دلائل الإعجاز ت هنداوي

الجرجاني، عبد القاهر

مقدمة المحقق

مقدمة المحقق بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله الكريم المنان، الرحيم الرحمن، ذي الطول والإحسان، الذي علّم القرآن، وخلق الإنسان، فعلمه البيان. وأصلي وأسلم على النبي العدنان حامل لواء الفصاحة والبيان، وصاحب المقام المحمود بأشرف مكان، المرسل بالهداية والرحمة إلى الإنس والجان. وبعد؛ فقد كان من توفيق الله وفضله أن قمت بكتابة بعض التعليقات والحواشي على كتاب أسرار البلاغة لأوحد زمانه في علوم البلاغة العالم الجليل الأديب النحوي الفقيه المتكلم أبي بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني ت 471 أو 474 هـ، وهو من هو في رسوخ قدمه وعلو مكانته وتقدمه في هذا العلم الذي تناثرت كتابات الناس فيه قبله وكثرت؛ ولكنها على كثرتها كأن لم تكن شيئا بجانب ما صنف، فصار ينسب إليه وحده تأسيس هذا العلم وإقامة فسطاطه لما كانت له اليد الطولى في ضبطه ونصب فسطاطه. وكان من توفيق الله ومنّه وفضله أن أتم عليّ نعمته بتيسير التعليق على هذا الكتاب الآخر الفذ الذي لم يصنّف مثله في علوم البلاغة وهو كتابنا هذا الموسوم بدلائل الإعجاز، وهو كتاب بديع في بابه، تفرد فيه صاحبه بتأسيس نظرية النظم التي هي عمود الدراسات البلاغية، والتي لولا ما رسمه لها واختطته فيها من علامات هادية للسبيل لضلت خطى الناس من بعده في هذا العلم الضلال المبين. ولكن يأبى الله الكمال إلا لكتابه فلقد كان يفترض أن يكون هذا الكتاب هو المقدّم لدى دارس البلاغة في العصور التالية لزمان مصنفه، فحال دون ذلك ما جاء عليه الكتاب من عدم ترتيب صاحبه له الترتيب اللائق له، والاعتناء بتقسيم مباحثه، وتبويب أبوابه. وعذر المصنف في ذلك أنه كان منشغلا بالرد على متكلمي زمانه السابقين له

ممن تكلموا في أمر الفصاحة والبلاغة بغير علم كالقاضي عبد الجبار وغيره من أئمة المعتزلة، فكان ذلك هو شغله الشاغل، الذي صرف إليه جلّ همه وعزمه. ولو أن المصنف- رحمه الله- قصد إلى أن يكون كتابه كتابا تعليميا لكان على غير هذا الوضع، ولكن هذا شيء لم يقصد إليه. وهذا ما دعا المتأخرين بعد زمان عبد القاهر الذين أفادوا من كتابي عبد القاهر هذين كل الإفادة، أن يتداركوا هذا الأمر وأن ينظموا ما تناثر من درره في هذين الكتابين في نظام واحد في هذا التقسيم الثلاثي الصارم لعلوم البلاغة الذي أتى به أبو يعقوب يوسف السكاكي في كتابه (مفتاح العلوم) الذي بلغ به الغاية من دقة التقسيم والتبويب والترتيب على ما يؤخذ عليه من المبالغة في هذا التقسيم والترتيب واعتماده فيه حدود المنطق وقواعده. غير أنه لم يخل من عيب قاتل كذلك وهو جفاف مادته وعبارته، وشدّة إيجازه واقتضابه، وقلّة شواهده، وعدم اعتنائه بتحليل شواهده تحليلا بلاغيا أدبيا يضارع ما كان عليه أسلوب عبد القاهر من سلاسة ورقة وبهاء ورونق وهيهات هيهات فدونه وعبارة عبد القاهر وأسلوبه كما بين المشرق والمغرب. ورغم ما قصد إليه أبو يعقوب السكاكي من الغاية التعليمية بجمع القواعد وترتيب المباحث والتقسيم إلى فصول وأبواب وفنون، رغم ذلك كلّه فقد أخفق في غايته في تذليل علوم البلاغة للدارس بل سلك بها مسلكا مضادا لغاية البلاغة ومقصدها؛ فإذا كانت غاية البلاغة تنمية الذوق الأدبي والارتقاء به؛ فإن طريقة السكاكي ومن سلكوا دربه من بعده قد أورثت الذوق العربي في ذلك الوقت عقما لازمه إلى عصرنا هذا حتى استيقظ الناس من سباتهم تلك القرون وأدركوا أنهم قد ضلوا السبيل إلى الفصاحة والبلاغة والبيان، وقامت صحوة بلاغية عرفت لعبد القاهر حقه فراحت تلتمس خطاه، وتلتقط درره، وتستلهم روحه وأفكاره في بعث بلاغي جديد لحمته وسداه قضية النظم التي ما فتئ عبد القاهر يدندن عليها في كتابه هذا،. ولعلّ هذا يبين لنا سرّ الاهتمام بهذين الكتابين الجليلين للإمام عبد القاهر الجرجاني وكثرة تداولهما، والإقبال على نسخهما من طلاب البلاغة في عصرنا هذا. وهذا مما حفزني على الإقبال على الاعتناء بتخريج شواهد هذا الكتاب تخريجا مفصلا لا تجده في نشرة من نشراته السابقة، مع الاعتناء بشرح غريبه، وبيان

مراد مؤلفه من كلماته وألفاظه ما أمكن، مع ما تجود به القريحة من كلمة أو تعليق عفو الخاطر بعد ذلك، غير أننا قد حجبنا أكثر تعليقاتنا لنشرها في دراسة مستقلة لئلا يطول حجم الكتاب وتثقل تكلفته على مبتغيه من قرّائه وطلابه. ونشير هنا إلى أننا أفدنا كثيرا من تعليقات الفاضلين الشيخ رشيد رضا والشيخ محمود شاكر ونبهنا على ذلك مرارا «1». والله نسأل أن يوفق القائمين على صفه وضبطه ومراجعته بدار الكتب العلمية للعناية به وإخراجه في ثوبه اللائق به، وأن يجزي كل من أعان في إخراجه خير الجزاء. وكتبه د. عبد الحميد هنداوي المدرس بكلية دار العلوم غفر الله له ولوالديه وللمسلمين الجيزة في منتصف رمضان المعظم 1421 هـ

_ (1) أشرنا لما أثبتناه من تعليقات الشيخ رشيد بلفظ (رشيد) عقب التعليق، ولما أثبتناه من تعليقات أبي فهر بلفظ (شاكر).

[المدخل في دلائل الإعجاز- وهو مقدمة الكتاب لمؤلفه]

[المدخل في دلائل الإعجاز- وهو مقدمة الكتاب لمؤلفه] بسم الله الرحمن الرحيم توكّلت على الله وحده قال الشّيخ الإمام، مجد الإسلام، أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني رحمه الله تعالى. الحمد لله ربّ العالمين حمد الشاكرين، وصلواته على محمد سيّد المرسلين، وعلى آله أجمعين. هذا كلام وجيز يطّلع به الناظر على أصول النحو جملة، وكلّ ما به يكون النّظم دفعة «1»، وينظر منه في مرآة تريه الأشياء المتباعدة الأمكنة قد التقت له حتى رآها في مكان واحد، ويرى بها مشئما «2» قد ضمّ إلى معرق «3»، ومغرّبا قد أخذ بيد مشرّق، وقد وصلت بأخرة «4» إلى كلام من أصغى إليه وتدبّره تدبّر ذي دين وفتوّة «5»، دعاه إلى النّظر في الكتاب الذي وضعناه «6»، وبعثه على طلب ما دوّنّاه، والله تعالى الموفّق للصواب، والملهم لما يؤدّي إلى الرّشاد، بمنّه وفضله. قال رضي الله تعالى عنه: معلوم أن ليس النّظم سوى تعليق الكلم بعضها ببعض، وجعل بعضها بسبب «7» من بعض.

_ (1) الدفعة من المطر وغيره بالضم مثل الدّفقة، والدّفعة، بالفتح: المرة الواحدة. اه الصحاح مادة/ دفع/ (1/ 406). (2) أشأم الرجل والقوم: أتوا الشام أو ذهبوا إليها. اه اللسان مادة/ شأم/ (12/ 316). (3) مصدر أعرق الرجل فهو معرق إذا أخذ في بلد العراق أي أتاها. اه اللسان مادة/ عرق/ (10/ 348). (4) يقال: جاء فلان بأخرة بفتح الخاء، وما عرفته إلّا بأخرة، أي أخيرا. اه الصحاح مادة/ أخر/ (1/ 12). (5) الفتى: الشاب وجمعه فتاء والاسم منه فتوّة انقلبت الياء فيه واوا. اه اللسان مادة/ فتا/ (15/ 146). (6) الهاء في قوله وضعناه عائدة على كتاب «دلائل الإعجاز». (7) هو كلّ شيء يتوصّل به إلى غيره، والجمع أسباب. اه اللسان. مادة/ سبب/ (1/ 258).

والكلم ثلاث: اسم، وفعل، وحرف. وللتعليق فيما بينها طرق معلومة، وهو لا يعدو ثلاثة أقسام: تعلّق اسم باسم، وتعلّق اسم بفعل، وتعلّق حرف بهما. فالاسم يتعلّق بالاسم بأن يكون خبرا عنه، أو حالا منه، أو تابعا له صفة أو تأكيدا، أو عطف بيان، أو بدلا، أو عطفا بحرف، أو بأن يكون الأوّل مضافا إلى الثّاني، أو بأن يكون الأوّل يعمل في الثّاني عمل الفعل، ويكون الثاني في حكم الفاعل له أو المفعول. وذلك في اسم الفاعل كقولنا: «زيد ضارب أبوه عمرا» «1». وكقوله تعالى: أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها [النساء: 75]، وقوله تعالى: وَهُمْ يَلْعَبُونَ. لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ [الأنبياء: 2 - 3]، واسم المفعول كقولنا: «زيد مضروب غلمانه»، وكقوله تعالى: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ [هود: 105] والصفة المشبّهة كقولنا: «زيد حسن وجهه، وكريم أصله، وشديد ساعده»، والمصدر كقولنا: «عجبت من ضرب زيد عمرا»، وكقوله تعالى: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً [البلد: 14 - 15]، أو بأن يكون تمييزا قد جلاه، ومنتصبا عن تمام الاسم- ومعنى «تمام الاسم»، أن يكون فيه ما يمنع من الإضافة، وذلك بأن يكون فيه نون تثنية، كقولنا: «قفيزان «2» برّا»، أو نون جمع كقولنا: «عشرون درهما»، أو تنوين كقولنا: «راقود «3» خلّا»، و «ما في السّماء قدر راحة سحابا»، أو تقدير تنوين كقولنا: «خمسة عشر رجلا»، أو يكون قد أضيف إلى شيء، فلا يمكن إضافته مرّة أخرى، كقولنا: «لي ملؤه عسلا»، وكقوله تعالى: مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً [آل عمران: 91]. وأمّا تعلّق الاسم بالفعل، فبأن يكون فاعلا له، أو مفعولا، فيكون مصدرا قد انتصب به كقولك: «ضربت ضربا»، ويقال له المفعول المطلق. أو مفعولا به كقولك: «ضربت زيدا»، أو ظرفا مفعولا فيه، زمانا أو مكانا، كقولك: «خرجت يوم الجمعة، ووقفت أمامك»، أو مفعولا معه كقولنا: «جاء البرد والطّيالسة» و «لو تركت الناقة وفصيلها لرضعها»، أو مفعولا له «4» كقولنا: «جئتك إكراما لك، وفعلت ذلك

_ (1) فاعل لاسم الفاعل (ضارب) وعمرا: مفعول به (له). (2) القفيز: مكيال من المكاييل: معروف وهو ثمانية مكاكيك عند أهل العراق، وهو من الأرض قدر مائة وأربع وأربعين ذراعا. اه اللسان مادة «قفز» (5/ 395). (3) الراقود: دنّ طويل الأسفل كهيئة الإردبّة يسيّع داخله بالقار والجمع الرواقيد وهو معرّب. اه اللسان مادة/ رقد/ (3/ 183). (4) هو المفعول لأجله نحو «إكراما».

إرادة الخير بك»، وكقوله تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [النساء: 114]، أو بأن يكون منزّلا من الفعل منزلة المفعول، وذلك في خبر كان وأخواتها، والحال والتمييز المنتصب عن تمام الكلام، مثل: «طاب زيد نفسا، وحسن وجها، وكرم أصلا»، ومثله الاسم المنتصب على الاستثناء، كقولك: «جاءني القوم إلّا زيدا»، لأنّه من قبيل ما ينتصب عن تمام الكلام. وأما تعلّق الحرف بهما، فعلى ثلاثة أضرب: أحدها: أن يتوسّط بين الفعل والاسم، فيكون ذلك في حروف الجرّ التي من شأنها أن تعدّي الأفعال إلى ما لا تتعدّى إليه بأنفسها من الأسماء، مثل أنّك تقول: «مررت»، فلا يصل «1» إلى نحو «زيد، وعمرو»، فإذا قلت: «مررت بزيد، أو على زيد»، وجدته قد وصل «بالباء» أو «على». وكذلك سبيل الواو الكائنة بمعنى «مع» في قولنا: «لو تركت الناقة وفصيلها لرضعها»، بمنزلة حرف الجر في التوسّط بين الفعل والاسم وإيصاله إليه، إلّا أنّ الفرق أنّها لا تعمل بنفسها شيئا، لكنها تعين الفعل على عمله النّصب. وكذلك حكم «إلّا» في الاستثناء، فإنها عندهم بمنزلة هذه «الواو» الكائنة بمعنى «مع» في التوسط، وعمل النّصب في المستثنى للفعل، ولكن بوساطتها وعون منها. والضّرب الثاني من تعلّق الحرف بما يتعلّق به: «العطف»، وهو أن يدخل الثاني في عمل العامل في الأول، كقولنا: «جاءني زيد وعمرو» و «رأيت زيدا وعمرا»، و «مررت بزيد وعمرو». والضّرب الثالث: تعلّق بمجموع الجملة، كتعلّق حرف النّفي والاستفهام والشّرط والجزاء بما يدخل عليه، وذلك أن من شأن هذه المعاني أن تتناول ما تتناوله، وبعد أن يسند إلى شيء. معنى ذلك: أنك إذا قلت: «ما خرج زيد»، و «ما زيد خارج»، لم يكن النفي الواقع بها متناولا الخروج على الإطلاق، بل الخروج «2» واقعا من «زيد» ومسندا إليه. ولا يغرّنّك قولنا في نحو «لا رجل في الدار»: إنها لنفي الجنس، فإن المعنى في ذلك أنها لنفي الكينونة في الدار عن الجنس. ولو كان يتصوّر تعلّق النفي بالاسم

_ (1) أي: فلا يتعدى بنفسه. (2) بل كان الخروج.

المفرد، لكان الذي قالوه في كلمة التوحيد من أن التقدير فيها: «لا إله لنا، أو في الوجود، إلّا الله»، فضلا من القول، وتقديرا لما لا يحتاج إليه. وكذلك الحكم أبدا. وإذا قلت: «هل خرج زيد» لم تكن قد استفهمت عن الخروج مطلقا، ولكن عنه واقعا من «زيد». وإذا قلت: «إن يأتني زيد أكرمه»، لم تكن جعلت الإتيان شرطا، بل الإتيان من «زيد»، وكذا لم تجعل الإكرام على الإطلاق جزاء للإتيان، بل الإكرام واقعا منك. كيف؟ وذلك يؤدي إلى أشنع ما يكون من المحال، وهو أن يكون هاهنا إتيان من غير آت، وإكرام من غير مكرم، ثم يكون هذا شرطا وذلك جزاء. ومختصر كلّ الأمر أنه لا يكون كلام من جزء واحد، وأنه لا بدّ من مسند ومسند إليه، وكذلك السبيل في كل حرف رأيته يدخل على جملة، كإنّ وأخواتها، ألا ترى أنك إذا قلت: «كأنّ»، يقتضي مشبّها ومشبّها به؟ كقولك: «كأنّ زيدا الأسد». وكذلك إذا قلت «لو» و «لولا»، وجدتهما يقتضيان جملتين، تكون الثّانية جوابا للأولى. وجملة الأمر أنه لا يكون كلام من حرف وفعل أصلا، ولا من حرف واسم، إلا في النداء نحو: «يا عبد الله»، وذلك إذا حقّق الأمر كان كلاما بتقدير الفعل المضمر الذي هو «أعني» و «أريد» و «أدعو»، و «يا» دليل عليه، وعلى قيام معناه في النفس. فهذه هي الطرق والوجوه في تعلّق الكلم بعضها ببعض، وهي، كما تراها، معاني النحو وأحكامه. وكذلك السبيل في كلّ شيء كان له مدخل في صحّة تعلّق الكلم بعضها ببعض، لا ترى شيئا من ذلك يعدو أن يكون حكما من أحكام النحو ومعنى من معانيه، ثم إنّا نرى هذه كلّها موجودة في كلام العرب، ونرى العلم بها مشتركا بينهم. وإذا كان ذلك كذلك، فما جوابنا لخصم يقول لنا: إذا كانت هذه الأمور وهذه الوجوه من التعلّق التي هي محصول النظم، موجودة على حقائقها وعلى الصحة وكما ينبغي في منثور كلام العرب ومنظومه، ورأيناهم قد استعملوها وتصرّفوا فيها وكملوا بمعرفتها، وكانت حقائق لا تتبدّل ولا يختلف بها الحال؛ إذ لا يكون للاسم- بكونه خبرا لمبتدإ، أو صفة لموصوف، أو حالا لذي حال، أو فاعلا أو مفعولا لفعل في كلام- حقيقة «1» هي خلاف حقيقته في كلام آخر، فما هذا الذي تجدّد بالقرآن من

_ (1) اسم يكون مرفوع والتقدير (لا يكون حقيقة للاسم).

عظيم المزيّة، وباهر الفضل، والعجيب من الرّصف، حتى أعجز الخلق قاطبة، وحتى قهر من البلغاء والفصحاء القوى «1» والقدر «2»، وقيّد الخواطر والفكر، حتى خرست الشّقاشق «3»، وعدم نطق الناطق، وحتى لم يجر لسان، ولم يبن بيان، ولم يساعد إمكان، ولم ينقدح لأحد منهم زند، ولم يمض له حدّ، وحتى أسال الوادي عليهم عجزا، وأخذ منافذ القول عليهم أخذا؟ أيلزمنا أن نجيب هذا الخصم عن سؤاله، ونردّه عن ضلاله، وأن نطبّ لدائه، ونزيل الفساد عن رائه «4»؟ فإن كان ذلك يلزمنا، فينبغي لكل ذي دين وعقل أن ينظر في الكتاب الذي وضعناه «5»، ويستقصي التأمّل لما أودعناه، فإن علم أنه الطريق إلى البيان، والكشف عن الحجة والبرهان، تبع الحقّ وأخذ به، وإن رأى له طريقا غيره أومأ لنا إليه، ودلّنا عليه، وهيهات ذلك! وهذه أبيات في مثل ذلك: إنّي أقول مقالا لست أخفيه ... ولست أرهب خصما، إن بدا، فيه ما من سبيل إلى إثبات معجزة ... في النّظم، إلّا بما أصبحت أبديه «6» فما لنظم كلام أنت ناظمه ... معنى سوى حكم إعراب تزجّيه «7» اسم يرى وهو أصل للكلام، فما ... يتمّ من دونه قصد لمنشيه وآخر هو يعطيك الزّيادة في ... ما أنت تثبته أو أنت تنفيه تفسير ذلك: أنّ الأصل مبتدأ ... تلقى له خبرا من بعد تثنيه وفاعل مسند، فعل تقدّمه، ... إليه، يكسبه «8» وصفا ويعطيه هذان أصلان، لا تأتيك فائدة ... من منطق لم يكونا من مبانيه وما يزيدك من بعد التّمام، فما ... سلّطت فعلا عليه في تعدّيه

_ (1) وهي جمع «القوّة». اه اللسان مادة/ قوا/ (15/ 207). (2) مفردها القدر وهو القوّة. اه اللسان مادة/ قدر/ (5/ 76). (3) مفردها الشّقشقة: وهي لهاة البعير ولا تكون إلا للعربي منها. وقيل: هو شيء كالرئة يخرجها البعير من فيه إذا هاج والجمع الشقاشق ويقال للفصيح هدرت شقشقته. ومنه سمّي الخطباء شقاشق. اه اللسان مادة/ شقق/ (10/ 185). (4) أي: رأيه. (5) الهاء في قوله: وضعناه عائدة على هذا الكتاب «دلائل الإعجاز». (6) يريد بذلك نظم القرآن وأسلوبه وفي هذا البيت تصريح بأنه الواضع للفن. اه (عن الشيخ رشيد رضا). (7) زجّى الشيء تزجية دفعه برفق. اه مختار الصحاح مادة «زجا» (269). (8) يكسبه: من الثلاثي، ومنه الحديث «تكسب المعدوم» اه الشيخ رشيد رضا.

هذي قوانين تكفي من تشعّبها، ... ما يشبه البحر فيضا من نواجيه فلست تأتي إلى باب لتعلمه، ... إلّا انصرفت بعجز عن تقصّيه «1» هذا كذاك، وإن كان الذين ترى ... يرون أنّ المدى دان لباغيه «2» ثمّ الذي هو قصدي أن يقال لهم، ... بما يجيب الفتى خصما يماريه نقول: من أين أن لا نظم يشبهه ... وليس من منطق في ذاك يحكيه وقد علمنا بأنّ النظم ليس سوى ... حكم من النحو نمضي في توخّيه «3» لو نقّب الأرض باغ غير ذاك له ... معنى، وصعّد «4» يعلو في ترقّيه ما عاد إلّا بخسر في تطلّبه ... ولا رأى غير غيّ في تبغّيه «5» ونحن ما إن بثثنا الفكر ننظر في ... أحكامه ونروّي في معانيه كانت حقائق تلقى العلم مشتركا ... بها، وكلّا تراه نافذا فيه فليس معرفة من دون معرفة ... في كل ما أنت من باب تسمّيه ترى تصرّفهم في الكلّ مطّردا ... يجرونه باقتدار في مجاريه فما الذي زاد في هذا الذي عرفوا ... حتى غدا العجز يهمي «6» سيل واديه قولوا، وإلّا فأصغوا للبيان تروا ... كالصّبح منبلجا «7» في عين رائيه الحمد لله وحده، وصلواته على رسوله محمد وآله.

_ (1) أي: التتبع. (2) الباغي الطالب، والجمع بغاة وبغيان، وبغيتك الشيء طلبته لك. اه اللسان مادة/ بغا/ (14/ 67). (3) توخيت الشيء أتوخاه توخّيا إذا قصدت إليه وتعمدت فعله وتحريت فيه. اه اللسان مادة/ وخي/ (15/ 383). (4) صعّد: بالتشديد ارتقى. اه اللسان مادة «صعد» (3/ 251). (5) أي تطلبه كما مرّ. (6) همى الماء والدمع يهمي هميا وهميانا إذا سال. اه الصحاح (2/ 648) مادة «همي». (7) البلوج الإشراق تقول بلج الصبح يبلج بالضم أي أضاء، وانبلج وتبلّج مثله. اه الصحاح مادة/ بلج/ (1/ 108).

فاتحة المؤلف فى بيان مكانة العلم

فاتحة المؤلف فى بيان مكانة العلم بسم الله الرّحمن الرّحيم حسبي ربّي الحمد لله ربّ العالمين حمد الشاكرين، نحمده على عظيم نعمائه، وجميل بلائه، ونستكفيه نوائب الزمان، ونوازل الحدثان «1»، ونرغب إليه في التوفيق والعصمة، ونبرأ إليه من الحول والقوّة ونسأله يقينا يملأ الصّدر، ويعمر القلب، ويستولي على النفس، حتّى يكفّها إذا نزغت «2»، ويردّها إذا تطلّعت، وثقة بأنه عزّ وجلّ الوزر «3»، والكالئ والراعي والحافظ، وأنّ الخير والشّرّ بيده، وأن النّعم كلّها من عنده، وأن لا سلطان لأحد مع سلطانه، نوجّه رغباتنا إليه، ونخلص نيّاتنا في التوكّل عليه، وأن يجعلنا ممن همه الصدق، وبغيته الحقّ، وغرضه الصواب، وما تصحّحه العقول وتقبله الألباب، ونعوذ به من أن ندّعي العلم بشيء لا نعلمه، وأن نسدّي «4» قولا لا نلحمه، وأن نكون ممّن يغرّه الكاذب من الثناء، وينخدع للمتجوّز في الإطراء، وأن يكون سبيلنا سبيل من يعجبه أن يجادل بالباطل، ويموّه على السامع، ولا يبالي إذا راج عنه القول أن يكون قد خلّط فيه، ولم يسدّد في معانيه، ونستأنف الرغبة إليه عزّ وجلّ في الصلاة على خير خلقه، والمصطفى من بريّته، محمد سيد المرسلين، وعلى أصحابه الخلفاء الراشدين، وعلى آله الأخيار من بعدهم أجمعين. وبعد فإنّا إذا تصفّحنا الفضائل لنعرف منازلها في الشّرف، ونتبيّن مواقعها من العظم؛ ونعلم أيّ أحقّ منها بالتّقديم، وأسبق في استيجاب التعظيم، وجدنا العلم أولاها بذلك، وأوّلها هنالك؛ إذ لا شرف إلّا وهو السبيل إليه، ولا خير إلّا وهو الدّليل عليه، ولا منقبة «5» إلّا وهو ذروتها وسنامها، ولا مفخرة إلّا وبه صحّتها وتمامها. ولا

_ (1) حدثان الدهر وحوادثه نوبه وما يحدث منه. اه اللسان مادة/ حدث/ (2/ 132) والحدثان: الليل والنهار. (2) نزغ الشيطان بينهم ينزغ نزغا أي أفسد وأغرى. اه الصحاح مادة/ نزغ/ (2/ 556). (3) الوزر بفتحتين الملجأ. اه مختار الصحاح مادة/ وزر/ (718). (4) وهي خلاف لحمة الثوب وهو ما يمد طولا في النسج. اه اللسان مادة/ سدى/ (14/ 375). (5) المنقبة الفعل الكريم وهي ضد المثلبة. اه اللسان مادة/ نقب/ (1/ 768) بتصرف.

حسنة إلّا وهو مفتاحها؛ ولا محمدة إلّا ومنه يتّقد مصباحها، هو «1» الوفيّ إذا خان كلّ صاحب، والثقة إذا لم يوثق بناصح، لو لاه لما بان الإنسان من سائر الحيوان إلّا بتخطيط صورته، وهيئة جسمه وبنيته، لا، ولا وجد إلى اكتساب الفضل طريقا، ولا وجد بشيء من المحاسن خليقا. ذاك لأنّا وإن كنّا لا نصل إلى اكتساب فضيلة إلّا بالفعل، وكان لا يكون فعل إلّا بالقدرة، فإنّا لم نر فعلا زان فاعله وأوجب الفضل له، حتى يكون عن العلم صدره «2»، وحتى يتبيّن ميسمه «3» عليه وأثره. ولم نر قدرة قطّ كسبت صاحبها مجدا وأفادته حمدا، دون أن يكون العلم رائدها فيما تطلب، وقائدها حيث يؤمّ ويذهب، ويكون المصرّف لعنانها «4»؛ والمقلّب لها في ميدانها. فهي إذن مفتقرة في أن تكون فضيلة إليه، وعيال في استحقاق هذا الاسم عليه، وإذا هي خلت من العلم أو أبت أن تمتثل أمره؛ وتقتفي أثره ورسمه، آلت ولا شيء أحشد للذمّ على صاحبها منها، ولا «شين أشين «5»» من أعماله لها. فهذا في فضل العلم لا تجد عاقلا يخالفك فيه، ولا ترى أحدا يدفعه أو ينفيه. فأما المفاضلة بين بعضه وبعض، وتقديم فنّ منه على فنّ، فإنك ترى الناس فيه على آراء مختلفة، وأهواء متعادية، ترى كلّا منهم لحبّه نفسه، وإيثاره أن يدفع النقص عنها، يقدّم ما يحسن من أنواع العلم على ما لا يحسن، ويحاول الزّراية «6» على الذي لم يحظ به، والطّعن على أهله والغضّ منهم، ثم تتفاوت أحوالهم في ذلك، فمن مغمور قد استهلكه هواه، وبعد في الجور مداه، ومن مترجّح فيه بين الإنصاف والظلم، يجور تارة ويعدل أخرى في الحكم، فأمّا من يخلص في هذا المعنى من الحيف حتى لا يقضي إلّا بالعدل، وحتى يصدر في كل أمره عن العقل، فكالشيء الممتنع وجوده. ولم يكن ذلك كذلك، إلا لشرف العلم وجليل محلّه، وأنّ محبته مركوزة في الطباع، ومركّبة في النفوس، وأن الغيرة عليه لازمة للجبلّة، وموضوعة في

_ (1) أي: العلم. (2) وهو نقيض الورد. وهو الطريق إلى الماء للارتواء. اه اللسان مادة/ صدر/ (4/ 448). (3) هو اسم الآلة التي يوسم بها الدواب والجمع مواسم ومياسم. اه اللسان مادة/ وسم/ (12/ 636). (4) بكسر العين وهو السير الذي تمسك به الداية والجمع أعنّة. اه اللسان مادة/ عنن/ (13/ 291). (5) هو العيب. اه اللسان مادة/ شين/ (13/ 244). (6) زريت عليه وزرى عليه بالفتح زريا وزراية: عابه وعاتبه. اه الصحاح مادة/ زري/ (14/ 356).

الفطرة، وأنه لا عيب أعيب عند الجميع من عدمه، ولا ضعة أوضع من الخلوّ عنه، فلم يعاد إذن إلّا من فرط المحبة، ولم يسمح به إلا لشدة الضّنّ. ثم إنّك لا ترى علما هو أرسخ أصلا، وأبسق «1» فرعا، وأحلى جنى، وأعذب وردا، وأكرم نتاجا، وأنور سراجا، من علم البيان، الذي لولاه لم تر لسانا يحوك الوشي، ويصوغ الحلي، ويلفظ الدّرّ، وينفث السّحر، ويقري الشّهد «2»، ويريك بدائع من الزّهر، ويجنيك الحلو اليانع من الثّمر، والذي لولا تحفّيه بالعلوم، وعنايته بها، وتصويره إيّاها، لبقيت كامنة مستورة، ولما استبنت لها يد الدهر «3» صورة، ولاستمرّ السّرار «4» بأهلّتها، واستولى الخفاء على جملتها، إلى فوائد لا يدركها الإحصاء، ومحاسن لا يحصرها الاستقصاء. إلّا أنّك لن ترى على ذلك نوعا من العلم قد لقي من الضّيم ما لقيه، ومني من الحيف بما مني به، ودخل على الناس من الغلط في معناه ما دخل عليهم فيه، فقد سبقت إلى نفوسهم اعتقادات فاسدة وظنون رديّة، وركبهم فيه جهل عظيم وخطأ فاحش، ترى كثيرا منهم لا يرى له معنى أكثر ممّا يرى للإشارة بالرأس والعين، وما يجده للخطّ والعقد «5»، يقول: إنّما هو خبر واستخبار، وأمر ونهي، ولكل من ذلك لفظ قد وضع له، وجعل دليلا عليه، فكل من عرف أوضاع لغة من اللغات، عربية كانت أو فارسية، وعرف المغزى من كلّ لفظة، ثم ساعده اللسان على النطق بها، وعلى تأدية أجراسها وحروفها، فهو بين في تلك اللغة، كامل الأداة، بالغ من البيان المبلغ الذي لا مزيد عليه، منته إلى الغاية التي لا مذهب بعدها. يسمع الفصاحة والبلاغة والبراعة فلا يعرف لها معنى سوى الإطناب في القول، وأن يكون المتكلم في ذلك جهير الصوت، جاري اللسان، لا تعترضه لكنة «6»، ولا تقف به حبسة «7»،

_ (1) بسق النخل بسوقا أي طال. اه الصحاح مادة/ بسق/ (1/ 93). (2) وهو العسل ما دام لم يعصر من شمعه واحدته شهدة. اه اللسان مادة/ شهد/ (3/ 243). (3) وهي الأبد وقولهم: لا أفعله يد الدهر أي: أبدا. (4) بفتح السين وكسرها آخر ليلة في الشهر وتقول: استسر القمر أي خفي ليلة السرار. اه اللسان مادة/ سرر/ بتصرف (4/ 357). (5) قال في اللسان: قال الحربي: الخط هو أن يخط ثلاثة خطوط ثم يضرب عليهن بشعير أو نوى ويقول: يكون كذا وكذا وهو ضرب من الكهانة. اه اللسان مادة/ خطط/ (7/ 288). والعقد: التفاهم بعقد الأصابع. (6) اللكنة: هي عجمة في اللسان وعيّ. اه. اللسان مادة/ لكن/ (13/ 390). (7) وهي تعذر الكلام عند إرادته. اه اللسان. مادة/ حبس/ (6/ 46).

وأن يستعمل اللفظ الغريب، والكلمة الوحشيّة، فإن استظهر للأمر وبالغ في النظر، فأن لا يلحن فيرفع في موضع النصب، أو يخطئ فيجيء باللفظة على غير ما هي عليه في الوضع اللغويّ، وعلى خلاف ما ثبتت به الرواية عن العرب. وجملة الأمر أنه لا يرى النقص يدخل على صاحبه في ذلك، إلّا من جهة نقصه في علم اللغة، لا يعلم أن هاهنا دقائق وأسرارا طريق العلم بها الرّويّة والفكر، ولطائف مستقاها العقل، وخصائص معان ينفرد بها قوم قد هدوا إليها، ودلّوا عليها، وكشف لهم عنها، ورفعت الحجب بينهم وبينها، وأنّها السبب في أن عرضت المزيّة في الكلام، ووجب أن يفضل بعضه بعضا، وأن يبعد الشأو في ذلك، وتمتدّ الغاية، ويعلو المرتقى، ويعزّ المطلب، حتّى ينتهي الأمر إلى الإعجاز، وإلى أن يخرج من طوق البشر. ولما لم تعرف هذه الطائفة هذه الدقائق، وهذه الخواصّ واللطائف، لم تتعرّض لها ولم تطلبها، ثمّ عنّ لها بسوء الاتفاق رأي صار حجازا بينها وبين العلم بها وسدّا دون أن تصل إليها وهو أن ساء اعتقادها في الشعر الذي هو معدنها، وعليه المعوّل فيها، وفي علم الإعراب الذي هو لها كالناسب الذي ينميها إلى أصولها، ويبيّن فاضلها من مفضولها، فجعلت تظهر الزّهد في كل واحد من النوعين، وتطرح كلّا من الصنفين، وترى التشاغل عنهما أولى من الاشتغال بهما، والإعراض عن تدبرهما أصوب من الإقبال على تعلّمهما. أما الشّعر فخيّل إليها أنه ليس فيه كثير طائل، وأن ليس إلّا ملحة «1» أو فكاهة، أو بكاء منزل أو وصف طلل، أو نعت ناقة أو جمل، أو إسراف قول في مدح أو هجاء، وأنه ليس بشيء تمسّ الحاجة إليه في صلاح دين أو دنيا. وأما النّحو، فظنّته ضربا من التكلّف، وبابا من التعسّف، وشيئا لا يستند إلى أصل، ولا يعتمد فيه على عقل، وأنّ ما زاد منه على معرفة الرّفع والنّصب وما يتّصل بذلك مما تجده في المبادئ، فهو فضل لا يجدي نفعا، ولا تحصل منه على فائدة، وضربوا له المثل بالملح كما عرفت «2»، إلى أشباه لهذه الظنون في القبيلين، وآراء لو علموا مغبّتها وما تقود إليه؛ لتعوّذوا بالله منها، ولأنفوا لأنفسهم من الرّضا بها، ذاك

_ (1) وهي الكلمة الطيبة وهي المليحة. اه اللسان. مادة/ ملح/ (2/ 602). (2) وهو قولهم: «النحو في الكلام كالملح في الطعام». إذ المعنى أن الكلام لا يستقيم ولا تحصل منافعه التي هي الدلالات على المقاصد إلّا بمراعاة أحكام النحو من الإعراب والترتيب الخاص.

لأنه بإيثارهم الجهل بذلك على العلم، في معنى الصادّ عن سبيل الله، والمبتغي إطفاء نور الله تعالى. وذاك أنّا إذا كنّا نعلم- أن الجهة التي منها قامت الحجة بالقرآن وظهرت، وبانت وبهرت، هي أن كان على حدّ من الفصاحة تقصر عنه قوى البشر، ومنتهيا إلى غاية لا يطمح إليها بالفكر، وكان محالا أن يعرف كونه كذلك، إلّا من عرف الشّعر الذي هو ديوان العرب، وعنوان الأدب، والذي لا يشكّ أنّه كان ميدان القوم إذا تجاروا في الفصاحة والبيان، وتنازعوا فيهما قصب الرّهان، ثم بحث عن العلل التي بها كان التباين في الفضل، وزاد بعض الشعر على بعض- كان الصّادّ «1» عن ذلك صادّا عن أن تعرف حجة الله تعالى، وكان مثله مثل من يتصدّى للناس فيمنعهم عن أن يحفظوا كتاب الله تعالى ويقوموا به ويتلوه ويقرءوه، ويصنع في الجملة صنيعا يؤدّي إلى أن يقلّ حفّاظه والقائمون به والمقرءون له. ذاك لأنّا لم نتعبّد بتلاوته وحفظه، والقيام بأداء لفظه على النّحو الذي أنزل عليه، وحراسته من أن يغيّر ويبدّل، إلّا لتكون الحجة به قائمة على وجه الدهر، تعرف في كل زمان، ويتوصّل إليها في كل أوان، ويكون سبيلها سبيل سائر العلوم التي يرويها الخلف عن السّلف، ويأثرها الثاني عن الأوّل، فمن حال بيننا وبين ما له كان حفظنا إيّاه، واجتهادنا في أن نؤدّيه ونرعاه، كان كمن رام أن ينسيناه جملة ويذهبه من قلوبنا دفعة، فسواء من منعك الشيء الذي تنتزع منه الشاهد والدليل، ومن منعك السبيل إلى انتزاع تلك الدلالة، والاطّلاع على تلك الشهادة، ولا فرق بين من أعدمك الدواء الذي تستشفى به من دائك، وتستبقي به حشاشة نفسك، وبين من أعدمك العلم بأنّ فيه شفاء، وأنّ لك فيه استبقاء. فإن قال منهم قائل: إنك قد أغفلت فيما رتّبت، فإنّ لنا طريقا إلى إعجاز القرآن غير ما قلت، وهو علمنا بعجز العرب عن أن يأتوا بمثله وتركهم أن يعارضوه، مع تكرار التّحدّي عليهم، وطول التقريع لهم بالعجز عنه «2». ولأن الأمر كذلك، ما «3» قامت به الحجّة على العجم قيامها على العرب، واستوى الناس قاطبة، فلم يخرج الجاهل بلسان العرب من أن يكون محجوجا بالقرآن. قيل له: خبرنا عما اتّفق عليه المسلمون من اختصاص نبيّنا صلى الله عليه وسلم بأن كانت

_ (1) قوله: كان الصاد. جواب إذا في قوله: «وذاك أنّا إذا كنا نعلم» في بداية الفقرة. (2) مثال ذلك قوله تعالى في سورة الإسراء الآية (17): قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً. (3) ما هنا مصدرية.

فصل في الكلام على من زهد في رواية الشعر وحفظه، وذم الاشتغال بعلمه وتتبعه

معجزته باقية على وجه الدهر، أتعرف له معنى غير أن لا يزال البرهان منه لائحا معرضا لكل من أراد العلم به، وطلب الوصول إليه، والحجة فيه وبه ظاهرة لمن أرادها، والعلم بها ممكنا لمن التمسه؟ فإذا كنت لا تشك في أن لا معنى لبقاء المعجزة بالقرآن إلّا أنّ الوصف الذي له كان معجزا قائم فيه أبدا، وأنّ الطريق إلى العلم به موجود، والوصول إليه ممكن، فانظر أيّ رجل تكون إذا أنت زهدت في أن تعرف حجّة الله تعالى، وآثرت فيه الجهل على العلم، وعدم الاستبانة على وجودها، وكان التقليد فيها أحبّ إليك، والتعويل على علم غيرك آثر لديك، ونحّ الهوى عنك، وراجع عقلك، واصدق نفسك، يبن لك فحش الغلط فيما رأيت، وقبح الخطأ في الذي توهّمت. وهل رأيت رأيا أعجز، واختيارا أقبح، ممّن كره أن تعرف حجة الله تعالى من الجهة التي إذا عرفت منها كانت أنور وأبهر، وأقوى وأقهر، وآثر أن لا يقوى سلطانها على الشّرك كلّ القوة، ولا تعلو على الكفر كل العلوّ؟ والله المستعان. فصل في الكلام على من زهد في رواية الشعر وحفظه، وذمّ الاشتغال بعلمه وتتبّعه لا يخلو من كان هذا رأيه من أمور: أحدها: أن يكون رفضه وذمّه إياه من أجل ما يجده فيه من هزل أو سخف، وهجاء وسبّ وكذب وباطل على الجملة. والثاني: أن يذمّه لأنه موزون مقفّى، ويرى هذا بمجرّده عيبا يقتضي الزّهد فيه والتّنزّه عنه «1». والثالث: أن يتعلّق بأحوال الشعراء وأنها غير جميلة في الأكثر، ويقول: قد ذمّوا في التنزيل. وأيّ كان من هذه رأيا له، فهو في ذلك على خطأ ظاهر وغلط فاحش، وعلى خلاف ما يوجبه القياس والنّظر، وبالضّد مما جاء به الأثر، وصحّ به الخبر. أمّا من زعم أنّ ذمّه له من أجل ما يجد فيه من هزل وسخف وكذب وباطل،

_ (1) وهو قوله تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ [الشعراء: 224 - 225].

فينبغي أن يذمّ الكلام كلّه، وأن يفضّل الخرس على النّطق، والعيّ على البيان. فمنثور كلام الناس على كل حال أكثر من منظومه، والذي زعم أنه ذمّ الشعر من أجله وعاداه بسببه فيه أكثر، لأن الشعراء في كل عصر وزمان معدودون، والعامّة ومن لا يقول الشعر من الخاصّة عديد الرمل. ونحن نعلم أن لو كان منثور الكلام يجمع كما يجمع المنظوم، ثم عمد عامد فجمع ما قيل من جنس الهزل والسخف نثرا في عصر واحد، لأربى على جميع ما قاله الشعراء نظما في الأزمان الكثيرة، ولغمره حتى لا يظهر فيه. ثم إنّك لو لم ترو من هذا الضرب شيئا قطّ، ولم تحفظ إلا الجدّ المحض، وإلا ما لا معاب عليك في روايته، وفي المحاضرة به، وفي نسخه وتدوينه، لكان في ذلك غنى ومندوحة «1»، ولوجدت طلبتك ونلت مرادك، وحصل لك ما نحن ندعوك إليه من علم الفصاحة، فاختر لنفسك، ودع ما تكره إلى ما تحبّ. هذا، وراوي الشعر حاك، وليس على الحاكي عيب، ولا عليه تبعة، إذا هو لم يقصد بحكايته أن ينصر باطلا، أو يسوء مسلما، وقد حكى الله تعالى كلام الكفار. فانظر إلى الغرض الذي له روي الشعر، ومن أجله أريد، وله دوّن، تعلم أنك قد زغت عن المنهج، وأنك مسيء في هذه العداوة، وهو العصبية منك على الشعر. وقد استشهد العلماء لغريب القرآن وإعرابه بالأبيات فيها الفحش، وفيها ذكر الفعل القبيح، ثم لم يعبهم ذلك؛ إذ كانوا لم يقصدوا إلى ذلك الفحش ولم يريدوه، ولم يرووا الشعر من أجله. قالوا: وكان الحسن البصريّ رحمه الله يتمثّل في مواعظه بالأبيات من الشعر، وكان من أوجعها عنده: [من الكامل] اليوم عندك دلّها وحديثها ... وغدا لغيرك كفّها والمعصم «2» وفي الحديث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ذكره المرزبانيّ «3» في كتابه

_ (1) وهي الكثرة والسعة. اه القاموس مادة/ الندح/. (2) أبيات تمثل بها عند ذمّه لبعض النساء ومنها: لا تأمنن أنثى حياتك واعلمن ... أن النساء ومالهنّ مقسّم اليوم عندك دلّها وحديثها ... وغدا لغيرك كفّها والمعصم كالخان تسكنه وتصبح غاديا ... ويحلّ بعدك فيه من لا تعلم انظر شرح الحماسة للتبريزي 3/ 119، وأمالي الشريف 1/ 160. والدّلّ قريب المعنى من الهدي، وهما من السكينة والوقار في الهيئة، والدّلّ: حسن الحديث وحسن المزاح، ودلّ المرأة تدلّلها على زوجها. والخان: الحانوت، وقيل الخان: الذي للتّجار. اللسان (دلل)، (خون). (3) هو محمد بن عمران بن موسى المرزباني البغدادي ولد سنة 296 هـ، وتوفي سنة 384 هـ. كان راوية للآداب وهو صاحب «معجم الشعراء». اه شذرات الذهب (3/ 111).

بإسناد، عن عبد الملك بن عمير أنه قال: أتي عمر رضوان الله عليه بحلل من اليمن، فأتاه محمد بن جعفر بن أبي طالب، ومحمد بن أبي بكر الصدّيق، ومحمد بن طلحة ابن عبيد الله، ومحمد بن حاطب، فدخل عليه زيد بن ثابت رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، هؤلاء المحمّدون بالباب يطلبون الكسوة. فقال: ائذن لهم يا غلام. فدعا بحلل، فأخذ زيد أجودها حلّة وقال: هذه لمحمد بن حاطب، وكانت أمّه عنده، وهو من بني لؤيّ، فقال عمر رضي الله عنه: أيهات أيهات «1»! وتمثّل بشعر عمارة بن الوليد: [من الطويل] أسرّك لمّا صرّع القوم نشوة ... خروجي منها سالما غير غارم بريئا، كأنّي قبل لم أك منهم ... وليس الخداع مرتضى في التّنادم «2» ردّها. ثم قال: ائتني بثوب فألقه على هذه الحلل. وقال: أدخل يدك فخذ حلّة وأنت لا تراها، فأعطهم. قال عبد الملك: فلم أر قسمة أعدل منها «3». وعمارة، هذا: هو «عمارة بن الوليد بن المغيرة»، خطب امرأة من قومه «4» فقالت لا أتزوجك أو تترك الشراب. فأبى، ثم اشتدّ وجده بها فحلف لها أن لا يشرب، ثم مرّ بخمار عنده شرب يشربون، فدعوه فدخل عليهم وقد أنفدوا ما عندهم، فنحر لهم ناقته وسقاهم ببرديه، ومكثوا أياما، ثم خرج فأتى أهله، فلما رأته امرأته قالت: ألم تحلف أن لا تشرب؟ فقال: ولسنا بشرب أمّ عمرو إذا انتشوا ... ثياب النّدامى عندهم كالغنائم ولكنّنا يا أمّ عمرو نديمنا ... بمنزلة الرّيّان ليس بعائم «5»

_ (1) وهي لغة في هيهات بمعنى بعد وهي اسم فعل ماض. (2) الأبيات في الأغاني 18/ 131. والصّرع: الطرح بالأرض، والصّرع: علة معروفة، يقال: رجل صريع ومصروع، والجمع: صرعى، ومصارع القوم: حيث قتلوا. اللسان مادة: (صرع). وغارم: من الغرم: الدّين، ورجل غارم: عليه دين. اللسان مادة: (غرم). (3) ذكره أبو الفرج في الأغاني (18/ 62)، والمرزباني في كتابه «معجم الشعراء» (76). (4) انظر الأغاني (18/ 123). (5) البيتان في الأغاني (18/ 128)، ومعجم الشعراء للمرزباني (247). والشّرب والشّروب: القوم يشربون ويجتمعون على الشراب ومفردها شارب وشروب، والشّريب: المولع بالشراب. والانتشاء: أول السّكر ومقدماته، وقيل: هو السكر نفسه، ورجل نشوان: بيّن النشوة، وانتشى كله: سكر فهو نشوان. اللسان (نشا). والنديم تجمع على ندامى. ونادمه منادمة ونداما: جالسه على الشراب والندم. القاموس المحيط (ندم).

أسرّك، البيتين؟ فإذن ربّ هزل صار أداة في جدّ، وكلام جرى في باطل ثمّ استعين به على حقّ، كما أنه ربّ شيء خسيس، توصّل به إلى شريف، بأن ضرب مثلا فيه، وجعل مثالا له، كما قال أبو تمام: [من الكامل] والله قد ضرب الأقلّ لنوره ... مثلا من المشكاة والنّبراس «1» وعلى العكس، فربّ كلمة حق أريد بها باطل «2»، فاستحقّ عليها الذمّ، كما عرفت من خبر الخارجي مع علي رضوان الله عليه. وربّ قول حسن لم يحسن من قائله حين تسبّب به إلى قبيح، كالذي حكى الجاحظ قال: «رجع طاوس «3» يوما عن مجلس محمد بن يوسف «4»، وهو يومئذ والي اليمن فقال: ما ظننت أنّ قول: «سبحان الله» يكون معصية لله تعالى حتى كان اليوم، سمعت رجلا أبلغ ابن يوسف عن رجل كلاما، فقال رجل من أهل المجلس: «سبحان الله»، كالمستعظم لذلك الكلام، «ليغضب ابن يوسف» «5». فبهذا ونحوه فاعتبر، واجعله حكما بينك وبين الشّعر. وبعد، فكيف وضع من الشّعر عندك، وكسبه المقت منك، أنك وجدت فيه الباطل والكذب وبعض ما لا يحسن، ولم يرفعه في نفسك، ولم يوجب له المحبة من قلبك، أن كان فيه الحقّ والصّدق والحكمة وفصل الخطاب، وأن كان مجنى ثمر العقول والألباب، ومجتمع فرق الآداب، والذي قيّد على الناس المعاني الشريفة، وأفادهم الفوائد الجليلة، وترسّل بين الماضي والغابر، ينقل مكارم الأخلاق إلى الولد عن الوالد، ويؤدّي ودائع الشرف عن الغائب إلى الشاهد، حتّى ترى به آثار الماضين، مخلّدة في الباقين، وعقول الأوّلين، مردودة في الآخرين، وترى لكل من رام الأدب، وابتغى الشّرف، وطلب محاسن القول والفعل، منارا مرفوعا وعلما منصوبا وهاديا مرشدا، ومعلّما مسدّدا، وتجد فيه للنّائي عن طلب المآثر، والزاهد في اكتساب

_ (1) البيت لأبي تمام في ديوانه، والتبيان ص (368) بتحقيق د. عبد الحميد هنداوي. والنبراس: المصباح والسراج مشتق من النبرس: القطن. اللسان (نبرس). كذلك ذكر الجوهري في الصحاح أن النبراس هو المصباح. (2) قالها الإمام علي في جواب رجل من الخوارج دعا إلى التحكيم. انظر تاريخ الطبري (5/ 72). (3) وهو التابعي المشهور، المتوفى سنة 106 هـ، بمكة في عهد هشام بن عبد الملك. اه سير أعلام النبلاء (5/ 38). (4) وهو أخو الحجاج توفي سنة 91 هـ. الأعلام: (7/ 147). (5) الخبر في البيان والتبيين، (1/ 395)، أورده في باب: «ما ذكروا فيه من أن أثر السيف يمحو أثر الكلام».

المحامد، داعيا ومحرّضا، وباعثا ومحضّضا، ومذكّرا ومعرّفا، وواعظا ومثقّفا. فلو كنت ممّن ينصف كان في بعض ذلك ما يغيّر هذا الرأي منك، وما يحدوك على رواية الشعر وطلبه، ويمنعك أن تعيبه أو تعيب به، ولكنك أبيت إلّا ظنّا سبق إليك، وإلا بادي رأي عنّ لك «1»، فأقفلت عليك قلبك، وسددت عما سواه سمعك، فعيّ النّاصح بك، وعسر على الصديق الخليط تنبيهك. نعم، وكيف رويت: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا، فيريه، خير له من أن يمتلئ شعرا» «2»، ولهجت به، وتركت قوله صلى الله عليه وسلم: «إنّ من الشّعر لحكمة وإنّ من البيان لسحرا» «3» وكيف نسيت أمره صلى الله عليه وسلم بقول الشعر، ووعده. عليه الجنة، وقوله لحسان: «قل وروح القدس معك» «4»، وسماعه له، واستنشاده إيّاه، وعلمه صلى الله عليه وسلم به، واستحسانه له، وارتياحه عند سماعه؟. أمّا أمره به، فمن المعلوم ضرورة، وكذلك سماعه إيّاه، فقد كان حسّان وعبد الله بن رواحة وكعب بن زهير يمدحونه، ويسمع منهم، ويصغي إليهم، ويأمرهم بالردّ على المشركين، فيقولون في ذلك ويعرضون عليه. وكان عليه السلام يذكر لهم بعض ذلك، كالذي روي من أنه صلى الله عليه وسلم قال لكعب: «ما نسي ربّك، وما كان ربّك نسيّا، شعرا قلته»، قال: وما هو يا رسول الله؟ قال: أنشده يا أبا بكر. فأنشده أبو بكر رضوان الله عليه: [من الكامل] زعمت سخينة أن ستغلب ربّها ... وليغلبنّ مغالب الغلّاب «5» وأمّا استنشاده إيّاه فكثير، من ذلك الخبر المعروف في استنشاده، حين استسقى فسقي، قول أبي طالب: [من الطويل]

_ (1) أي ظهر أمامك. ا. هـ القاموس مادة/ عنّ/ 1570. (2) أخرجه البخاري في الأدب (92)، ومسلم في الشعر (97)، وأبو داود في الأدب (87). (3) أخرجه البخاري في الأدب (69)، وابن ماجة في الأدب (41)، وأحمد بن حنبل في المسند (3/ 456). (4) أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده (4/ 297)، والبخاري في الصلاة (68)، بلفظ (اللهم أيده بروح القدس). (5) البيت في ديوان كعب بن مالك: (178 - 182)، والأغاني (16/ 246)، وانظر طبقات فحول الشعراء رقم (305). والسّخينة: لقب قريش لأنها كانت تعاب بأكل السخينة، وهي الدقيق يلقى على ماء أو لبن فيطبخ ثم يؤكل بتمر أو يحسى وهو الحساء. انظر اللسان (سخن).

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى، عصمة للأرامل يطيف به الهلّاك من آل هاشم، ... فهم عنده في نعمة وفواضل «1» الأبيات. وعن الشعبي رضي الله عنه، عن مسروق، عن عبد الله قال: لما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القتلى يوم بدر مصرّعين فقال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه: لو أنّ أبا طالب حيّ لعلم أن أسيافنا قد أخذت بالأنامل» «2». قال: وذلك لقول أبي طالب: كذبتم، وبيت الله، إن جدّ ما أرى ... لتلتبسن أسيافنا بالأنامل وينهض قوم في الدّروع إليهم ... نهوض الرّوايا في طريق حلاحل «3» ومن المحفوظ في ذلك حديث محمّد بن مسلمة الأنصاري، جمعه وابن أبي حدرد الأسلمي الطريق، قال: فتذاكرنا الشّكر والمعروف، قال فقال محمد: كنا يوما عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال لحسان بن ثابت: أنشدني قصيدة من شعر الجاهلية، فإنّ الله تعالى قد وضع عنا آثامها في شعرها وروايته، فأنشده قصيدة للأعشى هجا بها علقمة بن علاثة: [من السريع]

_ (1) البيتان من قصيدة لأبي طالب والذي يخبر قومه فيها أن لن يترك محمدا أبدا حتى يهلك دونه. انظر السيرة النبوية لابن هشام (1/ 256 - 262)، وانظر طبقات فحول الشعراء رقم (366) والتعليق عليه وثمال اليتامى: غياثهم. وثملهم ثملا: أطعمهم وسقاهم وقام بأمرهم فهو غياث لهم وعماد. عصمة للأرامل: العصمة: الحفظ، وعصمه الطعام: منعه من الجوع، والمقصود أنه يمنعهن ويحفظهنّ. والهلّاك: جمع هالك والمقصود الفقير. قال الشاعر: ترى الأرامل والهلّاك تتبعه ... يستنّ منه عليهم وابل رزم يعني الفقراء. انظر اللسان (عصم) (هلك). (2) أخرجه الطبراني في الكبير (10/ 10313)، والبزار في مسنده (1/ 297). (3) البيتان على غير هذا الترتيب في القصيدة كما جاءت في سيرة ابن هشام وعلى غير الرواية أيضا. فرواية الأوّل: وإنّا لعمر الله إن جدّ ما أرى ... لتلتبس أسيافنا بالأماثل والأماثل: جمع أمثل وهو الأفضل، أي أن السيوف تضرب أعناق أشرافهم فتصرعهم. ورواية الثاني: وينهض قوم في الحديد إليكم ... نهوض الرّوايا تحت ذات الصلاصل الرّوايا: جمع راوية وهو البعير أو البغل أو الحمار الذي يستقى عليه الماء، والرجل المستقي أيضا راوية. و «ذات الصلاصل» هي القرب فيها بقايا الماء، واحدها: صلصلة بضم الصادين وهي بقية الماء في الإداوة والقربة. يريد أن قومه ينهضون مثقلين بالحديد تسمع لهم قعقعة كصلصلة الماء في المزادات. انظر اللسان (روي).

علقم ما أنت إلى عامر ... النّاقض الأوتار والواتر «1» فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا حسّان لا تعد تنشدني هذه القصيدة بعد مجلسك هذا». فقال: يا رسول الله، تنهاني عن رجل مشرك مقيم عند قيصر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا حسّان، أشكر الناس للناس أشكرهم لله تعالى، وإنّ قيصر سأل أبا سفيان ابن حرب عنّي فتناول منّي» - وفي خبر آخر: «فشعّث منّي» «2» - وإنه سأل هذا عنّي فأحسن القول. فشكره رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك. وروي من وجه آخر أنّ حسان قال: يا رسول الله، من نالتك يده وجب علينا شكره. ومن المعروف في ذلك خبر عائشة رضوان الله عليها أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يقول: أبياتك. فأقول: [من الكامل] ارفع ضعيفك، لا يحربك ضعفه ... يوما فتدركه العواقب قد نمى يجزيك، أو يثني عليك، وإنّ من ... أثنى عليك بما فعلت فقد جزى «3» قالت فيقول عليه السلام: يقول الله تبارك وتعالى لعبد من عبيده: صنع إليك عبدي معروفا فهل شكرته عليه؟ فيقول: يا ربّ، علمت أنه منك فشكرتك عليه. قال فيقول الله عزّ وجلّ: «لم تشكرني، إذ لم تشكر من أجريته على يده» «4». وأمّا علمه عليه السلام بالشعر، فكما روي أن سودة أنشدت «5»: عديّ وتيم تبتغي من تحالف فظنّت عائشة وحفصة رضي الله عنهما أنّها عرّضت بهما، وجرى بينهنّ كلام في هذا المعنى، فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فدخل عليهن وقال: «يا ويلكنّ، ليس في عديّكنّ «6» ولا تيمكنّ «7» قيل هذا، وإنّما قيل هذا في عديّ تميم وتيم تميم». وتمام هذا الشعر وهو لقيس بن معدان الكليبيّ، من بني يربوع: [من الطويل]

_ (1) البيت للأعشى في ديوانه ص (105). (2) أخرجه ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج (73). (3) البيتان للسموءل (غريض اليهودي). الأغاني (3/ 109، 111، 126). (4) أخرجه الطبراني في الصغير (1/ 163). (5) روى هذا الخبر القالي في أماليه (1/ 241، 242). (6) أي عدي قريش ومنهم عمر بن الخطاب. (7) أي تيم قريش ومنهم أبو بكر.

فحالف، ولا والله تهبط تلعة ... من الأرض إلّا أنت للذّلّ عارف ألا من رأى العبدين، أو ذكرا له؟ ... عديّ وتيم تبتغي من تحالف «1» وروى الزّبير بن بكّار «2» قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر رضي الله عنه برجل يقول في بعض أزقّة مكة: [من الكامل] يا أيّها الرجل المحوّل رحله ... هلّا نزلت بآل عبد الدّار فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر، أهكذا قال الشاعر؟ قال: لا، يا رسول الله، ولكنه قال: يا أيّها الرّجل المحوّل رحله ... هلّا سألت عن آل عبد مناف «3» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هكذا كنّا نسمعها. وأمّا ارتياحه صلى الله عليه وسلم للشعر واستحسانه له، فقد جاء فيه الخبر من وجوه. من ذلك حديث النّابغة الجعدي قال: أنشدت رسول الله صلى الله عليه وسلم قولي: [من الطويل] بلغنا السّماء، مجدنا وجدودنا ... وإنّا لنرجو فوق ذلك مظهرا «4» فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أين المظهر يا أبا ليلى؟ فقلت: الجنّة، يا رسول الله. قال: أجل إن شاء الله. ثم قال: أنشدني، فأنشدته من قولي: ولا خير في حلم، إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدّرا ولا خير في جهل، إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا «5»

_ (1) البيتان لقيس بن معدان الكليبي. والتلعة: أرض مرتفعة غليظة يتردد فيها السيل ثم يندفع إلى أخرى أسفل منها والجمع: تلاع. انظر اللسان (تلع). وقوله: «عارف» من قولهم «عرف للأمر، واعترف» صبر له وذلّ وانقاد. (2) هو أبو عبد الله القرشي الأسدي المكي. عالم بالأنساب وأخبار العرب ولي قضاء مكة، توفي سنة 256 هـ. اه سير أعلام النبلاء (12/ 311). (3) البيت لمطرود بن كعب الخزاعي وهو مطلع قصيدة. في رثاء عبد المطلب وبني عبد مناف. ا. هـ السيرة النبوية (1/ 163). (4) البيت للنابغة الجعدي في ديوانه، الأغاني (5/ 12)، ومظهرا: يعني مصعدا، والظهر من الأرض، ما غلظ وارتفع، وفي الحديث عن عائشة: كان يصلي العصر في حجرتي قبل أن تظهر، تعني الشمس أي: تعلو وترتفع. انظر اللسان (ظهر). (5) في ديوانه، وانظر الأغاني (5/ 13)، وبادرة السيف: شباته، والبادرة: الحدّة، وهو ما يبدر من حدة الرجل عند غضبه من قول أو فعل، والجمع: بوادر. انظر اللسان (بدر).

فقال صلى الله عليه وسلم: أجدت، لا يفضض الله فاك. قال الراوي: فنظرت إليه، فكأنّ فاه البرد المنهلّ، ما سقطت له سنّ ولا انفلّت، ترفّ غروبه «1». ومن ذلك حديث كعب بن زهير. روي أن كعبا وأخاه بجيرا خرجا إلى رسول صلى الله عليه وسلم حتى بلغا أبرق العزّاف «2»، فقال كعب لبجير: الق هذا الرجل وأنا مقيم هاهنا، فانظر ما يقول. وقدم بجير على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرض عليه الإسلام فأسلم، وبلغ ذلك كعبا، فقال فى ذلك شعرا، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه فكتب إليه بجبر يأمره أن يسلم ويقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقول إنّ من شهد أن لا الله وأن محمدا رسول الله، قبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسقط ما كان قبل ذلك قال: فقدم كعب وأنشد النبي صلى الله عليه وسلم قصيدته المعروفة: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيّم إثرها، لم يفد، مغلول وما سعاد غداة البين إذ رحلت ... إلّا أغنّ غضيض الطّرف مكحول تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت ... كأنّه منهل بالرّاح معلول سحّ السّقاة عليها ماء محنية ... من ماء أبطح أضحى وهو مشمول ويلمها خلّة لو أنّها صدقت ... موعودها، أو لو أنّ النّصح مقبول «3»

_ (1) انفلّت: أي انكسرت. رفّ: برق وتلألأ. غروب: حدة الأسنان ترف غروبه: تتلألأ أسنانه. اه الصحاح: مادة/ فلّ/ (2/ 260)، مادة/ غرب/ (2/ 191)، مادة/ رفف/ (1/ 496). (2) وهو ماء لبني أسد بين البصرة والمدينة 1/ 68، 4/ 108 (معجم البلدان). والخبر موجود في السيرة النبوية. (3) الأبيات من ديوان كعب بن زهير، وانظر طبقات فحول الشعراء رقم (117، 118)، وفي الأغاني (17/ 85 - 94). وجاء البيت الأول في الأغاني بقافية مخالفة وهي «مكبول» المقصود: المكبّل بالقيد. والتبل: أن يسقم الهوى الإنسان، وقيل: تبله تبلا: ذهب بعقله. انظر اللسان (تبل). متيّم: التّيم: أن يستعبده الهوى، ورجل متيّم. وقيل التّيم: ذهاب العقل وفساده. اللسان (تيم). البين: الفراق. اللسان (بين). أغنّ: ظبي صغير في صوته حسن. مكحول: بعينيه كحل. تجلو: تصقل وتكشف. العوارض: جمع عارضة: الأسنان. ظلم: ماء الأسنان وبريقها ورقتها، المنهل: الشرب الأوّل. الرّاح: الخمر، اسم لها. اللسان (روح). وجاء البيت الرابع منها من رواية مشهورة بلفظ: شجت بذى شيم من ماء محنية ... صاف بأبطح أضحى وهو مشمول وسحّ: صبّ الماء صبّا متتابعا. المحنية من الوادي: منعرجه حيث ينعطف عن السّند. اللسان: مادة (حنا). أبطح: من البطح: البسط، والأبطح: مسيل واسع فيه دقاق الحصى، والأبطح قد يعني: أبطح مكة، والخلة: كل نبت حلو، وقيل: الأرض التي لا حمض بها، وقيل: خبز الإبل. انظر اللسان (بطح)، (خلل)، وانظر الإسعاد (شرح بانت سعاد).

حتى أتى على آخرها، فلما بلغ مديح رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الرّسول لسيف يستضاء به ... مهنّد من سيوف الله مسلول في فتية من قريش قال قائل ... ببطن مكّة، لمّا أسلموا: زولوا زالوا، فما زال أنكاس ولا كشف ... عند اللقاء، ولا ميل معازيل لا يقع الطّعن إلّا في نحورهم ... وما بهم عن حياض الموت تهليل شمّ العرانين أبطال، لبوسهم ... من نسج داود في الهيجا، سرابيل «1» أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحلق أن اسمعوا. قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون من أصحابه مكان المائدة من القوم، يتحلّقون حلقة دون حلقة، فيلتفت إلى هؤلاء وإلى هؤلاء. والأخبار فيما يشبه هذا كثيرة، والأثر به مستفيض. وإن زعم أنه ذمّ الشعر من حيث هو موزون مقفّى، حتى كأنّ الوزن عيب، وحتى كأن الكلام إذا نظم نظم الشعر، اتّضع في نفسه، وتغيرت حاله، فقد أبعد، وقال قولا لا يعرف له معنى، وخالف العلماء في قولهم: «إنّما الشّعر كلام فحسنه حسن، وقبيحه قبيح» «2»، وقد روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا أيضا. فإن زعم أنه إنّما كره الوزن، لأنه سبب، لأن يتغنّى في الشعر ويتلهّى به، فإنّا إذا كنا لم ندعه إلى الشعر من أجل ذلك، وإنما دعوناه إلى اللّفظ الجزل، والقول الفصل، والمنطق الحسن، والكلام البيّن، وإلى حسن التمثيل والاستعارة، وإلى التلويح والإشارة، وإلى صنعة تعمد إلى المعنى الخسيس فتشرّفه، وإلى الضّئيل فتفخّمه، وإلى النّازل فترفعه، وإلى الخامل فتنوّه به، وإلى العاطل «3» فتحلّيه، وإلى المشكل فتجلّيه، فلا متعلّق له علينا بما ذكر، ولا ضرر علينا فيما أنكر، فليقل في الوزن ما شاء،

_ (1) انظر السابق، ومهنّد: أي مطبوع في الهند، ومسلول: أي مخرج من غمده. زولوا: تحوّلوا وانتقلوا عن مكة إلى المدينة. أنكاس: جمع نكس وهو الرجل الضعيف المهين. كشف: جمع أكشف وهو الشجاع الذي لا ينهزم في الحرب. ميل: جمع أميل، الذي لا سيف له، والذي لا يحسن الركوب. معازيل: الذين لا سلاح معهم، والمفرد معزال. شمّ: جمع أشم، الذي في قصبة أنفه علو مع استواء أعلاه علامة السيادة والكرم. عرانين: جمع عرنين وهو الأنف تحت مجتمع الحاجبين، وقيل: ما صلب من عظمه. اللبوس: ما يلبس من السلاح. نسج داود: الدروع. الهيجا: الحرب. انظر الإسعاد (شرح بانت سعاد) (113، 114). (2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (5/ 68) بنحوه. (3) عطلت المرأة: تعطل عطلا وعطولا وتعطلت إذا لم يكن عليها حلي، ولم تلبس الزينة. اه اللسان/ عطل/ (11/ 453).

وليضعه حيث أراد، فليس يعنينا أمره، ولا هو مرادنا من هذا الذي راجعنا القول فيه. وهذا هو الجواب لمتعلق إن تعلّق بقوله تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ [يس: 69]، وأراد أن يجعله حجّة في المنع من الشعر، ومن حفظه وروايته. وذاك أنّا نعلم أنه صلى الله عليه وسلم لم يمنع الشعر من أجل أن كان قولا فصلا، وكلاما جزلا، ومنطقا حسنا، وبيانا بيّنا، كيف؟ وذلك يقتضي أن يكون الله تعالى قد منعه البيان والبلاغة، وحماه الفصاحة والبراعة، وجعله لا يبلغ مبلغ الشعراء في حسن العبارة وشرف اللفظ. وهذا جهل عظيم، وخلاف لما عرفه البلغاء وأجمعوا عليه من أنّه صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب، وإذا بطل أن يكون المنع من أجل هذه المعاني، وكنا قد أعلمناه أنّا ندعوه إلى الشعر من أجلها، ونجدوه بطلبه على طلبها، كان الاعتراض بالآية محالا والتعلّق بها خطلا من الرأي وانحلالا. فإن قال: إذا قال الله تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ [يس: 69]، فقد كره للنبي صلى الله عليه وسلم الشعر ونزّهه عنه بلا شبهة، وهذه الكراهة وإن كانت لا تتوجّه إليه من حيث هو كلام، ومن حيث أنه بليغ بيّن وفصيح حسن ونحو ذلك، فإنها تتوجّه إلى أمر لا بدّ لك من التلبّس به في طلب ما ذكرت أنه مرادك من الشعر، وذلك أنه لا سبيل لك إلى أن تميّز كونه كلاما عن كونه شعرا، حتى إذا رويته التبست به من حيث هو كلام، ولم تلتبس به من حيث هو شعر، هذا محال، وإذا كان لا بدّ من ملابسة موضع الكراهة، فقد لزم العيب برواية الشّعر وإعمال اللّسان فيه. قيل له: هذا منك كلام لا يتحصّل. وذلك أنه لو كان الكلام إذا وزن حطّ ذلك من قدره، وأزرى به، وجلب على المفرغ له في ذلك القالب إثما، وكسبه ذمّا، لكان من حقّ العيب فيه أن يكون على واضع الشّعر، أو من يريده لمكان الوزن خصوصا، دون من يريده لأمر خارج منه، ويطلبه لشيء سواه. فأمّا قولك: إنك لا تستطيع أن تطلب من الشعر ما لا يكره حتى تلتبس بما يكره، فإني إذا لم أقصده من أجل ذلك المكروه، ولم أرده له، وأردته لأعرف به مكان بلاغة، وأجعله مثالا في براعة، أو أحتجّ به في تفسير كتاب وسنّة، وأنظر إلى نظمه ونظم القرآن، فأرى موضع الإعجاز، وأقف على الجهة التي منها كان، وأتبيّن الفصل والفرقان، فحقّ «1» هذا التلبّس أن لا يعتدّ عليّ ذنبا، وأن لا أؤاخذ به، إذ لا تكون مؤاخذة حتى يكون عمد إلى أن تواقع المكروه وقصد «2» إليه، وقد تتبع العلماء الشّعوذة والسحر، وعنوا بالتوقّف على حيل المموّهين، ليعرفوا فرق ما بين

_ (1) سياق العبارة كما يلي: فإني إذا لم أقض ... والجواب فحق هذا التلبس. (2) اسم معطوف على عمد.

المعجزة والحيلة، فكان ذلك منهم من أعظم البرّ؛ إذ كان الغرض كريما والقصد شريفا. هذا، وإذا نحن رجعنا إلى ما قدّمنا من الأخبار، وما صحّ من الآثار، وجدنا الأمر على خلاف ما ظنّ هذا السائل، ورأينا السبيل في منع النبي صلى الله عليه وسلم الوزن، وأن ينطلق لسانه بالكلام الموزون، غير ما ذهبوا إليه، وذاك أنّه لو كان منع تنزيه وكراهة، لكان ينبغي أن يكره له سماع الكلام موزونا، وأن ينزّه سمعه عنه كما نزّه لسانه، ولكان صلى الله عليه وسلم لا يأمر به ولا يحثّ عليه، وكان الشاعر لا يعان على وزن الكلام وصياغته شعرا، ولا يؤيّد فيه بروح القدس. وإذا كان هذا كذلك، فينبغي أن يعلم أن ليس المنع في ذلك منع تنزيه وكراهة، بل سبيل الوزن في منعه عليه السلام إياه سبيل الخطّ، حين جعل عليه السلام لا يقرأ ولا يكتب، في أن لم يكن المنع من أجل كراهة كانت في الخطّ، بل لأن تكون الحجة أبهر وأقهر، والدلالة أقوى وأظهر، ولتكون أكعم «1» للجاحد، وأقمع للمعاند، وأردّ لطالب الشبهة، وأمنع من ارتفاع الريبة. وأما التعلّق بأحوال الشعراء بأنه قد ذمّوا في كتاب الله تعالى، فما أرى عاقلا يرضى به أن يجعله حجّة في ذمّ الشعر وتهجينه، والمنع من حفظه وروايته، والعلم بما فيه من بلاغة، وما يختصّ به من أدب وحكمة، ذاك لأنه يلزم على قود «2» هذا القول أن يعيب العلماء في استشهادهم بشعر امرئ القيس وأشعار أهل الجاهليّة في تفسير القرآن، وفي غريبه وغريب الحديث، وكذلك يلزمه أن يدفع سائر ما تقدّم ذكره من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالشّعر، وإصغائه إليه، واستحسانه له. هذا ولو كان يسوغ ذمّ القول من أجل قائله، وأنه يحمل ذنب الشاعر على الشعر، لكان ينبغي أن يخصّ ولا يعمّ، وأن يستثنى، فقد قال الله عزّ وجلّ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً [الشعراء: 227]. ولولا أن القول يجرّ بعضه بعضا، وأنّ الشيء يذكر لدخوله في القسمة، لكان حقّ هذا ونحوه أن لا يتشاغل به، وأن لا يعاد ويبدأ في ذكره. وأمّا زهدهم في النحو واحتقارهم له، وإصغارهم أمره، وتهاونهم به، فصنيعهم

_ (1) أكعم اسم تفضيل من «كعم». كعم البعير: قيل شدّ فاه في هياجه لئلا يعض أو يأكل. اه اللسان/ كعم/ (12/ 522). (2) أي: على سياقه.

في ذلك أشنع من صنيعهم في الذي تقدّم، وأشبه بأن يكون صدّا عن كتاب الله، وعن معرفة معانية، ذاك لأنهم لا يجدون بدّا من أن يعترفوا بالحاجة إليه فيه؛ إذ كان قد علم أنّ الألفاظ مغلقة على معانيها حتى يكون الإعراب هو الذي يفتحها، وأنّ الأغراض كامنة فيها حتى يكون هو المستخرج لها، وأنه المعيار الذي لا يتبيّن نقصان كلام ورجحانه حتى يعرض عليه، والمقياس الذي لا يعرف صحيح من سقيم حتى يرجع إليه، لا ينكر ذلك إلّا من ينكر حسّه، وإلا من غالط في الحقائق نفسه، وإذا كان الأمر كذلك، فليت شعري ما عذر من تهاون به وزهد فيه، ولم ير أن يستقيه من مصبّه، ويأخذه من معدنه، ورضي لنفسه بالنقص والكمال لها معرض، وآثر الغبينة وهو يجد إلى الرّبح سبيلا. فإن قالوا: إنّا لم نأب صحّة هذا العلم، ولم ننكر مكان الحاجة إليه في معرفة كتاب الله تعالى، وإنما أنكرنا أشياء كثّر تموه بها، وفضول قول تكلّفتموها، ومسائل عويصة تجشّمتم الفكر فيها، ثم لم تحصلوا على شيء أكثر من أن تغربوا على السامعين، وتعايوا بها الحاضرين. قيل لهم: خبرونا عمّا زعمتم أنه فضول قول، وعويص لا يعود بطائل، ما هو؟ فإن بدءوا فذكروا مسائل التصريف التي يضعها النحويون للرياضة، ولضرب من تمكين المقاييس في النفوس، كقولهم: كيف تبني من كذا كذا؟ وكقولهم: ما وزن كذا؟ - وتتبّعهم في ذلك الألفاظ الوحشيّة،، كقولهم: ما وزن «عزويت» «1»؟ وما وزن «أرونان» «2»؟ وكقولهم في باب ما لا ينصرف: لو سميت رجلا بكذا، كيف يكون الحكم؟ - وأشباه ذلك، وقالوا: أتشكّون أنّ ذلك لا يجدي إلّا كدّ الفكر وإضاعة الوقت؟. قلنا لهم: أمّا هذا الجنس، فلسنا نعيبكم إن لم تنظروا فيه ولم تعنوا به، وليس يهمّنا أمره، فقولوا: فيه ما شئتم، وضعوه حيث أردتم، فإن تركوا ذلك وتجاوزوه إلى الكلام على أغراض واضع اللغة، على وجه الحكمة في الأوضاع، وتقرير المقاييس التي اطّردت عليها، وذكر العلل التي اقتضت أن تجرى على ما أجريت عليه، كالقول

_ (1) عزويت، على وزن فعليت. قال ابن سيده: وإنما حكمنا عليه بأنه فعليت لوجود نظيره وهو عفريت ونفريت. اه اللسان/ عزا/ (15/ 54). (2) تقول: يوم أرونان: شديد في كل شيء. وزنه أفوعال وهو من الرنين فيما ذهب إليه ابن الأعرابي، وهو عند سيبويه أفعلان من قولك: كشف الله عنك رونة هذا الأمر أي غمّته وشدته. اللسان/ رنن/ (13/ 187)

في المعتلّ، وفيما يلحق الحروف الثلاثة التي هي الواو والياء والألف من التغيير بالإبدال والحذف والإسكان، أو ككلامنا مثلا على التثنية وجمع السلامة، لم كان إعرابهما على خلاف إعراب الواحد، ولم تبع النصب فيهما الجرّ؟ وفي «النون» أنّه عوض عن الحركة والتنوين في حال، وعن الحركة وحدها في حال. والكلام على ما ينصرف وما لا ينصرف، ولم كان منع الصرف؟ وبيان العلّة فيه، والقول على الأسباب التّسعة وأنها كلّها ثوان لأصول، وأنه إذا حصل منها اثنان في اسم، أو تكرّر سبب، صار بذلك ثانيا من جهتين، وإذا صار كذلك أشبه الفعل، لأن الفعل ثان للاسم، والاسم المقدّم والأوّل، وكلّ ما جرى هذا المجرى؟. قلنا: إنّا نسكت عنكم في هذا الضرب أيضا، نعذركم فيه ونسامحكم على علم منّا بأن قد أسأتم الاختيار، ومنعتم أنفسكم ما فيه الحظّ لكم، ومنعتموها الاطّلاع على مدارج الحكمة، وعلى العلوم الجمّة. فدعوا ذلك، وانظروا في الذي اعترفتم بصحّته وبالحاجة إليه، هل حصلتموه على وجهه؟ وهل أحطتم بحقائقه؟ وهل وفّيتم كل باب منه حقّه، وأحكمتموه إحكاما يؤمنكم الخطأ فيه إذا أنتم خضتم في التفسير، وتعاطيتم على التأويل، ووازنتم بين بعض الأقوال وبعض، وأردتم أن تعرفوا الصّحيح من السقيم، وعدتم في ذلك وبدأتم، وزدتم ونقصتم؟. وهل رأيتم؛ إذ قد عرفتم صورة المبتدأ والخبر، وأن إعرابهما الرفع، أن تتجاوزوا ذلك إلى أن تنظروا في أقسام خبره، فتعلموا أنه يكون مفردا وجملة، وأن المفرد ينقسم إلى ما يحتمل ضميرا له، وإلى ما لا يحتمل الضمير، وأنّ الجملة على أربعة أضرب، وأنه لا بدّ لكل جملة وقعت خبرا لمبتدإ من أن يكون فيها ذكر يعود إلى المبتدأ، وأن هذا الذّكر ربما حذف لفظا وأريد معنى، وأنّ ذلك لا يكون حتى يكون في الحال دليل عليه، إلى سائر ما يتّصل بباب الابتداء من المسائل اللطيفة والفوائد الجليلة التي لا بدّ منها؟. وإذا نظرتم في الصّفة مثلا، فعرفتم أنها تتبع الموصوف، وأنّ مثالها قولك: «جاءني رجل ظريف» و «مررت بزيد الظريف»، هل ظننتم أنّ وراء ذلك علما، وأنّ هاهنا صفة تخصّص، وصفة توضّح وتبيّن، وأن فائدة التّخصيص غير فائدة التوضيح، كما أنّ فائدة الشّياع «1» غير فائدة الإبهام، وأن من الصفة صفة لا يكون فيها

_ (1) شاع الشيب شيعا وشياعا وشيعانا وشيوعا، أي ظهر وتفرق. وشاع الخبر: انتشر وذاع وظهر. اه اللسان/ شيع/ (8/ 191).

تخصيص ولا توضيح، ولكن يؤتى بها مؤكّدة كقولهم: «أمس الدّابر» وكقوله تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ [الحاقة: 13]، وصفة يراد بها المدح والثناء، كالصفات الجارية على اسم الله تعالى جدّه؟ وهل عرفتم الفرق بين الصفة والخبر، وبين كل واحد منهما وبين الحال؟ وهل عرفتم أن هذه الثلاثة تتفق في أن كافّتها لثبوت المعنى للشيء، ثم تختلف في كيفية ذلك الثبوت؟. وهكذا ينبغي أن تعرض عليهم الأبواب كلّها واحدا واحدا، ويسألوا عنها بابا بابا، ثم يقال لهم: ليس إلّا أحد أمرين: إمّا أن تقتحموا التي لا يرضاها العاقل، فتنكروا أن يكون بكم حاجة في كتاب الله تعالى، وفي خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي معرفة الكلام جملة، إلى شيء من ذلك، وتزعموا أنّكم إذا عرفتم مثلا أنّ الفاعل رفع، لم يبق عليكم في باب الفاعل شيء تحتاجون إلى معرفته. وإذا نظرتم إلى قولنا: «زيد منطلق»، لم تحتاجوا من بعده إلى شيء تعلمونه في الابتداء والخبر، وحتّى تزعموا مثلا أنكم لا تحتاجون في أن تعرفوا وجه الرفع في الصَّابِئُونَ من سورة المائدة: [69]، إلى ما قاله العلماء فيه، وإلى استشهادهم فيه بقول الشاعر: [من الوافر] وإلّا فاعلموا أنّا وأنتم ... بغاة ما بقينا في شقاق «1» وحتى كأنّ المشكل على الجميع غير مشكل عندكم، وحتّى كأنكم قد أوتيتم أن تستنبطوا من المسألة الواحدة من كل باب مسائله كلّها، فتخرجوا إلى فنّ من التجاهل لا يبقى معه كلام. وإمّا أن تعلموا أنك قد أخطأتم حين أصغرتم أمر هذا العلم، وظننتم ما ظننتم فيه، فترجعوا إلى الحق وتسلّموا الفضل لأهله، وتدعوا الذي يزري بكم، ويفتح باب العيب عليكم، ويطيل لسان القادح فيكم، وبالله التوفيق. هذا، ولو أن هؤلاء القوم؛ إذ تركوا هذا الشأن تركوه جملة، وإذ زعموا أن قدر المفتقر إليه القليل منه، اقتصروا على ذلك القليل، فلم يأخذوا أنفسهم بالفتوى فيه، والتصرّف فيما لم يتعلّموا منه، ولم يخوضوا في التفسير، ولم يتعاطوا التأويل، لكان

_ (1) البيت لبشر بن أبي خازم في ديوانه، والإنصاف (1/ 190)، وسيبويه (1/ 290)، ومعاني القرآن للفراء (1/ 311)، والخزانة (4/ 315)، وشرح التصريح (1/ 228)، والمقاصد النحوية (2/ 271)، وشرح المفصل (8/ 69)، وبلا نسبة في أسرار العربية (ص 154) ..

البلاء واحدا، ولكانوا إذ لم يبنوا لم يهدموا، وإذ لم يصلحوا لم يكونوا سببا للفساد، ولكنهم لم يفعلوا، فجلبوا من الدّاء ما أعيى الطبيب، وحيّر اللبيب، وانتهى التخليط بما أتوه فيه، إلى حدّ يئس من تلافيه، فلم يبق للعارف الذي يكره الشّغب إلا التعجب والسكوت. وما الآفة العظمى إلا واحدة، وهي أن يجيء من الإنسان ويجري لفظه «1»، ويمشي له أن يكثّر في غير تحصيل، وأن يحسّن البناء على غير أساس، وأن يقول الشيء لم يقتله علما، ونسأل الله الهداية ونرغب إليه في العصمة. ثمّ إنّا وإن كنّا في زمان هو على ما هو عليه من إحالة الأمور عن جهاتها، وتحويل الأشياء عن حالاتها،، ونقل النفوس عن طباعها، وقلب الخلائق المحمودة إلى أضدادها، ودهر ليس للفضل وأهله لديه إلا الشر صرفا والغيظ بحتا، وإلا ما يدهش عقولهم ويسلبهم معقولهم، حتى صار أعجز الناس رأيا عند الجميع، من كانت له همة في أن يستفيد علما، أو يزداد فهما، أو يكتسب فضلا، أو يجعل له ذلك بحال شغلا، فإنّ الإلف من طباع الكريم. وإذا كان من حق الصديق عليك، ولا سيّما إذا تقادمت صحبته وصحّت صداقته، أن لا تجفوه بأن تنكبك الأيام، وتضجرك النوائب، وتحرجك محن الزمان، فتتناساه جملة، وتطويه طيّا، فالعلم- الذي هو صديق لا يحول عن العهد، ولا يدغل «2» في الودّ، وصاحب لا يصحّ عليه النّكث والغدر، ولا تظنّ به الخيانة والمكر- أولى منك بذلك وأجدر، وحقّه عليك أكبر. ثم إن التّوق إلى أن تقرّ الأمور قرارها، وتوضع الأشياء مواضعها، والنّزاع «3» إلى بيان ما يشكل، وحلّ ما ينعقد، والكشف عمّا يخفى، وتلخيص الصّفة حتى يزداد السامع ثقة بالحجة، واستظهارا على الشبهة، واستبانة للدليل، وتبيّنا «4» للسبيل، شيء في سوس «5» العقل، وفي طباع النفس إذا كانت نفسا. ولم أزل منذ خدمت العلم أنظر فيما قاله العلماء في معنى «الفصاحة»، و «البلاغة»، و «البيان» و «البراعة»، وفي بيان المغزى من هذه العبارات، وتفسير المراد بها، فأجد بعض ذلك كالرمز والإيماء والإشارة في خفاء، وبعضه كالتنبيه على

_ (1) أي يكثر من الكلام دون فائدة. (2) وهو بالتحريك: الفساد. اللسان/ دغل/ (11/ 344). (3) نزع يده أخرجها ونزع إلى أهله نزاعة ونزاعا بالكسر، ونزوعا بالضم، أي اشتاق. القاموس/ نزع/ (989). (4) «وتبيينا». (5) هو الأصل والطبع والخلق والسجية. ا. هـ اللسان/ سوس/ (6/ 108).

مكان الخبيء ليطلب، وموضع الدّفين ليبحث عنه فيخرج، وكما يفتح لك الطريق إلى المطلوب لتسلكه، وتوضع لك القاعدة لتبني عليها. ووجدت المعوّل على أن هاهنا نظما وترتيبا، وتأليفا وتركيبا، وصياغة وتصويرا، ونسجا وتحبيرا، وأنّ سبيل هذه المعاني في الكلام الذي هي مجاز فيه، سبيلها في الأشياء التي هي حقيقة فيها، وأنه كما يفضل هناك النظم النظم، والتأليف التأليف، والنسج النسج، والصياغة الصياغة، ثم يعظم الفضل، وتكثر المزيّة، حتى يفوق الشيء نظيره والمجانس له درجات كثيرة، وحتى تتفاوت القيم التفاوت الشديد، كذلك يفضل بعض الكلام بعضا، ويتقدّم منه الشيء الشيء، ثم يزداد فصله ذلك ويترقى منزلة فوق منزلة، ويعلو مرقبا بعد مرقب، ويستأنف له غاية بعد غاية، حتى ينتهي إلى حيث تنقطع الأطماع، وتحسر الظنون «1»، وتسقط القوى، وتستوي الأقدام في العجز. وهذه جملة قد يرى في أوّل الأمر وبادئ الظنّ، أنها تكفي وتغني، حتى إذا نظرنا فيها، وعدنا وبدأنا، وجدنا الأمر على خلاف ما حسبناه، وصادفنا الحال على غير ما توهّمناه، وعلمنا أنّهم لئن أقصروا اللفظ لقد أطالوا المعنى، وأن لم يغرقوا في النّزع «2»، لقد أبعدوا على ذاك في المرمى. وذاك أنّه يقال لنا: ما زدتم على أن سقتم قياسا، فقلتم: نظم ونظم، وترتيب وترتيب، ونسج ونسج، ثم بنيتم عليه أنه ينبغي أن تظهر المزيّة في هذه المعاني هاهنا، حسب ظهورها هناك، وأن يعظم الأمر في ذلك كما عظم ثمّ، وهذا صحيح كما قلتم، ولكن بقي أن تعلمونا مكان المزيّة في الكلام، وتصفوها لنا، وتذكروها ذكرا كما ينصّ الشيء ويعيّن، ويكشف عن وجهه ويبيّن، ولا يكفي أن تقولوا: إنّه خصوصية في كيفية النظم، وطريقة مخصوصة في نسق الكلم بعضها على بعض، حتى تصفوا تلك الخصوصية وتبيّنوها، وتذكروا لها أمثلة، وتقولوا: «مثل كيت وكيت»، كما يذكر لك من تستوصفه عمل الدّيباج المنقّش ما تعلم به وجه دقّة الصنعة، أو يعمله بين يديك، حتى ترى عيانا- كيف تذهب تلك الخيوط وتجيء؟ وماذا يذهب منها طولا وماذا يذهب منها عرضا؟ وبم يبدأ وبم يثنّي وبم يثلّث؟ - وتبصر «3» من الحساب الدقيق ومن عجيب تصرّف اليد، ما تعلم معه مكان الحذق وموضع الأستاذية.

_ (1) حسر الشيء حسورا: انكشف وحسر البصر يحسره حسورا انحلّ وانقطع من طول المدى. القاموس/ حسر/ (479). (2) كناية عن بلوغ الهدف. (3) الكلام قبلها اعتراض. وتبصر معطوفة على (حتى ترى عيانا وتبصر).

ولو كان قول القائل لك في تفسير الفصاحة: «إنها خصوصية في نظم الكلم وضمّ بعضها إلى بعض على طريق مخصوصة، أو على وجوه تظهر بها الفائدة»، أو ما أشبه ذلك من القول المجمل، كافيا في معرفتها، ومغنيا في العلم بها، لكفى مثله في معرفة الصناعات كلّها. فكان يكفي في معرفة نسج الديباج الكثير التّصاوير أن تعلم أنه ترتيب للغزل على وجه مخصوص، وضمّ لطاقات الإبريسم «1» بعضها إلى بعض على طرق شتّى. وذلك ما لا يقوله عاقل. وجملة الأمر أنك لن تعلم في شيء من الصّناعات علما تمرّ فيه وتحلي، حتى تكون ممن يعرف الخطأ فيها من الصواب، ويفصل بين الإساءة والإحسان، بل حتّى تفاضل بين الإحسان والإحسان، وتعرف طبقات المحسنين. وإذا كان هذا هكذا، علمت أنه لا يكفي في علم «الفصاحة» أن تنصب لها قياسا ما، وأن تصفها وصفا مجملا، وتقول فيها قولا مرسلا، بل لا تكون من معرفتها في شيء، حتى تفصّل القول وتحصّل، وتضع اليد على الخصائص التي تعرض في نظم الكلم وتعدّها واحدة واحدة، وتسمّيها شيئا شيئا، وتكون معرفتك معرفة الصّنع الحاذق الذي يعلم علم كل خيط من الإبريسم الذي في الديباج، وكلّ قطعة من القطع المنجورة في الباب المقطّع، وكل آجرّة من الآجرّ الذي في البناء البديع. وإذا نظرت إلى «الفصاحة» هذا النظر، وطلبتها هذا الطّلب، احنجت إلى صبر على التأمّل، ومواظبة على التدبّر، وإلى همة تأبى لك أن تقنع إلا بالتّمام، وأن تربع «2» إلّا بعد بلوغ الغاية، ومتى جشمت «3» ذلك، وأبيت إلا أن تكون هنالك، فقد أممت «4» إلى غرض كريم، وتعرّضت لأمر جسيم، وآثرت التي هي أتمّ لدينك وفضلك، وأنبل عند ذوي العقول الراجحة لك، وذلك أن تعرف حجّة الله تعالى من الوجه الذي هو أضوأ لها وأنوه «5» لها، وأخلق بأن يزداد نورها سطوعا، وكوكبها طلوعا، وأن تسلك إليها الطريق الذي هو آمن لك من الشكّ، وأبعد من الرّيب؛ وأصحّ لليقين، وأحرى بأن يبلّغك قاصية التبيين.

_ (1) وهو الحرير. القاموس/ برسم/ (1395). (2) أي وقف وانتظر. اه القاموس/ ربع/ (927). (3) جشم الأمر جشما وجشامة تكلفه على مشقة. اه القاموس/ جشم/ (1406). (4) الأمّ بالفتح القصد. اه مختار الصحاح/ أمم/ (26). (5) ناه الشيء ينوه ارتفع فهو نائه. اه الصحاح/ نوه/ (623).

واعلم أنه لا سبيل إلى أن تعرف صحّة هذه الجملة حتى يبلغ القول غايته، وينتهي إلى آخر ما أردت جمعه لك، وتصويره في نفسك، وتقريره عندك. إلّا أن هاهنا نكتة، إن أنت تأملتها تأمّل المتثبّت، ونظرت فيها نظر المتأنّي، رجوت أن يحسن ظنّك، وأن تنشط للإصغاء إلى ما أورده عليك، وهي أنّا إذا سقنا دليل الإعجاز فقلنا: لولا أنهم حين سمعوا القرآن، وحين تحدّوا إلى معارضته، سمعوا كلاما لم يسمعوا قطّ مثله، وأنهم رازوا «1» أنفسهم فأحسّوا بالعجز عن أن يأتوا بما يوازيه أو يدانيه أو يقع قريبا منه لكان محلا أن يدعوا معارضته وقد تحدّوا إليه، وقرّعوا فيه، وطولبوا به، وأن يتعرّضوا لشبا الأسنّة «2» ويقتحموا موارد الموت. فقيل لنا: قد سمعنا ما قلتم، فخبّرونا عنهم، عمّا ذا عجزوا؟ أعن معان من دقة معانية وحسنها وصحّتها في العقول؟ أم عن ألفاظ مثل ألفاظه؟ فإن قلتم: عن الألفاظ، فماذا أعجزهم من اللّفظ، أم ما بهرهم منه؟. فقلنا: أعجزتهم مزايا ظهرت لهم في نظمه، وخصائص صادفوها في سياق لفظه، وبدائع راعتهم من مبادئ آية «3» ومقاطعها، ومجاري ألفاظها ومواقعها، وفي مضرب كل مثل، ومساق كل خبر، وصورة كل عظة وتنبيه، وإعلام وتذكير، وترغيب وترهيب، ومع كل حجّة وبرهان، وصفة وتبيان. وبهرهم أنهم تأملوه سورة سورة، وعشرا عشرا، وآية آية، فلم يجدوا في الجميع كلمة ينبو بها مكانها، ولفظة ينكر شأنها، أو يرى أن غيرها أصلح هناك أو أشبه، أو أحرى وأخلق، بل وجدوا اتساقا بهر العقول، وأعجز الجمهور، ونظاما والتئاما، وإتقانا وإحكاما، لم يدع في نفس بليغ منهم، ولو حكّ بيافوخه السماء، موضع طمع، حتى خرست الألسن عن أن تدّعي وتقول، وخذيت القروم «4» فلم تملك أن تصول. نعم، فإذا كان هذا هو الذي يذكر في جواب السائل، فبنا أن ننظر: أيّ أشبه بالفتى في عقله ودينه، وأزيد له في علمه ويقينه، أأن يقلّد في ذلك، ويحفظ متن الدليل وظاهر لفظه، ولا يبحث عن تفسير المزايا والخصائص ما هي؟ ومن أين

_ (1) راز الشيء اختبره وامتحنه وجرّبه. انظر القاموس (659) مادة/ روز/. (2) أي حدّها وطرفها الذي يصيب ويقتل. والشبا: حدّ كل شيء. انظر القاموس. مادة/ شبا/ (1674). (3) الآي: مفردها الآية. (4) وهو الفحل أو ما لم يمسه حبل أي ترك عن الركوب والعمل. القاموس/ قرم/ (1481).

كثرت الكثرة العظيمة، واتّسعت الاتساع المجاوز لوسع الخلق وطاقة البشر؟ وكيف يكون أن تظهر في ألفاظ محصورة، وكلم معدودة معلومة، بأن يؤتى ببعضها في إثر بعض، لطائف «1» لا يحصرها العدد، ولا ينتهي بها الأمد؟ أم أن يبحث عن ذلك كلّه، ويستقصي النظر في جميعه، ويتتبعه شيئا فشيئا، ويستقصيه بابا فبابا، حتى يعرف كلّا منه بشاهده ودليله، ويعلمه بتفسيره وتأويله، ويوثق بتصويره وتمثيله، ولا يكون كمن قيل فيه: [من الطويل] يقولون أقوالا ولا يعلمونا ... ولو قيل: هاتوا حقّقوا، لم يحققوا «2» قد قطعت عذر المتهاون، ودللت على ما أضاع من حظّه، وهدايته لرشده، وصحّ أن لا غنى بالعاقل عن معرفة هذه الأمور، والوقوف عليها، والإحاطة بها، وأنّ الجهة «3» التي منها يقف، والسبب الذي به يعرف، استقراء كلام العرب وتتبّع أشعارهم والنظر فيها. وإذ قد ثبت ذلك، فينبغي لنا أن نبتدئ في بيان ما أردنا بيانه، ونأخذ في شرحه والكشف عنه. وجملة ما أردت أن أبيّنه لك: أنه لا بدّ لكل كلام تستحسنه، ولفظ تستجيده، من أن يكون لاستحسانك ذلك جهة معلومة وعلّة معقولة وأن يكون لنا إلى العبارة عن ذاك سبيل، وعلى صحة ما ادعيناه من ذلك دليل. وهو باب من العلم إذا أنت فتحته اطّلعت منه على فوائد جليلة، ومعان شريفة، ورأيت له أثرا في الدين عظيما وفائدة جسيمة، ووجدته سببا إلى حسم كثير من الفساد فيما يعود إلى التنزيل وإصلاح أنواع من الخلل فيما يتعلّق بالتأويل، وإنّه ليؤمنك من أن تغالط في دعواك، وتدافع عن مغزاك، ويربأ بك عن أن تستبين هدى ثم لا تهدي إليه، وتدلّ بعرفان ثم لا تستطيع أن تدلّ عليه «4» وأن تكون عالما «5» في ظاهر مقلّد، ومستبينا في صورة شاكّ وأن يسألك السائل عن حجّة يلقى بها الخصم في آية من كتاب الله تعالى أو غير ذلك، فلا ينصرف عنك بمقنع وأن يكون غاية ما لصاحبك منك أن تحيله على نفسه، وتقول: «قد نظرت فرأيت فضلا ومزيّة،

_ (1) فاعل: «تظهر». (2) البيت لأنس بن زنيم في ديوانه ونسبه البعض إلى أبي الأسود الدؤلي، وفي لسان العرب (سرق) من أبيات قالها لحارثة بن بدر الغداني عند ولايته إمارة سرّق (موضع بالأهواز)، انظر الحيوان (3/ 116)، وأمالي الشريف (1/ 383 - 385). (3) معطوفة على قوله: «وصحّ أن لا غنى ... ». (4) أدلّ بعمله وبشجاعته مثلا، يدلّ إدلالا، فخر به وتبجّح، وتباهى. ا. هـ اللسان/ دلل/ (11/ 248). والعرفان: المعرفة. (5) قوله: «وأن تكون عالما» معطوف على «وإنه ليؤمنك».

فصل في تحقيق القول على «البلاغة» و «الفصاحة»، و «البيان» و «البراعة»،

وصادفت لذلك أريحيّة، فانظر لتعرف كما عرفت، وراجع نفسك، واسبر وذق، لتجد مثل الذي وجدت»، فإن عرف فذاك، وإلا فبينكما التّناكر، تنسبه إلى سوء التأمّل، وينسبك إلى فساد في التخيّل. وإنه على الجملة بحث ينتقي لك من علم الإعراب خالصه ولبّه، ويأخذ لك منه أناسي العيون وحبّات القلوب، وما لا يدفع الفضل فيه دافع، ولا ينكر رجحانه في موازين العقول منكر. وليس يتأتّى لي أن أعلمك من أوّل الأمر في ذلك آخره، وأن أسمّي لك الفصول التي في نيتي أن أحرّرها بمشيئة الله عزّ وجلّ، حتى تكون على علم بها قبل موردها عليك. فاعمل على أنّ هاهنا فصولا يجيء بعضها في إثر بعض وهذا أوّلها. فصل في تحقيق القول على «البلاغة» و «الفصاحة»، و «البيان» و «البراعة»، وكلّ ما شاكل ذلك، ممّا يعبّر به عن فضل بعض القائلين على بعض، من حيث نطقوا وتكلّموا، وأخبروا السامعين عن الأغراض والمقاصد، وراموا أن يعلموهم ما في نفوسهم؛ ويكشفوا لهم عن ضمائر قلوبهم. ومن المعلوم أن لا معنى لهذه العبارات وسائر ما يجري مجراها، مما يفرد فيه اللّفظ بالنعت والصّفة، وينسب فيه الفضل والمزيّة إليه دون المعنى، غير وصف الكلام بحسن الدّلالة وتمامها فيما له كانت دلالة، ثم تبرّجها في صورة هي أبهى وأزين وآنق وأعجب وأحقّ بأن تستولي على هوى النفس، وتنال الحظّ الأوفر من ميل القلوب، وأولى بأن تطلق لسان الحامد، وتطيل رغم الحاسد ولا جهة لاستعمال هذه الخصال غير أن تأتي المعنى من الجهة التي هي أصحّ لتأديته، وتختار له اللفظ الذي هو أخصّ به، وأكشف عنه وأتمّ له، وأحرى بأن يكسبه نبلا، ويظهر فيه مزيّة. وإذا كان هذا كذلك، فينبغي أن ينظر إلى الكلمة قبل دخولها في التأليف،- وقبل أن تصير إلى الصورة التي بها يكون الكلم إخبارا وأمرا ونهيا واستخبارا وتعجبا، وتؤدّي في الجملة معنى من المعاني التي لا سبيل إلى إفادتها إلا بضمّ كلمة إلى كلمة، وبناء لفظة على لفظة- هل «1» يتصور أن يكون بين اللفظتين تفاضل في

_ (1) سياق الكلام كما يلي: ينبغي أن ينظر إلى الكلمة قبل ... هل يتصور.

الدّلالة حتى تكون هذه أدلّ على معناها الذي وضعت له من صاحبتها على ما هي موسومة به، حتى يقال إن «رجلا» أدلّ على معناه من «فرس» على ما سمّي به وحتى يتصوّر في الاسمين يوضعان لشيء واحد، أن يكون هذا أحسن نبأ وأبين كشفا عن صورته من الآخر، فيكون «الليث» مثلا أدلّ على السبع المعلوم من «الأسد» وحتى أنّا لو أردنا الموازنة بين لغتين كالعربية والفارسية، ساغ لنا أن نجعل لفظة «رجل» أدلّ على الآدميّ الذّكر من نظيره في الفارسية؟. وهل يقع في وهم وإن جهد، أن تتفاضل الكلمتان المفردتان، من غير أن ينظر إلى مكان تقعان فيه من التأليف والنظم، بأكثر من أن تكون هذه مألوفة مستعملة، وتلك غريبة وحشية، أو أن تكون حروف هذه أخفّ وامتزاجها أحسن، ومما يكدّ اللسان أبعد؟. وهل تجد أحدا يقول: هذه اللفظة فصيحة إلا وهو يعتبر مكانها من النظم، وحسن ملائمة معناها لمعاني جاراتها، وفضل مؤانستها لأخواتها؟. وهل قالوا: لفظة متمكنة، ومقبولة، وفي خلافه: قلقة، ونابية، ومستكرهة، إلا وغرضهم أن يعبّروا بالتمكّن عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناهما، وبالقلق والنّبوّ عن سوء التلاؤم، وأن الأولى لم تلق بالثانية في معناها، وأنّ السابقة لم تصلح أن تكون لفقا «1» للتالية في مؤدّاها؟. وهل تشكّ إذا فكرت في قوله تعالى: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود: 44]، فتجلّى لك منها الإعجاز، وبهرك الذي ترى وتسمع، أنك لم تجد «2» ما وجدت من المزيّة الظاهرة، والفضيلة القاهرة، إلا لأمر يرجع إلى ارتباط هذه الكلم بعضها ببعض، وأن لم يعرض لها الحسن والشّرف إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية، والثالثة بالرابعة، وهكذا، إلى أن تستقر بها إلى آخرها، وأنّ الفضل تناتج ما بينها، وحصل من مجموعها؟. إن شككت، فتأمّل: هل ترى لفظة منها بحيث لو أخذت من بين أخواتها وأفردت، لأدّت من الفصاحة ما تؤدّيه وهي في مكانها من الآية؟ قل: «ابلعي»،

_ (1) لفقت الثوب ألفقه لفقا وهو أن تضم الشّقّة إلى الأخرى فتخيطهما. ولفق الشقتين: ضم إحداهما إلى الأخرى. اللسان/ لفق/ (10/ 331). (2) أنك لم تجد: مفعول «تشك».

واعتبرها وحدها من غير أن تنظر إلى ما قبلها وما بعدها، وكذلك فاعتبر سائر ما يليها. وكيف بالشك في ذلك، ومعلوم أنّ مبدأ العظمة في أن نوديت الأرض، ثم أمرت، ثم في أن كان النداء «بيا» دون «أيّ»، نحو «يا أيتها الأرض»، ثم إضافة «الماء» إلى «الكاف»، دون أن يقال: «ابلعي الماء»، ثم أن أتبع نداء الأرض وأمرها بما هو من شأنها، نداء السماء وأمرها كذلك بما يخصها، ثم أن قيل:، «وغيض الماء»، فجاء الفعل على صيغة «فعل» الدالة على أنّه لم يغض إلّا بأمر آمر وقدرة قادر، ثم تأكيد ذلك وتقريره بقوله تعالى: وَقُضِيَ الْأَمْرُ، ثم ذكر ما هو فائدة هذه الأمور، وهو: اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ، ثم إضمار «السفينة» قبل الذّكر، كما هو شرط الفخامة والدّلالة على عظم الشأن، ثم مقابلة «قيل» في الخاتمة «بقيل» في الفاتحة؟ أفترى لشيء من هذه الخصائص- التي تملؤك بالإعجاز روعة، وتحضرك عند تصوّرها هيبة تحيط بالنفس من أقطارها- تعلّقا «1» باللفظ من حيث هو صوت مسموع وحروف تتوالى في النطق؟ أم كلّ ذلك لما بين معاني الألفاظ من الاتّساق العجيب؟. فقد اتضح إذن اتضاحا لا يدع للشك مجالا، أنّ الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجرّدة، ولا من حيث هي كلم مفردة، وأن الفضيلة وخلافها، في ملائمة معنى اللّفظة لمعنى التي تليها، وما أشبه ذلك، مما لا تعلّق له بصريح اللفظ. ومما يشهد لذلك أنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع، ثم تراها بعينها تثقل عليك وتوحشك في موضع آخر، كلفظ «الأخدع» في بيت الحماسة: [من الطويل] تلفّتّ نحو الحيّ حتّى وجدتني ... وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا «2» وبيت البحتري: [من الطويل]

_ (1) سياق الكلام: أفترى لشيء من هذه ... تعلقا باللفظ. (2) البيت للصمّة بن عبد الله القشيري في لسان العرب (وجع)، وبلا نسبة في أساس البلاغة (لفت)، وفي شرح حماسة أبي تمام (3/ 114)، واللّيت بالكسر: صفحة العنق، وقيل: اللّيتان صفحتا العنق، وقيل: أدنى صفحتي العنق من الرأس، عليهما ينحدر القرطان. والأخدع: شعبة من الوريد، وفي الحديث: أنه احتجم على الأخدعين والكاهل، والأخدعان: عرقان في جانبي العنق خفيا وبطنا والجمع أخادع. اللسان (ليت)، (خدع).

وإنّي وإن بلّغتني شرف الغنى ... واعتقت من رقّ المطامع أخدعي «1» فإن لها في هذين المكانين ما لا يخفى من الحسن، ثم إنك تتأملها في بيت أبي تمام: [من المنسرح] يا دهر قوّم من أخدعيك، فقد ... أضججت هذا الأنام من خرقك «2» فتجد لها من الثّقل على النفس، ومن التنغيص والتكدير، أضعاف ما وجدت هناك من الرّوح والخفّة، ومن الإيناس والبهجة. ومن أعجب ذلك لفظة «الشّيء»، فإنك تراها مقبولة حسنة في موضع، وضعيفة مستكرهة في موضع. وإن أردت أن تعرف ذلك، فانظر إلى قول عمر بن أبي ربيعة المخزوميّ: [من الطويل] ومن مالئ عينيه من شيء غيره ... إذا راح نحو الجمرة البيض كالدّمى «3» وقول أبي حيّة: [من الطويل] إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة ... تقاضاها شيء لا يملّ التّقاضيا «4» فإنك تعرف حسنها ومكانها من القبول، ثم انظر إليها في بيت المتنبي: [من الطويل] لو الفلك الدّوّار أبغضت سعيه ... لعوّقه شيئ عن الدّوران «5» فإنك تراها تقلّ وتضؤل، بحسب نبلها وحسنها فيما تقدّم وهذا باب واسع، فإنك تجد متى شئت الرّجلين قد استعملا كلما بأعيانها، ثم ترى هذا قد فرع السّماك «6»، وترى ذاك قد لصق بالحضيض، فلو كانت الكلمة إذا حسنت حسنت من حيث هي لفظ، وإذا استحقت المزيّة والشرف استحقّت ذلك في ذاتها وعلى انفرادها، دون أن يكون السبب في ذلك حال لها مع أخواتها المجاورة لها في النظم، لما اختلف بها الحال، ولكانت إمّا أن تحسن أبدا، أو لا تحسن أبدا.

_ (1) البيت للبحتري في ديوانه فانظره، والأخدع: عرق في العنق. (2) البيت في ديوانه، والخرق: نقيض الرّفق، والخرق مصدره. اللسان (خرق). (3) البيت في ديوانه، والكتاب (1/ 165)، والمقاصد النحوية (3/ 531). (4) في ديوانه المجموع، وهو بلا نسبة في لسان العرب (قضى)، وتاج العروس (قضى). (5) في ديوانه وهو من القصيدة التي قالها في مدح كافور سنة 348 هـ. (6) فرع كلّ شيء: أعلاه. والسماء كان نجمان نيّران أحدهما الرامح والآخر الأعزل. ا. هـ القاموس (1218).

فصل ومما يجب إحكامه بعقب هذا الفصل، الفرق بين قولنا: «حروف منظومة»، و «كلم منظومة».

ولم تر قولا يضطرب على قائله حتى لا يدري كيف يعبّر، وكيف يورد ويصدر، كهذا القول. بل إن أردت الحقّ، فإنه من جنس الشيء يجري به الرجل لسانه ويطلقه، فإذا فتّش نفسه، وجدها تعلم بطلانه، وتنطوي على خلافه، ذاك لأنه مما لا يقوم بالحقيقة في اعتقاد، ولا يكون له صورة في فؤاد. فصل ومما يجب إحكامه بعقب هذا الفصل، الفرق بين قولنا: «حروف منظومة»، و «كلم منظومة». وذلك أن نظم الحروف هو تواليها في النطق، وليس نظمها بمقتضى عن معنى «1»، ولا الناظم لها بمقتف في ذلك رسما من العقل اقتضى أن يتحرّى في نظمه لها ما تحرّاه. فلو أنّ واضع اللغة كان قد قال: «ربض» مكان «ضرب»، لما كان في ذلك ما يؤدّي إلى فساد. وأمّا «نظم الكلم» فليس الأمر فيه كذلك، لأنك تقتفي في نظمها آثار المعاني، وترتّبها على حسب ترتّب المعاني في النفس. فهو إذن نظم يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض، وليس هو «النّظم» الذي معناه ضمّ الشيء إلى الشيء كيف جاء واتّفق. ولذلك كان عندهم نظيرا للنّسج والتأليف والصّياغة والبناء والوشي والتّحبير وما أشبه ذلك، ممّا يوجب اعتبار الأجزاء بعضها مع بعض، حتى يكون لوضع كلّ حيث وضع، علّة تقتضي كونه هناك، وحتى لو وضع في مكان غيره لم يصلح. والفائدة في معرفة هذا الفرق: أنك إذا عرفته عرفت أن ليس الغرض بنظم الكلم، أن توالت ألفاظها في النطق، بل أن تناسقت دلالتها وتلاقت معانيها، على الوجه الذي اقتضاه العقل. وكيف يتصوّر أن يقصد به إلى توالي الألفاظ في النطق، بعد أن ثبت أنه نظم يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض، وأنّه نظير الصياغة والتّحبير «2» والتّفويف «3» والنقش، وكل ما يقصد به التصوير، وبعد أن كنّا لا نشك

_ (1) أي ليس واجبا لمعنى. (2) هو مأخوذ من التحبير وحسن الخط والمنطق وتحبير الخط والشعر بتحسينه. اه اللسان/ حبر/ (4/ 157). (3) الفوف: ضرب من برود اليمن. وقال ابن الأعرابي: الفوف ثياب رقاق من ثياب اليمن موشاة وهو الفوف بضم الفاء وبرد مفوف برد رقيق. اه اللسان/ فوف/ (9/ 274).

في أن لا حال للفظة مع صاحبتها تعتبر إذا أنت عزلت دلالتهما جانبا؟ وأيّ مساغ للشكّ في أنّ الألفاظ لا تستحقّ من حيث هي ألفاظ، أن تنظم على وجه دون وجه؟. ولو فرضنا أن تنخلع من هذه الألفاظ، التي هي لغات، دلالتها لما كان منها أحقّ بالتقديم من شيء، ولا تصوّر أن يجب فيها ترتيب ونظم. ولو حفّظت صبيّا شطر «كتاب العين» أو «الجمهرة»، من غير أن تفسّر له شيئا منه، وأخذته بأن يضبط صور الألفاظ وهيآتها، ويؤدّيها كما يؤدي أصناف أصوات الطيور، لرأيته ولا يخطر له ببال أنّ من شأنه أن يؤخّر لفظا ويقدّم آخر، بل كان حاله حال من يرمي الحصى ويعدّ الجوز، اللهم إلّا أن تسومه أنت أن يأتي بها على حروف المعجم ليحفظ نسق الكتاب. ودليل آخر، وهو أنه لو كان القصد بالنظم إلى اللفظ نفسه، دون أن يكون الغرض ترتيب المعاني في النفس، ثم النطق بالألفاظ على حذوها، لكان ينبغي أن لا يختلف حال اثنين في العلم بحسن النظم أو غير الحسن فيه، لأنهما يحسّان بتوالي الألفاظ في النطق إحساسا واحدا، ولا يعرف أحدهما في ذلك شيئا يجهله الآخر. وأوضح من هذا كلّه، وهو أن هذا «النظم» الذي يتواصفه البلغاء، وتتفاضل مراتب البلاغة من أجله، صنعة يستعان عليها بالفكرة لا محالة. وإذا كانت ممّا يستعان عليها بالفكرة، ويستخرج بالرّويّة، فينبغي أن ينظر في الفكر، بماذا تلبّس؟ أبالمعاني أم بالألفاظ؟ فأيّ شيء وجدته الذي تلبّس به فكرك من بين المعاني والألفاظ، فهو الذي تحدث فيه صنعتك، وتقع فيه صياغتك ونظمك وتصويرك. فمحال أن تتفكر في شيء وأنت لا تصنع فيه شيئا، وإنما تصنع في غيره. لو جاز ذلك، لجاز أن يفكّر البنّاء في الغزل، ليجعل فكره فيه وصلة إلى أن يصنع من الآجرّ، وهو من الإحالة المفرطة. فإن قيل: «النظم» موجود في الألفاظ على كل حال، ولا سبيل إلى أن يعقل الترتيب الذي تزعمه في المعاني، ما لم تنظم الألفاظ ولم ترتّبها على الوجه الخاصّ. قيل: إن هذا هو الذي يعيد هذه الشّبهة جذعة «1» أبدا، والذي يحلّها: أن تنظر أتتصوّر أن تكون معتبرا مفكّرا في حال اللفظ مع اللفظ حتّى تضعه بجنبه أو قبله، وأن تقول: «هذه اللفظة إنّما صلحت هاهنا لكونها على صفة كذا» أم لا يعقل

_ (1) الجذع محركة: قبل الثني والجذع الشاب الحدث. القاموس/ جذع/ (915).

إلّا أن تقول: «صلحت هاهنا، لأن معناها كذا، ولدلالتها على كذا، ولأنّ معنى الكلام والغرض فيه يوجب كذا، ولأنّ معنى ما قبلها يقتضي معناها؟». فإن تصوّرت الأوّل، فقل ما شئت، واعلم أنّ كل ما ذكرناه باطل وإن لم تتصور إلّا الثاني، فلا تخدعنّ نفسك بالأضاليل، ودع النظر إلى ظواهر الأمور، واعلم أن ما ترى أنه لا بدّ منه من ترتّب الألفاظ وتواليها على النظم الخاص، ليس هو الذي طلبته بالفكر، ولكنه شيء يقع بسبب الأوّل ضرورة، من حيث إنّ الألفاظ؛ إذ كانت أوعية للمعاني، فإنها لا محالة تتبع المعاني في مواقعها، فإذا وجب لمعنى أن يكون أوّلا في النفس، وجب للّفظ الدالّ عليه أن يكون مثله أوّلا في النطق. فأمّا أن تتصور في الألفاظ أن تكون المقصودة قبل المعاني بالنظم والترتيب، وأن يكون الفكر في النظم الذي يتواصفه البلغاء فكرا في نظم الألفاظ، أو أن تحتاج بعد ترتيب المعاني إلى فكر تستأنفه لأن تجيء بالألفاظ على نسقها، فباطل من الظنّ، ووهم يتخيّل إلى من لا يوفي النظر حقّه. وكيف تكون مفكرا في نظم الألفاظ، وأنت لا تعقل لها أوصافا وأحوالا إذا عرفتها عرفت أن حقّها أن تنظم على وجه كذا؟. ومما يلبّس على الناظر في هذا الموضع ويغلّطه، أنه يستبعد أن يقال: «هذا كلام قد نظمت معانيه»، فالعرف كأنّه لم يجز بذلك، إلّا أنهم وإن كانوا لم يستعملوا «النظم» في المعاني، قد استعملوا فيها ما هو بمعناه ونظير له، وذلك قولهم: «إنه يرتب المعاني في نفسه، وينزّلها، ويبني بعضها على بعض»، كما يقولون: «يرتّب الفروع على الأصول، ويتبع المعنى المعنى، ويلحق النظير بالنظير». وإذا كنت تعلم أنهم قد استعاروا النسج والوشي والنّقش والصّياغة لنفس ما استعاروا له «النظم»، وكان لا يشكّ في أن ذلك كلّه تشبيه وتمثيل يرجع إلى أمور وأوصاف تتعلّق بالمعاني دون الألفاظ، فمن حقّك أن تعلم أن سبيل «النظم» ذلك السبيل. واعلم أنّ من سبيلك أن تعتمد هذا الفصل حدّا، وتجعل النّكت «1» التي

_ (1) مفردها نكتة وهي الدقيقة التي تستخرج بدقة الفكر. وقال البيضاوي: هي طائفة من الكلام منمقة مشتملة على لطيفة مؤثرة في القلوب/ الكليات لأبي البقاء الكفوي/ (4/ 362).

فصل منه في أن النظم متوقف على التركيب النحوي

ذكرتها فيه على ذكر «1» منك أبدا، فإنها عمد «2» وأصول في هذا الباب، إذا أنت مكّنتها في نفسك، وجدت الشّبه تنزاح عنك، والشكوك تنتفي عن قلبك، ولا سيّما ما ذكرت من أنه لا يتصوّر أن تعرف للّفظ موضعا من غير أن تعرف معناه، ولا أن تتوخّى في الألفاظ من حيث هي ألفاظ ترتيبا ونظما، وأنك تتوخّى الترتيب في المعاني وتعمل الفكر هناك، فإذا تمّ لك ذلك أتبعتها الألفاظ وقفوت بها آثارها، وأنك إذا فرغت من ترتيب المعاني في نفسك، لم تحتج إلى أن تستأنف فكرا في ترتيب الألفاظ، بل تجدها تترتّب لك بحكم أنّها خدم للمعاني، وتابعة لها، ولا حقة بها، وأن العلم بمواقع المعاني في النفس، علم بمواقع الألفاظ الدالّة عليها في النطق. فصل منه في أن النظم متوقف على التركيب النحوي واعلم أنك إذا رجعت إلى نفسك علمت علما لا يعترضه الشك، أن لا نظم في الكلم ولا ترتيب، حتى يعلّق بعضها ببعض، ويبنى بعضها على بعض، وتجعل هذه بسبب من تلك، هذا ما لا يجهله عاقل ولا يخفى على أحد من الناس. وإذا كان كذلك، فبنا أن ننظر إلى التّعليق فيها والبناء، وجعل الواحدة منها بسبب من صاحبتها، ما معناه وما محصوله؟ وإذا نظرنا في ذلك، علمنا أن لا محصول لها غير أن تعمد إلى اسم فتجعله فاعلا لفعل أو مفعولا، أو تعمد إلى اسمين فتجعل أحدهما خبرا عن الآخر، أو تتبع الاسم اسما على أن يكون الثاني صفة للأول، أو تأكيدا له، أو بدلا منه، أو تجيء باسم بعد تمام كلامك على أن يكون صفة أو حالا أو تمييزا، أو تتوخّى في كلام هو لإثبات معنى، أن يصير نفيا أو استفهاما أو تمنّيا، فتدخل عليه الحروف الموضوعة لذلك «3» أو تريد في فعلين أن تجعل أحدهما شرطا في الآخر، فتجيء بهما بعد الحرف الموضوع لهذا المعنى، أو بعد اسم من الأسماء التي ضمّنت معنى ذلك الحرف «4»، وعلى هذا القياس. وإذا كان لا يكون في الكلم نظم ولا ترتيب إلّا بأن يصنع بها هذا الصنيع ونحوه، وكان ذلك كلّه مما لا يرجع منه إلى اللفظ شيء، وممّا لا يتصوّر أن يكون

_ (1) هو الحفظ للشيء وتذكره. والذكر: الشيء يجري على لسانك (التذكر). اللسان/ ذكر/ (4/ 308). (2) جمع عمود. اللسان/ عمد/ (3/ 304). (3) المقصود للنفي والاستفهام والتمني. (4) أي: أدوات الشرط.

فصل: منه في شبهة الذين حصروا الفصاحة في صفة اللفظ

فيه ومن صفته، بان بذلك أنّ الأمر على ما قلناه، من أن اللّفظ تبع للمعنى في النظم، وأنّ الكلم تترتّب في النطق بسبب ترتّب معانيها في النفس، وأنها لو خلت من معانيها حتى تتجرّد أصواتا وأصداء حروف، لما وقع في ضمير ولا هجس في خاطر، أن يجب فيها ترتيب ونظم، وأن يجعل لها أمكنة ومنازل، وأن يجب النطق بهذه قبل النطق بتلك. والله الموفّق للصواب. فصل: منه في شبهة الذين حصروا الفصاحة في صفة اللفظ وهذه شبهة أخرى ضعيفة، عسى أن يتعلّق بها متعلّق ممن يقدم على القول من غير رويّة: وهي أن يدّعي أن لا معنى للفصاحة سوى التلاؤم اللفظيّ، وتعديل مزاج الحروف حتى لا يتلاقى في النطق حروف تثقل على اللسان، كالذي أنشده الجاحظ من قول الشاعر: [من السريع] وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر «1» وقول ابن يسير «2»: [من الخفيف] لا أذيل الآمال بعدك إنّي ... بعدها بالآمال جدّ بخيل كم لها موقفا بباب صديق ... رجعت من نداه بالتعطيل لم يضرها والحمد لله، شيء ... وانثنت نحو عزف نفس ذهول «3» قال الجاحظ: «فتفقّد النصف الأخير من هذا البيت، فإنّك ستجد بعض ألفاظه يتبّرأ من بعض» ويزعم أن الكلام في ذلك على طبقات، فمنه المتناهي في الثّقل المفرط فيه، كالذي مضى، ومنه ما هو أخفّ منه كقول أبي تمام: [من الطويل] كريم متى أمدحه أمدحه والورى ... جميعا، ومهما لمته لمته «وحدي» «4»

_ (1) لا يعرف قائله، وقيل: إنه من أشعار الجن، وهو من الأبيات الدائرة في كتب البلاغة انظر البيان والتبيين (1/ 65)، ومعاهد التنصيص: (1/ 34) .. (2) هو محمد بن يسير الرياشي. شاعر مقلّ. البيان والتبيين (1/ 65). (3) في البيان والتبيين (1/ 65 - 66)، «عزف» مصدر «ورجل عزوف عن اللهو إذا لم يشتهه»، وعزفت نفسي عن الشيء: تركته بعد إعجابها. الذهول: من الذّهل وهو تركك الشيء تناساه على عمد. اللسان (عزف) (ذهل). (4) البيت في ديوانه وأورده الفخر الرازي في نهاية الإيجاز (ص 123)، وعزاه لأبي تمام وجاء البيت برواية: كريم متى ......... جميعا ومهما لمته لمته وحدي. وفي الإيضاح (ص 6)، والتبيان للطيبي (2/ 496)، بتحقيقنا.

أي لا أمدحه بشيء إلّا صدّقني الناس فيه. ومنه ما يكون فيه بعض الكلفة على اللسان، إلّا أنّه لا يبلغ أن يعاب به صاحبه ويشهّر أمره في ذلك ويحفظ عليه. ويزعم أن الكلام إذا سلم من ذلك وصفا من شوبه «1»، كان الفصيح المشاد «2» به والمشار إليه، وأنّ الصّفاء أيضا يكون على مراتب يعلو بعضها بعضا، وأنّ له غاية إذا انتهى إليها كان الإعجاز. والذي يبطل هذه الشبهة، إن ذهب إليها ذاهب، أنّا إن قصرنا صفة «الفصاحة» على كون اللفظ كذلك، وجعلناه المراد بها، لزمنا أن نخرج «الفصاحة» من حيّز «البلاغة»، ومن أن تكون نظيرة لها، وإذا فعلنا ذلك، لم نخل من أحد أمرين: إمّا أن نجعله العمدة في المفاضلة بين العبارتين ولا نعرّج على غيره، وإمّا أن نجعله أحد ما نفاضل به، ووجها من الوجوه التي تقتضي تقديم كلام على كلام. فإن أخذنا بالأوّل، لزمنا أن نقصر الفضيلة عليه حتى لا يكون الإعجاز إلا به وفيه، وفي ذلك ما لا يخفى من الشّناعة، لأنه يؤدّي إلى أن لا يكون للمعاني التي ذكروها في حدود البلاغة- من وضوح الدّلالة، وصواب الإشارة، وتصحيح الأقسام، وحسن الترتيب والنظام، والإبداع في طريقة التشبيه والتمثيل، والإجمال ثم التفصيل، ووضع الفصل والوصل موضعهما، وتوفية الحذف والتأكيد والتقديم والتأخير شروطهما- مدخل فيما له كان القرآن معجزا، حتّى يدّعى أنه لم يكن معجزا من حيث هو بليغ، ولا من حيث هو قول فصل، وكلام شريف النظم بديع التأليف، وذلك أنه لا تعلّق لشيء من هذه المعاني بتلاؤم الحروف. وإن أخذنا بالثاني، وهو أن يكون تلاؤم الحروف وجها من وجوه الفضيلة، وداخلا في عداد ما يفاضل به بين كلام وكلام على الجملة، لم يكن لهذا الخلاف ضرر علينا، لأنه ليس بأكثر من أن نعمد إلى «الفصاحة» فنخرجها من حيّز «البلاغة والبيان»، وأن تكون نظيرة لهما، وفي عداد ما هو شبههما من البراعة والجزالة وأشباه ذلك، مما ينبئ عن شرف النظم، وعن المزايا التي شرحت لك أمرها، وأعلمتك جنسها، أو نجعلها اسما مشتركا يقع تارة لما تقع له تلك، وأخرى لما يرجع إلى سلامة اللفظ ممّا يثقل على اللسان. وليس واحد من الأمرين بقادح فيما نحن بصدده.

_ (1) الخلط. اه القاموس/ شوب/ (132). (2) يقال: أشاد فلان بذكر فلان في الخير والشر إذا نهره ورفعه. اللسان/ شود/ (3/ 243).

وإن تعسّف متعسّف في تلاؤم الحروف، فبلغ به أن يكون الأصل في الإعجاز، وأخرج سائر ما ذكروه في أقسام البلاغة من أن يكون له مدخل أو تأثير فيما له كان القرآن معجزا، كان الوجه أن يقال له: إنّه يلزمك، على قياس قولك، أن تجوّز أن يكون هاهنا نظم للألفاظ وترتيب، لا على نسق المعاني، ولا على وجه يقصد به الفائدة، ثم يكون مع ذلك معجزا. وكفى به فسادا. فإن قال قائل: إني لا أجعل تلاؤم الحروف معجزا حتى يكون اللفظ مع ذلك دالّا، وذاك أنه إنّما تصعب مراعاة التعادل بين الحروف، إذا احتيج مع ذلك إلى مراعاة المعاني، كما أنه إنّما تصعب مراعاة السجع والوزن، ويصعب كذلك التجنيس والترصيع، إذا روعي معه المعنى. قيل له: فأنت الآن، إن عقلت ما تقول، قد خرجت من مسألتك، وتركت أن يستحقّ اللّفظ المزيّة من حيث هو لفظ، وجئت تطلب لصعوبة النظم فيما بين المعاني طريقا، وتضع له علّة غير ما يعرفه الناس، وتدّعي أنّ ترتيب المعاني سهل، وأن تفاضل الناس في ذلك إلى حدّ، وأن الفضيلة تزداد وتقوى إذا توخّي في حروف الألفاظ التعادل والتلاؤم. وهذا منك وهم. وذلك أنا لا نعلم لتعادل الحروف معنى سوى أن تسلم من نحو ما تجده في بيت أبي تمام: كريم متى أمدحه والورى «1» وبيت ابن يسير: وانثنت نحو عزف نفس ذهول «2» وليس اللفظ السليم من ذلك بمعوز، ولا بعزيز الوجود، ولا بالشيء لا يستطيعه إلا الشاعر المفلق والخطيب البليغ، فيستقيم قياسه على السجع والتجنيس ونحو ذلك، مما إذا رامه المتكلم صعب عليه تصحيح المعاني وتأدية الأغراض. فقولنا: «أطال الله بقاءك، وأدام عزّك، وأتمّ نعمته عليك، وزاد في إحسانه عندك»، لفظ سليم مما يكدّ اللسان، وليس في حروفه استكراه، وهكذا حال كلام الناس في كتبهم ومحاوراتهم، لا تكاد تجد فيه هذا الاستكراه، لأنه إنما هو شيء يعرض للشاعر إذا تكلف وتعمّل، فأمّا المرسل نفسه على سجيّتها، فلا يعرض له ذلك. هذا، والمتعلّل بمثل ما ذكرت- من أنه إنما يكون تلاؤم الحروف معجزا بعد

_ (1) سبق تخريجه. (2) سبق تخريجه.

أن يكون اللفظ دالّا، لأن مراعاة التعادل إنما تصعب إذا احتيج مع ذلك إلى مراعاة المعاني، إذا تأملت- يذهب «1» إلى شيء ظريف، وهو أن يصعب مرام اللفظ بسبب المعنى، وذلك محال، لأن الذي يعرفه العقلاء عكس ذلك، وهو أنه يصعب مرام المعنى بسبب اللفظ، فصعوبة ما صعب من السّجع، هي صعوبة عرضت في المعاني من أجل الألفاظ، وذاك أنه صعب عليك أن توفق بين معاني تلك الألفاظ المسجّعة وبين معاني الفصول التي جعلت أردافا لها، فلم تستطع ذلك إلا بعد أن عدلت عن أسلوب إلى أسلوب، أو دخلت في ضرب من المجاز، أو أخذت في نوع من الاتّساع، وبعد أن تلطّفت على الجملة ضربا من التلطّف. وكيف يتصوّر أن يصعب مرام اللفظ بسبب المعنى، وأنت إن أردت الحقّ لا تطلب اللفظ بحال، وإنما تطلب المعنى، وإذا ظفرت بالمعنى، فاللفظ معك وإزاء ناظرك؟ وإنما كان يتصوّر أن يصعب مرام اللفظ من أجل المعنى، أن لو كنت إذا طلبت المعنى فحصّلته، احتجت إلى أن تطلب اللفظ على حدة. وذلك محال. هذا، وإذا توهّم متوهّم أنّا نحتاج إلى أن نطلب اللفظ، وأن من شأن الطلب أن يكون هناك، فإن الذي يتوهم أنه يحتاج إلى طلبه، هو ترتيب الألفاظ في النّطق لا محالة. وإذا كان كذلك، فينبغي لنا أن نرجع إلى نفوسنا فننظر، هل يتصوّر أن نرتّب معاني أسماء وأفعال وحروف في النفس، ثم يخفى علينا مواقعها في النطق، حتى نحتاج في ذلك إلى فكر وروية؟ وذلك ما لا يشكّ فيه عاقل إذا هو رجع إلى نفسه. وإذا بطل أن يكون ترتيب اللفظ مطلوبا بحال، ولم يكن المطلوب أبدا إلّا ترتيب المعاني، وكان معوّل هذا المخالف على ذلك، فقد اضمحلّ كلامه، وبان أنه ليس لمن حام في حديث المزية والإعجاز حول «اللفظ»، ورام أن يجعله السبب في هذه الفضيلة، إلا التّسكّع في الحيرة، والخروج عن فاسد من القول إلى مثله. والله الموفق للصواب. فإن قيل: إذا كان اللفظ بمعزل عن المزيّة التي تنازعنا فيها، وكانت مقصورة على المعنى، فكيف كانت «الفصاحة» من صفات اللّفظ البتة؟ كيف امتنع أن يوصف بها المعنى فيقال: «معنى فصيح، وكلام فصيح المعنى»؟. قيل: إنّما اختصّت الفصاحة باللّفظ وكانت من صفته، من حيث كانت عبارة عن كون اللّفظ على وصف إذا كان عليه، دلّ على المزيّة التي نحن في حديثها، وإذا

_ (1) سياق الجملة كما يلي: والمتعلل بما ذكرت ... يذهب ...

كانت لكون اللّفظ دالّا، استحال أن يوصف بها المعنى، كما يستحيل أن يوصف المعنى بأنه «دالّ» مثلا، فاعرفه. فإن قيل: فماذا دعا القدماء إلى أن قسّموا الفضيلة بين المعنى واللفظ فقالوا: «معنى لطيف، ولفظ شريف»، وفخّموا شأن اللّفظ وعظّموه حتى تبعهم في ذلك من بعدهم، وحتى قال أهل النّظر: «إنّ المعاني لا تتزايد، وإنما تتزايد الألفاظ»، فأطلقوا كما ترى كلاما يوهم كل من يسمعه أن المزية في حاق «1» اللفظ؟. قيل له: لما كانت المعاني إنما تتبيّن بالألفاظ، وكان لا سبيل للمرتّب لها والجامع شملها، إلى أن يعلمك ما صنع في ترتيبها بفكره، إلّا بترتيب الألفاظ في نطقه، تجوّزوا فكنوا عن ترتيب المعاني بترتيب الألفاظ، ثم بالألفاظ بحذف «الترتيب»، ثم أتبعوا ذلك من الوصف والنّعت ما أبان الغرض وكشف عن المراد، كقولهم: «لفظ متمكّن»، يريدون أنه بموافقة معناه لمعنى ما يليه كالشيء الحاصل في مكان صالح يطمئن فيه. «ولفظ قلق ناب»، يريدون أنه من أجل أن معناه غير موافق لما يليه، كالحاصل في مكان لا يصلح له، فهو لا يستطيع الطّمأنينة فيه إلى سائر ما يجيء في صفة اللفظ، مما يعلم أنه مستعار له من معناه، وأنهم نحلوه إيّاه، بسبب مضمونه ومؤدّاه. هذا، ومن تعلّق بهذا وشبهه واعترضه الشك فيه، بعد الذي مضى من الحجج، فهو رجل قد أنس بالتقليد، فهو يدعو الشبهة إلى نفسه من هاهنا وثمّ. ومن كان هذا سبيله، فليس له دواء سوى السكوت عنه، وتركه وما يختاره لنفسه من سوء النظر وقلّة التدبّر. قد فرغنا الآن من الكلام على جنس المزيّة، وأنها من حيز المعاني دون الألفاظ، وأنها ليست لك حيث تسمع بأذنك، بل حيث تنظر بقلبك، وتستعين بفكرك، وتعمل رويّتك، وتراجع عقلك، وتستنجد في الجملة فهمك، وبلغ القول في ذلك أقصاه، وانتهى إلى مداه، وينبغي أن نأخذ الآن في تفصيل أمر المزيّة، وبيان الجهات التي منها تعرض. وإنه لمرام صعب ومطلب عسير، ولولا أنه على ذلك، لما

_ (1) الوسط: تقول سقط عن حقّ رأسه أي وسطه. اه القاموس/ حقق/ (1129).

فصل في اللفظ يطلق والمراد به غير ظاهره.

وجدت الناس بين منكر له من أصله، ومتحيّل (1) له على غير وجهه، ومعتقد أنه باب لا تقوى عليه العبارة، ولا يملك فيه إلّا الإشارة، وأنّ طريق التعليم إليه مسدود، وباب التفهيم دونه مغلق، وأنّ معانيك فيه معان تأبى أن تبرز من الضمير، وأن تدين للتبيين والتصوير، وأن ترى سافرة لا نقاب عليها، وبادية (2) لا حجاب دونها، وأن ليس للواصف لها إلا أن يلوّح ويشير، أو يضرب مثلا ينبئ عن حسن قد عرفه على الجملة، وفضيلة قد أحسّها، من غير أن يتبع ذلك بيانا، ويقيم عليه برهانا، ويذكر له علّة، ويورد فيه حجّة. وأنا أنزّل لك القول في ذلك وأدرّجه شيئا فشيئا، وأستعين الله تعالى عليه، وأسأله التوفيق. فصل في اللفظ يطلق والمراد به غير ظاهره. اعلم أن لهذا الضرب اتّساعا وتفنّنا لا إلى غاية، إلّا أنه على اتساعه يدور في الأمر الأعمّ على شيئين: «الكناية» و «المجاز». والمراد بالكناية هاهنا أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني، فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة، ولكن يجيء إلى معنى هو تاليه وردفه في الوجود، فيومئ به إليه، ويجعله دليلا عليه، مثال ذلك قولهم: «هو طويل النجاد»، يريدون طويل القامة، «وكثير رماد القدر»، يعنون كثير القرى، وفي المرأة: «نؤوم الضّحى»، والمراد أنها مترفة مخدومة، لها من يكفيها أمرها، فقد أرادوا في هذا كله، كما ترى، معنى، ثم لم يذكروه بلفظه الخاص به، ولكنهم توصّلوا إليه بذكر معنى آخر من شأنه أن يردفه في الوجود، وأن يكون إذا كان. أفلا ترى أن القامة إذ طالت طال النّجاد؟ وإذا كثر القرى كثر رماد القدر؟ وإذا كانت المرأة مترفة لها من يكفيها أمرها، ردف ذلك أن تنام إلى الضحى؟ وأما «المجاز»، فقد عوّل الناس في حدّه على حديث النّقل، وأنّ كل لفظ نقل عن موضوعه فهو «مجاز»، الكلام في ذلك يطول، وقد ذكرت ما هو الصحيح من ذلك في موضع آخر، وأنا أقتصر هاهنا على ذكر ما هو أشهر منه وأظهر. والاسم والشهرة فيه لشيئين: «الاستعارة» و «التمثيل». وإنّما يكون «التمثيل» مجازا إذا جاء على حدّ «الاستعارة». فالاستعارة: أن تريد تشبيه الشيء بالشيء، فتدع أن تفصح بالتشبيه وتظهره،

وتجيء إلى اسم المشبّه به فتعيره المشبّه وتجريه عليه. تريد أن تقول: رأيت رجلا هو كالأسد في شجاعته وقوة بطشه سواء»، فتدع ذلك وتقول: «رأيت أسدا». وضرب آخر من «الاستعارة»، وهو ما كان نحو قوله: [من الكامل] إذ أصبحت بيد الشّمال زمامها «1» هذا الضرب، وإن كان الناس يضمّونه إلى الأوّل حيث يذكرون الاستعارة، فليسا سواء. وذاك أنّك في الأوّل تجعل الشيء الشيء ليس به، وفي الثاني للشيء الشيء ليس له. تفسير هذا: أنك إذا قلت: «رأيت أسدا»، فقد ادّعيت في إنسان أنه أسد، وجعلته إياه، ولا يكون الإنسان أسدا. وإذا قلت: «إذ أصبحت بيد الشّمال زمامها»، فقد ادعيت أنّ للشّمال يدا، ومعلوم أنه لا يكون للريح. وهاهنا أصل ضبطه وهو أنّ جعل المشبّه المشبّه به على ضربين: أحدهما: أن تنزله منزلة الشيء تذكره بأمر قد ثبت له، فأنت لا تحتاج إلى أن تعمل في إثباته وتزجيته، وذلك حيث تسقط ذكر المشبه من البين، ولا تذكره بوجه من الوجوه، كقولك «رأيت أسدا». والثاني: أن تجعل ذلك كالأمر الذي يحتاج إلى أن تعمل في إثباته وتزجيته، وذلك حيث تجري اسم المشبّه به خبرا على المشبّه، فتقول: «زيد أسد، وزيد هو الأسد»، أو تجيء به على وجه يرجع إلى هذا كقولك: «إن لقيته لقيت به أسدا، وإن لقيته ليلقينّك منه الأسد»، فأنت في هذا كله تعمل في إثبات كونه «أسدا» أو «الأسد»، وتضع كلامك له. وأمّا في الأوّل فتخرجه مخرج ما لا يحتاج فيه إلى إثبات وتقرير. والقياس يقتضي أن يقال في هذا الضرب أعني: ما أنت تعمل في إثباته وتزجيته: أنه تشبيه على حدّ المبالغة، ويقتصر على هذا القدر، ولا يسمى «استعارة». وأمّا «التمثيل» الذي يكون مجازا لمجيئك به على حدّ الاستعارة، فمثاله قولك للرجل يتردّد في الشيء بين فعله وتركه: «أراك تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى» «2». فالأصل في هذا: أراك في تردّدك كمن يقدّم رجلا ويؤخّر أخرى، ثم اختصر الكلام،

_ (1) البيت للبيد بن ربيعة في ديوانه من معلقته، وصدره: «وغداة ريح قد وزعت وقرة» وانظر (شرح القصائد العشر للتبريزي). (2) قول قاله يزيد بن الوليد إلى مروان بن محمد عند ما تلكأ في البيعة له في رسالة أرسلها إليه والخبر مفصل في البيان والتبيين (1/ 301).

[فصل: في ترجيح الكناية والاستعارة والتمثيل على الحقيقة]

وجعل كأنه يقدم الرجل ويؤخّرها على الحقيقة، كما كان الأصل في قولك: «رأيت أسدا»، رأيت رجلا كالأسد، ثم جعل كأنّه الأسد على الحقيقة. وكذلك تقول للرجل يعمل في غير معمل: «أراك تنفخ في غير فحم، وتخطّ على الماء»، فتجعله في ظاهر الأمر كأنّه ينفخ ويخط، والمعنى على أنك في فعلك كمن يفعل ذلك. وتقول للرجل يعمل الحيلة حتى يميل صاحبه إلى الشيء قد كان يأباه ويمتنع منه: «ما زال يفتل في الذّروة والغاب حتى بلغ منه ما أراد»، فتجعله بظاهر اللفظ كأنه كان منه فتل في ذروة وغارب، والمعنى على أنه لم يزل يرفق بصاحبه رفقا يشبه حاله فيه حال الرجل يجيء إلى البعير الصّعب فيحكّه ويفتل الشّعر في ذروته وغاربه، حتى يسكن ويستأنس، وهو في المعنى نظير قولهم: «فلان يقرّد فلانا»، يعنى به أنه يتلطّف له فعل الرجل ينزع القراد من البعير ليلذّه ذلك، فيسكن ويثبت في مكان حتى يتمكن من أخذه. وهكذا كلّ كلام رأيتهم قد نحو فيه نحو التمثيل، ثم لم يفصحوا بذلك، وأخرجوا اللفظ مخرجه إذا لم يريدوا تمثيلا. [فصل: في ترجيح الكناية والاستعارة والتمثيل على الحقيقة] قد أجمع الجميع على أن «الكناية» أبلغ من الإفصاح، والتعريض أوقع من التصريح، وأنّ للاستعارة مزية وفضلا، وأنّ المجاز أبدا أبلغ من الحقيقة، إلّا أن ذلك، وإن كان معلوما على الجملة، فإنه لا تطمئن نفس العاقل في كل ما يطلب العلم به حتى يبلغ فيه غايته، وحتى يغلغل الفكر إلى زواياه، وحتى لا يبقى عليه موضع شبهة ومكان مسألة. فنحن وإن كنا نعلم أنك إذا قلت: «هو طويل النجاد، وهو جمّ الرماد»، كان أبهى لمعناك، وأنبل من أن تدع الكناية وتصرح بالذي تريد. وكذا إذا قلت: «رأيت أسدا»، كان لكلامك مزيّة لا تكون إذا قلت: رأيت رجلا هو والأسد سواء، في معنى الشجاعة وفي قوة القلب وشدة البطش وأشباه ذلك. وإذا قلت: «بلغني أنك تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى»، كان أوقع من صريحه «1» الذي هو قولك: بلغني أنك تتردد في أمرك، وأنك في ذلك كمن يقول: أخرج ولا أخرج، فتقدّم رجلا وتؤخّر أخرى. ونقطع على ذلك حتى لا يخالجنا شك فيه، فإنما تسكن أنفسنا تمام السكون، إذا عرفنا السبب في ذلك والعلّة، ولم كان كذلك، وهيأنا له عبارة تفهم عنّا من نريد إفهامه. وهذا هو قول في ذلك:

_ (1) كان أوقع من صريحه: جملة لجواب الشرط وهو قوله «وإن كنا نعلم».

اعلم أنّ سبيلك أوّلا أن تعلم أن ليست المزيّة- التي تثبتها لهذه الأجناس على الكلام المتروك على ظاهره، والمبالغة التي تدّعي لها- في أنفس المعاني التي يقصد المتكلم إليها بخبره، ولكنها في طريق إثباته لها وتقريره إياها. تفسير هذا: أن ليس المعنى إذا قلنا: «إن الكناية أبلغ من التصريح»، أنّك لمّا كنيت عن المعنى زدت في ذاته، بل المعنى أنك زدت في إثباته، فجعلته أبلغ وآكد وأشدّ. فليست المزيّة في قولهم: «جمّ الرماد»، أنه دلّ على قرى أكثر، بل أنّك أثبتّ له القرى الكثير من وجه هو أبلغ، وأوجبته إيجابا هو أشدّ، وادّعيته دعوى أنت بها أنطق، وبصحّتها أوثق. وكذلك ليست المزية التي تراها لقولك: «رأيت أسدا»، على قولك: رأيت رجلا لا يتميّز عن الأسد في شجاعته وجرأته أنك قد أفدت بالأوّل زيادة في مساواته الأسد، بل أن أفدت «1» تأكيدا وتشديدا وقوة في إثباتك له هذه المساواة، وفي تقريرك لها. فليس تأثير الاستعارة إذن في ذات المعنى وحقيقته، بل في إيجابه والحكم به. وهكذا قياس «التّمثيل»، ترى المزيّة أبدا في ذلك تقع في طريق إثبات المعنى دون المعنى نفسه. فإذا سمعتهم يقولون: إنّ من شأن هذه الأجناس أن تكسب المعاني نبلا وفضلا، توجب لها شرفا، وأن تفخّمها في نفوس السامعين، وترفع أقدارها عند المخاطبين، فإنهم لا يريدون الشجاعة والقرى وأشباه ذلك من معاني الكلم المفردة، وإنما يعنون إثبات معاني هذه الكلم لمن تثبت له ويخبر بها عنه. هذا ما ينبغي للعاقل أن يجعله على ذكر منه أبدا، وأن يعلم أن ليس لنا- إذا نحن تكلمنا في البلاغة والفصاحة- مع معاني الكلم «2» المفردة شغل، ولا هي منا بسبيل، وإنّما نعمد إلى الأحكام التي تحدث بالتأليف والتركيب. وإذ قد عرفت مكان هذه المزيّة والمبالغة التي لا تزال تسمع بها، وأنها في الإثبات دون المثبت، فإنّ لها في كل واحد من هذه الأجناس سببا وعلة. أما «الكناية»، فإنّ السبب في أن كان للإثبات بها مزيّة لا تكون للتصريح، أنّ كل عاقل يعلم إذا رجع إلى نفسه، أنّ إثبات الصفة بإثبات دليلها، وإيجابها بما هو شاهد في وجودها، آكد وأبلغ في الدّعوى من أن تجيء إليها فتثبتها هكذا ساذجا

_ (1) المعنى: «أن تعلم أن ليست المزية ... في أنفس المعاني». (2) المعنى: «أن ليس لنا ... مع معاني الكلم».

[فصل: في تفاوت الكناية والاستعارة والتمثيل]

غفلا. وذلك أنك لا تدّعي شاهد الصفة ودليلها إلّا والأمر ظاهر معروف، وبحيث لا يشكّ فيه، ولا يظنّ بالمخبر التجوّز والغلط. وأمّا «الاستعارة»، فسبب ما ترى لها من المزيّة والفخامة، أنك إذا قلت: «رأيت أسدا»، كنت قد تلطّفت لما أردت إثباته له من فرط الشجاعة، حتى جعلتها كالشيء الذي يجب له الثّبوت والحصول، وكالأمر الذي نصب له دليل يقطع بوجوده. وذلك أنه إذا كان أسدا، فواجب أن تكون له تلك الشجاعة العظيمة، وكالمستحيل أو الممتنع أن يعرى عنها. وإذا صرّحت بالتشبيه فقلت: «رأيت رجلا كالأسد»، وكنت قد أثبتها إثبات الشيء يترجّح بين أن يكون وبين أن لا يكون، ولم يكن من حديث الوجوب في شيء. وحكم «التمثيل»، حكم «الاستعارة» سواء، فإنك إذا قلت: «أراك تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى»، فأوجبت له الصورة التي يقطع معها بالتحيّر والتردد، كان أبلغ لا محالة من أن تجري على الظاهر. فتقول: قد جعلت تتردّد في أمرك، فأنت كمن يقول: أخرج ولا أخرج، فيقدّم رجلا ويؤخّر أخرى. [فصل: في تفاوت الكناية والاستعارة والتمثيل] اعلم أنّ من شأن هذه الأجناس أن تجري فيها الفضيلة، وأن تتفاوت التفاوت الشديد. أفلا ترى أنك تجد في الاستعارة العاميّ المبتذل، كقولنا: «رأيت أسدا، ووردت بحرا، ولقيت بدرا». والخاصّيّ النادر الذي لا تجده إلّا في كلام الفحول، ولا يقوى عليه إلّا أفراد الرجال، كقوله: [من الطويل] وسالت بأعناق المطيّ الأباطح «1» أراد أنها سارت سيرا حثيثا في غاية السرعة، وكانت سرعة في لين وسلاسة، حتى كأنها كانت سيولا وقعت في تلك الأباطح فجرت بها. ومثل هذه الاستعارة في الحسن واللّطف وعلوّ الطبقة في هذه اللفظة بعينها قول الآخر: [من البسيط]

_ (1) البيت لكثير عزة في ديوانه وصدره: أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وفي زهر الآداب (ص 349)، وبلا نسبة في اللسان (طرف)، وفي الإيضاح (264)، وعروس الأفراح كلاهما بتحقيق د. عبد الحميد هنداوي، وأساس البلاغة (سيل)، وتاج العروس (طرف) ومعجم البلدان (منى). والأبطح: مسيل واسع فيه دقاق الحصى. اللسان (بطح).

سالت عليه شعاب الحيّ حين دعا ... أنصاره، بوجوه كالدّنانير «1» أراد أنّه مطاع في الحيّ، وأنهم يسرعون إلى نصرته، وأنه لا يدعوهم لحرب أو نازل خطب، إلا أتوه وكثروا عليه، وازدحموا حواليه، حتى تجدهم كالسيول تجيء من هاهنا وهاهنا، وتنصبّ من هذا المسيل وذلك، حتى يغصّ به الوادي ويطفح منها. ومن بديع الاستعارة ونادرها، إلا أنّ جهة الغرابة فيه غير جهتها في هذا، قول يزيد بن مسلمة بن عبد الملك يصف فرسا له، وأنّه مؤدّب، وأنه إذا نزل عنه وألقى عنانه في قربوس سرجه، وقف مكانه إلى أن يعود إليه: [من الكامل] عوّدته فيما أزور حبائبي ... إهماله، وكذاك كلّ مخاطر وإذا اختبى قربوسه بعنانه ... علك الشّكيم إلى انصراف الزّائر «2» فالغرابة هاهنا في الشبه نفسه، وفي أن استدرك أنّ هيئة العنان في موقعه من قربوس السرج، كالهيئة في موضع الثّوب من ركبة المحتبي. وليست الغرابة في قوله: [من الطويل] وسالت بأعناق المطيّ الأباطح «3» على هذه الجملة «4»، وذلك أنه لم يغرب لأن جعل المطيّ في سرعة سيرها وسهولته كالماء يجري في الأبطح، فإنّ هذا شبه معروف ظاهر، ولكن الدّقة واللطف في خصوصيّة أفادها، بأن جعل «سال» فعلا للأباطح، ثم عدّاه بالباء، بأن أدخل الأعناق في البين،: فقال «بأعناق المطيّ»، ولم يقل: «بالمطيّ»، ولو قال: «سالت المطيّ في الأباطح»، لم يكن شيئا. وكذلك الغرابة في البيت الآخر، ليس في مطلق معنى «سال»، ولكن في تعديته

_ (1) هو لابن المعتز في الإيضاح (265)، وينسب أيضا إلى محرز بن المكعبر، ولد حاجة بن عبد قيس التيمي، وهو بلا نسبة في أساس البلاغة (سهل)، وقيل: لسبيع بن الخطيم التيمي، وانظر المؤتلف والمختلف للآمدي (112). (2) البيتان ليزيد بن مسلمة، والثاني منهما في عروس الأفراح، والإيضاح (264)، والقربوس: حنو السّرج، وجمعه: قرابيس، والشكيم والشكيمة في اللجام: الحديدة المعترضة في فم الفرس. اه القاموس/ شكم/ (1455). (3) سبق تخريجه. (4) يعني على هذا الوجه والمعنى.

بعلى والباء، وبأن جعله فعلا لقوله «شعاب الحيّ»، ولولا هذه الأمور كلّها لم يكن هذا الحسن. وهذا موضع يدقّ الكلام فيه. وهذه أشياء من هذا الفنّ: [من البسيط] اليوم يومان مذ غيّبت عن بصري، ... نفسي فداؤك، ما ذنبي فأعتذر أمسي وأصبح لا ألقاك، وا حزنا، ... لقد تأنّق في مكروهي القدر سوار بن المضرّب، وهو لطيف جدّا: [من الوافر] بعرض تنوفة للرّيح فيها ... نسيم لا يروع التّرب وان «1» بعض الأعراب: [من الكامل] ولربّ خصم جاهدين ذوي شذا ... تفذي صدورهم بهتر هاتر «2» لدّ ظأرتهم على ما ساءهم ... وخسأت باطلهم بحقّ ظاهر «3» المقصود لفظ: «خسأت». ابن المعتز: [من الرجز] حتّى إذا ما عرف الصّيد الضّار ... وأذن الصّبح لنا في الإبصار «4» المعنى: حتى إذا تهيأ لنا أن نبصر شيئا لمّا كان تعذّر الإبصار منعا من الليل، جعل إمكانه عند ظهور الصبح إذنا من الصّبح. وله: [من المجزوء الموافر] بخيل قد بليت به ... يكدّ الوعد بالحجج «5»

_ (1) البيت من قصيدة له في الأصمعيات رقم (91)، وجاء برواية لفظها: بكل تنوفة للريح فيها ... حفيف لا يروع الترب وان في الإيضاح (264)، وفي لسان العرب لجحدر اليماني (ونى)، وتاج العروس (ونى). (2) البيت لثعلبة بن صعير المازني في لسان العرب (خصم) برواية: ولرب خصم قد شهدت ألدّة ... تغلي ......... هاتر وهو في تاج العروس (خصم). وقول هتر: كذب، والهتر: بالكسر: السقط من الكلام والخطأ فيه. ويقال: هتر هاتر وهو توكيد له. (3) انظر السابق في المفضليات رقم (24)، ولدّه: خصمه فهو لادّ ولدود، والخصم الشحيح والجمع لدّ ولداد. انظر القاموس المحيط (لدد). وظأرتهم: عطفتهم على الصلح، الجوهري: في المثل: الطعن يظئره: أي يعطفه على الصلح والظئار: أن تعطف الناقة على ولدها. اللسان (ظأر). (4) في الإيضاح. وانصار أي انضم وانجمع يصف بازي الصيد. وجاءت كلمة «انصار» في نسخة «الضار» يعني «الضاري» وهو الكلب. (5) البيت لابن المعتز في ديوانه وروايته: بخيل قد سقيت به ... يكدّ الوعد باللّجج واللجج: التمادي في العناد.

وله: [من الطويل] يناجيني الإخلاف من تحت مطله ... فتختصم الآمال واليأس في صدري «1» وممّا هو في غاية الحسن، وهو من الفنّ الأول، قول الشاعر أنشده الجاحظ: [من الطويل] لقد كنت في قوم عليك أشحّة ... بنفسك، إلّا أنّ ما طاح طائح يودّون لو خاطوا عليك جلودهم، ... ولا تدفع الموت النّفوس الشّحائح «2» قال: وإليه ذهب بشار في قوله: [من الرجز] وصاحب كالدّمّل الممدّ ... حملته في رقعة من جلدي «3» ومن سرّ هذا الباب، أنك ترى اللفظة المستعارة قد استعيرت في عدة مواضع، ثم ترى لها في بعض ذلك ملاحة لا تجدها في الباقي. مثال ذلك أنك تنظر إلى لفظة «الجسر» في قول أبي تمام: [من البسيط] لا يطمع المرء أن يجتاب لجّته ... بالقول ما لم يكن جسرا له العمل «4» وقوله: [من البسيط] بصرت بالرّاحة العظمى فلم ترها ... تنال إلّا على جسر من التّعب «5» فترى لها في الثاني حسنا لا تراه في الأول، ثم تنظر إليها في قول ربيعة الرّقيّ: [من البسيط]

_ (1) البيت في ديوانه برواية: تجاذبني الأطراف بالوصل والقلى ... فتختصم الآمال واليأس في الصدر والقلى: البغض. (2) البيت الثاني منهما للنطاح وهو في تاج العروس برواية: «بودّي» بدلا من «يودّون»، انظر التاج (ودد). والبيتان في البيان والتبيين (1/ 50)، وقال: «ذهب إلى قول الأغر الشاعر» وأنشد البيتين. وطاح: هلك وسقط، والطائح: الهالك المشرف على الهلاك. اللسان (طوح). (3) في ديوانه، وفي البيان (1/ 50). والدّمّل: واحد دماميل القروح، والممدّ: الجرح فيه مدّة، وأمدّ الجرح يمدّ إمدادا: صارت فيه مدة. اللسان (دمل)، (مدد). (4) في ديوانه، وروايته: «أن يجتاب غمرته» ويروى «ويجتاز غمرته» وجاب الشيء جوبا واجتابه: خرقه، ورجل جوّاب: معتاد لذلك إذا كان قطاعا للبلاد سيارا فيها. اللسان (جوب). واللّجة من لجّ يلجّ، ولجّة البحر: حيث لا يدرك قعره. ولج الوادي: جانبه، ولج البحر: عرضه، قيل: ولج البحر: الماء الكثير الذي لا يرى طرفاه، واللّجّ: السيف تشبيها بلجّ البحر. (5) في ديوانه برواية: بالراحة الكبرى» والراحة والرّويحة بمعنى واحد. قيل: قعدنا في الظل نلتمس الراحة، والراحة: الكف وجمعها «راح»، انظر اللسان (روح).

قولي نعم، ونعم إن قلت واجبة ... قالت: عسى وعسى جسر إلى نعم فترى لها لطفا وخلابة «1» وحسنا ليس الفضل فيه بقليل. ومما هو أصل في شرف الاستعارة، أن ترى الشاعر قد جمع بين عدّة استعارات، قصدا إلى أن يلحق الشكل بالشكل، وأن يتمّ المعنى والشّبه فيما يريد، مثاله قوله امرئ القيس: [من الطويل] فقلت له لمّا تمطّى بصلبه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل «2» لما جعل للّيل صلبا قد تمطّى به، ثنّى ذلك فجعل له أعجازا قد أردف بها الصّلب، وثلّث فجعل له كلكلا قد ناء به، فاستوفى له جملة أركان الشّخص، وراعى ما يراه الناظر من سواده، إذا نظر قدّامه، وإذا نظر إلى خلفه، وإذا رفع البصر ومدّه في عرض الجوّ. واعلم أن هاهنا أسرارا ودقائق، لا يمكن بيانها إلّا بعد أن تقدّم جملة من القول في «النظم» وفي تفسيره والمراد منه، وأيّ شيء هو؟ وما محصوله ومحصول الفضيلة فيه؟ فينبغي لنا أن نأخذ في ذكره، وبيان أمره، وبيان المزيّة التي تدّعى له من أين تأتيه؟ وكيف تعرض فيه؟ وما أسباب ذلك وعلله؟ وما الموجب له؟ وقد علمت إطباق العلماء على تعظيم شأن «النظم» وتفخيم قدره، والتنويه بذكره، وإجماعهم أن لا فضل مع عدمه، ولا قدر لكلام إذا هو لم يستقم له، ولو بلغ في غرابة معناه ما بلغ، وبتّهم «3» الحكم بأنه الذي لا تمام دونه، ولا قوام إلّا به، وأنه القطب الذي عليه المدار، والعمود الذي به الاستقلال. وما كان بهذا المحلّ من الشّرف، وفي هذه المنزلة من الفضل، وموضوعا هذا الموضع من المزيّة، وبالغا هذا المبلغ من الفضيلة، كان حري بأن توقظ له الهمم، وتوكّل به النفوس، وتحرّك له الأفكار، وتستخدم فيه الخواطر، وكان «4» العاقل جديرا أن لا يرضى من نفسه بأن

_ (1) أن تخلب المرأة قلب الرجل بألطف القول وأخلبه. ا. هـ اللسان/ خلب/ (1/ 364) والخلابة استخدمها المؤلف على المجاز. (2) انظر معلقته المشهورة في ديوانه (ص 117)، وجاء بلفظ «بجوزه» بدلا من «بصلبه» والبيت في الإيضاح بتحقيق د. هنداوي (ص 265)، والتبيان للطيبي بتحقيقنا كذلك (ص 320). يقال: ناء بحمله ينوء نوءا: نهض بجهد ومشقة ومنها قوله تعالى: ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ. والكلكل: الصدر. والبيت في وصف «ليل المهموم». (3) معطوفة على «إطباق العلماء»، والبتّ: القطع. (4) معطوف على: «كان حري».

يجد فيه سبيلا إلى مزيّة علم، وفضل استبانة، وتلخيص حجّة «1»، وتحرير دليل، ثمّ يعرض عن ذلك صفحا، ويطوي دونه كشحا «2»، وأن يربأ بنفسه «3»، وتدخل عليه الأنفة من أن يكون في سبيل المقلّد الذي لا يبتّ حكما، ولا يقتل الشيء علما، ولا يجد ما يبرئ من الشبهة، ويشفى غليل الشاكّ، وهو يستطيع أن يرتفع عن هذه المنزلة، ويباين من هو بهذه الصفة، فإنّ ذلك دليل ضعف الرأي وقصر الهمّة ممن يختاره ويعمل عليه. اعلم أن ليس «النّظم» إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه «علم النحو»، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك، فلا تخلّ بشيء منها. وذلك أنا لا نعلم شيئا يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كل باب وفروقه، فينظر في «الخبر» إلى الوجوه التي تراها في قولك: «زيد منطلق» و «زيد ينطلق»، و «ينطلق زيد» و «منطلق زيد»، و «زيد المنطلق» و «المنطلق زيد» و «زيد هو المنطلق»، و «زيد هو منطلق». وفي «الشرط والجزاء» إلى الوجوه التي تراها في قولك: «إن تخرج أخرج» و «إن خرجت خرجت» و «إن تخرج فأنا خارج» و «أنا خارج إن خرجت» و «أنا إن خرجت خارج». وفي «الحال» إلى الوجوه التي تراها في قولك: «جاءني زيد مسرعا»، وجاءني يسرع»، و «جاءني وهو مسرع أو وهو يسرع» و «جاءني قد أسرع» و «جاءني وقد أسرع». فيعرف لكلّ من ذلك موضعه، ويجيء به حيث ينبغي له. وينظر في «الحروف» التي تشترك في معنى، ثم ينفرد كل واحد منها بخصوصية في ذلك المعنى، فيضع كلّا من ذلك في خاص معناه، نحو أن يجيء ب «ما» في نفس الحال، ب «لا» إذا أراد نفي الاستقبال، وب «إن» فيما يترجح بين أن يكون وأن لا يكون، وب «إذا» فيما علم أنه كائن. وينظر في «الجمل» التي تسرد، فيعرف موضع الفصل فيها من موضع الوصل،

_ (1) أي: شرحها وبيانها. (2) وهو ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلف وطوى كشحه على الأمر: أضمره وستره. القاموس/ كشح/ (305). (3) قوله: وأن يربأ بنفسه. جملة معطوفة على: (أن لا يرضى من نفسه).

ثم يعرف فيما حقّه الوصل موضع «الواو» من موضع «الفاء»، وموضع «الفاء» من موضع «ثم»، وموضع «أو» من موضع «أم»، وموضع «لكن» من موضع «بل». ويتصرّف في التعريف، والتنكير، والتقديم، والتأخير، في الكلام كله، وفي الحذف، والتكرار، والإضمار، والإظهار، فيصيب بكلّ من ذلك مكانه، ويستعلمه على الصّحة وعلى ما ينبغي له. هذا هو السبيل، فلست بواجد شيئا يرجع صوابه إن كان صوابا، وخطؤه إن كان خطأ إلى «النظم»، ويدخل تحت هذا الاسم، إلّا وهو معنى من معاني النحو قد أصيب به موضعه، ووضع في حقه، أو عومل بخلاف هذه المعاملة، فأزيل عن موضعه، واستعمل في غير ما ينبغي له، فلا ترى كلاما قد وصف بصحّة نظم أو فساده، أو وصف بمزيّة وفضل فيه، إلا وأنت تجد مرجع تلك الصحة وذلك الفساد وتلك المزية وذلك الفضل، إلى معاني النحو وأحكامه، ووجدته يدخل في أصل من أصوله، ويتّصل بباب من أبوابه. هذه جملة لا تزداد فيها نظرا، إلا ازددت لها تصوّرا، وازدادت عندك صحة، وازددت بها ثقة. وليس من أحد تحرّكه لأن يقول في أمر «النظم» شيئا، إلا وجدته قد اعترف لك بها أو ببعضها، ووافق فيها درى ذلك أو لم يدر. ويكفيك أنّهم قد كشفوا عن وجه ما أردناه حيث ذكروا فساد «النظم»، فليس من أحد يخالف في نحو قول الفرزدق: [من الطويل] وما مثله في النّاس إلّا مملّكا ... أبو أمّه حيّ أبوه يقاربه «1» وقول المتنبي: [من الكامل] ولذا اسم أغطية العيون جفونها ... من أنّها عمل السّيوف عوامل «2» وقوله: [من الكامل] الطّيب أنت إذا أصابك طيبه، ... والماء أنت إذا اغتسلت الغاسل «3»

_ (1) البيت في ديوانه يمدح فيه هشام بن عبد الملك بن مروان أحد ملوك بني أمية، وخاله الممدوح إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي. انظر اللسان (ملك)، ومعاهد التنصيص (1/ 43)، وهو بلا نسبة في الخصائص (1/ 146، 329)، (2/ 393). (2) في ديوانه فانظره، ضمير أنها للعيون، أي: أنها تعمل عمل السيوف، ولذا سميت أغطية العيون جفونا، والجفون: أغماد السيوف، أي: لأنها تعمل عمل السيوف. (3) في ديوانه، والمعنى: إذا أصابك الطيب يتنشق طيبك لأنك أنت طيبة، وإذا اغتسلت بالماء فأنت الغاسل له.

وقوله: [من الطويل] وفاؤكما كالرّبع أشجاه طاسمه ... بأن تسعدا، والدّمع أشفاه ساجمه «1» وقول أبو تمام: [من الكامل] ثانيه كبد السّماء، ولم يكن ... كاثنين ثان إذ هما في الغار «2» وقوله: [من البسيط] يدي لمن شاء رهن لم يذق جرعا ... من راحتيك درى ما الصّاب والعسل «3» وفي نظائر ذلك «4» مما وصفوه بفساد النظم، وعابوه من جهة سوء التأليف، أن الفساد والخلل كانا من أن تعاطى الشاعر ما تعاطاه من هذا الشأن على غير الصواب، وصنع في تقديم أو تأخير، أو حذف وإضمار، أو غير ذلك مما ليس له أن يصنعه، وما لا يسوغ ولا يصحّ على أصول هذا العلم. وإذا ثبت أن سبب فساد النظم واختلاله، أن لا يعمل بقوانين هذا الشأن، ثبت أنّ سبب صحّته أن يعمل عليها، ثم إذا ثبت أنّ مستنبط صحّته وفساده من هذا العلم، ثبت أن الحكم كذلك في مزيّته والفضيلة التي تعرض فيه، وإذا ثبت جميع ذلك، ثبت أن ليس هو شيئا غير توخّي معاني هذا العلم وأحكامه فيما بين الكلم، والله الموفق للصواب. وإذ قد عرفت ذلك، فاعمد إلى ما تواصفوه بالحسن، وتشاهدوا له بالفضل، ثمّ جعلوه كذلك من أجل «النظم» خصوصا، دون غيره مما يستحسن له الشعر أو غير الشعر، من معنى لطيف أو حكمة أو أدب أو استعارة أو تجنيس أو غير ذلك مما لا يدخل في النظم، وتأمّله، فإذا رأيتك قد ارتحت واهتززت واستحسنت، فانظر إلى حركات الأريحيّة ممّ كانت؟ وعند ماذا ظهرت؟ فإنك ترى عيانا أن الذي قلت لك كما قلت. اعمد إلى قول البحتري: [من المتقارب]

_ (1) البيت في ديوانه فانظره، والتبيان (2/ 254). وشجاه شجوا: أحزنه وأشجاه تفضيل من شجى، والطاسم: الدارس، والساجم: السائل سجم الدمع سجوما وسجاما: سال وانسجم، وسجمت العين دمعها وعين سجوم وأسجمت السماء: صبت. والمعنى: الشاعر يخاطب صاحبيه الذين عاهداه على مساعدته بالبكاء عند ربع الأحبة، ويبرر شدة حزنه بقلة مساعدتهما له بالبكاء، ويعذر دمعه لأن صاحبيه خاليان ولا يعرفان ما فيه من حزن. (2) البيت في ديوانه (ص 145)، ونهاية الإعجاز (ص 279)، والموازنة (ص 29)، والإيضاح (ص 160). (3) البيت في ديوانه (ص 215)، والصاب: عصير نبات مرّ، وقيل: شجر إذا اعتصر خرج منه كهيئة اللّبن. (4) الجملة مرتبطة ببداية الكلام، وهو قوله: «فليس من أحد يخالف».

بلونا ضرائب من قد نرى ... فما إن رأينا لفتح ضريبا هو المرء أبدت له الحادثا ... ت عزما وشيكا ورأيا صليبا تنقّل في خلقي سؤدد ... سماحا مرجّا وبأسا مهيبا فكالسّيف إن جئته صارخا، ... وكالبحر إن جئته مستثيبا «1» فإذا رأيتها قد راقتك وكثرت عندك، ووجدت لها اهتزازا في نفسك، فعد فانظر في السبب واستقص في النظر، فإنك تعلم ضرورة أن ليس إلا أنه قدّم وأخّر، وعرّف ونكّر، وحذف وأمر، وأعاد وكرّر، وتوخّى على الجملة وجها من الوجوه التي يقتضيها «علم النحو»، فأصاب في ذلك كله، ثم لطّف موضع صوابه، وأتى مأتى يوجب الفضيلة. أفلا ترى أن أول شيء يروقك منها قوله: «هو المرء أبدت له الحادثات»، ثم قوله: «تنقّل في خلقي سؤدد» بتنكير «السؤدد» وإضافة «الخلقين» إليه، ثم قوله: «فكالسيف» وعطفه بالفاء مع حذفه المبتدأ، لأن المعنى لا محالة: فهو كالسيف ثم تكريره «الكاف» في قوله: «وكالبحر»، ثم أن قرن إلى كل واحد من التشبيهين شرطا جوابه فيه، ثم أن أخرج من كل واحد من الشرطين حالا على مثال ما أخرج من الآخر، وذلك قوله «صارخا» هناك «ومستثيبا» هاهنا؟ لا ترى حسنا تنسبه إلى النظم ليس سببه ما عددت، أو ما هو في حكم ما عددت، فاعرف ذلك. وإن أردت أظهر أمرا في هذا المعنى، فانظره إلى قول إبراهيم بن العباس: فلو إذ نبا دهر، وأنكر صاحب، ... وسلّط أعداء، وغاب نصير تكون عن الأهواز داري بنجوة، ... ولكن مقادير جرت وأمور وإنّي لأرجو بعد هذا محمّدا ... لأفضل ما يرجى أخ ووزير «2» فإنك ترى ما ترى من الرّونق والطّلاوة، ومن الحسن والحلاوة، ثم تتفقّد السبب في ذلك، فتجده إنّما كان من أجل تقديمه الظرف الذي هو «إذ نبا» على

_ (1) الأبيات في ديوانه، في مدح الفتح بن خاقان، والضرائب جمع ضريبة وهي الطبيعة والسّجية وهذه ضريبته التي ضرب عليها وهي الخليقة. يقال: خلق الناس على ضرائب شتى. وإنه لكريم الضرائب. والضريب: الشكل في القدّ والخلق، يقال: فلان ضريب فلان أي: نظيره وضريب الشكل مثله وشكله. والمستثيب: طالب الثواب. (2) في ديوانه قالها لمّا عزل عن الأهواز في أيّام محمد بن عبد الملك الزّيات. الأغاني (10/ 61، 62). والنجوة: ما ارتفع من الأرض فلم يعله السّيل، والأهواز سبع كور بين البصرة وفارس، لكل كورة منها اسم ويجمعهن الأهواز ..

فصل «في أن هذه المزايا في النظم، بحسب المعاني والأغراض التي تؤم».

عامله الذي هو «تكون»، وأن لم يقل: فلو تكون عن الأهواز داري بنجوة إذ نبا دهر، ثم أن ساق هذا التنكير في جميع ما أتى به من بعد، ثم أن قال: «وأنكر صاحب» ولم يقل: وأنكرت صاحبا، لا ترى في البيتين الأوّلين شيئا غير الذي عددته لك تجعله حسنا في «النظم»، وكله من معاني النحو كما ترى. وهكذا السبيل أبدا في كل حسن ومزية رأيتهما قد نسبا إلى «النظم»، وفضل، وشرف أحيل فيهما عليه. فصل «في أن هذه المزايا في النظم، بحسب المعاني والأغراض التي تؤمّ». وإذ قد عرفت أنّ مدار أمر «النظم» على معاني النحو، وعلى الوجوه والفروق التي من شأنها أن تكون فيه، فاعلم أنّ الفروق والوجوه كثيرة ليس لها غاية تقف عندها، ونهاية لا تجد لها ازديادا بعدها، ثمّ اعلم أن ليست المزيّة بواجبة لها في أنفسها، ومن حيث هي على الإطلاق، ولكن تعرض بسبب المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام، ثم بحسب موقع بعضها من بعض، واستعمال بعضها مع بعض. تفسير هذا: أنه ليس إذا راقك التنكير في «سؤدد» «1» من قوله «تنقّل في خلقي سؤدد»، وفي «دهر» من قوله: «فلو إذ نبا دهر»، فإنه يجب أن يروقك أبدا وفي كل شيء، ولا إذا استحسنت لفظ ما لم يسمّ فاعله في قوله «وأنكر صاحب»، فإنه ينبغي أن لا تراه في مكان إلا أعطيته مثل استحسانك هاهنا، بل ليس من فضل ومزيّة إلا بحسب الموضع، وبحسب المعنى الذي تريد والغرض الذي تؤمّ. وإنما سبيل هذه المعاني سبيل الأصباغ التي تعمل منها الصور والنقوش، فكما أنك ترى الرجل قد تهدّى في الأصباغ التي عمل منها الصّورة والنقش في ثوبه الذي نسج، إلى ضرب من التخيّر والتدبّر في أنفس الأصباغ وفي مواقعها ومقاديرها وكيفية مزجه لها وترتيبه إياها، إلى ما لم يتهدّ إليه صاحبه، فجاء نقشه من أجل ذلك أعجب، وصورته أغرب، كذلك حال الشاعر والشاعر في توخّيهما معاني النّحو ووجوهه التي علمت أنها محصول «النّظم». واعلم أنّ من الكلام ما أنت ترى المزيّة في نظمه والحسن، كالأجزاء من الصّبغ تتلاحق وينضمّ بعضها إلى بعض حتى تكثر في العين، فأنت لذلك لا تكبر شأن

_ (1) كلمة وردت سابقا في أبيات البحتري «ودهر» وردت في أبيات الصولي.

صاحبه، ولا تقضي له بالحذق والأستاذية وسعة الذّرع وشدة المنّة «1»، حتى تستوفي القطعة وتأتي على عدة أبيات. وذلك ما كان من الشعر في طبقة ما أنشدتك من أبيات البحتري، ومنه ما أنت ترى الحسن يهجم عليك منه دفعة، ويأتيك منه ما يملأ العين ضربة، حتى تعرف من البيت الواحد مكان الرجل من الفضل، وموضعه من الحذق، وتشهد له بفضل المنّة وطول الباع، وحتى تعلم، إن لم تعلم القائل، أنّه من قيل شاعر فحل، وأنه خرج من تحت يد صناع، وذلك ما إذا أنشدته وضعت فيه اليد على شيء فقلت: هذا، هذا! وما كان كذلك فهو الشّعر الشاعر، والكلام الفاخر، والنّمط العالي الشريف، والذي لا تجده إلّا في شعر الفحول البزّل «2»، ثم المطبوعين الذين يلهمون القول إلهاما. ثم إنّك تحتاج إلى أن تستقري عدّة قصائد، بل أن تفلي «3» ديوانا من الشعر، حتى تجمع منه عدّة أبيات. وذلك ما كان مثل قول الأوّل، وتمثّل به أبو بكر الصّدّيق رضوان الله عليه حين أتاه كتاب خالد بالفتح في هزيمة الأعاجم: [من الوافر] تمنّانا ليلقانا بقوم ... تخال بياض لأمهم السّرابا فقد لاقيتنا فرأيت حربا ... عوانا تمنع الشّيخ الشرابا «4» انظر إلى موضع «الفاء» في قوله: فقد لاقيتنا فرأيت حربا ومثل قول العباس بن الأحنف: [من البسيط] قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا، ... ثمّ القفول، فقد جئنا خراسانا «5»

_ (1) بالضم: القوة. القاموس/ منن/ (1594). (2) تقول جمل وناقة بازل وبزول جمل بزّل أي في تاسع سنة والرجل الكامل في تجربته. القاموس/ بزل/ (1248). (3) تقول فلاه بالسيف يفليه وفلي الشعر تدبره واستخرج معانيه. فلى رأسه بحث عن القمل. القاموس/ فلي/ (1407). (4) من شعر الصحابي الجليل زياد بن حنظلة التميمي وهما من قصيدة وردت في خبر ذكره الطبري في تاريخه (3/ 222 - 225). اللأم: جمع لأمة: الدرع. القاموس/ لأم/ (1492). (5) في ديوانه من أبيات قالها للرشيد، وهو ذاهب إلى أرمينية ومنها: ما أقدر الله أن يدني على شحط ... سكان دجلة من سكان جيحانا متى الذي كنت أرجوه وآمله ... أمّا الذي كنت أخشاه فقد كانا عين الزمان أصابتنا فلا نظرت ... وعذّبت بصنوف الهجر ألوانا انظر الأغاني (8/ 388)، وجيحان: نهر بالمصيصة بالثغر الشامي، ومخرجه من بلاد الروم ويمر حتى يصب بمدينة تعرف بكفربيّا بإزاء المصيصة.

انظر إلى موضع «الفاء» و «ثم» قبلها. ومثل قول ابن الدّمينة: [من الطويل] أبيني أفي يمنى يديك جعلتني ... فأفرح، أم صيّرتني في شمالك أبيت كأنّي بين شقّين من عصا ... حذار الرّدى، أو خيفة من زيالك تعاللت كي أشجى، وما بك علّة، ... تريدين قتلي قد ظفرت بذلك «1» انظر إلى الفصل والاستئناف في قوله: «تريدين قتلي، قد ظفرت بذلك». ومثل قول أبي حفص الشّطرنجيّ، وقال على لسان عليّة أخت الرّشيد، وقد كان الرشيد عتب عليها: [من البسيط] لو كان يمنع حسن الفعل صاحبه ... من أن يكون له ذنب إلى أحد كانت عليّة أبرى النّاس كلّهم ... من أن تكافا بسوء آخر الأبد ما أعجب الشّيء ترجوه فتحرمه! قد كنت أحسب أنّي قد ملأت يدي «2» انظر إلى قوله: «قد كنت أحسب» وإلى مكان هذا الاستئناف. ومثل قول أبي دؤاد: [من الخفيف] ولقد أغتدي يدافع ركني ... أحوذي ذو ميعة إضريج «3» سلهب شرجب، كأنّ رماحا ... حملته، وفي السّراة دموج «4»

_ (1) الأبيات لابن الدمينة في ديوانه، والأغاني (17/ 96). وزيالك: فراقك. (2) أبو حفص الشطرنجي، شاعر علية بنت المهدي بن المنصور أخت هارون الرشيد الأديبة الشاعرة والشعر في الأغاني (22/ 52). وسقط من الأبيات بيت قام عليه معنى البيت الرابع وهو: ما لي إذا غبت لم أذكر بواحدة؟ ... وإن سقمت فطال السّقم لم أعد (3) البيت لأبي دؤاد الإيادي في ديوانه (ص 299)، ولسان العرب (ضرج)، وتاج العروس (ضرج)، وتهذيب اللغة (10/ 553)، وكتاب العين (6/ 42)، والأغاني (16/ 406)، وبلا نسبة في لسان العرب (جول)، وكتاب العين. والأحوذيّ: السريع في كل ما أخذ وقيل: الخفيف في الشيء بحذقه، وقيل: المشمر في الأمور القاهر لها. وكل المعاني تدور في فلك السرعة والإقدام والحذق في كل شيء. اللسان (حوذ). والإضريج: الجيد من الخيل، وقيل: الواسع اللّبان وقيل: الفرس الجواد الشديد العدو. (4) البيت لأبي دؤاد في ديوانه، وهو بلا نسبة في لسان العرب (سرا)، وأساس البلاغة (ص 135 دمج)، وتاج العروس (سرو)، والأغاني (16/ 406)، وجاءت الرواية بلفظ: «شوقب» بدلا من «سلهب». والسلهب من الخيل: الطويل على وجه الأرض وفرس مسلهبّ: ماض. وسلهب: الطويل العظام، والسّراة: الظهر والجمع: سروات. والدّموج: دخول الشيء في الشيء. ويقال: تدامج القوم على فلان إذا تعاونوا واتحدوا وتضافروا عليه، ويقال صلح دماج: محكم، والشرجب: الطويل وهو نعت للفرس الجواد وقيل: الفرس الكريم. اللسان (شرجب).

انظر إلى التنكير في قوله «كأن رماحا». ومثل قول ابن البواب: [من مجزوء الوافر] أتيتك عائذا بك من ... ك لمّا ضاقت الحيل وصيّرني هواك وبي ... لحيني يضرب المثل فإن سلمت لكم نفسي ... فما لاقيته جلل وإن قتل الهوى رجلا، ... فإني ذلك الرّجل «1» انظر إلى الإشارة والتعريف في قوله: «فإني ذلك الرجل». ومثل قول عبد الصمد: [من السريع] مكتئب ذو كبد حرّى ... تبكي عليه مقلة عبرى يرفع يمناه إلى ربّه ... يدعو، وفوق الكبد اليسرى «2» انظر إلى لفظة: «يدعو» وإلى موقعها. ومثل قول جرير: [من الكامل] لمن الدّيار ببرقة الرّوحان ... إذ لا نبيع زماننا بزمان صدع الغواني؛ إذ رمين، فؤاده ... صدع الزّجاجة، ما لذاك تدان «3» انظر إلى قوله: «ما لذاك تدان»، وتأمّل حال هذا الاستئناف. ليس من بصير عارف بجوهر الكلام، حسّاس متفهّم لسرّ هذا الشأن، ينشد أو يقرأ هذه الأبيات، إلّا لم يلبث أن يضع يده في كل بيت منها على الموضع الذي أشرت إليه، يعجب ويعجّب ويكبر شأن المزيّة فيه والفضل.

_ (1) الأبيات في الأغاني (6/ 178)، منسوبة إلى سليم بن سلام الكوفي المغني صاحب إبراهيم الموصلي. (2) هو «عبد الصمد بن المعذل» والشعر في ديوانه المجموع، وهي في الزهرة (1/ 24)، أربعة أبيات هذان ثم بعدهما: يبقى إذا كلّمته باهتا ... ونفسه ممّا به سكرى تحسبه مستمعا ناصتا ... وقلبه في أمة أخرى (3) البيتان لجرير في ديوانه وهما على غير هذا الترتيب، وجاء الثاني برواية لفظها: صدع الظعائن يوم بنّ فؤاده ... صدع الزجاجة، ما لذاك تدان

فصل «في النظم يتحد في الوضع، ويدق فيه الصنع»

فصل «في النظم يتّحد في الوضع، ويدقّ فيه الصّنع» واعلم أنّ ممّا هو أصل في أن يدقّ النظر، ويغمض المسلك، في توخّي المعاني التي عرفت: أن تتّحد أجزاء الكلام ويدخل بعضها في بعض، ويشتدّ ارتباط ثان منها بأوّل، وأن تحتاج في الجملة إلى أن تضعها في النفس وضعا واحدا، وأن يكون حالك فيها حال الباني يضع بيمينه هاهنا في حال ما يضع بيساره هناك. نعم. وفي حال ما يبصر مكان ثالث ورابع يضعهما بعد الأوّلين. وليس لما شأنه أن يجيء على هذا الوصف حدّ يحصره، وقانون يحيط به، فإنه يجيء على وجوه شتّى، وأنحاء مختلفة. فمن ذلك أن تزاوج بين معنيين في الشرط والجزاء معا، كقول البحتري: [من الطويل] إذا ما نهى النّاهي فلجّ بي الهوى، ... أصاخت إلى الواشي فلجّ بها الهجر «1» وقوله: [من الطويل] إذا احتربت يوما ففاضت دماؤها، ... تذكّرت القربى ففاضت دموعها «2» فهذا نوع. ونوع منه آخر، قول سليمان بن داود القضاعيّ: [من الوافر] فبينا المرء في علياء أهوى، ... ومنحطّ أتيح له اعتلاء وبينا نعمة إذ حال بؤس، ... وبؤس إذ تعقّبه ثراء ونوع ثالث وهو ما كان كقول كثير: [من الطويل] وإنّي وتهيامي بعزّة بعد ما ... تخلّيت ممّا بيننا وتخلّت لكالمرتجى ظلّ الغمامة كلّما ... تبوّأ منها للمقيل اضمحلّت «3» وكقول البحتري: [من الطويل]

_ (1) البيت في التبيان للطيبي (2/ 400) بتحقيق د. عبد الحميد هنداوي ويروى (أصاخ) بدل (أصاخت). (2) البيت في ديوانه، وفي الإيضاح (ص 310). (3) البيتان لكثير عزة في ديوانه، والأول منهما في خزانة الأدب (5/ 214)، والخصائص (1/ 340)، وسر صناعة الإعراب (ص 139)، وشرح شواهد المغني (ص 812)، ولسان العرب (هيم)، ومغني اللبيب (389)، والمقاصد النحوية (2/ 409) ..

لعمرك إنّا والزّمان كما جنت ... على الأضعف الموهون عادية الأقوى «1» ومنه «التقسيم»، وخصوصا إذا قسّمت ثم جمعت، كقول حسان: [من البسيط] قوم إذا حاربوا ضرّوا عدوّهم ... أو حاولوا النّفع في أشياعهم نفعوا سجيّة تلك منهم غير محدثة، ... إنّ الخلائق، فاعلم، شرّها البدع «2» ومن ذلك، وهو شيء في غاية الحسن، قول القائل: [من البسيط] لو أنّ ما أنتم فيه يدوم لكم ... ظننت ما أنا فيه دائما أبدا لكن رأيت اللّيالي غير تاركة ... ما سرّ من حادث أو ساء مطّردا فقد سكنت إلى أنّي وأنّكم ... سنستجدّ خلاف الحالتين غدا «3» قوله: «سنستجد خلاف الحالتين غدا»، جمع فيما قسّم لطيف، وقد ازداد لطفا بحسن ما بناه عليه، ولطف ما توصّل به إليه من قوله: «فقد سكنت إلى أنّي وأنّكم». وإذ قد عرفت هذا النّمط من الكلام، وهو ما تتّحد أجزاؤه حتى يوضع وضعا واحدا، فاعلم أنه النّمط العالي والباب الأعظم، والذي لا ترى سلطان المزيّة يعظم في شيء كعظمه فيه. ومما ندر- منه ولطف مأخذه، ودقّ نظر واضعه، وجلّى لك معن شأو قد تحسر دونه العتاق «4»، وغاية يعيا من قبلها المذاكي «5» القرّح «6» - الأبيات المشهورة في تشبيه شيئين بشيئين، كبيت امرئ القيس: [من الكامل] كأنّ قلوب الطّير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العنّاب والحشف البالي «7»

_ (1) الموهون: الذي أصابه وجمع وإن كانت أنثى يقال لها واهنة، يقال: أوهنه الله فهو موهون كما يقال أحمّه الله فهو محموم. (2) البيتان لحسان بن ثابت في ديوانه (ص 238)، والطراز (3/ 144)، والمصباح (ص 249)، والإيضاح (ص 316). (3) الأبيات لإبراهيم بن العباس الصولي ونسبها البعض إلى ابن الرومي. (4) عتاق الطير: الجوارح منها، الأرحبيات العتاق: النجائب منها. اللسان/ عتق/ (10/ 235). (5) هي الخيل التي أتى عليها بعد قروحها سنة أو سنتان. اه اللسان مادة/ ذكا/ (14/ 288). (6) جمع قارح وهي الناقة أول ما تحمل. اه اللسان/ قرح/ (2/ 559). (7) البيت في ديوانه من قصيدة مطلعها: ألا عم صباحا أيها الطلل البالي ... وهل يعمن من كان في العصر الخالي وفي الأغاني (3/ 192)، وشرح التصريح (1/ 382)، وشرح شواهد المغني (1/ 342، 2/ 595، 819)، والصاحبي في فقه اللغة (ص 244)، ولسان العرب (أدب)، والمقاصد النحوية (3/ 216)، والمنصف (2/ 117)، وتاج العروس (بال)، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر

وبيت الفرزدق: [من الكامل] والشّيب ينهض في الشّباب كأنّه ... ليل يصيح بجانبيه نهار «1» وبيت بشّار: [من الطويل] كأنّ مثار النّقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا، ليل تهاوى كواكبه «2» ومما أتى في هذا الباب مأتى أعجب مما مضى كله، قول زياد الأعجم: [من الطويل] وإنّا وما تلقي لنا إن هجوتنا ... لكالبحر، مهما يلق في البحر يغرق «3» وإنما كان أعجب، لأن عمله أدقّ، وطريقه أغمض، ووجه المشابكة فيه أغرب. واعلم أنّ من الكلام ما أنت تعلم إذا تدبرته أن لم يحتج واضعه إلى فكر ورويّة حتى انتظم، بل ترى سبيله في ضمّ بعضه إلى بعض، سبيل من عمد إلى لآل فخرطها في سلك، لا يبغي أكثر من أن يمنعها التفرّق، وكمن نضد أشياء بعضها على بعض، لا يريد في نضده ذلك أن تجيء له منه هيئة أو صورة، بل ليس إلا أن تكون مجموعة في رأي العين. وذلك إذا كان معناك، معنى لا تحتاج أن تصنع فيه شيئا غير أن تعطف لفظا على مثله، كقول الجاحظ:

_ - (7/ 64)، وأوضح المسالك (2/ 329)، ومغني اللبيب (1/ 218، 2/ 392، 439). والعنّاب: ثمر يطلق على شجر العنّاب وهو أحمر حلو لذيذ الطعم على شكل ثمرة النبق. والحشف من التمر: أردؤه، وهو الذي يجف قبل نضجه فلا يكون له نوى ولا لحاء ولا حلاوة ولا لحم. (1) البيت للفرزدق في ديوانه من قصيدة مطلعها: أعرفت بين رويتين وحنبل ... دمنا تلوح كأنها الأسطار ورويتين وحنبل: موضعان. الأسطار: أراد الأثر الخفي محته الأمطار، يقال: صاح العنقود يصيح إذا استتم خروجه من أكمته وطال وهو في ذلك غضّ، وتصيّح البقل والشّعر أي: تشقق، وقول رؤية: كالكرم إذ نادى من الكافور: أراد: صاح. (2) البيت لبشار بن برد في ديوانه (1/ 318)، والمصباح (106) ويروى «رءوسهم» بدل «رءوسنا». الأغاني (3/ 192)، والنقع: الغبار، وتهاوى: تتهاوى أي: تتساقط. (3) البيت في الأغاني (15/ 392)، قاله حينما همّ الفرزدق أن يهجو عبد القيس فأسمعه زياد بيتين وكان هذا البيت أحدهما قال: أي زياد: وما ترك الهاجون لي إن هجوته ... مصحّا أراه في أديم الفرزدق فإنّا وما تهدي لنا إن هجوتنا ... لكالبحر مهما يلق في البحر يغرق فقال له الفرزدق: حسبك وما عاوده بشيء. والبيت في الإيضاح (231). ويروى البيت «وإنّا» بدل «فإنا».

«جنّبك الله الشبهة، وعصمك من الحيرة، وجعل بينك وبين المعرفة نسبا، وبين الصّدق سببا، وحبّب إليك التثبّت، وزيّن في عينك الإنصاف، وأذاقك حلاوة التّقوى، وأشعر قلبك عزّ الحق، وأودع صدرك برد اليقين، وطرد عنك ذلّ اليأس، وعرّفك ما في الباطل من الذّلة، وما في الجهل من القلّة» «1». وكقول بعضهم: «لله درّ خطيب قام عندك، يا أمير المؤمنين، ما أفصح لسانه، وأحسن بيانه، وأمضى جنانه، وأبلّ ريقه، وأسهل طريقه». ومثل قول النابغة في الثناء المسجوع: «أيفاخرك الملك اللّخمي، فو الله لقفاك خير من وجهه، ولشمالك خير من يمينه، ولأخمصك خير من رأسه، ولخطؤك خير من صوابه، ولعيّك خير من كلامه، ولخدمك خير من قومه». وكقول بعض البلغاء في وصف اللسان: «اللّسان أداة يظهر بها حسن البيان، وظاهر يخبر عن الضمير، وشاهد ينبئك عن غائب، وحاكم يفصل به الخطاب، وواعظ ينهى عن القبيح، ومزيّن يدعو إلى الحسن، وزارع يحرث المودّة، وحاصد يحصد الضّغينة، ومُلهٍ يونق الأسماع». فما كان من هذا وشبهه لم يجب به فضل إذا وجب، إلّا بمعناه أو بمتون ألفاظه، دون نظمه وتأليفه، وذلك لأنه لا فضيلة حتى ترى في الأمر مصنعا، وحتى تجد إلى التخيّر سبيلا، وحتى تكون قد استدركت صوابا. فإن قلت: أفليس هو كلاما قد اطّرد على الصواب، وسلم من العيب؟ أفما يكون في كثرة الصواب فضيلة؟ قيل: أمّا والصواب كما ترى فلا. لأنا لسنا في ذكر تقويم اللسان، والتحرّز من اللحن وزيغ الإعراب، فنعتدّ بمثل هذا الصواب. وإنما نحن في أمور تدرك بالفكر اللطيفة، ودقائق يوصل إليها بثاقب الفهم، فليس درك صواب دركا فيما نحن فيه حتّى يشرف موضعه ويصعب الوصول إليه، وكذلك لا يكون ترك خطاء تركا حتى يحتاج في التحفّظ منه إلى لطف نظر، وفضل رويّة، وقوّة ذهن، وشدة تيقّظ. وهذا باب ينبغي أن تراعيه وأن تعنى به، حتى إذا وازنت بين كلام وكلام دريت كيف تصنع، فضممت إلى كلّ شكل شكله، وقابلته بما هو نظير له، وميّزت ما الصنعة منه في لفظه، ممّا هي منه في نظمه. واعلم أن هذا- أعني الفرق بين أن تكون المزية في اللفظ، وبين أن تكون في النّظم- باب يكثر فيه الغلط، فلا تزال ترى مستحسنا قد أخطأ بالاستحسان موضعه،

_ (1) انظر الحيوان للجاحظ (1/ 3). في المقدمة.

فينحل اللّفظ ما ليس له، ولا تزال ترى الشّبهة قد دخلت عليك في الكلام قد حسن من لفظه ونظمه، فظننت أن حسنه ذلك كلّه للّفظ منه دون النظم. مثال ذلك: أن تنظر إلى قول ابن المعتز: [من الطويل] وإنّي على إشفاق عيني من العدى ... لتجمح منّي نظرة ثمّ أطرق «1» فترى أنّ هذه الطّلاوة وهذا الظرف، إنما هو لأن جعل النّظر «يجمح» وليس هو لذلك، بل لأن قال في أول البيت «وإنّي» حتى دخل اللّام في قوله «لتجمح»، ثم قوله: «منّي» ثم لأن قال «نظرة» ولم يقل «النّظر» مثلا، ثم لمكان «ثم» في قوله: «ثم أطرق»، وللطيفة أخرى نصرت هذه اللطائف، وهي اعتراضه بين اسم «إن» وخبرها بقوله: «على إشفاق عيني من العدى». وإن أردت أعجب من ذلك فيما ذكرت لك، فانظر إلى قوله، وقد تقدم إنشاده قبل: [من البسيط] سالت عليه شعاب الحيّ حين دعا ... أنصاره بوجوه كالدّنانير «2» فإنك ترى هذه الاستعارة، على لطفها وغرابتها، إنما تمّ لها الحسن وانتهى إلى حيث انتهى، بما توخّى في وضع الكلام من التقديم والتأخير، وتجدها قد ملحت ولطفت بمعاونة ذلك ومؤازرته لها. وإن شككت فاعمد إلى الجارّين والظرف، فأزل كلّا منها من مكانه الذي وضعه الشاعر فيه، فقل: «سالت شعاب الحيّ بوجوه كالدنانير عليه حين دعا أنصاره»، ثم انظر كيف يكون الحال، وكيف يذهب الحسن والحلاوة؟ وكيف تعدم أريحيّتك التي كانت؟ وكيف تذهب النّشوة التي كنت تجدها؟. وجملة الأمر أن هاهنا كلاما حسنه للّفظ دون النظم، وآخر حسنه للنظم دون اللفظ، وثالثا قد أتاه الحسن من الجهتين، ووجبت له المزيّة بكلا الأمرين. والإشكال في هذه الثالث، وهو الذي لا تزال ترى الغلط قد عارضك فيه، وتراك قد حفت فيه «3» على النّظم، فتركته وطمحت ببصرك إلى اللفظ، وقدّرت في حسن كان به وباللّفظ، أنه للّفظ خاصة. وهذا هو الذي أردت حين قلت لك: «إن في الاستعارة ما لا يمكن بيانه إلّا من بعد العلم بالنظم والوقوف على حقيقته».

_ (1) انظر ديوان ابن المعتز (1/ 307). (2) تقدم تخريجه. (3) الحيف: الميل في الحكم والجور والظلم. اه اللسان مادة/ حيف/ (9/ 60).

ومن دقيق ذلك وخفيّه، أنك ترى الناس إذا ذكروا قوله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مريم: 4]، لم يزيدوا فيه على ذكر الاستعارة، ولم ينسبوا الشرف إلا إليها، ولم يروا للمزيّة موجبا سواها. هكذا ترى الأمر في ظاهر كلامهم. وليس الأمر على ذلك، ولا هذا الشرف العظيم، ولا هذه المزيّة الجليلة، وهذه الرّوعة التي تدخل على النفوس عند هذا الكلام لمجرّد الاستعارة، ولكن لأن سلك بالكلام طريق ما يسند الفعل فيه إلى الشيء، وهو لما هو من سببه، فيرفع به ما يسند إليه، ويؤتى بالذي الفعل له في المعنى منصوبا بعده، مبيّنا أن ذلك الإسناد وتلك النسبة إلى ذلك الأوّل، إنّما كانا من أجل هذا الثاني، ولما بينه وبينه من الاتصال والملابسة، كقولهم: «طاب زيد نفسا»، و «قرّ عمرو عينا»، و «تصبّب عرقا»، و «كرم أصلا»، و «حسن وجها»، وأشباه ذلك مما تجد الفعل فيه منقولا عن الشيء إلى ما ذلك الشيء من سببه. وذلك أنّا نعلم أنّ «اشتعل» للشيب في المعنى، وإن كان هو للرأس في اللّفظ، كما أن «طاب» للنفس، و «قرّ» للعين، و «تصبّب» للعرق، وإن أسند إلى ما أسند إليه. يبيّن أنّ الشرف كان لأن سلك فيه هذا المسلك، وتوخّي به هذا لمذهب أن تدع هذا الطريق فيه، وتأخذ اللّفظ فتسنده إلى الشيب صريحا فتقول: «اشتعل شيب الرأس»، أو «الشيب في الرأس»، ثم تنظر هل تجد ذلك الحسن وتلك الفخامة؟ وهل ترى الرّوعة التي كنت تراها؟ فإن قلت: فما السبب في أن كان «اشتعل» إذا استعير للشيب على هذا الوجه، كان له الفضل؟ ولم بان بالمزية من الوجه الآخر هذه البينونة؟ فإنّ السبب أنه يفيد، مع لمعان الشيب في الرأس الذي هو أصل المعنى، الشمول، وأنه قد شاع فيه، وأخذه من نواحيه، وأنه قد استغرقه وعمّ جملته، حتى لم يبق من السواد شيء، أو لم يبق منه إلا ما لا يعتدّ به. وهذا ما لا يكون إذا قيل: «اشتعل شيب الرأس، أو الشيب في الرأس»، بل لا يوجب اللفظ حينئذ أكثر من ظهوره فيه على الجملة. ووزان هذا أنك تقول: «اشتعل البيت نارا» فيكون المعنى: أن النار قد وقعت فيه وقوع الشّمول، وأنها قد استولت عليه وأخذت في طرفيه ووسطه. وتقول: «اشتعلت النار في البيت»، فلا يفيد ذلك، بل لا يقتضي أكثر من وقوعها فيه، وإصابتها جانبا منه. فأما الشمول، وأن تكون قد استولت على البيت وابتزّته، فلا يعقل من اللفظ البتة. ونظير هذا في التنزيل قوله عز وجل: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً [القمر: 12]،

«التفجير» للعيون في المعنى، وأوقع على الأرض في اللفظ، كما أسند هناك الاشتعال إلى الرأس. وقد حصل بذلك من معنى الشّمول هاهنا، مثل الذي حصل هناك. وذلك أنه قد أفاد أنّ الأرض قد كانت صارت عيونا كلّها، وأن الماء قد كان يفور من كل مكان منها. ولو أجري اللفظ على ظاهره فقيل: «وفجّرنا عيون الأرض، أو العيون في الأرض»، لم يفد ذلك ولم يدلّ عليه، ولكان المفهوم منه أن الماء قد كان فار من عيون متفرّقة في الأرض، وتبجّس من أماكن منها. واعلم أنّ في الآية الأولى شيئا آخر من جنس «النظم»، وهو تعريف «الرأس» بالألف واللام، وإفادة معنى الإضافة من غير إضافة، وهو أحد ما أوجب المزيّة. ولو قيل: «واشتعل رأسي»، فصرّح بالإضافة، لذهب بعض الحسن، فاعرفه. وأنا أكتب لك شيئا مما سبيل «الاستعارة» فيه هذا السبيل، ليستحكم هذا الباب في نفسك، ولتأنس به. فمن عجيب ذلك قول بعض الأعراب: [من الرجز] اللّيل داج كنفا جلبابه ... والبين محجور على غرابه ليس كلّ ما ترى من الملاحة لأن جعل للّيل جلبابا، وحجر على الغراب، ولكن في أن وضع الكلام الذي ترى، فجعل «الليل» مبتدأ، وجعل «داج» خبرا له وفعلا لما بعده وهو «الكنفان»، وأضاف «الجلباب» إلى ضمير «الليل»، ولأن جعل كذلك «البين» مبتدأ، وأجرى محجورا خبرا عنه، وأن أخرج اللفظ على «مفعول». يبيّن ذلك أنك لو قلت: «وغراب البيت محجور عليه، أو: قد حجر لي غراب البيت»، لم تجد له هذه الملاحة. وكذلك لو قلت: «قد دجا كنفا جلباب الليل»، لم يكن شيئا. ومن النادر فيه قول المتنبي: [من الخفيف] غصب الدّهر والملوك عليها ... فبناها في وجنة الدّهر خالا «1»

_ (1) البيت لأبي الطيب المتنبي في ديوانه (ص 168) من قصيدة يمدح فيها سيف الدولة ويذكر نهوضه إلى ثغر الحدث لمّا بلغه أن الروم أحاطت به وذلك في جمادى الأولى سنة أربع وأربعين وثلاث مائة (955 م) والقصيدة مطلعها: ذي المعالي فليعلون من تعالى ... هكذا هكذا وإلا فلا لا وذي اسم إشارة، وهو خبر مقدم على اسمه المعالي. وفي البيت الآخر: غصب بمعنى قهر، شبهه بالخال الذي يزين الوجه. ويروى البيت ب «الأرض» بدل «الدهر».

قد ترى في أوّل الأمر أنّ حسنه أجمع في أن جعل للدهر «وجنة»، وجعل البنيّة «خالا» في الوجنة، وليس الأمر على ذلك، فإن موضع الأعجوبة في أن أخرج الكلام مخرجه الذي ترى، وأن أتى «بالخال» منصوبا على الحال من قوله «فبناها». أفلا ترى أنك لو قلت: «وهي خال في وجنة الدهر»، لوجدت الصورة غير ما ترى؟ وشبيه بذلك أنّ ابن المعتز قال: [من المجتث] يا مسكة العطّار ... وخال وجه النهار «1» وكانت الملاحة في الإضافة بعد الإضافة، لا في استعارة لفظة «الخال»؛ إذ معلوم أنه لو قال: «يا خالا في وجه النهار» أو «يا من هو خال في وجه النهار»، لم يكن شيئا. ومن شأن هذا الضّرب أن يدخله الاستكراه، قال الصاحب «2»: «إياك والإضافات المداخلة، فإن ذلك لا يحسن»، وذكر أنه يستعمل في الهجاء كقول القائل: [من الخفيف] يا عليّ بن حمزة بن عماره ... أنت والله ثلجة في خياره «3» ولا شبهة في ثقل ذلك في الأكثر، ولكنه إذا سلم من الاستكراه لطف وملح. ومما حسن فيه قول ابن المعتز أيضا: [من الطويل] وظلّت تدير الرّاح أيدي جآذر ... عتاق دنانير الوجوه ملاح «4» ومما جاء منه حسنا جميلا قول الخالديّ في صفة غلام له: [من المنسرح]

_ (1) البيت في ديوانه (ص 253) فانظره، ويليه: ولعبة أحكتها عناية النجّار ... من آبنوس تسمى باليمن بين الجواري. (2) هو الصاحب بن عباد وزير البويهيين. (3) البيت لم أعثر على قائله، وهو في الإيضاح (ص 9)، تحقيق د. عبد الحميد هنداوي، ولعلي بن حمزة المهجو في هذا البيت ترجمته في الجزء الخامس من معجم الأدباء لياقوت، وفي قوله: «ثلجة في خياره» قلب والأصل خيارة في ثلجة. (4) البيت في ديوانه (145) (طبعة دار صادر) وهو ثاني بيتين في الديوان والبيت الذي قبله: لبسنا إلى الخمار والنجم غائر ... غلالة ليل طرّزت بصباح والبيت في الإيضاح (ص 10)، والراح: الخمر، الجآذر: جمع جؤذر وهو ولد البقرة الوحشية، وعتاق: جمع عتيق أي كريم، وإضافة دنانير إلى الوجوه من إضافة المشبه به إلى المشبه، والشاهد في قوله: عتاق دنانير الوجوه.

فصل «القول في التقديم والتأخير»

ويعرف الشّعر مثل معرفتي ... وهو على أن يزيد مجتهد وصيرفيّ القريض، وزّان دينا ... ر المعاني الدّقاق، منتقد «1» ومنه قول أبي تمام: [من الكامل] خذها ابنة الفكر المهذّب في الدّجى ... واللّيل أسود رقعة الجلباب «2» ومما أكثر الحسن فيه بسبب النظم، قول المتنبي: [من الطويل] وقيّدت نفسي في ذراك محبّة ... ومن وجد الإحسان قيدا تقيّدا «3» الاستعارة في أصلها مبتذلة معروفة، فإنك ترى العامّي يقول للرجل يكثر إحسانه إليه وبرّه له، حتى يألفه ويختار المقام عنده: «قد قيّدني بكثرة إحسانه إليّ، وجميل فعله معي، حتى صارت نفسي لا تطاوعني على الخروج من عنده»، وإنما كان ما ترى من الحسن، بالمسلك الذي سلك في النّظم والتأليف. فصل «القول في التقديم والتأخير» هو باب كثير الفوائد، جمّ المحاسن، واسع التصرّف، بعيد الغاية، لا يزال يفترّ لك عن بديعة، ويفضي بك إلى لطيفة، ولا تزال ترى شعرا يروقك مسمعه، ويلطف

_ (1) الخالدي: هو أبو عثمان سعيد بن هاشم الخالدي من شعراء اليتيمة، وكان في حاشية سيف الدولة الأدبية، وقيم دار كتبه مع أخيه أبي بكر محمد. والبيتان في الإيضاح (ص 10)، والشاهد في قوله: «وزان دينار المعاني». (2) البيت في ديوانه (ص 29) من قصيدة قالها في مدح مالك بن طوق التغلبي وقبله: يا مالك استودعتني لك منة ... تبقى ذخائرها على الأحقاب يا خاطبا مدحي إليه بجوده ... ولقد خطبت قليلة الخطاب والبيت في المصباح (211). قوله في الدجى: تتميم، ويسميه البعض حشوا، وهم يعيبونه، ولكن من الدارسين من يرى غير ذلك. (3) البيت في ديوانه، وهو البيت قبل الأخير من قصيدة قالها في مدح سيف الدولة يمدحه ويهنئه بعيد الأضحى سنة اثنتين وأربعين وثلاث مائة أنشده إياها في ميدانه بحلب وهما على فرسيهما، وقبله: تركت السّرى خلفي لمن قلّ ماله ... وأنعلت أفراسي بنعماك عسجدا

لديك موقعه، ثم تنظر فتجد سبب أن راقك ولطف عندك، أن قدّم فيه شيء، وحوّل اللّفظ عن مكان إلى مكان. واعلم أن تقديم الشيء على وجهين: تقديم يقال إنه على نيّة التأخير، وذلك في كل شيء أقررته مع التقديم على حكمه الذي كان عليه، وفي جنسه الذي كان فيه، كخبر المبتدأ إذا قدمته على المبتدأ، والمفعول إذا قدّمته على الفاعل كقولك: «منطلق زيد» و «ضرب عمرا زيد»، معلوم أنّ «منطلق» و «عمرا» لم يخرجا بالتقديم عمّا كانا عليه، من كون هذا خبر مبتدأ ومرفوعا بذلك، وكون ذلك مفعولا ومنصوبا من أجله «1»، كما يكون إذا أخّرت. وتقديم لا على نية التأخير، ولكن على أن تنقل الشيء عن حكم إلى حكم، وتجعل له بابا غير بابه، وإعرابا غير إعرابه، وذلك أن تجيء إلى اسمين يحتمل كلّ واحد منهما أن يكون مبتدأ ويكون الآخر خبرا له، فتقدّم تارة هذا على ذاك، وأخرى ذاك على هذا. ومثاله ما تصنعه بزيد والمنطلق، حيث تقول مرة: «زيد المنطلق»، وأخرى، «المنطلق زيد»، فأنت في هذا لم تقدم «المنطلق» على أن يكون متروكا على حكمه الذي كان عليه مع التأخير، فيكون خبر مبتدأ كما كان، بل على أن تنقله عن كونه خبرا إلى كونه مبتدأ، وكذلك لم تؤخر «زيدا» على أن يكون مبتدأ كما كان، بل على أن تخرجه عن كونه مبتدأ إلى كونه خبرا. وأظهر من هذا قولنا: «ضربت زيدا» و «زيد ضربته»، لم تقدم «زيدا» على أن يكون مفعولا منصوبا بالفعل كما كان، ولكن على أن ترفعه بالابتداء، وتشغل الفعل بضميره، وتجعله في موضع الخبر له؛ وإذ قد عرفت هذا التقسيم، فإني أتبعه بجملة من الشّرح. واعلم أنّا لم نجدهم اعتمدوا فيه شيئا يجري مجرى الأصل، غير العناية والاهتمام. قال صاحب الكتاب «2»، وهو يذكر الفاعل والمفعول: «كأنهم يقدّمون الذي بيانه أهمّ لهم، وهم ببيانه أعنى، وإن كانا جميعا يهمّانهم ويعنيانهم»، ولم يذكر في ذلك مثالا. وقال النحويون: إن معنى ذلك أن قد يكون من أغراض الناس في فعل ما أن يقع

_ (1) أي من أجل الفاعل. (2) المقصود به (سيبويه) وكتابه «الكتاب».

بإنسان بعينه، ولا يبالون من أوقعه، كمثل ما يعلم من حالهم في حال الخارجيّ يخرج فيعيث ويفسد، ويكثر به الأذى، أنّهم يريدون قتله، ولا يبالون من كان القتل منه، ولا يعنيهم منه شيء. فإذا قتل، وأراد مريد الإخبار بذلك، فإنه يقدّم ذكر الخارجيّ فيقول: «قتل الخارجيّ زيد»، ولا يقول: «قتل زيد الخارجيّ»، لأنه يعلم أن ليس للناس في أن يعلموا أن القاتل له «زيد» جدوى وفائدة، فيعنيهم ذكره ويهمّهم ويتّصل بمسرّتهم، ويعلم من حالهم أن الذي هم متوقّعون له ومتطلّعون إليه متى يكون، وقوع القتل بالخارجي المفسد، وأنّهم قد كفوا شرّه وتخلّصوا منه. ثم قالوا: فإن كان رجل ليس له بأس ولا يقدّر فيه أنّه يقتل، فقتل رجلا، وأراد المخبر أن يخبر بذلك، فإنه يقدم ذكر القاتل فيقول: «قتل زيد رجلا»، ذاك لأن الذي يعنيه ويعني الناس من شأن هذا القتل، طرافته وموضع النّدرة فيه، وبعده كان من الظنّ. ومعلوم أنه لم يكن نادرا وبعيدا من حيث كان واقعا بالذي وقع به، ولكن من حيث كان واقعا من الذي وقع منه. فهذا جيد بالغ، إلا أنّ الشأن في أنه ينبغي أن يعرف في كل شيء قدّم في موضع من الكلام مثل هذا المعنى، ويفسّر وجه العناية فيه هذا التفسير. وقد وقع في ظنون النّاس أنّه يكفي أن يقال: «إنه قدم للعناية، ولأن ذكره أهم»، من غير أن يذكر، من أين كانت تلك العناية؟ وبم كان أهمّ؟، ولتخيّلهم ذلك، قد صغر أمر «التقديم والتأخير» في نفوسهم، وهوّنوا الخطب فيه، حتى إنك لترى أكثرهم يرى تتبّعه والنظر فيه ضربا من التكلّف. ولم تر ظنّا أزرى على صاحبه من هذا وشبهه. وكذلك صنعوا في سائر الأبواب، فجعلوا لا ينظرون في «الحذف والتكرار»، و «الإظهار والإضمار»، «الفصل والوصل»، ولا في نوع من أنواع الفروق والوجوه إلا نظرك فيما غيره أهمّ لك، بل فيما إن لم تعلمه لم يضرك. لا جرم أنّ ذلك قد ذهب بهم عن معرفة البلاغة، ومنعهم أن يعرفوا مقاديرها، وصدّ بأوجههم عن الجهة التي هي فيها، والشّقّ الذي يحويها. والمداخل التي تدخل منها الآفة على الناس في شأن العلم، ويبلغ الشيطان مراده منهم في الصّد عن طلبه وإحراز فضيلته- كثيرة، وهذه من أعجبها، إن وجدت متعجّبا. وليت شعري، إن كانت هذه أمورا هيّنة، وكان المدى فيها قريبا، والجدا «1»

_ (1) الجدا: القطيعة. اه القاموس مادة/ جدا/ (1638).

يسيرا، من أين كان نظم أشرف من نظم؟ وبم عظم التفاوت، واشتد التباين، وترقّى الأمر إلى الإعجاز، وإلى أن يقهر أعناق الجبابرة؟ أو هاهنا أمور أخر نحيل في المزيّة عليها، ونجعل الإعجاز كان بها، فتكون تلك الحوالة لنا عذرا في ترك النظر في هذه التي معنا، والإعراض عنها، وقلة المبالاة بها؟ أو ليس هذا التهاون، إن نظر العاقل، خيانة منه لعقله ودينه، ودخولا فيما يزرى بذي الخطر، ويغضّ من قدر ذوي القدر؟ وهل يكون أضعف رأيا، وأبعد من حسن التدبّر، منك إذ همّك أن تعرف الوجوه في: «أأنذرتهم»، والإمالة في «رأى القمر» وتعرف «الصّراط» و «الزّراط»، وأشباه ذلك مما لا يعدو علمك فيه اللفظ وجرس الصوت، ولا يمنعك إن لم تعلمه بلاغة، ولا يدفعك عن بيان، ولا يدخل عليك شكّا، ولا يغلق دونك باب معرفة، ولا يفضي بك إلى تحريف وتبديل، وإلى الخطأ في تأويل، وإلى ما يعظم فيه المعاب عليك، ويطيل لسان القادح فيك، ولا يعنيك «1» ولا يهمّك أن تعرف ما إذا جهلته عرّضت نفسك لكل ذلك، وحصلت فيما هنالك، وكان أكثر كلامك في التفسير، وحيث تخوض في التأويل، كلام من لا يبني الشيء على أصله، ولا يأخذه من مأخذه، ومن ربّما وقع في الفاحش من الخطأ الذي يبقى عاره، وتشنع آثاره. ونسأل الله العصمة من الزّلل، والتوفيق لما هو أقرب إلى رضاه من القول والعمل. واعلم أنّ من الخطأ أن يقسّم الأمر في تقديم الشيء وتأخيره قسمين: فيجعل مفيدا في بعض الكلام، وغير مفيد في بعض، وأن يعلّل تارة بالعناية، وأخرى بأنه توسعة على الشاعر والكاتب، حتى تطّرد لهذا قوافيه ولذاك سجعه. ذاك لأنّ من البعيد أن يكون في جملة النظم ما يدل تارة ولا يدل أخرى. فمتى ثبت في تقديم المفعول مثلا على الفعل في كثير من الكلام، أنه قد اختصّ بفائدة لا تكون تلك الفائدة مع التأخير، فقد وجب أن تكون تلك قضية في كل شيء وكلّ حال. ومن سبيل من يجعل التقديم وترك التقديم سواء، أن يدّعي أنه كذلك في عموم الأحوال، فأمّا أن يجعله شريجين، فيزعم أنه للفائدة في بعضها، وللتصرف في اللفظ من غير معنى في بعض، فمما ينبغي أن يرغب عن القول به. وهذه مسائل لا يستطيع أحد أن يمتنع من التّفرقة بين تقديم ما قدّم فيها وترك تقديمه. ومن أبين شيء في ذلك «الاستفهام بالهمزة»، فإن موضع الكلام على أنك إذا

_ (1) قوله (ولا يعنيك) معطوف على قوله: (إذا همك).

قلت: «أفعلت؟»، فبدأت بالفعل، كان الشكّ في الفعل نفسه، وكان غرضك من استفهامك أن تعلم وجوده. وإذا قلت: «أأنت فعلت؟»، فبدأت بالاسم، كان الشكّ في الفاعل من هو، وكان التردّد فيه. ومثال ذلك أنك تقول: «أبنيت الدار التي كنت على أن تبنيها؟»، «أقلت الشعر الذي كان في نفسك أن تقوله؟»، و «أفرغت من الكتاب الذي كنت تكتبه؟»، تبدأ في هذه ونحوه بالفعل، لأن السؤال عن الفعل نفسه والشكّ فيه، لأنك في جميع ذلك متردّد في وجود الفعل وانتفائه، مجوّز أن يكون قد كان، وأن يكون لم يكن. وتقول: «أأنت بنيت هذه الدار؟»، «أأنت قلت هذا الشعر؟»، «أأنت كتبت هذا الكتاب؟»، فتبدأ في ذلك كله بالاسم، ذاك لأنّك لم تشكّ في الفعل أنه كان. كيف؟ وقد أشرت إلى الدار مبنية، والشعر مقولا، والكتاب مكتوبا، وإنما شككت في الفاعل من هو؟. فهذا من الفرق لا يدفعه دافع، ولا يشكّ فيه شاك، ولا يخفى فساد أحدهما في موضع الآخر. فلو قلت: «أأنت بنيت الدار التي كنت على أن تبنيها؟»، «أأنت قلت الشعر الذي كان في نفسك أن تقوله؟»، «أأنت فرغت من الكتاب الذي كنت تكتبه؟»، خرجت من كلام الناس. وكذلك لو قلت: «أبنيت هذه الدار؟»، «أقلت هذا الشعر؟»، «أكتبت هذا الكتاب؟»، قلت ما ليس بقول. ذاك لفساد أن تقول في الشيء المشاهد الذي هو نصب عينيك أموجود أم لا؟ وممّا يعلم به ضرورة أنه لا تكون البداية بالفعل كالبداية بالاسم أنّك تقول: «أقلت شعرا قطّ؟»، «أرأيت اليوم إنسانا؟»، فيكون كلاما مستقيما. ولو قلت: «أأنت قلت شعرا قط؟»، «أأنت رأيت إنسانا»، أحلت، وذاك أنه لا معنى للسؤال عن الفاعل من هو في مثل هذا، لأن ذلك إنما يتصوّر إذا كانت الإشارة إلى فعل مخصوص نحو أن تقول: «من قال هذا الشعر؟»، و «من بنى هذه الدار؟» و «من أتاك اليوم؟»، و «من أذن لك في الذي فعلت؟»، وما أشبه ذلك ممّا يمكن أن ينصّ فيه على معيّن. فأمّا قيل شعر على الجملة، ورؤية إنسان على الإطلاق، فمحال ذلك فيه، لأنه ليس مما يختص بهذا دون ذاك حتى يسأل عن عين فاعله. ولو كان تقديم الاسم لا يوجب ما ذكرنا، من أن يكون السؤال عن الفاعل من

هو؟ وكان يصح أن يكون سؤالا عن الفعل أكان أم لم يكن؟ لكان ينبغي أن يستقيم ذلك. واعلم أن هذا الذي ذكرت لك في «الهمزة وهي للاستفهام» قائم فيها إذا هي كانت للتقرير. فإذا قلت: «أأنت فعلت ذاك؟»، كان غرضك أن تقرره بأنه الفاعل. يبيّن ذلك قوله تعالى، حكاية عن قول نمرود: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ [سورة الأنبياء: 62]، لا شبهة في أنهم لم يقولوا ذلك له عليه السلام وهم يريدون أن يقرّ لهم بأنّ كسر الأصنام قد كان، ولكن أن يقرّ بأنه منه كان، وكيف؟ وقد أشاروا له إلى الفعل في قولهم: «أأنت فعلت هذا؟»، وقال هو عليه السلام في الجواب: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا [الأنبياء: 63]، ولو كان التقرير بالفعل لكان الجواب: «فعلت، أو: لم أفعل». فإن قلت: أو ليس إذ قال «أفعلت؟»، فهو يريد أيضا أن يقرّره بأنّ الفعل كان منه، لا بأنّه كان على الجملة، فأيّ فرق بين الحالين؟. فإنه إذا قال «1»: «أفعلت؟» فهو يقرّره بالفعل من غير أن يردّده بينه وبين غيره، وكان كلامه كلام من يوهم أنه لا يدري أن ذلك الفعل كان على الحقيقة وإذا قال: «أأنت فعلت؟»، كان قد ردّد الفعل بينه وبين غيره، ولم يكن منه في نفس الفعل تردّد، ولم يكن كلامه كلام من يوهم أنه لا يدري أكان الفعل أم لم يكن، بدلالة أنك تقول ذلك والفعل ظاهر موجود مشار إليه، كما رأيت في الآية. واعلم أن «الهمزة» فيما ذكرنا تقرير بفعل قد كان، وإنكار له لم كان، وتوبيخ لفاعله عليه. ولها مذهب آخر، وهو أن يكون الإنكار أن يكون الفعل قد كان من أصله. ومثاله قوله تعالى: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً [الإسراء: 40]، وقوله عز وجل: أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [الصافات: 153 - 154]، فهذا ردّ على المشركين وتكذيب لهم في قولهم ما يؤدّي إلى هذا الجهل العظيم. وإذا قدّم الاسم في هذا صار الإنكار في الفاعل. ومثاله قولك للرجل قد انتحل شعرا: «أأنت قلت هذا الشعر؟ كذبت، لست ممّن يحسن مثله»، أنكرت أن يكون القائل ولم تنكر الشعر.

_ (1) قوله (فإنه إذا قال) جواب لقوله: (فإن قلت).

وقد يكون أن يراد إنكار الفعل من أصله، ثم يخرج اللفظ مخرجه إذا كان الإنكار في الفاعل. مثال ذلك قوله تعالى: قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ [يونس: 59]، «الإذن» راجع إلى قوله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا [يونس: 59]، ومعلوم أن المعنى على إنكار أن يكون قد كان من الله تعالى إذن فيما قالوه، من غير أن يكون هذا الإذن قد كان من غير الله، فأضافوه إلى الله، إلّا أنّ اللفظ أخرج مخرجه إذا كان الأمر كذلك، لأن يجعلوا في صورة في غلط فأضاف إلى الله تعالى إذنا كان من غير الله، فإذا حقّق عليه ارتدع. ومثال ذلك قولك للرجل يدّعي أن قولا كان ممّن تعلم أنه لا يقوله: «أهو قال ذاك بالحقيقة أم أنت تغلط؟»، تضع الكلام وضعه إذا كنت علمت أن ذلك القول قد كان من قائل، لينصرف الإنكار إلى الفاعل، فيكون أشدّ لنفي ذلك وإبطاله. ونظير هذا قوله تعالى: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ، أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ [الأنعام: 143]، أخرج اللفظ مخرجه إذا كان قد ثبت تحريم في أحد أشياء، ثم أريد معرفة عين المحرّم، مع أن المراد إنكار التحريم من أصله، ونفي أن يكون قد حرّم شيء مما ذكروا أنه محرّم. وذلك أنّ الكلام وضع على أن يجعل التحريم كأنّه قد كان، ثم يقال لهم: «أخبرونا عن هذا التحريم الذي زعمتم، فيم هو؟ أفي هذا أم ذاك أم في الثالث؟»، ليتبيّن بطلان قولهم، ويظهر مكان الفرية منهم على الله تعالى. ومثل ذلك قولك للرجل يدّعي أمرا وأنت تنكره: «متى كان هذا؟ أفي ليل أم نهار؟»، تضع الكلام وضع من سلّم أن ذلك قد كان، ثم تطالبه ببيان وقته، لكي يتبيّن كذبه إذا لم يقدر أن يذكر له وقتا ويفتضح. ومثله قولك: «من أمرك بهذا منّا؟ وأيّنا أذن لك فيه؟»، وأنت لا تعني أن أمرا قد كان بذلك من واحد منكم، إلا أنّك تضع الكلام هذا الوضع لكي تضيّق عليه، وليظهر كذبه حين لا يستطيع أن يقول: «فلان»، وأن يحيل على واحد. وإذ قد بيّنّا الفرق بين تقديم الفعل وتقديم الاسم، والفعل ماض، فينبغي أن ننظر فيه والفعل مضارع. والقول في ذلك أنك إذا قلت: «أتفعل؟» و «أأنت تفعل؟» لم يخل من أن تريد الحال أو الاستقبال. فإن أردت الحال كان المعنى شبيها بما مضى في الماضي، فإذا قلت: «أتفعل؟» كان المعنى على أنك أردت أن تقرّره بفعل هو يفعله، وكنت

كمن يوهم أنّه لا يعلم بالحقيقة أن الفعل كائن، وإذا قلت: «أأنت تفعل؟»، كان المعنى على أنك تريد أن تقرّره بأنه الفاعل، وكان أمر الفعل في وجوده ظاهرا، وبحيث لا يحتاج إلى الإقرار بأنه كائن، وإن أردت ب «تفعل» المستقبل، كان المعنى إذا بدأت بالفعل على أنك تعمد بالإنكار إلى الفعل نفسه، وتزعم أنه لا يكون، أو أنه لا ينبغي أن يكون، فمثال الأول: [من الطويل] أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال «1»؟ فهذا تكذيب منه لإنسان تهدّده بالقتل، وإنكار أن يقدر على ذلك ويستطيعه. ومثله أن يطمع طامع في أمر لا يكون مثله، فتجهّله في طمعه فتقول: «أيرضى عنك فلان وأنت مقيم على ما يكره؟ أتجد عنده ما تحبّ وقد فعلت وصنعت؟»، وعلى ذلك قوله تعالى: أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ [هود: 28]. ومثال الثاني، قولك لرجل يركب الخطر: «أتخرج في هذا الوقت؟ أتذهب في غير الطريق؟ أتغرّر بنفسك؟»، وقولك للرجل يضيع الحقّ: «أتنسى قديم إحسان فلان؟ أتترك صحبته وتتغير عن حالك معه لأن تغيّر الزمان؟» كما قال: [من الطويل] أأترك أن قلّت دراهم خالد ... زيارته؟ إنّي إذا للئيم «2» وجملة الأمر أنّك تنحو بالإنكار نحو الفعل، فإن بدأت بالاسم فقلت: «أأنت تفعل؟» أو قلت: «أهو يفعل؟»، كنت وجهت الإنكار إلى نفس المذكور، وأبيت أن تكون بموضع أن يجيء منه الفعل وممّن يجيء منه، وأن يكون بتلك المثابة. تفسير ذلك: أنك إذا قلت: «أأنت تمنعني؟»، «أأنت تأخذ على يدي؟»

_ (1) البيت لامرئ القيس في ديوانه (125)، وهو من قصيدة قرينة معلقته في الجودة، وقبله: يغطّ غطيط البكر شد خناقه ... ليقتلني والمرء ليس بقتال والبيت في مفتاح العلوم (461) تحقيق د. عبد الحميد هنداوي. وأورده القزويني في الإيضاح (169، 208)، والطيبي في شرحه على مشكاة المصابيح (1/ 110) تحقيق د. هنداوي، والمشرفي: السيد المنسوب إلى مشارف الشام، وهو قرى للعرب تدنو من بلاد الروم. ومسنونة زرق: مشاقص محدودة بالسن، أو هي نصال الرماح، قال أبو عبيد البكري، ومسنونة يعني سهاما محددة الأزجة. وزرق: صافية مجلوة. أغوال: همرجة (التباس واختلاف) من همرجة الجن، وإنما أراد التهويل قال المبرد: لم يخبر صادق أنه رأى الغول. (2) البيت في الإيضاح (141)، والأغاني لعمارة بن عقيل بن بلال بن جرير (24/ 212)، وبعده: فليت بثوبيه لنا كان خالد ... وكان لبكر بالثراء تميم فيصبح فينا سابق متمهل ... ويصبح في بكر أغم بهيم

صرت كأنك قلت: إن غيرك الذي يستطيع منعي والأخذ على يدي، ولست بذاك، ولقد وضعت نفسك في غير موضعك، هذا، إذا جعلته لا يكون منه الفعل للعجز، ولأنّه ليس في وسعه. وقد يكون أن تجعله لا يجيء منه، لأنه لا يختاره ولا يرتضيه، وأنّ نفسه نفس تأبى مثله وتكرهه. ومثاله أن تقول: «أهو يسأل فلانا؟ هو أرفع همة من ذلك»، «أهو يمنع الناس حقوقهم؟ هو أكرم من ذاك». وقد يكون أن تجعله لا يفعله لصغر قدره وقصر همته، وأن نفسه نفس لا تسمو. وذلك قولك: «أهو يسمح بمثل هذا؟ أهو يرتاح للجميل؟ هو أقصر همّة من ذلك، وأقل رغبة في الخير مما تظنّ». وجملة الأمر أن تقديم الاسم يقتضي أنك عمدت بالإنكار إلى ذات من قيل «إنه يفعل» أو قال هو «إني أفعل»، وأردت ما تريده إذا قلت: «ليس هو بالذي يفعل، وليس مثله يفعل»، ولا يكون هذا المعنى إذا بدأت بالفعل فقلت: «أتفعل؟». ألا ترى أن من المحال أن تزعم أن المعنى في قول الرجل لصاحبه: «أتخرج في هذا الوقت؟ أتغرّر بنفسك؟ أتمضي في غير الطريق؟»، أنه أنكر أن يكون بمثابة من يفعل ذلك، وبموضع من يجيء منه ذاك، لأن العلم محيط بأن الناس لا يريدونه، وأنه لا يليق بالحال التي يستعمل فيها هذا الكلام. وكذلك محال أن يكون المعنى في قوله جل وعلا: أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ [هود: 28]، أنّا لسنا بمثابة من يجيء منه هذا الإلزام، وأن غيرنا من يفعله، جلّ الله تعالى. وقد يتوهّم المتوهّم في الشيء من ذلك أنّه يحتمل، فإذا نظر لم يحتمل، فمن ذلك قوله: أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي وقد يظنّ الظانّ أنه يجوز أن يكون في معنى أنّه ليس بالذي يجيء منه أن يقتل مثلي، ويتعلّق بأنه قال قبل: [من الطويل] يغطّ غطيط البكر شدّ خناقه ... ليقتلني والمرء ليس بقتّال ولكنه إذا نظر علم أنّه لا يجوز، وذاك لأنه قال: «والمشرفيّ مضاجعي» فذكر ما يكون منعا من الفعل، ومحال أن يقول: «هو ممن لا يجيء منه الفعل»، ثم يقول: «إنّي أمنعه»، لأن المنع يتصوّر فيمن يجيء منه الفعل، ومع من يصحّ منه، لا من هو منه محال، ومن هو نفسه عنه عاجز، فاعرفه.

واعلم أنا وإن كنا نفسّر «الاستفهام» في مثل هذا بالإنكار، فإن الذي هو محض المعنى: أنه ليتنبه السامع حتى يرجع إلى نفسه فيخجل ويرتدع ويعيا بالجواب، إمّا لأنه قد ادعى القدرة على فعل لا يقدر عليه، فإذا ثبت على دعواه قيل له: «فافعل»، فيفضحه ذلك، وإمّا لأنه همّ بأن يفعل ما لا يستصوب فعله، فإذا روجع فيه تنبّه وعرف الخطأ، وإمّا لأنه جوّز وجود أمر لا يوجد مثله، فإذا ثبت على تجويزه قبّح على نفسه، وقيل له: «فأرناه في موضع وفي حال، وأقيم شاهدا على أنه كان في وقت». ولو كان يكون للإنكار، وكان المعنى فيه من بدء الأمر، لكان ينبغي أن لا يجيء فيما لا يقول عاقل إنه يكون، حتى ينكر عليه، كقولهم: «أتصعد إلى السماء؟»، «أتستطيع أن تنقل الجبال؟»، «أإلى ردّ ما مضى سبيل؟». وإذ قد عرفت ذلك، فإنه لا يقرّر بالمحال، وبما لا يقول أحد إنه يكون، إلا على سبيل التمثيل، وعلى أن يقال له: «إنك في دعواك ما ادّعيت بمنزلة من يدّعي هذا المحال، وإنك في طمعك في الذي طمعت فيه بمنزلة من يطمع في الممتنع». وإذ قد عرفت هذا، فممّا هو من هذا الضرب قوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ [الزخرف: 40]، ليس إسماع الصّم مما يدّعيه أحد فيكون ذلك للإنكار، وإنّما المعنى فيه التمثيل والتشبيه، وأن ينزّل الذي يظنّ بهم أنهم يسمعون، أو أنه يستطيع إسماعهم، منزلة من يرى أنه يسمع الصم ويهدى العمي ثم المعنى في تقديم الاسم وأن لم يقل: «أتسمع الصمّ»، هو أن يقال للنبي صلى الله عليه وسلّم: «أأنت خصوصا قد أوتيت أن تسمع الصمّ؟»، وأن يجعل في ظنّه أنه يستطيع إسماعهم، بمثابة من يظنّ أنه قد أوتي قدرة على إسماع الصّمّ. ومن لطيف ذلك قول ابن أبي عيينة: [من الكامل] فدع الوعيد فما وعيدك ضائري، ... أطنين أجنحة الذّباب يضير «1»؟ جعله كأنه قد ظنّ أنّ طنين أجنحة الذباب بمثابة ما يضير، حتى ظنّ أن وعيده يضير.

_ (1) البيت في الكامل (2/ 60) للمبرد تحقيق د. عبد الحميد هنداوي، وعبد الله بن محمد بن أبي عيينة قال لعلي بن محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- وكان دعاه إلى نصرة أبيه محمد بن جعفر حين ظهرت المبيضة فلم يجبه، فتوعده علي، فقال عبد الله: أعليّ إنك جاهل مغرور ... لا ظلمة لك لا ولا لك نور أكتبت توعدني أن استبطأتني ... إني بحربك ما حييت حديد

واعلم أن حال المفعول فيما ذكرنا كحال الفاعل، أعني أنّ تقديم اسم المفعول يقتضي أن يكون الإنكار في طريق الإحالة والمنع من أن يكون، بمثابة أن يوقع به مثل ذلك الفعل، فإذا قلت: «أزيدا تضرب؟»، كنت قد أنكرت أن يكون «زيد» بمثابة أن يضرب، أو بموضع أن يجترأ عليه ويستجاز ذلك فيه، ومن أجل ذلك قدّم «غير» في قوله تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا [الأنعام: 14]، وقوله عز وجل: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ [الأنعام: 40]، وكان له من الحسن والمزيّة والفخامة، ما تعلم أنه لا يكون لو أخّر فقيل: «قل أأتّخذ غير الله وليّا» و «أتدعون غير الله؟» وذلك لأنّه قد حصل بالتقديم معنى قولك: «أيكون غير الله بمثابة أن يتّخذ وليّا؟ وأ يرضى عاقل من نفسه أن يفعل ذلك؟ وأ يكون جهل أجهل وعمى أعمى من ذلك؟»، ولا يكون شيء من ذلك إذا قيل: «أأتخذ غير الله وليا»، وذلك لأنه حينئذ يتناول الفعل أن يكون فقط، ولا يزيد على ذلك، فاعرفه. وكذلك الحكم في قوله تعالى: فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ [القمر: 24]، وذلك لأنهم بنوا كفرهم على أنّ من كان مثلهم بشرا، لم يكن بمثابة أن يتّبع ويطاع، وينتهى إلى ما يأمر، ويصدّق أنه مبعوث من الله تعالى، وأنهم مأمورون بطاعته، كما جاء في الأخرى: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا [إبراهيم: 10]، وكقوله عز وجل: ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [المؤمنون: 24]. فهذا هو القول في الضرب الأول، وهو أن يكون «يفعل» بعد الهمزة لفعل لم يكن. وأما الضرب الثاني، وهو أن يكون «يفعل» لفعل موجود، فإن تقديم الاسم يقتضي شبيها بما اقتضاه في «الماضي»، من الأخذ بأن يقرّ أنه الفاعل، أو الإنكار أن يكون الفاعل. فمثال الأول قولك للرجل يبغي ويظلم: «أأنت تجيء إلى الضعيف فتغصب ماله؟»، «أأنت تزعم أن الأمر كيت وكيت؟» وعلى ذلك قوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس: 99]. ومثال الثاني: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزخرف: 32].

فصل وإذ قد عرفت هذه المسائل في «الاستفهام»، فهذه مسائل في «النفي».

فصل وإذ قد عرفت هذه المسائل في «الاستفهام»، فهذه مسائل في «النفي». إذا قلت: «ما فعلت»، كنت نفيت عنك فعلا لم يثبت أنه مفعول، وإذا قلت: «ما أنا فعلت»، كنت نفيت عنك فعلا يثبت أنّه مفعول. تفسير ذلك: أنك إذا قلت: «ما قلت هذا»، كنت نفيت أن تكون قد قلت ذاك، وكنت نوظرت في شيء لم يثبت أنه مقول؟ وإذا قلت: «ما أنا قلت هذا»، كنت نفيت أن تكون القائل له، وكانت المناظرة في شيء ثبت أنه مقول. وكذلك إذا قلت: «ما ضربت زيدا»، كنت نفيت عنك ضربه، ولم يجب أن يكون قد ضرب، بل يجوز أن يكون ضربه غيرك، وأن لا يكون قد ضرب أصلا. وإذا قلت: «ما أنا ضربت زيدا»، لم تقله إلا وزيد مضروب، وكان القصد أن تنفي أن تكون أنت الضارب. ومن أجل ذلك صلح في الوجه الأوّل أن يكون المنفيّ عامّا كقولك: «ما قلت شعرا قطّ»، و «ما أكلت اليوم شيئا»، و «ما رأيت أحدا من الناس»، ولم يصلح من الوجه الثاني، فكان خلفا أن تقول: «ما أنا قلت شعرا قط»، و «ما أنا أكلت اليوم شيئا»، و «ما أنا رأيت أحدا من الناس»، وذلك أنه يقتضي المحال، وهو أن يكون هاهنا إنسان قد قال كلّ شعر في الدنيا، وأكل كلّ شيء يؤكل، ورأى كل أحد من الناس، فنفيت أن تكونه. ومما هو مثال بيّن في أن تقديم الاسم يقتضي وجود الفعل قوله: [من المتقارب] وما أنا أسقمت جسمي به ... ولا أنا أضرمت في القلب نارا «1» المعنى، كما لا يخفى، على أن السّقم ثابت موجود، وليس القصد بالنّفي إليه، ولكن إلى أن يكون هو الجالب له، ويكون قد جرّه إلى نفسه.

_ (1) البيت للمتنبي في ديوانه (118)، وهو من قصيدة قالها ردّا على تنكر سيف الدولة له بسبب تأخره عن مدحه، ومطلعها: أرى ذلك القرب صار ازورارا ... وصار طويل السلام اختصارا والمعنى: أنه يعتذر بما عرض له من الهم الذي أسقم جسمه وجعل في قلبه نارا لحرارته، فهو الذي كان السبب في انقطاع الشعر والنوم جميعا، يقول: أنا لا أقدر أن أفعل شيئا من هذا. التبيان على شرح ديوان المتنبي للعكبري.

ومثله في الوضوح قوله: [من الطويل] وما أنا وحدي قلت ذا الشّعر كلّه «1» «الشعر» مقول على القطع، والنفي لأن يكون هو وحده القائل له. وهاهنا أمران يرتفع معهما الشك في وجوب هذا الفرق، ويصير العلم به كالضرورة. أحدهما: أنه يصحّ لك أن تقول: «ما قلت هذا، ولا قاله أحد من الناس»، و «ما ضربت زيدا، ولا ضربه أحد سواي»، ولا يصحّ ذلك في الوجه الآخر. فلو قلت: «ما أنا قلت هذا، ولا قاله أحد من الناس»، و «ما أنا ضربت زيدا، ولا ضربه أحد سواي»، كان خلفا «2» من القول، وكان في التناقض بمنزلة أن تقول: «لست الضّارب زيدا أمس»، فتثبت أنه قد ضرب، ثم تقول من بعده: «وما ضربه أحد من الناس»، و «لست القائل ذلك»، فتثبت أنه قد قيل، ثم تجيء فتقول و «ما قاله أحد من الناس». والثاني: من الأمرين أنك تقول: «ما ضربت إلا زيدا»، فيكون كلاما مستقيما، ولو قلت: «ما أنا ضربت إلا زيدا»، كان لغوا من القول، وذلك لأن نقض النّفي ب «إلّا» يقتضي أن تكون ضربت زيدا، وتقديمك ضميرك وإيلاؤه حرف النفي، يقتضي نفي أن تكون ضربته، فهما يتدافعان «3». فاعرفه. ويجيء لك هذا الفرق على وجهه في تقديم المفعول وتأخيره. فإذا قلت: «ما ضربت زيدا»، فقدمت الفعل، كان المعنى أنك قد نفيت أن يكون قد وقع ضرب منك على زيد، ولم تعرض في أمر غيره لنفي، ولا إثبات، وتركته مبهما محتملا.

_ (1) البيت للمتنبي في ديوانه (237) من قصيدة يمدح فيها عليّا بن أحمد بن عامر الأنطاكي، وتمامه: ولكن لشعري فيك من نفسه شعر والمعنى: يقول: أنا ما انفردت بعمل هذا الشعر ولكن شعري أعانني على مدحك لأنه أراد مدحك كما أردته. (2) الخلف: بفتح الخاء وسكون اللام الرديء من القول وبالضم الاسم من الإخلاف وهو أن تعد عدة ولا تنجزها، القاموس/ خلف/ (1042). (3) يتدافعان: تقول تدافعوا: أي دفع بعضهم بعضا، القاموس/ دفع/ (924).

[فصل: الاستفهام له التقديم والصدارة وتقديم ما يقارنه من اسم وفعل]

وإذا قلت: «ما زيدا ضربت»، فقدمت المفعول، كان المعنى على أنّ ضربا وقع منك على إنسان، وظنّ أن ذلك الإنسان زيد، فنفيت أن يكون إياه. فلك أن تقول في الوجه الأول: «ما ضربت زيدا ولا أحدا من الناس»، وليس لك ذلك في الوجه الثاني. فلو قلت: «ما زيدا ضربت ولا أحدا من الناس»، كان فاسدا على ما مضى في الفاعل. ومما ينبغي أن تعلمه، أنه يصحّ لك أن تقول: «ما ضربت زيدا، ولكني أكرمته»، فتعقب الفعل المنفيّ بإثبات فعل هو ضدّه، ولا يصحّ أن تقول: «ما زيدا ضربت، ولكني أكرمته»، وذاك أنّك لو ترد أن تقول: لم يكن الفعل هذا ولكن ذاك، ولكنك أردت أنه لم يكن المفعول هذا، ولكن ذاك. فالواجب إذن أن تقول: «ما زيدا ضربت ولكن عمرا». وحكم الجارّ مع المجرور في جميع ما ذكرنا حكم المنصوب، فإذا قلت: «ما أمرتك بهذا»، كان المعنى على نفي أن تكون قد أمرته بذلك، ولم يجب أن تكون قد أمرته بشيء آخر، وإذا قلت: «ما بهذا أمرتك»، كنت قد أمرته بشيء غيره. [فصل: الاستفهام له التقديم والصدارة وتقديم ما يقارنه من اسم وفعل] - واعلم أنّ الذي بان لك في «الاستفهام» و «النفي» من المعنى في التقديم، قائم مثله في «الخبر المثبت». فإذا عمدت إلى الذي أردت أن تحدّث عنه بفعل فقدّمت ذكره، ثم بنيت الفعل عليه فقلت: «زيد قد فعل» و «أنا فعلت»، و «أنت فعلت»،: اقتضى ذلك أن يكون القصد إلى الفاعل، إلا أنّ المعنى في هذا القصد ينقسم قسمين: أحدهما: جليّ لا يشكل: وهو أن يكون الفعل فعلا قد أردت أن تنصّ فيه على واحد فتجعله له، وتزعم أنه فاعله دون واحد آخر، أو دون كل أحد. ومثال ذلك أن تقول: «أنا كتبت في معنى فلان «1»، وأنا شفعت في بابه»، تريد أن تدّعي الانفراد بذلك والاستبداد به، وتزيل الاشتباه فيه، وتردّ على من زعم أن ذلك كان من غيرك، أو أن غيرك قد كتب فيه كما كتبت. ومن البيّن في ذلك قولهم في المثل: «أتعلّمني بضبّ أنا حرشته» «2».

_ (1) باب فلان: الباب والبابة: الغاية. القاموس/ بوب/ (77). (2) ذكره الميداني في مجمع الأمثال (1/ 173). بلفظ «تعلمني بضب أنا حرشته». وحرش الضب: (صيده) يضرب لمن يخبرك بشيء أنت به منه أعلم. ورد أيضا في اللسان/ حرش/ (6/ 280).

والقسم الثاني: أن لا يكون القصد إلى الفاعل على هذا المعنى، ولكن على أنك أردت أن تحقّق على السامع أنه قد فعل، وتمنعه من الشك، فأنت لذلك تبدأ بذكره، وتوقعه أوّلا- ومن قبل أن تذكر الفعل «1» - في نفسه، لكي تباعده بذلك عن الشّبهة، وتمنعه من الإنكار، أو من أن يظنّ بك الغلط أو التزيّد. ومثاله قولك: «هو يعطي الجزيل»، و «هو يحبّ الثناء»، لا تريد أن تزعم أنه ليس هنا من يعطي الجزيل ويحبّ الثناء غيره، ولا أن تعرّض بإنسان وتحطّه عنه، وتجعله لا يعطي كما يعطى، ولا يرغب كما يرغب، ولكنك تريد أن تحقّق على السامع أن إعطاء الجزيل وحبّ الثناء دأبه، وأن تمكّن ذلك في نفسه. ومثاله في الشعر: [من الطويل] هم يفرشون اللّبد كلّ طمرّة ... وأجرد سبّاح يبذّ المغالبا «2» لم يرد أن يدّعي لهم هذه الصفة دعوى من يفردهم بها، وينصّ عليهم فيها، حتى كأنه يعرّض بقوم آخرين، فينفي أن يكونوا أصحابها. هذا محال. وإنما أراد أن يصفهم بأنّهم فرسان يمتهدون صهوات الخيل، وأنّهم يقتعدون الجياد منها، وأن ذلك دأبهم، من غير أن يعرّض لنفيه عن غيرهم، إلّا أنه بدأ بذكرهم لينبه السامع لهم، ويعلم بديّا «3» قصده إليهم بما في نفسه من الصفة، ليمنعه بذلك من الشكّ، ومن توهّم أن يكون قد وصفهم بصفة ليست هي لهم، أو أن يكون قد أراد غيرهم فغلط إليه. وعلى ذلك قول الآخر: [من الطويل] هم يضربون الكبش يبرق بيضه، ... على وجهه من الدّماء سبائب «4»

_ (1) قوله: (ومن قبل أن تذكر الفعل) جملة اعتراضية وسياق الكلام وتوقعه أولا .... في نفسه. (2) البيت للمعذل بن عبد الله الليثي الشاعر الإسلامي. الحماسة بشرح المرزوقي (4/ 1763). اللبد: الصوف. القاموس مادة/ لبد/ (404). الطمرة: الطمر بتشديد الراء الفرس الجواد المستفز للعدو، اللسان مادة/ طمر/ (4/ 503). الأجرد: فرس أجرد أي قصير الشعر، القاموس/ جرد/ (347). السوابح: هي الخيل لسبحها بيديها في سيرها. القاموس/ سبح/ (284). البذّ: أي الغلبة. القاموس/ بذّ/ (422). (3) بديا: بداوة الشيء أول ما يبدأ منه. القاموس/ بدا/ (1629). (4) البيت للأخنس بن شهاب بن شريق بن ثمامة بن تغلب بن وائل، وهو في المفضليات رقم (41 ص 207)، والإيضاح (64). الكبش: رئيس القوم وحاميهم. البيض: جمع بيضة، وهي قلنسوة الحديد. السبائب: الطرائق الواحدة سبيبة وإنما خصّ الوجه لأنه أشجع للمضروب، إنما يضرب في رأسه مقبلا، فالدم في وجهه.

لم يرد أن يدّعي لهم الانفراد، ويجعل هذا الضرب لا يكون إلا منهم، ولكن أراد الذي ذكرت لك، من تنبيه السامع لقصدهم بالحديث من قبل ذكر الحديث، ليحقق الأمر ويؤكّده. ومن البين فيه قول عروة بن أذينة: [من الهزج] سليمى أزمعت بينا ... فأين تقولها أينا «1» وذلك أنه ظاهر معلوم أنه لم يرد أن يجعل هذا الإزماع لها خاصة، ويجعلها من جماعة لم يزمع البين منهم أحد سواها. هذا محال، ولكنه أراد أن يحقق الأمر ويؤكده، فأوقع ذكرها في سمع الذي كلّم ابتداء ومن أوّل الأمر. ليعلم قبل هذا الحديث أنه أرادها بالحديث، فيكون ذلك أبعد له من الشك. ومثله في الوضوح قوله: [من الطويل] هما يلبسان المجد أحسن لبسة ... شحيحان ما اسطاعا عليه كلاهما «2» لا شبهة في أنه لم يرد أن يقصر هذه الصّفة عليهما، ولكن نبّه لهما قبل الحديث عنهما. وأبين من الجميع قوله تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الفرقان: 3]، وقوله عز وجل: وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ [المائدة: 61]. وهذا الذي قد ذكرت من أن تقديم ذكر المحدّث عنه يفيد التنبيه له، قد ذكره صاحب الكتاب في المفعول إذا قدّم فرفع بالابتداء، وبني الفعل الناصب كان له عليه «3»، وعدّي إلى ضميره فشغل به. كقولنا في «ضربت عبد الله»: «عبد الله ضربته»، فقال: و «إنما» قلت: «عبد الله»، فنبّهته له، ثم بنيت عليه الفعل، ورفعته بالابتداء. فإن قلت: فمن أين وجب أن يكون تقديم ذكر المحدّث عنه بالفعل، آكد لإثبات ذلك الفعل له، وأن يكون قوله: «هما يلبسان المجد»، أبلغ في جعلهما يلبسانه من أن يقال: «يلبسان المجد»؟

_ (1) البيت في ديوانه (397 - 400). وتقولها: بمعنى تظنها. (2) الشعر لعمرة الخثعمية، ترثي ابنها، وقال أبو رياش: هو لدرماء بنت سيار بن عبعبة الخثعمية. شرح الحماسة للتبريزي (3/ 60 - 64). (3) أي: ومبنى الفعل الذي كان له ناصبا عليه.

فإنّ ذلك «1» من أجل أنه لا يؤتى بالاسم معرّى من العوامل إلّا لحديث قد نوي إسناده إليه. وإذا كان كذلك، فإذا قلت: «عبد الله»، فقد أشعرت قلبه بذلك أنك قد أردت الحديث عنه، فإذا جئت بالحديث فقلت مثلا: «قام» أو قلت: «خرج»، أو قلت: «قدم» فقد علم ما جئت به وقد وطّأت له وقدّمت الإعلام فيه، فدخل على القلب دخول المأنوس به، وقبله قبول المهيّئ له المطمئنّ إليه، وذلك لا محالة أشدّ لثبوته، وأنفى للشبهة، وأمنع للشك، وأدخل في التحقيق. وجملة الأمر أنّه ليس إعلامك الشيء بغتة غفلا، مثل إعلامك له بعد التنبيه عليه والتقدمة له، لأنّ ذلك يجري مجرى تكرير الإعلام في التأكيد والإحكام. ومن هاهنا قالوا: إنّ الشيء إذا أضمر ثم فسّر، كان ذلك أفخم له من أن يذكر من غير تقدمة إضمار. ويدلّ على صحة ما قالوه أنّا نعلم ضرورة في قوله تعالى: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ [الحج: 46]، فخامة وشرفا وروعة، لا نجد منها شيئا في قولنا: «فإن الأبصار لا تعمى»، وكذلك السبيل أبدا في كل كلام كان فيه ضمير قصّة. فقوله تعالى: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ [المؤمنون: 117]، يفيد من القوة في نفي الفلاح عن الكافرين، ما لو قيل: «إن الكافرين لا يفلحون»، لم يستفد ذلك. ولم يكن ذلك كذلك إلّا لأنك تعلمه إيّاه من بعد تقدمة وتنبيه، أنت به في حكم من بدأ وأعاد ووطّد، ثم بنى ولوّح ثم صرّح. ولا يخفى مكان المزيّة فيما طريقه هذا الطريق. ويشهد لما قلنا من أنّ تقديم المحدّث عنه يقتضي تأكيد الخبر وتحقيقه له، أنّا إذا تأمّلنا وجدنا هذا الضرب من الكلام يجيء فيما سبق فيه إنكار من منكر، نحو أن يقول الرجل: «ليس لي علم بالذي تقول»، فتقول له: «أنت تعلم أن الأمر على ما أقول، ولكنّك تميل إلى خصمي»، وكقول الناس: «هو يعلم ذاك وإن أنكر، وهو يعلم الكذب فيما قال وإن حلف عليه»، وكقوله تعالى: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران: 75]، فهذا من أبين شيء. وذاك أن الكاذب، لا سيما في الدين، لا يعترف بأنه كاذب، وإذا لم يعترف بأنه كاذب، كان أبعد من ذلك أن يعترف بالعلم بأنّه كاذب. أو يجيء «2» فيما اعترض فيه شكّ، نحو أن يقول الرجل: «كأنك لا تعلم ما صنع فلان ولم يبلغك»، فيقول: «أنا أعلم، ولكنّي أداريه».

_ (1) قوله: (فإن ذلك) جواب لقوله: (فمن أين وجب). (2) قوله: (أو يجيء) جملة معطوفة على قوله: (يجيء فيما سبق).

أو في تكذيب مدّع كقوله عز وجل: وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ [المائدة: 61]، وذلك أن قولهم: «آمنا»، دعوى منهم أنهم لم يخرجوا بالكفر كما دخلوا به، فالموضع موضع تكذيب. أو فيما القياس في مثله أن لا يكون، كقوله تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الفرقان: 3]، وذلك أن عبادتهم لها تقتضي أن لا تكون مخلوقة. وكذلك في كل شيء كان خبرا على خلاف العادة، وعمّا يستغرب من الأمر نحو أن تقول: «ألا تعجب من فلان؟ يدّعي العظيم، وهو يعيا باليسير، ويزعم أنه شجاع، وهو يفزع من أدنى شيء». ومما يحسن ذلك فيه ويكثر، الوعد والضّمان، كقول الرجل: «أنا أعطيك، أنا أكفيك، أنا أقوم بهذا الأمر»، وذلك أنّ من شأن من تعده وتضمن له، أن يعترضه الشكّ في تمام الوعد وفي الوفاء به، فهو من أحوج شيء إلى التأكيد. وكذلك يكثر في المدح، كقولك: «أنت تعطي الجزيل، أنت تقري في المحل، أنت تجود حين لا يجود أحد»، وكما قال: [من الكامل] ولأنت تفري ما خلقت وبع ... ض القوم يخلق ثمّ لا يفري «1» وكقول الآخر: [من الرمل] نحن في المشتاة ندعو الجفلى «2» وذلك أنّ من شأن المادح أن يمنع السامعين من الشكّ فيما يمدح به، ويباعدهم من الشبهة، وكذلك المفتخر.

_ (1) البيت لزهير بن أبي سلمى، وهو في ديوانه (31) من قصيدة قالها في مدح هرم بن سنان، وهو في مفتاح العلوم (123). فرى الشيء يفريه: قطعه، وفرى المزادة صنعها، والخلق التقدير والذي يصنع شيئا من الجلد ونحوه على مثال سابق كالمزادة والنعل بقدر ثم يقطع ويفصل. (2) البيت لطرفة بن العبد، وهو في ديوانه (55) من قصيدة طويلة قالها مخاطبا نفسه، ثم راح يصف ملاهيه وجوانب من مفاخره الجماعية. ومطلعها: أصحوت اليوم أم شاقتك هر ... ومن الحب جنون مستعر لا يكن حبك داء قاتلا ... ليس هذا منك ماوي بحر المشتاة: وقت الشتاء البارد. الجفلى: الدعوة العامة إلى الطعام دونما تخصيص. الانتقار: دعوة النقرى، وهي دعوة خاصة بخلاف الجفلى فهي عامة.

ويزيدك بيانا أنه إذا كان الفعل مما لا يشكّ فيه ولا ينكر بحال، لم يكد يجيء على هذا الوجه، ولكن يؤتى به غير مبنيّ على اسم، فإذا أخبرت بالخروج مثلا عن رجل من عادته أن يخرج في كل غداة قلت: «قد خرج»، ولم تحتج إلى أن تقول: «هو قد خرج»، وذاك لأنه ليس بشيء يشكّ فيه السامع، فتحتاج أن تحقّقه، وإلى أن تقدّم فيه ذكر المحدّث عنه. وكذلك إذا علم السامع من حال رجل أنه على نيّة الركوب والمضيّ إلى موضع، ولم يكن شكّ وتردّد أنه يركب أو لا يركب، كان خبرك فيه أن تقول: «قد ركب»، ولا تقول: «هو قد ركب». فإن جئت بمثل هذا في صلة كلام، ووضعته بعد واو الحال، حسن حينئذ، وذلك قولك: «جئته وهو قد ركب»، وذاك أن الحكم يتغيّر إذا صارت الجملة في مثل هذا الموضع، ويصير الأمر بمعرض الشّك، وذاك أنه إنما يقول هذا من ظنّ أنّه يصادفه في منزله، وأنّه يصل إليه من قبل أن يركب. فإن قلت «1»: فإنك قد تقول: «جئته وقد ركب» بهذا المعنى، ومع هذا الشكّ. فإن الشكّ لا يقوى حينئذ قوته في الوجه الأول، أفلا ترى أنك إذا استبطأت إنسانا فقلت: «أتانا والشمس قد طلعت»، كان ذلك أبلغ في استبطائك له من أن تقول: «أتانا وقد طلعت الشمس»؟ وعكس هذا أنك إذا قلت: «أتى والشمس لم تطلع»، وكان أقوى في وصفك له بالعجلة والمجيء قبل الوقت الذي ظنّ أنه يجيء فيه، من أن تقول: «أتى ولم تطلع الشمس بعد». هذا، وهو كلام لا يكاد يجيء إلّا نابيا، وإنما الكلام البليغ هو أن تبدأ بالاسم وتبني الفعل عليه كقوله: [من الكامل] قد أغتدي والطّير لم تكلّم فإذا كان الفعل فيما بعد هذه الواو التي يراد بها الحال، مضارعا، لم يصلح إلا مبنيّا على اسم كقولك: «رأيته وهو يكتب»، و «دخلت عليه وهو يملي الحديث»، وكقوله: [من الطويل] تمزّزتها والدّيك يدعو صباحه ... إذا ما بنو نعش دنوا فتصوّبوا ليس يصلح شيء من ذلك إلا على ما تراه، لو قلت: «رأيته ويكتب» و «دخلت عليه ويملي الحديث»، و «تمززتها ويدعو الديك صباحه»، لم يكن شيئا. وممّا هو بهذه المنزلة في أنك تجد المعنى لا يستقيم إلا على ما جاء عليه من بناء الفعل على الاسم قوله تعالى: إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى

_ (1) قوله: (فإن قلت) جوابه: (فإن الشك).

الصَّالِحِينَ [الأعراف: 196]، وقوله تعالى: وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان: 5]، وقوله تعالى: وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [النمل: 17]، فإنه لا يخفى على من له ذوق أنه لو جيء في ذلك بالفعل غير مبنيّ على الاسم فقيل: «إن وليّي الله الذي نزل الكتاب ويتولّى الصالحين»، و «اكتتبها فتملى عليه»، و «حشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فيوزعون»، لوجد اللفظ قد نبا عن المعنى، والمعنى قد زال عن صورته والحال التي ينبغي أن يكون عليها. واعلم أنّ هذا الصنيع يقتضي في الفعل المنفيّ ما اقتضاه في المثبت، فإذا قلت: «أنت لا تحسن هذا»، كان أشدّ لنفي إحسان ذلك عنه من أن تقول: «لا تحسن هذا، ويكون الكلام في الأول مع من هو أشدّ إعجابا بنفسه، وأعرض دعوى في أنه يحسن حتى إنّك لو أتيت ب «أنت» فيما بعد «تحسن» فقلت: «لا تحسن أنت»، لم يكن له تلك القوة. وكذلك قوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ [المؤمنون: 59]، يفيد من التأكيد في نفي الاشتراك عنهم، ما لو قيل: «والذين لا يشركون بربهم، أو: بربهم لا يشركون» لم يفد ذلك. وكذا قوله تعالى: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [يس: 7]، وقوله تعالى: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ [القصص: 66]، وإِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنفال: 55]. ومما يرى تقديم الاسم فيه كاللازم: «مثل»، و «غير»، في نحو قوله: [من السريع] مثلك يثني الحزن عن صوبه ... ويستردّ الدّمع عن غربه «1» وقول الناس: «مثلك رعى الحقّ والحرمة»، وكقول الذي قال له الحجاج:

_ (1) البيت للمتنبي في ديوانه (2/ 327) من قصيدة قالها في رثاء عمة عضد الدولة ببغداد، ورواية الديوان: «يثني الحزن» وهي الأصح، إذ قوله: «يثني المزن» لا يناسب مقام الرثاء. والبيت في شرح التبيان للعكبري: (1/ 153)، والإيضاح (70)، والإشارات والتنبيهات (50)، ونهاية الإيجاز (311). والغروب: مجاري الدمع، للعين غربان مقدمها ومؤخرها. قال الأصمعي: يقال بعينه غرب إذا كان يسيل ولا ينقطع دموعها والغروب الدمع. والصوب: القصد والإصابة والصوت. المعنى: يريد أنك تقدر على دفع الحزن عن قصده وتغلبه بالصبر وترد الدمع إلى قراره ومجراه بأن تصرفه عن المجرى، وكيف لا تفعل هذا وأنت لا شبه لك.

«لأحملنك على الأدهم» «1»، يريد القيد، فقال على سبيل المغالطة: «ومثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب» «2»، وما أشبه ذلك مما لا يقصد فيه ب «مثل» إلى إنسان سوى الذي أضيف إليه، ولكنهم يعنون أن كلّ من كان مثله في الحال والصفة، كان من مقتضى القياس وموجب العرف والعادة أن يفعل ما ذكر، أو أن لا يفعل. ومن أجل أن كان المعنى كذلك قال: [من السريع] ولم أقل مثلك، أعني به ... سواك، يا فردا بلا مشبه «3» وكذلك حكم «غير» إذا سلك به هذا المسلك فقيل: «غيري يفعل ذاك»، على معنى أني لا أفعله، لا أن يومئ ب «غير» إلى إنسان فيخبر عنه بأن يفعل، كما قال: [من البسيط] غيري بأكثر هذا النّاس ينخدع «4» وذاك أنه معلوم أنه لم يرد أن يعرّض بواحد كان هناك فيستنقصه ويصفه بأنه مضعوف يغرّ ويخدع، بل لم يرد إلا أن يقول: إني لست ممن ينخدع ويغترّ. وكذلك لم يرد أبو تمام بقوله: [من الوافر] وغيري يأكل المعروف سحتا ... وتشحب عنده بيض الأيادي «5»

_ (1) وهو الأسود من الخيل، اللسان/ دهم/ (12/ 209). (2) البياض الذي غلب عليه السواد، وهو من الخيل، اللسان/ شهب/ (1/ 508). (3) البيت للمتنبي، وهو آخر بيت من القصيدة سالفة الذكر، والمعنى: يريد لم أقل مثلك وهو قولي مثلك يثني الحزن أعني به سواك، وكيف أقول هذا وأنت الذي لا مثل له في زمانه، وإنما أردت نفسك لا غيرك. والبيت في شرح التبيان للعكبري (1/ 153)، والإيضاح (69). (4) البيت للمتنبي في ديوانه (62)، وهو مطلع قصيدة يمدح بها سيف الدولة الحمداني، وتمامه: إن قاتلوا جنوا أو حدثوا شجعوا والبيت في شرح التبيان للعكبري (1/ 416)، والإيضاح (70)، وشرح المرشدي على عقود الجمان (1/ 86)، ونهاية الإيجاز. والشطر الثاني تعليل للحكم الذي في الشطر الأول. والمعنى: لا أعتقد في هؤلاء الناس الخير ولكن غيري ممن يجهل أمرهم يغتر بقولهم فينخدع به لأنهم إذا قاتلوا جبنوا. وانهزموا، وإذا حدثوا أظهروا الشجاعة، أي: أن شجاعتهم بالقول لا بالفعل، وإذا كانوا كذلك فالجاهل يغتر بهم. (5) البيت في ديوانه (81) من قصيدة في مدح أبي عبد الله أحمد بن أبي دؤاد ويعتذر إليه، وقبله: وكان الشكر للكرماء خصلا ... وميدانا كميدان الجياد عليه عقدت عقديّ ولاحت ... مواسمه على شيمي وعادي وهو في الإيضاح (71)، وشرح المرشدي على عقود الجمان (1/ 86)، والإشارات والتنبيهات (51)، والمعروف: الإحسان، السحت: الحرام، يشحب: من الشحوب وهو تغير اللون. والأيادي: النعم.

أن يعرّض مثلا بشاعر سواه، فيزعم أنّ الذي قرف به عند الممدوح من أنه هجاه، كان من ذلك الشاعر لا منه. هذا محال، بل ليس إلّا أنّه نفى عن نفسه أن يكون ممن يكفر النّعمة ويلؤم. واستعمال «مثل» و «غير» على هذا السبيل شيء مركوز في الطباع، وهو جار في عادة كل قوم. فأنت الآن إذا تصفّحت الكلام وجدت هذين الاسمين يقدّمان أبدا على الفعل إذا نحي بهما هذا النّحو الذي ذكرت لك، وترى هذا المعنى لا يستقيم فيهما إذا لم يقدّما. أفلا ترى أنك لو قلت: «يثني الحزن عن صوبه مثلك»، و «رعى الحق والحرمة مثلك»، و «يحمل على الأدهم والأشهب مثل الأمير»، و «ينخدع غيري بأكثر هذا الناس»، و «يأكل غيري المعروف سحتا»، رأيت كلاما مقلوبا عن جهته، ومغيّرا عن صورته، ورأيت اللّفظ قد نبا عن معناه، ورأيت الطبع يأبى أن يرضاه. واعلم أنّ معك دستورا لك فيه، إن تأمّلت، غنى عن كل سواه، وهو أنه لا يجوز أن يكون لنظم الكلام وترتيب أجزائه في «الاستفهام» معنى لا يكون له ذلك المعنى في «الخبر». وذاك أن «الاستفهام»، استخبار، والاستخبار هو طلب من المخاطب أن يخبرك. فإذا كان كذلك، كان محالا أن يفترق الحال بين تقديم الاسم وتأخيره في «الاستفهام»، فيكون المعنى إذا قلت: «أزيد قام؟» غيره إذا قلت: «أقام زيد؟»، ثم لا يكون هذا الافتراق في الخبر، ويكون قولك: «زيد قام» و «قام زيد» سواء، ذاك لأنه يؤدي إلى أن تستعلمه أمرا لا سبيل فيه إلى جواب، وأن تستثبته المعنى على وجه ليس عنده عبارة يثبته لك بها على ذلك الوجه. وجملة الأمر، أن المعنى في إدخالك «حرف الاستفهام» على الجملة من الكلام، هو أنك تطلب أن يقفك في معنى تلك الجملة ومؤدّاها على إثبات أو نفي. فإذا قلت: «أزيد منطلق؟»، فأنت تطلب أن يقول لك: «نعم، هو منطلق» أو يقول: «لا، ما هو منطلق». وإذا كان ذلك كذلك، كان محالا أن تكون الجملة إذا دخلتها همزة الاستفهام استخبارا عن المعنى على وجه، لا تكون هي- إذا نزعت منها الهمزة «1» - إخبارا به على ذلك الوجه، فاعرفه.

_ (1) اعتراض بين لا تكون هي ... إخبارا به.

فصل «هذا كلام في النكرة إذا قدمت على الفعل، أو قدم الفعل عليها»

فصل «هذا كلام في النّكرة إذا قدّمت على الفعل، أو قدّم الفعل عليها» إذا قلت: «أجاءك رجل؟»، فأنت تريد أن تسأله هل كان مجيء من واحد من الرجال إليه، فإن قدمت الاسم فقلت: «أرجل جاءك؟»، فأنت تسأله عن جنس من جاءه، أرجل هو أم امرأة؟ ويكون هذا منك إذا كنت علمت أنه قد أتاه آت، ولكنك لم تعلم جنس ذلك الآتي، فسبيلك في ذلك سبيلك إذا أردت أن تعرف عين الآتي فقلت: «أزيد جاءك أم عمرو؟». ولا يجوز تقديم الاسم في المسألة الأولى، لأن تقديم الاسم يكون إذا كان السؤال عن الفاعل، والسؤال عن الفاعل يكون إمّا عن عينه أو عن جنسه، ولا ثالث. وإذا كان كذلك، كان محالا أن تقدّم الاسم النكرة وأنت لا تريد السؤال عن الجنس، لأنه لا يكون لسؤالك حينئذ متعلّق، من حيث لا يبقى بعد الجنس إلّا العين. والنّكرة لا تدلّ على عين شيء فيسأل بها عنه. فإن قلت: «أرجل طويل جاءك أم قصير؟»، كان السؤال عن أن الجائي كان، من جنس طوال الرجال أم قصارهم؟ فإن وصفت النكرة بالجملة فقلت: «أرجل كنت عرفته من قبل أعطاك هذا أم رجل لم تعرفه»، كان السؤال عن المعطي، أكان ممّن عرفه قبل، أم كان إنسانا لم تتقدّم منه معرفة [له]. وإذ قد عرفت الحكم في الابتداء بالنكرة في «الاستفهام»، فابن «الخبر» عليه. فإذا قلت: «رجل جاءني»: لم يصلح حتى تريد أن تعلمه أن الذي جاءك رجل لا امرأة، ويكون كلامك مع من قد عرف أن قد أتاك آت. فإن لم ترد ذاك، كان الواجب أن تقول: «جاءني رجل»، فتقدّم الفعل. وكذلك إن قلت: «رجل طويل جاءني»، لم يستقم حتّى يكون السامع قد ظنّ أنه قد أتاك قصير، أو نزّلته منزلة من ظنّ ذلك. وقولهم: «شرّ أهرّ ذا ناب» «1»، إنما قدّم فيه «شرّ»، لأن المراد أن يعلم أن الذي أهرّ ذا الناب هو من جنس الشّرّ لا جنس الخير، فجرى مجرى أن تقول: «رجل

_ (1) ورد في مجمع الأمثال للميداني (1/ 326)، وهو يضرب عند ظهور علامات الشر.

جاءني»، تريد أن رجل لا امرأة، وقول العلماء إنه إنما يصلح «1»، لأنه بمعنى «ما أهرّ ذا ناب إلّا شرّ». بيان لذلك: ألا ترى أنك لا تقول: «ما أتاني إلّا رجل»، إلا حيث يتوهّم السامع أنه قد أتتك امرأة، وذاك لأنّ الخبر ينقض النّفي يكون حيث يراد أن يقصر الفعل على شيء، وينفى عمّا عداه. فإذا قلت: «ما جاءني إلّا زيد»، كان المعنى أنك قد قصرت المجيء على زيد، ونفيته عن كل من عداه. وإنّما يتصوّر قصر الفعل على معلوم، ومتى لم يرد بالنكرة الجنس، لم يقف منها السامع على معلوم، حتى تزعم أني أقصر له الفعل عليه، وأخبره أنه كان منه دون غيره. واعلم أنّا لم نرد بما قلناه، من أنه إنما حسن الابتداء بالنكرة في قولهم: «شرّ أهرّ ذا ناب»، لأنه أريد به الجنس، أنّ معنى «شرّ» و «الشرّ» سواء، وإنما أردنا أن الغرض من الكلام أن نبيّن أنّ الذي أهرّ ذا الناب هو من جنس الشر لا جنس الخير، كما أنا إذا قلنا في قولهم: «أرجل أتاك أم امرأة؟»، أن السؤال عن الجنس، لم نرد بذلك أنه بمنزلة أن يقال: «الرّجل أم المرأة أتاك»، ولكنّا نعني أن المعنى على أنك سألت عن الآتي أهو من جنس الرجال أم جنس النساء؟ فالنكرة إذن على أصلها من كونها لواحد من الجنس، إلا أنّ القصد منك لم يقع إلى كونه واحدا، وإنما وقع إلى كونه من جنس الرجال. وعكس هذا أنك إذا قلت: «أرجل أتاك أم رجلان؟»، كان القصد منك إلى كونه واحدا، دون كونه رجلا، فاعرف ذلك أصلا، وهو أنّه قد يكون في اللفظ دليل على أمرين، ثم يقع القصد إلى أحدهما دون الآخر، فيصير ذلك الآخر- بأن لم يدخل في القصد- كأنه لم يدخل في دلالة اللفظ. وإذا اعتبرت ما قدّمته من قول صاحب الكتاب: «إنّما قلت: «عبد الله» فنبهته له، ثم بنيت عليه الفعل» «2»، وجدته يطابق هذا. وذاك أنّ التنبيه لا يكون إلّا على معلوم، كما أن قصر الفعل لا يكون إلا على معلوم، فإذا بدأت بالنكرة فقلت: «رجل»، وأنت لا تقصد بها الجنس، وأن تعلم السامع أنّ الذي أردت بالحديث رجل لا امرأة، كان محالا أن تقول: «إني قدّمته لأنبّه المخاطب له»، لأنه يخرج بك إلى أن تقول: إنّي أردت أن أنبه السّامع لشيء لا يعلمه في جملة ولا تفصيل. وذلك ما لا يشكّ في استحالته، فاعرفه.

_ (1) أي الابتداء بالنكرة. (2) القول لسيبويه في كتابه (1/ 41).

القول في الحذف هو باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسّحر، فإنك ترى به ترك الذّكر، أفصح من الذكر، والصّمت عن الإفادة، أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتمّ ما تكون بيانا إذا لم تبن. وهذه جملة قد تنكرها حتى تخبر، وتدفعها حتى تنظر، وأنا أكتب لك بديئا أمثلة مما عرض فيه الحذف، ثم أنبهك على صحّة ما أشرت إليه، وأقيم الحجّة من ذلك عليه. أنشد صاحب الكتاب: [من البسيط] اعتاد قلبك من ليلى عوائده ... وهاج أهواءك المكنونة الطلل ربع قواء أذاع المعصرات به ... وكلّ حيران سار ماؤه خضل «1» قال: أراد، «ذاك ربع قواء أو هو ربع». قال: ومثله قول الآخر: [من البسيط] هل تعرف اليوم رسم الدّار والطّللا ... كما عرفت بجفن الصّيقل الخللا دار لمروة إذ أهلي وأهلهم ... بالكانسيّة نرعى اللهو والغزلا «2» كأنه قال: تلك دار. قال شيخنا «3» رحمه الله: ولم يحمل البيت الأول على أن «الرّبع» بدل من «الطّلل»، لأن الرّبع أكثر من الطّلل، والشيء يبدل مما هو مثله أو أكثر منه، فأما الشيء من أقلّ منه ففاسد لا يتصوّر. وهذه طريقة مستمرّة لهم إذا ذكروا الديار والمنازل. وكما يضمرون المبتدأ فيرفعون، فقد يضمرون الفعل فينصبون، كبيت الكتاب أيضا: [من البسيط]

_ (1) هو سيبويه، ونسبهما البغدادي في شرح المغني لعمر بن أبي ربيعة، وليسا في ديوانه، والقواء: المكان القفر. أذاع المعصرات به: وهي الرياح العاصفات ذوات الغبار. والرهج، وأذاع به، ذهبت به وطمست معالمه، وحيران: صفة لمحذوف، وهو السحاب المتردد، وسار: يسير ليلا، وماؤه خضل: يحمل ماء غزيرا. (2) البيتان في الكتاب لسيبويه: (1/ 282)، وينسبان لعمر بن أبي ربيعة، وهما في ملحقات ديوانه (497)، والبيت الثاني في اللسان (كنس) بدون نسبة. الخلل: جمع خلة بالكسر، وهي بطانة يغشى بها تنقش بالذهب، والصيقل: شحاذ السيوف وجلاؤها. مروة: اسم صاحبته، الكانسية: موضع. نرعى اللهو والغزل: نلتزمهما ونحافظ عليهما وشبه رسوم الدار في اختلافها أو حسنها في عينه بخلل جفون السيوف التي صنعها الصيقل. (3) شيخنا: المقصود به أبو الحسن الفارسي.

ديار ميّة إذ ميّ تساعفنا ... ولا يرى مثلها عجم ولا عرب «1» أنشده بنصب «ديار»، على إضمار فعل، كأنه قال: اذكر ديار ميّة. ومن المواضع التي يطّرد فيها حذف المبتدأ، «القطع والاستئناف»، ويبدءون بذكر الرجل، ويقدّمون بعض أمره، ثم يدعون الكلام الأول، ويستأنفون كلاما آخر. وإذا فعلوا ذلك، أتوا في أكثر الأمر بخبر من غير مبتدأ مثال ذلك قوله: [من مجزوء الكامل] وعلمت أني يوم ذا ... ك منازل كعبا ونهدا قوم إذا لبسوا الحدي ... د تنمّروا حلقا وقدّا «2» وقوله: [من الوافر] هم حلّوا من الشّرف المعلّى ... ومن حسب العشيرة حيث شاءوا بناة مكارم وأساة كلم ... دماؤهم من الكلب الشّفاء «3» وقوله: [من الطويل] رآني على ما بي عميلة فاشتكى ... إلى ماله حالي أسرّ كما جهر غلام رماه الله بالخير مقبلا ... له سيمياء لا تشقّ على البصر «4» وقوله: [من الطويل]

_ (1) البيت لذي الرمة في ديوانه (11)، والكتاب لسيبويه (1/ 280)، والكامل للمبرد (2/ 347)، وخزانة الأدب (2/ 365، 239، 340)، والدرر (3/ 7)، وشرح أبيات سيبويه، ولسان العرب (عجم)، ونوادر أبي زيد (32)، وهمع الهوامع (1/ 168). ميّة وميّ: اسم على مؤنث، وهي المرأة التي تغزل بها ذو الرمة كثيرا. تساعفنا: تواتينا في مصافاة معاونة. العجم: خلاف العرب. (2) البيتان لعمرو بن معد يكرب في ديوانه المجموع. الحديد: يعني الدروع، تنمّروا: كأنهم كالنمور في الحرب. القدّ: السير الذي يقدّ من الجلد، والقدّ: سير يقدّ من جلد غير مدبوغ، والجمع: أقدّ، والقدّ: الجلد أيضا تخصف به النعال. (3) البيتان لأبي البرج القاسم بن جبل الذبياني، شاعر إسلامي، في مدح زفر بن أبي هاشم بن مسعود وهما في الإيضاح (41)، ومفتاح العلوم (271)، وشرح الحماسة (1658)، وشرح المرشدي على عقود الجمان (1/ 55)، والإشارات والتنبيهات (37). (4) البيتان لابن عنقاء الفزاري، يمدح عميلة حين قاسمه ماله، والبيت الثاني في لسان العرب (سوم). السّيمياء: تأنيث سيما غير مجرى. الجوهري: السيمى مقصور من الواو، قال تعالى: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ وقد يجيء السّيما والسيميا ممدودين، وجيده الشّعرى، وفي وجهه: القمر له سيمياء لا تشقّ على البصر أي: يفرح به من ينظر إليه.

إذا ذكر ابنا العنبريّة لم تضق ... ذراعي، وألقى باسته من أفاخر هلالان، حمّالان في كلّ شتوة ... من الثقل ما لا تستطيع الأباعر «1» «حمّالان»، خبر ثان، وليس بصفة، كما يكون لو قلت مثلا: «رجلان حمّالان». وممّا اعتيد فيه أن يجيء خبرا قد بني على مبتدأ محذوف، قولهم بعد أن يذكروا الرجل: «فتى من صفته كذا»، و «أغرّ من صفته كيت وكيت». كقوله: [من الطويل] ألا لا فتى بعد ابن ناشرة الفتى ... ولا عرف إلا قد تولّى وأدبرا فتى حنظليّ ما تزال ركابه ... تجرد بمعروف وتنكر منكرا «2» وقوله: [من الطويل] سأشكر عمرا إن تراخت منيّتي ... أيادي لم تمنن، وإن هي جلّت فتى غير محجوب الغنى عن صديقه، ... ولا مظهر الشّكوى إذا النّعل زلّت «3» ومن ذلك قول جميل: [من البسيط] وهل بثينة، يا للناس، قاضيتي ... ديني؟ وفاعلة خيرا فأجزيها؟ ترنو بعيني مهاة أقصدت بهما ... قلبي عشيّة ترميني وأرميها هيفاء مقبلة، عجزاء مدبرة، ... ريّا العظام، بلا عيب يرى فيها من الأوانس مكسال، مبتّلة ... خود، غذاها بلين العيش غاذيها «4»

_ (1) البيتان لموسى بن جابر الحنفي، شرح الحماسة للتبريزي (1/ 191)، و «ألقى باسته من أفاخر» سقط على عجيزته من العجز، وما يجد من الذلة والقلة، وهلالان كالهلال في الشهرة والارتفاع. الشتوة: زمن الجدب في الشتاء. (2) البيتان لأبي حزابة الوليد بن حنيفة في رثاء عبد الله بن ناشرة، أحد بني عامر بن زيد بن مناة بن تميم. (3) البيتان أوردهما محمد بن علي الجرجاني في الإشارات (303)، وهما لعبد الله بن الزبير الأسدي في مدح عثمان بن عفان، وينسبان لأبي الأسود الدؤلي في مدح عمرو بن سعيد بن العاص، وهما في ديوان إبراهيم بن العباس الصولي في الطرائف الأدبية (130)، والإيضاح (38، 345)، والتبيان للطيبي (1/ 147)، ومفتاح العلوم (266)، وشرح المرشدي على عقود الجمان (1/ 52)، والإشارات والتنبيهات (34، 303). وأيادي بدل اشتمال من عمرو، والتقدير: أيادي له، وقوله: «إذا النعل زلت» كناية عن نزول الشر، والشاهد في قوله «فتى» لأن التقدير: هو فتى، والحذف فيه للاختصار. (4) الأبيات لجميل بثينة وردت في الديوان ما عدا البيت الأول. ديوان جميل (218).

وقوله أيضا: [من الكامل] إنّي عشيّة رحت وهي حزينة ... تشكو إليّ صبابة لصبور وتقول: بت عندي، فديتك، ليلة ... أشكو إليك، فإنّ ذاك يسير غرّاء مبسام، كأنّ حديثها ... درّ تحدّر نظمه منثور محطوطة المتنين، مضمرة الحشا، ... ريّا الرّوادف، خلقها ممكور «1» وقول الأقيشر «2» في ابن عمّ له موسر، سأله فمنعه وقال: كم أعطيك ما لي وأنت تنفقه فيما لا يغنيك؟ والله لا أعطيتك. فتركه حتى اجتمع القوم في ناديهم وهو فيهم، فشكاه إلى القوم وذمّه، فوثب إليه ابن عمه فلطمه، فأنشأ يقول: [من الطويل] سريع إلى ابن العمّ يلطم وجهه، ... وليس إلى داعي النّدى بسريع حريص على الدّنيا، مضيع لدينه، ... وليس لما في بيته بمضيع «3» فتأمّل الآن هذه الأبيات كلّها، واستقرها واحدا واحدا، وانظر إلى موقعها في نفسك، وإلى ما تجده من اللّطف والظّرف إذا أنت مررت بموضع الحذف منها، ثم فليت النّفس عمّا تجد، وألطفت النظر فيما تحسّ به. ثم تكلّف أن تردّ ما حذف الشاعر، وأن تخرجه إلى لفظك، وتوقعه في سمعك، فإنك تعلم أن الذي قلت كما قلت، وأن ربّ حذف هو قلادة الجيد، وقاعدة التّجويد، وإن أردت ما هو أصدق في ذلك شهادة، وأدلّ دلالة، فانظر إلى قول عبد الله بن الزّبير يذكر غريما له قد ألحّ عليه: [من الطويل] عرضت على زيد ليأخذ بعض ما ... يحاوله قبل اعتراض الشّواغل فدبّ دبيب البغل يألم ظهره ... وقال: تعلّم، إنّني غير فاعل تثاءب حتّى قلت: داسع نفسه ... وأخرج أنيابا له كالمعاول «4»

_ (1) الأبيات لجميل بثينة، وهي في الأغاني (8/ 156)، وقالها عند ما شكا زوج بثينة إلى أبيها وأخيها إلمام جميل بها، فوجهوا إلى جميل فأعذروا إليه وشكوه إلى عشيرته وتوعدوه وإياهم فلامه أهله وعنّفوه وقالوا: استخلص إليهم ونبرأ منك ومن جريرتك فأقام مدة لا يلم بها فلقي ابني عمه وقا ومسعدة فشكا إليهما ما به وأنشدهما هذه الأبيات. (2) الأقيشر: هو المغيرة بن عبد الله بن معرض الأسدي عاصر الإسلام وتوفي في خلافة عبد الملك عام 80 هـ. انظر الأغاني (1/ 251). (3) البيتان في الإيضاح (39)، والمفتاح (266)، ولطائف التبيان (45)، والإشارات والتنبيهات: (34)، والخزانة (2/ 281)، ومعاهد التنصيص (3/ 242). (4) من مجموع شعره (115)، عن الأغاني (14/ 240، 241)، وغريم عبد الله يقال له: «ذئب» كما ذكر صاحب الأغاني.

الأصل: حتى قلت: «هو داسع نفسه»، أي حسبته من شدة التثاؤب، ومما به من الجهد، يقذف نفسه من جوفه، ويخرجها من صدره، كما يدسع البعير جرّته «1». ثم إنّك ترى نصبة الكلام وهيئته تروم منك أن تنسى هذا المبتدأ، وتباعده عن وهمك، وتجتهد أن لا يدور في خلدك، ولا يعرض لخاطرك، وتراك كأنك تتوقّاه توقّي الشيء تكره مكانه، والثقيل تخشى هجومه. ومن لطيف الحذف قول بكر بن النّطّاح: [من السريع] العين تبدي الحبّ والبغضا ... وتظهر الإبرام والنّقضا درّة، ما أنصفتني في الهوى، ... ولا رحمت الجسد المنضى غضبى، ولا والله يا أهلها، ... لا أطعم البارد أو ترضى «2» يقوله في جارية كان يحبّها، وسعي به إلى أهلها فمنعوها منه. والمقصود قوله «غضبى»، وذلك أن التقدير «هي غضبى» أو «غضبى هي» لا محالة، ألا ترى أنّك ترى النّفس كيف تتفادى من إظهار هذا المحذوف، وكيف تأنس إلى إضماره؟ وترى الملاحة كيف تذهب إن أنت رمت التكلم به؟ ومن جيد الأمثلة في هذا الباب قول الآخر، يخاطب امرأته وقد لامته على الجود: [من الكامل] قالت سميّة: قد غويت، بأن رأت ... حقّا تناوب ما لنا ووفود غيّ لعمرك لا أزال أعوده ... ما دام مال عندنا «موجود» المعنى: «ذاك غيّ لا أزال أعود إليه، فدعي عنك لومي». وإذ عرفت هذه الجملة من حال الحذف في المبتدأ، فاعلم أن ذلك سبيله في كل شيء، فما من اسم أو فعل تجده قد حذف، ثمّ أصيب به موضعه، وحذف في الحال ينبغي أن يحذف فيها، إلّا وأنت تجد حذفه هناك أحسن من ذكره، وترى إضماره في النفس أولى وآنس من النّطق به.

_ (1) جرّته: الجرة بالكسرة هيئة الجر وما يفيض به البعير فيأكله ثانية «القاموس: جرر» (464). يدسع البعير بجرته: أي يعيد طعامه من جوفه ويمضغه مرة أخرى. (2) هذه الأبيات في الأغاني قالها بكر بن النطاح عند ما كان يهوى جارية من جواري القيان وتهواه، وكانت لبعض الهاشميين يقال لها درة، وهو يذكرها في شعره كثيرا، وكان يجتمع معها في منزل رجل من الجند من أصحاب أبي دلف يقال له: الفرز، فسعى به إلى مولاها وأعلمه أنه قد أفسدها وواطأها على أن تهرب معه إلى الجبل فمنعه من لقائها وحجبه عنها إلى أن خرج الكرج مع أبي دلف فقال بكر بن النطاح في ذلك هذه الأبيات. راجع الأغاني (19/ 125). المنضى: من النضو: المهزول.

وإذ قد بدأنا في الحذف بذكر المبتدأ، وهو حذف اسم، إذ لا يكون المبتدأ إلّا اسما، فإني أتبع ذلك ذكر المفعول به إذا حذف خصوصا، فإنّ الحاجة إليه أمسّ، وهو بما نحن بصدده أخصّ، واللطائف كأنها فيه أكثر، وممّا يظهر بسببه من الحسن والرونق أعجب وأظهر. وهاهنا أصل يجب ضبطه، وهو أن حال الفعل مع المفعول الذي يتعدّى إليه، حاله مع الفاعل. فكما أنك إذا قلت: «ضرب زيد»، فأسندت الفعل إلى الفاعل، كان غرضك من ذلك أن تثبت الضرب فعلا له، لا أن تفيد وجوب الضرب في نفسه وعلى الإطلاق. كذلك، إذا عدّيت الفعل إلى المفعول فقلت: «ضرب زيد عمرا»، كان غرضك أن تفيد التباس الضّرب الواقع من الأول بالثاني ووقوعه عليه، فقد اجتمع الفاعل والمفعول في أنّ عمل الفعل فيهما إنما كان من أجل أن يعلم التباس المعنى الذي اشتقّ منه بهما، فعمل الرفع في الفاعل، ليعلم التباس الضرب به من جهة وقوعه منه، والنّصب في المفعول، ليعلم التباسه به من جهة وقوعه عليه. ولم يكن ذلك ليعلم وقوع الضرب في نفسه، بل إذا أريد الإخبار بوقوع الضّرب ووجوده في الجملة من غير أن ينسب إلى فاعل أو مفعول، أو يتعرّض لبيان ذلك، فالعبارة فيه أن يقال: «كان ضرب» أو «وقع ضرب» أو «وجد ضرب» وما شاكل ذلك من ألفاظ تفيد الوجود المجرّد في الشيء. وإذ قد عرفت هذه الجملة، فاعلم أنّ أغراض الناس تختلف في ذكر الأفعال المتعدّية، فهم يذكرونها تارة ومرادهم أن يقتصروا على إثبات المعاني التي اشتقّت منها للفاعلين، من غير أن يتعرّضوا لذكر المفعولين. فإذا كان الأمر كذلك، كان الفعل المتعدّي كغير المتعدّي مثلا، في أنك لا ترى له مفعولا لا لفظا ولا تقديرا. ومثال ذلك قول الناس: «فلان يحلّ ويعقد، ويأمر وينهى، ويضرّ وينفع»، وكقولهم: «هو يعطي ويجزل، ويقري ويضيف»، المعنى في جميع ذلك على إثبات المعنى في نفسه للشيء على الإطلاق وعلى الجملة، من غير أن يتعرّض لحديث المفعول، حتى كأنك قلت: «صار إليه الحل والعقد، وصار بحيث يكون منه حل وعقد، وأمر ونهي، وضرّ ونفع»، وعلى هذا القياس. وعلى ذلك قوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9]، المعنى: هل يستوي من له علم ومن لا علم له؟ من غير أن يقصد النصّ على معلوم. وكذلك قوله تعالى هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [غافر: 68]، وقوله

تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى. وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا [القمر: 43 - 44]، وقوله وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى [القمر: 48]، المعنى هو الذي منه الإحياء والإماتة والإغناء والإقناء. وهكذا كلّ موضع كان القصد فيه أن تثبت المعنى في نفسه فعلا للشيء، وأن تخبر بأنّ من شأنه أن يكون منه، أو لا يكون إلّا منه، أو لا يكون منه، فإن الفعل لا يعدّى هناك، لأن تعديته تنقض الغرض وتغيّر المعنى. ألا ترى أنك إذا قلت: «هو يعطي الدنانير»، كان المعنى على أنك قصدت أن تعلم السّامع أن الدنانير تدخل في عطائه، أو أنه يعطيها خصوصا دون غيرها، وكان غرضك على الجملة بيان جنس ما تناوله الإعطاء، لا الإعطاء في نفسه، ولم يكن كلامك مع من نفى أن يكون كان منه إعطاء بوجه من الوجوه بل مع من أثبت له إعطاء، إلا أنه لم يثبت إعطاء الدّنانير. فاعرف ذلك، فإنّه أصل كبير عظيم النفع. فهذا قسم من خلوّ الفعل عن المفعول، وهو أن لا يكون له مفعول يمكن النّصّ عليه. وقسم ثان: وهو أن يكون له مفعول مقصود قصده معلوم، إلّا أنه يحذف من اللفظ لدليل الحال عليه. وينقسم إلى جليّ لا صنعة فيه، وخفيّ تدخله الصنعة. فمثال الجليّ قولهم: «أصغيت إليه»، وهم يريدون «أذني»، و «أغضيت عليه»، والمعنى «جفني». وأما الخفيّ الذى تدخله الصّنعة فيتفنّن ويتنوّع. فنوع منه، أن تذكر الفعل وفي نفسك له مفعول مخصوص قد علم مكانه، إما لجري ذكر، أو دليل حال، إلا أنك تنسيه نفسك وتخفيه، وتوهم أنك لم تذكر ذلك الفعل إلا لأن تثبت نفس معناه، من غير إن تعدّيه إلى شيء أو تعرّض فيه لمفعول. ومثاله قول البحتري: [من الخفيف] شجو حسّاده وغيظ عداه ... أن يرى مبصر ويسمع واع «1» المعني، لا محالة: أن يرى مبصر محاسنه، ويسمع واع أخباره وأوصافه، ولكنّك تعلم على ذلك أنه كأنّه يسرق علم ذلك من نفسه، ويدفع صورته عن وهمه،

_ (1) البيت في ديوانه، وهو يمدح المعتز بالله بن المتوكل على الله، ويعرض بالمستعين بالله بن المعتصم بالله من بني العباس. والبيت في التبيان (191)، والإيضاح (110)، وأورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات (81).

ليحصل له معنى شريف وغرض خاصّ. وذاك أنه يمدح خليفة، وهو المعتزّ، ويعرّض بخليفة وهو المستعين، فأراد أن يقول: إن محاسن المعتز وفضائله، المحاسن والفضائل يكفي فيها أن يقع عليها بصر ويعيها سمع حتّى يعلم أنه المستحق للخلافة، والفرد الوحيد الذي ليس لأحد أن ينازعه مرتبتها، فأنت ترى حسّاده وليس شيء أشجى لهم وأغيظ، من علمهم بأن هاهنا مبصرا يرى وسامعا يعي، حتى ليتمنّون أن لا يكون في الدنيا من له عين يبصر بها، وأذن يعي معها، كي يخفى مكان استحقاقه لشرف الإمامة، فيجدوا بذلك سبيلا إلى منازعته إيّاها. وهذا نوع آخر منه، وهو أن يكون معك مفعول معلوم مقصود قصده، قد علم أنه ليس للفعل الذي ذكرت مفعول سواه، بدليل الحال أو ما سبق من الكلام، إلا أنك تطرحه وتتناساه وتدعه يلزم ضمير النفس، لغرض غير الذي مضى. وذلك الغرض أن تتوفّر العناية على إثبات الفعل للفاعل، وتخلص له، وتنصرف بجملتها وكما هي إليه. ومثاله قول عمرو بن معد يكرب: [من الطويل] فلو أنّ قومي أنطقتني رماحهم ... نطقت ولكنّ الرّماح أجرّت «1» «أجرّت» فعل متعدّ، ومعلوم أنه لو عدّاه لما عدّاه إلّا إلى ضمير المتكلم نحو: «ولكن الرّماح أجرّتني»، وأنه لا يتصوّر أن يكون هاهنا شيء آخر يتعدّى إليه، لاستحالة أن يقول: «فلو أن قومي أنطقتني رماحهم»، ثم يقول: «ولكن الرماح أجرّت غيري»، إلا أنك تجد المعنى يلزمك أن لا تنطق بهذا المفعول ولا تخرجه إلى لفظك. والسبب في ذلك أن تعديتك له توهم ما هو خلاف الغرض، وذلك أن الغرض هو أن يثبت أنه كان من الرماح إجرار وحبس للألسن عن النطق، وأن يصحّح وجود ذلك. ولو قال: «أجرّتني»، وجاز أن يتوهم أنه لم يعن بأن يثبت للرماح إجرارا، بل الذي عناه أن يبيّن أنها أجرته. فقد يذكر الفعل كثيرا والغرض منه ذكر المفعول، مثاله أنك تقول: «أضربت زيدا؟» وأنت لا تنكر أن يكون كان من المخاطب ضرب، وإنّما تنكر أن يكون وقع الضرب منه على زيد، وأن يستجيز ذلك أو يستطيعه. فلما كان في تعدية «أجرّت» ما يوهم ذلك، وقف فلم يعدّ البتة، ولم ينطق بالمفعول، لتخلص العناية لإثبات الإجرار للرّماح وتصحيح أنه كان منها، وتسلم بكليتها لذلك.

_ (1) عمر بن معد يكرب الزبيدي اليمني شاعر مخضرم، والبيت أورده القزويني في الإيضاح (110).

ومثله قول جرير: [من الطويل] أمنّيت المنى وخلبت حتّى ... تركت ضمير قلبي مستهاما «1» الغرض أن يثبت أنه كان منها تمنية وخلابة، وأن يقول لها: أهكذا تصنعين؟ وهذه حيلتك في فتنة الناس؟ ومن بارع ذلك ونادره، ما تجده في هذه الأبيات. روى المرزبانيّ في «كتاب الشعر» بإسناد، قال: لما تشاغل أبو بكر الصديق رضي الله عنه بأهل الرّدة، استبطأته الأنصار فكلّموه، فقال: إمّا كلّفتموني أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فو الله ما ذاك عندي ولا عند أحد من الناس، ولكنّي والله ما أوتى من مودّة لكم ولا حسن رأي فيكم، وكيف لا نحبّكم؟ فو الله ما وجدت مثلا لنا ولكم إلّا ما قال طفيل الغنويّ لبني جعفر ابن كلاب: [من الطويل] جزى الله عنّا جعفرا حين أزلقت ... بنا نعلنا في الواطئين فزلّت أبوا أن يملّونا، ولو أنّ أمّنا ... تلاقي الّذي لاقوه منّا لملّت هم خلطونا بالنّفوس وألجئوا ... إلى حجرات أدفأت وأظلّت «2» فيها حذف مفعول مقصود قصده في أربعة مواضع قوله: «لملّت»، و «ألجئوا» و «أدفأت» و «أظلّت»، لأن الأصل: «لملّتنا» و «ألجئونا إلى حجرات أدفأتنا وأظلّتنا»، إلّا أنّ الحال على ما ذكرت لك، من أنه في حدّ المتناسى، حتى كأن لا قصد إلى مفعول، وكأن الفعل قد أبهم أمره فلم يقصد به قصد شيء يقع عليه، كما يكون إذا قلت: «قد ملّ فلان»، تريد أن تقول: قد دخله الملال، من غير أن تخصّ شيئا، بل لا تزيد على أن تجعل الملال من صفته، وكما تقول: «هذا بيت يدفئ ويظلّ»، تريد أنه بهذه الصفة. واعلم أن لك في قوله: «أجرّت»، و «لملّت»، فائدة أخرى زائدة على ما ذكرت من توفير العناية على إثبات الفعل، وهي أن تقول: كان من سوء بلاء القوم ومن تكذيبهم عن القتال «3» ما يجرّ مثله، وما القضية فيه أنه لا يتّفق على قوم إلّا خرس شاعرهم فلم يستطع نطقا، وتعديتك الفعل تمنع من هذا المعنى، لأنك إذا قلت:

_ (1) البيت في ديوانه (379)، وقبله: ترى صديان مشرعة شفاء ... فحام وليس واردها وحاما (2) الأبيات في الأغاني (15/ 356)، لطفيل الغنوي، والإيضاح (110، 111). (3) تكذيبهم عن القتال كذب عن أمر أراده أحجم عنه. القاموس:/ كذب/ (166).

«ولكن الرماح أجرتني»، لم يمكن أن يتأوّل على معنى أنه كان منها ما شأن مثله أن يجرّ، قضية مستمرة في كل شاعر قوم، بل قد يجوز أن يوجد مثله في قوم آخرين فلا يجرّ شاعرهم. ونظيره أنك تقول: «قد كان منك ما يؤلم»، تريد ما الشّرط في مثله أن يؤلم كل أحد وكلّ إنسان. ولو قلت: «ما يؤلمني» لم يفد ذلك، لأنه قد يجوز أن يؤلمك الشيء لا يؤلم غيرك. وهكذا قوله: «ولو أنّ أمّنا تلاقي الذي لاقوه منا لملّت»، يتضمن أنّ من حكم مثله في كل أمّ أن تملّ وتسأم، وأن المشقة في ذلك إلى حدّ يعلم أن الأمّ تملّ له الابن وتتبرّم به، مع ما في طباع الأمّهات من الصبر على المكاره في مصالح الأولاد. وذلك أنه وإن قال: «أمّنا»، فإن المعنى على أن ذلك حكم كلّ أمّ مع أولادها. ولو قلت: «لملّتنا»، لم يحتمل ذلك، لأنه يجري مجرى أن تقول: «لو لقيت أمّنا ذلك لدخلها ما يملّها منا»، وإذا قلت «ما يملها منا» فقيّدت، لم يصلح لأن يراد به معنى العموم وأنّه بحيث يملّ كلّ أمّ من كل ابن. وكذلك قوله: «إلى حجرات أدفأت وأظلّت»، لأن فيه معنى قولك: «حجرات من شأن مثلها أن تدفئ وتظلّ»، أي: هي بالصفة التي إذا كان البيت عليها أدفأ وأظلّ. ولا يجيء هذا المعنى مع إظهار المفعول؛ إذ لا تقول: «حجرات من شأن مثلها أن تدفئنا وتظلنا»، هذا لغو من الكلام. فاعرف هذه النّكتة، فإنك تجدها في كثير من هذا الفنّ مضمومة إلى المعنى الآخر، الذي هو توفير العناية على إثبات الفعل، والدلالة على أنّ القصد من ذكر الفعل أن تثبته لفاعله، لا أن تعلم التباسه بمفعوله. وإن أردت أن تزداد تبيّنا لهذا الأصل، أعني وجوب أن تسقط المفعول لتتوفّر العناية على إثبات الفعل لفاعله ولا يدخلها شوب، فانظر إلى قوله تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ. فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ [القصص: 23 - 24]، ففيها حذف مفعول في أربعة مواضع، إذ المعنى: «وجد عليه أمة من الناس يسقون» أغنامهم أو مواشيهم، و «امرأتين تذودان» غنمهما و «قالتا لا نسقي» غنمنا، «فسقى لهما» غنمهما. ثمّ إنه لا يخفى على ذي بصر أنه ليس في ذلك كلّه إلا أن يترك ذكره ويؤتى

بالفعل مطلقا، وما ذاك إلّا أن الغرض في أن يعلم أنه كان من الناس في تلك الحال سقي، ومن المرأتين ذود، وأنهما قالتا: لا يكون منّا سقي حتى يصدر الرعاء، وأنه كان من موسى عليه السلام من بعد ذلك سقي. فأمّا ما كان المسقيّ؟ أغنما أم إبلا أم غير ذلك، فخارج عن الغرض، وموهم خلافه. وذاك أنه لو قيل: «وجد من دونهم امرأتين تذودان غنمهما»، جاز أن يكون لم ينكر الذّود من حيث هو ذود، بل من حيث هو ذود غنم، حتى لو كان مكان الغنم إبل لم ينكر الذّود، كما أنك إذا قلت: «مالك تمنع أخاك؟»، كنت منكرا المنع، لا من حيث هو منع، بل من حيث هو منع أخ، فاعرفه تعلم أنك لم تجد لحذف المفعول في هذا النحو من الرّوعة والحسن ما وجدت، إلّا لأن في حذفه وترك ذكره فائدة جليلة، وأن الغرض لا يصحّ إلّا على تركه. وممّا هو كأنه نوع آخر غير ما مضى، قول البحتري: [من الطويل] إذا بعدت أبلت، وإن قربت شفت، ... فهجرانها يبلي، ولقيانها يشفي «1» قد علم أن المعنى: إذا بعدت عني أبلتني، وإن قربت مني شفتني إلا أنك تجد الشعر يأبى ذكر ذلك، ويوجب اطّراحه. وذاك لأنه أرد أن يجعل البلى كأنه واجب في بعادها أن يوجبه ويجلبه، كأنه كالطبيعة فيه، وكذلك حال الشّفاء مع القرب، حتى كأنّه قال: أتدري ما بعادها؟ هو الداء المضني، وما قربها؟ هو الشفاء والبرء من كل داء. ولا سبيل لك إلى هذه اللطيفة وهذه النكتة، إلا بحذف المفعول البتّة، فاعرفه. وليس لنتائج هذا الحذف، أعني حذف المفعول، نهاية، فإنه طريق إلى ضروب من الصنعة، وإلى لطائف لا تحصى. وهذا نوع منه آخر: اعلم أن هاهنا بابا من الإضمار والحذف يسمى «الإضمار على شريطة التفسير»، وذلك مثل قولهم: «أكرمني وأكرمت عبد الله»، أردت: «أكرمني عبد الله وأكرمت عبد الله»، ثم تركت ذكره في الأول استغناء بذكره في الثاني. فهذا طريق معروف ومذهب ظاهر، وشيء لا يعبأ به، ويظنّ أنه ليس فيه أكثر مما تريك الأمثلة المذكورة منه. وفيه- إذا أنت طلبت الشيء من معدنه- من دقيق الصّنعة ومن جليل الفائدة، ما لا تجده إلا في كلام الفحول.

_ (1) البيت في ديوانه، وأمام البيت حاشية أخرى، كأنها أيضا منقولة من حواشي نسخة عبد القاهر التي نسخ عنها كاتب «ج» وهذا نص الحاشية: هذا مبنيّ على أن هذه المرأة من الحسن والجمال بحيث لا يراها أحد إلا عشيقها، وكان حاله معها هذه الحالة. وهذا المعنى هو ما افتتح به المتنبي: أتراها لكثرة العشاق ... تحسب الدمع خلقة في المآقي [شاكر].

فمن لطيف ذلك ونادره قول البحتري: [من الكامل] لو شئت لم تفسد سماحة حاتم ... كرما، ولم تهدم مآثر خالد «1» الأصل لا محالة: لو شئت أن لا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها، ثم حذف ذلك من الأوّل استغناء بدلالته في الثاني عليه، ثمّ هو على ما تراه وتعلمه من الحسن والغرابة، وهو على ما ذكرت لك من أن الواجب في حكم البلاغة أن لا ينطق بالمحذوف ولا يظهر إلى اللفظ. فليس يخفى أنك لو رجعت فيه إلى ما هو أصله فقلت: «لو شئت أن لا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها»، صرت إلى كلام غثّ، وإلى شيء يمجّه السمع، وتعافه النفس. وذلك أن في البيان، إذا ورد بعد الإبهام وبعد التحريك له، أبدا لطفا ونبلا لا يكون إذا لم يتقدّم ما يحرّك. وأنت إذا قلت: «لو شئت»، علم السّامع أنك قد علّقت هذه المشيئة في المعنى بشيء، فهو يضع في نفسه أنّ هاهنا شيئا تقتضي مشيئته له أن يكون أو أن لا يكون. فإذا قلت: «لم تفسد سماحة حاتم»، عرف ذلك الشيء، ومجيء «المشيئة» بعد «لو» وبعد حروف الجزاء هكذا موقوفة غير معدّاة إلى شيء، كثير شائع، كقوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى [الأنعام: 35]، ووَ لَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ [النحل: 9]، والتقدير في ذلك كله على ما ذكرت. فالأصل: لو شاء الله أن يجمعهم على الهدى لجمعهم، ولو شاء أن يهديكم أجمعين لهداكم، إلا أن البلاغة في أن يجاء به كذلك محذوفا. وقد يتفق في بعضه أن يكون إظهار المفعول هو الأحسن، وذلك نحو قول الشاعر: [من الطويل] ولو شئت أن أبكي دما لبكيته ... عليه، ولكن ساحة البصر أوسع «2» فقياس هذا لو كان على حدّ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى [الأنعام: 35] أن يقول: «لو شئت بكيت دما»، ولكنه كأنه ترك تلك الطريقة وعدل إلى

_ (1) البيت في ديوانه. السماحة: الكرم. حاتم: هو الطائي المعروف. خالد: هو ابن أصمع النبهاني الذي نزل عليه امرؤ القيس. والبيت في الإيضاح (112). (2) البيت للخريمي، أبو يعقوب إسحاق بن حسان شاعر عباسي من الموالي، والبيت من قصيدة يرثي بها أبا الهيذام عامر بن عمارة بن خريم أمير عرب الشام، وقائد المضرية في الفتنة بين القيسية واليمنية أيام الرشيد، وهو في الإيضاح (112)، وأورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات والتنبيهات (82)، وذكر تمام البيت: عليه ولكن ساحة الصبر أوسع

هذه، لأنها أحسن في هذا الكلام خصوصا. وسبب حسنه أنه كأنه بدع عجيب أن يشاء الإنسان أن يبكي دما. فلما كان كذلك، كان الأولى أن يصرّح بذكره ليقرّره في نفس السامع ويؤنسه به. وإذا استقريت وجدت الأمر كذلك أبدا متى كان مفعول «المشيئة» أمرا عظيما، أو بديعا غريبا، كان الأحسن أن يذكر ولا يذكر ولا يضمر. يقول الرجل بخبر عن عزّة: «لو شئت أن أردّ على الأمير رددت» و «لو شئت أن ألقى الخليفة كلّ يوم لقيت». فإذا لم يكن مما يكبره السامع، فالحذف كقولك: «لو شئت خرجت»، و «لو شئت قمت»، و «لو شئت أنصفت»، و «لو شئت لقلت»، وفي التنزيل: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا [الأنفال: 31]، وكذا تقول: «لو شئت كنت كزيد»، قال: [من البسيط] لو شئت كنت ككرز في عبادته ... أو كابن طارق حول البيت والحرم «1» وكذلك الحكم في غيره من حروف المجازاة أن تقول: «إن شئت قلت» و «إن أردت دفعت»، قال الله تعالى فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ [الشورى: 24]، وقال عزّ اسمه: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام: 39]، ونظائر ذلك من الآي، ترى الحذف فيها المستمرّ. ومما يعلم أن ليس فيه لغير الحذف وجه قول طرفه: [من الطويل] وإن شئت لم ترقل، وإن شئت أرقلت ... مخافة ملويّ من القّدّ محصد «2» وقول حميد: [من الطويل]

_ (1) من شعر عبد الله بن شبرمة القاضي الفقيه، يقوله لابن هبيرة ويذكر فيه: «كرز بن وبرة الحارثي الجرجاني العابد، ومحمد بن طارق» قال ابن شبرمة لما سمع ابن هبيرة الشعر قال له: من كرز؟ ومن ابن طارق؟ قال: فقلت له: أما كرز فكان إذا كان في سفر واتخذ الناس منزلا اتخذ هو منزلا للصلاة، وأما ابن طارق: فلو اكتفى أحد بالتراب كفاه كف من تراب، وكان كرز يختم القرآن في كل يوم وليلة ثلاث ختمات، وكان محمد بن طارق يطوف في كل يوم وليلة سبعين أسبوعا كان يقدّر طوافه في اليوم عشرة فراسخ. والبيت في حلية الأولياء (5/ 81 - 82)، وفي ترجمة كرز بن وبرة الحارثي، وبعده: قد حال دون لذيذ العيش حدهما ... وشمّرا في طلاب الفوز والكرم (2) البيت في ديوانه (31)، وفي شرح المعلقات العشر (73)، وهو من معلقته. الإرقال: دون العدو وفوق السير.

إذا شئت غنّتني بأجزاع بيشة ... أو الزّرق من تثليث أو بيلملما مطوّقة ورقاء تسجع كلّما ... دنا الصّيف وانجاب الرّبيع فأنجما «1» وقول البحتريّ: [من الطويل] إذا شاء غادى صرمة، أو غدا على ... عقائل سرب، أو تقنّص ربربا «2» وقوله: [من الكامل] لو شئت عدت بلاد نجد عودة، ... فحللت بين عقيقه وزروده «3» معلوم أنك لو قلت: «وإن شئت أن لا ترقل لم ترقل»، أو قلت: «إذا شئت أن تغنّيني بأجزاع بيشة غنّتني»، و «إذا شاء أن يغادي صرمة غادى»، و «لو شئت أن تعود بلاد نجد عودة عدتها» أذهبت الماء والرّونق، وخرجت إلى كلام غثّ، ولفظ رثّ. - وأمّا قول الجوهريّ: [من الطويل] فلم يبق منّي الشّوق غير تفكّري، ... فلو شئت أن أبكي بكيت تفكّرا «4» فقد نحا به نحو قوله: «ولو شئت أن أبكي دما لبكيته»، فأظهر مفعول «شئت»، ولم يقل: «فلو شئت بكيت تفكرا»، لأجل أن له غرضا لا يتمّ إلّا بذكر المفعول. وذلك أنه لم يرد أن يقول: «ولو شئت أن أبكى تفكّرا بكيت كذلك»، ولكنه أراد أن يقول: قد أفناني النحول، فلم يبق منّي وفيّ غير خواطر تجول، حتى لو شئت بكاء فمريت «5» شئوني، وعصر عيني ليسيل منها دمع لم أجده، ولخرج بدل الدمع التّفكّر. فالبكاء الذي أراد إيقاع المشيئة عليه مطلق مبهم غير معدّى إلى «التفكر» البتة، و «البكاء» الثاني مقيّد معدّى إلى التفكر. وإذا كان الأمر كذلك،

_ (1) البيتان في ديوانه، وهما في الأغاني (4/ 349)، ويروى البيت الأول في الأغاني: «من يلملما» بدل «أو بيلملما». الأجزاع: جمع جزعة، وهي الرملة الطيبة المنبت لا وعوثة فيها. بيشة: اسم قرية غناء في واد كثير الأهل من بلاد اليمن. التثليث: موضع بالحجاز قرب مكة. (2) البيت في ديوانه. الصّرمة: القطعة من الإبل قيل: هي ما بين العشرين إلى الثلاثين، وقيل: هي ما بين الثلاثين إلى الخمسين والأربعين، فإذا بلغت الستين فهي الصّدعة، وقيل: هي ما بين عشرة إلى بضع عشرة. وعقائل السرب: كرائمه، الربرب: قطيع البقر الوحشي. (3) البيت للبحتري في ديوانه، وهو في مفتاح العلوم (334)، والإيضاح (111). العقيق وزرود: موضعان، والمخاطب في البيت السحاب. (4) الجوهري: هو أبو الحسن علي بن أحمد الجوهري الجرجاني من شعراء الصاحب بن عباد. (5) مريت: مرى الناقة يمريها مسح ضرعها فأمرت هي در لبنها «القاموس: مرى» (1719).

صار الثاني كأنّه شيء غير الأوّل، وجرى مجرى أن تقول: «لو شئت أن تعطي درهما أعطيت درهمين»، في أن الثاني لا يصلح أن يكون تفسيرا للأوّل. واعلم أن هذا الذي ذكرنا ليس بصريح: «أكرمت وأكرمني عبد الله»، ولكنه شبيه به في أنه إنّما حذف الذي حذف من مفعول «المشيئة» و «الإرادة»، لأنه الذي يأتي في جواب «لو» وأخواتها يدلّ عليه. وإذا أردت ما هو صريح في ذلك، ثمّ هو نادر لطيف ينطوي على معنى دقيق وفائدة جليلة، فانظر إلى بيت البحتري: [من الخفيف] قد طلبنا فلم نجد لك في السّؤ ... دد والمجد والمكارم مثلا «1» المعنى: قد طلبنا لك مثلا؛ ثم حذف، لأن ذكره في الثاني يدلّ عليه، ثمّ إنّ للمجيء به كذلك من الحسن والمزيّة والرّوعة ما لا يخفى. ولو أنه قال: «قد طلبنا لك في السؤدد والمجد والمكارم مثلا فلم نجده»، لم تر من هذا الحسن الذي تراه شيئا. وسبب ذلك أن الذي هو الأصل في المدح والغرض بالحقيقة، هو نفي الوجود عن «المثل»، فأما «الطّلب»، فكالشيء يذكر ليبنى عليه الغرض ويؤكّد به أمره. وإذا كان هذا كذلك، فلو أنه قال: «قد طلبنا لك في السؤدد والمجد والمكارم مثلا فلم نجده»، لكان يكون قد ترك أن يوقع نفي الوجود على صريح لفظ «المثل»، وأوقعه على ضميره. ولن تبلغ الكناية مبلغ التّصريح أبدا. ويبيّن هذا، كلام ذكره أبو عثمان الجاحظ في كتاب البيان والتبيين «2»، وأنا أكتب لك الفصل حتى تستبين الذي هو المراد، قال: «والسّنة في خطبة النكاح أن يطيل الخاطب ويقصّر المجيب، ألا ترى أن قيس ابن خارجة بن سنان لمّا ضرب بسيفه مؤخرة راحلة الحاملين في شأن حمالة داحس والغبراء وقال: ما لي فيها أيّها العشمتان «3»؟ قالا: بل ما عندك؟ قال: عندي قرى كلّ نازل، ورضى كلّ ساخط، وخطبة من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب، آمر فيها بالتواصل، وأنهى فيها عن التقاطع قالوا: فخطب يوما إلى الليل، فما أعاد كلمة ولا معنى. فقيل لأبي يعقوب «4»: هلّا اكتفى بالأمر بالتواصل، عن النهي عن التقاطع؟ أو

_ (1) قاله البحتري في مدح المعتز. اه الديوان (1/ 156). (2) انظر النص في البيان والتبيين 1/ 116. (3) العشمة الشيخ الفاني ا. هـ القاموس:/ عشم/ (1469). (4) وهو الشاعر الخريم الذي تقدم ذكره.

ليس الأمر بالصّلة هو النّهي عن القطيعة؟ قل: أو ما علمت أن الكناية والتعريض لا يعملان في العقول عمل الإفصاح والتكشيف» «1». انتهى الفصل الذي أردت أن أكتبه. فقد بصّرك هذا أن لن يكون إيقاع نفي الوجود على صريح لفظ المثل، كإيقاعه على ضميره. وإذ قد عرفت هذا، فإنّ هذا المعنى بعينه قد أوجب في بيت ذي الرّمة أن يضع اللفظ على عكس ما وضعه البحتري «2»، فيعمل الأول من الفعلين، وذلك قوله: [من الوافر] ولم أمدح لأرضيه بشعري ... لئيما، أن يكون أصاب مالا «3» أعمل «لم أمدح»، الذي هو الأول، في صريح لفظ «اللئيم»، و «أرضى»، الذي هو الثاني، في ضميره. وذلك لأن إيقاع نفي المدح على اللّئيم صريحا، والمجيء به مكشوفا ظاهرا، هو الواجب من حيث كان أصل الغرض، وكان الإرضاء تعليلا له. ولو أنه قال: «ولم أمدح لأرضي بشعري لئيما»، لكان يكون قد أبهم الأمر فيما هو الأصل، وأبانه فيما ليس بالأصل، فاعرفه. ولهذا الذي ذكرنا من أن للتّصريح عملا لا يكون مثل ذلك العمل للكناية، كان لإعادة اللفظ في مثل قوله تعالى: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ [الإسراء: 105]، وقوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص: 1 - 2]، من الحسن والبهجة، ومن الفخامة والنّبل، ما لا يخفى موضعه على بصير. وكان لو ترك فيه الإظهار إلى الإضمار فقيل: «وبالحق أنزلناه وبه نزل»: و «قل هو الله أحد هو الصمد» لعدمت الذي أنت واجده الآن.

_ (1) في البيان والتبيين الكشف. (2) المقصود به البيت السابق. (3) البيت لذي الرمة في ديوانه (200)، ورواية الديوان هي: ولست بمادح أبدا لئيما ... بشعري أن يكون أفاد مالا والبيت من قصيدة يمدح فيها بلال بن أبي بردة، وهو في الإيضاح (113)، والمراد أنه لا يمدح اللئام من الناس ولو كانوا أثرياء.

فصل [في تحليل مثال آخر للحذف]

فصل [في تحليل مثال آخر للحذف] قد بان الآن واتّضح لما نظر نظر المتثبّت- الحصيف الراغب في اقتداح زناد العقل، والازدياد من الفضل، ومن شأنه التوق إلى أن يعرف الأشياء على حقائقها، ويتغلغل إلى دقائقها، ويربأ بنفسه عن مرتبة المقلّد الذي يجري مع الظاهر، ولا يعدو الذي يقع في أوّل الخاطر- أنّ الذي قلت في شأن «الحذف» وفي تفخيم أمره، والتنويه بذكره، وأنّ مأخذه مأخذ يشبه السحر، ويبهر الفكر، كالذي قلت. وهذا فنّ آخر من معانيه عجيب، وأنا ذاكره لك. قال البحتري في قصيدته التي أولها: [من الطويل] أعن سفه يوم الأبيرق أم حلم «1» وهو يذكر محاماة الممدوح عليه، صيانته له، ودفعه نوائب الزمان عنه: [من الطويل] وكم ذدت عنّي من تحامل حادث ... وسورة أيّام حززن إلى العظم «2» الأصل لا محالة: حززن اللّحم إلى العظم، إلّا أنّ في مجيئه به محذوفا، وإسقاطه له من النّطق، وتركه في الضمير، مزيّة عجيبة وفائدة جليلة. وذاك أن من حذق الشاعر أن يوقع المعنى في نفس السامع إيقاعا يمنعه به من أن يتوهّم في بدء الأمر شيئا غير المراد، ثم ينصرف إلى المراد. ومعلوم أنه لو أظهر المفعول فقال: «وسورة أيام حززن اللحم إلى العظم»، لجاز أن يقع في وهم السامع إلى أن يجيء إلى قوله: «إلى العظم»، أن هذا الحزّ كان في بعض اللحم دون كله، وأنه قطع ما يلي الجلد ولم ينته إلى ما يلي العظم. فلما كان كذلك، ترك ذكر «اللحم» وأسقطه من اللفظ، ليبرئ السامع من هذا الوهم، ويجعله بحيث يقع المعنى منه في أنف «3» الفهم، ويتصوّر في نفسه من أوّل الأمر أن الحزّ مضى في اللحم حتى لم يردّه إلّا العظم.

_ (1) هو صدر بيت وعجزه: «وقوف بربع أو بكاء على رسم» قاله البحتري وهو يمدح أبا الصقر إسماعيل بن بلبل الشيباني ا. هـ الديوان (1/ 190). (2) البيت للبحتري في ديوانه، وأورده القزويني في الإيضاح (112)، وأورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات (82)، والمخاطب في البيت أبو الصقر ممدوح البحتري. (3) الأنف من كل شيء أوله أو أشهره. القاموس:/ أنف/ (1025).

فصل القول على فروق في الخبر

أفيكون دليل أوضح من هذا وأبين وأجلى في صحة ما ذكرت لك، من أنك قد ترى ترك الذّكر أفصح من الذكر، والامتناع من أن يبرز اللفظ من الضمير، أحسن للتصوير؟ فصل القول على فروق في الخبر أوّل ما ينبغي أن يعلم منه أنّه ينقسم إلى خبر هو جزء من الجملة لا تتمّ الفائدة دونه، وخبر ليس بجزء من الجملة، ولكنه زيادة في خبر آخر سابق له. فالأوّل خبر المبتدأ، كمنطلق في قولك: «زيد منطلق»، والفعل كقولك: «خرج زيد»، فكل واحد من هذين جزء من الجملة، وهو الأصل في الفائدة. والثاني هو الحال: كقولك: «جاءني زيد راكبا»، وذاك لأن الحال خبر في الحقيقة، ومن حيث أنك تثبت بها المعنى لذي الحال، كما تثبت بخبر المبتدأ للمبتدإ، وبالفعل للفاعل. ألا تراك قد أثبتّ «الركوب» في قولك: «جاءني زيد راكبا» لزيد؟ إلّا أنّ الفرق أنّك جئت به لتزيد معنى في إخبارك عنه بالمجيء، وهو أن تجعله بهذه الهيئة في مجيئه، ولم تجرّد إثباتك للركوب ولم تباشره به، بل ابتدأت فأثبتّ المجيء، ثم وصلت به الركوب، فالتبس به الإثبات على سبيل التّبع للمجيء، وبشرط أن يكون في صلته. وأما في الخبر المطلق نحو: «زيد منطلق» و «خرج عمرو»، فإنك مثبت للمعنى إثباتا جرّدته له، وجعلته يباشر من غير واسطة، ومن غير أن تتسبّب بغيره إليه، فاعرفه. وإذ قد عرفت هذا الفرق، فالذي يليه من فروق الخبر، هو الفرق بين الإثبات إذا كان بالاسم، وبينه إذا كان بالفعل. وهو فرق لطيف تمسّ الحاجة في علم البلاغة إليه. وبيانه، أن موضوع الاسم على أن يثبت به المعنى للشيء من غير أن يقتضي تجدّده شيئا بعد شيء. وأما الفعل فموضوعه على أنّه يقتضي تجدّد المعنى المثبت به شيئا بعد شيء. فإذا قلت: «زيد منطلق»، فقد أثبتّ الانطلاق فعلا له، من غير أن تجعله يتجدّد ويحدث منه شيئا فشيئا، بل يكون المعنى فيه كالمعنى في قولك: «زيد طويل»، و «عمرو قصير»: فكما لا تقصد هاهنا إلى أن تجعل الطول أو القصر يتجدّد

ويحدث، بل توجبهما وتثبتهما فقط، وتقضي بوجودهما على الإطلاق، كذلك لا تتعرض في قولك: «زيد منطلق» لأكثر من إثباته لزيد. وأما الفعل، فإنه يقصد فيه إلى ذلك. فإذا قلت: «زيد ها هو ذا ينطلق»، فقد زعمت أن الانطلاق يقع منه جزءا فجزءا، وجعلته يزاوله ويزجّيه. وإن شئت أن تحسّ الفرق بينهما من حيث يلطف، فتأمل هذا البيت: [من البسيط] لا يألف الدّرهم المضروب خرقتنا، ... لكن يمرّ عليها وهو منطلق «1» هذا هو الحسن اللائق بالمعنى، ولو قلته بالفعل: «لكن يمر عليها وهو ينطلق»، لم يحسن. وإذا أردت أن تعتبره حيث لا يخفى أنّ أحدهما لا يصلح في موضع صاحبه، فانظر إلى قوله تعالى: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الكهف: 18]، فإن أحدا لا يشك في امتناع الفعل هاهنا، وأن قولنا: «كلبهم يبسط ذراعيه»، لا يؤدّي الغرض. وليس ذلك إلا لأنّ الفعل يقتضي مزاولة وتجدّد الصفة في الوقت، ويقتضي الاسم ثبوت الصّفة وحصولها من غير أن يكون هناك مزاولة وتزجية فعل، ومعنى يحدث شيئا فشيئا. ولا فرق بين «وكلبهم باسط»، وبين أن يقول: «وكلبهم واحد» مثلا، في أنك لا تثبت مزاولة، ولا تجعل الكلب يفعل شيئا، بل تثبته بصفة هو عليها. فالغرض إذن تأدية هيئة الكلب. ومتى اعتبرت الحال في الصّفات المشبهة وجدت الفرق ظاهرا بينا، ولم يعترضك الشك في أنّ أحدهما لا يصلح في موضع صاحبه. فإذا قلت: «زيد طويل»، و «عمرو قصير»: لم يصلح مكانه «يطول» و «يقصر»، وإنما تقول: «يطول» و «يقصر»، إذا كان الحديث عن شيء يزيد وينمو كالشجر والنبات والصبيّ ونحو ذلك، مما يتجدّد فيه الطول أو يحدث فيه القصر. فأمّا وأنت تحدّث عن هيئة ثابتة، وعن شيء قد استقرّ طوله، ولم يكن ثمّ تزايد وتجدد، فلا يصلح فيه إلا الاسم. وإذا ثبت الفرق بين الشيء والشيء في مواضع كثيرة، وظهر الأمر، بأن ترى أحدهما لا يصلح في موضع صاحبه، وجب أن تقضي بثبوت الفرق حيث ترى

_ (1) البيت للنصر بن جؤيّة في الإشارات (65)، ومعاهد التنصيص (1/ 207)، وشرح الواحدي على ديوان المتنبي (157)، والإيضاح (95).

أحدهما قد صلح في مكان الآخر، وتعلم أنّ المعنى مع أحدهما غيره مع الآخر، كما هو العبرة في حمل الخفيّ على الجليّ. وينعكس لك هذا الحكم، أعني أنّك كما وجدت الاسم يقع حيث لا يصلح الفعل مكانه، كذلك تجد الفعل يقع ثمّ لا يصلح الاسم مكانه، ولا يؤدّي ما كان يؤدّيه. فمن البيّن في ذلك قول الأعشى: [من الطويل] لعمري لقد لاحت عيون كثيرة ... إلى ضوء نار في يفاع تحرّق تشبّ لمقرورين يصطليانها ... وبات على النّار النّدى والمحلّق «1» معلوم أنه لو قيل: «إلى ضوء نار متحرّقة»، لنبا عنه الطبع وأنكرته النفس، ثم لا يكون ذاك النبوّ وذاك الإنكار من أجل القافية وأنها تفسد به، بل من جهة أنه لا يشبه الغرض ولا يليق بالحال. وكذلك قوله: [من الكامل] أوكلّما وردت عكاظ قبيلة ... بعثوا إليّ عريفهم يتوسّم «2» وذلك لأن المعنى في بيت الأعشى على أنّ هناك موقدا يتجدّد منه الإلهاب والإشعال حالا فحالا، وإذا قيل: «متحرقة»، كان المعنى أن هناك نارا قد ثبتت لها وفيها هذه الصفة، وجرى مجرى أن يقال: «إلى ضوء نار عظيمة» في أنه لا يفيد فعلا يفعل وكذلك الحال في قوله: «بعثوا إليّ عريفهم يتوسم»، وذلك لأن المعنى على توسّم وتأمّل ونظر يتجدّد من العريف هناك حالا فحالا وتصفّح منه الوجوه واحدا بعد واحد: ولو قيل: «بعثوا إليّ عريفهم متوسّما»، لم يفد ذلك حقّ الإفادة.

_ (1) البيتان في ديوانه (149، 150)، وقبلهما: لمحقوقة أن تستجيبي لصوته ... وأن تعلمي أن المعان موفّق ولا بد من جار يجيز سبيلها ... كما جوّز السّكّي في الباب فيتق اليفاع: مرتفع من الأرض. (2) البيت لطريف العنبري، وهو طريف بن تميم العنبري أبو عمرو شاعر مقل، جاهلي قتله أحد بني شيبان، وكان يسمى: «ملقي القناع» لأنه أول من ألقى القناع بعكاظ. والبيت في الأصمعيات (117)، والإيضاح (95)، والإشارات والتنبيهات (65)، وشرح المرشدي على عقود الجمان (1/ 106). وعكاظ: أكبر أسواق العرب في الجاهلية، وعريف القوم: رئيسهم أو القيّم بأمرهم، يريد أنهم يبعثون إليه عريفهم من أجل شهرته وعظمته.

ومن ذلك قوله تعالى: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [فاطر: 3]، لو قيل: «هل من خالق غير الله رازق لكم»، لكان المعنى غير ما أريد. ولا ينبغي أن يغرّك أنّا إذا تكلّمنا في مسائل المبتدأ والخبر قدّرنا الفعل في هذا النحو تقدير الاسم، كما نقول، في «زيد يقوم»، إنه في موضع «زيد قائم»، فإن ذلك لا يقتضي أن يستوي المعنى فيهما استواء لا يكون من بعده افتراق، فإنهما لو استويا هذا الاستواء، لم يكن أحدهما فعلا والآخر اسما، بل كان ينبغي أن يكونا جميعا فعلين، أو يكونا اسمين. ومن فروق الإثبات أنك تقول: «زيد منطلق» و «زيد المنطلق»، «المنطلق زيد»، فيكون لك في كل واحد من هذه الأحوال غرض خاص وفائدة لا تكون في الباقي. وأنا أفسّر لك ذلك. اعلم أنك إذا قلت: «زيد منطلق»، كان كلامك مع من لم يعلم أن انطلاقا كان، لا من زيد ولا من عمرو، فأنت تفيده ذلك ابتداء. وإذا قلت: «زيد المنطلق» كان كلامك مع من عرف أن انطلاقا كان، إما من زيد وإما من عمرو، فأنت تعلمه أنه كان من زيد دون غيره. والنكتة أنك تثبت في الأول الذي هو قولك: «زيد منطلق» فعلا لم يعلم السامع من أصله أنه كان، وتثبت في الثاني الذي هو «زيد المنطلق» فعلا قد علم السامع أنه كان، ولكنه لم يعلمه لزيد، فأفدته ذلك. فقد وافق الأوّل في المعنى الذي له كان الخبر خبرا، وهو إثبات المعنى للشيء. وليس يقدح في ذلك أنّك كنت قد علمت أن انطلاقا كان من أحد الرجلين، لأنّك إذا لم تصل إلى القطع على أنه كان من زيد دون عمرو، وكان حالك في الحاجة إلى من يثبته لزيد، كحالك إذا لم تعلم أنه كان من أصله. وتمام التحقيق أنّ هذا كلام يكون معك إذا كنت قد بلّغت أنه كان من إنسان انطلاق من موضع كذا في وقت كذا لغرض كذا، فجوّزت أن يكون ذلك كان من زيد. فإذا قيل لك: «زيد المنطلق»، صار الذي كان معلوما على جهة الجواز، معلوما على جهة الوجوب. ثم إنهم إذا أرادوا تأكيد هذا الوجوب أدخلوا الضمير المسمّى «فصلا» بين الجزءين فقالوا: «زيد هو المنطلق». ومن الفرق بين المسألتين، وهو مما تمسّ الحاجة إلى معرفته، أنك إذا نكّرت

الخبر جاز أن تأتي بمبتدإ ثان، على أن تشركه بحرف العطف في المعنى الذي أخبرت به عن الأول، وإذا عرّفت لم يجز ذلك. تفسير هذا أنك تقول: «زيد منطلق وعمرو»، تريد «وعمرو منطلق أيضا»، ولا تقول: «زيد المنطلق وعمرو»، ذلك لأن المعنى مع التعريف على أنك أردت أن تثبت انطلاقا مخصوصا قد كان من واحد، فإذا أثبته لزيد لم يصحّ إثباته لعمرو. ثم إن كان قد كان ذلك الانطلاق من اثنين، فإنه ينبغي أن تجمع بينهما في الخبر فتقول: «زيد وعمرو هما المنطلقان»، لا أن تفرّق فتثبته أوّلا لزيد، ثم تجيء فتثبته لعمرو. ومن الواضح في تمثيل هذا النحو قولنا: «هو القائل بيت كذا»، كقولك: جرير هو القائل: [من الطويل] وليس لسيفي في العظام بقيّة «1» فأنت لو حاولت أن تشرك في هذا الخبر غيره، فتقول: «جرير هو القائل هذا البيت وفلان»، حاولت محالا، لأنه قول بعينه، فلا يتصوّر أن يشرك جريرا فيه غيره. واعلم أنك تجد «الألف واللام» في الخبر على معنى الجنس، ثم ترى له في ذلك وجوها: أحدها: أن تقصر جنس المعنى على المخبر عنه لقصدك المبالغة، وذلك قولك: «زيد هو الجواد» و «عمرو هو الشجاع»، تريد أنه الكامل، إلا أنك تخرج الكلام في صورة توهم أن الجود أو الشجاعة لم توجد إلا فيه، وذلك لأنك لم تعتدّ بما كان من غيره، لقصوره عن أن يبلغ الكمال. فهذا كالأول في امتناع العطف عليه للإشراك، فلو قلت: «زيد هو الجواد وعمرو»، كان خلفا من القول. والوجه الثاني: أن تقصر جنس المعنى الذي تفيده بالخبر على المخبر عنه، لا على معنى المبالغة وترك الاعتداد بوجوده في غير المخبر عنه، بل على دعوى أنه لا يوجد إلا منه. ولا يكون ذلك إلّا إذا قيّدت المعنى بشيء يخصّصه ويجعله في حكم

_ (1) البيت في ديوانه (461) من قصيدة قالها للفرزدق ويعاتب جده الخطفي، وتمامه والبيت قبله: أنا ابن صريحي خندق غير دعوة ... يكون مكان القلب منها مكانيا ........... ... وللسيف أشوى وقعة من لسانيا الشوى دون القتل قد قصد أن لسانه أمرّ وأمضى من السيف.

نوع برأسه، وذلك كنحو أن يقيّد بالحال والوقت، كقولك: «هو الوفيّ حين لا تظن نفس بنفس خيرا» «1». وهكذا إذا كان الخبر بمعنى يتعدّى، ثم اشترطت له مفعولا مخصوصا، كقول الأعشى: [من المتقارب] هو الواهب المائة المصطفاة، إمّا مخاضا وإمّا عشارا «2» فأنت تجعل الوفاء في الوقت الذي لا يفي فيه أحد، نوعا خاصّا من الوفاء، وكذلك تجعل هبة المائة من الإبل نوعا خاصّا، وكذا الباقي. ثم إنّك تجعل كل هذا خبرا على معنى الاختصاص، وأنه للمذكور دون من عداه. ألا ترى أن المعنى في بيت الأعشى: أنه لا يهب هذه الهبة إلّا الممدوح؟ وربما ظنّ الظانّ أن «اللام» في «هو الواهب المائة المصطفاة» بمنزلتها في نحو «زيد هو المنطلق»، من حيث كان القصد إلى هبة مخصوصة، كما كان القصد إلى انطلاق مخصوص. وليس الأمر كذلك، لأن القصد هاهنا إلى جنس من الهبة مخصوص، لا إلى هبة مخصوصة بعينها. يدلّك على ذلك أنّ المعنى على أنه يتكرّر منه، وعلى أن يجعله يهب المائة مرة بعد أخرى، وأما المعنى في قولك: «زيد هو المنطلق»، فعلى القصد إلى انطلاق كان مرة واحدة، لا إلى جنس من الانطلاق. فالتكرر هناك غير متصوّر، كيف؟ وأنت تقول: جرير هو القائل: وليس لسيفي في العظام بقية تريد أن تثبت له قيل هذا البيت وتأليفه. فافصل بين أن تقصد إلى نوع فعل، وبين أن تقصد إلى فعل واحد متعيّن، حاله في المعاني حال زيد في الرجال، في أنه ذات بعينها. والوجه الثالث: أن لا يقصد قصر المعنى في جنسه على المذكور، لا كما كان في «زيد هو الشجاع»، تريد أن لا تعتدّ بشجاعة غيره ولا كما ترى في قوله: «هو

_ (1) قالها جبار بن مسلم بن سلمى عند ما وقف على قبر عامر بن الطفيل (كان والله لا يضل حتى يضل النجم ولا يعطش حتى يعطش البعير ولا يهاب حتى يهاب السيف وكان والله خير ما يكون حين لا تظن نفس بنفس خيرا). الإصابة (1051). (2) البيت في ديوانه (40)، والإيضاح (105)، تحقيق د. هنداوي، المخاض: الحوامل من النوق واحدتها «خلف» بفتح فكسر ففتح، من غير لفظ الجمع، العشار: المناسب من معانيها لما في البيت من تفصيل أنها الوالدات من الإبل، واحدتها «عشراء». كنفساء زنة ومعنى، الأول في الإبل، والثاني في النساء.

الواهب المائة المصطفاة»، ولكن على وجه ثالث، وهو الذي عليه قول الخنساء: [من الوافر] إذا قبح البكاء على قتيل ... رأيت بكاءك الحسن الجميلا «1» لم ترد أن ما عدا البكاء عليه فليس بحسن ولا جميل، ولم تقيّد الحسن بشيء فيتصوّر أن يقصر على البكاء، كما قصر الأعشى هبة المائة على الممدوح، ولكنها أرادت أن تقرّه في جنس ما حسنه الحسن الظاهر الذي لا ينكره أحد، ولا يشك فيه شاك. ومثله قول حسان: [من الطويل] وإنّ سنام المجد من آل هاشم ... بنو بنت مخزوم ووالدك العبد «2» أراد أن يثبت العبوديّة، ثم يجعله ظاهر الأمر فيها ومعروفا بها، ولو قال: «ووالدك عبد»، لم يكن قد جعل حاله في العبودية حالة ظاهرة متعارفة وعلى ذلك قول الآخر: [من الطويل] أسود إذا ما أبدت الحرب نابها ... وفي سائر الدّهر الغيوث المواطر واعلم أن للخبر المعرّف «بالألف واللام» معنى غير ما ذكرت لك، وله مسلك ثمّ دقيق ولمحة كالخلس، يكون المتأمل عنده كما يقال: «يعرف وينكر»، وذلك قولك: «هو البطل المحامي» و «هو المتّقى المرتجى»، وأنت لا تقصد شيئا مما تقدم، فلست تشير إلى معنى قد علم المخاطب أنه كان، ولم يعلم أنه ممن كان كما مضى في قولك: «زيد هو المنطلق»، ولا تريد أن تقصر معنى عليه على معنى أنه لم يحصل لغيره على الكمال، كما كان في قولك: «ووالدك العبد»، ولكنّك تريد أن تقول لصاحبك: هل سمعت بالبطل المحامي؟ وهل حصّلت معنى هذه الصفة؟ وكيف ينبغي أن يكون الرجل حتى يستحق أن يقال ذلك له وفيه؟ فإن كنت قتلته علما، وتصوّرته حقّ تصوّره، فعليك صاحبك واشدد به يدك، فهو ضالّتك وعنده بغيتك، وطريقه طريق قولك: «هل سمعت بالأسد؟ وهل تعرف ما هو؟ فإن كنت تعرف، فزيد هو هو بعينه».

_ (1) البيت في ديوانها. (2) البيت في ديوانه (74)، من قصيدة يهجو أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قبل إسلامه، والبيتان قبله: لقد علم الأقوام أن ابن هاشم ... هو الغصن ذو الأفتان لا الواحد الوغد ومالك فيهم محتد يعرفونه ... فدونك فالصق مثل ما لصق القرد سنام المجد: أعلاه.

ويزداد هذا المعنى ظهورا بأن تكون الصّفة التي تريد الإخبار بها عن المبتدأ مجراة على موصوف، كقول ابن الرومي: [من الطويل] هو الرّجل المشروك في جلّ ماله ... ولكنّه بالمجد والحمد مفرد «1» تقديره، كأنه يقول للسامع: فكّر في رجل لا يتميّز عفاته وجيرانه ومعارفه عنه في ماله وأخذ ما شاءوا منه، فإذا حصّلت صورته في نفسك، فاعلم أنه ذلك الرجل. وهذا فنّ عجيب الشأن، وله مكان من الفخامة والنّبل، وهو من سحر البيان الذي تقصر العبارة عن تأدية حقّه. والمعوّل فيه على مراجعة النفس واستقصاء التأمّل، فإذا علمت أنه لا يريد بقوله: «الرجل المشروك في جلّ ماله» أن يقول: هو الذي بلغك حديثه، وعرفت من حاله وقصّته أنّه يشرك في جلّ ماله، على حدّ قولك: «هو الرجل الذي بلغك أنه أنفق كذا، والذي وهب المائة المصطفاة من الإبل» ولا أن يقول إنه على معنى: «هو الكامل في هذه الصفة»، حتى كأنّ هاهنا أقواما يشركون في جلّ أموالهم، إلّا أنه في ذلك أكمل وأتم؛ لأن ذلك لا يتصوّر. وذلك أن كون الرجل بحيث يشرك في جلّ ماله، ليس بمعنى يقع فيه تفاضل، كما أن بذل الرجل كل ما يملك كذلك، ولو قيل: «الذي يشرك في ماله»، جاز أن يتفاوت. وإذا كان كذلك، علمت أنه معنى ثالث. وليس إلا ما أشرت إليه من أنه يقول للمخاطب: «ضع في نفسك معنى قولك: رجل مشروك في جلّ ماله، ثم تأمل فلانا، فإنك تستملي هذه الصورة منه، وتجده يؤديها لك نصّا، ويأتيك بها كملا». وإن أردت أن تسمع في هذا المعنى ما تسكن النفس إليه سكون الصّادي إلى برد الماء، فاسمع قوله: [من الطويل] أنا الرّجل المدعوّ عاشق فقره ... إذا لم تكارمني صروف زماني وإن أردت أعجب من ذلك فقوله: [من الكامل] أهدى إليّ أبو الحسين يدا ... أرجو الثّواب بها لديه غدا وكذاك عادات الكريم إذا ... أولى يدا حسبت عليه يدا إن كان يحسد نفسه أحد، ... فلأزعمنّك ذلك الأحدا «2» فهذا كلّه على معنى الوهم والتقدير، وأن يصوّر في خاطره شيئا لم يره ولم يعلمه، ثم يجريه مجرى ما عهد وعلم.

_ (1) البيت في ديوانه (589). (2) الأبيات لابن الرومي في ديوانه (786).

وليس شيء أغلب على هذا الضرب الموهوم من «الذي»، فإنه يجيء كثيرا على أنك تقدّر شيئا في وهمك، ثم تعبر عنه «بالذي»، ومثال ذلك قوله: [من الطويل] أخوك الّذي إن تدعه لملمّة ... يجبك، وإن تغضب إلى السّيف يغضب «1» وقول الآخر: [من الطويل] أخوك الّذي إن ربته قال: إنّما ... أربت، وإن عاتبته لان جانبه «2» فهذا ونحوه على أنك قدّرت إنسانا هذه صفته وهذا شأنه، وأحلت السامع على من يعنّ في الوهم، دون أن يكون قد عرف رجلا بهذه الصفة، فأعلمته أن المستحقّ لاسم الأخوّة هو ذلك الذي عرفه، حتى كأنك قلت: «أخوك زيد الذي عرفت أنّك إن تدعه لملمة يجبك». ولكون هذا الجنس معهودا من طريق الوهم والتخيّل، جرى على ما يوصف بالاستحالة، كقولك للرجل وقد تمنّى: «هذا هو الذي لا يكون»، و «هذا ما لا يدخل في الوجود»، وكقوله: [من الكامل] ما لا يكون فلا يكون بحيلة ... أبدا وما هو كائن سيكون «3» ومن لطيف هذا الباب قوله: [من الطويل] وإنّي لمشتاق إلى ظلّ صاحب ... يروق ويصفو إن كدرت عليه «4» قد قدّر كما ترى ما لم يعلمه موجودا، ولذلك قال المأمون: «خذ مني الخلافة وأعطني هذا الصاحب». فهذا التعريف الذي تراه في الصاحب لا يعرض فيه شك أنه موهوم. وأمّا قولنا: «المنطلق زيد»، والفرق بينه وبين أن تقول: «زيد المنطلق»، فالقول في ذلك أنك وإن كنت ترى في الظاهر أنّهما سواء من حيث كان الغرض في

_ (1) البيت لأبي حوط، حجية بن المضرب الكندي، وفي شرح الحماسة للتبريزي (3/ 98). (2) البيت لبشار بن برد في ديوانه، إن ربته أي: أتيت بما يرتاب فيه قال لك أربت أي: انتفت عنك الريبة. (3) البيت لعبد الله بن محمد بن أبي عيينة يقوله لذي اليمينين، وذو اليمينين طاهر بن الحسن بن رزيق مولى طلحة الطلحات الخزاعي وكان طاهر من أكبر أعوان المأمون ويحكى عنه في سبب التسمية بذي اليمينين أنه ضرب إنسانا بيساره فجعله قسمين. والبيت في الكامل للمبرد (26)، وقبله: لما رأيتك قاعدا مستثقلا ... أيقنت أنك للهموم قرين فارفض بها وتعرّ من أثوابها ... إن كان عندك للقضاء يقين (4) البيت لأبي العتاهية في ديوانه.

الحالين إثبات انطلاق قد سبق العلم به لزيد فليس الأمر كذلك، بل بين الكاملين فصل ظاهر. وبيانه: أنك إذا قلت: «زيد المنطلق»، فأنت في حديث انطلاق قد كان، وعرف السامع كونه، إلّا أنه لم يعلم أمن زيد كان أم من عمرو؟ فإذا قلت: «زيد المنطلق»، أزلت عنه الشك وجعلته يقطع بأنه كان من زيد، بعد أن كان يرى ذلك في سبيل الجواز. وليس كذلك إذا قدّمت «المنطلق» فقلت: «المنطلق زيد»، بل يكون المعنى حينئذ على أنك رأيت إنسانا ينطلق بالبعد منك، فلم تثبته، ولم تعلم أزيد هو أم عمرو، فقال لك صاحبك: «المنطلق زيد»، أي هذا الشخص الذي تراه من بعد هو زيد. وقد ترى الرجل قائما بين يديك وعليه ثوب ديباج، والرجل ممن عرفته قديما ثم بعد عهدك به فتناسيته، فيقال لك: «اللابس الديباج صاحبك الذي كان يكون عندك في وقت كذا، أما تعرفه؟ لشدّ ما نسيت»، ولا يكن الغرض أن يثبت له لبس الديباج، لاستحالة ذلك، من حيث أن رؤيتك الديباج عليه تغنيك عن إخبار مخبر وإثبات مثبت لبسه له. فمتى رأيت اسم فاعل أو صفة من الصفات قد بدئ به، فجعل مبتدأ، وجعل الذي هو صاحب الصفة في المعنى خبرا، فاعلم أنّ الغرض هناك، غير الغرض إذا كان اسم الفاعل أو الصفة خبرا، كقولك: «زيد المنطلق». واعلم أنه ربّما اشتبهت الصورة في بعض المسائل من هذا الباب، حتّى يظنّ أن المعرفتين إذا وقعتا مبتدأ وخبرا، لم يختلف المعنى فيهما بتقديم وتأخير. ومما يوهم ذلك قول النحويين في «باب كان»: «إذا اجتمع معرفتان كنت بالخيار في جعل أيّهما شئت اسما، والآخر خبرا، كقولك: «كان زيد أخاك» و «كان أخوك زيدا»، فيظن من هاهنا أن تكافؤ الاسمين في التّعريف يقتضي أن لا يختلف المعنى بأن تبدأ بهذا وتثنّي بذاك، وحتى كأنّ الترتيب الذي يدّعى بين المبتدأ والخبر وما يوضع لهما من المنزلة في التقدّم والتأخّر، يسقط ويرتفع إذا كان الجزآن معا معرفتين. ومما يوهم ذلك أنك تقول: «الأمير زيد»، و «جئتك والخليفة عبد الملك». فيكون المعنى على إثبات الإمارة لزيد، والخلافة لعبد الملك، كما يكون إذا قلت: «زيد الأمير» و «عبد الملك الخليفة»، وتقوله لمن لا يشاهد، ومن هو غائب عن حضرة الإمارة ومعدن الخلافة.

وهكذا من يتوهّم في نحو قوله: [من الطويل] أبوك حباب سارق الضّيف برده ... وجدّي يا حجّاج فارس شمرا «1» أنّه لا فصل بينه وبين أن يقال: «حباب أبوك، وفارس شمّر جدّي». وهو موضع غامض. والذي يبيّن وجه الصواب، ويدلّ على وجوب الفرق بين المسألتين: أنّك إذا تأملت الكلام وجدت ما لا يحتمل التسوية، وما تجد الفرق قائما فيه قياما لا سبيل إلى دفعه، هو الأعمّ الأكثر. وإن أردت أن تعرف ذلك، فانظر إلى ما قدّمت لك من قولك: «اللابس الدّيباج زيد»، وأنت تشير له إلى رجل بين يديه، ثم انظر إلى قول العرب: «ليس الطيب إلّا المسك»، وقول جرير: [من الوافر] ألستم خير من ركب المطايا «2» ونحو قول المتنبي: [من الوافر] ألست ابن الألى سعدوا وسادوا «3» وأشباه ذلك ممّا لا يحصى ولا يعدّ المعنى على أن يسلم لك مع قلب طرفي الجملة، وقل: «ليس المسك إلا الطيب»، و «أليس خير من ركب المطايا إياكم؟»، «أليس ابن الألى سعدوا وسادوا إياك»؟ تعلم أن الأمر على ما عرّفتك من وجوب اختلاف المعنى بحسب التقديم والتأخير.

_ (1) البيت لجميل في مجموع شعره، وفي اللسان (شمر)، ويروى في اللسان: وجدّي يا عبّاس فارس شمرا بدل «يا حجاج». وشمّر: اسم فرس. (2) البيت في ديوانه (74) من قصيدة في مدح عبد الملك بن مروان. وتمام البيت والبيتان قبله: فإني قد رأيت عليّ حقا ... زيارتي الخليفة وامتداحي سأشكر أن رددت عليّ ريشي ... وأثبت القوادم في جناحي .............. ... وأندى العالمين بطون راح القوادم: الريش الكبير في الطائر، المطايا: الركائب، واحدتها مطية على وزن فعلية، أندى: أكرم، من الندى وهو الكرم، والراح هنا الأكف واحدتها: راحة، الأكف: جمع كف. والبيت في الإيضاح: (142). (3) البيت في ديوانه (240)، وتمامه والبيت قبله: يريك النزع بين القوس منه ... وبين رمية الهدف اللهيبا ............... ... ولم يلدوا امرأ إلا بخيبا الألى: الذين، والاستفهام للتقرير. والبيت في شرح التبيان للعكبري (1/ 105).

وهاهنا نكتة يجب القطع معها بوجوب هذا الفرق أبدا، وهي أن المبتدأ لم يكن مبتدأ لأنه منطوق به أوّلا، ولا كان الخبر خبرا لأنه مذكور بعد المبتدأ، بل كان المبتدأ مبتدأ لأنه مسند إليه ومثبت له المعنى، والخبر خبرا لأنه مسند ومثبت به المعنى. تفسير ذلك: أنك إذا قلت: «زيد منطلق» فقد أثبتّ الانطلاق لزيد وأسندته إليه، فزيد مثبت له، ومنطلق مثبت به، وأما تقديم المبتدأ على الخبر لفظا، فحكم واجب من هذه الجهة، أي من جهة أن كان المبتدأ هو الذي يثبت له المعنى ويسند إليه، والخبر هو الذي يثبت به المعنى ويسند. ولو كان المبتدأ مبتدأ لأنه في اللفظ مقدّم مبدوء به، لكان ينبغي أن يخرج عن كونه مبتدأ بأن يقال: «منطلق زيد»، ولوجب أن يكون قولهم: «إن الخبر مقدّم في اللّفظ والنّيّة به التأخير»، محالا. وإذا كان هذا كذلك ثم جئت بمعرفتين فجعلتهما مبتدأ وخبرا فقد وجب وجوبا أن تكون مثبتا بالثاني معنى للأول. فإذا قلت: «زيد أخوك»، كنت قد أثبتّ معنى لزيد، وإذا قدّمت وأخّرت فقلت: «أخوك زيد»، وجب أن تكون مثبتا بزيد معنى لأخوك، وإلّا كان تسميتك له الآن مبتدأ وإذ ذاك خبرا، تغييرا للاسم عليه من غير معنى، ولأدّى إلى أن لا يكون لقولهم «المبتدأ والخبر» فائدة غير أن يتقدّم اسم في اللفظ على اسم، من غير أن ينفرد كل واحد منهما بحكم لا يكون لصاحبه. وذلك ممّا لا يشكّ في سقوطه. وممّا يدلّ دلالة واضحة على اختلاف المعنى، إذا جئت بمعرفتين، ثم جعلت هذا مبتدأ وذلك خبرا تارة، وتارة بالعكس، قولهم: «الحبيب أنت»، و «أنت الحبيب»، وذاك أن معنى «الحبيب أنت»، أنه لا فصل بينك وبين من تحبّه إذا صدقت المحبّة، وأنّ مثل المتحابّين مثل نفس يقتسمها شخصان، كما جاء عن بعض الحكماء أنه قال: «الحبيب أنت إلّا أنه غيرك». فهذا كما ترى فرق لطيف ونكتة شريفة، ولو حاولت أن تفيدها بقولك: «أنت الحبيب»، حاولت ما لا يصحّ، لأن الذي يعقل من قولك: «أنت الحبيب» هو ما عناه المتنبي في قوله: [من البسيط] أنت الحبيب ولكنّي أعوذ به ... من أن أكون محبّا غير محبوب «1»

_ (1) البيت في ديوانه (214) وهو آخر بيت في قصيدة في مدح كافور، وقبله: يا أيها الملك الغاني بتسمية ... في الشرق والغرب عن وصف وتلقيب ومعنى البيت: يقول: أنا محبك وأنت محبوب لي، وأعوذ بك من أن لا تحبني فإن أشقى الشقاوة أن تحب من لا يحبك كما قال ومن الشقاوة أن تحب ولا يحبك من تحبه. التبيان للعكبري (1/ 126).

ولا يخفى بعد ما بين الغرضين. فالمعنى في قولك: «أنت الحبيب» أنك الذي أختصّه بالمحبة من بين الناس، وإذا كان كذلك، عرفت أنّ الفرق واجب أبدا، وأنه لا يجوز أن يكون «أخوك زيد» و «زيد أخوك» بمعنى واحد. وهاهنا شيء يجب النظر فيه، وهو أنّ قولك: «أنت الحبيب»، كقولنا «أنت الشجاع»، تريد أنّه الذي كملت فيه الشجاعة، أم كقولنا: «زيد المنطلق»، تريد أنه الذي كان منه الانطلاق الّذي سمع المخاطب به؟ وإذا نظرنا وجدناه لا يحتمل أن يكون كقولنا: «أنت الشجاع»، لأنه يقتضي أن يكون المعنى أنه لا محبّة في الدنيا إلا ما هو به حبيب، كما أنّ المعنى في «هو الشجاع» أنه لا شجاعة في الدنيا إلّا ما تجده عنده وما هو شجاع به. وذلك محال. وأمر آخر وهو أن الحبيب «فعيل» بمعنى «مفعول»، فالمحبة إذن ليست هي له بالحقيقة، وإنما هي صفة لغيره قد لابسته وتعلّقت به تعلق الفعل بالمفعول. والصّفة إذا وصفت بكمال وصفت به على أن يرجع ذلك الكمال إلى من هي صفة له، دون من تلابسه ملابسة المفعول. وإذا كان كذلك، بعد أن تقول: «أنت المحبوب»، على معنى أنت الكامل في كونك محبوبا، كما أن بعيدا أن يقال: «هو المضروب»، على معنى أنه الكامل في كونه مضروبا. وإن جاء شيء من ذلك جاء على تعسّف فيه وتأويل لا يتصوّر هاهنا، وذلك أن يقال مثلا: «زيد هو المظلوم»، على معنى أنّه لم يصب أحدا ظلم يبلغ في الشدة والشّناعة الظّلم الذي لحقه، فصار كلّ ظلم سواه عدلا في جنبه، ولا يجيء هذا التأويل في قولنا: «أنت الحبيب»، لأنا نعلم أنهم لا يريدون بهذا الكلام أن يقولوا: إن أحدا لم يحبّ أحدا محبتي لك، وأنّ ذلك قد أبطل المحبّات كلّها حتى صرت الذي لا يعقل للمحبة معنى إلّا فيه، وإنما الذي يريدون أن المحبة منّي بجملتها مقصورة عليك، وأنه ليس لأحد غيرك حظ في محبّة مني. وإذا كان كذلك بان أنّه لا يكون بمنزلة «أنت الشجاع»، تريد الذي يتكامل الوصف فيه، إلا أنه ينبغي من بعد أن تعلم أن بين «أنت الحبيب» وبين «زيد المنطلق» فرقا، وهو أنّ لك في المحبة التي أثبتّها طرفا من الجنسية، من حيث كان المعنى أنّ المحبّة منّي بجملتها مقصورة عليك، ولم تعمد إلى محبة واحدة من محبّاتك. ألا ترى أنك قد أعطيت بقولك: «أنت الحبيب» أنك لا تحبّ غيره، وأن لا محبّة لأحد سواه عندك؟ ولا يتصوّر هذا في «زيد المنطلق»، لأنه لا وجه هناك

للجنسية، إذ ليس ثمّ إلا انطلاق واحد قد عرف المخاطب أنه كان، واحتاج أن يعيّن له الذي كان منه وينصّ له عليه. فإن قلت: «زيد المنطلق في حاجتك»، تريد الذي من شأنه أن يسعى في حاجتك، عرض فيه معنى الجنسية حينئذ على حدّها في «أنت الحبيب». وهاهنا أصل يجب أن تحكمه: وهو أن من شأن أسماء الأجناس كلّها إذا وصفت، أن تتنوّع بالصّفة، فيصير «الرّجل» الذي هو جنس واحد إذا وصفته فقلت: «رجل ظريف»، و «رجل طويل»، و «رجل قصير»، «رجل شاعر»، و «رجل كاتب»، أنواعا مختلفة يعدّ كل نوع منها شيئا على حدة، وتستأنف في اسم «الرجل» بكل صفة تقرنها إليه جنسية. وهكذا القول في «المصادر»، تقول: «العلم» و «الجهل» و «الضّرب» و «القتل» و «السّير» و «القيام» و «القعود»، فتجد كل واحد من هذه المعاني جنسا كالرجل والفرس والحمار. فإذا وصفت فقلت: «علم كذا» و «علم كذا» كقولك: «علم ضروريّ» و «علم مكتسب»، و «علم جليّ» و «علم خفيّ» و «ضرب شديد» و «ضرب خفيف» و «سير سريع» و «سير بطيء» وما شاكل ذلك، انقسم الجنس منها أقساما، وصار أنواعا، وكان مثلها مثل الشيء المجموع المؤلّف تفرّقه فرقا وتشعّبه شعبا. وهذا مذهب معروف عندهم، وأصل متعارف في كل جيل وأمّة. ثم إن هاهنا أصلا هو كالمتفرّع على هذا الأصل أو كالنّظير له، وهو أنّ من شأن «المصدر» أن يفرّق بالصّلات كما يفرق بالصّفات. ومعنى هذا الكلام أنك تقول «الضرب»، فتراه جنسا واحدا، فإذا قلت: «الضّرب بالسيف»، صار بتعديتك له إلى السيف، نوعا مخصوصا. ألا تراك تقول: «الضّرب بالسيف غير الضّرب بالعصا»، تريد أنهما نوعان مختلفان، وأنّ اجتماعهما في اسم «الضرب» لا يوجب اتفاقهما، لأنّ الصلة قد فصلت بينهما وفرّقتهما. ومن المثال البيّن في ذلك قول المتنبي: [من الكامل] وتوهّموا اللّعب الوغى، والطّعن في ال ... هيجاء غير الطّعن في الميدان «1»

_ (1) البيت في ديوانه (2/ 172) من قصيدة في مدح سيف الدولة، ومدحه إياها بآمد، وكان منصرفا من بلاد الروم، وذلك في شهر صفر سنة خمس وأربعين وثلاث مائة (156 م)، وقبله: وسعى فقصر عن مداه في العلى ... أهل الزمان وأهل كل زمان اتخذوا المجالس في البيوت وعنده ... أن السروج مجلس الفتيان الوغى: الهيجاء من أسماء الحرب أي: إذا لعبوا فيما بينهم بالطعان اعتقدوا أن ذلك هو الحرب ولكن أين هول الحرب من متعة اللعب.

لولا أنّ اختلاف صلة المصدر تقتضي اختلافه في نفسه، وأن يحدث فيه انقسام وتنوّع، لما كان لهذا الكلام معنى، ولكان في الاستحالة كقولك: و «الطعن غير الطعن». فقد بان إذن أنه إنما كان كلّ واحد من الطعنين جنسا برأسه غير الآخر، بأن كان هذا في الهيجاء، وذاك في الميدان. وهكذا الحكم في كل شيء تعدّى إليه «المصدر» وتعلّق به. فاختلاف مفعولي المصدر يقتضي اختلافه، وأن يكون المتعدّي إلى هذا المفعول غير المتعدّي إلى ذاك. وعلى ذلك تقول: «ليس إعطاؤك الكثير كإعطائك القليل»، وهكذا إذا عدّيته إلى الحال كقولك: «ليس إعطاؤك معسرا كإعطائك موسرا» و «ليس بذلك وأنت مقلّ، كبذلك وأنت مكثر». وإذ قد عرفت هذا من حكم «المصدر»، فاعتبر به حكم الاسم المشتقّ منه. وإذا اعتبرت ذلك علمت أن قولك: «هو الوفيّ حين لا يفي أحد»، و «هو الواهب المائة المصطفاة» «1»، وقوله: [من الخفيف] وهو الضّارب الكتيبة، والطّع ... نة تغلو، والضّرب أغلى وأغلى «2» وأشباه ذلك كلّها أخبار فيها معنى الجنسية، وأنها في نوعها الخاص بمنزلة الجنس المطلق إذا جعلته خبرا فقلت: «أنت الشجاع». وكما أنت لا تقصد بقولك: «أنت الشّجاع» إلى شجاعة بعينها قد كانت وعرفت من إنسان، وأردت أن تعرف ممن كانت، بل تريد أن تقصر جنس الشجاعة عليه، ولا تجعل لأحد غيره فيه حظّا، كذلك لا تقصد بقولك: «أنت الوفيّ حين لا يفي أحد» إلى وفاء واحد. كيف؟ وأنت تقول: «حين لا يفي أحد». وهكذا محال أن يقصد في قوله: «هو الواهب المائة المصطفاة»، إلى هبة واحدة، لأنه يقتضي أن يقصد إلى مائة من الإبل قد وهبها مرة، ثم لم يعد لمثلها. ومعلوم أنه خلاف الغرض، لأنّ المعنى أنه الذي من شأنه أن يهب المائة أبدا، والذي يبلغ عطاؤه هذا المبلغ، كما تقول: «هو الذي يعطي مادحه الألف والألفين»، وكقوله: [من الرجز]

_ (1) المصطفاة: تعقيب على بيت للأعشى. (2) البيت للمتنبي في ديوانه (2/ 162)، ويروى في الديوان: «أغلى وأغلى» بدل: «أغلى وأعلى»، والبيت من قصيدة طويلة في رثاء أخت سيف الدولة الصغرى ويسليه ببقاء الكبرى. تغلو: من غلاء الثمن، أغلى وأغلى للتأكيد، أي: أنه يأتي الضرب بالسيف عند ما يخاف غير أنه يطعن بالرمح.

وحاتم الطّائيّ وهّاب المئي «1» وذلك أوضح من أن يخفى. وأصل آخر: وهو أنّ من حقّنا أن نعلم أنّ مذهب الجنسية في الاسم وهو خبر، غير مذهبها وهو مبتدأ. تفسير هذا: أنّا وإن قلنا إن «اللام» في قولك: «أنت الشجاع» للجنس، كما هو له في قولهم: «الشّجاع موقّى، والجبان ملقّى» «2»، فإنّ الفرق بينهما عظيم. وذلك أن المعنى قولك: «الشجاع موقى»، أنك تثبت الوقاية لكل ذات من صفتها الشّجاعة، فهو في معنى قولك: الشّجعان كلّهم موقّون. ولست أقول إن الشجاع كالشجعان على الإطلاق، وإن كان ذلك ظنّ كثير من الناس، ولكني أريد أنّك تجعل الوقاية تستغرق الجنس وتشمله وتشيع فيه، وأما في قولك: «أنت الشجاع»، فلا معنى فيه للاستغراق، إذ لست تريد أن تقول: «أنت الشجعان كلهم» حتى كأنك تذهب به مذهب قولهم: «أنت الخلق كلهم» و «أنت العالم»، كما قال: [من السريع] وليس لله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد «3» ولكن لحديث «الجنسية» هاهنا مأخذ آخر غير ذلك، وهو أنّك تعمد بها إلى المصدر المشتق منه الصفة وتوجّهها إليه، لا إلى نفس الصفة. ثم لك في توجيهها إليه مسلك دقيق. وذلك أنه ليس القصد أن تأتي إلى شجاعات كثيرة فتجمعها له وتوجدها فيه، ولا أن تقول: إن الشجاعات التي يتوهّم وجودها في الموصوفين بالشجاعة هي موجودة فيه لا فيهم، هذا كلّه محال، بل المعنى على أنك تقول: كنّا

_ (1) البيت لامرأة من بني عقيل تفخر بأخوالها من اليمن، وقبله: حيدة خالي ولقيط وعلي نوادر أبي زيد (91)، واللسان (مأى) وغيرهما وهو مشهور، وفي هامش المخطوطة ما نصه: «مائة تجمع على مئي ويكون الأصل: مؤوى ..... ثم تقلب الواو ياء كما يقال مضيّ في مضى يمضي: والأصل مضوي، كعقود، والمعروف الجمع بالواو والنون كقولك: مائة ومئون مثل رئة ورئون، وثبة وثبون» (شاكر). (2) الشجاع موقى: مثل قاله حنين بن خشرم السعدي، الأمثال لأبي عبيد القاسم بن سلام 116 رقم (297). (3) البيت لأبي نواس في ديوانه (82) من قصيدة يمدح فيها الفضل بن الربيع، والبيت في الإيضاح (356)، والإشارات (313)، ورواية الديوان: وليس له بمستنكر» بدل «ليس على الله بمستنكر».

قد عقلنا الشجاعة وعرفنا حقيقتها، وما هي؟ وكيف ينبغي أن يكون الإنسان في إقدامه وبطشه حتّى يعلم أنّه شجاع على الكمال؟ واستقرينا الناس فلم نجد في واحد منهم حقيقة ما عرفناه، حتى إذا صرنا إلى المخاطب، وجدناه قد استكمل هذه الصفة، واستجمع شرائطها، وأخلص جوهرها، ورسخ فيه سنخها «1». ويبيّن لك أن الأمر كذلك، اتفاق الجميع على تفسيرهم له بمعنى الكامل، ولو كان المعنى على أنه استغرق الشجاعات التي يتوهّم كونها في الموصوفين بالشجاعة، لما قالوا إنه بمعنى الكامل في الشجاعة، لأن الكمال هو أن تكون الصفة على ما ينبغي أن تكون عليه، وأن لا يخالطها ما يقدح فيها، وليس الكمال أن تجتمع آحاد الجنس وينضم بعضها إلى بعض. فالغرض إذن بقولنا: «أنت الشجاع»، هو الغرض بقولهم: «هذه هي الشجاعة على الحقيقة، وما عداها جبن» و «هكذا يكون العلم، وما عداه تخيّل»، و «هذا هو الشعر، وما سواه فليس بشيء». وذلك أظهر من أن يخفى. وضرب آخر من الاستدلال في إبطال أن يكون «أنت الشجاع» بمعنى أنّك كأنّك جميع الشجعان، على حدّ «أنت الخلق كلهم»، وهو أنك في قولك: «أنت الخلق» و «أنت الناس كلّهم» و «قد جمع العالم منك في واحد»، تدّعي له جميع المعاني الشريفة المتفرّقة في الناس، من غير أن تبطل تلك المعاني وتنفيها عن الناس، بل على أن تدّعي له أمثالها. ألا ترى أنك إذا قلت في الرجل: «إنه معدود بألف رجل»، فلست تعني أنه معدود بألف رجل لا معنى فيهم ولا فضيلة لهم بوجه، بل تريد أنّه يعطيك من معاني الشجاعة أو العلم أو كذا أو كذا مجموعا، ما لا تجد مقداره مفرّقا إلا في ألف رجل، وأمّا في نحو «أنت الشجاع»، فإنّك تدّعي له أنه قد انفرد بحقيقة الشجاعة، وأنه قد أوتي فيها مزيّة وخاصيّة لم يؤتها أحد، حتى صار الذي كان يعدّه الناس شجاعة غير شجاعة، وحتى كأنّ كلّ إقدام إحجام، وكلّ قوة عرفت في الحرب ضعف. وعلى ذلك قالوا: «جاد حتى بخّل كلّ جواد، وحتّى منع أن يستحقّ اسم الجواد أحد»، كما قال: [من الوافر] وأنّك لا تجود على جواد ... هباتك أن يلقّب بالجواد «2»

_ (1) سنخها: أي أصلها. (2) البيت لأبي الطيب المتنبي في ديوانه (130)، وهو من قصيدة في مدح علي بن إبراهيم التنوخي وقبله: تهلّل قبل تسليمي عليه ... وألقى ما له قبل الوساد فلومك يا عليّ لغير ذنب ... لأنك قد زريت على العباد الجواد: الكريم، هباتك فاعل يجود أي: هباتك لا تسمح لأحد أن يظهر كريما مقارنة بك.

وكما يقال: «جاد حتى كأن لم يعرف لأحد جود، وحتّى كأن قد كذب الواصفون الغيث بالجود»، كما قال: [من البسيط] أعطيت حتّى تركت الرّيح حاسرة ... وجدت حتّى كأنّ الغيث لم يجد «1» هذا فصل في «الذي» خصوصا اعلم أن لك في «الذي» علما كثيرا، وأسرارا جمّة، وخفايا إذا بحثت عنها وتصوّرتها اطلعت على فوائد تؤنس النفس وتثلج الصدر بما يفضي بك إليه من اليقين، ويؤدّيه إليك من حسن التبيين. والوجه في ذلك أن تتأمّل عبارات لهم فيه لم وضع، ولأيّ غرض اجتلب، وأشياء وصفوه بها. فمن ذلك قولهم: «إنّ الذي» اجتلب ليكون وصلة إلى وصف المعارف بالجمل «2»، كما اجتلب «ذو» ليتوصّل به إلى الوصف بأسماء الأجناس»، يعنون بذلك أنك تقول: «مررت بزيد الذي أبوه منطلق» و «بالرجل الذي كان عندنا أمس»، فتجدك قد توصّلت ب «الذي» إلى أن أبنت زيدا من غيره، بالجملة التي هي «أبوه منطلق» ولولا «الذي» لم تصل إلى ذلك كما أنك تقول: «مررت برجل ذي مال» فتتوصّل ب «ذي» إلى أن تبين الرجل من غيره بالمال، ولولا «ذو» لم يتأتّ لك ذلك، إذ لا تستطيع أن تقول: «برجل مال» فهذه جملة مفهومة؟ إلا أن تحتها خبايا تحتاج إلى الكشف عنها. فمن ذلك أن تعلم من أين امتنع أن توصف المعرفة بالجملة، ولم لم يكن حالها في ذلك حال النّكرة التي تصفها بها في قولك: «مررت برجل أبوه منطلق»: و «رأيت إنسانا تقاد الجنائب «3» بين يديه». وقالوا: إنّ السبب في امتناع ذلك: أنّ الجمل نكرات كلّها، بدلالة أنها

_ (1) البيت: للبحتري في مدح محمد بن حميد بن عبد الحميد الطوسي (الديوان 2/ 425). حاسرة: حسر البصر: كلّ وانقطع من طول المدى القاموس «حسر» (479). (2) ذكره ابن منظور في اللسان مادة «لذا» (15/ 245). (3) الجنائب: رجل جنيب كأنه يمشي في جانب والجنيبة الدابة: القاموس «جنب» (88).

تستفاد، وإنما يستفاد المجهول دون المعلوم. قالوا: فلما كانت كذلك، كانت وفق «1» النّكرة، فجاز وصفها بها، ولم يجز أن توصف بها المعرفة، إذ لم تكن وفقا لها. والقول البيّن في ذلك أن يقال: إنه إنّما اجتلب حتّى إذا كان قد عرف رجل بقصة وأمر جرى له، فتخصّص بتلك القصّة وبذلك الأمر عند السامع، ثم أريد القصد إليه، ذكر «الّذي». تفسير هذا أنك لا تصل «الذي» إلّا بجملة من الكلام قد سبق من السّامع علم بها، وأمر قد عرفه له، نحو أن ترى عنده رجلا ينشده شعرا فتقول له من غد: «ما فعل الرجل الذي كان عندك بالأمس ينشدك الشعر؟». هذا حكم الجملة بعد «الذي»، إذا أنت وصفت به شيئا. فكان معنى قولهم: «إنه اجتلب ليتوصّل به إلى وصف المعارف بالجمل»، أنه جيء به ليفصل بين أن يراد ذكر الشيء بجملة قد عرفها السامع له، وبين أن لا يكون الأمر كذلك. فإن قلت: قد يؤتى بعد «الذي» بالجملة غير المعلومة للسامع، وذلك حيث يكون «الذي» خبرا، كقولك: «هذا الذي كان عندك بالأمس» و «هذا الذي قدم رسولا من الحضرة»، أنت في هذا وشبهه تعلم المخاطب أمرا لم يسبق له به علم، وتفيده في المشار إليه شيئا لم يكن عنده، ولو لم يكن كذلك، لم يكن «الذي» خبرا، إذ كان لا يكون الشيء خبرا حتى يفاد به. فالقول في ذلك: أن الجملة في هذا النّحو، وإن كان المخاطب لا يعلمها لعين من أشرت إليه، فإنه لا بدّ من أن يكون قد علمها على الجملة وحدّث بها. فإنّك على كلّ حال لا تقول: «هذا الذي قدم رسولا»، لمن لم يعلم أن رسولا قدم ولم يبلغه ذلك في جملة ولا تفصيل، وكذا لا تقول: «هذا الذي كان عندك أمس»، لمن قد نسي أنه كان عنده إنسان وذهب عن وهمه، وإنّما تقوله لمن ذاك على ذكر منه، إلّا أنه رأى رجلا يقبل من بعيد، فلا يعلم أنه ذاك، ويظنه إنسانا غيره. وعلى الجملة، فكلّ عاقل يعلم بون ما بين الخبر بالجملة مع «الذي» وبينها مع غير «الذي»، فليس من أحد به طرق «2» إلّا وهو لا يشكّ أن ليس المعنى في قولك: «هذا الذي قدم رسولا»، كالمعنى إذا قلت: «هذا قدم رسولا من الحضرة»

_ (1) وفقا: وفقت أمرك صادفته موافقا (أي مطابقا). القاموس/ وفق/ (1199). (2) طرق: هو ضعف العقل والطرق قوة العقل. القاموس/ طرق/ (1166).

ولا «الذي يسكن في محلّة كذا»، كقولك: «هذا يسكن محلة كذا»، وليس ذاك إلا أنّك في قولك: «هذا قدم رسولا من الحضرة» مبتدئ خبرا بأمر لم يبلغ السامع ولم يبلّغه ولم يعلمه أصلا وفي قولك: «هذا الّذي قدم رسولا»، معلم في أمر قد بلغه أنّ هذا صاحبه، فلم يخل إذن من الذي بدأنا به في أمر الجملة مع «الذي»، من أنه ينبغي أن تكون جملة قد سبق من السامع علم بها فاعرفه، فإنه من المسائل التي من جهلها جهل كثيرا من المعاني، ودخل عليه الغلط في كثير من الأمور، والله الموفّق للصواب. فروق في الحال لها فضل تعلّق بالبلاغة اعلم أنّ أوّل فرق في الحال أنها تجيء مفردا وجملة، والقصد هاهنا إلى الجملة. وأوّل ما ينبغي أن يضبط من أمرها أنها تجيء تارة مع «الواو» وأخرى بغير «الواو»، فمثال مجيئها مع الواو قولك: «أتاني وعليه ثوب ديباج»، و «رأيته وعلى كتفه سيف»، و «لقيت الأمير والجند حواليه»، و «جاءني زيد وهو متقلّد سيفه»، ومثال مجيئها بغير «الواو»: «جاءني زيد يسعى غلامه بين يديه» و «أتاني عمرو يقود فرسه»، وفي تمييز ما يقتضي «الواو» ممّا لا يقتضيه صعوبة. والقول في ذلك أنّ الجملة إذا كانت من مبتدأ وخبر، فالغالب عليها أن تجيء مع «الواو» كقولك: «جاءني زيد وعمرو أمامه» و «أتاني وسيفه على كتفه»: فإن كان المبتدأ من الجملة ضمير ذي الحال، لم يصلح بغير «الواو» البتة، وذلك كقولك: «جاءني زيد وهو راكب» و «رأيت زيدا وهو جالس»، و «دخلت عليه وهو يملي الحديث» و «انتهيت إلى الأمير وهو يعبّئ الجيش»، فلو تركت «الواو» في شيء من ذلك لم يصلح. فلو قلت: «جاءني زيد هو راكب»، و «دخلت عليه هو يملي الحديث»، لم يكن كلاما. فإن كان الخبر في الجملة من المبتدأ والخبر ظرفا، ثم كان قد قدّم على المبتدأ كقولنا: «عليه سيف» و «في يده سوط»، كثر فيها أن تجيء بغير «واو». فمما جاء منه كذلك قول بشّار: [من الطويل] إذا أنكرتني بلدة أو نكرتها ... خرجت مع البازي عليّ سواد «1»

_ (1) البيت في ديوانه، وأورده القزويني في الإيضاح (170)، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات (136). أنكرتني: لم تعرف قدري، نكرتها: كرهتها البازي: الصقر وهو يعني خروجه في سواد الليل.

يعني عليّ بقية من الليل، وقول أمية: [من البسيط] فاشرب هنيئا عليك التّاج مرتفقا ... في رأس غمدان دارا منك محلالا «1» وقول الآخر: [من الطويل] لقد صبرت للذّلّ أعواد منبر ... تقوم عليها في يديك قضيب «2» كلّ ذلك في موضع الحال، وليس فيه «واو» كما ترى، ولا هو محتمل لها إذا نظرت. وقد يجيء ترك «الواو» فيما ليس الخبر فيه كذلك، ولكنه لا يكثر، فمن ذلك قولهم: «كلّمته فوه إلى فيّ» و «رجع عوده على بدئه»، في قول من رفع، ومنه بيت «الإصلاح» «3»: [من الكامل] نصف النّهار، الماء غامره ... ورفيقه بالغيب لا يدري «4» ومن ذلك ما أنشده الشيخ أبو عليّ في «الإغفال» «5»: [من الطويل] ولولا جنان اللّيل ما آب عامر ... إلى جعفر، سرباله لم يمزّق «6» ومما ظاهره أنه منه قوله: [من البسيط]

_ (1) ينسب البيت لأمية بن أبي الصلت، ولأبيه، وسيف بن ذي يزن مخلص اليمن من محتليها الحبش، والقصة الشعبية المنسوجة حوله تقوم على أساس هذه البطولة. والبيت أورده القزويني في الإيضاح (170). (2) البيت لواثلة بن خليفة السدوسي، يهجو عبد الملك بن المهلب بن أبي صفرة، وهو في الإيضاح (170). (3) الإصلاح: أي كتاب «إصلاح المنطق» لابن السكيت المتوفى سنة (244 هـ). كشف الظنون (1/ 108). (4) البيت: للمسيب بن علس، وهو خال الأعشى، والأعشى راويته، والبيت في ديوان الأعشى (352)، وقبله: قتلت أباه فقال أتبعه ... أو أستفيد رغيبة الدهر والبيت في المفتاح (385)، وإصلاح المنطق لابن السكيت. (5) واسمه الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني للشيخ أبي علي حسن بن أحمد الفارسي النحوي المتوفى سنة سبع وسبعين وثلاثمائة. كشف الظنون (1/ 131). (6) البيت: لسلامة بن جندل، وهو سلامة بن جندل بن عبد عمرو من بني كعب بن سعد التميمي، شاعر جاهلي من الفرسان. والبيت في الأصمعيات (125) رقم (42)، وروايته: «لم يخرّق» بدل «لم يمزق»، وهو في الإيضاح (169)، وأورده بدر الدين بن مالك في المصباح (272)، والسكاكي في المفتاح (385)، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات (135)، وشرح عقود الجمان (1/ 223). جنان الليل: شدة ظلمته وادلهمامه. سرباله لم يخرق: ثيابه غير ممزقة أي: ما عاد سالما.

إذا أتيت أبا مروان تسأله ... وجدته، حاضراه الجود والكرم فقوله: «حاضراه الجود»، جملة من المبتدأ والخبر كما ترى، وليس به «واو»، والموضع موضع حال، ألا تراك تقول: «أتيته فوجدته جالسا»، فيكون «جالسا» حالا، ذاك لأن «وجدت» في مثل هذا من الكلام لا تكون المتعدّية إلى مفعولين، ولكن المتعدّية إلى مفعول واحد كقولك: «وجدت الضّالّة» إلا أنه ينبغي أن تعلم أن لتقديمه الخبر الذي هو «حاضراه» تأثيرا في معنى الغنى عن «الواو»، وأنه لو قال: «وجدته، الجود والكرم حاضراه» لم يحسن حسنه الآن، وكان السبب في حسنه مع التقديم، أنه يقرب في المعنى من قولك: «وجدته حاضره الجود والكرم» أو «حاضرا عنده الجود والكرم». وإن كانت الجملة من فعل وفاعل، والفعل مضارع مثبت غير منفي، لم يكد يجيء بالواو، بل ترى الكلام على مجيئها عارية من «الواو»، كقولك: «جاءني زيد يسعى غلامه بين يديه»، وكقوله: [من البسيط] وقد علوت قتود الرّحل يسفعني ... يوم قديديمة الجوزاء مسموم «1» وقوله: [من الخفيف] ولقد أغتدي يدافع ركني ... أحوذيّ ذو ميعة إضريج «2» وكذلك قولك: «جاءني زيد يسرع»، لا فصل بين أن يكون الفعل لذي الحال، وبين أن يكون لمن هو من سببه، فإن ذلك كلّه يستمر على الغنى عن «الواو»، وعليه التنزيل والكلام، ومثاله في التنزيل قوله عزّ وجلّ: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر: 6]، وقوله تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى [الليل: 17 - 18]، وكقوله عزّ اسمه: وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأعراف: 186]. فأما قول ابن همام السّلولي: [من المتقارب] فلمّا خشيت أظافيره ... نجوت، وأرهنهم مالكا «3»

_ (1) البيت لعلقمة بن عبدة، وهو علقمة بن عبدة بن النعمان بن ناشرة بن قيس بن عبيد بن ربيعة، شاعر جاهلي مجيد، كان من صدور الجاهلية وفحولها، والبيت في المفضليات رقم (120) ص (403). وقتود الرحل: خشب الرحل وأدواته، يسفعني: يحرقني ويغير لوني من شمسه وحرّه، الجوزاء: برج من أبراج الشمس يشتد الحر بنزولها فيه، مسموم: شديد السموم، وهي الريح الحارة. وروايته في المفضليات: «يوم تجيء به الجوزاء» بدل «يوم قديديمة الجوزاء». (2) سبق تخريجه (ص 76). (3) البيت لعبد الله بن همام السلولي في الإيضاح (165)، وإصلاح المنطق (231، 249)، وخزانة الأدب (9/ 36)، والشعر والشعراء (2/ 655)، ومعاهد التنصيص (1/ 285).

في رواية من روى «وأرهنهم»، وما شبهوه به من قولهم: «قمت وأصكّ «1» وجهه» فليست الواو فيها للحال، وليس المعنى «نجوت راهنا مالكا»، و «قمت صاكّا وجهه»، ولكن «أرهن» و «أصكّ» حكاية حال، مثل قوله: [من الكامل] ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني، ... فمضيت، ثمّت قلت: لا يعنيني «2» فكما أن «أمرّ» هاهنا في معنى «مررت»، كذلك يكون «أرهن» و «أصكّ» هناك في معنى «رهنت» و «صككت». ويبيّن ذلك أنك ترى «الفاء» تجيء مكان «الواو» في مثل هذا، وذلك كنحو ما في الخبر في حديث عبد الله بن عتيك «3» حين دخل على أبي رافع اليهوديّ حصنه قال: «فانتهيت إليه، فإذا هو في بيت مظلم لا أدري أنّى هو من البيت، فقلت: أبا رافع! فقال: من هذا؟ فأهويت نحو الصّوت، فأضربه بالسّيف وأنا دهش»، فكما أن «أضربه» مضارع قد عطفه بالفاء على ماض، لأنه في المعنى ماض، كذلك يكون «أرهنهم» معطوفا على الماضي قبله، وكما لا يشكّ في أنّ المعنى في الخبر: «فأهويت فضربت»، كذلك يكون المعنى في البيت: «نجوت ورهنت»، إلا أن الغرض في إخراجه على لفظ الحال، أن يحكى الحال في أحد الخبرين، ويدع الآخر على ظاهره، كما كان ذلك في «ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني، فمضيت»، إلّا أن الماضي في هذا البيت مؤخّر معطوف، وفي بيت ابن همام وما ذكرناه معه، مقدّم معطوف عليه. فاعرفه. فإن دخل حرف نفي على المضارع تغيّر الحكم، فجاء بالواو وبتركها كثيرا، وذلك مثل قولهم: «كنت ولا أخشى بالذّئب» «4»، وقول مسكين الدارميّ: [من الرمل]

_ (1) أصك: صكه ضربه شديدا. القاموس «صكك» (1221). (2) البيت لشمر بن عمرو الحنفي أحد شعراء بني حنيفة باليمامة، وهو في الأصمعيات رقم (38) ص (116)، ورواه سيبويه في الكتاب، والخزانة (1/ 173)، وتفسير الطبري (2/ 351). وفي الأغاني أن شمر قتل المنذر بن ماء السماء غيلة، وكان الحارث بن جبلة الغساني قد بعث إلى المنذر بمائة غلام تحت لواء شمر هذا يسأله الأمان على أن يخرج له عن ملكه ويكون من قبله، فركن المنذر إلى ذلك وأقام الغلمان معه فاغتاله شمر، وتفرق من كان مع المنذر وانتهبوا عسكره. ومعنى البيت: يقول: أتجاهل شتم اللئيم لأنه أحقر من أن يعني لي شيئا. (3) عبد الله بن عتيك الأنصاري استشهد باليمامة سنة (12) هـ. أسد الغابة (3/ 204) والإصابة (2/ 332). (4) أخشى: أخوف. مثل ذكره الميداني في مجمع الأمثال بلفظ «لقد كنت وما أخشى بالذئب». يضرب للعجوز الخرف الذي يخاف من هجوم الذئب عليه.

أكسبته الورق البيض أبا ... ولقد كان ولا يدعى لأب «1» وقول مالك بن رفيع، وكان جنى جناية فطلبه مصعب بن الزّبير: [من الوافر] بغاني مصعب وبنو أبيه، ... فأين أحيد عنهم؟ لا أحيد أقادوا من دمي وتوعّدوني، ... وكنت وما ينهنهني الوعيد «2» «كان» في هذا كلّه تامة والجملة الداخل عليها «الواو» في موضع الحال. ألا ترى أن المعنى: «وجدت غير خاش للذئب»، و «لقد وجد غير مدعوّ لأب» و «وجدت غير منهنه بالوعيد وغير مبال به»، ولا معنى لجعلها ناقصة، وجعل «الواو» مزيدة. وليس مجيء الفعل المضارع حالا، على هذا الوجه، بعزيز في الكلام، ألا تراك تقول: «جعلت أمشي وما أدري أين أضع رجلي» و «جعل يقول ولا يدري»، وقال أبو الأسود: «يصيب وما يدري»، وهو شائع كثير. فأما مجيء المضارع منفيّا حالا من غير «الواو» فيكثر أيضا ويحسن، فمن ذلك قوله: [من الطويل] ثووا لا يريدون الرّواح، وغالهم ... من الدّهر أسباب جرين على قدر «3» وقال أرطأة بن سهيّة، وهو لطيف جدّا: [من البسيط] إن تلقني، لا ترى غيري بناظرة ... تنس السّلاح وتعرف جبهة الأسد «4»

_ (1) البيت في مجموع شعره، والإيضاح (166)، والإشارات (139)، وشرح عقود الجمان (191)، والتبيان (121). (2) البيت في شرح عقود الجمان (191)، منسوب لمالك بن رفيع، وفي الأمالي (3/ 127)، ومالك ابن أبي رفيع الأسدي كان صعلوكا فطلبه ابن الزبير فهرب منه وقال هذا الشعر وله رواية أخرى: «أتاني مصعب»، وشرح التصريح (1/ 192)، ولمالك بن رقية كالآتي: تفانى مصعب وبنو أبيه ... وكنت ولا ينهنهني الوعيد والإيضاح (166). (3) البيت في الإيضاح (166)، والإشارات (138)، والتبيان في علم البيان لابن الزملكاني (122) ط. بغداد، وقال الأستاذ محمود شاكر في نسخته من دلائل الإعجاز: هو لعكرشة العبسي أبي الشغب يرثي بنيه، وهو في شرح الحماسة للتبريزي (3/ 49، 50)، ومجالس ثعلب (242)، والشعر بتمامه في مقطعات مراث لابن الأعرابي رقم (4)، ورواية البيت على الصواب كما أثبته «ثووا». (4) البيت في الأغاني (13/ 37) وبعده: ماذا تظنك تغني في أخي رصد ... من أسد خفان جابي العين ذي لبد وكان شبيب بن البرصاء يقول: وددت أني جمعني وابن الأمة أرطاة بن سهية يوم قتال فأشفى منه غيظي، فبلغ ذلك أرطاة فقال له: الناظرة: العين.

فقوله: «لا ترى» في موضع حال. ومثله في اللّطف والحسن قول أعشى همدان، وصحب عبّاد بن ورقاء إلى أصبهان فلم يحمده فقال: [من الوافر] أتينا أصبهان فهزّلتنا ... وكنّا قبل ذلك في نعيم وكان سفاهة منّي وجهلا ... مسيري، لا أسير إلى حميم «1» قوله: «لا أسير إلى حميم»، حال من ضمير المتكلم الذي هو «الياء» في «مسيري»، وهو فاعل في المعنى، فكأنه قال: وكان سفاهة منّي وجهلا، أن سرت غير سائر إلى حميم، وأن ذهبت غير متوجّه إلى قريب: وقال خالد بن يزيد بن معاوية: [من الكامل] لو أنّ قوما لارتفاع قبيلة ... دخلوا السّماء دخلتها لا أحجب «2» وهو كثير إلّا أنه لا يهتدي إلى وضعه بالموضع المرضيّ إلا من كان صحيح الطّبع. ومما يجيء بالواو وغير «الواو»، الماضي، وهو لا يقع حالا إلا مع «قد» مظهرة أو مقدّرة. أما مجيئها بالواو فالكثير الشائع، كقولك: «أتاني وقد جهده السير»، وأما بغير «الواو» فكقوله: [من البسيط] متى أرى الصّبح قد لاحت مخايله ... واللّيل قد مزّقت عنه السّرابيل «3» وقول الآخر: [من الوافر] فآبوا بالرّماح مكسّرات ... وأبنا بالسّيوف قد انحنينا «4» وقال آخر، وهو لطيف جدّا: [من الكامل] يمشون قد كسروا الجفون «5» إلى الوغى ... متبسّمين وفيهم استبشار ومما يجيء بالواو في الأكثر الأشيع، ثم يأتي في مواضع بغير «الواو» فيلطف مكانه ويدلّ على البلاغة، الجملة قد دخلها «ليس» تقول: «أتانى وليس عليه ثوب»

_ (1) البيتان في مجموع شعر الأعشية (341)، وغير متتابعين وهما في الإيضاح (166)، والإشارات (138)، والتبيان لابن الزملكاني (122) .. (2) البيت في الإيضاح (166)، والإشارات والتنبيهات (138)، والبيت منسوب لخالد بن زيد بن معاوية من أحفاد معاوية بن أبي سفيان وكان عالما فيلسوفا كما في الإشارات والتبيان. (3) البيت لحندج بن حندج المري، وهو في الإيضاح (166). (4) البيت في شرح الحماسة للتبريزي (2/ 229، 234). (5) قوله: يكسرون أغماد السيوف كناية عن استقبالهم للحرب وهي صفة من صفات الخوارج والجفون مفردها الجفن وهو غمد السيف.

و «رأيته وليس معه غيره»، فهذا هو المعروف المستعمل، ثم قد جاء بغير «الواو» فكان من الحسن على ما ترى، وهو قول الأعرابي: [من الرجز] لنا فتى وحبّذا الأفتاء ... تعرفه الأرسان والدّلاء إذا جرى في كفّه الرّشاء ... خلّى القليب ليس فيه ماء «1» ومما ينبغي أن يراعى في هذا الباب: أنك ترى الجملة قد جاءت حالا بغير «واو» ويحسن ذلك، ثم تنظر فترى ذلك إنّما حسن من أجل حرف دخل عليها. مثاله قول الفرزدق: [من الطويل] فقلت عسى أن تبصريني كأنّما ... بنيّ حواليّ الأسود الحوارد «2» قوله: «كأنما بنيّ» إلى آخره، في موضع الحال من غير شبهة، ولو أنك تركت «كأن» فقلت: «عسى أن تبصريني بنيّ حوالي كالأسود»، رأيته لا يحسن حسنه الآن، ورأيت الكلام يقتضي «الواو» كقولك: «عسى أن تبصريني وبنيّ حوالي كالأسود الحوارد». وشبيه بهذا أنك ترى الجملة قد جاءت حالا بعقب مفرد، فلطف مكانها، ولو أنك أردت أن تجعلها حالا من غير أن يتقدمها ذلك المفرد لم يحسن، مثال ذلك قول ابن الرومي: [من السريع] والله يبقيك لنا سالما، ... برداك تبجيل وتعظيم «3» فقوله: «برداك تبجيل»، في موضع حال ثانية، ولو أنك أسقطت «سالما»، من البيت فقلت: «والله يبقيك برداك تبجيل»، لم يكن شيئا. وإذا قد رأيت الجمل الواقعة حالا قد اختلف بها الحال هذا الاختلاف الظاهر، فلا بدّ من أن يكون ذلك إنّما كان من أجل علل توجبه وأسباب تقتضيه، فمحال أن يكون هاهنا جملة لا تصلح إلا مع «الواو»، وأخرى لا تصلح فيها «الواو»، وثالثة تصلح أن تجيء فيها «بالواو» وأن تدعها فلا تجيء بها، ثم لا يكون لذلك سبب وعلّة، وفي الوقوف على العلّة في ذلك إشكال وغموض، ذاك لأنّ الطريق إليه غير

_ (1) الأفتاء: جمع فتي بتشديد الياء وهو الشاب، والأرسان: الحبال. والرشاء: حبل الدلو. والقليب: البئر. (2) لم أعثر عليه في ديوانه (طبعة دار صادر)، وهو في الإيضاح (171). الحوارد: جمع حارد وهو المهيب المنظر من حرد إذا غضب. (3) البيت في ديوانه، والإيضاح (171).

مسلوك، والجهة التي منها تعرف غير معروفة، وأنا أكتب لك أصلا في «الخبر» إذا عرفته انفتح لك وجه العلّة في ذلك. اعلم أن «الخبر» ينقسم إلى خبر هو جزء من الجملة لا تتم الفائدة دونه، وخبر ليس بجزء من الجملة، ولكنّه زيادة في خبر آخر سابق له. فالأوّل خبر المبتدأ، كمنطلق في قولك: «زيد منطلق»، والفعل كقولك: «خرج زيد»، وكل واحد من هذين جزء من الجملة، وهو الأصل في الفائدة. والثاني هو الحال كقولك: «جاءني زيد راكبا»، وذاك لأن الحال خبر في الحقيقة، من حيث أنك تثبت بها المعنى لذي الحال كما تثبت بخبر المبتدأ للمبتدإ، وبالفعل للفاعل. ألا تراك قد أثبتّ الركوب في قولك: «جاءني زيد راكبا» لزيد؟ إلا أنّ الفرق أنّك جئت به لتزيد معنى في إخبارك عنه بالمجيء، وهو أن تجعله بهذه الهيئة في مجيئه، ولم تجرّد إثباتك للركوب ولم تباشره به ابتداء، بل بدأت فأثبتّ المجيء، ثم وصلت به الركوب، فالتبس به الإثبات على سبيل التّبع لغيره، وبشرط أن يكون في صلته. وأمّا في الخبر المطلق نحو: «زيد منطلق» و «خرج عمرو»، فإنك أثبت المعنى إثباتا جرّدته له، وجعلته يباشره من غير واسطة، ومن غير أن يتسبّب بغيره إليه. وإذا قد عرفت هذا، فاعلم أن كل جملة وقعت حالا ثم امتنعت من «الواو»، فذاك لأجل أنك عمدت إلى الفعل الواقع في صدرها فضممته إلى الفعل الأول في إثبات واحد، وكل جملة جاءت حالا، ثم اقتضت «الواو» فذاك لأنك مستأنف بها خبرا، وغير قاصد إلى أن تضمها إلى الفعل الأوّل في الإثبات. وتفسير هذا: أنك إذا قلت: «جاءني زيد يسرع»، كان بمنزلة قولك: «جاءني زيد مسرعا»، في أنك تثبت مجيئا فيه إسراع، وتصل أحد المعنيين بالآخر، وتجعل الكلام خبرا واحدا، وتريد أن تقول: «جاءني كذلك، وجاءني بهذه الهيئة»، وهكذا قوله: [من البسيط] وقد علوت قتود الرّحل يسفعني ... يوم قديديمة الجوزاء مسموم كأنه قال: «وقد علوت قتود الرحل بارزا للشمس ضاحيا»، وكذلك قوله: [من البسيط] متى أرى الصّبح قد لاحت مخايله لأنه في معنى: «متى أرى الصبح باديا لائحا بيّنا متجلّيا»، على هذا القياس أبدا. وإذا قلت: «جاءني وغلامه يسعى بين يديه» و «رأيت زيدا وسيفه على كتفه»،

كان المعنى على أنك بدأت فأثبتّ المجيء والرؤية، ثم استأنفت خبرا، وابتدأت إثباتا ثانيا لسعي الغلام بين يديه، ولكون السيف على كتفه. ولما كان المعنى على استئناف الإثبات، احتيج إلى ما يربط الجملة الثانية بالأولى، فجيء بالواو كما جيء بها في قولك: «زيد منطلق وعمرو ذاهب» و «العلم حسن والجهل قبيح»، وتسميتنا لها «واو حال»، لا يخرجها عن أن تكون مجتلبة لضمّ جملة إلى جملة. ونظيرها في هذا «الفاء» في جواب الشرط نحو: «إن تأتني فأنت مكرم»، فإنها وإن لم تكن عاطفة، فإن ذلك لا يخرجها من أن تكون بمنزلة العاطفة في أنها جاءت لتربط جملة ليس من شأنها أن ترتبط بنفسها، فاعرف ذلك، ونزّل الجملة في نحو: «جاءني زيد يسرع» و «قد علوت قتود الرّحل يسفعني يوم»، منزلة الجزاء الذي يستغني عن «الفاء»، لأنّ من شأنه أن يرتبط بالشرط من غير رابط، وهو قولك: «إن تعطني أشكرك»، ونزّل الجملة في «جاءني زيد وهو راكب»، منزلة الجزاء الذي ليس من شأنه أن يرتبط بنفسه، ويحتاج إلى «الفاء»، كالجملة في نحو: «إن تأتني فأنت مكرم»، قياسا سويّا وموازنة صحيحة. فإن قلت: قد علمنا أن علّة دخول «الواو» على الجملة أن تستأنف الإثبات، ولا تصل المعنى الثاني بالأوّل في إثبات واحد، ولا تنزّل الجملة منزلة المفرد، ولكن بقي أن تعلم لم كان بعض الجمل، بأن يكون تقديرها تقدير المفرد في أن لا يستأنف بها الإثبات، أولى من بعض؟ وما الذي منع في قولك: «جاءني زيد وهو يسرع، أو «وهو مسرع» أن يدخل الإسراع في صلة المجيء ويضمّه في الإثبات، كما كان ذلك حين قلت: «جاءني زيد يسرع»؟. فالجواب أن السّبب في ذلك أن المعنى في قولك: «جاءني زيد وهو يسرع»، على استئناف إثبات للسّرعة، ولم يكن ذلك في «جاءني زيد يسرع». وذلك أنك إذا أعدت ذكر «زيد» فجئت بضميره المنفصل المرفوع، كان بمنزلة أن تعيد اسمه صريحا فتقول: «جاءني زيد وزيد يسرع» في أنك لا تجد سبيلا إلى أن تدخل «يسرع» في صلة المجيء، وتضمّه إليه في الإثبات. وذلك أنّ إعادتك ذكر «زيد» لا يكون حتى تقصد استئناف الخبر عنه بأنه يسرع، وحتى تبتدئ إثباتا للسرعة، لأنّك إن لم تفعل ذلك، تركت المبتدأ، الذي هو ضمير «زيد» أو اسمه الظاهر، بمضيعة، وجعلته لغوا في البين، وجرى مجرى أن تقول: «جاءني زيد وعمرو يسرع أمامه»، ثم تزعم أنك لم تستأنف كلاما ولم تبتدئ للسرعة إثباتا، وأن حال «يسرع» هاهنا، حاله إذا قلت: «جاءني زيد يسرع»، فجعلت السرعة له، ولم تذكر «عمرا»، وذلك محال.

فإن قلت: إنما استحال في قولك: «جاءني زيد وعمرو يسرع أمامه» أن تردّ «يسرع» إلى «زيد» وتنزله منزلة قولك: «جاءني زيد يسرع»، من حيث كان في «يسرع» ضمير لعمرو، وتضمّنه ضمير عمرو يمنع أن يكون لزيد، وأن يقدّر حالا له، وليس كذلك: «جاءني زيد وهو يسرع»، لأنّ السرعة هناك لزيد لا محالة، فكيف ساغ أن تقيس إحدى المسألتين على الأخرى؟. قيل: ليس المانع أن يكون «يسرع» في قولك: «جاءني زيد وعمرو يسرع أمامه»؟ حالا من زيد أنّه فعل لعمرو، فإنك لو أخّرت «عمرا» فرفعته «بيسرع»، وأوليت «يسرع» زيدا فقلت: «جاءني زيد يسرع عمرو أمامه» وجدته قد صلح حالا لزيد، مع أنه فعل لعمرو، وإنما المانع ما عرفتك، من أنك تدع «عمرا» بمضيعة، وتجيء به مبتدأ، ثم لا تعطيه خبرا. ومما يدلّ على فساد ذلك أنّه يؤدّي إلى أن يكون «يسرع» قد اجتمع في موضعه النّصب والرفع، وذلك أنّ جعله حالا من «زيد» يقتضي أن يكون في موضع نصب، وجعله خبرا عن «عمرو» المرفوع بالابتداء يقتضي أن يكون في موضع رفع. وذلك بيّن التّدافع. ولا يجب هذا التّدافع إذا أخرت «عمرا» فقلت: «جاءني زيد يسرع عمرو أمامه»، لأنك ترفعه حينئذ بيسرع، على أنه فاعل له، وإذا ارتفع به لم يوجب في موضعه إعرابا، فيبقى مفرّغا لأن يقدّر فيه النصب على أنه حال من «زيد» وجرى مجرى أن تقول: «جاءني زيد مسرعا عمرو أمامه». فإن قلت: فقد ينبغي على هذا الأصل أن لا تجيء جملة من مبتدأ وخبر حالا إلا مع «الواو»، وقد ذكرت قبل أن ذلك قد جاء في مواضع من كلامهم. فالجواب أنّ القياس والأصل أن لا تجيء جملة من مبتدأ وخبر حالا إلا مع «الواو»، وأمّا الذي جاء من ذلك فسبيله سبيل الشيء يخرج عن أصله وقياسه والظاهر فيه، بضرب من التأويل ونوع من التشبيه، فقولهم: «كلّمته فوه إلى فيّ»، إنّما حسن بغير «واو» من أجل أن المعنى: كلمته مشافها له، وكذلك قولهم: «رجع عوده على بدئه»، إنما جاء الرفع فيه والابتداء من غير «واو»، لأن المعنى: رجع ذاهبا في طريقه الذي جاء فيه، وأما قوله: «وجدته حاضراه الجود والكرم» فلأنّ تقديم الخبر الذي هو «حاضراه»، يجعله كأنه قال: «وجدته حاضرا عنده الجود والكرم». وليس الحمل على المعنى، وتنزيل الشيء منزلة غيره، بعزيز في كلامهم، وقد قالوا: «زيد اضربه»، فأجازوا أن يكون مثال الأمر في موضع الخبر، لأن المعنى على

النصب نحو: «اضرب زيدا»، ووضعوا الجملة، من المبتدأ والخبر موضع الفعل والفاعل في نحو قوله تعالى: أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ [الأعراف: 193]، لأن الأصل في المعادلة أن تكون الثانية كالأولى نحو: «أدعوتموهم أم صمتّم». ويدل على أن ليس مجيء الجملة من المبتدأ والخبر حالا بغير «الواو» أصلا، قلّته «1»، وأنه لا يجيء إلا في الشيء بعد الشيء. هذا، ويجوز أن يكون ما جاء من ذلك إنما جاء على إرادة «الواو»، كما جاء الماضي على إرادة «قد». واعلم أنّ الوجه فيما كان مثل قول بشار: [من الطويل] خرجت مع البازي عليّ سواد «2» أن يؤخذ فيه بمذهب أبي الحسن الأخفش، فيرفع «سواد» بالظرف دون الابتداء، ويجري الظّرف هاهنا مجراه إذا جرت الجملة صفة على النكرة نحو: «مررت برجل معه صقر صائدا به غدا»، وذلك أن صاحب الكتاب يوافق أبا الحسن في هذا الموضع فيرفع «صقرا» بما في «معه» من معنى الفعل، فلذلك يجوز أن يجرى الحال مجرى الصفة، فيرفع الظاهر بالظرف إذا هو جاء حالا، فيكون ارتفاع «سواد» بما في «عليّ» من معنى الفعل، لا بالابتداء. ثم ينبغي أن يقدّر هاهنا خصوصا أنّ الظرف في تقدير اسم فاعل لا فعل، أعني أن يكون المعنى: «خرجت كائنا عليّ سواد، وباقيا عليّ سواد»، ولا يقدّر: «يكون عليّ سواد»، و «يبقى عليّ سواد»، اللهمّ إلّا أن تقدر فيه فعلا ماضيا مع «قد» كقولك: «خرجت مع البازي قد بقي عليّ سواد»، والأوّل أظهر. وإذا تأمّلت الكلام وجدت الظرف وقد وقع مواقع لا يستقيم فيها إلّا أن يقدّر تقدير اسم فاعل، ولذلك قال أبو بكر بن السّراج في قولنا: «زيد في الدار»، أنك مخيّر بين أن تقدر فيه فعلا فتقول: «استقر في الدار»، وبين أن تقدر اسم فاعل فتقول: «مستقر في الدار»، وإذا عاد الأمر إلى هذا، كان الحال في ترك «الواو» ظاهرة، وكان «سواد» في قوله: «خرجت مع البازي عليّ سواد»، بمنزلة «قضاء الله» في قوله: [من الطويل]

_ (1) قلّته: فاعل للفعل «يدلّ». (2) راجع هامش (1) ص (142).

سأغسل عنّي العار بالسّيف جالبا ... عليّ قضاء الله ما كان جالبا «1» في كونه اسما ظاهرا قد ارتفع باسم فاعل قد اعتمد على ذي حال، فعمل عمل الفعل. ويدلّك على أن التقدير فيه ما ذكرت، وأنه من أجل ذلك حسن، أنك تقول: «جاءني زيد والسّيف على كتفه» و «خرج والتاج عليه»، فتجده لا يحسن إلا بالواو، وتعلم أنك لو قلت: «جاءني زيد السيف على كتفه» و «خرج التاج عليه»، كان كلاما نافرا لا يكاد يقع في الاستعمال، وذلك لأنه بمنزلة قولك: «جاءني وهو متقلّد سيفه» و «خرج وهو لابس التاج»، في أن المعنى على أنك استأنفت كلاما وابتدأت إثباتا، وأنّك لم ترد: «جاءني كذلك» ولكن «جاءني وهو كذلك»، فاعرفه.

_ (1) شعر سعد بن ناشب المازني، شرح الحماسة للتبريزي (1/ 35).

بسم الله الرّحمن الرّحيم لقول في الفصل والوصل اعلم أنّ العلم- بما ينبغي أن يصنع في الجمل من عطف بعضها على بعض، أو ترك العطف فيها والمجيء بها منثورة، تستأنف واحدة منها بعد أخرى- من أسرار البلاغة «1»، وممّا لا يتأتّى لتمام الصواب فيه إلا الأعراب الخلّص، وإلا قوم طبعوا على البلاغة، وأوتوا فنّا من المعرفة في ذوق الكلام هم بها أفراد. وقد بلغ من قوة الأمر في ذلك أنهم جعلوه حدّا للبلاغة، فقد جاء عن بعضهم أنه سئل عنها فقال: «معرفة الفصل من الوصل»، ذاك «2» لغموضه ودقّة مسلكه، وأنه لا يكمل لإحراز الفضيلة فيه أحد، إلا كمل لسائر معاني البلاغة. واعلم أنّ سبيلنا أن ننظر إلى فائدة العطف في المفرد، ثم نعود إلى الجملة فننظر فيها ونتعرّف حالها. ومعلوم أنّ فائدة العطف في المفرد أن يشرك الثاني في إعراب الأول، وأنه إذا أشركه في إعرابه فقد أشركه في حكم ذلك الإعراب، نحو أن المعطوف على المرفوع بأنه فاعل مثله، والمعطوف على المنصوب بأنه مفعول به أو فيه أو له شريك له في ذلك. وإذا كان هذا أصله في المفرد، فإنّ الجمل المعطوف بعضها على بعض على ضربين: أحدهما: أن يكون للمعطوف عليها موضع من الإعراب، وإذا كانت كذلك كان حكمها حكم المفرد، إذ لا يكون للجملة موضع من الإعراب حتى تكون واقعة موقع المفرد، وإذا كانت الجملة واقعة موقع المفرد، كان عطف الثانية عليها جاريا مجرى عطف المفرد على المفرد، وكان وجه الحاجة إلى «الواو» ظاهرا، والإشراك بها

_ (1) قوله: بما ينبغي إلى قوله بعد أخرى: اعتراض بين اعلم أن العلم ... من أسرار البلاغة. (2) ذاك: المقصود منه الفصل.

في الحكم موجودا. فإذا قلت: «مررت برجل خلقه حسن وخلقه قبيح» كنت قد أشركت الجملة الثانية في حكم الأولى، وذلك الحكم كونها في موضع جرّ بأنّها صفة للنكرة. ونظائر ذلك تكثر، والأمر فيها يسهل. والذي يشكل أمره هو الضرب الثاني، وذلك أن تعطف على الجملة العارية الموضع من الإعراب جملة أخرى، كقولك: «زيد قائم، وعمرو قاعد» و «العلم حسن، والجهل قبيح»، لا سبيل لنا إلى أن ندّعي أن «الواو» أشركت الثانية في إعراب قد وجب للأولى بوجه من الوجوه. وإذا كان كذلك، فينبغي أن تعلم المطلوب من هذا العطف والمغزى منه، ولم لم يستو الحال بين أن تعطف وبين أن تدع العطف فتقول: «زيد قائم، عمرو قاعد»، بعد أن لا يكون هنا أمر معقول يؤتى بالعاطف ليشرك بين الأولى والثانية فيه؟. واعلم أنّه إنما يعرض الإشكال في «الواو» دون غيرها من حروف العطف، وذاك لأن تلك تفيد مع الإشراك معاني، مثل أنّ «الفاء» توجب الترتيب من غير تراخ، و «ثم» توجبه مع تراخ، و «أو» تردّد الفعل بين شيئين وتجعله لأحدهما لا بعينه، فإذا عطفت بواحدة منها الجملة على الجملة، ظهرت الفائدة. فإذا قلت: «أعطاني فشكرته»، ظهر بالفاء أن الشكر كان معقّبا على العطاء ومسبّبا عنه، وإذا قلت: «خرجت ثم خرج زيد»، أفادت «ثم» أن خروجه كان بعد خروجك، وأنّ مهلة وقعت بينهما، وإذا قلت: «يعطيك أو يكسوك»، دلّت «أو» على أنه يفعل واحدا منهما لا بعينه. وليس «للواو» معنى سوى الإشراك في الحكم الذي يقتضيه الإعراب الذي أتبعت فيه الثاني الأوّل. فإذا قلت: «جاءني زيد وعمرو» لم تفد بالواو شيئا أكثر من إشراك عمرو في المجيء الذي أثبته لزيد، والجمع بينه وبينه، ولا يتصوّر إشراك بين شيئين حتى يكون هناك معنى يقع ذلك الإشراك فيه وإذا كان ذلك كذلك، ولم يكن معنا في قولنا: «زيد قائم وعمرو قاعد» معنى تزعم أنّ «الواو» أشركت بين هاتين الجملتين فيه، ثبت إشكال المسألة. ثم إنّ الذي يوجبه النظر والتأمّل أن يقال في ذلك: إنّا وإن كنّا إذا قلنا: «زيد قائم وعمرو قاعد»، فإنّا لا نرى هاهنا حكما نزعم أن «الواو» جاءت للجمع بين الجملتين فيه، فإنا نرى أمرا آخر نحصل معه على معنى الجمع. وذلك أنّا لا نقول: «زيد قائم وعمرو قاعد»، حتى يكون عمرو بسبب من زيد، وحتى يكونا كالنظيرين

والشريكين، وبحيث إذا عرف السامع حال الأوّل عناه أن يعرف حال الثاني. يدلّك على ذلك أنك إن جئت فعطفت على الأول شيئا ليس منه بسبب، ولا هو ممّا يذكر بذكره ويتّصل حديثه بحديثه، لم يستقم. فلو قلت: «خرجت اليوم من داري»، ثم قلت: «وأحسن الذي يقول بيت كذا»، قلت ما يضحك منه، ومن هنا عابوا أبا تمام في قوله: [من الكامل] لا والّذي هو عالم أنّ النّوى ... صبر وأنّ أبا الحسين كريم «1» وذلك لأنه لا مناسبة بين كرم أبي الحسين ومرارة النوى، ولا تعلّق لأحدهما بالآخر، وليس يقتضي الحديث بهذا الحديث بذاك. واعلم أنّه كما يجب أن يكون المحدّث عنه في إحدى الجملتين بسبب من المحدّث عنه في الأخرى، كذلك ينبغي أن يكون الخبر عن الثاني مما يجري مجرى الشّبيه والنظير أو النقيض للخبر عن الأوّل. فلو قلت: «زيد طويل القامة وعمرو شاعر»، كان خلفا، لأنه لا مشاكلة ولا تعلّق بين طول القامة وبين الشّعر، وإنما الواجب أن يقال: «زيد كاتب وعمرو شاعر»، و «زيد طويل القامة وعمرو قصير». وجملة الأمر أنها لا تجيء حتّى يكون المعنى في هذه الجملة لفقا «2» لمعنى في الأخرى ومضامّا له، مثل أنّ «زيدا» و «عمرا» إذا كانا أخوين أو نظيرين أو مشتبكي الأحوال على الجملة، كانت الحال التي يكون عليها أحدهما، من قيام أو قعود أو ما شاكل ذلك، مضمومة في النفس إلى الحال التي عليها الآخر من غير شكّ. وكذا السبيل أبدا. والمعاني في ذلك كالأشخاص، فإنّما قلت مثلا: «العلم حسن والجهل قبيح»، لأنّ كون العلم حسنا مضموم في العقول إلى كون الجهل قبيحا. واعلم أنه إذا كان المخبر عنه في الجملتين واحدا كقولنا: «هو يقول ويفعل ويضرّ وينفع، ويسيء ويحسن، ويأمر وينهى، ويحلّ ويعقد، ويأخذ ويعطى، ويبيع

_ (1) البيت في ديوانه (282) من قصيدة يمدح فيها أبا الحسين محمد بن الهيثم بن شبانة، وقبله: زعمت هواك عفا الغداة كما عفت ... منها طلول باللوى ورسوم والبيت في مفتاح العلوم للسكاكي (381)، والإيضاح (149)، وأورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات (122)، وعزاه إليه، والطيبي في شرحه على مشكاة المصابيح بتحقيقي (1/ 87)، وشرح الصولي للديوان (2/ 419)، ومعاهد التنصيص، وانظر نهاية الإيجاز (323)، وعقود الجمان (173) والصبر: عصارة شجرة حامض. (2) لفقا له: لفق الثوب يلفقه: ضم شقة إلى أخرى. القاموس «لفق» (1190).

ويشتري، ويأكل ويشرب» وأشباه ذلك، ازداد معنى الجمع في «الواو» قوة وظهورا، وكان الأمر حينئذ صريحا. وذلك أنك إذا قلت: «هو يضرّ وينفع»، كنت قد أفدت «بالواو» أنك أوجبت له الفعلين جميعا، وجعلته يفعلهما معا. ولو قلت: «يضرّ ينفع»: من غير «واو» لم يجب ذلك، بل قد يجوز أن يكون قولك «ينفع» رجوعا عن قولك «يضر» وإبطالا له. وإذا وقع الفعلان في مثل هذا في الصّلة، ازداد الاشتباك والاقتران حتى لا يتصوّر تقدير إفراد في أحدهما عن الآخر، وذلك في مثل قولك: «العجب من أنّي أحسنت وأسأت» و «يكفيك ما قلت وسمعت» و «أيحسن أن تنهى عن شيء وتأتي مثله؟»، وذلك أنه لا يشتبه على عاقل أن المعنى على جعل الفعلين في حكم فعل واحد. ومن البيّن في ذلك قوله: [من البسيط] لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم، ... وأن نكفّ الأذى عنكم وتؤذونا «1» المعنى: لا تطمعوا أن تروا إكرامنا قد وجد مع إهانتكم، وجامعها في الحصول. ومما له مأخذ لطيف في هذا الباب قول أبي تمام: [من الطويل] لهان علينا أن نقول وتفعلا ... ونذكر بعض الفضل منك وتفضلا «2» واعلم أنه كما كان في الأسماء ما يصله معناه بالاسم قبله، فيستغني بصلة معناه له عن واصل يصله ورابط يربطه، وذلك كالصفة التي لا تحتاج في اتّصالها بالموصوف إلى شيء يصلها به، وكالتأكيد الذي لا يفتقر كذلك إلى ما يصله بالمؤكد، كذلك يكون في الجمل ما تتّصل من ذات نفسها بالتي قبلها، وتستغني بربط معناها لها عن حرف عطف يربطها. وهي كلّ جملة كانت مؤكّدة للتي قبلها ومبيّنة لها، وكانت إذا حصّلت لم تكن شيئا سواها، كما لا تكون الصفة غير الموصوف، والتأكيد غير المؤكد. فإذا قلت: «جاءني زيد الظريف»، و «جاءني القوم كلهم»، لم يكن «الظريف» و «كلّهم» غير زيد وغير القوم. ومثال ما هو من الجمل كذلك قوله تعالى: الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ

_ (1) من شعر الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب، شرح الحماسة للتبريزي (1/ 121). (2) البيت في ديوانه (ص 237)، مطلع قصيدة في مدح محمد بن عبد الملك الزيات. ويروى: «فتفضلا» بدل من «وتفضلا» وبعده: أبا جعفر أجريت في كل تلعة ... لنا جعفرا من سيب كفيك سلسلا لهان: أي والله لقد هان.

[البقرة: 1 - 2] قوله: «لا ريب فيه»، بيان وتوكيد وتحقيق لقوله «ذلك الكتاب»، وزيادة تثبيت له، وبمنزلة أن تقول: «هو ذلك الكتاب، هو ذلك الكتاب»، فتعيده مرة ثانية لتثبته، وليس يثبت الخبر غير الخبر، ولا شيء يتميّز به عنه فيحتاج إلى ضامّ يضمّه إليه، وعاطف يعطفه عليه. ومثل ذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [البقرة: 6 - 7] قوله تعالى: لا يُؤْمِنُونَ، تأكيد لقوله سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ، وقوله: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ، تأكيد ثان أبلغ من الأوّل، لأن من كان حاله إذا أنذر مثل حاله إذا لم ينذر، كان في غاية الجهل، وكان مطبوعا على قلبه لا محالة. وكذلك قوله عزّ وجلّ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ [البقرة: 8 - 9]، إنّما قال: «يخادعون» ولم يقل: «ويخادعون» لأن هذه المخادعة ليست شيئا غير قولهم: «آمنّا»، من غير أن يكونوا مؤمنين، فهو إذن كلام أكّد به كلام آخر هو في معناه، وليس شيئا سواه. وهكذا قوله عزّ وجلّ: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة: 14]، وذلك لأن معنى قولهم: «إنّا معكم»: إنّا لم نؤمن بالنبيّ صلى الله عليه وسلّم ولم نترك اليهوديّة. وقولهم: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ، خبر بهذا المعنى بعينه، لأنه لا فرق بين أن يقولوا: «إنّا لم نقل ما قلناه من أنا آمنا إلّا استهزاء»، وبين أن يقولوا: «إنّا لم نخرج من دينكم وإنّا معكم»، بل هما في حكم الشيء الواحد، فصار كأنهم قالوا: «إنا معكم لم نفارقكم» فكما لا يكون «إنّا لم نفارقكم» شيئا غير «إنّا معكم»، كذلك لا يكون «إنّما نحن مستهزءون» غيره، فاعرفه. ومن الواضح البيّن في هذا المعنى قوله تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً [لقمان: 7]، لم يأت معطوفا نحو «وكأنّ في أذنيه وقرا»، لأنّ المقصود من التشبيه بمن في أذنيه وقر، هو بعينه المقصود من التشبيه بمن لم يسمع، إلّا أنّ الثاني أبلغ وآكد في الذي أريد. وذلك أن المعنى في التشبيهين جميعا أن ينفي أن يكون لتلاوة ما تلي عليه من الآيات فائدة معه، ويكون لها تأثير فيه، وأن يجعل حاله إذا تليت عليه كحاله إذا لم تتل.

ولا شبهة في أن التشبيه بمن في أذنيه وقر أبلغ وآكد في جعله كذلك، من حيث كان من لا يصحّ منه السمع وإن أراد ذلك، أبعد من أن يكون لتلاوة ما يتلى عليه فائدة، من الذي يصحّ منه السمع إلّا أنه لا يسمع، إمّا اتفاقا وإما قصدا إلى أن لا يسمع. فاعرفه وأحسن تدبّره. ومن اللطيف في ذلك قوله تعالى: ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف: 31]، وذلك أن قوله: «إن هذا إلّا ملك كريم»، مشابك لقوله: «ما هذا بشرا» ومداخل في ضمنه من ثلاثة أوجه: وجهان هو فيهما شبيه بالتأكيد، ووجه هو فيه شبيه بالصفة. فأحد وجهي كونه شبيها بالتأكيد، هو أنه إذا كان ملكا لم يكن بشرا، وإذا كان كذلك كان، إثبات كونه ملكا تحقيقا لا محالة، وتأكيدا لنفي أن يكون بشرا. والوجه الثاني أن الجاري في العرف والعادة أنه إذا قيل: «ما هذا بشرا، وما هذا بآدميّ»، والحال حال تعظيم وتعجّب مما يشاهد في الإنسان من حسن خلق أو خلق، أن يكون الغرض والمراد من الكلام أن يقال إنه ملك، وأنه يكنى به عن ذلك، حتى أنه يكون مفهوم اللفظ، وإذا كان مفهوما من اللفظ قبل أن يذكر، كان ذكره إذا ذكر تأكيدا لا محالة، لأنّ حدّ «التأكيد» أن تحقّق باللفظ معنى قد فهم من لفظ آخر قد سبق منك. أفلا ترى: أنه إنّما كان «كلّهم» في قولك: «جاءني القوم كلّهم» تأكيدا من حيث كان الذي فهم منه، وهو الشمول، قد فهم بديئا من ظاهر لفظ «القوم»، ولو أنه لم يكن فهم الشمول من لفظ «القوم»، ولا كان هو من موجبه، لم يكن «كلّ» تأكيدا، ولكان الشمول مستفادا من «كلّ» ابتداء. وأمّا الوجه الثالث الذي هو فيه شبيه بالصفة، فهو أنه إذا نفي أن يكون بشرا، فقد أثبت له جنس سواه، إذ من المحال أن يخرج من جنس البشر، ثم لا يدخل في جنس آخر. وإذا كان الأمر كذلك، كان إثباته «ملكا» تبيينا وتعيينا لذلك الجنس الذي أريد إدخاله فيه، وإغناء عن أن تحتاج إلى أن تسأل فتقول: «فإن لم يكن بشرا، فما هو؟ وما جنسه؟» كما أنك إذا قلت: «مررت بزيد الظريف» كان «الظريف» تبيينا وتعيينا للّذي أردت من بين من له هذا الاسم، وكنت قد أغنيت المخاطب عن الحاجة إلى أن يقول: «أيّ الزيدين أردت؟». وممّا جاء فيه الإثبات «بإن وإلّا» على هذا الحدّ قوله عزّ وجلّ: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ [يس: 69]، وقوله: وَما يَنْطِقُ عَنِ

الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم: 3 - 4]، أفلا ترى أنّ الإثبات في الآيتين جميعا تأكيد وتثبيت لنفي ما نفي؟ فإثبات ما علّمه النبي صلى الله عليه وسلّم وأوحي إليه ذكرا وقرآنا، تأكيد وتثبيت لنفي أن يكون قد علّم الشعر وكذلك إثبات ما يتلوه عليهم وحيا من الله تعالى، تأكيد وتقرير لنفي أن يكون نطق به عن هوى. واعلم أنّه ما من علم من علوم البلاغة أنت تقول فيه: «إنه خفيّ غامض، ودقيق صعب» إلا وعلم هذا الباب أغمض وأخفى وأدقّ وأصعب. وقد قنع الناس فيه بأن يقولوا إذا رأوا جملة قد ترك فيها العطف: «إن الكلام قد استؤنف وقطع عمّا قبله»، لا تطلب أنفسهم منه زيادة على ذلك. ولقد غفلوا غفلة شديدة. وممّا هو أصل في هذا الباب أنك قد ترى الجملة وحالها مع التي قبلها حال ما يعطف ويقرن إلى ما قبله، ثم تراها قد وجب فيها ترك العطف، لأمر عرض فيها صارت به أجنبية مما قبلها. مثال ذلك قوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة: 15]، الظاهر كما لا يخفى يقتضي أن يعطف على ما قبله من قوله: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة: 14]، وذلك أنه ليس بأجنبيّ منه، بل هو نظير ما جاء معطوفا من قوله تعالى: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ [النساء: 142]، وقوله: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران: 54]، وما أشبه ذلك مما يردّ فيه العجز على الصّدر، ثم إنّك تجده قد جاء غير معطوف، وذلك لأمر أوجب أن لا يعطف، وهو أن قوله: «إنما نحن مستهزءون»، حكاية عنهم أنهم قالوا، وليس بخبر من الله تعالى، وقوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ، خبر من الله تعالى أنه يجازيهم على كفرهم واستهزائهم. وإذا كان كذلك، كان العطف ممتنعا، لاستحالة أن يكون الذي هو خبر من الله تعالى، معطوفا على ما هو حكاية عنهم، ولإيجاب ذلك أن يخرج من كونه خبرا من الله تعالى، إلى كونه حكاية عنهم، وإلى أن يكونوا قد شهدوا على أنفسهم بأنهم مؤاخذون، وأن الله تعالى معاقبهم عليه. وليس كذلك الحال في قوله تعالى: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ و «مكروا ومكر الله»، لأن الأول من الكلامين فيهما كالثّاني، في أنه خبر من الله تعالى وليس بحكاية. وهذا هو العلّة في قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة: 11 - 12]، إنما جاء «إنّهم هم المفسدون» مستأنفا مفتتحا «بألا»، لأنه خبر من الله تعالى بأنّهم

كذلك، والذي قبله من قوله: «إنما نحن مصلحون»، حكاية عنهم. فلو عطف للزم عليه مثل الذي قدّمت ذكره من الدخول في الحكاية، ولصار خبرا من اليهود ووصفا منهم لأنفسهم بأنهم مفسدون، ولصار كأنه قيل: قالوا: «إنما نحن مصلحون، وقالوا إنّهم المفسدون»، وذلك ما لا يشكّ في فساده. وكذلك قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة: 13]، ولو عطف: «إنّهم هم السّفهاء» على ما قبله، لكان يكون قد أدخل في الحكاية، ولصار حديثا منهم عن أنفسهم بأنهم هم السّفهاء، من بعد أن زعموا أنهم إنّما تركوا أن يؤمنوا لئلّا يكونوا من السفهاء. على أنّ في هذا أمرا آخر، وهو أن قوله: «أنؤمن» استفهام، لا يعطف الخبر على الاستفهام. فإن قلت: هل كان يجوز أن يعطف قوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ على «قالوا» من قوله: «قالوا إنّا معكم» لا على ما بعده، وكذلك كان يفعل في «إنّهم هم المفسدون»، و «إنّهم هم السّفهاء»، وكان يكون نظير قوله تعالى: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ [الأنعام: 8]، وذلك أنّ قوله: «ولو أنزلنا ملكا» معطوف، من غير شك، على «قالوا» دون ما بعده؟. قيل: إن حكم العطف على «قالوا» فيما نحن فيه، مخالف لحكمه في الآية التي ذكرت. وذلك أن «قالوا» هاهنا جواب شرط، فلو عطف قوله: «الله يستهزئ بهم» عليه، للزم إدخاله في حكمه من كونه جوابا، وذلك لا يصحّ. وذاك أنّه متى عطف على جواب الشرط شيء «بالواو» كان ذلك على ضربين: أحدهما: أن يكونا شيئين يتصوّر وجود كلّ واحد منهما دون الآخر، ومثاله قولك «إن تأتني أكرمك أعطك وأكسك»، والثاني: أن يكون المعطوف شيئا لا يكون حتى يكون المعطوف عليه، ويكون الشّرط لذلك سببا فيه بوساطة كونه سببا للأول، ومثاله قولك: «إذا رجع الأمير إلى الدار استأذنته وخرجت»، فالخروج لا يكون حتى يكون الاستئذان، وقد صار «الرجوع» سببا في الخروج، من أجل كونه سببا في الاستئذان، فيكون المعنى في مثل هذا على كلامين، نحو: «إذا رجع الأمير استأذنت، وإذا استأذنت خرجت». وإذا قد عرفت ذلك، فإنه لو عطف قوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ على

«قالوا» كما زعمت، كان الذي يتصوّر فيه أن يكون من هذا الضّرب الثاني، وأن يكون المعنى: «وإذا خلو إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم إنّما نحن مستهزءون»، فإذا قالوا ذلك استهزأ الله بهم ومدّهم في طغيانهم يعمهون. وهذا وإن كان يرى أنه يستقيم، فليس هو بمستقيم. وذلك أن الجزاء إنما هو على نفس الاستهزاء وفعلهم له وإرادتهم إيّاه في قولهم: «آمنّا»، لا على أنهم حدّثوا على أنفسهم بأنّهم مستهزءون، والعطف على «قالوا» يقتضي أن يكون الجزاء على حديثهم عن أنفسهم بالاستهزاء، لا عليه نفسه. ويبيّن ما ذكرناه من أن الجزاء ينبغي أن يكون على قصدهم الاستهزاء وفعلهم له، لا على حديثهم عن أنفسهم بأنا مستهزءون، أنهم لو كانوا قالوا لكبرائهم: «إنما نحن مستهزءون» وهم يريدون بذلك دفعهم عن أنفسهم بهذا الكلام، وأن يسلموا من شرّهم، وأن يوهموهم أنّهم منهم وإن لم يكونوا كذلك «1»، لكان لا يكون عليهم مؤاخذة فيما قالوه، من حيث كانت المؤاخذة تكون على اعتقاد الاستهزاء والخديعة في إظهار الإيمان، لا في قول: «إنّا استهزأنا» من غير أن يقترن بذلك القول اعتقاد ونيّة. هذا، وهاهنا أمر سوى ما مضى يوجب الاستئناف وترك العطف، وهو أن الحكاية عنهم بأنهم قالوا كيت وكيت، تحرّك السامعين لأن يعلموا مصير أمرهم وما يصنع بهم، وأتنزل بهم النّقمة عاجلا أم لا تنزل ويمهلون، وتوقع في أنفسهم التمنّي لأن يتبيّن لهم ذلك. وإذا كان كذلك، كان هذا الكلام الذي هو قوله: «الله يستهزئ بهم»، في معنى ما صدر جوابا عن هذا المقدّر وقوعه في أنفس السامعين. وإذا كان مصدره كذلك، كان حقّه أن يؤتى به مبتدأ غير معطوف، ليكون في صورته إذا قيل: «فإن سألتم قيل لكم: «الله يستهزئ بهم ويمدّهم في طغيانهم يعمهون». وإذا استقريت وجدت هذا الذي ذكرت لك، من تنزيلهم الكلام إذا جاء بعقب ما يقتضي سؤالا، منزلته إذا صرّح بذلك السؤال، كثيرا، فمن لطيف ذلك قوله: [من الكامل] زعم العواذل أنّني في غمرة، ... صدقوا، ولكن غمرتي لا تنجلي «2» لمّا حكى عن العواذل أنهم قالوا: «هو في غمرة»، وكان ذلك مما يحرّك

_ (1) والتقدير أنهم لو كانوا ..... لكان لا يكون عليهم». (2) البيت في الإيضاح (157)، وأورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات (125) بلا عزو، والطيبي في التبيان (142)، وشرح المرشدي على عقود الجمان (182)، وهو غير منسوب. الغمرة: الشدة.

السامع لأن يسأله فيقول: «فما قولك في ذلك، وما جوابك عنه؟»، أخرج الكلام مخرجه إذا كان ذلك قد قيل له، وصار كأنه قال: «أقول: صدقوا، أنا كما قالوا، ولكن لا مطمع لهم في فلاحي»، ولو قال: «زعم العواذل أنني في غمرة وصدقوا»، لكان يكون لم يضع في نفسه أنه مسئول، وأن كلامه كلام مجيب. ومثله قول الآخر في الحماسة: [من الكامل] زعم العواذل أنّ ناقة جندب ... بجنوب خبت عرّيت وأجمّت كذب العواذل لو رأين مناخنا ... بالقادسيّة قلن: لجّ وذلّت «1» وقد زاد هذا أمر القطع والاستئناف وتقدير الجواب، تأكيدا بأن وضع الظّاهر موضع المضمر، فقال: «كذب العواذل»: ولم يقل «كذبن»، وذلك أنه لما أعاد ذكر «العواذل» ظاهرا، كان ذلك أبين وأقوى، لكونه كلاما مستأنفا من حيث وضعه وضعا لا يحتاج فيه إلى ما قبله، وأتى به مأتى ما ليس قبله كلام ومما هو على ذلك قول الآخر: [من الوافر] زعمتم أنّ إخوتكم قريش! * لهم إلف، وليس لكم إلاف «2» وذلك أنّ قوله: «لهم إلف» تكذيب لدعواهم أنّهم من قريش، فهو إذن بمنزلة أن يقول: «كذبتم، لهم إلف، وليس لكم ذلك»: ولو قال: «زعمتم أنّ إخوتكم قريش ولهم إلف وليس لكم إلاف»، لصار بمنزلة أن يقول: «زعمتم أن أخواتكم قريش وكذبتم»، في أنه كان يخرج عن أن يكون موضوعا على أنه جواب سائل يقول له: «فماذا تقول في زعمهم ذلك وفي دعواهم؟» فاعرفه. واعلم أنّه لو أظهر «كذبتم»، لكان يجوز له أن يعطف هذا الكلام الذي هو قوله: «لهم إلف» عليه بالفاء، فيقول: «كذبتم فلهم إلف، وليس لكم ذلك». فأما الآن فلا مساغ لدخول الفاء البتّة، لأنه يصير حينئذ معطوفا بالفاء على قوله: «زعمتم

_ (1) البيتان في الإيضاح (157)، وهو في شرح الحماسة للتبريزي (1/ 162)، وجندب هو الشاعر ونسبه في معاهد التنصيص (1/ 281)، وقال: «جندب بن عمار». خبت: موضع بالشام وبلدة بزبيد، أجمت: أي تركت أن تركب. (2) البيت لمساور بن هند بن قيس بن زهير، من شعراء الحماسة يهجو بني أسد، وأورده القزويني في الإيضاح (158)، والسكاكي في مفتاح العلوم (271)، والإلف: الذي تألفه. إيلاف: العهد والذمام.

أنّ إخوتكم قريش»، وذلك يخرج إلى المحال، من حيث يصير كأنه يستشهد بقوله: «لهم إلف»، على أن هذا الزعم كان منهم، كما أنك إذا قلت: «كذبتم فلهم إلف»، كنت قد استشهدت بذلك على أنهم كذبوا، فاعرف ذلك. ومن اللطيف في الاستئناف، على معنى جعل الكلام جوابا في التقدير، قول اليزيديّ: [من السريع] ملّكته حبلي، ولكنّه ... ألقاه من زهد على غاربي وقال إني في الهوى كاذب، انتقم الله من الكاذب «1» استأنف قوله: «انتقم الله من الكاذب»، لأنه جعل نفسه كأنه يجيب سائلا قال له: «فما تقول فيما اتّهمك به من أنك كاذب؟» فقال أقول «انتقم الله من الكاذب». ومن النادر أيضا في ذلك قول الآخر: [من الخفيف] قال لي: كيف أنت؟ قلت: عليل، ... سهر دائم وحزن طويل «2» لما كان في العادة إذا قيل للرجل: «كيف أنت؟» فقال: «عليل»، أن يسأل ثانيا فيقال: «ما بك؟ وما علتك»، قدّر كأنه قد قيل له ذلك، فأتى بقوله: «سهر دائم» جوابا عن هذا السؤال المفهوم من فحوى الحال، فاعرفه: ومن الحسن البيّن في ذلك قول المتنبي: [من الوافر] وما عفت الرّياح له محلّا، ... عفاه من حدا بهم وساقا «3»

_ (1) البيتان أوردهما القزويني في الإيضاح (151)، وعزاهما لليزيدي، والطيبي في شرحه على مشكاة المصابيح (1/ 87)، وعقود الجمان (176)، إلقاء الحبل على الغارب: كناية عن الإهمال، واليزيدي: عالم شاعر راوية توفي سنة (292 هـ)، والبيتان في الأغاني لإبراهيم بن المدبر الشاعر الكاتب العباسي. (2) البيت أورده القزويني في الإيضاح (38، 156)، وهو بلا نسبة في التبيان للطيبي (1/ 146)، ومعاهد التنصيص (1/ 100)، والإشارات والتنبيهات (34)، وشرح المرشدي على عقود الجمان (1/ 52)، والشاهد من قوله: «عليل» لأن التقدير: أنا عليل، وفي قوله: «سهر دائم» لأن التقدير: حالي سهر دائم والحذف فيه للاختصار والاحتراز عن العبث مع ضيق المقام بسبب الضجر. (3) البيت في ديوانه (2/ 40)، من قصيدة في مدح سيف الدولة وقد أمر له بفرس وجارية، وقبله: أيدري الربع أي دم أرقا ... وأي قلوب هذا أكبر لب شاقا لنا ولأهله أبدا قلوب ... تلاقى في جسوم ما تلاقى والبيت أورده القزويني في الإيضاح (157)، والسكاكي في المفتاح (373). عفت: محت، محلا: مكانا، الحادي: من يسوق القافلة.

لما نفى أن يكون الذي يرى به من الدروس والعفاء من الرياح، وأن تكون التي فعلت ذلك، وكان في العادة إذا نفي الفعل الموجود الحاصل عن واحد فقيل: «لم يفعله فلان»، أن يقال: «فمن فعله؟» قدّر كأن قائلا قال: «قد زعمت أن الرياح لم تعف له محلّا، فما عفاه إذن؟»، فقال مجيبا له: «عفاه من حدا بهم وساقا». ومثله قول الوليد بن يزيد: [من الهزج] عرفت المنزل الخالي ... عفا من بعد أحوال عفاه كل حنّان ... عسوف الوبل هطّال «1» لما قال: «عفا من بعد أحوال»، قدّر كأنه قيل له: «فما عفاه؟» فقال: «عفاه كلّ حنّان». واعلم أن السؤال إذا كان ظاهرا مذكورا في مثل هذا، كان الأكثر أن لا يذكر الفعل في الجواب، ويقتصر على الاسم وحده. فأمّا مع الإضمار فلا يجوز إلا أن يذكر الفعل. تفسير هذا: أنه يجوز لك إذا قيل: «إن كانت الرياح لم تعفه فما عفاه؟» أن تقول: «من حدا بهم وساقا» ولا تقول: «عفاه من حدا»، كما تقول في جواب من يقول: «من فعل هذا؟»: زيد، ولا يجب أن تقول: «فعله زيد». وأمّا إذا لم يكن السؤال مذكورا كالذي عليه البيت، فإنه لا يجوز أن يترك ذكر الفعل. فلو قلت مثلا: «وما عفت الرياح له محلا، من حدا بهم وساقا»: تزعم أنك أردت «عفاه من حدا بهم»، ثم تركت ذكر الفعل، أحلت «2»، لأنه إنما يجوز تركه حيث يكون السؤال مذكورا، لأن ذكره فيه يدل على إرادته في الجواب، فإذا لم يؤت بالسؤال لم يكن العلم به سبيل، فاعرف ذلك. واعلم أن الذي تراه في التّنزيل من لفظ «قال» مفصولا غير معطوف، هذا هو التقدير فيه، والله أعلم. أعني مثل قوله تعالى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ. إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ. فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ. فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ [الذاريات:

_ (1) البيتان أوردهما القزويني في الإيضاح (157)، وعزاهما للوليد، والسكاكي في المفتاح (373)، وهما في شعر الوليد بن يزيد في المجموع، والأغاني (7/ 32). (2) أي: جئت بالمحال.

24 - 28]، جاء على ما يقع في أنفس المخلوقين من السّؤال. فلما كان العرف والعادة فيما بين المخلوقين إذا قيل لهم: «دخل قوم على فلان فقالوا كذا»، أن يقولوا: «فما قال هو؟»، ويقول المجيب: «قال كذا»، أخرج الكلام ذلك المخرج، لأنّ الناس خوطبوا بما يتعارفونه، وسلك باللفظ معهم المسلك الذي يسلكونه. وكذلك قوله: «قال ألا تأكلون»، وذلك أن قوله: «فجاء بعجل سمين. فقرّبه إليهم»، يقتضي أن يتبع هذا الفعل بقول، فكأنه قيل والله أعلم: «فما قال حين وضع الطعام بين أيديهم؟»، فأتى قوله: «قال ألا تأكلون»، جوابا عن ذلك. وكذا «قالوا لا تخف»، لأن قوله: «فأوجس منهم خيفة»، يقتضي أن يكون من الملائكة كلام في تأنيسه وتسكينه مما خامره، فكأنه قيل: «فما قالوا حين رأوه وقد تغيّر ودخلته الخيفة؟» فقيل: «قالوا لا تخف». وذلك، والله أعلم، المعنى في جميع ما يجيء منه على كثرته، كالذي يجيء في قصّة فرعون عليه اللّعنة، وفي ردّ موسى عليه السلام عليه كقوله: قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ. قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ. قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ. قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ. قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ. قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ. قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ. قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ. قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الشعراء: 23 - 31]، جاء ذلك كله، والله أعلم، على تقدير السؤال والجواب كالذي جرت به العادة فيما بين المخلوقين، فلما كان السامع منّا إذا سمع الخبر عن فرعون بأنه قال: «وما رب العالمين؟»، وقع في نفسه أن يقول: «فما قال موسى له؟» أتى قوله: «قال ربّ السماوات والأرض»، مأتى الجواب مبتدأ مفصولا غير معطوف. وهكذا التقدير والتفسير أبدا في كل ما جاء فيه لفظ «قال» هذا المجيء، وقد يكون الأمر في بعض ذلك أشدّ وضوحا. - فممّا هو في غاية الوضوح قوله تعالى: قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ. قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ [الحجر: 57 - 58]، وذلك لأنّه لا يخفى على عاقل أنه جاء على معنى الجواب، وعلى أن نزّل السامعون كأنهم قالوا: «فما قال له الملائكة؟»، فقيل: «قالوا إنّا أرسلنا إلى قوم مجرمين». وكذلك قوله عز وجل في سورة يس: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ

[فصل: في نكتة عطف الجملة على ما قبل التي تليها]

جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ. إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ. قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ. قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ [يس: 13 - 21]، التقدير الذي قدّرناه من معنى السؤال والجواب بيّن ظاهر في ذلك كله، ونسأل الله التوفيق للصواب، والعصمة من الزّلل. [فصل: في نكتة عطف الجملة على ما قبل التي تليها] وإذ قد عرفت هذه الأصول والقوانين في شأن فصل الجمل ووصلها، فاعلم أنّا قد حصلنا من ذلك على أن الجمل على ثلاثة أضرب: جملة حالها مع التي قبلها حال الصّفة مع الموصوف والتأكيد مع المؤكد، فلا يكون فيها العطف البتّة، لشبه العطف فيها، لو عطفت، بعطف الشيء على نفسه. وجملة حالها مع التي قبلها حال الاسم يكون غير الذي قبله، إلّا أنه يشاركه في حكم، ويدخل معه في معنى، مثل أن يكون كلا الاسمين فاعلا أو مفعولا أو مضافا إليه، فيكون حقّها العطف. وجملة ليست في شيء من الحالين، بل سبيلها مع التي قبلها سبيل الاسم مع الاسم لا يكون منه في شيء، فلا يكون إيّاه ولا مشاركا له في معنى، بل هو شيء إن ذكر لم يذكر إلّا بأمر ينفرد به، ويكون ذكر الذي قبله وترك الذكر سواء في حاله، لعدم التعلّق بينه وبينه رأسا. وحقّ هذا ترك العطف البتة. فترك العطف يكون إما للاتصال إلى الغاية أو الانفصال إلى الغاية، والعطف لما هو واسطة بين الأمرين، وكان له حال بين حالين، فاعرفه. [فصل منه في أن امتياز العبارة بالتأثير] هذا فن من القول خاصّ دقيق. اعلم أن مما يقلّ نظر الناس فيه من أمر «العطف» أنه قد يؤتى بالجملة فلا تعطف على ما يليها، ولكن تعطف على جملة بينها وبين هذه التي تعطف جملة أو جملتان، مثال ذلك قول المتنبي: [من الوافر]

تولّوا بغتة، فكأن بينا ... تهيّبني، ففاجأني اغتيالا فكان مسير عيسهم ذميلا، ... وسير الدّمع إثرهم انهمالا «1» قوله: «فكان مسير عيسهم»، معطوف على «تولّوا بغتة»، دون ما يليه من قوله: «ففاجأني»، لأنا إن عطفناه على هذا الذي يليه أفسدنا المعنى، من حيث أنه يدخل في معنى «كأنّ»، وذلك يؤدي إلى أن لا يكون مسير عيسهم حقيقة، ويكون متوهّما، كما كان تهيّب البين كذلك. وهذا أصل كبير. والسبب في ذلك أن الجملة المتوسطة بين هذه المعطوفة أخيرا، وبين المعطوف عليها الأولى، ترتبط في معناها بتلك الأولى، كالذي ترى أنّ قوله: «فكأنّ بينا تهيّبني»، مرتبط بقوله: «تولوا بغتة»، وذلك أن الثانية مسبّب والأولى سبب. ألا ترى أن المعنى: «تولوا بغتة فتوهمت أنّ بينا تهيّبني؟» ولا شك أن هذا التوهّم كان بسبب أن كان التّولّي بغتة. وإذا كان كذلك، كانت مع الأولى كالشيء الواحد، وكان منزلتها منها منزلة المفعول والظّرف وسائر ما يجيء بعد تمام الجملة من معمولات الفعل، مما لا يمكن إفراده عن الجملة، وأن يعتدّ كلاما على حدته. وهاهنا شيء آخر دقيق، وهو أنك إذا نظرت إلى قوله: «فكان مسير عيسهم ذميلا»، وجدته لم يعطف هو وحده على ما عطف عليه، ولكن تجد العطف قد تناول جملة البيت مربوطا آخره بأوّله. ألا ترى أن الغرض من هذا الكلام أن يجعل تولّيهم بغتة، وعلى الوجه الذي توهّم من أجله أن البين تهيّبه، مستدعيا بكاءه، وموجبا أن ينهمل دمعه، فلم يعنه أن يذكر ذملان العيس إلا ليذكر هملان الدمع، وأن يوفّق بينهما. وكذلك الحكم في الأوّل، فنحن وإن كنا قلنا إن العطف على «تولوا بغتة»، فإنّا لا نعني أن العطف عليه وحده مقطوعا عما بعده، بل العطف عليه مضموما إليه ما بعده إلى آخره، وإنما أردنا بقولنا «إن العطف عليه»، أن نعلمك أن الأصل

_ (1) البيتان في ديوانه (1/ 183) من قصيدة في مدح أبي الحسين بدر بن عمار بن إسماعيل الأسدي الطبرستاني، وقبلهما: بقائي شاء ليس هم ارتحالا ... وحسن الصبر زموا لا الجمالا تولوا: أدبروا. البغتة: الفجأة. تهيبني: هابني. اغتيال: أخذ المرء من حيث لا يدري. العيس: الإبل. انهمالا: انسكابا. الذميل: ضرب من السير سريع ..

والقاعدة، وأن نصرفك عن أن تطرحه، وتجعل العطف على ما يلي هذا الذي تعطفه، فتزعم أن قوله: «فكان مسير عيسهم» معطوف على «فاجأني»، فتقع في الخطأ كالذي أريناك. فأمر العطف إذن، موضوع على أنك تعطف تارة جملة على جملة، وتعمد أخرى إلى جملتين أو جمل فتعطف بعضا على بعض، ثم تعطف مجموع هذي على مجموع تلك. وينبغي أن يجعل ما يصنع في الشرط والجزاء من هذا المعنى أصلا يعتبر به. وذلك أنك ترى، متى شئت، جملتين قد عطفت إحداهما على الأخرى، ثم جعلتا بمجموعهما شرطا، ومثال ذلك قوله تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً [النساء: 112]، الشّرط كما لا يخفى في مجموع الجملتين لا في كل واحدة منهما على الانفراد، ولا في واحدة دون الأخرى، لأنّا إن قلنا أنّه في كل واحدة منهما على الانفراد، جعلناهما شرطين، وإذا جعلناهما شرطين اقتضتا جزاءين، وليس معنا إلا جزاء واحد. وإن قلنا إنه في واحدة منهما دون الأخرى، لزم منه إشراك ما ليس بشرط في الجزم بالشرط، وذلك ما لا يخفى فساده. ثم إنا نعلم من طريق المعنى أنّ الجزاء الذي هو احتمال البهتان والإثم المبين، أمر يتعلق إيجابه لمجموع ما حصل من الجملتين، فليس هو لاكتساب الخطيئة على الانفراد، ولا لرمي البريء بالخطيئة أو الإثم على الإطلاق، بل لرمي الإنسان البريء بخطيئة أو إثم كان من الرامي، وكذلك الحكم أبدا. فقوله تعالى: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء: 100]، لم يعلّق الحكم فيه بالهجرة على الانفراد، بل بها مقرونا إليها أن يدركه الموت عليها. واعلم أنّ سبيل الجملتين في هذا، وجعلهما بمجموعهما بمنزلة الجملة الواحدة، سبيل الجزءين تعقد منهما الجملة، ثم يجعل المجموع خبرا أو صفة أو حالا، كقولك: «زيد قام غلامه» و «زيد أبوه كريم» و «مررت برجل أبوه كريم» و «جاءني زيد يعدو به فرسه». فكما يكون الخبر والصّفة والحال لا محالة في مجموع الجزءين لا في أحدهما، كذلك يكون الشرط في مجموع الجملتين لا في إحداهما. وإذا علمت ذلك في الشّرط، فاحتذه في العطف، فإنك تجده مثله سواء.

ومما لا يكون العطف فيه إلّا على هذا الحدّ قوله تعالى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ. وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [القصص: 44 - 45]، لو جريت على الظاهر فجعلت كلّ جملة معطوفة على ما يليها، منع منه المعنى. وذلك أنه يلزم منه أن يكون قوله: «وما كنت ثاويا في أهل مدين»، معطوفا على قوله: «فتطاول عليهم العمر»، وذلك يقتضي دخوله في معنى «لكن»، ويصير كأنه قيل: «ولكنّك ما كنت ثاويا»، وذلك ما لا يخفى فساده. وإذا كان كذلك، بان منه أنّه ينبغي أن يكون قد عطف مجموع «وما كنت ثاويا في أهل مدين» إلى «مرسلين»، على مجموع قوله: «وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر» إلى قوله «العمر». فإن قلت: فهلّا قدّرت أن يكون «وما كنت ثاويا في أهل مدين» معطوفا على «وما كنت من الشّاهدين»، دون أن تزعم أنّه معطوف عليه مضموما إليه ما بعده إلى قوله «العمر»؟ قيل: لأنّا إن قدّرنا ذلك، وجب أن ينوى به التقديم على قوله: «ولكنّا أنشأنا قرونا» وأن يكون الترتيب «وما كنت بجانب الغربيّ إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين، وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر ولكنّا كنا مرسلين»، وفي ذلك إزالة «لكن» عن موضعها الذي ينبغي أن تكون فيه. ذاك لأن سبيل «لكن» سبيل «إلّا»، فكما لا يجوز أن تقول: «جاءني القوم وخرج أصحابك إلّا زيدا وإلا عمرا» بجعل «إلا زيدا» استثناء «من جاءني القوم»، و «إلا عمرا» من «خرج أصحابك»، كذلك لا يجوز أن تصنع مثل ذلك «بلكن» فتقول: «ما جاءني زيد، وما خرج عمرو ولكنّ بكرا حاضرا، ولكنّ أخاك خارج»، فإذا لم يجز ذلك، وكان تقديرك الذي زعمت يؤدّي إليه، وجب أن تحكم بامتناعه. فاعرفه. هذا، وإنما تجوز نيّة التأخير في شيء معناه يقتضي له ذلك التأخير، مثل أن كون الاسم مفعولا، يقتضي له أن يكون بعد الفاعل، فإذا قدّم على الفاعل نوي به التأخير، ومعنى «لكن» في الآية، يقتضي أن تكون في موضعها الذي هي فيه، فكيف يجوز أن ينوى بها التأخير عنه إلى موضع آخر؟.

[فصل منه في أن معارضة الكلام في البلاغة بحسب معناه لا لفظه]

هذه فصول شتّى في أمر «اللفظ» و «النظم» فيها فصل شحذ للبصيرة، وزيادة كشف عمّا فيها من السريرة [فصل منه في أن معارضة الكلام في البلاغة بحسب معناه لا لفظه] وغلط النّاس في هذا الباب كثير. فمن ذلك أنّك تجد كثيرا ممن يتكلّم في شأن البلاغة، إذا ذكر أن للعرب الفضل والمزيّة في حسن النظم والتأليف، وأن لها في ذلك شأوا لا يبلغه الدّخلاء في كلامهم والمولّدون، جعل يعلّل ذلك بأن يقول: «لا غرو، فإن اللّغة لها بالطّبع ولنا بالتكلّف، ولكن يبلغ الدّخيل في اللغات والألسنة مبلغ من نشأ عليها، وبدئ من أوّل خلقه بها»، وأشباه هذا مما يوهم أن المزية أتتها من جانب العلم باللّغة. وهو خطأ عظيم وغلط منكر يفضي بقائله إلى رفع الإعجاز من حيث لا يعلم. وذلك أنه لا يثبت إعجاز حتى تثبت مزايا تفوق علوم البشر، وتقصر قوى نظرهم عنها، ومعلومات ليس في منن «1» أفكارهم وخواطرهم أن تفضي بهم إليها، وأن تطلعهم عليها، وذلك محال فيما كان علما باللغة، لأنه يؤدّي إلى أن يحدث في دلائل اللغة ما لم يتواضع عليها أهل اللغة. وذلك ما لا يخفى امتناعه على عاقل. واعلم أنا لم نوجب المزيّة من أجل العلم بأنفس الفروق والوجوه فنستند إلى اللغة، ولكنا أوجبناها للعلم بمواضعها، وما ينبغي أن يصنع فيها، فليس الفضل للعلم بأن «الواو» للجمع، و «الفاء» للتعقيب بغير تراخ، و «ثم» له بشرط التراخي، و «إن» لكذا و «إذا» لكذا، ولكن لأن يتأتّى لك إذا نظمت شعرا وألّفت رسالة أن تحسن التخيّر، وأن تعرف لكلّ من ذلك موضعه. وأمر آخر إذا تأمله الإنسان أنف من حكاية هذا القول، فضلا عن اعتقاده، وهو أنّ المزية لو كانت تجب من أجل اللّغة والعلم بأوضاعها وما أراده الواضع فيها، لكان ينبغي أن لا تجب إلا بمثل الفرق بين «الفاء» و «ثم» و «إن» و «إذا» وما أشبه ذلك، مما يعبّر عنه وضع لغويّ، فكانت لا تجب بالفضل وترك العطف، وبالحذف والتّكرار، والتقديم والتأخير، وسائر ما هو هيئة يحدثها لك التأليف، ويقتضيها الغرض الذي تؤمّ، والمعنى الذي تقصد، وكان ينبغي أن لا تجب المزيّة بما يبتدئه الشاعر والخطيب في كلامه من استعارة اللّفظ للشيء لم يستعر له، وأن لا تكون الفضيلة إلّا في استعارة قد تعورفت في كلام العرب. وكفى بذلك جهلا.

_ (1) المنة: بالضم القوة. القاموس «منن» (1594).

ولم يكن هذا الاشتباه وهذا الغلط إلّا لأنه ليس في جملة الخفايا والمشكلات أغرب مذهبا في الغموض، ولا أعجب شأنا، من هذه التي نحن بصددها، ولا أكثر تفلّتا من الفهم وانسلالا منها، وأنّ الذي قاله العلماء والبلغاء في صفتها والإخبار عنها، رموز لا يفهمهما إلا من هو في مثل حالهم من لطف الطبع، ومن هو مهيّأ لفهم تلك الإشارات، حتى كأنّ تلك الطباع اللطيفة وتلك القرائح والأذهان، قد تواضعت فيما بينها على ما سبيله سبيل الترجمة يتواطأ عليها قوم فلا تعدوهم، ولا يعرفها من ليس منهم. وليت شعري من أين لمن لم يتعب في هذا الشأن، ولم يمارسه، ولم يوفّر عنايته عليه، أن ينظر إلى قول الجاحظ وهو يذكر إعجاز القرآن: «ولو أنّ رجلا قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم سورة قصيرة أو طويلة، لتبيّن له في نظامها ومخرجها من لفظها وطابعها، أنه عاجز عن مثلها، ولو تحدّي بها أبلغ العرب لأظهر عجزه عنها» «1». وقوله وهو يذكر رواة الأخبار: «ورأيت عامّتهم، فقد طالت مشاهدتي لهم، وهم لا يقفون على الألفاظ المتخيّرة، والمعاني المنتخبة، والمخارج السهلة، والدّيباجة الكريمة، وعلى الطبع المتمكّن، وعلى السّبك الجيد، وعلى كل كلام له ماء ورونق» «2». وقوله في بيت الحطيئة: [من الطويل] متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد «وما كان ينبغي أن يمدح بهذا البيت إلّا من هو خير أهل الأرض، على أني لم أعجب بمعناه أكثر من عجبي بلفظه، وطبعه، ونحته، وسبكه، فيفهم منه شيئا أو يقف للطابع والنّظام والنّحت والسّبك والمخارج السّهلة، على معنى، أو يحلى منه بشيء، وكيف بأن يعرفه؟ ولربما خفي على كثير من أهله». واعلم أنّ الداء الدّويّ «3»، والذي أعيى أمره في هذا الباب، غلط من قدّم الشعر بمعناه، وأقل الاحتفال باللفظ، وجعل لا يعطيه من المزيّة إن هو أعطى إلّا ما فضل عن المعنى يقول: «ما في اللفظ لولا المعنى؟ وهل الكلام إلا بمعناه؟». فأنت تراه لا

_ (1) وهو في كتابه «حجج النبوة» (رسائل الجاحظ 3/ 229). (2) المقصود عامة رواة الأخبار والعبارة من البيان والتبيين (4/ 42). (3) الداء الدوي: أي اللازم مكانه «القاموس: دوى» (1656).

يقدّم شعرا حتى يكون قد أودع حكمة وأدبا، واشتمل على تشبيه غريب ومعنى نادر، فإن مال إلى اللفظ شيئا، ورأى أن ينحله بعض الفضيلة، لم يعرف غير «الاستعارة»، ثم لا ينظر في حال تلك «الاستعارة» أحسنت بمجرّد كونها استعارة، أم من أجل فرق ووجه أم للأمرين؟ لا يحفل بهذا وشبهه، قد قنع بظواهر الأمور، وبالجمل، بأن يكون كمن يجلب المتاع للبيع، وإنّما همّه أن يروّج عنه. يرى أنّه إذا تكلم في الأخذ والسرقة، وأحسن أن يقول: «أخذه من فلان، وألمّ فيه بقول كذا»، فقد استكمل الفضل، وبلغ أقصى ما يراد. واعلم أنّا وإن كنا إذا اتّبعنا العرف والعادة وما يهجس في الضمير وما عليه العامّة، أرانا ذلك أن الصّواب معهم، وأنّ التعويل ينبغي أن يكون على المعنى، وأنه الذي لا يسوغ القول بخلافه، فإنّ الأمر بالضدّ إذا جئنا إلى الحقائق، وإلى ما عليه المحصّلون، لأنّا لا نرى متقدّما في علم البلاغة، مبرّزا في شأوها، إلّا وهو ينكر هذا الرأي ويعيبه، ويزري على القائل به ويغضّ منه. ومن ذلك ما روي عن البحتري. روي أنّ عبيد الله بن عبد الله بن طاهر سأله عن مسلم وأبي نواس: أيّهما أشعر؟ فقال: أبو نواس. فقال: إن أبا العباس ثعلبا لا يوافقك على هذا. فقال: ليس هذا من شأن ثعلب وذويه، من المتعاطين لعلم الشعر دون عمله، إنّما يعلم ذلك من دفع في مسلك طريق الشعر إلى مضايقه وانتهى إلى ضروراته. وعن بعضهم أنه قال: رآني البحتري ومعي دفتر شعر فقال: ما هذا؟ فقلت: شعر الشّنفرى. فقال: وإلى أين تمضي؟ فقلت: إلى أبي العباس أقرؤه عليه. فقال: قد رأيت أبا عبّاسكم هذا منذ أيام عند ابن ثوابة فما رأيته ناقدا للشعر ولا مميّزا للألفاظ، ورأيته يستجيد شيئا وينشده، وما هو بأفضل الشعر. فقلت له: أمّا نقده وتمييزه فهذه صناعة أخرى، ولكنه أعرف الناس بإعرابه وغريبه، فما كان ينشد؟ قال قول الحارث بن وعلة: [من الكامل] قومي هم قتلوا أميم، أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي فلئن عفوت لأعفون جللا، ... ولئن سطوت لأوهنن عظمي «1»

_ (1) البيتان للحارث بن وعلة الجرمي، وهما في مفتاح العلوم (281)، والإيضاح (51)، والدرر (5/ 123)، وسمط اللآلي (305، 584)، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي (304)، وشرح شواهد المغني (1/ 63)، وشرح الحماسة للتبريزي (1/ 107)، والمؤتلف والمختلف للآمدي (197). وأميم: منادى مرخم أميمة، وكانت تحضه على الأخذ بثأر أخيه ممن قتله من قومه.

فقلت: والله ما أنشد إلّا أحسن شعر في أحسن معنى ولفظ. فقال: أين الشعر الّذي فيه عروق الذهب؟ فقلت: مثل ماذا؟ فقال: مثل قول أبي ذؤاب: [من الكامل] إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم ... بعتيبة بن الحارث بن شهاب بأشدّهم كلبا على أعدائه ... وأعزّهم فقدا على الأصحاب «1» - وفي مثل هذا قال الشّاعر: [من الطويل] زوامل للأشعار لا علم عندهم ... بجيّدها إلّا كعلم الأباعر لعمرك ما يدري البعير إذا غدا ... بأوساقه أو راح ما في الغرائر «2» وقال الآخر «3»: [من الخفيف] يا أبا جعفر تحكّم في الشّع ... ر وما فيك آلة الحكّام إنّ نقد الدّينار إلّا على الصّي ... رف صعب، فكيف نقد الكلام قد رأيناك لست تفرق في الأش ... عار بين الأرواح والأجسام واعلم أنّهم لم يعيبوا تقديم الكلام بمعناه من حيث جهلوا أن المعنى إذا كان أدبا وحكمة وكان غريبا نادرا، فهو أشرف مما ليس كذلك، بل عابوه من حيث كان من حكم من قضى في جنس من الأجناس بفضل أو نقص، أن لا يعتبر في قضيّته تلك إلا الأوصاف التي تخصّ ذلك الجنس وترجع إلى حقيقته، وأن لا ينظر فيها إلى جنس آخر، وإن كان من الأول بسبيل، أو متّصلا به اتصال ما لا ينفكّ منه. ومعلوم أن سبيل الكلام سبيل التصوير والصّياغة، وأنّ سبيل المعنى الذي يعبّر عنه سبيل الشيء الذي يقع التّصوير والصوغ فيه، كالفضة والذهب يصاغ منهما خاتم أو سوار. فكما أن محالا إذا أنت أردت النّظر في صوغ الخاتم، وفي جودة العمل ورداءته، أن تنظر إلى الفضّة الحاملة لتلك الصورة، أو الذهب الذي وقع فيه

_ (1) البيتان لربيعة بن سعد، وقيل: لداود بن ربيعة الأسدي، انظر الإشارات (288)، والبيت الأول في الإيضاح (332). (2) الشعر لمروان بن أبي حفصة. الزوامل: جمع زاملة وهو البعير يحمل عليه الرجل زاده ومتاعه. والأوساق جمع وسق: الحمل، الغرائر: جمع غرارة، وهي الجوالق، الكامل للمبرد (2/ 90)، واللسان (زمل). (3) اختلف المؤرخون في اسمه ففي مقدمة ديوان أبي نواس اسمه أحمد بن يحيى بن علي، في (المصون: 12) هو يحيى بن علي أبو أحمد ... والأبيات موجودة في المصون (12 - 13) وفي وفيات الأعيان (2/ 20).

ذلك العمل وتلك الصنعة، كذلك محال إذا أردت أن تعرف مكان الفضل والمزيّة في الكلام، أن تنظر في مجرّد معناه، وكما أنّا لو فضّلنا خاتما على خاتم، بأن تكون فضّة هذا أجود، أو فصّه أنفس، لم يكن ذلك تفضيلا له من حيث هو خاتم، كذلك ينبغي إذا فضّلنا بيتا على بيت من أجل معناه، أن لا يكون تفضيلا له من حيث هو شعر وكلام. وهذا قاطع، فاعرفه. واعلم أنك لست تنظر في كتاب صنّف في شأن البلاغة، وكلام جاء عن القدماء، إلا وجدته يدلّ على فساد هذا المذهب، ورأيتهم يتشدّدون في إنكاره وعيبه والعيب به. وإذا نظرت في كتب الجاحظ وجدته يبلغ في ذلك كل مبلغ، ويتشدّد غاية التشدد، وقد انتهى في ذلك إلى أن جعل العلم بالمعاني مشتركا، وسوّى فيه بين الخاصّة والعامّة فقال «1»: «ورأيت ناسا يبهرجون أشعار المولدين، ويستسقطون من رواها، ولم أر ذلك قطّ إلا في راوية غير بصير بجوهر ما يروي، وو لو كان له بصر لعرف موضع الجيّد ممن كان، وفي أي زمان كان. وأنا سمعت أبا عمرو الشّيباني، وقد بلغ من استجادته لهذين البيتين ونحن في المسجد الجامع يوم الجمعة، أن كلّف رجلا حتّى أحضره قرطاسا ودواة حتى كتبهما. قال الجاحظ: وأنا أزعم أن صاحب هذين البيتين لا يقول شعرا أبدا، ولولا أن أدخل في الحكومة بعض الغيب، لزعمت أن ابنه لا يقول الشعر أيضا، وهما قوله: [من السريع] لا تحسبنّ الموت موت البلى ... وإنّما الموت سؤال الرّجال كلاهما موت، ولكنّ ذا ... أشدّ من ذاك على كلّ حال ثم قال: «وذهب الشيخ إلى استحسان المعاني، والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجميّ والعربيّ، والقرويّ والبدويّ، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخيّر اللّفظ، وسهولة المخرج، وصحّة الطبع، وكثرة الماء، وجودة السّبك، وإنّما الشعر صياغة وضرب من التصوير». فقد تراه كيف أسقط أمر المعاني، وأبى أن يجب لها فضل: «وهي مطروحة في الطريق»، ثم قال: «وأنا أزعم أن ابن صاحب هذين البيتين لا يقول شعرا أبدا»، فأعلمك أنّ فضل الشعر بلفظه لا بمعناه، وأنه إذا عدم الحسن في لفظه ونظمه، لم يستحقّ هذا الاسم بالحقيقة. وأعاد طرفا من هذا الحديث في البيان» فقال «2»:

_ (1) المقطع من كتاب الحيوان 3/ 131 ويأتي بعدهما البيتان. (2) انظر كتاب البيان والتبيين للجاحظ (4/ 24).

[فصل: لا يكون لإحدى العبارتين مزية على الأخرى حتى يكون لها في المعنى تأثير]

«ولقد رأيت أبا عمرو الشيبانيّ يكتتب أشعارا من أفواه جلسائه ليدخلها في باب التّحفظ والتذكّر، وربما خيّل إليّ أن أبناء أولئك الشعراء لا يستطيعون أبدا أن يقولوا شعرا جيّدا، لمكان أعراقهم من أولئك الآباء»، ثم قال: «ولولا أن أكون عيّابا، ثم للعلماء خاصّة، لصوّرت لك بعض ما سمعت من أبي عبيدة، ومن هو أبعد في وهمك من أبي عبيدة». واعلم أنهم لم يبلغوا في إنكار هذا المذهب ما بلغوه إلّا لأنّ الخطأ فيه عظيم، وأنه يفضي بصاحبه إلى أن ينكر الإعجاز ويبطل التّحدّي من حيث لا يشعر. وذلك أنه إن كان العمل على ما يذهبون إليه، من أن لا يجب فضل ومزيّة إلا من جانب المعنى، وحتى يكون قد قال حكمة أو أدبا، واستخرج معنى غريبا أو تشبيها نادرا، فقد وجب اطّراح جميع ما قاله الناس في الفصاحة والبلاغة، وفي شأن النظم والتأليف، وبطل أن يجب بالنظم فضل، وأن تدخله المزيّة، وأن تتفاوت فيه المنازل. وإذا بطل ذلك، فقد بطل أن يكون في الكلام معجز، وصار الأمر إلى ما يقوله اليهود ومن قال بمثل مقالهم في هذا الباب، ودخل في مثل تلك الجهالات، ونعوذ بالله من العمى بعد الإبصار. [فصل: لا يكون لإحدى العبارتين مزيّة على الأخرى حتى يكون لها في المعنى تأثير] لا يكون لإحدى العبارتين مزيّة على الأخرى، حتّى يكون لها في المعنى تأثير لا يكون لصاحبتها. فإن قلت: فإذا أفادت هذه ما لا تفيد تلك، فليستا عبارتين عن معنى واحد، بل هما عبارتان عن معنيين اثنين. قيل لك: إن قولنا «المعنى» في مثل هذا، يراد به الغرض، والذي أراد المتكلم أن يثبته أو ينفيه، نحو أن تقصد تشبيه الرجل بالأسد فتقول «زيد كالأسد»، ثم تريد هذا المعنى بعينه فتقول: «كأنّ زيدا الأسد»، فتفيد تشبيه أيضا بالأسد، إلّا أنك تزيد في معنى تشبيهه به زيادة لم تكن في الأوّل، وهي أن تجعله من فرط شجاعته وقوة قلبه، وأنه لا يروعه شيء، بحيث لا يتميز عن الأسد، ولا يقصّر عنه، حتى يتوهّم أنّه أسد في صورة آدميّ. وإذا كان هذا كذلك، فانظر هل كانت هذه الزيادة وهذا الفرق إلا بما توخّي في نظم اللفظ وترتيبه، حيث قدّم «الكاف» إلى صدر الكلام وركّبت مع «أن»؟ وإذا

فصل هو فن آخر يرجع إلى هذا الكلام

لم يكن إلى الشك سبيل أن ذلك كان بالنّظم، فاجعله العبرة في الكلام كلّه، ورض نفسك على تفهّم ذلك وتتبّعه، واجعل فيها أنك تزاول منه أمرا عظيما لا يقادر قدره، وتدخل في بحر عميق لا يدرك قعره. فصل هو فنّ آخر يرجع إلى هذا الكلام قد علم أنّ المعارض للكلام معارض له من الجهة التي منها يوصف بأنه فصيح وبليغ، ومتخيّر اللفظ جيّد السّبك، ونحو ذلك من الأوصاف التي نسبوها إلى اللفظ. وإذا كان هذا هكذا، فبنا أن ننظر فيما إذا أتي به كان معارضا ما هو؟ أهو أن يجيء بلفظ فيضعه مكان لفظ آخر، نحو أن يقول بدل «أسد» «ليث»، وبدل «بعد» «نأى»، ومكان «قرب» «دنا»، أم ذلك ما لا يذهب إليه عاقل ولا يقوله من به طرق «1»؟ كيف؟ ولو كان ذلك معارضة لكان الناس لا يفصلون بين الترجمة والمعارضة، ولكان كل من فسّر كلاما معارضا له. وإذا بطل أن يكون جهة للمعارضة، وأن يكون الواضع نفسه في هذه المنزلة معارضا على وجه من الوجوه، علمت أن الفصاحة والبلاغة وسائر ما يجري في طريقهما أوصاف راجعة إلى المعاني، وإلى ما يدلّ عليه بالألفاظ، دون الألفاظ أنفسها، لأنه إذا لم يكن في القسمة إلّا المعاني والألفاظ، وكان لا يعقل تعارض في الألفاظ المجرّدة، إلّا ما ذكرت، لم يبق إلا أن تكون المعارضة معارضة من جهة إلى معاني الكلام المعقولة، دون ألفاظه المسموعة. وإذا عادت المعارضة إلى جهة المعنى، وكان الكلام يعارض من حيث هو فصيح وبليغ ومتخيّر اللفظ، حصل من ذلك أنّ «الفصاحة» و «البلاغة» و «تخيّر اللفظ» عبارة عن خصائص ووجوه تكون معاني الكلام عليها، وعن زيادات تحدث في أصول المعاني، كالذي أريتك فيما بين «زيد كالأسد» و «كأن زيدا الأسد»، وبأن لا نصيب للألفاظ من حيث هي ألفاظ فيها بوجه من الوجوه. واعلم أنك لا تشفي العلّة ولا تنتهي إلى ثلج اليقين، حتى تتجاوز حدّ العلم بالشيء مجملا، إلى العلم به مفصّلا، وحتى لا يقنعك إلّا النّظر في زواياه، والتغلغل في مكامنه، وحتى تكون كمن تتبّع الماء حتى عرف منبعه، وانتهى في البحث عن جوهر العود الذي يصنع فيه إلى أن يعرف منبته، ومجرى عروق الشّجر الذي هو منه.

_ (1) طرق بكسر الطاء القوة. القاموس/ طرق/ (1166).

وإنا لنراهم يقيسون الكلام في معنى المعارضة على الأعمال الصناعية، كنسج الدّيباج وصوغ الشّنف «1» والسوار وأنواع ما يصاغ، وكلّ ما هو صنعة وعمل يد، بعد أن يبلغ مبلغا يقع التفاضل فيه، ثم يعظم حتى يزيد فيه الصانع على الصانع زيادة يكون له بها صيت، ويدخل في حدّ ما يعجز عنه الأكثرون. وهذا القياس، وإن كان قياسا ظاهرا معلوما، وكالشيء المركوز في الطّباع، حتى ترى العامّة فيه كالخاصّة، فإنّ فيه أمرا يجب العلم به: وهو أنه يتصوّر أن يبدأ هذا فيعمل ديباجا ويبدع في نقشه وتصويره، فيجيء آخر ويعمل ديباجا آخر مثله في نقشه وهيئته وجملة صفته، حتى لا يفصل الرائي بينهما، ولا يقع لمن لم يعرف القصّة ولم يخبر الحال إلّا أنّهما صنعة رجل واحد، وخارجان من تحت يد واحدة. وهكذا الحكم في سائر المصنوعات كالسّوار يصوغه هذا، ويجيء ذاك فيعمل سوارا مثله، ويؤدّي صفته كما هي، حتى لا يغادر منها شيئا البتّة. وليس يتصوّر مثل ذلك في الكلام، لأنه لا سبيل إلى أن تجيء إلى معنى بيت من الشّعر، أو فصل من النثر، فتؤدّيه بعينه وعلى خاصّيته وصفته بعبارة أخرى، حتى يكون المفهوم من هذه هو المفهوم من تلك، لا يخالفه في صفة ولا وجه ولا أمر من الأمور. ولا يغرّنّك قول الناس: «قد أتى بالمعنى بعينه، وأخذ معنى كلامه فأدّاه على وجه»، فإنه تسامح منهم، والمراد أنه أدّى الغرض، فأمّا أن يؤدي المعنى بعينه على الوجه الذي يكون عليه في كلام الأوّل، حتى لا تعقل هاهنا إلا ما عقلته هناك، وحتى يكون حالهما في نفسك حال الصّورتين المشتبهتين في عينك كالسوارين والشّنفين، في غاية الإحالة، وظنّ يفضي بصاحبه إلى جهالة عظيمة، وهي أن تكون الألفاظ مختلفة المعاني إذا فرّقت، ومتّفقتها إذا جمعت وألّف منها كلام. وذلك أن ليس كلامنا فيما يفهم من لفظتين مفردتين نحو «قعد» و «جلس»، ولكن فيما فهم من مجموع كلام ومجموع كلام آخر، نحو أن تنظر في قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [البقرة: 179]، وقول الناس: «قتل البعض إحياء للجميع»، فإنّه وإن كان قد جرت عادة الناس بأن يقولوا في مثل هذا: «إنهما عبارتان معبّرهما واحد»، فليس هذا القول قولا يمكن الأخذ بظاهره، أو يقع لعاقل شكّ أن ليس المفهوم من أحد الكلامين المفهوم من الآخر.

_ (1) الشنف: القرط الأعلى أو معلاق في قوف الأذن أي: أعلى الأذن. القاموس/ شنف/ (1067).

فصل: الكلام ضربان

فصل: الكلام ضربان الكلام على ضربين: ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللّفظ وحده، وذلك إذا قصدت أن تخبر عن «زيد» مثلا بالخروج على الحقيقة، فقلت: «خرج زيد»، وبالانطلاق عن «عمرو» فقلت: «عمرو منطلق»، وعلى هذا القياس- ضرب آخر أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، ولكن يدلّك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض. ومدار هذا الأمر على «الكناية» و «الاستعارة» و «التّمثيل»، وقد مضت الأمثلة فيها مشروحة مستقصاة. أو لا ترى أنك إذا قلت: «هو كثير رماد القدر»، أو قلت: «طويل النجاد»، أو قلت في المرأة: «نؤوم الضحى»، فإنك في جميع ذلك لا تفيد غرضك الذي تعني من مجرّد اللفظ، ولكن يدل اللّفظ على معناه الذي يوجبه ظاهره، ثم يعقل السامع من ذلك المعنى، على سبيل الاستدلال، معنى ثانيا هو غرضك، كمعرفتك من «كثير رماد القدر» أنه مضياف، ومن «طويل النجاد» أنّه طويل القامة، ومن «نؤوم الضحى» في المرأة أنها مترفة مخدومة، لها من يكفيها أمرها. وكذا إذا قال: «رأيت أسدا»، ودلّك الحال على أنّه لم يرد السبع، علمت أنه أراد التشبيه، إلا أنه بالغ فجعل الذي رآه بحيث لا يتميّز عن الأسد في شجاعته. وكذلك تعلم من قوله: «بلغني أنك تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى»، أنّه أراد التردد في أمر البيعة واختلاف العزم في الفعل وتركه، على ما مضى الشرح فيه. وإذ قد عرفت هذه الجملة، فهاهنا عبارة مختصرة وهي أن تقول: «المعنى»، و «معنى المعنى»، تعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ والّذي تصل إليه بغير واسطة، و «بمعنى المعنى»، أن تعقل من اللّفظ معنى، ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر، كالذي فسّرت لك. وإذ قد عرفت ذلك، فإذا رأيتهم يجعلون الألفاظ زينة للمعاني وحلية عليها، أو يجعلون المعاني كالجواري، والألفاظ كالمعارض «1» لها، وكالوشي المحبّر «2» واللّباس الفاخر والكسوة الرّائقة، إلى أشباه ذلك مما يفخّمون به أمر اللفظ، ويجعلون المعنى ينبل به ويشرف، فاعلم «3» أنه يصفون كلاما قد أعطاك المتكلم أغراضه فيه من طريق

_ (1) مفردها المعرض بفتح الراء وهو ثوب تجلى به الجارية يوم العرس. (2) المحبّر: الثوب الجديد «القاموس:/ حبر/ (473) (3) قوله فاعلم: جواب للشرط وهو قوله: «فإذا رأيتهم يجعلون الألفاظ».

معنى المعنى، فكنى وعرّض، ومثّل واستعار، ثم أحسن في ذلك كله وأصاب، ووضع كل شيء منه في موضعه، وأصاب به شاكلته، وعمد فيما كنى به وشبّه ومثّل، لما حسن مأخذه، ودقّ مسلكه، ولطفت إشارته، وأن المعرض وما في معناه، ليس هو اللفظ المنطوق به، ولكن معنى اللفظ الذي دللت به على المعنى الثاني، كمعنى قوله: [من الوافر] فإنّي، جبان الكلب مهزول الفصيل الذي هو دليل على أنه مضياف، فالمعاني الأول المفهومة من أنفس الألفاظ هي المعارض والوشي والحلي وأشباه ذلك، والمعاني الثواني التي يومأ إليها بتلك المعاني، هي التي تكسى تلك المعارض، وتزيّن بذلك الوشي والحلي. وكذلك إذا جعلوا المعنى يتصوّر من أجل اللفظ بصورة، ويبدو في هيئة، ويتشكّل بشكل يرجع المعنى في ذلك كلّه إلى الدّلالات المعنوية، ولا يصلح شيء منه حيث الكلام على ظاهره، وحيث لا يكون كناية ولا تمثيل ولا استعارة، ولا استعانة في الجملة بمعنى على معنى، وتكون الدلالة على الغرض من مجرّد اللفظ، فلو أن قائلا قال: «رأيت الأسد»، وقال آخر: «لقيت اللّيث»، لم يجز أن يقال في الثاني أنه صوّر المعنى في غير صورته الأولى، ولا أن يقال أبرزه في معرض سوى معرضه، ولا شيئا من هذا الجنس. وجملة الأمر أن صور المعاني لا تتغيّر بنقلها من لفظ إلى لفظ، حتى يكون هناك اتساع ومجاز، وحتى لا يراد من الألفاظ ظواهر ما وضعت له في اللغة، ولكن يشار بمعانيها إلى معان أخر. واعلم أن هذا كذلك ما دام النظم واحدا، فأمّا إذا تغير النظم فلا بدّ حينئذ من أن يتغير المعنى، على ما مضى من البيان في «مسائل التقديم والتأخير»، وعلى ما رأيت في المسألة التي مضت الآن، أعني قولك: «إن زيدا كالأسد»، و «كأنّ زيدا الأسد»، ذاك لأنه لم يتغير من اللّفظ شيء، وإنما تغيّر النظم فقط. وأما فتحك «إن» عند تقديم الكاف وكانت مكسورة فلا اعتداد بها، لأن معنى الكسر باق بحاله. واعلم أنّ السبب في أن أحالوا في أشباه هذه المحاسن التي ذكرتها لك على اللفظ، أنّها ليست بأنفس المعاني، بل هي زيادات فيها وخصائص. ألا ترى أن ليست المزية التي تجدها لقولك: «كأنّ زيدا الأسد» على قولك «زيد كالأسد»، لشيء خارج عن التشبيه الذي هو أصل المعنى، وإنما هو زيادة فيه وفي حكم

فصل [من دلالة المعنى على المعنى]

الخصوصيّة في الشكل، نحو أن يصاغ خاتم على وجه، وآخر على وجه آخر، تجمعهما صورة الخاتم، ويفترقان بخاصّة وشيء يعلم، إلّا أنه لا يعلم منفردا. ولما كان الأمر كذلك، لم يمكنهم أن يطلقوا اسم المعاني على هذه الخصائص، إذ كان لا يفترق الحال حينئذ بين أصل المعنى، وبين ما هو زيادة في المعنى وكيفية له وخصوصية فيه. فلما امتنع ذلك توصّلوا إلى الدّلالة عليها بأن وصفوا اللّفظ في ذلك بأوصاف يعلم أنها لا تكون أوصافا له من حيث هو لفظ، كنحو وصفهم له بأنه لفظ شريف، وأنه قد زان المعنى، وأنّ له ديباجة، وأن عليه طلاوة، وأن المعنى منه في مثل الوشي، وأنه عليه كالحلي، إلى أشباه ذلك مما يعلم ضرورة أنه يعنى بمثله الصوت والحرف. ثم إنّه لمّا جرت به العادة واستمرّ عليه العرف، وصار الناس يقولون اللفظ واللفظ، لزّ «1» من ذلك بأنفس أقوام باب من الفساد، وخامرهم منه شيء لست أحسن وصفه. فصل [من دلالة المعنى على المعنى] ومن الصفات التي تجدهم يجرونها على «اللفظ»، ثم لا تعترضك شبهة ولا يكون منك توقّف في أنها ليست له، ولكن لمعناه، قولهم: «لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه، ولفظه معناه، ولا يكون لفظه أسبق إلى سمعك من معناه إلى قلبك»، وقولهم: «يدخل في الأذن بلا إذن»، فهذا مما لا يشكّ العاقل في أنه يرجع إلى دلالة المعنى على المعنى، وأنّه لا يتصوّر أن يراد به دلالة اللفظ على معناه الذي وضع له في اللغة. ذاك لأنه لا يخلو السامع من أن يكون عالما باللغة وبمعاني الألفاظ التي يسمعها، أو يكون جاهلا بذلك .. فإن كان عالما لم يتصوّر أن يتفاوت حال الألفاظ معه، فيكون معنى لفظ أسرع إلى قلبه من معنى لفظ آخر، وإن كان جاهلا كان ذلك في وصفه أبعد. وجملة الأمر أنّه إنّما يتصوّر أن يكون لمعنى أسرع فهما منه لمعنى آخر، إذا كان ذلك مما يدرك بالفكر، وإذا كان مما يتجدّد له العلم به عند سمعه للكلام. وذلك محال في دلالات الألفاظ اللغوية، لأنّ طريق معرفتها التوقيف، والتقدّم بالتعريف.

_ (1) لزّ ولززا: شده وألصقه واللز لزوق الشيء بالشيء. القاموس/ لزز/ 673.

وإذا كان ذلك كذلك، علم علم الضرورة أن مصرف ذلك إلى دلالات المعاني على المعاني، وأنهم أرادوا أنّ من شرط البلاغة أن يكون المعنى الأوّل الذي تجعله دليلا على المعنى الثاني ووسيطا بينك وبينه، متمكّنا في دلالته، مستقلّا بوساطته، يسفر بينك وبينه أحسن سفارة، ويشير لك إليه أبين إشارة، حتى يخيّل إليك أنك فهمته من حاقّ «1» اللفظ، وذلك لقلة الكلفة فيه عليك، وسرعة وصوله إليك، فكان من «الكناية» مثل قوله: [من المنسرح] لا أمتع العوذ بالفصال، ولا ... أبتاع إلّا قريبة الأجل «2» ومن «الاستعارة» مثل قوله: [من الطويل] وصدر أراح الليل عازب همّه، ... تضاعف فيه الحزن من كلّ جانب «3» ومن «التمثيل» مثل قوله: [من المديد] لا أذود الطّير عن شجر ... قد بلوت المرّ من ثمره «4» إن أردت أن تعرف ما حاله بالضدّ من هذا، فكان منقوص القوّة في تأدية ما أريد منه، لأنه يعترضه ما يمنعه أن يقضي حق السّفارة فيما بينك وبين معناك، ويوضح تمام الإيضاح عن مغزاك، فانظر إلى قول العباس بن الأحنف: [من الطويل] سأطلب بعد الدّار عنكم لتقربوا ... وتسكب عيناي الدّموع لتجمدا «5»

_ (1) حاقّه: أي وسطه وحاق الجوع: صادقه. القاموس/ حقق/ (1129). (2) العوذ: جمع عائذ وهي التي مر على ولادتها عشرة أيام أو خمسة عشر يوما، والفصال: جمع فصيل، وهو ولد الناقة، والبيت لإبراهيم بن هرمة الشاعر المعروف، ومعناه: أنه لا يمتع الأمهات من الإبل بأبنائها بل يذبحها، ولا يشتري منها إلا قريبة الأجل. (3) البيت للنابغة الذبياني في ديوانه (29)، من قصيدة: كليني لهم يا أميمة، وقبله: كليني لهم، يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب تطاول حتى قلت ليس بمنقض ... وليس الذي يرعى النجوم بآيب ومعنى البيت: أن الليل الطويل جدد همومه وأعادها بعد أن كادت أن تزول. (4) البيت لأبي نواس في ديوانه (64)، من قصيدة في مدح العباس بن عبيد الله بن أبي جعفر المنصور وقبله: أيها المنتاب من عفره ... لست من ليلى ولا سمره والمعنى: أي لا أشفق على من ذممت صحبته ولا أمنع غيري من إنسان قد بلوته فلم أجد عنده خيرا، كما أن ثمر الشجر إذا كان مرّا لم يطرد عنه الطير ولم يبل به. (5) البيت في ديوانه (106) طبعة دار الكتب العلمية، والإيضاح (7)، والإشارات والتنبيهات (12).

بدأ فدلّ بسكب الدموع على ما يوجبه الفراق من الحزن والكمد، فأحسن وأصاب، لأن من شأن البكاء أبدا أن يكون أمارة للحزن، وأن يجعل دلالة عليه وكناية عنه، كقولهم: «أبكاني وأضحكني»، على معنى «ساءني وسرّني»، وكما قال: [من السريع] أبكاني الدّهر، ويا ربّما ... أضحكني الدّهر بما يرضي «1» ثم ساق هذا القياس إلى نقيضه، فالتمس أن يدل على ما يوجبه دوام التلاقي من السرور بقوله: «لتجمدا»، وظنّ أن الجمود يبلغ له في إفادة المسرّة والسلامة من الحزن، ما بلغ سكب الدمع في الدلالة على الكآبة والوقوع في الحزن ونظر إلى أنّ الجمود خلوّ العين من البكاء وانتفاء الدموع عنها، وأنه إذا قال «لتجمدا»، فكأنه قال: «أحزن اليوم لئلّا أحزن غدا، وتبكي عيناي جهدهما لئلا تبكيا أبدا»، وغلط فيما ظنّ. وذاك أن الجمود هو أن لا تبكي العين، مع أن الحال حال بكاء، ومع أن العين يراد منها أن تبكي، ويستراب في أن لا تبكي، ولذلك لا ترى أحدا يذكر عينه بالجمود إلا وهو يشكوها ويذمّها وينسبها إلى البخل، ويعدّ امتناعها من البكاء تركا لمعونة صاحبها على ما به من الهمّ، ألا ترى إلى قوله: [من الطويل] ألا إنّ عينا لم تجد يوم واسط ... عليك بجاري دمعها لجمود «2» فأتى بالجمود تأكيدا لنفي الجود، ومحال أن يجعلها لا تجود بالبكاء وليس هناك التماس بكاء، لأنّ الجود والبخل يقتضيان مطلوبا يبذل أو يمنع، ولو كان الجمود يصلح لأن يراد به السلامة من البكاء، ويصحّ أن يدلّ به على أن الحال حال مسرة وحبور، لجاز أن يدعى به للرجل فيقال: «لا زالت عينك جامدة»، كما يقال: «لا أبكى الله عينك»، وذاك مما لا يشكّ في بطلانه. وعلى ذلك قول أهل اللغة: «عين جمود، لا ماء فيها، وسنة جماد، لا مطر فيها، وناقة جماد، لا لبن فيها»، وكما لا تجعل السّنة والنّاقة جمادا إلّا على معنى أنّ السّنة بخيلة بالقطر، والنّاقة لا تسخو بالدّرّ «3»، كذلك حكم العين لا تجعل «جمودا»

_ (1) البيت لحطان بن المعلى، وانظره في الإيضاح (7) تحقيق د. هنداوي، وشرح ديوان الحماسة للتبريزي (1/ 152)، وقد كنى الشاعر فيه بإبكاء الدهر له عن إساءته، وبإضحاكه له عن سروره. (2) البيت لأبي عطاء السندي في رثاء ابن هبيرة عند ما قتله المنصور يوم واسط بعد أن أمّنه، وو واسط مدينة بالعراق بناها الحجاج بن يوسف الثقفي، وقد كنى فيه الشاعر بجمود العين عن بخلها بالدمع في الوقت الذي يجب فيه أن تدمع، انظر البيت في شرح الحماسة للتبريزي (2/ 151)، والإشارات والتنبيهات (12)، والإيضاح (8). (3) الدر: اللبن. القاموس/ درر/ (500).

إلّا وهناك ما يقتضي إرادة البكاء منها، ما يجعلها إذا بكت محسنة موصوفة بأن قد جادت وسخت، وإذا لم تبك، مسيئة موصوفة بأن قد ضنّت وبخلت. فإن قيل: إنه أراد أن يقول: «إنّ اليوم أتجرّع غصص الفراق، وأحمل نفسي على مرّه، وأحتمل ما يؤدّيني إليه من حزن يفيض الدموع من عيني ويسكبها، لكي أتسبّب بذلك إلى وصل يدوم، ومسرة تتّصل، حتى لا أعرف بعد ذلك الحزن أصلا، ولا تعرف عيني البكاء، وتصير في أن لا ترى باكية أبدا، كالجمود التي لا يكون لها دمع». فإن ذلك «1» لا يستقيم ولا يستتبّ، لأنه يوقعه في التناقض، ويجعله كأنه قال: «أحتمل البكاء لهذا الفراق عاجلا، لأصير في الآجل بدوام الوصل واتصال السرور في صورة من يريد من عينه أن تبكي ثم لا تبكي، لأنها خلقت جامدة لا ماء فيها»، وذلك من التهافت والاضطراب بحيث لا تنجع الحيلة فيها. وجملة الأمر أنا لا نعلم أحدا جعل جمود العين دليل سرور وأمارة غبطة، وكناية عن أن الحال حال فرح. فهذا مثال فيما هو بالضدّ مما شرطوا من أن لا يكون لفظه أسبق إلى سمعك، من معناه إلى قلبك لأنك ترى اللّفظ يصل إلى سمعك، وتحتاج إلى أن تخبّ وتوضع في طلب المعنى. ويجري لك هذا الشرح والتفسير في «النظم» كما جرى في «اللفظ»، لأنه إذا كان النظم سويّا، والتأليف مستقيما، كان وصول المعنى إلى قلبك، تلو وصول اللفظ إلى سمعك. وإذا كان على خلاف ما ينبغي، وصل اللّفظ إلى السمع، وبقيت في المعنى تطلبه وتتعب فيه، وإذا أفرط الأمر في ذلك صار إلى التعقيد الذي قالوا: «إنّه يستهلك المعنى». واعلم أن لم تضق العبارة ولم يقصر اللفظ ولم ينغلق الكلام في هذا الباب، إلّا لأنه قد تناهى في الغموض والخفاء إلى أقصى الغايات، وأنت لا ترى أغرب مذهبا، وأعجب طريقا، وأحرى بأن تضطرب فيه الآراء منه. وما قولك في شيء قد بلغ من أمره أن يدّعى على كبار العلماء أنّهم لم يعلموه ولم يفطنوا له؟ فقد ترى أنّ البحتري قال حين سئل عن مسلم وأبي نواس: أيّهما أشعر؟ فقال: أبو نواس. فقيل: فإن أبا العباس ثعلبا لا يوافقك على هذا. فقال: ليس هذا من شأن ثعلب وذويه من المتعاطين لعلم الشعر دون علمه، إنما يعلم ذلك من دفع في مسلك طريق الشعر إلى مضايقه وانتهى إلى ضروراته.

_ (1) فإن ذلك جواب للشرط في بداية الفقرة وهو «فإن قيل ... »

ثمّ لم ينفكّ العالمون به والذين هم من أهله، من دخول الشبهة فيه عليهم، ومن اعتراض السّهو والغلط لهم. روي عن الأصمعي أنّه قال «1»: كنت أشدو من أبي عمرو بن العلاء وخلف الأحمر، وكان يأتيان بشارا فيسلّمان عليه بغاية الإعظام ثم يقولان: يا أبا معاذ، ما أحدثت؟ فيخبرهما وينشدهما، ويسألانه ويكتبان عنه متواضعين له، حتى يأتي وقت الزّوال، ثم ينصرفان. وأتياه يوما فقالا: ما هذه القصيدة التي أحدثتها في سلم بن قتيبة؟ قال: هي التي بلغتكم. قالوا: بلغنا أنّك أكثرت فيها من الغريب. قال: نعم، بلغني أن سلم بن قتيبة يتباصر بالغريب، فأحببت أن أورد عليه ما لا يعرف. قالوا: فأنشدناها يا أبا معاذ. فأنشدهما: [من الخفيف] بكّرا صاحبيّ قبل الهجير ... إنّ ذاك النّجاح في التّبكير «2» حتى فرغ منها، فقال له خلف: لو قلت يا أبا معاذ مكان «إنّ ذاك النجاح في التبكير»: بكّرا فالنّجاح في التّبكير كان أحسن. فقال بشار: إنما بنيتها أعرابية وحشية فقلت: إنّ ذاك النجاح في التبكير، كما يقول الأعراب البدويّون، ولو قلت: «بكّرا فالنجاح»، كان هذا من كلام المولّدين، ولا يشبه ذاك الكلام، ولا يدخل في معنى القصيدة. قال: فقام خلف فقبّل بين عينيه» «3»، فهل كان هذا القول من خلف والنّقد على بشّار، إلّا للطف المعنى في ذلك وخفائه؟. واعلم أن من شأن «إنّ» إذا جاءت على هذا الوجه، أن تغني غناء «الفاء» العاطفة مثلا، وأن تفيد من ربط الجملة بما قبلها أمرا عجيبا. فأنت ترى الكلام بها مستأنفا غير مستأنف، ومقطوعا موصولا معا. أفلا ترى أنك لو أسقطت «إنّ» من قوله: «إنّ ذاك النجاح في التبكير»، لم تر الكلام يلتئم، ولرأيت الجملة الثانية لا تتّصل بالأولى ولا تكون منها بسبيل، حتى تجيء بالفاء فتقول: «بكّرا صاحبيّ قبل الهجير، فذاك النجاح في التبكير»، ومثله قول بعض العرب: [من الرجز]

_ (1) الخبر في الأغاني (3/ 190). (2) البيت لبشار بن برد في ديوانه (3/ 203)، والإشارات والتنبيهات للجرجاني (31)، والأغاني (3/ 185). والهجير: من الزوال إلى العصر أو شدة الحرارة. (3) يقصد فقبل بشار بين عينيه وهي في (الأغاني 3/ 190).

فغنّها، وهي لك الفداء ... إنّ غناء الإبل الحداء «1» فانظر إلى قوله: «إنّ غناء الإبل الحداء»، وإلى ملاءمته الكلام قبله، وحسن تشبّثه به، وإلى حسن تعطّف الكلام الأوّل عليه. ثم انظر إذا تركت «إنّ» فقلت: «فغنّها وهي لك الفداء، غناء الإبل الحداء»، كيف تكون الصّورة؟ وكيف ينبو أحد الكلامين عن الآخر؟ وكيف يشئم هذا ويعرق ذاك؟ حتى لا تجد حيلة في ائتلافهما حتّى تجتلب لهما «الفاء» فتقول: «فغنّها وهي لك الفداء، فغناء الإبل الحداء»، ثم تعلم أن ليست الألفة بينهما من جنس ما كان، وأن قد ذهبت الأنسة التي كنت تجد، والحسن الذي كنت ترى. وروي عن عنبسة «2» أنه قال: قدم ذو الرّمّة الكوفة فوقف ينشد الناس بالكناسة قصيدته الحائية التي منها: [من الطويل] هي البرء، والأسقام، والهمّ، والمنى، ... وموت الهوى في القلب منّي المبرّح وكان الهوى بالنأي يمحى فيمّحي، ... وحبّك عندي يستجدّ ويربح إذا غيّر النّأي المحبّين لم يكد ... رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح «3» قال: فلما انتهى إلى هذا البيت ناداه ابن شبرمة «4»: يا غيلان «5»، أراه قد برح! قال: فشنق ناقته «6» وجعل يتأخّر بها ويفكّر، ثم قال:

_ (1) البيت بلا نسبة في جمهرة اللغة (964، 1047)، والإيضاح (1/ 94) طبعة دار الكتاب اللبناني، والإشارات للجرجاني (31)، والمفتاح للسكاكي: (262). والضمير في قوله: «فغنها» للإبل أي: فغن لها. الحداء بضم الحاء وكسرها: مصدر حدا الإبل إذا ساقها وغنى لها. (2) عنبسة: هو عنبسة بن معدان الغيل الميساني وهو أشهر من أخذ النحو عن أبي الأسود الدؤلي (بغية الوعاة) والكناسة هو سوق في الكوفة. (3) الأبيات لذي الرمة في ديوانه (45) ط، دار الكتب العلمية، وهي في الأغاني منسوبة إليه (18/ 33)، والأبيات في الديوان ليست متتالية، ورواية الديوان: «والهم ذكرها» بدل «الهم والمنى»، و «لولا التنائي» بدل «في القلب مني». وشطر البيت الثاني هكذا: «وبعض الهوى بالهجر يمحى فيمتحى». الرّسّ: ابتداء الشيء، والرسّ والرسيس واحد: أول الحمى الذي يؤذن بها ويدل على ورودها ورس الهوى في قلبه والسقم في جسمه رسّا ورسيسا، وأرس: دخل وثبت، ورس الحب ورسيسه: بقيته وأثره. اللسان (رسس). (4) ابن شبرمة: وهو عبد الله بن شبرمة من قضاة الكوفة توفي سنة (44 هـ). شذرات الذهب (1/ 707). (5) غيلان: وهو اسم ذي الرمة (غيلان بن عقبة). (6) شنق ناقته: شنق البعير يشنقه ويشنقه: كفه بزمامه حتى ألزق ذفراه بقادمة الرجل أو رفع رأسه وهو راكبه. القاموس (18/ 34)

إذا غيّر النأي المحبّين لم أجد ... رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح قال: فلمّا انصرفت حدّثت أبي، قال: أخطأ ابن شبرمة حين أنكر على ذي الرّمة ما أنكر، وأخطأ ذو الرمة حين غيّر شعره لقول ابن شبرمة، إنما هذا كقول الله تعالى: ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها [النور: 40]، وإنّما هو: لم يرها ولم يكد «1». واعلم أنّ سبب الشّبهة في ذلك أنه قد جرى في العرف أن يقال: «ما كاد يفعل» و «لم يكد يفعل» في فعل قد فعل، على معنى أنه لم يفعل إلّا بعد الجهد، وبعد أن كان بعيدا في الظّن أن يفعله، كقوله تعالى: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة: 71]، فلما كان مجيء النفي في «كاد» على هذا السبيل، توهّم ابن شبرمة أنه إذا قال: «لم يكد رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح» فقد زعم: أن الهوى قد برح، ووقع لذي الرمة مثل هذا الظّن. وليس الأمر كالذي ظنّاه، فإن الذي يقتضيه اللفظ إذا قيل: «لم يكد يفعل» و «ما كاد يفعل»، أن يكون المراد أن الفعل لم يكن من أصله، ولا قارب أن يكون، ولا ظنّ أنه يكون. وكيف بالشك في ذلك؟ وقد علمنا أن «كاد» موضوع لأن يدلّ على شدة قرب الفعل من الوقوع، وعلى أنّه قد شارف الوجود. وإذا كان كذلك، كان محالا أن يوجب نفيه وجود الفعل، لأنه يؤدّي إلى أن يوجب نفي مقاربة الفعل الوجود وجوده، وأن يكون قولك: «ما قارب أن يفعل»، مقتضيا على البتّ أنه قد فعل. وإذ قد ثبت ذلك، فمن سبيلك أن تنظر. فمتى لم يكن المعنى على أنه قد كانت هناك صورة تقتضي أن لا يكون الفعل، وحال يبعد معها أن يكون، ثمّ تغير الأمر، كالذي تراه في قوله تعالى: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة: 71]، فليس إلّا أن تلزم الظاهر، وتجعل المعنى على أنك تزعم أن الفعل لم يقارب أن يكون، فضلا عن أن يكون. فالمعنى إذن في بيت ذي الرمة على أن الهوى من رسوخه في القلب، وثبوته فيه وغلبته على طباعه، بحيث لا يتوهّم عليه البراح، وأن ذلك لا يقارب أن يكون، فضلا عن أن يكون، كما تقول: «إذا سلا المحبّون وفتروا في محبتهم، لم يقع لي في وهم، ولم يجر منّي على بال: أنه يجوز عليّ ما يشبه السّلوة، وما يعدّ فترة، فضلا عن أن يوجد ذلك مني وأصير إليه.

_ (1) الخبر في (الأغاني 18/ 34).

وينبغي أن تعلم أنهم إنما قالوا في التفسير: «لم يرها ولم يكد»، فبدءوا فنفوا الرؤية، ثم عطفوا «لم يكد» عليه، ليعلموك أن ليس سبيل «لم يكد» هاهنا سبيل «ما كادوا» في قوله تعالى: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة: 71] في أنه نفي معقّب على إثبات، وأن ليس المعنى على أن رؤية كانت من بعد أن كادت لا تكون، ولكن المعنى على أن رؤيتها لا تقارب أن تكون، فضلا عن أن تكون. ولو كان «لم يكد» يوجب وجود الفعل، لكان هذا الكلام منهم محالا جاريا مجرى أن تقول: «لم يرها ورآها»، فاعرفه. وهاهنا نكتة، وهي أنّ «لم يكد» في الآية والبيت واقع في جواب «إذا»، والماضي إذا وقع في جواب الشرط على هذا السبيل، كان مستقبلا في المعنى فإذا قلت: «إذا خرجت لم أخرج»، كنت قد نفيت خروجا فيما يستقبل. وإذا كان الأمر كذلك، استحال أن يكون المعنى في البيت أو الآي على الفعل قد كان، لأنه يؤدي إلى أن يجيء «بلم أفعل» ماضيا صريحا في جواب الشرط فتقول: «إذا خرجت لم أخرج أمس»، وذلك محال. ومما يتّضح فيه هذا المعنى قول الشاعر: [من المتقارب] ديار لجهمة بالمنحنى ... سقاهنّ مرتجز باكر وراح عليهنّ ذو هيدب ... ضعيف القوى، ماؤه زاخر إذا رام نهضا بها لم يكد ... كذي السّاق أخطأها الجابر «1» وأعود إلى الغرض. فإذا بلغ من دقّة هذه المعاني أن يشتبه الأمر فيها على مثل خلف الأحمر وابن شبرمة، وحتى يشتبه على ذي الرمة في صواب قاله، فيرى أنه غير صواب، فما ظنك بغيرهم؟ وما يعجبك من أن يكثر التخليط فيه؟ ومن العجب في هذا المعنى قول أبي النجم: [من الرجز] قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي ... عليّ ذنبا كلّه لم أصنع «2»

_ (1) الأبيات في وصف سحاب، ارتجز الرعد: تدارك صوته وتتابع، والمراد السحاب، ويقال: ترجز السحاب إذا تحرك بطيئا لكثرة مائه، والباكر: صاحب البكور ومن يأتي غدوة. الهيدب: ذيل السحاب المتدلي. والزاخر: الفائض الغزير. (2) البيت أورده السكاكي في المفتاح (504)، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات (25)، وعزاه لأبي النجم، وبدر الدين بن مالك في المصباح (144)، والقزويني في الإيضاح (28)، والطيبي في التبيان (1/ 321)، وخزانة الأدب (1/ 359)، والكتاب لسيبويه، وشرح عقود الجمان (1/ 53)، والأغاني (23/ 36). وأبو النجم: هو الفضل بن قدامة بن عبيد الله بن بكر ابن وائل من رجاز الإسلام الفحول المقدمين، وفي الطبقة الأولى منهم قال عنه أبو عمرو بن العلاء: كان أبو النجم أبلغ في النعت من العجاج. توفي سنة (130 هـ)، وانظر ترجمته في الأغاني (10/ 183).

قد حمله الجميع على أنه أدخل نفسه من رفع «كلّ» في شيء إنما يجوز عند الضرورة، من غير أن كانت به إليه ضرورة. قالوا: لأنه ليس في نصب «كلّ» ما يكسر له وزنا، أو يمنعه من معنى أراده. وإذا تأملت وجدته لم يرتكبه ولم يحمل نفسه عليه إلا لحاجة له إلى ذلك، وإلّا لأنه رأى النصب يمنعه ما يريد. وذاك أنه أراد أنها تدّعي عليه ذنبا لم يصنع منه شيئا البتّة لا قليلا ولا كثيرا ولا بعضا ولا كلّا. والنصب يمنع من هذا المعنى، ويقتضي أن يكون قد أتى من الذنب الذي ادّعته بعضه. وذلك أنا إذا تأملنا وجدنا إعمال الفعل في «كل» والفعل منفيّ، لا يصلح أن يكون إلا حيث يراد أن بعضا كان وبعضا لم يكن. تقول: «لم ألق كلّ القوم»، و «لم آخذ كلّ الدراهم»، فيكون المعنى أنك لقيت بعضا من القوم ولم تلق الجميع، وأخذت بعضا من الدراهم وتركت الباقي ولا يكون أن تريد أنك لم تلق واحدا من القوم، ولم تأخذ شيئا من الدراهم. وتعرف ذلك بأن تنظر إلى «كلّ» في الإثبات وتتعرّف فائدته فيه. وإذا نظرت وجدته قد اجتلب لأن يفيد الشمول في الفعل الذي تسنده إلى الجملة أو توقعه بها. تفسير ذلك، أنك إنما قلت: «جاءني القوم كلهم»، لأنك لو قلت: «جاءني القوم» وسكتّ، لكان يجوز أن يتوهّم السامع أنه قد تخلّف عنك بعضهم، إلا أنك لم تعتدّ بهم، أو أنّك جعلت الفعل إذا وقع من بعض القوم فكأنما وقع من الجميع، لكونهم في حكم الشخص الواحد، كما يقال للقبيلة: «فعلتم وصنعتم»، يراد فعل قد كان من بعضهم أو واحد منهم. وهكذا الحكم أبدا. فإذا قلت: «رأيت القوم كلّهم» و «مررت بالقوم كلّهم»، كنت قد جئت «بكل» لئلّا يتوهم أنه قد بقي عليك من لم تره ولم تمرر به. وينبغي أن يعلم أنا لا نعني بقولنا «يفيد الشمول»، أنّ سبيله في ذلك سبيل الشيء يوجب المعنى من أصله، وأنه لولا مكان «كلّ» لما عقل الشمول ولم يكن فيما سبق من اللفظ دليل عليه. كيف؟ ولو كان كذلك لم يكن يسمى «تأكيدا». فالمعنى أنه يمنع أن يكون اللفظ المقتضي الشمول مستعملا على خلاف ظاهره ومتجوّزا فيه. وإذ قد عرفت ذلك، فهاهنا أصل، وهو أن من حكم النفي إذا دخل على كلام، ثم كان في ذلك الكلام تقييد على وجه من الوجوه، أن يتوجّه إلى ذلك التقييد، وأن يقع له خصوصا.

تفسير ذلك: أنك إذا قلت: «أتاني القوم مجتمعين»، فقال قائل: «لم يأتك القوم مجتمعين»، كان نفيه ذلك متوجّها إلى الاجتماع الذي هو تقييد في الإتيان دون الإتيان نفسه، حتّى إنه إن أراد أن ينفي الإتيان من أصله، كان من سبيله أن يقول: «إنهم لم يأتوك أصلا، فما معنى قولك: مجتمعين». هذا مما لا يشكّ فيه عاقل. وإذا كان هذا حكم النفي إذا دخل على كلام فيه تقييد، فإن التأكيد ضرب من التقييد. فمتى نفيت كلاما فيه تأكيد، فإن نفيك ذلك يتوجّه إلى التأكيد خصوصا ويقع له. فإذا قلت: «لم أر القوم كلهم» أو «لم يأتني القوم كلهم» أو «لم يأتني كلّ القوم» أو «لم أر كلّ القوم»، كنت عمدت نفيك إلى معنى «كل» خاصة، وكان حكمه حكم «مجتمعين» في قولك: «لم يأتني القوم مجتمعين». وإذا كان النفي يقع «لكلّ» خصوصا فواجب إذا قلت: «لم يأتني القوم كلهم» أو «لم يأتني كل القوم»، أن يكون قد أتاك بعضهم كما يجب إذا قلت: «لم يأتني القوم مجتمعين»، أن يكونوا قد أتوك أشتاتا. وكما يستحيل أن تقول: «لم يأتني القوم مجتمعين»، وأنت تريد أنّهم لم يأتوك أصلا لا مجتمعين ولا منفردين كذلك محال أن تقول: «لم يأتني القوم كلهم»، وأنت تريد أنهم لم يأتوك أصلا، فاعرفه. واعلم أنك إذا نظرت وجدت الإثبات كالنفي فيما ذكرت لك، ووجدت النفي قد احتذاه فيه وتبعه. وذلك أنك إذا قلت: «جاءني القوم كلهم»، كان «كلّ» فائدة خبرك هذا، والذي يتوجّه إليه إثباتك، بدلالة أن المعنى على أن الشك لم يقع في نفس المجيء أنّه كان من القوم على الجملة، وإنما وقع في شموله «الكل»، وذلك الذي عناك أمره من كلامك. وجملة الأمر أنه ما من كلام كان فيه أمر زائد على مجرّد إثبات المعنى للشيء، إلّا كان الغرض الخاصّ من الكلام، والّذي يقصد إليه ويزجّى القول فيه. فإذا قلت: «جاءني زيد راكبا»، و «ما جاءني زيد راكبا» كنت قد وضعت كلامك لأن تثبت مجيئه راكبا أو تنفي ذلك، لا لأن تثبت المجيء وتنفيه مطلقا. هذا ما لا سبيل إلى الشكّ فيه. واعلم أنه يلزم من شكّ في هذا فتوهّم أنه يجوز أن تقول: «لم أر القوم كلهم»، على معنى أنك لم تر واحدا منهم أن تجري النّهي هذا المجرى فتقول: «لا تضرب القوم كلّهم»، على معنى لا تضرب واحدا منهم وأن تقول: «لا تضرب

الرجلين كليهما»، على معنى لا تضرب واحدا منهما. فإذا قال ذلك لزمه أن يحيل قول الناس: «لا تضربهما معا، ولكن اضرب أحدهما»، و «لا تأخذهما جميعا، ولكن واحدا منهما»، وكفى بذلك فسادا. وإذ قد بان لك من حال النّصب أنه يقتضي أن يكون المعنى على أنه قد صنع من الذّنب بعضا وترك بعضا، فاعلم أنّ الرّفع على خلاف ذلك، وأنه يقتضي نفي أن يكون قد صنع منه شيئا، وأتى منه قليلا أو كثيرا، وأنك إذا قلت: «كلّهم لا يأتيك»، و «كلّ ذلك لا يكون»، و «كلّ هذا لا يحسن»، كنت نفيت أن يأتيه واحد منهم، وأبيت أن يكون أو يحسن شيء مما أشرت إليه. ومما يشهد لك بذلك من الشّعر قوله: [من الطويل] فكيف؟ وكلّ ليس يعدو حمامه ... ولا لامرئ عمّا قضى الله مزحل «1» المعنى على نفي أن يعدو أحد من الناس حمامه، بلا شبهة. ولو قلت: «فكيف وليس يعدو كلّ حمامه»: فأخرت «كلّا»، لأفسدت المعنى، وصرت كأنك تقول: «إن من الناس من يسلم من الحمام ويبقى خالدا لا يموت». ومثله قول دعبل: [من الطويل] فو الله ما أدري بأيّ سهامها ... رمتني، وكلّ عندنا ليس بالمكدي أبا الجيد، أم مجرى الوشاح، وإنّني ... لأتهم عينيها مع الفاحم الجعد «2» المعنى على نفي أن يكون في سهامها مكد على وجه من الوجوه. ومن البيّن في ذلك ما جاء في حديث ذي اليدين حين قال للنبيّ صلى الله عليه وسلّم: «أقصرت الصّلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلّم: كلّ ذلك لم يكن. فقال ذو اليدين: بعض ذلك قد كان» «3»، المعنى لا محالة على نفي الأمرين جميعا، وعلى أنه

_ (1) هو شعر إبراهيم بن كنيف النبهاني، شرح حماسة التبريزي (1/ 136)، وأمالي القالي (1/ 170). ومزحل: مصدر ميمي من زحل إذا تباعد، يعني ليس منه مهرب. (2) هو في المجموع من شعره. والمكدي الذي يخيب ولا يصيب هدفه. وقوله: «لأتهم» أي: أتهم عينيها، واعلم أن التاء في التهمة مبدلة من الواو، فقولهم «تهمة» أصلها: «وهمة» ولكنهم في هذا الفعل أجروا التاء المبدلة مجرى الأصل، فقالوا: «أتهمه إتهاما» ويقال أيضا: «أوهمه» بمعنى أتهمه على الأصل. (شاكر). (3) أخرجه البخاري في الأيمان والنذور، باب «إذا حنث ناسيا في الأيمان» (6671)، ومسلم في المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له (572)، وابن ماجة في الإقامة، باب ما جاء فيمن شك في صلاته فتحرى الصواب (1211).

عليه السلام أراد أنه لم يكن واحد منهما، لا القصر ولا النّسيان. ولو قيل: «لم يكن كلّ ذلك»، لكان المعنى أنه قد كان بعضه. واعلم أنه لما كان المعنى مع إعمال الفعل المنفي في «كلّ» نحو: «لم يأتني القوم كلّهم» و «لم أر القوم كلّهم»، على أن الفعل قد كان من البعض، ووقع على البعض، قلت: «لم يأتني القوم كلّهم، ولكن أتاني بعضهم» و «لم أر القوم كلّهم، ولكن رأيت بعضهم» فأثبتّ بعد ما نفيت، ولا يكون ذلك مع رفع «كلّ» بالابتداء. فلو قلت: «كلهم لم يأتني، ولكن أتاني بعضهم» و «كلّ ذلك لم يكن، ولكن كان بعض ذلك»، لم يجز، لأنّه يؤدّي إلى التناقض، وهو أن تقول: «لم يأتني واحد منهم، ولكن أتاني بعضهم». واعلم أنّه ليس التأثير لما ذكرنا من إعمال الفعل وترك إعماله على الحقيقة، وإنما التأثير لأمر آخر، وهو دخول «كلّ» في حيّز النفي، وأن لا يدخل فيه. وإنما علقنا الحكم في البيت «1» وسائر ما مضى بإعمال الفعل وترك إعماله، من حيث كان إعماله فيه يقتضي دخوله في حيّز النفي، وترك إعماله يوجب خروجه منه، من حيث كان الحرف النافي في البيت حرفا لا ينفصل عن الفعل، وهو «لم» لا أنّ كونه معمولا للفعل وغير معمول، يقتضي ما رأيت من الفرق. أفلا ترى أنّك لو جئت بحرف نفي يتصوّر انفصاله عن الفعل، لرأيت المعنى في «كل» مع ترك إعمال الفعل، مثله مع إعماله، ومثال ذلك قوله: [من البسيط] ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه «2» وقول الآخر: [من البسيط] ما كلّ رأي الفتى يدعو إلى رشد «3»

_ (1) علقنا الحكم في البيت: المقصود بيت أبي النجم سبق ذكره وصدره: قد أصبحت أم الخيار. (2) البيت للمتنبي في ديوانه (235)، من قصيدة قالها عند ما علم أن قوما نعوه في مجلس سيف الدولة وتمامه: «تجري الرياح بما لا تشتهي السفن». والمعنى: هم يتمنون موتي ولكن الأمور تسير على عكس رغباتهم، والبيت في الإيضاح (72)، والتبيان (2/ 478)، وشرح المرشدي على عقود الجمان (1/ 88). (3) البيت: هو صدر بيت قاله أبو العتاهية من قصيدة يعاتب فيها نفسه وعجزه: إذا بدا لك رأي مشكل فقف (الديوان 165).

فصل

«كلّ» كما ترى غير معمل فيه الفعل، ومرفوع، إمّا بالابتداء، وإمّا بأنه اسم «ما»، ثم إنّ المعنى مع ذلك على ما يكون عليه إذا أعملت فيه الفعل فقلت: «ما يدرك المرء كلّ ما يتمناه»، «ما يدعو كلّ رأي الفتى إلى رشد»، وذلك أن التأثير لوقوعه في حيّز النفي، وذلك حاصل في الحالين. ولو قدمت «كلّا» في هذا فقلت: «كلّ ما يتمنى المرء لا يدركه» و «كل رأي الفتى لا يدعو إلى رشد» لتغير المعنى، ولصار بمنزلة أن يقول: «إنّ المرء لا يدرك شيئا مما يتمناه»، و «لا يكون في رأي الفتى ما يدعو إلى رشد بوجه من الوجوه». واعلم أنك إذا أدخلت «كلّا» في حيّز النفي، وذلك بأن تقدم النّفي عليه لفظا أو تقديرا، فالمعنى على نفي الشمول دون نفي الفعل والوصف نفسه. وإذا أخرجت «كلّا» من حيّز النفي ولم تدخله فيه، لا لفظا ولا تقديرا، كان المعنى على أنك تتبّعت الجملة، فنفيت الفعل والوصف عنها واحدا واحدا. والعلة في أن كان ذلك كذلك، أنك إذا بدأت «بكل» كنت قد بنيت النّفي عليه، وسلّطت الكلّية على النفي وأعملتها فيه، وإعمال معنى الكلية في النّفي يقتضي أن لا يشذّ شيء عن النّفي، فاعرفه. واعلم أن من شأن الوجوه والفروق أن لا يزال تحدث بسببها وعلى حسب الأغراض والمعاني التي تقع فيها، دقائق وخفايا لا إلى حدّ ونهاية وأنها خفايا تكتم أنفسها جهدها حتى لا يتنبّه لأكثرها، ولا يعلم أنها هي، وحتى لا تزال ترى العالم يعرض له السّهو فيه، وحتى إنه ليقصد إلى الصواب فيقع في أثناء كلامه ما يوهم الخطأ، كلّ ذلك لشدة الخفاء وفرط الغموض. فصل واعلم أنه إذا كان بيّنا في الشيء أنه لا يحتمل إلّا الوجه الذي هو عليه حتى لا يشكل، وحتى لا يحتاج في العلم بأن ذلك حقّه وأنه الصواب، إلى فكر وروية فلا مزيّة. وإنّما تكون المزيّة ويجب الفضل إذا احتمل في ظاهر الحال غير الوجه الذي جاء عليه وجها آخر، ثم رأيت النّفس تنبو عن ذلك الوجه الآخر، ورأيت للذي جاء عليه حسنا وقبولا تعدمهما إذا أنت تركته إلى الثاني. مثال ذلك قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الأنعام: 100]، ليس بخاف أن لتقديم «الشركاء» حسنا وروعة ومأخذا من القلوب، أنت لا تجد شيئا منه إن أنت أخّرت فقلت: «وجعلوا الجنّ شركاء لله»، وأنك ترى حالك حال من نقل عن

الصورة المبهجة والمنظر الرّائق والحسن الباهر، إلى الشيء الغفل الذي لا تحلى منه بكثير طائل، ولا تصير النفس به إلى حاصل. والسبب في أن كان ذلك كذلك، هو أن للتقديم فائدة شريفة ومعنى جليلا لا سبيل إليه مع التأخير. بيانه، أنّا وإن كنّا نرى جملة المعنى ومحصوله أنهم جعلوا الجنّ شركاء وعبدوهم مع الله تعالى، وكان هذا المعنى يحصل مع التأخير حصوله مع التقديم، فإن تقديم «الشركاء» يفيد هذا المعنى ويفيد معه معنى آخر، وهو أنه ما كان ينبغي أن يكون لله شريك، لا من الجن ولا غير الجن. وإذا أخّر فقيل: «جعلوا الجنّ شركاء لله»، لم يفد ذلك، ولم يكن فيه شيء أكثر من الإخبار عنهم بأنهم عبدوا الجن مع الله تعالى، فأمّا إنكار أن يعبد مع الله غيره، وأن يكون له شريك من الجن وغير الجن، فلا يكون في اللفظ مع تأخير «الشركاء» دليل عليه. وذلك أن التقدير يكون مع التقديم: أن «شركاء» مفعول أوّل لجعل، و «لله» في موضع المفعول الثاني، ويكون «الجن» على كلام ثان، وعلى تقدير أنه كأنه قيل: «فمن جعلوا شركاء لله تعالى؟»، فقيل: «الجن». وإذا كان التقدير في «شركاء» أنّه مفعول أوّل، و «لله» في موضع المفعول الثاني، وقع الإنكار على كون شركاء لله تعالى على الإطلاق، من غير اختصاص شيء دون شيء. وحصل من ذلك أنّ اتخاذ الشريك من غير الجن قد دخل في الإنكار دخول اتّخاذه من الجنّ، لأنّ الصفة إذا ذكرت مجرّدة غير مجراة على شيء، كان الذي تعلّق بها من النفي عامّا في كل ما يجوز أن تكون له تلك الصفة. فإذا قلت: «ما في الدار كريم»، كنت نفيت الكينونة في الدار عن كلّ من يكون الكرم صفة له. وحكم الإنكار أبدا حكم النفي. وإذا أخّر فقيل: «وجعلوا الجنّ شركاء لله»، كان «الجن» مفعولا أوّل، و «الشركاء» مفعولا ثانيا. وإذا كان كذلك، كان «الشركاء» مخصوصا غير مطلق، من حيث كان محالا أن يجرى خبرا على الجن، ثم يكون عامّا فيهم وفي غيرهم. وإذا كان كذلك، احتمل أن يكون القصد بالإنكار إلى «الجن» خصوصا، أن يكونوا «شركاء» دون غيرهم، جلّ الله تعالى عن أن يكون له شريك وشبيه بحال. فانظر الآن إلى شرف ما حصل من المعنى بأن قدّم «الشركاء»، واعتبره فإنه ينبّهك لكثير من الأمور، ويدلّك على عظم شأن «النظم»، وتعلم به كيف يكون الإيجاز به وما صورته؟ وكيف يزاد في المعنى من غير أن يزاد في اللفظ، إذ قد ترى أن ليس إلا

تقديم وتأخير، وأنه قد حصل لك بذلك من زيادة المعنى، ما إن حاولته مع تركه لم يحصل لك، واحتجت إلى أن تستأنف له كلاما، نحو أن تقول: «وجعلوا الجنّ شركاء لله، وما ينبغي أن يكون لله شريك لا من الجن ولا من غيرهم»، ثم لا يكون له إذا عقل من كلامين من الشرف والفخامة ومن كرم الموقع في النفس، ما تجده له الآن وقد عقل من هذا الكلام الواحد. ومما ينظر إلى مثل ذلك، قوله تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ [البقرة: 96]، إذا أنت راجعت نفسك وأذكيت حسّك، وجدت لهذا التنكير وأن قيل: «على حياة»، ولم يقل: «على الحياة»، حسنا وروعة ولطف موقع لا يقادر قدره، وتجدك تعدم ذلك مع التعريف، وتخرج عن الأريحيّة والأنس إلى خلافهما. والسبب في ذلك أن المعنى على الازدياد من الحياة لا الحياة من أصلها، وذلك أنه لا يحرص عليه إلا الحيّ، فأما العادم للحياة فلا يصحّ منه الحرص على الحياة ولا على غيرها. وإذا كان كذلك، صار كأنه قيل: «ولتجدنّهم أحرص الناس، ولو عاشوا ما عاشوا، على أن يزدادوا إلى حياتهم في ماضي الوقت وراهنه، حياة في الذي يستقبل». فكما أنّك لا تقول هاهنا: «أنّ يزدادوا إلى حياتهم الحياة» بالتعريف، وإنما تقول: «حياة» إذ كان التعريف يصلح حيث تراد الحياة على الإطلاق، كقولنا: «كل أحد يحب الحياة، ويكره الموت»، كذلك الحكم في الآية. والذي ينبغي أن يراعى: أنّ المعنى الذي يوصف الإنسان بالحرص عليه، إذا كان موجودا حال وصفك له بالحرص عليه، لم يتصوّر أن تجعله حريصا عليه من أصله. كيف؟ ولا يحرص على الراهن ولا الماضي، وإنما يكون الحرص على ما لم يوجد بعد. وشبيه بتنكير الحياة في هذه الآية تنكيرها في قوله عز وجل: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [البقرة: 179]، وذلك أن السبب في حسن التنكير، وأن لم يحسن التعريف، أن ليس المعنى على الحياة نفسها، ولكن على أنه لما كان الإنسان إذا علم أنه إذا قتل قتل، ارتدع بذلك عن القتل، فسلم صاحبه، صار حياة هذا المهموم بقتله «1» في مستأنف الوقت، مستفادة بالقصاص، وصار كأنّه قد حيي في باقي عمره به. وإذا كان المعنى على حياة في بعض أوقاته، وجب التنكير وامتنع التعريف، من حيث كان التعريف يقتضي أن تكون الحياة قد كانت بالقصاص من

_ (1) المهموم بقتله: أي الذي قصد قتله.

فصل: منه في اشتراط الذوق والأريحية في هذا الباب

أصلها، وأن يكون القصاص قد كان سببا في كونها في كافة الأوقات. وذلك خلاف المعنى وغير ما هو المقصود. ويبيّن ذلك أنّك تقول: «لك في هذا غنى»، فتنكّر إذا أردت أن تجعل ذلك من بعض ما يستغني به، فإن قلت: «لك فيه الغنى»، كان الظاهر أنك جعلت كلّ غناه به. وأمر آخر، وهو أنه لا يكون ارتداع حتى يكون همّ وإرادة، وليس بواجب أن لا يكون إنسان في الدنيا إلّا وله عدوّ يهمّ بقتله ثم يردعه خوف القصاص. وإذا لم يجب ذلك، فمن لم يهمّ إنسان بقتله، فكفي ذلك الهمّ لخوف القصاص، فليس هو ممّن حيّ بالقصاص. وإذا دخل الخصوص، فقد وجب أن يقال «حياة» ولا يقال «الحياة»، كما وجب أن يقال «شفاء» ولا يقال «الشّفاء» في قوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ [النحل: 69]، حيث لم يكن شفاء للجميع. واعلم أنه لا يتصوّر أن يكون الذي همّ بالقتل فلم يقتل خوف القصاص داخلا في الجملة، وأن يكون القصاص أفاده حياة كما أفاد المقصود قتله. وذلك أنّ هذه الحياة إنّما هي لمن كان يقتل لولا القصاص، وذلك محال في صفة القاصد للقتل، فإنما يصحّ في وصفه ما هو كالضّدّ لهذا، وهو أن يقال: إنه كان لا يخاف عليه القتل لولا القصاص. وإذا كان هذا كذلك، كان وجها ثالثا في وجوب التنكير. فصل: منه في اشتراط الذوق والأريحية في هذا الباب واعلم أنّه لا يصادف القول في هذا الباب موقعا من السامع، ولا يجد لديه قبولا، حتى يكون من أهل الذّوق والمعرفة، وحتى يكون ممن تحدّثه نفسه بأنّ لما يومئ إليه من الحسن واللّطف أصلا، وحتى يختلف الحال عليه عند تأمّل الكلام، فيجد الأريحيّة تارة، ويعرى منها أخرى، وحتّى إذا عجّبته عجب، وإذا نبّهته لموضع المزية انتبه. فأمّا من كان الحالان والوجهان عنده أبدا على سواء، وكان لا يتفقّد من أمر «النّظم» إلا الصّحة المطلقة، وإلّا إعرابا ظاهرا، فما أقلّ ما يجدي الكلام معه. فليكن من هذه صفته عندك بمنزلة من عدم الإحساس بوزن الشعر، والذّوق الذي يقيمه به، والطّبع الذي يميّز صحيحه من مكسوره، ومزاحفه من سالمه، وما خرج من البحر ممّا لم يخرج منه في أنّك لا تتصدّى له، ولا تتكلّف تعريفه، لعلمك أنّه قد عدم الأداة

فصل هذا فن من المجاز لم نذكره فيما تقدم

التي معها يعرف، والحاسّة التي بها يجد. فليكن قدحك في زند وار، والحكّ في عود أنت تطمع منه في نار. واعلم أن هؤلاء، وإن كانوا هم الآفة العظمى في هذا الباب، فإنّ من الآفة أيضا من زعم أنه لا سبيل إلى معرفة العلّة في قليل ما تعرف المزيّة فيه وكثيره، وأن ليس إلا أن تعلم أن هذا التقديم وهذا التنكير، أو هذا العطف أو هذا الفصل حسن، وأن له موقعا من النفس وحظّا من القبول، فأمّا أن تعلم لم كان كذلك؟ وما السبب؟ فممّا لا سبيل إليه، ولا مطمع في الاطّلاع عليه، فهو بتوانيه والكسل فيه، في حكم من قال ذلك. واعلم أنّه ليس إذا لم تمكن معرفة الكل، وجب ترك النّظر في الكلّ. وأن تعرف العلّة والسبب فيما يمكنك معرفة ذلك فيه وإن قلّ فتجعله شاهدا فيما لم تعرف، أحرى من أن تسدّ باب المعرفة على نفسك، وتأخذها عن الفهم والتفهّم، وتعوّدها الكسل والهوينا. قال الجاحظ: «وكلام كثير قد جرى على ألسنة الناس، وله مضرّة شديدة وثمرة مرّة. فمن أضرّ ذلك قولهم: «لم يدع الأوّل للآخر شيئا»، قال: فلو أنّ علماء كلّ عصر مذ جرت هذه الكلمة في أسماعهم، تركوا الاستنباط لما لم ينته إليهم عمّن قبلهم، لرأيت العلم مختلّا. واعلم أنّ العلم إنما هو معدن، فكما أنه لا يمنعك أن ترى ألوف وقر «1» قد أخرجت من معدن تبر «2»، أن تطلب فيه، وأن تأخذ ما تجد ولو كقدر تومة «3»، كذلك، ينبغي أن يكون رأيك في طلب العلم». ومن الله تعالى نسأل التوفيق. فصل هذا فنّ من المجاز لم نذكره فيما تقدّم اعلم أن طريق المجاز والاتساع في الذي ذكرناه قبل، أنك ذكرت الكلمة وأنت لا تريد معناها، ولكن تريد معنى ما هو ردف له أو شبيه، فتجوّزت بذلك في ذات الكلمة وفي اللفظ نفسه. وإذا قد عرفت ذلك فاعلم أن في الكلام مجازا على غير هذا السبيل، وهو أن يكون التجوّز في حكم يجرى على الكلمة فقط، وتكون الكلمة

_ (1) الوقر: الحمل الثقيل. القاموس/ وقر/ (635). (2) التبر: الذهب والفضة قبل أن يصاغا. القاموس/ تبر/ (454). (3) التومة: اللؤلؤة. اللسان/ توم/ (12/ 74).

متروكة على ظاهرها، ويكون معناها مقصودا في نفسه ومرادا من غير تورية ولا تعريض. والمثال فيه قولهم: «نهارك صائم وليلك قائم» و «نام ليلي وتجلّى همي»، وقوله تعالى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [البقرة: 16]، وقول الفرزدق: [من الطويل] سقتها خروق في المسامع، لم تكن ... علاطا، ولا مخبوطة في الملاغم «1» أنت ترى مجازا في هذا كلّه، ولكن لا في ذوات الكم وأنفس الألفاظ، ولكن في أحكام أجريت عليها. أفلا ترى أنّك لم تتجوّز في قولك: «نهارك صائم، وليلك قائم» في نفس «صائم» و «قائم»، ولكن في أن أجريتهما خبرين على النهار والليل. وكذلك ليس المجاز في الآية في لفظة «ربحت» نفسها، ولكن في إسنادها إلى التجارة. وهكذا الحكم في قوله: «سقتها خروق» ليس التجوز في نفس «سقتها»، ولكن في أن أسندها إلى الخروق. أفلا ترى أنك لا ترى شيئا منها إلا وقد أريد به معناه الذي وضع له على وجهه وحقيقته، فلم يرد بصائم غير الصوم، ولا بقائم غير القيام، ولا بربحت غير الرّبح، ولا بسقت غير السقي، كما أريد «بسالت» في قوله: [من الطويل] وسالت بأعناق المطيّ الأباطح «2» غير السّيل. واعلم أن الذي ذكرت لك في المجاز هناك، من أن من شأنه أن يفخم عليه المعنى وتحدث فيه النباهة، قائم لك مثله هاهنا، فليس يشتبه على عاقل أن ليس حال المعنى وموقعه في قوله: [من الرجز] فنام ليلي وتجلّى همّي «3» كحاله وموقعه إذا أنت تركت المجاز وقلت: «فنمت في ليلي وتجلّى همي»، كما لم يكن الحال في قولك: «رأيت أسدا»، كالحال في «رأيت رجلا كالأسد». ومن الذي يخفى عليه مكان العلوّ وموضع المزية وصورة الفرقان بين قوله تعالى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ، وبين أن يقال: «فما ربحوا في تجارتهم؟».

_ (1) البيت ليس في ديوانه، لكنه في الكامل للمبرد (؟ / 128). الملاغم: ما حول الفم مما يبلغه اللسان ويصل إليه، من اللغام وهو زبد أفواه الإبل. (2) البيت في اللسان مادة/ طرق/ (9/ 218) من غير نسبة. (3) البيت لرؤبة في ديوانه (142)، من قصيدة في مدح الحارث بن سليم من آل عمرو، وتمامه، والبيت قبله: ورقاء دمى ذئبها المدمي ... حارث قد فرجت عني غمي ................ .. ... وقد تجلى كرب المحتم

وإن أردت أن تزداد للأمر تبيّنا، فانظر إلى بيت الفرزدق: [من الكامل] يحمي إذا اخترط السّيوف نساءنا ... ضرب تطير له السّواعد أرعل «1» وإلى رونقه ومائه، وإلى ما عليه من الطّلاوة. ثم ارجع إلى الذي هو الحقيقة وقل: «نحمي إذا اخترط السيوف نساءنا بضرب تطير له السواعد أرعل»، ثم اسبر حالك؟ هل ترى مما كنت تراه شيئا؟ وهذا الضرب من المجاز على حدته كنز من كنوز البلاغة، ومادّة الشاعر المفلق والكاتب البليغ في الإبداع والإحسان، والاتساع في طرق البيان، وأن يجيء بالكلام مطبوعا مصنوعا، وأن يضعه بعيد المرام، قريبا من الأفهام. ولا يغرّنّك من أمره أنك ترى الرجل يقول: «أتى بي الشوق إلى لقائك، وسار بي الحنين إلى رؤيتك، وأقدمني بلدك حقّ لي على إنسان»، وأشباه ذلك مما تجده لسعته وشهرته يجري مجرى الحقيقة التي لا يشكل أمرها، فليس هو كذلك أبدا، بل يدقّ ويلطف حتى يمتنع مثله إلا على الشاعر المفلق، والكاتب البليغ، وحتى يأتيك بالبدعة لم تعرفها، والنادر تأنق لها. وجملة الأمر أن سبيله سبيل الضّرب الأول الذي هو مجاز في نفس اللفظ وذات الكلمة، فكما أنّ من الاستعارة والتمثيل عاميّا مثل: «رأيت أسدا» و «وردت بحرا»، و «شاهدت بدرا»، و «سلّ من رأيه سيفا ماضيا»، وخاصيّا لا يكمل له كلّ أحد، مثل قوله: وسالت بأعناق المطيّ الأباطح كذلك الأمر في هذا المجاز الحكميّ. واعلم أنه ليس بواجب في هذا أن يكون للفعل فاعل في التقدير إذا أنت نقلت الفعل إليه عدت به إلى الحقيقة، مثل أنك تقول في: رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [البقرة: 16]، «ربحوا في تجارتهم»، وفي «يحمي نساءنا ضرب»، «نحمي نساءنا بضرب» فإن ذلك لا يتأتى في كل شيء. ألا ترى أنّه لا يمكنك أن تثبت للفعل في قولك: «أقدمني بلدك حقّ لي على إنسان»، فاعلا سوى الحق، وكذلك لا تستطيع في قوله: [من مجزوء الوافر]

_ (1) البيت في ديوانه (155) (ط) دار صادر، بيروت، وقبله: والمانعون إذا النساء ترادفت ... حذر السباء جمالها لا ترحل أرعل: مسترخ مائل.

وصيّرني هواك وبي ... لحيني يضرب المثل «1» وقوله: [من مجزوء الوافر] يزيدك وجهه حسنا ... إذا ما زدته نظرا «2» أن تزعم أنّ «لصيّرني» فاعلا قد نقل عنه الفعل، فجعل «للهوى» كما فعل ذلك في «ربحت تجارتهم» و «يحمي نساءنا ضرب»، ولا تستطيع كذلك أن تقدر «ليزيد» في قوله: «يزيدك وجهه» فاعلا غير «الوجه»، فالاعتبار إذن بأن يكون المعنى الذي يرجع إليه الفعل موجودا في الكلام على حقيقته. معنى ذلك أن «القدوم» في قولك» «أقدمني بلدك حقّ لي على إنسان»، موجود على الحقيقة، وكذلك «الصيرورة» في قوله: «وصيّرني هواك»، و «الزيادة» في قوله: «يزيدك وجهه» موجودا على الحقيقة، وإذا كان معنى اللفظ موجودا على الحقيقة، لم يكن المجاز فيه نفسه، وإذا لم يكن المجاز في نفس اللفظ، كان لا محالة في الحكم. فاعرف هذه الجملة، وأحسن ضبطها، حتى تكون على بصيرة من الأمر. ومن اللطيف في ذلك قول حاجز بن عوف: [من الوافر] أبي عبر الفوارس يوم داج ... وعمّي مالك وضع السّهاما فلو صاحبتنا لرضيت منّا ... إذا لم تغبق المائة الغلاما «3» يريد إذا كان العام عام جدب وجفّت ضروع الإبل، وانقطع الدّر، حتى إن حلب منها مائة لم يحصل من لبنها ما يكون غبوق غلام واحد. فالفعل الذي هو «غبق» مستعمل في نفسه على حقيقته، غير مخرج عن معناه وأصله إلى معنى شيء آخر، فيكون قد دخله مجاز في نفسه، وإنّما المجاز في أن أسند إلى الإبل وجعل فعلا لها، وإسناد الفعل إلى الشّيء حكم في الفعل، وليس هو نفس معنى الفعل، فاعرفه. واعلم أن من سبب اللّطف في ذلك أنه ليس كلّ شيء يصلح لأن يتعاطى فيه

_ (1) البيت سبق في عدة أبيات لابن البواب. (2) البيت لأبي نواس في ديوانه (235) (ط) بيروت، والإيضاح (36)، ونهاية الإيجاز (177) بلا عزو، والمفتاح (805)، والطيبي في التبيان (1/ 322)، وأورده صاحب الأغاني (25/ 41). (3) حاجز بن عوف بن الحارث الأزدي، جاهلي، صعلوك، عدّاء، والرواية في الأغاني (13/ 235)، «أبي ربع الفوارس ... » أي: أخذ ربع الغنائم، وأما عبر الفوارس كما هنا فهي بمعنى، استدل لهم حتى يعرف من أمرهم ما يعنيه.

هذا المجاز الحكميّ بسهولة، بل تجدك في كثير من الأمر، وأنت تحتاج إلى أن تهيّئ الشيء وتصلحه لذلك، بشيء تتوخّاه في النظم. وإن أردت مثالا في ذلك فانظر إلى قوله: [من الطويل] تناس طلاب العامريّة إذ نأت ... بأسجح «1» مرقال «2» الضّحى قلق الضّفر «3» إذا ما أحسّته الأفاعي تحيّزت ... شواة «4» الأفاعي من مثلّمة سمر «5» تجوب له الظّلماء عين كأنّها ... زجاجة شرب «6» غير ملأى ولا صفر يصف جملا، ويريد أنّه يهتدي بنور عينه في الظلماء، ويمكنه بها أن يخرقها ويمضي فيها، ولولاها لكانت الظلماء كالسّد والحاجز الذي لا يجد شيئا يفرجه به، ويجعل لنفسه فيه سبيلا. فأنت الآن تعلم أنه لولا أن قال: «تجوب له»: فعلّق «له» تجوب، ولما صلحت «العين» لأن يسند «تجوب» إليها، ولكان لا تتبيّن جهة التجوّز في جعل «تجوب» فعلا للعين كما ينبغي. وكذلك تعلم أنه لو قال مثلا: «تجوب له الظلماء عينه»، لم يكن له هذا الموقع، ولاضطرب عليه معناه، وانقطع السّلك من حيث كان يعييه حينئذ أن يصف العين بما وصفها به الآن. فتأمل هذا واعتبره. فهذه التهيئة وهذا الاستعداد في هذا المجاز الحكمي، نظير أنك تراك في الاستعارة التي هي مجاز في نفس الكلمة وأنت تحتاج في الأمر الأكثر إلى أن تمهّد لها وتقدّم أو تؤخّر ما يعلم به أنك مستعير ومشبّه، ويفتح طريق المجاز إلى الكلمة. ألا ترى إلى قوله: [من الطويل] وصاعقة من نصله ينكفي بها ... على أرؤس الأقران خمس سحائب «7»

_ (1) الأسجح: ليّن الخد والحسن المعتدل. اللسان/ سجح/ (2/ 475). (2) المرقال: تقول ناقة مرقال: مسرعة. اه القاموس/ رقل/ (1302). (3) الضفر: ما يشربه البعير من مضفور (الحبل). اه القاموس/ ضفر/ (551). (4) الشواة: قحف الرأس. اه القاموس/ شوى/ (1678). (5) المثلمة السمر: هي الأخفاف المقطعة من كثرة المشي. (6) شرب: القوم الشاربون. (7) البيت للبحتري في ديوانه (1/ 179)، والإيضاح (261)، والمفتاح (484)، وأورده الطيبي في التبيان (1/ 300)، وعزاه للبحتري، وفي شرحه على مشكاة المصابيح (1/ 117)، والعلوي في الطراز (1/ 231)، ورواية الديوان: وصاعقة من كفه ينكفي بها ... على أرؤس الأعداء خمسة سحائب ويريد بخمس سحائب: الأنامل.

عنى بخمس السحائب، أنامله، ولكنه لم يأت بهذه الاستعارة دفعة، ولم يرمها إليك بغتة، بل ذكر ما ينبئ عنها، ويستدلّ بها عليه، فذكر أن هناك صاعقة، وقال: «من نصله»، فبيّن أن تلك الصاعقة من نصل سيفه ثم قال: «أرؤس الأقران»، ثم قال: «خمس»، فذكر «الخمس» التي هي عدد أنامل اليد، فبان من مجموع هذه الأمور غرضه. وأنشدوا لبعض العرب: [من الرجز] فإن تعافوا العدل والإيمانا ... فإنّ في أيماننا نيرانا «1» يريد أن في أيماننا سيوفا نضربكم بها، ولولا قوله أولا: «فإن تعافوا العدل والإيمان»، وأن في ذلك دلالة على أنّ جوابه أنهم يحاربون ويقسرون على الطاعة بالسيف، ثم قوله: «فإن في أيماننا»، لما عقل مراده، ولما جاز له أن يستعير النيران للسيوف، لأنه كان لا يعقل الذي يريد، لأنّا وإن كنا نقول: «في أيديهم سيوف تلمع كأنها شعل نار» كما قال: [من الكامل] ناهضتهم والبارقات كأنّها ... شعل على أيديهم تتلهب «2» فإن هذا التشبيه لا يبلغ مبلغ ما يعرف مع الإطلاق، كمعرفتنا إذا قال: «رأيت أسدا»، أنه يريد الشجاعة، وإذا قال: «لقيت شمسا وبدرا»، أنه يريد الحسن ولا يقوي تلك القوة، فاعرفه. ومما طريق المجاز فيه الحكم، قول الخنساء: [من البسيط] ترتع ما رتعت، حتّى إذا ادّكرت ... فإنّما هي إقبال وإدبار «3» وذاك أنها لم ترد بالإقبال والإدبار غير معناهما، فتكون قد تجوّزت في نفس الكلمة، وإنما تجوّزت في أن جعلتها لكثرة ما تقبل وتدبر، ولغلبة ذاك عليها واتّصاله منها، وأنه لم يكن لها حال غيرهما، كأنها قد تجسّمت من الإقبال والإدبار. وإنّما

_ (1) البيت في الإيضاح (260) ط، دار الكتب العلمية، بيروت، بلا نسبة، والمعنى: أن سيوفا تلمع كأنها شعل نيران. (2) البيت للبحتري في الإيضاح (261)، والخطاب: للممدوح. (3) البيت في ديوانها (39) ط، دار الكتب العلمية، بيروت، وقبله: وما عجول على بقر تطيف به ... لها حنينان: إعلان وإسرار إقبال وإدبار: أي لا تنفك كقبل وتدبر كأنها خلقت منها.

كان يكون المجاز في نفس الكلمة، لو أنها كانت قد استعارت «الإقبال والإدبار» لمعنى غير معناهما الذي وضعا له في اللّغة. ومعلوم أن ليس الاستعارة مما أرادته في شيء. واعلم أن ليس بالوجه أن يعدّ هذا على الإطلاق معدّ ما حذف منه المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، مثل قوله عز وجل: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82]، ومثل قوله النابغة الجعدي: [من المتقارب] وكيف تواصل من أصبحت ... خلالته كأبي مرحب «1» وقول الأعرابيّ: [من الوافر] حسبت بغام راحلتي عناقا ... وما هي ويب غيرك بالعناق «2» وإن كنا نراهم يذكرونه حيث يذكرون حذف المضاف، ويقولون إنه في تقدير: «فإنما هي ذات إقبال وإدبار»، ذاك لأن المضاف المحذوف من نحو الآية والبيتين، في سبيل ما يحذف من اللفظ ويراد في المعنى، كمثل أن يحذف خبر المبتدأ والمبتدأ، إذا دلّ الدليل عليه إلى سائر ما إذا حذف كان في حكم المنطوق به. وليس الأمر كذلك في بيت الخنساء، لأنا إذا جعلنا المعنى فيه الآن كالمعنى إذا نحن قلنا: «فإنما هي ذات إقبال وإدبار»، أفسدنا الشعر على أنفسنا، وخرجنا إلى شيء مغسول، وإلى كلام عاميّ مرذول، وكان سبيلنا سبيل من يزعم مثلا في بيت المتنبي: [من الوافر] بدت قمرا، ومالت خوط بان، ... وفاحت عنبرا، ورنت غزالا «3»

_ (1) البيت: للنابغة الجعدي (الديوان 26)، وفي اللسان مادة/ خلل/ (11). الخلالة: الصداقة- أبو مرحب: كنية الذئب. (2) الشعر لذي الخرق الطهوي يخاطب الذئب. في نوادر أبي زيد (116)، ومجالس ثعلب (76، 185)، يقولها لذئب تبعه في طريقه وقبل البيت: ألم تعجب لذئب بات يسري ... ليؤذن صاحبا له باللحاق والبغام: صوت الظبية والناقة وحنينها، والعناق: أنثى المعز، قال الأستاذ محمود شاكر في هامش نسخته: ومن هامش المطبوعة بخط الناسخ ما نصه: «يخاطب ذئبا أي: حسبت ناقتي عناقا وبغامها بغام عناق». (3) البيت في ديوانه (1/ 184)، من قصيدة قالها في مدح أبي الحسين بدر بن عمار بن إسماعيل الأسدي الطبرستاني وبعده: وجارت في الحكومة ثم أبدت ... لنا من حسن قامتها اعتدالا بدت: ظهرت. الخوط: الغصن الناعم. رنت: نظرت. والبيت في الإيضاح (229) ط، دار الكتب العلمية، بيروت.

فصل

أنّه في تقدير محذوف، وأن معناه الآن كالمعنى إذا قلت: «بدت مثل قمر، ومالت مثل خوط بان، وفاحت مثل عنبر، ورنت مثل غزال»، في أنّا نخرج إلى الغثاثة، وإلى شيء يعزّل البلاغة عن سلطانها ويخفض من شأنها، ويصدّ أوجهنا عن محاسنها، ويسدّ باب المعرفة بها وبلطائفها علينا. فالوجه أن يكون تقدير المضاف في هذا على معنى أنّه لو كان الكلام قد جيء به على ظاهره ولم يقصد إلى الذي ذكرنا من المبالغة والاتساع، وأن تجعل الناقة كأنها قد صارت بجملتها إقبالا وإدبارا، حتى كأنها قد تجسّمت منهما، لكان حقّه حينئذ أن يجاء فيه بلفظ «الذات» فيقال: «إنما هي ذات إقبال وإدبار». فأمّا أن يكون الشعر الآن موضوعا على إرادة ذلك وعلى تنزيله منزلة المنطوق به حتّى يكون الحال فيه كالحال في: حسبت بغام راحلتي عناقا حين كان المعنى والقصد أن يقول: «حسبت بغام راحلتي بغام عناق»، فمما لا مساغ له عند من كان صحيح الذوق صحيح المعرفة، نسّابة للمعاني. فصل هذه مسألة قد كنت عملتها قديما، وقد كتبتها هاهنا لأن لها اتصالا بهذا الذي صار بنا القول إليه. قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [ق: 37]، أي لمن أعمل قلبه فيما خلق القلب له من التدبّر والتفكّر والنّظر فيما ينبغي أن ينظر فيه. فهذا على أن يجعل الذي لا يعي ولا يسمع ولا ينظر ولا يتفكّر، كأنه قد عدم القلب من حيث عدم الانتفاع به، وفاته الذي هو فائدة القلب والمطلوب منه، كما يجعل الذي لا ينتفع ببصره وسمعه ولا يفكر فيما يؤدّيان إليه، ولا يحصل من رؤية ما يرى وسماع ما يسمع على فائدة، بمنزلة من لا سمع له ولا بصر. فأما تفسير من يفسّره على أنه بمعنى «من كان له عقل»، فإنه إنما يصحّ على أن يكون قد أراد الدّلالة على الغرض على الجملة. فأما أن يؤخذ به على هذا الظاهر حتى كأن «القلب» اسم «للعقل»، كما يتوهمه الحشو ومن لا يعرف مخارج الكلام، فمحال باطل، لأنه يؤدي إلى إبطال الغرض من الآية، وإلى تحريف الكلام عن صورته، وإزالة المعنى عن جهته. وذاك أنّ المراد به الحثّ على النّظر، والتقريع على تركه، وذمّ من يخل به ويعقل عنه. ولا يحصل ذلك إلا بالطّريق الذي قدّمته، وإلّا بأن يكون

[فصل: في الكناية والتعريض]

قد جعل من لا يفقه بقلبه ولا ينظر ولا يتفكّر، كأنه ليس بذي قلب، كما يجعل كأنه جماد، وكأنه ميّت لا يشعر ولا يحسّ وليس سبيل من فسّر «القلب» هاهنا على «العقل»، إلّا سبيل من فسّر عليه «العين» و «السمع» في قول الناس: «هذا بيّن لمن كانت له عين، ولمن كان له سمع»، وفسّر «العمى» و «الصّمم» و «الموت» في صفة من يوصف بالجهالة، على مجرّد الجهل، وأجرى جميع ذلك على الظّاهر، فاعرفه. ومن عادة قوم ممن يتعاطى التفسير بغير علم، أن يوهموا أبدا في الألفاظ الموضوعة على المجاز والتمثيل، أنها على ظواهرها، فيفسدوا المعنى بذلك، ويبطلوا الغرض، ويمنعوا أنفسهم والسامع منهم العلم بموضع البلاغة، وبمكان الشّرف. وناهيك بهم إذا هم أخذوا في ذكر الوجوه، وجعلوا يكثرون في غير طائل، هناك ترى ما شئت من باب جهل قد فتحوه، وزند ضلالة قد قدحوا به، ونسأل الله تعالى العصمة والتوفيق. [فصل: في الكناية والتعريض] هذا فنّ من القول دقيق المسلك، لطيف المأخذ، وهو أنّا نراهم كما يصنعون في نفس الصّفة بأن يذهبوا بها مذهب الكناية والتعريض، كذلك يذهبون في إثبات الصّفة هذا المذهب. وإذا فعلوا ذلك، بدت هناك محاسن تملأ الطّرف، ودقائق تعجز الوصف، ورأيت هنالك شعرا شاعرا، وسحرا ساحرا، وبلاغة لا يكمل لها إلا الشاعر المفلق، والخطيب المصقع. وكما أن الصفة إذا لم تأتك مصرّحا بذكرها، مكشوفا عن وجهها، ولكن مدلولا عليها بغيرها، وكان ذلك أفخم لشأنها، وألطف لمكانها، كذلك إثباتك الصّفة للشيء تثبتها له، إذا لم تلقه إلى السامع صريحا، وجئت إليه من جانب التعريض والكناية والرّمز والإشارة، كان له من الفضل والمزيّة، ومن الحسن والرّونق، ما لا يقلّ قليله، ولا يجهل موضع الفضيلة فيه. وتفسير هذه الجملة وشرحها: أنهم يرومون وصف الرجل ومدحه، وإثبات معنى من المعاني الشريفة له، فيدعون التصريح بذلك، ويكنون عن جعلها فيه بجعلها في شيء يشتمل عليه ويتلبّس به، ويتوصّلون في الجملة إلى ما أرادوا من الإثبات، لا من الجهة الظاهرة المعروفة، بل من طريق يخفى، ومسلك يدقّ؟ ومثاله قول زياد الأعجم: [من الكامل]

إنّ السّماحة والمروءة والنّدى ... في قبّة ضربت على ابن الحشرج «1» أراد، كما لا يخفى، أن يثبت هذه المعاني والأوصاف خلالا للممدوح وضرائب «2»، فترك أن يصرّح فيقول: «إن السماحة والمروءة والندى لمجموعة في ابن الحشرج، أو مقصورة عليه، أو مختصّة به»، وما شاكل ذلك مما هو صريح في إثبات الأوصاف للمذكورين بها، وعدل إلى ما ترى من الكناية والتلويح فيجعل كونها في القبّة المضروبة عليه، عبارة عن كونها فيه، وإشارة إليه، فخرج كلامه بذلك إلى ما خرج إليه من الجزالة، وظهر فيه ما أنت ترى من الفخامة، ولو أنه أسقط هذه الواسطة من البين، لما كان إلا كلاما غفلا، وحديثا ساذجا. فهذه الصّنعة في طريق الإثبات، هي نظير الصّنعة في المعاني، إذا جاءت كنايات عن معان أخر، نحو قوله: [من الوافر] وما يك فيّ من عيب فإنّي ... جبان الكلب مهزول الفصيل «3» فكما أنه إنما كان من فاخر الشعر، ومما يقع في الاختيار «4»، لأجل أنّه أراد أن يذكر نفسه بالقرى والضيافة، فكنّى من ذلك بجبن الكلب وهزال الفصيل، وترك أن يصرّح فيقول: «قد عرف أن جنابي مألوف، وكلبي مؤدّب لا يهرّ في وجوه من يغشاني من الأضياف، وأني أنحر المتالي «5» من إبلي وأدع فصالها هزلى» كذلك، إنّما راقك بيت زياد، لأنّه كنى عن إثباته السماحة والمروءة والندى كائنة في الممدوح، بجعلها كائنة في القبّة المضروبة عليه.

_ (1) البيت لزياد الأعجم من قصيدة له في المدح، وهو كناية عن وصف ممدوحه بالتمكين في صفات المروءة والسماحة والندى، والبيت أورده القزويني في الإيضاح (290)، وعزاه لأبي زياد الأعجم، والسكاكي في المفتاح (517) ط، دار الكتب العلمية، بيروت، وفي الطراز (1/ 422)، ونهاية الإيجاز (271)، والإشارات (245)، والمصباح (152). ابن الحشرج: من ولاة بني أمية، اسمه عبد الله. (2) ضرائب: الضريبة الخليفة يقال إنه لكريم الضرائب. اه اللسان/ ضرب/ (1/ 459). (3) البيت أورده القزويني في الإيضاح (288)، وهو لابن هرمة، وهو شاعر مخضرمي الدولتين، توفي سنة (145 هـ)، والبيت غير منسوب في الحيوان (1/ 377)، والحماسة (1/ 260)، ومنسوب لابن هرمة في البيان والتبيين، وفي ديوان ابن هرمة (198)، والتبيان (39)، والطراز (1/ 423)، والإشارات (242)، وأورده الرازي في نهاية الإيجاز (271)، وبدر الدين بن مالك في المصباح (150). الفصيل: ولد الناقة إذا فصل عن أمه. (4) الاختيار: اختيار أبي تمام في حماسته. (5) المتالي: الأمهات إذا تلاها الأولاد. اه اللسان مادة/ تلا/ (14/ 103).

هذا، وكما أن من شأن الكناية الواقعة في نفس الصّفة أن تجيء على صور مختلفة، كذلك من شأنها إذا وقعت في طريق إثبات الصّفة أن تجيء على هذا الحدّ، ثم يكون في ذلك ما يتناسب، كما كان ذلك في الكناية عن الصفة نفسها. تفسير هذا: أنك تنظر إلى قول يزيد بن الحكم «1» يمدح به يزيد بن المهلّب، وهو في حبس الحجّاج: [من المنسرح] أصبح في قيدك السّماحة والمج ... د وفضل الصّلاح والحسب فتراه نظيرا لبيت «زياد»، وتعلم أن مكان «القيد» هاهنا هو مكان «القبة» هناك. كما أنك تنظر إلى قوله: «جبان الكلب»، فتعلم أنه نظير لقوله: [من الطويل] زجرت كلابي أن يهرّ عقورها «2» من حيث لم يكن ذلك «الجبن» إلا لأن دام منه الزّجر واستمرّ، حتى أخرج الكلب بذلك عما هو عادته من الهرير والنّبح في وجه من يدنو من دار هو مرصد لأن يعسّ دونها. وتنظر إلى قوله: «مهزول الفصيل»، فتعلم أنه نظير قول ابن هرمة: لا أمتع العوذ بالفصال وتنظر إلى قول نصيب: [من المتقارب] لعبد العزيز على قومه ... وغيرهم منن ظاهره فبابك أسهل أبوابهم ... ودارك مأهولة عامره وكلبك آنس بالزّائرين ... من الأمّ بالابنة الزّائره «3»

_ (1) يزيد بن الحكم: شاعر عالي الطبقة من أعيان العصر الأموي من أهل الطائف توفي سنة (105) هـ. (2) البيت: لعوف بن الأحوص الكلابي، وهو شاعر جاهلي، (الوحشيات 6/ 2)، والمفضليات (176). ونسبه في الحماسة إلى أخيه شريح وعجز البيت: «رقعت له ثاري فلما اهتدى بها عقورها» عقر الفرس والبعير عقرا: قطع قوائمه/ اللسان مادة/ عقر (4/ 229). (3) الأبيات لنصيب الشاعر الأموي في مدح عبد العزيز بن مروان، والأبيات في الإيضاح (288)، والمفتاح (516)، وأوردها محمد بن علي الجرجاني في الإشارات (242)، وعزاها لنصيب، والتبيان (39). ونصيب كان عبدا أسود لرجل من أهل وادي القرى، أتى عبد العزيز بن مروان، بعد ذلك أصبح النصيب مولى بني مروان، كانت أمه سوداء، فوقع بها سيدها فولدت نصيبا، فوثب عليه عمه بعد موت أبيه واستعبده. ترجمته في الشعر والشعراء (417، 419)، وطبقات الشعراء، والأغاني، والآلي، ومعجم الأدباء، والأبيات المذكورة، يمدح بها سيده عبد العزيز بن مروان.

فتعلم أنه من قول الآخر: [من الطويل] يكاد إذا ما أبصر الضّيّف مقبلا ... يكلّمه من حبّه وهو أعجم «1» وأن بينهما قرابة شديدة ونسبا لاصقا، وأن صورتهما في فرط التناسب صورة بيتي «زياد» و «يزيد». وممّا هو إثبات للصّفة على طريق الكناية والتعريض، قولهم: «المجد بين ثوبيه، والكرم في برديه»، وذلك أن قائل هذا يتوصّل إلى إثبات المجد والكرم للممدوح، بأن يجعلهما في ثوبه الذي يلبسه، كما توصّل «زياد» إلى إثبات السماحة والمروءة والندى لابن الحشرج، بأن جعلها في القبّة التي هو جالس فيها. ومن ذلك قوله: [من البسيط] وحيثما يك أمر صالح فكن «2» وما جاء في معناه من قوله: [من المتقارب] يصير أبان قرين السّماح ... والمكرمات معا حيث صارا «3» وقول أبي نواس: [من الطويل] فما جازه جود ولا حلّ دونه ... ولكن يصير الجود حيث يصير «4»

_ (1) البيت لابن هرمة، وهو غير منسوب في الحيوان (1/ 377)، والحماسة (1/ 260)، ومنسوب لابن هرمة في البيان والتبيين (3/ 205)، وهو في ديوان ابن هرمة (198)، والتبيان (39)، والطراز، والإيضاح (288)، والمفتاح (516). (2) البيت: لزهير بن أبي سلمى (الديوان 282) وهو عجز البيت، وصدر البيت: «هنّاك ربّك ما أعطاك من حسن» وهنّاك: هنّأك. (3) البيت: للكميت بن زيد صاحب الهاشميات ورد البيت في (سرقات أبي نواس 36). (4) البيت في ديوانه (94)، من قصيدة قالها عند ما قدم على الخصيب صادف في مجلسه جماعة من الشعراء ينشدونه مدائح فيه فلما فرغوا، قال الخصيب ألا تنشدنا أبا علي؟ فقال: أنشدك أيها الأمير قصيدة هي بمنزلة عصا موسى تلقف ما يأفكون. قال: هات إذا فأنشده هذه فاهتز لها، وأمر له بجائزة سنية، والبيتان قبله: إذا لم تزر أرض الخصيب ركابنا ... فأي فتى بعد الخصيب تزور فتى يشتري حسن الثناء بماله ... ويعلم أن الدائرات تدور والبيت فيه كناية عن كرم وسخاء ممدوحه حتى لا يخلو مجال لذكر الكرماء من ذكره معهم، والبيت في المفتاح (520)، والإيضاح (291)، وأورده بدر الدين بن مالك في المصباح (153)، وعزاه لابن هانئ، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات (246)، والطيبي في التبيان (1/ 331)، وعزوه جميعا لأبي نواس.

كل ذلك توصّل إلى إثبات الصفة في الممدوح بإثباتها في المكان الذي يكون فيه، وإلى لزومها له بلزومها الموضع الذي يحله. وهكذا إن اعتبرت قول الشّنفرى يصف امرأة بالعفة: [من الطويل] يبيت بمنجاة من اللّؤم بيتها ... إذا ما بيوت بالملامة حلّت «1» وجدته يدخل في معنى بين «زياد»، وذلك أنه توصّل إلى نفي اللّؤم عنها وإبعادها عنه، بأن نفاه عن بيتها وباعد بينه وبينه، وكان مذهبه في ذلك مذهب «زياد» في التوصل إلى جمع «السماحة والمروءة والندى» في ابن الحشرج، بأن جعلها في القبة المضروبة عليها. وإنّما الفرق أنّ هذا ينفي، وذاك يثبت. وذلك فرق لا في موضع الجمع، فهو لا يمنع أن يكونا من نصاب واحد. وممّا هو في حكم المناسب لبيت «زياد» وأمثاله التي ذكرت، وإن كان قد أخرج في صورة أغرب وأبدع، قول حسان رضي الله عنه: [من الطويل] بنى المجد بيتا فاستقرّت عماده ... علينا، فأعيى النّاس أن يتحوّلا «2» وقول البحتري: [من الكامل] أو ما رأيت المجد ألقى رحله ... في آل طلحة ثمّ لم يتحوّل «3» ذاك لأنّ مدار الأمر على أنه جعل المجد والممدوح في مكان، وجعله يكون حيث يكون.

_ (1) البيت في المفضليات (108) رقم (20)، وقبله: لقد أعجبتني لا سقوطا قناعها ... إذا ما مشت ولا بذات تلفت تبيت بعيد النوم تهدي عنوقها ... لجارتها إذا ما الهدية قلت والشنفرى شاعر جاهلي من بني الحارث بن ربيعة. والشنفرى اسمه، وقيل: لقب له، ومعناه عظيم الشفة. والبيت أورده القزويني في الإيضاح (292)، والمفتاح (519)، والطيبي في التبيان (1/ 332)، والطيبي في شرحه على مشكاة المصابيح (1/ 126)، ونهاية الإيجاز (271)، والطراز (1/ 424). (2) البيت في ديوانه (162) ط، دار ابن خلدون من قصيدة مطلعها: لك الخير غضي اللوم عني فإنني ... أحب من الأخلاق ما كان أجملا ذريني وعلمي بالأمور وشيمتي ... فما طائري يوما عليك بأخيلا (3) البيت في ديوانه، وأورده القزويني في الإيضاح (293)، والطيبي في التبيان (1/ 331)، ومحمد ابن علي السكاكي في المفتاح (522)، والعلوي في الطراز (1/ 424)، والإشارات للجرجاني (248)، والبيت في شرح ديوان أبي تمام لشاهين عطية (105).

واعلم أنه ليس كلّ ما جاء كناية في إثبات الصفة يصلح أن يحكم عليه بالتناسب. معنى هذا: أن جعلهم الجود والكرم والمجد يمرض بمرض الممدوح كما قال البحتريّ: [من الطويل] ظللنا نعود الجود من وعك الّذي ... وجدت، وقلنا اعتلّ عضو من المجد «1» وإن كان يكون القصد منه إثبات الجود والمجد للممدوح، فإنه لا يصحّ أن يقال إنه نظير لبيت «زياد» كما قلنا ذاك في بيت أبي نواس: ولكن يصير الجود حيث يصير وغيره مما ذكرنا أنه نظير له كما أنه لا يجوز أن يجعل قوله: وكلبك أرأف بالزّائرين «2» مثلا، نظيرا لقوله: مهزول الفصيل وإن كان الغرض منهما جميعا الوصف بالقرى والضيافة، وكانا جميعا كنايتين عن معنى واحد، لأن تعاقب الكنايات على المعنى الواحد لا يوجب تناسبها، لأنه في عروض أن تتّفق الأشعار الكثيرة في كونها مدحا بالشجاعة مثلا أو بالجود أو ما أشبه ذلك. وقد يجتمع في البيت الواحد كنايتان، المغزى منهما شيء واحد، ثم لا تكون إحداهما في حكم النظير للأخرى. مثال ذلك أنه لا يكون قوله: «جبان الكلب» نظيرا لقوله: «مهزول الفصيل»، بل كل واحدة من هاتين الكنايتين أصل بنفسه، وجنس على حدة، وكذلك قول ابن هرمة: [من المنسرح] لا أمتع العوذ بالفصال ولا ... أبتاع إلّا قريبة الأجل «3» ليس إحدى كنايتيه في حكم النظير للأخرى، وإن كان المكنيّ بهما عنه واحدا، فاعرفه. وليس لشعب هذا الأصل وفروعه وأمثلته وصوره وطرقه ومسالكه حدّ ونهاية. ومن لطيف ذلك ونادره قول أبي تمام: [من الوافر]

_ (1) البيت: للبحتري في مدح إبراهيم بن المدبّر (الديوان 1/ 365). (2) سبق تخريجه قريبا. (3) راجع ص (181) هامش (1).

أبين فما يزرن سوى كريم ... وحسبك أن يزرن أبا سعيد «1» ومثله، وإن لم يبلغ مبلغه، قول الآخر: [من الوافر] متى تخلو تميم من كريم ... ومسلمة بن عمرو من تميم وكذلك قول بعض العرب: [من المتقارب] إذا الله لم يسق إلّا الكرام ... فسقّى وجوه بني حنبل وسقّى ديارهم باكرا ... من الغيث في الزّمن الممحل «2» وفنّ منه غريب، قول بعضهم في البرامكة: [من الطويل] سألت النّدى والجود: ما لي أراكما ... تبدّلتما ذلّا بعزّ مؤيّد وما بال ركن المجد أمسى مهدّما؟ ... فقالا: أصبنا بابن يحيى محمّد فقلت: فهلّا متّما عند موته ... فقد كنتما عبديه في كلّ مشهد؟ فقالا: أقمنا كي نعزّى بفقده ... مسافة يوم، ثمّ نتلوه في غد «3»

_ (1) البيت في ديوانه (105) ط، دار الكتب العلمية، بيروت، من قصيدة قالها في مدح أبي سعيد محمد بن يوسف الثغري، وقبله: قلائص شوقهن يزيد شوقا ... ويمنعن الرقاد من الرقود إذا انبعثت على أمل بعيد ... فقد أدنت من الأمل البعيد والبيت أورده بدر الدين بن مالك في المصباح (155)، والعلوي في الطراز (1/ 424)، والسكاكي في المفتاح (521)، والقزويني في الإيضاح (593)، والتبيان (40). وأبو سعيد: هو محمد بن يوسف التعري الطائي. (2) البيتان أوردهما بدر الدين بن مالك في المصباح (155)، ونسبهما لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت، ورواية المصباح: «الأمحل» بدل «الممحل»، وأوردهما محمد بن علي الجرجاني في الإشارات (248)، والقزويني في الإيضاح (293، 294)، والسكاكي في المفتاح (522)، ولسان العرب (ريب)، وتاج العروس (ريب)، والأغاني (22/ 270)، ولزهير السكب التميمي المازني، والبيتان لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت، وفيهما كناية عن وصف الممدوحين بالكرم. سقى: من السقيا وضعف للمبالغة، الممحل: الجديب. (3) الأبيات أوردها محمد بن علي السكاكي في المفتاح (522)، وبدر الدين بن مالك في المصباح (156)، ورواية كل من المفتاح والمصباح: «بعز مؤبد» بدل من «عز مؤيد» التي في مطبوعة العلامة محمود محمد شاكر. وقال: عز مؤيد: من أيده إذا قواه وعززه، وكان في المطبوعة والمخطوطتين «مؤبد» بالباء الموحدة، وهو عندي ليس بشيء.

فصل [من التوكيد]

فصل [من التوكيد] واعلم أن ممّا أغمض الطريق إلى معرفة ما نحن بصدده، أنّ هاهنا فروقا خفيّة تجهلها العامة وكثير من الخاصّة، ليس أنهم يجهلونها في موضع ويعرفونها في آخر، بل لا يدرون أنّها هي، ولا يعلمونها في جملة ولا تفصيل. روي عن ابن الأنباريّ «1» أنه قال: ركب الكنديّ «2» المتفلسف إلى أبي العباس «3» وقال له: إنّي لأجد في كلام العرب حشوا! فقال له أبو العباس: في أي موضع وجدت ذلك؟ فقال: أجد العرب يقولون: «عبد الله قائم»، ثم يقولون «إنّ عبد الله قائم»، ثم يقولون: «إنّ عبد الله لقائم»، فالألفاظ متكرّرة والمعنى واحد. فقال أبو العباس: بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ فقولهم: «عبد الله قائم»، إخبار عن قيامه وقولهم: «إنّ عبد الله قائم»، جواب عن سؤال سائل وقوله: «إنه عبد الله لقائم»، جواب عن إنكار منكر قيامه، فقد تكرّرت الألفاظ لتكرّر المعاني. قال فما أحار المتفلسف جوابا. وإذا كان الكنديّ يذهب هذا عليه حتى يركب فيه ركوب مستفهم أو معترض، فما ظنّك بالعامّة، ومن هم في عداد العامّة، ممن لا يخطر شبه هذا بباله؟. واعلم أنّ هاهنا دقائق لو أنّ الكنديّ استقرى وتصفّح وتتبع مواقع «إنّ»، ثم ألطف النّظر وأكثر التدبّر، لعلم علم ضرورة أن ليس سواء دخولها وأن لا تدخل. فأوّل ذلك وأعجبه ما قدّمت لك ذكره في بيت بشّار: [من الخفيف] بكّرا صاحبيّ قبل الهجير ... إنّ ذاك النّجاح في التّبكير «4» وما أنشدته معه من قول بعض العرب: [من الرجز] فغنّها وهي لك الفداء ... إنّ غناء الإبل الحداء «5»

_ (1) ابن الأنباري: محمد بن القاسم بن محمد بن بشار بن الحسن الأنباري أبو بكر أديب نحوي لغوي مفسر من كتبه (الكافي في النحو)، (غريب الحديث) توفي عام 328 هـ (شذرات الذهب 2/ 315)، ومعجم المؤلفين (11/ 143). (2) الكندي: يعقوب بن إسحاق بن الصباح الكندي أبو يوسف فيلسوف العرب والإسلام في عصره اشتهر بالطب والفلسفة والموسيقى وغيرها، ألف وترجم كتبا كثيرة توفي 260 هـ (الأعلام). (3) إلى أبي العباس والمراد به أبو العباس المبرد صاحب الكامل. (8/ 195). (4) سبق ص (184)، هامش (1). (5) سبق ص (184)، هامش (2).

وذلك أنه هل شيء أبين في الفائدة، وأدلّ على أن ليس سواء دخولها وأن لا تدخل، أنك ترى الجملة إذا هي دخلت ترتبط بما قبلها وتأتلف معه وتتّحد به، حتى كأن الكلامين قد أفرغا إفراغا واحدا، وكأن أحدهما قد سبك في الآخر؟ هذه هي الصّورة، حتى إذا جئت إلى «إنّ» فأسقطتها، ورأيت الثاني منهما قد نبا عن الأول، وتجافى معناه عن معناه، ورأيته لا يتّصل به ولا يكون منه بسبيل، حتى تجيء «بالفاء» فتقول: «بكّرا صاحبي قبل الهجير، فذاك النجاح في التبكير»، و «غنّها وهي لك الفداء، فغناء الإبل الحداء»، ثم لا ترى «الفاء» تعيد الجملتين إلى ما كانتا عليه من الألفة، ولا تردّ عليك الذي كنت تجد «بإنّ» من المعنى. وهذا الضرب كثير في التنزيل جدّا، من ذلك قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج: 1]، وقوله عزّ اسمه: يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان: 17]، وقوله سبحان: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة: 103]، ومن أبين ذلك قوله تعالى: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ [هود: 37] [المؤمنون: 27]، وقد يتكرّر في الآية الواحدة كقوله عز اسمه: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [يوسف 53]، وهي على الجملة من الكثرة بحيث لا يدركها الإحصاء. ومن خصائصها أنك ترى لضمير الأمر والشأن معها من الحسن واللّطف ما لا تراه إذا هي لم تدخل عليه، بل تراه لا يصلح حيث صلح إلا بها، وذلك في مثل قوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف: 9] وقوله: أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ [التوبة: 63]، أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ [الأنعام: 54]، وقوله: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ [المؤمنون: 117]، ومن ذلك قوله: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ [الحج: 46]، وأجاز أبو الحسن «1» فيها وجها آخر، وهو أن يكون الضمير في «إنها» للأبصار، أضمرت قبل الذكر على شريطة التفسير. والحاجة في هذا الوجه أيضا إلى «إنّ» قائمة، كما كانت في الوجه الأوّل فإنه لا يقال: «هي لا تعمى الأبصار» كما لا يقال: «هو من يتّق ويصبر فإن الله لا يضيع».

_ (1) أبو الحسن: المراد به الأخفش الأوسط وهو سعيد بن مسعد.

فإن قلت: أو ليس قد جاء ضمير الأمر مبتدأ به معرّى من العوامل في قوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ؟. قيل: هو وإن جاء هاهنا، فإنه لا يكاد يوجد مع الجملة من الشرط والجزاء، بل تراه لا يجيء إلا «بإنّ»، على أنّهم قد أجازوا في «قل هو الله أحد»، أن لا يكون الضمير للأمر. ومن لطيف ما جاء في هذا الباب ونادره، ما تجده في آخر هذه الأبيات، أنشدها الجاحظ لبعض الحجازيّين: [من الطويل] إذا طمع يوما عراني قريته ... كتائب يأس، كرّها وطرادها أكد ثمادي، والمياه كثيرة ... أعالج منها حفرها واكتدادها وأرضى بها من بحر آخر، إنّه ... هو الرّيّ أن ترضى النّفوس ثمادها «1» المقصود قوله: «إنّه هو الرّيّ»، وذلك أن الهاء في «إنّه» تحتمل أمرين: أحدهما: أن تكون ضمير الأمر، ويكون قوله: «هو» ضمير «أن ترضى»، وقد أضمره قبل الذكر على شريطة التفسير. الأصل: «إن الأمر، أن ترضى النفوس ثمادها، الريّ»، ثم أضمر قبل الذكر كما أضمرت «الأبصار» في «فإنها لا تعمى الأبصار» على مذهب أبي الحسن، ثم أتى بالمضمر مصرّحا به في آخر الكلام، فعلم بذلك أن الضمير السابق له، وأنه المراد به. والثاني: أن تكون الهاء في «إنه» ضمير «أن ترضى» قبل الذكر، ويكون «هو» فصلا، ويكون أصل الكلام: «إنّ أن ترضى النفوس ثمادها هو الرّيّ» ثم أضمر على شريطة التفسير. وأيّ الأمرين كان، فإنه لا بدّ فيه من «إن»، ولا سبيل إلى إسقاطها، لأنك إن أسقطتها أفضى ذلك بك إلى شيء شنيع، وهو أن تقول: «وأرضى بها من بحر آخر هو هو الريّ أن ترضى النفوس ثمادها». هذا، وفي «إنّ» هذه شيء آخر يوجب الحاجة إليها، وهو أنها تتولى من ربط الجملة بما قبلها نحوا مما ذكرت لك في بيت بشار. ألا ترى أنّك لو أسقطت «إنّ» والضميرين معا، واقتصرت على ذكر ما يبقى من

_ (1) البيت الثاني في لسان العرب (كدد)، منسوب لثعلب ومعناه: أرضى بالقليل وأقنع به. ثماد: جمع ثمد وهو الماء القليل، وكدّ الشيء يكدّه واكتدّه: نزعه بيده، يكون ذلك في الجامد والسائل.

الكلام، لم تقله إلا «بالفاء» كقولك: «وأرضى بها من بحر آخر، فالرّيّ أن ترضى النفوس ثمادها». فلو أنّ الفيلسوف قد كان تتبع هذه المواضع، لما ظنّ الذي ظن. هذا، وإذا كان خلف الأحمر وهو القدوة، ومن يؤخذ عنه، ومن هو بحيث يقول الشعر فينحله الفحول الجاهليّين فيخفى ذلك له، ويجوز أن يشتبه ما نحن فيه عليه حتّى يقع له أن ينتقد على بشار، فلا غرو أن تدخل الشّبهة في ذلك على الكنديّ. ومما تصنعه «إنّ» في الكلام، أنك تراها تهيّئ النكرة وتصلحها لأن يكون لها حكم المبتدأ، أعني أن تكون محدّثا عنها بحديث من بعدها. ومثال ذلك قوله: [من البسيط المنخلع] إنّ شواء ونشوة ... وخبب البازل الأمون «1» قد ترى حسنها وصحة المعنى معها، ثم إنك إن جئت بها من غير: «إنّ» فقلت: «شواء ونشوة وخبب البازل الأمون» لم يكن كلاما. فإن كانت النكرة موصوفة، وكانت لذلك تصلح أن يبتدأ بها، فإنك تراها مع «إن» أحسن، وترى المعنى حينئذ أولى بالصحة وأمكن، أفلا ترى إلى قوله: [من الخفيف] إنّ دهرا يلفّ شملي بسعدى ... لزمان يهمّ بالإحسان «2» ليس بخفيّ وإن كان يستقيم أن تقول: «دهر يلف شملي بسعدى دهر صالح» أن ليس الحالان على سواء، وكذلك ليس بخفيّ أنك لو عمدت إلى قوله: [من المديد المشطور] إنّ أمرا فادحا ... عن جوابي شغلك «3» فأسقطت منه «إنّ» لعدمت منه الحسن والطّلاوة والتمكّن الذي أنت واجده الآن، ووجدت ضعفا وفتورا.

_ (1) الشعر لسلمى بن ربيعة التميمي. والبازل: يقال للبعير إذا استكمل السنة الثامنة وطعن في التاسعة وفطر نابه فهو حينئذ بازل وكذلك الأنثى بغير هاء، جمل بازل وناقة بازل، وهو أقصى أسنان للبعير، سمي بازلا من البزل، وهو الشق، وذلك أن نابه وإذا اطلع يقال له: بازل لشقه عن اللحم عن منبته شقا. وقال النابغة في السّنّ وسماها بازلا: مقذوفة بدخيس النحض بازلها ... له صريف صريف القعو بالمسد اللسان (بزل). الأمون: الناقة الموثقة الخلق المأمونة العثار. (2) البيت: لحسان بن ثابت (الديوان 1/ 517) «بسعدى»، ورد في الديوان «بجمل». (3) الشعر لأم السليك بن السلكة ترش ولدها، وشعرها في شرح الحماسة للتبريزي (2/ 191، 192).

ومن تأثير «إنّ» في الجملة، أنها تغني إذا كانت فيها من الخبر، في بعض الكلام. ووضع صاحب الكتاب في ذلك بابا فقال: «هذا باب ما يحسن عليه السكوت في هذه الأحرف الخمسة، لإضمارك ما يكون مستقرّا لها وموضعا لو أظهرته. وليس هذا المضمر بنفس المظهر، وذلك: «إنّ مالا» و «إنّ ولدا»، و «إنّ عددا»، أي: «إنّ لهم مالا» فالذي أضمرت هو «لهم» ويقول الرجل للرجل: «هل لكم أحد؟ إنّ الناس ألب عليكم؟»، فتقول: «إنّ زيدا وإنّ عمرا» أي: «لنا»، وقال الأعشى: [من المنسرح] إنّ محلّا وإنّ مرتحلا ... وإنّ في السّفر إذ مضوا مهلا «1» ويقول: «إنّ غيرها إبلا وشاء» كأنه قال: «إنّ لنا، أو: عندنا، غيرها»، قال: وانتصب «الإبل» و «الشّاء» كانتصاب «الفارس» إذا قلت: «ما في الناس مثله فارسا»، وقال: ومثل ذلك قوله: [من الرجز] يا ليت أيّام الصّبا رواجعا «2» قال: فهذا كقولهم: «ألا ماء باردا»، كأنه قال: «ألا ماء لنا باردا» وكأنّه قال: «يا ليت أيّام الصبا أقبلت رواجع». فقد أراك في هذا كلّه أنّ الخبر محذوف، وقد ترى حسن الكلام وصحّته مع حذفه وترك النّطق به. ثم إنك إن عمدت إلى «إنّ» فأسقطتها، وجدت الذي كان حسن من حذف الخبر، لا يحسن أو لا يسوغ. فلو قلت: «مال»، و «عدد» و «محلّ» و «مرتحل»

_ (1) البيت للأعشى في ديوانه (170)، والأعشى: هو ميمون بن قيس يمدح سلامة ذا قائش، والبيت في الإيضاح (89)، والإشارات والتنبيهات (63)، وشرح المرشدي على عقود الجمان (1/ 103)، وخزانة الأدب (10/ 452، 459)، والخصائص (2/ 373)، والشعر والشعراء (75)، وأمالي ابن الحاجب (1/ 345). (2) الشعر للعجاج في ملحقات ديوانه (405) ط، دار صادر، والعجاج هو: عبد الله بن رؤبة بن لبيد ابن صخر بن كثيف بن ربيعة بن سعد بن مالك بن تميم، وكنيته أبو الشعثاء، والشعثاء ابنته وكبرى أولاده، ولقب بالعجاج لقوله: حتى يعجّ عنده من عجعجا والبيت في لسان العرب (ليت) بلا نسبة. والمعنى: إنما أراد: يا ليت أيام الصبا لنا رواجع، نصبه على الحال، وحكى النحويون أن بعض العرب يستعملها بمنزلة وجدت فيعديها إلى مفعولين، ويجريها مجرى الأفعال، فيقول: ليت زيدا شاخصا فيكون البيت على هذه اللغة. لسان العرب (ليت).

و «غيرها إبلا وشاء» لم يكن شيئا. وذلك أنّ «إنّ» كانت السبب في أن حسن حذف الذي حذف من الخبر، وأنها حاضنته، والمترجم عنه، والمتكفّل بشأنه. واعلم أن الذي قلنا في «إن» من أنها تدخل على الجملة، من شأنها إذا هي أسقطت منها أن يحتاج فيها إلى «الفاء» لا يطّرد في كلّ شيء وكلّ موضع، بل يكون في موضع دون موضع، وفي حال دون حال، فإنك قد تراها قد دخلت على الجملة ليست هي مما يقتضي «الفاء»، وذلك فيما لا يحصى كقوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ. فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وذاك أنّ قبله إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ [الدخان: 50 - 52]. ومعلوم أنك لو قلت: «إنّ هذا ما كنتم به تمترون، فالمتقون في جنات وعيون»، لم يكن كلاما وكذلك قوله: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ، لأنك لو قلت: «لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ [الأنبياء: 100 - 101] فالذين سبقت لهم منا الحسنى»، لم تجد لإدخالك «الفاء» فيه وجها وكذلك قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الحج: 17]، «الذين آمنوا» اسم «إنّ»، وما بعده معطوف عليه، وقوله «إن الله يفصل بينهم يوم القيامة»، جملة في موضع الخبر، ودخول «الفاء» فيها محال، لأن الخبر لا يعطف على المبتدأ ومثله سواء: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف: 30]. فإذا، إنما يكون الذي ذكرنا في الجملة من حديث اقتضاء «الفاء»، إذا كان مصدرها مصدر الكلام يصحّح به ما قبله، يحتجّ له، ويبيّن وجه الفائدة فيه. ألا ترى أن الغرض من قوله: إنّ ذاك النّجاح في التبكير جلّه أن يبيّن المعنى في قوله لصاحبيه: «بكّرا»، وأن يحتجّ لنفسه في الأمر بالتبكير، ويبيّن وجه الفائدة فيه؟ وكذلك الحكم في الآي التي تلوناها فقوله: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، بيان للمعنى في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ، ولم أمروا بأن يتّقوا وكذلك قوله إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ، بيان للمعنى في أمر النبي صلى الله عليه وسلّم بالصلاة، أي بالدعاء لهم. وهذا سبيل كلّ ما أنت ترى فيه الجملة يحتاج فيها إلى «الفاء»، فاعرف ذلك.

فأما الذي ذكر عن أبي العباس «1»، من جعله لها جواب سائل إذا كانت وحدها، وجواب منكر إذا كان معها اللّام، فالذي يدلّ على أن لها أصلا في الجواب، أنّا رأيناهم قد ألزموها الجملة من المبتدأ والخبر إذا كانت جوابا للقسم، نحو: «والله إنّ زيدا منطلق»، وامتنعوا من أن يقولوا: «والله زيد منطلق». ثمّ إنّا إذا استقرينا الكلام وجدنا الأمر بيّنا في الكثير من مواقعها، أنّه يقصد بها إلى الجواب كقوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً. إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ [الكهف: 83 - 84]، وكقوله عز وجل في أول السورة: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) [الكهف: 13]، وكقوله تعالى: فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [الشعراء: 216]، وقوله تعالى: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنعام: 56] [غافر: 66]، وقوله: وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ [الحجر: 89]، وأشباه ذلك ممّا يعلم به أنه كلام أمر النبي صلى الله عليه وسلّم بأن يجيب به الكفار في بعض ما جادلوا وناظروا فيه. وعلى ذلك قوله تعالى: فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ [الشعراء: 16]، وذاك أنه يعلم أن المعنى: فأتياه، فإذا قال لكما ما شأنكما؟ وما جاء بكما؟ وما تقولان؟ فقولا: إنّا رسول رب العالمين. وكذا قوله: وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [الأعراف: 104]، هذا سبيله. ومن البيّن في ذلك قوله تعالى في قصّة السّحرة: قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ [الأعراف: 125]، وذلك لأنه عيان أنه جواب فرعون عن قوله: آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ [الأعراف: 123]، فهذا هو وجه القول في نصرة هذه الحكاية. ثم إنّ الأصل الذي ينبغي أن يكون عليه البناء، هو الذي دوّن في الكتب، من أنّها للتأكيد، وإذا كان قد ثبت ذلك، فإذا كان الخبر بأمر ليس للمخاطب ظنّ في خلافه البتة، ولا يكون قد عقد في نفسه أن الذي تزعم أنّه كائن غير كائن، وأن الذي تزعم أنه لم يكن كائن- فأنت لا تحتاج هناك إلى «إنّ»، وإنما تحتاج إليها إذا كان له ظنّ في الخلاف، وعقد قلب على نفي ما تثبت أو إثبات ما تنفي. ولذلك تراها تزداد حسنا إذا كان الخبر بأمر يبعد مثله في الظن، ولشيء قد جرت عادة الناس بخلافه، كقول أبي نواس: [من السريع]

_ (1) المقصود به المبرد.

عليك باليأس من النّاس ... إنّ غنى نفسك في الياس «1» فقد ترى حسن موقعها، وكيف قبول النفس لها، وليس ذلك إلّا لأن الغالب على الناس أنهم لا يحملون أنفسهم على اليأس، ولا يدعون الرّجاء والطّمع، ولا يعترف كل أحد ولا يسلّم أن الغنى في اليأس. فلما كان كذلك، كان الموضع موضع فقر إلى التأكيد، فلذلك كان من حسنها ما ترى. - ومثله سواء قول محمد بن وهيب: [من الطويل] أجارتنا إنّ التّعفّف بالياس ... وصبرا على استدرار دنيا بإبساس حريّان أن لا يقذفا بمذلّة ... كريما، وأن لا يحوجاه إلى النّاس أجارتنا إنّ القداح كواذب ... وأكثر أسباب النّجاح مع الياس «2» هو: كما لا يخفى، كلام مع من لا يرى أن الأمر كما قال، بل ينكره ويعتقد خلافه. ومعلوم أنه لم يقله إلا والمرأة تحدوه وتبعثه على التعرّض للناس، وعلى الطّلب. ومن طيف مواقعها أن يدّعى على الخاطب ظنّ لم يظنّه، ولكن يراد التهكم به، وأن يقال: «إن حالك والذي صنعت يقتضي أن تكون قد ظننت ذلك». ومثال ذلك قول الأوّل: [من السريع] جاء شقيق عارضا رمحه، ... إنّ بني عمّك فيهم رماح «3» يقول: إن مجيئه هكذا مدلّا بنفسه وبشجاعته قد وضع رمحه عرضا، دليل على إعجاب شديد، وعلى اعتقاد منه أنه لا يقوم له أحد، حتى كأن ليس مع أحد منّا رمح يدفعه به، وكأنّا كلّنا عزل. وإذا كان كذلك، وجب إذا قيل إنها جواب سائل، أن يشترط فيه أن يكون

_ (1) البيت في ديوانه (144) ط، دار العرب للبستاني، وهو في الباب الرابع (باب العتاب)، ورواية الديوان: ألا ليت شعري هكذا أنت للناس ... فأقدع عنك القلب يا صاح بالياس (2) الأبيات في الأغاني (19/ 82، 83)، لمحمد بن وهيب (ط) دار الكتب العلمية، بيروت. من قصيدة عددها (72) بيتا، استحسنها الحسن بن رجاء بن أبي الضحاك، وأمر له باثنين وسبعين ألف درهم. (3) البيت لحجل بن نضلة الباهلي، وهو شاهر جاهلي، وهو في الإيضاح (224)، والمفتاح (263)، والمصباح لبدر الدين بن مالك (6)، والبيت الذي يليه: هل أحدث الدهر لنازلة ... أم هل رنت أم شقيق سلام.

فصل في مسائل «إنما»

للسائل ظنّ في المسئول عنه على خلاف ما أنت تجيبه به. فأمّا أن يجعل مجرّد الجواب أصلا فيه فلا، لأنه يؤدي إلى أن لا يستقيم لنا إذا قال الرجل: «كيف زيد؟» أن تقول: «صالح»، وإذا قال: «أين هو؟» أن تقول: «في الدار» - وأن لا يصح حتّى تقول: «إنه صالح»، «إنّه في الدار»، وذلك ما لا يقوله أحد. وأمّا جعلها إذا جمع بينها وبين «اللام» نحو: «إنّ عبد الله لقائم» - للكلام مع المنكر، فجيّد، لأنه إذا كان الكلام مع المنكر، كانت الحاجة إلى التأكيد أشدّ. وذلك أنك أحوج ما تكون إلى الزيادة في تثبيت خبرك، إذا كان هناك من يدفعه وينكر صحّته، إلّا أنه ينبغي أن يعلم أنه كما يكون للإنكار قد كان من السامع، فإنه يكون للإنكار يعلم أو يرى أنه يكون من السامعين. وجملة الأمر أنك لا تقول: «إنه لكذلك»، حتى تريد أن تضع كلامك وضع من يزع «1» فيه عن الإنكار. واعلم أنها قد تدخل للدلالة على أن الظّن قد كان منك أيّها المتكلم في الذي كان أنّه لا يكون. وذلك قولك للشيء هو بمرأى من المخاطب ومسمع: «إنّه كان من الأمر ما ترى، وكان منّي إلى فلان إحسان ومعروف، ثمّ أنّه جعل جزائي ما رأيت»، فتجعلك كأنك تردّ على نفسك ظنّك الذي ظننت، وتبيّن الخطأ الذي توهمت. وعلى ذلك، والله أعلم، قوله تعالى حكاية عن أمّ مريم رضي الله عنها: قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ [آل عمران: 36]، وكذلك قوله عز وجل حكاية عن نوح عليه السلام: قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ [الشعراء: 117]. وليس الذي يعرض بسبب هذا الحرف من الدقائق والأمور الخفيّة، بالشيء يدرك بالهوينا. ونحن نقتصر الآن على ما ذكرنا، ونأخذ في القول عليها إذا اتّصلت بها «ما». فصل في مسائل «إنّما» قال الشيخ أبو علي في «الشّيرازيّات» «2»: «يقول ناس من النحويين في نحو قوله تعالى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ [الأعراف: 33]،

_ (1) يزع: وزعته: كففته ا. هـ القاموس/ وزع/ 995. (2) أبو علي: هو الشيخ أبو علي الفارسي وله كتاب الشيرازيات في النحو ا. هـ، كشف الظنون (2/ 1068).

إن المعنى: ما حرّم ربّي إلّا الفواحش. قال: وأصبت ما يدلّ على صحّة قولهم في هذا، وهو قول الفرزدق: [من الطويل] أنا الذّائد الحامي الذّمار، وإنّما ... يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي «1» فليس يخلو هذا الكلام من أن يكون موجبا أو منفيّا. فلو كان المراد به الإيجاب لم يستقم، ألا ترى أنك لا تقول: «يدافع أنا» و «لا يقاتل أنا»، وإنما تقول: «أدافع» و «أقاتل» إلا أنّ المعنى لما كان: «ما يدافع إلّا أنا»، فصلت الضمير كما تفصله مع النفي إذا ألحقت معه «إلّا»، حملا على المعنى. وقال أبو إسحاق الزجاج في قوله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ [البقرة: 173]، [النحل: 115]، النّصب في «الميتة» هو القراءة، ويجوز: «إنّما حرّم عليكم». قال أبو إسحاق: والذي أختاره أن تكون «ما» هي التي تمنع «إنّ» من العمل، ويكون المعنى: «ما حرّم عليكم إلّا الميتة»، لأن «إنّما» تأتي إثباتا لما يذكر بعدها، ونفيا لما سواه، وقول الشاعر: وإنّما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي المعنى: ما يدافع عن أحسابهم إلّا أو مثلي». انتهى كلام أبي علي. اعلم أنّهم، وإن كانوا قد قالوا هذا الذي كتبته لك، فإنهم لم يعنوا بذلك أن المعنى في هذا هو المعنى في ذلك بعينه، وأن سبيلهما سبيل اللفظين يوضعان لمعنى واحد. وفرق بين أن يكون في الشّيء معنى الشيء، وبين أن يكون الشيء الشيء على الإطلاق. يبيّن لك أنهما لا يكونان سواء، أنه ليس كلّ كلام يصلح فيه «ما» و «إلّا»، يصلح فيه «إنّما». ألا ترى أنّها لا تصلح في مثل قوله تعالى: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران: 62]، ولا في نحو قولنا: «ما أحد إلّا وهو يقول ذاك»، إذ لو قلت: «إنّما من إله الله» و «إنّما أحد وهو يقول ذاك»، قلت ما لا يكون له معنى.

_ (1) البيت في ديوانه (2/ 153)، من قصيدة قالها عند ما بلغ نساء مجاشع فحش جرير بهن فأتين الفرزدق مقيدا فقلن: قبح الله قيدك، فقد هتك جرير عورات نسائك فلحيت شاعر قوم، فأحفظنه ففض قيده وقد كان قيد نفسه قبل ذلك وحلف أن لا يطلق قيده حتى يجمع القرآن، ورواية الديوان: «أنا الضامن الراعي عليهم وإنما .... ». والبيت في الإيضاح (126)، والمفتاح (403)، ومعاهد التنصيص (1/ 260)، وخزانة الأدب (4/ 465)، ولسان العرب (قلا)، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر (2/ 111)، ولسان العرب (أنن)، وتاج العروس (ما)، والمصباح (96).

فإن قلت: إن سبب ذلك أن «أحدا» لا يقع إلّا في النّفي وما يجري مجرى النفي من النهي والاستفهام، وأن «من» المزيدة في «ما من إله إلّا الله»، كذلك لا تكون إلّا في النفي. قيل: ففي هذا كفاية، فإنه اعتراف بأن ليسا سواء، لأنهما لو كانا سواء لكان ينبغي أن يكون في «إنّما» من النّفي مثل ما يكون في «ما» و «إلّا» وكما وجدت «إنما» لا تصلح فيما ذكرنا، كذلك تجد «ما» و «إلّا» لا تصلح في ضرب من الكلام قد صلحت فيه «إنما، وذلك في مثل قولك: «إنما هو درهم لا دينار»، لو قلت: «ما هو إلّا درهم لا دينار»، لم يكن شيئا. وإذ قد بان بهذه الجملة أنهم حين جعلوا «إنما» في معنى «ما» و «إلا»، لم يعنوا أن المعنى فيهما واحد على الإطلاق، وأن يسقطوا الفرق فإني أبيّن لك أمرهما، وما هو أصل في كل واحد منهما، بعون الله وتوفيقه. اعلم أن موضع «إنما» على أن تجيء لخبر لا يجهله المخاطب ولا يدفع صحّته، أو لما ينزّل هذه المنزلة. تفسير ذلك أنّك تقول للرجل: «إنّما هو أخوك» و «إنما هو صاحبك القديم»: لا تقوله لمن يجهل ذلك ويدفع صحّته، ولكن لمن يعلمه ويقرّ به، إلّا أنك تريد أن تنبّهه للذي يجب عليه من حقّ الأخ وحرمة الصاحب، ومثله قوله: [من الخفيف] إنّما أنت والد، والأب القا ... طع أحنى من واصل الأولاد «1» لم يرد أن يعلم كافورا أنه والد، ولا ذاك مما يحتاج كافور فيه إلى الإعلام، ولكنه أراد أن يذكّره منه بالأمر المعلوم ليبني عليه استدعاء ما يوجبه كونه بمنزلة الوالد. ومثل ذلك قولهم: «إنّما يعجل من يخشى الفوت»، وذلك أن من المعلوم الثابت في النفوس أنّ من لم يخش الفوت لم يعجل. ومثاله من التنزيل قوله تعالى: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ [الأنعام: 36]، وقوله عزّ وجلّ: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ، وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ [يس:

_ (1) البيت للمتنبي في ديوانه (2/ 226)، ط، دار الكتب العلمية، بيروت. من قصيدة مطلعها: جسم الصلح ما اشتهته الأعادي ... وأذاعته ألسن الحساد وأرادته أنفس حال تدبي ... رك ما بينها وبين المراد والقاطع: أي المقاطع، أي: أنت والده، والوالد دائما أحن على الولد من حنو الولد على والده وإن كان الوالد مقاطعا والابن واصلا.

11]، وقوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النازعات: 45]، كلّ ذلك تذكير بأمر ثابت معلوم. وذلك أنّ كل عاقل يعلم أنه لا تكون استجابة إلا ممّن يسمع ويعقل ما يقال له ويدعى إليه، وأنّ من لم يسمع ولم يعقل لم يستجب وكذلك معلوم أن الإنذار إنما يكون إنذار ويكون له تأثير، إذا كان مع من يؤمن بالله ويخشاه ويصدّق بالبعث والساعة، فأمّا الكافر الجاهل، فالإنذار وترك الإنذار معه واحد. فهذا مثال ما الخبر فيه خبر بأمر يعلمه المخاطب ولا ينكره بحال. وأمّا مثال ما ينزّل هذه المنزلة، فكقوله: [من الخفيف] إنّما مصعب شهاب من اللّ ... هـ تجلّت عن وجهه الظّلماء «1» ادّعى في كون الممدوح بهذه الصفة، أنه أمر ظاهر معلوم للجميع، على عادة الشعراء إذا مدحوا أن يدّعوا في الأوصاف التي يذكرون بها الممدوحين أنّها ثابتة لهم، وأنهم قد شهروا بها، وأنهم لم يصفوا إلا بالمعلوم الظاهر الذي لا يدفعه أحد، كما قال: [من الطويل] وتعذلني أفناء سعد عليهم ... وما قلت إلّا بالّذي علمت سعد «2» وكما قال البحتريّ: لا أدّعي لأبي العلاء فضيلة ... حتّى يسلّمها إليه عداه «3» ومثله قولهم: «إنما هو أسد»، و «إنّما هو نار»، و «إنما هو سيف صارم»، وإذا أدخلوا «إنما» جعلوا ذلك في حكم الظاهر المعلوم الذي لا ينكر ولا يدفع ولا يخفى.

_ (1) البيت لعبيد الله به قيس الرقيات يمدح مصعب بن الزبير بن العوام وبعده: ملكه ملك رأفة ليس فيه ... جبروت منه ولا كبرياء يتقي الله في الأمور وقد ... أفلح من كان همه الاتقاء والبيت أورده القزويني في الإيضاح (129)، والسكاكي في المفتاح (407)، وأورده بدر الدين ابن مالك في المصباح (98)، وفخر الدين الرازي في نهاية الإيجاز (361)، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات (95)، وشرح المرشدي على عقود الجمان (1/ 144). (2) البيت للحطيئة في ديوانه، وأورده القزويني في الإيضاح (129)، والسكاكي في المفتاح (408)، وشرح المرشدي على عقود الجمان (1/ 144). (3) البيت في ديوانه من قصيدة يمدح فيها صاعد بن مخلد وابنه أبا عيسى العلاء. وأورده القزويني في الإيضاح (129)، والسكاكي في المفتاح (408)، وأورده بدر الدين بن مالك في المصباح (99) بلا عزو، وشرح المرشدي على عقود الجمان (1/ 144).

وأما الخبر بالنّفي والإثبات نحو: «ما هذا إلا كذا»، و «إن هو إلّا كذا»، فيكون للأمر ينكره المخاطب ويشكّ فيه. فإذا قلت: «ما هو إلّا مصيب» أو «ما هو إلّا مخطئ»، قلته لمن يدفع أن يكون الأمر على ما قلت، وإذا رأيت شخصا من بعيد فقلت: «ما هو إلّا زيد»، لم تقله إلّا وصاحبك يتوّهم أنه ليس بزيد، وأنه إنسان آخر، ويجدّ في الإنكار أن يكون «زيدا». وإذا كان الأمر ظاهر كالذي مضى، لم تقله كذلك، فلا تقول للرجل ترقّقه على أخيه وتنبّهه للذي يجب عليه من صلة الرّحم ومن حسن التّحابّ: «ما هو إلّا أخوك» وكذلك لا يصلح في «إنّما أنت والد»: «ما أنت إلّا والد»، فأما نحو: «إنّما مصعب شهاب»، فيصلح فيه أن تقول: «ما مصعب إلّا شهاب»، لأنه ليس من المعلوم على الصحّة، وإنما ادّعى الشاعر فيه أنه كذلك. وإذا كان هذا هكذا، جاز أن تقوله بالنّفي والإثبات، إلا أنك تخرج المدح حينئذ عن أن يكون على حدّ المبالغة، من حيث لا تكون قد ادّعيت فيه أنه معلوم، وأنه بحيث لا ينكره منكر، ولا يخالف فيه مخالف. - قوله تعالى: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا [إبراهيم: 10] إنّما جاء، والله أعلم، «بإن» و «إلا» دون «إنّما»، فلم يقل: «إنّما أنتم بشر مثلنا»، لأنهم جعلوا الرسل كأنّهم بادّعائهم النبوّة قد أخرجوا أنفسهم عن أن يكونوا بشرا مثلهم، وادّعوا أمرا لا يجوز أن يكون لمن هو بشر. ولما كان الأمر كذلك، أخرج اللّفظ مخرجه حيث يراد إثبات أمر يدفعه المخاطب ويدعى خلافه، ثم جاء الجواب من الرّسل الذي هو قوله تعالى: قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [إبراهيم: 11]، كذلك «بإن» و «إلّا» دون «إنما»، لأن من حكم من ادّعى عليه خصمه الخلاف في أمر هو لا يخالف فيه، أن يعيد كلام الخصم على وجهه، ويجيء به على هيئته ويحكيه كما هو. فإذا قلت للرجل: «أنت من شأنك كيت وكيت»، قال: «نعم، أنا من شأني كيت وكيت، ولكن لا ضير عليّ، ولا يلزمني من أجل ذلك ما ظننت أنه يلزم»، فالرسل صلوات الله عليهم كأنهم قالوا: «إنّ ما قلتم من أنّا بشر مثلكم كما قلتم، لسنا ننكر ذلك ولا نجهله، ولكن ذلك لا يمنعنا من أن يكون الله تعالى قد منّ علينا وأكرمنا بالرسالة. وأما قوله تعالى: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الكهف: 110]، [فصلت: 6] فجاء «بإنما»، لأنه ابتداء كلام قد أمر النبيّ صلى الله عليه وسلّم بأن يبلّغه إياهم ويقوله معهم، وليس

فصل هذا بيان آخر في «إنما»

هو جوابا لكلام سابق قد قيل فيه: «إن أنت إلّا بشر مثلنا»، فيجب أن يؤتى به على وفق ذلك الكلام، ويراعى فيه حذوه، كما كان ذلك في الآية الأولى. وجملة الأمر أنك متى رأيت شيئا هو من المعلوم الذي لا يشك فيه قد جاء بالنفي، فذلك التقدير معنى صار به في حكم المشكوك فيه، فمن ذلك قوله تعالى: وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ. إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ [فاطر: 22 - 23] إنما جاء، والله أعلم، بالنفي والإثبات، لأنه لما قال تعالى: وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ، وكان المعنى في ذلك أن يقال للنبي صلى الله عليه وسلّم: «إنك لن تستطيع أن تحوّل قلوبهم عما هي عليه من الإباء، ولا تملك أن توقع الإيمان في نفوسهم، مع إصرارهم على كفرهم، واستمرارهم على جهلهم، وصدّهم بأسماعهم عما تقوله لهم وتتلوه عليهم» كان اللائق بهذا أن يجعل حال النبي صلى الله عليه وسلّم حال من قد ظنّ أنه يملك ذلك، ومن لا يعلم يقينا أنه ليس في وسعه شيء أكثر من أن ينذر ويحذّر، فأخرج اللّفظ مخرجه إذا كان الخطاب مع من يشكّ، فقيل: «إن أنت إلّا نذير». ويبيّن ذلك أنك تقول للرجل يطيل مناظرة الجاهل ومقاولته: «إنك لا تستطيع أن تسمع الميّت، وأن تفهم الجماد، وأن تحول الأعمى بصيرا، وليس بيدك إلّا تبيّن وتحتجّ، ولست تملك أكثر من ذلك» لا تقول هاهنا: «فإنّما الذي بيدك أن تبيّن وتحتج»، ذلك لأنك لم تقل له «إنك لا تستطيع أن تسمع الميّت»، حتى جعلته بمثابة من يظنّ أنه يملك وراء الاحتجاج والبيان شيئا. وهذا واضح، فاعرفه. ومثل هذا في أن الذي تقدّم من الكلام اقتضى أن يكون اللفظ كالذي تراه، ومن كونه «بإن» و «إلّا»، قوله تعالى: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 188]. فصل هذا بيان آخر في «إنّما» اعلم أنها تفيد في الكلام بعدها إيجاب الفعل لشيء، ونفيه عن غيره، فإذا قلت: «إنّما جاءني زيد»، عقل منه أنك أردت أن تنفي أن يكون الجائي غيره. فمعنى الكلام معها شبيه بالمعنى في قولك: «جاءني زيد لا عمرو»، إلا أن لها مزيّة،

وهي أنك تعقل معها إيجاب الفعل لشيء ونفيه عن غيره دفعة واحدة في حال واحدة. وليس كذلك الأمر في: «جاءني زيد لا عمرو»، فإنك تعقلهما في حالين ومزيّة ثانية، وهي أنها تجعل الأمر ظاهرا في أنّ الجائي «زيد»، ولا يكون هذا الظهور إذا جعلت الكلام «بلا» فقلت: «جاءني زيد لا عمرو». ثم اعلم أن قولنا في «لا» العاطفة: «إنها تنفي عن الثاني ما وجب للأول»، ليس المراد به أنها تنفي عن الثاني أن يكون قد شارك الأول في الفعل، بل أنها تنفي أن يكون الفعل الذي قلت إنه كان من الأوّل، قد كان من الثاني دون الأوّل. ألا ترى أن ليس المعنى في قولك: «جاءني زيد لا عمرو»، أنه لم يكن من عمرو مجيء إليك مثل ما كان من «زيد»، حتّى كأنه عكس قولك: «جاءني زيد وعمرو»، بل المعنى أن الجائي هو زيد لا عمرو، فهو كلام تقوله مع من يغلط في الفعل قد كان من هذا، فيتوهم أنه كان من ذلك. والنّكتة أنه لا شبهة في أن ليس هاهنا جائيان، وأنه ليس إلّا جاء واحد، وإنما الشّبهة في أن ذلك الجائي زيد أم عمرو، فأنت تحقّق على المخاطب بقولك: «جاءني زيد لا عمرو»، أنه «زيد» وليس بعمرو. ونكتة أخرى: وهي أنك لا تقول: «جاءني زيد لا عمرو»، حتى يكون قد بلغ المخاطب أنه كان مجيء إليك من جاء، إلّا أنه ظنّ أنه كان من «عمرو»، فأعلمته أنه لم يكن من «عمرو» ولكن من «زيد». وإذ عرفت هذه المعاني في الكلام «بلا» العاطفة، فاعلم أنها بجملتها قائمة لك في الكلام «بإنما». فإذا قلت: «إنما جاءني زيد»، لم يكن غرضك أن تنفي أن يكون قد جاء مع «زيد» غيره، ولكن أن تنفي أن يكون المجيء الذي قلت إنه كان منه، كان من «عمرو». وكذلك تكون الشّبهة مرتفعة في أن ليس هاهنا جائيان، وأن ليس إلّا جاء واحد، وإنما تكون الشّبهة في أن ذلك الجائي «زيد» أم «عمرو». فإذا قلت: «إنما جاءني زيد»، حقّقت الأمر في أنه «زيد». وكذلك لا تقول: «إنما جاءني زيد»، حتى يكون قد بلغ المخاطب أن قد جاءك جاء، ولكنه ظن أنه «عمرو» مثلا، فأعلمته أنه «زيد». فإن قلت: فإنّه قد يصحّ أن تقول: «إنّما جاءني من بين القوم زيد وحده، وإنما أتاني من جملتهم عمرو فقط»، فإن ذلك شيء كالتكلّف، والكلام هو الأول، ثم الاعتبار به إذا أطلق فلم يقيّد «بوحده» وما في معناه. ومعلوم أنك إذا قلت: «إنّما جاءني زيد»، ولم تزد على ذلك، أنّه لا يسبق إلى القلب من المعنى إلا ما قدّمنا

شرحه، من أنك أردت النصّ على «زيد» أنّه الجائي، وأن تبطل ظنّ المخاطب أن المجيء لم يكن منه، ولكن كان من «عمرو» حسب ما يكون إذا قلت: «جاءني زيد لا عمرو»، فاعرفه. وإذ قد عرفت هذه الجملة، فإنّا نذكر جملة من القول في «ما» و «إلّا» وما يكون من حكمهما. اعلم أنك إذا قلت: «ما جاءني إلّا زيد»: احتمل أمرين: أحدهما: أن تريد اختصاص «زيد» بالمجيء وأن تنفيه عمن عداه، وأن يكون كلاما تقوله، لا لأنّ بالمخاطب حاجة إلى أن يعلم أن «زيدا» قد جاءك، ولكن لأنّ به حاجة إلى أن يعلم أنه لم يجئ إليك غيره. والثاني: أن تريد الذي ذكرناه في «إنّما»، ويكون كلاما تقوله ليعلم أن الجائي «زيد» لا غيره. فمن ذلك قولك للرجل يدّعي أنك قلت قولا ثم قلت خلافه: «ما قلت اليوم إلّا ما قلته أمس بعينه» ويقول: «لم تر زيدا، وإنما رأيت فلانا»، فتقول: «بل لم أر إلّا زيدا». وعلى ذلك قوله تعالى: ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [المائدة: 117]، لأنه ليس المعنى: إنّي لم أزد على ما أمرتني به شيئا، ولكن المعنى: إنّي لم أدع ما أمرتني به أن أقوله لهم وقلت خلافه. ومثال ما جاء في الشعر من ذلك قوله: [من السريع] قد علمت سلمى وجاراتها ... ما قطّر الفارس إلّا أنا «1» المعنى: أنا الذي قطّر الفارس، وليس المعنى على أنه يريد أن يزعم أنه انفرد بأن قطّره، وأنه لم يشركه فيه غيره. وهاهنا كلام ينبغي أن تعلمه، إلا أني أكتب لك من قبله مسألة، لأن فيها عونا عليه. قوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28]، في تقديم اسم الله عز وجل معنى خلاف ما يكون لو أخّر. وإنّما يبين لك ذلك إذا اعتبرت الحكم في «ما» و «إلا»، وحصّلت الفرق بين أن تقول: «ما ضرب زيدا إلّا عمرو»، وبين قولك: «ما ضرب عمرو إلّا زيدا».

_ (1) البيت لعمرو بن معد يكرب في ديوانه (167)، والأغاني (15/ 169)، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي (411)، وله أو للفرزدق في شرح شواهد المغني (2/ 719)، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر (7/ 243)، ولسان العرب (قطر)، والإيضاح (126)، بتحقيق د. هنداوي، والمفتاح (403) بلا نسبة. وقطّره بالتضعيف: ألقاه على جنبه، وقطره من باب القتل: صرعه.

والفرق بينهما أنك إذا قلت: «ما ضرب زيدا إلّا عمرو»، فقدّمت المنصوب، كان الغرض بيان الضّارب من هو، والإخبار بأنه عمرو خاصّة دون غيره وإذا قلت: «ما ضرب عمرو إلّا زيدا»، فقدّمت المرفوع، كان الغرض بيان المضروب من هو، والإخبار بأنه «زيد» خاصة دون غيره. وإذا قد عرفت ذلك فاعتبر به الآية، وإذا اعتبرتها به علمت أن تقديم اسم الله تعالى إنما كان لأجل أنّ الغرض أن يبيّن الخاشون من هم، ويخبر بأنهم العلماء خاصة دون غيرهم. ولو أخّر ذكر اسم الله وقدّم «العلماء» فقيل: «إنّما يخشى العلماء الله»، لصار المعنى على ضدّ ما هو عليه الآن، ولصار الغرض بيان المخشيّ من هو، والإخبار بأنه الله تعالى دون غيره، ولم يجب حينئذ أن تكون الخشية من الله تعالى مقصورة على العلماء، وأن يكونوا مخصوصين بها كما هو الغرض في الآية، بل كان يكون المعنى أنّ غير العلماء يخشون الله تعالى أيضا إلا أنّهم مع خشيتهم الله تعالى يخشون معه غيره، والعلماء لا يخشون غير الله تعالى. وهذا المعنى وإن كان قد جاء في التنزيل في غير هذه الآية كقوله تعالى: وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ [الأحزاب: 39]، فليس هو الغرض في الآية، ولا اللّفظ بمحتمل له البتة. ومن أجاز حملها عليه، كان قد أبطل فائدة التقديم، وسوّى بين قوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) وبين أن يقال: «إنما يخشى العلماء الله»، وإذا سوّى بينهما، لزمه أن يسوّي بين قولنا: «ما ضرب زيدا إلّا عمرو» وبين: «ما ضرب عمرو إلّا زيدا»، وذلك ما لا شبهة في امتناعه. فهذه هي المسألة، وإذ قد عرفتها فالأمر فيها بيّن: أن الكلام «بما» و «إلا» قد يكون في معنى الكلام «بإنما»، ألا ترى إلى وضوح الصورة في قولك: «ما ضرب زيدا إلّا عمرو» و «ما ضرب عمرو إلّا زيدا»، أنه في الأول لبيان من الضارب، وفي الثاني لبيان من المضروب، وإن كان تكلفا أن تحمله على نفي الشركة، فتريد «بما ضرب زيدا إلّا عمرو» أنه لم يضربه اثنان، و «بما ضرب عمرو إلّا زيدا»، أنه لم يضرب اثنين. ثم اعلم أن السبب في أن لم يكن تقديم المفعول في هذا كتأخيره، ولم يكن «ما ضرب زيدا إلّا عمرو» و «ما ضرب عمرو إلا زيدا»، سواء في المعنى أن الاختصاص يقع في واحد من الفاعل والمفعول، ولا يقع فيهما جميعا. ثم إنه يقع في الذي يكون بعد «إلا» منهما دون الذي قبلها، لاستحالة أن يحدث معنى الحرف

في الكلمة من قبل أن يجيء الحرف. وإذا كان الأمر كذلك، وجب أن يفترق الحال بين أن تقدّم المفعول على «إلّا» فتقول: «ما ضرب زيدا إلا عمرو»، وبين أن تقدم الفاعل فتقول: «ما ضرب عمرو إلّا زيدا»، لأنّا إن زعمنا أنّ الحال لا يفترق، جعلنا المتقدم كالمتأخر في جواز حدوثه فيه. وذلك يقتضي المحال الذي هو أن يحدث معنى «إلّا» في الاسم من قبل أن تجيء بها، فاعرفه. وإذا قد عرفت أن الاختصاص مع «إلا» يقع في الذي تؤخّره من الفاعل والمفعول، فكذلك يقع مع «إنما» في المؤخّر منهما دون المقدّم. فإذا قلت: «إنّما ضرب زيدا عمرو»، كان الاختصاص في الضارب، وإذا قلت: «إنّما ضرب عمرو زيدا»، كان الاختصاص في المضروب، وكما لا يجوز أن يستوي الحال بين التقديم والتأخير مع «إلّا»، كذلك لا يجوز مع «إنّما». وإذا استبنت هذه الجملة، عرفت منها أنّ الذي صنعه الفرزدق في قوله: وإنّما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي «1» شيء لو لم يصنعه لم يصحّ له المعنى. ذاك لأنّ غرضه أن يخصّ المدافع لا المدافع عنه. ولو قال: «إنّما أدافع عن أحسابهم»، لصار المعنى أنّه يخص المدافع عنه، وأنّه يزعم أن المدافعة منه تكون عن أحسابهم لا عن أحساب غيرهم، كما يكون إذا قال: «وما أدافع إلّا عن أحسابهم»، وليس ذلك معناه، إنما معناه أن يزعم أنّ المدافع هو لا غيره، فاعرف ذلك، فإن الغلط كما أظنّ يدخل على كثير ممن تسمعهم يقولون: «إنه فصل الضمير للحمل على المعنى»، فيرى أنه لو لم يفصله، لكان يكون معناه مثله الآن. هذا ولا يجوز أن ينسب فيه إلى الضرورة، فيجعل مثلا نظير قول الآخر: [من الهزج] كأنّا يوم قرّى إنّ ... ما نقتل إيّانا «2»

_ (1) راجع ص (217) هامش (1). (2) البيت من الكتاب لسيبويه (2/ 111، 362) ونسبه سيبويه إلى بعض اللصوص، والبيت لذي الأصبع العدواني أو أبي بجيلة. انظر الخصائص (2/ 194)، وبعده: وقتلنا منهم كل ... فتى أبيض حسانا وقرى: بالضم وتشديد الراء: موضع في بلاد بني الحارث بن كعب، فكأنهم قتلوا أنفسهم كما ذكر الشنتمرى أو يكون شبه أعداءهم الذين قتلوهم بأنفسهم في السيادة والحسن.

لأنه ليس به ضرورة إلى ذلك، من حيث أن «أدافع» و «يدافع» واحد في الوزن، فاعرف هذا أيضا. وجملة الأمر أنّ الواجب أن يكون اللّفظ على وجه يجعل الاختصاص فيه للفرزدق. وذلك لا يكون إلّا بأن يقدم «الأحساب» على ضميره، وهو لو قال: «وإنما أدافع عن أحسابهم»، استكن ضميره في الفعل، فلم يتصوّر تقديم «الأحساب» عليه، ولم يقع «الأحساب» إلا مؤخرا عن ضمير الفرزدق، وإذا تأخّرت انصرف الاختصاص إليها لا محالة. فإن قلت: إنه كان يمكنه أن يقول: «وإنما أدافع عن أحسابهم أنا»، فيقدم «الأحساب» على «أنا». قيل: إنه إذا قال: «أدافع» كان الفاعل الضمير المستكن في الفعل، وكان «أنا» الظاهر تأكيدا له، أعني للمستكنّ، والحكم يتعلّق بالمؤكّد دون التأكيد، لأن التأكيد كالتكرير، فهو يجيء من بعد نفوذ الحكم، ولا يكون تقديم الجارّ مع المجرور، الذي هو قوله «عن أحسابهم» على الضمير الذي هو تأكيد، تقديما له على الفاعل، لأن تقديم المفعول على الفاعل إنما يكون إذا ذكرت المفعول قبل أن تذكر الفاعل، ولا يكون لك إذا قلت: «وإنما أدافع عن أحسابهم»، سبيل إلى أن تذكر المفعول قبل أن تذكر الفاعل، لأن ذكر الفاعل هاهنا هو ذكر الفعل، من حيث أن الفاعل مستكن في الفعل، فكيف يتصوّر تقديم شيء عليه، فاعرفه. واعلم أنّك إن عمدت إلى الفاعل والمفعول فأخّرتهما جميعا إلى ما بعد «إلّا»، فإن الاختصاص يقع حينئذ في الذي يلي «إلا» منهما. فإذا قلت: «ما ضرب إلّا عمرو زيدا»، كان الاختصاص في الفاعل، وكان المعنى أنك قلت: «إن الضارب عمرو لا غيره» وإن قلت: «ما ضرب إلّا زيدا عمرو»، كان الاختصاص في المفعول، وكان المعنى أنك قلت: «إن المضروب زيد لا من سواه». وحكم المفعولين حكم الفاعل والمفعول فيما ذكرت لك. تقول: «لم يكس إلّا زيدا جبّة»، فيكون المعنى أنه خص «زيدا» من بين الناس بكسوة الجبة فإن قلت: «لم يكس إلّا جبة زيدا»، كان المعنى: أنه خصّ الجبة من أصناف الكسوة. وكذلك الحكم حيث يكون بدل أحد المفعولين جارّ ومجرور، كقول السّيد الحميريّ: [من السريع]

لو خيّر المنبر فرسانه ... ما اختار إلا منكم فارسا «1» الاختصاص في «منكم» دون «فارسا» ولو قلت: «ما اختار إلّا فارسا منكم»، صار الاختصاص في «فارسا». واعلم أنّ الأمر في المبتدأ والخبر، إن كانا بعد «إنّما» على العبرة التي ذكرت لك في الفاعل والمفعول، إذا أنت قدّمت أحدهما على الآخر. معين ذلك: أنك إن تركت الخبر في موضعه فلم تقدّمه على المبتدأ، كان الاختصاص فيه وإن قدّمته على المبتدأ، صار الاختصاص الذي كان فيه في المبتدأ. تفسير هذا، وأنّك تقول: «إنّما هذا لك»، فيكون الاختصاص في «لك» بدلالة أنك تقول: «إنّما هذا لك لا لغيرك» وتقول: «إنما لك هذا»، فيكون الاختصاص في «هذا»، بدلالة أنك تقول: «إنّما لك هذا لا ذاك»، والاختصاص يكون أبدا في الذي إذا جئت «بلا» العاطفة كان العطف عليه. وإن أردت أن يزداد ذلك عندك وضوحا، فانظر إلى قوله تعالى: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرعد: 40]، وقوله عزّ وعلا: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ [التوبة: 93]، فإنك ترى الأمر ظاهرا أن الاختصاص في الآية الأولى في المبتدأ الذي هو «البلاغ» و «الحساب»، دون الخبر الذي هو «عليك» و «علينا» وأنه في الآية الثانية في الخبر الذي هو «على الذين»، دون المبتدأ الذي هو «السّبيل». واعلم أنه إذا كان الكلام «بما» و «إلا» كان الذي ذكرته من أنّ الاختصاص يكون في الخبر إن لم تقدّمه، وفي المبتدأ إن قدّمت الخبر أوضح وأبين، تقول «2»: «ما زيد إلا قائم»، فيكون المعنى أنك اختصصت «القيام» من بين الأوصاف التي يتوهّم كون زيد عليها بجعله صفة له. وتقول: «ما قائم إلّا زيد»، فيكون المعنى أنك اختصصت زيدا بكونه موصوفا بالقيام. فقد قصرت في الأول الصفة على الموصوف، وفي الثاني الموصوف على الصفة. واعلم أن قولنا في الخبر إذا أخّر نحو: «ما زيد إلّا قائم»، أنك اختصصت القيام من بين الأوصاف التي يتوهّم كون زيد عليها، ونفيت ما عدا القيام عنه، فإنما نعني

_ (1) البيت أورده القزويني في الإيضاح (132)، والسكاكي في المفتاح (410)، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات (97)، وعزاه للحميري. (2) كان الذي ذكرته ... أوضح وأبين» هكذا السياق.

أنك نفيت عنه الأوصاف تنافي القيام، نحو أن يكون «جالسا» أو «مضطجعا» أو «متكئا»، أو ما شاكل ذلك ولم ترد أنك نفيت ما ليس من القيام بسبيل، إذ لسنا ننفي عنه بقولنا: «ما هو إلّا قائم» أن يكون «أسود» أو «أبيض» أو «طويلا» أو «قصيرا» أو «عالما» أو «جاهلا»، كما أنّا إذا قلنا: «ما قائم إلّا زيد»، لم نرد أنّه ليس في الدنيا قائم سواه، وإنما نعني ما قائم حيث نحن، وبحضرتنا، وما أشبه ذلك. واعلم أنّ الأمر بيّن في قولنا: «ما زيد إلّا قائم»، أن ليس المعنى على نفي الشّركة، ولكن على نفي أن لا يكون المذكور، ويكون بدله شيء آخر. ألا ترى أن ليس المعنى أنّه ليس له مع «القيام» صفة أخرى، بل المعنى أن ليس له بدل القيام صفة ليست بالقيام، وأن ليس القيام، منفيّا عنه، وكائنا مكانه فيه «القعود» أو «الاضطجاع» أو نحوهما. فإن قلت: فصورة المعنى إذن صورته إذا وضعت الكلام «بإنما» فقلت: «إنّما هو قائم»، ونحن نرى أنه يجوز في هذا أن تعطف «بلا» فتقول: «إنما هو قائم لا قاعد»، ولا نرى ذلك جائزا مع «ما» و «إلّا»، إذا ليس من كلام الناس أن يقولوا: «ما زيد إلا قائم لا قاعد». فإنّ ذلك إنّما لم يجز من حيث أنك إذا قلت: «ما زيد إلا قائم»، فقد نفيت عنه كلّ صفة تنافي «القيام»، وصرت كأنك قلت: «ليس هو بقاعد ولا مضطجع ولا متّكئ»، وهكذا حتّى لا تدع صفة يخرج بها من «القيام». فإذا قلت من بعد ذلك «لا قاعد»، كنت قد نفيت «بلا» العاطفة شيئا قد بدأت فنفيته، وهي موضوعة لأن تنفي بها ما بدأت فأوجبته، لا لأن تفيد بها النّفي في شيء قد نفيته. ومن ثمّ لم يجز أن تقول: «ما جاءني أحد لا زيد»، على أن تعمد إلى بعض ما دخل في النفي بعموم «أحد» فتنفيه على الخصوص، بل كان الواجب إذا أردت ذلك أن تقول: «ما جاءني أحد ولا زيد»، فتجيء «بالواو» من قبل «لا»، حتى تخرج بذلك من أن تكون عاطفة، فاعرف ذلك. وإذ قد عرفت فساد أن تقول: «ما زيد إلّا قائم لا قاعد»، فإنك تعرف بذلك امتناع أن تقول: «ما جاءني إلّا زيد لا عمرو» و «ما ضربت إلّا زيدا لا عمرا»، وما شاكل ذلك. وذلك أنّك إذا قلت: «ما جاءني إلّا زيد»، فقد نفيت أن يكون قد جاءك أحد غيره، فإذا قلت: «لا عمرو»، كنت قد طلبت أن تنفي «بلا» العاطفة شيئا قد تقدمت فنفيته، وذلك، كما عرّفتك، خروج بها عن المعنى الذي وضعت له إلى خلافه.

فإن قيل: فإنك إذا قلت: «إنّما جاءني زيد»، فقد نفيت فيه أيضا أن يكون المجيء قد كان من غيره، فكان ينبغي أن لا يجوز فيه أيضا أن تعطف بلا فتقول: «إنّما جاءني زيد لا عمرو». قيل: إنّ الذي قلته من أنك إذا قلت: «إنّما جاءني زيد» فقد نفيت فيه أيضا المجيء عن غيره غير مسلّم لك على حقيقته. وذلك أنه ليس معك إلّا قولك: «جاءني زيد»، وهو كلام كما تراه مثبت ليس فيه نفي البتّة، كما كان في قولك: «ما جاءني إلّا زيد»، وإنّما فيه أنك وضعت يدك على «زيد» فجعلته «الجائي»، وذلك وإن أوجب انتفاء المجيء عن غيره، فليس يوجبه من أجل أن كان ذلك إعمال نفي في شيء، وإنّما أوجبه من حيث كان «المجيء» الذي أخبرت به مجيئا مخصوصا، إذا كان لزيد لم يكن لغيره. والذي أبيناه أن تنفي «بلا» العاطفة الفعل عن شيء وقد نفيته عنه لفظا. ونظير هذا أنّا نعقل من قولنا: «زيد هو الجائي»، أنّ هذا المجيء لم يكن من غيره، ثمّ لا يمنع ذلك من أن تجيء فيه «بلا» العاطفة فتقول: «زيد هو الجائي لا عمرو»، لأنا لم نعقل ما عقلناه من انتفاء المجيء عن غيره، وبنفي أوقعناه على شيء، ولكن بأنه لمّا كان المجيء المقصود مجيئا واحدا، كان النصّ على «زيد» بأنه فاعله وإثباته له، نفيا له عن غيره، ولكن من طريق المعقول، لا من طريق أن كان في الكلام نفي، كما كان ثمّ، فاعرفه. فإن قيل: فإنك إذا قلت: «ما جاءني إلا زيد»، ولم يكن غرضك أن تنفي أن يكون قد جاء معه واحد آخر، كان المجيء أيضا مجيئا واحدا. قيل: إنه وإن كان واحدا، فإنك إنّما تثبت أن «زيدا» الفاعل له، بأن نفيت المجيء عن كلّ من سوى زيد، كما تصنع إذا أردت أن تنفي أن يكون قد جاء معه جاء آخر. وإذا كان كذلك، كان ما قلناه من أنك إن جئت «بلا» العاطفة فقلت: «ما جاءني إلا زيد لا عمرو»، كنت قد نفيت الفعل عن شيء قد نفيته عنه مرّة صحيحا ثابتا، كما قلناه، فاعرفه. اعلم أنّ حكم «غير» في جميع ما ذكرنا، حكم «إلّا». فإذا قلت: «ما جاءني غير زيد»، احتمل أن تريد نفي أن يكون قد جاء معه إنسان آخر، وأن تريد نفي أن لا يكون قد جاء، وجاء مكانه واحد آخر ولا يصحّ أن تقول: ما جاءني غير زيد لا عمرو»، كما لم يجز: «ما جاءني إلّا زيد لا عمرو».

فصل في نكتة تتصل بالكلام الذي تضعه «بما» و «إلا»

فصل في نكتة تتّصل بالكلام الذي تضعه «بما» و «إلّا» اعلم أن الذي ذكرناه من أنك تقول: «ما ضرب إلا عمرو زيدا»، فتوقع الفاعل والمفعول جميعا بعد «إلّا»، ليس بأكثر الكلام، وإنما الأكثر إن تقدّم المفعول على «إلا»، نحو: «ما ضرب زيدا إلّا عمرو»، حتّى أنهم ذهبوا فيه أعني في قولك: «ما ضرب إلّا عمرو زيدا» إلى أنّه على كلامين، وأنّ «زيدا» منصوب بفعل مضمر، حتى كأنّ المتكلّم بذلك أبهم في أوّل أمره فقال: «ما ضرب إلّا عمرو» ثم قيل له: «من ضرب؟» فقال: «ضرب زيدا». وهاهنا، إذا تأملت، معنى لطيف يوجب ذلك، وهو أنّك إذا قلت: «ما ضرب زيدا إلّا عمرو»، كان غرضك أن تختصّ «عمرا» «بضرب» «زيد»، لا بالضرب على الإطلاق. وإذا كان كذلك، وجب أن تعدّي الفعل إلى المفعول من قبل أن تذكر «عمرا» الذي هو الفاعل، لأن السامع لا يعقل عنك أنك اختصصته بالفعل معدّى حتى تكون قد بدأت فعدّيته أعني لا يفهم عنك أنك أردت أن تختصّ «عمرا» بضرب «زيد»، حتى تذكره له معدّى إلى «زيد»، فأمّا إذا ذكرته غير معدّى فقلت: «ما ضرب إلّا عمرو»، فإنّ الذي يقع في نفسه أنك أردت أن تزعم أنّه لم يكن من أحد غير «عمرو» ضرب، وأنه ليس هاهنا مضروب إلّا وضاربه عمرو، فاعرفه أصلا في شأن التقديم والتأخير. فصل [من إنّما] إن قيل: قد مضيت في كلامك كلّه على أنه «إنّما» للخبر لا يجهله المخاطب، ولا يكون ذكرك له لأن تفيده إياه، وإنّا لنراها في كثير من الكلام، والقصد بالخبر بعدها أن تعلم السامع أمرا قد غلط فيه بالحقيقة، واحتاج إلى معرفته، كمثل ما ذكرت في أوّل الفصل الثاني من قولك: «إنّما جاءني زيد لا عمرو»، وتراها كذلك تدور في الكتب للكشف عن معان غير معلومة، ودلالة المتعلّم منها على ما لا يعلم. قيل: أمّا ما يجيء في الكلام من نحو: «إنما جاء زيد لا عمرو»، فإنه وإن كان يكون إعلاما لأمر لا يعلمه السامع، فإنه لا بدّ مع ذلك من أن يدّعى هناك فضل

انكشاف وظهور في أن الأمر كالذي ذكر. وقد قسّمت في أول ما افتتحت القول فيها فقلت: «إنّها تجيء للخبر لا يجهله السامع ولا ينكر صحّته، أو لما ينزّل هذه المنزلة». وأمّا ما ذكرت من أنها تجيء في الكتب لدلالة المتعلم على ما لم يعلمه، فإنك إذا تأملت مواقعها وجدتها في الأمر الأكثر قد جاءت لأمر قد وقع العلم بموجبه وبشيء يدلّ عليه. مثال ذلك: أن صاحب الكتاب قال في باب «كان»: «إذا قلت: كان زيد، فقد ابتدأت بما هو معروف عنده مثله عندك، وإنّما ينتظر الخبر. فإذا قلت: «حليما»، فقد أعلمته مثل ما علمت. وإذا قلت: «كان حليما»، فإنما ينتظر أن تعرّفه صاحب الصفة» «1». وذاك أنّه إذا كان معلوما أنه لا يكون مبتدأ من غير خبر، ولا خبر من غير مبتدأ، كان معلوما أنك إذا قلت: «كان زيد» فالمخاطب ينتظر الخبر، وإذا قلت: «كان حليما»، أنه ينتظر الاسم، فلم يقع إذن بعد «إنّما» إلّا شيء كان معلوما للسامع من قبل أن ينتهي إليه. وممّا الأمر فيه بيّن، قوله في باب «ظننت»: «وإنما تحكي بعد «قلت» ما كان كلاما لا قولا» «2». وذلك أنه معلوم أنّك لا تحكي بعد «قلت»، إذا كنت تنحو نحو المعنى، إلّا ما كان جملة مفيدة، فلا تقول: «قال فلان زيد» وتسكت، اللهمّ إلا أن تريد أنّه نطق بالاسم على هذه الهيئة، كأنك تريد أنه ذكره مرفوعا. ومثل ذلك قولهم: «إنّما يحذف الشيء إذا كان في الكلام دليل عليه»، إلى أشباه ذلك مما لا يحصى، فإن رأيتها قد دخلت على كلام هو ابتداء إعلام بشيء لم يعلمه السامع، فلأنّ الدليل عليه حاضر معه، والشيء بحيث يقع العلم به عن كثب. واعلم أنّه ليس يكاد ينتهي ما يعرض بسبب هذا الحرف «3» من الدقائق. وممّا يجب أن يعلم: أنه إذا كان الفعل بعدها فعلا لا يصحّ إلّا من المذكور ولا يكون من غيره، كالتذكّر الذي يعلم أنه لا يكون إلّا من أولي الألباب لم يحسن العطف «بلا» فيه، كما يحسن فيما لا يختصّ بالمذكور ويصحّ من غيره.

_ (1) انظر الكتاب لسيبويه (1/ 47). (2) انظر الكتاب لسيبويه (1/ 62). (3) الحرف: هو «إنما».

تفسير هذا: أنّه لا يحسن أن تقول: «إنّما يتذكّر أولو الألباب لا الجهال»، كما يحسن أن تقول: «إنّما يجيء زيد لا عمرو». ثم إنّ النّفي فيما نحن فيه، النّفي يتقدّم تارة ويتأخّر أخرى، فمثال التأخير ما تراه في قولك: «إنما جاءني زيد لا عمرو»، وكقوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية: 21، 22]، وكقول لبيد: [من الرمل] إنّما يجزي الفتى ليس الجمل «1» ومثال التّقديم قولك: «ما جاءني زيد، وإنّما جاءني عمرو»، وهذا ممّا أنت تعلم به مكان الفائدة فيها، وذلك أنّك تعلم ضرورة أنك لو لم تدخلها وقلت: «ما جاءني زيد وجاءني عمرو»، لكان الكلام مع من ظنّ أنهما جاءاك جميعا، وأن المعنى الآن مع دخولها، أنّ الكلام مع من غلط في عين الجائي، فظنّ أنه كان زيدا لا عمرا. وأمر آخر، وهو ليس ببعيد: أن يظنّ الظانّ أنّه ليس في انضمام «ما» إلى «إنّ» فائدة أكثر من أنّها تبطل عملها، حتى ترى النحويين لا يزيدون في أكثر كلامهم على أنها «كافّة»، ومكانها هاهنا يزيد هذا الظّن ويبطله. وذلك أنك ترى أنك لو قلت: «ما جاءني زيد، وإنّ عمرا جاءني»، لم يعقل منه أنك أردت أن الجائي «عمرو» لا «زيد»، بل يكون دخول «إنّ» كالشيء الذي لا يحتاج إليه، ووجدت المعنى ينبو عنه. ثم اعلم إذا استقريت وجدتها أقوى ما تكون وأعلق ما ترى بالقلب، إذا كان لا يراد بالكلام بعدها نفس معناه، ولكن التعريض بأمر هو مقتضاه، نحو أنّا نعلم أن ليس الغرض من قوله تعالى: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ [الرعد: 19] [الزمر: 9]، أن يعلم السامعون ظاهر معناه، ولكن أن يذمّ الكفّار، وأن يقال إنهم من فرط العناد ومن غلبة الهوى عليهم، في حكم من ليس بذي عقل، وإنكم إن طمعتم منهم في أن ينظروا ويتذكّروا، كنتم كمن طمع في ذلك من غير أولي الألباب. وكذلك قوله: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النازعات: 45]، وقوله عز اسمه:

_ (1) البيت للبيد بن أبي ربيعة العامري في ديوانه (145) من طويلته اللامية الساكنة في رثاء أخيه وصدره: فإذا جوزيت قرضا فاجزه ومطلع القصيدة: إن تقوى ربنا خير نفل* وبإذن الله ريثي وعجل أحمد الله فلا ندّ له* بيديه الخير ما شاء فعل الجمل: عنى به الجاهل.

إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [فاطر: 18]، المعنى على أنّ من لم تكن له هذه الخشية، فهو كأنه ليس له إذن تسمع وقلب يعقل، فالإنذار معه كلا إنذار. ومثال ذلك من الشعر قوله: [من مجزوء الرمل] أنا لم أرزق محبّتها، ... إنّما للعبد ما رزقا «1» الغرض أن يفهمك من طريق التعريض أنه قد صار ينصح نفسه، ويعلم أنه ينبغي له أن يقطع الطّمع من وصلها، وييأس من أن يكون منها إسعاف. ومن ذلك قوله: [من البسيط] وإنّما يعذر العشّاق من عشقا «2» يقول: إنه ليس ينبغي للعاشق أن يلوم من يلومه في عشقه، وأنه ينبغي أن لا ينكر ذلك منه، فإنه لا يعلم كنه البلوى في العشق، ولو كان ابتلي به لعرف ما هو فيه فعذره. وقوله: [من الكامل] ما أنت بالسّبب الضّعيف، وإنّما ... نجح الأمور بقوّة الأسباب فاليوم حاجتنا إليك، وإنّما ... يدعى الطّيب لساعة الأوصاب «3» يقول في البيت الأول: إنه ينبغي أن أنجح في أمري حين جعلتك السّبب إليه. ويقول في الثاني: إنّا قد وضعنا الشيء في موضعه، وطلبنا الأمر من جهته، حين استعنّا بك فيما عرض من الحاجة، وعوّلنا على فضلك، كما أنّ من عوّل على الطبيب فيما يعرض له من السّقم، كان قد أصاب بالتعويل موضعه، وطلب الشيء من معدنه. ثم إنّ العجب في أنّ هذا التعريض الذي ذكرت لك، لا يحصل من دون «إنما». فلو قلت: «يتذكر أولو الألباب»، لم يدلّ ما دلّ عليه في الآية، وإن كان الكلام لم يتغيّر في نفسه، وليس إلّا أنه ليس فيه «إنما».

_ (1) البيت بلا نسبة في الإيضاح (130)، وشرح المرشدي على عقود الجمان (1/ 145)، والمعنى: أنه قد علم أن لا مطمع له في رحلها فيئس من أن يكون منها إسعاف به. (2) البيت في الإيضاح (130) بلا نسبة. (3) البيتان في الإيضاح بلا نسبة (130)، ويقول في البيت الأول: إنه ينبغي أن أنجح في أمري حين جعلتك السبب إليه، وفي الثاني: إنا قد طلبنا الأمر من جهته حيث استعنا بك فيما عرض لنا من الحاجة، وعولنا على فضلك، كما أن من عول على الطبيب فيما يعرض له من السقم كان قد أصاب في فعله.

والسبب في ذلك أن هذا التعريض، إنّما وقع بأن كان من شأن «إنّما» أن تضمّن الكلام معنى النفي من بعد الإثبات، والتصريح بامتناع التذكّر ممن لا يعقل. وإذا أسقطت من الكلام فقيل: «يتذكّر أولو الألباب»، كان مجرّد وصف لأولي الألباب بأنهم يتذكّرون، ولم يكن فيه معنى نفي للتذكّر عمّن ليس منهم. ومحال أن يقع تعريض لشيء ليس له في الكلام ذكر، ولا فيه دليل عليه. فالتعريض بمثل هذا أعني بأن تقول: «يتذكّر أولو الألباب» بإسقاط «إنما»، يقع إذن إن وقع، بمدح إنسان بالتيقّظ، وبأنه فعل ما فعل، وتنبّه لما تنبّه له، لعقله ولحسن تمييزه، كما يقال: «كذلك يفعل العاقل»، و «هكذا يفعل الكريم». وهذا موضع فيه دقّة وغموض، وهو مما لا يكاد يقع في نفس أحد أنّه ينبغي أن يتعرّف سببه، ويبحث عن حقيقة الأمر فيه. وممّا يجب لك أن تجعله على ذكر منك من معاني «إنما»، ما عرفتك أوّلا من أنها قد تدخل في الشيء على أن يخيّل فيه المتكلم أنه معلوم، ويدّعي أنه من الصحة بحيث لا يدفعه دافع، كقوله: [من الخفيف] إنما مصعب شهاب من الله «1» ومن اللطيف في ذلك قول قتب بن حصن: [من الطويل] ألا أيّها النّاهي فزارة بعد ما ... أجدّت لغزو، إنّما أنت حالم «2» ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن اليهود: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة: 11]، دخلت «إنّما» لتدلّ على أنهم حين ادّعوا لأنفسهم أنهم مصلحون، أظهروا أنهم يدّعون من ذلك أمرا ظاهرا معلوما، ولذلك أكّد الأمر في تكذيبهم والردّ عليه، فجمع بين «ألا» الذي هو للتنبيه، وبين «إنّ» الذي هو التأكيد، فقيل: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة: 12].

_ (1) راجع ص (219) هامش (1). (2) البيت لعويف بن معاوية بن عقبة بن حصن الفزاري، ويسمى عويف القوافي لبيت قال فيه: سأكذب من قد كان يزعم أنني ... إذا قلت قولا لا أجيد القوافيا انظر الأغاني ترجمة عويف القوافي (19/ 205)، والبيت في معجم الشعراء ص (339)، في ترجمة قتب بن حصن الفزاري.

فصل [في الحكاية والنظم والترتيب]

فصل [في الحكاية والنظم والترتيب] اعلم أنه لا يصلح تقدير الحكاية في «النّظم والترتيب»، بل لن تعدو الحكاية الألفاظ وأجراس الحروف، وذاك أنّ الحاكي هو من يأتي بمثل ما أتى به المحكيّ عنه، ولا بدّ من أن تكون حكايته فعلا له، وأن يكون بها عاملا عملا مثل عمل المحكيّ عنه، نحو أن يصوغ إنسان خاتما فيبدع فيه صنعة، ويأتي في صناعته بخاصّة تستغرب، فيعمد واحد فيعمل خاتما على تلك الصورة والهيئة، ويجيء بمثل صنعته فيه، ويؤدّيها كما هي، فيقال عند ذلك: «إنه قد حكى عمل فلان، وصنعة فلان». و «النظم والترتيب» في الكلام كما بينّا، عمل يعمله مؤلّف الكلام في معاني الكلم لا في ألفاظها، وهو بما يصنع في سبيل من يأخذ الأصباغ المختلفة فيتوخّى فيها ترتيبا يحدث عنه ضروب من النقش والوشي. وإذا كان الأمر كذلك، فإنّا إن تعدّينا بالحكاية الألفاظ إلى النظم والترتيب، أدّى ذلك إلى المحال، وهو أن يكون المنشد شعر امرئ القيس، قد عمل في المعاني وترتيبها واستخراج النّتائج والفوائد، مثل عمل امرئ القيس، وأن يكون حاله إذا أنشد قوله: [من الطويل] فقلت له، لمّا تمطّى بصلبه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل «1» حال الصائغ ينظر إلى صورة قد عملها صائغ من ذهب له أو فضّة، فيجيء بمثلها من ذهبه وفضّته. وذلك يخرج بمرتكب، إن ارتكبه، إلى أن يكون الرّاوي مستحقّا لأن يوصف بأنه: «استعار» و «شبّه»، وأن يجعل كالشاعر في كلّ ما يكون به ناظما، فيقال: إنه جعل هذا فاعلا، وذاك مفعولا، وهذا مبتدأ، وذاك خبرا، وجعل هذا حالا، وذاك صفة، وأن يقال: «نفى كذا» و «أثبت كذا»، و «أبدل كذا من كذا». و «أضاف كذا إلى كذا»، وعلى هذا السّبيل، كما يقال ذاك في الشاعر. وإذا قيل ذلك، لزم منه أن يقال فيه: «صدق، وكذب»، كما قال في المحكيّ عنه، وكفى بهذا بعدا وإحالة. ويجمع هذا كلّه، أنه يلزم منه أن يقال: «إنّه قال شعرا»، كما يقال فيمن حكى صنعة الصائغ في خاتم قد عمله: «إنه قد صاغ خاتما».

_ (1) البيت لامرئ القيس في معلقته المشهورة في ديوانه (117)، وقبله: ألا رب خصم فيك ألوى رددته ... نصيح على تعذاله غير مؤتل وليل كموج البحر أرخى سدوله ... عليّ بأنواع الهموم ليبتلي

فصل [في النظم والترتيب]

وجملة الحديث أنّا نعلم ضرورة أنه لا يتأتّى لنا أن ننظم كلاما من غير رويّة وفكر، فإن كان راوي الشعر ومنشده يحكي نظم الشاعر على حقيقته، فينبغي أن لا يتأتى له رواية شعره إلّا برويّة، وإلّا بأن ينظر في جميع ما نظر فيه الشاعر من أمر «النظم». وهذا ما لا يبقى معه موضع عذر للشّاكّ. وهذا، وسبب دخول الشّبهة على من دخلت عليه، أنّه لما رأى المعاني لا تتجلّى للسامع إلّا من الألفاظ، وكان لا يوقف على الأمور التي بتوخّيها يكون «النظم»، إلّا بأن ينظر إلى الألفاظ مرتّبة على الأنحاء التي يوجبها ترتيب المعاني في النفس وجرت العادة «1» بأن تكون المعاملة مع الألفاظ فيقال: «قد نظم ألفاظا فأحسن نظمها، وألّف كلما فأجاد تأليفها» جعل الألفاظ الأصل في «النظم»، وجعله يتوخّى فيها أنفسها، وترك أن يفكّر في الذي بيّنّاه من أن «النظم» هو توخّي معاني النّحو في معاني الكلم، وأنّ توخّيها في متون الألفاظ محال. فلما جعل هذا في نفسه، ونشب هذا الاعتقاد به، خرج له من ذلك أن الحاكي إذا أدّى ألفاظ الشّعر على النّسق الذي سمعها عليه، كان قد حكى نظم الشاعر كما حكى لفظه. وهذه شبهة قد ملكت قلوب الناس، وعشّشت في صدورهم، وتشرّبتها نفوسهم، حتى إنك لترى كثيرا منهم وهو من حلولها عندهم محلّ العلم الضروريّ، بحيث إن أومأت له إلى شيء مما ذكرناه اشمأزّ لك، وسكّ «2» سمعه دونك، وأظهر التعجّب منك. وتلك جريرة ترك النّظر، وأخذ الشيء من غير معدنه، ومن الله التوفيق. فصل [في النظم والترتيب] اعلم أنا إذا أضفنا الشعر أو غير الشعر من ضروب الكلام إلى قائله، لم تكن إضافتنا له من حيث هو كلم وأوضاع لغة، ولكن من حيث توخّي فيها «النظم» الذي بيّنا أنه عبارة عن توخّي معاني النحو في معاني الكلم. وذاك أن من شأن الإضافة الاختصاص، فهي تتناول الشيء من الجهة التي تختصّ منها بالمضاف إليه. فإذا قلت: «غلام زيد»، تناولت الإضافة «الغلام» من الجهة التي تختصّ منها بزيد، وهي كونه مملوكا.

_ (1) البيت: لعبيد الله بن قيس الرقيات (الديوان 91) وتقدم ذكره. (2) سكّ: سدّ. اه القاموس/ سكّ/ 1217.

وإذا كان الأمر كذلك، فينبغي لنا أن ننظر في الجهة التي يختصّ منها الشّعر بقائله. وإذا نظرنا وجدناه يختصّ به من جهة توخّيه في معاني الكلم التي ألّفه منها، ما توخّاه من معاني النّحو، ورأينا أنفس الكلم بمعزل عن الاختصاص، ورأينا حالها معه حال الإبريسم مع الذي ينسج منه الدّيباج، وحال الفضّة والذهب مع من يصوغ منهما الحليّ. فكما لا يشتبه الأمر في أنّ الديباج لا يختصّ بناسجه من حيث الإبريسم، والحليّ بصائغها من حيث الفضّة والذهب، ولكن من جهة العمل والصّنعة، كذلك ينبغي أن لا يشتبه أنّ الشعر لا يختصّ بقائله من جهة أنفس الكلم وأوضاع اللغة. وتزداد تبيّنا لذلك بأن تنظر في القائل إذا أضفته إلى الشعر فقلت: «امرؤ القيس قائل هذا الشعر»، من أين جعلته قائلا له؟ أمن حيث نطق بالكلم وسمعت ألفاظها من فيه، أم من حيث صنع في معانيها ما صنع، وتوخّى فيها ما توخّى؟ فإن زعمت أنّك جعلته قائلا له من حيث أنه نطق بالكلم وسمعت ألفاظها من فيه على النّسق المخصوص، فاجعل راوي الشعر قائلا له، فإنه ينطق بها ويخرجها من فيه على الهيئة والصّورة التي نطق بها الشاعر، وذلك ما لا سبيل لك إليه. فإن قلت: إنّ الراوي وإن كان قد نطق بألفاظ الشّعر على الهيئة والصّورة التي نطق بها الشاعر، فإنه هو لم يبتدئ فيها النّسق والترتيب، وإنما ذلك شيء ابتدأه الشاعر، فلذلك جعلته القائل له دون الرّاوي. قيل لك: خبّرنا عنك، أترى أنه يتصوّر أن يجب لألفاظ الكلم التي تراها في قوله: [من الطويل] قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل «1» هذا الترتيب، من غير أن يتوخّى في معانيها ما تعلم أنّ امرأ القيس توخّاه من كون «نبك» جوابا للأمر، وكون «من» معدّية له إلى «ذكرى»، وكون «ذكرى» مضافة إلى «حبيب»، وكون «منزل» معطوفا على «حبيب»، أم ذلك محال؟.

_ (1) البيت لامرئ القيس في ديوانه (110)، وهو مطلع معلقته الشهيرة، وتمامه: بسقط اللوى بين الدخول فحومل سقط اللوى: منقطع الرمل، والدخول وحومل قيل: إنهما موضعان في شرق اليمامة.

فصل [في ربط اللفظ بالمعنى]

فإن شككت في استحالته لم تكلّم. وإن قلت: نعم، هو محال. قيل لك: فإذا كان محالا أن يجب في الألفاظ ترتيب من غير أن يتوخّى في معانيها معاني النحو، كان قولك: «إن الشاعر ابتدأ فيها ترتيبا»، قولا بما لا يتحصّل. وجملة الأمر أنه لا يكون ترتيب في شيء حتّى يكون هناك قصد إلى صورة وصفة إن لم يقدّم فيه ما قدّم، ولم يؤخّر ما أخّر، وبدئ بالذي ثنّي به، أو ثنّي بالذي ثلّث به، لم تحصل لك تلك الصورة وتلك الصّفة. وإذا كان كذلك، فينبغي أن تنظر إلى الذي يقصد واضع الكلام أن يحصل له من الصورة والصّفة: أفي الألفاظ يحصل له ذلك، أم في معاني الألفاظ؟ وليس في الإمكان أن يشكّ عاقل إذا نظر، أن ليس ذلك في الألفاظ، وإنما الذي يتصوّر أن يكون مقصودا في الألفاظ هو «الوزن»، وليس هو من كلامنا في شيء، لأنّا نحن فيما لا يكون الكلام كلاما إلّا به، وليس للوزن مدخل في ذلك. فصل [في ربط اللفظ بالمعنى] واعلم أني على طول ما أعدت وأبدأت، وقلت وشرحت، في هذا الذي قام في أوهام الناس من حديث «اللفظ»، لربّما ظننت أني لم أصنع شيئا، وذاك أنك ترى الناس كأنّه قد قضي عليهم أن يكونوا في هذا الذي نحن بصدده، على التقليد البحت، وعلى التوهّم والتخيّل، وإطلاق اللّفظ من غير معرفة بالمعنى، قد صار ذاك الدّأب والدّيدن، واستحكم الداء منه الاستحكام الشديد. وهذا الذي بيّناه وأوضحناه، كأنك ترى أبدا حجازا بينهم وبين أن يعرفوه، وكأنّك تسمعهم منه شيئا تلفظه أسماعهم، وتتكرّهه نفوسهم، وحتى كأنّه كلّما كان الأمر أبين، كانوا عن العلم به أبعد، وفي توهّم خلافه أقعد، وذاك لأن الاعتقاد الأوّل قد نشب في قلوبهم، وتأشّب «1» فيها، ودخل بعروقه في نواحيها، وصار كالنبات السّوء الذي كلما قلعته عاد فنبت. والذي له صاروا كذلك، أنهم حين رأوهم يفردون «اللفظ» عن «المعنى»، ويجعلون له حسنا على حدة، ورأوهم قد قسّموا الشّعر فقالوا: «إنّ منه ما حسن

_ (1) تأشب: أشب الشجر: التف. القاموس مادة/ أشب/ (75).

لفظه ومعناه، ومنه ما حسن لفظه دون معناه، ومنه ما حسن معناه دون لفظه»، ورأوهم يصفون «اللّفظ» بأوصاف لا يصفون بها «المعنى»، ظنّوا أنّ للّفظ، من حيث هو لفظ حسنا ومزيّة ونبلا وشرفا، وأن الأوصاف التي نحلوه إيّاها هي أوصافه على الصّحّة، وذهبوا عمّا قدّمنا شرحه من أنّ لهم في ذلك رأيا وتدبيرا، وهو أن يفصلوا بين المعنى الذي هو الغرض، وبين الصّورة التي يخرج فيها، فنسبوا ما كان من الحسن والمزيّة في صورة المعنى إلى «اللفظ»، ووصفوه في ذلك بأوصاف هي تخبر عن أنفسها أنها ليست له، كقولهم: «إنّه حلي المعنى، وإنه كالوشي عليه، وإنه قد كسب المعنى دلّا «1» وشكلا «2»، وإنه رشيق أنيق، وإنه متمكّن، وإنّه على قدر المعنى لا فاضل ولا مقصّر»، إلى أشباه ذلك مما لا يشكّ أنّه لا يكون وصفا له من حيث هو لفظ وصدى صوت، إلّا أنّهم كأنهم رأوا بسلا «3» حراما أن يكون لهم في ذلك فكر ورويّة، وأن يميّزوا فيه قبيلا من دبير. وممّا الصّفة فيه للمعنى، وإن جرى في ظاهر المعاملة على «اللّفظ»، إلا أنه يبعد عند الناس كلّ البعد أن يكون الأمر فيه كذلك، وأن لا يكون من صفة «اللفظ» بالصّحة والحقيقة وصفنا اللّفظ بأنه «مجاز». وذاك أنّ العادة قد جرت بأن يقال في الفرق بين «الحقيقة» و «المجاز»: إنّ «الحقيقة»، أن يقرّ اللفظ على أصله في اللغة، و «المجاز»، أن يزال عن موضعه، ويستعمل في غير ما وضع له، فيقال: «أسد» ويراد «شجاع»، و «بحر» ويراد جواد. وهو وإن كان شيئا قد استحكم في النفوس حتى إنك ترى الخاصّة فيه كالعامّة، فإنّ الأمر بعد على خلافه. وذاك أنّا إذا حقّقنا، لم نجد لفظ «أسد» قد استعمل على القطع والبتّ في غير ما وضع له. ذاك لأنه لم يجعل في معنى «شجاع» على الإطلاق، ولكن جعل الرجل بشجاعته أسدا. فالتجوّز في أن ادّعيت للرجل أنّه في معنى الأسد، وأنه كأنه هو في قوّة قلبه وشدة بطشه، وفي أن الخوف لا يخامره، والذّعر لا يعرض له. وهذا إن أنت حصّلت، تجوّز منك في معنى اللفظ لا اللفظ، وإنما يكون اللّفظ مزالا بالحقيقة عن موضعه، ومنقولا عمّا وضع له، أن لو كنت تجد عاقلا يقول: «هو أسد»، وهو لا يضمر في نفسه تشبيها له بالأسد، ولا يريد إلّا ما يريده إذا قال: «هو شجاع». وذلك ما لا يشكّ في بطلانه.

_ (1) الدل: دل المرأة ودلالها التغنج. القاموس مادة/ دلل/ (1292) (2) الشكل: بالكسر والفتح غنج المرأة ودلها وغزلها. القاموس مادة/ شكل/ (1318). (3) البسل: الحرام والحلال (ضد). القاموس مادة/ بسل/ (1248).

وليس العجب إلّا أنهم لا يذكرون شيئا من «المجاز» إلّا قالوا: «إنه أبلغ من الحقيقة». فليت شعري، إن كان لفظ «أسد» قد نقل عمّا وضع له في اللغة، وأزيل عنه، وجعل يراد به «الشجاع» هكذا غفلا ساذجا، فمن أين يجب أن يكون قولنا: «أسد»، أبلغ من قولنا «شجاع»؟. وهكذا الحكم في «الاستعارة»، هي، وإن كانت في ظاهر المعاملة من صفة «اللفظ»، وكنا نقول: «هذه لفظة مستعارة» و «قد استعير له اسم الأسد» فإنّ مآل الأمر إلى أنّ القصد بها إلى المعنى. يدلّك على ذلك أنا نقول: «جعله أسدا» و «جعله بدرا»، و «جعله بحرا»، فلو لم يكن القصد بها إلى المعنى، لم يكن لهذا الكلام وجه، لأن «جعل» لا تصلح إلّا حيث يراد إثبات صفة للشيء، كقولنا: «جعلته أميرا» و «جعلته واحد دهره»، تريد أثبتّ له ذلك. وحكم «جعل» إذا تعدّى إلى مفعولين حكم «صيّر»، فكما لا تقول: «صيرته أميرا»، إلا على معنى أنّك أثبتّ له صفة الإمارة، كذلك لا يصحّ أن تقول: «جعلته أسدا»، إلا على معنى أنك جعلته في معنى الأسد ولا يقال: «جعلته زيدا»، بمعنى «سمّيته زيدا»، ولا يقال للرجل: «اجعل ابنك زيدا» بمعنى: «سمّه زيدا» و «ولد لفلان ابن فجعله زيدا»، وإنّما يدخل الغلط في ذلك على من لا يحصّل. فأمّا قوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف: 19]، فإنما جاء على الحقيقة التي وصفتها، وذلك أن المعنى على أنّهم أثبتوا للملائكة صفة «الإناث»، واعتقدوا وجودها فيهم. وعن هذا الاعتقاد صدر عنهم ما صدر من الاسم، أعني إطلاق اسم «البنات»، وليس المعنى أنهم وضعوا لها لفظ «الإناث» أو لفظ «البنات» اسما من غير اعتقاد معنى وإثبات صفة. هذا محال لا يقوله له عاقل. أما تسمع قول الله تعالى: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ [الزخرف: 19]؟ فإن كانوا لم يزيدوا على أن أجروا الاسم على الملائكة ولم يعتقدوا إثبات صفة ومعنى بإجرائه عليهم، فأيّ معنى لأن يقال: «أشهدوا خلقهم»؟ هذا، ولو كانوا لم يقصدوا إثبات صفة، ولم يزيدوا على أن وضعوا اسما، لما استحقّوا إلا اليسير من الذمّ، ولما كان هذا القول منهم كفرا. والأمر في ذلك أظهر من أن يخفى. وجملة الأمر أنه إن قيل: «إنه ليس في الدنيا علم قد عرض للناس فيه من فحش الغلط، ومن قبيح التورّط، ومن الذهاب مع الظّنون الفاسدة ما عرض لهم في هذا

[فصل: غلط الناس في معنى الحقيقة والمجاز.]

الشأن»، ظننت أن لا يخشى على من يقوله الكذب. وهل عجب أعجب من قوم عقلاء يتلون قول الله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء: 88] ويؤمنون به، ويدينون بأن القرآن معجز، ثم يصدّون بأوجههم عن برهان الإعجاز ودليله، ويسلكون غير سبيله؟ ولقد جنوا، لو دروا ذاك، عظيما. [فصل: غلط الناس في معنى الحقيقة والمجاز.] واعلم أنه وإن كانت الصّورة في الذي أعدنا وأبدأنا فيه من أنّه لا معنى للنّظم غير توخّي معاني النّحو فيما بين الكلم، قد بلغت في الوضوح والظهور والانكشاف إلى أقصى الغاية، وإلى أن تكون الزيادة عليه كالتكلّف لما لا يحتاج إليه، فإنّ النفس تنازع إلى تتبّع كلّ ضرب من الشّبهة يرى أنه يعرض للمسلّم نفسه عند اعتراض الشك. وإنا لنرى أن في الناس من إذا رأى أنّه يجري في القياس وضرب المثل أن تشبّه الكلم في ضمّ بعضها إلى بعض، بضمّ غزل الإبريسم بعضه إلى بعض، ورأى أنّ الذي ينسج الدّيباج ويعمل النّقش والوشي لا يصنع بالإبريسم الذي ينسج منه، شيئا غير أن يضمّ بعضه إلى بعض، ويتخيّر للأصباغ المختلفة المواقع التي يعلم أنه إذا أوقعها فيها حدث له في نسجه ما يريد من النقش والصورة جرى «1» في ظنّه أن حال الكلم في ضمّ بعضها إلى بعض، وفي تخيّر المواقع لها، حال خيوط الإبريسم سواء، ورأيت كلامه كلام من لا يعلم أنه لا يكون الضّم فيها ضمّا، ولا الموقع موقعا، حتى يكون قد توخّي فيها معاني النحو، وأنك إن عمدت إلى ألفاظ فجعلت تتبع بعضها بعضا من غير أن تتوخّى فيها معاني النحو، لم تكن صنعت شيئا تدعى به مؤلّفا، وتشبّه معه بمن عمل نسجا أو صنع على الجملة صنيعا، ولم يتصوّر أن تكون قد تخيّرت لها المواقع. وفساد هذا وشبهه من الظّنّ، وإن كان معلوما ظاهرا، فإنّ هاهنا استدلالا لطيفا تكثر بسببه الفائدة، وهو أنه يتصوّر أن يعمد عامد إلى نظم كلام بعينه فيزيله عن الصّورة التي أرادها الناظم له ويفسدها عليه، من غير أن يحوّل منه لفظا عن موضعه، أو يبدله بغيره، أو يغيّر شيئا من ظاهر أمره على حال.

_ (1) السياق: وإنا لنرى في الناس من إذا رأى أنه يجري في القياس .... ورأى أن الذي ينسج الديباج .... جرى في ظنه ... ».

مثال ذلك: أنك إن قدّرت في بيت أبي تمام: [من الطويل] لعاب الأفاعي القاتلات لعابه ... وأري الجنى اشتارته أيد عواسل «1» أنّ «لعاب الأفاعي» مبتدأ و «لعابه» خبر، كما يوهمه الظاهر، أفسدت عليه كلامه، وأبطلت الصّورة التي أرادها فيه. وذلك أنّ الغرض أن يشبّه مداد قلمه بلعاب الأفاعي، على معنى أنه إذا كتب في إقامة السياسات أتلف به النفوس، وكذلك الغرض أن يشبّه مداده بأري الجنى، على معنى أنه إذا كتب في العطايا والصّلات أوصل به إلى النّفوس ما تحلو مذاقته عندها، وأدخل السّرور واللّذة عليها. وهذا المعنى إنّما يكون إذا كان «لعابه» مبتدأ، و «لعاب الأفاعي» خبرا. فأمّا تقديرك أن يكون «لعاب الأفاعي» مبتدأ و «لعابه»، خبرا فيبطل ذلك ويمنع منه البتّة، ويخرج بالكلام إلى ما لا يجوز أن يكون مرادا في مثل غرض أبي تمّام، وهو أن يكون أراد أن يشبّه «لعاب الأفاعي» بالمداد، ويشبّه كذلك «الأري» به. فلو كان حال الكلم في ضمّ بعضها إلى بعض كحال غزل الإبريسم، لكان ينبغي أن لا تتغيّر الصّورة الحاصلة من نظم كلم، حتّى تزال عن مواقعها كما لا تتغير الصّورة الحادثة عن ضمّ غزل الإبريسم بعضه إلى بعض، حتّى تزال الخيوط عن مواضعها. واعلم أنه لا يجوز أن يكون سبيل قوله: «لعاب الأفاعي القاتلات لعابه»، سبيل قولهم: «عتابك السّيف». وذلك أن المعنى في بيت أبي تمام على أنك مشبه شيئا بشيء، وجامع بينهما في وصف، وليس المعنى في «عتابك السيف»، على أنك تشبه عتابه بالسيف، ولكن على أن تزعم أنه يجعل «السيف» بدلا من «العتاب». أفلا ترى أنه يصحّ أن تقول: «مداد قلمه قاتل كسم الأفاعي»، ولا يصحّ أن تقول: «عتابك كالسيف»، اللهم إلّا أن تخرج إلى باب آخر، وشيء ليس هو غرضهم بهذا الكلام، فتريد أنه قد عاتب عتابا خشنا مؤلما. ثم إنك إن قلت: «السيف عتابك»، خرجت به إلى معنى ثالث، وهو أن تزعم أن عتابه قد بلغ في إيلامه وشدة تأثيره مبلغا صار له السّيف كأنه ليس بسيف.

_ (1) البيت في ديوانه (242) ط، دار الكتب العلمية، بيروت، من قصيدة يمدح فيها محمدا بن عبد الملك الزيات، ومطلعها: متى أنت عن ذهلية الحي ذاهل ... وقلبك منها مدّة الدهر آهل تطل الطلول الدمع في كل موقف ... وتمثل بالصبر الديار المواثل والبيت أورده السكاكي في المفتاح (316)، والقزويني في الإيضاح (84)، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات (59)، وعزاه لأبي تمام، ولطائف التبيان (64)، وشرح الصولي (2/ 333).

واعلم أنه إن نظر ناظر في شأن المعاني والألفاظ إلى حال السامع، فإذا رأى المعاني تقع في نفسه من بعد وقوع الألفاظ في سمعه، ظنّ لذلك أنّ المعاني تبع للألفاظ في ترتيبها. فإنّ هذا الذي بيّنّاه يريه فساد هذا الظنّ. وذلك أنه لو كانت المعاني تكون تبعا للألفاظ في ترتيبها، لكان محالا أن تتغيّر المعاني والألفاظ بحالها لم تزل عن ترتيبها. فلما رأينا المعاني قد جاز فيها التغيّر من غير أن تتغيّر الألفاظ وتزول عن إمكانها، علمنا أن الألفاظ هي التابعة، والمعاني هي المتبوعة. واعلم أنه ليس من كلام يعمد واضعه فيه إلى معرفتين فيجعلهما مبتدأ وخبرا، ثم يقدّم الذي هو الخبر، إلّا أشكل الأمر عليك فيه، فلم تعلم أن المقدّم خبر، حتى ترجع إلى المعنى وتحسن التدبّر. أنشد الشّيخ أبو علي في «التّذكرة» «1»: [من الخفيف] نم وإن لم أنم كراي كراكا «2» ثم قال: «ينبغي أن يكون «كراي» خبرا مقدّما، ويكون الأصل: «كراك كراي»، أي نم، وإن لم أنم فنومك نومي، كما تقول: «قم، وإن جلست، فقيامك قيامي، هذا هو عرف الاستعمال في نحوه» ثم قال: «وإذا كان كذلك، فقد قدّم الخبر وهو معرفة، وهو ينوي به التأخير من حيث كان خبرا» قال: «فهو كبيت الحماسة: [من الطويل] بنونا بنو أبنائنا، وبناتنا ... بنوهنّ أبناء الرّجال الأباعد فقدّم خبر المبتدأ وهو معرفة، وإنّما دلّ على أنه ينوي التأخير المعنى، ولولا ذلك لكانت المعرفة، إذا قدّمت، هي المبتدأ لتقدّمها، فافهم ذلك». هذا كلّه لفظه. واعلم أن الفائدة تعظم في هذا الضّرب من الكلام، إذا أنت أحسنت النظر فيما ذكرت لك، من أنك تستطيع أن تنقل الكلام في معناه عن صورة إلى صورة، من غير

_ (1) وهو للإمام الحسن بن أحمد الفارسي، وهو كبير من مجلدات لخصه ابن جني. كشف الظنون (1/ 384). (2) صدر بيت لأبي تمام في ديوانه (461)، وبعده: طال صبري تفديك نفسي وقلّت ... نفس مثلي عن أن تكون فداكا ورواية الديوان: نم فإن لم أنم كراي كراكا ... شاهدي منك أن ذاك كذاكا

أن تغيّر من لفظه شيئا، أو تحوّل كلمة عن مكانها إلى مكان آخر، وهو الذي وسّع مجال التأويل والتفسير، حتى صاروا يتأوّلون في الكلام الواحد تأويلين أو أكثر، ويفسّرون البيت الواحد عدّة تفاسير. وهو، على ذاك، الطريق المزلّة الّذي ورّط كثيرا من الناس في الهلكة، وهو مما يعلم به العاقل شدّة الحاجة إلى هذا العلم، ويكشف معه عوار الجاهل به، ويفتضح عنده المظهر الغنى عنه. ذاك لأنه قد يدفع إلى الشيء لا يصحّ إلا بتقدير غير ما يريه الظاهر، ثم لا يكون له سبيل إلى معرفة ذلك التقدير إذا كان جاهلا بهذا العلم، فيتسكّع عند ذلك في العمى، ويقع في الضلال. مثال ذلك أنّ من نظر إلى قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الإسراء: 110]، ثمّ لم يعلم أن ليس المعنى في «ادعوا» الدّعاء، ولكن الذّكر بالاسم، كقولك: «هو يدعى زيدا» و «يدعى الأمير»، وأنّ في الكلام محذوفا، وأن التقدير: قل ادعوه الله، أو ادعوه الرحمن، أيّا ما تدعو فله الأسماء الحسنى كان بعرض أن يقع في الشّرك، من حيث أنه إن جرى في خاطره أن الكلام على ظاهره، خرج ذلك به، والعياذ بالله تعالى، إلى إثبات مدعوّين، تعالى الله عن أن يكون له شريك. وذلك من حيث كان محالا أن تعمد إلى اسمين كلاهما اسم شيء واحد، فتعطف أحدهم على الآخر، فتقول مثلا: «ادع لي زيدا أو الأمير»، و «الأمير» هو زيد. وكذلك محال أن تقول: «أيّا ما تدعوا» وليس هناك إلا مدعوّ واحد، لأن من شأن «أيّ» أن تكون أبدا واحدا من اثنين أو جماعة، ومن ثمّ لم يكن له بدّ من الإضافة، إمّا لفظا وإمّا تقديرا. وهذا باب واسع. ومن المشكل فيه قراءة من قرأ: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: 30]، بغير تنوين. وذلك أنهم قد حملوها على وجهين: أحدهما: أن يكون القارئ له أراد التنوين ثم حذفه لالتقاء الساكنين، ولم يحرّكه، كقراءة من قرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص: 1 - 2]، بترك التنوين من «أحد»، وكما حكي عن عمارة بن عقيل أنه قرأ: وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ [يس: 40]، بالنصب، فقيل له: ما تريد؟ فقال: أريد سابق النّهار. قيل: فهلّا قلته؟ فقال: فلو قلته لكان أوزن وكما جاء في الشعر من قوله: [من المتقارب] فألفيته غير مستعتب ... ولا ذاكر الله إلّا قليلا «1»

_ (1) هو لأبي الأسود الدؤلي في ديوانه، والأغاني (11/ 17)، والبيت في كتاب سيبويه (1/ 85).

إلى نظائر ذلك، فيكون المعنى في هذه القراءة مثله في القراءة الأخرى، سواء. والوجه الثاني: أن يكون الابن صفة، ويكون التنوين قد سقط على حدّ سقوطه في قولنا: «جاءني زيد بن عمرو»، ويكون في الكلام محذوف. ثم اختلفوا في المحذوف، فمنهم من جعله مبتدأ فقدّر: «وقالت اليهود هو عزيز بن الله» ومنهم من جعله خبرا فقدّر؟ «وقالت اليهود عزيز بن الله معبودنا». وفي هذا أمر عظيم، وذلك أنك إذا حكيت عن قائل كلاما أنت تريد أن تكذّبه فيه، فإنّ التكذيب ينصرف إلى ما كان فيه خبرا، دون ما كان صفة. تفسير هذا: أنك إذا حكيت عن إنسان أنه قال: «زيد بن عمرو سيّد»، ثم كذّبته فيه، لم تكن قد أنكرت بذلك أن يكون زيد بن عمرو، ولكن أن يكون سيّدا. وكذلك إذا قال: «زيد الفقيه قد قدم»، فقلت له: «كذبت» أو «غلطت». لم تكن قد أنكرت أن يكون زيد فقيها، ولكن أن يكون قد قدم. هذا ما لا شبهة فيه، وذلك أنّك إذا كذّبت قائلا في كلام أو صدّقته، فإنما ينصرف التكذيب منك والتصديق إلى إثباته ونفيه، والإثبات والنّفي يتناولان الخبر دون الصّفة. يدلّك على ذلك أنك تجد الصّفة ثابتة في حال النفي، كثبوتها في حال الإثبات. فإذا قلت: «ما جاءني زيد الظّريف»، كان «الظرف» ثابتا لزيد كثبوته إذا قلت: «جاءني زيد الظّريف» وذلك أن ليس ثبوت الصّفة للذي هي صفة له، بالمتكلّم وبإثباته لها فتنتفي بنفيه، وإنما ثبوتها بنفسها، وبتقرّر الوجود فيها عند المخاطب، مثله عند المتكلم، لأنّه إذا وقعت الحاجة في العلم إلى الصفة، كان الاحتياج إليها من أجل خيفة اللّبس على المخاطب. تفسير ذلك: أنّك إذا قلت: «جاءني زيد الظريف»، فإنّك إنما تحتاج إلى أن تصفه بالظّريف، إذا كان فيمن يجيء إليك واحد آخر يسمى «زيدا»، فأنت تخشى إن قلت: «جاءني زيد» ولم تقل «الظريف»، أن يلتبس على المخاطب فلا يدري أهذا عنيت أم ذاك؟ وإذا كان الغرض من ذكر الصّفة إزالة اللّبس والتبيين، كان محالا أن تكون غير معلومة عند المخاطب، وغير ثابتة، لأنه يؤدي إلى أن تروم تبيين الشّيء للمخاطب بوصف هو لا يعلمه في ذلك الشيء. وذلك ما لا غاية وراءه في الفساد. وإذا كان الأمر كذلك، كان جعل «الابن» صفة في الآية، مؤدّيا إلى الأمر العظيم،

وهو إخراجه عن موضع النّفي والإنكار، إلى موضع الثّبوت والاستقرار، جلّ الله وتعالى عن شبه المخلوقين، وعن جميع ما يقول الظالمون، علوّا كبيرا. فإن قيل: إنّ هذه قراءة معروفة، والقول بجواز الوصفية في «الابن» كذلك معروف ومدوّن في الكتب، وذلك يقتضي أن يكونوا قد عرفوا في الآية تأويلا يدخل به «الابن» في الإنكار مع تقدير الوصفية فيه. قيل: إن القراءة كما ذكرت معروفة، والقول بجواز أن يكون «الابن» صفة مثبت مسطور في الكتب كما قلت، ولكنّ الأصل الذي قدمناه من أن الإنكار إذا لحق لحق الخبر دون الصفة ليس بالشيء الذي يعترض فيه شكّ أو تتسلّط عليه شبهة. فليس يتّجه أن يكون «الابن» صفة ثمّ يلحقه الإنكار مع ذلك، إلّا على تأويل غامض، وهو أن يقال: إن الغرض الدّلالة على أن اليهود قد كان بلغ من جهلهم ورسوخهم في هذا الشّرك، أنهم كانوا يذكرون «عزيرا» هذا الذكر، كما تقول في قوم تريد أن تصفهم بأنهم قد استهلكوا في أمر صاحبهم وغلوا في تعظيمه: «إنّي أراهم قد اعتقدوا أمرا عظيما، فهم يقولون أبدا: زيد الأمير»، تريد أنه كذلك يكون ذكرهم إذا ذكروه، إلّا أنه إنما يستقيم هذا التأويل فيه، إذا أنت لم تقدّر له خبرا معيّنا، ولكن تريد أنّهم كانوا لا يخبرون عنه بخبر إلا كان ذكرهم له هكذا. وممّا هو من هذا الذي نحن فيه قوله تعالى: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ [النساء: 171]. وذلك أنّهم قد ذهبوا في رفع «ثلاثة» إلى أنها خبر مبتدأ محذوف، وقالوا: إن التقدير: «ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة». وليس ذلك بمستقيم. وذلك أنا إذا قلنا: «ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة»، كان ذلك، والعياذ بالله، شبه الإثبات أنّ هاهنا آلهة، من حيث أنك إذا نفيت، فإنما تنفي المعنى المستفاد من الخبر عن المبتدأ، ولا تنفي معنى المبتدأ، فإذا قلت: «ما زيد منطلقا»، كنت نفيت الانطلاق الذي هو معنى الخبر عن زيد، ولم تنف معنى زيد ولم توجب عدمه. وإذا كان ذلك كذلك، فإذا قلنا: «ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة»، كنا قد نفينا أن تكون عدّة الآلهة ثلاثة، ولم ننف أن تكون آلهة، جلّ الله تعالى عن الشّريك والنّظير كما أنك إذا قلت: «ليس أمراؤنا ثلاثة»، كنت قد نفيت أن تكون عدّة الأمراء ثلاثة، ولم تنف أن يكون لكم أمراء. هذا ما لا شبهة فيه. وإذا أدّى هذا التقدير إلى هذا الفساد، وجب أن يعدل عنه إلى غيره. والوجه، والله أعلم، أن تكون «ثلاثة» صفة مبتدأ لا خبر مبتدأ، ويكون

التقدير: «ولا تقولوا لنا آلهة ثلاثة- أو: في الوجود آلهة ثلاثة»، ثم حذف الخبر الذي هو «لنا» أو «في الوجود» كما حذف من: «لا إله إلا الله» وما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران: 62]، فبقي «ولا تقول آلهة ثلاثة»، ثم حذف الموصوف الذي هو «آلهة»، فبقي: «ولا تقولوا ثلاثة». وليس في حذف ما قدّرنا حذفه ما يتوقّف في صحّته. أما حذف الخبر الذي قلنا أنه «لنا» أو «في الوجود»، فمطّرد في كلّ ما معناه التّوحيد، ونفي أن يكون مع الله، تعالى عن ذلك، إله. وأمّا حذف الموصوف بالعدد، فكذلك شائع، وذلك أنه كما يسوغ أن تقول: «عندي ثلاثة»، وأنت تريد «ثلاثة أثواب»، ثم تحذف، لعلمك أن السامع يعلم ما تريد، كذلك يسوغ أن تقول: «عندي ثلاثة»، وأنت تريد «أثواب ثلاثة، لأنه لا فصل بين أن تجعل المقصود بالعدد مميّزا، وبين أن تجعله موصوفا بالعدد، في أنه يحسن حذفه إذا علم المراد. يبيّن ذلك أنك ترى المقصود بالعدد قد ترك ذكره، ثم لا تستطيع أن تقدّره إلا موصوفا، وذلك في قولك: «عندي اثنان»، و «عندي واحد»، يكون المحذوف هاهنا موصوفا لا محالة، نحو: «عندي رجلان اثنان» و «عندي درهم واحد»، ولا يكون مميّزا البتّة، من حيث كانوا قد رفضوا إضافة «الواحد» و «الاثنين» إلى الجنس، فتركوا أن يقولوا: «واحد رجال» و «اثنا رجال» على حدّ «ثلاثة رجال»، ولذلك كان قول الشاعر: [من الرجز] ظرف عجوز فيه ثنتا حنظل «1» شاذّا. هذا، ولا يمتنع أن يجعل المحذوف من الآية في موضع التمييز دون موضع الموصوف، فيجعل التّقدير: «ولا تقولوا ثلاثة آلهة»، ثم يكون الحكم في الخبر على ما مضى، ويكون المعنى، والله أعلم، «ولا تقولوا لنا ثلاثة آلهة، أو في الوجود ثلاثة آلهة». فإن قلت: فلم صار لا يلزم على هذا التقدير ما لزم على قول من قدّر: «ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة»؟. فذاك لأنّا إذا جعلنا التّقدير: «ولا تقولوا لنا، أو: في الوجود، آلهة ثلاثة، أو

_ (1) الرجز: لخطام المجاشعي أو لجندل بن المثنى أو لسلمى الهذلية أو لشماء الهذلية (خزانة الأدب 7/ 400، 404)، وغير منسوب في (شرح الحماسة للتبريزي 4/ 166). ورواية أبي تمام في الحماسة: «سحق جراب فيه ثنتا حنظل». فذاك: جواب السؤال.

ثلاثة آلهة»، كنا قد نفينا الوجود عن الآلهة، كما نفيناه في «لا إله إلا الله»، وما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران: 62] وإذا زعموا أن التقدير «ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة»، كانوا قد نفوا أن تكون عدة الآلهة ثلاثة، ولم ينفوا وجود الآلهة. فإن قيل: فإنه يلزم على تقديرك الفساد من وجه آخر، وذاك أنه يجوز إذا قلت: «ليس لنا أمراء ثلاثة»، أن يكون المعنى: ليس لنا أمراء ثلاثة، ولكن لنا أميران اثنان. وإذا كان كذلك: كان تقديرك وتقديرهم جميعا خطأ. قيل: إنّ هاهنا أمرا قد أغفلته، وهو أن قولهم «آلهتنا»، يوجب ثبوت آلهة، جلّ الله وتعالى عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا. وقولنا: «ليس لنا آلهة ثلاثة»، لا يوجب ثبوت اثنين البتّة. فإن قلت: إن كان لا يوجبه، فإنه لا ينفيه. قيل: ينفيه ما بعده من قوله تعالى: إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ [النساء: 171]. فإن قيل: فإنه كما ينفي الإلهين، كذلك ينفي الآلهة. وإذا كان كذلك، وجب أن يكون تقديرهم صحيحا كتقديرك. قيل: هو كما قلت ينفي الآلهة، ولكنهم إذا زعموا أن التقدير: «ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة»، وكان ذلك- والعياذ بالله من الشّرك- يقتضي إثبات آلهة، كانوا قد دفعوا هذا النّفي وخالفوه وأخرجوه إلى المناقضة. فإذا كان كذلك، كان محالا أن يكون للصّحّة سبيل إلى ما قالوه. وليس كذلك الحال فيما قدّرناه، لأننا لم نقدّر شيئا يقتضي إثبات إليهن، تعالى الله، حتى يكون حالنا حال من يدفع ما يوجبه هذا الكلام من نفيهما. يبيّن لك ذلك: أنّه يصحّ لنا أن نتبع ما قدّرناه نفي الاثنين، ولا يصحّ لهم. تفسير ذلك: أنه يصح أن تقول: «ولا تقولوا لنا آلهة ثلاثة ولا إلهان»، لأن ذلك يجري مجرى أن تقول: «ليس لنا آلهة ثلاثة ولا إلهان»، وهذا صحيح ولا يصحّ لهم أن يقولوا: «ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة ولا إلهان»، لأنّ ذلك يجري مجرى أن يقولوا: «ولا تقولوا آلهتنا إلهان». وذلك فاسد، فاعرفه وأحسن تأمّله. ثم إن هاهنا طريقا آخر، وهو أن تقدّر: «ولا تقولوا الله والمسيح وأمّه ثلاثة»، أي نعبدهما كما نعبد الله.

يبين ذلك قوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة: 73] وقد استقرّ في العرف أنهم إذا أرادوا إلحاق اثنين بواحد في وصف من الأوصاف، وأن يجعلوهما شبيهين له، قالوا: «هم ثلاثة»، كما يقولون إذا أرادوا إلحاق واحد بآخر وجعله في معناه: «هما اثنان»، وعلى هذا السبيل كأنهم يقولون: «هم يعدّون معدّا واحدا»، ويوجب لهم التساوي والتّشارك في الصفة والرّتبة، وما شاكل ذلك. واعلم أنه لا معنى لأن يقال: إنّ القول حكاية، وأنه إذا كان حكاية لم يلزم منه إثبات الآلهة، لأنه يجري مجرى أن تقول: «إنّ من دين الكفّار أن يقولوا: الآلهة ثلاثة»، وذلك لأن الخطاب في الآية للنّصارى أنفسهم. ألا ترى إلى قوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ [النساء: 171]. وإذا كان الخطاب للنصارى، كان تقدير الحكاية محالا، «فلا تقولوا» إذن في معنى: «لا تعتقدوا»، وإذا كان في معنى الاعتقاد، لزم إذا قدر «ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة»، ما قلنا إنّه يلزم من إثبات الآلهة. وذلك لأنّ الاعتقاد يتعلق بالخبر لا بالمخبر عنه. فإذا قلت: «لا تعتقد أن الأمراء ثلاثة»، كنت نهيته عن أن يعتقد كون الأمراء على هذه العدّة، لا عن أن يعتقد أن هاهنا أمراء. هذا ما لا يشكّ فيه عاقل. وإنما يكون النّهي عن ذلك إذا قلت: «لا تعتقد أن هاهنا أمراء»، لأنك حينئذ تصير كأنك قلت: لا تعتقد وجود أمراء. هذا، ولو كان الخطاب مع المؤمنين، لكان تقدير الحكاية لا يصحّ أيضا. ذاك لأنه لا يجوز أن يقال: «إن المؤمنين نهوا عن أن يحكوا عن النصارى مقالتهم، ويخبروا عنهم بأنهم يقولون كيت وكيت»، كيف؟ وقد قال الله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: 30]؟ ومن أين يصحّ النهي عن حكاية قول المبطل، وفي ترك حكايته ترك له وكفره، وامتناع من النّعي عليه، والإنكار لقوله، والاحتجاج عليه، وإقامة الدّليل على بطلانه، لأنه لا سبيل إلى شيء من ذلك إلّا من بعد حكاية القول والإفصاح به، فاعرفه.

[تنبيه] بسم الله الرّحمن الرّحيم قد أردنا أن نستأنف تقريرا نزيد به النّاس تبصيرا أنّهم في عمياء من أمرهم حتّى يسلكوا المسلك الذي سلكناه، يفرغوا خواطرهم لتأمّل ما استخرجناه، وأنّهم- ما لم يأخذوا أنفسهم بذلك، ولم يجرّدوا عناياتهم له- في غرور، كمن يعد نفسه الرّيّ من السّراب اللامع، ويخادعها بأكاذيب المطامع. يقال لهم: إنكم تتلون قول الله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الإسراء: 88]، وقوله عزّ وجلّ: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ [هود: 13]، وقوله: بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة: 23]، فقولوا الآن: أيجوز أن يكون تعالى قد أمر نبيّه صلى الله عليه وسلّم بأن يتحدّى العرب إلى أن يعارضوا القرآن بمثله، من غير أن يكونوا قد عرفوا الوصف الذي إذا أتوا بكلام على ذلك الوصف، كانوا قد أتوا بمثله؟. ولا بدّ من «لا»، لأنهم إن قالوا: «يجوز»، أبطلوا التحدّي، من حيث أن التّحدّي، كما لا يخفى، مطالبة بأن يأتوا بكلام على وصف، ولا تصحّ المطالبة بالإتيان به على وصف من غير أن يكون ذلك الوصف معلوما للمطالب، ويبطل بذلك دعوى الإعجاز أيضا. وذلك لأنه لا يتصوّر أن يقال: «إنّه كان عجز، حتى يثبت معجوز عنه معلوم. فلا يقوم في عقل عاقل أن يقول لخصم له: «قد أعجزك أن تفعل مثل فعلي»، وهو لا يشير له إلى وصف يعلمه في فعله، ويراه قد وقع عليه. أفلا ترى أنه لو قال رجل لآخر: «إنّي قد أحدثت في خاتم عملته صنعة أنت لا تستطيع مثلها»، لم تتّجه له عليه حجّة، ولم يثبت به أنّه قد أتى بما يعجزه، إلا من بعد أن يريه الخاتم، ويشير له إلى ما زعم أنه أبدعه فيه من الصّنعة، لأنه لا يصحّ وصف الإنسان بأنه قد عجز عن شيء، حتى يريد ذلك الشيء ويقصد إليه، ثم لا يتأتّى له. وليس يتصوّر أن يقصد إلى شيء لا يعلمه، وأن تكون منه إرادة لأمر لم يعلمه في جملة ولا تفصيل. ثم إن هذا الوصف ينبغي أن يكون وصفا قد تجدّد بالقرآن، وأمرا لم يوجد في غيره، ولم يعرف قبل نزوله. وإذا كان كذلك، فقد وجب أن يعلم أنه لا يجوز أن يكون في «الكلم المفردة»، لأن تقدير كونه فيها يؤدّي إلى المحال، وهو أن تكون

الألفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة، قد حدث في مذاقة حروفها وأصدائها أوصاف لم تكن، لتكون تلك الأوصاف فيها قبل نزول القرآن، وتكون قد اختصّت في أنفسها بهيئات وصفات يسمعها السامعون عليها إذا كانت متلوّة في القرآن، لا يجدون لها تلك الهيئات والصفات خارج القرآن. ولا يجوز أن تكون في «معاني الكلم المفردة»، التي هي لها بوضع اللغة، لأنّه يؤدي إلى أن يكون قد تجدّد في معنى «الحمد» و «الرب»، ومعنى «العالمين» و «الملك» و «اليوم» و «الدين»، وهكذا، وصف لم يكن قبل نزول القرآن. وهذا ما لو كان هاهنا شيء أبعد من المحال وأشنع لكان إيّاه. ولا يجوز أن يكون هذا الوصف في «ترتيب الحركات والسّكنات»، حتى كأنهم تحدّوا إلى أن يأتوا بكلام تكون كلماته على تواليه في زنة كلمات القرآن، وحتّى كأنّ الذي بان به القرآن من الوصف في سبيل بينونة بحور الشعر بعضها من بعض، لأنّه يخرج إلى ما تعاطاه مسيلمة من الحماقة في: «إنا أعطيناك الجماهر، فصلّ لربّك وجاهر»، «والطاحنات طحنا». وكذلك الحكم إن زعم زاعم «أن الوصف الذي تحدّوا إليه هو أن يأتوا بكلام يجعلون له مقاطع، وفواصل، كالذي تراه في القرآن»، لأنّه أيضا ليس بأكثر من التّعويل على مراعاة وزن. وإنما الفواصل في الآي كالقوافي في الشّعر، وقد علمنا اقتدارهم على القوافي كيف هو، فلو لم يكن التحدّي إلّا إلى فصول من الكلام يكون لها أواخر أشباه القوافي، لم يعوزهم ذلك، ولم يتعذّر عليهم. وقد خيّل إلى بعضهم- إن كان الحكاية صحيحة- شيء من هذا، حتى وضع على ما زعموا فصول كلام أواخرها كأواخر الآي، مثل «يعلمون» و «يؤمنون» وأشباه ذلك. ولا يجوز أن يكون الإعجاز بأن لم يلتق في حروفه ما يثقل على اللسان. وجملة الأمر أنه لن يعرض هذا وشبهه من الظنون لمن يعرض له إلا من سوء المعرفة بهذا الشّأن، أو للخذلان، أو لشهوة الإغراب في القول. ومن هذا الذي يرضى من نفسه أن يزعم أنّ البرهان الذي بان لهم، والأمر الذي بهرهم، والهيبة التي ملأت صدورهم، والرّوعة التي دخلت عليهم فأزعجتهم حتى قالوا: إنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أسفله لمعذق، وإنّ أعلاه لمثمر» «1»، إنّما كان لشيء راعهم من مواقع

_ (1) ذكرها في (سيرة ابن هشام) ... وأن الوليد بن المغيرة قال: «إن لقوله حلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة» هذه رواية ابن إسحاق. أما ابن هشام فرواه: إن أصله لغدق» انظر النهاية في غريب الحديث (3/ 137) وانظر الخبر مفصلا في سيرة ابن هشام (1/ 216).

حركاته، ومن ترتيب بينها وبين سكناته؟ أم لفواصل في أواخر آياته؟ من أين تليق هذه الصّفة وهذا التشبيه بذلك؟. أم ترى أنّ ابن مسعود حين قال في صفة القرآن: «لا يتفه ولا يتشانّ» «1»، وقال: «إذا وقعت في آل حم، وقعت في روضات دمثات أتأنّق فيهنّ» «2»، أي أتتبّع محاسنهن، قال ذلك من أجل أوزان الكلمات، ومن أجل الفواصل في أواخر الآيات؟. أم ترى أنهم لذلك قالوا: «لا تفنى عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرّدّ». أم ترى الجاحظ حين قال في كتاب النبوة: «ولو أنّ رجلا قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم سورة واحدة، لتبيّن له في نظامها ومخرجها، من لفظها وطابعها أنه عاجز عن مثلها، لو تحدّي بها أبلغ العرب لأظهر عجزه عنها»، لغا ولغط فليس كلامه «3» هذا مما ذهبوا إليه في شيء. وينبغي أن تكون موازنتهم بين بعض الآي وبين ما قاله الناس في معناها، كموازنتهم بين: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [البقرة: 179]، وبين: «قتل البعض إحياء للجميع»، خطأ منهم، لأنا لا نعلم لحديث التّحريك والتّسكين وحديث الفاصلة مذهبا في هذه الموازنة، ولا نعلمهم أرادوا غير ما يريده الناس إذا وازنوا بين كلام وكلام في الفصاحة والبلاغة ودقّة النّظم وزيادة الفائدة، ولولا أنّ الشيطان قد استحوذ على كثير من الناس في هذا الشأن، وأنّهم بترك النّظر، وإهمال التدبّر وضعف النّية، وقصر الهمّة، قد طرّقوا له حتى جعل يلقي في نفوسهم كلّ محال وكلّ باطل، وجعلوا هم يعطون الذي يلقيه حظّا من قبولهم، ويبوّءونه مكانا من قلوبهم، لما بلغ من قدر هذه الأقوال الفاسدة أن تدخل في تصنيف، ويعاد ويبدأ في تبيين لوجه الفساد فيها وتعريف. ثمّ إن هذه الشّناعات التي تقدّم ذكرها، تلزم أصحاب «الصّرفة» «4» أيضا، وذاك

_ (1) يتشان: الخبر بهذا اللفظ في غريب الحديث لابن الأثير وهو في مسند أحمد بن حنبل رقم (3845). «إن هذا القرآن لا يختلف ولا يستشنّ ولا يتفه لكثرة الرد» ولا يتشان: لا يبلى. (2) خبر عبد الله بن مسعود هذا موجود في تفسير ابن كثير في أول سورة غافر (4/ 75) بدون إسناد، دمثات: جمع دمثة: وهي المحقبة اللينة السهلة المعشبة. لغا ولغط: أتى بكلام لا يعتد به وأصوات مبهمة لا يفهم معناها. (3) كلامه: الضمير هنا يعود على الجاحظ. (4) أصحاب الصرفة أصحاب الضلال.

أنه لو لم يكن عجزهم عن معارضة القرآن وعن أن يأتوا بمثله، لأنه معجز في نفسه، لكن لأن أدخل عليهم العجز عنه، وصرفت هممهم وخواطرهم عن تأليف كلام مثله، وكان حالهم على الجملة حال من أعدم العلم بشيء قد كان يعلمه، وحيل بينه وبين أمر قد كان يتّسع له، لكان ينبغي أن لا يتعاظمهم، ولا يكون منهم ما يدلّ على إكبارهم أمره، وتعجّبهم منه، وعلى أنّه قد بهرهم، وعظم كل العظم عندهم، بل كان ينبغي أن يكون الإكبار منهم والتّعجّب للذي دخل من العجز عليهم، ورأوه من تغيّر حالهم، ومن أن حيل بينهم وبين شيء قد كان عليهم سهلا، وأن سدّ دونه باب كان لهم مفتوحا، أرأيت لو أن نبيّا قال لقومه: «إنّ آيتي أن أضع يدي على رأسي هذه الساعة، وتمنعون كلّكم من أن تستطيعوا وضع أيديكم على رءوسكم»، وكان الأمر كما قال، ممّ يكون تعجّب القوم، أمن وضعه يده على رأسه، أم من عجزهم أن يضعوا أيديهم على رءوسهم؟. ونعود إلى النّسق فنقول: فإذا بطل أن يكون الوصف الذي أعجزهم من القرآن في شيء ممّا عدّدناه، لم يبق إلّا أن يكون في «النّظم»، لأنه ليس من بعد ما أبطلنا أن يكون فيه إلا «النظم» و «الاستعارة»، ولا يمكن أن تجعل «الاستعارة» الأصل في الإعجاز وأن يقصر عليها، لأن ذلك يؤدّي إلى أن يكون الإعجاز في آي معدودة في مواضع من السّور الطوال مخصوصة، وإذا امتنع ذلك فيها، ثبت أن «النظم»، مكانه الذي ينبغي أن يكون فيه. وإذا ثبت أنه في «النظم»، و «التأليف»، وكنّا قد علمنا أن ليس «النّظم» شيئا غير توخّي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم، وأنّا إن بقينا الدهر نجهد أفكارنا حتى نعلم للكلم المفردة سلكا ينظمها، وجامعا يجمع شملها ويؤلفها، ويجعل بعضها بسبب من بعض، غير توخي معاني النحو وأحكامه فيها، طلبنا ما كلّ محال دونه، فقد بان وظهر أنّ المتعاطي القول في «النظم»، والزاعم أنّه يحاول بيان المزيّة فيه، وهو لا يعرض فيما يعيده ويبديه للقوانين والأصول التي قدّمنا ذكرها، ولا يسلك إليه المسالك التي نهجناها، في عمياء من أمره، وفي غرور من نفسه، وفي خداع من الأماني والأضاليل. ذاك لأنه إذا كان لا يكون «النّظم» شيئا غير توخّي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم، كان من أعجب العجب أن يزعم زاعم أنه يطلب المزيّة في «النظم»، ثم لا يطلبها في معاني النحو وأحكامه التي «النّظم» عبارة عن توخّيها فيما بين الكلم. فإن قيل: قولك «إلا النظم»، يقتضي إخراج ما في القرآن من الاستعارة وضروب المجاز من جملة ما هو به معجز، وذلك ما لا مساغ له.

قيل: ليس الأمر كما ظننت، بل ذلك يقتضي دخول الاستعارة ونظائرها فيما هو به معجز. وذلك لأنّ هذه المعاني التي هي «الاستعارة»، و «الكناية» و «التمثيل»، وسائر ضروب «المجاز» من بعدها من مقتضيات «النظم»، وعنه يحدث وبه يكون، لأنه لا يتصوّر أن يدخل شيء منها في الكلم وهي أفراد لم يتوخّ فيما بينها حكم من أحكام النحو،. فلا يتصوّر أن يكون هاهنا «فعل» أو «اسم» قد دخلته الاستعارة، من دون أن يكون قد ألّف مع غيره، أفلا ترى أنه إن قدّر في «اشتعل» من قوله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مريم: 4]، أن لا يكون «الرأس»، فاعلا له، ويكون «شيبا» منصوبا عنه على التمييز، لم يتصوّر أن يكون مستعارا؟ وهكذا السبيل في نظائر «الاستعارة»، فاعرف ذلك. واعلم أنّ السبب في أن لم يقع النظر منهم موقعه، أنّهم حين قالوا: «نطلب المزية»، ظنوا أن موضعها «اللفظ» بناء على أن «النظم نظم الألفاظ، وأنه يلحقها دون المعاني، وحين ظنّوا أنّ موضعها ذلك واعتقدوه، وقفوا على «اللفظ»، وجعلوا لا يرمون بأوهامهم إلى شيء سواه. إلّا أنّهم، على ذاك لم يستطيعوا أن ينطقوا في تصحيح هذا الذي ظنّوه بحرف، بل لم يتكلّموا بشيء إلّا كان ذلك نقضا وإبطالا لأن يكون «اللفظ»، من حيث هو لفظ، موضعا للمزية، وإلا رأيتهم قد اعترفوا، من حيث لم يدروا، بأن ليس للمزية التي طلبوها موضع ومكان تكون فيه، إلّا معاني النحو وأحكامه. وذلك أنهم قالوا: «إنّ الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلمات، وإنّما تظهر بالضّم على طريقة مخصوصة»، فقولهم: «بالضّم»، لا يصح أن يراد به النّطق باللفظة بعد اللفظة، من غير اتّصال يكون بين معنييهما، لأنه لو جاز أن يكون لمجرّد ضمّ اللفظ إلى اللفظ تأثير في الفصاحة، لكان ينبغي إذا قيل: «ضحك، خرج» أن يحدث في ضم «خرج» إلى «ضحك» فصاحة! وإذا بطل ذلك، لم يبق إلا أن يكون المعنى في ضمّ الكلمة إلى الكلمة توخّي معنى من معاني النحو فيما بينهما. وقولهم: «على طريقة مخصوصة»، يوجب ذلك أيضا، وذلك أنه لا يكون للطريقة إذا أنت أردت مجرّد اللّفظ معنى. وهذا سبيل كلّ ما قالوه، إذا أنت تأمّلته تراهم في الجميع قد دفعوا إلى جعل المزية في معاني النحو وأحكامه من حيث لم يشعروا، ذلك لأنه أمر ضروريّ لا يمكن الخروج منه.

ومما تجدهم يعتمدونه ويرجعون إليه قولهم: «إنّ المعاني لا تتزايد، وإنّما تتزايد الألفاظ»، وهذا كلام إذا تأمّلته لم تجد له معنى يصحّ عليه، غير أن تجعل «تزايد الألفاظ» عبارة عن المزايا التي تحدث من توخّي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم، لأن التّزايد في الألفاظ من حيث هي ألفاظ ونطق لسان، محال. ثم إنّا نعلم أنّ المزية المطلوبة في هذا الباب، مزيّة فيما طريقه الفكر والنّظر من غير شبهة، ومحال أن يكون اللفظ له صفة تستنبط بالفكر، ويستعان عليها بالرّويّة، اللهم إلا أن تريد تأليف النّغم، وليس ذلك مما نحن فيه بسبيل. ومن هاهنا لم يجز، إذا عدّ الوجوه التي تظهر بها المزيّة، أن يعدّ فيها الإعراب، وذلك أن العلم بالإعراب مشترك بين العرب كلّهم، وليس هو مما يستنبط بالفكر، ويستعان عليه بالرويّة. فليس أحدهم، بأنّ إعراب الفاعل الرفع أو المفعول النصب، والمضاف إليه الجرّ، بأعلم من غيره، ولا ذاك مما يحتاجون فيه إلى حدّة ذهن وقوّة خاطر، إنّما الذي تقع الحاجة فيه إلى ذلك، العلم بما يوجب الفاعلية للشيء إذا كان إيجابها من طريق المجاز، كقوله تعالى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [البقرة: 16]، وكقول الفرزدق: [من الطويل] سقتها خروق في المسامع «1» وأشباه ذلك، ممّا يجعل الشيء فيه فاعلا على تأويل يدقّ، ومن طريق تلطّف، وليس يكون هذا علما بالإعراب، ولكن بالوصف الموجب للإعراب. ومن ثمّ لا يجوز لنا أن نعتدّ في شأننا هذا بأن يكون المتكلّم قد استعمل من اللغتين في الشيء ما يقال «إنه أفصحهما»، أو بأن يكون قد تحفّظ مما تخطئ فيه العامّة، ولا بأن يكون قد استعمل الغريب، لأن العلم بجميع ذلك لا يعدو أن يكون علما باللغة، وبأنفس الكلم المفردة، وبما طريقه طريق الحفظ، دون ما يستعان عليه بالنّظر، ويوصل إليه بإعمال الفكر. ولئن كانت العامّة وأشباه العامّة لا يكادون يعرفون الفصاحة غير ذلك، فإن من ضعف النّحيزة «2» إخطار مثله في الفكر، وإجراءه في الذّكر، وأنت تزعم أنك ناظر في دلائل الإعجاز، أترى أن العرب تحدّوا أن يختاروا الفتح في الميم من «الشّمع»، والهاء من «النّهر» على الإسكان، وأن يتحفظوا من

_ (1) راجع هامش (1) ص (196). (2) النحيزة: أي الطبيعة. اه القاموس مادة/ نحز/ (677).

تخليط العامة في مثل: «هذا يسوى ألفا»، أو إلى أن يأتوا بالغريب الوحشيّ في كلام يعارضون به القرآن؟ كيف وأنت تقرأ السّورة من السّور الطّوال فلا تجد فيها من الغريب شيئا، وتتأمّل ما جمعه العلماء في غريب القرآن، فترى الغريب منه إلا في القليل، إنّما كان غريبا من أجل استعارة هي فيه، كمثل وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [البقرة: 93]، ومثل: خَلَصُوا نَجِيًّا [يوسف: 80]، ومثل: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الحجر: 94]، دون أن تكون اللفظة غريبة في نفسها، إنما ترى ذلك في كلمات معدودة كمثل: عَجِّلْ لَنا قِطَّنا [ص: 16]، وذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ [القمر: 13]، وجَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا [مريم: 24]. ثم إنّه لو كان أكثر ألفاظ القرآن غريبا، لكان محالا أن يدخل ذلك في الإعجاز، وأن يصحّ التّحدّي به. ذاك لأنه لا يخلو إذا وقع التحدّي به من أن يتحدّى من له علم بأمثاله من الغريب، أو من لا علم له بذلك. فلو تحدّي به من يعلم أمثاله، لم يتعذّر عليه أن يعارضه بمثله. ألا ترى أنه لا يتعذّر عليك إذا أنت عرفت ما جاء من الغريب في معنى «الطويل» أن تعارض من يقول: «الشّوقب» «1»، بأن تقول أنت «الشّوذب» «2»، وإذا قال «الأمقّ» «3» أن تقول «الأشقّ» «4»؟ وعلى هذا السبيل. ولو تحدّي به من لا علم له بأمثال ما فيه من الغريب، كان ذلك بمنزلة أن يتحدّى العرب إلى أن يتكلّموا بلسان التّرك. هذا، وكيف بأن يدخل الغريب في باب الفضيلة، وقد ثبت عنهم أنهم كانوا يرون الفضيلة في ترك استعماله وتجنّبه؟ أفلا ترى إلى قول عمر رضي الله عنه في زهير: «إنه كان لا يعاظل بين القول، ولا يتتبّع حوشيّ الكلام»؟ فقرن تتبّع «الحوشيّ»، وهو الغريب من غير شبهة إلى «المعاظلة» التي هي التعقيد. وقال الجاحظ في «كتاب البيان والتّبيين»: «ورأيت النّاس يتداولون رسالة يحيى بن يعمر على لسان يزيد بن المهلّب إلى الحجّاج: «إنّا لقينا العدوّ فقتلنا طائفة وأسرنا طائفة، ولحقت طائفة بعراعر الأودية وأهضام الغيطان، وبتنا بعرعرة

_ (1) الرجل الطويل. القاموس مادة «الشقب» (131). (2) الطويل. القاموس مادة «شذب» (128). (3) الطويل. القاموس «مادة مقق» (193). (4) الطويل: القاموس مادة «شقق» (1159).

الجبل، وبات العدوّ بحضيضه». فقال الحجاج: ما يزيد بأبي عذر هذا الكلام فقيل له: إن يحيى بن يعمر معه! فأمر بأن يحمل إليه، فلما أتاه قال: أين ولدت؟ فقال: بالأهواز. فقال: فأنّى لك هذه الفصاحة؟ قال: أخذتها عن أبي» «1». قال: «ورأيتهم يديرون في كتبهم: أن امرأة خاصمت زوجها إلى يحيى بن يعمر، فانتهرها مرارا، فقال له يحيى: أن سألتك ثمن شكرها وشبرك، أنشأت تطلّها وتضهلها» «2». ثم قال: «وإن كانوا إنّما قد رووا هذا الكلام لكي يدلّ على فصاحة وبلاغة، فقد باعده الله من صفة البلاغة والفصاحة «3». واعلم أنك كلّما نظرت وجدت سبب الفساد واحدا، وهو ظنّهم الذي ظنّوه في «اللّفظ»، وجعلهم الأوصاف التي تجري عليه كلّها أوصافا له في نفسه، ومن حيث هو لفظ، وتركهم أن يميزوا بين ما كان وصفا له في نفسه، وبين ما كانوا قد كسبوه إيّاه من أجل أمر عرض في معناه. ولما كان هذا دأبهم، ثم رأوا الناس وأظهر شيء عندهم في معنى «الفصاحة»، تقويم الإعراب، والتحفّظ من اللحن، لم يشكّوا أنّه ينبغي أن يعتدّ به في جملة المزايا التي يفاضل بها بين كلام وكلام في الفصاحة، وذهب عنهم أن ليس هو من «الفصاحة» التي يعنينا أمرها في شيء، وأنّ كلامنا في فصاحة تجب للّفظ لا من أجل شيء يدخل في النطق، ولكن من أجل لطائف تدرك بالفهم، وأنّا نعتبر في شأننا هذا فضيلة تجب لأحد الكلامين على الآخر، من بعد أن يكونا قد برئا من اللّحن، وسلما في ألفاظهما من الخطأ. ومن العجب أنّا إذا نظرنا في الإعراب، وجدنا التفاضل فيه محالا، لأنه لا يتصوّر أن يكون للرفع والنصب في كلام، مزيّة عليهما في كلام آخر، وإنما الذي يتصوّر أن يكون هاهنا: كلامان قد وقع في إعرابهما خلل، ثم كان أحدهما أكثر صوابا من الآخر، وكلامان قد استمرّ أحدهما على الصّواب ولم يستمرّ الآخر، ولا يكون هذا تفاضلا في الإعراب، ولكن تركا له في شيء، واستعمالا له في آخر، فاعرف ذلك.

_ (1) البيان والتبيين (377/ 1، 378)، وشرح الجاحظ. عرار الأودية: أسافلها. عرار الجبال: أعاليها. أهضام الغيطان: مداخلها، والغيطان: جمع «غائط» وهو الحائط ذو الشجر. (2) للجاحظ في البيان والتبيين 1/ 378. وفسر الجاحظ المفردات قالوا: «الضهل»: القليل، و «الشّكر»: الفرج، والشّبر: النكاح، و «تطلّها»: تذهب بحقها، يقال: دم مطلول، ويقال: «بئر ضهول» أي: قليلة الماء. (3) في البيان 1/ 378. والفصاحة زيادة من البيان.

وجملة الأمر أنك لا ترى ظنّا هو أنأى بصاحبه عن أن يصحّ له كلام، أو يستمرّ له نظام، أو تثبت له قدم، أو ينطق منه إلّا بالمحال فم، من ظنّهم هذا الذي حام بهم حول «اللفظ»، وجعلهم لا يعدونه، ولا يرون للمزية مكانا دونه. واعلم أنه قد يجري في العبارة منّا شيء، هو يعيد الشّبهة جذعة عليهم، وهو أنه يقع في كلامنا أنّ «الفصاحة» تكون في المعنى دون اللفظ، فإذا سمعوا ذلك قالوا: كيف يكون هذا، ونحن نراها لا تصلح صفة إلا للّفظ، ونراها لا تدخل في صفة المعنى البتّة، لأنا نرى الناس قاطبة يقولون: «هذا لفظ فصيح، وهذه ألفاظ فصيحة»، ولا نرى عاقلا يقول: «هذا معنى فصيح، وهذه معان فصاح». ولو كانت «الفصاحة» تكون في المعنى، لكان ينبغي أن يقال ذاك، كما أنّا لما كان الحسن يكون فيه قيل: «هذا معنى حسن، وهذه معان حسنة». وهذا شيء يأخذ من الغرّ مأخذا: والجواب عنه أن يقال: إن غرضنا من قولنا: «إن الفصاحة تكون في المعنى»، أنّ المزيّة الّتي من أجلها استحقّ اللفظ الوصف بأنه «فصيح»، هي في المعنى دون اللفظ، لأنّه لو كانت بها المزيّة التي من أجلها يستحقّ اللّفظ الوصف بأنه فصيح، تكون فيه دون معناه لكان ينبغي إذا قلنا في اللّفظة: «إنها فصيحة»، أن تكون تلك الفصاحة واجبة لها بكل حال. ومعلوم أنّ الأمر بخلاف ذلك، فإنّا نرى اللّفظة تكون في غاية الفصاحة في موضع، ونراها بعينها فيما لا يحصى من المواضع وليس فيها من الفصاحة قليل ولا كثير. وإنما كان كذلك، لأن المزيّة التي من أجلها نصف اللّفظ في شأننا هذا بأنّه فصيح، مزيّة تحدث من بعد أن لا تكون، وتظهر في الكلم من بعد أن يدخلها النظم. وهذا شيء إن أنت طلبته فيما وقد جئت بها أفرادا لم ترم فيها نظما، ولم تحدث لها تأليفا، وطلبت محالا. وإذا كان كذلك، وجب أن يعلم قطعا وضرورة أن تلك المزيّة في المعنى دون اللّفظ. وعبارة أخرى في هذا بعينه، وهي أن يقال: قد علمنا علما لا تعترض معه شبهة: أن «الفصاحة» فيما نحن فيه، عبارة عن مزيّة هي بالمتكلّم دون واضع اللغة. وإذا كان كذلك، فينبغي لنا أن ننظر إلى المتكلم، هل يستطيع أن يزيد من عند نفسه في اللفظ شيئا ليس هو له في اللّغة حتى يجعل ذلك من صنيعه مزيّة يعبّر عنها بالفصاحة؟ وإذا نظرنا وجدناه لا يستطيع أن يصنع باللفظ شيئا أصلا، ولا أن يحدث فيه وصفا. كيف؟ وهو إن فعل ذلك أفسد على نفسه، وأبطل أن يكون متكلّما، لأنه لا يكون متكلّما حتى يستعمل أوضاع لغة على ما وضعت عليه.

وإذا ثبت من حاله أنّه لا يستطيع أن يصنع بالألفاظ شيئا ليس هو لها في اللغة، وكنّا قد اجتمعنا على أن «الفصاحة» فيما نحن فيه، عبارة عن مزيّة هي بالمتكلّم البتة وجب أن نعلم قطعا وضرورة أنهم وإن كانوا قد جعلوا «الفصاحة» في ظاهر الاستعمال من صفة اللفظ، فإنهم لم يجعلوها وصفا له في نفسه، ومن حيث هو صدى صوت ونطق لسان، ولكنّهم جعلوها عبارة عن مزيّة أفادها المتكلم في المعنى، لأنه إذا كان اتفاقا أنها عبارة عن مزيّة أفادها المتكلم، ولم نره أفاد في اللفظ شيئا، لم يبق إلا أن تكون عبارة عن مزيّة أفادها في المعنى. وجملة الأمر أنّا لا نوجب «الفصاحة» للفظة مقطوعة مرفوعة من الكلام الذي هي فيه، ولكنا نوجبها لها موصولة بغيرها، ومعلّقا معناها بمعنى ما يليها. فإذا قلنا في لفظة «اشتعل» من قوله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مريم: 4]، أنّها في أعلى رتبة من الفصاحة، لم توجب تلك «الفصاحة» لها وحدها، ولكن موصولا بها «الرأس» معرّفا بالألف واللام، ومقرونا إليهما «الشيب» منكّرا منصوبا. هذا، وإنّما يقع ذلك في الوهم لمن يقع له أعني أن يوجب الفصاحة للفظة وحدها فيما كان «استعارة»، فأما ما خلا من الاستعارة من الكلام الفصيح البليغ، فلا يعرض توهّم ذلك فيه لعاقل أصلا. أفلا ترى أنه لا يقع في نفس من يعقل أدنى شيء، إذا هو نظر إلى قوله عز وجل: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ، هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ [المنافقون: 4]، وإلى إكبار النّاس شأن هذه الآية في الفصاحة، أن يضع يده على كلمة كلمة منها فيقول: «إنّها فصيحة؟» وسبب الفصاحة فيها أمور لا يشكّ عاقل في أنها معنوية: أولها: أن كانت «على» فيها متعلّقة بمحذوف في موضع المفعول الثاني. والثاني: أن كانت الجملة التي هي «هم العدوّ» بعدها عارية من حرف عطف. والثالث: التعريف في «العدوّ» وأن لم يقل: «هم عدوّ». ولو أنّك علّقت «على» بظاهر، وأدخلت على الجملة التي هي «هم العدوّ» حرف عطف، وأسقطت «الألف واللام» من «العدوّ» فقلت: «يحسبون كلّ صيحة واقعة عليهم، وهم عدوّ»، لرأيت الفصاحة قد ذهبت عنها بأسرها. ولو أنك أخطرت ببالك أن يكون «عليهم» متعلّقا بنفس «الصيحة»، ويكون حاله معها كحاله إذا قلت: «صحت عليه»، لأخرجته عن أن يكون كلاما، فضلا عن أن يكون فصيحا. وهذا هو الفيصل لمن عقل.

ومن العجيب في هذا، ما روي عن أمير المؤمنين عليّ رضوان الله عليه أنه قال: «ما سمعت كلمة عربية من العرب إلّا وسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وسمعته يقول: «مات حتف أنفه» «1»، وما سمعتها من عربيّ قبله، لا شبهة في أن وصف اللفظ «بالعربي» في مثل هذا يكون في معنى الوصف بأنه فصيح. وإذا كان الأمر كذلك، فانظر هل يقع في وهم متوهّم أن يكون رضي الله عنه قد جعلها «عربية» من أجل ألفاظها؟ وإذا نظرت لم تشكّ في ذلك. واعلم أنك تجد هؤلاء الذين يشكّون فيما قلناه، تجري على ألسنتهم ألفاظ وعبارات لا يصحّ لها معنى سوى توخّي معاني النحو وأحكامه فيما بين معاني الكلم، ثم تراهم لا يعلمون ذلك. فمن ذلك ما يقوله الناس قاطبة من أن العاقل يرتّب في نفسه ما يريد أن يتكلّم به. وإذا رجعنا إلى أنفسنا لم نجد لذلك معنى سوى أنه يقصد إلى قولك «ضرب» فيجعله خبرا عن «زيد»، ويجعل «الضرب» الذي أخبر بوقوعه منه واقعا على «عمرو» ويجعل «يوم الجمعة» زمانه الذي وقع فيه، ويجعل «التأديب» غرضه الذي فعل «الضرب» من أجله، فيقول: «ضرب زيد عمرا يوم الجمعة تأديبا له». وهذا كما ترى هو توخّي معاني النحو فيما بين معاني هذه الكلم. ولو أنك فرضت أن لا تتوخّى في «ضرب» أن تجعله خبرا عن «زيد» وفي «عمرو» أن تجعله مفعولا به الضرب، وفي «يوم الجمعة» أن تجعله زمانا لهذا الضرب، وفي «التأديب»، أنه تجعله غرض زيد من فعل الضرب ما تصوّر في عقل، ولا وقع في وهم، أن تكون مرتّبا لهذه الكلم. وإذ قد عرفت ذلك، فهو العبرة في الكلام كله، فمن ظنّ ظنّا يؤدّي إلى خلافه، ظنّ ما يخرج به عن المعقول. ومن ذلك إثباتهم التعلّق والاتصال فيما بين الكلم وصواحبها تارة، ونفيهم لهما أخرى ومعلوم علم الضرورة أن لن يتصوّر أن يكون للفظة تعلق بلفظة أخرى من غير أن يعتبر حال

_ (1) الحديث «مات حتف أنفه»: أخرجه أحمد في مسنده (4/ 36) من حديث عبد الله بن عتيك بلفظ «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «من خرج من بيته مجاهدا في سبيل الله- عز وجل- ثم قال بأصابعه هؤلاء الثلاث- الوسطى والسبابة والإبهام، فجمعهن- وقال: «وأين المجاهدون؟ فخرّ عن دابته، فمات- فقد وقع أجره على الله أو لدغته دابة فمات وقع أجره على الله أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله- عز وجل- والله إنها لكلمة ما سمعتها من أحد من العرب قبل رسول الله صلى الله عليه وسلّم، «فمات فقد وقع أجره على الله- ومن قتل قعصا فقد استوجب المآب». أخرجه البيهقي في سننه (9/ 166)، والطبراني في الكبير برقم 1778.

فصل [في أن الفصاحة والبلاغة للمعاني]

معنى هذه مع معنى تلك، ويراعى هناك أمر يصل إحداهما بالأخرى، كمراعاة كون: «نبك»، جوابا للأمر في قوله: «قفا نبك»، وكيف بالشّكّ في ذلك؟ ولو كانت الألفاظ يتعلّق بعضها ببعض من حيث هي ألفاظ، ومع اطّراح النّاظر في معانيها، ولأدّى ذلك إلى أن يكون الناس حين ضحكوا مما يصنعه المجّان من قراءة أنصاف الكتب، ضحكوا عن جهالة، وأن يكون أبو تمام قد أخطأ حين قال: [من الكامل]. عذلا شبيها بالجنون كأنّما ... قرأت به الورهاء شطر كتاب «1» لأنهم لم يضحكوا إلّا من عدم التعلّق، ولم يجعله أبو تمام جنونا إلا لذلك. فانظر إلى ما يلزم هؤلاء القوم من طرائف الأمور. فصل [في أن الفصاحة والبلاغة للمعاني] وهذا فنّ من الاستدلال لطيف على بطلان أن تكون «الفصاحة» صفة للفظ من حيث هو لفظ. لا تخلو «الفصاحة» من أن تكون صفة في اللفظ محسوسة تدرك بالسّمع، أن تكون صفة فيه معقولة تعرف بالقلب. فمحال أن تكون صفة في اللّفظ محسوسة، لأنها لو كانت كذلك، لكان ينبغي أن يستوي السامعون للفظ الفصيح في العلم بكونه فصيحا. وإذا بطل أن تكون محسوسة، وجب الحكم ضرورة بأنّها صفة معقولة. وإذا وجب الحكم بكونها صفة معقولة، فإنّا لا نعرف للّفظ صفة يكون طريق معرفتها العقل دون الحس، إلّا دلالته على معنى. وإذا كان كذلك، لزم منه العلم بأنّ وصفنا اللّفظ بالفصاحة، وصف له من جهة معناه، لا من جهة نفسه، وهذا ما لا يبقى لعاقل معه عذر في الشك، والله الموفّق للصواب. وبيان آخر، وهو أنّ القارئ إذا قرأ قوله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مريم: 4]، فإنه لا يجد الفصاحة التي يجدها إلّا من بعد أن ينتهي الكلام إلى آخره. فلو

_ (1) البيت في ديوانه (27)، باب المديح، وهو من قصيدة في مدح مالك بن طوق التغلبي، وقبله: من كل ريم لم ترم سوءا ولم ... تخلط صبا أيامها بتصابي أذكت عليك شهاب نار في الحشا ... بالعذل وهنا أخت آل شهاب الورهاء: الحمقاء.

كانت «الفصاحة» صفة للفظ «اشتعل»، لكان ينبغي أن يحسّها القارئ فيه حال نطقه به. فمحال أن تكون للشيء صفة، ثم لا يصحّ العلم بتلك الصفة إلا من بعد عدمه. ومن ذا رأى صفة يعرى موصوفها عنها في حال وجوده، حتى إذا عدم صارت موجودة فيه؟ وهل سمع السامعون، في قديم الدهر وحديثه، بصفة شرط حصولها لموصوفها أن يعدم الموصوف؟ فإن قالوا: إنّ الفصاحة التي ادّعيناها للفظ «اشتعل» تكون فيه في حال نطقنا به، إلّا أنّا لا نعلم في تلك الحال أنها فيه، فإذا بلغنا آخر الكلام علمنا حينئذ أنها كانت فيه حين نطقنا به. قيل: هذا فنّ آخر من العجب، وهو أن تكون هاهنا صفة موجودة في شيء، ثم لا يكون في الإمكان ولا يسع في الجواز، أن يعلم وجود تلك الصفة في ذلك الشيء إلّا من بعد أن يعدم، ويكون العلم بها وبكونها فيه محجوبا عنا حتى يعدم، فإذا عدم علمنا حينئذ أنها كانت فيه حين كان. ثم إنه لا شبهة في أن هذه الفصاحة التي يدّعونها للّفظ هي مدّعاة لمجموع الكلمة دون آحاد حروفها، إذ ليس يبلغ بهم تهافت الرأي إلى أن يدعو لكلّ واحد من حروف «اشتعل» فصاحة، فيجعلوا «الشين» على حدته فصيحا، وكذلك «التاء»، و «العين» و «اللام». وإذا كانت الفصاحة مدّعاة لمجموع الكلمة، لم يتصوّر حصولها لها إلا من بعد أن تعدم كلّها وينقضي أمر النطق بها. ذاك لأنه لا يتصوّر أن تدخل الحروف بجملتها في النطق دفعة واحدة، حتى تجعل «الفصاحة» موجودة فيها في حال وجودها. وما بعد هذا إلا أن نسأل الله تعالى العصمة والتوفيق، فقد بلغ الأمر في الشّناعة إلى حدّ، إذا تنبّه العاقل لفّ رأسه حياء من العقل، حين يراه قد قال قولا هذا مؤدّاه، وسلك مسلكا إلى هذا مفضاه. وما مثل من يزعم أن «الفصاحة» صفة للّفظ من حيث هو لفظ ونطق لسان، ثم يزعم أنه يدّعيها لمجموع حروفه دون آحادها، إلّا مثل من يزعم أن هاهنا غزلا إذا نسج منه ثوب كان أحمر، وإذا فرّق ونظر إليه خيطا خيطا، لم تكن فهي حمرة أصلا! ومن طريق أمرهم، أنك ترى كافّتهم لا ينكرون أن اللّفظ المستعار إذا كان فصيحا، كانت فصاحته تلك من أجل استعارته، ومن أجل لطف وغرابة كانا فيها، وتراهم مع ذلك لا يشكّون في أن الاستعارة لا تحدث في حروف اللّفظ صفة ولا تغير أجراسها عما تكون عليه إذا لم يكن مستعارا وكان متروكا على حقيقته، وأن التأثير من الاستعارة

فصل [في علاقة الفكر بمعاني النحو]

إنما يكون في المعنى. كيف؟ وهم يعتقدون أن اللفظ إذا استعير لشيء، نقل عن معناه الذي وضع له بالكلية. وإذا كان الأمر كذلك، فلولا إهمالهم أنفسهم وتركهم النّظر، لقد كان يكون في هذا ما يوقظهم من غفلتهم، ويكشف الغطاء عن أعينهم. فصل [في علاقة الفكر بمعاني النحو] ومما ينبغي أن يعلمه الإنسان ويجعله على ذكر، أنّه لا يتصوّر أن يتعلّق الفكر بمعاني الكلم أفرادا ومجرّدة من معاني النّحو، فلا يقوم في وهم ولا يصحّ في عقل، أن يتفكّر متفكّر في معنى «فعل» من غير أن يريد إعماله في «اسم»، ولا أن يتفكّر في معنى «اسم» من غير أن يريد إعمال «فعل» فيه، وجعله فاعلا له أو مفعولا، أو يريد فيه حكما سوى ذلك من الأحكام، مثل أن يريد جعله مبتدأ، أو خبرا، أو صفة أو حالا، أو ما شاكل ذلك. وإن أردت أن ترى ذلك عيانا فاعمد إلى أيّ كلام شئت، وأزل أجزاءه عن مواضعها، وضعها وضعا يمتنع معه دخول شيء من معاني النحو فيها، فقل في: [من الطويل] قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل «1» «من نبك قفا حبيب ذكرى منزل»، ثم انظر هل يتعلّق منك فكر بمعنى كلمة منها؟ واعلم أني لست أقول إن الفكر لا يتعلق بمعاني الكلم المفردة أصلا، ولكني أقول إنه لا يتعلّق بها مجرّدة من معاني النحو، ومنطوقا بها على وجه لا يتأتّى معه تقدير معاني النحو وتوخّيها فيها، كالذي أريتك، وإلّا فإنك إذا فكّرت في الفعلين أو الاسمين، تريد أن تخبر بأحدهما عن الشيء أيّهما أولى أن تخبر به عنه وأشبه بغرضك، مثل أن تنظر: أيّهما أمدح وأذمّ، أو فكّرت في الشيئين تريد أن تشبّه الشيء بأحدهما أيّهما أشبه به كنت قد فكّرت في معاني أنفس الكلم، إلا أن فكرك ذلك لم يكن إلّا من بعد أن توخّيت فيها معنى من معاني النحو، وهو أن أردت جعل الاسم الذي فكّرت فيه خبرا عن شيء أردت فيه مدحا أو ذمّا أو تشبيها، أو غير ذلك

_ (1) راجع ص (236) هامش (1).

من الأغراض ولم تجيء إلى فعل أو اسم ففكرت فيه فردا، ومن غير أن كان لك قصد أن تجعله خبرا أو غير خبر. فاعرف ذلك. وإن أردت مثالا فخذ بيت بشّار: [من الطويل] كأنّ مثال النّقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه «1» وانظر هل يتصوّر أن يكون بشار قد أخطر معاني هذه الكلم بباله أفردا عارية من معاني النحو التي تراها فيها وأن يكون قد وقع «كأنّ» في نفسه من غير أن يكون قصد إيقاع التّشبيه منه على شيء وأن يكون فكّر في «مثار النقع»، من غير أن يكون أراد إضافة الأول إلى الثاني وفكّر في «فوق رءوسنا»، من غير أن يكون قد أراد أن يضيف «فوق» إلى «الرءوس» وفي «الأسياف» من دون أن يكون أراد عطفها بالواو على «مثار» وفي «الواو» من دون أن يكون أراد العطف بها وأن يكون كذلك فكّر في «الليل»، من دون أن يكون أراد أن يجعله خبرا «لكأنّ» وفي «تهاوى كواكبه»، من دون أن يكون أراد أن يجعل «تهاوى» فعلا للكواكب، ثم يجعل الجملة صفة لليل، ليتمّ الذي أراد من التشبيه؟ أم لم يخطر هذه الأشياء بباله إلّا مرادا منها هذه الأحكام والمعاني التي تراها فيها؟ وليت شعري، كيف يتصوّر وقوع قصد منك إلى معنى كلمة من دون أن تريد تعليقها بمعنى كلمة أخرى؟ ومعنى «القصد إلى معاني الكلم»، أن تعلم السامع بها شيئا لا يعلمه. ومعلوم أنك، أيّها المتكلم، لست تقصد أن تعلم السامع معاني الكلم المفردة التي تكلّمه بها، فلا تقول: «خرج زيد»، لتعلمه معنى «خرج» في اللغة، ومعنى «زيد». كيف؟ ومحال أن تكلّمه بألفاظ لا يعرف هو معانيها كما تعرف. ولهذا لم يكن الفعل وحده من دون الاسم، ولا الاسم وحده من دون اسم آخر أو فعل، كلاما. وكنت لو قلت «خرج»، ولم تأت باسم، ولا قدّرت فيه ضمير الشيء، أو قلت: «زيد»، ولم تأت بفعل ولا اسم آخر ولم تضمره في نفسك، كان ذلك وصوتا تصوّته سواء، فاعرفه. واعلم أن مثل واضع الكلام مثل من يأخذ قطعا من الذهب أو الفضّة فيذيب

_ (1) البيت في ديوانه، وذكره الطيبي في التبيان (1/ 278) وعزاه لبشار، وأورده أيضا في شرحه على مشكاة المصابيح (1/ 106)، والقزويني في الإيضاح، والسكاكي في المفتاح (444، 461)، وأورده الرازي في نهاية الإيجاز (155)، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات (180)، والعلوي في الطراز.

بعضها في بعض حتى تصير قطعة واحدة. وذلك أنّك إذا قلت: «ضرب زيد عمرا يوم الجمعة ضربا شديدا تأديبا له»، فإنّك تحصل من مجموع هذه الكلم كلّها على مفهوم، هو معنى واحد لا عدّة معان، كما يتوهّمه الناس. وذلك لأنك لم تأت بهذه الكلم لتفيده أنفس معانيها، وإنما جئت بها لتفيده وجوه التعلّق التي بين الفعل الذي هو «ضرب»، وبين ما عمل فيه، والأحكام الّتي هي محصول التعلّق. وإذا كان الأمر كذلك، فينبغي لنا أن ننظر في المفعولية من «عمرو»، وكون «يوم الجمعة» زمانا للضرب، وكون «الضرب» ضربا شديدا، وكون «التأديب» علّة للضرب، أيتصوّر فيها أن تفرد عن المعنى الأوّل الذي هو أصل الفائدة، وهو إسناد «ضرب» إلى «زيد»، وإثبات «الضرب» به له، حتى يعقل كون «عمرو» مفعولا به، وكون «يوم الجمعة» مفعولا فيه وكون «ضربا شديدا» مصدرا، وكون «التأديب مفعولا له من غير أن يخطر ببالك كون «زيد» فاعلا للضرب؟ وإذا نظرنا وجدنا ذلك لا يتصوّر، لأن «عمرا» مفعول لضرب وقع من زيد عليه، و «يوم الجمعة» زمان لضرب وقع من زيد، و «ضربا شديدا» بيان لذلك الضرب كيف هو وما صفته، و «التأديب» علة له وبيان أنه كان الغرض منه. وإذا كان ذلك كذلك، بان منه وثبت، أنّ المفهوم من مجموع الكلم معنى واحد لا عدّة معان، وهو إثباتك زيدا فاعلا ضربا لعمرو في وقت كذا، وعلى صفة كذا، ولغرض كذا. ولهذا المعنى قول إنّه كلام واحد. وإذ قد عرفت هذا، فهو العبرة أبدا. فبيت بشّار إذا تأملته وجدته كالحلقة المفرغة التي لا تقبل التقسيم، ورأيته قد صنع في الكلم التي فيه ما يصنع الصّانع حين يأخذ كسرا من الذهب فيذيبها ثم يصبّها في قالب، ويخرجها لك سوارا أو خلخالا. وإن أنت حاولت قطع بعض ألفاظ البيت عن بعض، كنت كمن يكسر الحلقة ويفصم السوار. وذلك أنه لم يرد أن يشبّه «النّقع» بالليل على حدة، و «الأسياف» بالكواكب على حدة، ولكنه أراد أن يشبّه النّقع والأسياف تجول فيه بالليل في حال ما تنكدر «1» الكواكب وتتهاوى فيه. فالمفهوم من الجميع مفهوم واحد، والبيت من أوّله إلى آخره كلام واحد. فانظر الآن ما تقول في اتّحاد هذه الكلمة التي هي أجزاء البيت؟ أتقول: إنّ ألفاظها اتّحدت فصارت لفظة واحدة؟ أم تقول: إنّ معانيها اتّحدت فصارت الألفاظ

_ (1) انكدر: أسرع. القاموس مادة «كدر» (603).

من أجل ذلك كأنّها لفظة واحدة؟ فإن كنت لا تشكّ أن الاتّحاد الذي تراه هو في المعاني، إذ كان من فساد العقل، ومن الذّهاب في الخبل، أن يتوهّم متوهّم أن الألفاظ يندمج بعضها في بعض حتى تصير لفظة واحدة. فقد أراك ذلك، إن لم تكابر «1» عقلك، أن «النظم» يكون في معاني الكلم دون ألفاظها، وأن نظمها هو توخّي معاني النحو فيها. وذلك أنه إذا ثبت الاتّحاد، وثبت أنه في المعاني، فينبغي أن تنظر إلى الذي به اتّحدت المعاني في بيت بشّار. وإذا نظرنا لم نجدها اتّحدت إلّا بأن جعل «مثار النقع» اسم «كأن»، وجعل الظّرف الذي هو «فوق رءوسنا» معمولا «لمثار» ومعلّقا به، وأشرك «الأسياف» في «كأن» بعطفه لها على «مثار»، ثم بأن قال: «ليل تهاوى كواكبه»، فأتى بالليل نكرة، وجعل جملة قوله: «تهاوى كواكبه» له صفة، ثم جعل مجموع: «ليل تهاوى كواكبه»، خبرا «لكأنّ». فانظر هل ترى شيئا كان الاتّحاد به غير ما عدّدناه؟ وهل تعرف له موجبا سواه؟ فلولا الإخلاد إلى الهوينا، وترك النّظر وغطاء ألقي على عيون أقوام، لكان ينبغي أن يكون في هذا وحده الكفاية وما فوق الكفاية. ونسأل الله تعالى التوفيق. واعلم أن الذي هو آفة هؤلاء الذين لهجوا بالأباطيل في أمر «اللفظ» أنهم قوم قد أسلموا أنفسهم إلى التّخيّل، وألقوا مقادتهم إلى الأوهام، حتى عدلت بهم عن الصواب كلّ معدل، ودخلت بهم من فحش الغلط في كلّ مدخل، وتعسّفت بهم في كلّ مجهل، وجعلتهم يرتكبون في نصرة رأيهم الفاسد القول بكلّ محال، ويقتحمون في كلّ جهالة، حتى أنك لو قلت لهم: إنه لا يتأتّى للناظم نظمه إلّا بالفكر والرويّة، فإذا جعلتم «النظم» في الألفاظ، لزمكم من ذلك أن تجعلوا فكر الإنسان إذا هو فكّر في نظم الكلام، فكرا في الألفاظ التي يريد أن ينطق بها دون المعاني لم يبالوا أن يرتكبوا ذلك، وأن يتعلّقوا فيه بما في العادة ومجرى الجبلّة من أن الإنسان يخيّل إليه إذا هو فكّر، أنه كأنّه ينطق في نفسه بالألفاظ التي يفكر في معانيها، حتى يرى أنّه يسمعها سماعة لها حين يخرجها من فيه، وحين يجري بها اللسان. وهذا تجاهل، لأنّ سبيل ذلك سبيل إنسان يتخيّل دائما في الشيء قد رآه وشاهده أنه كأنّه يراه وينظر إليه، وأنّ مثاله نصب عينيه. فكما لا يوجب هذا أن

_ (1) تعظّم. اللسان مادة «كبر» (5/ 129).

يكون رائيا له، وأن يكون الشيء موجودا في نفسه، كذلك لا يكون تخيّله أنّه كأنّه ينطق بالألفاظ، موجبا أن يكون ناطقا بها، وأن تكون موجودة في نفسه، حتّى يجعل ذلك سببا إلى جعل الفكر فيها. ثمّ إنّا نعمل على أنه ينطق بالألفاظ في نفسه، وأنه يجدها فيها على الحقيقة، فمن أين لنا أنه إذا فكر كان الفكر منه فيها؟ أم ماذا يروم، ليت شعري، بذلك الفكر؟ ومعلوم أن الفكر من الإنسان يكون في أن يخبر عن شيء بشيء، أو يصف شيئا بشيء، أو يضيف شيئا إلى شيء، أو يشرك شيئا في حكم شيء، أو يخرج شيئا من حكم قد سبق منه لشيء، أو يجعل وجود شيء شرطا في وجود شيء، وعلى هذا السبيل؟ وهذا كلّه فكر في أمور معقولة زائدة على اللفظ. وإذا كان هذا كذلك، لم يخل هذا الذي يجعل في الألفاظ فكرا من أحد أمرين: إمّا أن يخرج هذه المعاني من أن يكون لواضع الكلام فيها فكر ويجعل الفكر كلّه في الألفاظ وإمّا أن يجعل له فكرا في اللفظ مفردا عن الفكرة في هذه المعاني. فإن ذهب إلى الأوّل لم يكلّم، وإن ذهب إلى الثاني لزمه أن يجوّز وقوع فكر من الأعجمي الذي لا يعرف معاني ألفاظ العربية أصلا، في الألفاظ. وذلك ممّا لا يخفى مكان الشّنعة «1» والفضيحة فيه. وشبيه بهذا التوهّم منهم، أنّك قد ترى أحدهم يعتبر حال السامع، فإذا رأى المعاني لا تترتّب في نفسه إلّا بترتّب الألفاظ في سمعه، ظنّ عند ذلك أن المعاني تبع للألفاظ، وأن التّرتّب فيها مكتسب من الألفاظ، ومن ترتّبها في نطق المتكلم. وهذا ظن فاسد ممن يظنّه، فإن الاعتبار ينبغي أن يكون بحال الواضع للكلام والمؤلّف له، والواجب أن ينظر إلى حال المعاني معه لا مع السامع، وإذا نظرنا علمنا ضرورة أنه محال أن يكون التّرتّب فيها تبعا لترتّب الألفاظ ومكتسبا عنه، لأن ذلك يقتضي أن تكون الألفاظ سابقة للمعاني، وأن تقع في نفس الإنسان أوّلا، ثم تقع المعاني من بعدها وتالية لها، بالعكس مما يعلمه كلّ عاقل إذا هو لم يؤخذ عن نفسه، ولم يضرب حجاب بينه وبين عقله. وليت شعري، هل كانت الألفاظ إلّا من أجل المعاني؟ وهل هي إلّا خدم لها، ومصرّفة على حكمها؟ أو ليست هي سمات لها، وأوضاعا قد وضعت لتدلّ عليها؟ فكيف يتصوّر أن تسبق المعاني وأن تتقدّمها في تصوّر النفس؟ إن جاز ذلك، جاز أن تكون أسامي الأشياء قد وضعت قبل أن

_ (1) شنع فلان استقبحه. القاموس «شنع» (949).

عرفت الأشياء، وقبل أن كانت. وما أدري ما أقول في شيء يجرّ الذاهبين إليه إلى أشباه هذا من فنون المحال، ورديء الأقوال. هذا سؤال لهم من جنس آخر في «النظم». قالوا: لو كان «النظم» يكون في معاني النحو، لكان البدويّ الذي لم يسمع بالنحو قطّ، ولم يعرف المبتدأ والخبر وشيئا ممّا يذكرونه، لا يتأتّى له نظم كلام. وإنّا لنراه يأتي في كلامه بنظم لا يحسنه المتقدّم في علم النحو. قيل: هذه شبهة من جنس ما عرض للذين عابوا المتكلمين فقالوا: «إنّا نعلم أنّ الصحابة رضي الله عنهم والعلماء في الصّدر الأوّل، لم يكونوا يعرفون «الجوهر» و «العرض»، و «صفة النفس» و «صفة المعنى» وسائر العبارات التي وضعتموها، فإن كان لا تتمّ الدّلالة على حدوث العالم والعلم بوحدانيّة الله، إلا بمعرفة هذه الأشياء التي ابتدأتموها، فينبغي لكم أن تدّعوا أنكم قد علمتم في ذلك ما لم يعلموه، وأن منزلتكم في العلم أعلى من منازلهم. وجوابنا هو مثل جواب المتكلمين، وهو أن الاعتبار بمعرفة مدلول العبارات، لا بمعرفة العبارات. فإذا عرف البدويّ الفرق بين أن يقول: «جاءني زيد راكبا»، وبين قوله: «جاءني زيد الرّاكب»، لم يضرّه أن لا يعرف أنه إذا قال: «راكبا»، كانت عبارة النحويين فيه أن يقولوا في «راكب»: «إنه حال»، وإذا قال: «الراكب»، أنه صفة جارية على «زيد» وإذا عرف في قوله: «زيد منطلق» أن «زيدا» مخبر عنه، و «منطلق» خبر، لم يضرّه أن لا يعلم أنّا نسمّي «زيدا» مبتدأ وإذا عرف في قولنا: «ضربته تأديبا له»، أن المعنى في التأديب أنه غرضه من الضرب، وأنه ضربه ليتأدب، لم يضرّه أن لا يعلم أنا نسمي «التأديب» مفعولا له. ولو كان عدمه العلم بهذه العبارات، يمنعه العلم بما وضعناها له وأردناه بها لكان ينبغي أن لا يكون له سبيل إلى بيان أغراضه، وأن لا يفصل فيما يتكلّم به بين نفي وإثبات، وبين «ما» إذا كان استفهاما وبينه إذا كان بمعنى «الذي»، وإذا كان بمعنى المجازاة، لأنه لم يسمع عباراتنا في الفرق بين هذه المعاني. أترى الأعرابيّ حين سمع المؤذّن يقول: «أشهد أنّ محمدا رسول الله» بالنصب، فأنكر وقال: صنع ماذا؟ أنكر عن غير علم أن النصب يخرجه عن أن يكون خبرا ويجعله والأوّل في حكم اسم واحد، وأنه إذا صار والأوّل في حكم اسم واحد، احتيج إلى اسم آخر أو فعل، حتى يكون كلاما، وحتى يكون قد ذكر ما له فائدة؟ إن كان لم يعلم ذلك، فلماذا قال: «صنع ماذا؟»، فطلب ما يجعله خبرا؟

ويكفيك أنه يلزم على ما قالوه أن يكون امرؤ القيس حين قال: [من الطويل] قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل «1» قاله وهو لا يعلم ما نعنيه بقولنا: أن «قفا» أمر، و «نبك» جواب الأمر، و «ذكرى» مضاف إلى «حبيب»، و «منزل» معطوف على الحبيب وأن تكون هذه الألفاظ قد ترتّبت له من غير قصد منه إلى هذه المعاني. وذلك يوجب أن يكون قال: «نبك» بالجزم من غير أن يكون عرف معنى يوجب الجزم، وأتى به مؤخرا عن «قفا»، من غير أن عرف لتأخيره موجبا سوى طلب الوزن. ومن أفضت به الحال إلى أمثال هذه الشناعات، ثم لم يرتدع، ولم يتبيّن أنه على خطأ، فليس إلّا تركه والإعراض عنه. ولولا أنّا نحبّ أن لا ينبس أحد في معنى السّؤال والاعتراض بحرف إلّا أريناه الذي استهواه، لكان ترك التشاغل بإيراد هذا وشبهه أولى. ذاك لأنّا قد علمنا علم ضرورة أنّا لو بقينا الدهر الأطول نصعّد ونصوّب، ونبحث وننقّب، نبتغي كلمة قد اتصلت بصاحبة لها، ولفظة قد انتظمت مع أختها، من غير أن توخّي فيما بينهما معنى من معاني النحو، طلبنا ممتنعا، وثنينا مطايا الفكر ظلّعا. فإن كان هاهنا من يشكّ في ذلك، ويزعم أنه قد علم لاتّصال الكلم بعضها ببعض، وانتظام الألفاظ بعضها مع بعض، معاني غير معاني النحو، فإنا نقول له: هات، فبيّن لنا تلك المعاني، وأرنا مكانها، واهدنا لها، فلعلّك قد أوتيت علما قد حجب عنّا، وفتح لك باب قد أغلق دوننا: [من الوافر] وذاك له إذا العنقاء صارت ... مربّبة وشبّ ابن الخصيّ «2»

_ (1) راجع هامش رقم (1) ص (236). (2) البيت لأبي تمام في ديوانه (330) من قصيدة في مدح الحسن بن وهب، وقبله: ويتبع نعمتي بك عين ضغن ... كما نظر اليتيم إلى الوصيّ رجاء أنه يوري بزندي ... لديك وأنه يعزى فرييّ والبيت فيه تعليق أمر مستحيل على أمر مستحيل. والعنقاء: طائر ضخم، وقيل: طائر خرافي مثله مثل الغول. مرببة: أي يربّيها الناس كما يربى الحمام وهذا محال، الخصيّ: لا ولد له فأنى يكون له ولد يشيب.

فصل [في مسألة التعبير عن المعنى بلفظين أحدهما فصيح والآخر غير فصيح]

فصل [في مسألة التعبير عن المعنى بلفظين أحدهما فصيح والآخر غير فصيح] قد أردت أن أعيد القول في شيء هو أصل الفساد ومعظم الآفة، والذي صار حجازا بين القوم وبين التأمّل، وأخذ بهم عن طريق النّظر، وحال بينهم وبين أن يصغوا إلى ما يقال لهم، وأن يفتحوا للذي تبيّن أعينهم، وذلك قولهم: «إنّ العقلاء قد اتّفقوا على أنه يصحّ أن يعبّر عن المعنى الواحد بلفظين، ثم يكون أحدهما فصيحا، والآخر غير فصيح. وذلك، قالوا، يقتضي أن يكون للّفظ نصيب في المزيّة، لأنها لو، كانت مقصورة على المعنى، لكان محالا أن يجعل لأحد اللفظين فضل على الآخر، مع أن المعبّر عنه واحد». وهذا شيء تراهم يعجبون به ويكثرون ترداده، مع أنهم يؤكّدونه فيقولون: «لولا أنّ الأمر كذلك، لكان ينبغي أن لا يكون للبيت من الشّعر فضل على تفسير المفسّر له، لأنّه إن كان اللّفظ إنما يشرف من أجل معناه، فإنّ لفظ المفسّر يأتي على المعنى ويؤدّيه لا محالة، إذ لو كان لا يؤدّيه، لكان لا يكون تفسيرا له». ثم يقولون: «وإذا لزم ذلك في تفسير البيت من الشّعر، لزم مثله في الآية من القرآن» وهم إذا انتهوا في الحجاج إلى هذا الموضع، ظنّوا أنّهم قد أتوا بما لا يجوز أن يسمع عليهم معه كلام، وأنه نقض ليس بعده إبرام، وربما أخرجهم الإعجاب به إلى الضحك والتعجّب ممن يرى أنّ إلى الكلام عليه سبيلا، وأنّه يستطيع أن يقيم على بطلان ما قالوه دليلا. والجواب، وبالله التوفيق، أن يقال للمحتج بذلك: قولك إنّه يصحّ أن يعبّر عن المعنى الواحد بلفظين، يحتمل أمرين: أحدهما: أن تريد باللفظين كلمتين معناهما واحد في اللغة، مثل «الليث» و «الأسد»، ومثل «شحط» و «بعد»، وأشباه ذلك مما وضع اللفظان فيه لمعنى. والثاني: أن تريد كلامين. فإن أردت الأوّل خرجت من المسألة، لأن كلامنا نحن في فصاحة تحدث من بعد التأليف، دون الفصاحة التي توصف بها اللفظة مفردة، ومن غير أن يعتبر حالها مع غيرها.

وإن أردت الثاني، ولا بدّ لك من أن تريده، فإن هاهنا أصلا، من عرفه عرف سقوط هذا الاعتراض. وهو أن يعلم أن سبيل المعاني سبيل أشكال الحليّ، كالخاتم والشّنف والسّوار، فكما أن من شأن هذه الأشكال أن يكون الواحد منها غفلا ساذجا، لم يعمل صانعه فيه شيئا أكثر من أن أتى بما يقع عليه اسم الخاتم إن كان خاتما، والشّنف إن كان شنفا، وأن يكون مصنوعا بديعا قد أغرب صانعه فيه. كذلك سبيل المعاني، أن ترى الواحد منها غفلا ساذجا عامّيا موجودا في كلام الناس كلّهم، ثم تراه نفسه وقد عمد إليه البصير بشأن البلاغة وإحداث الصّور في المعاني، فيصنع فيه ما يصنع الصّنع الحاذق، حتى يغرب في الصّنعة، ويدقّ في العمل، ويبدع في الصّياغة. وشواهد ذلك حاضرة لك كيف شئت، وأمثلته نصب عينيك من أين نظرت. تنظر إلى قول النّاس: «الطبع لا يتغيّر»، و «لست تستطيع أن تخرج الإنسان عمّا جبل عليه»، فترى معنى غفلا عامّيا معروفا في كل جيل وأمة، ثم تنظر إليه في قول المتنبي: [من المتقارب] يراد من القلب نسيانكم ... وتأبى الطّباع على النّاقل «1» فتجده قد خرج في أحسن صورة، وتراه قد تحوّل جوهرة بعد أن كان خرزة، وصار أعجب شيء بعد أن لم يكن شيئا. وإذ قد عرفت ذلك، فإن العقلاء إلى هذا قصدوا حين قالوا: «إنّه يصحّ أن يعبّر عن المعنى الواحد بلفظين، ثم يكون أحدهما فصيحا والآخر غير فصيح»، كأنهم قالوا: إنه يصح أن تكون هاهنا عبارتان أصل المعنى فيهما واحد، ثم يكون لإحداهما في تحسين ذلك المعنى وتزيينه، وإحداث خصوصيّة فيه تأثير لا يكون للأخرى. واعلم أن المخالف لا يخلو من أن ينكر أن يكون للمعنى في إحدى العبارتين حسن ومزيّة لا يكونان له في الأخرى، وأن تحدث فيه على الجملة صورة لم تكن أو يعرف ذلك، فإن أنكر لم يكلّم، لأنه يؤديه إلى أن لا يجعل للمعنى في قوله: وتأبى الطباع على الناقل

_ (1) البيت في ديوانه (2/ 17) من قصيدة في مدح سيف الدولة ويذكر استنقاذه أبا وائل بن داود بن حمدان العدوي من أسر الخارجي سنة سبع وثلاثين وثلاث ومائة ومطلعها: إلام طماعية العاذل ... ولا رأي في الحب للعاقل

مزية على الذي يعقل من قولهم: «الطبع لا يتغير»، و «لا يستطيع أن يخرج الإنسان عمّا جبل عليه» وأن لا يرى لقول أبي نواس: [من السريع] وليس لله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد مزيّة على أن يقال: «غير بديع في قدرة الله تعالى أن يجمع فضائل الخلق كلّهم في رجل واحد». ومن أدّاه قول يقوله إلى مثل هذا، كان الكلام معه محالا، وكنت إذا كلّفته أن يعرف، كمن يكلّف أن يميّز بحور الشعر بعضها من بعض، فيعرف المديد من الطّويل، والبسيط من السّريع من ليس له ذوق يقيم به الشعر من أصله. وإن اعترف بأنّ ذلك يكون، قلنا له: أخبرنا عنك، أتقول في قوله: وتأبى الطّباع على الناقل «1» أنه غاية في الفصاحة؟ فإذا قال: نعم. قيل له: أفكان كذلك عندك من أجل حروفه، أم من أجل حسن ومزيّة حصلا في المعنى فإن قال: من أجل حروفه: دخل في الهذيان وإن قال: من أجل حسن ومزيّة حصلا في المعنى، قيل له: فذاك ما أردناك عليه حين قلنا: إن اللفظ يكون فصيحا من أجل مزية تقع في معناه، لا من أجل جرسه وصداه. واعلم أنه ليس شيء أبين وأوضح وأحرى أن يكشف الشبهة عن متأمّله في صحة ما قلناه، من «التشبيه». فإنّك تقول: «زيد كالأسد» أو «مثل الأسد» أو «شبيه بالأسد»، فتجد ذلك كلّه تشبيها غفلا ساذجا ثم تقول: «كأن زيدا الأسد»، فيكون تشبيها أيضا، إلّا أنّك ترى بينه وبين الأول بونا بعيدا، لأنك ترى له صورة خاصّة، وتجدك قد فخّمت المعنى وزدت فيه، بأن أفدت أنه من الشّجاعة وشدّة البطش، وأنّ قلبه قلب لا يخامره الذّعر ولا يدخله الرّوع، بحيث يتوهّم أنه الأسد بعينه ثم تقول: «لئن لقيته ليلقينّك منه الأسد»، فتجده قد أفاد هذه المبالغة، لكن في صورة أحسن، وصفة أخصّ، وذلك أنك تجعله في «كأن»، يتوهّم أنه الأسد، وتجعله هاهنا يرى منه الأسد على القطع، فيخرج الأمر عن حدّ التوهّم إلى حدّ اليقين ثم نظرت إلى قوله: [من الطويل]

_ (1) راجع هامش رقم (1) ص (271).

أأن أرعشت كفّا أبيك وأصبحت ... يداك يدي ليث فإنّك غالبه «1» وجدته قد بدا لك في صورة آنق وأحسن ثم نظرت إلى قول أرطاة بن سهيّة: [من البسيط] إن تلقني لا ترى غيري بناظرة ... تنس السّلاح وتعرف جبهة الأسد «2» وجدته قد فضل الجميع، ورأيته قد أخرج في صورة غير تلك الصّور كلّها. واعلم أن من الباطل والمحال ما يعلم الإنسان بطلانه واستحالته بالرجوع إلى النفس حتى لا يشكّ. ثم إنّه إذا أراد بيان ما يجد في نفسه والدّلالة عليه، رأى المسلك إليه يغمض ويدقّ. وهذه الشبهة أعني قولهم: «إنه لو كان يجوز أن يكون الأمر على خلاف ما قالوه من أنّ الفصاحة وصف للّفظ من حيث هو لفظ، لكان ينبغي أن لا يكون للبيت من الشّعر فضل على تفسير المفسّر»، إلى آخره من ذاك. وقد علقت لذلك بالنّفوس وقويت فيها، حتى إنك لا تلقي إلى أحد من المتعلقين بأمر «اللفظ» كلمة مما نحن فيه، إلا كان هذا أوّل كلامه، وإلّا عجّب وقال: «إنّ التفسير بيان للمفسّر، فلا يجوز أن يبقى من معنى المفسّر شيء لا يؤدّيه التفسير ولا يأتي عليه، لأن في تجويز ذلك القول بالمحال، وهو أن لا يزال يبقى من معنى المفسّر شيء لا يكون إلى العلم به سبيل. وإذا كان الأمر كذلك، ثبت أن الصحيح ما قلناه، من أنه لا يجوز أن يكون للّفظ المفسّر فضل من حيث المعنى على لفظ التفسير. وإذ لم يجز أن يكون الفضل من حيث المعنى، لم يبق إلا أن يكون من حيث اللفظ نفسه». فهذا جملة ما يمكنهم أن يقولوه في نصرة هذه الشبهة، قد استقصيته لك. وإذ قد عرفته فاسمع الجواب، وإلى الله تعالى الرّغبة في التوفيق للصواب.

_ (1) البيت للفرزدق في ديوانه (1/ 105) ط، دار صادر، بيروت، من خمسة أبيات قالها حيث كان له ثلاثة أولاد يقال:: لواحد منهم لبطة والآخر: حنظلة، والثالث: سبطة، وكان لبطة من العققة فقال له هذه الأبيات، وهذا البيت مطلعها وبعده: إذا غلب ابن الشباب أبا له ... كبيرا فإن الله لا بد غالبه رأيت تباشير العقوق هي التي ... من ابن امرئ ما إن يزال يعاتبه ولما رآني قد كبرت وأني ... أخو الحي واستغنى عن المسح شاربه أصاخ لغربان النعي وإنه ... لأزور عن بعض المقالة جانبه (2) البيت سبق ص (145)، وهو في الأغاني (13/ 37)، وبعده: ماذا تظنك تغني في أخي رصد ... من أسد خفان جابي العين ذي لبد وكان شبيب بن البرصاء يقول: وددت أني جمعني ابن الأمة أرطاة بن سهية يوم قتال فأشفي منه غيظي، فبلغ ذلك أرطاة، فقال له عدة أبيات منها هذا البيت. الناظرة: العين.

اعلم أن قولهم: «إنّ التفسير يجب أن يكون كالمفسّر»، دعوى لا تصحّ لهم إلا من بعد أن ينكروا الذي بيّنّاه، من أن من شأن المعاني أن تختلف بها الصّور، ويدفعوه أصلا، وحتّى يدّعوا أنه لا فرق بين «الكناية» و «التصريح»، وأنّ حال المعنى مع «الاستعارة» كحاله مع ترك الاستعارة، وحتى يبطلوا ما أطبق عليه العقلاء من أنّ «المجاز» يكون أبدا أبلغ من الحقيقة، فيزعموا أن قولنا: «طويل النجاد» و «طويل القامة» واحد، وأن حال المعنى في بيت ابن هرمة. [من المنسرح] ولا أبتاع إلّا قريبة الأجل «1» كحاله في قولك: أنا مضياف وأنك إذا قلت: «رأيت أسدا»، لم يكن الأمر أقوى من أن تقول: «رأيت رجلا هو من الشجاعة بحيث لا ينقص عن الأسد»، ولم تكن قد زدت في المعنى بأن ادّعيت له أنه أسد بالحقيقة ولا بالغت فيه وحتى يزعموا أنه لا فضل ولا مزيّة لقولهم: «ألقيت حبله على غاربه»، على قولك في تفسيره: «خلّيته وما يريد، وتركته يفعل ما يشاء» وحتّى لا يجعلوا للمعنى في قوله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [البقرة: 93]، مزيّة على أن يقال: «اشتدّت محبتهم للعجل وغلبت على قلوبهم» - وأن تكون صورة المعنى في قوله عز وجل: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مريم: 4]، صورته في قول من يقول: «وشاب رأسي كلّه» و «ابيض رأسي كلّه» وحتى لا يروا فرقا بين قوله تعالى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [البقرة: 16]، وبين: «فما ربحوا في تجارتهم» وحتى يرتكبوا جميع ما أريناك الشناعة فيه، من أن لا يكون فرق بين قول المتنبي: وتأبى الطّباع على النّاقل «2» وبين قولهم: «إنّك لا تقدر أن تغيّر طباع الإنسان» ويجعلوا حال المعنى في قول أبي نواس: [من السريع] وليس لله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد كحاله في قولنا: «إنه ليس ببديع في قدرة الله أن يجمع فضائل الخلق كلهم في واحد» ويرتكبوا ذلك في الكلام كلّه، حتّى يزعموا أنّا إذا قلنا في قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ أن المعنى فيها: «أنه لما كان الإنسان إذا همّ بقتل آخر

_ (1) سبق ص (181) هامش (1). (2) راجع ص (271) هامش (1).

لشيء غاظه منه، فذكر أنّه إن قتله قتل ارتدع، صار المهموم بقتله كأنه قد استفاد حياة فيما يستقبل بالقصاص» كنا قد أدّينا المعنى في تفسيرنا هذا على صورته التي هو عليها في الآية، حتى لا نعرف فضلا، وحتى يكون حال الآية والتفسير حال اللّفظتين إحداهما غريبة والأخرى مشهورة، فتفسّر الغريبة بالمشهورة، مثل أن تقول مثلا في «الشّرجب» «1» إنه الطويل، وفي «القطّ» إنه الكتاب، وفي «الدّسر» إنه المسامير. ومن صار الأمر به إلى هذا، كان الكلام معه محالا. واعلم أنه ليس عجب أعجب من حال من يرى كلامين، أجزاء أحدهما مخالفة في معانيها لأجزاء الآخر، ثم يرى أنه يسع في العقل أن يكون معنى أحد الكلامين مثل معنى الآخر سواء، حتى يقعد فيقول: «إنّه لو كان يكون الكلام فصيحا من أجل مزيّة تكون في معناه، لكان ينبغي أن توجد تلك المزيّة في تفسيره». ومثله في العجب أنّه ينظر إلى قوله تعالى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [البقرة: 16]، فيرى إعراب الاسم الذي هو «التجارة»، قد تغير فصار مرفوعا بعد أن كان مجرورا، ويرى أنّه قد حذف من اللفظ بعض ما كان فيه، وهو «الواو» في «ربحوا»، و «في» من قولنا: «في تجارتهم»، ثم لا يعلم أن ذلك يقتضي أن يكون المعنى قد تغيّر كما تغيّر اللفظ!! واعلم أنه ليس للحجج والدّلائل في صحة ما نحن عليه حدّ ونهاية، وكلما انتهى منه باب انفتح فيه باب آخر. وقد أردت أن آخذ في نوع آخر من الحجاج، ومن البسط والشّرح، فتأمل ما أكتبه لك. اعلم أن الكلام الفصيح ينقسم قسمين: قسم تعزى المزيّة والحسن فيه إلى اللفظ وقسم يعزى ذلك فيه إلى النّظم. فالقسم الأول: «الكناية» و «الاستعارة» و «التمثيل الكائن على حدّ الاستعارة»، وكلّ ما كان فيه، على الجملة، مجاز واتّساع وعدول باللفظ عن الظاهر، فما من ضرب من هذه الضّروب إلّا وهو إذا وقع على الصّواب وعلى ما ينبغي، أوجب الفضل والمزية. فإذا قلت: «هو كثير رماد القدر»، كان له موقع وحظّ من القبول لا يكون إذا قلت: «هو كثير القرى والضيافة». وكذا إذا قلت: «هو طويل النجاد»، كان له تأثير في النفس لا يكون إذا قلت: «هو طويل القامة».

_ (1) الطويل والفرس الكريم، ا. هـ القاموس «شرجب» (129).

وكذا إذا قلت: «رأيت أسدا»، كان له مزيّة لا تكون إذا قلت: «رأيت رجلا يشبه الأسد ويساويه في الشجاعة». وكذلك إذا قلت: «أراك تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى»، كان له موقع لا يكون إذا قلت: «أراك تتردد في الذي دعوتك إليه، كمن يقول: أخرج ولا أخرج، فيقدّم رجلا ويؤخّر أخرى». وكذلك إذا قلت: «ألقى حبله على غاربه»، كان له مأخذ من القلب لا يكون إذا قلت: «هو كالبعير الذي يلقى حبله على غاربه حتى يرعى كيف يشاء ويذهب حيث يريد». لا يجهل المزيّة فيه إلا عديم الحسّ ميّت النفس، وإلّا من لا يكلّم، لأنه من مبادئ المعرفة التي من عدمها لم يكن للكلام معه معنى. وإذ قد عرفت هذه الجملة، فينبغي أن تنظر إلى هذه المعاني واحدا واحدا، وتعرف محصولها وحقائقها، وأن تنظر أوّلا إلى «الكناية»، وإذا نظرت إليها وجدت حقيقتها ومحصول أمرها أنّها إثبات لمعنى، أنت تعرف ذلك المعنى من طريق المعقول دون طريق اللفظ. ألا ترى أنك لما نظرت إلى قولهم: «هو كثير رماد القدر»، وعرفت منه أنهم أرادوا أنه كثير القرى والضيافة، لم تعرف ذلك من اللفظ، ولكنّك عرفته بأن رجعت إلى نفسك فقلت: إنّه كلام قد جاء عنهم في المدح، ولا معنى للمدح بكثرة الرّماد، فليس إلا أنّهم أرادوا أن يدلّوا بكثرة الرّماد على أنه تنصب له القدور الكثيرة، ويطبخ فيها للقرى والضّيافة. وذلك لأنه إذا كثر الطبخ في القدور كثر إحراق الحطب تحتها، وإذا كثر إحراق الحطب كثر الرّماد لا محالة. وهكذا السبيل في كلّ ما كان «كناية». فليس من لفظ الشّعر عرفت أن ابن هرمة أراد بقوله: ولا أبتاع إلّا قريبة الأجل «1» التمدّح بأنه مضياف، ولكنّك عرفته بالنّظر اللطيف، وبأن علمت أنه لا معنى للتمدّح بظاهر ما يدلّ عليه اللّفظ من قرب أجل ما يشتريه، فطلبت له تأويلا، فعلمت أنه أراد أنّه يشتري ما يشتريه للأضياف، فإذا اشترى شاة أو بعيرا، كان قد اشترى ما قد دنا أجله، لأنه يذبح وينحر عن قريب.

_ (1) راجع ص (181) هامش (1).

وإذ قد عرفت هذا في «الكناية»، «فالاستعارة» في هذه القضيّة. وذاك أنّ موضوعها على أنك تثبت بها معنى لا يعرف السّامع ذلك المعنى من اللّفظ، ولكنه يعرفه من معنى اللّفظ. بيان هذا، أنا نعلم أنك لا تقول: «رأيت أسدا، إلّا وغرضك أن تثبت للرجل أنه مساو للأسد في شجاعته وجرأته، وشدّة بطشه وإقدامه، وفي أن الذّعر لا يخامره، والخوف لا يعرض له. ثم تعلم أن السامع إذا عقل هذا المعنى، لم يعقله من لفظ «أسد»، ولكنه يعقله من معناه، وهو أنه يعلم أنه لا معنى لجعله «أسدا»، مع العلم بأنه «رجل»، إلا أنك أردت أنه بلغ من شدّة مشابهته للأسد ومساواته إيّاه، مبلغا يتوهّم معه أنه أسد بالحقيقة. فاعرف هذه الجملة وأحسن تأمّلها. واعلم أنك ترى الناس وكأنهم يرون أنك إذا قلت: «رأيت أسدا»، وأنت تريد التشبيه، كنت نقلت لفظ «أسد» عما وضع له في اللغة، واستعملته في معنى غير معناه، حتّى كأن ليس «الاستعارة» إلّا أن تعمد إلى اسم الشيء فتجعله اسما لشبيه، وحتى كأن لا فصل بين «الاستعارة»، وبين تسمية المطر «سماء»، والنّبت «غيثا»، والمزادة «راوية»، وأشباه ذلك مما يوقع فيه اسم الشيء على ما هو منه بسبب، ويذهبون عمّا هو مركوز في الطّباع من أن المعنى فيه المبالغة، وأن يدّعي في الرجل أنه ليس برجل، ولكنه أسد بالحقيقة، وأنّه إنما يعار اللفظ من بعد أن يعار المعنى، وأنه لا يشرك في اسم «الأسد»، إلّا من بعد أن يدخل في جنس الأسد. لا ترى أحدا يعقل إلّا وهو يعرف ذلك إذا رجع إلى نفسه أدنى رجوع. ومن أجل أن كان الأمر كذلك، رأيت العقلاء كلّهم يثبتون القول بأن من شأن «الاستعارة» أن تكون أبدا أبلغ من الحقيقة، وإلّا فإن كان ليس هاهنا إلّا نقل اسم من شيء إلى شيء، فمن أين يجب، ليت شعري، أن تكون الاستعارة أبلغ من الحقيقة، ويكون لقولنا: «رأيت أسدا»، مزيّة على قولنا: «رأيت شبيها بالأسد»؟ وقد علمنا أنّه محال أن يتغيّر الشيء في نفسه، بأن ينقل إليه اسم قد وضع لغيره، من بعد أن لا يراد من معنى ذلك الاسم فيه شيء بوجه من الوجوه، بل يجعل كأنه لم يوضع لذلك المعنى الأصليّ أصلا. وفي أي عقل يتصوّر أن يتغيّر معنى «شبيها بالأسد»، بأن يوضع لفظ «أسد» عليه، وينقل إليه؟ واعلم أن العقلاء بنوا كلامهم، إذا قاسوا وشبّهوا، على أن الأشياء تستحق الأسامي لخواصّ معان هي فيها دون ما عداها، فإذا أثبتوا خاصّة شيء لشيء، أثبتوا له

اسمه، فإذا جعلوا «الرجل» بحيث لا تنقص شجاعته عن شجاعة الأسد ولا يعدم منها شيئا، قالوا: «هو أسد» وإذا وصفوه بالتّناهي في الخير والخصال الشريفة، أو بالحسن الذي يبهر قالوا: «هو ملك» وإذا وصفوا الشيء بغاية الطّيب قالوا: «هو مسك». وكذلك الحكم أبدا. ثمّ إنهم إذا استقصوا في ذلك نفوا عن المشبّه اسم جنسه فقالوا: «ليس هو بإنسان، وإنما هو أسد»، و «ليس هو آدميّا، وإنما هو ملك»، كما قال الله تعالى: ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف: 31]. ثمّ إن لم يريدوا أن يخرجوه عن جنسه جملة قالوا: «هو أسد في صورة إنسان» و «هو ملك في صورة آدميّ». وقد خرج هذا للمتنبي في أحسن عبارة، وذلك في قوله: [من الخفيف] نحن ركب ملجنّ في زيّ ناس ... فوق طير لها شخوص الجمال «1» ففي هذه الجملة بيان لمن عقل أن ليست «الاستعارة» نقل اسم عن شيء إلى شيء، ولكنها ادّعاء معنى الاسم لشيء، إذ لو كانت نقل اسم وكان قولنا: «رأيت أسدا»، بمعنى: رأيت شبيها بالأسد، ولم يكن ادّعاء أنّه أسد بالحقيقة لكان محالا أن يقال: «ليس هو بإنسان، ولكنه أسدا» أو «هو أسد في صورة إنسان»، كما أنّه محال أن يقال: «ليس هو بإنسان، ولكنه شبيه بأسد» أو يقال: «هو شبيه بأسد في صورة إنسان». واعلم أنّه قد كثر في كلام الناس استعمال لفظ «النقل» في «الاستعارة»، فمن ذلك قولهم: «إنّ الاستعارة تعليق العبارة على غير ما وضعت له في أصل اللغة على سبيل النقل»: وقال القاضي أبو الحسن «2»: «الاستعارة ما اكتفي فيه بالاسم المستعار عن الأصلي، ونقلت العبارة فجعلت في مكان غيرها».

_ (1) البيت في ديوانه (1/ 166) من قصيدة في مدح عبد الرحمن بن المبارك الأنطاكي، ومطلعها: صلة الهجر لي وهجر الوصال ... فكساني في السقم نكس الهلال الركب: جمع راكب، ملجن: أي من الجن لغة، الزي: الهيئة. أي: نحن كالجن نألف المجاهل وركائبنا كالطير في قطع المسافات. المعنى: يقول نحن ركب وهم ركاب الإبل يقال: ركب وركبان من الجن في زي الناس فوق طير إلا أنها في صورة الجمال يرد لسرعة سيرها كأنها تطير كما يطير الطير. والبيت في شرح التبيان للعكبري (2/ 159)، والإيضاح (260)، ورواية الإيضاح: «نحن قوم الجن في زي ناس»، والمفتاح (480)، وأورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات (211) وعزاه للمتنبي. (2) علي بن عبد العزيز الجرجاني (ت 392) صاحب كتاب «الوساطة بين المتنبي وخصومه». شذرات الذهب (3/ 56).

ومن شأن ما غمض من المعاني ولطف، أن يصعب تصويره على الوجه الذي هو عليه لعامّة الناس، فيقع لذلك في العبارات التي يعبّر بها عنه، ما يوهم الخطأ، وإطلاقهم في «الاستعارة» أنها «نقل للعبارة عمّا وضعت له»، من ذلك، فلا يصحّ الأخذ به. وذلك أنّك إذا كنت لا تطلق اسم «الأسد» على «الرجل»، إلا من بعد أن تدخله في جنس الأسود من الجهة التي بيّنّا، لم تكن نقلت الاسم عما وضع له بالحقيقة، لأنك إنّما تكون ناقلا، إذا أنت أخرجت معناه الأصليّ من أن يكون مقصودك، ونفضت به يدك. فأمّا أن تكون ناقلا له عن معناه، مع إرادة معناه، فمحال متناقض. واعلم أن في «الاستعارة» ما لا يتصوّر تقدير النقل فيه البتّة، وذلك مثل قول لبيد: [من الكامل] وغداة ريح قد كشفت وقرّة ... إذ أصبحت بيد الشّمال زمامها «1» لا خلاف في أن «اليد» استعارة، ثم إنك لا تستطيع أن تزعم أنّ لفظ «اليد» قد نقل عن شيء إلى شيء. وذلك أنه ليس المعنى على أنه شبّه شيئا باليد، فيمكنك أن تزعم أنه نقل لفظ «اليد» إليه، وإنما المعنى على أنه أراد أن يثبت للشّمال في تصريفها «الغداة» على طبيعتها، شبه الإنسان قد أخذ الشيء بيده يقبله ويصرّفه كيف يريد. فلما أثبت لها مثل فعل الإنسان باليد، استعار لها «اليد». وكما لا يمكنك تقدير «النقل» في لفظ «اليد»، كذلك لا يمكنك أن تجعل الاستعارة فيه من صفة اللفظ. ألا ترى أنه محال أن تقول: إنه استعار لفظ «اليد» للشّمال؟ وكذلك سبيل نظائره، مما تجدهم قد أثبتوا فيه للشيء عضوا من أعضاء الإنسان، من أجل إثباتهم له المعنى الذي يكون في ذلك العضو من الإنسان كبيت الحماسة: [من الطويل] إذا هزّه في عظم قرن تهلّلت ... نواجذ أفواه المنايا الضّواحك «2» فإنه لما جعل «المنايا» تضحك، جعل لها «الأفواه والنواجذ» التي يكون الضّحك فيها وكبيت المتنبّي: [من الطويل]

_ (1) البيت في ديوانه (230) ط، دار القاموس الحديث، وأورده القزويني في الإيضاح (277)، والمبرد في الكامل وعزاه للبيد، وأساس البلاغة (يدي). والبيت من معلقته المشهورة، والقرة والقر: البرد، يقول: كم من غداة تهب فيها الشمال وهي أبرد الرياح، وقد كففت عادية البرد عن الناس بنحر الجزر لهم. (2) البيت لتأبط شرا في شرح الحماسة للتبريزي (1/ 49)، القرن بالكسر: المثل والكفؤ، وتهللت: لاحت وظهرت من البشر والسرور.

خميس بشرق الأرض والغرب زحفه ... وفي أذن الجوزاء منه زمازم «1» لما جعل «الجوزاء» تسمع على عادتهم في جعل النّجوم تعقل، ووصفهم لها بما يوصف به الأناسيّ أثبت لها «الأذن» التي بها يكون السمع من الأناسيّ. فأنت الآن لا تستطيع أن تزعم في بيت الحماسة أنّه استعار لفظ «النواجذ» ولفظ «الأفواه»، لأن ذلك يوجب المحال، وهو أن يكون في المنايا شيء قد شبّهه بالنواجذ، وشيء قد شبّهه بالأفواه، فليس إلّا أن تقول: إنه لمّا ادّعى أنّ المنايا تسرّ وتستبشر إذا هو هزّ السيف، وجعلها لسرورها بذلك تضحك أراد أن يبالغ في الأمر، فجعلها في صورة من يضحك حتى تبدو نواجذه من شدة السرور. وكذلك لا تستطيع أن تزعم أن المتنبي قد استعار لفظ «الأذن»، لأنه يوجب أن يكون في «الجوزاء» شيء قد أراد تشبيهه بالأذن. وذلك من شنيع المحال. فقد تبيّن من غير وجه أنّ «الاستعارة» إنما هي ادّعاء معنى الاسم للشيء، لا نقل الاسم عن الشيء. وإذا ثبت أنها ادّعاء معنى الاسم للشيء، علمت أن الذي قالوه من «أنها تعليق للعبارة على غير ما وضعت له في اللغة، ونقل لها عمّا وضعت له» كلام قد تسامحوا فيه، لأنه إذا كانت «الاستعارة» ادعاء معنى الاسم، لم يكن الاسم مزالا عما وضع له، بل مقرّا عليه. واعلم أنك تراهم لا يمتنعون إذا تكلموا في «الاستعارة» من أن يقولوا: «إنه أراد المبالغة فجعله أسدا»، بل هم يلجئون إلى القول به. وذلك صريح في أن الأصل فيها المعنى، وأنه المستعار في الحقيقة، وأن قولنا: «استعير له اسم الأسد»، إشارة إلى أنه استعير له معناه، وأنه جعل إياه. وذلك أنّا لو لم نقل ذلك، لم يكن «لجعل» هاهنا معنى، لأن «جعل» لا يصلح إلا حيث يراد إثبات صفة للشيء، كقولنا: «جعلته أميرا» و «جعلته لصّا»، تريد أنك أثبت له الإمارة، ونسبته إلى اللصوصية وادّعيتها عليه ورميته بها. وحكم «جعل»، إذا تعدّى إلى مفعولين، حكم «صيّر»، فكما لا تقول:

_ (1) البيت في ديوانه: (2/ 139)، من قصيدة في مدح سيف الدولة، ويذكر بناءه ثغر الحدث سنة ثلاث وأربعين وثلاث مائة ومطلعها: على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم وتعظم في عين الصغير صغارها ... وتصغر في عين العظيم العظائم والخميس: الجيش العظيم له الميمنة والميسرة والقلب والجناحان، والزحف: التقدم. الجوزاء: أنجم معروفة، والزمازم: جمع زمزمة، وهي صوت لا يفهم لتداخله، والمعنى: يقول هذا الجيش لكثرته قد عم الشرق والغرب وبلغ صوتهم الجوزاء وخصها بالذكر من سائر البروج لأنها على صورة الإنسان هذا قول الواحدي.

«صيّرته أميرا»، إلا على معنى أنك أثبتّ له صفة الإمارة، كذلك لا يصحّ أن تقول: «جعلته أسدا»، إلا على معنى أنك أثبتّ له معاني الأسد. وأمّا ما تجده في بعض كلامهم من أن «جعل» يكون بمعنى «سمّى»، فمما تسامحوا فيه أيضا، لأن المعنى معلوم، وهو مثل أن تجد الرجل يقول: «أنا لا أسمّيه إنسانا»، وغرضه أن يقول: إني لا أثبت له المعاني التي بها كان الإنسان إنسانا. فأما أن يكون «جعل» في معنى «سمّى»، هكذا غفلا، فممّا لا يخفى فساده. ألا ترى أنك لا تجد عاقلا يقول: «جعلته زيدا»، بمعنى: سميته زيدا ولا يقال للرجل: «اجعل ابنك زيدا»، بمعنى: سمّه زيدا و «ولد ابن فجعله عبد الله»، أي: سمّاه عبد الله. هذا ما لا يشك فيه ذو عقل إذا نظر. وأكثر ما يكون منهم هذا التسامح، أعني قولهم إنّ «جعل» يكون بمعنى «سمّى» في قوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف: 19]، فقد ترى في التفسير أن «جعل» يكون بمعنى «سمّى»، وعلى ذاك فلا شبه في أن ليس المعنى على مجرّد التسمية، ولكن على الحقيقة التي وصفتها لك. وذاك أنّهم أثبتوا للملائكة صفة الإناث، واعتقدوا وجودها فيهم، وعن هذا الاعتقاد صدر عنهم ما صدر من الاسم أعني إطلاق اسم «البنات» وليس المعنى أنّهم وضعوا لها لفظ «الإناث» ولفظ «البنات»، من غير اعتقاد معنى وإثبات صفة. هذا محال. أو لا ترى إلى قوله تعالى: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ [الزخرف: 19]، فلو كانوا لم يزيدوا على إجراء الاسم على الملائكة، ولم يعتقدوا إثبات صفة لما قال الله تعالى: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ. هذا ولو كانوا لم يقصدوا إثبات صفة، ولم يكن غير أن وضعوا اسما لا يريدون به معنى، لما استحقّوا إلّا اليسير من الذمّ، ولما كان هذا القول منهم كفرا. والتّفسير الصحيح والعبارة المستقيمة، ما قاله أبو إسحاق الزجاج رحمه الله، فإنه قال: إنّ «الجعل» هاهنا في معنى القول والحكم على الشيء، تقول: «قد جعلت زيدا أعلم الناس»، أي وصفته بذلك وحكمت به. ونرجع إلى الغرض فنقول: فإذا ثبت أن ليست «الاستعارة» نقل الاسم، ولكن ادّعاء معنى الاسم وكنّا إذا عقلنا من قول الرجل: «رأيت أسدا»، أنه أراد به المبالغة في وصفه بالشجاعة، وأن يقول: إنه من قوة القلب، ومن فرط البسالة وشدّة البطش، وفي أن الخوف لا يخامره، والذّعر لا يعرض له، بحيث لا ينقص عن الأسد لم نعقل ذلك من لفظ «أسد»، ولكن من ادّعائه معنى الأسد الذي رآه ثبت بذلك أن «الاستعارة كالكناية، في أنك تعرف المعنى فيها من طريق المعقول دون طريق اللّفظ.

وإذ قد عرفت أنّ طريق العلم بالمعنى في «الاستعارة» و «الكناية» معا، المعقول، فاعلم أن حكم «التّمثيل» في ذلك حكمهما، بل الأمر في «التمثيل» أظهر. وذلك أنه ليس من عاقل يشكّ إذا نظر في كتاب يزيد بن الوليد «1» إلى مروان ابن محمّد، حين بلغه أنه يتلكأ في بيعته: «أمّا بعد، فإنّي أراك تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيّتهما شئت، والسّلام» «2». يعلم أنّ المعنى أنه يقول له: بلغني أنّك في أمر البيعة بين رأيين مختلفين، ترى تارة أن تبايع،، وأخرى أن تمتنع من البيعة، فإذا أتاك كتابي هذا فاعمل على أي الرأيين شئت وأنّه لم يعرف ذلك من لفظ «التقديم والتأخير»، أو من لفظ «الرّجل»، ولكن بأن علم أنه لا معنى لتقديم الرّجل وتأخيرها في رجل يدعى إلى البيعة، وأنّ المعنى على أنه أراد أن يقول: إنّ مثلك في تردّدك بين أن تبايع، وبين أن تمتنع، مثل رجل قائم ليذهب في أمر، فجعلت نفسه تريه تارة أن الصواب في أن يذهب، وأخرى أنه في أن لا يذهب، فجعل يقدّم رجلا تارة، ويؤخّر أخرى. وهكذا كلّ كلام كان ضرب مثل، لا يخفى على من له أدنى تمييز أن الأغراض التي تكون للناس في ذلك لا تعرف من الألفاظ، ولكن تكون المعاني الحاصلة من مجموع الكلام أدلّة على الأغراض والمقاصد. ولو كان الذي يكون غرض المتكلم يعلم من اللفظ، ما كان لقولهم: «ضرب كذا مثلا لكذا»، معنى، فما اللفظ «يضرب مثلا» ولكن المعنى. فإذا قلنا في قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «إيّاكم وخضراء الدّمن» «3»، إنه ضرب عليه السلام «خضراء الدّمن» مثلا للمرأة الحسناء في منبت السّوء، لم يكن المعنى أنه صلى الله عليه وسلّم ضرب لفظ «خضراء الدّمن» مثلا لها. هذا ما لا يظنّه من به مسّ، فضلا عن العاقل. فقد زال الشكّ وارتفع في أنّ طريق العلم بما يراد إثباته والخبر به في هذه الأجناس الثلاثة، التي هي «الكناية» و «الاستعارة» و «التمثيل» المعقول دون اللّفظ،

_ (1) هو أبو عبد الملك بلغ من العمر (40) سنة ودامت ولايته خمسة أشهر توفي (126) هـ. شذرات الذهب (1/ 171). (2) انظر البيان والتبيين (1/ 301) مع بعض الإضافة، وورد الحديث عنها سابقا. (3) ذكره العجلوني في كشف الخفاء (1/ 272)، وقال: رواه الدارقطني في الأفراد، والعسكري في الأمثال، وابن عدي في الكامل.

من حيث يكون القصد بالإثبات فيها إلى معنى ليس هو معنى اللّفظ، ولكنه معنى يستدلّ بمعنى اللفظ عليه، ويستنبط منه، كنحو ما ترى من أن القصد في قولهم: «هو كثير رماد القدر»، إلى كثرة القرى، وأنت لا تعرف ذلك من هذا اللفظ الذي تسمعه، ولكنك تعرفه بأن تستدلّ عليه بمعناه، وعلى ما مضى الشرح فيه. وإذ قد عرفت ذلك، فينبغي أن يقال لهؤلاء الذين اعترضوا علينا في قولنا: «إنّ الفصاحة وصف يجب للكلام من أجل مزيّة تكون في معناه، وأنها لا تكون وصفا له من حيث اللّفظ مجرّدا عن المعنى»، واحتجّوا بأن قالوا: «إنه لو كان الكلام إذا وصف بأنه فصيح، كان ذلك من أجل مزيّة تكون في معناه، لوجب أن يكون تفسيره فصيحا مثله» أخبرونا عنكم، أترون أنّ من شأن هذه الأجناس، إذا كانت في الكلام، أن تكون له بها مزيّة توجب له الفصاحة، أم لا ترون ذلك؟ فإن قالوا: لا نرى ذلك لم يكلّموا وإن قالوا: نرى للكلام، إذا كانت فيه، مزيّة توجب له الفصاحة. قيل لهم: فأخبرونا عن تلك المزية، أتكون في اللفظ أم في المعنى؟ فإن قالوا: في اللفظ دخلوا في الجهالة، من حيث يلزم من ذلك أن تكون «الكناية» و «الاستعارة» و «التمثيل» أوصافا للفظ، لأنه لا يتصوّر أن تكون مزيّتها في اللفظ حتى تكون أوصافا له. وذلك محال، من حيث يعلم كلّ عاقل أنه لا يكنى باللفظ عن اللفظ، وأنه إنّما يكنى بالمعنى عن المعنى. وكذلك يعلم أنه لا يستعار اللفظ مجرّدا عن المعنى، ولكن يستعار المعنى، ثم اللفظ يكون تبع المعنى، على ما قدّمنا الشرح فيه. ويعلم كذلك أنّه محال أن يضرب «المثل» باللفظ، وأن يكون قد ضرب لفظ: «أراك تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى» مثلا لتردّده في أمر البيعة. وإن قالوا: هي في المعنى. قيل لهم: فهو ما أردناكم عليه، فدعوا الشكّ عنكم، وانتبهوا من رقدتكم، فإنّه علم ضروريّ قد أدّى التقسيم إليه، وكلّ علم كان كذلك، فإنه يجب القطع على كلّ سؤال يسأل فيه بأنّه خطأ، وأنّ السّائل ملبوس عليه. ثم إن الذي يعرف به وجه دخول الغلط عليهم في قولهم: «إنّه لو كان الكلام يكون فصيحا من أجل مزيّة تكون في معناه، لوجب أن يكون تفسيره فصيحا مثله»، هو أنّك إذا نظرت إلى كلامهم هذا وجدتهم كأنهم قالوا: «إنه لو كان الكلام إذا كان

فيه كناية أو استعارة أو تمثيل، كان لذلك فصيحا، لوجب أن يكون إذا لم توجد فيه هذه المعاني فصيحا أيضا». ذاك لأن تفسير «الكناية» أن نتركها ونصرّح بالمكنّي عنه فنقول: إن المعنى في قولهم: «هو كثير رماد القدر»، أنه كثير القرى وكذلك الحكم في «الاستعارة»، فإنّ تفسيرها أن نتركها، ونصرّح بالتشبيه فنقول في «رأيت أسدا»: إن المعنى: رأيت رجلا يساوي الأسد في الشجاعة وكذلك الأمر في «التمثيل»، لأنّ تفسيره أن نذكر المتمثّل له فنقول في قوله: «أراك تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى»: إن المعنى أنه قال: أراك تتردّد في أمر البيعة فتقول تارة أفعل، وتارة لا أفعل، كمن يريد الذّهاب في وجه، فتريه نفسه تارة أن الصواب في أن يذهب، وأخرى أنه في أن لا يذهب، فهو يقدّم رجلا ويؤخر أخرى. وهذا خروج عن المعقول، لأنه بمنزلة أن تقول لرجل قد نصب لوصف علّة: «إن كان هذا الوصف يجب لهذه العلة، فينبغي أن يجب مع عدمها». ثم إنّ الذي استهواهم، هو أنهم نظروا إلى تفسير ألفاظ اللغة بعضها ببعض، فلما رأوا اللفظ إذا فسّر بلفظ، مثل أن يقال في «الشرجب» إنه الطويل، لم يجز أن يكون في المفسّر من حيث المعنى، مزيّة لا تكون في التفسير ظنوا أن سبيل ما نحن فيه ذلك السبيل. وذلك غلط منهم، لأنه إما كان للمفسّر، فيما نحن فيه، الفضل والمزيّة على التّفسير، من حيث كانت الدّلالة في المفسّر دلالة معنى على معنى، وفي التفسير دلالة لفظ على معنى. وكان من المركوز في الطّباع، والرّاسخ في غرائز العقول، أنه متى أريد الدّلالة على معنى، فترك أن يصرّح به ويذكر باللّفظ الذي هو له في اللغة، وعمد إلى معنى آخر فأشير به إليه، وجعل دليلا عليه كان للكلام بذلك حسن ومزيّة لا يكونان إذا لم يصنع ذلك، وذكر بلفظه صريحا. ولا يكون هذا الذي ذكرت أنّه سبب فضل المفسّر على التفسير، من كون الدّلالة في المفسّر دلالة معنى على معنى، وفي التفسير دلالة لفظ على معنى، حتى يكون للفظ المفسّر معنى معلوم يعرفه السامع، وهو غير معنى لفظ التفسير في نفسه وحقيقته، كما ترى من أنّ الّذي هو معنى اللفظ في قولهم: «هو كثير رماد القدر»، غير الّذي هو معنى اللفظ في قولهم: «هو كثير القرى»، ولو لم يكن كذلك، لم يتصوّر أن يكون هاهنا دلالة معنى على معنى. وإذ قد عرفت هذه الجملة، فقد حصل لنا منها أن المفسّر يكون له دلالتان: دلالة اللّفظ على المعنى، ودلالة المعنى الذي دلّ اللّفظ عليه على معنى لفظ آخر ولا

يكون للتفسير إلّا دلالة واحدة، وهي دلالة اللفظ. وهذا الفرق هو سبب أن كان للمفسّر الفضل والمزيّة على التفسير. ومحال أن يكون هذا قضيّة المفسّر والتّفسير في ألفاظ اللغة، ذاك لأن معنى المفسّر يكون دالّا مجهولا عند السامع، ومحال أن يكون للمجهول دلالة. ثم إن معنى المفسّر يكون هو معنى التفسير بعينه، ومحال إذا كان المعنى واحدا أن يكون للمفسّر فضل على التفسير، لأن الفضل كان في مسألتنا بأن دلّ لفظ المفسّر على معنى، ثم دلّ معناه على معنى آخر. وذلك لا يكون مع كون المعنى واحدا ولا يتصوّر. بيان هذا: أنّه محال أن يقال إن معنى «الشّرجب» الذي هو المفسّر، يكون دليلا على معنى تفسير الذي هو «الطويل» على وزان قولنا إن معنى: «كثير رماد القدر»، يدل على معنى تفسيره الذي هو «كثير القرى»، لأمرين: أحدهما: أنك لا تفسّر «الشرجب» حتى يكون معناه مجهولا عند السامع، ومحال أن يكون للمجهول دلالة. والثاني: أن المعنى في تفسيرنا «الشرجب» بالطويل، أن نعلم السامع أن معناه هو معنى الطويل بعينه. وإذا كان كذلك، كان محالا أن يقال: إن معناه يدل على معنى الطويل، بل الذي يعقل أن يقال: إنّ معناه هو معنى الطويل. فاعرف ذلك. وانظر إلى لعب الغفلة بالقوم، وإلى ما رأوا في منامهم من الأحلام الكاذبة! ولو أنهم تركوا الاستنامة إلى التقليد، والأخذ بالهوينا، وترك النّظر، وأشعروا قلوبهم أن هاهنا كلاما ينبغي أن يصغى إليه لعلموا، ولعاد إعجابهم بأنفسهم في سؤالهم هذا وفي سائر أقوالهم، عجبا منها ومن تطويح الظنون بها. وإذ قد بان سقوط ما اعترض به القوم وفحش غلطهم، فينبغي أن تعلم أن ليست المزايا التي تجدها لهذه الأجناس على الكلام المتروك على ظاهره، والمبالغة التي تحسّها في أنفس المعاني التي يقصد المتكلم بخبره إليها، ولكنّها في طريق إثباته لها، وتقريره إيّاها، وأنّك إذا سمعتهم يقولون: «إن من شأن هذه الأجناس أن تكسب المعاني مزيّة وفضلا، وتوجب لها شرفا ونبلا، وأن تفخّمها في نفوس السامعين» فإنهم لا يعنون أنفس المعاني، كالتي يقصد المتكلم بخبره إليها، كالقرى والشجاعة والتردّد في الرأي، وإنما يعنون إثباتها لما تثبت له ويخبر بها عنه. فإذا جعلوا للكناية مزيّة على التصريح، لم يجعلوا تلك المزيّة في المعنى المكني

عنه، ولكن في إثباته للذي يثبت له، وذلك أنا نعلم أن المعاني التي يقصد الخبر بها لا تتغيّر في أنفسها بأن يكنى عنها بمعان سواها، ويترك أن تذكر بالألفاظ التي هي لها في اللغة. ومن هذا الذي يشكّ أن معنى طول القامة وكثرة القرى لا يتغيّران بأن يكنى عنهما بطول النّجاد وكثرة رماد القدر، وتقدير التغيير فيهما يؤدّي إلى أن لا تكون الكناية عنهما، ولكن عن غيرهما؟ وقد ذكرت هذا في صدر الكتاب، وذكرت أن السبب في أن كان يكون للإثبات إذا كان من طريق «الكناية» مزيّة لا تكون إذا كان من طريق التصريح، أنك إذا كنيت عن كثرة القرى بكثرة رماد القدر، كنت قد أثبت كثرة القرى بإثبات شاهدها ودليلها، وما هو علم على وجودها، وذلك لا محالة يكون أبلغ من إثباتها بنفسها، وذلك لأنّه يكون سبيلها حينئذ سبيل الدعوى تكون مع شاهد. وذكرت أن السّبب في أن كانت «الاستعارة» أبلغ من الحقيقة، أنك إذا ادّعيت للرجل أنه أسد بالحقيقة، كان ذلك أبلغ وأشدّ في تسويته أنك إذا ادّعيت للرجل أنه أسد بالحقيقة، كان ذلك أبلغ وأشدّ في تسويته بالأسد في الشّجاعة. ذاك لأنه محال أن يكون من الأسود، ثم لا تكون له شجاعة الأسود. وكذلك الحكم في «التمثيل»، فإذا قلت: «أراك تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى»، كان أبلغ في إثبات التردّد له من أن تقول: «أنت كمن يقدّم رجلا ويؤخر أخرى». واعلم أنّه قد يهجس في نفس الإنسان شيء يظنّ من أجله أنّه ينبغي أن يكون الحكم في المزيّة التي تحدث بالاستعارة، أنها تحدث في المثبت دون الإثبات. وذلك أن تقول: إنّا إذا نظرنا إلى «الاستعارة»، وجدناها إنما كانت أبلغ من أجل أنها تدل على قوّة الشبه، وأنه قد تناهى إلى أن صار المشبّه لا يتميّز عن المشبه به في المعنى الذي من أجله شبّه به. وإذا كان كذلك، كانت المزيّة الحادثة بها حادثة في الشّبه. وإذا كانت حادثة في الشّبه، كانت في المثبت دون الإثبات. والجواب عن ذلك أن يقال: إن الاستعارة، لعمري، تقتضي قوّة الشّبه، وكونه بحيث لا يتميّز المشبه عن المشبّه به، ولكن ليس ذاك سبب المزيّة. وذلك لأنه لو كان ذاك سبب المزيّة، لكان ينبغي إذا جئت به صريحا فقلت: «رأيت رجلا مساويا للأسد في الشجاعة، وبحيث لولا صورته لظننت أنّك رأيت أسدا»، وما شاكل ذلك من ضروب المبالغة، أن تجد لكلامك المزية التي تجدها لقولك: «رأيت أسدا». وليس يخفى على عاقل أنّ ذلك لا يكون.

فإن قال قائل: إن المزيّة من أجل أنّ المساواة تعلم في «رأيت أسدا» من طريق المعنى، وفي «رأيت رجلا مساويا للأسد» من طريق اللفظ. قيل: قد قلنا فيما تقدم، إنه محال أن يتغير حال المعنى في نفسه، بأن يكنى عنه بمعنى آخر وأنه لا يتصوّر أن يتغيّر معنى طول القامة بأن يكنى عنه بطول النّجاد، ومعنى كثرة القرى بأن يكنى عنه بكثير الرّماد. وكما أنّ ذلك لا يتصوّر، فكذلك لا يتصوّر أن يتغير معنى مساواة الرّجل الأسد في الشجاعة، بأن يكنى عن ذلك ويدلّ عليه بأن تجعله «أسدا». فأنت الآن إذا نظرت إلى قوله: [من البسيط] فأسبلت لؤلؤا من نرجس، وسقت ... وردا، وعضّت على العنّاب بالبرد «1» فرأيته قد أفادك أن «الدّمع» كان لا يخرم من شبه اللؤلؤ، و «العين» من شبه النرجس شيئا، فلا تحسبنّ أن سبب الحسن الذي تراه فيه، والأريحية التي تجدها عنده، أنه أفادك ذلك فحسب. وذاك أنك تستطيع أن تجيء به صريحا فتقول: «فأسبلت دمعا كأنه اللّؤلؤ بعينه، من عين كأنها النّرجس حقيقة»، ثم لا ترى من ذلك الحسن شيئا. ولكن اعلم أنّ سبب أن راقك، وأدخل الأريحيّة عليك، أنه أفادك في إثبات شدّة الشبه مزيّة، وأوجدك فيه خاصّة قد غرز في طبع الإنسان أن يرتاح لها، ويجد في نفسه هزّة عندها، وهكذا حكم نظائره كقول أبي نواس: [من السريع] تبكي فتذري الدّرّ عن نرجس، ... وتلطم الورد بعنّاب «2» وقول المتنبي: [من الوافر] بدت قمرا، ومالت خوط بان، ... وفاحت عنبرا، ورنت غزالا «3» واعلم أن منشأ «الاستعارة» أنك كلما زدت إرادتك التشبيه إخفاء، ازدادت الاستعارة حسنا، حتى إنك تراها أغرب ما تكون إذا كان الكلام قد ألّف تأليفا إن

_ (1) البيت للوأواء الدمشقي، في ديوانه، ويروى: «فأمطرت» بدل «فأسبلت» وهي الرواية المشهورة. (2) البيت في ديوانه (349)، من أربعة أبيات قالها في جنان وهي: يا قمرا أبرزه مأتم ... يندب شجوا بين أتراب يبكي فيذري الدر من نرجس ... ويلطم الورد بعناب أبرزه المأتم لي كارها ... برغم بواب وحجاب لا زال موتا دأب أحبابه ... وكان إن أبصره وابى (3) البيت للمتنبي في ديوانه (1/ 184)، من قصيدة في مدح أبي الحسين بدر بن عمار بن إسماعيل الأسدي الطبرستاني ومطلعها: بقائي شاء ليس هم ارتحالا ... وحسن الصبر زموا لا الجمالا تولوا بغتة فكأن بينا ... تهيبني ففاجأني اغتيالا بدت: ظهرت، الخوط: الغصن الناعم، رنت: نظرت. راجع البيت ص (202) هامش (2).

أردت أن تفصح فيه بالتشبيه، خرجت إلى شيء تعافه النفس ويلفظه السمع، ومثال ذلك قول ابن المعتز: [من مجزوء الكامل] أثمرت أغصان راحته ... لجناة الحسن عنّابا «1» ألا ترى أنّك لو حملت نفسك على أن تظهر التشبيه وتفصح به، احتجت إلى أن تقول: «أثمرت أصابع يده التي هي كالأغصان لطالبي الحسن، شبيه العنّاب من أطرافها المخضوبة»، وهذا ما لا تخفى غثاثته. من أجل ذلك كان موقع «العناب» في هذا البيت أحسن منه في قوله: وعضّت على العنّاب بالبرد وذاك لأن إظهار التشبيه فيه لا يقبح هذا القبح المفرط، لأنك لو قلت: «وعضّت على أطراف أصابع العنّاب بثغر كالبرد»، كان شيئا يتكلّم بمثله وإن كان مرذولا. وهذا موضع لا يتبيّن سرّه إلّا من كان ملهب الطبع حادّ القريحة. وفي الاستعارة علم كثير، ولطائف معان، ودقائق فروق، وسنقول فيها إن شاء الله في موضع آخر. واعلم أنّا حين أخذنا في الجواب عن قولهم: «إنه لو كان الكلام يكون فصيحا من أجل مزيّة تكون في معناه، لكان ينبغي أن يكون تفسيره فصيحا مثله»، قلنا: «إن الكلام الفصيح ينقسم قسمين، قسم تعزى المزيّة فيه إلى اللفظ، وقسم تعزى فيه إلى النظم»، وقد ذكرنا في القسم الأول من الحجج ما لا يبقى معه لعاقل، إذا هو تأمّلها، شكّ في بطلان ما تعلّقوا به، من أنه يلزمنا في قولنا: «إنّ الكلام يكون فصيحا من أجل مزية تكون في معناه»، أن يكون تفسير الكلام الفصيح فصيحا مثله، وأنه تهوّس منهم، وتقحّم في المحالات. وأمّا القسم الذي تعزى فيه المزية إلى «النّظم» فإنهم إن ظنّوا أن سؤالهم الذي اغترّوا به يتّجه لهم فيه، كان أمرهم أعجب، وكان جهلهم في ذلك أغرب. وذلك أن «النظم»، كما بيّنا، إنّما هو توخّي معاني النحو وأحكامه وفروقه ووجوهه، والعمل

_ (1) البيت في ديوانه (40) ط، دار صادر، بيروت، وهو من قصيدة مطلعها: جار هذا الدهر أو آبا ... وقراك الهم أو صابا ووفود النجم واقفة ... لا ترى في الغرب أبوابا والجناة: القاطفون. العناب: أراد أنامله التي تشبه العناب باحمرارها. ورواية الديوان: «لجناة الحسن» بدل «بجنان الحسن».

بقوانينه وأصوله، وليست معاني النّحو معاني ألفاظ، فيتصوّر أن يكون لها تفسير. وجملة الأمر، أن «النظم» إنما هو أن «الحمد» من قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مبتدأ، و «لله» خبره، و «ربّ» صفة لاسم الله تعالى ومضاف إلى «العالمين» و «العالمين» مضاف إليه، و «الرحمن الرحيم» صفتان كالرب، و «مالك» من قوله: «مالك يوم الدّين» صفة أيضا، ومضاف إلى يوم. و «يوم» مضاف إلى «الدين»، و «إيّاك» ضمير اسم الله تعالى، وهو ضمير يقع موقع الاسم إذا كان الاسم منصوبا، معنى ذلك أنك لو ذكرت اسم الله مكانه لقلت: «الله نعبد»، ثم إنّ «نعبد» هو المقتضى معنى النصب فيه، وكذلك حكم «إيّاك نستعين». ثم إنّ جملة «إيّاك نستعين» معطوف بالواو على جملة «إيّاك نعبد»، و «الصّراط» مفعول، و «المستقيم» صفة للصّراط، و «صراط الّذين» بدل من «الصراط المستقيم»، «وأنعمت عليهم» صلة الذين، «وغير المغضوب عليهم» صفة «الذين»، و «الضّالين» معطوف على «المغضوب عليهم». فانظر الآن هل يتصوّر في شيء من هذه المعاني أن يكون معنى اللفظ؟ وهل يكون كون «الحمد» مبتدأ معنى لفظ الحمد؟ أم يكون كون «رب» صفة وكونه مضافا إلى «العالمين» معنى لفظ «الرب»؟. فإن قيل: إنّه إن لم تكن هذه المعاني أنفس الألفاظ، فإنها تعلم على كل حال من ترتيب الألفاظ، ومن الإعراب، فبالرفعة في «الدال» من «الحمد» يعلم أنه مبتدأ، وبالجر في «الباء» من «رب» يعلم أنه صفة، وبالياء في «العالمين» يعلم أنه مضاف إليه، وعلى هذا قياس الكلّ. قيل: ترتيب اللفظ لا يكون لفظا، والإعراب وإن كان يكون لفظا، فإنه لا يتصوّر أن يكون هاهنا لفظان كلاهما علامة إعراب، ثم يكون أحدهما تفسيرا للآخر. وزيادة القول في هذا من خطل الرأي، فإنه مما يعلمه العاقل ببديهة النظر، ومن لم يتنبّه له في أول ما يسمع، لم يكن أهلا لأن يكلّم. ونعود إلى رأس الحديث فنقول: قد بطل الآن من كل وجه وكل طريق، أن تكون «الفصاحة» وصفا للفظ من حيث هو لفظ ونطق لسان. وإذا كان هذا صورة الحال وجملة الأمر، ثم لم تر القوم تفكّروا في شيء مما شرحناه بحال، ولا أخطروه لهم ببال، بان وظهر أنهم لم يأتوا الأمر من بابه، ولم يطلبوه من معدنه، ولم يسلكوا إليه طريقه، وأنّهم لم يزيدوا على

أن أوهموا أنفسهم وهما كاذبا أنهم قد أبانوا الوجه الذي به كان القرآن معجزا، والوصف الذي به بان من كلام المخلوقين، من غير أن يكونوا قد قالوا فيه قولا يشفى من شاكّ غليلا، ويكون على علم دليلا، وإلى معرفة ما قصدوا إليه سبيلا. واعلم أنه إذا نظر العاقل إلى هذه الأدلّة فرأى ظهورها، استبعد أن يكون قد ظنّ ظانّ في «الفصاحة» أنّها من صفة اللفظ صريحا. ولعمري إنه لكذلك ينبغي، إلّا أنّا إنما ننظر إلى جدّهم وتشدّدهم وبتّهم الحكم «بأن المعاني لا تتزايد وإنما تتزايد الألفاظ»، فلئن كانوا قد قالوا «الألفاظ» وهم لا يريدونها أنفسها، وإنما يريدون لطائف معان تفهم منها، لقد كان ينبغي أن يتبعوا ذلك من قولهم ما ينبئ عن غرضهم، وأن يذكروا أنهم عنوا بالألفاظ ضربا من المعنى، أن غرضهم مفهوم خاصّ. هذا، وأمر «النظم» في أنه ليس شيئا غير توخّي معاني النحو فيما بين الكلم، وأنك ترتّب المعاني، أوّلا في نفسك، ثم تحذو على ترتيبها الألفاظ في نطقك، وأنّا لو فرضنا أن تخلو الألفاظ من المعاني، لم يتصوّر أن يجب فيها نظم وترتيب في غاية القوة والظهور، ثمّ ترى الذين لهجوا بأمر «اللفظ» قد أبوا إلّا أن يجعلوا «النّظم» في الألفاظ. ترى الرّجل منهم يرى ويعلم أن الإنسان لا يستطيع أن يجيء بالألفاظ مرتّبة إلّا من بعد أن يفكّر في المعاني ويرتّبها في نفسه على ما أعلمناك، وثم تفتّشه فتراه لا يعرف الأمر بحقيقته، وتراه ينظر إلى حال السامع، فإذا رأى المعاني لا تقع مرتّبة في نفسه إلا من بعد أن تقع الألفاظ مرتبة في سمعه، نسي حال نفسه، واعتبر حال من يسمع منه. وسبب ذلك قصر الهمّة، وضعف العناية، وترك النّظر، والأنس بالتقليد. وما يغني وضوح الدّلالة مع من لا ينظر فيها، وإنّ الصّبح ليملأ الأفق، ثم لا يراه النائم ومن قد أطبق جفنه؟. واعلم أنك لا ترى في الدّنيا علما قد جرى الأمر فيه بديئا وأخيرا على ما جرى عليه في «علم الفصاحة والبيان». أما البديء، فهو أنك لا ترى نوعا من أنواع العلوم إلّا وإذا تأملت كلام الأوّلين الذين علّموا الناس، وجدت العبارة فيه أكثر من الإشارة، والتصريح أغلب من التّلويح. والأمر في «علم الفصاحة» بالضد من هذا. فإنك إذا قرأت ما قاله العلماء فيه، وجدت جلّه أو كلّه رمزا ووحيا، وكناية وتعريضا، وإيماء إلى الغرض من وجه لا يفطن له إلّا من غلغل الكفر وأدقّ النّظر، ومن يرجع من طبعه إلى ألمعيّة يقوى معها على الغامض، ويصل بها إلى الخفي، حتى كأنّ بسلا حراما أن تتجلّى معانيهم سافرة

الأوجه لا نقاب لها، وبادية الصّفحة لا حجاب دونها، وحتى كأن الإفصاح بها حرام، وذكرها إلا على سبيل الكناية والتعريض غير سائغ. وأما الأخير، فهو أنّا لم نر العقلاء قد رضوا من أنفسهم في شيء من العلوم أن يحفظوا كلاما للأوّلين ويتدارسوه، ويكلّم به بعضهم بعضا، من غير أن يعرفوا له معنى، ويقفوا منها على غرض صحيح، ويكون عندهم، إن يسألوا عنه، بيان له وتفسير إلا «علم الفصاحة»، فإنّك ترى طبقات من الناس يتداولون فيما بينهم ألفاظا للقدماء وعبارات، من غير أن يعرفوا لها معنى أصلا، أو يستطيعوا- إن يسألوا عنها- أن يذكروا لها تفسيرا يصحّ. فمن أقرب ذلك، أنك تراهم يقولون إذا هم تكلموا في مزيّة كلام على كلام: «إن ذلك يكون بجزالة اللّفظ» وإذا تكلّموا في زيادة نظم على نظم: «إن ذلك يكون لوقوعه على طريقة مخصوصة وعلى وجه دون وجه»، ثم لا تجدهم يفسّرون الجزالة بشيء، ويقولون في المراد «بالطريقة» و «الوجه» ما يحلى منه السامع بطائل. ويقرءون في كتب البلغاء ضروب كلام قد وصفوا «اللّفظ» فيها بأوصاف يعلم ضرورة إليه من حيث هو لفظ ونطق لسان وصدى حرف، وكقولهم: «لفظ متمكّن غير قلق ولا ناب به موضعه، وإنّه جيّد السبك صحيح الطّابع، وأنه ليس فيه فضل عن معناه» وكقولهم: «إن من حقّ اللفظ أن يكون طبقا للمعنى، لا يزيد عليه ولا ينقص عنه» وكقول بعض من وصف رجلا من البلغاء: «كانت ألفاظه قوالب لمعانيه»، هذا إذا مدحوه وقولهم إذا ذمّوه: «هو لفظ معقّد، وإنه بتعقيده قد استهلك المعنى»، وأشباه لهذا، ثم لا يخطر ببالهم أنه يجب أن يطلب لما قالوه معنى، وتعلم له فائدة، ويجشّم فيه فكر، وأن يعتقد على الجملة أقلّ ما في الباب، أنه كلام لا يصحّ حمله على ظاهره، وأن يكون المراد «باللفظ» فيه نطق اللسان. فالوصف بالتّمكّن والقلق في «اللفظ» محال، فإنما يتمكن الشّيء ويقلق إذا كان شيئا يثبت في مكان، و «الألفاظ» حروف لا يوجد منها حرف حتى يعدم الذي كان قبله. وقولهم: «متمكّن» أو «قلق» وصف للكلمة بأسرها، لا حرف حرف منها. ثم إنه لو كان يصحّ في حروف الكلمة أن تكون باقية بمجموعها، لكان ذلك فيها محالا أيضا، من حيث أنّ الشيء إنما يتمكن ويقلق في مكان الذي يوجد فيه، ومكان الحروف إنّما هو الحلق والفم واللسان والشفتان، فلو كان يصحّ عليها أن توصف بأنها تتمكّن وتقلق، لكان يكون ذلك التمكّن وذلك القلق منها في أماكنها من الحلق والفم واللسان والشفتين.

وكذلك قولهم: «لفظ ليس فيه فضل عن معناه»، محال أن يكون المراد به «اللّفظ»، لأنه ليس هاهنا اسم أو فعل أو حرف يزيد على معناه أو أن ينقص عنه. كيف؟ وليس بالذّرع وضعت الألفاظ على المعاني. وإن اعتبرنا المعاني المستفادة من الجمل، فكذلك. وذلك أنه ليس هاهنا جملة من مبتدأ وخبر أو فعل وفاعل، يحصل بها الإثبات أو النّفي، أتمّ أو أنقص مما يحصل بأخرى. وإنّما فضل اللفظ عن المعنى: أن تزيد الدّلالة بمعنى على معنى، فتدخل في أثناء ذلك شيئا لا حاجة بالمعنى المدلول عليه إليه. وكذلك السبيل في «السّبك والطّابع» وأشباههما، لا يحتمل شيء من ذلك أن يكون المراد به «اللّفظ» من حيث هو لفظ. فإن أردت الصدق، فإنّك لا ترى في الدنيا شأنا أعجب من شأن الناس مع «اللفظ»، ولا فساد رأي مازج النفوس وخامرها واستحكم فيها وصار كإحدى طبائعها، من رأيهم في «اللفظ». فقد بلغ من ملكته لهم وقوّته عليهم، أن تركهم وكأنهم إذا نوظروا فيه أخذوا عن أنفسهم، وغيّبوا عن عقولهم، وحيل بينهم وبين أن يكون لهم فيما يسمعونه نظر، ويرى لهم إيراد في الإصغاء وصدر، فلست ترى إلا نفوسا قد جعلت ترك النّظر دأبها، ووصلت بالهوينا أسبابها، فهي تغترّ بالأضاليل وتتباعد عن التحصيل، وتلقي بأيديها إلى الشّبه، وتسرع إلى القول المموّه. ولقد بلغ من قلّة نظرهم أن قوما منهم لما رأوا الكتب المصنّفة في اللّغة قد شاع فيها أن توصف الألفاظ المفردة بالفصاحة، ورأوا أبا العباس ثعلبا قد سمّى كتابه «الفصيح» «1»، مع أنه لم يذكر فيه إلّا اللغة والألفاظ المفردة، وكان محالا إذا قيل: إن «الشّمع» بفتح الميم، أفصح من «الشّمع» بإسكانه، وأن يكون ذلك من أجل المعنى، إذ ليس تفيد الفتحة في الميم شيئا في الذي سمّي به سبق إلى قلوبهم أنّ حكم الوصف بالفصاحة أينما كان وفي أيّ شيء كان، أن لا يكون له مرجع إلى المعنى البتّة، وأن يكون وصفا للّفظ في نفسه، ومن حيث هو لفظ ونطق لسان ولم يعلموا أن المعنى في وصف الألفاظ المفردة بالفصاحة، أنها في اللّغة أثبت، وفي استعمال الفصحاء أكثر. أو أنها أجرى على مقاييس اللغة والقوانين التي وضعوها، وأنّ الذي هو معنى «الفصاحة» في أصل اللغة، هو الإبانة عن المعنى، بدلالة قولهم: «فصيح» و «أعجم»،

_ (1) كتاب في الأدب واللغة لثعلب النحوي المتوفى سنة (291 هـ)، وله شروح كثيرة منها شرح المبرد، كشف الظنون (2/ 1272).

وقولهم: «أفصح الأعجمي»، و «فصح اللّحّان» و «أفصح الرّجل بكذا»، إذا صرّح به وأنه لو كان وصفهم الكلمات المفردة بالفصاحة من أجل وصف هو لها من حيث هي ألفاظ ونطق لسان، لوجب إذا وجدت كلمة يقال إنها كلمة فصيحة على صفة في اللّفظ؛ أن لا توجد كلمة على تلك الصّفة، إلا وجب لها أن تكون فصيحة، وحتى يجب إذا كانت «فقهت الحديث» بالكسر أفصح منه بالفتح، أن يكون سبيل كلّ فعل مثله في الزّنة أن يكون الكسر فيه أفصح من الفتح. ثم إنّ فيما أودعه ثعلب كتابه، ما هو أفصح، من أجل أن لم يكن فيه حرف كان فيما جعله أفصح منه، ومثل أنّ «وقفت» أفصح من «أوقفت»، أفترى أنّه حدث في «الواو» و «القاف» و «الفاء» بأن لم يكن معها الهمزة، فضيلة وجب لها أن تكون أفصح؟ وكفى برأي هذا مؤدّاه تهافتا وخطلا! وجملة الأمر أنه لا بدّ لقولنا «الفصاحة» من معنى يعرف، فإن كان ذلك المعنى وصفا في ألفاظ الكلمات المفردة، فينبغي أن يشار لنا إليه، وتوضع اليد عليه. ومن أبين ما يدلّ على قلة نظرهم، أنه لا شبهة على من نظر في كتاب تذكر فيه «الفصاحة»، أن «الاستعارة» عنوان ما يجعل به «اللفظ» فصيحا، وأن «المجاز» جملته، و «الإيجاز» من معظم ما يوجب للّفظ الفصاحة. وأنت تراهم يذكرون ذلك ويعتمدونه، ثم يذهب عنهم أن إيجابهم «الفصاحة» للفظ بهذه المعاني، اعتراف بصحّة ما نحن ندعوهم إلى القول به، من أنّه يكون فصيحا لمعناه. أما «الاستعارة»، فإنهم إن أغفلوا فيها الذي قلناه، من أن المستعار بالحقيقة يكون معنى «اللفظ»، واللّفظ تبع، من حيث أنا لا نقول: «رأيت أسدا»، ونحن نعني رجلا، إلّا على أنّا ندّعي أنّا رأينا أسدا بالحقيقة، من حيث نجعله لا يتميّز عن الأسد في بأسه وبطشه وجرأة قلبه فإنهم على كل حال لا يستطيعون أن يجعلوا «الاستعارة» وصفا للّفظ من حيث هو لفظ، مع أن اعتقادهم أنك إذا قلت: «رأيت أسدا»، كنت نقلت اسم «الأسد» إلى «الرجل»، أو جعلته هكذا غفلا ساذجا في معنى شجاع. أفترى أن لفظ «الأسد» لما نقل عن السبع إلى «الرجل» المشبه به، أحدث هذا النقل في أجراس حروفه ومذاقتها وصفا صار بذلك الوصف فصيحا؟ ثم إن من «الاستعارة» قبيلا «1» لا يصحّ أن يكون المستعار فيه «اللفظ» البتّة،

_ (1) القبيل: الكفيل والعريف والضامن القاموس «قبل» (1351).

ولا يصحّ أن تقع الاستعارة فيه إلا على المعنى. وذلك ما كان مثل «اليد» في قول لبيد: [من الكامل] وغداة ريح قد كشفت وقرّة، ... إذ أصبحت بيد الشّمال زمامها «1» ذاك أنه ليس هاهنا شيء يزعم أنّ شبهه باليد، حتى يكون لفظ «اليد» مستعارا له، وكذلك ليس فيه شيء يتوهّم أن يكون قد شبّهه بالزمام، وإنما المعنى على أنه شبه «الشّمال» في تصريفها «الغداة» على طبيعتها، بالإنسان يكون زمام البعير في يده، فهو يصرّفه على إرادته، ولما أراد ذلك جعل للشّمال يدا، وعلى الغداة زماما. وقد شرحت هذا قبل شرحا شافيا. وليس هذا الضّرب من الاستعارة بدون الضرب الأول في إيجاب وصف «الفصاحة» للكلام، لا بل هو أقوى منه في اقتضائها. والمحاسن التي تظهر به، والصّور التي تحدث للمعاني بسببه، آنق وأعجب. وإن أردت أن تزداد علما بالذي ذكرت لك من أمره، فانظر إلى قوله: [من الرجز] سقته كفّ اللّيل أكواس الكرى «2» وذلك أنه ليس يخفى على عاقل أنه لم يرد أن يشبّه شيئا بالكفّ، ولا أراد ذلك في «الأكواس»، ولكن لما كان يقال: «سكر الكرى»، و «سكر النوم»، استعار للكرى «الأكواس»، كما استعار الآخر «الكاس» في قوله: [من البسيط] وقد سقى القوم كأس النّعسة السّهر «3» ثمّ إنه لمّا كان الكرى يكون في الليل، جعل الليل ساقيا، ولما جعله ساقيا جعل له كفّا، إذ كان السّاقي يناول الكأس بالكفّ. ومن اللّطيف النادر في ذلك، ما تراه في آخر هذه الأبيات، وهي للحكم بن قنبر: [من الطويل] ولولا اعتصامي بالمنى كلّما بدا ... لي اليأس منها، لم يقم بالهوى صبري ولولا انتظاري كلّ يوم جدى غد، ... لراح بنعشي الدّافنون إلى قبري

_ (1) سبق ص (278) هامش (2). (2) أكؤس: جمع الكأس، وفي مطبوعة الشيخ محمود شاكر: أكواس. (3) البيت لأبي دهبل الجمحي، وهو في ديوانه.

وقد رابني وهن المنى وانقباضها ... وبسط جديد اليأس كفّيه في صدري ليس المعنى على أنه استعار لفظ «الكفين» لشيء، ولك على أنّه أراد أن يصف اليأس بأنه قد غلب على نفسه، وتمكّن في صدره. لو ما أراد ذلك وصفه بما يصفون فيه الرجل بفضل القدرة على الشيء. وبأنّه ممكّن منه، وأن يفعل فيه كلّ ما يريد، كقولهم: «قد بسط يديه في المال ينفقه ويصنع فيه ما يشاء»، و «قد بسط العمل يده في الناحية وفي ظلم الناس»، فليس لك إلّا أن تقول: إنه لما أراد ذلك، جعل لليأس «كفّين»، واستعارهما له، فأمّا أن توقع الاستعارة فيه على «اللفظ»، فما لا تخفى استحالته على عاقل. والقول في «المجاز» هو القول في «الاستعارة»، لأنه ليس هو بشيء غيرها، وإنما الفرق أنّ «المجاز» أعمّ، من حيث أن كلّ استعارة مجاز، وليس كلّ مجاز استعارة. وإذا نظرنا من «المجاز» فيما لا يطلق عليه أنه «استعارة»، ازداد خطأ القوم قبحا وشناعة. وذلك أنه يلزم على قياس قولهم أن يكون إنّما كان قوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً [يونس: 67]، أفصح من أصله الذي هو قولنا: «والنهار لتبصروا أنتم فيه، أو مبصرا أنتم فيه»، من أجل أنه حدث في حروف «مبصر» بأن جعل الفعل للنّهار على سعة الكلام وصف لم يكن. وكذلك يلزم أن يكون السبب في أن كان قول الشاعر: [من الرجز] فنام ليلي وتجلّى همّي «1» أفصح من قولنا: فنمت في ليلي أن كسب هذا المجاز لفظ «نام» ولفظ «الليل» مذاقة لم تكن لهما. وهذا مما ينبغي للعاقل أن يستحي منه، وأن يأنف من أن يهمل النّظر إهمالا يؤدّيه إلى مثله، ونسأل الله تعالى العصمة والتوفيق. وإذ قد عرفت ما لزمهم في «الاستعارة» و «المجاز»، فالذي يلزمهم في «الإيجاز» أعجب. وذلك أنه يلزمهم إن كان «اللّفظ» فصيحا لأمر يرجع إليه نفسه دون معناه أن يكون كذلك موجزا لأمر يرجع إلى نفسه. وذلك من المحال الذي يضحك منه، لأنه لا معنى للإيجاز إلّا أن يدلّ بالقليل من اللفظ على الكثير من المعنى، وإذا لم تجعله وصفا للّفظ من أجل معناه، أبطلت معناه، أعني أبطلت معنى الإيجاز.

_ (1) راجع ص (197) هامش (1).

ثم إن هاهنا معنى شريفا قد كان ينبغي أن نكون قد ذكرناه في أثناء ما مضى من كلامنا، وهو أنّ العاقل إذا نظر علم علم ضرورة أنه لا سبيل له إلى أن يكثّر معاني الألفاظ أو يقلّلها، لأن المعاني المودعة في الألفاظ لا تتغيّر على الجملة عمّا أراده واضع اللّغة، وإذا ثبت ذلك، ظهر منه أنّه لا معنى لقولنا: «كثرة المعنى مع قلّة اللفظ»، غير أن «المتكلم يتوصّل بدلالة المعنى على المعنى إلى فوائد، لو أنه أراد الدّلالة عليها باللّفظ لاحتاج إلى لفظ كثير. واعلم أنّ القول الفاسد والرأي المدخول، إذا كان صدره عن قوم لهم نباهة وصيت وعلوّ منزلة في أنواع من العلوم غير العلم الذي قالوا ذلك القول فيه، ثم وقع في الألسن فتداولته ونشرته، وفشا وظهر، وكثر الناقلون له والمشيدون بذكره صار ترك النّظر فيه سنّة، والتقليد دينا، ورأيت الذين هم أهل ذلك العلم وخاصّته والممارسون له، والذين هم خلقاء أن يعرفوا وجه الغلط والخطأ فيه لو أنهم نظروا فيه كالأجانب الذين ليسوا من أهله، في قبوله والعمل به والرّكون إليه، ووجدتهم قد أعطوه مقادتهم، وألانوا له جانبهم، وأوهمهم النّظر إلى منتماه ومنتسبه، ثم اشتهاره وانتشاره وإطباق الجمع بعد الجمع عليه أن الضّنّ به أصوب، والمحاماة عليه أولى. ولربّما بل كلّما ظنّوا أنه لم يشع ولم يتّسع، ولم يروه خلف عن سلف، وآخر عن أوّل، إلّا لأن له أصلا صحيحا، وأنه أخذ من معدن صدق، واشتقّ من نبعة كريمة، وأنه لو كان مدخولا لظهر الدّخل «1» الذي فيه على تقادم الزّمان وكرور الأيام. وكم من خطأ ظاهر ورأي فاسد حظي بهذا السّبب عند النّاس، حتى بوّءوه في أخصّ موضع من قلوبهم، ومنحوه المحبة الصادقة من نفوسهم، وعطفوا عليه عطف الأمّ على واحدها. وكم من داء دويّ قد استحكم بهذه العلّة، حتى أعيا علاجه، وحتّى بعل به «2» الطبيب. ولولا سلطان هذا الذي وصفت على الناس، وأنّ له أخذة تمنع القلوب عن التدبّر، وتقطع عنها دواعي التفكّر لما كان لهذا الّذي ذهب إليه القوم في أمر «اللفظ» هذا التمكّن وهذه القوة، ولا كان يرسخ في النفوس هذا الرّسوخ، وتنشعب عروقه هذا الشّعب، مع الذي بان من تهافته وسقوطه وفحش الغلط فيه، وأنّك لا ترى في أديمه من أين نظرت، وكيف صرّفت وقلّبت مصحّا، ولا تراه باطلا فيه شوب من الحق، وزيفا فيه شيء من الفضّة، ولكن ترى الغشّ بحتا والغيظ صرفا، ونسأل الله التوفيق.

_ (1) الدخل: الفساد وقوله «لظهر الدخل»: جواب الشرط: وهو «كلّما ظنوا». (2) بعل الطبيب بأمره: دهش وجرم ولم يدر ما يصنع. القاموس «برم» (249). الأخذة: رقية كالسحر. القاموس «أخذ» (421).

وكيف لا يكون في إسار الأخذة، ومحولا بينه وبين الفكرة من يسلّم أن الفصاحة لا تكون في أفراد الكلمات، وأنها إنّما تكون فيها إذا ضمّ بعضها إلى بعض، ثم لا يعلم أنّ ذلك يقتضي أن تكون وصفا لها، من أجل معانيها، لا من أجل أنفسها، ومن حيث هي ألفاظ ونطق لسان؟ ذاك لأنه ليس من عاقل يفتح عين قلبه، إلّا وهو يعلم ضرورة أنّ المعنى في «ضمّ بعضها إلى بعض»، تعليق بعضها ببعض، وجعل بعضها بسبب من بعض، لا أن ينطق بعضها في أثر بعض، من غير أن يكون فيما بينها تعلّق، ويعلم كذلك ضرورة إذا فكّر، أن التعلّق يكون فيما بين معانيها، لا فيما بينها أنفسها. ألا ترى أنّا لو جهدنا كلّ الجهد أن نتصوّر تعلّقا فيما بين لفظين لا معنى تحتهما، لم نتصوّر؟ ومن أجل ذلك انقسمت الكلم قسمين: «مؤتلف» وهو الاسم مع الاسم، والفعل مع الاسم، و «غير مؤتلف» وهو ما عدا ذلك كالفعل مع الفعل، والحرف مع الحرف. ولو كان التعلّق يكون بين الألفاظ، لكان ينبغي أن لا يختلف حالها في الائتلاف، وأن لا يكون في الدنيا كلمتان إلّا ويصحّ أن يأتلفا، لأنه لا تنافي بينهما من حيث هي ألفاظ. وإذا كان كلّ واحد منهم قد أعطى يده بأن الفصاحة لا تكون في الكلم أفرادا، وأنّها إنّما تكون إذا ضمّ بعضها إلى بعض، وكان يكون المراد بضمّ بعضها إلى بعض، تعليق معانيها بعضها ببعض، لا كون بعضها في النّطق على إثر بعض كان واجبا، وإذا علم ذلك، أن يعلم أنّ الفصاحة تجب لها من أجل معانيها، لا من أجل أنفسها، لأنه محال أن يكون سبب ظهور الفصاحة فيها، تعلّق معانيها بعضها ببعض، ثم تكون الفصاحة وصفا يجب لها لأنفسها لا لمعانيها. وإذا كان العلم بهذا ضرورة، ثم رأيتهم لا يعلمونه، فليس إلّا أن اعتزامهم على التّقليد قد حال بينهم وبين الفكرة، وعرض لهم منه شبه الأخذة. واعلم أنّك إذا نظرت وجدت مثلهم مثل من يرى خيال الشيء فيحسبه الشيء. وذاك أنهم قد اعتمدوا في كلّ أمرهم على النّسق الذي يرونه في الألفاظ، وجعلوا لا يحفلون بغيره، ولا يعوّلون في الفصاحة والبلاغة على شيء سواه، حتى انتهوا إلى أن زعموا أن من عمد إلى شعر فصيح فقرأه ونطق بألفاظه على النّسق الذي وضعها الشاعر عليه، كان قد أتى بمثل ما أتى به الشاعر في فصاحته وبلاغته إلّا أنهم زعموا أنه يكون في إتيانه به محتذيا لا مبتدئا. ونحن إذا تأمّلنا وجدنا الذي يكون في الألفاظ من تقديم شيء منها على

شيء، إنما يقع في النفس أنّه «نسق»، إذا اعتبرنا ما توخّي من معاني النحو في معانيها، فأمّا مع ترك اعتبار ذلك، فلا يقع ولا يتصوّر بحال. أفلا ترى أنك لو فرضت في قوله: [من الطويل] قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل «1» أن لا يكون «نبك» جوابا للأمر، ولا يكون معدّى «بمن» إلى «ذكرى»، ولا يكون «ذكرى» مضافة إلى «حبيب»، ولا يكون «منزل» معطوفا بالواو على «حبيب» لخرج ما ترى فيه من التقديم والتأخير عن أن يكون «نسقا»؟ ذاك لأنه إنما يكون تقديم الشيء على الشيء نسقا وترتيبا، إذا كان ذلك التقديم قد كان لموجب أوجب ن يقدّم هذا ويؤخّر ذاك، فأمّا أن يكون مع عدم الموجب نسقا، فمحال، لأنه لو كان يكون تقديم اللفظ على اللفظ من غير أن يكون له موجب «نسقا»، لكان ينبغي أن يكون توالي الألفاظ في النّطق على أي وجه كان «نسقا»، حتى إنّك لو قلت: «نبك قفا حبيب ذكرى من»، لم تكن قد أعدمته النسق والنظم، وإنما أعدمته الوزن فقط. وقد تقدّم هذا فيما مضى، ولكنّا أعدناه هاهنا، لأن الذي أخذنا فيه من إسلام القوم أنفسهم إلى التقليد، اقتضى إعادته. واعلم أن «الاحتذاء» عند الشعراء وأهل العلم بالشّعر وتقديره وتمييزه، أن يبتدئ الشاعر في معنى له وغرض أسلوبا- و «الأسلوب» الضّرب من النّظم والطريقة فيه فيعمد شاعر آخر إلى ذلك «الأسلوب» فيجيء به في شعره، فيشبّه بمن يقطع من أديمه نعلا على مثال نعل قد قطعها صاحبها، فيقال: «قد احتذى على مثاله»، وذلك مثل أنّ الفرزدق قال: [من الطويل] أترجو ربيع أن تجيء صغارها ... بخير، وقد أعيا ربيعا كبارها «2» واحتذاه البعيث فقال: [من الطويل] أترجو كليب أن يجيء حديثها ... بخير، وقد أعيا كليبا قديمها «3»

_ (1) البيت سبق في أكثر من موضع وسبق تخريجه، راجع ص (236) هامش رقم (1). (2) البيت في ديوانه (1/ 272) ط، دار صادر، بيروت، من ثلاث أبيات هو أولها في هجاء بني ربيع ابن الحارث رهط مرة بن محكان والبيتان اللذان بعده: عتلّون، صخابوا العشى كأنهم ... جداء من المعزى شديد يعارها إذا النجم وافى مغرب الشمس حاردت ... مقاري عبيد واشتكى القدر جارها (3) البيت من قصيدة البعيث في النقائض (109، 125).

وقالوا: إنّ الفرزدق لما سمع هذا البيت قال: [من الوافر] إذا ما قلت قافية شرودا ... تنحّلها ابن حمراء العجان «1» ومثل ذلك أنّ البعيث قال في هذه القصيدة: [من الطويل] كليب لئام النّاس قد تعلمونه ... وأنت إذا عدّت كليب لئيمها وقال البحتريّ: [من الطويل] بنو هاشم في كل شرق ومغرب ... كرام بني الدّنيا وأنت كريمها وحكى العسكريّ في «صنعة الشعر» «2» أن ابن الرّوميّ قال: قال لي البحتري: قول أبي نواس: [من الطويل] ولم أدر من هم غير ما شهدت لهم ... بشرقيّ ساباط الدّيار البسابس «3» مأخوذ من قول أبي خراش الهذليّ: [من الطويل] ولم أدر من ألقى عليه رداءه؟ ... سوى أنّه قد سلّ من ماجد محض قال فقلت: قد اختلف المعنى! فقال: أما ترى حذو الكلام حذوا واحدا؟ وهذا الذي كتبت من جليّ الأخذ في «الحذو»، وممّا هو في حدّ الخفيّ قول البحتريّ: [من الطويل] ولن ينقل الحسّاد مجدك بعد ما ... تمكّن رضوى واطمأن متالع «4» وقول أبي تمام: [من الكامل] ولقد جهدتم أن تزيلوا عزّه ... فإذا أبان قد رسا ويلملم «5» قد احتذى كل واحد منهما على قول الفرزدق: [من الكامل]

_ (1) هو في ديوانه، والنقائض (125)، و «تنحّلها»: انتحلها، وابن حمراء العجان: يعني البعيث لأن أمه أعجمية غير عربية. (2) أبو هلال العسكري صاحب «الصناعتين»، كشف الظنون (2/ 1082). (3) هو في ديوانه ص (83)، وساباط هو ساباط كسرى بالمدائن والبسابس: القفار. وفي رواية «ما هم» بدل «من هم»، وبه بدل لهم. (4) البيت في ديوانه، ورضوى ومتالع: جبلان. (5) البيت في ديوانه ص (258) من قصيدة يمدح فيها مالك بن طوق حين عزل عن الجزيرة مطلعها: أرض مصرّدة وأخرى تثجم ... تلك التي رزقت وأخرى تحرم والمصرّدة: الممنوعة، وتثجم: تمطر. وأما «أبان» و «يلملم» فهما جبلان.

فادفع بكفّك، إن أردت بناءنا، ... ثهلان ذا الهضبات، هل يتحلحل؟ «1» وجملة الأمر أنهم لا يجعلون الشاعر «محتذيا» إلّا بما يجعلونه به آخذا ومسترقا، قال ذو الرمة: [من الوافر] وشعر قد أرقت له غريب ... أجنّبه المساند والمحالا فبتّ أقيمه وأقدّ منه ... قوافي لا أريد لها مثالا «2» قال يقول: لا أحذوها على شيء سمعته. فأمّا أن يجعل إنشاد الشّعر وقراءته «احتذاء»، فما لا يعلمونه كيف؟ وإذا عمد عامد إلى بيت شعر فوضع مكان كلّ لفظة لفظا في معناه، كمثل أن يقول في قوله: [من البسيط] دع المكارم لا ترحل لبغيتها، ... واقعد فإنّك أنت الطّاعم الكاسي ذر المآثر لا تذهب لمطلبها، ... واجلس فإنك أنت الآكل اللّابس «3» لم يجعلوا ذلك «احتذاء» ولم يؤهّلوا صاحبه لأن يسموه «محتذيا»، ولكن يسمّون هذا الصنيع «سلخا» «4»، ويرذّلونه ويسخّفون المتعاطي له. فمن أين يجوز لنا أن نقول في صبيّ يقرأ قصيدة امرئ القيس: إنه احتذاه في قوله:

_ (1) البيت للفرزدق في ديوانه ص (157) من قصيدة مطلعها: إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتا، دعائمه أعزّ وأطول وثهلان: جبل، ويتحلحل: يتحرك، يقال: حلحل القوم أزالهم عن مواضعهم، والتحلحل: التحرّك، انظر البيت في اللسان (حلل)، وجاء برواية «ذو» بدلا من «ذا» والصواب ذا. وفي مقاييس اللغة (2/ 20)، وتاج العروس (ثهل)، (حلل)، وبلا نسبة في أساس البلاغة (ثهل). (2) البيتان لذي الرّمة في ديوانه ص (200)، والأول في أساس البلاغة (فعل)، والثاني في لسان العرب (سند). والأرق: السهر. المساند في الشّعر كالسّناد وهو من عيوب الشّعر. المحال من الكلام: ما صرف عن وجهه. وقوله: أقيمه، أي: أقيم الشّعر شعرا لا يقوله غيره. والبيتان من قصيدة له يمدح فيها بلال بن أبي بردة مطلعها: أراح فريق جيرتك الجمالا ... كأنهم يريدون احتمالا والاحتمال: الرحيل. (3) البيت للحطيئة في ديوانه ص (108)، والأزهية ص (175)، والأغاني (2/ 155)، وخزانة الأدب (6/ 299)، وشرح شواهد الشافية (ص 120)، وشرح شواهد المغني (2/ 916)، وشرح المفصل (6/ 15)، والشعر والشعراء (ص 334)، ولسان العرب (ذرق)، (طعم)، (كسا)، وتاج العروس (طعم)، (كسا)، وكتاب العين (1/ 143)، وبلا نسبة في تلخيص الشواهد (ص 418)، وكتاب العين (2/ 26). (4) السلخ: وهو نوع من أنواع السرقات الشعرية وهو الإلمام ومن أنواع السرقات «النسخ، المسخ ... ».

فقلت له لمّا تمطّى بصلبه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل «1» والعجب من أنّهم لم ينظروا فيعلموا أنه لو كان منشد الشّعر «محتذيا»، لكان يكون قائل شعر، كما أن الذي يحذو النّعل بالنعل يكون قاطع نعل. وهذا تقرير يصلح لأن يحفظ للمناظرة ينبغي أن يقال لمن يزعم أن المنشد إذا أنشد شعر امرئ القيس، كان قد أتى بمثله على سبيل «الاحتذاء»: أخبرنا عنك؟ لماذا زعمت أنّ المنشد قد أتى بمثل ما قاله امرؤ القيس؟ ألأنه نطق بأنفس الألفاظ التي نطق بها، أم لأنه راعى «النّسق» الذي راعاه في النّطق بها؟. فإن قلت: «إنّ ذلك لأنه نطق بأنفس الألفاظ التي نطق بها»، أحلت، لأنه إنما يصحّ أن يقال في الثاني أنه أتى بمثل ما أتى بمثل ما أتى به الأوّل، إذا كان الأوّل قد سبق إلى شيء فأحدثه ابتداء، وذلك في الألفاظ محال، إذ ليس يمكن أن يقال: إنه لم ينطق بهذه الألفاظ التي هي في قوله: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل «2» قبل امرئ القيس أحد. وإن قلت: إنّ ذلك لأنه قد راعى في نطقه بهذه الألفاظ «النّسق» الذي راعاه امرؤ القيس. قيل: إن كنت لهذا قضيت في المنشد أنّه قد أتى بمثل شعره، فأخبرنا عنك؟ إذا قلت: «إن التّحدي وقع في القرآن إلى أن يؤتى بمثله على جهة الابتداء»، ما تعني به؟ أتعني أنه يأتي في ألفاظ غير ألفاظ القرآن، بمثل الترتيب والنسق الذي تراه في ألفاظ القرآن؟ فإن قال: ذلك أعني. قيل له: أعلمت أنّه لا يكون الإتيان بالأشياء بعضها في أثر بعض على التوالي

_ (1) البيت في ديوانه (ص 117)، وجاءت بلفظ «بجوزه» بدلا من «بصلبه»، والبيت في الإيضاح (ص 265)، والبيتان في المعاني والبيان للطيبي (ص 320)، وتمطى بصلبه: تمدد بظهره ويروى بجوزه أي بجسده. وأردف أعجازا: تابع أواخره بأوائله. وناء بكلكل: ناء: بمعنى حط وبمعنى بعد والأولى أولى بالمقام أي: حط بصدره. (2) صدر بيت لامرئ القيس من معلقته المشهورة وسبق تخريجه.

نسقا وترتيبا، حتى تكون الأشياء مختلفة في أنفسها، ثم يكون للذي يجيء بها مضموما بعضها إلى بعض، غرض فيها ومقصود، لا يتمّ ذلك الغرض وذلك المقصود إلّا بأن يتخيّر لها مواضع، فيجعل هذا أوّلا، وذلك ثانيا؟ فإنّ هذا ما لا شبهة فيه على عاقل. وإذا كان الأمر كذلك، لزمك أن تبيّن الغرض الذي اقتضى أن تكون ألفاظ القرآن منسوقة النّسق الذي تراه. ولا مخلص له من هذه المطالبة، لأنه إذا أبى أن يكون المقتضي والموجب للذي تراه من النّسق، المعاني وجعله قد وجب لأمر يرجع إلى اللّفظ، لم تجد شيئا يحيل في وجوبه عليه البتّة، اللهمّ إلا أن يجعل الإعجاز في الوزن، يزعم أنّ «النسق» الذي تراه في ألفاظ القرآن إنما كان معجزا، من أجل أن كان قد حدث عنه ضرب من الوزن يعجز الخلق عن أن يأتوا بمثله. وإذا قال ذلك، لم يمكنه أن يقول: «إن التحدّي، وقع إلى أن يأتوا بمثله في فصاحته وبلاغته»، لأنّ الوزن ليس هو من الفصاحة والبلاغة في شيء، إذ لو كان له مدخل فيهما، لكان يجب في كلّ قصيدتين اتّفقتا في الوزن أن تتّفقا في الفصاحة والبلاغة. فإن دعا بعض الناس طول الإلف لما سمع من أن الإعجاز في اللفظ، إلى أن يجعله في مجرّد الوزن كان قد دخل في أمر شنيع، وهو أن يكون قد جعل القرآن معجزا، لا من حيث هو كلام، ولا بما به كان لكلام فضل على كلام! فليس بالوزن ما كان الكلام كلاما، ولا به كان كلام خيرا من كلام. وهكذا السبيل إن زعم زاعم أن الوصف المعجز هو «الجريان والسّهولة»، ثم يعني بذلك سلامته من أن تلتقي فيه حروف تثقل على اللّسان لأنه ليس بذلك كان الكلام كلاما، ولا هو بالذي يتناهى أمره إن عدّ في الفضيلة إلى أن يكون الأصل، وإلى أن يكون المعوّل عليه في المفاضلة بين كلام وكلام، فما به كان الشاعر مفلقا، والخطيب مصقعا، والكاتب بليغا. ورأينا العقلاء حيث ذكروا عجز العرب عن معارضة القرآن، قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلّم تحدّاهم وفيهم الشعراء والخطباء والذين يدلّون بفصاحة اللسان، والبراعة والبيان، وقوّة القرائح والأذهان، والذين أوتوا الحكمة وفصل الخطاب ولم نرهم قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلّم تحدّاهم وهم العارفون بما ينبغي أن يصنع، حتّى يسلم الكلام من أن تلتقي فيه حروف تثقل على اللّسان.

فصل [في ختام كتابه دلائل الإعجاز يصف به عمله]

ولما ذكروا معجزات الأنبياء عليهم السلام وقالوا: إنّ الله تعالى قد جعل معجزة كلّ نبي فيما كان أغلب على الذين بعث فيهم، وفيما كانوا يتباهون به، وكانت عوامّهم تعظّم به خواصّهم قالوا: إنّه لما كان السّحر الغالب على قوم فرعون، ولم يكن قد استحكم في زمان استحكامه في زمانه، جعل تعالى معجزة موسى عليه السلام في إبطاله وتوهينه ولمّا كان الغالب على زمان عيسى عليه السلام الطبّ، جعل الله تعالى معجزته في إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ولما انتهوا إلى ذكر نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلّم وذكر ما كان الغالب على زمانه، لم يذكروا إلا البلاغة والبيان والتصرّف في ضروب النّظم. وقد ذكرت في الذي تقدّم غير ما ذكرته هاهنا، مما يدلّ على سقوط هذا القول، وما دعاني إلى إعادة ذكره إلّا أنه ليس لتهالك النّاس في حديث «اللّفظ»، والمحاماة على الاعتقاد الذي اعتقدوه فيه وضنّ أنفسهم به حدّ، فأحببت لذلك أن لا أدع شيئا مما يجوز أن يتعلّق به متعلّق، ويلجأ إليه لاجئ، ويقع منه في نفس سامع شكّ، إلّا استقصيت في الكشف عن بطلانه. وهاهنا أمر عجيب، وهو أنه معلوم لكل من نظر، أن الألفاظ من حيث هي ألفاظ وكلم ونطق لسان، لا تختصّ بواحد دون آخر، وأنها إنما تختصّ إذا توخّى فيها النظم. وإذا كان كذلك، كان من رفع «النّظم» من البين، وجعل الإعجاز بجملته في سهولة الحروف وجريانها، جاعلا له فيما لا يصحّ إضافته إلى الله تعالى. وكفى بهذا دليلا على عدم التوفيق، وشدّة الضّلال عن الطريق. فصل [في ختام كتابه دلائل الإعجاز يصف به عمله] قد بلغنا في مداواة النّاس من دائهم، وعلاج الفساد الذي عرض في آرائهم كلّ مبلغ، وانتهينا إلى كلّ غاية، وأخذنا بهم عن المجاهل التي كانوا يتعسّفون فيها إلى السّنن اللّاحب، ونقلناهم عن الآجن المطروق إلى النّمير الذي يشفي غليل الشّارب، ولم ندع لباطلهم عرقا ينبض إلا كويناه، ولا للخلاف لسانا ينطق إلّا أخرسناه، ولم نترك غطاء كان على بصر ذي عقل إلّا حسرناه، فيا أيها السامع لما قلناه، والناظر فيما كتبناه، والمتصفّح لما دوّنّاه، إن كنت سمعت سماع صادق الرّغبة في أن تكون في أمرك على بصيرة، ونظرت نظر تامّ العناية في أن يورد ويصدر عن معرفة، وتصفّحت

تصفّح من إذا مارس بابا من العلم لم يقنعه إلا أن يكون على ذروة السّنام، ويضرب بالمعلّى من السّهام، فقد هديت لضالّتك، وفتح لك الطريق إلى بغيتك، وهيئ لك الأداة التي بها تبلغ بها، وأوتيت الآلة التي معها تصل. فخذ لنفسك بالتي هي أملأ ليديك، وأعوذ بالحظّ عليك، ووازن بين حالك الآن وقد تنبهت من رقدتك، وأفقت من غفلتك، وصرت تعلم إذا أنت خضت في أمر «اللّفظ» و «النظم» معنى ما تذكر، وتعلم كيف تورد وتصدر، وبينها وأنت من أمرها في عمياء، وخابط خبط عشواء، قصاراك أن تكرّر ألفاظا لا تعرف لشيء منها تفسيرا، وضروب كلام للبلغاء إن سئلت عن أغراضهم فيها لم تستطع لها تبيينا، فإنّك تراك تطيل التعجّب من غفلتك، وتكثر الاعتذار إلى عقلك من الذي كنت عليه طول مدّتك. ونسأل الله تعالى أن يجعل كل ما نأتيه، ونقصده وننتحيه، لوجهه خالصا، وإلى رضاه عز وجل مؤدّيا، ولثوابه مقتضيا، وللزّلفى عنده موجبا، بمنّه وفضله ورحمته.

فصل [في كشف شبهة جعل الفصاحة للألفاظ]

بسم الله الرّحمن الرّحيم فصل [في كشف شبهة جعل الفصاحة للألفاظ] اعلم أنه لما كان الغلط الذي دخل على الناس في حديث «اللفظ» كالداء الذي يسري في العروق، ويفسد مزاج البدن، وجب أن يتوخّى دائبا فيهم ما يتوخّاه الطبيب في النّاقة، من تعهّده بما يزيد في منّته، ويبقيه على صحّته، ويؤمنه النّكس في علّته. وقد علمنا أن أصل الفساد وسبب الآفة، هو ذهابهم عن أن من شأن المعاني أن تختلف عليها الصّور، وتحدث فيها خواصّ ومزايا من بعد أن لا تكون. وإنّك ترى الشاعر قد عمد إلى معنى مبتذل، فصنع فيه ما يصنع الصّانع الحاذق إذا هو أغرب في صنعة خاتم وعمل شنف وغيرهما من أصناف الحليّ. فإنّ جهلهم بذلك من حالها، هو الذي أغواهم واستهواهم، وورّطهم فيما تورّطوا فيه من الجهالات، وأدّاهم إلى التّعلّق بالمحالات. وذلك أنهم لما جهلوا شأن الصّورة، وضعوا لأنفسهم أساسا، وبنوا على قاعدة فقالوا: إنه ليس إلا المعنى واللفظ، ولا ثالث- وإنه إذا كان كذلك، وجب إذا كان لأحد الكلامين فضيلة لا تكون للآخر، ثم كان الغرض من أحدهما هو الغرض من صاحبه أن يكون مرجع تلك الفضيلة إلى اللفظ خاصّة، وأن لا يكون لها مرجع إلى المعنى، من حيث أنّ ذلك، زعموا، يؤدّي إلى التناقض، وأن يكون معناهما متغايرا وغير متغاير معا. ولمّا أقرّوا هذا في نفوسهم، حملوا كلام العلماء في كل ما نسبوا فيه الفضيلة إلى «اللّفظ» على ظاهره، وأبوا أن ينظروا في الأوصاف التي أتبعوها نسبتهم الفضيلة إلى «اللّفظ»، مثل قولهم: «لفظ متمكّن غير قلق ولا ناب به موضعه»، إلى سائر ما ذكرناه قبل، فيعلموا أنّهم لم يوجبوا للّفظ ما أوجبوه من الفضيلة، وهم يعنون نطق اللّسان وأجراس الحروف، ولكن جعلوا كالمواضعة فيما بينهم أن يقولوا «اللفظ»، وهم يريدون الصّورة التي تحدث في المعنى، والخاصّة التي حدثت فيه، ويعنون الذي عناه الجاحظ حيث قال.

«وذهب الشّيخ إلى استحسان المعاني، والمعاني مطروحة وسط الطريق، يعرفها العربيّ والعجميّ، والحضريّ والبدويّ، وإنما الشعر صياغة وضرب من التّصوير». وما يعنونه إذا قالوا: «إنه يأخذ الحديث فيشنّفه ويقرّطه، ويأخذ المعنى خرزة فيردّه جوهرة، وعباءة فيجعله ديباجة، ويأخذه عاطلا فيردّه حاليا». وليس كون هذا مرادهم، بحيث كان ينبغي أن يخفى هذا الخفاء ويشتبه هذا الاشتباه، ولكن إذا تعاطى الشيء غير أهله، وتولّى الأمر غير البصير به، أعضل الداء، واشتدّ البلاء. ولو لم يكن من الدّليل على أنهم لم ينحلوا «اللّفظ» الفضيلة وهم يريدونه نفسه وعلى الحقيقة إلّا واحد، وهو وصفهم له بأنه يزين المعنى، وأنّه حلي له لكان فيه الكفاية. وذاك أن الألفاظ أدلّة على المعاني، وليس للدّليل إلّا أن يعلمك الشيء على ما يكون عليه، فأمّا أن يصير الشيء بالدليل، على صفة لم يكن عليها، فما لا يقوم في عقل، ولا يتصوّر في وهم. وممّا إذا تفكّر فيه العاقل أطال التعجّب من أمر النّاس، ومن شدة غفلتهم قول العلماء حيث ذكروا «الأخذ» و «السرقة»: «إنّ من أخذ معنى عاريا، فكساه لفظا من عنده كان أحقّ به» «1»، وهو كلام مشهور متداول يقرأه الصّبيان في أوّل كتاب «عبد الرحمن»، ثم لا ترى أحدا من هؤلاء الذين لهجوا بجعل الفضيلة في «اللّفظ»، يفكّر في ذلك فيقول: من أين يتصوّر أن يكون هاهنا معنى عار من لفظ يدلّ عليه؟ ثم من أين يعقل أن يجيء الواحد منّا لمعنى من المعاني بلفظ من عنده، إن كان المراد باللفظ نطق اللسان؟ ثم هب أنه يصحّ له أن يفعل ذلك، فمن أين يجب إذا وضع لفظا على معنى، أن يصير أحقّ به من صاحبه الذي أخذه منه، إن كان هو لا يصنع بالمعنى شيئا، ولا يحدث فيه صفة، ولا يكسبه فضيلة؟ وإذا كان كذلك، فهل يكون لكلامهم هذا وجه سوى أن يكون «اللفظ» في قولهم «فكساه لفظا من عنده» «2»، عبارة عن صورة يحدثها الشاعر أو غير الشاعر للمعنى؟ فإن قالوا: بلى يكون، وهو أن يستعير للمعنى لفظا. قيل: الشأن في أنّهم قالوا: «إذا أخذ معنى عاريا فكساه لفظا من عنده، كان أحق به»، و «الاستعارة» عندكم مقصورة على مجرّد اللّفظ، ولا ترون المستعير يصنع

_ (1) كلام في مقدمة «الألفاظ الكتابية» لعبد الرحمن بن عيسى الهمذاني. (2) الكلام لعبد الرحمن في كتابه «الألفاظ الكتابية».

بالمعنى شيئا، وترون أنه لا يحدث فيه مزية على وجه من الوجوه. وإذا كان كذلك، فمن أين، ليت شعري، يكون أحقّ به؟ فاعرفه. ثم إن أردت مثالا في ذلك، فإنّ من أحسن شيء فيه، ما صنع أبو تمام في بيت أبي نخيلة، وذلك أن أبا نخيلة قال في مسلمة بن عبد الملك: [من الطويل] أمسلم، إنّي يا ابن كلّ خليفة، ... ويا جبل الدّنيا، ويا واحد الأرض شكرتك، إنّ الشّكر حبل من التّقى، ... وما كلّ من أوليته صالحا يقضي وأنبهت لي ذكري، وما كان خاملا، ... ولكنّ بعض الذّكر أنبه من بعض «1» فعمد أبو تمام إلى هذا البيت الأخير فقال: [من الطويل] لقد زدت أوضاحي امتدادا، ولم أكن ... بهيما، ولا أرضي من الأرض مجهلا ولكن أياد صادفتني جسامها ... أغرّ، فأوفت بي أغرّ محجّلا «2» وفي «كتاب الشعر والشعراء» للمرزباني فصل في هذا المعنى حسن. قال: ومن الأمثال القديمة قولهم: «حرّا أخاف على جاني كمأة لا قرّا» «3»، يضرب مثلا للذي يخاف من شيء فيسلم منه ويصيبه غيره مما لم يخفه، فأخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال: [من الكامل] وحذرت من أمر فمرّ بجانبي ... لم ينكني، ولقيت ما لم أحذر «4»

_ (1) الأبيات في الأغاني (20/ 405) يمدح فيها مسلمة بن عبد الملك، وجاء البيت الأول برواية أخرى لفظها: أمسلم إني يا ابن كلّ خليفة ... ويا فارس الهيجا ويا جبل الأرض والبيت الأول في زهر الآداب (2/ 925)، وطبقات الشعراء (ص 64)، ولسان العرب (نفض)، وبلا نسبة في الإنصاف. والثاني: في تاج العروس (بعض)، والثالث: في لسان العرب (شكر) وجاء بلفظ: ونوّهت لي ذكري وما كان خاملا ... ولكن بعض الذكر أنبه من بعض (2) البيتان لأبي تمام في ديوانه (ص 237) من قصيدة يمدح فيها محمد بن عبد الملك الزيّات، وجاء البيت الثاني بلفظ: «ألفت» بدلا من «أوفت»، والأوضاح: جمع وضح وهو الغرّة في جبهة الفرس والتحجيل. والمجهل: المفازة التي لا أعلام فيها ألفت: لقيت، وقال الشيخ شاكر: «وأرضي» يعني دياره وديار قومه ليست بمجهل من الأرض، يعني شهرتهم ومن ضبط «أرضى» فعلا مضارعا فقد أخطأ المعنى. (3) في جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري (1/ 373)، وفي مجمع الأمثال (212/ 1). (4) نكي العدوّ نكاية: أصاب منه، ونكيت في العدوّ نكاية إذا قلت فيهم وجرحت وهزمت وغلبت. اللسان (نكى). والبيت لسهم بن حنظلة في المؤتلف والمختلف للآمدي (ص 135).

وقال لبيد: [من المنسرح] أخشى على أربد الحتوف، ولا ... أرهب نوء السّماك والأسد «1» قال: وأخذه البحتريّ فأحسن وطغى اقتدارا على العبارة، واتّساعا في المعنى، فقال: [من الكامل] لو أنّني أوفي التّجارب حقّها ... فيما أرت، لرجوت ما أخشاه وشبيه بهذا الفصل فصل آخر من هذا الكتاب «2» أيضا، أنشد لإبراهيم بن المهديّ: [من السريع] يا من لقلب صيغ من صخرة ... في جسد من لؤلؤ رطب جرحت خدّيه بلحظي، فما ... برحت حتّى اقتصّ من قلبي «3» ثم قال: قال عليّ بن هارون: أخذه أحمد بن أبي فنن معنى ولفظا فقال: أدميت باللّحظات وجنته ... فاقتصّ ناظره من القلب «4» قال: ولكنه بنقاء عبارته وحسن مأخذه، قد صار أولى به. ففي هذا دليل لمن عقل أنهم لا يعنون بحسن العبارة مجرّد اللفظ، ولكن صورة وصفة وخصوصية تحدث في المعنى، وشيئا طريق معرفته على الجملة العقل دون السمع، فإنّه على كل حال لم يقل في البحتري أنه «أحسن فطغى اقتدارا على العبارة»، من أجل حروف.

_ (1) البيت للبيد بن ربيعة في ديوانه (ص 39)، وفي الكامل (3/ 229)، وفي الأغاني (17/ 59، 60، 67)، وهو من مجموعة أبيات قالها يرثي أخاه أربد الذي قتل بسحابة ارتفعت فرمته بصاعقة فأحرقته نتيجة دعوة النبي صلى الله عليه وسلّم، ومما قاله لبيد في رثاء أخيه قوله: ما إن تعرى المنون من أحد ... لا والد مشفق ولا ولد فجعني الرعد والصواعق بال ... فارس يوم الكريهة النّجد يا عين هلّا بكيت أربد إذ ... قمنا وقام الخصوم في كبد (تعرى المنون) للبناء للمفعول تترك وتهمل ويقال لكل شيء أهملته وضليت سبيله قد عريته. والنّجد: البطل ذو النجدة أو المنجد. والكبد: الشدّة والمشقة هكذا فسر أبو عبيدة قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ، ومعنى البيت الذي معنا: أن الشاعر يخشى المنون على أربد ولم يظن أن تصيبه صاعقة ذت وتكون السبب الأول من أسباب موته. (2) المراد به كتاب «الشعر والشعراء» «للمرزباني»، وتقدم التعريف به. (3) لإبراهيم بن المهدي أخو هارون الرشيد (المتوفى سنة 224 هـ) الشذرات (2/ 53). (4) لأحمد بن أبي فنن من شعراء الدولة العباسية. البيتان: تقدم تخريجهما.

لو أنني أوفي التّجارب حقّها وكذلك لم يصف ابن أبي فنن بنقاء العبارة، من أجل حروف. أدميت باللّحظات وجنته واعلم أنك إذا سبرت أحوال هؤلاء الذين زعموا أنه إذا كان المعبّر عنه واحدا، والعبارة اثنتين، ثم كانت إحدى العبارتين أفصح من الأخرى وأحسن، فإنه ينبغي أن يكون السبب في كونها أفصح وأحسن، اللّفظ نفسه وجدتهم قد قالوا ذلك من حيث قاسوا الكلامين على الكلمتين، فلمّا رأوا أنّه إذا قيل في «الكلمتين» إن معناهما واحد، لم يكن بينهما تفاوت، ولم يكن للمعنى في إحداهما حال لا يكون له في الأخرى ظنّوا أن سبيل الكلامين هذا السبيل. ولقد غلطوا فأفحشوا، لأنه لا يتصوّر أن تكون صورة المعنى في أحد الكلامين أو البيتين، مثل صورة في الآخر البتّة، اللهم إلّا أن يعمد عامد إلى بيت فيضع مكان كل لفظة منه لفظة في معناها، ولا يعرض لنظمه وتأليفه، كمثل أن يقول في بيت حطيئة: [من البسيط] دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنّك أنت الطّاعم الكاسي ذر المفاخر لا تذهب لمطلبها ... واجلس فإنّك أنت الآكل اللّابس «1» وما كان هذا سبيله كان بمعزل من أن يكون به اعتداد، وأن يدخل في قبيل ما يفاضل فيه بين عبارتين، بل لا يصح أن يجعل ذلك عبارة ثانية، ولا أن يجعل الذي يتعاطاه بمحلّ من يوصف بأنه أخذ معنى. ذلك لأنه لا يكون ذلك صانعا شيئا يستحق أن يدعى من أجله واضع كلام، ومستأنف عبارة وقائل شعر. ذاك لأنّ بيت حطيئة لم يكن كلاما وشعرا من أجل معاني الألفاظ المفردة التي تراها فيه، مجرّدة معرّاة من معاني النظم والتأليف، بل منها متوخّى فيها ما ترى من كون «المكارم» مفعولا «لدع»، وكون قوله «لا ترحل لبغيتها» جملة أكدت الجملة قبلها، وكون «اقعد» معطوفا بالواو على مجموع ما مضى، وكون جملة «أنت الطاعم الكاسي»، معطوفة بالفاء على «اقعد»، فالذي يجيء فلا يغيّر شيئا من هذا الّذي به كان كلاما وشعرا، لا يكون قد أتى بكلام ثان وعبارة ثانية، بل لا يكون قد قال من عند نفسه شيئا البتّة. وجملة الأمر أنه كما لا تكون الفضّة أو الذهب خاتما أو سوارا أو غيرهما من

_ (1) سبق تخريجه.

أصناف الحلي بأنفسهما، ولكن بما يحدث فيهما من الصّورة، كذلك لا تكون الكلم المفردة التي هي أسماء وأفعال وحروف، وكلاما وشعرا، من غير أن يحدث فيها النظم الذي حقيقته توخّي معاني النحو وأحكامه. فإذن ليس لمن يتصدّى لما ذكرنا، من أن يعمد إلى بيت فيضع مكان كل لفظة منها لفظة في معناها، إلا أن يستركّ عقله، ويستخفّ، ويعدّ معدّ الذي حكي أنه قال: «إني قلت بيتا هو أشعر من بيت حسّان، قال حسّان: [من الكامل] يغشون حتّى ما تهرّ كلابهم، ... لا يسألون عن السّواد المقبل «1» وقلت: يغشون حتّى ما تهرّ كلابهم ... أبدا ولا يسلون من ذا المقبل فقيل: هو بيت حسّان، ولكنّك قد أفسدته. واعلم أنه إنما أتي القوم من قلّة نظرهم في الكتب التي وضعها العلماء في اختلاف العبارتين على المعنى الواحد، وفي كلامهم في أخذ الشاعر من الشاعر، وفي أن يقول الشاعران على الجملة في معنى واحد، وفي الأشعار التي دوّنوها في هذا المعنى. ولو أنّهم كانوا أخذوا أنفسهم بالنظر في تلك الكتب، وتدبّروا ما فيها حقّ التدبّر، لكان يكون ذلك قد أيقظهم من غفلتهم، وكشف الغطاء عن أعينهم. وقد أردت أن أكتب جملة من الشّعر الذي أنت ترى الشاعرين فيه قد قالا في معنى واحد، وهو ينقسم قسمين: قسم أنت ترى أحد الشاعرين فيه قد أتى بالمعنى غفلا ساذجا، وترى الآخر قد أخرجه في صورة تروق وتعجب. وقسم أنت ترى كل واحد من الشاعرين قد صنع في المعنى وصوّر. وأبدا بالقسم الأول الّذي يكون المعنى في أحد البيتين غفلا، وفي الآخر مصوّرا

_ (1) البيت له في ديوانه (ص 140)، وفي التبيان للطيبي (ص 329)، وخزانة الأدب (2/ 412)، والدرر (4/ 76)، وشرح أبيات سيبويه (1/ 69)، وشرح شواهد المغني (1/ 378)، ومغني اللبيب (1/ 129)، وهمع الهوامع (2/ 9)، وتاج العروس (جبن)، وبلا نسبة في شرح الأشموني (3/ 562). يقول: قد أنست كلابهم بكثرة من يأتيهم، فلا تهر على أحد أي: أن منازلهم لا تخلو من الطراق والعفاة، حتى تعودت كلابهم أن ترى من يقصد منازلهم. لا يسألون عن السواد المقبل: أي: أنهم في سعة لا يبالون من نزل بهم من الناس ولا يهمهم الجمع الكثير، وهو السواد، إذا قصدوا إليهم.

مصنوعا، ويكون ذلك إمّا لأن متأخّرا قصّر عن متقدم، وإمّا لأن هدي متأخّر لشيء لم يهتد إليه المتقدّم. ومثال ذلك قول المتنبّي: [من السريع] بئس اللّيالي سهدت من طربي ... شوقا إلى من يبيت يرقدها «1» مع قول البحتري: [من الكامل] ليل يصادفني ومرهفة الحشا ... ضدّين أسهره لها وتنامه «2» وقول البحتري: [من البسيط] ولو ملكت زماعا ظلّ يجذبني ... قودا لكان ندى كفّيك من عقلي «3» مع قول المتنبي: [من الطويل] وقيّدت نفسي في ذراك محبّة ... ومن وجد الإحسان قيدا تقيّدا «4» وقول المتنبي: [من الكامل] إذا اعتلّ سيف الدّولة اعتلّت الأرض ... ومن فوقها والبأس والكرم المحض «5»

_ (1) البيت له في ديوانه (ص 50)، والتبيان (1/ 206)، وجاءت الرواية بلفظ: «سهدت» بدلا من «سهرت»، وبئس للذّم. سهدت: سهرت. أي: أنا أسهر الليالي أرقا متشوقا إلى الحبيب الذي ينام ملء عينيه وهو غير مشوق لي. فهو يذم الليالي التي سهر فيها ولم ينم لما أخذه من القلق وخفة الشّوق إلى من يحب. (2) يمدح به ابن بسطام (الديوان 3/ 2037). (3) الزّمع والزّماع: المضاء في الأمر والعزم عليه ويقال: أزمعت الأمر ولا يقال أزمعت عليه والزّماع هنا العزم على الرحيل. والعقل: جمع عقال وهو الحبل الذي يشدّ به البعير. (4) البيت في ديوانه (2/ 127)، والتبيان (1/ 202)، والبيت من قصيدة يمدح فيها سيف الدولة ويهنئه بعيد الأضحى سنة اثنتين وأربعين وثلاث مائة (953 م) وأنشده إياها في ميدانه بحلب وهما على فرسيها والقصيدة مطلعها: لكل امرئ من دهره ما تعوّدا ... وعادة سيف الدولة الطعن في العدى والذري الستر والكنف، والمعنى: يقول: أقمت عندك حبالك وبين سبب الإقامة بالمصراع الأخير وأن إحسانه إليه هو الذي قيده وفيه نظر إلى قول الطائي: وتركي سرعة الصدر اغتباطا ... يدل على موافقة الورود وكقوله: هممي معلقة عليك رقابها ... مغلولة أن الوفاء إسار (5) البيت له في ديوانه (2/ 114)، وفي شرح التبيان على ديوان للعكبري (1/ 414)، وهو مطلع قصيدة قالها في سيف الدولة يعوده من مرض، اعتل: مرض، ومن فوقها: البشر، والمحض: الخالص، واليأس: الشدة والسّطوة. والمعنى: إذا اعتل سيف الدولة اعتلت لعلته الأرض ومن

مع قول البحتري: [من الكامل] ظللنا نعود الجود من وعكك الّذي ... وجدت وقلنا اعتلّ عضو من المجد «1» وقول المتنبي: [من الكامل] يعطيك مبتدرا فإن أعجلته ... أعطاك معتذرا كمن قد أجرما «2» مع قول أبي تمام: [من الكامل] أخو عزمات فعله فعل محسن ... إلينا ولكن عذره عذر مذنب «3» وقول المتنبي: [من الطويل] كريم متى استوهبت ما أنت راكب ... وقد لقحت حرب فإنّك نازل «4» مع قول البحتريّ: [من البسيط] ماض على عزمه في الجود لو وهب الشّ ... باب يوم لقاء البيض ما ندما «5» وقول المتنبي: [من الخفيف] والّذي يشهد الوغى ساكن القل ... ب كأن القتال فيها ذمام «6»

_ عليها من الناس والقوة والكرم الخالص لأنه قوام كل شيء فإذا اعتلّ اعتلّ له كل شيء وهو منقول من قول لمسلم بن الوليد: نالتك يا خير الخلائق علة ... يفديك من مكروهها الثقلان فبكل قلب من شكاتك علة ... موصوفة الشكوى بكل لسان (1) يمدح به إبراهيم بن المدبر (الديوان 2/ 234). (2) البيت له في ديوانه (ص 57)، وفي التبيان (2/ 329)، وجاء البيت بلفظ «مبتدئا» بدلا من «مبتدرا» والجرم: التعدّي، مبتدرا: بادئا سابقا، والجرم: الذنب والجمع أجرام وقد جرم وأجرم فهو مجرم وجريم. والمعنى: أنه يعطى من قبل أن تسأله فإن أعجلته أعطاك معتذرا إليك كأنه قد أتى بذنب. (3) البيت في الديوان (ص 31)، وجاء البيت في الديوان بلفظ: «أزمات» بدلا من (عزمات). والأزمات: الشدائد. والبيت من قصيدة قالها يمدح عياش بن لهيعة الحضرميّ مطلعها: تقي جمحاتي لست طوع مؤنبي ... وليس حنيني إن عذلت بمصحبي (4) البيت له في ديوانه (ص 130) من قصيدة قالها يمدح فيها سيف الدولة بعد دخول رسول الروم عليه ومطلعها: دروع لملك الروم هذي الرسائل ... يرد بها عن نفسه ويشاغل ولحقت الحرب: نشبت، أي: لكرمك إذا سئلت فرسك في غمرة الحرب وأنت بحاجة إليها فإنك تنزل عنها وتعطيها للسائل. (5) في مدح رافع بن هزيمة (الديوان 2/ 84). (6) البيت في ديوانه (2/ 9)، والتبيان (2/ 270)، والواو: عطف، والوغى: الحرب وأصوات الحرب يقال بالعين والغين والحاء، والذمام: العهد وساكن القلب: مطمئنه. والمعنى: يقول والذي يشهد الحرب غير مضطرب الجأش كأن القتال عاهده أن لا يقتل فهو يسكن إلى القتل سكونه إلى الذمام فهو يحضرها ثابت النفس غير حافل بشدّتها.

مع قول البحتريّ: [من الطويل] لقد كان ذاك الجأش جأش مسالم ... على أنّ ذاك الزّيّ زيّ محارب «1» وقول أبي تمام: [من الكامل] الصّبح مشهور بغير دلائل ... من غيره ابتغيت ولا أعلام «2» مع قول المتنبي: [من الوافر] وليس يصحّ في الأفهام شيء ... إذا احتاج النّهار إلى دليل «3» وقول أبي تمام: [من الوافر] وفي شرف الحديث دليل صدق ... لمختبر على الشّرف القديم «4» مع قول المتنبي: [من البسيط] أفعاله نسب لو لم يقل معها ... جدّي الخصيب عرفنا العرق بالغصن «5»

_ (1) الجأش: القلب. وفلان قويّ الجأش أي: القلب، ورجل رابط الجأش أي: يربط نفسه عن الفرار يكفّها لجرأته وشجاعته. (2) البيت من قصيدة له في ديوانه (ص 262) يهنئ الواثق بالخلافة ويعزّيه بالمعتصم أبيه مطلعها: ما للدموع تروم كلّ مرام ... والجفن ثاكل هجعة ومنام والثاكل: الفاقد. (3) البيت في ديوانه (2/ 95) من أبيات قالها يعارض بها بعض الحاضرين في مجلس سيف الدولة ومنها: أتيت بمنطق العرب الأصيل ... وكان بقدر ما عاينت قيلي فعارضه كلام كان منه ... بمنزلة النساء من البعول وهذا الدّرّ مأمون التشظّي ... وأنت السيف مأمون الفلول وليس يصح في الأفهام شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل وجاءت الرواية بلفظ: «الأفهام» بدلا من «الأذهان». (4) البيت في ديوانه (ص 271) من قصيدة له يمدح فيها بعض بني عبد الكريم الطائيين مطلعها: أرامة كنت مألف كلّ ريم ... لو استمتعت بالأنس القديم ورامة: موضع بالبادية قد لهجت فيه الشعراء لطيب مكانه. والأنس: الحيّ. (5) البيت في ديوانه (1/ 216)، والتبيان (2/ 464) من قصيدة يمدح فيها أبا عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد الخطيب الخصيبي وهو يومئذ يتقلّد القضاء بأنطاكية مطلعها: أفاضل الناس أغراض لدى الزمن ... يخلو من الهمّ أخلاهم من الفطن والمعنى يقول: هو معروف عند الناس بأفعاله الكريمة وقد عرف أنه من ولد الخصيب فلو لم ينتسب مع أفعاله لعرفناه كما يستدل بالغصن على الأصل، وهذا كقول حبيب: فروع لا تزف إليك إلا ... شهدت لها على طيب الأروم وكقول الآخر: إذا جهلت من امرئ أعراقه ... وأصوله فانظر إلى ما يصنع

وقول البحتري: [من الكامل] وأحبّ آفاق البلاد إلى الفتى ... أرض ينال بها كريم المطلب «1» مع قول المتنبي: [من الطويل] وكلّ امرئ يولي الجميل محبّب ... وكلّ مكان ينبت العزّ طيّب «2» وقول المتنبي: [من الطويل] يقرّ له بالفضل من لا يودّه ... ويقضي له بالسّعد من لا ينجّم «3» مع قول البحتري: [من الكامل] لا أدّعي لأبي العلاء فضيلة ... حتّى يسلّمها إليه عداه «4» وقول خالد الكاتب: [من المتقارب] رقدت ولم ترث للسّاهر ... وليل المحبّ بلا آخر «5» مع قول بشار: [من الطويل] لخدّك من كفّيك في كلّ ليلة ... إلى أن ترى ضوء الصّباح وساد تبيت تراعي اللّيل ترجو نفاده ... وليس لليل العاشقين نفاد «6»

_ (1) البيت في التبيان (1/ 131)، وجاء البيت بلفظ «الفتى» بدلا من «فتى». (2) البيت في ديوانه (2/ 232)، من قصيدة له يمدح فيها سيف الدولة في شوّال سنة سبع وأربعين وثلاث مائة (958 م) مطلعها: أغالب فيك الشوق والشوق أغلب ... وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب أما تغلط الأيّام فيّ بأن أرى ... بغيضا تنائي أو حبيبا تقرّب والبيت في التبيان (1/ 131)، ويولي الجميل: يصنعه ويعطيه. والمعنى: يريد أن الممدوح يوليه الجميل ويحبه فهو عنده طيب يختاره على أهله قال ابن جني: كل من حصل في خدمتك علا قدره ومثال البيت قول البحتري: وأحب أوطان البلاد إلى الفتى ... أرض ينال بها كريم المطلب (3) البيت في الديوان (2/ 54)، وفي التبيان (1/ 276)، ويقرّ: يعترف. ومن لا يودّه: المقصود عدوّه، ويقال: رجل منجّم: هو الذي ينظر في النجوم. والمعنى: يقول من لا يودّه يقرّ بفضله ولا يدفعه لبيانه ومن لا ينجم يقضي له بالسعد ولا ينكره لاتصاله فلظهوره ووضوحه لا ينكر فضله ولظهور آثار السعادة عليه يحكم له بالسعادة من لا يعرف أحكام النجوم من السعادة والنحوسة وهو مأخوذ من قول الآخر: والفضل ما شهدت به الأعداء (4) قاله البحتري في مدح صاعد بن مخلد (الديوان 1/ 191). (5) أمالي القالي (1/ 100)، ومعه بيت آخر: ولم تدر بعد ذهاب الرّقاد ... ما صنع الدّمع من ناظري (6) (الديوان 3/ 127).

وقول أبي تمام: [من الوافر] ثوى بالمشرقين لها ضجاج ... أطار قلوب أهل المغربين «1» وقول البحتري: [من الطويل] تناذر أهل الشّرق منه وقائعا ... أطاع لها العاصون في بلد الغرب «2» مع قول مسلم: [من البسيط] لمّا نزلت على أدنى ديارهم ... ألقى إليك الأقاصي بالمقاليد «3» وقول محمد بن بشير: [من البسيط] افرغ لحاجتنا ما دمت مشغولا ... فلو فرغت لكنت الدّهر مبذولا «4» مع قول أبي علي البصير: [من الطويل] فقل لسعيد أسعد الله جدّه ... لقد رثّ حتّى كاد ينصرم الحبل فلا تعتذر بالشّغل عنّا فإنّما ... تناط بك الآمال ما اتّصل الشّغل «5» وقول البحتري: [من الكامل] من غادة منعت، وتمنع وصلها ... فلو انّها بذلت لنا لم تبذل «6» مع قول ابن الرومي: [من مجزوء الكامل] ومن البليّة أنّني ... علّقت ممنوعا منوعا «7» وقول أبي تمام: [من الطويل]

_ (1) البيت في ديوانه (ص 304) من قصيدة له يمدح إسحاق بن إبراهيم ويذكر إيقاعه بالمعمرة وأصحاب بابك وكانوا تواعدوا إلى موضع علم به فوقف لهم فيه فكل من جاء قتل وجزت أذنه حتى وجّه إلى المعتصم بستين ألف أذن. والقصيدة مطلعها: خشنت عليه أخت بني خشين ... وأنجح فيك قول العاذلين والضجاج مثل الضّجيج: هو الفزع والصياح مصحوب بالاستغاثة. (2) يقال: تناذر القوم: أنذر بعضهم بعضا وخوّف بعضهم بعضا. الوقائع: جمع وقيعة: الحرب والقتال قيل: المعركة وقيل: الوقعة والوقيعة: صدمة الحرب. (3) من قصيدة في مدح داود بن يزيد المهلبي (الديوان 161). (4) تقدم التعريف بقائله. (5) انظر معجم الشعراء للمرزباني (314). (6) الديوان يمدح محمد بن علي بن عيسى القمي الكاتب، وفي الديوان وردت «وصلها» بدل «نيلها». (7) (الديوان 4/ 1462).

لئن كان ذنبي أنّ أحسن مطلبي ... أساء ففي سوء القضاء لي العذر «1» مع قول البحتري: [من البسيط] إذا محاسني اللّاتي أدلّ بها ... كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر «2» وقول أبي تمام: [من البسيط] قد يقدم العير من ذعر على الأسد «3» مع قول البحتري: [من الطويل] فجاء مجيء العير قادته حيرة ... إلى أهرت الشّدقين تدمى أظافره «4» وقول معن بن أوس: [من الطويل] إذا انصرفت نفسي عن الشّيء لم تكد ... إليه بوجه آخر الدّهر تقبل «5» مع قول العباس بن الأحنف: [من البسيط] نقل الجبال الرّواسي من أماكنها ... أخفّ من ردّ قلب حين ينصرف «6» وقول أميّة بن أبي الصلت: [من الطويل] عطاؤك زين لامرئ إن أصبته ... بخير وما كلّ العطاء يزين «7»

_ (1) البيت في ديوانه (ص 483) من قصيدة له مطلعها: تصدّت وحبل البين مستحصد شزر ... وقد سهّل التوديع ما أوعر الهجر (2) (الديوان 2/ 182) طبعة الجوائب يمدح علي بن مرّ الأرمني. (3) عجز بيت له في ديوانه من بعض أبيات قالها في محمد بن يزيد وصدره: أطلت روعك حتى صرت لي غرضا (4) العير: الحمار والجمع أعيار وعيار. والهرت: سعة الشّدق والهريت: الواسع الشّدقين والمقصود الأسد. ودمي يدمى كرضي يرضى من الرضوان: خرج منه دم. قال الشيخ محمد رشيد رضا: ولعلّ المعنى هنا يصيب أظافره دم الفرائس. (5) شرح الحماسة للمرزوقي (3/ 1131). (6) (الديوان 211) طبعة صادر وروايته في الديوان: نقل الجبال الرواسي عن مواضعها ... أخف من نقل نفس حين تنصرف (7) البيت لأمية بن أبي الصلت قاله حينما أعطاه ابن جدعان جارية فلام القوم أميّة على أخذها لأن ابن جدعان في حاجة إليها لتخدمه فرجع بها أميّة إليه فأخبره ابن جدعان بما قاله القوم وقال له فما الذي قلت في ذلك؟ فقال أميّة البيتين هذا أولهما وثانيهما قوله: وليس بشين لامرئ يذل وجهه ... إليك كما بعض السؤال يشين والبيت في الأغاني (8/ 342)، وهو في ديوانه (ص 63)، والاشتقاق (144)، وديوان المعاني (1/ 46)، وبلا نسبة في جمهرة اللغة (ص 831).

مع قول أبي تمام: [من البسيط] تدعى عطاياه وفرا وهي إن شهرت ... كانت فخارا لمن يعفوه مؤتنفا ما زلت منتظرا أعجوبة عنتا ... حتّى رأيت سؤالا يجتني شرفا «1» وقول جرير: [من الطويل] بعثن الهوى ثمّ ارتمين قلوبنا ... بأسهم أعداء وهنّ صديق «2» مع قول أبي نواس: [من الطويل] إذا امتحن الدّنيا لبيب تكشّفت ... له عن عدوّ في ثياب صديق «3» وقول كثير: [من الطويل] إذا ما أرادت خلّة أن تزيلنا ... أبينا وقلنا الحاجبيّة أوّل «4» مع قول أبي تمام: [من الكامل] نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحبّ إلّا للحبيب الأوّل «5» وقول المتنبي: [من الطويل] وعند من اليوم الوفاء لصاحب ... شبيب وأوفى من ترى أخوان «6»

_ (1) البيتان لأبي تمّام في ديوانه (ص 190) قالهما يمدح فيهما أبا دلف القاسم بن عيسى العجليّ مطلعها: أمّا الرسوم فقد اذكرن ما سلفا ... فلا تكفّن عن شانيك أو يكفا والوفر: الكثير. والعنن: الظاهرة معترضة يقال: عنّ الشيء: أي اعتراض. (2) البيت في ديوانه (ص 299)، من قصيدة يمدح فيها الحجاج مطلعها: بتّ أرائي صاحبيّ تجلّدا ... وقد علقتني من هواك علوق وجاء البيت بلفظ: «دعون» بدلا من «بعثن». (3) (الديوان 621). (4) (الديوان 255). (5) البيت في ديوانه (ص 463)، وهو في الإيضاح (205)، ونسبه ابن جني في كتابه الخصائص للطائي الكبير (ص 117)، والبيت من بعض أبيات منها: البين جرّعني نقيح الحنظل ... والبين أثكلني وإن لم أثكل كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وضينه أبدا لأول منزل والحنظل: نبت ثمره شديد المرارة. (6) البيت في ديوانه (2/ 240). والمعنى لم يعد أحد من الناس جديرا بأن تأمنه فإن أو فى الأصحاب مثل شبيب غادر وهو أخوه بالغدر.

مع قول أبي تمام: [من الطويل] فلا تحسبا هندا لها الغدر وحدها ... سجيّة نفس كلّ غانية هند «1» وقول البحتري: [من الطويل] فلم أر في رنق الصّرى لي موردا ... فحاولت ورد النّيل عند احتفاله «2» مع قول المتنبي: [من الطويل] قواصد كافور توارك غيره ... ومن قصد البحر استقلّ السّواقيا «3» وقول المتنبي: [من المنسرح] كأنّما يولد النّدى معهم ... لا صغر عاذر ولا هرم «4» مع قول البحتري: [من الطويل] عريقون في الإفضال يؤتنف النّدى ... لناشئهم من حيث يؤتنف العمر «5»

_ (1) البيت في ديوانه (ص 115) من قصيدة له يمدح محمد بن الهيثم بن شبانة، مطلعها: تجرّع أسى قد أقفر الجرع الفرد ... ودع حسي عين يحتلب ماءه الوجد والسّجيّة: الطبيعة والخلق. (2) البيت في شرح التبيان للعكبري (2/ 514)، والرّنق: تراب في الماء من القذى، وترنّق: كدر، وماء رنق: كدر، والصّرى والصّرى: الماء الذي طال استنقاعه وجاء في نسخة الشيخ رشيد: الصّرى: نهر. (3) البيت في ديوانه (ص 204)، وفي شرح التبيان للعكبري على ديوان المتنبي (2/ 514)، وهو من قصيدة قالها يمدح كافورا وذلك بعد أن استقبله فأخلى له دارا وخلع عليه وحمل إليه آلافا من الدراهم فقال يمدحه وأنشده إيّاها في جمادى الآخرة سنة ست وأربعين وثلاث مائة (957 م)، ومطلعها: كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكن أمانيا وقواصد: حال من الجرد، ويعني بالبحر كافورا وبالسواقي: غيره من الملوك وهي جمع ساقية وهي النهر الصغير. والمعنى: يريد أن الجرد وهي التي تحتنا (يقصد الخيل قليلة الشعر) قاصدة هذا البحر وتركت السواقي وطالب البحر بغير خلاف يرى غيره لأن السواقي تستمد من البحر ويقال: أن سيف الدولة لما سمع هذا البيت قال له الويل جعلني ساقية وجعل الأسود بحرا وإن كان المتنبي قصد هذا فلقد أبان عن نقض عهد وقلة مروءة لأنه مدح خلقا فلم يعطه أحد ما أعطاه علي بن حمدان ولا كان فيهم من له شرفه وفضله لأنه عربي من سادات تغلب عالم بالشعر ولم يمدح مثله من الشرف والحسب إلا محمد بن عبد الله الكوفي الحسني. (4) البيت له في ديوانه (1/ 139)، وفي شرح التبيان (ص 354)، والندى: الكرم، عاذر فاعل عذر، والهرم: الكبر والعجز عن التصرّف. والمعنى: يقول كرمهم موجود معهم فهم أجواد في أوائل أعمارهم وأواخرهم وهو منقول من قول البحتري: عريقون في الأفضال يؤتنف الندى ... لناشئهم من حيث يؤتنف العمر (5) البيت في شرح التبيان للعكبري على ديوان المتنبي (2/ 354).

وقول البحتري: [من الطويل] فلا تغلين بالسّيف كلّ غلائه ... ليمضي فإنّ الكفّ لا السّيف تقطع «1» مع قول المتنبي: [من الطويل] إذا الهند سوّت بين سيفي كريهة ... فسيفك في كفّ تزيل التّساويا «2» وقول البحتري: [من الكامل] ساموك من حسد فأفضل منهم ... غير الجواد وجاد غير المفضل فبذلت فينا ما بذلت سماحة ... وتكرّما وبذلت ما لم تبذل «3» مع قول أبي تمام: [من الطويل] أرى النّاس منهاج النّدى بعد ما عفت ... مهايعه المثلى ومحّت لواحبه ففي كلّ نجد في البلاد وغائر ... مواهب ليست منه وهي مواهبه «4» وقول المتنبي: [من البسيط] بيضاء تطمع فيما تحت حلّتها ... وعزّ ذلك مطلوبا إذا طلبا «5» مع قول البحتري: [من الكامل]

_ (1) (الديوان 1/ 197) والرواية فيه «يقطع» بدلا من «تقطع». (2) البيت في الديوان (2/ 206)، وفي التبيان على شرح ديوان المتنبي للعكبري (2/ 519)، والكريهة: الشدّة في الحرب، والمعنى: قال أبو الفتح: إذا طبعت الهند سيفين فجعلتهما سواء في الحدّة والمضاء فالسّيف الذي يصاحبك يكون أمضى لأنك تزيل مساواتهما بشدّة الضرب وكذا قال الواحدي وقال الخطيب: هذا المعنى ثم قال ويحتمل معنى آخر وهو أن الهند سوّت بين السيفين فإذا ضربت بالسيف علم أن فضيلته في المضاء أعظم من فضيلة السيف المضروب به. (3) أراد أنهم من الحسد أخذوا يسامونه «فعل مشاركة من السموّ» في العطاء فبذلوا ولا جود عندهم فكان بذله بذلين بذل السماحة الصادر منه مباشرة وبذل هؤلاء البخلاء الذي صدر عنهم بسببه (رشيد). (4) البيتان في الديوان (ص 49) من قصيدة قالها يمدح أبا العباس عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب مطلعها: هنّ عوادي يوسف وصواحبه ... فعزما فقدما أدرك السؤل طالبه وعفت: أي درست. والمهايع: الطرق الواسعة البينة واللواحب: الجمع لاحب وهو الطريق الواضح. (5) البيت في الديوان (1/ 141) يمدح المغيث بن علي بن بشر العجلي، وشرح التبيان للعكبري (1/ 83). والحلة: الثوب، مطلوبا: تمييز والمعنى: يقول: من لين حديثها ورقتها وجمالها تطمع العاشق بنفسها فإذا طلب عزّ ذلك الطلب فهو صعب المنال لعفافها وصيانتها.

تبدو بعطفة مطمع حتّى إذا ... شغل الخليّ ثنت بصدفة مؤيس «1» وقول المتنبي: [من الكامل] إذكار مثلك ترك إذكاري له ... إذ لا تريد لما أريد مترجما «2» مع قول أبي تمام: [من الخفيف] وإذا المجد كان عوني على المر ... ء تقاضيته بترك التّقاضي «3» وقول أبي تمام: [من الكامل] فنعمت من شمس إذا حجبت بدت ... من خدرها فكأنّها لم تحجب «4» مع قول قيس بن الخطيم: [من المنسرح] قضى لها الله حين صوّرها ال ... خالق أن لا يكنّها سدف «5» وقول المتنبي: [من الخفيف] راميات بأسهم ريشها الهد ... ب تشقّ القلوب قبل الجلود «6» مع قول كثير: [من الطويل] رمتني ريشه الكحل لم يجز ... ظواهر جلدي وهو في القلب جارح «7»

_ (1) الصّدوف: الميل عن الشيء، صدف عنه يصدف صدفا وصدوفا: عدل. (2) البيت في شرح التبيان للعكبري (2/ 332)، والمعنى: يقول مثلك إذا لم أذكره حاجتي فهو تذكار له لأنه يعلم ما يريد فلا يحتاج إلى من يترجم له عمّا في مرادي فترك أذكاره أذكار. (3) البيت في الديوان (ص 176)، وجاء في شرح التبيان للعكبري (2/ 332)، والبيت من قصيدة قالها يمدح أحمد بن أبي دؤاد ومطلعها: بدّلت عبرة من الإيماض ... يوم شدّوا الرحال بالأغراض والإيماض: مسارقة النظر. والأغراض: أداة الرحل. (4) (الديوان 1/ 101) يمدح طوق بن مالك بن طوق «من خدرها» وردت في الديوان «من نورها». (5) البيت في الأغاني (3/ 24)، من أبيات قالها قيس بعد حرب قامت بين مالك بن العجلان وبني عمرو بن عوف. ومن هذه الأبيات: ردّ الخليط الجمال فانصرفوا ... ماذا عليهم لو أنهم وقفوا لو وقفوا ساعة نسائلهم ... ريث يضحّي جماله السّلف والسدف: الظلمة يقال أسدف الليل إذا أرخى ظلمته. (6) البيت في الديوان (1/ 62)، وراميات: نعت بدورا. الأسهم: يعني بها النظرات والعيون، الهدب: الرمش، شبهها بريش السهم في مؤخرته، وهذه الأسهم تختلف عن غيرها بأنها تشق القلوب دون أن تخترق الجلود والصدور. (7) الديوان: (188).

وقول بعض شعراء الجاهلية، ويعزى إلى لبيد: [من الكامل] ودعوت ربّي بالسّلامة جاهدا ... ليصحّني فإذا السّلامة داء «1» مع قول أبي العتاهية: [من الرجز] أسرع في نقص امرئ تمامه ... تدبر في إقبالها أيّامه «2» وقوله: [من مجزوء الكامل] أقلل زيارتك الحبي ... ب تكون كالثّوب استجدّه إنّ الصديق يملّه ... أن لا يزال يراك عنده «3» مع قول أبي تمام: [من الطويل] وطول مقام المرء في الحيّ مخلق ... لديباجتيه فاغترب تتجدّد «4» وقول الخريميّ: [من الرمل] زاد معروفك عندي عظما ... أنّه عندك محقور صغير تتناساه كأن لم تأته ... وهو عند النّاس مشهور كبير «5» مع قول المتنبي: [من المنسرح] تظنّ من فقدك اعتدادهم ... أنّهم أنعموا وما علموا «6»

_ (1) البيت للنمر بن تولب في ملحق ديوانه (ص 400) وللبيد بن ربيعة في نهاية الأرب (3/ 70)، ولعمرو بن قميئة في ملحق ديوانه (ص 204)، وزهر الآداب (1/ 223)، ولبعض شعراء الجاهلية في الكامل (1/ 284)، وبلا نسبة في جمهرة اللغة (ص 75)، وكتاب الصناعتين (ص 39) ط 1 دار الكتب العلمية. ويسبقه بيت يقول فيه: كانت قناتي لا تلين لغامز ... فألانها الإصباح والإمساء (2) (الديوان: 23 مع اختلاف في روايته). (3) لم أقف عليهما في ديوان أبي العتاهية. (4) البيت في الديوان (ص 98)، من قصيدة له مطلعها: غدت تستجير الدمع خوف نوى غد ... وعاد قتادا عندها كلّ مرقد والقتاد: شجر ذو شوك كالإبر. وهذه القصيدة يمدح فيها أبا سعيد محمد بن يوسف الطائي. والديباجة من الديباج: ضرب من الثياب والجمع دبابيج وديابيج. (5) البيتان في الشعر والشعراء لابن قتيبة (33) وشرح ديوان المتنبي للواحدي (152)، مع اختلاف الرواية. الخريميّ هو: «أبو يعقوب: إسحاق بن حسان بن قوهي الأعور». (6) البيت في الديوان (1/ 139)، والمعنى: أي عند ما تراهم لا يعتدّون بما يفعلون من جميل تعتقد أنهم لم يعلموا بصنيعهم للمعروف.

وقول البحتري: [من الوافر] ألم تر للنّوائب كيف تسمو ... إلى أهل النّوافل والفضول «1» مع قول المتنبي: [من البسيط] أفاضل النّاس أغراض لذا الزّمن ... يخلو من الهمّ أخلاهم من الفطن «2» وقول المتنبي: [من الطويل] تذلّل لها واخضع على القرب والنّوى ... فما عاشق من لا يذلّ ويخضع «3» مع قول بعض المحدثين: [من مجزوء الكامل] كن إذا أحببت عبدا ... للّذي تهوى مطيعا لن تنال الوصل حتّى ... تلزم النّفس الخضوعا «4» وقول مضرّس بن ربعيّ: [من الطويل]

_ (1) (الديوان 1/ 31) يمدح الفتح بن خاقان. (2) البيت في الديوان (1/ 213)، وفي شرح التبيان للعكبري (2/ 459)، والبيت من قصيدة يمدح فيها أبا عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد الخطيب الخصيبي وهو يومئذ يتقلّد القضاء بأنطاكية. وهذا البيت هو مطلع هذه القصيدة. والأغراض: الأهداف والمفرد غرض، والفطن: جمع فطنة وهي العقل والذكاء. والمعنى: يقول: الفضلاء من الناس أهداف للزمان يرميهم بنوائبه وصروفه ويقصدهم بالمحن فلا يزالون محزونين، وإنما يخلو من الحزن والفكر من كان خاليا من الفطنة والبصيرة وهذا من أحسن الكلام وهو من كلام الحكيم، قال الحكيم: على قدر الهم تكون الهموم وذلك أن العاقل يفكّر في عواقب الأمور فلا يزال مهموما وأمّا الجاهل فلا يفكر في شيء من هذا وقد أكثر الشعراء فيه، قال ذو الأصبع: أطاف بنا ريب الزمان فداسنا ... له طائف بالصالحين بصير وقال البحتري: ألم تر للنوائب كيف تسمو ... إلى أهل النوافل والفضول (3) البيت في الديوان (1/ 74)، وفي شرح التبيان للعكبري على ديوان المتنبي (1/ 429). والنوى: البعد. والمعنى: الزم الطاعة والانقياد في القرب والبعد وارض وسلم لفعلها فهذا من علامة الحب وقد أكثرت الشعراء من هذا المعنى فمنه قول أبي نواس: سنة العشاق واحدة ... فإذا أحببت فاستكن وقوله: كن إذا أحببت عبدا ... للذي تهوى مطيعا لن تنال الوصل حتى ... تلزم النفس الخضوعا (4) البيتان أوردهما العكبري في شرحه لديوان المتنبي. وفي التبيان (1/ 429)، ونسبهما إلى أبي نواس.

لعمرك إنّي بالخليل الّذي له ... عليّ دلال واجب لمفجّع وإنّي بالمولى الّذي ليس نافعي ... ولا ضائري فقدانه لممتّع «1» مع قول المتنبي: [من الطويل] أما تغلط الأيّام فيّ بأن أرى ... بغيضا تنائي أو حبيبا تقرّب «2» وقول المتنبي: [من البسيط] مظلومة القدّ في تشبيهه غصنا ... مظلومة الرّيق في تشبيهه ضربا «3» مع قوله: [من الطويل] إذا نحن شبّهناك بالبدر طالعا ... بخسناك حظّا أنت أبهى وأجمل ونظلم إن قسناك باللّيث في الوغى ... لأنّك أحمى للحريم وأبسل «4» [القسم الثاني في البيتين صنعة وتصويرا] ذكر ما أنت ترى فيه في كلّ واحد من البيتين صنعة وتصويرا وأستاذيّة على الجملة فمن ذلك، وهو من النادر، قول لبيد: [من الرمل]

_ (1) ذكرهما العكبري في شرحه لديوان المتنبي ونسبهما إلى المضرّس وقال الشيخ شاكر: هكذا نسب الشعر لمضرّس بن ربعي وهو خطأ وسهو فيما أرجح إنما هو للبراء بن ربعي الفقعسيّ، يرثي أخاه سكيما، وهو في شرح الحماسة للتبريزي (2/ 167، 168)، وفي مقطعات مراث لابن الأعرابي رقم (43) اه. (2) البيت في الديوان (2/ 229)، وفي شرح التبيان على ديوان المتنبي (1/ 126)، وهو من قصيدة قالها يمدح فيها كافورا وكان قد حمل إليه ستمائة دينار، ومطلعها: أغالب فيك الشوق والشوق أغلب ... وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب أما تغلط الأيام فيّ بأن أرى ... بغيضا تنائي أو حبيبا تقرّب وتنائي: تبعد، والنأى: البعد ونأى ينأى: بعد، والنأي: المفارقة وأنأيت الرجل: أبعدته، المعنى: يقول هذه الأيّام مولعة بتقريب من أبغض وإبعاد من أحب، فما تغلط مرّة بتقريب الحبيب وإبعاد البغيض، وذلك كما قيل في بخيل: يا عجبا من خالد كيف لا ... يغلط فينا مرّة بالصواب (3) البيت في الديوان (1/ 141)، وفي التبيان للعكبري في شرح ديوان المتنبي (1/ 81)، وهو من قصيدة يمدح فيها المغيث بن عليّ بن بشر العجلي. والقدّ: القامة. والضّرب بفتح الراء: العسل الأبيض الغليظ. والمعنى: يريد أن من شبّهها بالغصن ظلمها ومن شبّه ريقها بالعسل ظلمها لأنها ذات قوام أعدل وأحسن من الغصن وذات رضاب أحلى من العسل الخالص. (4) لعلي بن الجهم يمدح المتوكل، الديوان (165/ 166). ورواية الديوان «للذمار» بدلا من «للحريم».

واكذب النّفس إذا حدّثتها ... إنّ صدق النّفس يزري بالأمل «1» مع قول نافع بن لقيط: وإذا صدقت النّفس لم تترك لها ... أملا ويأمل ما اشتهى المكذوب «2» وقول رجل من الخوارج أتي به الحجّاج في جماعة من أصحاب قطريّ فقتلهم، ومنّ عليه ليد كانت عنده، وعاد إلى قطريّ، فقال له قطريّ: عاود قتال عدوّ الله الحجّاج. فأبى وقال: [من الكامل] أأقاتل الحجّاج عن سلطانه ... بيد تقرّ بأنّها مولاته ماذا أقول إذا وقفت إزاءه ... في الصّف واحتجّت له فعلاته وتحدّث الأقوام أنّ صنائعا ... غرست لديّ فحنظلت نخلاته «3» مع قول أبي تمام: [من الطويل] أسربل هجر القول من لو هجوته ... إذن لهجاني عنه معروفه عندي «4» وقول النابغة: [من الطويل] إذا ما غدا بالجيش حلّق فوقه ... عصائب طير تهتدي بعصائب جوانح قد أيقنّ أنّ قبيله ... إذا ما التقى الصّفّان أوّل غالب «5»

_ (1) البيت في الديوان (ص 145)، وفي لسان العرب (كذب)، (خزا)، وجمهرة اللغة (ص 596)، وتاج العروس (كذب)، (خزا)، وجمهرة الأمثال (1/ 51)، وخزانة الأدب (5/ 112)، وفصل المقال (ص 173)، وكتاب الأمثال (ص 116)، وكتاب الأمثال لمجهول (ص 22)، والمستقصى (1/ 289)، ومجمع الأمثال (2/ 139). (2) جاءت قصيدة طويلة له في لسان العرب (مرط) لكن البيت غير موجود بها. والقصيدة مطلعها كما وردت في اللسان: بانت لطيّتها الغداة جنوب ... وطربت إنك ما علمت طروب ولقد تجاورنا فتهجر بيتنا ... حتى تفارق أو يقال مريب (3) الحنظل: الشجر المرّ، وحنظلت الشجرة: صار ثمرها مرّا، قال الشيخ شاكر: «الأبيات لعامر بن حطّان الخارجي وهو أخو عمران بن حطّان». (4) البيت في الديوان (ص 122) من قصيدة يمدح فيها موسى بن إبراهيم الرافعي ويعتذر إليه، مطلعها: شهدت لقد أقوت مغانيكم بعدي ... ومحّت كما محّت وشائع من برد وأقوت: خلت من السكان، والمغاني: المنازل جمع مغنى. محّ الثوب: بلي. والوشائع: جمع وشيعة وهي الغزل الملفوف. والبرد: الثوب المخطّط. وجاء البيت في الديوان بلفظ «أألبس» بدلا من «أسربل». (5) البيتان في الديوان (ص 30)، وجاء البيت الأول بلفظ: «غزوا» بدلا من «غدا» وجاء الثاني بلفظ «الجمعان» بدلا من «الصفان»، والبيتان غير متتاليين في الديوان. وهما في الأغاني

مع قول أبي نواس: [من الرمل المجزوء] وإذا مجّ القنا علقا ... وتراءى الموت في صوره راح في ثنيي مفاضته ... أسد يدمى شبا ظفره تتأيّى الطّير غدوته ... ثقة بالشّبع من جزره «1» المقصود البيت الأخير. وحكى المرزباني قال: «حدثني عمرو الورّاق قال: رأيت أبا نواس ينشد قصيدته التي أولها: [من الرمل المجزوء] أيّها المنتاب عن عفره «2» فحسدته، فلما بلغ إلى قوله: تتأيّى الطّير غدوته ... ثقة بالشّبع من جزره «3» قلت له: ما تركت للنابغة شيئا حيث يقول: «إذا ما غدا بالجيش»، البيتين، فقال: اسكت، فلئن كان سبق فما أسأت الأتباع». وهذا الكلام من أبي نواس دليل بيّن في أن المعنى ينقل من صورة إلى صورة.

_ (25/ 120)، والأول منهما في خزانة الأدب (4/ 289)، والشعر والشعراء (ص 175)، ولسان العرب (عصب)، (حلق)، وبلا نسبة في شرح التصريح (2/ 227)، وشرح المفصّل (1/ 68). والثاني: في أساس البلاغة (جنح)، ومقاييس اللغة (3/ 99). وفي الأول: عصائب: الجماعة من الطير. أي: أن الجوارح من الطيور تحلّق فوق القتلى لتنال منهم. وفي الثاني: جوانح: أي: مائلات. وهذه القصيدة مطلعها: كليني لهم يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب قالها يمدح فيها عمرو بن الحارث الأصفر بن الحارث الأعرج حين لجأ إليه في الشام. (1) الأبيات في الديوان (ص 66)، والأغاني (25/ 118) من قصيدة له مطلعها: أيها المنتاب من عفره ... لست من ليلى ولا سمره يمدح العباس بن عبيد الله بن أبي جعفر المنصور. والمفاضة: الدرع الواسعة. والشبا: اسم جمع لشباة وهي إبرة العقرب شبه بها ظفره والمراد قوته. والبيت الأخير من قولهم: تركوهم جزرا للسباع: أي: قطعا من جزر الشيء يجزره جزرا: قطعه، وجزر الناقة: نحرها وقطّعها، وفي هذا قال عنترة في ابني ضمضم: إن يفعلا فلقد تركت أباهما ... جزر السباع وكل نسر قشعم وتأيى الشخص: قصد شخصه وتعمّده، والتأيّي: التنظّر والتّؤدة وتأيّيت عليه: تثبّت وتمكثت. (2) مطلع قصيدة لأبي نواس وعجز البيت: لست من ليلى ولا سحره (3) سبق تخريجه.

ذاك لأنه لو كان لا يكون قد صنع بالمعنى شيئا، لكان قوله: «فما أسأت الاتّباع» محالا، لأنه على كل حال لم يتّبعه في اللفظ. ثم إنّ الأمر ظاهر لمن نظر في أنه قد نقل المعنى عن صورته التي هو عليها في شعر النابغة إلى صورة أخرى. وذلك أنّ هاهنا معنيين: أحدهما: أصل، وهو: علم الطّير بأن الممدوح إذا غزا عدوّا كان الظفر له، وكان هو الغالب. والآخر فرع، وهو: طمع الطير في أن تتّسع عليها المطاعم من لحوم القتلى. وقد عمد النابغة إلى «الأصل»، الذي هو علم الطير بأن الممدوح يكون الغالب، فذكره صريحا، وكشف عن وجهه، واعتمد في «الفرع» الذي هو طمعها في لحوم القتلى، وأنها لذلك تحلّق فوقه على دلالة الفحوى. وعكس أبو نواس القصّة، فذكر «الفرع» الذي هو طمعها في لحوم القتلى صريحا، فقال كما ترى: ثقة بالشّبع من جزره «1» وعوّل في «الأصل»، الذي هو علمها بأن الظفر يكون للممدوح، على الفحوى. ودلالة الفحوى على علمها أنّ الظفر يكون للممدوح، هي في أن قال: «من جزره»، وهي لا تثق بأن شبعها يكون من جزر الممدوح، حتى تعلم أنّ الظفر يكون له. أفيكون شيء أظهر من هذا في النّقل عن صورة إلى صورة؟ أرجع إلى النّسق- ومن ذلك قول أبي العتاهية: [من الخفيف] شيم فتّحت من المدح ما قد ... كان مستغلقا على المدّاح «2» مع قول أبي تمام: [من الكامل] نظمت له خرز المديح مواهب ... ينفثن في عقد اللّسان المفحم «3»

_ (1) عجز بيت لأبي نوّاس صدره: يتأيى الطير غدوته والبيت سبق تخريجه. (2) الديوان (515). (3) البيت في ديوانه (ص 295) من قصيدة يمدح فيها أبا الحسين محمد بن الهيثم بن شبانة مطلعها: نثرت فريد مدامع لم تنظم ... والدمع يحمل بعض شجو المغرم والنفث: البصاق اليسير. والمفحم: العييّ عن قول الشعر. وجاء البيت في نسخة «المقحم» بالقاف ومعناها: الضعيف.

وقول أبي وجزة: [من الوافر] أتاك المجد من هنّا وهنّا ... وكنت له بمجتمع السّيول «1» مع قول منصور النّمري: [من البسيط] إنّ المكارم والمعروف أودية ... أحلّك الله منها حيث تجتمع «2» وقول بشار: [من البسيط] الشّيب كره وكره أن يفارقني ... أعجب بشيء على البغضاء مودود «3» مع قول البحتري: [من الوافر] تعيب الغانيات عليّ شيبي ... ومن لي أن أمتّع بالمعيب «4» وقول أبي تمام: [من الوافر] يشتاقه من كماله غده ... ويكثر الوجد نحوه الأمس «5» مع قول ابن الرومي: [من الطويل] إمام يظلّ الأمس يعمل نحوه ... تلفّت ملهوف ويشتاقه الغد «6»

_ (1) البيت أبي وجزة السعدي يزيد بن عبيد في ديوان المعاني للعسكري (1/ 59). (2) البيت في الأغاني (13/ 163) من قصيدة أنشدها سلما بن عمرو بن حمّاد وهو شاعر خليع ماجن وسمّي الخاسر لأنه باع مصحفا واشترى بثمنه دفترا فيه شعر. والبيت له في تاريخ بغداد (13/ 69) منها: أي امرئ بات من هارون في سخط ... فليس بالصلوات الخمس ينتفع إن المكارم والمعروف أودية ... أحلك الله منها حيث تجتمع إذا رفعت امرأ فالله رافعه ... ومن وضعت من الأقوام متضع نفسي فداؤك والأبطال معلمة ... يوم الوغى والمنايا بينهم قرع (3) البيت في تاريخ بغداد (13/ 98)، وجاء برواية أخرى لفظها: أكره شيبي وأخشى أن يزايلني ... أعجب بشيء على البغضاء مودود وهو لمسلم بن الوليد ويليه بيتان هما: نام العواذل واستكفين لائمتي ... وقد كفاهن نهض البيض في السّود أمّا الشباب فمفقود له خلف ... والشيب يذهب مفقودا بمفقود (4) (الديوان 1/ 250) يمدح هيثم بن هارون بن المعمر. (5) البيت في الديوان (ص 159)، وجاء البيت بلفظ «جماله» بدلا من «كماله» من قصيدة له يمدح الحسن بن وهب مطلعها: هل أثر من ديارهم دعس ... حيث تلاقى الأجراع والوعس والدعس: الواضح من الآثار. والأجرع: جمع جرع وهو كثير الرمل والوعس. (6) (الديوان 2/ 660).

لا تنظر إلى أنه قال: «يشتاقه الغد»، فأعاد لفظ أبي تمام، ولكن انظر إلى قوله: يعمل نحوه تلفّت ملهوف وقول أبي تمام: [من الطويل] لئن ذمّت الأعداء سوء صباحها ... فليس يؤدّي شكرها الذّئب والنّسر «1» مع قول المتنبي: [من المتقارب] وأنبتّ منهم ربيع السّباع ... فأثنت بإحسانك الشّامل «2» وقول أبي تمام: [من البسيط] وربّ نائي المغاني روحه أبدا ... لصيق روحي ودان ليس بالدّاني «3» مع قول المتنبي: [من الوافر] لنا ولأهله أبدا قلوب ... تلاقى في جسوم ما تلاقى «4»

_ (1) البيت في الديوان (ص 484) وبعده: بها عرفت أقدارها بعد جهلها ... بأقدارها قيس بن عيلان والفزر والفزر: سعد بن مناة بن تميم. وقيس عيلان: قبيلة عربية مشهورة. والبيت من قصيدة مطلعها: تصدّت وحبل البين مستحصد شزر ... وقد سهّل التوديع ما أوعر الهجر وتصدّت: تعرضت. والمستحصد: المفتول فتلا محكما. والشزر: الشديد الفتل. وقول البحتري: [من الطويل] ومن ذا يلوم البحر إن بات زاخرا ... يفيض وصوب المزن إن راح يهطل «1» مع قول المتنبي: [من البسيط] وما ثناك كلام النّاس عن كرم ... ومن يسدّ طريق العارض الهطل «2» وقول الكندي: [من الكامل] عزّوا وعزّ بعزّهم من جاوروا ... فهم الذّرى وجماجم الهامات إن يطلبوا بتراتهم يعطوا بها ... أو يطلبوا لا يدركوا بترات «3» مع قول المتنبي: [من الطويل] تفيت اللّيالي كلّ شيء أخذته ... وهنّ لما يأخذن منك غوارم «4»

وقول أبي تمام: [من الكامل] إذا سيفه أضحى على الهام حاكما ... غدا العفو منه وهو في السّيف حاكم «1» مع قول المتنبي: [من الكامل] له من كريم الطّبع في الحرب منتض ... ومن عادة الإحسان والصّفح غامد «2» فانظر الآن نظر من نفى الغفلة عن نفسه، فإنك ترى عيانا أنّ للمعنى في كل واحد من البيتين من جميع ذلك، صورة وصفة غير صورته وصفته في البيت الآخر وأن العلماء لم يريدوا حيث قالوا: «إن المعنى في هذا هو المعنى في ذاك»، أنّ الذي يعقل من هذا لا يخالف الذي يعقل من ذاك وأنّ المعنى عائد عليك في البيت الثاني على هيئته وصفته التي كان عليها في البيت الأوّل وأن لا فرق ولا فصل ولا تباين بوجه من الوجوه وأنّ حكم البيتين مثلا حكم الاسمين قد وضعا في اللغة لشيء واحد، كالليث والأسد ولكن قالوا ذلك على حسب ما يقوله العقلاء في الشّيئين يجمعهما جنس واحد، ثم يفترقان بخواصّ ومزايا وصفات، كالخاتم والخاتم، والشّنف والشّنف، والسّوار والسّوار، وسائر أصناف الحلي التي يجمعها جنس واحد، ثم يكون بينهما الاختلاف الشديد في الصنعة والعمل. ومن هذا الذي ينظر إلى بيت الخارجيّ وبيت أبي تمام، فلا يعلم أنّ صورة المعنى في ذلك غير صورته في هذا؟ كيف، والخارجيّ يقول: «واحتجّت له فعلاته» «3»

_ (1) البيت في الديوان (ص 270) من قصيدة يمدح فيها أحمد بن أبي دؤاد مطلعها: ألم يأن أن تروى الظماء الحوائم ... وأن ينظم الشمل المبرّد ناظم لئن أرقأ الدمع اليعور وقد جرى ... لقد رويت منه خدود نواعم (2) البيت في ديوانه (2/ 70) من قصيدة له مطلعها: عواذل ذات الخال فيّ حواسد ... وإن ضجيع الخود منّي لماجد والبيت في شرح التبيان على ديوان المتنبي للعكبري (1/ 188) وانتضيت السيف: سللته وجردته، ونضا سيفه أيضا ونضوت البلاد: قطعتها. قال تأبط شراّ: ولكنني أروي من الخمر هامتي ... وأنضو الفلا بالشاحب المتشلشل وغامد من غمد السيف. والمعنى: يقول كرم طبعه ينضيه ويغمده ما تعوّد من العفو والإحسان فليس كسيوف الحديد التي تنتضى وتغمد. (3) بعض بيت قاله رجل من الخوارج لفظه: ماذا أقول إذا وقفت إزاءه ... في الصف واحتجّت له فعلاته وهو من مجموعة أبيات قالها لقطريّ بن الفجاءة حينما أمره أن يقاتل الحجاج فأبى وأنشد الأبيات، وقال الشيخ شاكر: الأبيات لعامر بن حطّان الخارجيّ وهو أخو عمران بن حطّان.

ويقول أبو تمام: «إذن لهجاني عنه معروفه عندي» «1» ومتى كان «احتجّ» و «هجا» واحدا في المعنى؟ وكذلك الحكم في جميع ما ذكرناه، فليس يتصوّر في نفس عاقل أن يكون قول البحتري: [من الكامل] وأحبّ آفاق البلاد إلى الفتى ... أرض ينال بها كريم المطلب «2» وقول المتنبي: وكلّ مكان ينبت العزّ طيّب «3» - سواء واعلم أن قولنا «الصّورة»، إنما هو تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا، فلمّا رأينا البينونة بين آحاد الأجناس تكون من جهة الصّورة، فكان تبيّن إنسان من إنسان وفرس من فرس، بخصوصيّة تكون في صورة هذا لا تكون في صورة ذاك، وكذلك كان الأمر في المصنوعات، فكان تبيّن خاتم من خاتم وسوار من سوار بذلك، ثم وجدنا بين المعنى في أحد البيتين وبينه في الآخر بينونة في عقولنا وفرقا، عبّرنا عن ذلك الفرق وتلك البينونة بأن قلنا: «للمعنى في هذا صورة غير صورته في ذلك». وليس العبارة عن ذلك بالصورة شيئا نحن ابتدأناه فينكره منكر، بل هو مستعمل مشهور في كلام العلماء، ويكفيك قول الجاحظ: «وإنما الشعر صياغة وضرب من التّصوير».

_ (1) عجز بيت له في ديوانه (ص 122) وصدره: أسربل هجر القول من لو هجوته ويروى «أألبس» بدلا من «أسربل» وهو من قصيدة يمدح فيها موسى بن إبراهيم الرافقي ويعتذر إليه مطلعها: شهدت لقد أقوت مغانيكم بعدي ... ومحّت كما محّت وشائع من برد (2) ذكره العكبري في التبيان وهو يشرح ديوان المتنبي (1/ 131)، في البيت الذي يقول: وكلّ امرئ يولي الجميل محبّب ... وكل مكان ينبت العزّ طيّب وجاء البيت بلفظ «فتى» بدلا من «الفتى». (3) عجز بيت في الديوان (2/ 232) وصدره: وكل امرئ يولي الجميل محبّب وهو من قصيدة له يمدح فيها سيف الدولة مطلعها: أغالب فيك الشوق والشوق أغلب ... وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب والبيت في شرح التبيان للعكبري (1/ 131)، ويولي الجميل يصنعه ويعطيه، والمعنى: يريد أن الممدوح يوليه الجميل ويحبه فهو عنده طيب يختاره على أهله.

واعلم أنه لو كان المعنى في أحد البيتين يكون على هيئته وصفته في البيت الآخر، وكان التّالي من الشاعرين يجيئك به معادا على وجهه لم يحدث فيه شيئا، ولم يغيّر له صفة، لكان قول العلماء في شاعر: «إنّه أخذ المعنى من صاحبه فأحسن وأجاد»، وفي آخر: «إنّه أساء وقصّر»، ولغوا من القول، من حيث كان محالا أن يحسن أو يسيء في شيء لا يصنع به شيئا. وكذلك كان يكون جعلهم البيت نظيرا للبيت ومناسبا له، خطأ منهم، لأنه محال أن يناسب الشيء نفسه، وأن يكون نظيرا لنفسه. وأمر ثالث، وهو أنّهم يقولون في واحد: «إنه أخذ المعنى فظهر أخذه»، وفي آخر: «إنّه أخذه فأخفى أخذه»، ولو كان المعنى يكون معادا على صورته وهيئته، وكان الآخذ له من صاحبه لا يصنع شيئا غير أن يبدّل لفظا مكان لفظ، لكان الإخفاء فيه محالا، لأن اللّفظ لا يخفي المعنى، وإنّما يخفيه إخراجه في صورة غير التي كان عليها. مثال ذلك أن القاضي أبا الحسن «1»، ذكر فيما ذكر فيه «تناسب المعاني»، بيت أبي نواس: [من الرمل المجزوء] خلّيت والحسن تأخذه ... تنتقي منه وتنتخب «2» وبيت عبد الله بن مصعب: [من الوافر] كأنّك جئت محتكما عليهم ... تخيّر في الأبوّة ما تشاء «3» وذكر أنّهما معا من بيت بشار: [من الطويل] خلقت ما فيّ غير مخيّر ... هواي، ولو خيّرت كنت المهذّبا «4» والأمر في تناسب هذه الثلاثة ظاهر. ثم إنه ذكر أن أبا تمام قد تناوله فأخفاه وقال: [من الوافر]

_ (1) يعني القاضي الجرجاني علي بن عبد العزيز في كتابه «الوساطة بين المتنبي وخصومه» (الوساطة 160). (2) البيت في الديوان (ص 349)، وهو من أبيات قالها يمدح فيها امرأة تدعى جنان يقول: ما هوى إلا له سبب ... يبتدي منه وينشعب فتنت قلبي محجبة ... وجهها بالحسن منتقب خليت والحسن تأخذه ... تنتقي منه وتنتخب فاكتست منه طرائفه ... واستزادت فضل ما تهب (3) لعبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير. (4) (الديوان 1/ 246) من قصيدة يلوم فيها يحيى بن زيد.

فلو صوّرت نفسك لم تزدها ... على ما فيك من كرم الطّباع «1» ومن العجب في ذلك ما تراه إذا أنت تأمّلت قول أبي العتاهية: [من الكامل] جزي البخيل عليّ صالحة ... عنّي بخفّته على ظهري أعلى وأكرم عن يديه يدي ... فعلت، ونزّه قدره قدري ورزقت من جدواه عافية ... أن لا يضيق بشكره صدري وغنيت خلوا من تفضّله ... أحنو عليه بأحسن العذر ما فاتني خير امرئ وضعت ... عنّي يداه مئونة الشّكر «2» ثم نظرت إلى قول الذي يقول: [من المنسرح] أعتقني سوء ما صنعت من الرّقّ ... فيا بردها على كبدي فصرت عبدا للسّوء منك وما ... أحسن سوء قبلي إلى أحد «3» ومما هو في غاية النّدرة من هذا الباب، ما صنعه الجاحظ بقول نصيب: [من الطويل] ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب «4» حين نثره فقال، وكتب به إلى ابن الزّيات: «نحن أعزك الله نسحر بالبيان، ونموه بالقول، والناس ينظرون إلى الحال، ويقضون بالعيان، فأثر في أمرنا أثرا ينطق إذا سكتنا، فإنّ المدّعي بغير بيّنة متعرّض للتكذيب». وهذه جملة من وصفهم الشعر وعمله وإدلالهم به- أبو حيّة النّميرى: [من الكامل] إنّ القصائد قد علمن بأنّني ... صنع اللّسان بهنّ، لا أتنحّل وإذا ابتدأت عروض نسج ريّض ... جعلت تذلّ لما أريد وتسهل حتّى تطاوعني، ولو يرتاضها ... غيري لحاول صعبة لا تقبل «5»

_ (1) البيت في الديوان (ص 324)، وهو من قصيدة يمدح فيها مهدي بن أصرم، وقبله: ورأيك مثل رأي السيف صحّت ... مشورة حدّه عند المصاع والمصاع: المجالدة. (2) الأبيات في أسرار البلاغة (ص 156)، وجاء البيت الأول بلفظ «بخفته» بدلا من «لخفته»، وفي نسخة للشيخ رشيد رضا: «أن لا يضيق» بدل من «عافية» وهذا في البيت الثالث. (3) البيتان في أسرار البلاغة بلا نسبة (ص 156). (4) عجز بيت لنصيب بن رباح، في ديوانه (ص 59) وصدره: فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله وفي الأغاني (2/ 42)، وأمالي المرتضى (1/ 61)، وخزانة الأدب (5/ 296)، وشرح شذور الذهب (ص 38)، والشعر والشعراء (1/ 418)، ولسان العرب (حدث). (5) الأبيات لأبي حية النميري، شعره مجموع جمعه داود سلوم في العراق.

تميم بن مقبل: [من الطويل] إذا متّ عن ذكر القوافي فلن ترى ... لها قائلا بعدي أطبّ وأشعرا وأكثر بيتا سائرا ضربت له ... حزون جبال الشّعر حتّى تيسّرا أغرّ غريبا يمسح النّاس وجهه ... كما تمسح الأيدي الأغرّ المشهّرا «1» عديّ بن الرّقاع: [من الكامل] وقصدة قد بتّ أجمع بينها ... حتّى أقوّم ميلها وسنادها نظر المثقّف في كعوب قناته ... حتّى يقيم ثقافة منادها «2» كعب بن زهير: [من الطويل] فمن اللقوافي، شانها من يحوكها، ... إذا ما توى كعب وفوّز جرول «3» يقوّمها حتّى تلين متونها ... فيقصر عنها كلّ ما يتمثّل «4» بشّار: [من الطويل] عميت جنينا، والذّكاء من العمى، ... فجئت عجيب الظّنّ للعلم موئلا وغاص ضياء العين للعلم رافدا ... لقلب إذا ما ضيّع النّاس حصّلا وشعر كنور الرّوض لاءمت بينه ... بقول إذا ما أحزن الشّعر أسهلا «5»

_ (1) الأغرّ المشهر: هو الفرس الذي يعرف بين الخيل وهذا مثل قول جرير: وغرّ قد نسقت مشهّرات ... طوالع، لا تطيق لها جوابا (2) البيتان في الأغاني (9/ 360) من قصيدة له أنشدها الوليد بن عبد الملك أوّلها: عرف الديار توهّما فاعتادها ... من بعد ما شمل البلى أبلادها والسّناد: من عيوب الشعر وهو في اصطلاح العروضيين اختلاف الحرف الذي قبل الردف بالفتح والكسر، والردف هو حرف اللين الذي قبل الروي. اللسان (سند). الثّقاف: حديدة تكون مع القواس والرماح يقوّم بها الشيء المعوجّ أي: ما تسوّى به الرّماح. والمنآد: المائل المعوج. (3) البيت في ديوانه (ص 59)، والأغاني (2/ 157)، (17/ 88)، ولسان العرب (فوز)، (ثوا)، والتنبيه والإيضاح (2/ 248)، وتاج العروس (فوز)، (حوك)، (جرول)، (ثوى). وشانها: أي جاء بها شائنة أي: معيبة، وتوى: مات وكذا فوّز، قال ابن برّي: لا يقال فوّز حتى يتقدم الكلام كلام فيقال مات فلان وفوّز فلان بعده، وجرول: يعني الحطيئة. (4) البيت في الأغاني (2/ 158)، وهو لا يتبع البيت السابق بل يفصل بينهما بيتان آخران هما: يقول فلا تعيا بشيء يقوله ... ومن قائليها من يسيء ويعمل كفيتك لا تلقى من الناس واحدا ... تنخّل منها مثل ما يتنخّل (5) الأبيات في الأغاني (3/ 134)، والموئل: الملجأ وفي الآية: لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا قال

وله: [من المنسرح] زور ملوك عليه أبّهة ... يغرف من شعره ومن خطبه «1» لله ما راح في جوانحه ... من لؤلؤ لا ينام عن طلبه يخرج من فيه للنّدى، كما ... يخرج ضوء السّراج من لهبه «2» أبو شريح العمير: [من الوافر] فإن أهلك فقد أبقيت بعدي ... قوافي تعجب المتمثّلينا لذيذات المقاطع محكمات ... لو أنّ الشّعر يلبس لارتدينا «3» الفرزدق: [من الوافر] بلغنا الشّمس حين تكون شرقا ... ومسقط قرنها من حيث غابا بكلّ ثنيّة وبكلّ ثغر ... غرائبهنّ تنتسب انتسابا «4» ابن ميّادة: [من الطويل]

_ الفرّاء: الموئل: المنجي وهو الملجأ. وغاض ضياء العين: غاب نور العين. والنور: الزهر الأبيض واحدته نورة. وقال هذه الأبيات بعد أن قال: إن عدم النظر يقوّي ذكاء القلب ويقطع عنه الشغل بما ينظر إليه من الأشياء فيتوفّر حسّه وتذكو قريحته. والحزن والحزن: نقيض الفرح، والسّهل: نقيض الحزن. (1) الزور: الزائر يستوي فيه المذكر والمؤنث والمفرد وغيره لأنه مفرد في الأصل. (2) النديّ كالنّادي: مجلس القوم نهارا، والنادي مجتمع القوم وأهل المجلس. (3) قال الشيخ شاكر في تعليقه على هذين البيتين: لم أعرف أبا شريح العمير، وهو في مجموعة المعاني (178) لشاعر جاهلي، وفي البيان والتبيين (1/ 222)، وديوان المعاني (1/ 8)، وغير منسوب وانفرد صاحب حماسة الشجري بنسبته إلى ابن ميادة وهذا خطأ أو سهو؛ لأنه فيما أرجح أخذه من البيان والتبيين لأن الجاحظ عقد بابا فقال: «ووصفوا كلامهم في أشعارهم فجعلوها كبرود العصب، وكالعلل والمعاطف، والديباج والوشي وأشباه ذلك. وأنشدني أبو الجماهير جندب بن مدرك الهلالي» وذكر أبياتا ثم قال: «وأنشدني لابن ميادة: نعم إنني مهد ثناء ومدحة ... كبرد اليماني يربح البيع تاجره وأنشد ثم ذكر البيتين، فاختلط الأمر على الشجري في نقله إلى حماسته، فنسبه لابن ميادة. وهذا شعر فاخر انتهى كلام الشيخ- رحمه الله-. (4) البيتان في الديوان (1/ 104) من قصيدة قالها يناقض جريرا مطلعها: أنا ابن العاصمين بني تميم ... إذا ما أعظم الحدثان نابا والثنية: واحدة الثنايا من السّنّ والثنيّة من الأضراس: أول ما في الفم والثنية: طريق العقبة أو الطريقة في الحيل كالنّقب. والثغر: الأسنان في منابتها. يريد أن يقول: إن غرائب قصائده مشهورة فقد طافت بكل طريق وترددت على كل لسان فلم تترك مكانا إلا هبطته ولا ثغرا إلا شرفته بنطقها وبين هذا وذاك فإن نسبتها إليه معروفة غير مجهولة.

فجرنا ينابيع الكلام وبحره ... فأصبح فيه ذو الرّواية يسبح وما الشّعر إلّا شعر قيس وخندف ... وشعر سواهم كلفة وتملّح «1» وقال عقال بن هشام القينيّ يردّ عليه: [من الطويل] ألا أبلغ الرّمّاح نقض مقالة ... بها خطل الرّمّاح أو كان يمزح لئن كان في قيس وخندف ألسن ... طوال وشعر سائر ليس يقدح لقد خرق الحيّ اليمانون قبلهم ... بحور الكلام تستقى وهي طفّح وهم علّموا من بعدهم فتعلّموا ... وهم أعربوا هذا الكلام وأوضحوا فللسّابقين الفضل لا يجحدونه ... وليس لمسبوق عليهم تبجّج «2» أبو تمام: [من الطويل] كشفت قناع الشّعر عن حرّ وجهه ... وطيّرته عن وكره وهو واقع بغرّ يراها من يراها بسمعه ... ويدنو إليها ذو الحجى وهو شاسع يودّ ودادا أنّ أعضاء جسمه ... إذا أنشدت، شوقا إليها، مسامع «3»

_ (1) البيتان في الأغاني (2/ 303) من أبيات قالها حينما غمزه عقال بن هاشم وصغّر من شأنه، وجاء البيت الثاني بلفظ: «قول» بدلا من «شعر». وخندف: اسم قبيلة سميت كذلك لأن خندف امرأة إلياس بن مضر بن نزار وهي ليلى بنت حلوان خندفت (هرولت) في أثر إبل إلياس التي خرجت ليلا، وقالت خندف لزوجها: ما زلت أخندف (أهرول) في أثركم. فقال: فأنت خندف فذهب اسما لها ولولدها نسبا وسميت بها القبيلة. اللسان (خندف). والتملّح: تكلّف الملاحة والظرف. (2) الأبيات في الأغاني (2/ 303) قالها عقال بن هاشم يجيب ابن ميادة، وسمّاه «الرّمّاح». وخطل خطلا فهو خاطل أي: أحمق سريع الطّعن. وسهم خطل: يعجل فيذهب يمينا وشمالا لا يقصد قصد الهدف فهو يريد أن يصفه بصفة الحمق والعجلة. والقدح: العيب ومنها قدح في عرض أخيه: عابه. والمقصود: شعر غير معيب. والتبجّح: الافتخار. (3) الأبيات في ديوانه (ص 489)، من قصيدة له يصف قومه ويفتخر بهم مطلعها: ألا صنع البين الذي هو صانع ... فإن تك مجزاعا فما البين جازع وحرّ الوجه: ما أقبل عليك منه وقيل: الخدّ ومنه يقال: لطم حرّ وجهه، وقيل: حرّ الوجه: ما بدا من الوجنة. وجاء البيت الأول بلفظ «فكره» بدلا من «وكره». والضمير «هو» للشاعر في قوله قبل البيت: فكم شاعر قد رامني فقذعته ... بشعري وهو خزيان ضارع وقذعته: رميته بسوء القول وشتمته، والضارع: الذليل. وذو الحجى: صاحب العقل والفطنة والجمع أحجاء. والشاسع: البعيد.

وله: [من الكامل] حذّاء تملأ كلّ أذن حكمة ... وبلاغة، وتدرّ كلّ وريد كالدّرّ والمرجان ألّف نظمه ... بالشّذر في عنق الفتاة الرّود كشقيقة البرد المنمنم وشيه ... في أرض مهرة أو بلاد تزيد يعطي بها البشرى الكريم ويرتدي ... بردائها في المحفل المشهود بشرى الغنيّ أبي البنات تتابعت ... بشرائه بالفارس المولود «1» وله: [من الكامل] جاءتك من نظم اللّسان قلادة ... سمطان، فيها اللؤلؤ المكنون أحذاكها صنع الضّمير يمدّه ... جفر إذا نضب الكلام معين «2» أخذ لفظ «الصّنع» من قول أبي حيّة: بأنني صنع اللّسان بهنّ، لا أتنحّل «3» ونقله إلى الضمير. وقد جعل حسّان أيضا اللسان «صنعا»، وذلك في قوله: [من البسيط] أهدى لهم مدحا قلب مؤازره ... فيما أحبّ لسان حائك صنع «4»

_ (1) الأبيات في ديوانه (ص 85)، وفصل بين البيت الأول والثاني ببيت في الديوان يقول فيه: كالطعنة النجلاء في يد ثائر ... بأخيه أو كالضّربة الأخدود ففي الأول الحذاء: المقصود القصيدة التي لا عيب فيها ولا يتعلق بها شيء لجودتها. والوريد: عرق تحت اللسان، والوريدان عرقان في العنق يقال للغضبان: انتفخ وريده. والوريد: عرق في صفحة العنق. وفي الثاني: الشّذر: قطع من الذهب يلقط من المعدن من غير إذابة الحجارة وهو أيضا صغار اللؤلؤ، وقيل: خرز يفصّل به النظم، وشذّر النظم: فصّله. والرّؤد بالهمزة- من النساء: الشابة الحسنة السريعة الشباب مع حسن غذاء. وفي البيت الثالث: البرد: ثوب فيه خطوط والجمع أبراد وبرود. والنمنمة: خطوط متقاربة قصار، وكتاب منمنم: منقش ونمنم الشيء أي: زخرفه ورقشه. (2) البيتان في الديوان (ص 312) من قصيدة له يمدح الواثق بالله مطلعها: وأبى المنازل إنّها لشجون ... وعلى العجومة إنها لتبين والبيتان غير متتاليين في الديوان. وأحذاكها: ألبسك إيّاها، والجفر: البئر ذات الماء، والمعين: الماء الجاري على وجه الأرض. (3) عجز بيت لأبي حية النميري صدره: إن القصائد قد علمن بأنني (4) الديوان (1/ 100).

ولأبي تمام: [من الطويل] إليك أرحنا عازب الشّعر بعد ما ... تمهّل في روض المعاني العجائب غرائب لاقت في فنائك أنسها ... من المجد فهي الآن غير غرائب ولو كان يفنى الشّعر أفناه ما قرت ... حياضك منه في السّنين الذّواهب ولكنّه صوب العقول، إذا انجلت ... سحائب منه أعقبت بسحائب «1» البحتري [من الطويل] ألست الموالي فيك نظم قصائد ... هي الأنجم اقتادت مع اللّيل أنجما ثناء كأنّ الرّوض منه منوّرا ... ضحى، وكأنّ الوشي منه منمنما «2» وله: [من البسيط] أحسن أبا حسن بالشّعر، إذ جعلت ... عليك أنجمه بالمدح تنتشر فقد أتتك القوافي غبّ فائدة ... كما تفتّح غبّ الوابل الزّهر «3» وله: [من الطويل] إليك القوافي نازعات قواصدا ... يسيّر ضاحي وشيها وينمنم ومشرقة في النّظم غرّ يزينها ... بهاء وحسنا أنّها فيك تنظم «4» وله: [من الطويل] بمنقوشة نقش الدّنانير ينتقى ... لها اللّفظ مختارا كما ينتقى التّبر «5»

_ (1) الأبيات له في الديوان (ص 47)، من قصيدة يمدح فيها أبا دلف القاسم بن عيسى العجلي مطلعها: على مثلها من أربع وملاعب ... أذيلت مصونات الدموع السواكب والعازب من الكلأ: الذي لم يرع قط ولا وطئ. وعازب الشعر: الشعر ذو المعاني البعيدة المرمى التي لا يهتدي إليها إلا الفحول من الشعراء. ويقال: راحت الإبل، فرواحها هاهنا أن تأوي بعد غروب الشمس إلى مراحها الذي تبيت فيه. والفناء: هو ساحة أمام البيت. (2) منمنما: مزخرفا ومنقشا. (3) في نسخة «تنتثر» وهو الصحيح. (4) تسيّر من السّيراء والسّيراء: ضرب من البرود، وقيل: هو ثوب مسيّر فيه خطوط تعمل من القزّ كالسيور وقيل: برود يخالطها حرير. (5) الديوان (1/ 344) يمدح الخضر بن أحمد.

وله: [من الطويل] أيذهب هذا الدّهر لم ير موضعي ... ولم يدر ما مقدار حلّي ولا عقدي ويكسد مثلي وهو تاجر سؤدد ... يبيع ثمينات المكارم والمجد سوائر شعر جامع بدد العلى ... تعلّقن من قبلي وأتعبن من بعدي يقدّر فيها صانع متعمّل ... لإحكامها تقدير داود في السّرد «1» وله: [من الكامل] تالله يسهر في مديحك ليله ... متململا وتنام دون ثوابه يقظان ينتخل الكلام كأنّه ... جيش لديه يريد أن يلقى به فأتى به كالسّيف رقرق صيقل ... ما بين قائم سنخه وذبابه «2» ومن نادر وصفه للبلاغة قوله: [من الخفيف] في نظام من البلاغة ما شكّ ... امرؤ أنّه نظام فريد وبديع كأنّه الزّهر الضّاحك ... في رونق الرّبيع الجديد مشرق في جوانب السّمع ما يخ ... لقه عوده على المستعيد حجج تخرس الألدّ بألفا ... ظ فرادى كالجوهر المعدود ومعان لو فصّلتها القوافي ... هجّنت شعر جرول ولبيد جزن مستعمل الكلام اختيارا ... ونجنبن ظلمة التّعقيد وركبن اللّفظ القريب فأدرك ... ن به غاية المراد البعيد كالعذارى غدون في الحلل الصّف ... ر إذا رحن في الخطوط السّود «3»

_ (1) التبديد: التفريق؛ يقال: شمل مبدّد أي: مفرّق، وبدّد الشيء: فرّقه، وجاءت الخيل بداد أي: متفرقة. وتعلقن: أي فتنت الشعراء قبلي. (2) السّرد: الثقب والمسرودة: الدرع وقيل: السّرد: الحلق. وفي الآية: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ. والسّنخ: الأصل من كل شيء وسنخ الكلمة أصل بنائها وسنخ السّكين: طرف سيلانه الدّاخل في النصاب وسنخ السيف: سيلانه. والذباب: طرف السيف. (3) قال الشيخ شاكر معلقا على الأبيات: في ديوانه والأبيات يقولها في بلاغة محمد بن عبد الملك الزيّات الكاتب الوزير، وذكر قبل البيت الأوّل «عبد الحميد الكاتب» فقال لابن الزيّات: لتفنّنت في الكتابة حتّى ... عطّل الناس فنّ عبد الحميد والفريد: اللؤلؤ. وجرول: الحطيئة. ولبيد بن ربيعة: الفحل. وفي الديوان والمطبوعة قوله: «حزن

الغرض من كتب هذه الأبيات، الاستظهار، حتى إن حمل حامل نفسه على الغرر والتّقحّم على غير بصيرة، فزعم أن الإعجاز في مذاقة الحروف، وفي سلامتها مما يثقل على اللّسان علم بالنظر فيها فساد ظنّه وقبح غلطه، من حيث يرى عيانا أن ليس كلامهم كلام من خطر ذلك منه ببال، ولا صفاتهم صفات تصلح له على حال. إذ لا يخفى على عاقل أن لم يكن ضرب «تميم» لحزون جبال الشعر، لأن تسلم ألفاظه من حروف تثقل على اللسان ولا كان تقويم «عديّ» لشعره وتشبيهه نظره فيه بنظر المثقّف في كعوب قناته لذلك وأنّه محال أن يكون له جعل «بشّار» نور العين قد غاض فصار إلى قلبه، وأن يكون اللّؤلؤ الذي كان لا ينام عن طلبه وأن ليس هو صوب العقول «1» الذي إذا انجلت سحائب منه أعقبت بسحائب وأن ليس هو الدّرّ والمرجان مؤلّفا بالشّذر في العقد ولا الذي له كان «البحتري» مقدّرا «تقدير داود في السّرد». كيف؟ وهذه كلّها عبارات عمّا يدرك بالعقل ويستنبط بالفكر، وليس الفكر الطريق إلى تمييز ما يثقل على اللسان مما لا يثقل، إنما الطريق إلى ذلك الحسّ. ولولا أنّ البلوى قد عظمت بهذا الرأي الفاسد، وأنّ الذين قد استهلكوا فيه قد صاروا من فرط شغفهم به يصغون إلى كل شيء يسمعونه، حتى لو أن إنسانا قال: «باقلّى «2» حارّ»، يريهم أنه يريد نصرة مذهبهم، لأقبلوا بأوجههم عليه وألقوا أسماعهم إليه لكان اطّراحه وترك الاشتغال به أصوب، لأنه قول لا يتصل منه جانب بالصواب البتّة. ذاك لأنه أول شيء يؤدّي إلى أن يكون القرآن معجزا، لا بما به كان قرآنا وكلام الله عز وجل، لأنه على كل حال إنّما كان قرآنا وكلام الله عز وجل بالنّظم الذي هو عليه. ومعلوم أن ليس «النّظم» من مذاقة الحروف وسلامتها مما يثقل على اللسان في شيء. ثم إنّه اتّفاق من العقلاء أنّ الوصف الذي به تناهى القرآن إلى حدّ عجز عنه المخلوقون، هو الفصاحة والبلاغة. وما رأينا عاقلا جعل القرآن فصيحا أو بليغا، بأن

_ مستعمل الكلام» بالحاء المهملة وهكذا يجري في الكتب وهو عندي خطأ لا شك فيه وتصحيف مفسد للكلام والشعر معا، وإنما هي «جزن» بالجيم المعجمة من «جاز المكان» إذا تعدّاه وتركه خلفه. يقول: إن معانيه تعدّين مبتذل اللفظ والكلام وتركنه «وتجنّبن ظلمة التعقيد وركبن اللفظ القريب» وهو اللفظ المختار الجيّد الذي لا ابتذال فيه ولا تعقيد. وهو في بعض النسخ «جزن» بالجيم وهو الصواب المحض، وأمّا «حزن» فهو تصحيف يتّقى، وكلام يرعب عن مثله. وفي بعض نسخ الديوان: «كالعذارى غدون في الحلل البيض» وهي جيدة. انتهى كلام الشيخ شاكر- رحمه الله-. (1) الصّوب: نزول المطر، من صاب المطر صوبا: انصبّ. (2) الباقلّى: الفول واحدته: باقلّاة وباقلاءة.

لا يكون في حروفه ما يثقل على اللسان، لأنه لو كان يصحّ ذلك، لكان يجب أن يكون السّوقيّ الساقط من الكلام، والسفساف الرّديء من الشعر، فصيحا إذا خفّت حروفه. وأعجب من هذا، أنّه يلزم منه أن لو عمد عامد إلى حركات الإعراب فجعل مكان كلّ ضمّة وكسرة فتحة فقال: «الحمد لله»، بفتح الدال واللام والهاء، وجرى على هذا في القرآن كلّه، أن لا يسلبه ذلك الوصف الذي هو معجز به، بل كان ينبغي أن يزيد فيه، لأنّ الفتحة كما لا يخفى أخفّ من كلّ واحدة من الضمة والكسرة. فإن قال: إن ذلك يحيل المعنى. قيل له: إذا كان المعنى والعلّة في كونه معجزا خفّة اللّفظ وسهولته، فينبغي أن يكون مع إحالة المعنى معجزا، لأنه إذا كان معجزا لوصف يخصّ لفظه دون معناه، كان محالا أن يخرج عن كونه معجزا، مع قيام ذلك الوصف فيه. ودع هذا، وهب أنه لا يلزم شيء منه، فإنه يكفي في الدلالة على سقوطه وقلّة تمييز القائل به، أنه يقتضي إسقاط «الكناية» و «الاستعارة» و «التمثيل» و «المجاز» و «الإيجاز» جملة، واطّراح جميعها رأسا، مع أنها الأقطاب التي تدور البلاغة عليها، والأعضاد التي تستند الفصاحة إليها، والطّلبة التي يتنازعها المحسنون، والرّهان الذي تجرّب فيه الجياد، والنّضال الذي تعرف به الأيدي الشّداد، وهي التي نوّه بذكرها البلغاء ورفع من أقدارها العلماء، وصنّفوا فيها الكتب، ووكّلوا بها الهمم، وصرفوا إليها الخواطر، حتّى صار الكلام فيها نوعا من العلم مفردا، وصناعة على حدة، ولم يتعاط أحد من الناس القول في الإعجاز إلا ذكرها وجعلها العمد والأركان فيما يوجب الفضل والمزيّة، وخصوصا «الاستعارة» و «الإيجاز»، فإنّك تراهم يجعلونهما عنوان ما يذكرون، وأوّل ما يوردون. وتراهم يذكرون من «الاستعارة» قوله عز وجل: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مريم: 4]، وقوله: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [البقرة: 93]، وقوله عزّ وجلّ: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: 37]، وقوله عز وجل: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الحجر: 94]، وقوله: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا [يوسف: 80]، وقوله تعالى: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها «1» [محمد: 4]، وقوله: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [البقرة: 16].

_ (1) أوزار الحرب: أسلحتها: قال الأعشى: وأعددت للحرب أوزارها ... رماحا طوالا وخيلا ذكورا وقيل الأوزار: أثقال الشهداء لأنه عز وجلّ يمحّصهم من الذنوب.

ومن «الإيجاز» قوله تعالى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ «1» [الأنفال: 58]، وقوله تعالى: وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر: 14]، وقوله: فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ «2» [الأنفال: 57]، وتراهم على لسان واحد في أن «المجاز» و «الإيجاز» من الأركان في أمر الإعجاز. وإذا كان الأمر كذلك عند كافّة العلماء الذين تكلّموا في المزايا التي للقرآن، فينبغي أن ينظر في أمر الذي يسلم نفسه إلى الغرور، فيزعم أنّ الوصف الذي كان له القرآن معجزا، هو سلامة حروفه مما يثقل على اللسان، أيصحّ له القول بذلك إلّا من بعد أن يدّعي الغلط على العقلاء قاطبة فيما قالوه، والخطأ فيما أجمعوا عليه؟ وإذا نظرنا وجدناه لا يصحّ له ذلك إلّا بأن يقتحم هذه الجهالة، اللهم إلّا أن يخرج إلى الضّحكة فيزعم مثلا أن من شأن «الاستعارة» و «الإيجاز» إذا دخلا الكلام، أن يحدث بهما في حروفه خفة، وتتجدّد فيها سهولة، ونسأل الله تعالى العصمة والتوفيق. واعلم أنّا لا نأبى أن تكون مذاقة الحروف وسلامتها مما يثقل على اللسان داخلا فيما يوجب الفضيلة، وأن تكون مما يؤكّد أمر الإعجاز، وإنما الذي ننكره ونفيّل رأي من يذهب إليه، أن يجعله معجزا به وحده، ويجعله الأصل والعمدة، فيخرج إلى ما ذكرنا من الشناعات. ثم إنّ العجب كلّ العجب ممن يجعل كلّ الفضيلة في شيء هو إذا انفرد لم يجب به فضل البتّة، ولم يدخل في اعتداد بحال. وذلك أنّه لا يخفى على عاقل أنه لا يكون بسهولة الألفاظ وسلامتها مما يثقل على اللسان اعتداد، حتى يكون قد ألف منها كلام، ثم كان ذلك الكلام صحيحا في نظمه والغرض الذي أريد به، وأنه لو عمد عامد إلى ألفاظ فجمعها من غير أن يراعي فيها معنى، ويؤلّف منها كلاما، لم تر عاقلا يعتدّ السهولة فيها فضيلة، لأن الألفاظ لا تراد لأنفسها، وإنما تراد لتجعل أدلّة على المعاني. فإذا عدمت الذي له تراد، أو اختلّ أمرها فيه، لم يعتدّ بالأوصاف التي تكون في أنفسها عليها، وكانت السهولة وغير السهولة فيها واحدا. ومن هاهنا رأيت العلماء يذمّون من يحمله تطلّب السّجع والتجنيس على أن

_ (1) أي: إن كان بينك وبين قوم هدنة فخفت منهم نقضا للعهد فلا تبادر إلى النقض حتى تلقي إليهم أنك قد نقضت ما بينك وبينهم؛ فيكونوا معك في علم النقض والعود إلى الحرب مستوين. (2) يقال: شرد البعير: نفر والتشريد: الطّرد. والمعنى: أي: فرّق وبدّد جمعهم وقيل: فزّع بهم من خلفهم.

يضم لهما المعنى، ويدخل الخلل عليه من أجلهما، وعلى أن يتعسّف في الاستعارة بسببهما، ويركب الوعورة، ويسلك المسالك المجهولة، كالذي صنع أبو تمام في قوله: [من البسيط] سيف الإمام الّذي سمّته هييته ... لمّا تخرّم أهل الأرض مخترما قرّت بقرّان عين الدين وانتشرت ... بالأشترين عيون الشّرك فاصطلما «1» وقوله: [من الكامل] ذهبت بمذهبه السّماحة والتوت ... فيه الظّنون، أمذهب أم مذهب «2» ويصنعه المتكلفون في الأسجاع. وذلك أنّه لا يتصوّر أن يجب بهما، ومن حيث هما، فضل، ويقع بهما مع الخلوّ من المعنى اعتداد. وإذا نظرت إلى تجنيس أبي تمام: «أمذهب أم مذهب»، فاستضعفته، وإلى تجنيس القائل: [من البسيط] حتّى نجا من خوفه وما نجا «3» وقول المحدث: [من الخفيف] ناظراه فيما جنى ناظراه، ... أو دعاني أمت بما أو دعاني «4» فاستحسنته، لم تشكّ بحال أن ذلك لم يكن لأمر يرجع إلى اللّفظ، ولكن لأنك رأيت الفائدة ضعفت في الأوّل، وقويت في الثاني. وذلك؛ أنّك رأيت أبا تمام لم يزدك بمذهب ومذهب، على أن أسمعك حروفا مكررة لا تجد لها فائدة إن وجدت، إلا متكلّفة متمحّلة، ورأيت الآخر قد أعاد عليك اللفظة كأنه يخدعك عن

_ (1) البيتان في الديوان (ص 284) من قصيدة قالها يمدح إسحاق بن إبراهيم المصعبي. ويفصل بين البيتين بيت آخر نصه: إنّ الخليفة لما صال كنت له ... خليفة الموت في من جار أو ظلما وتخرّم: تشقق ويقال: رجل مخروم: أي قطعت وترة أنفه. ويقال: اخترم فلان عنا: مات وذهب، واخترمهم الدهر وتخرّمهم أي: اقتطعهم واستأصلهم. وشترت العين: استرخت وانشقت، واصطلم: استؤصل. (2) البيت في ديوانه من قصيدة له يمدح الحسن بن وهب ويصف غلاما أهداه إليه. (3) البيت في أسرار البلاغة غير منسوب، وقال الشيخ شاكر- رحمه الله- في تعليقه: «نجا» الأولى من «النجو» وهو ما يخرج من البطن من الغائط، يريد أنه من خوفه أحدث، ثم لم ينج من «النجاة». (4) البيت في أسراء البلاغة (ص 7)، وهو لشدّاد بن إبراهيم الجزري أو لأبي الفتح البستي.

فصل [في أن النظم هو توخي المعاني]

الفائدة وقد أعطاها، ويوهمك أن لم يزدك وقد أحسن الزيادة ووفّاها. ولهذه النّكتة كان التجنيس، وخصوصا المستوفى منه، مثل «نجا» و «نجا»، من حليّ الشّعر. والقول فيما يحسن وفيما لا يحسن من التجنيس والسجع يطول، ولم يكن غرضنا من ذكرهما شرح أمرهما، ولكن توكيد ما انتهى بنا القول إليه من استحالة أن يكون الإعجاز في مجرّد السّهولة وسلامة الألفاظ مما يثقل على اللسان. وجملة الأمر، أنّا ما رأينا في الدّنيا عاقلا اطّرح النّظم والمحاسن التي هو السبب فيها من «الاستعارة» و «الكناية» و «التمثيل»، وضروب «المجاز» و «الإيجاز»، وصدّ بوجهه عن جميعها، وجعل الفضل كلّه والمزيّة أجمعها في سلامة الحروف مما يثقل. كيف؟ وهو يؤدي إلى السخف والخروج من العقل كما بينا. واعلم أنه قد آن لنا نعود إلى ما هو الأمر الأعظم والغرض الأهمّ، والّذي كأنّه هو الطّلبة، وكل ما عداه ذرائع إليه. وهو المرام، وما سواه أسباب للتسلّق عليه، وهو بيان العلل التي لها وجب أن يكون لنظم مزيّة على نظم، وأن يعظم أمر التفاضل فيه ويتناهى إلى الغايات البعيدة. ونحن نسأل الله تعالى العون على ذلك، والتوفيق له والهداية إليه. بسم الله الرّحمن الرّحيم فصل [في أن النظم هو توخي المعاني] ما أظنّ بك أيها القارئ لكتابنا، إن كنت وفّيته حقّه من النظر، وتدبّرته حقّ التدبّر، إلّا أنّك قد علمت علما أبى أن يكون للشكّ فيه نصيب، وللتوقّف نحوك مذهب، أن ليس «النّظم» شيئا إلّا توخّي معاني النحو وأحكامه ووجوهه وفروقه فيما بين معاني الكلم وأنك قد تبيّنت أنه إذا رفع معاني النحو وأحكامه مما بين الكلم حتّى لا تراد فيها في جملة ولا تفصيل، خرجت الكلم المنطوق ببعضها في إثر بعض في البيت من الشعر والفصل من النثر، عن أن يكون لكونها في مواضعها التي وضعت فيها موجب ومقتض، وعن أن يتصوّر أن يقال في كلمة منها إنّها مرتبطة بصاحبة لها، ومتعلقة بها، وكائنة بسبب منها وأنّ حسن تصوّرك لذلك، قد ثبت فيه قدمك، وملأ من الثّقة نفسك، وباعدك من أن تحنّ إلى الذي كنت عليه، وأن يجرّك الإلف والاعتياد إليه وأنّك جعلت ما قلناه نقشا في صدرك، وأثبتّه في سويداء قلبك، وصادقت بينه وبين نفسك. فإن كان الأمر كما ظننّاه، رجونا أن يصادف الذي نريد

أن نستأنفه بعون الله تعالى منك نيّة حسنة تقيك الملل، ورغبة صادقة تدفع عنك السّأم، وأريحيّة يخفّ معها عليك تعب الفكر وكدّ النّظر، والله تعالى وليّ توفيقك وتوفيقنا بمنه وفضله. ونبدأ فنقول: فإذا ثبت الآن أن لا شكّ ولا مرية في أن ليس «النظم» شيئا غير توخّي معاني النحو وأحكامه فيما بين معاني الكلم، ثبت من ذلك أن طالب دليل الإعجاز من نظم القرآن، إذا هو لم يطلبه في معاني النحو وأحكامه ووجوهه وفروقه، ولم يعلم أنها معدنه ومعانه «1»، وموضعه ومكانه، وأنّه لا مستنبط له سواها، وأن لا وجه لطلبه فيما عداها، غارّ نفسه بالكاذب من الطمع، ومسلم لها إلى الخدع، وأنه إن أبى أن يكون فيها، كان قد أبى أن يكون القرآن معجزا بنظمه، ولزمه أن يثبت شيئا آخر يكون معجزا به، وأن يلحق بأصحاب «الصّرفة» «2» فيدفع الإعجاز عن أصله، وهذا تقرير لا يدفعه إلّا معاند يعدّ الرجوع عن باطل قد اعتقده عجزا، والثّبات عليه من بعد لزوم الحجة جلدا، ومن وضع نفسه في هذه المنزلة، كان قد باعدها من الإنسانيّة. ونسأل الله تعالى العصمة والتوفيق. وهذه أصول يحتاج إلى معرفتها قبل الذي عمدنا له. اعلم أنّ معاني الكلام كلّها معان لا تتصوّر إلا فيما بين شيئين، والأصل والأوّل هو «الخبر». وإذا أحكمت العلم بهذا المعنى فيه، عرفته في الجميع. ومن الثّابت في العقول والقائم في النفوس، أنه لا يكون خبر حتى يكون مخبر به ومخبر عنه، لأنه ينقسم إلى «إثبات» و «نفي». و «الإثبات»، يقتضي مثبتا ومثبتا له، و «النفي» يقتضي منفيّا ومنفيّا عنه. فلو حاولت أن تتصوّر إثبات معنى أو نفيه من دون أن يكون هناك مثبت له ومنفي عنه، حاولت ما لا يصحّ في عقل، ولا يقع في وهم. ومن أجل ذلك امتنع أن يكون لك قصد إلى فعل من غير أن تريد إسناده إلى شيء مظهر أو مقدّر مضمر، وكان لفظك به، إذا أنت لم ترد ذلك، وصوتا تصوّته سواء. وإن أردت أن تستحكم معرفة ذلك في نفسك، فانظر إليك إذا قيل لك: «ما فعل زيد»؟ فقلت: «خرج»، هل يتصوّر أن يقع في خلدك من «خرج» معنى من دون أن ينوى فيه ضمير «زيد»؟ وهل تكون، إن أنت زعمت أنك لم تنو ذلك، إلّا مخرجا نفسك إلى الهذيان؟

_ (1) المعان: المباءة والمنزل ومعان القوم: منزلهم. اللسان (معن). (2) هم المعتزلة، الحيوان للجاحظ (4/ 89).

وكذلك فانظر إذا قيل لك: «كيف زيد؟»، فقلت: «صالح»، هل يكون نقولك «صالح» أثر في نفسك من دون أن تريد «هو صالح»؟ أم هل يعقل السّامع منه شيئا إن هو لم يعتقد ذلك؟ فإنه ممّا لا يبقى معه لعاقل شكّ أن «الخبر» معنى لا يتصوّر إلّا بين شيئين، يكون أحدهما مثبتا، والآخر مثبتا له، أو يكون أحدهما منفيّا، والآخر منفيّا عنه وأنه لا يتصوّر مثبت من غير مثبت له، ومنفيّ من دون منفيّ عنه. ولما كان الأمر كذلك، أوجب ذلك أن لا يعقل إلّا من مجموع جملة فعل واسم كقولنا: «خرج زيد»، أو اسم واسم، كقولنا: «زيد منطلق»، فليس في الدنيا خبر يعرف من غير هذا السبيل، وبغير هذا الدليل. وهو شيء يعرفه العقلاء في كل جيل وأمّة، وحكم يجري عليه الأمر في كل لسان ولغة. وإذ قد عرفت أنه لا يتصوّر الخبر إلّا فيما بين شيئين: مخبر به ومخبر عنه، فينبغي أن تعلم أنه يحتاج من بعد هذين إلى ثالث. وذلك أنه كما لا يتصوّر أن يكون هاهنا خبر حتى يكون مخبر به ومخبر عنه، وكذلك لا يتصوّر أن يكون خبر حتّى يكون له «مخبر» يصدر عنه ويحصل من جهته، ويكون له نسبة إليه، وتعود التّبعة فيه عليه، فيكون هو الموصوف بالصّدق إن كان صدقا، وبالكذب إن كان كذبا. أفلا ترى أنّ من المعلوم أنه لا يكون إثبات ونفي حتى يكون مثبت وناف يكون مصدرهما من جهته، ويكون هو المزجيّ لهما، والمبرم والناقض فيهما، ويكون بهما موافقا ومخالفا، ومصيبا ومخطئا، ومحسنا ومسيئا. - وجملة الأمر، أن «الخبر» وجميع الكلام، معان ينشئها الإنسان في نفسه، ويصرّفها في فكره، ويناجي بها قلبه، ويراجع فيها عقله، وتوصف بأنها مقاصد وأغراض، وأعظمها شأنا «الخبر»، فهو الذي يتصوّر بالصّور الكثيرة، وتقع فيه الصّناعات العجيبة، وفيه يكون، في الأمر الأعمّ، المزايا التي بها يقع التفاضل في الفصاحة، كما شرحنا فيما تقدّم، ونشرحه فيما نقول من بعد إن شاء الله تعالى. واعلم أنك إذا فتّشت أصحاب «اللّفظ» عمّا في نفوسهم، وجدتهم قد توهّموا في «الخبر» أنه صفة للفظ، وأن المعنى في كونه إثباتا، أنه لفظ يدلّ على وجود لمعنى من الشيء أو فيه وفي كونه نفيا، أنه لفظ يدلّ على عدمه وانتفائه عن الشيء. وهو شيء قد لزمهم، وسرى في عروقهم، وامتزج بطباعهم، حتى صار الظنّ بأكثرهم أنّ القول لا ينجع فيهم. والدليل على بطلان ما اعتقدوه، أنّه محال أن يكون «اللّفظ» قد نصب دليلا

على شيء، ثم لا يحصل منه العلم بذلك الشيء، إذ لا معنى لكون الشيء دليلا إلّا إفادته إيّاك العلم بما هو دليل عليه. وإذا كان هذا كذلك علم منه أن ليس الأمر على ما قالوه، من أن المعنى في وصفنا «اللفظ» بأنه خبر، أنه قد وضع لأن يدلّ على وجود المعنى أو عدمه، لأنه لو كان كذلك، لكان ينبغي أن لا يقع من سامع شكّ في خبر يسمعه، وأن لا تسمع الرّجل يثبت وينفي إلّا علمت وجود ما أثبت وانتفاء ما نفى، وذلك مما لا يشكّ في بطلانه. فإذا لم يكن ذلك مما يشكّ في بطلانه، وجب أن يعلم أنّ مدلول «اللفظ» ليس هو وجود المعنى أو عدمه، ولكن الحكم بوجود المعنى أو عدمه، وأنّ ذلك، أي الحكم بوجود المعنى أو عدمه، حقيقة الخبر، إلّا أنه إذا كان بوجود المعنى من الشيء أو فيه يسمّى «إثباتا»، وإذا كان بعدم المعنى وانتفائه عن الشيء يسمى «نفيا». ومن الدليل على فساد ما زعموه، أنه لو كان معنى «الإثبات»، الدلالة على وجود المعنى وإعلامه السامع أيضا، وكان معنى «النفي» الدلالة على عدمه وإعلامه السامع أيضا، لكان ينبغي إذا قال واحد: «زيد عالم»، وقال آخر: «زيد ليس بعالم»، أن يكون قد دلّ هذا على وجود العلم وهذا على عدمه، وإذا قال الموحّد: «العالم محدث» وقال الملحد: «هو قديم»، أن يكون قد دلّ الموحّد على حدوثه، والملحد على قدمه، وذلك ما لا يقوله عاقل. تقرير لذلك بعبارة أخرى: لا يتصوّر أن تفتقر المعاني المدلول عليها بالجمل المؤلّفة إلى دليل يدلّ عليها زائد على اللفظ. كيف؟ وقد أجمع العقلاء على أن العلم بمقاصد النّاس في محاوراتهم علم ضرورة، ومن ذهب مذهبا يقتضي أن لا يكون «الخبر» معنى في نفس المتكلم، ولكن يكون وصفا للّفظ من أجل دلالته على وجود المعنى من الشيء أو فيه، أو انتفاء وجوده عنه، كان قد نقض منه الأصل الذي قدّمناه، من حيث يكون قد جعل المعنى المدلول عليه باللفظ، لا يعرف إلا بدليل سوى اللفظ. ذاك لأنا لا نعرف وجود المعنى المثبت وانتفاء المنفيّ باللفظ، ولكنا نعلمه بدليل يقوم لنا زائد على اللفظ. وما من عاقل إلّا وهو يعلم ببديهة النّظر أنّ المعلوم بغير اللفظ، لا يكون مدلول اللفظ. طريقة أخرى: الدّلالة على الشيء هي لا محالة إعلامك السامع إيّاه، وليس بدليل ما أنت لا تعلم به مدلولا عليه. وإذا كان كذلك، وكان ممّا يعلم ببدائه

المعقول أن الناس إنما يكلم بعضهم بعضا ليعرف السامع غرض المتكلم ومقصوده، فينبغي أن ينظر إلى مقصود المخبر من خبره، ما هو؟ أهو أن يعلم السامع المخبر به والمخبر عنه، أم أن يعلمه إثبات المعنى المخبر به للمخبر عنه؟ فإن قيل: إن المقصود إعلامه السامع وجود المعنى من المخبر عنه، فإذا قال: «ضرب زيد» كان مقصوده أن يعلم السّامع وجود الضرب من زيد، وليس الإثبات إلّا إعلامه السامع وجود المعنى. قيل له: فالكافر إذا أثبت مع الله تعالى عمّا يقول الظالمون، إلها آخر، يكون قاصدا أن يعلم، نعوذ بالله تعالى، أن مع الله تعالى إلها آخر؟ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا، وكفى بهذا فضيحة. وجملة الأمر، أنه ينبغي أن يقال لهم: أتشكّون في أنّه لا بدّ من أن يكون لخبر المخبر معنى يعلمه السامع علما لا يكون معه شكّ، ويكون ذلك معنى اللفظ وحقيقته؟ فإذا قالوا: لا نشكّ. قيل لهم: فما ذلك المعنى؟ فإن قالوا: هو وجود المعنى المخبر به من المخبر عنه أو فيه، إذا كان الخبر إثباتا، وانتفاؤه عنه إذا كان نفيا لم يمكنهم أن يقولوا ذلك إلا من بعد أن يكابروا فيدّعوا أنهم إذا سمعوا الرجل يقول: «خرج زيد»، علموا علما لا شكّ معه، وجود الخروج من زيد. وكيف يدّعون ذلك، وهو يقتضي أن يكون الخبر على وفق المخبر عنه أبدا، وأن لا يجوز فيه أن يقع على خلاف المخبر عنه، وأن يكون العقلاء قد غلطوا حين جعلوا من خاصّ وصفه أنّه يحتمل الصّدق والكذب، وأن يكون الذي قالوه في أخبار الآحاد وأخبار التواتر من أن العلم يقع بالتّواتر دون الآحاد سهوا منهم، ويقتضي الغنى عن المعجزة، لأنه إنما احتيج إليها ليحصل العلم بكون الخبر على وفق المخبر عنه، فإذا كان لا يكون إلا على وفق المخبر عنه، لم تقع الحاجة إلى دليل يدلّ على كونه كذلك، فاعرفه. واعلم أنّه إنما لزمهم ما قلناه، من أن يكون الخبر على وفق المخبر عنه أبدا، من حيث أنه إذا كان معنى الخبر عندهم، إذا كان إثباتا، أنه لفظ موضوع ليدل على وجود المعنى المخبر به من المخبر عنه أو فيه، وجب أن يكون كذلك أبدا، وأن لا

يصحّ أن يقال: «ضرب زيد»، إلا إذا كان الضرب قد وجد من زيد. وكذلك يجب في النّفي أن لا يصح أن يقال: «ما ضرب زيد»، إلا إذا كان الضرب لم يوجد منه، لأن تجويز أن يقال: «ضرب زيد»، من غير أن يكون قد كان منه ضرب، وأن يقال: «ما ضرب زيد»، وقد كان منه ضرب، يوجب على أصلهم إخلاء اللفظ من معناه الذي وضع ليدلّ عليه. وذلك ما لا يشكّ في فساده. ولا يلزمنا ذلك على أصلنا، لأن معنى «اللفظ» عندنا هو الحكم بوجود المخبر به من المخبر عنه أو فيه، إذا كان الخبر إثباتا، والحكم بعدمه إذا كان نفيا، واللّفظ عندنا لا ينفكّ من ذلك ولا يخلو منه. وذلك لأن قولنا: «ضرب» و «ما ضرب»، يدلّ من قول الكاذب على نفس ما يدلّ عليه من قول الصادق، لأنّا إن لم نقل ذلك، لم يخل من أن يزعم أنّ الكاذب يخلي اللّفظ من المعنى، أو يزعم أنه يجعل للّفظ معنى غير ما وضع له، وكلاهما باطل. ومعلوم أنه لا يزال يدور في كلام العقلاء في وصف الكاذب: «أنه يثبت ما ليس بثابت، وينفي ما ليس بمنتف»، والقول بما قالوه يؤدّي إلى أن يكون العقلاء قد قالوا المحال، من حيث يجب على أصلهم أن يكونوا قد قالوا: إن الكاذب يدلّ على وجود ما ليس بموجود، وعلى عدم ما ليس بمعدوم. وكفى بهذا تهافتا وخطلا، ودخولا في اللّغو من القول. وإذا اعتبرنا أصلنا كان تفسيره: أن الكاذب يحكم بالوجود فيما ليس بموجود، وبالعدم فيما ليس بمعدوم، وهو أسدّ كلام وأحسنه. والدليل على أن اللّفظ من قول الكاذب يدلّ على نفس ما يدلّ عليه من قول الصادق، أنهم جعلوا خاصّ وصف الخبر أنه يحتمل الصّدق والكذب، فلولا أن حقيقته فيهما حقيقة واحدة، لما كان لحدّهم هذا معنى. ولا يجوز أن يقال: إن الكاذب يأتي بالعبارة على خلاف المعبّر عنه، لأن ذلك إنما يقال فيمن أراد شيئا، ثم أتى بلفظ لا يصلح للذي أراد، ولا يمكننا أن نزعم في الكاذب أنه أراد أمرا، ثم أتى بعبارة لا تصلح لما أراد. ومما ينبغي أن يحصّل في هذا الباب، أنهم قد أصّلوا في «المفعول» وكلّ ما زاد على جزئي الجملة، أنه يكون زيادة في الفائدة. وقد يتخيّل إلى من ينظر إلى ظاهر هذا من كلامهم، أنهم أرادوا بذلك أنك تضمّ بما تزيده على جزئي الجملة فائدة أخرى، وينبني عليه أن ينقطع عن الجملة، حتى يتصوّر أن يكون فائدة على

حدة، وهو ما لا يعقل، إذ لا يتصوّر في «زيد» من قولك» «ضربت زيدا»، أن يكون شيئا برأسه، حتى تكون بتعديتك «ضربت» إليه قد ضممت فائدة إلى أخرى. وإذا كان ذلك كذلك، وجب أن يعلم أن الحقيقة في هذا: أن الكلام يخرج بذكر «المفعول» إلى معنى غير الذي كان، وأن وزان الفعل قد عدّي إلى مفعول معه، وقد أطلق فلم يقصد به إلى مفعول دون مفعول، وزان الاسم المخصص بالصّفة مع الاسم المتروك على شياعه، كقولك: «جاءني رجل ظريف»، مع قولك: «جاءني رجل»، في أنك لست في ذلك كمن يضم معنى إلى معنى وفائدة إلى فائدة، ولكن كمن يريد هاهنا شيئا وهناك شيئا آخر. فإذا قلت: «ضربت زيدا»، كان المعنى غيره إذا قلت: «ضربت» ولم تزد «زيدا». وهكذا يكون الأمر أبدا، كلّما زدت شيئا، وجدت المعنى قد صار غير الذي كان. ومن أجل ذلك صلح المجازاة بالفعل الواحد، إذا أتي به مطلقا في الشّرط، ومعدى إلى شيء في الجزاء، كقوله تعالى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ [الإسراء: 7]، وقوله عز وجل: وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشعراء: 130]، مع العلم بأن الشرط ينبغي أن يكون غير الجزاء، من حيث كان الشرط سببا والجزاء مسبّبا، وأنه محال أن يكون الشيء سببا لنفسه. فلولا أنّ المعنى في «أحسنتم» الثانية، غير المعنى في الأولى، وأنها في حكم فعل ثان، لما ساغ ذلك، كما لا يسوغ أن تقول: «إن قمت قمت، وإن خرجت خرجت»، ومثله من الكلام قوله: «المرء بأصغريه، إن قال قال ببيان، وإن صال صال بجنان»، ويجري ذلك في الفعلين قد عدّيا جميعا، إلّا أن الثاني منهما قد تعدّى إلى شيء زائد على ما تعدّى إليه الأوّل، ومثاله قولك: «إن أتاك زيد أتاك لحاجة»، وهو أصل كبير. والأدلّة على ذلك كثيرة، ومن أولاها بأن يحفظ: أنك ترى البيت قد استحسنه الناس وقضوا لقائله بالفضل فيه، وبأن الذي غاص على معناه بفكره، وأنه أبو عذره، ثم لا ترى ذلك الحسن وتلك الغرابة كانا، إلّا لما بناه على الجملة دون نفس الجملة. ومثال ذلك قول الفرزدق: [من الطويل] وما حملت أمّ امرئ في ضلوعها ... أعقّ من الجاني عليها هجائيا «1» فلولا أن معنى الجملة يصير بالبناء عليها شيئا غير الذي كان، ويتغيّر في ذاته، لكان محالا أن يكون البيت بحيث تراه من الحسن والمزيّة، وأن يكون معناه خاصّا

_ (1) البيت في ديوانه (2/ 361)، من قصيدة له قيل إنها أول من هجا به جريرا والبعيث مطلعها: ألم تر أني يوم جو سويقة ... بكيت فنادتني هنيدة ما ليا

بالفرزدق، وأن يقتضى له بالسّبق إليه، إذ ليس في الجملة التي بنى عليها ما يوجب شيئا من ذلك، فاعرفه. والنّكتة التي يجب أن تراعى في هذا، أنه لا تتبيّن لك صورة المعنى الذي هو معنى الفرزدق، إلا عند آخر حرف من البيت، حتى إن قطعت عنه قوله «هجائيا» بل «الياء» التي هي ضمير الفرزدق، لم يكن الذي تعقله منه ممّا أراده الفرزدق بسبيل، لأن غرضه تهويل أمر هجائه، والتحذير منه، أنّ من عرّض أمّه له، كان قد عرّضها لأعظم ما يكون من الشّرّ. وكذلك حكم نظائره من الشعر، فإذا نظرت إلى قول القطامي: [من البسيط] فهنّ ينبذن من قول يصبن به ... مواقع الماء من ذي الغلّة الصّادي «1» وجدتك لا تحصل على معنى يصحّ أن يقال إنه غرض الشاعر ومعناه، إلّا عند قوله «ذي الغلّة». ويزيدك استبصارا فيما قلناه، أن تنظر فيما كان من الشعر جملا قد عطف بعضها على بعض بالواو، كقوله: [من الكامل] النّشر مسك، والوجوه دنا ... نير، وأطراف الأكفّ عنم «2» وذلك أنك ترى الذي تعقله من قوله: «النشر مسك»، لا يصير بانضمام قوله: «والوجوه دنانير»، إليه شيئا غير الذي كان، بل تراه باقيا على حاله. كذلك ترى ما تعقل من قوله: «والوجوه دنانير»، لا يلحقه تغيير بانضمام قوله: و «أطراف الأكفّ عنم»، إليه. وإذ قد عرفت ما قرّرناه من أنّ من شأن الجملة أن يصير معناها بالبناء عليها

_ (1) البيت في ديوانه (ص 81)، والإيضاح (ص 237)، ولسان العرب (صدى)، وأسرار البلاغة (نبذ). (2) البيت للمرقش الأكبر في ديوانه، والمفضليات (238)، وفي مفتاح العلوم (ص 661) بتحقيقنا، وكذلك الإيضاح (228)، من قصيدة له مطلعها: هل بالديار أن تجيب صمم ... لو كان رسم ناطقا كلّم والبيت في الإشارات (ص 182)، والأسرار (ص 123)، واللسان (قوم)، ومعجم الشعراء (ص 102)، وتاج العروس (قوم)، وبلا نسبة في جمهرة اللغة (ص 978)، والاشتقاق (ص 46). والنشر: الريح، يقول ريحههن كالمسك. دنانير: ممنوع من الصرف ويقرؤه كثير من الناس هنا مصروفا، وهو خطأ رواية، والعنم: شجر أحمر لين الأغصان شبه حمرة أطراف الأصابع به.

شيئا غير الذي كان، وأنه يتغير في ذاته، فاعلم أنّ ما كان من الشعر مثل بيت بشّار: [من الطويل] كأنّ مثار النّقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه «1» وقول امرئ القيس: [من الطويل] كأنّ قلوب الطّير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العنّاب والحشف البالي «2» وقول زياد: [من الطويل] وإنّا وما تلقي لنا إن هجوتنا ... لكالبحر، مهما يلق في البحر يغرق «3» كان له مزيّة على قول الفرزدق فيما ذكرنا، لأنك تجد في صدر بيت الفرزدق جملة تؤدّي معنى، وإن لم يكن معنى يصحّ أن يقال إنه معنى فلان، ولا تجد في صدر هذه الأبيات ما يصحّ أن يعد جملة تؤدّي معنى، فضلا عن أن تؤدّي معنى يقال إنه معنى فلان. ذاك لأن قوله: «كأن مثار النّقع» إلى: «وأسيافنا»، جزء واحد و «ليل تهاوى كواكبه» بجملته الجزء الذي ما لم تأت به لم تكن قد أتيت بكلام. وهكذا سبيل البيتين الآخرين. فقوله: «كأن قلوب الطّير رطبا ويابسا لدى وكرها»، جزء وقوله: «العناب والحشف البالي» الجزء الثاني وقوله: «وإنّا وما تلقي لنا إن هجوتنا» جزء، وقوله: «لكالبحر، الجزء الثاني، وقوله: «مهما تلق في البحر يغرق»، وإن كان جملة مستأنفة ليس لها في الظاهر تعلّق بقوله: «لكالبحر»، فإنها لمّا كانت مبيّنة لحال هذا التشبيه، صارت كأنها متعلّقة بهذا التشبيه، وجرى مجرى أن تقول: «لكالبحر في أنه لا يلقى فيه شيء إلّا غرق».

_ (1) البيت لبشار في ديوانه (1/ 318)، والمصباح (106)، ويروى (رءوسهم) بدلا من (رءوسنا)، وأسرار البلاغة (ص 174، 194، 195، 198)، والتبيان للطيبي (ص 278)، ومثار النقع: الغبار الذي أثاره المتحاربون، وتهاوى: تتساقط. ويرى عبد القاهر أن الشاعر جعل الكواكب تهاوى فأتم التشبيه وعبّر عن هيئة السيوف وقد سلت من الأغماد وهي تعلو وترسب وتجيء وتذهب ... ويرى أنه نظم هذه الدقائق في نفسه ثم أحضرت صورها بلفظة واحدة ونبّه عليها بأحسن التنبيه وأكمله بكلمة وهي قوله (تهاوى) لأن الكواكب إذا تهاوت اختلفت جهات حركاتها وكان لها في تهاويها تواقع وتداخل ثم إنها بالتهاوي تستطيل أشكالها فأما إذا لم تزل عن أماكنها فهي على صورة الاستدارة. (أسرار البلاغة). (2) سبق تخريجه انظر (ص 79). (3) سبق في (ص 79) فانظره.

فصل

فصل وإذا ثبت أن الجملة إذا بني عليها حصل منها ومن الذي بني عليها في الكثير، معنى يجب فيه أن ينسب إلى واحد مخصوص، فإنّ ذلك يقتضي لا محالة أن يكون «الخبر» في نفسه معنى هو غير المخبر به والمخبر عنه. ذاك لعلمنا باستحالة أن يكون للمعنى المخبر به نسبة إلى المخبر، وأن يكون المستنبط والمستخرج والمستعان على تصويره بالفكر. فليس يشكّ عاقل أنه محال أن يكون للحمل في قوله: وما حملت أمّ امرئ في ضلوعها «1» نسبة إلى الفرزدق، وأن يكون الفكر منه كان فيه نفسه، وأن يكون معناه الذي قيل إنّه استنبطه واستخرجه وغاص عليه. وهكذا السبيل أبدا، لا يتصوّر أن يكون للمعنى المخبر به نسبة إلى الشاعر، وأن يبلغ من أمره أن يصير خاصّا به، فاعرفه. ومن الدليل القاطع فيه، ما بيّنّاه في «الكناية»، و «الاستعارة» و «التمثيل» وشرحناه، من أن من شأن هذه الأجناس أن توجب الحسن والمزية، وأنّ المعاني تتصوّر من أجلها بالصّور المختلفة، وأن العلم بإيجابها ذلك ثابت في العقول، ومركوز في غرائز النفوس. وبيّنّا كذلك أنه محال أن تكون المزايا التي تحدث بها، حادثة في المعنى المخبر به، المثبت أو المنفيّ، لعلمنا باستحالة أن تكون المزيّة التي تجدها لقولنا: «هو طويل النجاد» على قولنا «طويل القامة» في الطول، والتي تجدها لقولنا: «هو كثير رماد القدر» على قولنا: «هو كثير القرى والضيافة» في كثرة القرى. وإذا كان ذلك محالا، ثبت أن المزيّة والحسن يكونان في إثبات ما يراد أن وصف به المذكور، والإخبار به عنه. وإذا ثبت ذلك، ثبت أنّ «الإثبات» معنى، لأن حصول المزيّة والحسن فيما ليس بمعنى، محال. هذا ممّا نقل من مسودّته بخطّه بعد وفاته رحمه الله.

_ (1) صدر بيت له في ديوانه وعجزه: أعق من الجاني عليها هجائيا والبيت سبق تخريجه (ص 342).

[فصل]

بسم الله الرّحمن الرّحيم [فصل] وبه ثقتي وعليه اعتمادي اعلم أنّ هاهنا أصلا أنت ترى الناس فيه في صورة من يعرف من جانب وينكر من آخر، وهو أن الألفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة، لم توضع لتعرف معانيها في أنفسها، ولكن لأن يضمّ بعضها إلى بعض، فيعرف فيما بينهما فوائد. وهذا علم شريف، وأصل عظيم. والدليل على ذلك، أنّا إن زعمنا أن الألفاظ، التي هي أوضاع اللغة، إنما وضعت ليعرف بها معانيها في أنفسها، لأدّى ذلك إلى ما لا يشك عاقل في استحالته، وهو أن يكونوا قد وضعوا للأجناس الأسماء التي وضعوها لها لتعرفها بها، حتى كأنهم لو لم يكونوا قالوا: «رجل» و «فرس» و «دار»، لما كان يكون لنا علم بهذه الأجناس ولو لم يكونوا وضعوا أمثلة الأفعال لما كان لنا علم بمعانيها حتى لو لم يكونوا قالوا: «فعل» و «يفعل»، لما كنّا نعرف الخبر في نفسه ومن أصله- ولو لم يكونوا قد قالوا: «افعل»، لما كنّا نعرف الأمر من أصله، ولا نجده في نفوسنا وحتى لو لم يكونوا قد وضعوا الحروف، لكنا نجهل معانيها، فلا نعقل نفيا ولا نهيا ولا استفهاما ولا استثناء. كيف؟ والمواضعة لا تكون ولا تتصوّر إلا على معلوم، فمحال أن يوضع اسم أو غير اسم لغير معلوم، لأن المواضعة كالإشارة، فكلما أنّك إذا قلت: «خذ ذاك»، لم تكن هذه الإشارة لتعرّف السامع المشار إليه في نفسه، ولكن ليعلم أنّه المقصود من بين سائر الأشياء التي تراها وتبصرها. كذلك حكم «اللفظ» مع ما وضع له. ومن هذا الذي يشكّ أنا لم نعرف «الرجل» و «الفرس» و «الضرب» و «القتل» إلّا من أساميها؟ لو كان لذلك مساغ في العقل، لكان ينبغي إذا قيل: «زيد» أن تعرف المسمّى بهذا الاسم من غير أن تكون قد شاهدته أو ذكر لك بصفة. وإذا قلنا في العلم باللغات من مبتدأ الأمر أنه كان إلهاما، فإن الإلهام لا يرجع إلى معاني اللغات، ولكن إلى كون ألفاظ اللّغات سمات لتلك المعاني، وكونها مرادة بها. أفلا ترى إلى قوله تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [البقرة: 31]، أفترى أنه قيل لهم: «أنبئوني بأسماء هؤلاء»، وهم لا يعرفون المشار إليهم بهؤلاء؟ وإذ قد عرفت هذه الجملة، فاعلم أن معاني الكلام كلّها معان لا تتصوّر إلا

فيما بين شيئين، والأصل والأوّل هو «الخبر»، وإذا أحكمت العلم بهذا المعنى فيه عرفته في الجميع. ومن الثّابت في العقول والقائم في النفوس، أنه لا يكون خبر حتى يكون مخبر به ومخبر عنه، لأنه ينقسم إلى «إثبات» و «نفي»، و «الإثبات» يقتضي مثبتا ومثبتا له، و «النفي» يقتضي منفيّا ومنفيّا عنه. فلو حاولت أن تتصوّر إثبات معنى أو نفيه، من غير أن يكون هناك مثبت له ومنفيّ عنه، حاولت ما لا يصحّ في عقل، ولا يقع في وهم. من أجل ذلك امتنع أن يكون لك قصد إلى فعل من غير أن تريد إسناده إلى شيء، وكنت إذا قلت: «ضرب»، لم تستطع أن تريد منه معنى في نفسك، من غير أن تريد الخبر به عن شيء مظهر أو مقدّر، وكان لفظك به، إذا أنت لم ترد ذلك، وصوتا تصوّته، سواء. وإن أردت أن يستحكم معرفة ذلك في نفسك، فانظر إليك إذا قيل لك: «ما فعل زيد»؟ فقلت: «خرج»، هل يتصوّر أن يقع في خلدك من «خرج» معنى من دون أن تنوي فيه ضمير «زيد»؟ وهل تكون إن أنت زعمت أنك لم تنو ذلك إلّا مخرجا نفسك إلى الهذيان؟ وكذلك فانظر إذا قيل لك: «كيف زيد»؟، فقلت: «صالح»: هل يكون لقولك: «صالح» أثر في نفسك من دون أن تريد «هو صالح»؟ أم هل يعقل السامع شيئا إن هو لم يعتقد ذلك؟ إذا ثبت ذلك، فإنه ما لا يبقى معه لعاقل شكّ، أنّ الخبر معنى لا يتصوّر إلا بين شيئين يكون أحدهما مثبتا، والآخر مثبتا له، أو يكون أحدهما منفيّا، والآخر منفيّا عنه وأنه لا يتصور مثبت من غير مثبت له، ومنفيّ من دون منفيّ عنه. فلما كان الأمر كذلك، أوجب ذلك أن لا يعقل إلا من مجموع جملة فعل واسم، كقولنا: «خرج زيد»، أو اسم واسم، كقولنا: «زيد منطلق». فليس في الدّنيا خبر يعرف من غير هذا السبيل، وبغير هذا الدليل، وهو شيء يعرفه العقلاء في كل جيل وأمّة، وحكم يجري عليه الأمر في كل لسان ولغة. وإذ قد عرفت أنه لا يتصوّر الخبر إلا فيما بين شيئين: مخبر به ومخبر عنه، فينبغي أن تعلم أنه يحتاج من بعد هذين إلى ثالث، وذلك أنه كما لا يتصوّر أن يكون هاهنا خبر حتى يكون مخبر به ومخبر عنه، وكذلك لا يتصوّر حتّى يكون له مخبر يصدر عنه ويحصل من جهته، وتعود التّبعة فيه عليه، فيكون هو الموصوف بالصّدق إن كان صدقا، وبالكذب إن كان كذبا. أفلا ترى أن من المعلوم ضرورة أنه لا يكون إثبات ونفي، حتى يكون مثبت وناف يكون مصدرهما من جهته، ويكون

هو المزجيّ لهما، والمبرم والناقض فيهما. ويكون بهما موافقا ومخالفا، ومصيبا ومخطئا، ومسيئا ومحسنا. وجملة الأمر أن الخبر وجميع معاني الكلام معان ينشئها الإنسان في نفسه، ويصرّفها في فكره، ويناجي بها قلبه، ويراجع فيها عقله، وتوصف بأنّها مقاصد وأغراض. وأعظمها شأنا الخبر، فهو الذي يتصوّر بالصّور الكثرة، وتقع فيه الصناعات العجيبة، وفيه تكون المزايا التي بها يقع التفاضل في الفصاحة على ما شرحنا. ثم إنّا نظرنا في المعاني التي يصفها العقلاء بأنها معان مستنبطة.، ولطائف مستخرجة ويجعلون لها اختصاصا بقائل دون قائل، وكمثل قولهم في معاني أبيات من الشعر: «إنه معنى لم يسبق إليه فلان، وأنه الذي فطن له واستخرجه، وأنه الذي غاص عليه بفكره، وأنّه أبو عذره، لم تجد تلك المعاني في الأمر الأعمّ شيئا غير الخبر الذي هو إثبات المعنى للشيء ونفيه عنه. يدلّك على ذلك أنك لا تنظر إلى شيء من المعاني الغريبة التي تختصّ بقائل دون قائل، إلّا وجدت الأصل فيه والأساس الإثبات والنّفي. وإن أردت في ذلك مثالا فانظر إلى بيت الفرزدق: [من الطويل] وما حملت أمّ امرئ في ضلوعها ... أعقّ من الجاني عليها هجائيا «1» فإنك إذا نظرت لم تشكّ في أن الأصل والأساس هو قوله: «وما حملت أم امرئ»، وأن ما جاوز ذلك من الكلمات إلى آخر البيت، مستند إليه ومبنيّ عليه، وأنك إن رفعته لم تجد لشيء منها بيانا، ولا رأيت لذكرها معنى، بل ترى ذكرك لها إن ذكرتها هذيانا. والسّبب الذي من أجله كان كذلك، أن من حكم كلّ ما عدا جزئي الجملة «الفعل والفاعل» و «المبتدأ والخبر»، أن يكون تخصيصا للمعنى المثبت أو المنفي، فقوله: «في ضلوعها»، يفيد أوّلا أنه لم يرد نفي الحمل على الإطلاق، ولكن الحمل في الضّلوع، وقوله: «أعقّ»، يفيد أنّه لم يرد هذا الحمل الذي هو حمل في الضّلوع أيضا على الإطلاق، ولكن حملا في الضلوع محموله أعقّ من الجاني عليها هجاءه. وإذا كان ذلك كلّه تخصيصا للحمل، لم يتصوّر أن يعقل من دون أن يعقل نفي الحمل، لأنه لا يتصوّر تخصيص شيء لم يدخل في نفي ولا إثبات، ولا ما كان في سبيلهما من الأمر به، والنهي عنه، والاستخبار عنه. وإذ قد ثبت أن الخبر وسائر معاني الكلام، معان ينشئها الإنسان في نفسه، ويصرّفها في فكره، ويناجي بها قلبه، ويراجع فيها لبّه، فاعلم أن الفائدة في العلم بها

_ (1) سبق تخريجه (ص 342).

فصل [تحليلي للنظم]

واقعة من المنشئ لها، وصادرة عن القاصد إليها. وإذا قلنا في الفعل: «إنه موضوع للخبر»، لم يكن المعنى فيه أنه موضوع لأن يعلم به الخبر في نفسه وجنسه، ومن أصله، وما هو؟ ولكن المعنى أنه موضوع، حتى إذا ضممته إلى اسم، عقل به ومن ذلك الاسم، الخبر، بالمعنى الذي اشتقّ ذلك الفعل منه من مسمّى ذلك الاسم، واقعا منك أيّها المتكلّم، فاعرفه. بسم الله الرحمن الرحيم فصل [تحليلي للنظم] اعلم أنّك لن ترى عجبا أعجب من الذي عليه الناس في أمر النظم»، وذلك أنه ما من أحد له أدنى معرفة إلّا وهو يعلم أن هاهنا نظما أحسن من نظم، ثم تراهم إذا أنت أردت أن تبصّرهم ذلك تسدر أعينهم «1»، وتضلّ عنهم أفهامهم. وسبب ذلك أنهم أوّل شيء عدموا العلم به نفسه، من حيث حسبوه شيئا غير توخّي معاني النحو، وجعلوه يكون في الألفاظ دون المعاني. فأنت تلقي الجهد حتى تميلهم عن رأيهم، لأنك تعالج مرضا مزمنا، وداء متمكّنا. ثم إذا أنت قدتهم بالخزائم «2» إلى الاعتراف بأن لا معنى له غير توخّي معاني النحو، عرض لهم من بعد خاطر يدهشهم، حتى يكادوا يعودون إلى رأس أمرهم. وذلك أنّهم يروننا ندّعي المزيّة والحسن لنظم كلام من غير أن يكون فيه من معاني النحو شيء يتصوّر أن يتفاضل الناس في العلم به، ويروننا لا نستطيع أن نضع اليد من معاني النحو ووجوهه على شيء نزعم أنّ من شأن هذا أن يوجب المزيّة لكلّ كلام يكون فيه، بل يروننا ندّعي المزيّة لكل ما ندّعيها له من معاني النحو ووجوهه وفروقه في موضع دون موضع، وفي كلام دون كلام، وفي الأقلّ دون الأكثر، وفي الواحد من الألف. فإذا رأوا الأمر كذلك، دخلتهم الشّبهة وقالوا: كيف يصير المعروف مجهولا؟ ومن أين يتصوّر أن يكون للشيء في كلام مزيّة عليه في كلام آخر، بعد أن تكون حقيقته فيهما حقيقة واحدة؟ فإذا رأوا التنكير يكون فيما لا يحصى من المواضع ثم لا يقتضي فضلا، ولا يوجب مزيّة، اتّهمونا في دعوانا ما ادّعيناه لتنكير الحياة في قوله تعالى:

_ (1) سدر بصره: تحيّر. (2) حلق من شعر يشد بها.

وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [البقرة: 179]، من أنّ له حسنا ومزيّة، وأنّ فيه بلاغة عجيبة، وظنّوه وهما منّا وتخيّلا. ولسنا نستطيع في كشف الشّبهة في هذا عنهم، وتصوير الذي هو الحقّ عندهم، ما استطعناه في نفس النظم، لأنّا ملكنا في ذلك أن نضطرّهم إلى أن يعلموا صحّة ما نقول. وليس الأمر في هذا كذلك، فليس الداء فيه بالهيّن، ولا هو بحيث إذا رمت العلاج منه وجدت الإمكان فيه مع كلّ أحد مسعفا، والسّعي منجحا، لأنّ المزايا التي تحتاج أن تعلمهم مكانها وتصوّر لهم شأنها، أمور خفيّة، ومعان روحانيّة، أنت لا تستطيع أن تنبّه السامع لها، وتحدث له علما بها، حتى يكون مهيّئا لإدراكها، تكون فيه طبيعة قابلة لها، ويكون له ذوق وقريحة يجد لهما في نفسه إحساسا بأن من شأن هذه الوجوه والفروق أن تعرض فيها المزيّة على الجملة ومن إذا تصفّح الكلام وتدبّر الشعر، فرّق بين موقع شيء منها وشيء، ومن إذا أنشدته قوله: [من السريع] لي منك ما للنّاس كلّهم ... نظر وتسليم على الطّرق «1» وقول البحتريّ: [من الكامل] وسأستقلّ لك الدّموع صبابة ... ولو أنّ دجلة لي عليك دموع «2» وقوله: [من الطويل] رأت فلتات الشّيب فابتسمت لها ... وقالت: نجوم لو طلعن بأسعد «3» وقول أبي نواس: [من البسيط]

_ (1) البيت لشمروخ، وهو: أبو عمارة محمد بن أحمد بن أبي مرة المكي، وهي أبيات من معجم الشعراء (438)، والزهرة (10)، ومصارع العشاق (174)، غير منسوب وأبياته هي: يا من بدائع حسن صورته ... تثنى إليه أعنة الحدق لي منك ما للناس كلهم ... نظر وتسليم على الطرق لكنهم سعدوا بأمنهم ... وشقيت حين أراك بالفرق سلموا من البلوى ولي كبد ... حرى ودمعة هائم ملق «شاكر». (2) البيت في الديوان (1/ 282) يودع إبراهيم بن حسن بن سهل. (3) البيت في ديوانه، وفلتات الشيب أول ما أسرع إليه من الشيب.

ركب تساقوا على الأكوار بينهم ... كأس الكرى، فانتشى المسقيّ والسّاقي كأنّ أعناقهم، والنّوم واضعها ... على المناكب، لم تعمد بأعناق «1» وقوله: [من الكامل] يا صاحبيّ عصيت مصطبحا ... وغدوت للّذّات مطّرحا فتزوّدوا منّي محادثة، ... حذر العصا لم يبق لي مرحا «2» وقول إسماعيل بن يسار: [من السريع] حتّى إذا الصّبح بدا ضوؤه ... وغابت الجوزاء والمرزم خرجت والوطء خفيّ كما ... ينساب من مكمنه الأرقم «3» - أنق لها، وأخذته الأريحيّة عندها، وعرف لطف موقع «الحذف» و «التنكير» في قوله: نظر وتسليم على الطّرق وما في قول البحتري: «لي عليك دموع» من شبه السّحر، وأنّ ذلك من أجل تقديم «لي» على «عليك»، ثم تنكير «الدّموع» وعرف كذلك شرف قوله: وقالت: نجوم لو طلعن بأسعد وعلوّ طبقته، ودقّة صنعته. والبلاء، والدّاء العياء، أن هذا الإحساس قليل في الناس، حتى إنّه ليكون أن يقع للرجل الشيء من هذه الفروق والوجوه في شعر يقوله، أو رسالة يكتبها، الموقع

_ (1) البيتان في ديوانه (123)، في آخر باب المدائح (الفصل الثالث)، (ط) دار العرب للبستاني وهما في أربعة أبيات ينعت قوما قد سكروا من النعاس فمالت أعناقهم والبيتان بعدهما: ساروا فلم يقطعوا عقدا لراحلة ... حتى أناخوا إليكم قبل إشراق من كل جائلة النسعين ضامرة ... مشتاقة حملت أنفاس مشتاق (2) البيتان لأبي نواس في ديوانه (246)، في باب الخمريات وهما يتصدران مجموعة أبيات آخرها: يثني العجاج على مفارقة ... بمعقب لم يعد أن وقحا ولقد حزنت فلم أمت حزنا ... ولقد فرحت فلم أطر فرحا (3) البيتان في الأغاني (4/ 408، 409، 410)، لإسماعيل بن يسار وغنى الوليد بن يزيد في شعر لإسماعيل بن يسار فقال: من يقول هذا؟ قالوا: رجل من أهل الحجاز يقول له: إسماعيل بن يسار النسائي، فكتب في إشخاصه إليه، فلما دخل عليه استنشده القصيدة التي منها هذان البيتان فأنشده، فطرب الوليد حتى نزل عن فرشه وسريره، وأمر المغنين فغنوه الصوت وشرب عليه أقداحا، وأمر لإسماعيل بكسوة وجائزة سنية، وسرحه إلى المدينة.

الحسن. ثم لا يعلم أنه قد أحسن. فأمّا الجهل بمكان الإساءة فلا تعدمه، فلست تملك إذا من أمرك شيئا حتى تظفر بمن له طبع إذا قدحته وري، وقلب إذا أريته رأى، فأمّا وصاحبك من لا يرى ما تريه، ولا يهتدي للذي تهديه، فأنت رام في غير مرمى، ومعنّ نفسك في غير جدوى، وكما لا تقيم الشعر في نفس من لا ذوق له، كذلك لا تفهم هذا الشأن من لم يؤت الآلة التي بها يفهم، إلّا أنه إنما يكون البلاء إذا ظنّ العادم لها أنّه أوتيها، وأنه ممّن يكمل للحكم، ويصحّ منه القضاء، فجعل يقول القول لو علم غبّه لا ستحيى منه. فأمّا الذي يحسّ بالنقص من نفسه، ويعلم أنه قد عدم علما قد أوتيه من سواه، فأنت منه في راحة، وهو رجل عاقل قد حماه عقله أن يعدو طوره، وأن يتكلّف ما ليس بأهل له. وإذا كانت العلوم التي لها أصول معروفة، وقوانين مضبوطة قد اشترك الناس في العلم بها، واتّفقوا على أن البناء عليها، إذا أخطأ فيها المخطئ ثم أعجب برأيه، لم تستطع ردّه عن هواه، وصرفه عن الرأي الذي رآه، إلا بعد الجهد، وإلا بعد أن يكون حصيفا عاقلا ثبتا إذا نبّه انتبه، وإذا قيل: إنّ عليك بقيّة من النظر، وقف وأصغى، وخشي أن يكون قد غرّ، احتاط باستماع ما يقال له، وأنف من أن يلجّ من غير بيّنه، ويستطيل بغير حجّة، وكان من هذا وصفه يعزّ ويقلّ فكيف بأن تردّ الناس عن رأيهم في هذا الشأن، وأصلك الذي تردّهم إليه، وتعوّل في محاجّتهم عليه، استشهاد القرائح، وسبر النفوس وفليها، وما يعرض فيها من الأريحيّة عند ما تسمع، وكان ذلك الذي يفتح لك سمعهم، ويكشف الغطاء عن أعينهم، ويصرف إليك أوجههم، وهم لا يضعون أنفسهم موضع من يرى الرأي ويفتي ويقضي، إلّا وعندهم أنهم ممّن صفت قريحته، وصحّ ذوقه، وتمّت أداته. فإذا قلت لهم: «إنكم قد أتيتم من أنفسكم»، ردّوا عليك مثله وقالوا: «لا، بل قرائحنا أصحّ، ونظرنا أصدق، وحسّنا أذكى، وإنّما الآفة فيكم لأنّكم خيّلتم إلى أنفسكم أمورا لا حاصل لها، وأوهمكم الهوى والميل أن توجبوا لأحد النظمين المتساويين فضلا على الآخر، من غير أن يكون ذلك الفضل معقولا» فتبقى في أيديهم حسيرا لا تملك غير التعجّب. فليس الكلام إذن بمغن عنك، ولا القول بنافع، ولا الحجّة مسموعة، حتى تجد من فيه عون لك على نفسه،. ومن إذا أبى عليك أبى ذاك طبعه فردّه إليك، وفتح سمعه لك، ورفع الحجاب بينك وبينه، وأخذ به إلى حيث أنت، وصرف ناظره إلى الجهة الّتي أومأت، فاستبدل بالنّفار أنسا، وأراك من بعد الإباء قبولا. ولم يكن الأمر على هذه الجملة إلّا لأن ليس في أصناف العلوم الخفية، والأمور

الغامضة الدقيقة، أعجب طريقا في الخفاء من هذا. وإنك لتتعب في الشيء نفسك، وتكدّ فيه فكرك، وتجهد فيه كل جهدك، حتى إذا قلت قتلته علما، وأحكمته فهما، كنت بالّذي لا يزال يتراءى لك فيه من شبهة، ويعرض فيه من شك، كما قال أبو نواس: [من الطويل] ألا لا أرى مثل امترائي في رسم ... تغصّ به عيني ويلفظه وهمي أتت صور الأشياء بيني وبينه ... فظنّي كلا ظنّ، وعلمي كلا علم «1» وإنّك لتنظر في البيت دهرا طويلا وتفسّره، ولا ترى أنّ فيه شيئا لم تعلمه، ثم يبدو لك فيه أمر خفيّ لم تكن قد علمته، مثال ذلك بيت المتنبي: [من الكامل] عجبا له! حفظ العنان بأنمل ... ما حفظها الأشياء من عاداتها «2» مضى الدهر الطويل ونحن نقرؤه فلا ننكر منه شيئا، ولا يقع لنا أن فيه خطأ، ثمّ بان بأخرة أنه قد أخطأ. وذلك أنه كان ينبغي أن يقول: «ما حفظ الأشياء من عاداتها»، فيضيف المصدر إلى المفعول، فلا يذكر الفاعل، ذاك لأن المعنى على أنّه ينفي الحفظ عن أنامله جملة، وأنه يزعم أنّه لا يكون منها أصلا، وإضافته الحفظ إلى ضميرها في قوله: «ما حفظها الأشياء»، ويقتضي أن يكون قد أثبت لها حفظا. ونظير هذا أنك تقول: «ليس الخروج في مثل هذا الوقت من عادتي»، ولا تقول: «ليس خروجي في مثل هذا الوقت من عادتي»، وكذلك تقول: «ليس ذمّ النّاس من شأني»، ولا تقول: «ليس ذمّي الناس من شأني»، لأن ذلك يوجب إثبات الذّمّ ووجوده منك. ولا يصحّ قياس المصدر في هذا على الفعل، أعني أنه لا ينبغي أن يظنّ أنه كما يجوز أن يقال: «ما من عادتها أن تحفظ الأشياء»، كذلك ينبغي أن يجوز: «ما من عادتها حفظها الأشياء»، ذاك أن إضافة المصدر إلى الفاعل يقتضي

_ (1) البيتان في ديوانه (313)، في باب الخمريات، وهما في مقدمة سبعة أبيات وبعدهما: فطب بحديث من نديم موافق ... وساقية سن المراهق للحلم إذا هي قامت والسداسي طالها ... وبين النحيف الجسم والحسن الجسم (2) البيت في ديوانه (1/ 231) من قصيدة في مدح أبي أيوب أحمد بن عمران ومطلعها: سرب محاسنه حرمت ذواتها ... داني الصفات بعيد موصوفاتها أوفى فكنت إذا رميت بمقلتي ... بشرا رأيت أرق من عبراتها والعنان: سير اللجام، الأنمل: رءوس الأصابع.

وجوده، وأنه قد كان منه، يبيّن ذلك أنك تقول: «أمرت زيدا بأن يخرج غدا»، ولا تقول: «أمرته بخروجه غدا». ومما فيه خطأ هو في غاية الخفاء قوله: [من البسيط] ولا تشكّ إلى خلق فتشمته ... شكوى الجريح إلى الغربان والرّخم «1» وذلك أنك إذا قلت: «لا تضجر ضجر زيد»، كنت قد جعلت زيدا يضجر ضربا من الضّجر، مثل أن تجعله يفرط فيه أو يسرع إليه. هذا هو موجب العرف. ثم إن لم تعتبر خصوص وصف، فلا أقلّ من أن تجعل الضّجر على الجملة من عادته، وأن تجعله قد كان منه. وإذا كان كذلك، اقتضى قوله: شكوى الجريح إلى الغربان والرّخم أن يكون هاهنا «جريح»، قد عرف من حاله أن يكون له «شكوى إلى الغربان والرخم»، وذلك محال. وإنما العبارة الصحيحة في هذا أن يقال: «لا تشكّ إلى خلق، فإنك إن فعلت كان مثل ذلك أن تصوّر في وهمك أن بعيرا دبرا كشف عن جرحه، ثم شكاه إلى الغربان والرّخم». ومن ذلك أنك ترى من العلماء من قد تأوّل في الشيء تأويلا وقضى فيه بأمر، فتعتقده اتّباعا له، ولا ترتاب أنه على ما قضى وتأوّل، وتبقى على ذلك الاعتقاد الزّمان الطويل، ثم يلوح لك ما تعلم به أن الأمر على خلاف ما قدّر. ومثال ذلك أن أبا القاسم الآمديّ، ذكر بيت البحتري: [من البسيط] فصاغ ما صاغ من تبر ومن ورق ... وحاك ما حاك من وشي وديباج «2» ثم قال «3»: «صوغ الغيث وحوكه للنبات ليس باستعارة، بل هو حقيقة، ولذلك لا يقال: «هو صائغ» ولا «كأنه صائغ»، وكذلك لا يقال: «هو حائك»

_ (1) البيت لأبي الطيب المتنبي في ديوانه (2/ 262) من قصيدة قالها بالكوفة يرثي أبا شجاع فاتك ويذكر مسيره من مصر. ومطلعها: حكام نحن نساري النجم في الظلم ... وما سراه على خف ولا قدم ولا يحس بأجفان يحس بها ... فقد الرقاد غريب بات لم ينم تشك: أي تتشكى. الرخم: اسم طائر. (2) الديوان (1/ 387) يمدح إسحاق بن كنداج. (3) أي الآمدي صاحب كتاب الموازنة (1/ 497 - 498) طبعة دار المعارف.

و «كأنّه حائك»، قال: «على أن لفظ «حائك» في غاية الركاكة إذا أخرج على ما أخرجه أبو تمام في قوله: [من الطويل] إذا الغيث غادى نسجه خلت أنّه ... خلت حقب حرس له وهو حائك «1» قال: وهذا قبيح جدّا». والذي قاله البحتري: «فحاك ما حاك»، حسن مستعمل، والسبب في هذا الذي قاله أنه ذهب إلى أنّ غرض أبي تمّام أن يقصد «بخلت» إلى «الحوك»، وأنه أراد أن يقول: «خلت الغيث حائكا»، وذلك سهو منه، لأنه لم يقصد «بخلت» إلى ذلك، وإنما قصد أن يقول: إنّه يظهر في غداة يوم من حوك الغيث ونسجه بالذي ترى العيون من بدائع الأنوار وغرائب الأزهار، ما يتوهّم معه أن الغيث كان في فعل ذلك وفي نسجه وحوكه، حقبا من الدهر. فالخيلولة واقعة على كون زمان الحوك حقبا، لا على كون ما فعله الغيث حوكا، فاعرفه. وممّا يدخل في ذلك ما حكي عن الصّاحب من أنه قال: «كان الأستاذ أبو الفضل «2» يختار من شعر ابن الرومي وينقّط عليه، قال فدفع إليّ القصيدة التي أوّلها: [من الطويل] أتحت ضلوعي جمرة تتوقّد «3» وقال: تأمّلها فتأمّلتها، فكان قد ترك خير بيت فيها، وهو: [من الطويل] بجهل كجهل السّيف والسّيف منتضى ... وحلم كحلم السّيف والسّيف مغمد «4» فقلت: لم ترك الأستاذ هذا البيت؟ فقال: لعلّ القلم تجاوزه؟» قال: «ثم رآني من بعد فاعتذر بعذر كان شرّا من تركه. قال: إنما تركته لأنه أعاد السيف أربع مرات. قال الصاحب: لو لم يعده أربع مرّات فقال: «بجهل كجهل السيف وهو منتضى، حلم كحلم السيف وهو مغمد»، لفسد البيت.

_ (1) البيت في ديوانه (211) من قصيدة في مدح أبي سعيد محمد بن يوسف الثغري، ومطلعها: قرى دارهم الدموع السوافك ... وإن عاد صبحي بعدهم وهو حالك وإن بكرت في ظعنهم وحدوجهم ... زيانب من أحبابنا وعواقك الحقبة: مدة من الدهر، الحرس: الدهر. (2) يعني ابن العميد. والصاحب يعني ابن عباد. و «ينقط عليه» يضع نقطة علامة على اختياره. (3) (الديوان 2/ 484). (4) هو في ديوانه القصيدة في (584).

والأمر كما قال الصاحب، والسبب في ذلك أنك إذا حدّثت عن اسم مضاف، ثم أردت أن تذكر المضاف إليه، فإن البلاغة تقتضي أن تذكره باسمه الظاهر ولا تضمره. تفسير هذا أنّ الذي هو الحسن الجميل أن تقول: «جاءني غلام زيد وزيد»، ويقبح أن تقول: «جاءني غلام زيد وهو»، ومن الشاهد في ذلك قول دعبل: [من البسيط] أضياف عمران في خصب وفي سعة ... وفي حباء وخير غير ممنوع وضيف عمرو وعمرو يسهران معا، ... عمرو لبطنته والضّيف للجوع «1» وقول الآخر: [من الطويل] وإن طرّة راقتك فانظر، فربّما ... أمر مذاق العود والعود أخضر «2» وقول المتنبي بمن نضرب الأمثال أم من نقيسه ... إليك، وأهل الدّهر دونك والدّهر «3» ليس بخفيّ على من له ذوق أنه لو أتى موضع الظّاهر في ذلك كله بالضمير فقيل: «وضيف عمرو وهو يسهران معا»، و «ربّما أمرّ مذاق العود وهو أخضر»، و «أهل الدهر دونك وهو»، لعدم حسن ومزيّة لا خفاء بأمرهما، وليس لأن الشعر ينكسر، ولكن تنكره النفس. وقد يرى في بادئ الرأي أن ذلك من أجل اللّبس، وأنك إذا قلت: «جاءني غلام زيد وهو»، كان الذي يقع في نفس السامع أن الضمير للغلام، وأنك على أن تجيء له بخبر، إلّا أنه لا يستمرّ، من حيث أنّا نقول: «جاءني غلمان زيد وهو»، فتجد الاستنكار ونبوّ النفس، مع أن لا لبس مثل الذي وجدناه. وإذا كان كذلك، وجب أن يكون السبب غير ذلك.

_ (1) البيتان في الكامل للمبرد (3/ 4) وهما منسوبان لدعبل. (2) البيت بلا نسبة في أسرار البلاغة (118)، وطرّة الجارية: أن يقطع لها في مقدم ناصيتها كالعلم أو كالطرة تحت التاج، تتجمل به. (3) البيت في ديوانه (1/ 108) وهو آخر بيت في قصيدة يمدح بها عبد الله بن يحيى البحتري، ومطلعها: أريقك أم ماء الغمامة أم خمر ... بقي برود وهو في كبدي جمر أذا الغصن أم ذا الدعص أم أنت فتنة ... وذيا الذي قلته البرق أم ثغر

والذي يوجبه التأمل أن يردّ إلى الأصل الذي ذكره الجاحظ: من أنّ سائلا سأل عن قول قيس بن خارجة: «عندي قرى كلّ نازل، ورضى كلّ ساخط، وخطبة من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب، آمر فيها بالتواصل، وأنهى فيها من التقاطع»، فقال: أليس الأمر بالصّلة هو النهي عن التقاطع؟ قال فقال أبو يعقوب: أما علمت أن الكناية والتعريض لا يعملان في العقول عمل الإفصاح والتكشيف»، وذكرت هناك أن هذا الذي ذكر، من أن للتصريح عملا لا يكون مثل ذلك العمل للكناية، كان لإعادة اللفظ في قوله تعالى: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ [الإسراء: 105]، وقوله: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص: 1 - 2]، عمل لولاها لم يكن. وإذا كان هذا ثابتا معلوما، فهو حكم مسألتنا. ومن البيّن الجليّ في هذا المعنى وهو كبيت ابن الروميّ سواء، لأنه تشبيه مثله بيت الحماسة: [من الهزج] شددنا شدّة اللّيث ... غدا واللّيث غضبان «1» ومن الباب قول النابغة: [من الرجز] نفس عصام سوّدت عصاما ... وعلّمته الكرّ والإقداما «2» لا يخفى على من له ذوق حسن هذا الإظهار، وأن له موقعا في النفس، وباعثا للأريحية، لا يكون إذا قيل: «نفس عصام سودته» شيء منه البتّة. «تم الكتاب» «في أواسط شهر ربيع الأول سنة ثمان وستين وخمسمائة غفر الله لكاتبه ولوالديه ولجميع المؤمنين والمؤمنات برحمته إنه أرحم الراحمين وخير الغافرين»

_ (1) للفند الزماني (شرح حماسة أبي تمام للتبريزي 1/ 13). وله رواية أخرى «مشينا مشية الليث». (2) البيت في ديوانه (69) في المدائح والاعتذاريات وهو أول بيتين مفردين في الديوان وثانية: وصيرته ملكا هماما ... حتى علا وجاوز الأقواما نفس عصام: نفس شرفت بذاتها فنالت العلى بكدها واجتهادها. الكر: القتال والمواجهة والإقدام.

§1/1