَ بِاللهِ، فَأعِيذُوهُ، وَمَنْ سَأَلَ بِاللهِ، فأَعْطُوهُ، وَمَنْ دَعَاكُمْ، فَأَجِيبُوهُ، وَمَنْ صَنَعَ إلَيْكُمْ ـــــــــــــــــــــــــــــ باب كراهة أن يسأل الإِنسان بوجه الله غير الجنة أي: فإنه عظيم فلا ينبغي أن يسأل إلا ما كان كذلك من الجنة، التي هي دار الأحباب، والنظر إلى وجه الله الكريم ورضوانه، والرضوان الذي هو أشرف ما أعطوه (وكراهة منع من سأل بالله تعالى شيئاً) من الأمور الدنيوية، وإن ارتكب مكروهاً بسؤاله ذلك بوجه الله تعالى (و) من (تشفع به) أي: بالله تعالى وجعله وسيلة إلى المسئول منه متشفعاً به إليه. 1720- (عن جابر) بن عبد الله (رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يسأل) بالجزم على النهي التنزيهي. وبالرفع خبر بمعنى النهي (بوجه الله إلا الجنة) قال ابن رسلان قال الحليمي: هذا يدل على أن السؤال بالله يختلف، فإن كان السائل يعلم (¬2) أن المسئول إذا سأله بالله تعالى، اهتز لإِعطائه واغتنمه، جاز له سؤاله بالله تعالى. "قلت" وإن كان الأولى له تركه، لما فيه من استعمال اسم الله في غرض دنيوي، قال: وإن كان ممن يتلوى ويتضجر، ولا يأمن أن يرد، فحرام عليه أن يسأله. وقرر ذلك ثم قال: وأما المسئول فينبغي إذا سئل بوجه الله أن لا يمنع، ولا يرد السائل، وأن يعطيه بطيب نفس وانشراح صدر، لوجه الله تعالى (رواه أبو داود) والضياء من حديث جابر ورواه الطبراني من حديث بريدة. 1721- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من استعاذ بالله) أي: سأل العوذ والعصمة من شيء متوسلاً إليكم بالله مقسماً به عليكم قسماً استعطافياً، أي: من سألكم بالله أن تجيروه من شيء (فأعيذوه) أي: أجروه منه إجلالاً لمن استعاذ به (ومن سأل ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: الزكاة، باب: كراهية المسألة بوجه الله تعالى، (الحديث: 1671) . (¬2) في نسخة (ظن) بدل (يعلم) . ع.

320- باب في تحريم قوله: شاهنشاه للسلطان وغيره لأن معناه ملك الملوك، ولا يوصف بذلك غير الله سبحانه وتعالى

مَعْرُوفاً فَكَافِئُوهُ، فَإنْ لَمْ تَجِدُوا ما تُكَافِئُونَهُ بِهِ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَد كَافَأْتُمُوهُ". حديث صحيح رواه أبو داود والنسائي بأسانيد الصحيحين (¬1) . 320- باب في تحريم قوله: شاهنشاه للسلطان وغيره لأن معناه ملك الملوك، ولا يوصف بذلك غير الله سبحانه وتعالى ـــــــــــــــــــــــــــــ بالله) أي: شيء من جليل أو حقير ديني أو دنيوى أو علمي، كما يومىء إليه عموم حذف المعمول (فاعطوه) ي: إذا قدرتم عليه (ومن دعاكم فأجيبوه) أي: وجوباً إن كانت وليمة نكاح ولم يوجد شيء من الأمور المسقطة للوجوب، وإلا فسنة. وأوجب الظاهرية إجابة كل دعوى، وبه قال بعض السلف (ومن صنع إليكم معروفاً) هو اسم جامع لكل إحسان (فكافئوه) على إحسانه بمثله أو أحسن منه، قال الله تعالى (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) (¬2) حمله بعض المفسرين على المكافأة (فإن لم تجدوا ما تكافئونه) وفي نسخة بحذف النون، وهي لغة حكاها ابن مالك في التسهيل أي: حذفها لغير ناصب ولا جازم، والعائد محذوف أي: به. أو ما موصول حرفي أي: فإن لم تجدوا مكافأته. والمصدر بمعنى المفعول (فادعوا له) وأكثروا (حتى تروا أنكم قد كافأتموه) في المصباح كل شيء ساوى شيئاً حتى صار مثله فهو مكافىء له (حديث صحيح رواه أبو داود والنسائي بأسانيد الصحيحين) قال في الجامع الكبير: رواه الطيالسي وأحمد وأبو داود والنسائي والحكيم الترمذي والطبراني وابن حبان وأبو نعيم في الحلية، والحاكم في المستدرك، والدارقطني، كلهم من حديث ابن عمر، وإسنادهما الذي أشار إليه المصنف. فقد رواه أبو داود في أواخر الزكاة، عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عمر. ورواه في الأدب عن مسدد وسهل بن بكار، كلاهما عن أبي عوانة وقتيبة. ورواه النسائي في الزكاة عن قتيبة عن أبي عوانة كلاهما عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عمر. باب تحريم قول شاهانشاه (¬3) بالشين المعجمة فيهما (للسلطان وغيره) من الملوك والأمراء (لأن معناه) أي: اللفظ المركب المذكور (ملك الملوك ولا يوصف بذلك غير الله سبحانه وتعالى) فإطلاقه على ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: الزكاة، باب: عطيه من سأل بالله، (الحديث: 1672) . وأخرجه النسائي في كتاب: الزكاة، باب: من سأل بالله عز وجل، (الحديث: 2566) . (¬2) سورة النساء، الآية: 86. (¬3) في نسخة من المتن (شاهنشاه) في الموضعين بحذف الألف قبل النون فلعلها حذفت لحذفها لفظاً لالتقاء الساكنين. ع.

321- باب النهي عن مخاطبة الفاسق والمبتدع ونحوهما بسيد ونحوه

1722- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ أَخْنَعَ اسْمٍ عِنْدَ اللهِ - عز وجل - رَجُلٌ تَسَمَّى مَلِكَ الأَمْلاَكِ". متفق عليه. قال سُفيانُ بن عُيَيْنَةَ: "مَلِكُ الأَمْلاَكِ" مِثْلُ: شَاهِنْشَاهِ (¬1) . 321- باب النهي عن مخاطبة الفاسق والمبتدع ونحوهما بِسَيِّد ونحوه 1723- عن بُريَدَةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ ـــــــــــــــــــــــــــــ غير الله تعالى: وصف لذلك الغير، بوصف الخالق الذي لا يصح قيامه بغيره سبحانه، إنما وصف العبد الذلة والخضوع في العبودية. 1722- (عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن أخنع) بالمعجمة والنون والمهملة: من الخنوع وهو الذل أي: أدل (اسم عند الله عز وجل رجل) أي: اسم رجل (تسمى) بالفوقية (ملك الأملاك) أي: سمى نفسه ملك الأملاك (متفق عليه، قال سفيان بن عيينة) تقدم أن الأشهر، ضم كل من السين والعين المهملتين (ملك الأملاك) في التحريم المدلول عليه بالحديث (مثل شاهان شاه) من عكس التشبيه وذلك لأن ملك الأملاك هو المنصوص عليه، وشاهانشاه؛ هو المشبه والمقيس. قال السيوطي وشاه: هو الملك، وشاهان جمعه. وقدم على قاعدة العجم من تقديم المضاف إليه على المضاف. باب النهي عن مخاطبة الفاسق من أصر على معصية صغيرة أو أتى كبيرة (والمبتاع) أي: ذي البدعة، بالخروج عن اعتقاد الحق، الذي جاء به الكتاب والسنة إلى ما يزينه الشيطان (ونحوهما) من الظلمة وأعوانهم (بسيد ونحوه) مما يدل على تعظيمه، وذلك قياساً على ما في الحديث الآتي، لأن المعنى فيه تعظيم من أهانه الله، وذلك قدر مشترك بين المذكور فيه والمقيس عليه. 1723- (عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تقولوا للمنافق سيد) ومثله سائر ألفاظ التعظيم، ومحل النهي ما لم يحس من تركه، ضرراً، على نفسه أو أهله أو ماله، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: أبغض الأسماء إلى الله، (10/486) . وأخرجه مسلم في كتاب: الآداب، باب: تحريم التسمي بملك الأملاك، وبملك الملوك (الحديث: 30) .

323- باب في النهي عن سب الريح، وبيان ما يقال عند هبوبها

"لاَ تَسُبِّي الحُمَّى فَإنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ كَمَا يُذْهِبُ الكِيْرُ خَبَثَ الحَدِيدِ". رواه مسلم. "تُزَفْزِفِينَ" أيْ تَتَحَرَّكِينَ حَرَكَةً سَريعَةً، وَمَعْنَاهُ: تَرْتَعِدُ. وَهُوَ بِضَمِّ التاء وبالزاي المكررة والفاء المكررة، وَرُوِيَ أيضاً بالراء المكررة والقافينِ (¬1) . 323- باب في النهي عن سب الريح، وبيان ما يقال عند هبوبها ـــــــــــــــــــــــــــــ لا تسبي الحمى) أي: فإن الدعاء عليها ملازم لتنقيصها وتحقيرها، الذي به يكون السب، ففي الحديث استعارة مصرحة تبعية، وعلل النهي بقوله (فإنها تذهب خطايا بني آدم) أي: الصغائر المتعلقة بحق الله تعالى، فالخطايا في الحديث عام مخصوص (كما يذهب الكير) بكسر الكاف وسكون التحتية وبالراء: زق الحداد الذي ينفخ به. قال أبو عبيدة: الكور المبني من الطين، والكير بالياء الزق (خبث الحديد) بفتح المعجمة والموحدة وبالمثلثة. أي: وسخه الذي في ضمنه (رواه مسلم) وابن سعد وأحمد والبخاري في الأدب المفرد، وأبو يعلى وابن أبي الدنيا، في الكفارات، والبيهقي في الشعب (تزفزفين أي: تتحركين حركة سريعة ومعناه) أي: هذا اللفظ (ترتعد وهو) أي: تزفزفين (بضم التاء) الفوقية قال في شرح مسلم: وتفتح (وبالزاي المكررة والفاء المكررة) الأخصر وبالزاي والفاء المكررتين، ْفي قال في شرح مسلم: وهذا هو الصحيح المشهور في ضبط هذه اللفظة. وادعى عياض أنها رواية جمع رواة مسلم (وروي أيضاً بالراء المكررة) أي: مع الفاء حكاها المصنف عن بعض نسخ بلاده في شرح مسلم (وروي بالراء المكررة والقافين) قال المصنف: هي رواية في غير مسلم وحينئذ فكان على المصنف بيان ذلك هنا، لأنه إنما ذكر من المخرجين مسلماً، فيوهم أن هذه الثلاثة من جملة رواياته، وقد نبه على ذلك في شرح مسلم، ومعناه على الجميع تتحركين حركة شديدة، أي: ترعدين قاله المصنف. وقد فات المنذري في ترغيبه، حكاية لغة القاف، وقال: إن رواية الراء والفاء مقاربة لرواية الزاي والفاء، أي: ترعدين وحكاه كذلك عن النهاية أي: ترتعد من البرد. باب النهي عن سب الريح وبيان ما يقال عند هبوبها بيان معطوف على النهي وهو نهي تنزيه. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن ... ، (الحديث: 53) .

1725- عن أبي المنذِرِ أُبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تَسُبُّوا الرِّيحَ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مَا تَكْرَهُونَ، فَقُولُوا: اللَّهُمَّ إنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هذِهِ الرِّيحِ وَخَيْرِ مَا فِيهَا وخَيْرِ مَا أُمِرَتْ بِهِ. وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ هذِهِ الرِّيحِ وَشَرِّ مَا فِيهَا وَشَرِّ مَا أُمِرَتْ بِهِ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" (¬1) . 1726- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "الرِّيحُ مِنْ رَوحِ اللهِ، تَأتِي بِالرَّحْمَةِ، وَتَأتِي بِالعَذَابِ، فَإذَا رَأَيْتُمُوهَا فَلاَ تَسُبُّوهَا، وَسَلُوا اللهَ خَيْرَهَا، وَاسْتَعِيذُوا باللهِ مِنْ شَرِّهَا". رواه أبو داود بإسناد حسن. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مِنْ رَوْحِ اللهِ" هو بفتح الراء: ـــــــــــــــــــــــــــــ 1725- (عن أبي المنذر) بصيغة الفاعل من الإنذار، كنية (أبي) بضم الهمزة وفتح الموحدة وتشديد التحتية (ابن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تسبوا الريح) لأنها مسخرة مذللة فيما خلقت له (فإذا رأيتم ما تكرهون) أي: من عصفها وشدتها (فقولوا اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها) أي: المرتب عليها من جمع السحاب الناشىء عنه الغيث وحسن الكلأ، أو الخير الذي فيها من تسيير، نحو السفن بها (وخير ما أمرت) بصيغة المجهول، والتاء للتأنيث، ونائب الفاعل مستتر وقوله (به) متعلق به (ونعوذ بك من شر هذه الريح) لكونها عاصفة أو ريحاً مهلكة؛ (وشر ما فيها وشر ما أمرت به) أي: من إهلاك ما مرت عليه، كريح عاد التي لم تمر على شيء، إلا جعلته كالرميم (رواه الترمذي) في الفتن من جامعه (وقال: حديث حسن صحيح) رواه النسائي في عمل اليوم والليلة، وأشار إلى الاختلاف على أبي: في رفعه ووقفه. 1726- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: الريح من روح الله) أي: يرسلها من رحمته لعباده ولطفه بهم (تأتي بالرحمة) أي: لمن أراد الله رحمته (وتأتي بالعذاب) أي: لمن أراد الله عذابه (فإذا رأيتموها فلا تسبوها) أي: لأنها مأمورة بما تجيء به من رحمة وعذاب (وسلوا الله خيرها) أي: من خير ما أرسلت به (واستعيذوا بالله من شرها) أي: من شر ما أرسلت به (فإنها مأمورة رواه أبو داود بإسناد حسن) ورواه البخاري في الأدب المفرد، والحاكم في المستدرك (قوله - صلى الله عليه وسلم - من روح الله هو بفتح الراء) ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب: الفتن، باب: ما جاء في النهي عن سب الرياح (الحديث 2252) .

الصُّبْحِ بِالحُدَيْبِيَّةِ في إثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فقالَ: "هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ؟ " قالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ. قال: "قالَ: أصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي، وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالكَوْكَبِ، وأَما مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوءِ كَذَا وَكَذَا، فَذلكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ ـــــــــــــــــــــــــــــ الصبح) فيه مشروعية الجماعة في السفر في المكتوبات، وإن كان طلبها فيه دونه في الحضر للمشقة فيه (بالحديبية) بضم المهملة الأولى، وفتح الثانية وسكون التحتية وكسر الموحدة. قال في المصباح: أهل الحجاز يخففون التحتية أي: التي بعد الباء. قال الطرطوشي بالتخفيف. وقال أحمد بن يحيى: لا يجوز فيها غيره. وهذا هو المنقول عن الشافعي. وقال السهيلي: التخفيف أعرف عند أهل العربية. قال: وقال أبو جعفر النحاس: سألت كل من لقينا ممن أثق بعلمه، من أهل العربية، عن الحديبية فلم يختلفوا على أنها مخففة. ونقل البكري التخفيف عن الأصمعي أيضاً. وأشار بعضهم إلى أن التثقيل، سمع من فصيح، ووجه في المصباح بما يؤول لضعفه، وهي بين مغرب مكة على عريق جدة دون مرحلة من مكة بينها، وبين مكة عشرة أميال (على إثر) بكسر فسكون للمثلثة وبفتحتين (سماء) أي: مطر كانت من الليل، والتأنيث باعتبار لفظ سماء المؤنثة تأنيثاً لفظياً. قال في المصباح: السماء المطر مؤنثة لأنها بمعنى السحاب (فلما انصرف) أي: من الصلاة بإتمامها (أقبل على الناس فقال: هل تدرون) أي تعلمون (ماذا قال ربكم) أي: قولاً نفسياً فاعله بذاته (قالوا الله ورسوله أعلم) ردوا ذلك لهما لزوماً للأدب، ووقوفاً عند حد العلم، وخروجاً عن مجاوزته (قال) أي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قال) أي: الله تعالى (أصبح من عبادي) الإضافة للاستغراق (مؤمن بي وكافر) أي: بي وحذف اكتفاء بدلالة ما قبله عليه، وإيماء إلى أن القبيح لا ينبغي أن يؤتى معه بنسبته إليه، مبالغة في أدب الخطاب معه، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته إن كان المراد منها الفضيلة فالعطف تفسيري وإن أريد بها إرادته فعطف مغايرة (فذلك مؤمن بي) إذا أضاف الأمور إلى خالقها الموجد لها (كافر بالكوكب) أي: بنسبة إحداثها لشيء فإنه لا أثر لغير الله في شيء أصلاً، وأفرد الكوكب مراداً به الجنس، المدلول عليها بأل الداخلة عليه (وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا) كناية عما يضاف إليه النوء من النجوم غالباً (فذلك كافر بي) كفراً حقيقياً إن اعتقد أن النوء موجد للمطر حقيقة، وإلا فكافر للنعمة إن لم يعتقد ذلك، وأسند ما لله لغيره (مؤمن بالكوكب) قال ابن النحوي في لغات ابن المنهاج في النوء: كلام طويل لخصه ابن الصلاح، حيث قال: النوء في أصله ليس هو نفس الكوكب فإنه مصدر ناء النجم ينوء أي: سقط وغاب وقيل أتي: طلع ونهض، بيان ذلك: أنها أربعة

326- باب في تحريم قوله لمسلم: يا كافر

بِالكَوْكَبِ". متفق عليه. وَالسَّماءُ هُنَا: المَطَرُ (¬1) . 326- باب في تحريم قوله لمسلم: يا كافر 1730- عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إذَا قَالَ الرَّجُلُ لأَخِيهِ: يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا، فَإنْ كانَ كَمَا قَالَ وَإلاَّ رَجَعَتْ عَلَيْهِ" متفق عليه (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعشرون نجماً معروفة الطالع في السنة كلها، وهي معروفة بمنازل القمر الثماني والعشرين، يسقط في ثلاث عشرة ليلة منها نجم في المغرب مع طلوع الفجر، ويطلع آخر مقابله من المشرق من ساعته، فكان أهل الجاهلية إذا كان عند ذلك مطر، ينسبونه إلى الساقط الغارب منها. وقال الأصمعي: إلى الطالع منها قال أبو عبيدة: لم يسمع أن النوء السقوط، إلا في هذا الموضع. ثم إن النجم نفسه قد يسمى نوءاً، تسمية للفاعل بالمصدر. وقال أبو إسحاق الزجاج في بعض أماليه الساقطة في المغرب: هي الأنوار الطالعة، هي البواح في المحكم، بعضهم يجعل النوء السقوط، كأنه من الأضداد اهـ. (متفق عليه) ورواه أبو داود والنسائي (والسماء هنا المطر) ظاهر كلام المصباح أنه إطلاق حقيقي. باب تحريم قوله أي: المكلف (لمسلم يا كافر) . 1730- (عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا قال الرجل) أي: المكلف كما تقدم مراراً، والمراد المسلم الأخيه) أي: في الإِسلام (يا كافر) بالبناء على الضم (فقد باء) بالمد وبعد الألف همزة أي: رجع (بها) أي: الكلمة المذكورة، أي: بمعناها (أحدهما) وفصله بقوله (فإن كان) أي: المقول له (كما قال) أي: كافراً بأن ارتكب مكفراً وجواب الشرط محذوف أي: فهو من أهلها (وإلا) أي: وإن لم يكن المقول له كذلك بأن كان على الإِسلام ولم يأت بمضاده (رجعت عليه) أي: القائل، أي: إن كان أطلق على الإِيمان أنه كفر، وأراد أن ذلك لاتصافه به، كافر (متفق عليه) . ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الآذان، باب: يستقبل الإِمام الناس إذا سلَّم وأخرجه في الاستسقاء والمغازي، (2/433، 434) . وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان كفر من قال مطرنا بالنوء، (الحديث: 125) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: من كفر اخاه من غير تأويل، (10/428) .

328- باب في كراهة التقعير في الكلام والتشدق فيه وتكلف الفصاحة واستعمال وحشي اللغة ودقائق الإعراب في مخاطبة العوام ونحوهم

بالطَّعَّانِ، وَلاَ اللَّعَّانِ، وَلاَ الفَاحِشِ، وَلاَ البَذِيِّ" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (¬1) . 1733- وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَا كَانَ الفُحْشُ فِي شَيْءٍ إلاَّ شَانَهُ، وَمَا كَانَ الحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إلاَّ زَانَهُ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (¬2) . 328- باب في كراهة التقعير في الكلام والتشدُّق فيه وتكلف الفصاحة واستعمال وحشي اللُّغة ودقائق الإعراب في مخاطبة العوام ونحوهم ـــــــــــــــــــــــــــــ إلا بالتوقيف (ولا الفاحش ولا البذيء) بفتح أوله وكسر المعجمة والياء ساكنة بعدها همزة من عطف العام على الخاص (رواه الترمذي وقال حديث حسن) ورواه أحمد، والبخاري في الأدب المفرد، وابن حبان، والحاكم في المستدرك. كذا في الجامع الصغير. 1733- (وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما كان) أي: وجد لفحش بضم الفاء والشين المعجمة، أي مجاوزة الحد المعروف شرعاً وعرفاً في شيء متعلق بكان (إلا شأنه وما كان الحياء) بالمهملة المفتوحة والتحتية بعدها مد (في شيء إلا زانه) وذلك لأن ذا الحياء يدع ما يلام على فعله، فلا يلابس المعايب، وذا الفحش لا ينظر لذلك، فلا يزال ملابساً لها واقعاً فيها (رواه الترمذي وقال حديث حسن) ورواه أحمد والبخاري في الأدب، وابن ماجه. باب كراهة التقعير بالفوقية والقاف والعين المهملة (في الكلام) قال في القاموس: قعر في كلامه تقعر وتعرق، تشدق وتكلم بأقصى فمه، وهو نحو قول المصنف (والتشدق) في القاموس، تشدق لوى شدقه للتفصح، وتكلف الفصاحة أي: محاولتها من غير ملكة فيه لها (واستعمال ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في اللعنة، (الحديث: 1977) . (¬2) أخرجه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في الفحش والتفحش، (الحديث: 1974) .

1734- عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ" قَالَهَا ثَلاَثاً. رواه مسلم. "المُتَنَطِّعُونَ": المُبَالِغُونَ فِي الأمُورِ (¬1) . 1735- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أنَّ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ اللهَ يُبْغِضُ البَلِيغَ مِنَ الرِّجَالِ الَّذي يَتَخَلَّلُ بِلِسَانِهِ كَمَا تَتَخَلَّلُ البَقَرَةُ". رواه أبو داود والترمذي، وقال: "حديث حسن" (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وحشي اللغة) أي: اللفظ الذي لا يعرف معناه الموضوع له لغة، إلا علماؤها ونخفي ذلك على العامة) ، (دقائق الأعراب) أي يأتي بتركيب يتوقف تخريجه على دقائق العربية، واستعمال الفكر فيها (في مخاطبة العوام ونحوهم) ظرف لغو متعلق باستعمال أي: إن استعمال وحشي اللغة ودقائق العربية، إنما يكره إذا صدر مع العوام. أما مع غيرهم فلا كما فعل صاحب المشارق في خطبة كتابه، وصاحب القاموس في خطبته، والعيني في خطبة شرح شواهده، ونحو العوام من لم يشتغل باللغة والإعراب من أهل بعض العلوم، التي اشتغلوا بها فخرجوا بذلك عن جملة العوام. 1734- (عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: هلك المتنطعون قالها) أي: هذه الجملة (ثلاثاً) للتأكيد في التنفير منه (رواه مسلم) ورواه أحمد وأبو داود (المتنطعون) بصيغة الفاعل من التنطع بالفوقية فالنون فالطاء فالعين المهملتين (المبالغون في الأمور) وقال الخطابي: هم المتعمقون في الشيء المتكلف البحث عنه، على مذاهب أهل الكلام، الداخلون فيما لا يعنيهم، الخائضون فيما لا تبلغه عقولهم. وقال في النهاية: المتعمقون هم المتغالون في الكلام، المتكلمون بأقصى حلوقهم، مأخوذ من النطع وهو الغار الأعلى من الفم، ثم استعمل في كل تعمق قولاً أو فعلاً. 1735- (وعن عبد الله بن عمرو العاص رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله يبغض) بالتحتية: البغض مراد به هنا، غايته من الخذلان أو ذكره بأرذل الأوصاف في عالم الملكوت، أو إرادة ذلك مجازاً مرسلاً (البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة) الموصول صفة مقيدة لما قبله. قال في النهاية أي: الذي يتشدق بلسانه في الكلام، ويلفه كما تلف البقرة الكلأ بلسانها لفاً (رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن) ورواه ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: العلم، باب: هلك المتنطعون، (الحديث: 7) . (¬2) أخرجه أبو داود وكتاب: الأدب، باب: ما جاء في المتشدق في الكلام، (الحديث 5005) . =

329- باب في كراهة قوله: خبثت نفسي

1736- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إنَّ مِنْ أحَبِّكُمْ إِلَيَّ، وأقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِساً يَومَ القِيَامَةِ، أحَاسِنكُمْ أَخْلاَقَاً، وإنَّ أَبْغَضَكُمْ إلَيَّ، وأبْعَدَكُمْ مِنِّي يَومَ القِيَامَةِ، الثَّرْثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ وَالمُتَفَيْهِقُونَ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن". وقد سبق شرحه في بَابِ حُسْنِ الخُلُقِ (¬1) . 329- باب في كراهة قوله: خَبُثَتْ نَفْسي 1737- عن عائشة رضي الله عنها، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ ـــــــــــــــــــــــــــــ أحمد. 1736- (وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن من) للتبعيض (أحبكم) أي: أكثركم محبوبية (إلي واقربكم مني مجلساً يوم القيامة) ظرف لا قرب، ويحتمل أن يكون لما قبله أيضاً، وتعلم أحبيتهم له في الدنيا من غير هذا، إذ السكوت على الشيء لا ينفيه (أحاسنكم أخلاقاً وإن أبغضكم) أي: أكثركم بغضاً (إلي) ولعل الخطاب للمؤمنين الحاضرين، فلا ينافي أن الكافرين أبغض إليه مطلقاً (وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون) بالمثلثتين المفتوحتين بينهما راء ساكنة وبعد الألف راء أخرى (والمتشدقون) بضم الميم وفتح الفوقية والشين المعجمة والدال المهملة وبالقاف (والمتفيهقون) لصيغة الفاعل مصغر من التفهق (رواه الترمذي وقال: حديث حسن وقد سبق شرحه في باب حسن الخلق) فقال: ثمة الثرثار كثير الكلام تكلفاً، والمتشدق المتطاول على الناس بكلامه ويتكلم بملء فيه تفاصحاً وتعظيماً لكلامه، والمتفيهق أصله من الفهق، وهو الامتلاء، وهو الذي يملأ فمه بالكلام، ويتوسع فيه ويعرب به تكبراً وارتفاعاً وإظهاراً للفضيلة على غيره. باب كراهة قوله أي: القائل المكلف (خبثت) بفتح المعجمة وضم الموحدة وبالمثلثة (نفسي) الكراهة تنزيهية. 1737- (عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يقولن أحدكم خبثت نفسي) ¬

_ = وأخرجه الترمذي في كتاب: الأدب، باب: ما جاء في الفصاحة والبيان، (الحديث: 2853) . (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في معالى الأخلاق، (الحديث: 2081) .

330- باب في كراهة تسمية العنب كرما

خَبُثَتْ نَفْسي، وَلكِنْ لِيَقُلْ: لَقِسَتْ نَفْسي" متفق عليه. قالَ العُلَمَاءُ: مَعْنَى "خَبُثَتْ": غَثَتْ، وَهُوَ مَعْنَى: "لَقِسَتْ" وَلَكِنْ كَرِهَ لَفْظَ الخُبْثِ (¬1) . 330- باب في كراهة تسمية العنب كرماً 1738- عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تُسَمُّوا العِنَبَ الكَرْمَ، فَإنَّ الكَرْمَ المُسْلِمُ" متفق عليه، وهذا لفظ مسلم. وفي رواية: ـــــــــــــــــــــــــــــ صرف النهي المؤكذ بالنون عن التحريم قوله (ولكن ليقل لقست نفسي) فإن اللفظين بمعنى، كما يأتي في النهي عن المنهي عنه للتنزيه لقبح اللفظ (متفق عليه) والحديث رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديثها، ورواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن السني، في عمل اليوم والليلة: من طرق من حديث سهل بن حنيف، واقتصر النسائي على قوله: عن أبي أسامة بن سهل بن حنيف ولم يقل عن أبيه. ورواه الطبراني من حديث جبير بن مطعم، ورواه الدارقطني في الأفراد من حديث أبي هريرة اهـ. ملخصاً من الجامع الكبير (قال العلماء) نقله السيوطي عن الخطابي (معنى خبثت غثيت) بالمعجمة والمثلثة (وهو بمعنى لقست ولكن كره) بالبناء للفاعل أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بالبناء للمفعول (لفظ الخبث) لبشاعته قال الخطابي: فعلمهم الأدب في النطق، وأرشدهم إلى استعمال اللفظ الحسن وهجران القبيح منه. باب كراهة تسمية العنب كرما بفتح الكاف وسكون الراء. 1738- (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تسموا العنب الكرم) أي: لا تطلقوا عليه هذا اللفظ (فإن الكرم المسلم متفق عليه) ورواه أبو داود بلفظ: "لا يقولن أحدكم الكرم فإن الكرم الرجل المسلم" (وهذا لفظ مسلم) في رواية له وبمعناها لفظ البخاري (وفي رواية) أخرى لمسلم (فإنما الكرم قلب المؤمن وفي رواية للبخاري ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب. لا يقل، خبث نفسي، (10/465) . وأخرجه مسلم في كتاب: الألفاظ من الأدب وغيرها، باب: كراهة قول الإِنسان: خبثت نفسي، (الحديث: 16) .

"فَإنَّمَا الكَرْمُ قَلْبُ المُؤمِنِ". وفي رواية للبخاري ومسلم: "يَقُولُونَ الكَرْمُ، إنَّمَا الكَرْمُ قَلْبُ المُؤْمِنِ" (¬1) . 1739- وعن وائلِ بنِ حُجرٍ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لاَ تَقُولُوا: الكَرْمُ، وَلكِنْ قُولُوا: العِنَبُ، والحَبَلَةُ". رواه مسلم. "الحَبَلَةُ" بفتح الحاء والباء، ويقال أيضاً بإسكان الباء (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومسلم: "يقولون الكرم وإنما الكرم قلب المؤمن" قال ابن الجوزي في جامع المسانيد: إنما نهى عن هذا، لأن العرب كانوا يسمونها كرماً لما يدعون من إحداثها في قلوب شاربيها من الكرم، فنهى عن تسميتها بما تمدح به لتأكيد ذمها وتحريمها، وعلم أن قلب المؤمن لما من نور الإيمان أولى بذلك الاسم. 1739- (وعن وائل) بكسر الهمزة (بن حجر) بضم المهملة وسكون الجيم (رضي الله عنه) كان من ملوك حمير، ويقال للملك منهم قيل وكان أبوه من ملوكهم وفد وائل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبشر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بقدومه قبل وصوله بأيام. وقال يأتيكم وائل بن حجر، من أرض بعيدة من حضرموت طائعاً راغباً في الله عز وجل وفي رسوله، وهو بقية الأقيال، فلما دخل عليه رحب به، وأدناه من نفسه، وبسط له رداءه، وأجلسه إليه مع نفسه، وقال: اللهم بارك في وائل وولده، وأصعده معه على المنبر وأثنى عليه واستعمله على بلاده وأقطعه أرضاً، وأرسل معه معاوية بن أبي سفيان، وقال: أعطه إياها. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى وسبعون حديثاً، روي مسلم منها ستة، ولم يرو البخاري له شيئاً. نزل الكوفة وعاش إلى أيام معاوية، ووفد عليه فأجلسه معه على السرير، وشهد مع على صفين، وكانت معه راية حضرموت اهـ. ملخصاً من التهذيب للمصنف (عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تقولوا الكرم) واستدرك مما يوهمه النهي عن إطلاق الكرم عليها من نفي تسميتها باسم قوله (ولكن قولوا العنب والحبلة) مما لا مدح فيها ولا زائد على تعين المسمى (رواه مسلم الحبلة بفتح الحاء) المهملة (والباء) الموحدة (ويقال أيضاً بإسكان الباء الموحدة) في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما الكرم قلب المؤمن (10/465، 467) . وأخرجه مسلم في كتاب: الألفاظ من الأدب وغيرها، باب: كراهة تسمية العنب كرماً، (الحديث: 8) . (¬2) أخرجه مسلم في كتاب: الألفاظ من الأدب وغيرها، باب: كراهة تسمية العنب كرماً، (الحديث: 11 و12) .

331- باب في النهي عن وصف محاسن المرأة لرجل إلا أن يحتاج إلى ذلك لغرض شرعي كنكاحها ونحوه

331- باب في النهي عن وصف محاسن المرأة لرجل إلاَّ أن يحتاج إلى ذلك لغرض شرعي كنكاحها ونحوه 1740- عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تُبَاشِرِ المَرْأَةُ المَرْأَةَ، فَتَصِفَهَا لِزَوْجِهَا كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إلَيْهَا". متفق عليه [لَا بَلْ فِي الْبُخَارِيِّ] (¬1) . 332- باب في كراهة قول الإنسان: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إنْ شِئْتَ بل يجزم بالطلب ـــــــــــــــــــــــــــــ القاموس الحبلة محركة شجر العنب وربما سكن، فأفاد أن الإِسكان قليل، وأومأ إلى أن الحبلة واحد، والحبل بحذف الهاء اسم جنس جمعي فهو كلبن ولبنة. باب النهي عن وصف محاسن المرأة لرجل، إلا أن يحتاج إلى ذلك، لغرض شرعي فقوله لغرض شرعي متعلق بالاحتياج المنفي ومثله بقوله (كنكاحها) فلا بأس بوصفها لمن يريد التزوج بها خصوصاً عند عدم تمكنه من رؤيتها (ونحو ذلك كالشراء) . 1740- (عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تباشر المرأة المرأة) أي: تمس بشرتها ببشرتها، فتعرف خصوبة بدنها ونعومته وما فيه من المحاسن الخفية (فتصفها) بالنصب في جواب النهي أو النفي (لزوجها كأنه ينظر إليها) جملة حالية من المجرور، وقال القاضي عياض: هو دليل لمالك في سد الذرائع فإن الحكمة في النهي خشية أن يعجب الزوج بالوصف المذكور، فيفضي ذلك إلى تطليق الواصفة أو إلى الافتتان بالموصوفة (متفق عليه) ورواه أحمد وأبو داود والترمذي. باب كراهة قول الإِنسان في الدعاء (اللهم اغفر لي إن شئت) بكسر الهمزة وتخفيف النون شرطية جوابها محذوف اكتفاء بدلالة سابقة عليه (بل يجزم بالطلب) وذلك لما في الإِتيان بذلك، من إيهام الاغتناء عن حصول المطلوب، وأنه يستوي عنده حصوله وعدمه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: النكاح، باب: لا تباشر المرأة المرأة، (9/296) .

1741- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إنْ شِئْتَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إنْ شِئْتَ، لِيَعْزِم المَسْأَلَةَ، فَإنَّهُ لاَ مُكْرِهَ لَهُ". متفق عليه. وفي رواية لمسلم: "وَلكِنْ لِيَعْزِمْ وَلْيُعَظمِ الرَّغْبَةَ فَإنَّ اللهَ تَعَالَى لاَ يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ أَعْطَاهُ" (¬1) . 1742- وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دَعَا أحَدُكُمْ فَلْيَعْزِم المَسْأَلَةَ، وَلاَ يَقُولَنَّ: اللَّهُمَّ إنْ شِئْتَ، فَأَعْطِنِي، فَإنَّهُ لاَ مُسْتَكْرِهَ لَهُ" ـــــــــــــــــــــــــــــ 1741- (عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت) أشار الداودي إلى حمل الكراهة على ما إذا أتى بذلك على سبيل الاستثناء، أما إذا أتى به على سبيل التبرك فلا كراهة. قال الحافظ: وهو جيد (بل ليعزم المسألة) قال العلماء: عزم المسألة الشدة في طلبها، والجزم به من غير ضعف في الطلب، ولا تعليق على مشيئه ونحوها. وقيل: هو حسن الظن بالله في الإجابة ومعنى الحديث استحباب الجزم في الطلب، وكراهة التعليق على المشيئة. قال العلماء: سبب كراهته أنه لا يتحقق استعمال المشيئة، إلا في حق من يتوجه عليه الإِكراه فيخفف عنه، ويعلم أنه لا يطلب منه ذلك الشيء إلا برضاه، والله منزه عن ذلك، وهو معنى قوله (فإنه لا مكره له) فليس للتعليق فائدة. وقيل: سبب الكراهة أن في هذا اللفظ سورة الاستغناء عن المطلوب والمطلوب منه. قال الحافظ: والأول أولى (متفق عليه) وعند مسلم "فإن الله صانع ما شاء لا مكره له". ورواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه (وفي رواية لمسلم ولكن ليعزم وليعظم الرغبة) شدة الطلب (فإن الله لا يتعاظمه) أي: لا يتعاظم عليه والصيغة للمبالغة (شيء أعطاه) أي: مطلوب كان من دنيوي وأخروي. 1742- (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة) ويثبت الدعاء (ولا يقولن اللهم إن شئت فأعطني) أي: لا يأتي بأداة التعليق في دعائه، وعلل ذلك بقوله (فإنه لا مستكره له) أي: لا مكره، والاستفعال يحتمل بقاؤه على بابه وأنه بمعنى الإفعال. قال ابن عبد البر: لا يجوز لأحد أن يقول اللهم أعطني إن شئت وغير ذلك ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: ليعزم المسألة، (11/118) . وأخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء..، باب: العزم بالدعاء ولا يقل إن شئت، (الحديث: 8 و9) .

333- باب في كراهة قول: ما شاء الله وشاء فلان

متفق عليه (¬1) . 333- باب في كراهة قول: ما شاء اللهُ وشاء فلان 1743- عن حُذَيْفَةَ بنِ اليمانِ - رضي الله عنه -، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لاَ تَقُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ وَشَاءَ فُلاَنٌ؛ وَلكِنْ قُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ شَاءَ فُلاَنٌ". رواه أبو داود بإسناد صحيح (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ من أمور الدين والدنيا، ولأنه كلام مستحيل لا وجه له، لأنه لا يفعل إلا ما يشاء، وظاهره حمل النهي على التحريم، وهو الظاهر، وحمل المصنف النهي على الكراهة، كما تقدم في الترجمة، قال الحافظ: وهو أولى (متفق عليه) قال ابن بطال: في الحديث: أنه ينبغي للداعي أن يجتهد في الدعاء ويكون على رجاء الإجابة ولا يقنط من الرحمة، فإنه يدعو كريماً، وقال ابن عيينة لا يمنع أحداً الدعاء ما يعلم من نفسه يعني من التقصير، فإن الله تعالى قد أجاب شر خلقه إبليس، إذ قال (انظرني إلى يوم يبعثون) (¬3) . باب كراهة قول ما شاء الله وشاء فلان أي: لما توهمه الواو من المشاركة في المشيئة وقتاً. ومشيئة الله تعالى قديمة أزلية، ومشيئة العبد حادثة ممكنة. 1743- (عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان) دفعاً للوهم المذكور. وحمل على الكراهة لأن الإِيهام المذكور مدفوع بالاعتقاد الراسخ من حدوث العبد وجميع شؤونه، وما كان كذلك لا يقارن القديم (ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان) لأن ثم: موضوعة للترتيب أي إن معطوفها بعد المعطوف عليه. والتراخي أي: بعده بمهلة (رواه أبو داود بإسناد صحيح) ورواه الطيالسي عن شعبة عن منصور عن عبد الله بن بشار الجهني الكوفي عن حذيفة. ورواه النسائي في عمل اليوم والليلة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: ليعزم المسألة (11/118) . وأخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: العزم بالدعاء ولا يقل إن شئت، (الحديث: 7) . (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: لا يقال خبثت نفسي، (الحديث: 4980) . (¬3) سورة الأعراف، الآية: 14.

334- باب في كراهة الحديث بعد العشاء الآخرة

334- باب في كراهة الحديث بعد العشاء الآخرة والمُرادُ بِهِ الحَديثُ الذي يَكُونُ مُبَاحاً في غَيرِ هذا الوَقْتِ، وَفِعْلُهُ وَتَرْكُهُ سواءٌ. فَأَمَّا الحَديثُ المُحَرَّمُ أو المَكرُوهُ في غير هذا الوقتِ، فَهُوَ في هذا الوقت أشَدُّ تَحريماً وَكَرَاهَةً. وأَمَّا الحَديثُ في الخَيرِ كَمُذَاكَرَةِ العِلْمِ وَحِكايَاتِ الصَّالِحِينَ، وَمَكَارِمِ الأخْلاَقِ، والحَديث مع الضَّيفِ، ومع طالبِ حَاجَةٍ، ونحو ذلك، فلا كَرَاهَة فيه، بل هُوَ مُسْتَحَبٌّ، وكَذَا الحَديثُ لِعُذْرٍ وعَارِضٍ لا كَراهَةَ فِيه. وقد تظاهَرَتِ الأحَاديثُ الصَّحيحةُ على كُلِّ ما ذَكَرْتُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب كراهة الحديث بعد العشاء الآخرة قيد به، دفعاً لتوهم أن المراد منها المغرب، فإنها تسمى بذلك لغة، وجاء النهي شرعاً (والمراد هنا الحديث الذي يكون مباحاً في غير هذا الوقت وفعله) من حد ذاته (وتركه سواء) والكراهة للوقت لما سيأتي (فأما الحديث المحرم أو المكر وه في غير هذا الوقت فهو في هذا أشد تحريماً وكراهة) لما انضم لوصفه الأصلي من كراهة الوقت لكن في كونه أشد حرمة في الأول، ما لا يخفى. لأنه فيه ليس بحرام حتى يقال انضمام الحرمة لمثلها أو رثت شدتها، أما شدة الكراهة فظاهرة (وأما الحديث في الخير كمذاكرة العلم وحكايات الصالحين ومكارم الأخلاق) عطف على الصالحين وحكاياتها، لما في الأول من إحياء العلم ومثله، بل أولى تدريسه حينئذ، وأما حكايات الصالحين فإنها من جنود الله لتقوية قلوب العباد، قال تعالى: (وكلاًّ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك) (¬1) وأما حكايات مكارم الأخلاق، فإنها تبعثه على التحلي بذلك الخلق والتخلي عن ضده (والحديث مع الضيف) أو الزوجة إيناساً لهما وإكراماً (ومع طالب حاجة) إعانة له على قضائها (ونحو ذلك) مما اشتمل على خير ناجز، ولو بعد الاختياري كالمنتظر جماعة ليعيد معهم العشاء، فلا يترك لدفع مفسدة متوهمة. وإلا المسافر (فلا كراهة فيه) لخبر أحمد: "لا سمر بعد العشاء إلا لمصلّ أو مسافر" (بل هو مستحب) لما فيه من المصلحة الناجزة (وكذا الحديث لعارض وعذر فلا كراهة فيه) ثم تارة يكون واجباً كإنذار غافل من مهلك، وتارة مندوباً بحسب ثمرته ونتيجته (وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على ما ذكرنا) من التفصيل المذكور. ¬

_ (¬1) سورة هود، الآية: 120.

1744- عن أبي بَرْزَةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكرهُ النَّومَ قَبْلَ العِشَاءِ والحَديثَ بَعْدَهَا. متفقٌ عليه (¬1) . 1745- عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى العِشَاء في آخِرِ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قال: "أرأيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هذِه؟ فَإنَّ عَلَى رَأسِ مِئَةِ سَنَةٍ لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ علَى ظَهْرِ الأرْضِ اليَومَ ـــــــــــــــــــــــــــــ 1744- (وعن أبي برزة) بفتح الموحدة وسكون الراء وبالزاي فالهاء نضلة بنون ثم ضاد معجمة بوزن ضربة ابن عبد الله، وقيل ابن نيار، وقيل: كان اسمه نضلة بن نيار، فسماه رسول الله وبرزة (رضي الله عنه) أسلم قديماً، وقد شهد فتح مكة. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستة وأربعون حديثاً اتفقا على اثنين منها، وانفرد البخاري باثنين ومسلم بأربعة، نزل البصرة وتوفي بها، وقيل: بل بخراسان في خلافة معاوية أو يزيد سنة ستين، وقيل: أربع وستين، ولا يكنى بأبي برزة من الصحابة غيره (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكره النوم قبل العشاء) لئلا يعرضها للفوات (والحديث بعدها) أي: بعد دخول وقتها وفعلها فيه، ومثله قدر ذلك إن جمع تقديماً لا قبل ذلك، لأنه ربما فوتته صلاة الليل وأول وقت الصبح أو جميعه، وليختم عمله بأفضل الأعمال. وقضية الأول. في كراهيته قبلها أيضاً، لكن فرق الأسنوي بأن إباحة الكلام قبلها، ينتهي بالأمر بإيقاعها في وقت الاختيار، وأما بعدها فلا ضابط له، فكان خوف الفوات فيه أكثر (متفق عليه) . 1745- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء في آخر حياته) أي: في أواخرها، فقد جاء أنه كان قبل وفاته - صلى الله عليه وسلم - بشهر (فلما سلم قال: أرأيتكم) بفتح التاء أي: أخبروني استفهام وتعجب، والكاف لتأكيد الفاعل، لا محل له من الإعراب، وهو من وضع، السبب موضع المسبب، فإنه وضع الاستفهام عن العلم، موضع الاستخبار، ولا يخبر عن الشيء إلا العالم به (ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة) أي: منها (لا يبقي ممن هو على ظهر الأرض اليوم) أي: في زمن التكلم بذلك، وفي رواية (أحد) أي من الموجودين من الإِنس حينئذ. وأخذ بعضهم منه موت الخضر وإلياس. وأجاب من قال بتعميرهما، أنهما لم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: مواقيت الصلاة، باب: ما يكره من النوم قبل العشاء (2/41) . وأخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها ... ، (الحديث:237) .

أحَدٌ". متفق عليه (¬1) . 1746- وعن أنس - رضي الله عنه -: أنَّهم انتظروا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَجَاءهُمْ قَريباً مِنْ شَطْرِ اللَّيْلِ فَصَلَّى بِهِمْ - يَعْنِي: العِشَاءَ - ثمَّ خَطَبنا فقالَ: "ألاَ إنَّ النَّاسَ قَدْ صَلُّوا، ثُمَّ رَقَدُوا، وَإنَّكُمْ لَنْ تَزَالُوا فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرْتُمُ الصَّلاَةَ". رواه البخاري (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ يكونا حينئذ على وجهها ولعلهما في البحر. وقال: المراد لا يبقى ممن يرونه أو يعرفونه، فهو عام أريد به الخصوص، قيل احترز بالأرض عن الملائكة، وقالوا خرج عيسى من ذلك، وهو حي لأنه في السماء، وإبليس لأنه في الهواء والماء. قال الحافظ: والحق أن أل في الأرض للعموم وأنها تتناول جميع بني آدم، وكان كما أخبر - صلى الله عليه وسلم - فإن آخر من ضبط ممن كان موجوداً أبو الطفيل عامر بن وائلة، وقد أجمع العلماء على أنه آخر الصحابة موتاً. وغاية ما قيل فيه: أنه مات سنة مائة وعشرة. وذلك رأس مائة سنة من مقالته - صلى الله عليه وسلم - اهـ. (متفق عليه) فيه دليل على جواز الحديث بعدها إذا كان في الخير كتعلم العلم. وصح أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحدثهم عامة ليلهم عن بني اسرائيل. 1746- (وعن أنس رضي الله عنه أنهم) أي: الصحابة (انتظروا النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاءهم قريباً من شطر الليل) أي: نصفه (فصلى بهم يعنى العشاء) جملة مستأنفة لبيان تلك الصلاة المنتظرة (قال: ثم خطبنا) هو موضع الترجمة، لأنه خطبهم. بعد أن صلى بهم العشاء؛ ففيه جواز التكلم، بل ندبه، بالخير بعد صلاة العشاء (فقال ألا) بتخفيف اللام أداة استفتاح (إن الناس قد صلوا ثم رقدوا وإنكم لن تزالوا في صلاة ما) مصدرية ظرفية (انتظرتم الصلاة) أي: مدة انتظاركم إياها، وجملة وإنكم معطوفة على جملة إن الناس، أي إنهم يحصل لهم الأجر في الجملة إذ منتظرها يأكل ويشرب ويتكلم، ومن في الصلاة يمتنع عليه كل من ذلك، أشار إليه الحافظ في الفتح (رواه البخاري) قبل باب الأذان. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: العلم، باب: السمر في العلم (2/39) وأخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا تأتي مائة سنة وعلى الأرض نفس ... (2537) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: مواقيت الصلاة وفضلها، باب: السمر في الفقه والخير بعد العشاء، (2/60) .

338- باب في كراهة وضع اليد على الخاصرة في الصلاة

رَفَعَ رَأسَهُ قَبْلَ الإمَامِ أنْ يَجْعَلَ اللهُ رَأسَهُ رَأسَ حِمَارٍ! أَوْ يَجْعَلَ اللهُ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ" متفق عَلَيْهِ (¬1) . 338- باب في كراهة وضع اليد على الخاصرة في الصلاة 1750- عن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن الخَصْرِ في الصَّلاَةِ. متفق عَلَيْهِ (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ (يخشى أحدكم) أي يخاف خوفاً مقترناً بتعظيم الله تعالى (إذا رفع رأسه قبل الإمام) مع العلم والتعمد (أن يجعل الله) أي: يصير (رأسه رأس حمار) قيل هو كناية عن تصييره بليداً لا يفهم كالحمار والأولى اجراؤه على ظاهره لأنه ممكن لا يخالفه عقل ولا يرده نقل وقد نقل الشيخ ابن حجر الهيتمي في معجمه وقوع ذلك لبعضهم والعياذ بالله تعالى (أو يجعل الله صورته صورة حمار) حقيقة بناء على الحقيقة وهو الأرجح أو المراد يجعل صفته صفة الحمار في البلادة وفيه على الوجهين شؤم أثر المعصية (متفق عليه) رواه الأربعة قال الحافظ ظاهر الحديث يقتضي تحريم الرفع قبل الإِمام لكونه توعد عليه بالمسخ وهو أشد العقوبات وبه جزم المصنف في مجموعه وهنا ومع الإِثم فالصحيح صحة الصلاة واجزاؤها. وعن ابن عمر أنها تبطل وبه قال أحمد في رواية وأهل الظاهر على أن النهي يقتضي الفساد. باب كراهة وضع اليد على الخاصرة في الصلاة قيل حكمة الكراهة أن ذلك فعل اليهود وقيل راحة الكفار في النار وقيل فعل الشيطان. وقيل لأن إبليس أهبط من الجنة كذلك وقيل لأنه فعل المتكبرين. 1750- (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الخصر) بفتح المعجمة وسكون المهملة (في الصلاة) وظاهر أن محل النهي ما لم يكن لضرورة وإلا كما لو وجعه جنبه فوضع يده عليه لذلك فلا يتناوله النهي (متفق عليه) أي في أصل المعنى وإلا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: أبواب صلاة الجماعة، باب: إثم من رفع رأسه قبل الإِمام، (2/153) . وأخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: تحريم سبق الإِمام بركوع أو سجود ونحوها، (الحديث: 114) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: أبواب العمل في الصلاة، باب: الحضر في الصلاة (3/70) . وأخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: كراهية الاختصار في الصلاة، (الحديث: 46) .

339- باب في كراهة الصلاة بحضرة الطعام ونفسه تتوق إليه أو مع مدافعة الأخبثين: وهما البول والغائط

339- باب في كراهة الصلاة بحضرة الطعام ونفسه تتوق إِلَيْهِ أَوْ مَعَ مدافعة الأخبثين: وهما البول والغائط 1751- عن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لا صَلاَةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ، وَلاَ وَهُوَ يُدَافِعُهُ الأَخْبَثَانِ". رواه مسلم (¬1) . 340- باب في النهي عن رفع البصر إِلَى السماء في الصلاة ـــــــــــــــــــــــــــــ فعبارته في شرح مسلم قوله نهى أن يصلي الرجل مختصراً. وفي رواية البخاري نهى عن الخصر في الصلاة اهـ. وهي صريحة في أنه انفرد به البخاري عن مسلم. باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام أي ما يطعم من مأكل ومشرب (ونفسه تتوق إليه) بتاءين فوقيتين أي: تشتاق وتنازع ْإليه، ومثل الحضور قربه، فتكره الصلاة معه أيضاً (أو مع مدافعة الاخبثين) بالمعجمة والموحدة والمثلثة وفسرهما بقوله (وهما البول والغائط) وهو في الأصل اسم المكان المطمئن من الأرض، تقضى فيه الحاجة، سمي باسمه الخارج من تسمية الحال باسم المحل، والعلاقة المجاورة. 1751- (عن عائشة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا صلاة) أي: فاضلة كاملة، ونفى أهل الظاهر صحتها (بحضرة طعام) أي: (تتوق نفسه إليه) وذلك لما فيها من اشتغال قلبه المانع من خشوعه (وهو يدافعه الاخبثان) الجملة حالية والواو فيها للحال، والكراهة لما في ذلك من التشويش المانع مما تقدم. ومحل الكراهة إذا كان في الوقت سعة لأكل الطعام وتفريغ النفس، فإن ضاق بحيث لو أكل وتفرغ خرج الوقت صلى على حاله (رواه مسلم) ورواه أبو داود. باب النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة نقل المصنف: الإِجماع على كراهته فيها، أما خارجها فمندوب حالة الدعاء، لأنها قبلته، وكذا التفكر والاعتبار بها. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد ... ، (الحديث:67) .

342- باب في النهي عن الصلاة إلى القبور

1754- وعن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إيَّاكَ والالتِفَاتَ فِي الصَّلاَةِ، فَإنَّ الالتفَاتَ في الصَّلاَةِ هَلَكَةٌ، فَإنْ كَانَ لاَ بُدَّ، فَفِي التَّطَوُّعِ لاَ في الفَريضَةِ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" (¬1) . 342- باب في النهي عن الصلاة إِلَى القبور 1755- عن أَبي مَرْثَدٍ كَنَّازِ بْنِ الحُصَيْنِ - رضي الله عنه - ـــــــــــــــــــــــــــــ 1754- (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياك والالتفات في الصلاة فإن الالتفات في الصلاة مهلكة) أتى بالظاهر فيها موضع الضمير، تعظيماً وتفخيماً للأمر. ومهلكة بفتح أوله وثالثه وسكون ثانيه، أي: سبب الهلاك وذلك لأن من استخف بالمكروهات وواقعها في المحرمات، فأهلك نفسه بتعريضها للعقاب (فإن كان) أي: المصلي (لا بد) أي: لا غنى له منه (ففي التطوع لا في الفريضة) لأن الاهتمام بالفرض والاعتناء به، فوق الاعتناء بالنفل، (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) . باب النهي عن الصلاة إلى القبور تحريماً في الصلاة مستقبلاً لقبر، قاصداً استقباله بصلاته، وتنزيهاً في استقباله بها من غير قصد ذلك. 1755- (عن أبي مرثد) بفتح الميم وسكون رائه وبمثلثة قاله العيني في مغنيه (كناز) بفتح الكاف وتشديد النون وبالزاي، وقال ابن الجوزي في التلقيح: اسمه أيمن والأول أصح (بن الحصين) بضم المهملة الأولى وفتح الثانية وسكون التحتية بعدها نون ابن يربوع الغنوي بالمعجمة والنون المفتوحتين، حليف بني عبد المطلب. وقال الذهبي في تجريد الصحابة: حليف حمزة أبو مرثد بالضبط السابق في نظيره (رضي الله عنه) قال الحافظ في التقريب: صحابي بدر في مشهور بكنيته، مات سنة اثنتي عشرة من الهجرة. خرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي اهـ. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثان، وأخرج منهما مسلم حديثاً ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب: الصلاة/الجمعة/، باب: ما ذكر في الالتفات في الصلاة، (الحديث: 589) .

343- باب في تحريم المرور بين يدي المصلي

قَالَ: سَمِعْتُ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لا تُصَلُّوا إِلَى القُبُورِ، وَلاَ تَجْلِسُوا عَلَيْهَا". رواه مسلم (¬1) . 343- باب في تحريم المرور بَيْنَ يدي المصلِّي عن أَبي الجُهَيْمِ عبد اللهِ بن الحارِثِ بن الصِّمَّةِ الأنْصَارِيِّ - رضي الله ـــــــــــــــــــــــــــــ واحداً وهو حديث الباب (قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تصلوا إلى القبور) قال الشافعي: وأكره أن يعظم مخلوق، حتى يجعل قبره مسجداً، مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس اهـ. (ولا تجلسوا عليها) فيه النهي عن القعود عليها، وهو مذهب الشافعي. وقال مالك في الموطأ: المراد القعود للحديث. قال المصنف: وهذا تأويل ضعيف وباطل، والصحيح أن المراد القعود للحديث. قال المصنف: وهذا تأويل ضعيف وباطل، والصحيح أن المراد بالقعود الجلوس، ومما يوضحه رواية مسلم "لا تجلسوا على القبور" وفي رواية له: "لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده، خير له من أن يجلس على قبر". وسيأتي قريباً ما فيه. قال المصنف: قال أصحابنا يحرم الجلوس على القبر والاستناد إليه والاتكاء عليه (رواه مسلم) في الجنائز من صحيحه، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي. باب تحريم المرور بين يدي المصلى أي: إذا صلى إلى شاخص فإن لم يجده، فإلى مصل وإلا فإلى خط يخطه، وبينه وبينه ثلاثة أذرع، كما هو السنة، فإن لم يستقبل شيئاً من ذلك، كذلك لم يحرم المرور بين يديه. ومحل الحرمة في الأول ما لم يكن المصلي مستحقاً لغيرها، وإلا فالمصلي في الطواف لا يحرم المرور بين يديه. لأنه للطواف لا للصلاة. 1756- (عن أبي الجهيم) بضم الجيم وفتح الهاء وسكون التحتية (عبد الله بن الحارث بن الصمة) بكسر المهملة المشددة وتشديد الميم، ويجر بالكسرة لدخول أل عليه، خلافاً لبعضهم. وقد نبه عليه الحافظ السيوطي في آخر كتابه الأشباه والنظائر، وقال إنه ألف فيه مؤلفاً وأورده ثمة. واسمه بذل المهمة (رضي الله عنه) قال في أسد الغابة: اسمه عبد الله وهو ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الجنائز، باب: النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه، (الحديث: 97، 98) . الأم: (1/278) .

عنه - قَالَ: قَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ يَعْلَمُ المَارُّ بَيْنَ يَدَيِ المُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ لَكَانَ أنْ يَقِفَ أرْبَعِينَ خَيْراً لَهُ مِنْ أنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ" قَالَ الراوي: لا أدْرِي قَالَ: أرْبَعينَ يَوماً، أَوْ أرْبَعِينَ شَهْراً، أَوْ أرْبَعِينَ سَنَةً. متفق عَلَيْهِ (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن أخت أبي بن كعب الأنصاري. روي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثان، كلاهما في الصحيحين (قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو يعلم المار بين يدي المصلي) فرضاً كانت صلاته أو نفلاً، وقد استقبل ما تقدم (ماذا) أي: ما الذي عليه جملة في محل النصب ليعلم لتعلقه عنها بالاستفهام (عليه) صلة ذا، ويحتمل أن "ما" ملغاة، وأن المعنى أي شيء، فيكون في محل رفع مبتدأ. خبره الظرف. وحذف مبين ما أو ما "ماذا" زيادة في التنفير عن ذلك، لتذهب النفس في تقدير كل صنف من المكروهات المحذر منها كل مذهب. قال الحافظ في الفتح: وزاد الكشميهني "ماذا عليه من الإِثم" وليست هذه اللفظة في سائر روايات الصحيح، ولا في الموطأ، ولا في شيء من الكتب الستة، والمسانيد والمستخرجات، لكنها في مصنف ابن أبي شيبة، فيحتمل أنها ذكرت في حاشية البخاري فتوهمها الكشميهني أصلاً لأنه لم يكن من أهل الحلم ولا من الحفاظ، وقد أنكر ابن الصلاح على من أثبتها في الخبر، لكن في تخريج أحاديث الشرح الكبير للحافظ لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه من الإثم أن يقف أربعين خيراً له من أن "يمر بين يديه" متفق عليه من حديث الجهيمي دون قوله "من الاثم" فإنها من رواية أبي ذر عن أبي الهيثم خاصة. وقول ابن الصلاح أن العجلى وهم في قوله من الإِثم في صحيح البخاري متعقب لرواية أبي ذر عن أبي الهيثم. وتبع بن الصلاح الشيخ النووي في مجموعه، ثم اضطر إلى أن عزاها لعبد القاهر الرهاوي في الأربعين له وفوق لك ذي علم عليم. وفي شرح المنهج لشيخ الإِسلام زكريا بعد ذكر الحديث كما ذكروا، وزاد "أربعين خريفاً" قوله متفق عليه إلا من الإِثم فللبخاري أي: في رواية. وإلا خريفاً فالبزار اهـ. (لكان أن يقف) أي: وقوفه اسم كان أو بدل من اسمها المضمر بدل اشتمال (أربعين خيراً له) أي: مدة الأربعين، وأقيم مقامها في النصب على الظرفية. خيراً خبر كان، أن نصب وبالرفع اسمها (من أن يمر بين يديه) والخيرية في المرور المنهي عنه المدلول عليها بقوله خيراً، باعتبار ظاهر ما عند المار من إتيانه به، إذ شأن العاقل أن لا يأتي إلا ما هو خير له (قال الراوي) واسمه أبو النضر مولى عمر بن عبيد الله (لا أدري قال أربعين يوماً أو أربعين شهراً أو أربعين سنة متفق عليه) أخرجاه في الصلاة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الصلاة، باب: إثم المار بين يدي المصلي، (11/483، 484) . وأخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: منع المار بين يدي المصلي، (الحديث: 261) .

345- باب في كراهة تخصيص يوم الجمعة بصيام أو ليلته بصلاة من بين الليالي

345- باب في كراهة تخصيص يوم الجمعة بصيام أَوْ ليلته بصلاة من بين الليالي 1758- عن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "لا تَخُصُّوا لَيْلَةَ الجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي، وَلاَ تَخُصُّوا يَومَ الجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ الأَيَّامِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي صَومٍ يَصُومُهُ أحَدُكُمْ" ـــــــــــــــــــــــــــــ باب كراهة تخصيص يوم الجمعة بصيام أي: ما لم يضم إليه يوماً قبله أو بعده، فتنتفى بثواب ما ضمه كراهة صوم يومها (أو ليلتها بصلاة) أما تخصيصها بالقيام بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبقراءة نحو البقرة وآل عمران والكهف والدخان وغير ذلك، مما جاء طلبه في ليلتها وفي يومها، فلا كراهة فيه. 1758- (عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام) هو في عرف الشرع القيام للصلاة (من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة) أظهره مع أن المقام للإِضمار زيادة في الإِيضاح (بصيام من بين الأيام) الظرفان متعلقان بتخصوا، وقدم صيام هنا على الظرف الزماني وعكس في الجملة تفنناً في التعبير (إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم) نقل ابن مالك عن شرح المشكاة: أن تقديره إلا أن يكون يوم الجمعة واقعاً في صوم يوم يصومه أحدكم، وذلك بأن نذر صوم يوم لقي حبيبه فوافق يوم الجمعة. ثم اعترض بأنه يلزم عليه أن يكون يوم الجمعة. مظروفاً ليوم الصوم، وهو غير مستقيم. والوجه أن يقال: الضمير في يكون، عائد إلى مصدر تخصوا. قال الطيبي: سبب النهي أن الله استأثر يوم الجمعة بعبادة، فلم ير أن يخصه العبد بسوى ما يخصه الله به. وقال المصنف: سببه أن يوم الجمعة يوم عبادة وتكبير إلى الصلاة وإكثار ذكر ويوم غسل، فاستحب الفطر فيه، ليكون أهون على هذه الوظائف وأدائها بلا سآمة، كما يستحب الفطر للحاج يوم عرفة، فإن قلت: لو كان كذلك لما زالت الكراهة بصوم يوم قبله أو بعده، أجيب عنه بأن الجمعة وإن حصل فتور في وظائفه بسبب صوم، لكن يمكن أن يحصل له بفضيلة صوم ما قبله أو ما بعده، ما ينجبر ذلك به قال المظهري ونهي عن تخصيصها تحذيراً عن موافقة اليهود والنصارى لأنهم يخصون السبت والأحد بالصيام، وليلتيهما بالقيام، زاعمين أنهما أعز أيام الأسبوع، فاستحب أن نخالفهم في طريق تعظيم ما هو أعز الأيام وهو يوم الجمعة: قال المصنف: في الحديث نهي صريح عن تخصيص ليلة الجمعة بصلاة، واحتج به العلماء على كراهة الصلاة المسماة بالرغائب، قاتل الله واضعها. وقد صنفت الأئمة في تقبيحها وتضليل

رواه مسلم (¬1) . 1759- وعنه، قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يقولُ: "لاَ يَصُومَنَّ أحَدُكُمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ إِلاَّ يَوماً قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ". متفق عَلَيْهِ (¬2) . 1760- وعن محمد بن عَبَّادٍ، قَالَ: سَأَلْتُ جَابِراً - رضي الله عنه -: أنَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صَومِ الجُمُعَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. متفق عَلَيْهِ (¬3) . ـــــــــــــــــــــــــــــ مبتدعها أكثر من أن تحصى. (رواه مسلم) ورواه في أصل النهي عن القيام والصيام من غير استثناء، والطبراني عن سلمان وابن النجار عن ابن عباس أورده في الجامع الكبير. 1759- (وعنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا يوما قبله أو يوماً بعده) أي: إلا أن يصوم يوماً قبله ويوماً بعده، وقد جاء كذلك في رواية للشيخين (متفق عليه) فيه التصريح بالنهي عن إفراده بالصوم وأن لا نهي عند ضم صوم يوم قبله أو بعده إليه، وذلك لما سبق في كلام المصنف. وقيل لأن بالصوم قبله، يعتاد الصوم في الجملة، فلا يحصل له بذلك سآمة عند أداء الأعمال يوم الجمعة. 1760- (وعن محمد بن عباد) بفتح المهملة وتشديد الموحدة ابن جعفر بن رفاعة بن أمية بن عامر بن عائذ بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم المخزومي المكي: ثقة من أوساط التابعين. خرج عنه الستة، كذا في التقريب للحافظ. (قال: سألت جابراً رضي الله عنه أنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صوم الجمعة قال: نعم) وحمل النهي على التنزيه، لعدم وجود سبب الحرمة فيه، كإعراض عن ضيافة الله عز وجل في صوم الفطر والأضحى والتشريق، والضعف عن صوم الفرض بصوم النصف الأخير من شعبان عند عدم وصله بما قبله أو موافقته له عادة في الصوم (متفق عليه) . ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: كراهة صيام يوم الجمعة منفرداً، (الحديث: 148) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: صوم يوم الجمعة، (4/203) . وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: كراهة صيام يوم الجمعة منفرداً، (الحديث: 147) . (¬3) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم باب صوم يوم الجمعة، (4/202، 203) . وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: كراهة صيام يوم الجمعة منفردا، (الحديث 146) .

346- باب في تحريم الوصال في الصوم وهو أن يصوم يومين أو أكثر ولا يأكل ولا يشرب بينهما

1761- وعن أُمِّ المُؤمِنِينَ جويرية بنت الحارث رَضِيَ اللهُ عنها: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمَ الجُمُعَةِ وهِيَ صَائِمَةٌ، فَقَالَ: "أصُمْتِ أمْسِ؟ " قالت: لا، قَال: "تُرِيدِينَ أنْ تَصُومِي غَداً؟ " قالتْ: لاَ. قَالَ: "فَأَفْطِرِي". رواه البخاري (¬1) . 346- باب في تحريم الوصال في الصوم وَهُوَ أنْ يصوم يَومَينِ أَوْ أكثر وَلاَ يأكل وَلاَ يشرب بينهما 1762- عن أَبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الوِصَالِ. متفق عَلَيْهِ (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1761- (وعن أم المؤمنين جويرية) بضم الجيم وفتح الواو وتخفيف التحتية وكسر الراء ثم تحتية بعدها هاء (بنت الحارث رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة) والظاهر أنها استأذنته فأذن من غيير استفصال (فقال: أصمت أمس؟ قالت لا قال: تريدين أن تصومي غدا) أي: يوم السبت، ظاهره انتفاء الكراهة إذا كان لما نوي صوم يوم الجمعة مريداً صوم يوم السبت، وإن لم يفعله بعد ذلك لعذر أو غيره (قالت: لا قال: فأفطري) فيه دليل لجواز قطع النفل. وقد ورد: "الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر" ويؤخذ من أمره به ندبه إذا كان الصوم مكروهاً وإن كان ينعقد لو بقي عليه (رواه البخاري) . باب تحريم الوصال في الصوم وهو أن يصوم يومين أو أكثر ولا يأكل ولا يشرب بينهما. قصداً على وجه التعبد بذلك، أما لو تركه سهواً أو لعدم طلب نفسه له، أو لفقده فلا. وقيل: الوصال المحرم استدامة أوصاف الصائم، فعلى الأول الذي ذكره المصنف، لا يخرج منه بجماع أو تقايؤ، ويخرج به على الثاني. والمختار الأول. 1762- (عن أبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى نهياً جازماً (عن الوصال) وهو حرام على الأمة، جائز له - صلى الله عليه وسلم - كما يأتي في الحديث بعده (متفق عليه) . ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: صوم يوم الجمعة، (4/203، 204) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: الوصال، وباب: التنكيل لمن أكثر من الوصال، (4/177 و179) . أخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: النهي عن الوصال في الصوم، (الحديث: 57 و61) .

350- باب في تحريم الشفاعة في الحدود

1766- عن جرير - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أَيُّمَا عَبْدٍ أَبَقَ، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ". رواه مسلم (¬1) (¬2) . 1767- وعنه، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا أَبَقَ العَبْدُ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةٌ". رواه مسلم (¬3) . 350- باب في تحريم الشفاعة في الحدود قَالَ الله تَعَالَى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ 1766- (عن جرير رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيما عبد أبق) بفتح الموحدة من باب ضرب، وجاء من باب تعب وقتل في لغة كذا في المصباح (فقد برئت منه الذمة) بكسر المعجمة وتشديد الميم. قال المصنف في التهذيب: الذمة تكون في اللغة: العهد، وتكون الأمانة، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يسعى بذمتهم أدناهم"، "ومن صلى الصبح فهو في ذمة الله عز وجل" "ولهم ذمة الله ورسوله" اهـ. (رواه مسلم) في الإِيمان ورواه أبو داود في الحدود النسائي في المحاربة، وفي ألفاظه اختلاف منها ما في قول المصنف. 1767- (وعنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة) ولا يلزم من عدم قبولها عدم صحتها، بل هي كالصلاة في المغصوب، على ما اختاره الجماهير من صحتها فيه ولا ثواب، وعلى هذا فلا حاجة لتقييد المأزري وعياض ذلك بمن استحل الإِباق، فقد تعقبهما فيه ابن الصلاح واستظهره المصنف (وفي رواية) لمسلم (فقد كفر) أي: إن استحله أو من كُفَرَان نعمة السيد وعدم أداء حقه، فإن عمله من عمل الكفرة والجاهلية. وفي رواية "فقد حل دمه" وفي رواية "فقد أخل بنفسه". باب تحريم الشفاعة في الحدود بعد ثبوت سببها، قال الله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) الرفع على الابتداء، والتقدير مما يتلى عليكم حكم الزانية والزاني، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، فارتفع ارتفاعه، وقدم المؤنث هنا على المذكر، عكس ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: تسمية العبد الآبق كافراً، (الحديث: 123) . (¬2) أخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: تسمية العبد الآبق كافراً، (الحديث: 124) . (¬3) سورة النور، الآية: 2.

351- باب في النهي عن التغوط في طريق الناس وظلهم وموارد الماء ونحوها

"فَتَلوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -" فَقَالَ: "أتَشْفَعُ في حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ؟! " فَقَالَ أُسَامَةُ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: ثُمَّ أَمَرَ بِتِلْكَ المَرْأَةِ فَقُطِعَتْ يَدُهَا (¬1) . 351- باب في النهي عن التغوط في طريق الناس وظلِّهم وموارد الماء ونحوها ـــــــــــــــــــــــــــــ الحلف من غير استحلاف، وهو مستحب. وإذا كان فيه تعظيم أمر المطلوب، كما في الحديث. وفيه المنع من الشفاعة في الحدود، وهو مجمع عليه بعد بلوغه للإِمام، أما قبله فجائز عند أكثر العلماء، إذا لم يكن المشفوع فيه ذا شر وأذى للناس، فإن كان لم يشفع فيه. أما المعاصي التي لا حد فيها، فتجوز الشفاعة فيها شرطه السابق، وإن بلغت الإِمام لأنها أهون. وفيه مساواة الشريف وغيره في أحكام الله تعالى وحدوده، وعدم مراعاة الأهل والأقارب في مخالفة الدين (وفي رواية) للبخاري (فتلون) أي: تغير غيظاً (وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له أتشفع في حد من حدود الله فقال أسامة) لما رأى إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - وغضبه مما أتاه (استغفر لي يا رسول الله) أي: لتمحي تلك الخطيئة. (قال: ثم أمر بتلك المرأة فقطعت يدها) زاد البخاري عن عائشة "ثم تابت بعد وتزوجت" فكانت تأتي لعائشة فترفع حاجتها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. باب النهي عن التغوط في طريق الناس وظلهم وموارد الماء ونحوها حمل الجمهور النهي على التنزيه. قال الشيخ زكريا وينبغي تحريمه، لما فيه من إيذاء المسلمين؛ ونقل في الروضة عن أصلها عن صاحب العدة: على التحريم. والحديث ظاهر فيه، بل نقل في أنه من الكبائر للعن فاعله، وخص المصنف التغوط بالذكر: لعظم الضرر به بالنسبة للبول لسرعة جفافه؛ فيقل الأذى. ومحل النهي عنه في الظل إذا كان معداً لاجتماع مباح، أما لو كان معداً لاجتماع محرم كمكس أو غيبة، وقصد به تفريقهم، فلا كراهة. ومثل الظل في الصيف محل الشمس في الشتاء، فلو عبر المصنف بمتحدث لشملهما، وكأنه أراد ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: آواخر كتاب الأنبياء وأخرجه أيضاً في الحدود، باب: كراهية الشفاعة في الحد، (12/77، 85) . وأخرجه مسلم في كتاب: الحدود، باب: قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة في الحدود (الحديث: 8) .

فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَهُ مِثْلَ هَذَا؟ " فقال: لا، فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "فَأرْجِعهُ". وفي روايةٍ: فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أَفَعَلْتَ هذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ؟ " قال: لا، قال: "اتَّقُوا الله واعْدِلُوا فِي أوْلادِكُمْ" فَرَجَعَ أبي، فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ. وفي روايةٍ: فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "يَا بَشيرُ ألَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذَا؟ " فقالَ: نَعَمْ، قال: "أكُلَّهُمْ وَهَبْتَ لَهُ مِثْلَ هذَا؟ " قال: لا، قال: "فَلاَ تُشْهِدْنِي إذاً فَإنِّي لاَ أشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ" وفي روايةٍ: "لاَ تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ" وفي رواية: "أشْهِدْ عَلَى هذَا غَيْرِي! " ثُمَّ قال: "أيَسُرُّكَ أنْ يَكُونُوا إلَيْكَ في البِرِّ سَواءً؟ " قال: بَلَى، قال: "فَلا إذاً". متفق عليه (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ توهم بشير نسخ ذلك، أو حمل الأولى على كراهة التنزيه. وجمع الحافظ في الفتح بأنه وهبه حديقة، فلما بدا له ارتجعها لأنها لم يقبضها منه أحداً غيره، ثم عاودته فمطلها، ثم اقبضها ثم رضيت عمرة أن يهب له بدل الحديقة غلاماً، فرضيت عمرة لكنها خشيت الارتجاع، فطلبت إشهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - اهـ. (فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أكلّ ولدك) بالنصب بنحلت مقدراً فسره قوله (نحلت مثل هذا) أي: أعطيت سائر ولدك كما أعطيت هذا (فقال: لا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرجعه) أي: ارتجعه هو كالعبد، لكراهة الرجوع في الهبة الموهوبة، وإن محلها ما لم توقع في كراهة، وإلا فيرتجع لأن درء المفاسد مقدم على جلب، المصالح أورده الشيخان بهذا اللفظ (وفي رواية) لمسلم (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفعلت هذا) أي: الاعطاء (بولدك كلهم) بأن أعطيت كلا كأخيه (قال: لا قال: اتقوا واعدلوا في أولادكم) بالتسوية بينهم في العطاء والبر والإِحسان (فرجع أبي فرد تلك الصدقة) أي: إلى ملكه بعد أن قبلها لولده، وتقدم في الرواية قبله أن الارتجاع بالأمر النبويّ (وفي رواية) هي أيضاً لمسلم: (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا بشير ألك ولد سوى هذا؟ قال: نعم) بفتح أوليه حرف جواب (قال: أكلهم) بالنصب لمحذوف يفسره قوله (وهبت له مثل هذا) أي: أعطيت كلاً منهم (قال: لا قال: فلا تشهدني إذاً) أي: حينئذ (فإني لا أشهد على جور) أي: جيف وظلم، وأصله الميل عن الاعتدال، حراماً كان أو مكروهاً وهو بنحوه (وفي رواية) هي لمسلم أيضاً (لا تشهدني على جور. وفي رواية) لمسلم أيضاً (أشهد على هذا غيري ثم قال: أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء قال: بلى قال: فلا) أي: لا تفاضل بينهم في العطاء (إذاً. متفق عليه) باعتبار أصل ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الهبة، باب: الهبة للولد، وباب: الإِشهاد في الهبة (5/155 و157) . وأخرجه مسلم في كتاب: الهبات، باب: كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة، (الحديث: 9) .

354- باب في تحريم إحداد المرأة على ميت فوق ثلاثة أيام إلا على زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام

354- باب في تحريم إحداد المرأة على ميت فوق ثلاثة أيام إلا على زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام 1772- عن زينب بنتِ أبي سلمة رضي الله عنهما، قالت: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ رضيَ اللهُ عنها، زَوجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، حِينَ تُوُفِّيَ أبُوهَا أبُو سُفْيَانَ بن حرب - رضي الله عنه -، فَدَعَتْ بِطِيبٍ فِيهِ صُفْرَةُ خَلُوقٍ أوْ غَيرِهِ، فَدَهَنَتْ مِنهُ جَارِيَةً، ثُمَّ مَسَّتْ بِعَارِضَيْهَا، ثُمَّ قَالَتْ: واللهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، غَيْرَ أنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقُولُ عَلَى المِنْبَرِ: "لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث، لما علمت من أن سياق الأحاديث المذكورة لمسلم ونحوها عند البخاري في أبواب الهبة. والحديث خرجه مالك والشافعي وأصحاب السنن الأربعة وابن حبان والطبراني والطحاوي والإِسماعيلي وأبو عوانة والدارقطني والبرقاني وأبو نعيم والبيهقي والبغوي وغيرهم، ذكره القلقشندي في شرح عمدة الأحكام. باب تحريم إحداد المرأة قال في المصباح: حدت المرأة على زوجها تحد حداداً فهي حاد بغير هاء، وأحدت إحداداً فهي محد ومحدة إذا تركت الزينة لموته. وأنكر الأصمعي الثلاثي، واقتصر على الرباعي (على ميت فوق ثلاثة أيام) الظرف الأول لغو والثاني في محل الحال (إلا على زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام) النصب على الظرفية. 1772- (عن زينب بنت أبي سلمة رضي الله عنها) كذا في نسخة مصححه بضمير الواحدة والأولى عنهما (قالت دخلت على أم حبيبة) هي بنت أبي سفيان بن حرب أمية أخت معاوية (زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حين توفي أبو سفيان بن حرب) وكان موته سنة اثنين وثلاثين، وقيل بعدها (فدعت بطيب فيه صفرة خلوق) بفتح الخاء المعجمة وضم اللام المخففة في المصباح الخلوق ما يتخلق به في الطيب. وقال بعض الفقهاء: هو مائع فيه صفرة (أو) صفرة (غيره) وهذا شك منها في سبب الصفرة (فدهنت منه جارية) أي: ليدل ذلك على رضاها بفعل ربها وتسليمها الأمر له؛ (ثم مست بعارضيها) أي: أصابت منه فيهما. (ثم قالت: والله ما لي بالطيب من حاجة) أي نفسانية من التذاذ وغيره، (غير أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على المنبر لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر) الوصف بالجملة الفعلية ليس لإِخراج من لم يكن كذلك عن هذا

أنْ تُحِدَّ على مَيِّتٍ فَوقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، إلاَّ علَى زَوْجٍ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْراً". قالَتْ زَيْنَبُ: ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى زَيْنَبَ بنْتِ جَحْشٍ رضي اللهُ عنها حينَ تُوُفِّيَ أَخُوهَا، فَدَعَتْ بِطِيبٍ فَمَسَّتْ مِنْهُ ثُمَّ قَالَتْ: أمَا وَاللهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، غَيرَ أنِّي سَمِعْتُ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقُولُ عَلَى المِنْبَرِ: "لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أنْ تُحِدَّ على مَيِّتٍ فَوقَ ثَلاَثٍ، إلاَّ علَى زَوْجٍ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْراً" ـــــــــــــــــــــــــــــ الحكم، بل لكون المؤمنة تنقاد للأحكام الشرعية وإلا فالكفار مخاطبون بفروع الشريعة على الصحيح. والنفي بمعنى النهي على سبيل التأكيد (أن تحد) من أحد أو من حدّ أي: تترك زينتها التي تعتادها (على ميت) أي: لأجله (فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً) التقييد بهذه المدة خرج مخرج الغالب، أما إذا كانت حاملاً فعدتها بوضع الحمل. والاستثناء متصل إذا جعل قوله أربعة أشهر منصوباً بمقدر بياناً لقوله فوق ثلاث أي أعني أو أذكر، فهو من باب قولك ما اخترت إلا منكم رفيقاً يكون ما بعد إلا تبيين فيقدر المفسر أي: أعني أربعة أشهر على الاستثناء، تقديره لا تحد المرأة على ميت فوق ثلاث أعني أربعة أشهر وعشراً إلا على زوج. أو من قولك ما ضرب أحد أحداً إلا زيد عمراً. وإذا جعل معمولاً لتحد مضمراً كان منقطعاً، والتقدير: لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث، لكن تحد على زوج أربعة أشهر وعشراً قاله العاقولي (قالت زينب ثم دخلت على زينب بنت جحش رضي الله عنها حين توفي أخوها) هو عبد الله بن جحش كما في تحفة القاري لشيخ الإِسلام. وفي فتح الباري: أنه كذلك في صحيح ابن حبان. وفي بعض طرق الموطأ أن ْالمعروف عبد الله بن جحش قتل بأحد شهيداً، وزينب بنت أبي سلمة، كانت يومئذ طفلة فيستحيل أن تكون دخلت على زينب بنت جحش تلك الحالة. وأنه يجوز أن يكون عبيد الله المصغر، فإن دخول زينب بنت أبي سلمة عند بلوغ الخبر إلى المدينة بوفاته وهي مميزة، وأن يكون أبا أحمد بن جحش واسمه عبد بلا إضافة لأنه مات في خلافة عمر، فيجوز أن يكون مات قبل زينب لكن ما ورد ما يدل أنه حضر دفنها، ويلزم على الأمرين أن يكون وقع في الاسم تغييراً، والميت كان أخاً لزينب من الرضاعة. أو لأمها اهـ. (فدعت بطيب فمست منه ثم قالت: أما والله ما لي بالطيب من حاجة غير) بالنصب على الاستثناء، والفتحة فتحة إعراب. ويحتمل أنها فتحة بناء لإِضافته إلى مبني هو جملة (أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على المنبر "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا) ويحتمل أن يكون وقت سماعها لذلك منه - صلى الله عليه وسلم -

1777- وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلاَ يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَةِ أخِيهِ إلاَّ أنْ يَأذَنَ لَهُ". متفق عليه، وهذا لفظ مسلم (¬1) . 1778- وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه -: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "المُؤْمِنُ أَخُو المُؤْمِنِ، فَلاَ يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَبْتَاعَ عَلَى بَيْعِ أخِيهِ وَلاَ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أخِيهِ حَتَّى يذَرَ" ـــــــــــــــــــــــــــــ 1777- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يبع بعضكم على بيع بعض) النهي للتحريم، كما تقدم. إلا إن كان لزم العقد ولا خيار فيكون غير محرم لانتفاء الإِضرار المرتب على الأول (ولا يخطب على خطبة أخيه) أي: إذا أجيب لذلك بالصريح، وكانت الخطبة جائزة لا خطبة الرجعية في عدتها، وقيد النهي في كل منهما بقوله (إلا أن يأذن له) أي: البعض المباع على بيعه في الأول، والمخطوب على خطبته في الثاني. ومثل إذنه في ذلك إعراضه عن المخطوبة (متفق عليه وهذا لفظ مسلم) ولفظ البخاري "لا يبع بعضكم على بيع بعض" وعند البخاري من حديث أبي هريرة أنه مرفوع، من جملة حديث آخره "ولا يبع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها". 1778- (وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: المؤمن أخو المؤمن) لاجتماعهما في الإيمان الذي هو أعظم مجتمع فيه (فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه ولا يخطب) بالنصب عطفاً على يبتاع، وبالرفع على الاستئناف. والأول أقرب وأنسب (على خطبة أخيه حتى يذر) أي: يترك أو يأذن كما تقدم في الحديث قبل ذكر المؤمن، وهو لا مفهوم، له فيحرم على الكافر البيع على بيع المسلم. أو الذمي. والخطبة على خطبته. ¬

_ = وأخرجه مسلم في كتاب: البيوع، باب: تحريم بيع الرجل على بيع أخيه وسومه على سومه وتحريم..، (الحديث: 11 و12) . (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: البيوع، باب: لا يبيع حاضر لباد بالسمسرة ... ، وفي أبواب متفرقة غيره وفي النكاح، باب: لا يخطب على خطبه أخيه (4/313) . وأخرجه مسلم في كتاب: النكاح، باب: تحريم الخطبة على خطبة أخيه حتى يأذن أو يترك، (الحديث: 50)

بِحَرَامٍ وَلاَ مَكْرُوهٍ، وإنْ خِيفَ عَلَيْهِ شَيءٌ مِنْ هذِهِ الأمورِ، كُرِهَ مَدْحُهُ في وَجْهِهِ كَرَاهَةً شَديدَةً، وَعَلَى هَذا التَفصِيلِ تُنَزَّلُ الأحاديثُ المُخْتَلِفَةُ فِي ذَلكَ. وَمِمَّا جَاءَ فِي الإبَاحَةِ قَولُهُ - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكْرٍ - رضي الله عنه -: "أرْجُو أنْ تَكُونَ مِنْهُمْ" (¬1) : أيْ مِنَ الَّذِينَ يُدْعَونَ مِنْ جَمِيعِ أبْوابِ الجَنَّةِ لِدُخُولِهَا. وَفِي الحَدِيثِ الآخر: "لَسْتَ مِنْهُمْ" (¬2) : أيْ لَسْتَ مِنَ الَّذِينَ يُسْبِلُونَ أُزُرَهُمْ خُيَلاَءَ. وَقالَ - صلى الله عليه وسلم - لعُمَرَ - رضي الله عنه -: "مَا رَآكَ ـــــــــــــــــــــــــــــ تارة، مباح أخرى على ما تقدم (وإن خيف عليه) أي: الممدوح (شيء من هذه الأمور) الفتنة والاغترار وتلعب النفس به وتحديثها له، أنه من الكمل المثنى عليهم، فيحمله على البطالات، وترك معالي الأعمال الصالحات (كره مدحه في وجهه) وكذا في غيبته إن علم وصول ذلك له، بأن كان ثمة من يبلغه (كراهة شديدة) وقد يحرم أن تحقق ذلك فيه، بأن علم من عادته وتحقق حصول ذلك له عند الممدوح (وعلى هذا التفصيل تنزل الأحاديث) بصيغة المجهول وبالبناء للفاعل بحذف إحدى التاءين تخفيفاً، أو أنه ماض وحذفت تاء التأنيث من آخره، لأن تأنيث الجمع مجازي باعتبار معنى الجماعة، فجاز تذكيره وتأنيثه، وإن كان الثاني أرجح (المختلفة في ذلك) فيكون من باب المختلف ظاهراً المؤتلف معنى (ومما جاء في الإِباحة قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرجو أن تكون منهم) قال العلماء: كل ما ورد في الكتاب والسنة من ألفاظ الرجاء فهو مقطوع بحصوله. وبيّن المصنف مرجع الضمير بقوله: (أي: من الذين يدعون من جميع أبواب الجنة) الثمانية بأن كان عاملاً بعمل أهل كل باب منها (لدخولها) متعلق بيدعون (وفي الحديث الآخر) قوله للصديق أيضاً وكان على المصنف أن يقول له وإن كان أسعد بانسجام ما قبله عليه الظاهر في الظاهر من ذلك (لست منهم أي: من الذين يسبلون إزارهم خيلاء) أي: فالوعيد الوارد في مسبل الإِزار لا يتناولك، وإن كنت تسبله لأنه خاص بمن يسبله خيلاء، وأنت لست كذلك وقال - صلى الله عليه وسلم - لعمر رضي الله عنه "ما رآك الشيطان سالكاً فجا") أي: طريقاً واسعاً واضحاً، هذا معنى الفج لغة، والظاهر أن المراد هنا ما يعم الواسع الواضح وغيره (إلا سلك فجاً، غير فجك) فيه الثناء عليه بالحفظ من وسوسة الشيطان، لأنه إذا باعد فجه فبالأولى أن يبعد منه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: فضائل الصحابة في أبواب فضائل أبي بكر، (7/21، 22) . وأخرجه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: من جمع الصدقة وأعمال البر، (الحديث: 86) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب أبي بكر، (7/21) .

وقال تعالى (¬1) : (وَلاَ تُلْقُوا بِأيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ) . 1789- وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ عمرَ بن الخطاب - رضي الله عنه - خرج إلى الشَّامِ حَتَّى إذا كَانَ بسَرْغَ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الأَجْنَادِ - أَبُو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ وأصْحَابُهُ - فَأخْبَرُوهُ أنَّ الوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ. قَال ابن عباس: فقال لي عمر: ادْعُ لِي المُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ، فَدَعَوْتُهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ وَأخْبَرَهُمْ أنَّ الوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بالشَّامِ، فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: خَرَجْتَ لأَمْرٍ، وَلاَ نَرَى أنْ تَرْجِعَ عَنْهُ. وَقَالَ بَعضهم: مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وأصْحَابُ رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَلاَ نَرَى أنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الوَبَاء. فقال: ـــــــــــــــــــــــــــــ الجملة، وهو النهي عن الفرار وقال تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) مصدر بمعنى الهلاك. 1789- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ) بفتح المهملة وسكون الراء، ووهم من فتحها، بعدها معجمة: منزل من منازل حاج الشام على ثلاث عشرة مرحلة من المدينة. قال السيوطي في التوشيح: والذي حكى الفتح: القاضي عياض، وجعله المصنف في شرح مسلم: خلاف المشهور لا وهماً، ويجوز صرف سرغ ومنعه قال الدماميني في المصابيح: وسرغ قرية بتبوك قريب من الشام (لقيه أمراء الأجناد) قال المصنف: المراد بالأجناد مدن أهل الشام الخمس، وهي فلسطين والأردن ودمشق وحمص ونسرين. هكذا فسروه واتفقوا عليه (أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء) يعني الطاعون (قد وقع بالشام قال ابن عباس فقال لي عمر ادع لي المهاجرين الأولين) قال القاضي عياض: المراد بهم: من صلى إلى القبلتين، فأما من أسلم بعد تحويل القبلة فلا يعد فيهم (فدعوتهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام فاختلفوا فقال بعضهم خرجت لأمر) هو قتال العدو (ولا نرى أن نرجع عنه) معطوف على الجملة الأولى. قال المصنف: وهؤلاء بنوا كلامهم على أصل من أصول الشرع، هو التوكل والتسليم للقضاء (وقال بعضهم معك بقية الناس وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) بالجر عطفاً على الناس، وبالرفع عطفاً على بقية عطف خاص على عام (ولا نرى أن تقدمهم) بضم الفوقية وكسر الدال المهملة وبفتحها: على تقدير الجار أي: تقدم بهم (على هذا الوباء) قال المصنف وهذا مبني على أصل آخر من أصول الشريعة، هو الاحتياط والحذر، ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 195.

ارْتَفِعُوا عَنِّي. ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي الأَنْصَارَ، فَدَعَوْتُهُمْ، فَاسْتَشَارَهُمْ، فَسَلَكُوا سَبيلَ المُهَاجِرينَ، وَاخْتَلَفُوا كاخْتِلاَفِهِمْ، فقال: ارْتَفِعُوا عَنِّي. ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هاهُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُريشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الفَتْحِ، فَدَعَوْتُهُمْ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ مِنْهُمْ رَجُلاَنِ، فَقَالُوا: نَرَى أنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ، وَلاَ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الوَبَاءِ، فَنَادَى عُمَرُ - رضي الله عنه - في النَّاسِ: إنِّي مُصَبحٌ عَلَى ظَهْرٍ، فَأَصْبِحُوا عليْهِ، فقال أبو عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه -: أفِراراً مِنْ قَدَرِ الله؟ فقالَ عُمرُ - رضي الله عنه -: ـــــــــــــــــــــــــــــ ومجانبة أسباب الإِلقاء باليد إلى التهلكة (فقال) لهم (ارتفعوا عني ثم قال) أي: لابن عباس (ادع لي الأنصار فدعوتهم فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين) أي: طريقهم في اختلاف الرأي في ذلك (واختلفوا) كاختلافهم (فمن قائل بالتقدم ومن قائل بالرجوع، فقال ارتفعوا عني ثم قال: ادع لي من كان ها هنا من مشيخة قريش) بفتح الميم وكسر المعجمة الأولى وسكون التحتية أو بفتح الميم والتحتية وسكون المعجمة الأولى بينهما وكلاهما جمع شيخ. كما تقدم أول الكتاب (من مهاجرة الفتح) قيل: هم الذين أسلموا قبل الفتح فحصل لهم فضل بالهجرة قبله، إذ لا هجرة بعد الفتح. وقيل: هم مسلمة الفتح الذين هاجروا بعده، فحصل لهم اسم الهجرة دون الفضيلة. قال القاضي عياض: وهذا أظهر لأنهم الذين ينطلق عليهم اسم مشيخة قريش، ولذا اقتصر عليه الشيخ زكريا في تحفة القاري (فدعوتهم فلم يختلف عليه منهم رجلان) معطوف على مقدر دل عليه ما قبله، أي: فاستشارهم فلم يختلفوا في أمر بالعود، فلذلك قال: (فقالوا نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء) فاجتهد عمر فرأى الرجوع، لكثرة القائلين به، ولأنه أحوط ولم يفعله تقليداً. وقيل إشارة لحديث عبد الرحمن، كما في رواية لمسلم. قال ابن عمر: إنما انصرف بالناس عن حديث عبد الرحمن بن عوف قال: هولاً، ولم يكن ليرجع لرأي دون آخر حتى يجد علماً. ويوافق الأول قوله (فنادى عمر في الناس فقال إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه) وتأوله الآخرون بأن المراد أنه مسافر للجهة التي خرج إليها لا للرجوع إلى المدينة، قال المصنف: وهو تأويل فاسد، والصحيح الذي دل عليه الحديث، أنه إنما قصد الرجوع للمدينة بالاجتهاد حين رأى رأي الأكثرين عليه مع فضيلة المشيرين به، وما فيه من الاحتياط. ثم بلغه الحديث فحمد الله وشكره على موافقة رأيه واجتهاده واجتهاد معظم الصحابة نص النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومصبح بصيغة الفاعل من الاصباح (فقال أبو عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه أفراراً من قدر الله) ؟ أي: أنفر فراراً أو ترجع فراراً (فقال عمر رضي الله

الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) الآية. 1791- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ". قالوا: يَا رسولَ اللهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: "الشِّرْكُ باللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ، وأكْلُ الرِّبَا، وأكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) إشارة إلى ما كتبوه من السحر ودفنوه تحت كرسي سليمان، فلما مات انتزعوه وقالوا لأوليائهم من الإنس: إن كان تسلط سليمان بهذا فتعلموه، فأبطله الله بذلك (وما أنزل على الملكين) عطف على السحر ما يتلى. أي: ويعلمونهم كما أنهما (ببابل) ظرف أو حال اسم موضع من الكوفة. وعطف على الملكين عطف بيان قوله ْ (هاروت وماروت) وعند بعض السلف أن ما نافية، فيكون عطفاً على "ما كفر سليمان" أي: ولا أنزل على ملكين أي: جبريل وميكائيل فإن سحرة اليهود زعموا أن السحر أنزل على لسانهما إلى داود، فردهم الله. ويسأل: متعلق بيعلمون. وهاروت وماروت اسمان لرجلين صالحين ابتلاهما الله بالسحر وقعا بدلا من الشياطين (وما يعلمان) أي: الملكان أو الرجلان (من أحد) أي أحداً (حتى يقولا إنما نحن فتنة) ابتلاء واختبار (فلا تكفر) بتعلمه وذلك لأن تعلمه للعمل كفر، وتعلم هذا النوع كفر لما فيه من الكفر فهذه نصيحة منهما. 1791- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: اجتنبوا السبع الموبقات) من باب قولك لبس الناس ثوبهم أي: لبس كل إنسان ثوبه، وليس من باب ترتيب المجموع على المجموع، إذ كل من السبع بانفراده موبق في الدين (قالوا يا رسول الله وما هن) سألوا عن حقائق ما كنى عنه بالعدد (قال الشرك بالله) أي: الكفر به، وخص الشرك لكونه كفراً للخاطئين (والسحر) في قرنه بالشرك إيماء إلى غلظه وفظاعة، شأنه، لا سيما وقد كنى عنه ْبالكفر في الآية، وبعض أفراده كذلك، ولذا قدم على القتل المحرم. إذ لا يكون من حيث ذاته كفراً، ففي تقديمه على القتل ذكراً إيماء إلى ذلك، وإن كانت الواو لا ترتيب (وقتل ْالنفس التي حرم الله) وهي النفس المعصومة بإسلام أو ذمة أو عهد أو أمان (إلا بالحق) كالقتل قصاصاً أو حداً أو زدة (وأكل الربا وأكل مال اليتيم) هو صغير لا أب له أي: إتلاف ماله والتصرف فيه أو غيره: وخص الأكل بالذكر لأنه المقصود الغالب من المال (والتولي) أي: الفرار من الصف (يوم الزحف) أي: ولم يزد العدد على الضعف، وخرج بالتولي

وَالدِّيبَاجِ، وَالشُّرْبِ في آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، وقالَ: "هُنَّ لَهُمْ في الدُّنْيَا، وَهِيَ لَكُمْ فِي الآخِرَةِ". متفق عَلَيْهِ. وفي رواية في الصحيحين عن حُذيْفَةَ - رضي الله عنه -: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لاَ تَلْبسُوا الحَرِيرَ وَلاَ الدِّيبَاجَ، وَلاَ تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَلاَ تَأكُلُوا في صِحَافِهَا" (¬1) . 1795- وعن أنس بن سِيِرين ـــــــــــــــــــــــــــــ المهملة وسكون التحتية بعدها موحدة تقدم الكلام عليه في اللباس، وأنه ثوب سداه ولحمته إبريسم، ويقال هو معرب. والخلاف في أن ياءه زائدة، وأنه بوزن فيعال أو أصل بدل من الموحدة وأصله دباج بالتضعيف (والشرب في آنية الذهب والفضة وقال: هن) أي: أولى النقدين (لهم) أي: الكفار (في الدنيا) بمعنى حالها لهم ديمان الصحيح أنهم مخاطبون بفروع الشريعة، بل معنى أنهم المستعملون لها في الدنيا عادة، وهو نعيمهم الذي قدره الله لهم فيها، وما لهم في الآخرة من نصيب (وهي) عبر به بعد أن عبر بضمير جمع النسوة، قيل تفنناً في التعبير (لكم) أيها المؤمنون (في الآخرة) يعني في الجنة (متفق عليه) وفيه تحريم استعمال آنية النقدين على الرجال وغيرهم، بإدراج النساء في ضمن الذكور تغليباً على قول المحققين، وحقيقة على قول غيرهم، إذ علة الحرمة عين النقدين مع الخيلاء، وهي مشتركة بين الصنفين، ويحرم اتخاذهما أيضاً لأن ما حرم استعماله حرم اتخاذه عندنا، كالطنبور، ْوفيه المجازاة على الصبر على الزائل الفاني بالدائم الباقي (وفي رواية في الصحيحين عن ْحذيفة رضي الله عنه) الأخصر والأولى عنه قال: (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لا تلبسوا الحرير ولا الديباج) هو مقصور على الذكور لأن علة تحريمه من أن فيه خنوثة تنافي شهامتهم مقصورة عليهم (ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها) أي: صحاف آنية الذهب والفضة وهي بكسر الصاد المهملة جمع صحفة وهي دون القصعة، وخص فيه الشرب والأكل بالذكر لغلبتهما في الاستعمال لا للتقييد. وخص الإِناء بالشرب، والصحاف بالأكل، لأنهما معدان لهما غالباً. 1795- (وعن أنس ابن سيرين) الأنصاري أبو موسى، وقيل أبو ضمرة. وقيل أبو عبد الله ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الأشربة، باب: الشرب في آنية الذهب والشرب في آنية الفضة، (10/83) . وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال أواني الذهب والفضة ... ، (الحديث: 4) .

1796- عن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: نَهَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَتَزَعْفَرَ الرجُل. متفق عَلَيْهِ (¬1) . 1797- وعن عبد اللهِ بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قَالَ: رأى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ، فَقَالَ: "أُمُّكَ أمَرَتْكَ بِهَذا؟! " قلتُ: أَغْسِلُهُمَا! قَالَ: "بَلْ أَحْرِقْهُمَا". وفي رواية، فَقَالَ: "إنَّ هَذَا مِنْ ثِيَابِ الكُفَّارِ فَلاَ تَلْبَسْهَا". رواه مسلم (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ عمر، وفيه قال البيهقي بعد أن نقل عن الشافعي تحريم المزعفر: على الرجل دون المعصفر، والصواب، تحريم المعصفر عليه أيضاً للأحاديث الصحيحة، التي لو بلغت الشافعي لقال بها، وقد أوصانا بالعمل بالحديث الصحيح. ذكر ذلك في الروضة، والخنثى في ذلك كالرجل احتياطاً. 1796- (عن أنس رضي الله عنه قال نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتزعفر الرجل) شامل لبعض الثوب وللاطلاء بالزعفران (متفق عليه) . 1797- (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي: أبصر (على ثوبين معصفرين) أي: مصبوغين بالعصفر (فقال أمك) بالرفع مبتدأ (أمرتك بهذا) أي: بلبسه، قال المصنف بمعناه أن هذا من لباس النساء وزينتهن وأخلاقهن (قلت اغسلهما) أي: منه (قال: بل احرقهما) قيل هو عقوبة وتغليظ لزجره وزجر غيره عن مثل هذا الفعل ونظيره، أمرتك: المرأة التي لعبت الناقة بإرسالها (وفي رواية) هي لمسلم أيضاً من حديث ابن عمرو أيضاً ورواها كذلك النسائي (فقال إن هذه) أي: الثياب المعصفرة (من ثياب أهل النار) أي: وهم غير متعبدين بأحكام الشرع في الدنيا لعدم إيمانهم وإن كانوا مخاطبين بها (فلا تلبسها رواه مسلم) باللفظين المذكورين في الباب. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: اللباس، باب: التزعفر للرجال (10/256، 257) . وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: نهى الرجل عن التزعفر، (الحديث: 77) . (¬2) أخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: النهي عن لبس الرجل الثوب المعصفر، (الحديث: 27 و28) .

366- باب في النهي عن صمت يوم إلى الليل

366- باب في النهي عن صمت يوم إلَى الليل 1798- عن عليٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: حَفِظْتُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ يُتْمَ بَعْدَ احْتِلاَمٍ، وَلاَ صُمَاتَ يَومٍ إِلَى اللَّيْلِ". رواه أَبُو داود بإسناد حسن. قَالَ الخَطَّابِيُ ـــــــــــــــــــــــــــــ باب النهي تنزيهاً (عن صمت يوم إلى الليل) . 1798- (عن علي) بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووالد السبطين (رضي الله عنه) قال السيوطي في التوشيح: قال أحمد والنسائي وغيرهما: لم يرد في حق أحد من الصحابة بالأسانيد الجياد، أكثر مما جاء في علي، وكأن السبب في ذلك أنه تأخر ووقع الاختلاف في زمانه، وكثر المحاربون والخارجون عليه، فكان ذلك سبباً لانتشار مناقبه، لكثرة من كان يرويها من الصحابة رداً على من خالفه. وإلا فالثلاثة قبله لهم في المناقب ما توازيه وتزيد عليه اهـ وكان علي أصغر من جعفر بعشر سنين، وقيل: إن علياً أول من آمن به - صلى الله عليه وسلم -، روي ذلك عن جماعة من الصحابة حتى قال بعضهم: أليس أول من صلى لقبلتهم وأعلم الناس بالفرقان، والسنن والصحيح عند الجمهور أن أبا بكر أول من أسلم من الرجال البالغين، بويع علي بالخلافة بعد قتل عثمان وتخلف عن بيعته معاوية وأهل الشام، وكان بينهم ما كان من القتال بصفين وغيرها، ثم قام الخوارج فقاتلهم فقتلهم وبقي من بقاياهم نذر يسير، فانتدب لهم منهم أشقى الآخرين عبد الرحمن بن ملجم المرادي وكان فاتكاً ملعوناً فطعنه في رمضان سنة أربعين وقبض أول ليلة من العشر الأخير. واختلف في موضع دفنه وفي مبلغ سنه، فقيل: ثلاث وستون، قاله أبو نعيم وهو قول عبد الله بن عمر، وصححه ابن عبد البر. وقيل: سبعة وخمسون، وقيل: ثمانية وخمسون وهو قول البخاري، وقيل: أربعة وستون وهو قول ابن حبان. وروي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسمائة حديث وسبعة وثلاثون حديثاً. وقال: وقال أبو نعيم الأصبهاني: اسند أربعمائة حديث ونيفاً من المتون سوى الطرق، وقال البرقي: الذي حفظ لنا عنه نحو مائتي حديث روي منها في الصحيحين أربعة وأربعون حديثاً اتفقا على عشرين منها وانفرد البخاري بتسعة ومسلم بخمسة عشر (قال: حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) يحتمل بالسماع من لفظه وهو الأقرب، ويحتمل بواسطة فيكون مرسل صحابي (لا يتم بعد احتلام) وسواء فيه الرجل والمرأة، ومثله البلوغ بالسن فيرتفع اليتم بالبلوغ ويرتفع أحكامه (ولا صمات) بضم المهملة مصدر صمت من باب قتل صمتاً وصموتاً إذا سكت، ومنه الحديث: "وإذنها

367- باب في تحريم انتساب الإنسان إلى غير أبيه وتوليه إلى غير مواليه

لاَ يَحِلُّ، هَذَا مِنْ عَمَلِ الجَاهِليَّةِ، فَتَكَلَّمَتْ. رواه البخاري (¬1) 367- باب في تحريم انتساب الإنسان إِلَى غير أَبيه وَتَولِّيه إِلَى غير مَواليه 1800- عن سعد بن أَبي وقاص - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَنِ ادَّعَى ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه شرعاً المحتاج إليه (لا يحل) حلاً مستوى الظرفين وعلل ذلك بقوله (هذا من عمل الجاهلية) وجاء الأمر بمخالفتهم لعدم ابتناء عملهم على أصل شرعي، إلا ما جاء الأمر ببقائه (فتكلمت) فيه الإِيماء إلى مبادرتها إلى الامتثال وعدم توانيها فيه عند تدبر الأمر لها. وقال ابن قدامة الحنبلي في المغني ليس من شريعة الإِسلام الصمت عن الكلام وظاهر الأخبار تحريمه، واحتج بحديث أبي بكر وحديث علي المذكور قال: وإن نذر ذلك لم يلزمه الوفاء به، وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي، ولا نعلم فيه مخالفاً اهـ. قال الشيخ أبو إسحاق في التنبيه: ويكره صمت يوم إلى الليل، قال ابن الرفعة في شرحه إذ لم يؤثر ذلك بل جاء في حديث ابن عباس النهي عنه، ثم قال: نعم ورد في شرع من قبلنا فإن قلنا إنه شرع لنا لم يكره بل يستحب، قاله ابن يونس قال: وفيه نظر لأن الماوردي قد روى عن ابن عمر موفوعاً "صمت الصائم تسبيح" قال: فإن صح دل على مشروعية الصمت، وإلا فحديث ابن عباس أقل درجاته الكراهة، قال: وحيث قلنا إن شرع من قبلنا شرع لنا فذاك إذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه اهـ. وهو كما قال وقد ورد النهي، والحديث المذكور لا يثبت، وقد أورده صاحب ْمسند الفردوس من حديث ابن عمر بسند فيه راو ساقط ولو ثبت لما أفاد المقصود لأن لفظه "صمت الصائم تسبيح ونومه عبادة ودعاؤه مستجاب". فالحديث مساق في أن أفعال الصائم كلها محبوبة لا أن الصمت بخصوصه مطلوب، قال في الفتح: والأحاديث الواردة في فضل الصمت، لا تعارض ما جزم به في التنبيه من الكراهة لاختلاف المقاصد في ذلك. والصمت المرغب فيه ترك الكلام في الباطل، وكذا المباح إن جر إلى شيء من ذلك، والصمت المنهي عنه ترك الكلام في الحق لمن يستطيعه وكذا المباح المستوى الطرفين اهـ. ملخصاً (رواه البخاري في باب أيام الجاهلية) . باب تحريم انتساب الإِنسان إلى غير أبيه حراً كان أو رقيقاً (وتوليته غير مواليه) أي: معتقيه. 1800- (عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من ادعى) بتشديد الدال ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: مناقب الأنصار، باب: أيام الجاهلية، (7/112، 113) .

الإبِلِ، وَأشْيَاءُ مِنَ الجَرَاحَاتِ، وَفِيهَا: قَالَ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "المَدينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ، فَمَنْ أحْدَثَ فِيهَا حَدَثاً، أَوْ آوَى مُحْدِثاً، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أجْمَعِينَ، لاَ يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ يَومَ القِيَامَةِ صَرْفاً وَلاَ عَدْلاً. ذِمَّةُ المُسْلِمينَ وَاحِدَةٌ، يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِماً، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ يَومَ القِيَامَةِ صَرْفاً ـــــــــــــــــــــــــــــ الإِبل وأشياء من) مسائل (الجراحات) وأحكامها (وفيها قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة حرام) كمكة لكن لا ضمان في المتلف من صيدها، بخلاف صيد الحرم المكي (ما بين عير) بفتح المهملة وسكون التحتية (إلى ثور) بفتح المثلثة وسكون الواو وآخره راء. قال المصنف جبل صغير وراء جبل أحد، يعرفه أهل المدينة (فمن أحدث فيها حدثاً) كائن ابتدع فيها بدعة في الدين أو تسبب لإِحداث أذى المسلمين من مكس أو ظلامة (أو آوى) بالمد (محدثاً) بصيغة الفاعل أي: فاعل الحدث المذكور وبفتح الدال مصدر ميمي فيكون في الحديث مضاف مقدر أي: إذا أحدث (فعليه لعنة الله) بمنعه له من الرحمة (والملائكة والناس أجمعين) سؤالهم ذلك من الله تعالى، وفيه عظم المعصية بالمدينة. قال السيد السمهودي: الصغيرة من الذنب إذا فعلت بالمدينة صارت كبيرة للوعيد المذكور (لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً) قيل الصرف الفريضة، والعدل النافلة قاله الجمهور، وعكسه الحسن. وقال الأصمعي: الصرف التوبة والعدل الفدية. وقال يونس: الصرف الاكتساب، والعدل الفدية. وقال أبو عبيد: العدل الحيلة وقيل العدل المثل. وقيل: الصرف الدية والعدل الزيادة. قال القاضي وقيل: معناه لا تقبل فريضته ولا نافلته قبول رضاً، وإن قبلت قبولاً آخر. وقيل: يكون القبول هنا بمعنى تكفير الذنب منهما، قال: وقد يكون معنى الفدية هنا أنه لا يجد في يوم القيامة فداء يفتدي به، بخلاف غيره من المذنبين الذين يتفضل الله عز وجل على من يشاء منهم، بأن يفديه من النار بيهودي أو نصراني، كما ثبت في الصحيح اهـ. ملخصاً من شرح المصنف على مسلم (وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم) ولو عبداً أو امرأة فإيمانهما صحيح قاله إمامنا الشافعي، والحديث شاهد له (فمن أخفر) بالخاء المعجمة والفاء (مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً) قال المصنف: معناه من نقض أمان مسلم، فتعرض لكافر أمنه مسلم، فعليه ذلك (ومن ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) قال المصنف: هذا تصريح في تغليظ تحريم الانتساب إلى غير أبيه، وانتماء

وَلاَ عَدْلاً. وَمَن ادَّعَى إِلَى غَيرِ أَبيهِ، أَوْ انْتَمَى إِلَى غَيرِ مَوَاليهِ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعينَ؛ لاَ يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ يَومَ القِيَامَةِ صَرْفاً وَلاَ عَدْلاً" متفق عَلَيْهِ. "ذِمَّةُ المُسْلِمِينَ" أيْ: عَهْدُهُمْ وأمَانَتُهُمْ. "وأخْفَرَهُ": نَقَضَ عَهْدَهُ. "وَالصَّرْفُ": التَّوْبَةُ، وَقِيلَ الحِيلَةُ. "وَالعَدْلُ": الفِدَاءُ (¬1) . 1803- وعن أَبي ذَرٍّ - رضي الله عنه -: أنَّه سَمِعَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: "لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ كَفَرَ، وَمَنِ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ، فَلَيْسَ مِنَّا، وَلَيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ـــــــــــــــــــــــــــــ المعتق إلى غير مواليه، لما فيه من كفر النعمة، وتضييع حقوق الإِرث والولاء والعقل وغير ذلك، مع ما فيه من القطيعة والعقوق (لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً) زيادة في إذلاله وإبعاده عن الرحمة (متفق عليه ذمة) بكسر المعجمة وتشديد الميم (المسلمين أي: عهدهم وأمانتهم) بيان لها بالمراد بها في الحديث أي: أن أمان المسلمين للكافر صحيح بشروطه المعروفة، فإذا وجدت حرم التعرض له كما قاله فمن أخفره إلخ. (وأخفره) بالضبط السابق (نقض عهده) أي: نقض أمانه وتعرض للكافر الذي أمنه. قال أهل اللغة: أخفرت الرجل إذا نقضت عهده، وخفرته إذا أمنته (والصرف التوبة) تقدم أنه قول الأصمعي وأنه جاء مرفوعاً (وقيل: الحيلة) هو قول أبي عبيد (والعدل الفدية) هو قول يونس. 1803- (وعن أبي ذر أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ليس من) زائدة للتأكيد (رجل ادعى) بتشديد الدال أي انتسب (لغير أبيه وهو يعلمه) أي: وقصده نفي نسب أبيه عنه، وإلا فلو اشتهر بالنسب إلى جده أو من تبناه مثلاً، فانتسب لذلك لشهرته غير قاصد انتفاءه من نسبه، فلا يشمله الوعيد الآتي (إلا كفر) أي: إن استحله، وقد علم بالتحريم المعلوم من الدين بالضرورة والإِجماع. هذا إن حمل على الكفر المضاد للإِيمان، وإن أريد منه الكفران المقابل للشكر، فالأمر ظاهر (ومن ادعى ما ليس له) عامداً عالماً (فليس منا) أي: على هدينا وطريقنا (وليتبوأ مقعده من النار) أي: فلينزل أو فليتخذ منزله منها. قال الخطابي: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الفرائض، باب: إثم من تبرأ من مواليه وفي الجزية والاعتصام (4/73، 74) . وأخرجه مسلم في كتاب: الحج، باب: فضل المدينة ودعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها بالبركة ... ، (الحديث: 467، 468) .

368- باب في التحذير من ارتكاب ما نهى الله - عز وجل - أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - عنه قال الله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) .

وَمَنْ دَعَا رَجُلاً بالكُفْرِ، أَوْ قَالَ: عَدُو اللهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلاَّ حَارَ عَلَيْهِ". متفق عَلَيْهِ، وهذا لفظ رواية مسلم (¬1) . 368- باب في التحذير من ارتكاب ما نهى الله - عز وجل - أَو رسوله - صلى الله عليه وسلم - عنه قال الله تعالى (¬2) : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أمْرِهِ أنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) . وقال تعالى (¬3) : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأصله من تباة الإِبل. وهي أعطانها. ثم إنه دعي بلفظ الأمر أي بوأه الله ذلك، وقيل: خبر بلفظ الأمر أي: فقد استوجبها. ثم معناه هذا جزاؤه وقد يجازى به وقد يعفو الله الكريم عنه، ولا يقطع عليه بدخول النار، قال المصنف (ومن دعا رجلاً بالكفر) كائن قال له يا كافر (أو قال عدو الله) بالنصب على تقدير حرف النداء وبالرفع: خبر مبتدأ، أي: هو عدو الله، وليس المدعو أي: المقول له (كذلك) أي: متلبساً بما رماه به القائل (إلا حار) المهملة والراء أي: رجع (عليه) قوله وصار القائل كما قال في أخيه أي: إن اعتقد أن الإِيمان القائم بذلك المقول له كفر، وأن المؤمن القائم به ذلك كافر، وإلا فهو محمول على الزجر والتنفير (متفق عليه وهذا لفظ رواية مسلم) . باب التحذير من ارتكاب ما نهى الله عز وجل أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - عنه سواء كان النهي على وجه الجزم والاقتضاء، فيكون للتحريم. أولاً، وسواء كان الثاني بنهي مقصود، وهو المكروه أو غير مقصود. وهو خلاف الأولى، وذلك لشمول النيه لكلٍ وإن كان الأول أغلظ لحصول الإِثم بفعل المنهى عنه فيه لا في الثاني (قال الله تعالى: فليحذر الذين يخالفون) معرضين (عن أمره أن تصيبهم فتنة) في الدنيا (أو يصيبهم عذاب أليم) في الآخرة وإذا ورد هذا الوعيد في مخالفة أمر الرسول والإعراض عنه، فعن أمر الحق أحق (وقال تعالى: ويحذركم الله نفسه) أي: عن عقاب يصدر عن نفسه، وهذا غاية ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: المناقب، باب: حدثنا أبو معمر عن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع ... ، (الحديث: 6/393) . وأخرجه مسلم في كتاب: الأيمان، باب: حال إيمان من رغب عن أبيه وهو يعلم، (الحديث: 112) . (¬2) سورة النور، الآية: 63. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 30.

369- باب فيما يقوله ويفعله من ارتكب منهيا عنه

وَقَالَ تَعَالَى (¬1) : (إنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) . وَقَالَ تَعَالَى (¬2) : (وَكَذِلكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) . 1804- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إنَّ اللهَ تَعَالَى يَغَارُ، وَغَيْرَة اللهِ، أنْ يَأْتِيَ المَرْءُ مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ". متفق عليه (¬3) . 369- باب فيما يقوله ويفعله من ارتكب منهياً عنه قال الله تعالى (¬4) : (وَإمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) . وقال تعالى (¬5) : (إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ ـــــــــــــــــــــــــــــ التحذير. كما يقال: احذر غضب السلطان نفسه (وقال تعالى: إن بطش ربك) أي: أخذه بالعنف لأعدائه (لشديد) مضاعف (وقال تعالى: وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى) أي: أهلها (وهي ظالمة) أسند إليها ما هو لأهلها مجازاً عقلياً من الإِسناد للمكان نحو نهر جار (إن أخذه أليم شديد) وجيع صعب. 1804- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله تعالى يغار) المراد من الغيرة بالنسبة إليه تعالى غايتها من المنع كما قال (وغيرة الله) بفتح المعجمة وسكون التحتية (أن يأتي العبد ما حرم الله) أي: منع إتيان العبد ما حرمه (متفق عليه) . باب ما يقوله ويفعله من ارتكب منهياً عنه محرماً كان أو مكروهاً (قال الله تعالى: وإما) مركب من أن الشرطية، وأما المزيدة للتأكيد (ينزغنك من الشيطان نزغ) أي: أفسدك من الشيطان فساد (فاستعذ) أي تحصن من شره (بالله وقال تعالى: إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف) لمة ووسوسة، من طاف به الخيال ¬

_ (¬1) سورة البروج، الآية: 12. (¬2) سورة هود، الآية: 102. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب: النكاح، باب: الغيرة، (9/281) . وأخرجه مسلم في كتاب: التوبة، باب: غيرة الله تعالى، وتحريم الفواحش، (الحديث: 36) . (¬4) سورة الأعراف، الآية: 200. (¬5) سورة الأعراف، الآية: 201.

1805- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ حَلَفَ فَقَالَ في حَلفِهِ: بِاللاَّتِ وَالعُزَّى، فَلْيَقُلْ: لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبهِ: تَعَالَ أُقَامِركَ فَلْيَتَصَدَّقْ". متفق عليه (¬1) . *** ـــــــــــــــــــــــــــــ 1805- (عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من حلف فقال في حلفه باللات والعزى فليقل) كفارة لذكرها في معرض التعظيم الموهم له (لا إله إلا الله ومن قال لصاحبه تعالى أقامرك) في القاموس قامره مقامرة وقماراً فقمره كنصره وتقمر راهنه فغلبه (فليتصدق) ليكون ثوابها كفارة لسيئته القولية (متفق عليه) قال في الجامع الكبير: ورواه الشافعي وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: التفسير/النجم وأخرجه في كتاب الأدب والاستئذان والإِيمان، (11/467) . وأخرجه مسلم في كتاب: الأيمان، باب: من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله (الحديث: 5) .

فَمَنْ أدْرَكَهُ مِنْكُمْ، فَلْيَقْرَأ عَلَيْهِ فَواتِحَ سُورَةِ الكَهْفِ؛ إنَّهُ خَارِجٌ خَلَّةً بَيْنَ الشَّامِ وَالعِرَاقِ، فَعَاثَ يَمِيناً وَعَاثَ شِمالاً، يَا عِبَادَ اللهِ فَاثْبُتُوا" قُلْنَا: يَا رسُولَ اللهِ، وَمَا لُبْثُهُ في الأرْضِ؟ قال: "أرْبَعُونَ يَوماً: يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمْعَةٍ، وَسَائِرُ أيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ" قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، فَذلكَ اليَوْمُ الَّذِي كَسَنَةٍ أتَكْفِينَا فِيهِ صَلاَةُ يَوْمٍ؟ قَال: "لا، اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ". قُلْنَا: يا رسولَ اللهِ، وَمَا إسْراعُهُ في ـــــــــــــــــــــــــــــ أنت مؤمن وهو كافر، فقال الحافظ في الفتح: إنها ضعيفة فإن في سندها المسعودي وقد اختلط، والمحفوظ أنه عبد العزى بن قطن وأنه هلك في الجاهلية (فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف) أي: فإنها تدفع فتنته عن قارئها، كما ورد كذلك وقيل عشر آيات من آخر سورة الكهف. جاء ذلك في رواية أخرى قال القرطبي: والحزم والاحتياط أن يقرأ عشراً من أولها وعشراً من آخرها. وعند أبي داود من حديث النواس "فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف فإنها جوار لكم من فتنته" اهـ. (أنه خارج خله بين الشام والعراق) قال المصنف: هو في نسخ بلادنا بفتح المعجمة واللام وتنوين الهاء. وقال القاضي عياض: المشهور فيه فتح المعجمة وتشديد اللام ونصب الهاء غير منونة. قيل معناه سميت ذلك وتأمله ورواه بعضهم محله بضم اللام وبهاء الضمير أي: نزوله وحلوله. قال وكذا ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين ببلادنا. وهو الذي رجحه صاحب نهاية الغريب وفسره بالطريق بينهما، وكان على المصنف حيث اقتصر على هذا المعنى فيما يأتي أن يضبطه (فعاث يميناً وعاث شمالاً) قال المصنف: روي بفتح المثلثة فيهما فعل ماض، وحكى القاضي أنه روى عاث: بصيغة اسم الفاعل قال التوربشتي: إنما قال يميناً وشمالاً إشارة إلى أنه لا يكتفي بإفساد ما يطؤه من البلاد، بل يبعث سراياه يميناً وشمالاً فلا يأمن من شره مؤمن، ولا يخلو من فتنته موطن (يا عباد الله فاثبتوا) أي: على الإِيمان ولا تزيغوا عنه (قلنا يا رسول الله وما لبثه في الأرض) استئناف للسؤال عن قدر لبثه في الدنيا (قال أربعون يوماً) هو ما بين طلوع الشمس وغروبها (يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة) قال العلماء: هذا الحديث على ظاهره، وهذه الأيام الثلاث طويلة على هذا القدر المذكور في الحديث، يدل عليه قوله (وسائر) أي: باقي (أيامه كأيامكم) المعتادة في القدر (قلنا: يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم) سألوا عن الذي هو كسنة، وظاهر جريان ذلك فيما هو كشهر وما هو كجمعة، وسكتوا عن ذلك لظهور أن لا فرق بينهما في ذلك (قال لا) أي: لا يكفيكم ذلك (أقدروا له) بضم الهمزة (قدره) أي: إنه إذا مضى بعد طلوع الفجر قدر ما يكون بينه

الأرْضِ؟ قال: "كَالغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ، فَيَأتِي عَلَى القَوْمِ، فَيدْعُوهُم فَيُؤمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ، فَيَأمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ، وَالأرْضَ فَتُنْبِتُ، فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ أطْوَلَ مَا كَانَتْ ذُرىً وَأسْبَغَهُ ضُرُوعاً، وأمَدَّهُ خَوَاصِرَ، ثُمَّ يَأتِي القَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ، فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَولَهُ، فَيَنْصَرفُ عَنْهُمْ، فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ ـــــــــــــــــــــــــــــ وبين الظهر كل يوم، فصلوا الظهر، ثم إذا مضى بعده قدر ما يكون بينها وبين العصر، فصلوا العصر. وهكذا ما بينها وبين المغرب وما بين المغرب والعشاء وما بينهما وبين الصبح والظهر والعصر، حتى ينقضي ذلك اليوم وقد وقع فيه صلوات سنة، كلها فرض مؤداة في وقتها. واليومان الذي كشهر وكجمعه على قياس هذا. قال القاضي عياض: هذا حكم مخصوص، شرعه لنا صاحب الشرع، ولولا هذا الحديث ووكلنا إلى اجتهادنا لاقتصرنا فيه على الصلوات عند الأوقات المعروفة في غيره من الأيام. قال العاقولي: أقول هذا مما جره التعمق في السؤال، إذ لو لم يسألوا وسكتوا، لكان حكمه حكم سائر الأيام ولكن سألوا، فجرى مثل ما جرى لبني إسرائيل وسؤالهم عن البقرة حتى بلغ بهم الحرج ما علمت، وما نقلناه من إجراء الحديث على ظاهره أولى مما مشى عليه التوربشتي من تأويله، وأن اليوم لا يزاد فيه أصلاً وأنه كنى يكون يوم كسنة الخ عن شدة أهواله وفتنه، وبتقدير الصلوات عن الاجتهاد عند مصادفة تلك الأهوال إلى كشفها. وقد ردّ ابن الجوزي ذلك التأويل، وكذا القرطبي في المفهم بما فيه طول (قلنا يا رسول الله وما إسراعه في الأرض. قال: كالغيث استدبرته الريح فيأتي على القوم فيدعوهم) أي: إلى أنه ربهم وإلى الإِيمان بذلك (فيؤمنون به ويستجيبون له) أي: ويجيبونه (فيأمر السماء) أي: بالمطر (فتمطر) أي: حالاً (والأرض) بالنصب أي: يأمرها بالنبات (فتنبت فتروح) أي: ترجع (عليهم سارحتهم) بالسين والراء والحاء المهملات: هي المال السائم (أطول) بالنصب حال (ما) مصدرية (كانت ذري) بضم الذال المعجمة جمع ذروة بضم وكسر أي: ترجع إليهم من المرعى أطول، ألوانها عظيمة السنام، مرتفعة من السمن والشبع، (وأشبعه ضروعاً) بالشين المعجمة والموحدة والمهملة أي: إملاءه وإسناد الشبع إليها من الإِسناد إلى السبب. وضبطه العاقولي بالمهملة والموحدة والغين المعجمة قال: أي: أطوله لكثرة اللبن (وأمده خواصر) أي: لكثرة امتلائها من الشبع (ثم يأتي القوم) أي: غير أولئك كما يدل عليه السياق وكون اللفظ الثاني إذا أعيد معرفة، غير الأول أغلبي لا كلي (فيدعوهم فيردون عليه قوله) ويثبتون على التوحد (فينصرف عنهم) أي: راجعاً (فيصبحون) أي: يصيرون (ممحلين) بالمهملة. قال التوربشتي: يقال أمحل

وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ، فَيَمُرُّ أوائِلُهُمْ عَلَى بُحيرَةِ طَبَريَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا، وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُونَ: لَقَدْ كَانَ بهذِهِ مَرَّةً ماءٌ، وَيُحْصَرُ نَبيُّ اللهِ عِيسَى - صلى الله عليه وسلم - وأصْحَابُهُ حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الثَّوْرِ لأَحَدِهِمْ خَيْراً مِنْ مِئَةِ دينَارٍ لأَحَدِكُمُ اليَوْمَ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى - صلى الله عليه وسلم - وأصْحَابُهُ - رضي الله عنهم - إلى اللهِ تَعَالَى، فَيُرْسِلُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمُ النَّغَفَ في رِقَابِهِمْ، فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِيُّ اللهِ ـــــــــــــــــــــــــــــ أعجميان ألفهما كألف هاروت وما أشبهه، وعليه فالهمز قياس إنما هو على لغة من همز الألف، كقائم ووزنها فاعول اهـ. وقاق الحافظ في الفتح هما اسمان أعجميان عند الأكثرين. وقيل عربيان. واختلف في اشتقاقهما. فقيل من أجيج النار أي: التهابها. وقيل من الإِياجة أي الاختلاط وشدة الحر. وقيل من الأج أي: سرعة العدو. وقيل: من الأجاج أي: الماء الشديد الملوحة وجميع ما ذكر من الاشتقاق مناسب لحالهم (من كل حدب) بفتح أوليه المهملتين وبالموحدة النشر (ينسلون) أي: مسرعين (فيمر أولهم على بحيرة طبرية) بضم الموحدة وفتح المهملة وسكون التحتية مصغر بحرة وطبرية بفتح المهملة والموحدة اسم مكان بفارس (فيشربون ما فيها ويمر آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرة) أي: في وقت (ماء) واسم كان أخر لنكارته وقدم عليه خبره الظرفي المسوغ للابتداء به (ويحصر) بضم التحتية وفتح المهملة الثانية من المحاصرة (نبي الله عيسى وأصحابه) أي: يمنعون من يأجوج ومأجوج من النزول إلى الأرض حتى (يكون رأس الثور لأحدهم) أي: عنده، وإنما ذكر رأس الثور ليقاس به البقية في ارتفاع القيمة وذهب بعضهم إلى أنه أراد برأس الثور نفسه أي: تبلغ قيمة الثور إلى ما فوق المائة لاحتياجهم إليه في الزراعة. قال التوربشتي ولم يصب لأن رأس الثور قل ما يراد به عند الإِطلاق نفسه، بل يقال: رأس ثور أو رأس من الثور، ثم إن في الحديث أنهم محصورون، وما للمحصور والزراعة لا سيما على الطور اهـ. (خيراً من مائة دينار لأحدكم اليوم) وذلك لقوة حاجتهم للطعام واضطرارهم إليه (فيرغب نبي الله عيسى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى الله تعالى) أي: ابتهلوا وتضرعوا إليه وسألوه دفع أذى يأجوج ومأجوج وفي إهلاكهم (فيرسل الله تعالى عليهم) أي: على يأجوح ومأجوج (النغف) بضم النون وفتح الغين المعجمة وبالفاء دود يكون في أنوف الإِبل والغنم الواحدة نغفة (في رقابهم فيصبحون فرسى) بفتح الفاء وسكون الراء وبالسين المهملة (كموت نفس واحدة) أي: يموتون دفعة واحدة، قال التوربشتي: نبه بالكلمتين النغف وفرسى، على أنه تعالى يهلكهم في أدنى ساعة بأهون شيء وهو النغف. فيفرسهم فرس السبع فريسته، بعد

عِيسَى - صلى الله عليه وسلم - وأصْحَابُهُ - رضي الله عنهم - إلى اللهِ تَعَالَى، فَيُرْسِلُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمُ النَّغَفَ في رِقَابِهِمْ، فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى - صلى الله عليه وسلم -، وأصْحَابُهُ - رضي الله عنهم - إلى الأرْضِ، فَلاَ يَجِدُونَ في الأرْضِ مَوْضِعَ شِبْرٍ إلاَّ مَلأَهُ زَهَمُهُمْ وَنَتَنُهُمْ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى - صلى الله عليه وسلم - وَأصْحَابُهُ - رضي الله عنهم - إلى اللهِ تَعَالَى، فَيُرْسِلُ اللهُ تَعَالَى طَيْراً كَأَعْنَاقِ البُخْتِ، فَتَحْمِلُهُمْ، فَتَطْرَحُهُمْ حَيثُ شَاءَ اللهُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللهُ - عز وجل - مَطَراً لاَ يُكِنُّ مِنهُ بَيْتُ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ، فَيَغْسِلُ الأرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا كَالزَّلَقَةِ، ثُمَّ يُقَالُ للأرْضِ: أنْبِتي ثَمَرتكِ، وَرُدِّي بَرَكَتَكِ، فَيَوْمَئِذٍ تَأكُلُ العِصَابَةُ مِنَ الرُّمَّانَةِ، وَيَسْتَظِلُّونَ بِقَحْفِهَا، وَيُبَارَكُ فِي الرِّسْلِ حَتَّى أنَّ اللّقْحَةَ مِنَ الإِبِلِ لَتَكْفِي الفِئَامَ مِنَ النَّاسِ؛ وَاللِّقْحَةَ مِنَ البَقَرِ لَتَكْفِي القَبِيلَةَ مِنَ النَّاسِ، وَاللِّقْحَةَ مِنَ الغَنَمِ لَتَكْفِي الفَخِذَ ـــــــــــــــــــــــــــــ أن طارت نفرة البغي في رءُوسهم، فزعموا أنهم قاتلوا من في السماء (ثم يهبط نبي الله عيسى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى الأرض) لذهاب المانع من النزول إليها قبل (فلا يجدون في الأرض موضع شبر) مفعول به ليجد (إلا ملأه زهمهم) بفتح الزاي والهاء (ونتنهم) بالنون والفوقية أي: سهم رائحتهم الكريهة (فيرغب نبي الله عيسى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى الله تعالى) أي: في دفع ذلك (فيرسل الله طيراً كأعناق البخت) بضم الموحدة وسكون المعجمة وبالفوقية (فتحملهم فتطرحهم حيث يشاء الله تعالى) من بر أو بحر (ثم يرسل الله عز وجل مطراً) أي: عظيماً كما يدل عليه وصفه بقوله (لا يكن) بكسر الكاف وتشديد النون (منه بيت مدر) بفتح الميم والدال وهو الطين الصلب (ولا وبر) بفتح الواو الموحدة أي: الخبأ (فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة) من النقاء واللين (ثم يقال للأرض انبتي ثمرتك ودري بركتك) أي: البركة التي كانت فيك أولاً (فيومئذ تأكل العصابة) بكسر المهملة الأولى (من الرمانة) لكمال كبرها (ويستظلون بقحفها) بكسر القاف وهو مقعر قشرها، شبهها بقحف الرأس وهو الذي فوق الدماغ، وقيل ما انفلق من جمجمته وانفصل قال السخاوي: في ختم سنن أبي داود (ويبارك في الرسل) بكسر فسكون (حتى أن اللقحة) بكسر اللام على الاسم وفتحها القريبة العهد بالولادة وجمعها لقح كبركة وبرك. واللقوح ذات اللبن وجمعها لقاح (من الابن) بكسر الألف والموحدة وبسكونها (لتكفي الفئام من الناس واللقحة) الكائنة أو كائنة (من البقر لتكفي القبيلة من الناس) هو فوق الفخذ عند علماء النسب (واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ) قال ابن فارس: هي بإسكان الخاء لا غير أما التي بمعنى العضو، فبفتح فكسر أو سكون أو بكسر فسكون أو فكسر اتباعاً، وهي لغات أربع جارية فيما كان على وزن علم، وعينه حرف

مِنَ النَّاسِ؛ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إذْ بَعَثَ اللهُ تَعَالَى ريحاً طَيِّبَةً فَتَأخُذُهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكُلِّ مُسْلِمٍ؛ وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ يَتَهَارَجُونَ فِيها تَهَارُجَ الحُمُرِ، فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ ". رواه مسلم. قولهُ: " خَلَّةً بَينَ الشَّامِ والعِراَقِ ": أي طَرِيقاً بَيْنَهُمَا. وقولُهُ: " عَاثَ " بالعين المهملة والثاء المثلثة، وَالعَيْثُ: أَشَدُّ الفَسَاد. " وَالذُّرَى ": بضم الذال المعجمة وهو أعالي الأسْنِمَةِ وهوَ جَمعُ ذِروةٍ بضمِ الذالِ وكَسْرها " وَاليَعَاسِيبُ ": ذُكُورُ النَّحْلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ حلق. والفخذ تقدم أنهم الجماعة من الأقارب. وهم دون البطن، والبطن دون القبيلة كما يأتي في كلامه (من الناس فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحاً طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض) بكسر الموحدة (روح كل مؤمن وكل مسلم) قال المصنف: كذا في جميع نسخ مسلم، وكل بالواو وإسناد القبض إلى الريح مجاز من الإِسناد إلى السبب (ويبقى شرار الناس يتهارجون) بالراء والجيم فيها (تهارج الحمر) بضمتين أي: تجامع الرجال النساء علانية بحضرة الناس، كما تفعل الحمير، ولا يكترثون لذلك. والهرج الجماع بكسر الراء يقال: هرج زوجته إذا جامعها، تهرجاً بتثليث حركة الراء ذكره المصنف (فعليهم) وحدهم دون المؤمنين (تقوم الساعة) أي: القيامة (رواه مسلم) ورواه الأربعة قال التوربشتي: فإن قيل: أوليس في هذه الأشياء الخارقة للعادة التي وردت في هذا الحديث وغيره من أحاديث َالدجال وظهورها على يديه مضلة للعقول، ومدعاة إلى اتباع الباطل وإخلال بما أعطى الله أنبياءه من المعجزات؟ فالجواب: أن الملعون إنما ترك ذلك لأن في نفس القصة ما يدع المتصبر عن الالتفات إليها فضلاً عن قبولها، ثم أنه لا يدعي النبوة بل يدعي الربوبية وهذا مما لا مساغ له في العقول ولا موقع له في القلوب لقيام دلائل الحدوث في نفس المدعي، مع أنه لم يترك دعواه حتى ألزم النقص الذي لا ينفك، ولا يخفى على ناظر مكانه، وهو العور الذي به. وإلى هذا المعنى أشار بقوله: ولكن أقولكم فيه قولاً لم يقله نبي لقومه أنه أعور الحديث. وقال أيضاً فإن قيل: أوليس قد ثبت في أحاديث الدجال أنه يخرج بعد خروج المهدي وأن عيسى يقتله كما في آخر الحديث، وذلك دليل أنه لا يخرج وهو - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرهم، بل ولا تراه القرون الأولى من هذه الأمة، فما الحكم في قوله إن يخرج وأنا فيكم؟ فالجواب: إنما سلك هذه المسالك من التورية لإِبقاء الخوف على المكلفين من فتنته، واللجأ إلى الله تعالى من شره، لينالوا الفضل من الله ويتحققوا بالشح على دينهم؟ اهـ. (وقوله خلة بين الشام والعراق أي: طريقاً بينهما) تقدم ضبط خلة، والخلاف فيه وما ذكره المصنف (وقوله عاث بالمهملة والمثلثة) تقدم أنه بصيغة الماضي، وحكي بصيغة اسم

1807- وعن رِبعِيِّ بنِ حِرَاشٍ، قال: انطلقت مع أبي مسعود الأنصاري إلى حُذَيفَةَ بن اليمان - رضي الله عنهم -، فقال له أبو مسعود: حَدِّثْنِي ما سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، في الدَّجَّالِ، قال: "إنَّ الدَّجَّالَ يَخْرُجُ، وإنَّ مَعَهُ مَاءً وَنَاراً، فَأَمَّا الَّذِي يَرَاهُ النَّاسُ مَاءً فَنَارٌ تُحْرِقُ، وأمَّا الَّذِي يَرَاهُ النَّاسُ نَاراً، فَمَاءٌ بَارِدٌ عَذْبٌ. فَمَنْ أدْرَكَهُ مِنْكُمْ، فَلْيَقَعْ فِي الَّذي يَراهُ نَاراً، فَإنَّهُ مَاءٌ عَذْبٌ طَيِّبٌ" فقال أبو مسعود: وَأنَا قَدْ سَمِعْتُهُ. متفق عليه (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1807- (وعن ربعيّ) بكسر الراء وسكون الموحدة وبالمهملة (بن حراش) بكسر المهملة وتخفيف الراء آخره شين معجمة، وتقدم أنه تابعي (قال: انطلقت مع أبي مسعود الأنصاري) هو البدري لشهوده وقعتها أو سكناه بها، على الخلاف المتقدم فيه، (إلى حذيفة بن اليمان رضي الله عنهم فقال له أبو مسعود حدثني بما) أي: الذي (سمعت) بحذف العائد، ويحتمل كون ما مصدرية والمصدر المنسبك بمعنى المفعول، ولا يخفى ما فيه من البعد (عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدجال قال:) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يدل له قول أبي مسعود آخراً وأنا قد سمعته، وحذف العائد على حذيفة فلم يكتبه اكتفاء بدلالة المقام عليه (أن الدجال يخرج) أي: في أواخر الدنيا (وأن معه ماء وناراً) جملة معطوفة على الجملة المحكية قبلها أو حال من فاعل يخرج (فأما الذي يراه الناس) أي يبصرونه حال كونه (ماء فنار تحرق) بضم التحتية من الاحراق (وأما الذي يراه الناس ناراً فماء عذب) أي: حلو (طيب) ضد الكدر. قال المصنف: قال العلماء: من جملة فتنه التي امتحن الله بها عباده ليحق الحق ويبطل الباطل، ثم يفضحه بعد، ويظهر عجزه وقال الحافظ: هذا كله يرجع إلى اختلاف المرء بالنسبة إلى الراءي، فإما أن يكون الدجال ساحراً فيخيل الشيء بصورة عكسه، وإما أن يجعل الله بأرض الجنة التي يسخرها للدجال ناراً وباطن النار جنة، وهذا هو الراجح وإما أن يكون ذلك كناية عن الرحمة والنعمة بالجنة، وعن المحنة والنقمة بالنار، فمن أطاعه فأنعم عليه بجنته يؤول أمره إلى دخول نار الآخرة وبالعكس، ويحتمل أن يكون ذلك من جملة المحنة والفتنة فيرى الناظر ذلك من دهشته فيظنها جنة وبالعكس اهـ. (فقال أبو مسعود وأنا قد سمعته متفق عليه) رواه البخاري في ذكر بني إسرائيل وفي الفتن. ورواه مسلم في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل وفي الفتن، باب: ذكر الدجال، (13/87 و88) . وأخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: ذكر الدجال، وصفته وما معه، (الحديث: 107 و108)

1808- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَخْرُجُ الدَّجَّالُ في أُمَّتِي فَيَمْكُثُ أرْبَعِينَ، لاَ أدْرِي أرْبَعِينَ يَوماً أو أرْبَعِينَ شَهْراً، أو أرْبَعِينَ عَاماً، فَيَبْعَثُ اللهُ تَعالَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ - صلى الله عليه وسلم -، فَيَطْلُبُهُ فَيُهْلِكُهُ، ثُمَّ يَمْكُثُ النَّاسُ سَبْعَ سِنِينَ لَيسَ بَينَ اثْنَينِ عَدَاوةٌ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللهُ - عز وجل - ـــــــــــــــــــــــــــــ الفتن. ورواه أيضاً أبو داود في الملاحم من سننه عن حذيفة موقوفاً. وعن أبي مسعود الأنصاري مرفوعاً. 1808- (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين. لا أدري أربعين يوماً أو أربعين شهراً أو أربعين عاماً. قال في فتح الباري: والجزم بأنها أربعون يوماً مقدم على هذا الترديد (فيبعث الله عيسى ابن مريم) أي: من السماء إلى الأرض (- صلى الله عليه وسلم - فيطلبه) أي: فيدركه بالشام (فيهلكه) أي: بأن يقتله ولا ينافيه من أنه يذوب حينئذ كذوبان الملح، لأن ذلك لعله يكون ابتداء اللقي، ثم يسارعه عيسى بالقتل زيادة في الإِهانة (ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة) يحتمل أنها المدة الخالصة من الأكدار البتة في زمن عيسى عليه السلام، وإلا فذكر الشيخ جلال الدين السيوطي أنه يمكث بعد نزوله أربعين سنة ولفظه في حاشية تفسير البيضاوي قوله في هذا الحديث: ويمكث في الأرض أربعين سنة. قال الحافظ عماد الدين ابن كثير: يشكل عليه ما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عمرو: أنه يمكث في الأرض سبع سنين، قال: اللهم إلا أن يحمل هذه السبع على مدة إقامته بعد نزوله. وتلك مضافاً إلى مكثه فيها قبل رفعه إلى السماء وكان عمره إذ ذاك ثلاثاً وثلاثين على المشهور. والله أعلم. أقول وقد أقمت سنين أجمع بذلك ثم رأيت البيهقي قال في كتاب البعث والنشور هكذا في الحديث: إن عيسى يمكث في الأرض أربعين سنة. وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمرو فيبعث الله عيسى ابن مريم، فيطلبه فيهلكه ثم تلبث الناس بعده سبع سنين، ليس بين اثنين عداوة. قال البيهقي: يحتمل أن يكون قوله: ثم يلبث الناس أي: بعد موته فلا يكون مخالفاً للأول، فترجح عندي هذا التأويل، لأن الحديث ليس نصاً في الإِخبار عن مدة لبث عيسى، وذاك نص فيها لأن ثم يؤيد هذا التأويل. وكذا قوله يلبث الناس بعده فيتجه أن الضمير فيه لعيسى، لأنه أقرب مذكور؛ ولأنه لم يرد في ذلك سوى الحديث المحتمل ولا ثاني له. وورد مكث عيسى أربعين سنة في عدة أحاديث، من طرق مختلفة: منها الحديث المذكور. وهو صحيح. ومنها ما أخرجه الطبراني من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ينزل عيسى

ريحاً بَارِدَةً مِنْ قِبَلِ الشَّامِ، فَلاَ يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيرٍ أو إيمَانٍ إلاَّ قَبَضَتْهُ، حَتَّى لو أنَّ أَحَدَكُمْ دَخَلَ فِي كَبِدِ جَبَلٍ، لَدَخَلَتْهُ عَلَيهِ حَتَّى تَقْبِضَهُ، فَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ في خِفَّةِ الطَّيْرِ، وأحْلامِ السِّبَاعِ، لاَ يَعْرِفُونَ مَعْرُوفاً، ولا يُنْكِرُونَ مُنْكَراً، فَيَتَمَثَّلُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ، فيَقُولُ: ألاَ تَسْتَجِيبُونَ؟ فَيَقُولُونَ: فَمَا تأمُرُنَا! فَيَأمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ الأوْثَانِ، وَهُمْ في ذلِكَ دَارٌّ رِزْقُهُمْ، حَسَنٌ عَيشُهُمْ، ثُمَّ يُنْفَخُ في الصُّورِ، فَلاَ يَسْمَعُهُ أحَدٌ إلاَّ أصْغَى لِيتاً وَرَفَعَ لِيتاً، ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن مريم، فيمكث في الأرض أربعين سنة، لو يقول للبطحاء سيلي عسلاً لسألت". ومنها ما أخرجه أحمد في مسنده عن عائشة مرفوعاً في حديث الدجال: "فينزل عيسى ابن مريم فيقتله، ثم يمكث في الأرض أربعين سنة، إماماً عادلاً وحكماً مقسطاً" وورد أيضاً من حديث ابن مسعود عند الطبراني فهذه الأحاديث المتعددة أولى من ذلك الحديث الواحد المحتمل اهـ. (ثم يرسل الله عز وجل ريحاً باردة) تقدم في حديث النواس بدل باردة قوله طيبة فلعل طيبها بردها وبين جهة مهبها بقوله: (من قبل الشام فلا يبقى) بالتحتية (على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضت) من الإِسناد إلى السبب كما تقدم (حتى لو أن أحدكم) الخطاب للمؤمنين الموجود بعضهم حاله (دخل في كبد) بفتح فكسر على الأفصح أي: وسط وداخل (جبل لدخلته عليه حتى تقبضه فيبقى شرار الناس) بكسر المعجمة (في خفة الطير) بكسر المعجمة وتشديد الفاء، والطير يجوز أن يكون اسم جمع طائر، وأن يكون واحد الطيور (وأحلام) بالمهملة (السباع) بكسر المهملة وبالموحدة وبعد الألف مهملة أيضاً. قال المصنف: قال العلماء: معناه يكونون في سرعتهم إلى الشر وقضاء الشهوة والفساد: كطيران الطير، وفي العدو خلف بعضهم بعضاً أحلام السباع العادية (لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً) لشدة الجهل (فيتمثل لهم الشيطان) أي: يتصور لهم على مثال شخص فيخاطبهم (فيقول ألا تستجيبون فيقولون. فما تأمرنا فيأمرهم بعبادة الأوثان وهم في ذلك دار) بتشديد الراء (رزقهم) أي: ما ينتفعون به (حسن عيشهم) أي: ما يعيشون به من الطعام والشراب والملبس: والجملة خبر بعد خبر وجملة وهم الخ حال، أتى بها لبيان ما ترتب على ضلالهم من رفاهية العيش وخصوبته. وفي الكلام حذف، أي: فيجيبونه لذلك كما جاء ما يدل لذلك. (ثم ينفخ في الصور) نفخة الصعق (فلا يسمعه) أي: النفخ المدلول عليه بالفعل. (أحد إلا أصغى ليتاً) بالصاد المهملة وبالغين المعجمة أي: مال (ورفع ليتاً

وَأوَّلُ مَنْ يَسْمَعُهُ رَجُلٌ يَلُوطُ حَوْضَ إبِلِهِ فَيُصْعَقُ ويُصْعَقُ النَّاسُ حولهُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللهُ -أو قالَ: يُنْزِلُ اللهُ - مَطَراً كَأَنَّهُ الطَّلُّ أو الظِّلُّ، فَتَنْبُتُ مِنهُ أجْسَادُ النَّاسِ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ، ثُمَّ يُقالُ: يا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمَّ إلَى رَبِّكُمْ، وَقِفُوهُمْ إنَّهُمْ مَسْئُولُونَ، ثُمَّ يُقَالُ: أخْرِجُوا بَعْثَ النَّارِ فَيُقَالُ: مِنْ كَمْ؟ فَيُقَالُ: مِنْ كُلِّ ألْفٍ تِسْعَمِئَةٍ وَتِسْعَةً وتِسْعِينَ؛ فَذَلِكَ يَومٌ يَجْعَلُ الوِلْدَانَ شِيباً، وَذَلِكَ يَومَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ". رواه مسلم. "اللِّيتُ": صَفْحَةُ ـــــــــــــــــــــــــــــ وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله) أي: يطينه ويصلحه (فيصعق ويصعق الناس ثم يرسل الله أو قال: ينزل الله مطراً كأنه الطل) بالمهملة (أو) شك من الراوي (الظل) بالمعجمة قال المصنف: والأصح بالمهملة، وهو الموافق للرواية الأخرى كمني الرجال (فتنبت منه) أي: بسببه أو من معدية للفعل (أجساد الناس من عجب الذنب) الباقي من جسد الإِنسان في القبر وهي عظم في أصل العصعص قدر الخردل (ثم ينفخ فيه) أي: الصور (أخرى) للبعث (فإذا هم قيام) من قبورهم (ينظرون) أو ينظر بعضهم بعضاً أو ينتظرون أمر الله فيهم (ثم يقال يا أيها الناس هلموا) كذا في نسخة بضمير الجماعة، وهي لغة تميم. وفي أخرى صحيحة بحذفها وهي لغة الحجاز، وبها جاء التنزيل قال الله تعالى: (قل هلم شهداءكم) (¬1) (إلى ربكم وقفوهم) أي: في عرصات القيامة (إنهم مسئولون) عن ما عملوه في الدنيا وتلبسوا به (ثم يقال) أي: للملائكة الموكلين بالناس يومئذ كما يدل عليه قوله (أخرجوا بعث النار) بضمير الجماعة وهو لا ينافي الحديث الصحيح عند البخاري، يقال لآدم اخرج بعث النار من ذريتك (الحديث) لجواز أمر كل منه ومنهم بذلك زيادة في التهويل والتفظيع، وبعث مصدر بمعنى المفعول، أي: المبعوث إليها (فيقال من كم فيقال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين) فالباقي من الألف للجنة واحد (فذاك يوم) بالرفع خبر اسم الإِشارة، ويجوز نصبه على الظرفية. والخبر محذوف وهو بالتنوين موصوف بقوله: (يجعل الولدان شيبا) الإِسناد إلى اليوم من الإِسناد إلى السبب (وذاك يوم يكشف عن ساق) أي: يكشف عن حقائق الأمور وشدائد الأهوال وكشف الساق، مثل في ذلك. وقيل يكشف عن ساق: أي: نور عظيم يخرون له سجداً. جاء هذا التفسير مرفوعاً (رواه مسلم ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية: 150.

العُنُقِ. وَمَعْنَاهُ يَضَعُ صَفْحَةَ عُنُقِهِ وَيَرْفَعُ صَفْحَتَهُ الأُخْرَى (¬1) . 1809- وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيسَ مِنْ بَلَدٍ إلاَّ سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ إلاَّ مَكَّةَ وَالمَدِينَةَ؛ وَلَيْسَ نَقْبٌ مِنْ أنْقَابِهِمَا إلاَّ عَلَيْهِ المَلاَئِكَةُ صَافِّينَ تَحْرُسُهُمَا، فَيَنْزِلُ بالسَّبَخَةِ، فَتَرْجُفُ المَدِينَةُ ثَلاَثَ رَجَفَاتٍ، يُخْرِجُ اللهُ مِنْهَا كُلَّ كافِرٍ وَمُنَافِقٍ". رواه مسلم (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الليت) بكسر اللام وسكون التحتية وبالمثناة الفوقية (صفحة العنق) بضمتين وبسكون الثاني تخفيفاً. (ومعناه يضع صفحة عنقه ويرفع صفحة الأخرى) أي: من عظم الهول وشدة الأمر. 1809- (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال) الاستثناء مرفوع، واسم ليس مجرور بمن: للتأكيد؛ وخبرها محذوف. أي: ليس بلد موجودة إلا سيطأه الدجال ابتلاء لأهله؛ وزيادة في ثواب التائبين. (إلا مكة والمدينة) والمسجد الأقصى ومسجد الطور، كما جاء ذلك في حديث رواه أحمد بسندٍ، رجاله ثقات أشار إليه الحافظ في الفتح (وليس نقب) بفتح النون وسكون القاف آخره موحدة أي: خرق قال في المصباح وهو في الأصل مصدر سمي به (من أنقابها إلا عليه الملائكة صافين) حال مقدرة من الظرف المستقر (تحرسهما) استئناف بياني، أو حال بعد أخرى متداخلة أو مترادفة والمراد تحرسهما من الدجال (فينزل بالسبخة) بفتح المهملة والموحدة وبالخاء المعجمة، وهي الأرض الرملة التي لا تنبت لملوحتها، وهذه الصفة خارج المدينة من غير جهة الحرة. وجاء في رواية أنه "ينزل بسبخة الجرف" (فترجف المدينة ثلاث رجفات) قال الحافظ: يجمع بينه وبين حديث لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال بأن الرعب المنفي الخوف والفزع، حتى لا يحصل لأحد فيها بسبب نزوله بها شيء منه، أو هو عبارة عن غايته وهو غلبته عليها والمراد بالرجفة الإِرفاق. وهو إشاعة مجيئه وأنه لا طاقة لأحد به، فيسارع حينئذ إليه من يتصف بالنفاق أو الفسق، فظهر حينئذ تمام أنها تنفي خبثها اهـ. (يخرج الله منها كل كافر ومنافق رواه مسلم) . ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: في خروج الدجال ومكثه في الأرض ... ، (الحديث: 116) . (¬2) أخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: قصة الجساسة، (الحديث: 123) .

1810- وعنه - رضي الله عنه -: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَتْبَعُ الدَّجَّالَ مِنْ يَهُودِ أَصْبَهَانَ سَبْعُونَ ألْفاً عَلَيْهِم الطَّيَالِسَةُ". رواه مسلم (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1810- (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يتبع) بسكون الفوقية (الدجال من يهود أصبهان) بكسر الهمزة والموحدة وفتحها وتبدل فاء (سبعون ألفاً عليهم الطيالسة) جملة في محل الحال المقدرة (رواه مسلم) ورواه أحمد وأبو عوانة وابن حبان قال الحافظ في الفتح: ولا يلزم من هذا كراهة لبس الطيلسان. قال الحافظ السيوطي في كتاب "الأحاديث الحسان في فضل الطيلسان": وهو واضح لأن الكراهة تحتاج إلى نهي خاص به، ولا وجود له، وإذا لبس الكفار ملبوس المسلمين: لا يكره للمسلمين لبسه. قال الحافظ ابن حجر: وقيل المراد بالطيالس الأكسية اهـ. وزاد غيره أن المراد الطيلسان المقور. قال السيوطي: وهذا أصح الأقوال فيه، ويؤيده ما أخرجه أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر الدجال فقال: "يكون معه سبعون ألفاً من اليهود على رجل منهم ساج وسيف". قال ابن الأثير في النهاية: الساج: الطيلسان الأخضر، وقيل: هو الطيلسان المقور، ينسج كذلك. قال الزركشي في الخادم: والمراد بالمقور المدور كما قاله الأزهري أنه ينسج مدوراً يعني كهيأة السفرة ولهذا شبه بتقوير البطيح والجيب اهـ. وقال القاضي أبو يعلى بن الفراء من الحنابلة: لا يمنع أهل الذمة من الطيلسان المقور الطرفين المكفوف الجانبين الملفف بعضها إلى بعض ما كانت العرب تعرفه وهو لباس اليهود قديماً والعجم أيضاً والعرب تسميه ساجاً، ويقال: إن أول من لبسه من العرب جبير بن مطعم. وكان ابن سيرين يكرهه اهـ. وفي الأوائل للعسكري: أول من لبسه من العرب في الإِسلام عبد الله بن عامر بن كريز. وقيل جبير بن مطعم. وكذا قال الشيخ تقي الدين بن تيمية: إن الطيلسان المقور لا أصل له في السنة، ولم يكن من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة، بل هو من شعار اليهود. وفي الصحيح "أن الدجال يخرج معه سبعون ألفاً من اليهود عليهم الطيالسة" وقال بعد كلام طويل ما لفظه: فتبين بهذه النقول أن كل من وقع في كلامه من العلماء: كراهة الطيلسان وكونه شعار اليهود، إنما أراد المنور، والذي على شكل الطرحة، يرسل من وراء الظهر والجانبين، من غير إدارة تحت الحنك، ولا إلقاء لطرفيه تحت الكتفين، وأما المربع الذي يدار من تحت الحنك ويغطى الرأس وأكثر الوجه ويجعل طرفاه على الكتفين، فلا خلاف في أنه سنة اهـ. كلام السيوطي ملخصاً. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: في بقية من أحاديث الدجال، (الحديث: 124) .

1813- وعن أبي سعيدٍ الخدري - رضي الله عنه -، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فَيَتَوجَّهُ قِبَلَهُ رَجُلٌ مِنَ المُؤمِنِينَ فَيَتَلَقَّاهُ المَسَالِحُ: مَسَالِحُ الدَّجَّال. فَيقُولُونَ لَهُ: إلى أيْنَ تَعْمِدُ فَيَقُولُ: أعْمِدُ إلى هذَا الَّذِي خَرَجَ. فَيَقُولُونَ لَهُ: أوَمَا تُؤْمِنُ بِرَبِّنَا؟ فَيقُولُ: مَا بِرَبِّنَا خَفَاءٌ! فَيَقُولُونَ: اقْتُلُوهُ. فَيقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ألَيْسَ قَدْ نَهَاكُمْ رَبُّكُمْ أنْ تَقْتُلُوا أحَداً دُونَهُ، فَيَنْطَلِقُونَ بِهِ إلى الدَّجَّالِ، فَإذَا رَآهُ المُؤْمِنُ قالَ: يا أيُّهَا النَّاسُ، إنَّ هذَا الدَّجَّال الَّذي ذَكَرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فَيَأمُرُ الدَّجَّالُ بِهِ فَيُشَبَّحُ؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ 1813- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يخرج الدجال) قال في فتح الباري: الذي يدعيه أنه يخرج أولاً فيدعي الإِيمان والصلاح، ثم يدعي النبوة ثم يدعي الألوهية. كما أخرجه الطبراني من طريق سليمان بن شهاب قال: نزل على عبد الله بن المغنم وكان صحابياً، فحدثني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الدجال ليس به خفاء يجيء من قبل المشرق فيدعو إلى الدين فيتبع ويظهر، ولا يزال حتى يقدم الكوفة ويظهر الدين، ويعمل به ْثم يتبع ويحث على ذلك ثم يدعي أنه نبي فيفزع من ذلك كل ذي لب ويفارقه فيمكث بعد ذلك ثم يقول أنا إله فتغشى عينه وتقطع أذنه ويكتب بين عينيه كافر فلا يخفى ذلك على مسلم فيفارقه كل أحد من الخلق في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان" وسنده ضعيف. (فيتوجه قبله) بكسر القاف وفتح الموحدة أي: جهته (رجل من المؤمنين) قال المصنف: قال أبو ْإسحاق. يقال إن هذا هو الخضر. وأبو إسحاق هذا هو راوي صحيح مسلم عن مسلم وكذا قال معمر في جامعه في أثر هذا الحديث، كما ذكره أبو سفيان وهذا منهم تصريح بحياة الخضر وهو الصحيح اهـ. (فتتلقاه المسالح) بالمهملتين (مسالح الدجال) بدل كل مما قبله (فيقولون له إلى أين تعمد) بكسر الميم أي: تقصد (فيقول أعمد إلى هذا الذي خرج) ضمن أعمد معنى: اذهب والإِتيان بالمجرور اسم إشارة للتحقير والإِهانة، كالتعبير بقوله وخرج (فيقولون له أو ما تؤمن بربنا فيقول) رداً لقولهم ربنا، الظاهر في عموم المتكلم وغيره (ما بربنا خفاء) أي: أن أوصافه العلية ظاهرة لا خفاء فيها، والدجال منظره يدل على كذبه (فيقولون) أي: لقول بعضهم لبعض (اقتلوه فيقول بعضهم لبعض) عبر عنهم أولاً بيقولون، وثانياً بما ذكرنا، تفنناً في التعبير ودفعاً لثقل التكرير، وإيماء إلى أن ما وقع من بعض القوم ورضي به الباقون جازت نسبته للجميع (أليس قد نهاكم ربكم) يعنون الدجال (أن تقتلوا أحداً دونه فينطلقون به إلى الدجال) فيأتون إليه (فإذا رآه المؤمن) أي: وقع بصره عليه ونظر ما بعينيه من العور وما بوجهه من كتابة كافر (قال) عند رؤيته له (يا أيها الناس هذا الدجال

فَيَقُولُ: خُذُوهُ وَشُجُّوهُ. فَيُوسَعُ ظَهْرُهُ وَبَطْنُهُ ضَرْباً، فَيقُولُ: أَوَمَا تُؤْمِنُ بِي؟ فَيَقُولُ: أَنْتَ المَسِيحُ الكَذَّابُ! فَيُؤْمَرُ بِهِ، فَيُؤْشَرُ بِالمنْشَارِ مِنْ مَفْرِقِهِ حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ. ثُمَّ يَمْشِي الدَّجَّالُ بَيْنَ القِطْعَتَيْنِ ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: قُمْ، فَيَسْتَوِي قَائِماً. ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: أَتُؤْمِنُ بِي؟ فَيَقُولُ: ما ازْدَدْتُ فِيكَ إلاَّ بَصِيرَةً. ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّهُ لاَ يَفْعَلُ بَعْدِي بِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ؛ فَيَأخُذُهُ الدَّجَّالُ لِيَذْبَحَهُ، فَيَجْعَلُ اللهُ مِا بَيْنَ رَقَبَتِهِ إلَى تَرْقُوَتِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــ الذي ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) بحذف العائد اختصاراً لأن المقام له (فيأمر الدجال به فيشبح) بضم التحتية وفتح المعجمة والموحدة بعدها مهملة أي: يمد على بطنه (فيقول خذوه وشجوه) بالمعجمة والجيم من الشج قال المصنف: وهو الجرح في الرأس والوجه. يقال شجه إذا شق جلده. ويقال هو مأخوذ من شجت السفينة البحر إذا شقته جارية فيه كذا في المصباح. وهذا أحد وجوه ثلاث في روايات ذكرها المصنف. ثانيها أنها من التشبيح والشق معاً. وثالثها أنها من الشبح كذا قال المصنف. وصحح القاضي الوجه الثاني وهو الذي ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين، والأصح عندنا الأول (فيوسع) بالبناء للمفعول وهو بالتحتية والمهملة (ظهره وبطنه ضرباً) بالنصب على التمييز (فيقول أو ما تؤمن بي فيقول) صبراً على التعذيب في الله (أنت المسيح الكذاب) هو بمعنى الدجال على أحد الأقوال (فيؤمر به فيؤشر بالمئشار) قال المصنف: هكذا الرواية بالهمز فيهما وهو الأفصح ويجوز تخفيفاً إبدالها واوا في الفعل وياء في الثاني، ويجوز المنشار بالنون كما تقدم ذلك مراراً (من مفرقه) بفتح الميم وكسر الراء أي: وسطه (حتى يفرق بين رجليه) غاية للفعل (ثم يمشي الدجال بين القطعتين) زيادة في الفتنة (ثم يقول له قم فيستوي قائماً) أي: فيحيى فيستوي قائماً (ثم يقول له أتؤمن بي فيقول: ما ازددت فيك إلا بصيرة) أي: استبصاراً أو تعرفاً أنك الدجال (ثم يقول) أي: المؤمن (يا أيها الناس إنه لا يفعل) أي: الفعل المدلول عليه بالمقام (بعدى بأحد من الناس فيأخذه الدجال ليذبحه) إذ لم يؤمن به (فيجعل الله ما بين رقبته إلى ترقوته) بفتح الفوقية وضم القاف وسكون الراء: وهي العظم الذي بين نقرة النحر والعاتق من الجانبين. قال بعضهم: ولا تكون الترقوة لشيء من الحيوان غير الإِنسان. ثم إن "إلى" يحتمل أنها بمعنى الواو، لأن "بين" لا تضاف إلا إلى متعدد، ويحتمل أن يقال في الكلام مضاف مقدر أي أخر رقبته، ولعل هذا أقرب (نحاساً) بضم النون على الأفصح وبالمهملتين يحتمل إجرائه على ظاهره وحقيقته وأن الله يجعل الجلدة أو عليها النحاس ويحتمل أنه مجاز

نُحَاساً، فَلاَ يَسْتَطِيعُ إلَيهِ سَبيلاً، فَيَأخُذُهُ بِيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَيَقْذِفُ بِهِ، فَيَحْسَبُ النَّاسُ أَنَّهُ قَذَفَهُ إلَى النَّارِ، وَإنَّمَا أُلْقِيَ فِي الجَنَّةِ". فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا أعْظَمُ النَّاس شَهَادَةً عِندَ رَبِّ العَالَمِينَ". رواه مسلم. وروى البخاري بعضه بمعناه. "المسالِح": هُمُ الخُفَرَاءُ والطَّلائِعُ (¬1) . 1814- وعن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال: ما سألَ أَحَدٌ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ـــــــــــــــــــــــــــــ أو كناية عن الحيلولة عنه وعدم التمكن منه كما قال (فلا يستطيع الوصول إليه) أي: بالقتل وفي نسخة فلا يستطيع إليه سبيلاً أي بالقتل (فيأخذ بيديه ورجليه) الباء مزيدة في المفعول للتأكيد كقوله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) (¬2) (فيقذف) بكسر الذال المعجمة أي: يرمى (به فيحسب الناس) أي: يظنون (أنه قذف في النار) لكونها بصورتها (وإنما ألقي) بالبناء للمجهول (في الجنة) حقيقة لأن ناره جنة، وبالعكس كما تقدم (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين) لأنه قال: الحق عند الظالم الكاذب الجائر، وإن ثبت ما تقدم من أنه الخضر فيكون فيه بيان وقت وفاته، وأنه لا يبقى إلى انقراض الدنيا، بل لا يلقى عيسى عليه السلام (رواه مسلم وروى البخاري) في كتاب الفتن (بعضه بمعناه) من حديث أبي سعيد ولفظه "يأتي الدجال وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة، فيدخل بعض السباخ التي تلي المدينة فيخرج إليه يومئذ رجل وهو خير الناس أو من خير الناس، فيقول أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثه، فيقول: أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته. هل تشكون في الأمر؟ فيقولون لا فيقتله ثم يحييه فيقول والله ما كنت فيك أشد بصيرة مني اليوم فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه". (المسالح) بالمهملتين (هم الخفراء) بضم المعجمة وبالفاء (والطلايع جمع) طليعة وهو من يتقدم القوم ويتطلع لهم الأخبار. وقال بعضهم، المسالح: الرجل المسلم جمع مسلحة. وهم قوم ذو سلاح. ولعل المراد به هنا: مقدمة الجيش. أصله موضع السلاح ثم استعمل للثغر فإنه تعد فيه الأسلحة، ثم للجند المترصدين ثم لمقدم الجيش، فإنهم كأصحاب الثغور لمن وراءهم من المسلمين. 1814- (وعن المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه قال ما سأل أحد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الفن وأشراط الساعة، باب: في صفة الدجال وتحريم المدينة عليه وقتله المؤمن وإحيائه، (الحديث: 113) . (¬2) سورة البقرة، الآية: 195.

عَن الدَّجَّالِ أَكْثَرَ مِمَّا سَألْتُهُ؛ وإنَّهُ قَالَ لِي: "مَا يَضُرُّكَ" قُلْتُ: إنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ مَعَهُ جَبَلَ خُبْزٍ وَنَهَرَ مَاءٍ. قالَ: "هُوَ أهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ ذَلكَ". متفق عليه (¬1) . 1815- وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ نَبِيٍّ إلاَّ وَقَدْ أَنْذَرَ أُمَّتَهُ الأَعْوَرَ الكَذَّابَ، ألاَ إنَّهُ أعْوَرُ، وإنَّ رَبَّكُمْ - عز وجل - لَيْسَ بِأَعْوَرَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ مما سألته) أي: عنه أو من سؤالي وهذا لفظ البخاري. ولفظ مسلم أكثر ما سألته بحذف من (وأنه قال لي ما يضرك) وفي رواية مسلم وما ينصبك منه بنون وصاد مهملة ثم موحدة من النصب يعني التعب (قلت أنهم) بفتح الهمزة وبتقدير اللام المصرح بها في رواية البخاري قال الحافظ والظرف متعلق بمحذوف أي: الخشية أو نحوها لأنهم (يقولون أن معه جبل خبز) بضم المعجمة ولسكون الموحدة بعدها زاي أي: معه من الخبز قدر الجبل. أو أطلق الخبز وأريد به أصله: وهو القمح مثلاً. وفي رواية لمسلم معه جبال من خبز، ولحم ونهر من ماء وفي رواية "أن معه الطعام والأنهار" وفي رواية "أن معه الطعام والشراب" (ونهر ماء) بإسكان الهاء وبفتحها (قال: هو أهون على الله من ذلك) زاد مسلم. بل فقال هو أهون إلخ قال عياض: معناه هو أهون من أن يجعل ما يخلقه على يديه مضلاً للمؤمنين، ومشككاً لقلوب الموقنين، بل ليزداد الذين آمنوا إيماناً ويرتاب الذين في قلوبهم مرض. لا أن المراد بذلك: أنه ليس شيء من ذلك معه، بل المراد: أهون من أن يجعل شيئاً من ذلك آية على صدقه، سيما وقد جعل فيه آية ظاهرة في كذبه وكفره، يقرؤها من يقرأ ومن لا يقرأ، زائدة على شواهد كذبه من حديثه ونقصه. قال الحافظ في الفتح: وإنما أوله بذلك لصحة الأحاديث، بأن معه ما ذكر من الطعام والشراب. وقال ابن العربي: ويحتمل أن يكون المراد: هو أهون من أن يجعل ذلك له حقيقة، إنما هو تخييل وشبه على الأبصار، فيثبت المؤمن ويزل الكافر. ومال ابن حبان في صحيحه إلى ذلك (متفق عليه) . 1815- (وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما من نبي إلا وقد أنذر قومه) وفي نسخة أمته (الأعور الكذاب) وذلك لأنهم علموا بخروجه وشدة فتنته، وتوهم كل نبي إدراك أمته فأنذرهم منه (إلا) بتخفيف اللام: أداة استفتاح وحرف تنبيه (أنه أعور وإن ربكم عز وجل ليس بأعور) جملة معطوفة على مدخول أن قبلها، وإنما اقتصر على ذلك مع أن أدلة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الفتن، باب: ذكر الدجال، (13/80، 81) . وأخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: في الدجال وهو أهون على الله عز وجل، (الحديث: 114) .

"ألا أُحدِّثُكمْ حديثاً عن الدجالِ ما حدَّثَ بهِ نبيٌّ قَومَهُ! إنَّهُ أعورُ، وَإنَّهُ يجيءُ مَعَهُ بِمِثالِ الجنَّةِ والنَّارِ، فالتي يقولُ إنَّها الجَنَّةُ هي النَّار". متفقٌ عليهِ (¬1) . 1817- وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرَ الدَّجَّالَ بَيْنَ ظَهْرَانَي النَّاسِ، فَقَالَ: "إنَّ اللهَ لَيْسَ بِأعْوَرَ، ألاَ إنَّ المَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ العَيْنِ اليُمْنَى، كَأنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ". متفق عليه ـــــــــــــــــــــــــــــ الدجال) أي: عن آيات كذبه (ما حدث به نبي قومه) أي: إن إنذاره لقومه كان بغيره (أنه أعور وأنه يجيء معه بمثال) بكسر الميم وتخفيف المثلثة (الجنة والنار فالتي يقول إنها الجنة هي النار) أي: وبالعكس واكتفي بما ذكره لدلالته عليه (متفق عليه) واللفظ لمسلم. وأشار إليه البخاري بقوله في آخر باب ذكر الدجال فيه أبو هريرة وابن عباس، وذكر الحافظ في الفتح: يحتمل أنه أشار لهذا الحديث وهو أقرب اهـ. ملخصاً. 1817- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر الدجال بين ظهراني الناس) الظرف لغو متعلق "بذكر" وبين ظهراني: بفتح النون وكسر الياء لالتقاء الساكنين، بصيغة المثنى، أتى به للدلالة على زيادة الظهور وعدم الاختفاء؛ قال في فتح الباري: وزيدت الألف والنون فيه للنداء، ومعناه أن ظهرا منهم قدامه وظهرا خلفه، فكأنهم خفراء من جانبيه هذا أصله. ثم كثر حتى استعمل في الإِقامة بين القوم مطلقاً. ولذا زعم بعضهم أن لفظ "ظهراني" هنا زائدة (فقال إن الله ليس بأعور إلا أن المسيح الدجال أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة) فيه من المحسنات، الجناس المصحف. ومنه حديث: "ارفع إزارك فإنه أتقى وأنقى وأبقى" (طافية) بياء غير مهموزة أي: بارزة ولبعضهم بالهمز وهي التي ذهب ضوءها. قال عياض: روينا عن الأكثر بغير همز، وهو الذي صححه الجمهور وجزم به الأخفش، ومعناه أنها ناتئة نتوء حبة العنب من بين أخواتها. وضبطه بعضهم بالهمز، وأنكره بعض. والأوجه: الإِنكار. فقد جاء في حديث آخر "أنه ممسوح العين مطموسة وليست حجراً ولا يابسة". وهذه صفة حبة العنب إذا سال ماؤها. وهذا يصحح رواية الهمز. قال الحافظ في الفتح: والحديث المشار إليه عند أبي داود. وجمع القاضي عياض بين الروايتين فقال: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الأنبياء، باب: قوله تعالى (ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه) ، (6/264) . وأخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: ذكر الدجال وصفته وما معه، (الحديث: 109) .

1818- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ المُسْلِمُونَ اليَهُودَ، حَتَّى يَخْتَبِئَ اليَهُودِيُّ مِنْ وَرَاء الحَجَرِ وَالشَّجَرِ. فَيَقُولُ الحَجَرُ وَالشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ هذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي تَعَالَ فَاقْتُلْهُ؛ إلاَّ الغَرْقَدَ فإنَّهُ مِنْ شَجَرِ اليَهُودِ" متفق عليه (¬1) . 1819- وعنه - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَمُرَّ الرجُلُ على القَبْرِ، فَيَتَمَرَّغَ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: يَالَيْتَنِي كُنْتُ مَكَانَ صَاحِبِ هذَا القَبْرِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ مذكور في القرآن في قوله تعالى (لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس) (¬2) وأن المراد بالناس هنا الدجال من إطلاق اسم الكل على البعض. وهذا إن ثبت أحسن الأجوبة، فيكون من جملة ما تكفل - صلى الله عليه وسلم - ببيانه والعلم عند الله اهـ. 1818- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود وحتى يختبىء) أي: يختفي (اليهودي) من المسلم (من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر) أي: بلسان قاله بأن يقدره الله على النطق (يا مسلم هذا يهودي خلفي تعال فاقتله إلا الغرقد) بالمعجمة والقاف المفتوحتين والراء بينهما ساكنة آخره دال مهملة: شجر أضيف إليه البقيع مدفن المدينة (فإنه من شجر اليهود) قال الممينف: الغرقد نوع من شجر الشوك معروف ببلاد بيت المقدس، وهناك يكون قتل الدجال واليهود. وقال: أبو حنيفة الدينوري: إذا عظمت العوسجة صارت غرقداً اهـ. فأومأ إلى أن الإضافة إليهم لأدنى ملابسة (متفق عليه) . 1819- (وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذي نفسي بيده) أي: بقدرته (لا تمر) أي: تذهب (الدنيا حتى يمر الرجل بالقبر فيتمرغ) بالغين المعجمة أي: يتقلب (عليه فيقول) مما أصابه من الأنكاد الدنيوية (يا ليتني مكان صاحب هذا القبر) . "يا" فيه: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: قتال اليهود، (6/75) . وأخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل ... ، (الحديث: 82) . (¬2) سورة غافر، الآية: 57.

وَلَيْسَ بِهِ الدِّينُ، ما بِهِ إلاَّ البَلاَءُ". متفق عليه (¬1) . 1820- وعنهُ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَحْسِرَ الفُرَاتُ عَنْ جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ يُقْتَتَلُ عَلَيْهِ، فَيُقْتَلُ مِنْ كُلِّ مِئَةٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، فَيَقُولُ كُلُّ رجُلٍ مِنْهُمْ: لَعَلِّي أنْ أكُونَ أنَا أنْجُو" وَفي رواية: "يُوشِكُ أنْ يَحْسِرَ الفُرَاتُ عَنْ كَنْزٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَمَنْ حَضَرَهُ فَلاَ يَأخُذْ مِنْهُ شَيْئاً" متفق عليه (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ للتنبيه. وقيل: للنداء، والمنادى محذوف أي: يا قوم ليتني، وذلك لاستراحة الميت من نصب الدنيا وعنائها (وليس به الدين) أي: ليس سبب تمنيه الموت لأمر ديني عليه أو اختلال (ما به إلا البلاء) أي: ما سببه إلا تتابع المحن والأوصاب الدنيوية (متفق عليه) واللفظ لمسلم. ولفظ رواية البخاري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول ليتني مكانه". 1820- (وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تقوم الساعة حتى يحسر) بفتح التحتية وكسر المهملة الثانية أي: ينكشف (الفرات) بضم الفاء آخره مثناة، وذلك لذهاب مائه (عن جبل من ذهب يقتتل) بصيغة المجهول من الاقتتال (عليه فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون فيقول كل رجل منهم) أي: من المائة المتقاتلة وقد علموا أنه لا يبقى منها إلا واحد (لعلي أن أكون أنا أنجو) فيه حمل لعل على عسى أختها في معنى التوقع والإِشفاق. وفي الكلام مضاف مقدر: إما في المحكوم عليه أي: لعل شأني كوني أنجو، أو في المحكوم أي: لعلى ذا كون نجاة، ويصح ألا يقدر شيء، ويكون من حمل المصدر على اسم العين نحو زيد عدل مبالغة (وفي رواية يوشك) بضم التحتية وكسر المعجمة أي: يقرب (أن يحسر الفرات عن كنز من ذهب) فيه الاكتفاء بأن ومنصوبها عن جزئي الفعل (فمن حضره فلا يأخذ منه شيئاً) وذلك لأنه لا يصل إليه أحد إلا بعد التقاتل المذكور في الحديث قبله، فلا يصل إليه حتى يقتل عدداً. وقد يقتل هو، وإذا لم يتوجه إليه وامتثل النهي، سلم في نفسه وسلم منه غيره (متفق عليه) . ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الفتن، باب: لا تقوم الساعة حتى يغبط أهل القبور، (13/65) . وأخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشرط الساعة، باب: لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل ... ، (الحديث: 54) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الفتن، باب: خروج النار، (13/70) . =

1821- وعنهُ، قال: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "يَتْرُكُونَ المَدِينَةَ عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ، لاَ يَغْشَاهَا إلاَّ العَوَافِي يُريد - عَوَافِي السِّبَاعِ والطَّيرِ - وَآخِرُ مَنْ يُحْشَرُ رَاعِيَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ يُرِيدَانِ المَدِينَةَ يَنْعِقَانِ بِغَنَمِهِمَا فَيَجِدَانِهَا وُحُوشاً، حَتَّى إذَا بَلَغَا ثَنِيَّةَ الودَاعِ خَرَّا عَلَى وُجُوهِهمَا". متفق عليه (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1821- (وعنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يتركون) أي: الناس (المدينة على خير ما كانت) أي: خير أكوانها أو خير ما كانت عليه (لا يغشاها إلا العوافي) وأدرج تفسيرها في الحديث بقوله (يريد عوافي السباع والطير) قال المصنف: هو صحيح في اللغة مأخوذ من عفوته إذا أتيته تطلب معروفه، والظاهر أن الترك للمدينة سيكون في آخر الزمان عند قيام الساعة ويوضحه قوله (وآخر من يحشر) بصيغة المجهور (راعيان من مزينة) بضم الميم وفتح الزاي وسكون التحتية وبعدها نون. قال المصنف: وهما آخر من يحشر، كما ثبت في صحيح البخاري (يريدان) أي: يقصدان (المدينة) النبوية (ينعقان) بكسر المهملة أي: يصيحان (بغنمهما فيجدانها) أي: المدينة (وحوشاً) أي: ذات وحوش، لذهاب أهلها عنها. وعند مسلم وحشاً بالإِفراد. وحكى القاضي عن بعضهم. أن ضمير يجدانها عائد للغنم، وأن معناه إن غنمها تصير وحوشاً: إما بأن تنقلب ذاتها فتصير كذلك، أو تتوحش أو تنفر من أصواتهما. وأنكره واختار ما تقدم من عود الضمير على المدينة لا إلى الغنم. قال المصنف: وهو الصواب ومقابله غلط (حتى إذا بلغا ثنية) بفتح المثلثة وكسر النون وتشديد التحتية هي الطريق في الجبل (الوداع) الذي يخرج إليه المشيعون للمسافر ويودعونه عنده (خرا على وجوههما) وما ذكرنا من أن ذلك سيقع هو المختار في معنى الحديث. وقال القاضي: إنه جرى في العصر الأول وانقضى. قال: وهذا من معجزاته - صلى الله عليه وسلم -، فقد تركت المدينة على أحسن ما كانت حين نقلت الخلافة إلى الشام والعراق، وذلك الوقت أحسن ما كانت المدينة للدين والدنيا أما الدين فلكثرة العلماء بها، وأما الدنيا فلعمارتها وغرسها واتساع حال أهلها. قال: وذكر الإِخباريون في بعض الفتن التي جرت في المدينه وخاف أهلها، أنه رحل عنها أكثر الناس وبقيت ثمارها. أو أكثرها للعوافي، وخلت مدة، ثم تراجع الناس إليها. قال: وحالها اليوم قريب من هذا وخربت أطرافها اهـ. (متفق عليه) . ¬

_ = وأخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب، (الحديث: 31) . (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: فضائل المدينة، باب: من رغب عن المدينة، (4/77 و78) . وأخرجه مسلم في كتاب: الحج، باب: في المدينة حين يتركها أهلها، (الحديث: 499) .

1822- وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يكُونُ خَلِيفَةٌ مِنْ خُلَفَائِكُمْ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَحْثُو المَالَ وَلاَ يَعُدُّهُ". رواه مسلم (¬1) . 1823- وعن أبي موسى الأشعريِّ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَيَأتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَطُوفُ الرَّجُلُ فِيهِ بالصَّدَقَةِ مِنَ الذَّهَبِ فَلاَ يَجِدُ أَحَداً يَأخُذُهَا مِنهُ، وَيُرَى الرَّجُلُ الوَاحِدُ يَتْبَعُهُ أرْبَعُونَ امْرَأَةً يَلُذْنَ بِهِ مِنْ قِلَّةِ الرِّجَالِ وَكَثْرَةِ النِّسَاءِ". رواه مسلم (¬2) . 1824- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ 1822- (وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يكون خليفة من خلفائكم في آخر الزمان يحثو المال) قال المصنف: يقال: حثيت أحثي حثياً، وحثوت أحثو حثواً لغتان (ولا يعده) رأيت بخط ابن الخياط محدث اليمن: الظاهر والله أعلم أنه عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقد كثر المال في زمنه إلى الغاية حتى بلغ بهم النظر إلى استحلال ذمته وهو في آخر زمان الخلفاء. قال: كذا أظن والله أعلم بمراد نبيه - صلى الله عليه وسلم - (رواه مسلم) . 1823- (وعن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ليأتين على الناس زمان يطوف الرجل فيه بالصدقة من الذهب فلا يجد أحداً يأخذها منه) وذلك لإِخراج الأرض كنوزها وفيضان المال (وترى) أيها الصالح للخطاب (الرجل الواحد) الوصف به لدفع توهم أن المراد جنسه الصادق بالواحد فما فوقه (يتبعه) بسكون الفوقية (أربعون امرأة) وذلك إما لقلة الرجال في الحروب، أو لكثرة الإِناث دون الذكور من الأولاد (يلذن) بضم اللام وسكون الذال المعجمة أي: يعتصمن (به من قلة الرجال وكثرة النساء) بفتح الكاف والكسر رديء، ويقال هو خطأ. ومن: تعليلية نحو (مما خطيئاتهم أغرقوا) (¬3) (رواه مسلم) . 1824- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: اشترى رجل من رجل) وذلك ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل ... ، (الحديث: 69) . (¬2) أخرجه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: الترغيب في الصدقة قبل أن لا توجد من يقبلها، (الحديث: 59) . (¬3) سورة نوح، الآية: 25.

عَقَاراً، فَوَجَدَ الَّذِي اشْتَرَى العَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى العَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ، إنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الأَرْضَ وَلَمْ أشْتَرِ الذَّهَبَ، وَقَالَ الَّذِي لَهُ الأَرْضُ: إنَّمَا بِعْتُكَ الأَرْضَ وَمَا فِيهَا، فَتَحَاكَمَا إلَى رَجُلٍ، فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ؟ قالَ أحَدُهُما: لِي غُلاَمٌ، وقالَ الآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ قال: أنْكِحَا الغُلاَمَ الجَارِيَةَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ في زمن بني إسرائيل كما يومىء إليه إخراج البخاري له فيه (عقاراً) بفتح المهملة وبالقاف والراء، وهو في اللغة كل ملك ثابت له أصل كالدار والنخل قال بعضهم: وربما أطلق على المتاع كذا في المصباح (فوجد الذي اشترى العقار في عقاره) أظهر في محل الإِضمار زيادة في الإِيضاح (جرة) بفتح الجيم وتشديد الراء وبالهاء قال في المصباح: هي إناء معروف جمعها جرار ككلبة وكلاب، وجرات وجر كتمرة وتمر. وبعضهم يجعل الجر لغة في الجرة (فيها ذهب فقال له الذي اشترى العقار خذ ذهبك) وعلل الأمر على طريق الاستئناف البياني بقوله (إنما اشتريت منك الأرض ولم أشتر الذهب) أي: وليس هو من أجزائها حتى يتناوله الشراء الوارد عليها (فقال الذي له الأرض) أي: باعتبار ما مضى قبل عقد البيع. ووقع لأحمد، المراد من ذلك ولفظه: فقال الذي باع الأرض: إنما بعتك الأرض. ووقع في نسخ مسلم اختلاف، كالأكثر رووه بلفظ فقال الذي شرى الأرض. والمراد باعها كما قال أحمد. ولبعضهم الذي اشترى الأرض ووهم فلا وهم (إنما بعتك الأرض وما فيها) لعله أخبر عن مراده لا عن اللفظ الواقع بينهما حال العقد، ويحتمل أنه أخبر عنه وأنه قال: وأنكر المشتري التعرض له أو لم يره المشتري شاملاً لما وجده فيها، ورآه قاصراً عليها بل على ما يعتاد دخوله في بيع الأرض من المدر والأحجار المبنية فيها. ثم رأيت الحافظ في الفتح: أشار إلى الاحتمالات المذكورة قال: وحكم اختلافهما فيما ورد عليه العقد التحالف، ويرد المبيع هذا، باعتبار ظاهر اللفظ أنه وجد فيها جرة لكن في أخرى أنه اشترى داراً فعمرها فوجد فيها كنزاً، وأن البائع قال له لما دعاه إلى أخذه: ما دفنت ولا علمت. وأنهما قالا للقاضي ابعث من يقبضه وتضعه حيث رأيت فامتنع. وعليه فحكمه حكم الركاز في هذه الشريعة إن عرف أنه من دفين الجاهلية. وإلا فإن عرف أنه من دفين المسلمين فهو لقطة وإن جهل فحكمه حكم المال الضائع يوضع في بيت المال. ولعله لم يكن في شرعهم هذا التفصيل اهـ. (فتحا كما إلى رجل فقال الذي تحاكما إليه ألكما ولد؟ قال أحدهما لي غلام) اسم للولد حال الصغر والشباب واجتماع القوة (وقال الآخر) بفتح الخاء المعجمة (لي جارية) أي بنت

قال: أنْكِحَا الغُلاَمَ الجَارِيَةَ، وأنْفِقَا عَلَى أنْفُسِهمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا" متفق عليه (¬1) . 1825- وعنهُ - رضي الله عنه -: أنَّه سمعَ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "كانت امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا، جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بابْنِ إحْدَاهُمَا. فَقَالَتْ لِصَاحِبَتِهَا: إنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، وقالتِ الأخرَى: إنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، فَتَحَاكَمَا إلى دَاوُدَ - صلى الله عليه وسلم - فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا ـــــــــــــــــــــــــــــ (فقال أنكحا) بكسر الكاف (الغلام الجارية وأنفقا على أنفسهما منه فتصرفا) وفي نسخة وتصرفا كذا في الرياض بالراء من التصرف. ولفظ البخاري "بالدال" من الصدقة ولفظ البخاري "فقال أنكحوا الغلام الجارية وانفقوا على أنفسهما منه وتصدقا". والحكمة في جمع الأولين وتثنية الثالث والرابع كما قال الحافظ: أن الزوجين كانا محجورين وإنكاحهما لا بد فيه مع ولييهما من غيرهما كالشاهدين، وكذا الإِنفاق، قد يحتاج فيه إلى المعين كالوكيل، وأما تثنية النفسين فللإِشارة إلى اختصاص الزوجين بذلك، وأما تثنية التصدق فللإِشارة إلى أن يباشرا الصدقة بأنفسهما بغير واسطة، لما في ذلك من الفضل؛ وأيضاً فهي تبرع لا يصدر من غير الرشيد ولا سيما ممن ليس له فيها ملك ووقع في رواية لمسلم وأنفقا على أنفسكما والأول أوجه اهـ. كلام الفتح (متفق عليه) أخرجه البخاري في بني إسرائيل. وأخرجه مسلم في البيوع. 1825- (وعنه رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: كانت امرأتان) أي: في زمن بني إسرائيل (معهما ابناهما) جملة في موضع الخبر، أو الخبر الظرف. والمثني فاعله لاعتماده على المخبر عنه؛ قال في الفتح: لم أقف على اسم واحدة من هاتين المرأتين ولا على اسم واحدة من ابنيهما في شيء من الطرق (جاء الذئب فذهب بابن إحداهما فقالت) المذهوب بابنها (إنما ذهب بابنك وقالت الأخرى إنما ذهب بابنك فتحاكما) وفي رواية الكشميهني: "فتحاكمتا" وعند البخاري في رواية "فاختصما" (إلى داود - صلى الله عليه وسلم - فقضى به للكبرى) قال القرطبي: الذي ينبغي أن يقال إن قضاء داود به لها لسبب اقتضى ترجيح قولها عنده، إذ لا بينة لإِحداهما، وكونه لم يعين في الحديث اختصاراً، لا يلزم منه عدم وقوعه، فيحتمل أن يقال: إنه كان بيد الكبرى وعجزت الأخرى عن إقامة البينة، قال: وهذا تأويل حسن جار على القواعد الشرعية، وليس في السياق ما يأباه ولا يمنعه، وسليمان لم ينقضه، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الأنبياء قبيل باب المناقب، (6/375، 376) . وأخرجه مسلم في كتاب: الأقضية، باب: استحباب إصلاح الحاكم بين الخصمين، (الحديث: 21) .

عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرَتَاهُ. فَقالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أشُقُّهُ بَيْنَهُمَا. فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لاَ تَفْعَلْ! رَحِمَكَ اللهُ، هُوَ ابْنُهَا. فَقَضَى بِهِ للصُّغْرَى". متفق عليه (¬1) . 1826- وعن مِرداس الأسلمي - رضي الله عنه - ـــــــــــــــــــــــــــــ إنما احتال للوقوف على حقيقة الأمر فوقف عليه. ولعل الكبرى لما رأت الجد من سليمان اعترفت بالحق وأقرت به، فحكم به. ونظير ذلك ما لو حلف منكر على نفي ما ادعى عليه به فحكم ببراءته منه ثم احتيل عليه حتى أقر بأن المحلوف عليه عنده، فإنه يؤاخذ بإقراره ولا يقال فيه: إنه نقض للحكم السابق (فخرجتا على سليمان بن داود - صلى الله عليه وسلم - فأخبرتاه فقال) توصلاً للوقوف على حقيقة الأمر (ائتوني بالسكين) بكسر المهملة والكاف، سميت به لأنها تسكن حركة المذبوح (أشقه بينهما فقالت الصغرى: لا تفعل رحمك الله هو ابنها) أخد من جزعها الدال على عظيم شفقتها، وعدم ذلك في الكبرى مع ما انضاف إليه من القرائن الدالة على صدقها، ما هجم به على الحكم بأنه للصغرى كما قال (فقضى به للصغرى) ويحتمل كما تقدم إقرار الكبرى حينئذ به، ويحتمل أن يكون سليمان ممن سوغ له أن يحكم بعلمه قال ابن الجوزي: استنبط سليمان لما رأى الأمر محتملاً فأجاد، وكلاهما حكم بالاجتهاد إذ لو حكم داود بالنص لما ساغ لسليمان الحكم بخلافه. ودلت هذه القصة أن الفطنة والفهم موهبة من الله تعالى لا تتعلق بكبر سن ولا صغره، وفيه جواز حكم الأنبياء بالاجتهاد وإن كان وجود النص ممكناً لديهم بالوحي، ليكون في ذلك زيادة أجورهم ولعصمتهم من الخطأ إذ لا يقرون على الباطل لعصمتهم (متفق عليه) . 1826- (وعن مرداس) بكسر الميم وسكون الراء وبالدال والسين المهملتين: ابن مالك (الأسلمي رضي الله عنه) قال في التقريب: صحابي بايع تحت الشجرة وهو قليل الحديث. قال في فتح الباري في غزوة الحديبية: وليس لمرداس في البخاري سوى هذا الحديث، ولا يعرف أحد روي عنه إلا قيس بن حازم، وجزم بذلك البخاري وأبو حاتم ومسلم وآخرون. وقال ابن السكن: زعم بعض أهل الحديث: أن مرداس بن عروة الذي روى عنه زياد بن علاقة هو الأسلمي. قال: والصحيح أنهما اثنان. قال الحافظ في الفتح ففيه تعقب على المزي في قوله في ترجمة مرداس الأسلمي روى عنه قيس بن أبي حازم وزياد بن علاقة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الفرائض، باب: إذا ادعت المرأة ابناً، (6/333، 335) . وأخرجه مسلم في كتاب: الأقضية، باب: بيان اختلاف المجتهدي، (الحديث: 20) .

قال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ الأَوَّلُ فَالأَوَّلُ، وَيَبْقَى حُثَالَةٌ كَحُثَالَةِ الشَّعِيرِ أوِ التَّمْرِ لاَ يُبَالِيهُمُ اللهُ بَالَةً". رواه البخاري (¬1) . 1827- وعن رفاعة بن رافع الزُّرَقِيِّ - رضي الله عنه - قال: جاء جبريل إلى ـــــــــــــــــــــــــــــ ووضح أن شيخ زياد بن علاقة غير مرداس الأسلمي (¬2) (قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يذهب الصالحون) أي: تقبض أرواحهم (الأول فالأول) بالنصب على تأويل مترتبين في محل الحال وبالرفع بدل مفصل من مجمل والظاهر منعه وأنه لا يعطف في هذا البدل إلا بالواو ونظير عطف الصفات المعرفة مع اجتماع منعوتها من خصائص الواو والعاطف هنا الفاء. ثم قال الزركشي: ويجوز النصب على الحال، أي: مترتبين. قال: وجاز وإن كان فيه أل لأن الحال ما يستخلص من التكرار أي: مترتبين قاله أبو البقاء وهل الحال الأول أو الثاني أو المجموع منهما فيه الخلاف في الخبر في هذا حلو حامض. لأن الحال أصلها الخبر. قال الدماميني: قيل قوله بأن الخبر في هذا حلو حامض هو الثاني لا الأول. غريب لم أقف عليه فحرر اهـ. (وتبقى حثالة كحثالة العشير أو التمر) كذا في نسخ الرياض بالمهملة والمثلثة وفي رواية بالفاء بدل المثلثة قال الخطابي: الحفالة بالفاء وبالمثلثة: الرديء من كل شيء. وقيل آخر ما يبقى من الشعير عند الغربلة ويبقى من التمر بعد الأكل (لا يباليهم الله بالة) بالموحدة فيهما قال الخطابي أي: لا يرفع لهم قدراً ولا يقيم لهم وزناً وقال ابن بطال: وفي الحديث: "أن موت الصالحين من أشراط الساعة". وفيه الندب إلى الاقتداء بأهل الخير، والتحذير من مخالفتهم، خشية أن يصير من خالفهم ممن لا يعبأ الله به، وفيه انقراض أهل الخير آخر الزمان حتى لا يبقى إلا أهل الجهل صرفاً، ويؤيده حديث: "إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً اهـ. ملخصاً من الفتح (رواه البخاري) في المغازي في غزوة الحديبية موقوفاً عليه. وفي الرقاق مرفوعاً. وأحمد. 1827- (وعن رفاعة) بكسر الراء وتخفيف الفاء وبالعين المهملة (بن رافع) بالحروف المذكورة ابن مالك بن العجلان بن عمرو بن عامر بن زريق بتقديم الزاي (الزرقي) بضم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: المغازي، باب: في غزوة الحديبية، (الحديث: 11/214 و215) . (¬2) في الأصل تحريف، صحح من الفتح، وتقديم وتأخير، وبعد وضع الجمل في مواضعها ظهر بها شيء من الخلل وضعنا عليه رقم 7 ع.

1829- وعن جابر - رضي الله عنه - قال: كَانَ جِذْعٌ يَقُومُ إلَيْهِ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَعْنِي فِي الخُطْبَةِ - فَلَمَّا وُضِعَ المِنْبَرُ سَمِعْنَا لِلجِذْعِ مِثْلَ صَوْتِ العِشَارِ، حَتَّى نَزَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَوضَعَ يَدَهُ عَلَيهِ فَسَكَنَ. وَفِي روايةٍ: فَلَمَّا كَانَ يَومُ الجُمُعَةِ قَعَدَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى المِنْبَرِ، فَصَاحَتِ النَّخْلَةُ الَّتِي كَانَ يَخْطُبُ عِنْدَهَا حَتَّى كَادَتْ أنْ تَنْشَقَّ. وفي رواية: فصَاحَتْ صِيَاحَ الصَّبيِّ، فَنَزَلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، حَتَّى أَخَذَهَا ـــــــــــــــــــــــــــــ فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم". 1829- (وعن جابر) بن عبد الله (رضي الله عنه قال: كان جذع) بكسر الجيم وسكون الذال المعجمة وبالعين المهملة، هو ساق النخلة (يقوم إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي: مائلاً إليه (يعني في الخطبة) تفسير لوقت قيامه إليه مدرج في الحديث (فلما وضع المنبر) قيل: وذلك في عام سبع، وبه جزم ابن سعد. وقيل: سنة ثمان. وجزم به ابن النجار، ونظر في كل منهما الحافظ في باب الجمعة من الفتح، وفي الكلام حذف، أي: وصعد عليه - صلى الله عليه وسلم - كما صرح به في الرواية بعده (سمعنا للجذع) صوتاً (مثل صوت العشار) بكسر المهملة وتخفيف المعجمة: جمع عشراء بضم ففتح الناقة التي انتهت في حملها إلى عشرة أشهر ووقع في رواية للنسائي في الكبرى من حديث جابر اضطربت تلك السارية كحنين الناقة الخلوج وهي بفتح المعجمة وضم اللام الخفيفة آخره جيم الناقة التي انتزع ولدها، وفي حديث أنس عند ابن خزيمة "فحنت الخشبة حنين الوالد". وعند الدارمي وابن ماجه: "فلما جاوزه خار ذلك الجذع كخوار الثور". وفي حديث أبي بن كعب عند أحمد والدارمي وابن ماجه: "فلما جاوزه خار الجذع حتى انصدع وانشق" (حتى نزل النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضع يده عليه فسكن) وفي حديث بريدة عند الدارمي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اختر أن أغرسك في المكان الذي كنت فيه فتكون كما كنت يعني قبل أن تصير جذعاً وإن شئت أن أغرسك في الجنة فتشرب من أنهارها فيحسن نبتك وتثمر، فيأكل منك أولياء الله تعالى، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - اختار أن اغرسه في الجنة". وهذا اللفظ عند البخاري في أبواب الجمعة وهو عنده من حديث ابن عمر أخرجه في باب علامات النبوة بنحوه (وفي رواية فلما كان يوم الجمعة) بالرفع فاعل كان، وبالنصب خبرها. واسمها عائد إليه - صلى الله عليه وسلم - (قعد النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فصاحت النخلة) أي: جذعها، مجاز مرسل من إطلاق اسم الكل على الجزء أو من مجاز الحذف مثل واسأل القرية (التي كان يخطب عندها حتى كادت) أي: قاربت (أن تنشق) انفعال من الشق، وفيه إدخال أن في خبر كاد وهو قليل جداً (وفي رواية) هي للبخاري (فصاحت) أي: النخلة كما صرح بها في الرواية وحذفها المصنف اكتفاء لذكرها في الحديث قبل، والضمير المؤنث يدل عليها

فَضَمَّهَا إلَيهِ، فَجَعَلَتْ تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبي الَّذِي يُسَكَّتُ حَتَّى اسْتَقَرَّتْ، قال: "بَكَتْ عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنَ الذَّكْرِ". رواه البخاري (¬1) . 1830- وعن أبي ثعلبة الخُشَنِيِّ جُرثومِ بنِ ناشر ـــــــــــــــــــــــــــــ (صياح الصبي) أي: في غاية الشدة (فنزل النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي: من على المنبر وسارّ لها (حتى أخذها فضمها إليه) تسكيناً لما قام بها من الشوق لحضرته وسماع خطبته (فجعلت تئن أنين الصبي) قال في المصباح: أن الرجل يئن أنيناً وأناناً بالضم: صوت (الذي يسكت حتى استقرت) أي: سكنت. زاد الإِسماعيلي فقال: "لو لم أفعل لما سكن". وفي رواية للإِسماعيلي أيضاً بلفظ: "لو لم احتضنه لحن إلى يوم القيامة". ولأبي عوانة وابن خزيمة وأبي نعيم من حديث أنس: "والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه لما زال هكذا إلى يوم القيامة" حزناً على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم أمر به فدفن وأصله في الترمذي بدون الزيادة. قال الحافظ: ووقع في حديث الحسن عن أنس قال: كان الحسن إذا حدث بهذا الحديث يقول: يا معشر المسلمين الخشبة تحنّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شوقاً إلى لقائه فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه (قال) النبي - صلى الله عليه وسلم - (بكت على ما كانت تسمع من الذكر) قال البيهقي: قصة حنين الجذع من الأمور الظاهرة التي نقلها الخلف عن السلف، ورواية الأخبار الخاصة فيها كالتكليف، قال الحافظ في الفتح: وفي الحديث دلالة على أن الجمادات قد يخلق الله لها إدراكاً كالحيوان بل كأشرف الحيوان. وفيه تأكيد لقول من يحمل (وإن من شيء إلا يسبح بحمده) (¬2) على ظاهره. وقد نقل ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن أبيه عن عمرو بن سواد عن الشافعي قال: ما أعطى الله نبياً ما أعطى محمداً - صلى الله عليه وسلم -، فقد أعطي عيسى إحياء الموتى وأعطي محمداً حنين الجذع، حتى سمع صوته فهذا أكبر من ذلك اهـ. (رواه البخاري) في أماكن من صحيحه، وأورده بهذا اللفظ الأخير بنحوه في علامات النبوة من حديث جابر وأخرجه في أبواب أخر كما تقدمت الإِشارة إليه. 1830- (وعن أبي ثعلبة) بفتح المثلثة واللام والموحدة وسكون العين المهملة (الخشني) بضم المعجمة الأولى وفتح الثانية بعدها نون قال في لب اللباب: منسوب إلى الخشين بن النمر بن وبرة (جرثوم) بضم الجيم والمثلثة وسكون الراء (بن ناشر) بالنون والشين المعجمة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة وفي غيره، (2/332) و (6/443، 444) . (¬2) سورة الإسراء، الآية: 44.

- رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ اللهَ تَعَالَى فَرَضَ فَرَائِضَ فَلاَ تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُوداً فَلاَ تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلاَ تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلاَ تَبْحَثُوا عَنْهَا" حديث حسن. رواه الدارقطني وغيره (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ والراء وقيل: اسمه جرثومة بزيادة هاء، وقيل: جرثم بحذف الواو، وقيل: جرهم بإبدال المثلثة هاء وبحذف الواو، وقيل: لاشق، وقيل: لاشوية، وقيل: ياسب، وقيل: ياسر، وقيل: عروف، وقيل: سق، وقيل: زيد، وقيل: الأسود. واختلف في اسم أبيه أيضاً. مات سنة خمس وسبعين. وقيل: بل قبل ذلك بكثير في أول خلافة معاوية بعد الأربعين خرج حديثه الجميع كذا في التقريب للحافظ روي له (رضي الله عنه) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعون حديثاً اتفق الشيخان على ثلاثة أحاديث منها وانفرد مسلم بالرابع (عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها) بالإِخلال بها إما بتركها أو بترك ركن من أركانها أو شرط من الشروط المتوقف صحتها عليه (وحد حدوداً) وذلك ككون الصبح مثلاً ركعتين وكل من الظهرين والعشاء أربعاً وككون الصوم فيما بين طلوع الشمس وغروبها (فلا تعتدوها) بالزيادة في ذلك ومن ثم حرم الوصال لدخوله في المنهي عنه؛ وفي الكشاف حدود الله أحكامه وأوامره ونواهيه، وعليه فمعنى لا تعتدوها أي: لا تتجاوز عنها وتتركها (وحرم أشياء) التنكير للتكثير (فلا تنتهكوها) بالوقوع وكان التحريم كالحجاب الحائل بين المكلف وبينها فلا يصل إليها إلا بانتهاكه وخرقه (وسكت عن أشياء) أي: لم يحكم فيها بوجوب أو حل أو حرمة (رحمة لكم) مفعول له (غير نسيان) هو ترك الفعل بلا قصد وبعد حصول العلم، بخلاف السهو. وكل منهما محال في حقه تعالى، لأن عمله بالذات؛ وما كان بالذات لا يتغير البتة (فلا تبحثوا عنها) أي: لا تسألوا عن حالها لأن السؤال عما سكت الله عنه يفضي إلى التكاليف الشاقة، بل نحكم بالبراءة الأصلية والحل في المنافع، والحرمة في المضار، والبحث بعد التفتيش (حديث حسن رواه الدارقطني وغيره) قال الحافظ ابن حجر في تخريج الأربعين حديثاً: جمع المصنف بعد تخريج الحديث هذا حديث حسن وقد أخرج مسلم لرواته عن آخرهم لكن مكحولاً كثير الإِرسال، فلا يحتج بعنعنته إلا إذا صرح بالتحديث. وقد قيل: إنه لم يسمع من أبي ثعلبة ففيه انقطاع والله أعلم. قال أبو حاتم: سألت أبا مسهر هل سمع مكحول من أحد أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما صح عندنا إلا أنس بن ¬

_ (¬1) سنن الدارقطني ص 502.

1831- وعن عبد الله بن أبي أَوْفَى رَضِيَ اللهُ عَنهما، قالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَبْعَ غَزَوَاتٍ نَأكُلُ الجَرَادَ. وَفِي رِوَايةٍ: نَأكُلُ مَعَهُ الجَرَادَ ـــــــــــــــــــــــــــــ مالك. قلت: فواثلة بن الأسقع فأنكره. وقال أبو زرعة: مكحول عن ابن عمر مرسل ولم يسمع من واثلة. وقال الدارقطني: لم يلق إلا أبا هريرة وإلا شداد بن أوس. وقال أبو حاتم: لم يسمع من معاوية ولا من واثلة ولم ير أبا أمامة وقال البخاري: لم يسمع من عبسة بن أبي سفيان إذا قلت لم يصح سماعه من أبي أمامة وواثلة وهما ممن تأخرت وفاتهما وكان معاصراً لهما فيبعد صحة سماعه من أبي ثعلبة أيضاً، وإن كان بحضرته والله أعلم اهـ. ومن خطه نقلت وقال السخاوي في تخريج الأربعين المذكورة هذا حديث حسن، أخرجه ابن أبي شيبة ومن طريقه الطبراني في معجمه الكبير ورواه الدارقطني في سننه وأبو نعيم في الحلية والحاكم في المستدرك ثم ذكر كلام شيخه أن مكحولاً كثير الإِرسال أرسل عن جماعة من الصحابة. قال: وقال الحافظ أبو سعيد العلائي في المراسيل له إنه معاصر لأبي ثعلبة في السن والبلد، فيحتمل أن يكون لقيه وأن يكون أرسل عنه قلت: وبالثاني جزم أبو مسهر الدمشقي وأبو نعيم وجماعة وحكاه المزي ممرضاً، وأيده شيخنا بقول أبي حاتم إنه لم يسمع من واثلة ولم ير أبا أمامة وقال: إنه إذا لم يصح سماعه عن أبي أمامة إلى آخر كلامه السابق، ولكن قد جزم غير واحد بسماعه من واثلة خلافاً لأبي حاتم منهم البخاري والترمذي وابن يونس، وليس ذلك بلازم، وعلى كل حال فمن يكون كثير الإِرسال لا يحتج من حديثه إلا بما يصرح فيه، على أنه قد اختلف في رفعه ووقفه. بل رواه بعضهم عن مكحول من قوله إلا أن الدارقطني قال: الأشبه بالصواب المرفوع وهو أشهر اهـ. وقد حسنه أبو بكر بن السمعاني في أماليه ثم المصنف والعراقي وشيخنا في أماليه وله شواهد ثم بينها وأطال فيه. 1831- (وعن عبد الله بن أبي أوفى) بالفاء وهو كنية علقمة بن خالد بن الحارث (رضي الله عنهما قال: غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع غزوات نأكل الجراد) بفتح الجيم اسم جنس جمعي واحدته جرادة يطلق على الذكر والأنثى قاله الجوهري. وقال ابن النحوي في شرح البخاري: قال ابن دريد، سمي جراداً لأنه يجرد الأرض فيأكل ما عليها. وأطال الحافظ في تعريفه. ونقل الأصمعي أنه إذا خرج من بيضه فهو يرباه ثم قال: ولعابه سم على الأشجار لا يقع على شيء إلا أحرقه. وفي الغريب المصنف للأصمعي: الذكر من الجراد وهو الحنطب والعنطا زاد الكسائي: والعنطوب وقال أبو حاتم في كتاب الطير: "قالت العرب للذكر الجراد وللأنثى كذلك، وهي نثرة حوت يؤكل ولا يذبح. وقال أبو يعلى: والجندب

متفق عليه (¬1) . 1832- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لاَ يُلْدَغُ المُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ". متفق عليه (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ ضرب منه" وقال أبو حاتم، وأبو حجارب: شيخ الجنادب وسيدهم قال ابن خالويه: وليس في كلام العرب للجراد اسم أقرب من العصفور، وللجراد نيف وستون اسماً فذكرها، والجراد حلال بالإِجماع ويؤكل عند الكوفيين وإمامنا الشافعي، كيف كان ولو صاده المجوسي. وعند المالكي فيه تفصيل وأقوال، أطال ابن النحوي في بيانها وذكر أحاديث وآثاراً كثيرة في حل أكله، وأجاب عما توهم من الأحاديث من عدم حله وأورد فيه عن جابر قال: قال عمر: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله خلق ألف أمة ستمائة في البحر وأربعمائة في البر، فأول شيء يهلك من هذه الأمة الجراد فإذا هلك الجراد تتابعت الأمم مثل سلك النظام" (متفق عليه) ورواه أبو داود والترمذي والنسائي (وفي رواية نأكل معه والجراد) بزيادة الظرف. 1832- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) بالدال المهملة وبالغين المعجمة، وهو بالرفع خبر بمعنى الأمر أي: لكون المؤمن حازماً حذراً لا يؤتى من جهة الغفلة فيخدع مرة بعد أخرى، وقد يكون ذلك في أمر الدنيا وهو أولاهما بالحذر. وقال أبو عبيد: معناه لا ينبغي للمؤمن إذا نُكب من وجه أن يعود إليه. هذا ما فهم الأكثر، ومنهم الزهري راوي الحديث. وحمل أبو داود على أن معنى أنه من عوقب في الدنيا بذنب لا يعاقب عليه في الآخرة. فإن أراد أنه معناه المراد فيأتي أنه له سبباً يعني حمله على الأول قيل: المراد بالمؤمن الكامل أي: الذي وقفته معرفته على غوامص الأمور حتى صار يحذرها. وأما المؤمن المغفل فقد يلدغ مراراً وقوله: "من جحر" زاد بعض رواة البخاري "واحد" ووقع في بعض النسخ من "حجر حية" وهي رواية شاذة قال ابن بطال: وفيه أدب شريف أدب به النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته ونبههم كيف يحذرون مما يخافون من سوء عاقبته (متفق عليه) ورواه أحمد وأبو داود. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الذبائح، باب: أكل الجراد، (9/535) . وأخرجه مسلم في كتاب: الصيد والذبائح، باب: إباحة الجراد، (الحديث: 52) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: لا يلدغ المؤمن من حجر مرتين، (10/439، 440) . وأخرجه مسلم في كتاب: الزهد والرقائق، باب: لا يلدغ المؤمن من حجر مرتين، (الحديث: 63) .

1833- وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَومَ القِيَامَةِ، وَلاَ يَنْظُرُ إلَيْهِمْ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالفَلاَةِ يَمْنَعُهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلاً سِلْعَةً بَعْدَ العَصْرِ فَحَلَفَ بِاللهِ لأَخَذَهَا بِكذَا وَكَذَا فَصَدَّقَهُ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ ذلِكَ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إمَاماً لاَ يُبَايِعُهُ إلاَّ لِدُنْيَا فَإنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا وَفَى وَإنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا لَمْ يَفِ" ـــــــــــــــــــــــــــــ 1833- (وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة) أي: من الأصناف أي: أصناف ثلاثة (لا يكلمهم الله يوم القيامة) كلام بروإلطاف وقيل: المراد لا يرسل إليهم الملائكة بالتحية (ولا ينظر إليهم) نظر رحمة وإسعاف، وإلا فعلمه لا يغيب عنه شيء (ولا يزكيهم) أي: لا يطهرهم من الذنوب ولا يثني عليهم (ولهم عذاب أليم) أي: مؤلم (رجل على فضل ماء) أي: ماء فضل عن حاجته (بالفلا) بالفاء واللام والألف المقصورة جمع فلاة: وهي الأرض لا ماء فيها، ونظيرها في الجمع المذكور حصاة وحصى وجمع الجمع أفلاء كسبب وأسباب (يمنعه من ابن السبيل) أي: المسافر وسمي بذلك ترفقاً به قاله البيضاوي أي: من المسافر المحتاج له ويستثنى من الوعيد، ما لو كان المسافر المحتاج للماء حربياً أو مرتداً، وأصراً على الكفر، فلا يجب بذل الماء له (ورجل بايع رجلاً بسلعة) بالباء مزيدة في المفعول للتأكيد أو ضمن بايع معنى قابل أو عوض وهي بكسر المهملة الأولى وسكون اللام: البضاعة وجمعه سلع نحو سدرة وسدر (بعد العصر) خص بالذكر لشرفه باجتماع ملائكة الليل والنهار فيه (فحلف بالله لأخذها بكذا وكذا) كناية عن ثمن (فصدقه) أي: المشتري (وهو) أي: الحالف (على غير ذلك) الذي حلف عليه بأن أخذها بأقل أو وهو أي: الثمن، المكنى عنه على غير ذلك أي: أقل وتحريم الحلف المذكور والوعيد الشديد غير مقصور على العصر بل عام لكل من أتى بذلك أي: زمن كان، وتخصيص العصر بالذكر لما ذكر. وقيل خص لعظيم الإِثم فيه وإن حرمت اليمين الفاجرة كل وقت إلا أن الله سبحانه عظم شأن هذا الوقت لاجتماع الملائكة، ووقت ختام الأعمال، والأمور بخواتيمها، فغلظت فيه العقوبة لئلا يقدم عليها فيه تجرؤاً، فإن من تجرأ عليها فيه أعادها في غيره وكان السلف يحلفون بعد العصر تغليظاً لليمين (ورجل بايع) أي: عاهد (إماماً) على النصرة له والدخول في طاعته (لا يبايعه إلا لدنيا) أي: فإن أعطي منها دام على الطاعة وإلا نكث وأفسد كما قال: (فإن أعطاه منها وفى) بتخفيف الفاء أي: بما التزمه (وإن لم يعطه منها لم يف) هو تصريح بما يفهم مما قبله زيادة في تقبيح كل من فعليه والسعي بذلك عليه قال في الفتح:

متفق عليه (¬1) . 1834- وعنه، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أرْبَعُونَ" قالوا: يَا أبَا هُرَيْرَةَ أرْبَعُونَ يَوْماً؟ قالَ: أبَيْتُ، قَالُوا: أرْبَعُونَ سَنَةً؟ قال: أبَيْتُ. قالُوا: أرْبَعُونَ شَهْراً؟ قالَ: أبَيْتُ. "وَيَبْلَى كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الإنْسَانٍ إلاَّ عَجْبَ الذَّنَبِ، فِيهِ يُرَكَّبُ الخَلْقُ، ثُمَّ يُنَزِّلُ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ البَقْلُ". متفق عليه (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ واستحقاقه هذا الوعيد لكونه غش إمام المسلمين، ومن لازم غشه غشهم لما ليه من التسبب إلى إثارة الفتنة ولا سيما إن كان ممن يتبع على ذلك اهـ. (متفق عليه) ورواه أحمد. 1834- (وعنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال بين النفختين) أي: نفخة الصعق ونفخة البعث (أربعون قالوا) لم يعين المصنف أسماء القائلين ولا أحداً منهم (يا أبا هريرة أربعون يوماً) بتقدير همزة قبله (قال أبيت) بالموحدة فالتحتية فالفوقية أي: امتنعت أن أجزم بتعيينها كذلك. وكذا في قول (قالوا أربعون عاماً قال أبيت قالوا أربعون شهراً قال أبيت) والحاصل كما قاله المصنف: أن مراده الامتناع من الجزم بأن المراد يوماً أو شهراً أو عاماً بل الذي يجزم به أنها أربعون مجملة وقد جاءت مفسرة من رواية غيره في غير مسلم أربعون سنة (ويبلى كل شيء من الإِنسان) من لحم وعصب وعروق وعظم وظفر وشعر (إلا عجب الذنب) هو بفتح العين المهملة وسكون الجيم أي: العظم اللطيف الذي في أسفل الصلب، وهو رأس العصعص. ويقال له عجم بالميم وهو أول ما يخلق من الآدمي، وهو الذي يبقى منه ليعاد تركيب الخلق عليه، ثم هذا عام مخصوص بغير الأنبياء فلا يبلون وكذا الشهداء (فيه يركب الخلق) بصيغة المجهول ونائب الفاعل المرفوع بعده (ثم) للتركيب في الذكر وإلا فمدخولها سابق على تركيبه (ينزل الله من السماء ماء) على صورة المني (فينبتون) بضمِ الموِحدة أي: من عجب الذنب بأن تجمع إليه أجزاؤه شيئاً فشيئاً (كما ينبت البقل) شيئاً فشيئاً وهو بفتح الموحدة وسكون القاف قال ابن فارس: هو كل نبات اخضرت به الأرض (متفق عليه) . ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الشهادات والمساقاة والأحكام، باب: من بايع رجلاً لا يبايعه إلا للدنيا (5/25) . وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: بيان غلظ تحريم إسبال الإِزار ... ، (الحديث: 173) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: التفسير/في تفسير سورة الزمر، (8/424) . وأخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: ما بين النفختين، (الحديث: 141) .

1835- وعنه، قال: بَيْنَمَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - في مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ القَومَ، جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُحَدِّثُ، فَقالَ بَعْضُ القَومِ: سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ، حَتَّى إذَا قَضَى حَدِيثَهُ قالَ: أيْنَ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ؟ " قال: هَا أنا يَا رسُولَ اللهِ. قال: "إذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ" قال: كَيفَ إضَاعَتُهَا؟ قال: "إذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إلى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ". رواه البخاري (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1835- (وعنه قال: بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجلس يحدث القوم) جملة في محل الحال من ضميرها، ويحتمل العكس (جاءه أعرابي) قال الحافظ: لم أقف على اسمه (فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدث) أي: استمر فيما كان فيه ولم يقطعه لجواب السائل (فقال بعض القوم) أي: حاضري المجلس (سمع ما قال) أي: قوله (فكره ما قال) أظهر، والمقام للإِضمار دفعا لتوهم كراهة القائل لو جيء بالضمير (وقال بعضهم بل) إضراب عن ْقول الأولين من غير إبطال (لم يسمع) وإنما حصل لهم التردد لما ظهر لهم من عدم التفات في النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى سؤاله وإصغائه نحوه، ولكونه كان يكره السؤال عن هذه المسألة بخصوصها؛ وقد تبين عدم انحصار تركه الجواب فيما ذكروه منها بل احتمل أنه ليكمل حديثه الذي كان فيه أو ليوحي إليه به، ويؤيده الأول من هذين وقوله (حتى إذا قضى حديثه) حتى: غاية لقوله مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدث أي: استمر فيه إلى إتمامه. وإذا شرط جوابه: (قال أين السائل عن الساعة) في كتاب العلم أين أراه السائل بزيادة أراه بضم الهمزة أي: أطنه ورفع السائل والشك عن محمد بن فليح قال في الفتح ورواه ابن فليح بلفظ أين السائل من غير شك (قال: هأنا) أي: حاضر (يا رسول الله قال: إذا ضيعت الأمانة) بالبناء للمجهول. وعند البخاري فإذا ضيعت والفاء فصيحة أي: إن شئت معرفة وقتها (فانتظر الساعة) فالشوط الثاني: وجوابه جواب الشرط المقدر (قال: كيف إضاعتها، قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله) أي: جعل لهم فإلى بمعنى اللام (فانتظر الساعة) قال ابن المنير: ينبغي أن يجعل هذا الحديث أصلاً في أخذ الدروس والقراءة والحكومات والفتاوى عند الازدحام على السبق وفي الحديث "من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر" (رواه البخاري) في كتاب العلم وفي كتاب الرقاق. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: العلم، باب: من سُئل علماً وهو مشتغل في حديثه فأتم الحديث ثم أجاب السائل، (1/132 و11/285) .

1836- وعنه: أنَّ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يُصَلُّونَ لَكُمْ، فَإنْ أصَابُوا فَلَكُمْ، وإنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ". رواه البخاري (¬1) . 1837- وعنه - رضي الله عنه - (¬2) (كُنْتُمْ خَيْرَ أمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) ، قالَ: خَيْرُ النَّاسِ للنَّاسِ يَأتُونَ بِهِمْ في السَّلاسِلِ فِي أعْنَاقِهِمْ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الإسْلاَمِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1836- (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يصلون) أي: الأئمة (لكم) أيها المسلمون (فإن أصابوا) أي: وافقوا والصواب فيها وهم عارفون به، لأنه لا يجوز مباشرة أمر لمن لا يعلم حكم الله فيه (فلكم) الأجر أي: ولهم أيضاً لذلك، وسكت عنه لوضوحه وظهوره، لأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً عليه ولدلالة قوله (وإن أخطئوا فلكم وعليهم) هذا يحمل على ما إذا كان ما أتى به من الخطأ غير موجب للإِعادة كالحدث مثلاً والإِخلال بما يحرم الإِخلال به إلا أنه غير مبطل كتأخير الصلاة وإخراجها عن وقت أدائها بغير عذر، فهو حرام. وإذا ْفعلت خارجة فهي صحيحة (رواه البخاري) . 1837- (وعنه) أي: أبي هريرة (رضي الله عنه) موقوفاً عليه في تفسير قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت) أي: أظهرت (للناس قال:) أي: أبو هريرة (خير الناس للناس) قال الحافظ ابن كثير في التفسير: المعنى خير الأمم وأنفع الناس للناس، ولذا قال تعالى: (تأمرون بالمعروف) (2) الآية (يأتون) أي: الناس (بهم في السلاسل في أعناقهم) في محل الصفة أو الحال من السلاسل (حتى يدخلوا في الإِسلام) قال الحافظ ابن كثير: وهكذا قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطاء والربيع عن أنس وعطية العوفي يعني خير الناس للناس أي: هذا المتفق عليه. وفيه تفسير الآية. وقوله يأتون بهم الخ بيان لكمال لطف الله بهم، وأنهم يؤسرون على ما يحوزون به الشرف في الدارين، وهو بمعنى الحديث المرفوع بعده ولعله أخذه منه. وفي حديث درة بنت أبي لهب مرفوعاً: "خير الناس أقرؤهم وأفقههم في ْدين الله وأتقاهم لله وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم للرحم". وعن ابن عباس موقوفاً عليه في قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) (¬3) قال: هم الذين هاجروا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة. قاله ابن كثير. والصحيح أن هذه الآية عامة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: إذا لم يتم الإمام وأتم من خلفه، (2/157) . (¬2) سورة آل عمران، الآية: 110. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 110.

1838- وعنه، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "عَجِبَ اللهُ - عز وجل - مِنْ قَومٍ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ فِي السَّلاسِلِ" رواهما البخاري. معناه: يُؤْسَرُونَ وَيُقَيَّدُونَ ثُمَّ يُسْلِمُونَ فَيَدْخُلُونَ الجَنَّةَ (¬1) . 1839- وعنه، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَحَبُّ البِلادِ إلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا ـــــــــــــــــــــــــــــ في جميع الأمة كل قرن بحسبه وخير قرونهم الذين يلونهم. وفي مسند الإِمام أحمد من حديث معاوية بن حيدة مرفوعاً "أنتم موفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل". حديث مشهور حسنه الترمذي، وصححه الحاكم في المستدرك. وإنما فضلت هذه الأمة من تقدمها بنبيها محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنه أشرف خلق الله وأكرمهم عليه، وبعثه الله بشرع عظيم كامل لم يعطه نبياً قبله ولا رسولاً من الرسل، فالعمل على منهاجه وسبيله يقوم القليل منه ما لا يقوم العمل الكثير من أعمال غيرهم مقامه اهـ. 1838- (وعنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: عجب ربك) وفي نسخة عجب الله. المراد منه لاستحالة قيام حقيقة العجب بالله تعالى غايته من الرضا والإِكرام (من قوم يدخلون الجنة) بصيغة المجهول أي: يفعلون المقتضى لدخولها بالوعد الصادق وهو الإِيمان، ففيه مجاز مرسل من إطلاق اسم المسبب على السبب، (في السلاسل) في تعليلية أي: لوضعها في أعناقهم حال الأسر ثم يسلمون، أو ظرفية أي: إنهم يسلمون وهم فيها أسرى (رواهما البخاري) أي: الحديث الموقوف على أبي هريرة والمرفوع (معناه) أي: المذكور فيهما (يؤسرون ويقيدون ثم يسلمون فيدخلون الجنة) فالأسر باعتبار ما كانوا يرونه نقمة وباعتبار ما تجلى عنه نعمة. 1839- (وعنه) رضي الله عنه (عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أحب البلاد) أل فيه للجنس (إلى الله مساجدها) لأنها البيوت التي أذن الله فيها أن ترفع ويذكر فيها اسمه بالتسبيح والتقديس والثناء عليه جل وعلا، ويقام فيها الصلاة، ويقرأ فيها القرآن، وينشر فيها العلوم، ويعرض فيها لنفحات الحي القيوم. والبلاد جمع بلد في القاموس البلد والبلدة كل قطعة من الأرض. مستحيزة عامرة أو غامرة. وفي الصحاح البلد الأرض. وفي النهاية البلد من الأرض ما كان مأوى للحيوان وإن لم يكن فيه بناء، وفي المصباح يطلق البلد والبلدة على كل موضع من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: الأسارى في السلاسل (6/101 و8/169) .

وَأبْغَضُ البِلاَدِ إلَى اللهِ أسْوَاقُهَا". رواه مسلم (¬1) . 1840- وعن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - من قولهِ قال: لاَ تَكُونَنَّ إن اسْتَطَعْتَ أوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ السُّوقَ، وَلاَ آخِرَ مَنْ يَخْرُجُ مِنْهَا، فَإنَّهَا مَعْرَكَةُ الشَّيْطَانِ، وَبِهَا ـــــــــــــــــــــــــــــ الأرض عامراً كان أو خلاء. وفي التنزيل إلى بلد ميت أي: إلى أرض ليس بها نبات ولا مرعى، فيخرج ذلك بالمطر فترعاه أنعامهم فأطلق الموت، على عدم النبات والمرعى، وأطلق الحياة على وجودهما اهـ (¬2) . (وأبغض البلاد إلى الله) تعالى (أسواقها) جمع سوق وهو اسم لكل مكان وقع فيه التبايع ممن يتعاطى البيع. وفي المصباح: السوق يذكر ويؤنث. وقال أبو إسحاق التأنيث أفصح وأصح والتذكير خطأ، لأنه يقال سوق نافقة ولم يسمع نافق. والنسبة إليها سوقي وسبب البغض أنها محل للفحش والخداع والربا والأيمان الكاذبة واختلاف الوعد والإِعراض عن ذكر الله تعالى، وغير ذلك مما في معناه، والحب والبغض من الله تعالى إرادته الخير والشر، وفعل ذلك لمن أسعده وأشقاه والمساجد محل نزول الرحمة والأسواق ضدها. وقال السيوطي: هذا مجاز وصف المكان بصفة ما يقع فيه ولا يقوم به قيام العرض بالجوهر أراد بمحبة المساجد حب ما يقع فيها من ذكر، وتلاوة كتابه، والاعتكاف، ونشر العلم والصلوات. ويبغض الأسواق بغض ما فيها من غش وخديعة وخيانة وسوء معاملة مع كون أهلها لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر، ولا يغضون أبصارهم عن المحارم (رواه مسلم) . 1845- (وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه) تقدمت ترجمته في باب أدب المجلس والجليس (من قوله) أي: موقوفاً عليه وهو في محل الحال (قال: لا تكونن إن استطعت) جملة شرطية محذوفة الجواب، لدلالة المقام عليه أي: فلا تكونن من أول داخل فيها ولا خارع منها وهي معترضة بين اسم يكون وهو المستكن في الفعل وخبرها وقوله (أول من يدخل السوق ولا آخر) معطوف عليه (من يخرج منها) وأتى بالجملة تنبيهاً على أن التكاليف على هذه الأمة، حسب طاقتها وقدر استطاعتها. وعلل ما ينهى عنه بقبوله (فإنها) أي: السوق (معركة الشيطان) أي: يريد فيها القبائح من الغش والخداع والأيمان الكاذبة، والأفعال المنكرة، ويريد ذلك لأوليائه من الإِنس (وبها ينصب رايته) والمبادرة إليها دخولاً، ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: فضل الجلوس في مصلاه بعد الصبح وفضل المساجد، (الحديث: 288) . (¬2) صححت العبارات السابقة بمراجعة القاموس والنهاية والمصباح. ع.

رواه البخاري (¬1) . 1843- وعن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي الدِّمَاء". متفق عليه (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ والناس مفعوله لكن الرواية على الأول (من كلام النبوة الأولى) أي: ذوي النبوة المتقدمة على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) أي: إذا أردت فعل شيء فإن كان مما لا يستحى فيه من الله ولا من الناس لإِباحته فافعل وإلا فلا، وعليه فالأمر للإِباحة. ويجوز أن يكون الأمر للتهديد أي: إذا نزع منك الحياء فافعل ما شئت فإنك مجازى عليه، أو أن الأمر بمعنى الخبر أي: إذا نزع منك الحياء فعلت ما شئت من حرام وحلال، إذ لا رادع يردعك، وتقدم في بيان كثرة طرق الخير تعريف الحياء (رواه البخاري) وقال السخاوي في تخريج الأربعين حديثاً التي جمعها المصنف: هذا حديث صحيح كوفي المخرج رواه أحمد وأبو داود وابن حبان والطبراني والقطيعي. في زوائد المسند وجمع آخرون يطول الكلام بذكرهم. 1843- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء) أي: التي وقعت بين الناس في الدنيا، والمعنى أول القضايا القضاء في الدماء ويحتمل أن يكون التقدير أول ما يقضى فيه الأمر الكائن في الدماء ولا يعارضه حديث: "أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته" لأن الأول محمول على ما يتعلق بمعاملات الخلق، والثاني فيما يتعلق بعبادة الخالق. وما في الحديث موصول حرفي ومتعلق الجار محذوف أي أول القضاء يوم القيامة في الدماء، أي: في الأمر المتعلق بالدماء. وفي الحديث عظيم أمر الدماء، فإن البداءة تكون بالأهم، والذنب يعظم بحسب عظم المفسدة، وتفويت المصلحة وإعدام البنية الإِنسانية غاية في الذم، وقد ورد في التغليظ في أمر القتل آيات كثيرة، وأحاديث صحيحة، ولا يخالف حديث الباب حديث: "أنا أول من يحشر للخصومة" يعني هو ورفيقاه حمزة وعبيدة وخصومهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة لأن حديث الباب محمول على الجماعة؛ وذاك على الآحاد (متفق عليه) ورواه أحمد والنسائي وابن ماجه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الأنبياء والأدب، باب: إذا ما لم تستح فاصنع ما شئت، (10/434) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: اول الديات والرقاق، باب: القصاص يوم القيامة (12/166) . وأخرجه مسلم في كتاب: القسامة، باب: المجازاة بالدماء في الآخرة، وأنها ... ، (الحديث: 28) .

1844- وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "خُلِقَتِ المَلاَئِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الجَانُّ مِنْ مَارِجٍ من نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ". رواه مسلم (¬1) . 1845- وعنها رضي الله عنها، قالت: كان خُلُقُ نَبِيِّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - القُرْآن. رواهُ ـــــــــــــــــــــــــــــ 1844- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلقت الملائكة من نور) فلذا كانت أجساماً لطيفة نورانية لها قدرة على التشكل بأيّ صورة كانت (وخلق الجان) هو إبليس وهو أبو الشياطين، وقيل المراد به أبو الجن وهل هو إبليس أو غيره قولان (من مارج) بالراء فيه (من نار) بيان لمارج فإنه في الأصل للمضطرب، من مرج إذا اضطرب قال ابن عادل: من الأولى لابتداء الغاية، وفي الثانية وجهان: البيان والتبعيض، والمارج ما اختلط من أحمر وأصفر وأخضر، وهذا مشاهد في النار ترى الألوان الثلاثة مختلط بعضها ببعض، وقيل: الخالص. وقيل: الأحمر، وقيل: الحمرة في طرق النار، وقيل: المختلط بالسواد وقيل: اللهب المضطرب. وقال الليث: المارج الشعلة الساطعة ذات اللهب الشديد. وعن ابن عباس أنه اللهب الذي يعلو النار فيختلط بعضه ببعض أحمر وأصفر وأخضر ونحوه عن مجاهد. وقيل: المارج المرسل غير ممنوع. قال المبرد: والمارج النار المرسلة التي لا تمنع وقال أبو عبيدة والحسن: المارج المختلط من النار، وأصله مرج إذا اضطرب واختلط قال الفرضي قوله من نار: نعت لمارج (وخلق آدم مما وصف لكم) ببناء الفعل للمجهول أي: مما ذكر لكم في التنزيل من أنه من التراب قال تعالى: (منها خلقناكم) (¬2) ثم عجن فصار طيناً قال تعالى حكاية عن إبليس (خلقتني من نار وخلقته من طين) (¬3) ثم ترك حتى تجمد وتغير وصار حمأ مسنوناً، ثم يبس حتى صار يصلصل أي: يصوت إذا نقر قال تعالى (ولقد خلقنا الإِنسان من صلصال من حمأ مسنون) (¬4) وقال تعالى: (خلق الإِنسان من صلصال كالفخار) (¬5) (رواه مسلم) ورواه أحمد. 1845- (وعنها قالت كان خلق) بضم المعجمة واللام أي: سجية (نبي الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن) قال العارف بالله تعالى السهروردي صاحب عوارف المعارف: لا يبعد أن قول عائشة: فيه رمز ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الزهد والرقائق، باب: في أحاديث متفرقة، (الحديث: 60) . (¬2) سورة طه، الآية: 55. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 12. (¬4) سورة الحجر، الآية: 26. (¬5) سورة الرحمن، الآية: 14.

مسلم في جملة حديث طويل (¬1) . 1846- وعنها، قالت: قال رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أحَبَّ اللهُ لِقَاءهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءهُ" فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أكَراهِيَةُ المَوتِ، فَكُلُّنَا نَكْرَهُ المَوتَ؟ قال: "لَيْسَ كَذَلِكَ، ولكِنَّ المُؤْمِنَ ـــــــــــــــــــــــــــــ غامض وإيماء خفي إلى الأخلاق الربانية، فاحتشمت الحضرة الالهية أن تقول كان متخلقاً بإخلاق الله تعالى، فعبرت عن ذلك المعنى بقولها. كان خلقه القرآن استحياء من سبحات الجلال وستر الحال بلطف المقال، وهذا من وفور عقلها وكمال أدبها فكما أن معاني القرآن لا تتناهى، فكذلك أوصافه الجميلة الدالة على عظم أخلاقه لا تتناهى، وفي كل حالة من أحواله يتجدد له من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، وما يفيضه الله عليه من معارفه وعلومه ما لا يعلمه إلا الله، فإذاً التعرض لحضرة جزئيات أخلاقه الحميدة تعرض لما ليس من مقدور الإِنسان ولا من ممكنات عاداته. قال الحراني: بفتح المهملة وتشديد الراء: ولما كان عرفان قلبه - صلى الله عليه وسلم - بربه عز وجل كما قال عليه الصلاة والسلام: "بربي عرفت كل شيء" كانت أخلاقه أعظم خلق، فلذا بعثه إلى الناس كلهم ولم يقصر رسالته على الإِنس حتى عمت الجن ولم يقصرها على الثقلين حتى عمت جميع العالمين (رواه مسلم في جملة حديث طويل) . 1846- (وعنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه) فيه حث على القيام بالطاعات والدأب فيها والإِخلاص المرتب عليه من فيوض الله ما لا يحصى ومن تشريفات العامل. لذلك ما لا يستقصى، فيحب العامل لذلك لقاء الله لما أعد له ويحب الله لقاءه (ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه فقلت يا رسول الله أكراهية الموت) الهمزة للاستفهام أي: أيراد بكراهية لقاء الله تعالى كراهية الموت فهذا مشكل؟ (فكلنا نكره الموت) بحسب الطبع وإن كان محبوباً بالنظر لما وراءه مما أعد لصالح المؤمنين مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (قال: ليس كذلك) أي: ليس الأمر كذا الذي توهمته (ولكن) استدراك بإثبات ما يوهم شمول النفي له والنون مشددة (المؤمن) وفي نسخة إن ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض، (الحديث: 139) . مطولاً.

إذَا بُشِّرَ بِرَحْمَةِ اللهِ وَرِضْوَانِهِ وَجَنَّتِهِ أحَبَّ لِقَاءَ اللهِ فَأَحَبَّ اللهُ لِقَاءهُ، وإنَّ الكَافِرَ إذَا بُشِّرَ بِعَذابِ اللهِ وَسَخَطهِ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ وكَرِهَ اللهُ لِقَاءهُ" رواه مسلم (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ المؤمن بزيادة إن (إذا بشر برحمة الله) من النعيم والإِحسان المعدين له (ورضوانه وجنته) وذلك التبشير عند الاحتضار (أحب لقاء الله) لما يعلم من عظيم ما ينتقل إليه ويحل به من وفضل ربه (فأحب الله لقاءه) أي: رضيه وأثنى عليه (وأن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه) فيه تهكم واستهزاء، إذا استعملت البشارة الموضوعة في الأمر السار للمبشر في ضده ومنه قوله تعالى: (فبشرهم بعذاب أليم) (¬2) (كره لقاء الله) لما يعلم من سوء منقلبه فإنه في الدنيا خال من العذاب، وفي الآخرة مؤبد فيه مخلد (فكره الله لقاءه) أي: أبعده من رحمته وكرهه وذمه في عالم الملكوت - (رواه مسلم) وفي الجامع الصغير حديث "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" رواه أحمد والشيخان والترمذي والنسائي من حديث عائشة وعبادة. وفي الجامع الكبير بعد ذكر المتن كما في الجامع الصغير رواه الطيالسي وأحمد والدارمي والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أنس عن عبادة بن الصامت ورواه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة. ورواه الطبراني عن معاوية وذكر الحديث كما ذكره المصنف لكن قال: قالوا يا رسول الله لكنا نكره الموت "قال ليس ذلك كراهية الموت ولكن المؤمن إذا احتضر جاء البشير من الله بما هو صائر إليه فليس شيء أحب إلى الله (¬3) من أن يكون قد لقي الله فأحب الله لقاءه، وإن الفاجر إذا احتضر جاءه ما هو صائر إليه من الشر فكره لقاء الله فكره الله لقاءه" وقال: رواه أحمد والنسائي من حديث ابن حبان اهـ. قال المصنف هذا الحديث يفسر آخره أوله، ويبين المراد بباقي الأحاديث المطلقة: "من أحب لقاء الله ومن كره لقاء الله". ومعنى الحديث إن الكراهة المعتبرة ما يكون عند النزع حالة عدم قبول توبة، ولا غيرها فحينئذ يبشر كل بما يصير إليه ويكشف له عنه، فأهل السعادة يحبون لقاء الله، لينتقلوا إلى ما أعد الله لهم، ويحب الله لقاءهم، أي: ثم فيجزل لهم العطاء والكرامة، وأهل الشقاوة يكرهون لما علموا من سوء ما ينتقلون إليه ويكره الله لقاءهم أي: يبعدهم عن رحمته وكرامته ولا يريد ذلك بهم، وهذا معنى كراهيته سبحانه لقاءهم. وليس معنى الحديث أن سبب كراهة الله لقاءهم كراهيتهم ذلك، ولا أن ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء، (الحديث: 15) . (¬2) سورة آل عمران، الآية: 21. (¬3) كذا في الأصل ولعلم إليه.

1847- وَعَنْ أُمِّ المُؤْمِنِينَ صَفِيَّةَ بنتِ حُيَيٍّ رَضيَ اللهُ عَنها، قالتْ: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُعْتَكِفاً، فَأَتَيْتُهُ أزُورُهُ لَيْلاً، فَحَدَّثْتُهُ ثُمَّ قُمْتُ لأَنْقَلِبَ فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي، فَمَرَّ رَجُلاَنِ مِنَ الأنْصَارِ رضيَ اللهُ عَنهُما، فَلَمَّا رَأَيَا النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أسْرَعَا. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "عَلَى رِسْلِكُمَا، إنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ" فَقَالاَ: سُبْحانَ اللهِ يَا رسولَ اللهِ، فقالَ: "إنَّ ـــــــــــــــــــــــــــــ سبب حبه لقاء الآخرين حبهم ذلك بل هو صفة لهم اهـ. وفي النهاية من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه والموت دون لقاء الله. قال في الفتح: كذا أخرجه النسائي بهذه الزيادة وهي من كلام عائشة مما يظهر، وذكرتها استنباطاً مما تقدم. قال في النهاية: المراد بلقاء الله المصير إلى الدار الآخرة وطلب ما عند الله، وليس الغرض به الموت لأن كلاً يكرهه، فمن ترك الدنيا وأحب الآخرة أحب لقاء الله ومن آثرها وركن إليها كره لقاء الله، لأنه إنما يصل إليه بالموت. وقوله والموت دون لقاء الله، يبين أن الموت خير اللقاء، لكنه معترض دون الغرض المطلوب، فيجب أن يصبر عليه - ويحتمل مشاقه على الاستسلام لما كتب الله له وقضى، حتى يصل إلى الفوز بالثواب العظيم اهـ. وكذا قال كل من أبي عبيد القاسم بن سلام والخطابي: أن معنى محبة لقاء الله إيثاره الآخرة على الدنيا، وعدم محبة استمراره فيها لاستعداده للارتحال عنها، والكراهة عند حكمه. قال أبي عبيد: ومما بينه أن الله سبحانه وتعالى عاتب قوماً بحب الحياة بقوله: (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها) (¬1) . 1847- (وعن أم المؤمنين صفية) بفتح المهملة وكسر الفاء وتشديد التحتية (بنت حيي) بضم المهملة وفتح التحتية الأولى وتشديد الثانية تقدمت ترجمتها (رضي الله عنها قالت كان النبي - صلى الله عليه وسلم - معتكفاً فأتيته أزوره ليلاً) أي: في جزء منه كما يومىء إليه تنكيره (فحدثته ثم قمت لأنقلب) أي: أرجع إلى منزلي (فقام معي ليقلبني) أي: ليرجعني (فمر رجلان من الأنصار) قال الحافظ في الفتح: لم أقف في شيء من كتب الحديث على تسميتهما إلا أن ابن العطار في شرح العمدة زعم أنهما أسيد بن حضير وعباد بن بشر ولم يذكر لذلك مستنداً (رضي الله عنهما فلما رأيا النبي - صلى الله عليه وسلم - أسرعا) أي: في المشي (فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - على رسلكما) بكسر الراء ويجوز فتحها أي: على هينتكما في المشي، فليس هنا ما تكرهانه. وفيه شيء محذوف. أي: إمشيا على هينتكما (إنها صفية بنت حيي فقالا: سبحان الله يا رسول الله) زاد البخاري في رواية "وكبر عليهما ذلك" وفي رواية "فقال يا رسول الله وهل يظن بك إلا خيراً" (فقال إن ¬

_ (¬1) سورة يونس، الآية: 7.

الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ، وَإنِّي خَشِيْتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَرّاً - أَوْ قَالَ: شَيْئاً -". متفق عليه (¬1) . 1848- وعن أبي الفضل العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - قال: ـــــــــــــــــــــــــــــ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) قيل هو على الحقيقة وإن الله تعالى أقدر من ذلك. وقيل: هو على سبيل الاستعارة من كثرة إغرائه، فكأنه لا يفارق كالدم فاشتركا في شدة الاتصال وعدم المفارقة (وإني خشيت) أي: خفت (أن يقذف) بكسر الذال المعجمة أي: يلقي (في قلوبكما شراً أو قال شيئاً) قال الحافظ: المحصل من الروايات: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينسبهما إلى أنهما يظنان به سوءاً لما تقرر عنده من قوة إيمانهما ولكن خشي عليهما أن يوسوس لهما الشيطان ذلك، لأنهما غير معصومين، فقد يمضى بهما ذلك إلى الهلاك فبادر إلى إعلامها حسماً للمادة وتعليماً لما بعده إذا وقع له مثل ذلك، كما قال، الشافعي: فقد روى ابن عساكر في تاريخه أن الشافعي كان في مجلس ابن عيينة فسأله عن فقه هذا الحديث فقال: إن كان القوم اتهموا النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا بتهمتهم إياه كفاراً لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - أدب من بعده فقال: "إذا كنتم هكذا فافعلوا هكذا حتى لا يظن بكم الظن السوء" لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتهم وهو أمين الله في أرضه، فقال ابن عيينة: جزاك الله خيراً يا عبد الله ما يجيئنا منك إلا كل ما نحبه، نقله السيوطي عنه في زهر الربى على المجتبى، لكن نقله الحافظ في الفتح عن الحاكم بلفظ إن الشافعي كان في مجلس ابن عيينة فسأله عن الحديث فقال إنما قال لهما ذلك، لأنه خاف عليهما الكفر إن ظنا به التهمة فبادر إلى إعلامها نصيحة لهما قبل أن يهلكا بقذف الشيطان في نفوسهما ما يهلكان به (متفق عليه) قال الحافظ في الفتح: في الحديث فوائد: منها التحرز عن التعرض لسوء الظن والاحتفاظ من كيد الشيطان والاعتذار. قال ابن دقيق العيد: وهذا متأكد في حقوق العلماء ومن يقتدى بهم فلا يجوز لهم أن يفعلوا ما يوجب ظن السوء بهم وإن كان لهم فيه مخلص، لأن فعل ذلك يكون سبباً لسوء الظن بهم ولإِبطال الانتفاع بعلمهم. 1848- (وعن أبي الفضل) كنية (العباس بن عبد المطلب) بن هاشم عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الاعتكاف، باب: هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد، (4/243) . وأخرجه مسلم في كتاب: السلام، باب: بيان أنه يستحب عن رؤي خالياً بامرأة وكانت زوجه ... ، (الحديث: 24) .

وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ كَالمُتَطَاوِلِ عَلَيْهَا إلَى قِتَالِهِمْ، فَقَالَ: " هَذَا حِينَ حَمِيَ الوَطِيسُ "، ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، حَصَيَاتٍ فَرَمَى بِهِنَّ وُجُوهَ الكُفَّارِ، ثُمَّ قَالَ: " انْهَزَمُوا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ "، فَذَهَبْتُ أنْظُرُ فَإذَا القِتَالُ عَلَى هَيْئَتِهِ فِيما أرَى، فَواللهِ مَا هُوَ إلاَّ أنْ رَمَاهُمْ بِحَصَيَاتِهِ، فَمَا زِلْتُ أرَى حَدَّهُمْ كَلِيلاً وَأَمْرَهُمْ مُدْبِراً. رواه مسلم. " الوَطِيسُ " التَّنُّورُ، ومعناهُ: اشْتَدَّتِ الحَرْبُ ـــــــــــــــــــــــــــــ عليها إلى قتالهم) متعلق بنظر (فقال هذا حين حمى الوطيس) حين خبر المبتدأ وبنى لإِضافته للجملة التي صدرها مبني والبناء فيه هو الراجح ويجوز إعرابه فيكون مرفوعاً وقد روي بالإِعراب. والبناء قول الشاعر. على حين عاتبت المشيب على الصبا. (ثم أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حصيات) أي: صغاراً وهي التي يقال لها الحصباء (فرمى بهن) ويحتمل أن يكون أخذ قبضة من تراب أيضاً فرمى بها لما جاء من قوله "فما خلق الله منهم إنساناً إلا ملأ عينه تراباً من تلك القبضة". ويحتمل أن يكون اشتملت القبضة على الحصى والتراب فرمى بهن (وجوه الكفار) فوصل التراب كل كافر وفي ذلك معجزة له إذ ليس في القوة البشرية إيصال ذلك إلى أعينهم، ولا يسع كفه ما يعمهم وإنما كان من صنع الله تعالى لنبيه ولذا قال (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) (¬1) وكذا قوله (ثم قال) أي: وقت التهاب الحرب وشدته (انهزموا ورب الكعبة) فهذه معجزة فعلية (فذهبت أنظر) أي: قبل الرمي والقول المذكور، والفاء للترتيب الذكرى (فإذا القتال على هيئته) أي: في الالتهاب والتكافؤ من الجانبين (فيما أرى فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته) أي: وأخبرهم بانهزامهم (فما زلت أرى حدهم) قوتهم (كليلاً) أي: ضعيفة (وأمرهم مدبراً) فغلبوا وانقلبوا صاغرين (رواه مسلم) في المغازي من صحيحه (الوطيس) بفتح الواو وكسر الطاء وبالسين المهملتين هو (التنور) تقدم أنه بالفوقية المفتوحة وتشديد النون وبالراء، وهذا قول مقابل قول الجمهور ونقله القرطبي عن المطرز. وفال المنصف في شرح مسلم قال الأكثر هو شبه التنور يخبز فيه ويضرب مثلاً لشدة الحر التي يشبه حرها حره. وقال الأصمعي: هو حجارة مدورة إذا حميت لم يقدر أحد أن يطأ عليها، فيقال: الآن حمي الوطيس. وقيل بل هو الضراب في الحرب. وقيل الوطيس الذي يطيس الناس أي: يدفعهم قالوا: وهذه اللفظة من فصيح الكلام وبديعه، الذي لم يسمح من واحد قبله - صلى الله عليه وسلم - (ومعناه اشتدت الحرب) هو على الأقوال الأربعة ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، الآية: 17.

يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، ومَلبسُهُ حرامٌ، وَغُذِّيَ بالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟ رواه مسلم (¬1) . 1850- وعنه - رضي الله عنه -، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ، وَلاَ يَنْظُرُ إلَيْهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ" ـــــــــــــــــــــــــــــ يقبل دعاء آكل الحرام فقال (ثم ذكر الرجل) ولفظ ثم للترتيب في الوجود لا في الرتبة (يطيل السفر) في العبارة من نحو حج أو جهاد، والجملة صفة أو حال من رجل لأن أل فيه جنسية (أشعث) أي: متفرق شعر الرأس (أغبر) مغبر الوجه هما حالان مترادفان من فاعل بطيل أو متداخلان (يمد يديه إلى السماء) حال من ضمير أشعث أو مما قبله قائلاً (يا رب يا رب) أي: أن هذه الحالات دالة على أن الداعي حقيق بالإِجابة ومع ذلك فلا يستجاب دعاؤه للحرام فما بال من لم يكن كذلك وتلبس بالحرام (ومطعمه حرام) حال من فاعل قائلاً وهو مصدر بمعنى المطعوم (ومشربه حرام وغذي بالحرام) بضم الغين المعجمة وكسر الذال أيضاً أي: عني به، ففيه الإِشارة إلى مأكله حال صغره. وفي قوله ومطعمه: الإشارة إلى مآكله حال كبره أي: أنه استوى حالتاه في أكل الحرام (فأنى) أي: كيف أو من أين والاستفهام للاستعباد (يستجاب) أي: الدعاء (لذلك) الرجل أو اللام للتعليل أي: لكون ما ذكر حراماً. ففيه إيماء إلى أن حل المطعم والمشرب مما يتوقف عليه إجابة الدعاء، ولذا قيل إن للدعاء جناحين أكل الحلال وصدق المقال (رواه مسلم) والترمذي وقال: حسن غريب. ورواه ابن المبارك في الزهد. قال السخاوي: وأخرجه الإِمام أحمد في المسند والدارمي في مسنده وأبو عوانة في صحيحه. 1850- (وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة) أي: ثلاثة من الأصناف (لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم) وذلك لسوء عملهم من غير ضرورة بهم إليه (شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر) قال الواحدي: هو العذاب الذي يخلص وصفه إلى القلب. والعذاب كل ما يعي الإِنسان ويشق عليه. قال: وأصل العذاب في كلام العرب المنع، يقال عذبته عذاباً إذا منعته وعذب عذوباً، أي: امتنع وسمي الماء عذباً لأنه يمنع ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، (الحديث: 65) .

التُّرْبَةَ يَومَ السَّبْتِ، وَخَلَقَ فيها الجِبَالَ يَومَ الأحَدِ، وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَومَ الإثْنَينِ، وَخَلَقَ المَكْرُوهَ يَومَ الثُّلاَثَاءِ، وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الأربِعَاءِ، وَبَثَّ فِيهَا الدَّوابَّ يَومَ الخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ - صلى الله عليه وسلم -، بَعْدَ العَصْرِ مِنْ يَومِ الجُمُعَةِ في آخِرِ الخَلْقِ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنَ النَّهَارِ فِيمَا بَيْنَ العَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ". رواه مسلم (¬1) . 1853- وعن أَبي سليمان خالد بن الوليد - رضي الله عنه - قَالَ: لَقَدِ انْقَطَعتْ في يَدِي يَوْمَ مُؤْتَةَ ـــــــــــــــــــــــــــــ خلق الله التربة) بضم الفوقية من أسماء التراب (يوم السب وخلق فيها) أي: التربة مادة الأرض (الجبال يوم الأحد) أوتاداً لها ورواسي (وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء) قال المصنف: كذا في مسلم وروي في غيره "وخلق الفتن يوم الثلاثاء" كذا رواه ثابت بن واسم قال: وهو ما يقوم المعاش ويصح به التدبير كالحديد وغيره من جواهر الأرض، وكل شيء يقوم به صلاح كل شيء فهو نفسه، ومنه إتقان الشيء (وخلق النور) كذا في مسلم بالراء ورواه غيره بنون في آخره قال القاضي: وكذا رواه بعض رواة مسلم وهو الحوت ولا منافاة (يوم الأربعاء) بفتح الهمزة وكسر الباء وفتحها وضمها ثلاث لغات حكاهن صاحب المحكم، وجمعها أربعاوات وحكي أيضاً أرابيع (وبث فيها) أي: الأرض (الدواب) المراد المعنى العام أي: كل ما دب عليها (يوم الخميس وخلق آدم - صلى الله عليه وسلم - بعد العصر من يوم الجمعة) من للتبعيض، أو للابتداء. وقوله (في آخر الخلق) متعلق بخلق وقوله (في آخر ساعة من النهار) يدل على ما قبلها بإعادة العامل ثم أبدل منه أيضاً قوله (فيما بين العصر إلى الليل رواه مسلماً ورواه أحمد في مسنده. 1853- (وعن أبي سليمان) كنية (خالد بن الوليد) بفتح الواو وكسر اللام وسكون التحتية بعدها دال مهملة من المعتبرين عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي (رضي الله عنه) أسلم بين الحديبية والفتح وقيل: كان إسلامه قبل غزوة موتة بشهرين، وكان أميراً على قتال أهل الردة وغيرها والفتوح، إلى أن مات سنة إحدى أو اثنتين وعشرين (قال: لقد انقطعت في يدي يوم موتة) بضم الميم وسكون الواو وبالفوقية موضع بقرب الشام وكانت في جمادى سنة ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: صفات المنافقين وأحكامهم، باب: ابتداء الخلق وخلق آدم عليه السلام، (الحديث: 27) .

تِسْعَةُ أسْيَافٍ، فَمَا بَقِيَ فِي يَدِي إِلاَّ صَفِيحَةٌ يَمَانِيَّةٌ. رواه البخاري (¬1) . 1854- وعن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: أنَّه سَمِعَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يقولُ: "إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ، ثُمَّ أصَابَ، فَلَهُ أجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ وَاجْتَهَدَ، فَأَخْطَأَ، فَلَهُ أَجْرٌ" متفق عَلَيْهِ (¬2) . 1855- وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "الحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَأَبْرِدُوهَا ـــــــــــــــــــــــــــــ ثمان وقيل كانت في صفر، وكان الفتح بعدها في رمضان (تسعة أسياف) بتقديم الفوقية وذلك من قوة الضرب والقتال (فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية) أي: سيف على تلك الصفة. (رواه البخاري) فيه كمال ثباته في لجة الحرب وقوة بأسه وقد قال الشاعر في ممدوحه: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب فالمدح بكسر السيوف في الحرب أحرى وأولى. 1854- (وعن عمرو بن العاص) بن وائل السهمي الصحابي المشهور (رضي الله عنه) تقدمت ترجمته في باب فضل السحور، (أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا حكم الحاكم فاجتهد) أي: وهو من أهل الاجتهاد فيما يسوغ الاجتهاد فيه (ثم أصاب فله أجران) أجر لاجتهاده وأجر لإِصابته (وإن حكم واجتهد) أي: وهو أهله (فأخطأ فله أجر) لاجتهاده الذي هو من أهله وإن لم يصب فيه، أما من ليس أهلاً له فيأثم به أصاب أو أخطأ (متفق عليه) . 1855- (وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الحمى من فيح) بفتح الفاء وسكون التحتية وبالمهملة أي: انتشار (جهنم) وقوة لهبها (فأبردوها) بوصل الهمزة وضم الراء لأنه ثلاثي من برد الماء حرارة جوفي أي: اسكن حرارتها. وحكي كسر الراء، وحكى عياض قطع الهمزة وكسر الراء من أبرد الشيء إذا عالجه فصيره بارداً. وقال الجوهري: إنها لغة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: المغازي، باب: غزوة مؤته، (7/397) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الاعتصام، باب: أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، (13/268) . وأخرجه مسلم في كتاب: الأقضية، باب: بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، (الحديث: 15) .

بِالمَاءِ" متفق عَلَيْهِ (¬1) . 1856- وعنها رَضِيَ اللهُ عنها، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَومٌ، صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ" متفق عَلَيْهِ. وَالمُخْتَارُ ـــــــــــــــــــــــــــــ رديئة (بالماء. متفق عليه) وهذا محمول على ما كانت تصفه أسماء بنت أبي بكر من رش الماء على بدن المحموم من بدنه وثوبه، وليس المراد اغتسال المحموم بالماء أو انغماسه فيه، لأن ذلك مضر. والصحابي لا سيما مثل أسماء التي كانت تلازم بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلم بالمراد من غيرها أو الخطاب خاص بأهل الحجاز وما والاهم، إذ كانت أكثر الحميات التي تعرض لهم من العرضية الحادثة عن شدة الحرارة، وهذه ينفعها الماء البارد شرباً واغتسالاً ولا يحتاج صاحبها إلى علاج آخر. قال ابن القيم: فالخطاب وإن كان لفظاً عاماً إلا أن المراد به خاص أي كما ذكرنا. وقال القاضي: غير بعيد أن المراد بالحمى: الحمى الصفراوية، فإن الأطباء يسلمون أن صاحبها يبرد بسقي الماء البارد الشديد البرد نعم ويسقونه الثلج ويغسلون أطرافه بالماء البارد، وأن المراد بالغسل مثل ما قالوه أو قريب منه. وقد كانت أسماء تصب الماء في جيب الموعوك. قال عيسى بن دينار أي: بين طوقها وجسدها. فهذه أسماء شاهدت الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهي في القرب منه على ما علم، فتأولت الحديث على نحو ما قلناه. والحاصل: أن الحميات مختلفات، منها ما يناسبه الإِبراد ومنها ما لا يناسبه، والحديث محمول على الأول فيعمل ما يناسبه على ما لا يليق به. وقيل يحتمل أن الحمى المأمور بالانغماس لها ما يكون سببها العين أو السم أو السحر فيكون ذلك من باب النشرة المأذون فيها، أخرج ابن أبي شيبة عن الأسود قال: سألت عائشة عن النشرة فقالت: ما تصنعون بهذا فهذا الفرات إلى جانبكم من أصابه نفس أو سم أو سحر فليأت الفرات فليستقبل، فينغمس فيه سبع مرات. 1856- (وعنها رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من مات وعليه صوم) أي: وتمكن من قضائه أو كان أفطر عدواناً (صام عنه وليه) أي: إن أراد ذلك، وإن شاء أخرج من تركته عن كل يوم مداً من طعام (متفق عليه) وبه أخذ الشافعي في القديم، وهو المعتمد فجوز للولي الصوم عن الميت الذي عليه الصوم كما ذكر أن يصوم أو يطعم (والمختار) تبعاً للقول القديم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق، باب: صفة النار (10/150) . وأخرجه مسلم في كتاب: السلام، باب: لكل داء دواء واستحباب التداوي، (الحديث: 81) .

وقَالَ لَهُمَا: أنْشُدُكُمَا اللهَ لَمَا أدْخَلْتُمَانِي عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها، فَإنَّهَا لاَ يَحِلُّ لَهَا أنْ تَنْذِرَ قَطِيعَتِي، فَأقْبَلَ بِهِ المِسْوَرُ، وَعَبدُ الرحْمَانِ حَتَّى اسْتَأذَنَا عَلَى عَائِشَةَ فَقَالاَ: السَّلاَمُ عَلَيْكِ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، أنَدْخُلُ؟ قالت عَائِشَةُ: ادْخُلُوا. قالوا: كُلُّنَا؟ قالتْ: نَعَمْ ادْخُلُوا كُلُّكُمْ، وَلاَ تَعْلَمُ أَنَّ معَهُمَا ابْنَ الزُّبَيرِ، فَلَمَّا دَخَلُوا دَخَلَ ابْنُ الزُّبَيرِ الحِجَابَ فَاعْتَنَقَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها، وَطَفِقَ يُنَاشِدُهَا وَيَبْكِي، وَطَفِقَ المِسْوَرُ، وَعَبدُ الرَّحْمَانِ يُنَاشِدَانِهَا إِلاَّ كَلَّمَتْهُ وَقَبِلَتْ مِنْهُ، وَيَقُولانِ: إنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَمَّا قَدْ عَلِمْتِ مِنَ الهِجْرَةِ؛ وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ المذكور من هجرها والشفع وعدم القبول (على ابن الزبير كلم المسور بن مخرمة) بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة الزهري أبو عبد الرحمن صحابي ابن صحابي (وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث) بفتح التحتية وضم المعجمة وبالمثلثة ابن وهب بن عبد مناف بن زهرة الزهري (وقال لهما أنشدكما الله) أي: أسألكما مقسماً عليكما به (لما) بفتح اللام وتشديد الميم أي: إلا (أدخلتماني على عائشة فإنها) أَي: عائشة أو الضمير للقصة (لا يحل) أي: يجوز (لها أن تنذر قطيعتي) وهي أداها اجتهادها إلى جوازه لأنه طاعة فالتزمته بصفة النذر وإلا فلو رأته محرماً، فالظن لها أن لا تفعله فضلاً عن كونها تلتزمه فضلاً عن كونها تنذره (فأقبل به المسور) بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الواو وبالراء (وعبد الرحمن) وسارا (حتى) وصلا الدار (استأذنا على عائشة فقالا: السلام عليك ورحمة الله وبركاته أندخل) هذه صيغة الاستئذان المحبوب كما تقدم في بابه (قالت عائشة أدخلوا قال: كلنا؟ قالت نعم أدخلوا كلكم) بالرفع تأكيد لضمير الجماعة المرفوع وقوله (ولا تعلم أن معهما ابن الزبير) جملة حالية من فاعل قالت (فلما دخلوا) المنزل (دخل ابن الزبير الحجاب فاعتنق عائشة رضي الله عنه وطفق يناشدها) أي: يسألها الرضا عنه وأن تكلمه (ويبكي) لما أصابه من ذلك (وطفق) أخذ (المسور وعبد الرحمن يناشدانها) يسألانها (إلا كلمته وقبلت منه) بتشديد اللام أي: لا يسألانها إلا تكليمه وقبولها منه عذره ورضاها عنه (ويقولان إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عما قد علمت من الهجرة) أي: الهجر للأخ المسلم فوق ثلاث، فكيف بالرحم المحرم (ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه) أي: المسلم لغرض نفسه (فوق ثلاث ليال) أما الهجر لله فيجوز ما دام باقياً على تلك المعصية التي هجر لأجلها كما تقدم من هجر النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة كعب وصاحبيه، لما تخلفوا عن غزوة تبوك حتى تاب الله

رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الفَجْرَ، وَصَعِدَ المِنْبَرَ، فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ الظُّهْرُ، فَنَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ المِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ العَصْرُ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ المِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَأَخْبَرَنَا بِمَا كَانَ وَبِمَا هُوَ كَائِنٌ، فَأَعْلَمُنَا أَحْفَظُنَا. رواه مسلم (¬1) . 1860- وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: قَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ نَذَرَ أنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللهَ فَلاَ يَعْصِهِ". رواه البخاري (¬2) . 1861- وعن أمِّ شَرِيكٍ رَضِيَ اللهُ عنها: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أمرها بِقَتْلِ ـــــــــــــــــــــــــــــ ثلاث وتسعين سنة وما في رأسه ولحيته شعرة بيضاء. ويقال إنه بلغ مائة ونيفاً وما في رأسه ولحيته إلا نبذ من شعر أبيض، وعدة ما روي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعة أحاديث وسكت من ترجمه عن بيان محل وفاته (قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفجر وصعد) بفتح المهملة الأولى وكسر الثانية (المنبر فخطبنا) واستمر يخطب (حتى حضرت الظهر) بزوال الشمس (فنزل فصلى ثم صعد المنبر فخطب حتى حضرت العصر ثم نزل فصلى ثم صعد المنبر حتى غربت الشمس فأخبرنا ما كان وما هو كائن) إن كان المراد جميع ذلك كما يومىء إليه لفظ الموصول، فيكون فيه معجزة بخرق الأوقات والمباركة فيها، حتى اتسعت لنشر ذلك كله وذكره، وإن كان المراد بعضاً منهم فيحتمل ذلك ويحتمل أن لا (فأعلمنا) أي: بالآيات (أحفظنا) أي: أكثرنا حفظاً لها (رواه مسلم) في الفتن من صحيحه. 1860- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - من نذر أن يطيع الله) بأن نذر صوماً أو صلاة أو غيرهما من أعمال البر تقرباً إلى الله تعالى (فليطعه) حتماً لالتزامه بالنذر، فهو كالواجب بأصل الشرع في تحتم الإِتيان به، وإن اختلف الفقهاء في أنه يسلك به مسلك واجب الشرع أو جائزه (ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه) ولا ينعقد الندر لأنه التزام قربة تقرباً إلى الله تعالى (رواه البخاري) ورواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة. 1861- (وعن أم شريك) بفتح الشين المعجمة وكسر الراء وسكون التحتية: هي العامرية. ويقال: الغامدية، تقدمت ترجمتها (رضي الله عنها) قريباً (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرها بقتل ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يكون إلى قيام الساعة، (الحديث: 25) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الإِيمان، باب: النذر في الطاعة، (11/504) .

تَدْرُونَ مِمَّ ذَاكَ؟ يَجْمَعُ اللهُ الأوَّلِينَ وَالآخِرِينَ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيُبْصِرُهُمُ النَّاظِرُ، وَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، وَتَدْنُو مِنْهُمُ الشَّمْسُ، فَيَبْلُغُ النَّاس مِنَ الغَمِّ وَالكَرْبِ مَا لاَ يُطِيقُونَ وَلاَ يَحْتَمِلُونَ، فَيقُولُ النَّاسُ: أَلاَّ تَرَوْنَ مَا أنْتُمْ فِيهِ ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن جعفر المذكور عقبه صريح في أن أطيب اللحم لحم الظهر اهـ. (فنهس منها نهسة) هو بالسين المهملة كما قال المصنف. قال القاضي عياض: رواه أكثر الرواة بالسين المهملة. ووقع لابن ماهان بالمعجمة وكلاهما صحيح بمعنى أخذ بأطراف أسنانه. قال الهروي قال أبو العباس: النهس بالمهملة بأطراف الأسنان وبالمعجمة بالأضراس. وقال القاضي مجد الدين الفيروزأبادي في كتابه تخيير الموشين في التعبير بالسين والشين: النهس والنهش قصم الشيء بمقدم الأسنان، والفعل منه على مثال منع يمنع (وقال: أنا سيد الناس) شمل آدم وغيره من بنيه فلو أعم منطوقاً من قوله أنا سيد ولد آدم، ونهيه عن تفضيله عن الأنبياء محمول على تفضيل يؤدي إلى تنقيص المفضل عليه فهو كفر. وقوله لمن قال له يا سيد البرية: ذاك إبراهيم محمول على أنه قال: قبل أن يعلم فضله عليه (يوم القيامة) التقييد للإطباق عليه حينئذ والظهور لكل كما بينه ما بعده بخلاف الدنيا إذ ينكر ذلك الكافريه الجاحد فضله وإلا فهو سيد الناس حقيقة في الدارين ومثله قوله تعالى: (مالك يوم الدين) (¬1) وهو مالك لما فيه وفي غيره من أيام الدنيا (هل تدرون مم) أي: لأي سبب (ذاك) أشير إليه مع قربه بما يشار به للبعيد تفخيماً نحو قوله تعالى: (ذلك الكتاب) (¬2) . وسكت عن جوابهم من نحو الله أعلم ورسوله إما لظهوره أو أنه بادرهم بالبيان قبل الإِتيان به (فقال يجمع الله الأولين والآخرين) أي: من سائر المكلفين ولا ينافيه قوله فيما يأتي أبوكم آدم لإِمكان كون الساعي من ذلك النوع الإِنساني لشرفه أو من الإِنس وسكت عن الجن والسكوت عن الشيء لا ينفيه (في صعيد واحد) بفتح المهملة الأولى وكسر الثانية أي: أرض وذكر باعتبار لفظ الصعيد (فينظرهم الناظر ويسمعهم الداعي) بضم التحتية في الفعلين (وتدنو) أي: تقرب (منهم الشمس) قدر ميل وهل المراد به ما يكتحل به أو المسافة المعلومة؛ قولان تقدما في باب الخوف (فيبلغ الناس) مفعول مقدم (من الغم) بالمعجمة في المصباح قيل للحزن غم لأنه يغطي السرور والحلم اهـ. (والكرب) بفتح فسكون مصدر كربه الأمر إذا همه ومن بيان لما في قوله (ما لا يطيقون ولا يحتملون) وهي فاعل مبلغ (فيقول الناس ألا) بتخفيف اللام (ترون) تنظرون (إلى ما أنتم فيه) أتى بـ "ما" تفخيماً للأمر ¬

_ (¬1) سورة الفاتحة، الآية: 4. (¬2) سورة البقرة، الآية: 2.

إِلَى مَا بَلَغَكُمْ، ألاَ تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ؟ فَيقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: أبُوكُمْ آدَمُ، فَيَأتُونَهُ فَيقُولُونَ: يَا آدَمُ أنْتَ أَبُو البَشَرِ، خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وأمَرَ المَلاَئِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، وأسْكَنَكَ الجَنَّةَ، ألاَ تَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّكَ؟ ألاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ وَمَا بَلَغْنَا؟ فَقَالَ: إنَّ رَبِّي غَضِبَ اليَوْمَ غَضَباً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ نحو قوله تعالى: (فغشيهم من اليم ما غشيهم) (¬1) . وأبدل منه بإعادة الجار (إلى ما بلغكم) وعطف على ترون قوله (وتنظرون) وفي نسخة ألا تنظرون من نظر الأمر تفكر فيه أي: تفكرون (من يشفع لكم إلى ربكم) أي: في الخلاص مما أنتم فيه (فيقول بعض الناس) أتى ببعض هنا وحذفه فيما قبل تفنناً في التعبير (لبعض) اللام للتبليغ (أبوكم آدم) أي: سلوه ذلك أو المنظور إليه لذلك أبوكم تعبيرهم بدعاء كل رسول باسمه حتى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - لأن حرمة ندائه - صلى الله عليه وسلم - باسمه مقيدة بهذه الدار، ومثله كل نبي (فيأتونه فيقولون يا آدم أنت أبو البشر) أتوا بذلك تهييجاً له على المطلوب منه لأن الطبع يدعو الأصل لفعل ما ينفع الفرع. والبشر بفتحتين الإِنسان يطلق على المفرد الجمع قال في المصباح: العرب ثنوه ولم يجمعوه. قال البيضاوي في قوله تعالى عن قوم فرعون: (أنؤمن لبشرين مثلنا) (¬2) ثنى البشر لأنه يطلق للواحد كقوله تعالى: (بشراً سوياً) (¬3) وللجمع كقوله (فأما ترين من البشر أحداً) (¬4) أي: وليس المراد أحدهما فلو لم يثن لربما توهم إرادة غير المراد (خلقك الله بيده) أي: بقدرته (ونفخ فيك من روحه) أي: من روح مشرف بإضافته إليه تعالى (وأمر الملائكة) أي: أن يسجدوا حذف اكتفاء بدلالة (فسجدوا لك) أي: إليك وإلا فالسجود لله تعالى، وهو لهم حينئذ قبلة بمنزلة الكعبة لنا (وأسكنك الجنة) أي: التي يدخلها المؤمنون في الدار الآخرة على الصحيح. وفيه دليل أهل الحق على وجودها الآن (ألا تشفع لنا إلى ربك) عرض وطلب برفق وذكروا ما يهيجه عليه بقولهم (ألا ترى ما نجن فيه وما بلغنا) بفتح المعجمة على أن الفاعل مضمر يعود لما دل عليه ما نحن فيه، أو بالسكون على أن الضمير فاعل، وحذف ما بلغوه من الأتعاب، إيماء إلى شدته وأنه تقصر العبارة عن بيانه (فقال: إن ربي غضب اليوم غضباً) المراد به لاستحالة قيام حقيقته بالله سبحانه وتعالى، غايته مجازاً مرسلاً: إما إرادة الانتقام أو نفسه (لم) وفي نسخة لن (يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله وإنه) ¬

_ (¬1) سورة طه، الآية: 78. (¬2) سورة المؤمنون، الآية: 47. (¬3) سورة مريم، الآية: 17. (¬4) سورة مريم، الآية: 26.

ألاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيقُولُ لَهُمْ: إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَباً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإنَّي كُنْتُ كَذَبْتُ ثَلاثَ كَذبَاتٍ؛ نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى، فَيَأتُونَ مُوسَى فَيقُولُونَ: يَا مُوسَى أنَتَ رَسُولُ اللهِ، فَضَّلَكَ اللهُ بِرسَالاَتِهِ وَبِكَلاَمِهِ عَلَى النَّاسِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ بخليله (اشفع لنا إلى ربك) لعل سر الإِضافة لضمير المخاطب فيه وفي قرائنه أن تربيته لهم أكمل منها لغيرهم من الخلق إذ أوصلهم غاية الشرف ولم يصل إلى أدنى مراتبهم أحد من البشر، وفيه إيماء إلى التوسل بهم لأن للمضاف كمال الانتساب للمضاف إليه، وذلك يقتضي الإِدلال والسؤال (أما) وفي نسخة ألا (ترى إلى ما نحن فيه) يحتمل أنهم قالوا وما بلغنا، كما فيما قبله فيهما وتركه الراوي اكتفاء بدلالة ما قبله وإنهم تركوا ذلك لكونه من باب الإِطناب واشتد بهم الكرب آخراً فامتنعوا منه (فيقول لهم إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني كنت كذبت ثلاث كذبات) قوله إني سقيم وقوله بل فعله كبيرهم هذا وقوله في سارة أختي. والحق أنها ليست معاصي أي: سأسقم وفعله كبيرهم إن كانت الأصنام تنطق وأختي أي: في الإِسلام لكنها لما كانت بصورة الكذب، سماها كذباً وعدها ذنباً اشفق منه على نفسه، وذلك لأن من كان أعرف بالله تعالى وأقرب منه منزلة كان أعظم خطراً وأشد خشية، وعلى هذا سائر ما أضيف إلى الأنبياء من الخطأ (نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى فيأتون موسى فيقولون يا موسى أنت رسول الله فضلك الله برسالته وبكلامه على الناس) أي: من عدا نبينا - صلى الله عليه وسلم - حتى إبراهيم بسماعه كلامه القديم النفسي بغير واسطة. ومثل موسى في ذلك نبينا - صلى الله عليه وسلم - فكلمه الله تعالى ليلة المعراج. ولا يلزم من اختصاص موسى عن إبراهيم بما ذكر فضله عليه لأنه قد يكون للمفضول خصيصية بل خصائص لا تكون لأفضل منه. وقد ثبت النص بالحديث المرفوع في إبراهيم أنه سيد البرية، خرج من عمومه نبينا - صلى الله عليه وسلم - وبقي عليه فيما عداه فتناول موسى وغيره، والناس عام مخصوص (اشفع لنا إلى ربك) يحتمل أن إلى فيه وفي قرائنه: بمعنى عند. كقول أبي كثير الهذلي: أم لا سبيل إلى الشباب وذكره ... أشهى إلي من الرحيق السلسل وعلى قول البصريين الذين لا يثبتون لها معنى سوى انتهاء الغاية مطلقاً، فيكون في

ألاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فيقُولُ: إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَباً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإنَّي قَدْ قَتَلْتُ نَفْساً لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي؛ اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى. فَيَأتُونَ عِيسَى فَيَقُولُونَ: يَا عِيسَى، أنْتَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ ألْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَكَلَّمْتَ النَّاسَ في المَهْدِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، ألاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فيَقُولُ عِيسَى: إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَباً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَنْباً، نَفْسِي نَفْسِي ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث تضمين أي: اشفع لنا متوسلاً إلى ربك (ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني قد قتلت نفساً لم أومر بقتلها) هو القبطي خباز فرعون قال بعض المفسرين في قوله تعالى: (أُذن للذين يقاتَلون بأنهم ظُلموا) (¬1) الآية فيه إشارة لمنع قتال الكافرين بغير إذن الله. ولهذا لما قتل موسى ذلك القبطي الكافر قال: هذا من عمل الشيطان الآية اهـ. ثم إن هذا من موسى من كمال معرفته بعظمة ربه عز جلاله، فإنه أشفق من قتله ذلك مع أن الله أخبر بنص القرآن أنه غفر له (نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى عيسى فيأتون عيسى فيقولون يا عيسى أنت رسول الله وكلمته) أطلقت عليه مجازاً مرسلاً لكونه صدر عن كلمة كن من غير أب (ألقاها إلى مريم وروح منه) أي: من أمره (وكلمت الناس في المهد) حال من فاعل كلم (اشفع لنا إلى ربك) قال الأبي: لم يأت أن الخلق تلجأ إلى غير هذه الأربع وخص الأربع. لأنهم أفضل الرسل بعده - صلى الله عليه وسلم -، وأولوا العزم من الرسل الذين أمر أن يصبر كما صبروا. قال المصنف: الحكمة في أن الله تعالى ألهمهم سؤال آدم ومن بعده في الابتداء ولم يلهموا سؤال نبينا - صلى الله عليه وسلم - إظهار فضيلته فإنهم لو سألوه ابتداء لكان يحتمل أن غيره يقدر على ذلك ويحصله، وأما إذا سألوا غيره من رسل الله تعالى وأصفيائه فامتنعوا ثم سألوه فأجاب وحصل غرضهم فهو النهاية في ارتفاع المنزلة وكمال القرب وعظيم الإِدلال والأنس. وفيه تفضيله - صلى الله عليه وسلم - على جميع المخلوقين من الرسل الآدميين والملائكة، فإن هذا الأمر العظيم، وهو الشفاعة لا يقدر على الإِقدام عليه غيره - صلى الله عليه وسلم - (ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول عيسى إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله) علل امتناعه عن الشفاعة بظهور الجلال، فخاف منه (ولم يذكر ذنباً) كذا في هذه الرواية قال السيوطي في ¬

_ (¬1) سورة الحج، الآية: 39.

ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأسَكَ، سَلْ تُعْطَهُ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأرْفَعُ رَأْسِي، فَأقُولُ: أُمَّتِي يَا رَبِّ، أُمَّتِي يَا رَبِّ، أُمَّتِي يَا رَبِّ، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ أدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لاَ حِسَابَ عَلَيْهِمْ مِنَ البَابِ الأيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأبْوَابِ". ثُمَّ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إنَّ مَا بَيْنَ المِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الجَنَّةِ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرَ، أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى". متفق عَلَيْهِ (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ قبله - صلى الله عليه وسلم - وبعده (ثم يقال) أي: على لسان جبريل كما في حديث أحمد (يا محمد ارفع رأسك) أي: من السجود (سل تعطه) كذا بحذف الواو عند مسلم وهي ثابتة عند البخاري نبه عليه في الفتح، وزاد البخاري "وقل تسمع واشفع تشفع" وزاد في رواية "وادع تجب". ثم الهاء في لفظه بالسكت. فهي ساكنة ينطق بها وقفاً لا وصلاً، ويجوز أنها ضمير المفعول الثاني عائد على المسؤول المدلول عليه بقوله (فأرفع رأسي فأقول أمتي يا رب أمتي يا رب أمتي يا رب) أي: سؤالي خلاص أمتي أي: خلص أمتي من موبقات القيامة فهو مرفوع أو منصوب (فيقال يا محمد أدخل (الجنة) من أمتك) بيان لمن في قوله: (من لا حساب عليهم) وذلك كل السبعين ألفاً الذين سأل عكاشة أن يكون منهم وقد سبق ذلك في حديث طويل لابن عباس في باب التوكل (من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم) أي: باقي أمتك (شركاء الناس فيما سوى ذلك) الباب الأيمن (من) بقية (الأبواب) الثمانية (ثم قال) - صلى الله عليه وسلم - (والذي نفسي بيده) عند مسلم والذي نفس محمد بيده (إن ما بين المصراعين) بكسر الميم وبالمهملتين جانبا الباب (من مصاريع الجنة) جمع المصراع باعتبار تعدد الأبواب (كما) وعند مسلم لكما بزيادة لام (بين مكة وهجر) بفتح الهاء والجيم مدينة عظيمة قال المصنف: هي قاعدة البحرين. قال: الجوهري في صحاحه هجر اسم بلد مذكر مصروف قال: والنسبة إليه هاجري. وقال: أبو القاسم الزجاج في الجمل هجر يذكر ويؤنث قال المصنف: وهجر هذه غير هجر المذكورة في حديث القلتين تلك قرية من قرى المدينة كان يصنع بها القلال (أو) للشك من الراوي في أنه قال: بين مكة وهجر أو قال: (كما بين مكة وبصرى) بضم الموحدة وسكون المهملة مدينة معروفة، بينها وبين دمشق ثلاث مراحل وهي مدينة حوران وبينها وبين مكة شهر (متفق عليه) رواه البخاري في التفسير وفي أحاديث الأنبياء. ورواه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: التفسير سورة الإِسراء وفي كتاب الأنبياء باب قوله تعالى (إنا أرسلنا =

1865- وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قَالَ: جَاءَ إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - بِأُمِّ إسْماعِيلَ وَبِابْنِهَا إسْمَاعِيل وَهِيَ تُرْضِعُهُ، حَتَّى وَضَعهَا عِنْدَ البَيْتِ، عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوقَ زَمْزَمَ في أعْلَى المَسْجِدِ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهُمَا هُنَاكَ، وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَاباً فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى إبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقاً، فَتَبِعَتْهُ أمُّ إسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ: يَا إبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهذَا الوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ أنِيسٌ وَلاَ شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَاراً، وَجَعَلَ لاَ يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، قَالَتْ لَهُ: آللهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: إذاً لاَ يُضَيِّعُنَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ مسلم في الأنبياء، وكذا أخرجه الترمذي في الأيمان وقال: حسن صحيح. وأخرجه النسائي في الوليمة، وأخرجه ابن ماجه في الأطعمة كما قاله المزي في الأطراف. 1865- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - بأم إسماعيل) واسمها هاجر وقيل آجر بفتح الجيم فيهما قبطية وهبها لسارة ملك مصر الذي أراد سارة فمنعه الله منها وحديثه في البخاري (وبابنها إسماعيل وهي ترضعه) جملة حالية من أم إسماعيل (حتى وضعها) أي: هاجر وسكت عن إسماعيل لاستلزام وضعها ثمة وضعه معها إذ كان رضيعاً لا مرضع له غيرها (عند البيت) أي: الكعبة (عند دوحة) بفتح المهملتين وسكون الواو بينهما (فوق زمزم) صفة للدوحة أي: كائنة وثابتة فوقها (في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد) أي: من الإِنس (وليس بها ماء فوضعهما) بضمير التثنية وأفرد أولاً تفنناً في التعبير وإلا فالمراد في الموضعين منه واحد (هناك) أي: عند الدوحة (ووضع عندهما جراباً) بكسر الجيم (فيه تمر وسقاء) بكسر المهملة وتخفيف القاف وبالمد إناء يكون للماء واللبن (فيه ماء ثم قفى) بتشديد الفاء (إبراهيم) أي: جعل قفاه لجهة هاجر (منطلقاً) إلى الشام (فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أي تذهب وتتركنا) بالنصب بأن بعد الواو في جواب الاستفهام وبالرفع عطفاً على الفعل قبله (بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء) أي: مما يؤكل ويشرب (فقالت له ذلك) أي: يا إبراهيم أين تذهب إلخ (مراراً) أخرج عمرو بن شيبة من طريق أنها نادته بذلك ثلاثاً (وجعل لا يلتفت إليها) وانصرف إلى طريقه (فقالت له آلله) بمد الهمزة وهي للاستفهام (أمرك بهذا قال: نعم قالت إذاً) حرف جواب وجزاء (لا يضيعنا) بالنصب ولا يضر الفصل بلا، وبالرفع على إهمالها فإن أعمالها عند اجتماع شروطه جائز ¬

_ = نوحاً ... ) ، (6/264، 265، 8/300) . وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها، (الحديث: 327) .

ثُمَّ رَجَعَتْ، فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ - صلى الله عليه وسلم -، حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لاَ يَرُونَهُ، اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ البَيْتَ، ثُمَّ دَعَا بِهؤُلاءِ الدَّعَوَاتِ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ (¬1) : (رَبِّ إنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) حَتَّى بَلَغَ (يَشْكُرُونَ) [إبراهيم: 37] . وَجَعَلَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إسْمَاعِيلَ وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ المَاءِ، حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ، وَعَطِشَ ابْنُهَا، وَجَعَلتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى - أَوْ قَالَ يَتَلَبَّطُ - فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ في الأرْضِ يَلِيهَا، فَقَامَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الوَادِي تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أحَداً؟ فَلَمْ تَرَ أحَداً. فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الوَادِي، رَفَعَت طَرفَ ـــــــــــــــــــــــــــــ لا واجب (ثم رجعت) إلى ابنها (فانطلق إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان عند الثنية) بفتح المثلثة وكسر النون وتشديد التحتية وذلك عند الحجون بفتح المهملة (حيث لا يرونه) بدل من التثنية (استقبل) جواب ذا الوقتية المضمنة معنى الشرط (بوجهه البيت) فيه استحباب استقبال القبلة حال الدعاء (ثم دعا بهؤلاء الدعوات فرفع يديه فقال:) عطف على دعا كالعطف في قوله توضأ زيد فغسل وجهه ويديه، (رب إني أسكنت من ذريتي) أي: بعضهم (بواد غير ذي زرع) هو مكة وكونها كذلك ليتم التفرغ فيها للعبادة فإن الزرع والأكساب الدنيوية مانعة منه (عند بيتك) إضافة تشريف ووصفه بقوله (المحرم) لذلك أي: المحرم الصيد عنده وقطع الشجر والمقاتلة وغير ذلك (ربنا ليقيموا الصلاة) بمكة لإِسكانه لهم ثمة ففيه تحريض للمقيم بمكة على عبادة المولى والإِعراض عن أعراض الدنيا فإنها حينئذ تنقاد له (فاجعل أفئدة من الناس) أي: من افئدتهم (تهوي) أي: تسرع (إليهم) شوقاً. عن بعض السلف لو قال: الناس لازدحمت عليه الروم وفارس والناس كلهم، ولكن قال: من الناس فاختص به المسلمون (وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) نعمتك وقد استجاب الله دعاءه (وجعلت أم إسماعيل ترضعه وتشرب من ذلك الماء) أي: وتأكل من ذلك الثمر (حتى إذا نفد) بكسر الفاء وبالدال المهملة (ما في السقاء) أي: من الماء (عطشت وعطش ابنها) بكسر الطاء (وجعلت تنظر إليه) أي: تبصره (يتلوى أو قال) أي: ابن عباس (يتلبط) بموحدة بعدها مهملة أي يتمرغ ويضرب بنفسه الأرض (فانطلقت كراهية) بتخفيف التحتية مفعول له (أن تنظر إليه) أي: وهو كذلك (فوجدت الصفا) بالقصر طرف جبل أبي قبيس (أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي) أي مكة (تنظر هل ترى) أي: تبصر (أحداً ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم، الآية: 37.

مَكَّةَ؛ فَرَأَوْا طَائِراً عائِفاً، فَقَالُوا: إنَّ هَذَا الطَّائِرَ لَيَدُورُ عَلَى مَاءٍ، لَعَهْدُنَا بهذا الوَادِي وَمَا فِيهِ مَاء. فَأَرْسَلُوا جَرِيّاً أَوْ جَرِيَّيْنِ، فَإذَا هُمْ بِالمَاءِ. فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُمْ؛ فَأَقْبَلُوا وَأُمُّ إسْمَاعِيلَ عِنْدَ المَاءِ، فقالوا: أتَأذَنِينَ لَنَا أنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، وَلَكِنْ لاَ حَقَّ لَكُمْ في المَاءِ، قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ ابن عباس: قَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " فَألْفَى ذَلِكَ أُمَّ إسْمَاعِيلَ، وهي تُحِبُّ الأنْسَ " فَنَزَلُوا، فَأرْسَلُوا إِلَى أهْلِهِمْ فَنَزَلُوا مَعَهُمْ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِهَا أهْلَ أبْيَاتٍ وَشَبَّ الغُلاَمُ وَتَعَلَّمَ العَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ، وَأنْفَسَهُمْ وَأَعْجَبَهُمْ حِيْنَ شَبَّ، فَلَمَّا أدْرَكَ زَوَّجُوهُ امْرَأةً مِنْهُمْ: وَمَاتَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ، فَجَاءَ إبْرَاهِيمُ بَعْدَما تَزَوَّجَ ـــــــــــــــــــــــــــــ بالمهملة والفاء، الذي يحوم على الماء ويرود ولا يمضي عنه (فقالوا إن هذا الطائر ليدور على ماء لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء فأرسلوا جرياً) بفتح الجيم وكسر الراء وتشديد التحتية أي: رسولاً سمي بذلك لأنه يجرى مجرى مرسله أو لأنه يجري مسرعاً في حوائجه (أو جريين) شك من الراوي (فإذا هم بالماء فرجعوا) فيه إطلاق ضمير الجمع على ما فوق الواحد. وهذا يؤيد الرواية الثانية (فأخبروهم فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء فقالوا أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت نعم ولكن لاحق لكم في الماء) أي: بل الحق فيه مختص بي فإن شئت منحت وإن شئت منعت (قالوا نعم قال ابن عباس: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فألفى) بالفاء أي: وجد (ذلك أم إسماعيل) بالنصب مفعول ألفى (وهي تحب الأنس) بضم الهمزة ضد الوحشة (فنزلوا فأرسلوا إلى أهليهم) فجاءوا (فنزلوا معهم حتى إذا كانوا بها أهل أبيات) حتى غاية لمقدر أي: وكثروا وكان بمعنى صار (وشب الغلام) أي: إسماعيل (وتعلم العربية منهم) قال السيوطي: فيه تضعيف لقول من روى أنه أول من تكلم بالعربية كما أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس. لكن أخرج الزبير بن بكار في النسب بسند حسن من حديث على أول من فتق الله لسانه بالعربية البينة إسماعيل. قال الحافظ ابن حجر: وبهذا القيد يجمع بين الخبرين فيكون أوليته في ذلك بحسب الزيادة في البيان لا الأولية المطلقة فيكون بعد تعلمه من جرهم، ألهمه الله العربية الفصيحة البينة فنطق بها، ويؤيده ما حكى ابن هاشم عن الشرقي بن قطامي أن عربية إسماعيل كانت أفصح من عربية يعرب بن قحطان وبقايا حمير وجرهم. قال: ويحتمل أن تكون الأولية مقيدة بإسماعيل بالنسبة إلى بقية إخوته من ولد إبراهيم. وفي الوشاح لابن دريد أول من نطق بالعربية يعرب بن قحطان بن إسماعيل (وأنفسهم) بفتح الفاء من النفاسة أي: كثرت رغبتهم فيه وللإِسماعيلي وآنسهم من الإِنس (وأعجبهم حتى شب) أي كبر ونشأ (فلما أدرك) أي: بلغ (زوجوه امرأة منهم) قال:

إسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ، فَلَمْ يَجِدْ إسْمَاعِيلَ؛ فَسَأَلَ امْرَأتَهُ عَنْهُ فَقَالَتْ: خرَجَ يَبْتَغِي لَنَا - وفي روايةٍ: يَصِيدُ لَنَا - ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ: نَحْنُ بِشَرٍّ، نَحْنُ فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ؛ وَشَكَتْ إِلَيْهِ، قَالَ: فَإذَا جَاءَ زَوْجُكِ اقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلاَمَ، وَقُولِي لَهُ يُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ. فَلَمَّا جَاءَ إسْمَاعِيلُ كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئاً، فَقَالَ: هَلْ جَاءكُمْ مِنْ أحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، جَاءنا شَيْخٌ كَذَا وَكَذَا، فَسَأَلَنَا عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَسَأَلَنِي: كَيْفَ عَيْشُنَا، فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا في جَهْدٍ وَشِدَّةٍ. قَالَ: فَهَلْ أَوْصَاكِ بِشَيءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أَمَرَنِي أنْ أقْرَأَ ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن إسحاق اسمها عمارة بنت سعد. وقال السهيلي حدا بنت سعد وقال: عمر بن شعبة حيي بنت أسعد (وماتت أم إسماعيل) ظاهر السياق أن موتها بعد تزوج ابنها (فجاء إبراهيم بعد ما) مصدرية (تزوج إسماعيل) أي: بعد تزوجه (يطالع تركته) أي: يتفقد حال ما تركه هذا وقد ورد أنه كان يزور هاجر وإسماعيل كل شهر على البراق يغدو غدوة ثم يأتي مكة ثم يرجع فيقيل في منزله في الشام، أخرجه الفاكهي من حديث علي بسند حسن (فلم يجد إسماعيل) عطف على جاء (فسأل امرأته عنه) أي: أين هو (فقالت خرج يبتغي) أي: يطلب (لنا) رزقاً أي: بالصيد كما قال المصنف (وفي رواية) أي: للبخاري كما صرح به آخر (يصيد لنا) أي: بدل قولها يبتغي لنا رزقاً يعني والروايات يفسر بعضها بعضاً (ثم سألها عن عيشهم) ما يعيشهم من الطعام والشراب (وهيئتهم) أي: حالتهم (فقالت نحن بشر) أي: متلبسين به وفسرت الشر بقولها (نحن في ضيق وشدة) أي: في ضيق من المعاش وشدة من أمره (وشكت إليه) أي: من ذلك. ولما رأى مزيد التبرم وشدة الضجر مما ابتلاها الله تعالى به زيادة في الدرجات خشي أن يسري حالها إلى ولده فيقع في مثل حالها فأمره بفراقها كما قال (قال) أي: إبراهيم (فإذا جاء زوجك اقرئي عليه السلام) أي: أبلغيه سلامي، وجملة الأمر جواب الشرط غير الجازم وليس في أولها رابط من الفاء، ولا بدلها من إذا الفجائية (وقولي له يغير عتبة بابه) كناية عن طلاق امرأته. واستنبط منه البلقيني عند ذلك من كنايات الطلاق وكنى عن المرأة بعتبة الباب لما فيها من الصفات الموافقة لها وهي حفظ الباب وصون ما في داخله وكونها محل الوطء (فلما جاء إسماعيل) من صيده (كأنه آنس) بالمد أي: أحس (شيئاً فقال هل جاءكم من أحد) مزيدة لتقدم الاستفهام (قالت نعم جاءنا شيخ) بالتنوين وقوله (كذا وكذا) كناية عن صفته (فسألنا عنك فأخبرته فسألني) عبرت عن نفسها أولاً بضمير الجمع تأكيداً ثم بضمير الواحد تفنناً في التعبير ودفعاً لاستكراره ثقل تكرير اللفظ بعينه (كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد) بفتح الجيم أي مشقة (وشدة) أي: قوة فهو كعطف

عَلَيْكَ السَّلاَمَ، وَيَقُولُ: غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ، قَالَ: ذَاكَ أبِي وَقَدْ أَمَرَنِي أنْ أُفَارِقَكِ! الْحَقِي بِأَهْلِكِ. فَطَلَّقَهَا وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى، فَلَبِثَ عَنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَدَخَلَ عَلَى امْرَأتِهِ فَسَألَ عَنْهُ. قَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا قَالَ: كَيفَ أنْتُمْ؟ وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ: نَحْنُ بِخَيرٍ وَسَعَةٍ، وَأَثْنَتْ عَلَى اللهِ. فَقَالَ: مَا طَعَامُكُمْ؟ قَالَتْ: اللَّحْمُ، قَالَ: فمَا شَرَابُكُمْ؟ قَالَت: الماءُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ للرديف (قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول) لك عطف على أمرني (غير عتبة بابك قال: ذاك) بكسر الكاف خطاب المؤنثة (أبي وقد أمرني) بتغيير عتبة الباب (أن أفارقك) يحتمل أن يكون على تقدير الباء أي: بمفارقتك وألا يقدر لأن أمر يصل إلى المفعول الثاني تارة بالجار، وأخرى بنفسه (الحقي بأهلك) بفتح المهملة وهو من كنايات الطلاق، والسياق يقضي بأنه نوى الطلاق الذي أمر به وصرح به بقوله (فطلقها) وفيه استحباب مفارقة من لا صبر لها عنده عند تعاور الشدائد، وبر الوالد وتنفيذ أمره والمسارعة إليه (وتزوج منهم امرأة أخرى) قال الواقدي وغيره: اسمها سامة بنت مهلهل. وقيل: اسمها عاتكة. وقيل رغلة بنت نصاص. وقيل جرة. وقيل هالة بنت الحارث. وقيل سلمى وقيل الحنفاء وقيل السند بنت مضاض وقيل رغلة بنت يسحب بن يعرب بن لود بن جرهم (فلبث عندهم إبراهيم ما شاء الله) أي: قدر مشيئته أو قدر الذي شاءه الله (ثم أتاهم بعد) بالبناء على الضم لحذف المضاف إليه ونية معناه. وفي نسخة بعد ذلك بنصب بعد لإِضافته لفظاً (فلم يجده فدخل على امرأته فسأل عنه قالت) أتى بالفاء فيما تقدم لبيان أن إجابتها عقب سؤاله فوراً وحذفت هنا لعدم تعلق القصد بفورية جوابها. أو ترتبه أو استئناف بياني أشار إليه البيضاوي في سورة المؤمنين حيث قال: تعالي في آية (فقال الملأ) (¬1) وفي أخرى (وقال الملأ) (¬2) بالفاء في الأولى وبحذفها في الثانية (خرج يبتغي لنا قال: كيف أنتم وسألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت نحن بحير) أي: في خير إلهي وفيض رباني. ويحتمل أن الباء للملابسة (وسعة) بفتح المهملة الأولى (وأثنت على الله تعالى) أي: حمدته (فقال: ما طعامكم قالت اللحم قال: فما شرابكم قالت الماء) أي: ماء زمزم ويحتمل وهو وغيره من ¬

_ (¬1) سورة هود، الآية: 27. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 60.

قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ وَالمَاءِ. قَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ حَبٌّ وَلَوْ كَانَ لَهُمْ دَعَا لَهُمْ فِيهِ، قَالَ: فَهُمَا لاَ يَخْلُو عَلَيْهِمَا أَحَدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِلاَّ لَمْ يُوَافِقَاهُ. وَفِي رواية: فجاء فَقَالَ: أيْنَ إسْمَاعِيلُ؟ فَقَالَتْ امْرأتُهُ: ذَهَبَ يَصِيدُ؛ فَقَالَتْ امْرَأتُهُ: ألاَ تَنْزِلُ، فَتَطْعَمَ وَتَشْرَبَ؟ قَالَ: وَمَا طَعَامُكُمْ وَمَا شَرَابُكُمْ؟ قَالَتْ: طَعَامُنَا اللَّحْمُ وَشَرَابُنَا المَاءُ، قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي طَعَامِهِمْ وَشَرابِهِمْ. قَالَ: فَقَالَ أَبُو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: بَرَكَةُ دَعوَةِ إبْرَاهِيمَ. قَالَ: فإذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلاَمَ وَمُرِيِهِ يُثَبِّتُ عَتَبَةَ بَابِهِ. فَلَمَّا جَاءَ إسْمَاعِيلُ قَالَ: هَلْ أتاكُمْ مِنْ أحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أتانَا شَيْخٌ حَسَنُ الهَيْئَةِ، وَأثْنَتْ عَلَيْهِ، فَسَألَنِي عَنْكَ فَأَخْبَرتُهُ، فَسَألَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا فَأخْبَرْتُهُ ـــــــــــــــــــــــــــــ باقي المياه كماء مطر ومحمول من خارجها (قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن لهم يومئذ حب) أي: شيء من أي نوع منه (ولو كان لهم دعا لهم فيه) أي: لتعمه البركة بدعائه (قال) ابن عباس: (فهما لا يخلو) بالمعجمة يقال خلوت بالشيء إذا لم أخلط به غيره (عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه) في رواية أخرى إلا اشتكي بطنه (وفي رواية) هي للبخاري، وهي في سياق مجيئه المرأة الثانية السابقة فيما قبله (فجاء) أي: إبراهيم (فقال أين إسماعيل فقالت امرأته ذهب يصيد فقالت امرأته) كرره للتأكيد ولزيادة الإِيضاح (ألا) بتخفيف اللام أداة عرض (تنزل فتطعم وتشرب) بفتح الفوقية فيهما وبالنصب بأن في جواب العرض (قال: وما طعامكم وما شرابكم؟ قالت: طعامنا اللحم وشرابنا الماء) أعادت ذكر الطعام والشراب المستغني كنهما بذكرهما في السؤال تلذذاً بطول الخطاب واستعذاباً بالإِطناب، ودفعاً لإِيهام أن الماء قد يكون لهم طعاماً وشراباً، وإن كان ذلك في زمزم (قال اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم قال) أي: ابن عباس (فقال أبو القاسم) كنية النبي (- صلى الله عليه وسلم -) كني بولده القاسم ولا يجوز تكنية غيره بها مطلقاً كما تقدم (بركة دعوة إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -) أي: الاحتزاء بهما بمكة فهو مبتدأ أو خبر وثاني الخبرين محذوف لدلالة المقام عليه (قال) أي: إبراهيم (فإذا جاء زوجك) أي: من الصيد (فاقرئي عليه السلام ومريه يثبت) بتشديد الموحدة (عتبة بابه فلما جاء إسماعيل) من الصيد كأنه آنس شيئاً كما جاء في رواية وجد ريح أبيه (فقال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم) أي أتانا (شيخ حسن الهيئة) وفي نسخة بإثباته (وأثنت عليه) أي: ذكرت بعض أوصاف كمال إبراهيم (فسألني

قَالَ: يَا إسْمَاعِيلُ، إنَّ اللهَ أمَرَنِي بِأمْرٍ، قَالَ: فَاصْنَعْ مَا أمَرَكَ رَبُّكَ؟ قالَ: وَتُعِينُنِي، قَالَ: وَأُعِينُكَ، قَالَ: فَإنَّ اللهَ أمَرَنِي أَنْ أَبْنِي بَيْتاً هاهُنَا، وأشَارَ إِلَى أكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَلَى مَا حَوْلَهَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ، فَجَعَلَ إسْمَاعِيلُ يَأتِي بِالحِجَارَةِ وَإبْرَاهِيمُ يَبْنِي حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ البِنَاءُ، جَاءَ بِهذَا الحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ فَقَامَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَبْنِي وَإسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الحجارة وَهُمَا يَقُولاَنِ: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ سمعت رجلاً يقول بكيا حتى أجابهما الطير أي: لتباعد لقائهما. زاد الفاكهي وكان عمر إيراهيم يومئذ مائة سنة، وعمر إسماعيل ثلاثين سنة (قال يا إسماعيل إن الله تعالى أمرني بأمر قال: فامنع ما أمرك ربك قال وتعينني) ، هو داخل في حيز الأمر كما في رواية أخرى إنه أمرني أن تعينني عليه (قال وأعينك) وللكشميهني بالفاء بدل الواو (قال فإن الله تعالى أمرني أن أبني بيتاً ها هنا وأشار) بقوله ها هنا (إلى أكمة) بفتحتين تل. وقيل شرفة كالرابية وهو: ما اجتمع من الحجارة في مكان واحد، وربما غلظ وربما لم يغلظ، والجمع أكم كقصب وأكمات كقصبات، وجمع الأكم إكام مثل جبل وجبال وجمع الأكام أكم بضمتين ككتاب وكتب، وجمع الأكم آكام مثل عنق وأعناق كذا في المصباح (مرتفعة على ما حولها) من الأرض وتقدم أن السيول كانت لا تعلوها (فعند ذلك رفع) إبراهيم (القواعد) أي: الأساس (من البيت) ورفعها البناء عليها وقال السيوطي: القواعد أي التي كانت قواعد البيت قبل ذلك كما أخرجه أحمد عن ابن عباس وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد أن القواعد كانت في الأرض السابعة (فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة) وإبراهيم على المقام ينزل به لأخذ الحجر من إسماعيل، ثم يعلو به فيضعه محله من البناء كما قال (وإبراهيم يبني) عطف معمولين على معمولي عامل واحد (حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر) يعني المقام زاد في حديث عثمان أنه نزل عليه الركن والمقام من الجنة فكان يقوم على المقام ويبني عليه، فلما بلغ الموضع الذي فيه الركن وضعه يومئذ موضعه وأخذ المقام فجعله لاصقاً بالبيت، فلما فرغ من بناء الكعبة جاء جبريل فأراه المناسك كلها، ثم قام إبراهيم وإسماعيل تلك المواقف، وحجه وإسحاق وسارة من بيت المقدس، ثم رجع إبراهيم إلى الشام فمات بالشام كذا بالتوشيح (فوضعه له فقام عليه) أي: على المقام (وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان ربنا تقبل منا) بناء البيت (إنك أنت السميع) لدعائنا (العليم) ببناء بيتنا (وفي رواية أن

وفي روايةٍ: إنَّ إبْرَاهِيمَ خَرَجَ بِإسْمَاعِيلَ وَأُمِّ إسْمَاعِيلَ، مَعَهُمْ شَنَّةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ تَشْرَبُ مِنَ الشَّنَّةِ فَيَدِرُّ لَبَنُهَا عَلَى صَبِيِّهَا، حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَوَضَعَهَا تَحْتَ دَوْحَةٍ، ثُمَّ رَجَعَ إبْرَاهِيمُ إِلَى أهْلِهِ، فَاتَّبَعَتْهُ أُمُّ إسْماعيلَ حَتَّى لَمَّا بَلَغُوا كَدَاءَ نَادَتْهُ مِنْ وَرَائِهِ: يَا إبْرَاهِيمُ إِلَى مَنْ تَتْرُكُنَا؟ قَالَ: إِلَى اللهِ، قَالَتْ: رَضِيْتُ باللهِ، فَرَجَعَتْ وَجَعَلَتْ تَشْرَبُ مِنَ الشِّنَّةِ وَيَدُرُّ لَبَنُهَا عَلَى صَبِيِّهَا، حَتَّى لَمَّا فَنِيَ المَاءُ قَالَتْ: لَوْ ذَهَبْتُ فَنَظَرْتُ لَعَلِّي أُحِسُّ أَحَداً. قَالَ: فَذَهَبَتْ فَصَعِدَتِ الصَّفَا، فَنَظَرَتْ وَنَظَرَتْ هَلْ تُحِسُّ أحداً، فَلَمْ تُحِسَّ أَحَداً، فَلَمَّا بَلَغَتِ الوَادِي سَعَتْ، وأتَتِ المَرْوَةَ ـــــــــــــــــــــــــــــ إبراهيم خرج بإسماعيل وأم إسماعيل) بالجر عطف على إسماعيل وقوله (معهم شنة) بالمعجمة والنون المشددة، هي الجلدة البالية، والمراد: هنا السقاء الذي عبر به عنها في الرواية السابقة حال من فاعل خرج، وجملة (فيها ماء) في محل الصفة (فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنة) أي: من مائها (فيدر لبنها) بفتح التحتية وكسر الدال المهملة وضمها. في المصباح: در اللبن دراً من بابي ضرب وقتل (على صبيها) أي: إسماعيل (حتى قدم) أي: إبراهيم (مكة) وهي بولدها معه (فوضعهما تحت دوحة ثم رجع إبراهيم إلى أهله) سارة بالشام (فاتبعته أم إسماعيل حتى لما بلغوا نادته من ورائه يا إبراهيم إلى من تتركنا؟ قال: إلى الله قالت رضيت بالله) كذا في جميع نسخ الرياض التي وقفت عليها بحذف مفعول بلغوا (¬1) وهو مصرح به في البخاري ففيه حتى لما بلغوا كداء نادته، غايته أن نسخ البخاري مختلفة الضبط أهو بضم فقصر أم بفتح فمد (فرجعت) عنه إلى محلها (وجعلت تشرب من الشنة فيدر لبنها على صبيها) يجوز في جملة تدر أن تعطف على خبر جعل، وأن تعطف على جملة جعلت (حتى لما فني الماء قالت لو ذهبت) حرف تمن فلا جواب لها أو شرط حذف جوابها أي: لكان أولى اكتفاء بدلالة الحال عليه (فنظرت لعلي أحس) أي: أجد (أحداً قال: فذهبت فصعدت) بكسر المهملة الثانية (الصفا فنظرت) أي: تأملت (ونظرت) أي: كررت النظر وفي نسخة الاقتصار على نظرت الأول (هل تحس أحداً فلم تحس) أي: لم تر (أحداً) ولم تشعر به (فلما بلغت الوادي) المسيل، وفيه انخفاض امتنع به رؤيتها لولدها فخافت عليه فأسرعت كما قال (وسعت) أي: أسرعت كما قال: في الرواية السابقة فسعت سعي المجهود (وأتت المروة) أي: بعد تركها السعي وعودها لعادتها قبل وصولها الوادي، كما ¬

_ (¬1) دكن في نسختين إحداهما مخطوطة لفظ (كداء) . ع.

الرَّسُولُ. "وَألْفَى": معناه وَجَدَ. قَولُهُ: "يَنْشَغُ": أيْ: يَشْهَقُ (¬1) . 1866- وعن سعيد بن زيد - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "الكَمْأَةُ ـــــــــــــــــــــــــــــ ولي) وعبر عنه به لأنه تولى قفاه حال انصرافه (والجري) بفتح الجيم وكسر الراء وتشديد التحتية (الرسول) تقدم، وأنه سمي بذلك لجرأته على مرسله أو لجريه إسراعاً في حاجته (وألفي) بالفاء (معناه وجد) فهو من أفعال القلوب (وقوله ينشغ) بضبطه السابق قريباً (أي: يشهق) ويعلو صوته وينخفض كالذي ينازع. وقال بعضهم: النشغ الشهق من الصدر، حتى يكاد يبلغ به الغشي. 1866- (وعن سعيد بن زيد) بن عمرو بن نفيل القرشي العدوي، نسبة إلى عدي بن كعب بن لؤي، وهو ابن عم عمر يجتمعان في نفيل، وكان أبوه اعتزل الجاهلية وجهالاتهم ووحد الله تعالى بغير واسطة. وقيل نزل فيه وفي سلمان وأبي قوله تعالى (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها) (¬2) الآية. أمه فاطمة بنت ربعي الخزاعية، أسلم هو وزوجته أم جميل فاطمة بنت الخطاب أخت عمر أول الإِسلام وبسببها كان إسلامه، أحد العشرة المبشرة بالجنة (رضي الله عنه) بعثه - صلى الله عليه وسلم - مع طلحة يتجسسان الأخبار في طريق الشام، فقدما المدينة يوم وقعة بدر فأثبت - صلى الله عليه وسلم - سهمهما وأجرهما، فلذا عدا في البدريين، وكان مجاب الدعوة، وقصته مشهورة مع أروى بنت قيس، لما شكته إلى مروان بن الحكم وادعت عليه أنه غصبها شيئاً من أرضها فعميت، ثم تردت في مرقا دارها فكانت فيها (¬3) . روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية وأربعون حديثاً، منها في الصحيحين ثلاثة، اتفقا على اثنين منها، والثالث للبخاري وحده. وكان سعيد موصوفاً بالزهد محترماً عند الولاة. روى عنه قيس بن أبي حازم وأبو عثمان النهدي. توفي رضي الله عنه بمنزله بالعقيق وحمل على أعناق الرجال فدفن بالبقيع سنة إحدى وخمسين أو خمسين، وهو ابن بضع وسبعين سنة وصلى عليه ابن عمر وكان له من الولد ثلاثة عشر ذكراً وثماني عشرة أنثى (قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول الكمأة) بفتح ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الأنبياء، باب: يزفون النسلان في المشي (6/283) . (¬2) سورة الزمر، الآية: 17. (¬3) لعله (في بئر دارها فكانت قبرها) . ع.

ِمِنَ المَنِّ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ" متفق عَلَيْهِ (¬1) . *** ـــــــــــــــــــــــــــــ الكاف والهمزة وسكون الميم آخره هاء واحده كمء بحذف الهاء ولا نظير له في ذلك إلا خبأة وخبء قاله ابن الأعرابي (من المن) الذي أنزله الله على بني إسرائيل كما جاء كذلك في رواية وامتن به عليهم (وماؤها شفاء للعين) أي: من دائها. واختلف هل يستعمل صوفاً أو تربي به الأكحال. وهل المراد بمائها ما يعتصر بها، أو الماء الذي تنبت به (متفق عليه) قال في الجامع الصغير: ورواه أحمد والترمذي من حديث سعيد. ورواه أحمد والنسائي وابن ماجة من حديث عائشة. ورواه أبو نعيم أيضاً من حديث أبي سعيد بلفظ "الكمأة من المن والمن من الجنة وماؤها شفاء العين". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الطب، باب: المنَّ شفاء للعين، (10/137، 138) . وأخرجه مسلم في كتاب: الأشربة ... ، (الحديث: 158) .

18- كتاب الاستغفار

18- كتَاب الاستغفار 371- باب في فضل الاستغفار قال الله تعالى (¬1) : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) . وقال تعالى (¬2) : (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً) . وقال تعالى (¬3) : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً) . ـــــــــــــــــــــــــــــ كتاب الاستغفار أي: سؤال غفر الذنب، أي: بعض ما ورد في طلبه من الكتاب والسنة. وشرط قبول الاستغفار الاقلاع عن الذنب المستغفر منه وإلا فالاستغفار منه مع التلبس به كالتلاعب، كما يشير إليه قوله تعالى (ولم يصروا على ما فعلوا) (¬4) . وسيأتي الكلام على الآية منقولاً من الفتح ويأتي في حديث ابن مسعود مزيد في ذلك (قال الله تعالى واستغفر لذنبك) قال الا يجيء: ذكره للتوطئة والتمهيد، لقوله: (للمؤمنين والمؤمنات) (¬5) فالمقصود الاستغفار لهم أو أمره به أمته اهـ. (قال تعالى واستغفر الله) أي: سله غفر ذنوب المذنبين، كما يومىء إليه تعميم حذف المعمول، والدعاء كلما كان أعم كان أتم (إن الله كان غفوراً رحيماً) لمن استغفر وأناب فيغفر له ويفيض عليه منته (وقال تعالى فسبح بحمد ربك) أي: متلبساً بحمده، فلذا كان - صلى الله عليه وسلم - يكثر من قوله سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي في صلاته، كما تقدم في باب الحث على الازدياد من الخير أواخر العمر (واستغفره) أي: عما فرط منك من التقصير أو عن أمتك (إنه كان تواباً) استئناف بياني عن حكمة الأمر بالاستغفار، والمبالغة ¬

_ (¬1) سورة محمد، الآية: 19. (¬2) سورة النساء، الآية: 106. (¬3) سورة النصر، الآية: 3. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 135. (¬5) سورة نوح، الآية 28.

لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) . والآيات في الباب كثيرة معلومة. 1867- وعن الأَغَرِّ المزني - رضي الله عنه -: أنَّ رسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّهُ ـــــــــــــــــــــــــــــ في القبح. وقيل الفاحشة الزنى أو الكبائر (أو ظلموا أنفسهم) بالصغائر أو ما دون الزنى (ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم) قال في فتح الباري: قيل هو تفسير لقوله (اذكروا الله) (¬1) وقيل: على حذف مضاف أي: ذكروا عقابه أي: تفكروا في أنفسهم أن الله يسألهم فاستغفروه لذنوبهم وقد ورد في حديث حسن صفة الاستغفار المشار إليه في الآية أخرجه أحمد والأربعة وصححه ابن حبان من حديث علي بن أبي طالب قال: حدثني أبو بكر الصديق رضي الله عنهما وصدق أبو بكر، سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من رجل يذنب ذنباً ثم يقوم فيتطهر فيحسن الطهور ثم يستغفر الله عز وجل إلا غفر له ثم تلا والذين إذا فعلوا فاحشة" الآية (ومن يغفر الذنوب إلا الله) استفهام بمعنى النفي، معترض بين المعطوف والمعطوف عليه دال على سعة رحمته (ولم يصروا على ما فعلوا) أي: لم يقيموا على ذنوبهم بل أقروا واستغفروا به. وفي الحديث ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة. قال الحافظ في فتح الباري: وفي إشارة إلى أن شرط قبول الاستغفار الإِقلاع عن الذنب، وإلا فالاستغفار باللسان مع التلبس بالذنب كالتلاعب. قال الحافظ في أثناء كتاب التوحيد من الفتح: ويشهد لهذا أي: اعتبار التوبة في نفع الاستغفار، وما أخرجه ابن أبي الدنيا من حديث ابن عباس مرفوعاً للتائب من الذنب كما لا ذنب له والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزىء بربه". والراجح أن قوله والمستغفر إلخ موقوف وأوله عند ابن ماجة والطبراني من حديث ابن مسعود وسنده حسن قال في الفتح المبين: هو حجة، وإن فرض أنه موقوف لأن مثله لا يقال من قبل الرأي وكل موقوف كذلك له حكم المرفوع (وهم يعلمون) أنها معصية أو أن الإِصرار ضار أو أن الله يملك مغفرة الذنوب أو أنهم إن استغفروا واغفر لهم (والآيات في الباب) . أي باب الاستغفار (كثيرة معلومة) وفيما ذكر كفاية. 1867- (وعن الأغر) بفتح الهمزة والمعجمة وتشديد الراء (المزني) بضم الميم وفتح الزاي بعدها نون تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) أوائل باب التوبة (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إنه) ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، الآية: 41.

لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وإنِّي لأَسْتَغفِرُ اللهَ في اليَوْمِ مِئَةَ مَرَّةٍ" رواه مسلم (¬1) . 1868- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: سَمعتُ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يقولُ: "وَاللهِ إنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأتُوبُ إلَيْهِ فِي اليَومِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً" رواه البخاري (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ أي: الشأن (ليغان) بضم التحتية وبالمعجمة آخره نون (على قلبي) هي غيون أنوار لا غيون أغيار، وتجليات ربانية وترقيات أحمدية، فإذا ارتقى للمقام الأعلى رأى ما كان فيه قبل من المقام العالي أيضاً كالنقص فاستغفر منه كما قال: مشرعاً للأمة (وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة) قال في فتح الباري قال عياض: المراد بالغين فترات عن الذكر الذي شأنه أن يداوم عليه فإذا فتر عنه لأمر ما، عد ذلك ذنباً فاستغفر منه. وقيل هو شيء يعتري القلب مما يقع من حديث النفس، وقيل هو السكينة التي تغشى عليه والاستغفار لإِظهار العبودية لله تعالى والشكر لما أولاه. وقيل هي حالة خشية وإعظام، والاستغفار شكرها ومن ثم قال المحاسبي: خوف المقربين خوف إجلال وإعظام. وقال السهروردي: لا يعتقد أن الغين حالة نقص، بل هو كمال أو تتمة كمال ثم مثل ذلك بجفن العين يسيل ليدفع القذى عن العين، فإنه يمنع العين من الرؤية فهو من هذه الحيثية نقص وفي الحقيقة كمال. هذا محصل كلامه بعبارة طويلة قال: فهكذا بصيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - متعرضة للأعين السائرة. من أنفس الأغيار فدعت الحالة إلى الستر على حدقة بصيرته صيانة لها ووقاية عن ذلك اهـ. (رواه مسلم) ورواه أحمد وأبو داود والنسائي. 1868- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول) تحريضاً على التوبة والاستغفار (والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه) فيه إيماء إلى ما تقدم أن الآية تشير إليه من اعتبار التوبة والاستغفار، وأنه مع التمادي في الذنب كالتلاعب (في اليوم أكثر من سبعين مرة) كناية عن الكثرة، وتقدم في الحديث قبله مائة مرة (رواه البخاري) وتقدم في باب التوبة أنه ذكره صاحب الأطراف بلفظ: "إني لأستغفر الله وأتوب إليه كل يوم مائة مرة". وقال: أخرجه البخاري والنسائي والترمذي، ولعل اللفظ الذي ذكره لأحد الروايتين الأخيرتين. وإلا فاللفظ الذي ذكره المصنف هنا وفي باب التوبة وعزاه للبخاري هو الموجود في باب استغفار النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي تقدم في كتاب بيان حكمة استغفاره مع عصمته - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء والتوبة ... ، باب: استحباب الاستغفار والاستكثار منه، (الحديث: 41) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: استغفار النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليوم والليلة، (11/85) .

وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجاً، وَرَزَقهُ مِنْ حَيثُ لاَ يَحْتَسِبُ". رواه أبو داود (¬1) . 1872- وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَالَ: أسْتَغْفِرُ اللهَ الَّذِي لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُومُ وَأتُوبُ إلَيهِ، غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ، وإنْ كانَ قَدْ ـــــــــــــــــــــــــــــ به فينجو من ذلك الكرب (ومن كل هم) أي: حزن (فرجاً) أي: يفرج له ما يهتم به بأن يزيل عنه سببه وينجيه من تعبه (ورزقه من حيث لا يحتسب) ففيه أن نفع الاستغفار يعود بحوز مطلوب الدارين (رواه أبو داود) . 1872- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قال) أي: بلسانه مع الإِذعان لمضمون ذلك، والتوبة من الذنب المستغفر منه (استغفر الله الذي لا إله) أي: مستغن عن كل ما سواه مفتقر إليه ما عداه (إلا هو) بدل من محل اسم لا قبل دخولها عليه (الحي القيوم) وفي كتاب الأجوبة المرضية عن الأسئلة النحوية للراعي أنه نفسه سئل عن إعراب الموصول والوصفين بعد أهو النصب أم الرفع، فأجاب بأنها نعوت مدح للجلالة ْمنصوبة على التعظيم، ويجوز في الموصول البدل. قلت: وعليه فلا يعرب شيء من الاثنين بعده نعتاً، لأن البدل لا يتقدم عليه والله أعلم. فإن اتبعت الموصول جاز في الاسمين بعده الرفع والنصب، فالنصب على الاتباع أو على القطع بنحو أخص أو أعني أو أمدح مما يليق بالمقام، وإن قطعت الموصول امتنع اتباع ما بعده وتعين القطع، إما بالرفع بإضمار مبتدأ، أو بالنصب بإضمار فعل وكل هذه الوجوه صحيحة فصيحة، غير أن في قطع النعت الواحد والأول من النعوت المتعددة خلافاً، الصحيح الجواز، لأن قطعه لا يخرج به عن كونه مبيناً له من جهة المعنى مع أن القطع في الجميع أبلغ من المعنى المراد بإضمار فعل لأن الجملة الإِسمية أثبت من الفعلية وأقعد وأصل منها. وإنما امتنع اتباع الحي مع قطع ما بعده، لئلا يلزم عليه الاتباع بعد القطع وهو ممتنع عند النحاة. ونقل عن بعض المتأخرين الجواز وهو خلاف لا يعتد به إن صح النقل، وإنما امتنع الاتباع بعد القطع وجاز عكسه لأن في الأول رجوعاً للشيء بعد تركه، ومن طباع العرب وعلو همتها، أنها إذا انصرفت عن الشيء لم تعد إليه، فجعلوا كذلك ألفاظهم جارية على حد معانيهم. وقال بعض نحاة قرطبة: المانع منه ما يلزم عليه من تسفل بعد تصعد، وقصور بعد كمال. بيانه أن القطع أبلغ في المعنى المراد من الاتباع كما تقدم، ولولا ذلك ما ذهب به ذلك المذهب البعيد، يعني الخروج من الرفع ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: في الاستغفار، (الحديث: 1518) .

فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ". رواه أبو داود والترمذي والحاكم، وقال: "حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم" (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى النصب ونحوه اهـ. ملخصاً. والحي، صفة مشبهة من الحياة وهي صفة أزلية ذاتية، تقتضي صحة اتصاف موصوفها بالصفات. والقيوم: ويقال القيام والقيم بتشديد التحتية فيهن وبهما قرىء شاذاً: الدائم القائم بتدبير خلقه وحفظه (وأتوب إليه غفرت ذنوبه وإن كان قد فر من الزحف) أي: من موطن الحرب أي: غفرت صغائر ذنوبه المتعلقة بحق ربه، وإن كان قد اقترف ما هو من الكبائر فلا يمنع ذلك من غفر الصغائر بالذكر المذكور أو غفرت الذنوب حتى الكبائر عنده لا به، فلا يخالف ما عليه المحققون من أن أعمال البر لا تكفر إلا الصغائر المتعلقة بحق الله تعالى (رواه أبو داود والترمذي والحاكم وقال: حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم) عدل إليه المصنف عن قول الحاكم على شرطهما الأخصر مع نقله عنه، دفعاً لتوهم أن المراد على شرط أبي داود والترمذي المذكورين. وأخذ المصنف من هذا الحديث رد قول الربيع بن خيثم: لا تقل استغفر الله وأتوب إليه، فيكون كذباً، إن لم تفعل. بل قل: اللهم اغفر لي وتب علي. قال المصنف: وهذا أحسن. وأما كراهته استغفر الله وتسميته كذباً فلا يوافق عليه، لأن معنى استغفر الله أطلب مغفرته وليس هذا كذباً. ويكفي في رده حديث ابن مسعود بلفظ "من قال أستغفر الله" الحديث قال الحافظ في الفتح: هو في لفظ أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، أما أتوب إليه فهو الذي عنى الربيع أنه كذب وهو كذلك إذا قاله ولم يفعل التوبة كما قال. وفي الاستدلال للرد عليه بحديث ابن مسعود نظر، لجواز أن يكون المراد منه ما إذا قالها وفعل شروط التوبة. ويحتمل أن يكون الربيع قصد مجموع اللفظين لا خصوص "أستغفر" فيصح كلامه والله أعلم. ورأيت في الحلبيات للسبكي الكبير: الاستغفار طلب المغفرة إما باللسان أو بالقلب، أو بهما. فالأول فيه نفع لأنه خير من السكوت أو لأنه يعتاد قول الخير، والثاني نافع جداً والثالث أبلغ منه لكنهما لا يمحصان الذنوب حتى توجد التوبة. قال القاضي: فإن المصر يطلب المغفرة، ولا يستلزم ذلك وجود التوبة منه إلى أن قال: والذي ذكرته من أن معنى الاستغفار غير معنى التوبة هو بحسب وضع اللفظ لكنه غلب عند كثير من الناس أن لفظ أستغفر الله معناه التوبة ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب في الاستغفار، (الحديث: 1517) . وأخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، باب: في دعاء الضيف، (الحديث: 3577) . وأخرجه الحاكم: (1/511) .

1873- وعن شَدَّادِ بْنِ أَوسٍ - رضي الله عنه -، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ العَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لاَ إلهَ إلاَّ أنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ ـــــــــــــــــــــــــــــ فمن كان ذلك معتقده فهو يريد التوبة لا محالة، ثم قال: وحكى بعض العلماء أن التوبة لا تتم إلا بالاستغفار لقوله تعالى: (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) (¬1) والمشهور أنه لا يشترط اهـ. كلام الفتح في أثناء كتاب التوحيد. 1873- (وعن شداد) بفتح المعجمة وتشديد أولى الدالين المهملتين (ابن أوس) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب المراقبة قال في الفتح: وليس لشداد في البخاري إلا هذا الحديث (عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: سيد الاستغفار) قال الطيبي: لما كان هذا الدعاء جامعاً لمعاني التوبة كلها استعير له اسم السيد وهو في الأصل الرئيس الذي يقصد في الحوائج ويرجع إليه في الأمور (أن يقول العبد) أي: المكلف (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني) كذا في نسخ الرياض أنت واحدة، ووقع في البخاري بتكرارها. قال في فتح الباري: كذا بتكرارها في نسخة معتمدة وسقطت الثانية من معظم الروايات، قال الطيبي: يجوز أن تكون مؤكدة وأن تكون مقدرة ويؤيده عطف قوله (وأنا عبدك) أي: أنا عابد لك (¬2) (وأنا على عهدك ووعدك) سقطت الواو في رواية النسائي قال: الخطابي يريد أنا على ما عاهدتك عليه وواعدتك من الإِيمان وإخلاص الطاعة لك (ما استطعت) أي: ومنجز وعدك في التوبة والأجر. واشتراط الاستطاعة في ذلك، معناه الاعتراف والعجز والقصور عن كنه الواجب من حقه تعالى. وقال ابن بطال: قوله "وأنا على عهدك ووعدك" يريد العهد الذي أخذه على عباده في عالم (ألست بربكم قالوا بلى) (¬3) وبالوعد ما قال على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - "إن من مات لا يشرك بالله شيئاً وأدى ما افترض عليه أدخله الجنة". قال في الفتح قوله: وأدى ما افترض عليه" زيادة ليست بشرط في هذا المقام، لأنه جعل العهد الميثاق المأخوذ في عالم الذر وهو التوحيد خاصة، فالوعد هو إدخال من مات على ذلك الجنة قال أيضاً: وفي قوله "ما استطعت" إعلام لأمته أن أحداً لا يقدر على الإِتيان بجميع ما يجب عليه لله ولا الوفاء بكمال طاعة الله والشكر على النعم فرفق الله بعباده ولم يكلفهم من ذلك إلا وسعهم ¬

_ (¬1) سورة هود، الآية: 3. (¬2) كان بالأصل تقديم وتأخير مخل فليتنبه. ع. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 172.

عَلَيَّ، وأبُوءُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي، فَإنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ أنْتَ. مَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِناً بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِي، فَهُوَ مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ، وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ". رواه البخاري ـــــــــــــــــــــــــــــ ْقال الطيبي: يحتمل أن يراد بالعهد والوعد ما في الآية المذكورة كذا. قال: والتفريق بين العهد والوعد واضح (أعوذ بك من شر ما صنعت) أي: صنعاً أو ما صنعته أي: من الإِثم والعذاب والبلاء المرتب على ذلك (أبوء لك) سقط لك عند النسائي (بنعمتك علي) المفرد المضاف من صيغ العموم أي: بنعمتك التي لا تحصر ولا تحصى (وأبوء بذنبي) حذف لك في نسخ الرياض وكذا هو في البخاري في الدعوات، ولعل حكمة تركها: التأدب وترك ِالخطاب في جانب الاعتراف بالذنب. قال الطيبي: اعترف أولاً بأنه أنعم عليه ولم يقيده، ليشمل جميع أنواع الإِنعام، ثم اعترف بالتقصير وهضم النفس. قال في الفتح: ويحتمل أن يكون قوله أبوء بذنبي اعترافاً بوقوع الذنب مطلقاً، ليصح الاستغفار منه لا أنه عد ما قصر فيه من أداء النعم ذنباً (فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) يؤخذ منه أن من اعترف لذنبه غفر له وقد وقع ذلك صريحاً في حديث الإِفك الطويل، ففيه أن العبد إذا اعترف بذنبه وتاب تاب الله عليه (من قالها في النهار موقناً) بضم الميم وسكون الواو وكسر القاف أي: مخلصاً من قلبه مصدقاً (بها) أي: بثوابها (فمات من يومه) أي: فيه (قبل أن يمسي) أي: يدخل في المساء (فهو من أهل الجنة) وفي رواية النسائي دخل الجنة. قال الداودي: يحتمل أن يكون هذا من قوله (إن الحسنات يذهبن السيئات) (¬1) ومثله قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوضوء وغيره بشر بالثواب، ثم بشر بأفضل منه مع ارتفاع الأول. ويحتمل أن يكون ذلك ناسخاً وأن يكون هذا فيمن قالها ومات قبل أن يفعل ما يغفر له ذنوبه، أو يكون ما فعله من الوضوء وغيره لم يتقبل منه بوجه ما والله سبحانه وتعالى أعلم ويفعل الله ما يشاء. كذا حكاه ابن التين عنه قال الحافظ في الفتح: وبعضه يحتاج إلى تأمل (ومن قالها من الليل وهو موقن بها) خالف بين الحال فجاء بها مفردة أولاً وجملة ثانياً، تفنناً في التعبير (فمات قبل أن يصبح) أي: يدخل في الصباح (فهو من أهل الجنة، رواه البخاري) قال ابن أبي جمرة: جمع - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث من بديع المعاني وحسن الألفاظ ما يحق له أن يسمى به سيد الاستغفار. ففيه الإِقرار لله وحده بالألوهية، والاعتراف بأنه الخالق، والإِقرار بالعهد الذي أخذه عليه والرجاء بما وعد به والاستعاذة من شر ما جنى العبد على نفسه وإضافة النعماء إلى موجدها وإضافة ¬

_ (¬1) سورة هود، الآية: 114.

"أبوءُ" بباءٍ مَضمومةٍ ثم واوٍ وهمزة ممدودة ومعناه: أقِرُّ وَأعْتَرِفُ (¬1) . 1874- وعن ثوبان - رضي الله عنه - قال: كانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلاَتِهِ، اسْتَغْفَرَ اللهَ ثَلاَثاً وَقَالَ: "اللَّهُمَّ أنْتَ السَّلاَمُ، وَمِنْكَ السَّلاَمُ، تَبَارَكْتَ يَاذَا الجَلاَلِ وَالإكْرَامِ" قيلَ لِلأوْزَاعِيِّ - وَهُوَ أَحَدُ رُوَاتِهِ -: كَيفَ الاسْتِغْفَارُ؟ قال: يقُولُ: أسْتَغْفِرُ اللهَ، أسْتَغْفِرُ اللهَ. رواه مسلم (¬2) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الذنب إلى نفسه ورغبته في المغفرة واعترافه بأنه لا يقدر أحد على ذلك إلا هو. وفي كل ذلك إشارة إلى الجمع بين الحقيقة والشريعة، فإن تكاليف الشريعة لا تحصل إلا إذا كان في ذلك عون من الله تعالى، وهذا القدر الذي يكنى عنه بالحقيقة، فلو اتفق أن العبد خالف حتى يجري عليه ما قدر عليه وقامت الحجة ببيان المخالفة، لم يبق إلا أحد أمرين: إما العقوبة بمقتضى العدل وإما العفو بمقتضى الفضل اهـ. ملخصاً. وقال المصنف: من شرط الاستغفار صحة النية والتوجه والأدب، فلو أن أحداً حصل الشروط هل يتساويان؟ فالجواب: أن الذي يظهر أن اللفظ المذكور إنما يكون سيد الاستغفار إذا جمع الشروط المذكورة والله أعلم (أبوء بباء) موحدة (مضمومة ثم واو) ساكنة (وهمزة ممدودة) لسكون الواو قبلها (ومعناه أقر) بضم الهمزة وكسر القاف (وأعترف) ولذا وقع في رواية بدله واعترف بذنوبي، وأصل البوء: معناه اللزوم، ومنه بوأه الله منزلاً أي: أسكنه فكأنه ألزمه به. 1874- (وعن ثوبان) بالمثلثة والموحدة المفتوحتين بينهما واو ساكنة خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف من صلاته) بالتسليم منها (استغفر الله ثلاثاً) خضوعاً لجلال ربه وتشريعاً لأمته (وقال: اللهم أنت السلام) أي: السالم من سائر النقائص والمنزه عنها، أو المسلم لمن شئت من الآفات والمضار (ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال) أي: العظمة ومنها التنزه عن النقائص (والإِكرام) أي: أوصاف الجمال من الكرم والغفر والعفو (قيل للأوزاعي وهو أحد رواته) أي: الحديث (كيف الاستغفار؟ قال: تقول أستغفر الله أستغفر الله رواه مسلم) وتقدم في كتاب الذكر. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: أفضل الاستغفار، (11/83 و84) . (¬2) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، الحديث: 135) .

1875- وعن عائشة رضي اللهُ عنها، قالت: كان رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ قَبْلَ مَوْتِهِ: "سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، أسْتَغفِرُ اللهَ، وأتوبُ إلَيْهِ" متفق عليه (¬1) . 1876- وعن أنس - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "قَالَ اللهُ تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ، إنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلاَ أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي، غَفَرْتُ لَكَ ـــــــــــــــــــــــــــــ 1875- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول قبل موته) أي: في ركوعه وسجوده من صلاته كما تقدم في باب الازدياد من الخير أواخر العمر، وذلك امتثالاً لقوله تعالى: (فسبح بحمد ربك واستغفره) (¬2) (سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه) أتى به تأكيداً لمضمون أستغفره وإيماء إلى اعتبارها في حصول أثره (متفق عليه) . 1876- (وعن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله تعالى) فهو من الأحاديث القدسية (يابن آدم إنك ما دعوتني) أي: بمغفرة ذنوبك كما يدل عليه السياق أي: مدة دعائك، فهي مصدرية ظرفية، لا شرطية (و) الحال أنك قد (رجوتني) بأن ظننت تفضلي عليك بإجابة دعائك وقبوله، إذ الرجاء تأميل الخير وقرب وقوعه (غفرت لك) ذنوبك أي: سترتها عليك بعدم العقاب عليها في الآخرة لأن الدعاء مخ العبادة، كما ورد وروى أصحاب السنن الأربعة "الدعاء هو العبادة" ثم تلا (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) (¬3) والرجاء يتضمن حسن الظن بالله وهو يقول: "أنا عند ظن عبدي بي" وعند ذلك تتوجه رحمة الله للعبد، وإذا توجهت لا يتعاظمها شيء لأنها وسعت كل شيء (على ما كان منك) من المعاصي وإن تكررت (ولا أبالي) أي: لا أكثرت بذنوبك، ولا أستكثرها وإن كثرت إذ لا يتعاظمني شيء كما تقدم في الحديث الصحيح إذا دعا أحدكم فليعظم الرغبة فإن الله لا يتعاظمه شيء، وإنه لا معقب لحكمه ولا مانع لفضله وعطائه سبحانه، ومعنى قوله "لا أبالي بكذا" أي لا يشتغل بالي به. وزاد سبحانه وتعالى هذا المقام تأكيداً مبالغة في سعة رجاء خلقه فيما عنده من مزيد التفضل والإنعام فقال: (يابن آدم لو بلغت ذنوبك) أي: عند ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: التفسير، باب: تفسير (إذا جاء ... ) وفي أبواب أخرى (2/233، 247) و (8/564) . وأخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: ما يقول في الركوع والسجود، (الحديث: 218) . (¬2) سورة النصر، الآية: 3. (¬3) سورة غافر، الآية: 60.

وَلاَ أُبَالِي، يا ابْنَ آدَمَ، إنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا، ثُمَّ لَقِيتَنِي لا تُشْرِكُ بِي شَيْئاً، لأَتَيْتُكَ بِقُرابِهَا مَغْفِرَةً". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن". "عَنَانَ السَّمَاءِ" ـــــــــــــــــــــــــــــ فرضها أجراماً (عنان السماء) بأن ملأت ما بينها وبين الأرض كما في الرواية الأخرى لو أخطأتم حتى بلغت خطاياكم ما بين السماء والأرض ثم استغفرتم الله لغفر لكم (ثم استغفرتني) أي: تبت توبة صحيحة (غفرت لك ولا أبالي) وإن تكرر الذنب والتوبة في اليوم الواحد والذنوب، وإن تكاثرت وبلغت ما عسى تبلغ، فتلاشت عند حلمه وعفوه، فإذا استقال منها العبد بالاستغفار غفرت لأنه طلب الإِقالة من كريم والكريم محل إقالة العثرات وغفر الزلات. قال صاحب الفتح المبين: وما ذكرناه من أن المراد بالاستغفار التوبة لا مجرد لفظه هو ما ذكره بعضهم وهو الموافق للقواعد بالنسبة للكبائر إذ لا يكفرها إلا التوبة بخلاف الصغائر فإن لها مكفرات أخر كاجتناب الكبائر والوضوء والصلاة وغيرها، فلا يبعد أن يكون الاستغفار مكفراً لها أيضاً، وينبغي أن يحمل على هذا أيضاً تقييد بعضهم جميع ما جاء في نصوص الاستغفار المطلقة بما في آية آل عمران من عدم الإِصرار، فإنه تعالى وعد فيها بالمغفرة من استغفره من ذنوبه ولم يصر على ما فعله، قال: فيحمل نصوص الاستغفار المطلقة كلها على هذا القيد اهـ. نعم ضم نحو أستغفر الله اللهم اغفر لي من غير توبة دعاء فله حكمة، من أنه يجاب تارة وقد لا يجاب أخرى، لأن الإِصرار قد يمنع الإِجابة كما أفاده مفهوم آية آل عمران السابقة. فالاستغفار الكامل المسبب عنه المغفرة هو ما قارن عدم الإِصرار لأنه حينئذ توبة نصوح أما مع الإِصرار فمجرد دعاء ومن قال إنه توبة الكذابين مراده أنه ليس بتوبة حقيقية، خلافاً لما تعتقده العامة لاستحالة التوبة مع الإِصرار، على أن من قال أستغفر الله وأتوب إليه وهو مصر بقلبه على المعصية كاذب آثم لأنه أخبر أنه تائب وليس حاله كذلك، فإن قال ذلك وهو غير مصر، بأن أقلع بقلبه عن المعصية. فقالت طائفة من السلف، يكره له ذلك لأنه قد يعود إلى الذنب فيكون كاذباً في قوله وأتوب إليه. والجمهور على أن لا كراهة، وذلك لأن العزم على ألا يعود إلى المعصية واجب عليه، فهو إخبار عما عزم عليه في الحال فلا ينافي وقوعه منه في المستقبل، فلا كذب بتقدير الوقوع اهـ. ملخصاً. وفي كلامه آخراً ما سبق عن المصنف في حديث ابن مسعود من اعتراض كلام الربيع بن خيثم، وأن لا كذب أصلاً، وإن أيد الحافظ كلام الربيع، بل صرح به صاحب الفتح المبين. فقال: بعد ذكر حديث ابن مسعود وهذا أبلغ ردٍ على من كره وأتوب إليه (يابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض) سيأتي أنه أبلغ مما قبله (خطايا ثم لقيتني) في حال كونك (لا تشرك بي شيئاً) لاعتقادك توحيدي والتصديق برسلي وبما جاءوا به (لأتيتك بقرابها) عبر بها للمشاكلة، وإلا

قال الله تعالى (¬1) : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ) . وَقَالَ تَعَالَى (¬2) : (يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ (قال الله تعالى: إن المتقين في جنات) أي: بساتين (وعيون) أي: أنهار (أدخلوها) أي: يقال لهم أدخلوها (بسلام) أي: من الآفات وقيل: مسلماً عليكم (آمنين) من المكاره (ونزعنا ما في صدورهم من غل) حسد وحقد (إخواناً) في المودة وهو حال (على سرر متقابلين) أي: متواجهين وهما صفتان أو حالان (لا يمسهم فيها نصب) أي: تعب (وما هم منها بمخرجين) الباء مزيدة لتأكيد نفي إخراجهم منها المدلول عليه بالجملة. (وقال تعالى يا عباد) حكاية لما ينادي به الصتحابون المتقون (لا خوف عليكم اليوم) أي: مما تقدمون عليه من أمر الآخرة (ولا أنتم تحزنون) على ما خلفتموه من أمر الدنيا (الذين) منصوب على المدح (آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين أدخلوا الجنة أنتم وأزواجكم) أي: المؤمنات (تحبرون) أي: تسرون (يطاف عليهم بصحاف) جمع صحفة (من ذهب وأكواب) جمع كوب وهو كوز لا عروة له (وفيها) أي: الجنة (ما تشتهيه الأنفس) قال البيضاوي في تفسير سورة الفرقان: لعله تقصر همم كل طائفة على ما يليق برتبته، إذ الظاهر أن الناقص لا يدرك شأو الكامل بالتشهي (وتلذ الأعين) بمشاهدته وكأنه لم يعتد بمستلذات السمع والشم والذوق في جنب مستلذات العين فلم يذكرها (وأنتم فيها خالدون) فهو من أتم النعيم (وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون) الجنة إما خبر، والتي أورثتموها صفة لها أو صفة والتي خبرها أو هما صفتان والظرف خبر ولا تنافي كما سبق بين هذه الآية وما سبق من حديث "لن يدخل أحدكم الجنة بعمله" الحديث لما تقدم من أن دخولها بمجرد الرحمة وتفاوت المنازل بتفاوت الأعمال، أو أن التوفيق للعمل المسبب عنه دخولها من رحمة الله ومنته (لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون) يبقى بعضها أبداً لا يجد شجرة عريانة من الثمر ¬

_ (¬1) سورة الحجر، الآيات: 45-48. (¬2) سورة الزخرف، الآيات: 68-73.

وَقَال تَعَالَى (¬1) : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) . وَقَالَ تَعَالَى (¬2) : (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ (وقال تعالى: إن المتقين في مقام) موضع إقامة (أمين) يأمن صاحبه فيه عن كل مكروه وبين مآكلهم ومشاربهم بقوله (في جنات وعيون) ولباسهم بقوله (يلبسون) خبر ثان أو حال أو استئناف (من سندس) مارق من الحرير (وإستبرق) ما غلظ منه (متقابلين) لا يجلس بعض منهم وظهره إلى غيره لأنس بينهم (كذلك) أي: الأمر كذلك أو إتيانهم مثل ذلك (وزوجناهم) قرناهم (بحور عين) الحور النساء النقيات والعين عظيمة العين (يدعون فيها بكل فاكهة) يأمرون بإحضار أنواع الفواكه (آمنين) من كل مكروه (لا يذوقون فيها الموت) بل حياتهم أبدية (إلا الموتة الأولى) أي: لكن ذاقوها في الدنيا. قيل: الاستثناء للمبالغة فإن الغرض الإِعلام بأنهم لا يذوقون الموت كأنه قال: ولو فرضنا ذوق الموت في الجنة لما ذاق إلا الموتة الأولى، وذوق تلك الموتة محال لأنها ماضية فالذوق محال (ووقاهم عذاب الجحيم فضلاً) أي: إعطاء كل ذلك (من ربك ذلك هو الفوز) الظفر (العظيم -وقال تعالى- فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز. وقال تعالى: إن الأبرار) جمع بر بفتح الموحدة (لفي نعيم على الأرائك) على السرر في الحجاب (ينظرون) إلى ملكهم ونعيمهم أو إلى الله وإلى عدوهم كيف يعذبون (تعرف في وجوههم نضرة) أي: بهجة (النعيم) ورونقه (يسقون من رحيق) خمر خالص (مختوم) بختم أوانيه إكراماً لهم كعادة الملوك (ختامه مسك) أي: تختم الأواني مكان المسك مكان الطين أو مقطعة عن الفم وآخره مسك (وفي ذلك فليتنافس) فليرتقب (المتنافسون) المرتقبون، وفي الحديث المرفوع "أيما مؤمن سقى مؤمناً شربة على ظمأ سقاه الله يوم القيامة من الرحيق المختوم (ومزاجه) أي: ما تمزج ¬

_ (¬1) سورة الدخان، الآيات: 51-57. (¬2) سورة المطففين، الآيات: 22-28.

1879- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "قَالَ اللهُ تَعَالَى: أعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَاقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ: (¬1) (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ". متفق عَلَيْهِ (¬2) . 1880- وعنه، قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَّلُ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى أشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ ـــــــــــــــــــــــــــــ بكر بن أبي شيبة وأبي كريب عن أبي معاوية عن الأعمش. وأخرجه أبو داود في السنن عن عثمان عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قاله في الأطراف. 1879- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الله تعالى: أعددت) أي: هيأت (لعبادي) المخصوصين بشرف الإِضافة إليه ولذا وصفهم بقوله (الصالحين) أي: القائمين بحقوق الله تعالى وحقوق العباد (ما لا عين رأت ولا أذرْ سمعت) الصلة لا النافية للجنس، وفي مثله الأوجه الخمسة السابقة في لا حول ولا قوة إلا بالله لتكرر لا غير أن الرواية برفعهما (ولا خطر) أي: مر (على قلب بشر واقرءوا) مصداق ذلك (إن شئتم فلا تعلم نفس) نكرة في سياق النفي فتعم كل مسمى بها (ما) أي الذي (أخفي) بصيغة المجهول كما تقدم آنفا وقرىء بسكون الياء مضارع أو ماض مبني للمجهول سكن تخفيفاً كما خفف مسكن بعض المنقوص المنصوب وقدر فيه الفتحة (لهم من قرة أعين أحد) الظرفين نائب الفاعل (¬3) على كون الفعل مبنياً للمجهول، والثاني حال من قرينه المجهول وكلاهما حالان على كون الفعل مضارعاً. وصاحب الحال عليه الموصول. (متفق عليه) . 1880- (وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول زمرة) بضم الزاي أي جماعة (يدخلون الجنة على سورة القمر ليلة البدر) أي: ليلة الرابع عشر وسمي بذلك لأنه يبدر طلوعه غروب الشمس وطلوعها غروبه، والمراد تشبيههم في الإِضاءة والإِشراق (ثم الذين يلونهم على) ¬

_ (¬1) سورة السجدة، الآية: 17. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق، باب: ما جاء في صفة الجنة وفي كتاب التفسير، تفسير السجدة، (6/230) . أخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: باب ... ، (الحديث: 2) . (¬3) الظاهر أن نائب الفاعل ضمير الموصول. ع.

فِي السَّمَاءِ إضَاءةً، لاَ يَبُولُونَ، وَلاَ يَتَغَوَّطُونَ، وَلاَ يَتْفُلُونَ، وَلاَ يَمْتَخِطُونَ. أمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ، وَرَشْحُهُمُ المِسْكُ، وَمَجَامِرُهُمُ الأُلُوَّةُ - عُودُ الطِّيبِ - أزْوَاجُهُمُ الحُورُ العيْنُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ صورة (أشد كوكب دري) في صحيح البخاري الدري، هو النجم الشديد الإِضاءة وقال الفراء: هو النجم العظيم المقدار. قال في الفتح بضم الدال وكسر الراء المشددة بعدها تحتية ثقيلة وقد تسكن وتعقبها همزة ومد، وقد تكسر الدال على الحالين. فتلك أربع لغات ثم قيل المعنى مختلف فبالتشديد كأنه منسوب إلى الدر لبياضه وضيائه وبالهمز كأنه مأخوذ من درأ أي: دفع لاندفاعه عند طلوعه. ونقل ابن الجوزي: عن الكسائي تثليث الدال فبالضم نسبة إلى الدر وبالكسر الجاري وبالفتح اللامع (في السماء) صفة كوكب (إضاءة) تمييز لأشد (لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتفلون ولا يمتخطون) جاء في رواية عند البخاري ولا يسقمون قال في الفتح: قد اشتمل ذلك على نفي جميع صفات النقص عنهم (أمشاطهم الذهب) جمع مشط مثلث الميم والأفصح ضمها. وجاء في رواية أخرى أمشاطهم الفضة وكأنه اكتفى بذكر إحداهما عن الأخرى. ويؤيده حديث أبي موسى مرفوعاً جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما الحديث متفق عليه (ورشحهم المسك ومجامر هم الالوة) الجود الذي يتبخر به كما قال (عود الطيب) قيل جعلت مجامرهم نفس العود لكن في رواية البخاري وقود مجامرهم الألوة ففي هذه الرواية تجوز. والمجامر جمع مجمرة وهي المبخرة سميت مجمرة لوضع الجمر فيها، ليفوح به ما يوضع فيها من البخور والألوة بفتح الهمزة، ويجوز ضمها وبضم اللام وتشديد الواو وحكى ابن التين كسر الهمزة وتخفيف الواو والهمزة أصلية. وقيل زائدة. قال الأصمعي: أراها فارسية معربة. وقد يقال إن رائحة العود إنما تفوح بوضعه في النار ولا نار في الجنة. ويجاب باحتمال أن يشعل بغير نار بقول كن. وإنما سميت مجمرة باعتبار ما كان في الأصل. ويحتمل أن يشعل بنار لا ضرر فيها ولا إحراق، أو يفوح بغير إشعال. قال القرطبي وقد يقال أي: حاجة لهم إلى المشط وهم مرد وشعورهم لا تتسخ وأي حاجة لهم إلى البخور وريحهم أطيب من المسك. قال: ويجاب بأن نعيم أهل الجنة من أكل وشرب وكسوة وطيب ليس عن ألم من جوع أو ظمأ أو عرى أو نتن، وإنما هي لذات متتالية ونعم متوالية. والحكمة في ذلك أنهم ينعمون بنوع ما كانوا يتنعمون به في الدنيا وقال النووي: مذهب أهل السنة أن تنعم أهل الجنة على هيئة تنعم أهل الدنيا إلا ما بينهما من التفاضل في اللذة. ودل الكتاب والسنة على أنه نعيم لا انقطاع له اهـ. ملخصاً من الفتح (أزواجهم الحور العين) أي: زيادة على زوجتين من

عَلَى خَلْقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ سِتُّونَ ذِرَاعاً فِي السَّمَاءِ" متفق عَلَيْهِ. وفي رواية البخاري ومسلم: "آنِيَتُهُمْ فِيهَا الذَّهَبُ، وَرَشْحُهُمُ المِسْكُ. وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ يُرَى مُخُّ سَاقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ مِنَ الحُسْنِ، لاَ اخْتِلاَفَ بَيْنَهُمْ ـــــــــــــــــــــــــــــ بنات آدم كما يأتي في الرواية بعده (على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم) أي: هيئته إن كان بفتح المعجمة وإن كان بضمها فالمعنى على صفته وطريقته (ستون ذراعاً عافي السماء) هذا يؤيد فتح الخاء المعجمة أي: ذلك طول آدم وطولهم كذلك فيها (متفق عليه وفي رواية للبخاري ومسلم) الأخصر لهما (آنيتهم فيها الذهب) أي: والفضة كما تقدم لحديث أبي موسى السابق فيه، ولحديث الطبراني بإسناد قوي عن أنس مرفوعاً "إن أدنى أهل الجنة درجة لمن يقوم على رأسه عشرة آلاف خادم بيد كل واحد صحيفتان واحدة من ذهب والأخرى من فضة" الحديث (ورشحهم) أي: عرف ما يرشح من أبدانهم (المسك ولكل واحد منهم زوجتان) قال في الفتح أي: من نساء الدنيا فقد روى أحمد من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعاً في صفة أدنى أهل الجنة منزلة، وإن له من الحور العين اثنتين وسبعين زوجة سوى أزواجه في الدنيا، وفي سنده شهر بن حوشب وفيه مقال، ثم أورد أحاديث مختلفة في قدر عدد الزوجات اللاتي يمنحهن المؤمن في الجنة. ثم قال، قال ابن القيم: ليس في الأحاديث الصحيحة زيادة على زوجتين سوى ما في حديث أبي موسى "إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤله فيها أهلون يطوف عليهم. ثم اعترضه بأن في صحيح الضياء عن ابن عباس "إن الرجل من أهل الجنة ليفضي إلى مائة عذراء" رواه الطبراني. وبأن في حديث أبي سعيد عند مسلم في صفة أدنى أهل الجنة ثم تدخل عليه زوجتاه. والذي يظهر أن المراد أن أقل ما لكل واحد منهم زوجتان. وقد أجاب بعضهم باحتمال كونه التثنية للتكثير والتعظيم، نحو: لبيك وسعديك ولا يخفى ما فيه اهـ. كلام الفتح ملخصاً. قال المصنف: كذا وقع زوجتان بتاء التأنيث وهي لغة تكررت في الأحاديث. والأشهر خلافها وبه جاء القرآن. وذكر أبو حاتم السجستاني أن الأصمعي كان ينكر زوجة ويقول إنما هي زوج فأنشدناه قول الفرزدق. وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي ... كساع إلى أسد الشرى يستتلها قال فسكت ثم ذكر له شواهد أخرى (يرى مخ سوقهما من وراء اللحم) جاء في رواية في البخاري زيادة والعظم والمخ بضم الميم وتشديد المعجمة: ما في داخل العظم.

ما أدْنَى أهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً؟ قال: هُوَ رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، فَيُقَالُ لَهُ: ادْخُلِ الجَنَّةَ. فَيَقُولُ: أيْ رَبِّ، كَيْفَ وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ، وأخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ؟ فَيُقَالُ لَهُ: أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيقُولُ: رَضِيْتُ رَبِّ، فَيقُولُ: لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ، فَيقُولُ في الخامِسَةِ. رَضِيْتُ رَبِّ، فَيقُولُ: هذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ، وَلَذَّتْ عَيْنُكَ. فَيقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ. قَالَ: رَبِّ فَأَعْلاَهُمْ مَنْزِلَةً؟ قالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ؛ غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي، وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا، فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ ـــــــــــــــــــــــــــــ ما أدنى) أي: أنزل (أهل الجنة منزلة) تمييز (قال: هو رجل يجيء بعد ما أدخل أهل الجنة الجنة) الفعل في الأصول المصححة مضبوط بالماضي المبني للمجهول وأهل الجنة نائب فاعله ولو روي بالمضارع للمتكلم ونصب المفعولين لكان مستقيماً (فيقال له أدخل الجنة) يمكن المخاطب له الله تعالى كما يومىء إليه قوله (فيقول أي رب) لا أدري لهذا القرب (1) (كيف) أي: دخولي فيها المدلول عليه بالسياق (وقد نزل الناس منازلهم) أي: فيها وما أبقوا لغيرهم منزلاً (وأخذوا أخذاتهم) بفتح أوليه (فيقال له أترضى أن يكون لك مثل ملك) بضم فسكون (ملك) بفتح فكسر وبيه وبين ما قبله الجناس المحرف (من ملوك الدنيا) صفة الملك والتقييد به لكونه معروفاً للمخاطب (فيقول رضيت رب) حذف حرف النداء إيجازاً مسارعة لذكر الرب (فيقول لك ذلك) أشير إليه مع قربه بما يشار به للبعيد تفخيماً وتعظيماً وعطف على المبتدأ قوله (ومثله ومثله ومثله ومثله) أي: منضماً لما رضيت به زيادة عليه مبالغة في التفضيل (فيقول في الخامسة رضيت رب) الرضا مقول بالتشكيك فحصل بالأولى أدناه كما حصل بالخامسة أعلاه (فيقول هذا) أي: المذكور من مثل ملك الملك والمتعاطفات بعده (لك وعشرة أمثاله ولك) زيادة على ذلك (ما اشتهت نفسك ولذت عينك) وهذا شامل لكل أحد من أهل الجنة، قال تعالى (وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين) (2) (فيقول رضيت رب) أي: زيادة في الرضا (قال) أي: موسى (رب فأعلاهم ـــــــــــــــــــــــــــــ (1) كذا ولعله (نادى بأي لاجل القرب) . ع. (2) سورة الزخرف، الآية: 71.

يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ". رواه مسلم (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ منزلة قال) أي: الله تعالى (فأولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي) أي: بمحض القدرة من غير توسط ملك ولا غيره زيادة في كرامتهم (وختمت عليها) لئلا يراها غيرهم بمالغة فيما ذكر (فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر) أي ما أعددت لهم من الكرامة لعدم وجود شيء مما ذكر لأحد منهم (رواه مسلم. وعن أبي هريرة (¬2) رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لقاب قوس أحدكم) في المصباح القاب ما بين مقبض القوس والسية، ولكل قوس قابان. والسية بكسر المهملة وتخفيف التحتية طرفها المنحني، وكان رؤبة يهمزه، والعرب لا تهمزه اهـ. أي: هذا القدر (من الجنة) لنفاسته ولدوامه وبقائه (خير مما تطلع) بضم اللام (عليه الشمس وتغرب) أي: مما في الدنيا أجمع لأن ذلك وصفها (متفق عليه) رواه البخاري في أبواب الجنة. (وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن في الجنة سوقاً) أتى بالمؤكد لتردد المخاطبين في ثبوت ذلك بما سمعه بعضهم من أهل الكتاب، فالتردد ناسب التوكيد والسوق مؤنث معنوي سمي به لسوق الناس بضائعهم إليها أو لقيامهم فيها على ساق، أو لتزاحم الساقات فيها (يأتونها كل جمعة) أي: في قدرها (فتهب) بضم الهاء وتشديد الموحدة (ريح الشمال) بفتح المعجمة وتخفيف الميم (فتحثو في وجوههم وثيابهم) حذف المحثو إيماء إلى تعميم جميع أنواع الكمال التي يجول في الخاطر وجودها ثمة، فلذا قال: عقبه (فيزدادون حسناً وجمالاً فيرجعون إلى أهليهم) بالياء جمع سلامة مع فقده بعض شروط الجمع الحق به في إعرابه (وقد ازدادوا حسناً وجمالاً) جملة حالية من فاعل يرجعون (فيقول لهم أهلوهم) أي: عند وقوع نظرهم عليه كما يدل عليه الفاء الدالة على التعقيب (والله لقد ازددتم حسناً وجمالاً) كان التأكيد لإنكار المخاطبين، ذلك لعدم رؤياه له في أنفسهم، فيذعنون عند ذلك وينظرون إلى أهليهم فيرونهم زيدوا كذلك (فيقولون) عطف على قول أزواجهم (وأنتم) قدمه على القسم اهتماماً به (والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً) أتوا بالقسم لتردد المخاطبين به في ثبوته، وفيه إيماء إلى أن الجمال متزايد في الجنة شيئاً بعد شيء بعضه عن شبه صوري وبعضه هكذا (رواه مسلم) في أبواب الجنة من صحيحه. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: أدق أهل الجنة منزلة فيها، (الحديث: 312) . (¬2) هذا الحديث والذي يعده مكرران مع ما يأتي في نسخ الشرح وأما في نسخ المتن فلم يذكرا إلا فيما يأتي. ع.

1882- وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي لأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجاً مِنْهَا، وَآخِرَ أَهْلِ الجَنَّةِ دُخُولاً الجَنَّةَ. رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ حَبْواً، فَيقُولُ اللهُ - عز وجل - له: اذْهَبْ فادْخُلِ الجَنَّةَ، فَيَأتِيهَا، فَيُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهَا مَلأَى، فَيَرْجِعُ، فَيقُولُ: يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلأَى ‍! فَيَقُولُ اللهُ - عز وجل - له: اذْهَبْ فَادْخُلِ الجَنَّةَ، فيأتِيهَا، فَيُخيَّلُ إليهِ أنَّها مَلأى، فيَرْجِعُ. فَيَقولُ: يا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلأى، فيقُولُ اللهُ - عز وجل - لَهُ: اذهبْ فَادخُلِ الجنَّةَ. فَإنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشرَةَ أَمْثَالِهَا؛ أوْ إنَّ لَكَ مِثْلَ عَشرَةِ أَمْثَالِ الدُّنْيَا، فَيقُولُ: أتَسْخَرُ بِي، أَوْ تَضْحَكُ بِي وَأنْتَ المَلِكُ" قال: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ فَكَانَ يقولُ: "ذلِكَ أَدْنَى أهْلِ ـــــــــــــــــــــــــــــ 1882- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها وآخر أهل الجنة دخولاً الجنة رجلاً) قيل هو جهينة كما ذكره الشيخ زكريا في تحفة القاري (يخرج من النار حبواً) بفتح المهملة وسكون الموحدة. ولمسلم "زحفاً" وهو بوزنه ومعناه (فيقول الله عز وجل له) بعد إخراجه من النار (اذهب فادخل الجنة) أمر إباحة (فيأتيها فيخيل إليه) بضم التحتية وتأنيث فاعله (أنها ملأى) بفتح همزة أن، وملأى بوزن فعلي من الملء، وألف التأنيث فيها مقصودة (فيرجع) أي منها لمحل مناجاته لله تعالى (فيقول يا رب وجدتها ملأى) من لازم فائدة الخبر، لأن الله تعالى لا يخفى عليه شيء (فيقول الله عز وجل له اذهب فادخل الجنة فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها، أي مضموماً إلى مثلها (أو) للشك من الراوي في أنه قال ما ذكر أو قال: (إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا) فالمشكوك فيه زيادة المثل الحادي عشر. وهذا أعلى مما ذكر في الحديث قبله، فلعل من في ذلك مع كونه أدنى يدخلها قبل من في هذا الحديث وإن أعطي أعلى (فيقول أتسخر بي أو) شك من الراوي (تضحك بي) ضمنه معنى تسخر فعداه بالباء. قال القاضي عياض: وقع منه هذا القول وهو غير ضابط لما قال: إذا وله عقله من السرور بما لم يخطر بباله. وقال القرطبي: استخفه الفرح وأدهشه فقال ذلك (وأنت الملك) جملة حالية والملك بفتح فكسر وهو أبلغ من المالك إذ كل ملك مالك ولا عكس (قال) أي: ابن مسعود (فلقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحك) جملة حالية بتقدير قد قبلها وقوله (حتى بدت نواجذه) غاية لضحك فإن غالب ضحكه التبسم، بحيث لا يبدو منه إلا المتبسم، وإذا اقتضى المقام ضحك حتى تبدو النواجذ. وتقدم في باب الأمر بالمحافظة على السنة: أنها الأنياب. وقيل: آخر

الجَنَّةِ مَنْزِلَةً" متفق عليه (¬1) . 1883- وعن أبي موسى - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ لِلمُؤْمِنِ فِي الجَنَّةِ لَخَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ مُجَوَّفَةٍ طُولُها في السَّمَاءِ سِتُّونَ مِيلاً. لِلمُؤْمِنِ فِيهَا أَهْلُونَ يَطُوفُ عَلَيْهِمُ المُؤْمِنُ فَلاَ يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضاً" متفق عليه. "المِيلُ": سِتة آلافِ ذِراعٍ (¬2) . 1884- وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إنَّ في الجَنَّةِ شَجَرَةً ـــــــــــــــــــــــــــــ الأضراس وهو ضرس الحلم. وقيل الأضراس كلها وقيل ما بين الضرس والناب، وقيل غير ذلك مما تقدم بعضه (فكان يقول ذلك أدنى أهل الجنة منزلة) أي: من أدنى ولا ينافيه قوله "أدنى" لأن الأدنى متفاوت في الرتبة، أو أن هذا مقول على وجه التضعيف، وذاك مجزوم به فذاك مقدم عليه (متفق عليه) . 1883- (وعن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن للمؤمن في الجنة لخيمة) بفتح المعجمة وسكون التحتية. قال المصنف: بيت مربع من بيوت الأعراب (من لؤلؤة) بهمزتين واللام مضمومة فيهما (واحدة) تأكيد لمدلول التاء من الوحدة (مجوفة) هكذا في عامة نسخ مسلم بالفاء. قال القاضي عياض: ورواه السمرقندي بالموحدة وهي المثقوبة وهى بمعنى المجوفة (طولها في السماء ستون ميلاً) وفي أخرى لمسلم عرضها ستون ميلاً. قال: المصنف: ولا معارضة بينهما فعرضها في مساحة أرضها وطولها في السماء أي: في العلو متساويان (للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم) أي بعض لأهلين (بعضاً) إما لمزيد سعتها وكمال تباعد ما بينهم، وإما بستر ذلك عن الآخرين لحكمة تقتضيه (متفق عليه) رواه مسلم بهذا اللفظ (الميل ستة آلاف ذراع) هو ما جرى عليه بعضهم، والذي عليه الفقهاء في باب صلاة المسافر أنه ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة. 1884- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن في الجنة شجرة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: صفة الجنة والنار وفي التوحيد، (11/386) . وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: آخر أهل النار خروجاً، (الحديث: 308) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق باب صفة الجنة وفي تفسير الرحمن وفي التوحيد (9/479) . وأخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: في صفة قيام الجنة وما للمؤمنين ... ، (الحديث 23) .

يَسِيرُ الرَّاكبُ الجَوَادَ المُضَمَّرَ السَّريعَ مِئَةَ سَنَةٍ مَا يَقْطَعُها" متفق عليه (¬1) . وروياه في الصحيحين أيضاً من رواية أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "يَسيرُ الرَّاكِبُ في ظِلِّها مئةَ سَنَةٍ مَا يَقْطَعُها" (¬2) . 1885- وعنه، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ أهْلَ الجَنَّةِ لَيَتَرَاءوْنَ أَهْلَ ـــــــــــــــــــــــــــــ يسير الراكب الجواد) مفعول به للراكب وهو بفتح الجيم وتخفيف الواو الفرس يقال: جاد الفرس إذا صار فائقاً والجمع جياد وأجواد (المضمر) بضم الميم الأولى وتشديد الثانية وهو: أن يعلق الفرس حتى يسمن ويقوى، ثم يقلل العلف بقدر القوت، ويدخل بيتاً ويغشى بالجلال حتى يحمى فيعرق، فإذا جف عرقها خف لحمها، قويت على الجري قال المصنف: قال القاضي عياض: ورواه بعضهم المضمر بكسر الميم الثانية صفة للراكب المضمر لفرسه والمعروف (هو الأول السريع) وصف آخر للجواد أي: السريع المشي (مائة سنة) منصوب على الظرفية ليسير (ما يقطعها) من كمال كبرها وشدة اتساعها (متفق عليه) ورواه من حديثه أحمد والترمذي (وروياه في الصحيحين أيضاً) وكذا رواه الترمذي وابن ماجه (من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: يسير الراكب في ظلها مائة سنة لا يقطعها) ورواه أحمد والبخاري والترمذي من حديث أنس، باللفظ المذكور، لكن أبدل السنة بالعام ولا النافية بما. ثم المراد بالظل النعيم والراحة والجنة كما يقال عز ظليل وأنا في ظلك أي: كنفك أي: فقوله في ظلها أن نعيمها وراحتها. وقيل: معناه ناحيتها فأشار به إلى امتدادها ومنه قولهم أنا في ظلك أي: ناحيتك. قال: القرطبي والمحوج إلى هذا التأويل أن الظل في عرف أهل الدنيا ما يقي من حر الشمس وأذاها، وليس في الجنة شمس ولا أذى. وقيل: ظلها أي: ما يستر أغصانها. وقال الراغب: الظل أعم من الفيء فإنه يقال لظل الليل وظل الجنة وكل موضع لا تصل إليه الشمس ولا يقال الفيء إلا لما زالت عنه الشمس قال: ويعبر بالظل عن العز والنعمة والرفاهية والحراسة. ويقال عن نضارة العيش ظل ظليل. 1885- (وعنه) أي: أبي سعيد وكذا رواه عنه أحمد ورواه الترمذى من حديث أبي هريرة (عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن أهل الجنة ليتراءون) بالهمزة قبلها ألف لينة ولمسلم يرون (أهل ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: صفة الجنة والنار، (11/366 و6/233) . (¬2) أخرجه مسلم في كتاب "الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ... ، (الحديث: 6 و8) .

الغُرَفِ مِن فَوْقِهِمْ كَمَا تَرَاءوْنَ الكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الغَابِرَ فِي الأُفُق مِنَ المَشْرِقِ أو المَغْرِبِ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ" قالُوا: يا رسول الله؛ تِلْكَ مَنَازِلُ الأنبياء لاَ يَبْلُغُها غَيْرُهُمْ قال: "بَلَى والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، رِجَالٌ آمَنُوا بِاللهِ وَصَدَّقُوا المُرْسَلِينَ" ـــــــــــــــــــــــــــــ الغرف من فوقهم) في محل الحال أو الصفة من أهل لأن أل في المضاف إليه المعرف بإضافته إلى ما دخلت عليه صاحب الحال جنسية (كما تراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق والمغرب) أي: أهل الجنة متفاوتو المنازل بحسب درجاتهم في الفضل، حتى إن أهل الدرجات العلى ليراهم من هو أسفل منهم كالنجوم كما قال: التفاضل ما بينهم) وتقدم ضبط الدري وما فيه من اللغات في الباب والغابر بالمعجمة والموحدة كذا للأكثر، ورواه في الموطأ بالتحتية بدل الموحدة كأنه الداخل في الغروب. وفي رواية الأصيلي العابز بالمهملة والزاي قال عياض: معناه الذي يبعد الغروب، وقيل: معناه الغائب، ولكن لا يحسن هنا لأن المراد بعده عن الأرض كبعد غرف أهل الجنة عن بعضها في رأي العين. والرواية الأولى هي المشهورة. ومعنى الغابر الذاهب وقد فسره بقوله في الحديث: "من المشرق إلى المغرب". قال القرطبي: شبه رؤية الرائي في الجنة صاحب الغرفة برؤية الرائي الكوكب المضيء الباقي في جانب الشرق والغرب في الاستضاءة مع البعد وفائدة ذكر المشرق والمغرب بيان الرفعة وشدة البعد، والمراد بالأفق السماء. وفي رواية لمسلم من الأفق من المشرق والمغرب، قال القرطبي: الأولى لابتداء الغاية وهي الظرفية والثانية مبينة لها (قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم) يحتمل الإِخبار بحسب ما عندهم ويحتمل الاستفهام بتقدير همزته (قال: بلى والذي نفسي بيده رجال) بالرفع أي: أهلها رجال فحذف المبتدأ لدلالة الخبر عليه ثم الخبر المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وقدره بعضهم، هم الرجال أي: تلك المنازل منازل رجال اهـ. ولا يخفى ما بين كلامه أولاً وآخراً (آمنوا بالله وصدقوا المرسلين) ثم قوله بلى قال القرطبي: هي جواب وتصديق ومقتضى المقام أن يكون الجواب بالإضراب عن الأول وإيجاب الثاني، فلعلها كانت بلى فغيرت بل. وحكى ابن التين إن في رواية أبي ذر بل ويمكن توجيه بل بان التقدير نعم هي منازل الأنبياء بإيجاب الله تعالى لهم ذلك ولكن قد يتفضل على غيرهم بالوصول لتلك المنازل. وقال ابن التين: يحتمل أن يكون بلى جواب النفي في قوله "لا يبلغها غيرهم" فكأنه قال: بلى يبلغها رجال غيرهم. وقوله صدقوا المرسلين أي: حق تصديقهم وإلا لكان كل من آمن بالله وصدق رسوله وصل إلى تلك الدرجة وليس كذلك ويحتمل أن يكون تنكير رجال للإِشارة إلى ناس مخصوصين موصوفين بالصيغة المذكورة،

متفق عليه (¬1) . 1886- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَقَابُ قَوْسٍ في الجَنَّةِ خَيْرٌ مِمَّا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ أو تَغْرُبُ" متفق عليه (¬2) . 1887- وعن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ في الجَنَّةِ سُوقاً ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يلزم أن يكون كل من اتصف بها كذلك، لاحتمال أن يكون لمن بلغ تلك المنازل صفة أخرى، وكأنه سكت عن الصفة التي اقتضت لهم ذلك، والسرّ فيه أنه قد يبلغها من له عمل مخصوص ومن لا عمل له كان بلوغه إنما هو برحمة الله تعالى. قال الدراوردي: يعني أنهم يبلغون هذه المنازل التي وصفت، وأما منازل الأنبياء فإنها فوق ذلك واعترض بأنه جاء في رواية عند أحمد والترمذي قال: بلى والذي نفسي بيده أقوام آمنوا بالله ورسوله بالواو فدل على أن المعنى كما حكاه ابن التين أنهم يبلغون درجات الأنبياء. ويحتمل أن يقال إن الغرف المذكورة لهذه الأمة وأما من دونهم فهم الموحدون من غيرهم أو أصحاب الغرف دخلوا الجنة من أول وهلة ومن دونهم دخل الجنة بالشفاعة ويؤيد الذي قبله قوله في صفتهم هم الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، وتصديق جميعهم إنما يتحقق لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، بخلاف من قبلهم من الأمم وإن كان فيهم من صدق لمن سيجيء بعده فهو بطريق التوقع لا بطريق الواقع اهـ. ملخصاً من الفتح (متفق عليه) . 1886- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لقاب قوس) بالقاف والموحدة أي: قدر ما بين المقبض والسية من القوس ولكل قوس قابان. (في الجنة) في محل الصفة أو الحال من قاب لتخصيصه بالإِضافة (خير مما تطلع عليه الشمس أو) شك من الراوي (تغرب) ويحتمل أن كون أو فيه بمعنى الواو فيكون الجمع بينهما إطناباً تأكيداً لبيان فضل الجنة (متفق عليه) . 1887- (وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن في الجنة سوقا) قال ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق، باب: صفة الجنة (6/233، 234) . وأخرجه مسلم في كتاب: الجنة ... ، باب: ترائي أهل الجنة أهل الغرف كما يرى الكوكب في السماء، (الحديث: 11) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق، باب: ما جاء في صفة الجنة وفي تفسير سورة الواقعة (6/11) . وهذا الحديث مما انفرد به البخاري.

يَأتُونَهَا كُلَّ جُمُعَةٍ. فَتَهُبُّ رِيحُ الشَّمَالِ، فَتَحْثُو في وُجُوهِهِم وَثِيَابِهِمْ، فَيَزدَادُونَ حُسناً وَجَمَالاً فَيَرْجِعُونَ إلَى أَهْلِيهِمْ، وَقَد ازْدَادُوا حُسْناً وَجَمَالاً، فَيقُولُ لَهُمْ أَهْلُوهُمْ: وَاللهِ لقدِ ازْدَدْتُمْ حُسْناً وَجَمَالاً! فَيقُولُونَ: وَأنْتُمْ وَاللهِ لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْناً وَجَمالاً". رواه مسلم (¬1) . 1888- وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ أهْلَ الجَنَّةِ لَيَتَراءونَ ـــــــــــــــــــــــــــــ المصنف: المراد بالسوق هنا مجتمع لهم يجتمعون كما يجتمع الناس في الدنيا في أسواقها أي: يعرض فيه الأشياء على أهلها فيأخذ كل منهم ما أراد (يأتونها كل جمعة) أي: في قدر ذلك: وهل المراد قدر جمعة من جمع الدنيا أو من جمع الآخرة، الأول أبلغ في الإِكرام، ثم رأيت المصنف قال أي: في مقدار كل جمعة أي: أسبوع لفقد الشمس والليل والنهار اهـ. وهو موافق لما ذكرته (فنهب) بضم الهاء أي فتهيج (ريح الشمال) بفتح الشين والميم بغير همز هكذا الرواية قال صاحب العين: الشمال والشمأل باسكان الميم مهموز أو الشأمل بهمزة قبل الميم والشمل بغير ألف والشمول بفتح الشين وضم الميم وهي التي من دبر القبلة قال القاضي: وخص ريح الجنة بالشمال لأن ريح المطر عند العرب كانت تهب من جهة الشام، وبها يأتي سحاب المطر وكانوا يرجون السحابة الشامية. وجاء في الحديث تسمية هذه الريح المثيرة أي: المحركة لأنها تثير في وجوههم ما تثيره من مسك الجنة وغيره من نعيمها اهـ. (فتحثو في وجوههم وثيابهم) أي: حذف المفعول للتعميم ولتذهب النفس في تعين ما يحثي به كل مذهب (فيزدادون حسناً وجمالاً) أي: بذلك (فيرجعون إلى أهليهم) جمع تصحيح لأهل على خلاف القياس فيه إذ مفرده ليس علماً ولا صفة ولا يجعله قياساً إلا أحدهما (وقد ازدادوا حسناً وجمالاً) مطاوع زاد المتعدي لاثنين وعطف الجمال على الحسن من عطف الخاص على العام. قال في المصباح: قال سيبويه: الجمال رقة الحسن، والأصل جماله بالهاء مثل صجح صباحة، لكنهم حذفوا الهاء تخفيفاً لكثرة الاستعمال (فيقول لهم أهلوهم والله لقد ازددتم حسناً وجمالاً فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً رواه مسلم) . 1888- (وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن أهل الجنة ليتراءون ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة ... ، باب: في سوق الجنة وما ينالون فيها من النعيم والجمال، (الحديث: 13) .

الغُرَفَ فِي الجَنَّةِ كَمَا تَتَرَاءونَ الكَوكَبَ فِي السَّمَاءِ" متفق عليه (¬1) . 1889- وعنه - رضي الله عنه -، قال: شَهِدْتُ مِنَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - مَجْلِساً وَصَفَ فِيهِ الجَنَّةَ حَتَّى انْتَهَى، ثُمَّ قَالَ في آخِرِ حَدِيثِهِ: "فيهَا مَا لاَ عَينٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلى قَلْبِ بَشَرٍ" ثُمَّ قَرَأَ: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ) إلى قوله تعالى: (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (¬2) رواه البخاريُّ (¬3) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الغرف) بضم ففتح جمع غرفة بضم فسكون (في الجنة كما تراءون) بحذف إحدى التاءين تخفيفاً (الكوكب في السماء) هو بمعنى حديث أبي هريرة (¬4) السابق إلا أن في ذلك أن الترائي لأهل الغرف وفي هذا نفس الغرف وهما متلازمان (متفق عليه) ورواه أحمد. 1889- (وعنه رضي الله عنه قال: شهدت) أي: حضرت (مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ظرف للفعل قبله ويصح كونه مستقراً حالاً من قوله (مجلساً) وهو مفعول به للفعل قبله لأنه المشهود لا ما فيه (وصف فيه الجنة حتى انتهى) أي: فرغ من وصفها وهو غاية لمقدر أي واستمر يصفها إلى انتهائه (ثم) هي للترتيب في الإِخبار (قال في آخر حديثه فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت) تقدم أن لا فيهما نافية للجنس نصاً، فهي لاستغراق كل فرد من أفراد المنفي والرفع كما هو الرواية لإِهمالها لتكرارها وإلا فيجوز فيه من حيث صناعة العربية الأوجه في نحو لا حول ولا قوة إلا بالله (ولا خطر على قلب بشر ثم قرأ) شاهداً لما ذكره بقوله فيها الخ ْ (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) لصلاة التهجد (يدعون ربهم خوفاً وطمعاً) يحتمل الحالية والنصب على العلة والمصدر (ومما رزقناهم ينفقون) فيه إيماء للاقتصاد وترك الإِسراف (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) أي: مما تقربه أعينهم من النعيم الأبدي والفيض السرمدي، الذي يضيق عن بيانه البيان (رواه البخاري) . ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: صفة الجنة والنار، (11/366) . وأخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة ... ، باب: ترأئي أهل الجنة، أهل الغرف، كما يرى الكوكب فى السماء، (الحديث: 10) . (¬2) سورة السجدة، الآيتان: 16، 17. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: ... ، (الحديث: 5) . "لم نجده في البخاري من حديث سهل بن سعد وذكره الشيخ عبد الغني النابلسي في ذخائر المواريث ونسبة لمسلم فقط وهو عند مسلم في أول كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها". وأخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: ... ، (الحديث: 2 و3) . وهذا عن أبو هريرة بنحوه ... (¬4) لعله "أبي سعيد" - كتبه علي البلاقي المرموز إليه بحرف. ع.

1890- وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذَا دَخَلَ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ يُنَادِي مُنَادٍ: إنَّ لَكُمْ أنْ تَحْيَوْا، فَلاَ تَمُوتُوا أَبَداً، وإنَّ لَكُمْ أنْ تَصِحُّوا، فلا تَسْقَمُوا أبداً، وإنَّ لَكمْ أنْ تَشِبُّوا فلا تَهْرَمُوا أبداً، وإنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا، فَلاَ تَبْأسُوا أَبَداً". رواه مسلم (¬1) . 1891- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ أدْنَى مَقْعَدِ أَحَدِكُمْ مِن ـــــــــــــــــــــــــــــ 1890- (وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة) أي: تكاملوا فيها ويحتمل أن ذلك مع بقاء العصاة في النار زيادة في تشريف المتقين وكرامتهم (ينادي مناد إن لكم) بكسر الهمزة بإضمار قول وبفتحها مفعول ينادي بإضمار الجار أي: بأن وحذف الجار مع أن وأن وكي المصدريات قياس مطرد (أن تحيوا ولا تموتوا) معطوف على ما قبله مصرح به زيادة مع أن ما قبله يستلزمه تأكيداً ودفعاً له مع توهم أن الموت أصل الحياة لا مع انتفاء ضدها، ولذا قيد نفي الموت بالتأبيد بقوله (أبداً) ثم العدول عن المصدر إلى أن والفعل لعله للدلالة على إمكان الفعل دون وجوبه واستحالته أو للدلالة على تحقق وقوعه. نقله بعض المتأخرين عن صاحب البسيط من النحاة. واعترضه الزركشي في البحر بأن صاحب البسيط إنما فرق بذلك بين المصدر وأن المشددة ومعمولها أورده على كلام البسيط مخالفة لفرع ذكره أصحابنا في الظهار، يدل على أن المصدر كأن ومعمولها في الوقوع. وذكر الزركشي في البحر وجوهاً يفترق فيها المصدر وما بمعناه من أن والفعل (وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً وإن لكم أن تشبوا) بكسر المعجمة (فلا تهرموا أبدا) الهرم هو الحالة الحاصلة عند الكبر، وهو كالموت داء طبعي لا دواء له (وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً) وتبأسوا بفتح الهمزة من البؤس، وهو بضم الموحدة وسكون الهمزة الضر ويجوز التخفيف ويقال بئس كعلم إذا نزل به الضر كذا في المصباح ثم لعل الحكمة في عطف الأخيرات بالفاء دون الأولى بتسبب ما بعد العاطف عما قبله في الجمل الثلاث الأخيرة لا في الأولى (رواه مسلم) . 1891- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن أدنى مقعد أحدكم من ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: في دوام نعيم أهل الجنة ... ، (الحديث: 22) .

الجَنَّةِ أنْ يَقُولَ لَهُ: تَمَنَّ، فَيَتَمَنَّى وَيَتَمَنَّى فَيقُولُ لَهُ: هَلْ تَمَنَّيتَ؟ فيقولُ: نَعَمْ، فيقُولُ لَهُ: فَإنَّ لَكَ ما تَمَنَّيتَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ". رواه مسلم (¬1) . 1892- وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الله - عز وجل - يَقُولُ لأَهْلِ الجَنَّةِ: يَا أهْلَ الجَنَّةِ، فَيقولُونَ: لَبَّيكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، وَالخَيْرُ في يَديْكَ، فَيقُولُ: هَلْ رَضِيتُم؟ فَيقُولُونَ: وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى يَا رَبَّنَا وَقَدْ ـــــــــــــــــــــــــــــ الجنة أن يقول) أي: الله أو ملك يأمره (له) أي: للأحد (تمن) من التمني قال في المصباح: تمنيت كذا قيل مأخوذ من المني وهو القدر لأن صاحبه يقدر حصوله والاسم منه المنية والأمنية، وجمع الأولى: مني كغرفة وغرف، وجمع الثانية أماني اهـ. (فيتمنى ويتمنى) الإِتيان بالثاني لبيان تعدد تمنيه وكثرة متمناه فليس القصد منه الثانية فقط بل التكرار والتكثير (فيقول له) أي: الآمر بالتمني أولاً (هل تمنيت) أي: استوفيت ما تتمناه أو الاستفهام تقريري (فيقول نعم فيقول له فإن لك ما تمنيت ومثله معه) يجوز نصب مثله عطف على ما ومعه حال منه وكذا هو مضبوط في أصل مصحح، ويجوز رفعه عطفاً على موضع اسم إن أو مبتدأ والظرف بعده خبر فيكون من عطف الجملة على الخبر. ثم لا مخالفة بين ما في هذا الحديث وما تقدم من حديث المغيرة أن له مثل ملك من ملوك الدنيا وعشرة أمثاله، وما تقدم من حديث ابن مسعود أن له مثل الدنيا وعشرة أمثالها لجواز أن يلهم تمني عشرة أمثال ملك ملك من ملوكها أو لأن ما في هذا الحديث، اطلع عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أولاً، فأخبر به ثم أخبره الله تعالى بزيادة ذلك، مما سكت عنه في هذا الحديث، وهو ما في حديثي المغيرة وابن مسعود فأخبر به والله أعلم (رواه مسلم) . 1892- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله عز) أي غلب على مراده فلا معقب له فيه (وجل) أي: تنزه عما لا يصح قيامه به (يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك) أي: إجابة بعد ومساعدة بعد مساعدة وهما مثنيان للتكثير والتعدد لا أن المراد بهما معنى المثنى فقط فهما كقوله تعالى: (ثم ارجع البصر كرتين) (¬2) ولعل التعبير بالرب في هذا المقام دون لفظ الجلالة، لما تضمنه معناه من التربية والإيصال إلى أوج الكمال، وذلك مدلوله فأوثر لمناسبته لكمالهم الذي وصلوا إليه (والخير ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: معرفة طريق الرؤية، (الحديث: 301) . (¬2) سورة الملك، الآية: 4.

أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أحداً مِنْ خَلْقِكَ، فَيقُولُ: ألاَ أُعْطِيكُمْ أفْضَلَ مِنْ ذلِكَ؟ فَيقُولُونَ: وَأيُّ شَيءٍ أفْضَلُ مِنْ ذلِكَ؟ فَيقُولُ: أُحِلُّ عَلَيكُمْ رِضْوَانِي فَلاَ أسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أبَداً". متفق عليه (¬1) . ـــــــــــــــــــــــــــــ في يديك) سكت عن الشر مع أن الكل بيده تنبيهاً على الأدب في خطابه تعالى، إذ لا يضاف إليه إلا الجميل كما أرشد إليه بقوله تعليماً للعباد (أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم) (¬2) (فيقول هل رضيتم) أي: بما أعطيتم من الكمال في الجنة، الذي لا يعبر عنه لعظمه كما تقدم "ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" (فيقولون وما لنا) مبتدأ وخبر ظرفي، وجملة (لا نرضى) في محل الحال من الضمير في الظرف قبله (يا ربنا) أعادوه ثانياً تلذذاً بالخطاب، ولعل الإِتيان بحرف النداء هنا وحذفه أولاً للتفنن في التعبير المؤذن بكمال الراحة التي تنشأ عنها عادة التوجه لمثل ذلك بضد حال أهل النار. فلذا أنكر ابن عباس قراءة يا مال بحذف الكاف ترخيماً وقال: ما أشغل أهل النار عن الترخيم. أي: أنه إنما يكون لتحسين اللفظ وتزيينه وذلك إنما ينشأ عن الفراغ والسرور، وهم بخلافه، لكن هذا لكونه بناه على ذلك. وقال غيره: إنه ترخيم من شدة العذاب وإنها منعتهم من إتمام حروف الكلمة (وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك) جملة حالية يحتمل أن تكون مما منه الجملة قبلها فيكونا مترادفين وأن تكون من ضمير ترضى فيكونا متداخلين، والمراد من الضمير المفعول: جميع أهل الجنة من نبي مرسل، وأتباعهم من سائر الموحدين، ولا شبهة في أنهم أعطوا ما لم يعط غيرهم من الخلق. (فيقول ألا) بتخفيف اللام أداة عرض. وفي الإِتيان بها كمال الإِكرام لهم وإنهم وصلوا لرتبة حتى صار يعرض عليهم درج الكمال (أعطيكم أفضل من ذلك) أي: أنفس وأشرف وأعلى مما أعطيتموه (فيقولون) لما استبعدوا وجود ذلك، كما يومىء إليه قولهم ما لم تعط أحداً من خلقك (وأي شيء أفضل من ذلك) أتوا بالظاهر موضع المضمر تأكيداً للتصريح بأفضليته (فيقول أحل) بضم الهمزة وكسر المهملة وتشديد اللام أي: أنزل (عليكم رضواني) بكسر الراء (فلا أسخط عليكم بعده أبداً) الفاء فيه للسببية ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: صفة الجنة والنار وفي كتاب التوحيد، باب: كلام الرب مع أهل الجنة، (11/363 و364) . وأخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: إحلال الرضوان على أهل الجنة ... ، (الحديث:9) . (¬2) سورة الفاتحة، الآية: 7.

دَعْوَاهُمْ فيها سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ) . الحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِي لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللهُ. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ النَّبيِّ الأُمِّيِّ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَأزوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كما صَلَّيْتَ ـــــــــــــــــــــــــــــ بتجري أي يهدي (دعواهم) أي دعاءهم حال كونهم (فيها) ودعواهم مبتدأ خبره (سبحانك اللهم) أي: إنا نسبحك تسبيحاً وإنما لم يؤت بالرابط لأن الخبر عين المبتدأ في المعنى أو لأن سبحان علم جنس للتسبيح وإن كان أصل نصبه بتقدير الفعل (وتحيتهم) أي ما يحيي به بعضهم بعضاً أو تحية الملائكة إياهم (فيها سلام) من الله تعالى أو منهم قال الله تعالى سلام قولاً من رب رحيم. وقال تعالى: (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) (¬1) (وآخر دعواهم) أي: آخر دعائهم (أن الحمد لله رب العالمين) أي أن يقولوا ذلك ولعل المعنى أنهم إذا دخلوا الجنة وعاينوا عظمة الله وكبرياءه مجدوه ونعتوه بنعوت الجمال ثم حياهم الملائكة بالسلامة عن الآفات والفوز بأصناف الكرامات أو الله فمجدوه وأثنوا عليه بصفات الاكرام وأن هي المخففة من الثقيلة وقد قرىء بهما وقرىء بنصب الحمد أي على إعلامه فيه مع تحقيقه ثم ختم المصنف رحمه الله تعالى كتابه بما بدأ به من حمد الله سبحانه وتعالى والصلاة والسلام على نبيه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال معقباً للأول لما فيه من الحمد على نعمه وتقدم أنه يثاب عليها ثواب الفرض (الحمد لله الذي هدانا) أي: أرشدنا وأوصلنا (لهذا) المشار إليه ما هم فيه من النعيم المقيم هذا بالنسبة للآية القرآنية وبالنسبة لما نحن فيه المشار إليه تأليف رياض الصالحين (وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) حذف خبر لولا اكتفاء بدلالة ما قبله عليه وفيه نص على أن لا مهتدي إلا من هداه مولاه (اللهم (أي يا الله) صل) أي: ارحم الرحمة المقرونة بالتعظيم واجعلها متراسلة (على محمد عبدك) بدأ به لأنه أشرف أوصافه وأسنى نعوته - صلى الله عليه وسلم - (ورسولك) إلى الخلق كافة كما يؤذن به حذف المعمول (النبي) أتى به توطئة إلى الوصف بقوله (الأمي) هو الذي لا يقرأ الكتاب ولا يكتب (وعلى آل محمد) فصل بينه وبين آله بعلي رداً على الشيعة فإنهم يمنعون ذلك وينقلون فيه حديثاً موضوعاً لفظه من فرق بيني وبين آله بعلي لم تنله شفاعتي. وأظهر المضاف إليه اتياناً بالأفصح المتفق ¬

_ (¬1) سورة الرعد، الآيتان: 23، 24.

عَلَى إبْرَاهِيمَ وعلى آلِ إبْراهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبيِّ الأُمِّيِّ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَأزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كما بَاركْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آل إبراهيم في العالَمِينَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه وإلا فالصحيح جواز إضافته للضمير كما تقدم وهم بنو هاشم والمطلب أو كل مؤمن تقي والخلاف المتقدم فيه (وأزواجه) جمع زوجة والأفصح حذف التاء في الزوجة وإثباتها لغة ضعيفة كما تقدم التنبيه عليه مراراً وآخره في الباب الأخير وعدة أزواجه المدخول بهن إحدى عشرة توفي منهم اثنتان في حياته والتسع الباقيات توفي عنهن. وقد أفرد لهن المحب الطبري مؤلفاً سماه السمط الثمين في فضائل أمهات المؤمنين (وذريته) تخصيص بعد تعميم فإنهم أولاده ذكوراً وإناثاً وأولاد فاطمة والكل داخلون في الأول دخولاً أولياً فذكرهم كذكر جبريل وميكائيل في قوله تعالى وملائكته ورسله وجبريل وميكال (كما صليت) أي: تجل لنبيك المصطفى المختار بالجمال كما تجليت لإِبراهيم بذلك لأن التجلي بالخلة والمحبة من آثار التجلي بالجمال. فلذا أمرهم - صلى الله عليه وسلم - أن يصلوا عليه كما صلى على إبراهيم ليسألوا له التجلي بالجمال، وهذا لا يقتضي التسوية فيما بينه وبين الخليل عليه الصلاة والسلام لأنه إنما أمرهم أن يسألوا له التجلي بالوصف الذي تجلى به للخليل فالذي يقتضيه الحديث المشاركة في الوصف الذي هو التجلي بالجمال ولا يقتضي التسوية في المقامين ولا في الرتبتين فإن الحق سبحانه يتجلى بالجمال لشخصين بحسب مقامهما وإن اشتركا في وصف التجلي فيتجلى لكل واحد منهما بحسب مقامه عنده وأقربيته منه ومكانته فيتجلى للخليل بالجمال بحسب مقامه ويتجلى لسيدنا محمد بالجمال بحسب مقامه نقله القسطلاني في المواهب عن العارف الرباني أبي محمد المرجاني قال: وهذا هو السر في قوله كما صليت على إبراهيم دون كما صليت على موسى لأن التجلي لموسى كان بالجلال فخرَّ صعقاً بخلافه لإِبراهيم فكان بالجمال (على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) أولاد إسماعيل وإسحاق (وبارك) من البركة وصيغة المبالغة للمبالغة (على محمد النبي الأمي) حذف قوله عبدك ورسولك اكتفاء بذكره في قرينه ايجازاً (وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) ما الأقرب أنها مصدرية فيهما ويجوز كونها موصولاً اسمياً والعائد فيهما محذوف (في العالمين إنك) بكسر الهمزة على الاستئناف ويجوز فتحها بتقدير اللام قبلها (حميد) أي: حامد لأفعال خلقه بإثابتهم عليها جميعاً أو محمود بأقوالهم وأفعالهم (مجيد) أي ماجد وهو الكامل شرفاً وكرماً وهما واجبان لك ولا يسأل هذا المطلب السامي إلا من العظيم

§1/1