دلائل الإعجاز ت شاكر

الجرجاني، عبد القاهر

مقدمة

- أ - بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة تبارَكَ الَّذِى نزَّل الفُرْقَانَ على عَبْدِه لِيكونَ للعالمينَ نَذِيرا، والحمدُ لله الذى هدانَا بِه وأخْرجَنا من الظلُماتِ إلى النُّورِ، وصلَّى الله على نبينا محمّد الذى نَزَل القرآنُ العظيمُ بلسانِه لسانا عربيًّا مُبِيناً، لا يأتِيه الباطِلُ من بَيْن يَدَيه ولا من خَلْفه، اللهمَّ صَلِّ على محمّدٍ وعلى أبَويْه إبرهيِمَ وإسماعيلَ وسلِّم تسليما كثيراً. اللهمَّ اغْفِرْ لنا وارحَمنا وأنتَ خيرُ الراحمين. وبعدُ فمنذ دهر بعيد، حين شققتُ طريقى إلى تذوُّق الكلام المكتوب، منظومه ومنثوره، كان من أوائل الكتب التى عكفتُ على تذوُّقها كتاب " دلائل الإعجاز"، للشيخ الإمام " أبى بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجانى "، الأديبِ النحوي، والفقيهِ الشافعى، والمُتكلِّمِ الأشعرىِّ [توفى سنة 471 هـ، أو سنة 474 هـ]، ويومئذٍ تنبَّهتُ لأربعة أمور: الأوّل: أنه بدَا لىَ أن عبد القاهر كان يريدُ أن يؤسس بكتابه هذا علما جديداً استدرَكَهُ على من سبقه من الأئمة الذين كتبُوا فى " البلاغة " وفى " إعجاز القرآن "، ولكن كان غريباً عندى أشدَّ الغرابة، أنه لم يَسِرْ في بناءِ كتابه سيرةَ من من يؤسس علماً جديداً، كالذى فعله سيبويه فى كتابه العظيم، أو ما فعله أبو الفتح ابن جِنى فى كتابه " الخصائص "، أو كالذى فعله عبد القاهر نفسُه فى كتابه " أسرار البلاغة "، بل كانَ عملُه وهو يؤسس هذا العلمَ الجديد، مَشُوباً بحميَّة جارفةٍ لا تعرف الأناةَ فى التبويب والتقسيم والتصنيف، وكأنه كانَ في عَجَلةٍ من أمره، وكأنّ منازعا كان يُنازعُهُ عند كُلّ فكرةٍ يريدُ أن يُجَلّيَها ببراعته وذكائه وسُرعة لَمْحه، وبقوّةِ حُجَّته ومضاءِ رأيه.

-ب - الثاني: أني وقفت في كتابه على أقوال كثيرة لم ينسبها بصريح البيان إلى أصحابها، حتى نتبين من يكون هؤلاء؟ وكان من أعظم ما حيرني قولان رددهما في مواضع كثيرة من كتابه؛ بل إن الكتاب كله يدور على رد هذين القولين وإبطال معناها؛ الأول قول القائل: "إنَّ المعاني لا تَتزايد، وإِنما تتزايدُ الألفاظُ"، [دلائل الإعجاز: 63، 395] = الثاني، قول القائل: "إنَ الفصاحةَ لا تَظْهرُ في أفرادِ الكلماتِ، ولكن تظهر بالضم على طريقة مخصوصة"، [دلائل الإعجاز: 394، 466، 467]. الثالث: أن عبد القاهر جمع هذين القولين في فصل واحد، [ص: 394، 395]، وجمع معهما قوله: "ثم إن هذه الشائعات التي تقدَّمَ ذِكْرُها، تَلزَمُ أصحابَ الصَّرْفة"، أيضاً" [ص: 390]، والقول بالصرفة من أقوال المعتزلة، فبدا لي يومئذ أن بين هذين القولين وأصحاب "الصرفة" من المعتزلة نسبًا، ولكني لم أقف على ما يرضيني إن ذهبت هذا المذهب. الرابع: أن عبد القاهر في مواضع متناثرة كثيرة، قد دأب على التعريض بأصحاب "اللفظ"، وبالذين يقولون: "بالضم على طريقة مخصوصة"، وأوهموا أنه "النظم" الذي ذكره الجاحظ في صفة القرآن [دلائل الإعجاز: 251]، وهو أيضًا "النظم" الذي عليه مدار علم عبد القاهر الذي أسسه، فكان مما شغلني، أطول كلام من تعريضه بهم، وهو ما جاءني في أواخر كتابه "دلائل الإعجاز"، وهو قوله: "واعلمْ أَن القولَ الفاسِدَ والرأيَ المدخولَ إِذا كان صَدَرَه عن قوم لهم نَباهةٌ وصيتٌ وعلوٌّ منزلةٍ في نوع من أنواع العلوم غير العمل الذي قالوا ذلك القولَ فيه، ثم وقَعَ في الأَلْسُن، فتداولتْه ونَشرَتْه، وفشَا وظَهَر، وكَثُرَ الناقلون له والمشيدون بذكره صار وترك النظر فيه سنة، والتقليد دينا ..... ,لربما -بل كلَّما- ظنوا أنه لم يَشِعْ ولم يتسع ولم يروه خلف عن سلف إلا لأنَّ له أصْلاً صحيحاً، وأنه أُخذَ من معْدِن صدقٍ، واشتُقَّ من نَبْعةٍ كريمةٍ، وأَنه لو كان

-جـ - مَدْخولاً لظَهَر الدَّخَلُ الذي فيه على تَقادُم الزمان وكرورِ الأيام. وكمْ من خَطإٍ ظاهرٍ ورأْيٍ فاسدٍ حظيَ بهذا السبَبِ عندَ الناس ... ولَوْلاَ سلطانُ هذا الذي وصفتُ على الناس، وأَنَّ له أُخْذَةً تَمنَعُ القلوبَ عن التدبُّر، وتقطعُ عن دواعيَ التفكُّر لمَا كان لهذا الذي ذَهَب إليه القومُ في أمرِ "اللفظِ" هذا التمكُّنُ وهذه القوة وكيف لا يكونُ في إسارِ الأُخْذَةِ، ومَحُولاً بينهم وبين الفكرة، ومن يُسلِّمُ أنَّ الفصاحةَ لا تَكونُ في أفرادِ الكلمات، وإنما تَكُونُ فيها إذا ضُمَّ بعضُها إلى بعْضٍ، ثم لا يَعْلَم أنَّ ذلك يَقْتضي أنْ تكونَ وصْفاً لها مِن أجْلِ معانيها، لا مِنْ أَجْل أَنفُسِها، ومِنْ حَيثُ هي ألفاظٌ ونطق لسان؟ " [دلائل الإعجاز: 464 - 467]. وقد اختصرت الكلام هنا، ولكن ينبغي أن تقرأه بطوله في المكان الذي أشرت إليه. من يكون هؤلاء القوم الذين لهم نباهة صيت وعلو منزلة في نوع من أنواع العلوم، غير علم "الفصاحة" الذي قالوا ذلك القول فيه، وتداولته الألسن ونشرته حتى فشا وظهر، وتمكنت أقوالهم المدخولة هذا التمكن، ورسخت في النفوس هذا الرسوخ، وتشعبت عروقها هذا التشعب، مع ما فيها من التهافت والسقوط وفحش الغلط، والتي إذا نظرت فيها لم تر باطِلاً فيه شَوْبٌ من الحقِّ، وزَيْفاً فيه شيءٌ من الفِضَّة، ولكنْ تَرى الغشَّ بَحْتاً، والغيظ صرفًا؟، كما يقول عبد القاهر [دلائل الإعجاز: 465، 466] والأمران الثاني والرابع، كان موضع اهتمامي يومئذ، وينبغي أن يكونا موضع اهتمام كل أحد. وفتشت ونقبت، فلم أظفر بجواب أطمئن إليه، وتناسيت الأمر كله إلا قليلًا، نحوًا من ثلاثين سنة. حتى كانت سنة 1381 هـ "1961 م"، وطبع كتاب "المغني" للقاضي "أبي الحسن عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمذاني الأسداباذي"،

- د - الفقيه الشافعي، المتكلم المعتزلي [توفي سنة 415]، وكان إمام أهل الاعتزال في زمانه، وعمر دهرًا طويلًا، وكثر أصحابه، وبعد صيته، ورحل إليه طلاب العلم. في تلك السنة صدر الجزء السادس عشر من كتاب "المغني"، فإذا هو يتضمن فصولًا طويلة في الكلام على "ثبوت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي أعجاز القرآن، وسائر المعجزات الظاهرة عليه صلى الله عليه وسلم"، [المغني 16 - 143 - 433]، فلما قرأته ارتفع كل شك، وسقط النقاب عن كل مستتر، وإذا التعريض الذي ذكره عبد القاهر حين قال: "واعلمْ أَن القولَ الفاسِدَ والرأيَ المدخولَ، إِذا كان صدره عن قوم لهم نَباهةٌ وصيتٌ وعلوٌّ منزلةٍ في نوع من أنواع العلوم غيرِ العِلْم الذي قالوا ذلك القولَ فيه ... " [انظر ما مضى]، لا يعني بهذا التعريض وبهذه الصفة أحدًا سوى قاضي القضاة المعتزلي عبد الجبار، فهو المعتزلي النابه الذكر، البعيد الصيت، العالي المنزلة في علم الكلام والأصول، بيد أنه هو الخامل الذكر، الخالي الوفاض من علم "البلاغة" و "الفصاحة" و "البيان"، ولكنه بهذه البضاعة المزجاة من علم "الفصاحة"، جاء يتكلم في الوجوه التي يقع بها التفاضل في فصاحة الكلام، [المغني: 16: 197 - 199 وما بعدها]، وفي "إعجاز القرآن" عامة!! والدليل الساطع، هو أن الأقوال التي ذكرتها آنفًا، وقلت: إن عبد القاهر لم يصرح بنسبتها إلى أحد، هي أقوال القاضي عبد الجبار في كتابه المغني بنصها ولفظها، فهو يقول: "إن الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلام، وإنما تظهر بالضم على طريقة مخصوصة ... "، ثم يقول بعد ذلك: "إن المعاني لا يقع فيها تزايد، وإذن فيجب أن يكون التزايد عنه الألفاظ كما ذكرناه ... "، [المغني16: 199، 200] وهذا القولان هما اللذان يدور كتاب "دلائل الإعجاز" على ردهما وإبطال معناهما. هذا فضلًا عن أقوالٍ أخر ذكرها عبد القاهر، ووجدتها مائلة بنصها

- هـ - أيضًا في هذا الموضع الذي ذكر فيه القاضي المعتزلي "إعجاز القرآن"، كالقول في "جزالة اللفظ"، حيث يقول القاضي: "ولذلك لا يصح عندنا أن يكون اختصاص القرآن بطريقة في النظم دون الفصاحة، التي هي جزالة اللفظ وحسن المعنى" [المغني16: 198 وما قبله]، فيذكرها عبد القاهر في كتابه ثم يقول: "وأمَّا الأَخيرُ، فهو أَنَّا لم نَرَ العقلاءَ قد رضُوْا مِن أَنفُسِهم في شيءٍ من العلوم أن يحفظوا كلامًا للأولين ويتدارسونه، ويُكلِّمَ به بعضُهم بعضاً مِنْ غَير أن يعرِفوا له معنى، ويقفوا منه على غرَضٍ صحيحٍ، ويكونَ عندهم، إن يُسألوا عنه، بيانٌ وتفسير إلا "علم الفصاحة" .... فمِنْ أقْرَبِ ذلك أَنك تَراهم يقولون إذا هُمْ تكلَّموا في مزيَّةِ كلامٍ على كلامٍ: "إن ذلك يكون بجزالة اللفظ" وإذا هم تكلَّموا في زيادةِ نظمٍ على نظمٍ: "إنَّ ذلك يكونُ لوقُوعِهِ على طريقةٍ مخصوصةٍ، وعلى وجهٍ دونَ وجهٍ"، ثمّ لا تَجدُهَم يُفسِّرون "الجزالة" بشيء"، [دلائل الإعجاز: 456]. ولم أرد بهذا الاستقصاء، ولكني أردت أن أنبه إلى علاقة لا ينبغي إغفالها أو التهاون فيها، وهي هذه العلاقة بين كلام عبد القاهر، وكلام القاضي عبد الجبار، ذلك أن عبد القاهر منذ بدأ في شق طريقه إلى هذا العلم الجديد الذي أسسه، كان كل همه أن ينقض كلام القاضي في "الفصاحة"، وأن يكشف عن فساد أقواله في مسألة "اللفظ"، بالمعنى المؤقت المحدد في كلامه في كتابه "المغني"، دون المعنى المطلق لِلَّفْظِ من حيثُ هو لفظٌ ونطْقُ لسانٍ. وإغفال هذه العلاقة يؤدي -أو قد أدى- إلى غلط فاحش في فهم مسألة "اللفظ" و "المعنى" عند عبد القاهر في كتابه هذا. فلا "اللفظ" فهم على حقيقته عند عبد القاهر، ولا "المعنى" أيضًا عرف على حقيقته عنده. وأنا أرجح أن عبد القاهر كتب كتابه هذا في أواخر حياته، بدليل ما هدتنا إليه النسخة المخطوطة من "الدلائل"، التي رمزت إليها بالحرف "ج"، كما سأبينه فيما بعد، وأنه كان يوشك أن يعيد النظر في كتابه؛ ليجعله تصنيفًا في

- و - علم جديد اهتدى إليه، واستدركه على من سبقه، وشق له الطريق ومهده، ولكن اخترمته المنية قبل أن يحقق ما أراد. وأرجح أيضًا أن السر في العجلة التي صرفته عن التبويب والتقسيم والتصنيف، وأوجبت أن يبنى الكتاب هذا البناء العجيب، هو فيما أظن، أن طائفة من المعتزلة، من أهل العلم، في بلدته جرجان وفي زمانه، كان لهم شغف ولجاجة وشغب وجدال ومناظرة في مسألة "إعجاز القرآن"، واتكأوا في جدالهم على أقوال القاضي عبد الجبار التي جاءت في كتابه "المغني"، والتي ذكرت مواضعها آنفًا، وشققوا الكلام فيها، وكانوا كما وصفهم عبد القاهر بقوله: "فإِن أردتَ الصدقَ، فإِنَّك لا تَرى في الدنيا أَعْجبَ من شأنِ الناسِ مع "اللَّفظِ"، ولا فساد رأي مازج النفوس وخامرها واستحكم منها وصار كإحدى طبائعها، من رأيهم في "اللفظ". فقد بلغ من ملكيته لهم وقُوَّتهِ عليهم، أنْ تَرَكهم، وكأنَّهم إذا نُوظِروا فيه أخذَوا عن أنفُسِهم، وغيَّبوا عن عقولهم، وحِيلَ بينَهم وبينَ أنْ يكونَ لهم فيما يَسْمعونَه نَظَرٌ، ويُرى لهم إيرادُ في الإصغاء ولا صدر، فلستَ تَرَى إلاَّ نفوساً قد جَعلَتْ تَرْكَ النظرِ دأْبَها، ووَصَلَتْ بالهُوينا أَسبابَها، فهي تَغْتَرُّ بالأضاليلِ، وتَتباعَدُ عن التحصيلِ، وتُلْقي بأيديها إلى الشبه، وتسرع إلى القول المموه"، [دلائل الإعجاز: 458]. ومن الدليل أيضًا على العلاقة الوثيقة بين كتاب عبد القاهر، وأقوال القاضي عبد الجبار في كتابه "المغني"، أي بين كتابه وبين المعتزلة، أن كتابه خلا من ذكر "الصرفة"، وهي أشهر أقوال المعتزلة؛ لأنها من اختراع شيخهم القديم النظَّام، إلا في موضع واحد من الكتاب كله [دلائل الإعجاز: 390]؛ وذلك لأن القاضي عبد الجبار نفسه، وهو إمام المعتزلة في زمانه، رد مقالة "الصرفة" ونقضها في كتابه [المغني: 16: 323 - 328]، فأغفلها عبد القاهر أيضًا، وخصهم برسالته "الرسالة الشافية" الخارجة من كتاب دلائل الإعجاز، والتي نشرتها ملحقة بالكتاب.

- ز - هذا ما أردت أنبه إليه؛ ليعيد الدارسون النظر في كتاب عبد القاهر، وفي قضية "اللفظ" و "المعنى" التي اختلط الأمر فيها اختلاطًا شديدًا أدى إلى فساد كبير في زماننا هذا، وبالله التوفيق. والآن، أنصرف إلى القول في النسخ التي اعتمدت عليها في قراءة كتاب "دلائل الإعجاز"، وفي التعليق عليه تعليقًا مختصرًا، وجعلت همي أن يكون قارئ الكتاب ماضيًا في قراءته دون أن يتعثر أو يتلفت تلفتًا يعوقه عن المضي في قراءته، فأعنته بتقسيمه إلى فقر مرقمة، ودللته على سياق كلام عبد القاهر؛ فإن كلامه ربما شق على كثير من أهل زماننا، حين كتب عليهم أن يهجروا كتب أسلافهم من الفحول الأفذاذ. • النسخة المخطوطة الأولى "ج": وهي من مكتبة "حسين جلبي معاني، بتركية، وعدد أوراقها: 203 ورقة"، ليس فيها اسم ناسخها، ولكن تمت كتابتها في أواسط شهر ربيع الأول سنة ثمانٍ وستين وخمسمائة (568 هـ)، أي بعد وفاة عبد القاهر بنحو سبع وتسعين سنة، [دلائل الإعجاز: 557]، ونص كاتبها في أحد الفصول الملحقة بالكتاب أن "هذا آخر ما وجد على سواد الشيخ من هذا الكتاب، كتب في شعبان المبارك سنة ثنتين وسبعين وخمسمائة"، "572 هـ" [دلائل الإعجاز: 568]، ثم يذكر في صدر فصل آخر بعده: "هذا مما نقل من مسودته بخطه بعد وفاته رحمه الله"، [دلائل الإعجاز: 539]، فدلنا هذا على أنه نقل ما نقل من خط عبد القاهر. ولكني بقي شيء آخر، هو أن علي هذه المخطوطة في هامشها تعليقات بخط كاتبها، استظهرت -وأنا أقرأ الكتاب عند الطبع- أنها من تعليق عبد القاهر نفسه، حتى جاءت مواضع تقطع قطعًا مبينًا أنها تعليقات عبد القاهر على

- حـ - نسخته، فدل هذا، والذي قبله، على أن هذه النسخة منقولة من نسخة عبد القاهر التي كتبها بخطه في آخر حياته، وهذا بيان بأكثر المواضع التي جاءت فيها الحواشي مسلسلة، وفيها الدلالة على ذلك: ص: 20، تعليق: 2/ 27، تعليق: 5/ 31، تعليق: 2/ 152: تعليق: 4، وفي صدره: "قال عبد القاهر، / 159، تعليق: 4 وهو أسلوب عبد القاهر/ 162، تعليق: 1/ 165، تعليق: 2/ 195، تعليق: 1/ 210، تعليق: 3/ 216، تعليق: 4، وهو أسلوب عبد القاهر/ 230، تعليق: 1/ 264، تعليق: 2، أسلوب عبد القاهر/ 276، تعليق: 1/ 288، 289، تعليق: 4، أسلوب عبد القاهر/ 290، تعليق: 1 أسلوب عبد القاهر/ 301، تعليق: 2/ 310، تعليق: 4/ 313، تعليق: 1/ 318 تعليق: 1/ 340 - 243 تعليق: 2، وكتب الناسخ، "حاشية"، ثم كتب فوقها: "هذه الحاشية مؤخرة في أماليه المدونة"، فهذا نص يقطع بأن جمع الحواشي منقولة من نسخة عبد القاهر، وأيضًا؛ فإن هذه الحاشية نفسها ستأتي في نص كلام عبد القاهر بعد قليل في رقم: 405/ 356، تعليق: 2/ 367، تعليق: 1/ 373، تعليق: 2/ 374، تعليق: 2/ 380، تعليق: 2/ 383، تعليق: 1، ونص الحاشية: "هذا تعليل لقولي: لم يلزم من إثبات الآلهة"، وهو نص قاطع بأن هذه الحواشي نسخة عبد القاهر/ 447، تعليق: 2/ 499، تعليق، 2، وهو بلا شبهة من كلام عبد القاهر: 502، تعليق: 1 وقد فاتتني حواش أخر كتبها عبد القاهر على هذه النسخة، ولكني لم أحسن قراءتها، فلم أثبت منها شيئًا. والذي ذكرته آنفًا قاطع كما ترى، بأن ناسخ "ج"، إنما نسخها من نسخة عبد القاهر نفسه، وزاد: فائدة خلت منها جميع النسخ، ولهذا جعلتها هي الأصل الأول الذي اعتمدت عليه. أما ترتيب هذه النسخة "ج"، فهو كما يلي: 1 - من ص: 1، إلى ص: 307، نص كتاب "دلائل الإعجاز"، كما دلت على النسخة الأخرى "س"، كما سأبينه، ثم ترك بياضًا بين الكلامين وكتب: "بسم الله الرحمن الرحيم"، وهذا القسم يقع في مطبوعتنا من ص: 1 إلى ص: 478.

- ط - 2 - من ص: 307 - 332، ويبدأ فصل آخر، وهو موجود بهذا الترتيب في مطبوعة رشيد رضا، وهو في مطبوعتنا من ص: 481 - 524. 3 - من ص: 333 - 343، فصل آخر، موجود في نسخة رشيد رضا، وهو في مطبوعتنا من ص: 525 - 538. 4 - من ص: 343 - 351، موجود في نسخة رشيد رضا. مؤخرُا عن موضعه في المخطوطة، وهو فيها من ص: 393، إلى آخر مطبوعته ص: 402، واتبعته في ذلك، فهو في مطبوعتنا مؤخر أيضًا، وهو فيها من ص: 546 إلى ص: 557. 5 - من ص: 352 - 356، موجود في نسخة رشيد رضا مقدمًا عن موضعه في المخطوطة، وهو فيها من ص: 389، إلى ص 393، واتبعته أيضًا فهو في مطبوعتنا من ص: 539 - إلى ص: 545. 6 - من أوسط ص: 356، إلى آخر ص: 360، فصول ومسائل ملحقة بالكتاب، ليست في نسخة رشيد رضا، وهي في مطبوعتنا من ص: 561، إلى ص: 569. 7 - من ص: 361 إلى ص: 366، وبعدها ص: 367، 368 ورقة بيضاء فاصلة: "المدخل في دلائل الإعجاز من إملائه"، وقد قدمها رشيد رضا في أول كتاب "دلائل الإعجاز" وأحسن، فاتبعته وقدمتها في اول هذه المطبوعة أيضًا. 8 - من ص: 369 - 405، "الرسالة الشافية في الإعجاز، هذه الرسالة خارجة من كتابه الموسوم بدلائل الإعجاز"، وقد نشرت من قبل كما سأذكر ذلك، ونشرتها أيضًا، وهي في مطبوعتنا من ص: 573 إلى ص: 628 فهذه هي النسخة التي جعلتها أصلًا أول؛ لنفاستها وعتقها، ولأنها

- ى - منقولة من خطّ الشيخ رحمه الله، وعليها حواشيه بخَطّه، ولم تخلُ من بعض العيوب، أشرت إليها فى تعليقى على الكتاب. • النسخة المخطوطة الثانية " س"، وهى من مكتبة أسعد أفندى 3004، بتركية، وليسَ فيها اسم ناسخها ولا تاريخ كتابتها، والأرجح أنها من خطوط القرن السادس أيضاً أو القرن السابع. وهى نسخة نفيسة دقيقة مضبوطة ضبطاً كاملاً، مع بعض العيوب التى تتخللها، والتى أشرت إليها فى تعليقى على الكتاب، وهى خالية من كُلّ حاشية، وهى التى دلَّتنى على آخرِ كتاب " دلائل الاعجاز "، وأن ما بعد ذلك فى نسخة " ج "، إنما هو " رسائل وتعليقات " نقلها كاتب "ج " من خَطّ عبد القاهر بعد وفاته رحمه الله، والموجودة أيضاً فى الأصول التى طبعت عنها نسخة رشيد رضا. وهى تقع فى مطبوعتنا من أول الكتاب ص: 1، إلى ص: 478، ونص كاتبها أنه بهذه النهاية تم كتاب " دلائل الاعجاز ". فهاتان هما النسختان النفيستان اللتان جعلتُهمَا اصلاً لقراءتى وتعليقى. • مطبوعة الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله سنة 1321، وهى أولُ مطبوعة صدرت، من كتاب " دلائل الِإعجاز"، فكتب فى آخر الكتاب كلمةً ذكر فيها أنه نشر كتاب "أسرار البلاغة " لعبد القاهر فى أول سنة 1320، ثم قال: " لما هاجرت إلى مصرَ لإنشاء مجلة " المنار " الِإسلامى فى سنة 1315، وجدتُ الأستاذ الامام الشيخ محمد عبده، رئيس جمعية إحياء العلوم العربية، ومفتى الديار المصرية، مُشتغِلاً بتصحيح كتاب " دلائل الِإعجاز، وقد استحضر نسخةً من المدينة المنورة، ومن بغداد، ليقابلها على النسخة التى عنده. وأزيدُ الآن، أنه قد عُنى بتصحيحه أتم عناية، وأشرك معه فيها إمامَ اللغة وآدابها فى هذا العصر، الشيخ محمد محمود التركزىَّ الشِّنْقِيطى، ونَاهيك بكتابٍ اجتمعَ على تصحيح أصله علاّمتا المعقول والمنقول".

- ك- فهذه المطبوعة إذنْ، لها ثلاثة أصولٍ مخطوطةٍ لا أعرفُ عنْها شيئاً، ولكن لما لها من منزلة التقدم، ولأن الذين تولَّوْا نشرها ثلاثة من كبار علمائنا فى هذا العصر، فقد جعلتُها أصلاً ثالثاً، واتبعتُ ترتيبَها، حتى لا تَخْتَلَّ معرفة الناس بهذا الكتاب الجليل الذى بقى فى أيديهم على صورته هذه أكثر من ثمانين سنة. ولكن لابُدَّ من الاشارة هنا إلى أن الخطوطتين"ج " و "س" قد صححتَا خَلَلاً شديداً كان فى بضعة مواضع من الكتاب، وكان شَرها وأبشعها ما وقع فى هذه المطبوعة فى ص: 390، 391 وهو واقع فى مطبوعتنا ص: 540 تعليق: 4، فقد كان كلاماً لا يُعْقَل ولا يُهْتَدَى إلى صوابه، ولا أدرى كيف وقع هذا الخلل. وعندما بدأت قراءة الكتاب ونشره، كانت نيَّتى أن استبقى جميع تعليقات الشيخ رشيد رحمه الله، ففعلتُ ذلك فى أوائل الصفحات، ثم أضربتُ عنْ ذلك، لقلة فائدة هذه الحواشى، ولكيلا يختلطَ عملى بعمل غيرى، ولكنّى لم أخلِ تعليقاتى من الإشارة إلى تعليقاته رحمه الله. فهذه المطبوعة، إذنْ، كأنها اعتمدت على خمس مخطوطات: مخطوطة " ج " و " س"، ثم مخطوطة المدينة، ومخطوطة بغداد، ومخطوطة الشيخ محمد عبده، وهى ثلاثة لا أعرف عنها شيئًا، إلا ثِقة منِّى بعمل الشيخ رشيد رضا رحمه الله، وغفر لنا وله. بقى شىء واحد، وهو أنى وضعت فى هامش الكتاب أرقام صفحات المخطوطة " ج" برسم الأعداد العربية المألوف فى بلادنا، وأرقام صفحات الخطوطة " س " برسم الأعداد التى كتب بها الأعاجم أعدادهم، وأما صفحات مطبوعة الشيخ رشيد، فقد وضعت أرقام صفحاتها فى دائرة O هكذا، وهى فاصلة فى سياق الكلام، وآثرت ذلك، لأنّ هذه المطبوعة بقيت دهراً طويلاً فى أيدى العلماء، وأحالوا إلى صفحاتها فى حواشيهم، لأنها أجودُ نسخةٍ طبعت من كِناب " دلائل الاعجاز" حتى تم طبعُ نسختنا هذه.

- ل - • أما " الرسالة الشافية" المثبتة فى آخر نسخة "ج "، فقد نص الناسخ على أنها " خارجة من كتابه الموسم بدلائل الإعجاز "، وقد نشرها من قبل الأستاذان " محمد خلف الله أحمد " و " محمد زغلول سلام "، فى مجموعة ذخائر العرب، ضمن كتاب بعنوان: " ثلاث رسائل فى إعجاز القرآن، للرُّمَّاني، والخَطَّابى، وعبد القاهر الجرجانى "، عن نسختنا "ج " نفسها. وقد آثرت أن أعيد نَشْرَها، لأنها قطعة من النسخة "ج " التى جعلتُها أصلاً معتمداً للنشر، ثم للسبب الذى ذكرته آنفاً من أن عبد القاهر، كان ينقضُ بكتابه قول الطائفة التى اتبعت القاضى عبد الجبار من المعتزلة، وقالت بقوله وردَّدته، ولم يذكر فيه القائلين من المعتزلة بقول شيخهم القديم النظام فى " الصرفة "، وأفرد لهم هذه " الرسالة الشافية "، ففيها الردّ على أهل " الصرفة " وغيرهم من المعتزلة. وكانت أيضاً هذه المطبوعة الأولى، غير مطابقة كل المطابقة لما فى المخطوطة، كما أشرت إليه فى التعليق عليها، وأرجو أن كون قد أحسنتُ. والحمدُ لله أوَّلاً وآخراً على توفيقه وعظيم إنعامِه علىَّ، بٍأن أتولَّى قراءةَ هذا السفر الجليل والتعليقَ عليه، مُقِرًّا بالعَجْزِ والتقصير، ضارعا إليه أن يَغْفر لى ما أسأتُ فيه، وأسألهُ أن يُعيننى على مَا أُقْحِم نفسى فيه من عَمَل أريدُ به وجهَهُ سبحانه، ثُمَّ ما أضمرُهُ من خدمة هذه اللُّغة الشريفة النبيلة التى شرفَها الله وكرَّمها بتنزيل كتابه بلسانٍ عربىّ مبين، وصلَّى الله على النبىّ الأمِّىِّ صلاة تُزْلِفُنا عنده، صلَّى الله عليه وسلَّم، وصلَّى الله على أبويه الكريمين إبْراهيم وإسْماعيل وعلى سائر أنبيائه ورُسُله. اللهمَّ اغفر لنا وارحمنا ويسِّر لنا كُل عسِير. الثلاثاء: 5 جمادى الأولى سنة 1404 7 فبراير سنة 1984 مصر الجديدة/ 3 شارع الشيخ حسين المرصفى أبو فهر محمود محمد شاكر

دلائل الإعجاز

بسم الله الرحمن الرحيم فاتحة المصنف في مكانة العلم: حسبي ربي 1: خطبة الكتاب: الحمدُ للَّهِ ربَّ العالمين حمْدَ الشاكرين، نَحمدُه على عظيمِ نَعْمائه، وجميلِ بَلائه، ونَستكفيهِ نوائبَ الزَّمان، ونوازلَ الحدَثان، ونَرغبُ إليه في التَّوفيقِ والعِصْمة، ونَبْرأ إليه منَ الحَوْل والقوَّة، ونسألهُ يقيناً يملأُ الصدرَ، ويَعْمر القلبَ، ويَستولي على النَّفس، حتى يكُفَّها إذا نَزغت، وَيرُدَّها إذا تطلَّعتْ، وثقةً بأنه عزَّ وجل الوَزَر، والكالئ والرَّاعي والحافظُ، وأنَّ الخيرَ والشرَّ بيدهِ، وأنَّ النِّعَم كلَّها من عنِده، وأنْ لا سلطانَ لأحدٍ معَ سُلطانهِ، نُوجِّه رغباتِنا إليه2، ونُخْلص نيَّاتِنا في التوكلُّ عَليه، وأن يَجْعلنا مِمَّنْ هَمُّه الصدقُ، وبُغْيَتُه الحقُّ3، وغرَضُه الصَّواب، وما تُصححه العقولُ وتَقْبله الألبابُ، ونعوذُ به مَن أنْ ندَّعيَ العلمَ بشيءٍ لا نَعلمه4، وأَنْ نُسَدِّيَ قولاً لا نُلحمه، وأنْ نكونَ ممَّن يَغُرُّه الكاذبُ منَ الثَّناء5، ويَنْخدعَ للمتجوِّز في الإطراء، وأن يكونَ سبيلُنا سبيلَ مَنْ يُعْجبه أنْ يُجادل بالباطلِ6، ويُموِّه على السامع، ولا يبالي إذا

_ 1 في "س": "رب يسر وأعن". 2 في "س": "رغبتنا"، وفي الهامش "رغباتنا" عن نسخة أخرى. 3 في "س"، و "يقينه"، وفي الهامش: "وبغيته": عن نسخة أخرى. 4 "العلم"، سقطت في "ج". 5 في "س": "وأن يغرنا الكاذب من الثناء". 6 في س "وأن نكون ممن يعجبه ... ".

راجَ عنه القولُ أن يكونَ قد خلَط فيه، ولم يُسدَّدْ في معانيه، ونَستأنفُ الرغبةَ إليهِ عزَّ وجل في الصَّلاة على خَيْر خَلْقه، والمُصطفى مِن بَريَّته، محمّدٍ سيّدِ المُرسلينَ، وعلى أصحابهِ الخُلفاءِ الراشدين، وعلى آلهِ الأخيارِ من بعدهم أجمعين. بيان فضل العلم: 1 - وبعدُ فإنَّا إذا تصفَّحْنا الفضائلَ لنَعرفَ منازلَها في الشَّرف، ونتبيَّنَ مواقِعَها مِن العِظَم؛ ونَعلم أيٌّ أحقٌّ منها بالتّقَديم، وأسبقُ في استيجابِ التعَّظيم، وجَدْنا العِلمَ أَولاها بذلك، وأوَّلُها هنالك؛ إذ لا شَرفَ إلاَّ وهو السّبيلُ إليه، ولا خيرَ إلاَّ وهو الدَّليلُ عليه، ولا مَنْقَبةَ إلاَّ وهو ذُروتها وسَنامها، ولا مَفْخرةَ إلاَّ وبهِ صحَّتُها وتمَامُها، ولا حسنةَ إلاَّ وهو مِفتاحُها؛ ولا مَحْمَدةَ إلا ومنه يَتَّقدُ مصباحُها، وهو الوفيُّ إذا خانَ كلُّ صاحبٍ، والثقةُ إذا لم يُوثَق بناصحٍ، لولاهُ لَما بانَ الإنسانُ من سائِرِ الحيوانِ إلا بتخطيط صُورتِه، وهيئةِ جسمِهِ وبُنيته، لا، ولا وجَدَ إلى اكتسابِ الفضلِ طريقاً، ولا وجَد بشيءٍ منَ المحاسنِ خليقاً. ذاكَ لأنَّا وإنْ كنَّا لا نصلُ إلى اكتسابِ فضيلةٍ إِلا بالفعلِ، وكانَ لا يكونُ فعْلٌ إلاَّ بالقُدرة، فإنَّا لم نَرَ فعلاً زانَ فاعِلَه وأوجبَ الفضلَ له، حتى يكونَ عنِ العلم صَدَرُهُ، وحتى يتتبين ميسمه عليه وأثره، ولم نر قدرةقط كَسبتْ صاحَبَها مَجْداً وأفادتْه حَمْداً، دونَ أن يكونَ العلمُ رائدَها فيما تَطْلُب، وقائدَها حيث يؤم ويذهب، ويكُونَ المُصرِّفَ لعِنَانها؛ والمقلِّبَ لها في مَيْدانِها. فهي إذاً مفتقِرة في أن تكونَ فضيلةٌ إليه، وعيالٌ في استحقاقِ هذا الاسم عليه، وإذا هيَ خلتْ منَ العِلم أو أبَتْ أن تمتثل أمره؛ وتقتفي أثره ورسمه1،

_ 1 في "ج" والمطبوعة: "وتقتفي رسمه".

آلتْ ولا شيءَ أحْشدُ للذَّمِّ على صاحبِها منها1. ولا شَيْنَ أشَيْنُ مِن إعمالِه لها2. 2 - فهذا من فضلِ العلم لا تَجد عاقلاً يُخالفك فيه، ولا تَرى أحداً يدَفعُه أو يَنْفيهِ، فأمَّا المفاضلةُ بينَ بعضِه وبعضٍ، وتقديمُ فنٍّ منهُ على فَنّ، فإنَّك تَرى الناسَ فيه على آراءٍ مُختلفة، وأهواءٍ مُتعادية، تَرى كُلاًّ منهم لِحُبِّه نفسَه، وإيثارهِ أن يَدْفعَ النقصَ عنها، يُقدِّم ما يُحْسِن من أنواعِ العلمِ على ما لا يُحْسِن، ويحاولُ الزِّرايةَ على الذي لم يَحْظَ به3 والطعنَ على أهلهِ والغَضَّ منهم. ثم تتفاوتُ أحوالهُم في ذلك، فمِن مغمورٍ قد استهلكَهُ هَواهُ، وبَعُدَ في الجَوْر مَداه، ومِنْ مُترجِّح فيه بينَ الإِنصافِ والظُّلمْ4، يجورُ تارة ويَعْدل أخرى في الحُكْم، فأمَّا مَن يَخلُص في هذا المعنى من الحَيْف حتى لا يقضيَ إلاّ بالعدلِ، وحتى يَصْدُر في كلَّ أمرِه عنِ العقلِ، فكالشّيءِ الممتنعِ وجودُه. ولم يكنْ ذلك كذلك، إلاَّ لِشَرفِ العِلم وجليلِ محلِّه، وأنَّ محبَّتَه مركوزةٌ في الطِّباع، ومُرَكَّبة في النُّفوس، وأن الغَيْرة عليه لازمةٌ للجِبِلَّة، وموضوعةٌ في الفِطرة، وأنه لا عيبَ أعيْبُ عندَ الجميعِ مِن عَدَمه، ولا ضَعةَ أوْضعُ من الخلُوِّ عنه، فلم يُعادَ إذن إلا من فَرْط المحبةَّ، ولم يُسمح به إلا لشدة الضن. علم البيان: 3 - ثم إنك لا تَرى عِلْماً هو أرسَخُ أصلاً، وأَبْسَق فَرعاً، وأَحلى جَنىً، وأَعذبُ ورْداً، وأكرمُ نِتاجاً، وأنْورُ سراجاً، مِن عِلْم البَيان، الذي لولاه لم تر

_ 1 "أحشد" اسم تفضيل من "الحشد"، وهو الجمع. 2 في المطبوعة: "ولا شيء أشين"، و "الشين"، العيب. 3 "زرى عمله عليه يزريه زراية وزريًا"، عابه عليه. 4 "المترجح"، المتذبذب بميل مرة إلى هنا ثم إلى هنا.

لساناً يَحُوك الوشيَ، ويصَوغ الحَلْيَ، وَيلفِظ الدرَّ، وينفثُ السِّحرَ، ويَقْري الشَّهْدَ1، ويُريكَ بدائعَ منَ الزهر، ويحنيك الحلو اليانع من التمر، والذي لولا تحفيه بالعوم، وعنايتهِ بها، وتصويرهُ إياها، لبقيتْ كامنةً مستورة، ولمَا استبنْتَ لها يدَ الدهرِ صورةً2، ولاستمرَّ السِّرارُ بأهلَّتها3، واسْتَولى الخَفَاءُ على جُملتِها، إلى فوائدَ لا يُدركها الإحصاءُ، ومحاسنَ لا يَحْصرُها الاستقصاء. ما لحق علم البيان من الضيم والخطأ: إلاَّ أنك لن تَرى على ذلك نوعاً من العلم قد لقيَ من الضَّيْم ما لَقِيَهُ، ومُنيَ مِنَ الحَيْف بِما مُنِيَ به4، ودَخلَ على الناسِ منَ الغلَط في مَعْناهُ ما دخَلَ عليهم فيهِ، فقد سبقتْ إلى نُفوسهم اعتقاداتٌ فاسِدةٌ وظنونٌ رديَّةٌ، ورَكبهُم فيه جهلٌ عظيمٌ وخطأٌ فاحشٌ، تَرى كثيراً منهم لا يَرى له معنىً أكثرَ ممَّا يرَى للإشارةِ بالرأس والعين، وما يَجدُه لِلخط والعَقْد5، يقولُ: إنَّما هو خبرٌ واستخبارٌ، وأمْر ونهيٌ، ولكلِّ مِن ذلك لفظٌ قد وُضع له، وجُعل دليلاً عليه، فكلُّ مَنْ عَرفَ أوضاعَ لغةٍ منَ اللغات، عربيةً كانت أو فارسية، وعرَفَ المغْزى من كلَّ لفظةٍ، ثم ساعدَه اللسانُ على النُّطق بها، وعلى تَأديةِ أجراسِها وحُروفِها، فهو بيِّن في تلك اللّغةِ، كاملُ الأداةِ، بالغٌ منَ البيانِ المبلغَ الذي لا مزيدَ عليه، مُنْتَه إلى الغايةِ التي لا مذهبَ بعدها يسمع الفصاحة والبلاغة

_ 1 "يقريه"، يجمعه. 2 يقولون: "لا أفعله يد الدهر"، أي لا أفعله أبدًا. 3 "السرار" بالكسر، اختفاء القمر في آخر ليلة في الشهر. 4 "مني"، ابتلى وأصيب. 5 يريد بالعقد التفاهم بعقد الأصابع

والبراعةَ فلا يَعرف لها معنىً سوى الإِطْنابِ في القول، وأنْ يكونَ المتكلمُ في ذلك جهيرَ الصَّوْت، جاريَ اللسان، لا تَعترضه لُكْنه، ولا تقفُ بهِ حُبْسة1، وأنْ يَستعمل اللفظَ الغريبَ، والكلمةَ الوَحشيَّةَ، فإِنِ اسْتظهرَ للأَمر وبالغَ في النظر، فأَنْ لا يُلْحِنَ فيرفع في موضع النصب، أو يُخطئَ فيَجيء باللفظةِ على غيرِ ما هيَ عليه في الوَضْعِ اللُّغويِّ، وعلى خلافِ ما ثَبتتْ به الروايةُ عنِ العرب. وجملةُ الأمر أنَّه لا يَرى النقصَ يَدْخلُ على صاحبهِ في ذلك2 إلا من جهةِ نقصِه في علم اللغة، لا يعلم أن ههنا دقائق وأسرار طريق العلم بها الروية والفكر، لطائف مُسْتقاها العَقلُ، وخصائصَ معانٍ ينفردُ بها قومٌ قد هُدُوا إليها، ودُلُّوا عليها، وكُشِف لهم عنها، ورُفعتِ الحُجُب بينَهُم وبينَها3، وأنها السَّببُ في أنْ عرضتِ المزيَّةُ في الكلامِ، ووجبَ أن يفضُلَ بعضُه بعضاُ، وأن يبعدَ الشأوُ في ذلك، وتمتدَّ الغايةُ، وَيعلوَ المُرتقَى، ويعزَّ المطلبُ، حتى ينتهيَ الأمرُ إلى الإعجازِ، وإلى أن يخرج من طوق البشر. من ذم الشعر وعلم الإعراب: 4 - ولمَّا لم تعرفْ هذه الطائفةُ هذهِ الدقائقَ، وهذهِ الخواصَّ واللطائفَ، لم تَتعرضْ لها ولم تَطلبها، ثمَّ عَنَّ لها بسوء الاتفاقِ رأيٌ صارَ حجازاً بينَها وبينَ العلم بها4، وسَدّاً دونَ أن تصلَ إِليها وَهوَ أَنْ ساءَ اعتقادُها في الشَّعر الذي هو مَعْدنها، وعليه المعوَّلُ فيها، وفي علمِ الإِعرابِ الذي هو لها

_ 1 "الحبسة"، بالضم، اسم احتباس الكلام أي تعذره عنده إرادته. و "اللكنة"، العي والعجز عن القول. 2 في "س" "في ذلك الأمر". 3 في "ج" و "س": و "رفع الحجب". 4 في "س": "حجابًا" مكان "حجازًا".

كالنّاسِبِ الذي يَنْميها إِلى أُصولها، ويُبَيِّنُ فاضلَها من مَفضولِها، فجعَلتْ تُظهر الزهدَ في كلِّ واحدٍ منَ النَّوعين، وتطرحُ كلاً منَ الصِّنفين، وترى التشاغلَ عنهُما أولى منَ الاشتغالِ بهما، والإعراضَ عن تدبُّرهما أصوبَ منَ الإِقبالِ على تعلمهما. ذمهم للشعر: 5 - أما الشعرُ فَخُيِّلَ إليها أنه ليسَ فيه كثيرُ طائلٍ1، وأنْ ليس إِلا مُلْحةً أو فكاهة، أو بكاءَ منزلٍ أو وصْفَ طلَلٍ، أو نعْتَ ناقةٍ أو جَمل، أو إسرافَ قولٍ في مدحٍ أو هجاءٍ، وأنه ليسَ بشيءٍ تَمسُّ الحاجةُ إِليه في صلاحِ دينٍ أو دنيا. ذمهم للنحو: 6 - وأما النّحوُ، فَظَّنتْه ضرْباً منَ التكلُّف، وباباً من التعسُّفِ، وشيئاً لا يَستند إِلى أصلٍ، ولا يعتمد يه على عقلٍ، وأنَّ ما زادَ منه على معرفةِ الرَّفعِ والنَّصبِ وما يتصلُ بذلك مما تجده في المبادئ، فهو فضلٌ لا يُجْدي نفعاً، ولا تَحصل منه على فائدةٍ، وضَرَبُوا له المثَل بالمِلْح كما عرفت، إِلى أشباهٍ لهذه الظُّنونِ في القَبِيلَيْن، وآراءٍ لو عَلموا مَغبَّتَها وما تقودُ إِليه، لتعوَّذوا باللهِ منها، ولأنِفُوا لأنفُسهم منَ الرضا بها، وذاك لأنَّهم بإِيثارِهم الجهلَ بذلك على العِلم، في معنى الصادِّ عن سَبيلِ الله، والمُبتغي إطفاءَ نور الله تعالى. منزلة الشعر والنحو من إعجاز القرآن: 7 - وذاك أنَّا إذا كنَّا نَعلم أنَّ الجهةَ التي منها قامَتِ الحجةُ بالقُرآنِ وظهرتْ، وبانَتْ وبَهرت، هيَ أنْ كانَ على حَدٍّ منَ الفَصاحةِ تقصرُ عنه قُوى البشرِ، ومُنْتهياً إِلى غايةٍ لا يُطمَح إِليها بالفِكر، وكان مُحالاً أن يَعرف كونَه كذلك، إِلا مَنْ عَرفَ الشعرَ الذي هو ديوانُ العَرب، وعنوانُ الأدب،

_ 1 في "س": "كبير طائلي".

والذي لا يُشك أنه كانَ ميدانَ القومِ إِذا تجارَوْا في الفَصاحة والبيان، وتنازَعوا فيهما قَصَبَ الرَّهان، ثم بَحث عنِ العِلل التي بها كانَ التباينُ في الفَضْل، وزادَ بعضُ الشعر على بعضٍ1 كان الصادُّ عن ذلك صادَّاً عن أَن تُعرَف حجةُ الله تعالى، وكان مَثلُه مَثلَ مَن يتصدَّى للنّاسِ فيمنعُهم عَن أنْ يحفظوا كتابَ الله تعالى ويقوموا به ويتلوه ويقرِئُوه، ويصنعُ في الجملةِ صَنيعاً يؤدِّي إِلى أَنْ يَقلَّ حفَّاظُه والقائمونَ به والمُقرئون له. ذاك لأنَّا لم نتعبَّدْ بتلاوتِه وحِفْظه، والقيامِ بأَداء لفظهِ على النَّحو الذي أُنزل عليه، وحراستِه من أن يُغَيَّر ويُبدَّل، إلاَّ لتكونَ الحِجةُ بهِ قائمةً على وجهِ الدَّهر، تُعرَف في كل زمانٍ، ويتوصَّلُ إِليها في كلَّ أَوان، ويكونُ سبيلُها سبيلَ سائرِ العلوم التي يَرويها الخلَفُ عن السَّلف، ويأَثُرُها الثاني عن الأول، فمَنْ حال بيننا وبين ما له كانَ حفْظُنا إيْاهُ، واجتهادُنا في أن نؤدِّيَه ونَرعاه، كَان كَمن رامَ أن يُنْسيناه جُملةً ويُذْهبه من قلوبنا دَفعةً، فسواءٌ مَنْ منَعكَ الشيءَ الذي تنتزع منه الشاهدُ والدَّليلُ، ومَنْ منعَكَ السبيلَ إِلى انتزاعِ تلك الدَّلالةِ، والاطَّلاعِ على تلك الشَّهادةِ، ولا فرقَ بينَ مَن أعدمَك الدواءَ الذي تَسْتَشفي به من دائَك، وتَسْتبقي به حشاشةَ نَفْسك، وبينَ مَن أعدمَكَ العلْمَ بأنَّ فيه شفاءً، وأن لك فيه استبقاء. الرد على حجج المعتزلة في الإعجاز: 8 - فإِنْ قال منهُم قائلٌ: إِنّك قد أغْفلتَ فيما رتَّبْت، فإنَّ لنا طريقاً إِلى إِعجازِ القرآنِ غيرَ ما قلتَ، وهو عِلْمُنا بعَجْز العرَب عن أن يأتوا بمثلِه وتَرْكِهم أن يعارضُوه، مع تكرارِ التّحدَّي عليهم، وطولِ التقَّريع لهم

_ 1 سياق الكلام من أول الفقرة: "وذاك أبا إذاكنا نعلم .... كان الصاد عن ذلك ... ".

بالعجزِ عنه. ولأنَّ الأمرَ كذلكَ، ما قامتْ به الحجةُ على العَجم قيامَها على العرب1 واستوى الناسُ قاطبة، فلم يَخْرج الجاهلُ بلسانِ العرب من أن يكونَ مَحْجوجاً بالقرآن. قيلَ له: خبِّرنا عما اتفقَ عليه المُسلمون منِ اختصاص نبينا صلى الله عليه وسلم بأنْ كانتْ معجزتُه باقيةً على وجهِ الدَّهر، أتعرفُ له معنى غيرَ أنْ لا يزالُ البرهانُ منه لائحاً مُعرَّضاً لكلَّ من أرادَ العلمَ به، وطلبَ الوصولَ إِليه، والحجةُ فيه وبه ظاهرةً لمن أرادَها، والعلمُ بها ممكناً لمن التسمه؟ فإِذا كنتَ لا تشكُّ في أَنْ لا معنى لبقاءِ المُعجزة بالقرآن إلاَّ أنَّ الوصفَ الذي له كان معجزاً قائمٌ فيه أبداً، وأنَّ الطريقَ إِلى العلم به موجودٌ، والوصولَ إِليه ممكنٌ، فانظرْ أيَّ رجلٍ تكونُ إِذا أنتع زهدْتَ في أن تعرفَ حُجَّة الله تعالى، وآثرتَ فيه الجهلَ على العِلمِ، وعدمَ الاسْتبانةِ على وُجودِها، وكان التّقليدُ فيها أحبَّ إِليك، والتعويلُ على علمِ غيرِك آثرَ لديك، ونحِّ الهوى عنك، وراجح عقلك، واصدُقْ نفسك، يَبِنْ لك فُحشُ الغلطِ فيما رأيتَ، وقبْحُ الخطأ في الذي توهَّمتَ. وهل رأيتَ رأياً أعجزَ، واختياراً أقبحَ ممن كَرِهَ أَن تُعرفَ حجةُ الله تعالى منَ الجهةِ التي إِذا عُرفْت منها كانت أنْورَ وأبهرَ، وأقوى وأقهر، وآثرَ أَنْ لا يَقْوى سلطانُها على الشَّرْك كلَّ القوّة2، ولا تَعْلو على الكفر كلَّ العلو؟ والله المستعان.

_ 1 ما في قوله "ما قامت" مصدرية. 2 قوله "وآثر" معطوف على قوله "كره".

الكلام في الشعر

الكلام في الشعر: فصل: في الكلام على من زَهد في رواية الشعر وحِفْظهِ، وذمَّ الاشتغال بعلمه وتتبُعه الرد على من ذم الشعر: 9 - لا يخلو مَن كان هذا رأيَهُ مِن أمورٍ: أحدُها: أنْ يكون رفضُه له وذَمُّه إِيّاه من أجلِ ما يَجده فيه من هَزْلٍ أو سُخْف، وهجاءٍ وسَبٍّ وكَذِبٍ وباطلٍ على الجُملة. والثاني: أنَ يذمَّه؛ لأنه موزون مُقفَّى، ويرى هذا بمجرَّده عيباً يقتَضي الزهدَ فيه والتنزُّهَ عنه. والثالثُ: أنْ يتعلَّقَ بأحوالِ الشُّعراءِ وأنها غيرُ جميلةٍ في الأكثرِ ويقول: قد ذُمُّوا في التنَّزيل. وأيٌّ كان مِنْ هذه رأياً لهُ، فهو في ذلكَ على خطأ ظاهرٍ وغَلَط فاحش، وعلى خلافِ ما يُوجِبه القياسُ والنَّظرُ، وبالضدِّ مما جاءَ به الأَثرُ، وصَحَّ به الخبر. 10 - أما مَن زَعَم أنَّ ذمَّه لهُ من أجْل ما يَجدُ فيه من هزلٍ وسُخف وكذبٍ وباطلٍ، فينبغي أن يذمَّ الكلامَ كلَّه، وأن يُفَضِّل الخرَسَ على النُّطق، والعيَّ على البيان، فمنثور كلامِ النّاسِ على كلَّ حالٍ أكثرُ من منظومِه، والذي زعمَ أنه ذمَّ الشَّعرَ من أجلهِ وعاداهُ بسببه فيه أكثر1؛

_ 1 في المطبوعة: "والذي زعمَ أنه ذمَّ الشعرَ بسببه وعاداه بنسبته إليه أكثر"، وهي عبارة سيئة، وفي "ج": " .... ذم الشعر بسببه وعاداه بسببه فيه أكثر" وهو سهو من الناسخ، والصواب ما أثبته من "س"، والضمير في "فيه" يعود إلى "منثور الكلام"، أي هو في المنثور أكثر.

لأنَّ الشعراءَ في كلَّ عصرٍ وزمانٍ معدودون، والعامَّة ومَنْ لا يقولُ الشعرَ منَ الخاصَّةِ عديدة الرَّمل، ونحنُ نَعْلم أنْ لو كانَ منثورُ الكلام يُجمعُ كما يُجْمَع المنظومُ، ثم عمدَ عامدٌ فجمعَ ما قيلَ من جنْس الهَزْل والسُّخف نثراً في عصرٍ واحدٍ، لأَرْبى على جَميعِ ما قاله الشعراءُ نَظْماً في الأزمانِ الكثيرةِ1، ولغَمره حتى لا يظهرَ فيه. ثم إِنك لو لم تَرْو من هذا الضربِ شيئاً قطُّ، ولم تَحْفَظْ إلاَّ الجِدَّ المحضَ، وإلاَّ ما لا مَعابَ عليكَ في روايته، وفي المحاضرةِ به، وفي نَسْخه وتَدوينهِ، لَكانَ في ذلك غِنًى ومندوحةٌ، ولوَجدْتَ طِلْبتَك ونِلْتَ مُرادك، وحصَل لك ما نحنُ ندعوكَ إِليه من عِلمِ الفصاحةِ، فاخترْ لنفسكَ، ودَعْ ما تَكْره إِلى ما تُحب. 11 - هذا، وراوي الشَّعر حاكٍ، وليس على الحاكي عَيبٌ، ولا عليه تَبعةٌ، إِذا هوَ لم يَقصدْ بحكايتهِ أن يَنْصر باطلاً، أو يَسُوء مسْلِماً، وقد حكى اللهُ تعالى كلامَ الكفار، فانظرْ إِلى الغرضِ الذي له رُويَ الشعرُ، ومِن أَجْلهِ أُريد، وله دُوِّن، تَعلمْ أنك قد زُغْت عن المنهج، وأنك مُسيءٌ في هذه العداوة، وهو العصبيّةِ منكَ على الشَّعر2. وقد استشهدَ العلماءُ لغريبِ القرآنِ وإِعرابهِ بالأبياتِ فيها الفحشُ، وفيها ذكْرُ الفعلِ القبيحِ، ثم لم يَعِبْهم ذلك، إذا كانوا لم يَقصدوا إِلى ذلك الفُحشِ ولم يريدوه، ولم يرووا الشعر من أجله.

_ 1 "نظمًا" سقطت من ناسخ "ج". 2 في المطبوعة: "وهي العصبية".

الحسن البصري وتمثله بالشعر: قالوا: وكان الحسَنُ البصريُّ رحمه الله يتمثَّلُ في مَواعظِه بالأبياتِ من الشّعرِ، وكان من أوجعها عنده: اليومَ عندكَ دَلُّها وحديثُها ... وغَداً لِغيرك كَفُّها والمعصم1 تمثل عمر بن الخطاب بشعر: 13 - وفي الحديث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ذكره المرزباني، في كتابه بإِسنادٍ، عن عبد الملك بنِ عُميرٍ أنه قال: أتي عمر رضوان الله عليه يحلل منَ اليمنِ، فأتاهُ محمدُ بنُ جعفرِ بن أبي طالبٍ، ومحمدُ بنُ أبي بكر الصدَّيقُ، ومحمدُ بنُ طلحةَ بنِ عبيدِ الله، ومحمدُ بنُ حاطبٍ، فدخلَ عليه زيدُ بن ثابتٍ رضي الله عنه فقال: يا أميرَ المؤمنين، هؤلاء المحمودن بالبابِ يطلبون الكُسْوة. فقال: ائْذِنْ لهم يا غلام. فدعا بحلل، فأخذ زيد أجودها [حلة] 2 وقال: هذهِ لمحمّدِ بن حاطبٍ، وكانتْ أُمُّه عندَه، وهو من بني لؤيٍّ، فقال عمرُ رضي الله عنه: أيهاتَ أيهات! وتمثَّل بشعرِ عمارة بن الوليد: أَسرَّكِ لما صُرِّع القومُ نشوةٌ ... خروجيَ منها سَالِماً غَيْرَ غارِمِ بَرِيئاً كأنَّي قبلُ لم أكُ منهمُ ... وليسَ الخداعُ مرتَضًى في التَّنادُمِ

_ 1 من أبيات جياد في مذمته بعض النساء، يقول: إن النساء وإن ذكرن بعفة ... فيما يظاهر في الأمور ويكتم لحم أطاف به سباع جوع ... ما لا يذاد، فإنه يتقسم لا تأمنن أنثى حياتك، واعلمن ... أن النساء ومالهن مقسم اليومَ عندكَ دَلُّها وحديثُها ... وغَداً لِغيرك كَفُّها والمعصم كالخان تسكنه وتصبح غاديًا ... ويحل بعدك فيه من لا تعلم "أمالي الشريف 1/ 160/ شرح الحماسة للتبريزي 3: 119". 2 الزيادة بين القوسين من "س".

رُدَّها. ثم قالَ: ائْتني بثوبٍ فألقِهِ على هذهِ الحُلل. وقال: أدخلْ يدَكَ فخُذْ حُلَّة وأنتَ لا تَراها، فأَعْطِهمْ. قال عبدُ الملك: فلم أر قسمة أعدل منها1. و"عمارة"، هذا هو "عمارةبن الوليد بنِ المُغيرةِ"، خطبَ امرأةً من قومه فقالت: لا أتزوجُك أو تترُكَ الشرابَ، فأبى، ثم اشتد وَجْدُه بها فحلَفَ لها أنْ لا يشرب، ثم مر بخمار عند شَرْبٌ يشربون، فدعَوْه فدخَلَ عليهم وقد أنْفَدوا ما عندهم، فنَحَر لهم ناقتَه وسَقاهم بِبُرْدَيْه، ومكَثوا أَياماً، ثم خرجَ فأتى أَهْلَه، فلمَّا رأتْه امرأتُه قالت: أَلم تَحْلِفْ أَنْ لا تَشْرب؟ فقال: ولسنا بشَرْب أمَّ عمرو إِذا انْتَشَوْا ... ثيابُ الندامى عِنْدَهُمْ كالغَنائم ولكنّنا يا أمَّ عمروٍ نَديمُنا ... بمنزلةٍ الريَّانِ ليسَ بعائمِ أَسَّرك .... البيتين2 14 - فإذنْ رُبَّ هَزْلٍ صار أَداةً في جِدّ، وكلامٍ جَرى في باطلٍ ثم استُعينَ به على حَقّ، كما أنه رُبَّ شيءٍ خَسيس، تُوصِّلَ به إِلى شريفٍ، بأنْ ضُرِبَ مَثلاً فيه وجُعل مثالاً له، كما قال أبو تمام: واللهُ قَدْ ضَربَ الأَقلَّ لنورِه ... مَثَلاً منَ المشكاة والنبراس3

_ 1 الخبر والشعر في الأغاني: 18: 125، بنحو هذه القصة. 2 الخبر والشعر في الأغاني 18 - 123، ومعجم الشعراء للمرزباني: 247. و "الشرب"، جمع "شارب"، و "العائم" من قولهم: "عام الرجل إلى اللبن يعام ويعيم عيمًا وعيمة"، اشتدت شهوته للبن حتى لا يصبر عنه. 3 في هامش المخطوطة "ج"، ما نصه: "هو القطن، "يعني النبراس"، وأراد به الفتيلة ذكره الجوهري في الصحاح أن النبراس هو المصباح، وكذا .... والله أعلم". والبيت في ديوان أبي تمام.

وعلى العكس، فربَّ كلمةِ حَقٍّ أُريدَ بها باطلٌ، فاسْتُحِقَّ عليها الذمُّ، كما عرفتَ من خبر الخارجي مع علي راضون الله عليه1. ورُبَّ قولٍ حَسَنٍ لم يَحْسُنْ من قائِلِه حينَ تَسبَّبَ به إِلى قبيحٍ، كالذي حكى الجاحظ قال: "رجع طاوس يوماً عن مجلسِ مُحمّدِ بنِ يوسُفَ2، وهوَ يومئذٍ والي اليمنِ فقال: ما ظَننتُ أنَّ قول: "سبحان الله" يكون معصية لله تعالى حتى كانَ اليومُ، سمعتُ رجلاً أَبلغَ ابنَ يوسُفَ عن رجلٍ كلاماً، فقالَ رجلٌ من أهلِ المَجلس: "سبحانَ الله"، كالمستعظمِ لذلك الكلامِ، ليُغضِبَ ابنَ يوسف"3. فبهذا ونحوِه فاعتبرْ، واجْعلْهُ حكمًا بينك وبين الشعر. الدفاع عن الشَّعر: 15 - وبعدُ، فكيفَ وَضعَ منَ الشعرِ عندكَ، وكسبَهُ المقتَ منك، أنَّك وجدتَ فيه الباطلَ والكذبَ وبعضَ ما لا يَحْسنُ، ولم يَرفعْه في نفسِك، ولم يُوجِب له المحبَّةَ من قبلك، أنْ كانَ فيه الحقُّ والصدقُ والحكمةُ وفصْلُ الخِطاب، وأنْ كانَ مَجْنى ثمرِ العقولِ والألبابِ، ومجتمَعَ فِرَقِ الآدابِ، والذي قيَّد على النّاسِ المعاني الشريفةَ، وأفادَهُم الفوائدَ الجليلة، وترسَّل بينَ الماضي والغابرِ، يَنقل مكارمَ الأخلاق إِلى الولدِ عن الوالد، ويؤدِّي ودائعَ الشَّرف عن الغائب إِلى الشَاهد، حتى تَرى به آثارَ الماضين مخلَّدةً في الباقين، وعقول الأَوَّلين مردودةً في الآخرين، وتَرى لكلَّ مَن رَام الأدبَ،

_ 1 وذلك حين قال البرج بن مسهر الطائي الشاعر الخارجي، لعلي رضي الله عنه: "لا حكم إلا الله"، وهي شعار الخوارج، فقال علي: "كلمة حق أريد بها باطل، وإنما مذهبهم أن لا يكون أمير، ولا بد من أمير، برًا كان أو فاجرًا". 2 في هامش "ج": "هو أخو الحجاج"، يعني "محمد بن يوسف". 3 في البيان والتبيين 1: 395.

وابتغَى الشرفَ، وطلبَ محاسنَ القولِ والفعْل، مناراً مرفوعاً، وعِلْماً مَنصوباً، وهادياً مُرْشداً، ومُعلماً مسدِّداً، وتجدُ فيه للنَّائي عن طَلبِ المآثر، والزّاهِدِ في اكتسابِ المحامدِ، داعياً، ومُحرَّضاً، وباعثاً ومحضَّضاً، ومذكرًا ومعرفًا، وواعظًا ومنفقًا. فلو كنت ممن يتصف كانَ في بعضِ ذَلك ما يُغيِّرُ هذا الرأيَ منك، وما يَحْدوكَ على روايةِ الشَّعر وطَلََبه، ويَمنعُكَ أنْ تَعيبَه أو تَعيبَ به، ولكنك أَبَيْتَ إلاَّ ظناً سبَقَ إِليكَ، وإِلاّ بادي رأيٍ عنَّ لك، فأقفلْتَ عليه قلْبَكَ، وسدَدْتَ عمَّا سِواهُ سَمْعَك، فَعيَّ الناصحُ بك1، وعَسُرَ على الصديق الخليط تنبيهك. الأحاديث في ذم الشعر، ومدحه: نعم، وكَيف رَويْتَ: "لأَنْ يمتلئَ جوفُ أَحدِكم قيحاً، فيَرِيَهُ، خيرٌ له من أَن يمتلئ شِعْراً" 2، ولهجتَ به، وترِكتَ قولَه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ مِن الشعر لَحِكْمةً، وإنَّ مِن البيانِ لَسِحْرا"؟ 3 وكيف نَسِيتَ أَمرَه صلى الله عليه وسلم بقول الشعر، ووعده

_ 1 "عي"، عجز، أصله "عيي"، فأدغم. 2 حديث رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن وغيرهم عن أبي هريرة وعن غيره والرواية المشهورة فيه: "حتى يريه" أي يفسده وفي رواية بحذف: "حتى يريه" وفي أخرى حذف: "حتى" وقرأها بعضهم حينئذ "يريه" بالفتح، وبعضهم بالضم، ولم أر من رواه بالفاء فيريه" كما في نسخة المصنف، وفي رواية ابن عدي عن جابر: "لأن يمتلئ جوف الرجل قيحًا أو دمًا خير له من أن يمتلئ شعرًا مما هجيت به" "رشيد رضا"، قال أبو فهر: قد خرجته في تهذيب الآثار للطبري، في مسند عمر، فراجعه. 3 الحديث مشهور رواه أصحاب الصحاح وغيرهم، ورواية المصنف ملفقة من روايتين، فقد وردت كل جملة من طريق. وأما الجملتان معًا فقد جاءنا في حديث ابن عباس عند أحمد وابن ماجه هكذا: "إن من البيان سحرًا، وإن من الشعر حكمًا" وعند ابن عساكر من حديث علي باللام، وله تتمة وهي: "وإن من العلم لجهلًا، وإن من القول عيالًا"، "رشيد".

عليه الجنَّةَ، وقوله لحسَّان: "قُلْ وروحُ القُدُس معك" 1، وسماعَه له، واستنشادَهُ إياه، وعِلْمهُ صلى الله عليه وسلم به، واستحسانَه له، وارتياحَه عند سماعه؟ أَمرَه صلى الله عليه وسلم بقول الشعر وسماعه: 16 - أَمّا أَمرُهُ به، فمنَ المعلوم ضَرورةً، وكذلك سَماعُه إِيّاه، فقد كان حسانٌ وعبدُ الله بنُ رَواحَة وكعبُ بن زُهير يمدحونَهُ، ويَسْمعُ منهم، ويُصغي إِليهم، ويأمرهم بالردِّ على المُشركين2 فيقولون في ذلك ويَعْرِضون عليه، وكان عليه السلامُ يَذكرُ لهم بعضَ ذلك، كالذي رُوي من أنه صلى الله عليه وسلم قال لكعبٍ: "ما نَسِيَ ربُّك، وما كان ربُّكَ نَسِيّاً، شعراً قلْتَه"، قال: وما هوَ يا رسولَ الله؟ قال: "أَنْشِدْه يا أبا بكر"، فأنشده أبو بكر رضوان الله عليه: زعَمتْ سَخينةُ أنْ سَتَغلِبُ رَبَّها ... ولَيُغْلَبَنَّ مُغَالِبُ الغلاب3 استنشاده الشعر: 17 - وأما استنشادُه إِيّاهُ فكثيرٌ، من ذلك الخبرُ المعروف استنشادهِ، حين اسْتَسقى فسُقيَ، قولَ أبي طالب:

_ 1 خرجته في تهذيب الآثار للطبري، وفي مسند عمر. 2 روى الخطيب وابن عساكر عن حسان، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "اهج المشركين وجبرائيل معك، إذا حارب أصحابي بالسلاح، فحارب أنت باللسان". وفي حديث جابر عند ابن جرير أنه قال يوم الأحزاب: "من يحمي أعراض المؤمنين؟ " قال كعب: أنا يا رسول الله. قال: "نعم، اهجهم أنت، فسيعينك روح القدس" "رشيد". 3 خرجت خبر كعب بن مالك في تذهيب الآثار، مسند عمر. والبيت في ديوان كعب بن مالك: 178 - 182، وانظر طبقات فحول الشعراء: رقم 305. و "سخينة"، لقب كانت تعير به قريش. و "السخينة"، طعام يتخذ من الدقيق، دون العصيدة في رقته وفوق الحساء، وإنما كانت نؤكل في شدة الدهر، وغلاء الأسعار، وهزال الأنعام، فعيروا بأكلها.

وأبيضَ يُسْتَسْقى الغمامَ بوجههِ ... ثِمَالُ اليَتامى عصمةٌ للأراملِ يُطِيفُ به الهُلاَّكُ مِن آلِ هاشمٍ ... فهمْ عندَهُ في نعمةٍ وفواضلِ1 الأبيات. وعن الشّعبيَّ رضيَ الله عنه، عن مَسروقٍ، عن عبدِ الله قالَ: لمَّا نظرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى القَتْلى يومَ بدر مصرعين، فقال صلى الله عليه وسلم لأَبي بَكْر رضيَ الله عنه: "لو أَنَّ أبا طالبٍ حَيٌّ لَعِلمَ أنَّ أَسْيافَنا قد أخذتْ بالأنامِل". قال: وذلكَ لقولِ أبي طالب: كَذَبتُمْ، وبيتِ اللهِ، إِنْ جَدَّ ما أَرى ... لتلتبسن أسيافنا بالأنامل وينهض قوم في الذروع إليهم ... نهوض الروايا في طريق حلاحل2

_ 1 من قصيدة أبي طالب الطويلة في سيرة ابن هشام: 1 - 291 - 299، وانظر طبقات فحول الشعراء رقم: 366، والتعليق عليه. "ثمال اليتامى" غياث لهم وعماد، يقوم بأمرهم ويطمعهم ويسقيهم. و "عصمة للأرامل"، يمنعهن ويحفظهن. و "الهلاك"، جمع "هالك" وهو الفقير. والبيت الثاني ليس في "س". 2 خبر الشعبي، ليس في "س"، و "عبد الله"، هو "عبد الله بن مسعود" رضي الله عنه. والبيتان ليسا على ترتيبهما القصيدة، ورواية الأول على الصواب: وإنا لعمر اللهِ إِنْ جَدَّ ما أَرى ... لَتَلتبسَنْ أَسيافُنا بالأماثل أي تخالط السيوف أعناق الأماثل والأشراف فتقتلهم. ورواية الثاني: وينهض قوم في الحديد إليكم ... نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل "الروايا" الإبل التي تحمل الماء في المزادات. و "ذات الصلاصل" هي المزادة، تسمع لها صلصلة إذا تحركت بها الإبل. ورواية الشيخ رحمه الله للبيتين مختلطة وانظر الأغاني 17: 28

ومن المحفوظِ في ذلك حديثُ محمدِ بنِ مَسلمةَ الأنصاريَّ؛ جمعَهُ وابنَ أبي حَدْرد الأسلميّ الطريقُ، قال: فتذاكَرْنا الشكرَ والمعروفَ، قال: فقال محمد: كنَّا يوماً عند النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال لحسَّان بنِ ثابت: "أَنْشِدْني قصيدةً من شعرِ الجاهليّةِ؛ فإِنَّ اللهَ تعالى قد وَضعَ عنَا آثَامها في شعرِها وروايته"، فأنْشدَه قصيدةً للأعشى هجا بها علقمةَ بْنَ علاثة: عَلْقَمَ ما أنتَ إِلى عامرٍ ... الناقضِ الأوتارَ والواترِ1 فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلم: "يا حَسّانُ، لا تَعُدْ تُنْشِدني هذه القصيدةَ بعدَ مجلِسِكَ هذا". فقال: يا رسولَ الله، تَنْهاني عن رَجُلٍ مُشْركٍ مقيمٍ عندَ قيصر؟ فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلم: "يا حَسّان، أَشْكَرُ الناسِ للناسِ أَشكَرُهم للهِ تعالى، وإِنَّ قيصرَ سأل أبا سفيانَ بنَ حربٍ عنّي فتناولَ منِّي" وفي خبرٍ آخر: "فشَعَثَ منّي وإِنّهُ سألَ هذا عني فأَحْسَنَ القولَ". فشَكرَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وروي عن وجهٍ آخَرَ أَنَّ حسانَ قال: يا رسولَ الله، مَنْ نالَتْكَ يَدُه وَجَبَ علينا شُكْرُه2. ومِن المعروفِ في ذلك خَبرُ عائشةَ رضوانُ الله عليها أَنَّها قالتْ: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يقول: "أبياتك". فأقول: إِرفعْ ضَعيفَكَ لا يَحُر بكَ ضَعْفُهُ ... يَوْماً فتُدرِكَه العواقبُ قَدْ نَمى يَجْزيك أو يُثْني عليكَ وإنَّ مَنْ ... أثْنَى عليكَ بِما فَعلْتَ فقد جزى

_ 1 ديوان الأعشى 1: 105 2 الحديث رواه ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج وابن عساكر عن محمد بن مسلمة بلفظ: "يا حسان أنشدني من شعر الجاهلية؛ فإن الله قد وضع عنك آثامها في شعرها وروايتها"، وفيه أنه قال له بعد إنشاد القصيدة: "يا حَسّانُ لا تَعُدْ تُنْشِدني هذه القصيدةَ، إني ذكرت عند قيصر وعنده أبو سفيان وعلقمة بن علاثة، فأما أبو سفيان فتناول مني، وأما علقمة فحسن القول، وإنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس" "رشيد".

قالتَ فيقولُ عليه السلام: "يقولُ اللهُ تَبارَكَ وتعالى لعَبْدٍ من عبيدهِ: صنَعَ إِليك عَبْدي معروفاً فهل شَكرْتَه عليه؟ فيقول: يا ربِّ، عَلمتُ أنّهُ منكَ فشكرتُكَ عليه. قال فيقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: لَمْ تَشْكرْني، إذْ لم تشكر من أجريته على يده" 1. علمه بالشعر: 18 - وأمَّا عِلْمُه عليه السّلامُ بالشعرِ، فكَما رُويَ أنَّ سَوْدة أَنشدتْ: عديٌّ وتيمٌ تَبْتغي مَن تحالفُ فظنَّتْ عائشةُ وحَفْصةُ رضيَ اللهُ عنهما أنها عرضت بها، وجَرى بينهنَّ كلامٌ في هذا المعنى، فأُخبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فدخلَ عليهنَّ وقال: "يا وَيْلَكنَّ، ليسَ في عَدِيِّكنَّ ولا َتَيْمِكنَّ قيلَ هذا، وإنَّما قيلَ هذا في عديَّ تميمٍ وتيم تميم". وتمامُ هذا الشعر وهو لقيس بن معدان الكليبي، من بني يربوع: فخالف ولا واللهِ تَهْبِطُ تَلْعةَ ... منَ الأرضِ إلاَّ أنت للذل عارف ألا من رأى العيدين، أو ذكرا له ... عبد وتيم تتغي من تحالف2

_ 1 رواه الطبراني في المعجم الصغير 1: 163، والبيان من سبعة عشر بيتًا من البصائر والذخائر 2: 417 - 419 وانظر الوحشيات رقم: 178 والشعر ينسب لغريض، ولابنه سعية بن غريض اليهودي، ولورقة بن نوفل، ولغيرهم. 2 "سودة"، وهي سودة بنت زمعة"، أم المؤمنين رضي الله عنها. وفي هامش "ج"، عند البيت الثاني للتأنيث كان وجهه أن قوله: العبدين، [هما عدي] وتيم، عني بهما الأب الأكبر، وهم إذا ذكروا الأب [الأكبر، عنوا] به القبيلة، فحمل الكلام من بعد ذكرهما على [القبلتين ثم] استغنى برد الذكر إلى إحداهما عن ذكر [الأخرى: كقوله] تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا} استغنى بإعادة الضمير إلى الفضة، عن إعادته [إلى] الذهب". والشعر في المطبوعة غير منسوب، وهو منسوب في المخطوطتين "ج" و "س". "تيم قريش" منهم أبو بكر الصديق، و "عدي قريش"، منهم عمر بن الخطاب، ولذلك ما غضبت أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر، وحفصة أم المؤمنين بنت عمر. و"التلعة"، هي مسيل في أعلى الوادي وأسفله تلعة، وأعلاه ثلعة أيضًا. وفي البيت يراد أسفل الوادي. وقوله: "عارف". من قولهم "عرف للأمر، واعترف"، صبر له وذل وإنقاذ.

وروَى الزبيرُ بنُ بكار قال: مرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكرٍ رضيَ اللهُ عنه برجلٍ يقول في بعض أزقة مكة: يا أيُّها الرجلُ المُحوِّلُ رَحْلَهُ ... هلاّ نزلْتَ بآلِ عبد الدارِ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكرٍ، أهكذا قالَ الشّاعرُ؟ " قال: لا، يا رسول الله، ولكنه قال: يا أيُّها الرجلُ المحوِّلُ رَحلَهُ ... هلاَّ سألْتَ عنَ آلِ عَبْد منافِ فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "هكذا كنا نسمعها" 1. ارتياحه للشعر: 19 - وأمَّا ارتياحُه صلى الله عليه وسلم للشَّعر واستحسانُه له، فقد جاءَ فيه الخبرُ من وجوهٍ. من ذلك حديثُ النّابغةِ الجَعْديِّ قال: أَنشدتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قولي: بلَغْنا السماءَ، مَجْدُنَا وجدودُنا ... وإنَّا لنَرجو فوقَ ذلك مَظْهَرا فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَينَ المظهرُ يا أبا ليلى؟ " فقلتُ: الجنةُ، يا رسولَ الله، قال: "أَجَلْ إنْ شاء الله". ثم قال: أَنْشِدْني، فأنْشَدْتُه من قولي:

_ 1 الشعر لمطرود بن كعب الخزاعي، يبكي عبد المطلب وبني عبد مناف في سيرة ابن هشام 1: 188، والخبر في أمالي القالي 1: 241، وسمط اللآلي: 547، من غير طريق الزبير بن بكار.

ولا خيرَ في حِلْم، إذا لم تَكنْ لَهُ ... بَوادِرُ تَحْمي صفْوَه أنْ يُكَدَّرا ولا خيرَ في جَهلٍ، إذا لمْ يَكنْ لَهُ ... حَليمٌ إذا ما أَوْردَ الأمرَ أَصْدَرا فقال صلى الله عليه وسلم: "أَجَدْتَ، لا يَفْضُضِ اللهُ فاكَ". قال الراوي: فنظَرتُ إليه، فكأَنَّ فاهُ الْبَرَدُ المُنْهَلُّ، ما سَقطتْ له سِنٌّ ولا انفلَّت، تَرِفُّ غَروبُه1. ومِنْ ذلك حديثُ كعبِ بنِ زهيرٍ رُويَ أنَّ كعباً وأخاه بحيرًا خرجا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلَغَا أَبْرَقَ العزَّاف، فقال كعب لبجير: الق هذا الرجل وأنا مقيم ههنا، فانظرْ ما يقولُ. وقَدم بُجَيرٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرَضَ عليه الإسلامَ فأَسْلمَ، وبلغَ ذلك كَعْباً، فقالَ في ذلك شعراً، فأهْدَر النبيُّ صلى الله عليه وسلم دَمه، فكتبَ إليه بُجير يأمرُه أن يُسْلمِ ويُقْبلَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقولُ: إنَّ مَنْ شَهِدَ أَنْ لا إله إلاَّ اللهُ وأَنَّ محمداً رسولُ الله، قَبِلَ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسقطَ ما كانَ قبلَ ذلك، قال: فقَدِمَ كعبٌ وأنشد النبيَّ صلى الله عليه وسلم قصيدته المعروفة: بانتْ سُعادُ فَقلبي اليومَ مَتْبولُ ... مُتَيَّمٌ إثْرَها، لمْ يُفْدَ، مغلولُ وما سُعادُ غَداةَ البَيْنِ إذا رحَلَتْ ... إلاَّ أغَنُّ غَضيضُ الطَّرْفِ مَكْحولُ تَجْلُو عوارضَ ذي ظَلْمٍ إذا ابْتَسمَتْ ... كأنَّه مُنْهلٌ بالراح معلول2

_ 1 الشعر في ديوانه النابغة الجعدي، والخبر وتخريجه في تهذيب الآثار، مسند عمر، وانظر مجمع الزوائد للهيثمي 8: 126، و "البوادر" جمع "بادرة"، وهي ما يسبق به اللسان من الكلام عند الغضب. وقوله: "ولا انفلت" أي ولا انثلمت له سن. و "ترف غروبه" أي تبرق ثناياه، و "غروب الأسنان" هي منافع ريقها، وأطرافها وحدتها وماؤها وصفاؤها. و "البرد المنهل" والمتساقط. 2 "المتبول" من "تلبه الحب" إذا أضناه وأفسده أو ذهب بلبه وعقله. و "المتيم"، والمذلل المعبد. و "المغلول" من وضع الغل في عنقه. وفي رواية "مكبول"، وهو المقيد بالكبل أي القيد.

سحَّ السقاةُ عليها ماءَ مَحْنيةٍ ... من ماءِ أبطح أضحى وهو مشمول1 ويلمها خُلّةً لو أنها صَدقَتْ ... مَوْعودَها أوْ لوَ انَّ النُّصحَ مقبولُ2 حتى أتى على آخِرِها، فلمَّا بلغَ مديحَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ الرسولَ لَسيفٌ يُستَضاءُ بهِ ... مهنَّدٌ مِن سُيوفِ اللهِ مَسْلولُ3 في فتيةٍ مِنْ قُريشِ قالَ قائلُهم ... بِبَطْنِ مكَّةَ، لمَّا أسْلموا: زُولوا4 زالُوا، فما زالَ أنكاسٌ ولا كُشفٌ ... عندَ اللقاءِ، ولا مِيلٌ مَعازيلُ لا يَقَعُ الطعنُ إلاَّ في نُحورِهمُ ... وما بِهمْ عن حِياضِ الموتِ تَهليلُ شُمُّ العرانينِ أبطالٌ، لَبُوسُهُمُ ... مِن نسخ داودَ في الهَيجا، سَرابِيلُ أشارَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلى الحِلَق أَنِ اسْمعوا. قال: وكانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يكونُ مِن أصحابهِ مكانَ المائدةِ منَ القوم، يتحلقون حلْقةً دونَ حلقةٍ، فيلتفِتُ إلى هؤلاءِ وإلى هؤلاء5. والأخبارُ فيما يُشبه هذا كثيرةٌ، والأثر به مستفييض.

_ 1 وفي نسخة: "سح السقاة عليها"، أما الرواية المشهورة في البيت فهي: شجت بذي شبم من ماء محنية ... صافٍ بأبطح، أضحى وهو مشمول 2 في المطبوعة: "أكرم بها خلة". 3 وفي رواية "لنور" بدل "لسيف". 4 في هامش المخطوطة: "يعني الهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة". 5 خبر كعب بن زهير مشهور، وقصيدته مشروحة، وهي في ديوان كعب بن زهير، وانظر طبقات فحول الشعراء رقم: 117، 118.

من ذم الشعر لأنه موزون مقفى: 20 - وإن زعم أنه دم الشعرَ من حيثُ هو موزونٌ مقفَّى1، حتى كأنَّ الوزنَ عيْبٌ2، وحتى كأنَّ الكلامُ إذا نُظمَ نَظْمَ الشعرِ، اتَّضَعَ في نفسِه، وتَغيَّرتْ حالُه، فقد أبعدَ، وقال قَولاً لا يُعرفُ له مَعنى، وخالفَ العلماءَ في قولِهم "إنما لشعر كلامٌ فحَسَنُه حَسَنٌ، وقبيحُه قبيح"، وقد رُوي ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً أيضاً3. فإنْ زعمَ أنه إنما كَرِهَ الوزنَ، لأنه سبب، لأن يتغنى في الشعر ويتلهى به، فإذا إذا كُنَّا لم نَدْعُه إلى الشعرِ من أجلِ ذلك، وإنما دَعوناه إلى اللفظ الجَزْل، والقولِ الفَصْل، والمنطقِ الحسَن، والكلام البيِّن، وإلى حسن التمثيل والاستعارة، وإلى التلويج والإِشارةِ، وإلى صَنعةٍ تَعْمَدُ إلى المَعنى الخسيسِ فشرفه، وإلى الضئيل فَتُفخِّمُه، وإلى النازل فترفَعُه، وإلى الخامل فَتُنوِّه به، وإلى العاطلِ فتُحَلِّيه4، وإلى المُشكِل فَتُجَلِّيَهُ فلا مُتَعلَّقَ لهُ علينا بما ذَكَر، ولا ضررَ علينا فيما أَنْكَر، فليَقُلْ في الوزنِ ما شاء، وليَضَعْهُ حيث أراد، فليس بعنينا أمرهُ، ولا هو مُرادُنا من هذا الَّذي راجعنا القول فيه. علة منعه صلى الله عليه وسلم من الشعر: 21 - وهذا هو الجوابُ لمتُعلِّقٍ إنْ تَعَلَّق بقولِهِ تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَه} [سورة يس: 69] وأرادَ أن يَجْعله حُجةً في المَنْع منَ الشعر، ومن

_ 1 انظر الفقرة الماضية رقم: 9. 2 في المطبوعة: "كان الوزن عيبًا". 3 روى الدارقطني في الأفراد عن عائشة، والبخاري في الأدب المفرد رقم: 865، 866 والطبراني في الأوسط، وابن الجوزي في الواهيات عن عبد الله بن عمر، والشافعي والبيهقي عن عروة مرسلًا: "الشعر كلام بمنزلة الكلام، فحسنه حسن الكلام، وقبيحه قبيح الكلام". 4 "العاطل" من النساء التي لا حلى عليها.

حِفْظه وروايته. وذاك أنَّا نَعْلم أنَّه صلى الله عليه وسلم لم يَمْنع الشعرَ من أجلِ أنْ كان قولاً فصلاً، وكلاماً جَزْلا، ومَنطقاً حَسناً، وبَياناً بيِّناً، كيفَ؟ وذلَكَ يقتضي أن يكونَ اللهُ تعالى قد مَنَعه البيانَ والبلاغةَ، وحماهُ الفصاحةَ والبراعةَ، وجَعلَه لا يَبْلُغ مَبْلغَ الشُّعراءِ في حُسْنِ العبارة وشَرَف اللَّفظ. وهذا جهلٌ عظيمٌ، وخلافٌ لِما عرفه البلغاء وأَجمعوا عليه من أنه صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب1، وإذا بطلأن يكونَ المَنْعُ من أجلِ هذه المعاني2، وكنَّا قد أعلمناه أنا ندعوه إلى الشعر من أجلها، ونحدوه بطلبه على طلبها، وكان الاعتراضُ بالآيةِ مُحالاً، والتعلُّق بها خَطلاً من الرأي وانحلالًا. فإذا قال: إِذا قالَ اللهُ تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [سورة يس: 69] فقد كره النبي صلى الله عليه وسلم الشعرَ ونَزَّهَه عنهُ بلا شُبْهة، وهذه الكراهةُ وإنْ كانت لا تَتوجَّهُ إليه مِنْ حيثُ هو كلامٌ، ومن حيثُ إنه بليغٌ بَيِّنٌ وفصيحٌ حَسَنٌ ونحوُ ذلك، فإِنَّها تتوجَّه إلى الأمر لابد لك من التَّلَبُّس به في طَلبِ ما ذكرْتَ أنهُ مرادُك منَ الشَّعر، وذاك أنه لا سبيل لك إلى أن تمييز كونَه كلاماً عن كونهِ شعراً. حتى إذا روَيْتَه التبَسْتَ بهِ من حيثُ هو كلامٌ، ولم تَلْتبِسْ به من حيثُ هو شعرٌ، هذا محال، وإذا كان لابد من مُلاَبسة موضعِ الكراهةِ3، فقد لَزِمَ العيبُ برواية الشعر وإعمالِ اللَّسانِ فيه. قيل له: هذا منكَ كلامٌ لا يتحصَّل. وذلك أنه لو كان الكلامُ إذا وُزِنَ حطَّ ذلكَ من قدرهِ، وأَزْرى به، وجلَبَ على المُفْرِغ له في ذلك القالب إثمًا،

_ 1 في المطبوعة، و "س"؛ "لما عرفه العلماء". 2 في "ج"، "إذا بطل أن يكون المعنى"، سهو من الناسخ. 3 في المطبوعة و "س": "لابد لك" والذي في "ج" أجود.

وكَسبه ذمَّا، لكان من حقَّ العيبِ فيه أن يكونَ على واضعِ الشعر أو مَنْ يُريدُه لمكانِ الوزنِ خُصوصاً، دونَ مَنْ يُريدُه لأمر خارج منه1، ويطلبه لشيء سواه. تمام الدفاع عن الشعر: فأما قولُك: إنَّك لا تستطيعُ أن تَطْلُبَ منَ الشعر ما لا يُكْرَه حتى تَلْتبِسَ مما يُكرهُ، فإِنّي إِذاً لَمْ أَقصدْه من أجلِ ذلك المكروهِ، ولم أُرِدْه له، وأردْتُه لأَعرف بهِ مكانَ بلاغةٍ، وأجعلَه مِثالاً في براعةٍ، أو أَحْتَجَّ به في تفسير كتابٍ وسُنَّة، وأَنظرَ إلى نَظْمه ونَظْم القُرآن، فأرى موضعَ الإِعجازِ، وأقفَ على الجهة التي منها كان، وأتبيَّنَ الفصْلَ والفُرقان2 فحقُّ هذا التلبسِ أن لا يُعتدَّ عليَّ ذنباً، وأَنْ لا أُؤَاخَذَ به؛ إذْ لا تكونُ مؤاخذةٌ حتى يكونَ عَمْدٌ إلى أن تُواقِعَ المكروهِ وقَصْدٌ إليه3، وقد تَتَّبعَ العلماءُ الشعوذةَ والسِّحْر، وعُنُوا بالتَّوقُّفِ على حِيَل المُموِّهين4؛ ليَعْرفوا فَرْقَ ما بينَ المُعجزة والحِيلة، فكان ذلك منهم مِنْ أعظمِ البِرِّ، إذْ كان الغرضُ كريماً والقَصْد شريفاً. هذا، وإِذا نحنُ رجَعْنا إلى ما قدمنا منَ الأخبارِ، وما صحَّ من الآثارِ، وجَدْنا الأمرَ على خلافِ ما ظَنَّ هذا السّائلُ، ورأَيْنا السبيلَ في منع النبي صلى الله عليه وسلم الوزنَ، وأنْ يَنْطلق لسانُه بالكلامِ المَوْزونِ، غيرَ ما ذهبوا إليه. وذاك أنه لو كان مَنْعَ تنزيهٍ وكراهةٍ، لكانَ يَنبغي أن يُكْرَه له سماعُ الكلامِ موزوناً، وأن يُنَزَّهَ سَمْعُه عنه كما نُزِّه لسانُه5، ولكان صلى الله عليه وسلم لا يأمُرُ به ولا يَحثُّ عليه، وكان الشاعر لا يعان

_ 1 في المطبوعة: "خارج عنه". 2 سياق الكلام: "فإِنّي إِذاً لَمْ أقصدْه من أجلِ ذلك .... فحق هذا التلبس .... ". 3 "قصد" معطوفة على "عمد". 4 في "س": "الوقوف على".ط 5 في المطبوعة: "كما ينزه".

على وزنِ الكلامِ وصياغتِه شِعراً، ولا يُؤيَّد فيه بروح القُدُس. وإِذا كانَ هذا كذلك، فينبغي أن يَعْلم أَنْ ليس المَنْعُ في ذلك منه تنزيهٍ وكراهةٍ، بل سبيلُ الوزنِ في منعه عليه السلام إياه سبيلُ الخَطِّ، حين جُعل عليه السلامُ لا يقرأُ ولا يَكُتب، في أَنْ لم يكن المَنْعُ منِ أجْل كراهةٍ كانت في الخط؛ بل لأنه تَكونَ الحُجةُ أَبهِرَ وأقهرَ1، والدلالةُ أقوى وأظهر، ولتكونَ أَكْعَمَ للجاحد2، وأَقْمَعَ للمُعَانِد، وأَرَدَّ لِطالب الشبهة، وأمنع من ارتفاع الريبة3. تعلق الذام له بأحوال الشعراء: 22 - وأما التعلُّق بأحوالِ الشُّعراء بأنَّهم قد ذُمُّوا في كتابِ الله تعالى4، فما أرى عاقلاً يَرْضى به أنْ يَجْعله حُجةً في ذَمِّ الشعر وتهجينه، والمنع منحفظ وروايتِهِ، والعِلْم بما فيه مِن بَلاغةٍ، وما يختصبه من أَدب وحِكْمه5؛ ذاك لأَنه يَلْزمُ على قَوَد هذا القولِ أَن يَعيب العلماءَ في استشهادهم بشِعْر امْرئ القيسِ وأَشعار أهلِ الجاهليِة في تفسيرِ القرآن6، وفي غَريبهِ وغَريبِ الحديث، وكذلك يَلْزمه أنْ يَدْفع سائرَ ما تقدَّم ذكرُه من أَمْر النبي صلى الله عليه وسلم بالشَّعر، وإصغائه إليه، واستحسانِه له. هذا ولو كان يَسُوغُ ذَمُّ القولِ من أَجْل قائله، وأنه يُحمَلَ ذَنْبُ الشَّاعرِ على الشَّعرِ1 لكانَ يَنبغي أن يُخَصَّ ولا يُعَمَّ، وأن يُسْتثنى، فقد قالَ اللهُ عَزَّ وجلَّ: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} ولولا أَنَّ القولَ يَجُرَّ بَعْضُهُ بَعضاً، وأنَّ الشيءَ يُذكَرُ لدخولِه في القِسْمة، لكان حقُّ هذا ونحوِهِ أَنْ لا يُتَشاغَلَ به، وأن لا يُعادَ ويُبدأ في ذِكره.

_ 1 في "ج": "بل بأن تكون". 2 "أكعم" من "كعم البعير"، إذا شد فاه بالكعام عند هياجه؛ لئلا يعض، أو لأجل منعه الأكل. 3 في المطبوعة: "في ارتفاع". 4 انظر الفقرة الماضية رقم: 9. 5 فيه هامش "ج" ما نصه: "أي قولنا: إن عاقلًا لا يرضى أن يجعله حجة؛ لأنه يلزم". 6 قوله: "على قود هذا القول"، أي على سياقه واطراد قياسه.

الكلام في النحو

الكلام في النحو: زهدهم في النحو واحتقارهم له: 23 - وأمَّا زهدُهم في النَّحو واحتقارُهم له2، وإصغارُهم أمرَهُ، وتهاونُهم به، فصنيعُهم في ذلك أشنعُ من صَنيعهم في الذي تَقدَّم، وأَشْبَهُ بأن يكونَ صَدّاً عن كتابِ الله، وعن معرفةِ معانيه؛ ذاكَ لأَنهم لا يَجدِون بُدًّا من أنْ يعترفوا بالحاجة إليه فيه، إذا كان قد علم أن الألفاظ معلقة على مَعانيها حتى يكونَ الإعرابُ هو الذي يَفتحها، وأنَّ الأغراضَ كامنةٌ فيها حتى يكونَ هو المستخرِجَ لها، وأنه المعيارُ الذي لا يتبيَّن نقصانُ كلامٍ ورجحانُه حتى يعرضَ عليه، والمقياسُ الذي لا يُعرفُ صحيحٌ من سَقيمٍ حتى يرجع إليه، لا يُنكِرُ ذلك إلاَّ من يُنكِر حِسَّه، وإلاَّ مَنْ غالطَ في الحقائقِ نَفْسَه، وإِذا كان الأَمرُ كذلك، فليتَ شِعري ما عُذْرُ مَن تَهاونَ به وزَهِدَ فيه، ولم يَرَ أنْ يستقيه من مصبه3، ويأخذه من معدنه، ورضى بالنَّقصِ والكمالُ لها معرضٌ، وآثرَ الغَبينةَ وهو يجد إلى الربح سبيلًا.

_ 1 في المطبوعة: "ذم الشاعر". 2 انظر: الفقرات السالفة رقم: 4 - 6. 3 في المطبوعة: ويستسقيه".

فإنْ قالوا: إنَّا لم نَأْبَ صِحّةَ هذا العِلم، ولم نُنكر مكانَ الحاجةِ إليه في معرفةِ كتابِ الله تعالى، وإنَّما أنكرْنا أشياءَ كَثَّرْتُمُوه بها، وفُضولَ قولٍ تكلَّفْتموها، ومسائلَ عويصةٌ تجشَّمْتُم الفِكْرَ فيها، ثم لم تَحْصلوا على شيء أكثر من أن تعربوا على السَّامعين، وتُعَايُوْا بها الحاضِرين. قيلَ لهم: خَبِّرونا عَمَّا زَعْمتم أنَّه فُضُولُ قولٍ، وعَوِيصٌ لا يَعود بطائلٍ، ما هو؟ فإنْ بدأوا فذَكروا مسائلَ التَّصريفِ التي يَضَعُها النحويون للرياضةِ، ولِضَرْبٍ مِنْ تَمْكينِ المَقاييس في النفوسِ، كقولهم: كيف تَبْنِي مِنْ كذا كذا؟ وكقولهم: ما وَزْنُ كذا؟ وتَتَبُّعهم في ذلك الألفاظَ الوحشَّيةَ، كقولهم: ما وزن "عزويت"؟ وما "أَرْوَنَان"؟ وكقولهم في بابِ ما لا ينصرف: لو سمَّيْتَ رَجلاً بكذا، كيفَ يكونُ الحُكمُ؟ وأشباهُ ذلك، وقالوا: أَتَشُكُّون أنَّ ذلكَ لا يُجْدِي إلاَّ كَدَّ الفكرِ وإضاعةَ الوقتِ؟ قلنا لهمِ: أمَّا هذا الجنسُ، فلسنا نَعيبُكم إنْ لم تنظروا فيه ولم تُعنوا بهِ، وليس يهمُّنا أمرهُ، فقولوا فيه ما شئتُم، وضَعُوه حيثُ أَرَدْتُم. فإنْ تَرَكوا ذلك وتَجاوزوه إلى الكلام على أغراض واضع اللغة، على وَجْه الحكمةِ في الأوضاع، وتقريرِ المقاييسِ التي اطَّردَتْ عليها، وذكْرِ العِلل التي اقْتَضَتْ أن تَجريَ على ما أُجريت عليه، كالقولِ في المعتل، وفيما يلحق بالحروف الثّلاثةَ التي هيَ الواوُ والياءُ والألفُ مِن التغيير بالإِبدالِ والحَذْف والإِسكان1، أو ككَلامِنا مَثلاً على التَّثْنِية وجَمْع السَّلامة، لِمَ كان إعرابُهما على خلافِ إعراب الواحدِ، ولِمَ تَبعَ النصبُ فيهما الجَرَّ؟ وفي "النون" إنَّه عِوَضٌ عن الحركةِ

_ 1 في المطبوعة: "من التغير".

والتنوين في حالٍ، وعن الحركةِ وحدَها في حالٍ1 والكلامِ على ما يَنْصرفُ وما لا يَنْصرف، ولم كان مَنْعُ الصَّرف؟ وبيانِ العلَّةِ فيه، والقولِ على الأسبابِ التسعة وأَنها كلَّها ثوانٍ لأُصول، وأَنه إذا حصَلَ منها اثنانِ في اسم، أو تكرَّرَ سَبَبٌ، صار بذلك ثانياً من جهتينِ، وإِذا صارَ كذلك أَشْبَهَ الفعلَ، لأنَّ الفعلَ ثانٍ للاسم، والاسمِ المقدَّم والأَوَّل، وكلِّ ما جرى هذا المَجرى؟ قلنا: إنَّا نسكتُ عنكم في هذا الضَّرب أيضاً، ونَعْذركم فيه ونُسامحَكُم، على علمٍ منَّا بأنْ قد أسأتُمُ الاختيار، ومنعْتُم أنفسَكُم ما فيه الحظُ لكم، ومنَعتموها الاطَّلاعَ على مدارجِ الحِكمةِ، وعلى العُلوم الجمة. فدعوا ذلك، وانظروا الذي اعترفْتُم بصحَّته وبالحاجةِ إليه، هل حَصَّلْتموه على وجهه؟ وهل أحطتم بحقائقه؟ إن أنتم خُضْتم في التَّفسير، وتعاطَيْتم عِلْم التأويل، وازنتم بينَ بَعْضِ الأقوال وبَعْض، وأردتُم أن تَعرفوا الصحيحَ منَ السقيم، وعُدْتُم في ذلك وبدأتُم، وزدتم ونقصتم؟ وهل رأيتم إذا قد عرفتم صورة المبتد أوالخبر، وأن إعرابَهُما الرفعُ، أن تَجَاوزوا ذلك إلى أن تَنْظروا في أَقسام خَبرهِ، فتَعْلموا أنه يكونُ مُفْرداً وجُملةً، وأَنَّ المفردَ يَنْقسم إلى ما يَحْتمِل ضميراً له، وإلى ما يَحْتمل الضميرَ، وأَنَّ الجملةَ على أربعةِ أَضْربٍ، وأنه لا بدَّ لكلِّ جُملةٍ وَقَعتْ خبراً لمبتدإ من أن يكون يما ذِكْرٌ يَعودُ إلى المبتدأ، وأنَّ هذا الذكْرَ ربما حُذِفَ لفظاً وأريدَ معنىً، وأنَّ ذلك لا يكون حتى يكونَ في الحالِ دليلٌ عليه، إلى سائرِ ما يتَّصل ببابِ الابتداءِ من المَسائل اللطيفة والفوائدِ الجليلة التي لا بُدَّ منها؟ وإِذا نظَرْتم في الصَّفة مثلاً، فعَرَفْتم أنها تَتْبع الموصوفَ، وأن مثالها

_ 1 في "ج"، سقط: "وحدها".

قولك: "جاءني رجل ظريف" و "مررت بزيدٍ الظريفِ"، هل ظَننتُم أنَّ وراءَ ذلك علمًا، وأن ههنا صِفةً تُخصِّص، وصفةً تُوضح وتُبين، وأن فائدةَ التخصيص غيرُ فائدةِ التَّوضيح، كما أن فائدةَ الشِّياع غيرُ فائّدةِ الإِبهام1، وأنَّ مِنَ الصفةِ صفة لا يكون يها تخصيص ولا توضيح، ولكن يوتي بها مؤكَّدةً كقولهم: "أَمسِ الدابرُ" وكقوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَة} [سورة الحاقة: 13]، وصفةً يُراد بها المدحُ والثناءُ2، كالصفاتِ الجاريةِ على اسْم الله تعالى جَدَّه؟ وهل عَرَفتم الفَرْقَ بينَ الصفة والخبر، وبينَ كلِّ واحدٍ منهما وبينَ الحال، وهل عرَفْتم أَنَّ هذه الثلاثةَ تَتَّفْقُ في أنَّ كافَّتَها لثُبوتِ المعنى لِلشيء، ثم تَخْتلفٌ في كيفيّةِ ذلك الثبوتِ؟ وهكذا ينبغي أن تُعْرَض عليهم الأبوابُ كلُّها واحداً واحداً، ويُسْألوا عنها باباً باباً، ثم يُقال لهم3: ليس إلاَّ أَحدَ أمرين. إمَّا أن تَقْتحموا التي لا يَرْضاها العاقلُ، فتُنْكِروا أن يكونَ بكم حاجةٌ في كتاب الله تعالى، وفي خبير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي معرفة الكلامِ جملةً، إلى شيءٍ من ذلك، وتَزْعموا أنكم إِذا عَرفْتُم مَثلاً أنَّ الفاعل رَفْعٌ، لم يَبْقَ عليكم في بابِ الفاعل شيءُ تحتاجون إلى مَعْرفته4. وإِذا نظرتُم إلى قولنا: "زَيْدُ مُنْطلقٌ"، لم تُحْتاجوا مِنْ بَعده إلى شيءٍ تَعْلمونه في الابتداء والخبر، وحتى تَزْعموا مثَلاً أنكم لاَ تَحتاجون في أَنْ تَعرفوا وجه الرفع في {الصَّابِئُون} من سورة المائدة [سورة المائدة: 19] إلى ما قاله العلماءُ فيه، وإلى استشهادهم فيه بقول الشاعر5:

_ 1 "الشياع"، التفرق والانتشار حتى يكون لكل واحد منه نصيب. 2 في هامش "ج" ما نصه: "اعطف على صفة في قوله: وأن من الصفة صفة". 3 "لهم"، زيادة من "س". 4 في المطبوعة: "ما تحتاجون". 5 "فيه"، زيادة من "س".

وإلاَّ فاعْلَموا أَنَّا وأنتمْ ... بُغَاةٌ ما بَقينا فِي شِقاقِ1 وحتى كأنَّ المُشْكِلُ على الجَميع غيرَ مُشكلٍ عندكم، وحتى كأَنَّكم قد أُوتيتُمْ أن تستنبطوا من المسئلة الواحدة من كل باب مسألة كلَّها، فتخرجُوا إلى فَنِّ من التَّجاهُل لا يبقى مع كلامٌ. وإمَّا أَنْ تَعْلموا أنكم قد أَخطأتم حينَ أَصْغَرْتم أمرَ هذا العلمِ، وظَننتُم ما ظَننتُمْ فيه، فتَرْجِعوا إلى الحقَّ وتُسَلِّموا الفضلَ لأهلِه، وتَدَعُوا الذي يُزري بكم، ويَفْتَحُ بابَ العيبِ عليكم، ويَطيلُ لسانَ القادحِ فيكم، وبالله التوفيق. 24 - هذا2، ولو أنَّ هؤلاءِ القومَ إذْ تَرَكوا هذا الشأْنَ تركوهُ جُملة، وإذْ زَعَموا أنَّ قَدْرَ المْفْتَقَر إلِيه القليلُ منه، اقْتَصروا على ذلك القليل، فلم يأخذوا أنفسهم بالفتوى فيه3، والتصرُّف فيما لم يتعلموا منه، ولم يَخُوضوا في التفسير، ولم يتعاطَوْا التأويلَ، لكانَ البلاءُ واحداً، ولكانوا إذْ لم يَبْنوا لم يَهْدِموا، وإذْ لم يصْلِحوا لمْ يَكونوا سَبباً للفَسادِ،4 ولكنهم لم يَفْعَلُوا، فجَلبُوا مِن الدّاءِ ما أَعيى الطبيبَ، وحَيَّر اللبيبَ، وانتهى التخليطُ بما أَتَوْه فيه، إلى حدٍّ يُئسَ مِن تَلافيه، فلم يَبْق للعارفِ الذي يَكْره الشَّغَب إلاَّ التعجبُ والسكوتُ. وما الآفةُ العُظمى إلاَّ واحدةٌ، وهي أن يجيءَ منَ الإنسان ويجري لفظه5، ويمشي له أن

_ 1 الشعر لبشر بن أبي خازم في ديوانه. وسيبويه 1: 290، ومعاني القرآن للفراء 1: 311، والخزانة 4: 315. 2 في الهامش حاشية تعسر قراءتها بتمامها. 3 في المطبوعة: "بالتقوى فيه"، خطأ ظاهر. 4 في الموضعين: "إذا". في المطبوعة. 5 في المطبوعة: "أن يجري لفظة"، وعلق عليه تعليقًا لا خير فيه.

يُكْثِر في غيرِ تَحصيل، وأن يُحسِّن البناءَ على غيرِ أساسٍ، وأن يقولَ الشَّيءَ لم يَقْتُلْه عِلْماً. ونَسْأل اللهَ الهدايةَ ونرغَبُ إليه في العصمة. ذم عبد القاهر لأهل زمانه: 25 - ثم إنا وإِنْ كنا في زمانٍ هو على ما هو عليهِ مِنْ إحالةِ الأُمور عن جِهَاتها1، وتَحْويلِ الأشياءِ عن حالاتِها، ونَقْلِ النفوسِ عن طِبَاعها، وقَلْبِ الخَلائقِ المحمودةِ إلى أضدادها2، ودهر ليس لفضل وأهلهِ لديهِ إلا الشرُّ صِرْفاً والغَيْظُ بَحْتاً، وإلاَّ ما يُدهِشُ عقولَهم ويسْلُبُهم مَعْقولَهم، حتى صار أَعجزُ الناس رأياً عندَ الجميع، مَنْ كانت له هِمَّةٌ في أن يَسْتَفِيدَ عِلْماً، أو يَزْدادَ فَهْماً، أو يَكْتَسب فَضْلاً، أو يَجْعلَ له ذلك بحالٍ شُغْلاً، فإنَّ الإلْفَ من طِباع الكريم3. وإذا كانَ مِنْ حَقِّ الصديقِ عليكَ، ولا سيَّما إذا تقادمَتْ صُحْبتُه وصحَّتْ صداقَتُه، أن لا تَجْفُوَه بأن تَنْكُبَكَ الأيامُ، وتُضجِرَك النوائب، وتخرجك محن الزمان، فتتنا ساه جُملةً، وتَطْويَه طَيَّا، فالعِلْمُ الذي هوَ صديقٌ لا يَحُول عنِ العَهد، ولا يَدْغِلُ في الوُدِّ4، وصاحِبٌ لا يَصِحُّ عليه النكْثُ والغَدْر، ولا تظن به الخيانة والمكر أولى منك بذلك وأجدر5، وحقه عليك أكبر.

_ 1 إذا كان عبد القاهر في زمانه يقول ما يقول في هذه الفقرة، فماذا نقول نحن في زماننًا هذا؟ 2 في "س": "الحقائق المحمودة"، سهو فيما أرجح. وقوله بعد: "دهر"، معطوف على قوله قيل: "في زمان". 3 في هذا السايق حذف، لوضوح المراد منه. والسياق: "ثم إنا، وإِنْ كنا في زمانٍ هو على ما هو عليه من الإحالة .... ودهر ليس للفضل وأهله إلا الشر .. "، "فإنا نلزم استفادة العلم واكتساب الفضل"، فإن الإلف من طباع الكريم. 4 "الدغل" الفساد والريبة، و"أدغل في الشيء"، أدخل فيه ما يفسده "رشيد". 5 في المطبوعة: "أولى منه".

تمهيد للكلام في الفصاحة والبلاغة

تمهيد للكلام في الفصاحة والبلاغة: النكث والعذر، ولا نظن به الخيانة والمكر أولى منك بذلك وأجدر1، وحقه عليك أكبر. سبب تأليفه دلائل الإعجاز: 26 - ثم إن النوق إلى أَن تقَرَّ الأُمورُ قَرارَها2، وتُوضَعَ الأشياءُ مَواضِعَها، والنزاعَ إلى بَيانِ ما يُشْكل، وحلِّ ما يَنْعَقِد، والكَشْفِ عمَّا يَخْفَى، وتلخيصَ الصفةِ حتى يزدادَ السامعُ ثقةً بالحُجة3، واستظهاراً على الشبهة، واستبانة للدليل، وتبينًا للسَّبيلَ4، شيءٌ في سُوس العَقْل5، وفي طباعِ النَّفس إذا كانت نَفْساً. 27 - ولم أزلْ منذُ خَدمْتُ العِلْمَ أنظرُ فيما قاله العلماءُ في معنى "الفصاحة"، و "البلاغة" و "البيان" و "البراعة"، وفي بيانِ المَغْزى من هذه العباراتِ، وتفسيرِ المرادِ بها، فأَجِدُ بعضَ ذلك كالرَّمز والإيماءِ، والإِشارةِ في خفاءٍ، وبعضَه كالتنَّبيه على مكانِ الخبئ لِيُطْلَبَ، ومَوْضعِ الدفينِ ليُبحَثَ عنه فيُخْرَج، وكما يُفتَحُ لكَ الطريقُ إِلى المطلوبِ لتَسْلُكَه، وتُوضَعَ لك القاعدةُ لتَبْنيَ عليها. ووجدتُ المعوَّلَ عَلى أن ههنا نظم ًا وترتيباً، وتأليفاً وتركيباً، وصياغةً وتصويراً، ونَسْجاً وتَحْبيراً، وأن سبيل هذه المعاني في

_ 1 في المطبوعة: "أولى منه". 2 "النوق"، "ناق إليه بنوق"، نوقًا"، اشتاق إليه، ومثله "النزاع" فيا لجملة التالية. 3 "لخص الأمر تلخيصًا"، استقصى في تبيينه وشرحه وإزالة اللبس عنه. 4 في "ج"، والمطبوعة: "وتبيينًا". 5 "السوس"، الطبع والأصل.

الكلام الذي هيَ مَجازٌ فيه، سَبيلُها في الأَشياءِ التي هي حقيقةٌ فيها، وأنه كما يَفْضُلُ هناك النظْمُ النظمَ، والتأليفُ التأليفَ، والنسجُ النسجَ، والصياغةُ الصياغةَ، ثم يَعْظُمُ الفضلُ، وتَكثُر المَزِيَّةُ، حتى يَفوقَ الشيءُ نظيرَه والمجانِسَ له درجاتٍ كثيرة، وحتى تَتفاوتَ القِيمُ التَّفاوُتَ الشديدَ، كذلك يَفْضُلُ بَعْضُ الكلام بَعضاً، ويتَقدَّمُ منه الشيءُ الشيءَ، ثم يزداد فضله ذلك يوترقى منزلةً فوقَ مَنزلةٍ1، ويَعْلو مَرْقباً بعدَ مَرْقبٍ، ويَسْتأنِفُ له غايَةٌ بعدَ غايةٍ، حتى يَنتهيَ إلى حيثُ تَنْقطِعُ الأطماعُ، وتُحْسَرُ الظنونُ2، وتَسقُطُ القُوى، وتستوى الأقدام في العجز. فاتحة القول في الفصاحة والبلاغة: 28 - وهذه جملةٌ قد يُرى في أوّلِ الأَمرِ وبادئ الظن، أنها تكفي وتعني، حتى إِذا نظَرْنا فيها، وعُدْنا وبدَأْنا، وجَدْنا الأمرَ على خِلاف ما حَسِبْناه، وصادَفْنَا الحالَ على غيرِ ما توهَّمْناه، وعلِمْنا أنَّهم لِئنْ أَقْصَروا اللّفظَ لقد أطالوا المعنى، وإنْ لم يعرقوا في النزاع3، لقد أبعدوا على ذلك في المرمى. وذاك أنه يقال لنا4: ما زدتم على أن سقتم قِياساً5، فقُلْتم: نَظْمٌ ونَظْمٌ، وترتيبٌ وترتيبٌ، ونَسْجٌ ونَسْج، ثمَ بنَيْتم عليه أنه يَنبغي أن تظهر المزينة في هذه المعاني ها هنا، حسَب ظهورِها هناك، وأنْ يَعظُمَ الأمرُ في ذلك

_ 1 في المطبوعة: "من فضله ذلك". 2 "تحسر الظنون"، أي حتى تكل من التعب وتنقطع عن المضى. 3 في "س": "لئن اقتصروا على اللفظ ... ولئن لم يغرقوا ... ". 4 في المطبوعة: "وذاك لأنه". 5 ي المطبوعة: "قستم قياسًا".

كما عَظُمَ ثَمَّ، وهذا صحيحٌ كما قلْتم، ولكنْ بقيَ أنْ تُعْلِمونا مكانَ المزيَّة في الكلام، وتَصفوها لنا، وتَذْكُروها ذِكْراً كما يُنَصُّ الشيءُ ويُعَيَّنُ، ويُكْشَفُ عن وجههِ ويُبَيَّنُ، ولا يكفي أن تقولوا: "إنَّه خُصوصيةٌ في كيفيَّة النَّظْم، وطريقةٌ مَخْصوصةٌ في نَسَق الكَلِم بَعْضِها على بَعض"، حتى تَصِفوا تلكَ الخصوصيةَ وتُبَيِّنوها، وتذكروها لها أمثلةً، وتقولوا: "مثْلَ كيتٍ وكَيْتٍ"، كما يذكر مَنْ تَسْتوصِفُه عَمَلَ الدَّيباج المنقَّش ما تَعْلَم به وجْهَ دِقَّةِ الصنعة، أَوْ يَعْمَلهُ بينَ يديكَ، حتى تَرى عِياناً كيف تَذْهبُ تلك الخيوطُ وتَجيءُ؟ وماذا يَذْهَبُ منها طُولاً وماذا يَذهب منها عَرْضاً؟ وبِم يَبْدَأ وبم يُثَنِّي وبِمَ يُثَلِّثُ؟ 1 وتُبْصِرُ منَ الحِسَابِ الدَّقيق ومِنْ عجيب تصرف اليد، ما تعلم معه مكانَ الحِذْقِ ومَوضِعَ الأُستاذيَّة2. ولو كانَ قولُ القائل لك في تَفْسير الفصاحةِ: "إنها خصوصيةٌ في نَظْم الكَلِم وضَمِّ بَعْضِها إلى بعضٍ على طريقٍ مخصوصةٍ، أو على وُجوهٍ تَظْهَرُ بها الفائدةُ، أو ما أشبَهَ ذلكَ منَ القولِ المُجْمَل، كافياً في مَعْرفتها، ومُغْنياً في العِلْم بها، لكفى مِثْلُه في معرِفة الصِّناعات كلِّها. فكان يَكْفي في معرفةِ نَسْج الدِّيباجِ الكثيرِ التَّصاويرِ أَنْ تَعْلم أنه تَرتيبٌ للغَزْل على وَجْهٍ مخصوصٍ، وضَمٌّ لطاقاتِ الأبريسَم بعضِها إلى بعضٍ على طُرُقٍ شَتّى. وذلك ما لا يقوله عاقل.

_ 1 "وتبصر" معطوف على قوله قبل: "حتى نرى عيانًا". 2 في المطبوعة: "ما تعلم منه".

الكلام في إعجاز القرآن من التمهيد

الكلام في إعجاز القرآن من التمهيد: 29 - وجملةُ الأمر أنك لن تَعْلَم في شيءٍ منَ الصناعات عِلْماً تُمِرُّ فيه وتُحلْي، حتى تَكونَ ممن يَعْرفُ الخطأَ فيها مِن الصَّواب، ويَفْصِلُ بينَ الإِساءةِ والإِحسان، بل حتى تُفاضِلَ بينَ الإِحسان والإِحسان، وتَعْرِفَ طبقاتِ المُحْسنين. وإِذا كان هذا هكذا، علمْتَ أنه لا يكفي في علمٍ "الفصاحةِ" أن تَنْصُبَ لها قياساً ما، وأن تَصِفها وصْفاً مُجْملاً، وتقولَ فيها قولاً مُرْسَلاً، بل لا تكونُ مِن مَعرفتها في شَيءٍ حتى تُفصِّل القولَ وتُحصِّلَ، وتضعَ اليدَ على الخصائصِ التي تَعْرِضُ في نَظْم الكَلِم وتَعُدُّها واحدةً واحدة، وتُسمّيها شيئاً شيئاً، وتكونُ معرفتك معرفة الصنع الحاذف الذي يعلم علم كل خيط من إلا بريسم الذي في الدِّيباج، وكلَّ قطعةٍ منَ القِطَع المنجورة في الباب المقطع، وكل جره منَ الآجرِّ الذي في البناء البديع. وإِذا نظرتَ إلى "الفصاحة" هذا النظرَ، وطلَبْتَها هذا الطلبَ، احتجْتَ إلى صبرٍ على التأمُّل، ومواظَبةٍ على التدبُّر، وإِلى هِمَّة تَأْبى لكَ أن تَقْنَع إلاَّ بالتَّمام، وأنْ تَرْبَعَ إلاَّ بَعْد بلوغِ الغاية1، ومتى جَشَّمْتَ ذلك2 وأَبيْتَ إِلاَّ أن تكونَ هنالك، فقد أَمَمْتَ إلى غرضٍ كَريم3، وتعرَّضْتَ لأمرٍ جَسيم، وآثَرْتَ التي هي أتَمُّ لدِينِكَ وفَضْلِك، وأَنْبَلُ عندَ ذوي العقول الراجحة لك، وذلك أنْ تَعرِفَ حُجَّة الله تعالى منَ الوَجْه الذي هو أَضْوَأُ لها وأنوه لها4،

_ 1 "ربع يريع ربعًا"، كف وتوقف وانتظر وتحبس. 2 "جشم الأمر يجشمه جشمًا، وتجشمه تجشمًا"، تكلفه على مشقة يعانيها فيه، ويحمل نفسه عليها. 3 "أممت"، قصدت. 4 في "س": "وذلك أنك تعرف ... وأنوه بها".

وأَخْلَقُ بأن يَزْدادَ نُورُها سُطوعاً، وكوكبُها طُلوعاً1 وأن تَسْلُكَ إليها الطريقَ الذي هو آمَنُ لكَ منَ الشكِّ، وأَبعَدُ مِن الرَّيْبِ، وأَصَحُّ لليقينِ، وأَحرى بأن يُبلَّغَك قاصِيةَ التبيين. 30 - واعلمْ أنه لا سبيل إلى أن تعرض صحَّةَ هذه الجملةِ حتى يَبْلُغَ القولُ غايتَه، ويَنْتهيَ إلى آخِرِ ما أَردْتَ جَمْعَه لك، وتصويره في نفسك، وتقريره عندك. دليل الإعجاز والرد على المعتزلة: 31 - إلا أن ههنا نكتة، إن أنت تأملتها تأمل المثبت، ونظَرْتَ فيها نَظَر المتأنِّي، رجَوْتَ أنْ يَحْسُنَ ظَنُّك، وأنْ تَنْشَطَ للإِصغاء إلى ما أُورِدَه عليك، وهي إنَّا إذا سُقْنا دليلَ الإِعجازِ فقُلْنا: لولا أَنهم حينَ سَمعوا القرآنَ، وحينَ تحدوا إلى معارضته، سمعوا كلامًا لم سمعوا قط مثله، وأنهم رازوا أنفسهم فأحسسوا بالعجزِ عن أنْ يأتوا بما يُوازيه أو يُدانيه أو يقَعُ قريباً منه2 لكان مُحالاً أن يَدَعُوا معارضته وقد تحدوا إليه، وفرعوا فيه، وطُولبوا به، وأن يتعرضُوا لِشَبا الأَسِنَّة3، ويقتحموا موارد الموت.

_ 1 "وأن تسلك"، معطوف على ما قبله: "وذلك أن تعرف". 2 في المطبوعة: "وأنهم قد رازوا"، وهذه الجملة معطوفة على "سمعوا كلامًا". و "راز ما عند فلان يروزه روزًا"، اختبره وامتحنه وجربه حتى يعرف ما يطيق مما لا يطيق، وما عنده مما ليس عنده. 3 "وأن يتعرضوا"، معطوف على قوله: "لكان مجالا أن يدعوا". و "شبا الأسنة"، حدها وطرفها الذي يصيب فيجرح أو يقتل.

1 فقيلَ لنا: قد سَمِعْنا ما قلْتُم، فخَبِّرونا عنهم، عما ذا عجزوا؟ أعن معان من دِقَّةِ مَعانيه وحُسْنهِا وصِحَّتها في العقول؟ أمْ عن ألفاظٍ مِثْلِ ألفاظه؟ فإِنْ قلْتُم: "عنِ الألفاظ"، فماذا أَعْجَزَهم منَ اللفظ، أمْ ما بهرهم منه؟ فقلنا: أعجزتم مزايا ظهرتْ لهم في نظمهِ، وخصائصُ صادفوها في سِياق لفظه، وبدائعُ راعَتْهم من مبادئ آيهِ ومقاطِعها2، ومجاري ألفاظِها ومواقعها، وفي مضربِ كلَّ مثلٍ، ومساقِ كلَّ خبرٍ3، وصورةِ كلَّ عِظَةٍ وتنبيهٍ، وإعلامٍ وتَذكيرٍ، وترغيبٍ وترهيبٍ، ومع كلَّ حُجةٍ وبُرهانٍ، وصفةٍ وتبيان4 وبَهرهُم أنَّهم تأمَّلوه سُورةً سورةً، وعَشْراً عَشراً، وآية آية، فلم يجدوا في الجميع كلمة يَنْبو بها مكانُها، ولفظةً يُنكرُ شانُها، أو يُرى أنَّ غيَرها أصلحُ هناك أو أشْبَه، أو أحرى وأخْلَق، بل وجدُوا اتِّساقاً بَهرَ العُقولَ، وأعجزَ الجمهورَ، ونظاماً والتئاماً، وإتقاناً وإحكاماً، لم يَدعْ في نفسِ بليغٍ منهم، ولو حكَّ بيافوخِه السَّماء، موضعَ طمعٍ، حتى خرسَتِ الألسنُ عن أن تدعي وتقول، وخذيت القروم فلم تملك أن تصول5.

_ 1 الكلام معطوف بعضه على بعض، والسياق: "وهي إنَّا إذا سُقْنا دليلَ الإِعجازِ فقُلْنا .... فقيل لنا ... " وكذلك ما سيأتي بعده. 2 في "س": "في مبادئ". 3 في "س": "وسياق كل خبر". 4 "وبهرهم" معطوف على قوله: "أعجزتهم مزايا". 5 في المطبوعة: وخلدت القروم"، أرجع أنه مصحف. و "خذي يحذى، واستحذى"، خضع واسترخى. و "القروم" جمع "قرم"، وهو فحل الإبل الذي يترك من الركوب، والعمل، فلا يمسه حبل، بل يودع للفحلة. و "صال الفحل على الناقة"، وثب عليها وسطابها ليخضعها.

32 - نَعَمْ، فإذا كان هذا هو الذي يُذكَرُ في جوابِ السائل، فبنا أن نَنْظُر: أيٌّ أَشْبَهُ بالفتى في عَقْله ودِينه، وأَزْيَدُ له في علمه ويقينه1، أن يقلد في ذلك، ويحفظ من الدليلِ وظاهرَ لفظِه، ولا يَبْحثَ عن تفسيرِ المَزايا والخصائصِ ما هيَ؟ ومِنْ أيْنَ كَثُرَت الكثرةَ العظيمةَ، واتَّسَعتِ الاتِّساعَ المُجَاوِزَ لِوُسْعِ الخَلْق وطاقةِ البشر؟ وكيفَ يكونُ أنْ تَظْهَرَ في ألفاظ محصورة، وكلم معدودة معلومة، بأن يوتى ببعضِها في إِثْْر بَعْضٍ، لطائفُ لا يَحْصُرها العدَدُ، 2 ولا يَنتهي بها الأمَدُ؟ أَمْ أن يَبْحَث عن ذلك كلِّه، ويَسْتقصيَ النظرَ في جميعهِ، ويتتبعَهُ شيئاً فشيئاً، ويَسْتَقصِيَهُ باباً فباباً، حتى يَعْرِف كلا منه بشاهده ودليله، وتعلمه بتفسيره وتأويله، ويوثق بتصويره وتمثيله3، ولا يكون كمن قيل فيه: يَقولونَ أقوالاً ولا يَعلْمونها ... ولو قِيلَ هاتُوا حقِّقوا لمْ يُحَقِّقوا4 قد قطعتُ عذْرَ المتهاونِ، ودَلَلَتْ على ما أضاعَ من حَظّه، وهَدَيْتُه لرشدِه، وصحَّ أنْ لا غنى بالعاقلِ عن معرفة هذه الأمور، والوقوف عليها،

_ 1 في "ج": و "أزيد له في يقينه بإسقاط "علمه"، وفي "س": "في عقله ودينه ويقينه، وأزيد له في علمه". 2 "لطائف"، فاعل "أن تظهر". 3 في المطبوعة: "يتصوره"، و "وثق يوثق وثاقة"، أي صار محكمًا وثيقًا، وضبطت في "ج": "يوثق". 4 بيت من أبيات لأنس بن أبي أياس أو: ابن أبي أينس الديلي، يقولها لحارثة بن بدر الغداني لما ولى إمارة سرق "موضع بالأهواز"، ويروى أن أبا الأسود الدؤلي كتب بها إليه، انظر الحيوان 3: 116، وامالي الشريف المرتضى 1: 383 - 385

والإِحاطةِ بها، وأنَّ الجهةَ التي منها يقفُ1، والسببَّ الذي به يَعْرفُ، استقراءَ كلامِ العربِ وتتبع أشعارهم والنظر فيها. وإذا قد ثَبتَ ذلك، فينبغي لنا أنْ نبتدئ في بيانِ ما أرَدْنا بيانَه، ونأخذَ في شرحه والكشف عنه. استحسان الكلام كيف يكون: 33 - وجملةُ ما أردتُ أن أبينَه لك: أنَّه لا بدَّ لكلَّ كلامٍ تستحسنُه، ولفظٍ تستجيدهُ، من أن يكونَ لاستحسانِك ذلك جهةٌ معلومةٌ وعلَّةٌ معقولةٌ وأن يكونَ لنا إِلى العبارةِ عن ذاك سبيلٌ، وعلى صحةِ ما أدِّعيناه من ذلك دليلٌ. وهو بابٌ منَ العلمِ إذا أنتَ فتحتَه اطَّلعْتَ منه على فوائدَ جليلةٍ، ومعانٍ شريفة، ورأيتَ له أثراً في الدين عظيماً وفائدة جسيمة، ووجدْتَهُ سبباً إلى حَسْم كثيرٍ منَ الفساد فِيما يَعودُ إِلى التنزيِل وإصلاحِ أنواعٍ منَ الخَلل فيما يتعلقُ بالتاويل، وإن ليومنك مِن أَنْ تُغَالَطَ في دَعواك، وتدافَع عن مَغْزاك2 ويرْبأ بك عن أن تستبينَ هُدًى ثم لا تهدي إليه3، وتُدِلَّ بعرفانٍ ثم لا تستطيعُ أن تَدُلَّ عليه4 وأنْ تكون عالِماً في ظاهرِ مُقَلِّدٍ5، ومُستبيناً في صورةِ شاكٍّ وأن يسألك السائلُ عن حُجة يَلْقى بها الخصمَ في آية من كتاب الله تعالى

_ 1 "وأن الجهة"، معطوف على قوله: "وصح أن لا غنى ... ". 2 في "ج": عن معناك". 3 في "س" والمطبوعة: "لا تهتدي"، والصواب ما في "ج". 4 "أذل بعلمه أو بشجاعته مثلًا، يدل إدلالًا"، فخربه وتبجح، وتباهى، و "العرفان"، المعرفة. 5 "وأن تكون عالمًا"، معطوفًا على قوله: "وإنه ليومنك من أن تغالط ... وأن تكون عالمًا"، وكذلك ما بعده في الأسطر الآتية: "وأن يسألك ... وأن يكون غاية ما لصاحبك".

أو غيرِ ذلك، فلا ينصرفُ عنك بِمقْنَع وأن يكون غاية ما لصاحبك منك تحيله على نفسه، وتقول: قط نظرتُ فرأيتُ فضلاً ومزيَّةً، وصادفتُ لذلك أَريحيَّة، فانظرْ لتعرِفَ كما عرفتُ، وراجعْ نفْسَك، واسْبُرْ وذُقْ، لتجدَ مثلَ الذي وجدْتُ"، فإنْ عَرفَ فذاك، وإلا فبينكما التناكر، تنبيه إلى سوءِ التأمُّل1، ويُنْسِبكَ إلى فسادٍ في التخيل. وإنه على الجملة بحث يَنْتقي لكَ من علمِ الإِعراب خالصَه ولُبَّه2، ويأخذ لك منه أناسى العيون وحباب القلوب، وما لا يدَفْع الفضلُ فيه دافعٌ، ولا يُنْكِر رجحانَه في موازينِ العقولِ مُنْكِرٌ. وليس يَتأتَّى لي أن أُعْلِمَك مِنْ أولِ الأمرِ في ذلك آخِرَه، وأَنْ أسمِّي لك الفُصُولَ التي في نيَّتي أن أُحرِّرها بمشيئةِ الله عزَّ وجلَّ، حتى تكونَ على علمٍ بها قبل مَوردِها عليك. فاعملْ على أنَّ ههنا فصولاً يَجيء بعضُها في إثرِ بعضٍ3، وهذا أَوَّلها.

_ 1 في "ج": "سورة التأويل". 2 في المطبوعة: "بحيث ينتفي". 3 في "س": "فاعمل أن ههنا"، وفي هامش المطبوعة: في نسخة: فاعلم أن ههنا إلخ"، ويعني فيما أظن، نسخة بغداد التي يذكرها رشيد رضا في تعليقاته.

تحقيق القول في البلاغة والفصاحة

تحقيق القول في البلاغة والفصاحة: فصل- تحقيق القول في البلاغة والفصاحة: 34 - في تحقيق القول على "البلاغة" و "الفصاحة"، و "البيان" و "البراعة"1، وكل ما شاكر ذلك، مما يُعبَّر به عن فضلِ بعضِ القائلين على بعضٍ، من حيثُ نَطقوا وتكلَّموا، وأخبروا السامعين عن الأغراض والمقاصد، وواموا أنْ يُعْلِمُوهم ما في نفوسهم؛ ويَكشفوا لهم عن ضمائر قلوبهم2. أول قضية "اللفظ" عند المعتزلة وبيان فسادها: 35 - ومنَ المعلوم أنْ لا معنى لهذه العباراتِ وسائرِ ما يَجْري مَجراها، مما يُفرد فيه اللفظُ بالنعتِ والصفةِ، وينسبُ فيه الفضلُ والمزيةُ إليه دونَ المعنى3، غيرُ وصْفِ الكلام بِحُسْنِ الدَّلالة وتمامِها فيما له كانت دَلالةٌ، ثم تَبرُّجهِا في صورةٍ هي أبهى وأزْيَنُ وآنَقُ وأَعْجَبُ وأَحقُّ بأنْ تستوليَ على هَوى النفس4، وتنالَ الحظَّ الأوفرَ من مَيْل القلوب، وأولى بأن تُطْلِقَ لسانَ الحامدِ، وتُطِيلَ رغْمَ الحاسد ولا جهةَ لاستعمال هذه الخصالِ غيرُ أنْ تأتي المعنى من الجهة هي أصح لتأديته5، وتختار له اللفظُ الذي هو أَخصُّ به، وأَكْشَفُ عنه وأَتمُّ له، وأَحرى بأن يَكسبه نُبلاً، ويظهر فيه مزية.

_ 1 انظر الفقرة: رقم: 27. 2 في هامش المطبوعة: "نسخة: ما في ضمائر". 3 السياق: "لا معنى لهذه العبارات .... غير وصف الكلام ... ". 4 في "س": "هوى النفوس". 5 في "ج": "تأتي من الجهة" بإسقاط "المعنى"، وفي المطبوعة: "يؤتى المعنى" بالبناء للمجهول.

وإِذا كان هذا كذلك، فينبغي أن يُنظَر إلى الكلمةِ قبلَ دخولها في التأليف، وقبلَ أنْ تصيرَ إلى الصورة التي بها يكونُ الكَلِمُ إخباراً وأمْراً ونَهياً واستخباراً وتعجباً، وتؤدِّيَ في الجملة معنًى من المعاني التي لا سبيل إلى إفادتها إلاَّ بضَمِّ كلمةٍ إلى كلمةٍ، وبناءِ لفظةٍ على لفظةٍ1 هل يُتَصوَّر أن يكونَ بين اللفظتين تَفاضُلٌ في الدَّلالة حتى تكونَ هذه أدلَّ على معناها الذي وُضعتْ له من صاحبتها على ما هيَ موسومةٌ به2، حتى يقالَ إنَّ "رجلاً" أدلُّ على معناه مِنْ "فرسٍ" على ما سُمِّي به وحتى يتصور في الاسمين يوضعان لشيءٍ واحد3، أن يكونَ هذا أحْسَنَ نَبأً عنه وأَبْيَن كَشْفاً عن صورتِه مِنَ الآخر، فيكونُ "الليثُ" مثلاً أدلَّ على السَّبُع المعلوم مِنَ "الأَسد" وحتى إنَّا لو أردنا الموازنةَ بينَ لغتينِ كالعربيةِ والفارسيةِ، ساغَ لنا أَن نَجْعل لفظةَ "رجلٍ" أَدلَّ على الآدميَّ الذكَر من نظيرهِ في الفارسية؟ وهَلْ يقع في وَهْم وإنْ جُهِد، أن تتفاضلَ الكلمتانِ المُفردتان، مِنْ غيرِ أن يُنظَر إلى مكانٍ تقعانِ فيه منَ التأليِف والنظمِ، بأكثرَ من أن تكونَ هذهِ مألوفةً مستعملةً، وتلك غريبةً وحشية، أو أن تكونَ حروفُ هذهِ أَخَفَّ، وامتزاجُها أَحسنَ، ومما يَكُدُّ اللسانَ أَبْعَدَ؟ وهل تَجد أحداً يقولُ: "هذه اللفظةُ فصيحةٌ"، إلاَّ وهو يعتبرُ مكانَها منَ النظم، وحسنَ مُلائمةِ معناها لمعاني جاراتها، وفضل مؤانستها لخواتها؟

_ 1 السياق: "فينبغي أن يُنظَر إلى الكلمةِ قبلَ دخولها في التأليف ..... هل يتصور ... ". 2 في "س": "مرسومة". 3 في المطبوعة: الاسمين الموضوعين"، وفي الهامش أن في نسخة "يوضعان".

وهل قالوا: "لفظةٌ متمكَّنةٌ، ومقبولةٌ"، وفي خلافهِ: "قلقة، ونابية، ومستكرهة"، إلا وغضرهم أن يعبروا ببالتمكن عن حسنِ الاتفاقِ بينَ هذه وتلك مِن جهةِ معناهُما، وبالقَلَقِ والنُّبوِّ عن سوء التَلاؤم، وأنَّ الأولى لم تَلِقْ بالثانية في مَعناها، وأن السابقَةَ لم تصلُحْ أن تكونَ لِفْقاً للتالية في مؤادها؟ 1 36 - وهل تشكُّ إِذا فكَّرْت في قولهِ تعالى {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود: 44]، فتَجلَّى لك منها الإعجازُ، وبَهَركَ الذي تَرى وتَسْمَعُ2 أَنك لم تَجد ما وَجَدْتَ منَ المزية الظاهرة، والفضيلة القاهرة، إلا لمر يَرجعُ إلى ارتباطِ هذه الكَلِم بعضِها ببعضٍ، وأن لم يَعرِضْ لها الحُسْنُ والشرفُ إلاَّ مِنْ حيثُ لاقَتْ الأُولى بالثانية، والثالثة بالرابعة، وهكذا، إلى أن تستقريَها إلى آخِرها وأنَّ الفضلَ تَناتَجَ ما بينها، وحصَل من مجموعها؟ 37 - إن شكَكْتَ، فتأملْ: هل ترى لفظة منها بحيثُ لو أُخِذَتْ من بين أَخواتها وأُفردتْ، لأَدَّت منَ الفصاحة ما تُؤدِّيه وهي في مكانها منَ الآية؟ قُل: "إبلَعي"، واعتبرْها وحْدَها من غيرِ أن تَنْظُرَ إلى ما قَبْلَها وما بعدَها، وكذلك فاعتبرْ سائرَ ما يليها. وكيفَ بالشكَّ في ذلك، ومعلومٌ أنَّ مبْدَأ العظمةِ في أن نُوديت الأرضُ، ثم أُمرَتْ، ثم في أن كان النداء "بيا" دُوْنَ "أيّ"، نحوُ "يا أيتها الأرضُ"، ثم

_ 1 "اللفق" الشقة من شقتي الملاءة، وهما "لفقان"، ما داما متضأمين، فإذا فتقت خياطة الملاءة لا يسميان "لفقين"، ويطلق اسم "اللفقين"، على الصاحبين المتلازمين. 2 "أنك"، معفول "تشك".

إضافةِ "الماءِ" إلى "الكافِ"، دونَ أن يقالَ: "ابلعي ماءك"1، ثم أنْ أُتبعَ نداءُ الأرض وأمرُها بما هو من شأنها، نداءَ السماء وأمرَها كذلك، بما يَخصُّها، ثم أنْ قيل: و {وَغِيضَ الْمَاء}، فجاء الفعلُ على صيغة "فُعِل" الدالَّةِ على أنَّه لم يَغِضْ إلاَّ بأَمر آمرٍ وقُدرةِ قادرٍ، ثم تأكيدُ ذلك وتقريرُه بقولهِ تعالى: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ}، ثم ذكرُ ما هو فائدةُ هذه الأمور، وهو: {اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِي}، ثم إضمارُ "السفينةِ" قَبْل الذكْر، كما هو شرطُ الفخامةِ والدلالةِ على عِظَم الشأن، ثم مقابلة "قيل" في الخاتمة "بقيل" في الفاتحة؟ أَفَتَرى لِشيءٍ من هذه الخصائصِ التي تملوك بالإِعجازِ روعةً2، وتحضُرُكَ عندَ تصورِها هيبةٌ تُحيطُ بالنفس من أقطارِها3 تعلُّقاً باللفظ من حيثُ هو صوتٌ مسموعٌ وحروفٌ تَتوالى في النُّطق؟ أم كلُّ ذلك لما بينَ معاني الألفاظِ مِنَ الاتِّساقِ العجيب؟ فقد اتَّضحَ إذن اتَّضاحاً لا يَدَعُ لِلشكِ مجالاً، أنَّ الألفاظَ لا تتفاضَلُ من حيث هي ألفاظٌ مجرَّدة، ولا من حيثُ هي كلمٌ مفردةٌ، وأن الفضيلة وخلاقها، في ملائمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها4، وما أشبهَ ذلك، مما لا تَعلُّقَ له بصريحِ اللفظ. اللفظ الواحد يقع مقبولا، ومكروها: 38 - وممَّا يَشهد لذلك أَنَّك تَرى الكلمةَ تروقُك وتُؤنسك في موضعٍ، ثم تَراها بعينِها تَثْقُلُ عليكَ وتُوحِشُك في موضعٍ آخرَ، كلفظِ "الأَخدع" في بيت الحماسة:

_ 1 "دون أن يقال ابلعي" ساقط في "ج". 2 في "ج": "تملؤك روعة"، وفي "س": "الإعجاز"، بلا باء. 3 السياق: "افترى لشيء من هذه الخصائص ... تعلقًا". 4 في المطبوعة: "وأن الألفاظ تثبت لها الفضيلة وخلافها"، وهو غير جيد.

تلفَّتُّ نَحْو الحَيَّ حَتّى وجدْتُني ... وجِعْتُ من الإصغاء ليتا وأخدعا1 وبيت البحترى: وإني وإن بلغني شرَفَ الغِنى ... وأَعتقْتَ مِنْ رِقِّ المَطامع أَخْدَعي2 فإنَّ لها في هذين المكانَين ما لا يَخْفى مِن الحُسْن، ثم إنّكَ تتأَمُّلها في بيت أبي تمام: يا دَهْرُ قوِّمْ مِن اخْدَعَيْكَ فقدْ ... أضْجَجْتَ هذا الأنامَ مِن خَرُقكْ3 فتَجدُ لها مِنَ الثقل على النفس، ومن التبغيص والتكْدير، أضعافَ ما وجدتَ هناك منَ الروْح والخفة، ومن الإيناس والبهجة. ومِنْ أَعجبِ ذلك لفظةُ "الشيءِ"، فإنكَ تَراها مقبولة حسنةً في موضعٍ، وضعيفةً مستكْرَهة في موضع. وإنْ أردْتَ أن تَعْرف ذلك، فانظرْ إلى قولِ عمرَ بن أبي ربيعة المخزومي: ومن مالئ عينيه مِنْ شيء غيرِهِ ... إذا راحَ نحو الجمرة البيض كالذمي4 وقوله أبي حية:

_ 1 البيت للصمة بن عبد الله القشيري، في شرح حماسة أبي تمام للتبريزي 3: 114، و "الليت"، صفحة العنق، و "الأخدع" عرق في العنق. 2 في ديوانه، فانظره. 3 في ديوانه، فانظره، و "الخرق"، الحمق، وضم الراء قياسًا مطردًا. 4 في ديوانه، فانظره، وقبله متصلًا به: وكم من قتيل لا يباء له دم ... ومن غلق رهنًا، إذا ضمه مني

إذا ما تَقاضي المرءَ يومٌ ولَيلةٌ ... تَقاضاهُ شيءٌ لا يَملُّ التَّقَاضِيا1 فإِنك تَعرف حُسْنَها ومكانها من القبول، ثم انظر إليها فيبيت المتبني: لَو الفَلَكُ الدوَّارُ أبغضْتَ سَعْيَهُ ... لعوَّقَهُ شيءٌ من الدوران2 فإنك تراها تقل وتضول، بحَسب نُبْلها وحُسْنها فيما تقَدَّم. 39 - وهذا بابٌ واسعٌ، فإِنك تَجدُ متى شئْتَ الرجلَيْن قد استعملا كَلِماً بأَعيانها، ثم تَرى هذا قد فَرعَ السِّماكَ3، وتَرى ذاكَ قد لَصِقَ بالحَضيض، فلو كانتِ الكلمةُ إِذا حَسُنتْ حَسُنتْ من حيث هي لفظٌ، وإذا اسْتَحقَّت المزيةَ والشرفَ استحقَّتْ ذلك في ذاتِها وعلى انفرادِها، دونَ أن يكونَ السببَ في ذلك حالٌ لها مع أَخَواتها المجاورةِ لها في النَّظْم، لما اختلفَ بها الحال، ولكانت غما أن تحسن أبدًا، ولا تحسن أبدًا. ولا ترى قولاً يضطربُ عَلَى قائلهِ حتى لا يَدْري كيف يُعبِّر، وكيف يُورد ويُصْدر، كهَذا القول. بل إنْ أردتَ الحقَّ، فإنَّه من جِنسِ الشَّيءِ يُجْري به الرجلُ لسانَه ويُطْلِقُه، فإِذا فتَّش نفْسَه، وجدَها تَعْلَم بُطْلانَه، وتنطوي عَلَى خلافه، ذلك لأَنَهُ مِمَا لا يقومُ بالحقيقةِ في اعتقادٍ، ولا يكون له صورة في فؤاد.

_ 1 في ديوانه المجموع. 2 في ديوانه، فراجعه. والضمير في "أبغضت" لكافور، وهو من القصيدة التي قالها في سنة 348، والتي قال فيها أيضًا قصيدته الميمية حين ركبته الحمى، والتي عرض فيها بالرحيل عن كافور، وهي قصيدة مدح، ولكني أرى أنه كان ينفث في بعضها عما في صدره من الغيظ على كافور واستهانته به، ولذلك فأنا أعد لفظ "شيء" هنا مما يكشف عن هذه الاستهانة بكافور، ولو لحظ الشيخ عبد القاهر هذا الملحظ، لما عدها قليلة ضئيلة، بل كبيرة موجبة بما في نفسه. 3 "السماك" نجم، وهما "سماكان" والرامح والأعزل. و "فرغ السماك" غلاه وجاوزه في الارتفاع.

فصل- الفرق بين "حروف منظومة" و"كلم منظومة": 40 - ومما يجبُ إحكامهُ بِعَقب هَذا الفصلِ، الفَرْقُ بين قولنا: "حروف منظومة"، و "كلم منظومةٌ". وذلكَ أنَّ "نظْمَ الحروفِ" هو تَواليها في النطق، وليس نظمُها بمقتضى عن معنى1، ولا الناظمُ لها بمُقْتَفٍ في ذلك رَسْماً منَ العقلِ اقتضَى أَنْ يَتَحرَّى في نظمِهِ لها ما تَحرَّاه. فلو أَنَّ واضع اللُّغة كان قد قال "ربضَ" مكان "ضرَبَ"، لما كَانَ في ذلك ما يؤدي إلى فَسَاد، وأما "نظمُ الكَلِم" فليس الأمر فيه كذلك، لأنك تتفي في نظمِها آثارَ المعاني، وتُرتِّبها على حسبِ ترتب المعاني في النفس2. فهو إذن نظمٌ يعتبرُ فيه حالُ المنظوم بعضهُ معَ بعضٍ، وليسَ هو "النَّظم" الذي معناهُ ضمُّ الشيء إلى الشيء كيف جاء واتفق. ولذلك كان عندهم نظيرا للنسخ والتّأليفِ والصياغةِ والبناءِ والوَشْيِ والتحبير وما أَشبَه ذلك3، مما يُوجب اعتبارَ الأجزاءِ بَعْضِها معَ بعضٍ، حتى يكونَ لوضعِ كلِّ حيثُ وُضع، علةٌ تَقْتَضي كونَه هناك، وحتى لو وُضِع في مكان غيره لم يصلح. 41 - والفائدة ي معرفة هذا الفرقِ: أَنكَ إذا عرَفْتَه عرفْتَ أنْ ليس الغَرضُ بنَظْم الكَلِم، أَنْ توالَتْ ألفاظُها في النُّطق4 بل أَنْ تناسَقَتْ دلالتُها.

_ 1 أي ليس واجبًا لمعنى اقتضاه. 2 في المطبوعة: "على حسب ترتيبها" وفي الهامش: "في نسخة: وترتبها على حسب ترتب". 3 في "ج" والمطبوعة: "وكذلك كان عندهم". 4 في "س": في "التطويل"، وهي خطأ ظاهر.

وتلاقتْ مَعانيها، على الوجهِ الذي اقتضاهُ العقلُ. وكيف يُتَصَّور أنْ يُقصَد به إلى توالي في النُّطق، بعد أن ثَبَتَ أنّهُ نظْمٌ يعتبرُ فيه حالُ المنظوم بعضهُ معَ بعضٍ، وأنه نَظيرُ الصَّياغةِ والتَّحْبِير والتَّفْويفِ والنَّقشِ، 1 وكلِّ ما يُقصَد به التَّصويرُ، وبعْدَ أن كنَّا لا نَشكُّ في أنْ لا حال لِلفظةٍ معَ صاحبتها تُعْتَبر إذا أنتَ عزلْتَ دلالَتَهما جانباً؟ وأَيُّ مساغٍ للشكَّ في أنَّ الأَلفاظَ لا تستحقُّ من حيثُ هي ألفاظٌ، أن تنظم على وجه دون وجه؟ 42 - وفو فرَضْنا أنْ تَنْخلِعَ مِن هذهِ الألفاظ، التي هيَ لغاتٌ، دلالَتُها2، لَمَا كان شيءٌ منها أحق بالتقديم من شيء، ولا تصور أنْ يَجِبَ فيها تَرتيبٌ ونَظْمٌ3. ولو حفَّظْتَ ضبيبًا شطْرَ "كتابِ العين" أو "الجمهرة"، مِنْ غيرِ أن تُفَسِّر له شيئاً منه، وأخذْتَه بأن يَضْبِطَ صُوَرَ الألفاظِ وهيأَتَها4، ويؤدِّيها كما يؤدِّي أصنافَ أصواتِ الطيور5، لرأيتَهُ ولا يَخْطرُ له ببال أن من شانه أن يوخر لَفْظاً ويقدِّم آخرَ، بل كان حالُه حالَ من يرم ى الحصبى ويعد الجوز، اللهم إلا أنتسومه أنتَ أَنْ يأتيَ بها على حُروفِ المعجم ليحفظ نسق الكتاب.

_ 1 يقال: "برد مفوف"، رقيق فيه خطوط بياض على هيئة الوشي. 2 "دلالتها" فاعل "نتخلع". 3 في "س"، وفي نسخة بغداد وعند رشيد رضا: ولا تصور"، وفي المطبوعة: "ولا يتصور". 4 في المطبوعة: "وهيئتها" بالإفراد. 5 في "ج": "كما يؤدي أصوات الطيور"، وفي نسخة بغداد "كما أرجح" في هامش المخطوطة: كما يحكى أصوات الطيور".

43 - ودليلٌ آخرُ، وهو أنه لو كان القصْدُ بالنَّظم إلى اللفظِ نَفْسِه، دونَ أن يكونَ الغرضُ ترتيبَ المعاني في النَّفس1، ثم النطقَ بالألفاظ على حَذْوها، لَكانَ يَنْبغي أن لا يَخْتلف حالُ اثنين في العِلْم بحُسْن النظُم أو غير الحسن فيه، لأنهما يحسبان بِتَوالي الألفاظِ في النُّطق إحساساً واحداً، ولا يَعْرِفُ أحدُهما في ذلك شيئاً يَجْهلُهُ الآخرُ. بيان معنى "النظم": 44 - وأوْضحُ من هذا كلِّه، وهو أنَّ هذا "النظْمَ" الذي يتواصَفُه البلغاءُ، وتَتَفاضَلُ مراتِبُ البلاغةِ من أجلهِ، صَنْعةٌ يُستعانُ عليها بالفكرةِ لا مَحالة. وإذا كانت مما يُستعانُ عليها بالفكرةِ2، ويُسْتخرَجُ بالرَّويَّة، فينبغي أن يُنْظَر في الفِكَر، بماذا تلبس؟ أبا المعاني أم بالأَلفاظ؟ فأَيُّ شيءٍ وجدْتَه الذي تلبِّس به فِكَركَ من بينِ المعاني والألفاظِ، فهو الذي تَحَدثُ فيه صَنْعتُك3، وتَقع فيه صياغتُك ونظمُك وتصويرُك. فَمُحالٌ أن تتفكَّرَ في شيءٍ وأَنت لا تَصنَعُ فيه شيئاً، وإنما تَصْنع في غيرِه. لو جازَ ذلك، لجازَ أن يُفكِّر البنَّاءُ في الغَزْل، ليَجْعل فكرَهُ فيه وُصلةً إلى أن يُصْنَعَ من الآجُرّ، وهو من الإِحالةِ المُفْرطة. 45 - فإِنْ قيلَ: "النظْمُ" موجودٌ في الألفاظِ على كلَّ حالٍ، ولا سبيلَ إلى أن يُعْقَل الترتيبُ الذي تزعُمُه في المعاني، ما لم تَنْظم الألفاظَ ولم ترتَّبْها على الوجه الخاص.

_ 1 في "ج" أسقط "في النفس". 2 في المطبوعة: "عليه بالفكرة". 3 في "ج": "صنيعتك"، وضبطها.

قيل: إنَّ هذا هو الذي يُعيد هذه الشبْهة جَذعة أبداً1، والذي يَحلُّها2: أن تَنْظر: أتتصوَّرُ أَن تكُون معْتَبِراً مفكِّراً في حالِ اللفظ مع اللفظ حتى تضَعَه بجنبهِ أو قبلَه، وأن تقولَ: "هذه اللفظية إنما صلت ههنا لكونِها على صفةِ كذا" أم لا يُعقل إلا أن تقول: "صلحت ههنا، لأن معناها كذا، ولدلالتها على كذا، ولن معنى الكلامِ والغرضِ فيه يُوجب كذا، ولأن معنى ما قبلها يَقْتضي معناها؟ ". فإِن تصورتَ الأولَ، فقلْ ما شئْتَ، واعلمْ أنَّ كلَّ ما ذكرناهُ باطلٌ وإنْ لم تتصورْ إلا الثاني، فلا تخْدَعنَّ نفْسَك بالأَضاليل، ودعِ النظرَ إلى ظواهر الأمور3، ليس هو الذي طلبْتَه بالفكرِ، ولكنه شيءٌ يقعُ بسببِ الأَولِ ضرورةً، من حيثُ إِنَّ الألفاظَ إذا كانتْ أوعيةً للمعاني، فإِنَّها لا محالةَ تَتَبْع المعاني في مواقعها، فإِذا وجَبَ لِمعنًى أنْ يكونَ أولاً في النفسِ، وجَب للفظ لادال عليه أن يكونَ مثْلَه أوَّلاً في النُّطق، فأمَّا أَن تتصورَ في الألفاظِ أن تكونَ المقصودةَ قبلَ المعاني بالنَّظم والترتيبِ، وأن يكونَ الفكر في النظم الذي يتواصفه البغاء فكرًا نظْم الألفاظ، أو أن تحتاجَ بَعْد ترتيبِ المعاني إلى فكْرٍ تستأنفُه لأن تجيءَ بالألفاظِ على نَسَقها، فباطلٌ منَ الظنَّ، ووهْمٌ يُتخيَّل إلى من

_ 1 "أعاد الشيء جذعًا" أي جديدًا. وأصل "الجذع" ما قبل الثنى من البهائم، ويطلق على الشاب من الناس والأنثى "جذعة"، "رشيد". 2 في "ج": "الذي يحله"، وفي "س": "والذي يحله عنك" وفي هامش المطبوعة: "في نسخة: يحيله عنك". 3 في المطبوعة: "ترتيب الألفاظ".

لا يُوفي النظرَ حقَّه. وكيف تكونُ مفكِّراً في نظم الألفاظ، وأنت لا تعقل لها أوصافاً وأحوالاً إذا عرفتَها عرفتَ أنَّ حقها أَن تُنْظَم على وجه كذا؟ رد شبهة في شأن "النظم": 46 - ومما يلبِّس على الناظِر في هذا الموضع ويُغلِّطه، أنه يَستَبْعد أن يُقال: "هذا كلامٌ قد نُظِمتْ معانيهِ"، فالعُرْفُ كأنه لم يَجْرِ بذلك، إلاَّ أَنهم وإنْ كانوا لم يسَتعملوا "النظْمَ" في المعاني، قد استعملوا فيها ما هوَ بمعناهُ ونَظيرٌ له، وذلك قولُهم: "إنَّه يُرتِّبُ المعانيَ في نفسِه، ويُنْزِلها، ويَبْني بعضَها على بَعضٍ"، كما يقولون: "يُرتِّب الفروعَ على الأصول، ويُتْبع المعنَى المعنى، ويُلْحِق النظِير بالنظير". وإذا كنت تعلم أنهم قد استعاروا النَّسْجَ والوشيَ والنقشَ والصياغَةَ لنفسِ ما استعاروا له "النظْم"، وكان لا يُشَكُّ في أنَّ ذلك كلَّه تشبيهٌ وتمثيلٌ يَرجع إلى أمورٍ وأوصافٍ تتعلقُ بالمعاني دونَ الألفاظِ، فمن حَقِّك أنْ تَعلم أنَّ سبيلَ "النظمِ" ذلكَ السبيلُ. 47 - واعلمْ أنَّ مِنْ سبيلك أن تَعتمِدَ هذا الفصْلَ حَدّاً، وتَجْعل النُّكَتَ التي ذكرتُها فيه على ذُكْرٍ منكَ أبداً، فإِنها عَمَدٌ وأُصولٌ في هذا الباب1، إذا أنت مكَّنْتَها في نَفْسك، وجدْتَ الشُّبَه تنزاحُ عنك، والشكوكَ تَنْتفي عن قَلبك، ولا سيَّما ما ذكرتُ من أنه لا يُتَصوَّر أنْ تَعرِفَ للفظ موضعًا

_ 1 "عمد"، جمع "عمدة"، وهو ما يعتمد عليه.

من غيرِ أن تَعْرف معناه، ولا أنْ تَتوخَّى في الألفاظِ من حيثُ هي ألفاظٌ ترتيباً ونظماً، وأنَّك تَتوخَّى الترتيبَ في المعاني وتُعْمِل الفكْرَ هناك، فإِذا تَمَّ لك ذلك أتْبَعْتَها الألفاظَ وقَفَوْتَ بها آثارَها، وأَنَّك إِذا فرَغْتَ من ترتيبِ المعاني في نفسِك، لم تحتجْ إلى أن تستأنفَ فكْراً في ترتيبِ الألفاظِ، بل تَجدُها تَترتَّب لك بحُكْم أنها خَدَمٌ للمعاني، وتابعةٌ لها، ولاحِقةٌ بها، وأن العِلْم بمواقعِ المعاني في النَّفُس، علمٌ بمواقعِ الألفاظ الدالة عليها في النطق.

فصل- النظم هو توخي معاني الإعراب: 48 - واعلمْ أَنك إِذا رجعتَ إلى نفسِك علمتَ علْماً لا يعترضُه الشكُّ، أنْ لا نَظْمَ في الكَلِم ولا ترتيبَ، حتى يُعلَّقَ بعضُها ببعضٍ، وَيْبني بعضُها على بَعض، وتُجعلَ هذه بسبب من تلك. هذا ما لا يَجهلُه عاقلٌ ولا يخْفَى على أحدٍ منَ الناس. وإِذا كانَ كذلك، فبِنا أَنْ نَنْظر إلى التَّعليق فيها والبناءِ، وجعْلِ الواحدةِ منها بسببٍ من صاحِبَتِها، ما معناهُ وما مَحْصولُه؟ وإِذا نَظَرْنا في ذلك، عَلمْنا أنْ لا محصولَ لها غيرُ أنْ تَعْمدَ إلى اسمٍ فتَجْعلَه فاعلاً لفعلٍ أو مفعولاً، أو تَعْمَدَ إلى اسمَيْن فتَجْعلَ أحدَهما خبراً عنِ الآخر أو تُتْبعَ الاسمَ اسماً على أن يكونَ الثاني صفة للأول، أو تأكيد له، أو بدلاً منه أو تَجِيءَ باسمٍ بَعْد تمامِ كلامكَ على أن يكونَ الثاني صفةً أو حالاً أو تمييزاً1 أوْ تتوخَّى في كلامٍ هو لإِثباتِ معنى، أن يصَير نفْياً أو استفهاماً أو تمنياً، فتُدخِلَ عليه الحروفَ الموضوعةَ لذلك أَوْ تُريد في فعلينِ أن تَجعل أحدَهما شَرْطاً في الآخر، فتجيءَ بهما بعدَ الحرفِ الموضوع لهذا المعنى، أو بَعْد اسمٍ منَ الأسماءِ التي ضَمِنَتْ معنى ذلكَ الحرفِ، وعلى هذا القياس. وإِذا كانَ لا يكونُ في الكِلِم نَظْمٌ ولا ترتيبٌ إلاَّ بأنْ يُصْنَع بها هذا الصنيعُ ونحوَهُ، وكان ذلك كلُّه مما لا يَرْجِعُ منه إلى الفظ شيءٌ، ومما لا يُتَصوَّر أن يكونَ فيه ومِنْ صفتهِ، بَانَ بذلك أنَّ الأَمرَ على ما قلناه، من أن اللفظ تبع

_ 1 في المطبوعة: "أن يكون الثاني صفة"، وليست في المخطوطتين، وأشار في هامش المطبوعة أنها محذوفة في نسخة أخرى.

للمعنى في النظْم، وأنَّ الكلمَ تَترتَّب في النُّطقِ بسببِ تَرتُّبِ معانيها في النَّفس، وأنها لَوْ خَلَتْ من مَعانيها حتى تَتجرَّد أصواتاً وأصداءَ حروفٍ، لما وقعَ في ضميرٍ ولا هَجَس في خاطرٍ، أن يَجب فيها ترتيبٌ ونَظْم، وأن يُجْعَل لها أمكنةٌ ومنازِلُ، وأنْ يجبَ النطقُ بهذه قَبْل النطقِ بتلك. واللهُ الموفق للصواب.

فصل- الرد على من يقول: الفصاحة للفظ وتلاؤم الحروف: 49 - وهذه شُبهةٌ أُخرى ضعيفةٌ، عسى أن يتعلَّقَ بها مُتعلِّقٌ ممَّن يُقْدم على القولِ من غيرِ رويّةٍ: وهي أنْ يَدَّعي أنْ لا معنى للفصاحة سِوى التلاؤمِ اللَّفظيّ، وتعديلِ مِزَاجِ الحُروفِ حتى لا يتلاقى في النُّطقِ حروفٌ تَثْقلُ على اللسَان، كالذي أنَشْدَه الجاحظ من قول الشاعر: وقَبْرَ حَرْبٍ بمكانٍ قَفْرِ ... وليسَ قُرْبَ قبرِ حرب قبر1 وقول ابن يسير2: لا أُذِيل الآمالَ بَعدك إنِّي ... بَعْدَها بالآمالِ جدُّ بخيلِ كَمْ لَهَا موقفاً ببابِ صديقٍ ... رجَعتْ مِنْ نَداه بالتعطيلِ لَمْ يَضِرْها والحمدُ للهِ شيءٌ ... وانثنتْ نحْوَ عَزْفِ نَفْسٍ ذَهُول3 قال الجاحظُ: فتفقَّدِ النِّصْفَ الأخيرَ من هذا البيت فإِنك ستجدُ بعضَ ألفاظه يتبرَّأ من بعضٍ"4 ويُزعمُ أنَّ الكلامَ في ذلك على الطبقات فمنه المُتناهي في الثِّقَل المفرطُ فيه، كالذي مَضَى، ومنه ما هو أَخَفُّ منه كقولِ أبي تمام:

_ 1 البيان والتبيين 1: 65. 2 في "س": "قول ابن سيرين"، وهو خطأ صرف، والشعر لمحمد بن يسير الرباشي، وهو في البيان والتبيين 1: 65، 66. 3 البيان والتبيين 1: 65، 66. "لا أذيل الآمال"، لا أهينها، و "التعطيل"، الإهدار والإبطال. و "عزف"، مصدر "عزفت نفسه عن الشيء عزفًا وعزوفًا"، زهدت فيه وانصرفت عنه. و "الذهول"، التي تناست الشيء وتغافلت عنه. وفي المطبوعة: "كم لها موقف". 4 "ويزعم"، معطوف على قوله: "وهي أن يدعي ... ".

كَرِيمٌ مَتَى أَمْدَحْهُ أَمْدَحْهُ والوَرى ... جَميعاً ومَهْما لمته لمته وحدي1 أي لا أمدحه بشيء إلا صدقني الناس فيه2. ومنه ما يكونُ فيه بعضُ الكُلْفة على اللسان، إلاَّ أَنه لا يَبلغُ أن يُعابَ به صاحبه ويشهر أمره في ذلك ويفحظ عليه3 ويزعمُ أن الكلامَ إذا سَلمَ من ذلك وصفَا من شَوْبِه4، كان الفصيحَ المشادَ به والمُشارَ إليه5، وأنَّ الصفاءَ أيضاً يكونُ على مراتبَ يعلو بعضُها بعْضاً، وأنَّ له غايةً إذا انتهى إليها كانَ الإِعجاز. والذي يبطل هذه المشبهة، إن ذَهب إليها ذاهبٌ، أنَّا إنْ قَصرْنا صِفةَ "الفصاحةِ" على كَوْن اللفظِ كذلك6، وجَعلْناه المراد بها، لزمنا أن نخرج "الفصاحةِ" على كَوْن اللفظِ كذلك، وجَعلْناه المرادَ بها، لَزِمَنَا أنْ نُخرج "الفصاحةَ" من حيِّز "البلاغةِ"، ومِنْ أنْ تكونَ نَظيرةً لها. وإِذا فعلنا ذلك، لم نحل من أجد أَمْرين: إمَا أنْ نَجْعَله العُمْدةَ في المفاضلةِ بينَ العبارتين ولا نُعرِّجَ على غيرِه، وإِمَّا أن نَجعلَه أَحدَ ما نُفاضل به، ووَجْهاً منَ الوجوه التي تَقْتضي تقديمَ كلامٍ على كلام7.

_ 1 البيت في ديوانه، وروايته عجزه: "معي، ومتى ما لمته"، وفي المطبوعة: "معي، وإذا ما لمته". 2 شرح البيت من "س"، وحدها. 3 "ويزعم" معطوف على ما قبله، انظر التعليق السالف ص: 57، رقم: 4. 4 "الشوب"، الخليط الذي يكدر الماء وغيره. 5 "أشاذ به"، أنثى عليه ورفع ذكره. 6 في "ج": "إن اقتصرنا" وأسقط أيضًا "كذلك"، ففسد الكلام. 7 في "ج": "تقدم كلام .... ".

فإنْ أَخَذْنا بالأولِ، لزِمَنا أنْ نُقْصِر الفَضيلةَ عليه حتى لا يكونَ الإعجازُ إلاَّ به وفيه1، وفي ذلك ما لا يخفى من الشناغة، لأنه يُؤدِّي إلى أنْ لا يكونَ للمعاني التي ذكرُوها في حدودِ البلاغة: مِنْ وُضوح الدَّلالة، وصوابِ الإشارةِ، وتَصحيحِ الأقسام، وحُسْن الترتيبِ والنظام، والإبداع في طريقة وتوفية الحذف والتأكيد والتقديم والتأخير شروطها2 مدخلٌ فيما له كان القرآنُ مُعْجزاً، حتى يدعي أنَّهُ لم يكن مُعْجزاً مِن حيثُ هو بليغٌ، ولا من حيثُ هو قولٌ فصْلٌ، وكلامٌ شريفُ النظم بديعُ التأليف، وذلك أنه لا تَعلُّقَ لشيءٍ من هذه المعاني بتلاؤمِ الحروف. وإِنْ أخذنا بالثاني، وهو أن يكونَ تلاؤمُ الحروفِ وَجْهاً من وجوُهِ الفضيلةِ، وداخِلاً في عِداد ما يُفاضَلُ به بين كلامٍ وكلامٍ على الجُملة، لم يكن لهذا الخلافِ ضرر علينا، لأنه ليس باكثر أن نعمد إلى "الفصاحة" فتخرجها من حيَّز "البلاغةِ والبيانِ"، وأن تكونَ نظيرةً لها، وفي عداد ما هو شبههما من البراعية والجزالة وأشباه ذلك، ما يُنبئ عنْ شرفِ النظْمِ، وعنِ المزايا التي شرحتُ لك أَمْرَها، وأعملتك جنسها3 أو نجعلها اسماً مُشتركاً يقَعُ تارة لِمَا تَقعُ له تلكَ، وأخرى لِما يَرْجع إلى سلامةِ اللّفظِ مما يُثْقِل على اللَّسان. وليس واحدٌ منَ الأمرين بقادح فيما نحن بصدده.

_ 1 "وفيه"، ليست في المطبوعة. 2 السياق " .... أن لا يكون للمعاني ..... مدخل". 3 "أو نجعلها" معطوفة على قوله: "أن نعمد إلى الفصاحة"، والأفعال في هذا الجمل مبدؤه بالنون، أما في المطبوعة فهي مبدؤه بالياء، وهو غير مستقيم.

وإنْ تعَسَّفَ متعسفٌ في تلاؤُمِ الحروفِ، فبَلغَ به أن يكون الأصلَ في الإِعجازِ، وأَخرجَ سائرَ مَا ذكروه في أقسامِ البلاغة من أن يكونَ له مَدْخلٌ أو تأثيرٌ فيما له كان القرآنُ معجزاً، كان الوجهُ أن يُقالَ له: إنَّه يَلزمُكَ، على قياسِ قولِكَ، أن تجوز أن يكون ههنا نظمٌ للألفاظِ وترتيبٌ، لا على نَسَقِ المعاني، ولا على وجْهٍ يُقْصَد به الفائدةُ، ثم يكونَ مع ذلك مُعْجزاً، وكَفى به فساداً. 51 - فإنْ قالَ قائلٌ: إني لا أجعلُ تلاؤمَ الحروفِ مُعْجزاً حتى يكونَ اللفظُ مع ذلك دالا، وذاك أنه إنَّما تصعبُ مراعاةُ التعادلِ بينَ الحروفِ، إذا احتيجَ مع ذلك إلى مراعاةِ المعاني، كما أنه إنَّما تصْعبُ مراعاةُ السجعِ والوزنِ، ويصعبُ كذلك التجنيسُ والترصيعُ، إذا رُوعي معه المَعْنى. قيلَ له: فأنتَ الآنَ، إنْ عقَلْتَ ما تَقولُ، قد خرجْتَ من مسئلتك، وتركْتَ أن يَسْتحِقَّ اللفظُ المزيةَ من حيثُ هو لفظ1، وجئت به تَطْلبُ لِصعوبةِ النظْمِ فيما بينَ المعاني طريقاً، وتَضَعُ له علَّةً غيرَ ما يعرفُه الناسُ، وتدَّعي أنَّ ترتَيبَ المعاني سهْل، وأنَّ تفاضُلَ النَّاس في ذَلك إلى حَدِّ، وأَنَّ الفضيلةَ تَزْداد وتَقْوى إذا تُوَخِّي في حُروفِ الألفاظِ التعادلُ والتلاؤمُ. وهذا مِنك وَهُمٌ. وذلكَ أنَّا لا نَعلمُ لِتَعادُلِ الحروفِ معنًى سِوى أنْ تَسْلَم من نَحْوِ ما تَجدُهُ في بيتِ أبي تمامٍ: كريمٌ متى أمدحْه أمْدَحْهُ والوَرى

_ 1 في "ج" كتب: "من حيث وجئت تطلب"، أفسد الكلام، وفي "س": "من حيث هو لفظ، وحيث تطلب"، أفسده أيضًا.

وبيتِ ابنِ يَسِير: وانثنتْ نحوَ عَزْفِ نفسٍ ذهولِ1 وليس اللّفظُ السليمُ من ذلك بِمُعْوِزٍ، ولا بعزيزِ الوجودِ، ولا بالشّيءِ لا يَستطيعُه إلاَّ الشاعرُ المُفْلِق والخطيبُ البليغ، فيستقيمَ قياسُه على السجعِ والتَّجنيس ونحوِ ذلك، مما إذا رامَه المتكلمُ صَعُبَ عليه تصحيحُ المعاني وتأديةُ الأغراض. فقولُنا: "أطالَ اللهُ بقاءك، وأدامَ عزَّك، وأَتمَّ نِعمتَهُ عليك، وزادَ في إحسانه عندَكَ"، لفْظٌ سليمٌ مما يَكُدُّ اللسانَ، وليس في حُروفه استكراهُ، وهكذا حالُ كلامِ الناس في كُتُبهم ومُحاوراتِهم، لا تكادُ تَجد فيه هَذا الاستكراهَ، لأنه إنَّما هو شيءٌ يَعْرِضُ للشّاعرِ إذا تكلَّف وتَعمَّل2، فأمَّا المُرْسِلُ نفْسَه على سَجيَّتها، فلا يَعْرض له ذلك. 52 - هذا، والمتعلَّلُ بمثلِ ما ذكرتُ من أنه إنَّما يكونُ تلاؤمُ الحروفِ مُعْجزاً بعد أن يكوْنَ اللّفظُ دالاً، لأنَّ مراعاةَ التّعادلِ إنَّما تَصْعبُ إذا احتيجَ معَ ذلك إلى مُراعاةِ المعاني، إذا تأملَت3 يَذْهب إلى شيءٍ ظريفٍ، وهو أن يُصْعُبَ مَرامُ اللفظِ بسببِ المعنى، وذلك مُحالُ، لأن الذي يَعْرفُه العقلاءُ عكْسُ ذلك، وهو أَن يصْعُبَ مرامُ المعنى بسبب اللفظ، فصعوبةُ ما صَعُبَ من السَّجع، هي صعوبةٌ عرضَتْ في المعاني من أجلِ الألفاظ، وذاك أنَّهُ صعب.

_ 1 مضى الشعران في ص: 57، 58، وكتب هنا في "س": "ابن سيرين" أيضًا، انظر ص: 57، التعليق رقم: 2. 2 في: "س": "وتعمد". 3 السياق: "والمتعلل بما ذكرت، ........ يذهب"، وفي هامش "ج" عند "يذهب" قال: "أي المتعلل".

عليك أن تُوفِّقَ بين مَعاني تلكَ الأَلفاظِ المسجَّعة وبين مَعاني الفُصول التي جُعلتْ أردافاً لها، فلم تَسْتطعْ ذَلك إلاَّ بعد أن عَدلْتَ عن أسلوبٍ إلى أسلوبٍ، أوْ دخلْتَ في ضرْبٍ منَ المجازِ، أو أخذْتَ في نوعٍ منَ الاتِّساع، وبعد أن تَلطَّفْتَ على الجملةِ ضَرباً منَ التلطُّف. وكيف يُتَصوَّرُ أنْ يَصعُبَ مرامُ اللفظِ بسببِ المعنى، وأنتَ إن أردْتَ الحقَّ لا تَطْلبُ اللفظَ بحالٍ، وإنَّما تَطْلبُ المعنى، وإِذا ظفِرْتَ بالمَعنى، فاللفظُ معكَ وإزاءَ ناظرِك؟ وإِنما كان يُتَصوَّرُ أن يصْعُبَ مَرامُ اللفظِ من أجلِ المعنى، أنْ لو كنتَ إذا طلبْتَ المعنى فحصَّلْتَه، احتجْتَ إلى أن تَطْلبَ اللفظَ على حِدَة. وذلك مُحَال. 53 - هذا، وإِذا توهَّمَ متوهِّمٌ أَنَّا نحتاجُ إلى أنْ نَطْلبَ اللفظَ، وأنَّ مِن شأْن الطلبِ أنْ يكونَ هناك، فإنَّ الذي يتَوَّهم أنَّهُ يَحتاج إلى طَلَبه، هو ترتيبُ الألفاظ في النطق لا مَحالة,. وإذا كان كذلك، فينبغي لنا أنْ نَرْجِع إلى نفوسِنا فنَنْظر: هل يُتَصوَّر أن نُرتِّب مَعاني أسماءٍ وأفعالٍ وحروفٍ في النفس، ثم يَخْفى علينا مواقِعُها في النطق، حتى نحتاج في ذلك إلى فكْرٍ ورويَّةٍ؟ وذلك ما لا يَشكُّ فيه عاقلٌ إِذا هو رَجَعَ إِلى نفسهِ. وإِذا بطَلَ أنْ يكونَ ترتيبُ اللفظ مطلوبًا بحال، لم يكنِ المطلوبُ أبداً إلا ترتيبُ المعاني، وكان معوَّلُ هذا المخالفِ على ذلك، فقد اضمحلَّ كلامُه، وبانَ أنه ليس لِمنْ حامَ في حديثِ المزيةِ والإعجازِ حَوْل "اللفظِ"، ورامَ أنْ يجعلَه السببَ في هذه الفضيلةِ، إِلا التسكُّعُ في الحَيرة، والخروجُ عن فاسدٍ منَ القول إلى مثلهِ. واللهُ الموفِّق للصَّواب. 54 - فإنْ قيل: إذا كانَ اللفظُ بمَعْزِلٍ عنِ المزيَّةِ التي تنازعْنا فيها، وكانت

مقصورةً على المعنى، فكيف كانتِ "الفصاحةُ" من صفاتِ اللفظِ البتَّةَ؟ وكيف امْتَنَع أن يَوصفَ بها المعنى فيقالُ: "معنًى فَصِيحٌ، وكلامٌ فصيحُ المعنى"؟ قيل: إنَّما اختُصَّت الفصاحةُ باللفظِ وكانت مِنْ صِفته، من حيثُ كانت عبارةً عن كونِ اللفظِ على وَصْفٍ إذا كان عليه، دلَّ على المزيّةِ التي نحنُ في حديثها، وإِذا كانت لِكَوْن اللفظ دالآ، استحالَ أنْ يُوصفَ بها المعنى، كما يَسْتحيلُ أن يوصَف المعنى بأنه "دال" مثلًا، فاعرفه. الرد على المعتزلي القاضي عبد الجبار في مسألة "اللفظ": 55 - فإنْ قيل: فماذا دَعا القدماءَ إلى أن قَسَموا الفضيلةَ بينَ المعنى واللفظِ فقالوا: "معنى لطيفٌ، ولفظٌ شريفٌ"، وفَخَّموا شأنَ اللَّفظِ وعظَّموه حتى تَبِعَهم في ذلك مَن بَعْدَهم1، وحتى قالَ أهلُ النَّظر: "إنَّ المعاني لا تَتزايد، وإِنما تتزايدُ الألفاظُ"2، فأَطلقوا كما ترى كلاماً يُوهِمُ كلَّ مَنْ يَسمعهُ أنَّ المزيَّةَ في حاق اللفظ؟ 3.

_ 1 في "ج" أسقط: "فقالوا معنى لطيفٌ ولفظٌ شريفٌ، وفَخَّموا شأنَ اللفظ"، سهوًا. 2 "أهل النظر"، هو المتكلمون، ويعني بهم هنا المعتزلة. وقولهم هذا هو نص كلام القاضي عبد الجبار المعتزلي في كتابه المغني في الجزء 16: 199، بعنوان: "فصل في الوجه الذي له يقع التفاضل في فصاحة الكلام"، ونص كلام القاضي هو: " .... علي أن نعلم أن المعاني لا يقع فيها تزايد، فإذن يجب أن يكون الذي يعتبر، التزايذ عند الألفاظ التي يعبر بها عنها، كما ذكرنا". هذا، واعلم أن أكثر ردود عبد القاهر في كتاب دلائل الإعجاز، هو ردود على مقالة المعتزلة، وعلى عبد الجبار خاصة، فاعرفه، وسأذكر إشارة عبد القاهر إلى ذلك في مواضعه. 3 في هامش "ج" حاشية نصها: "يعني في اللفظ حقيقة، فذلك قوله: في حاقَّ اللفظ".

قيلَ له: لما كانتِ المعاني إنما تَتبيَّنُ بالألفاظِ، وكانَ لا سبيلَ للمرتِّب لها والجامعِ شَمْلَها، إلى أن يُعْلمكَ ما صنَعَ في ترتيبها بفِكْره، إلا بترتيبِ الألفاظِ في نُطْقه، تجوَّزوا فكنُّوا عن ترتيبِ المعاني بترتيبِ الألفاظِ، ثم بالأَلفاظ بحذْفِ "الترتيبِ"، ثم أَتْبَعوا ذلك منَ الوصفِ والنعْت ما أبانَ الغرضَ وكشفَ عن المُراد: كقولهم: "لفظٌ متمكّنٌ"، يُريدون أنه بموافقةِ معناهُ لمعنى ما يليهِ كالشَّيءِ الحاصلِ في مكانٍ صالحٍ يطمئنُّ فيه "ولفظٌ قلِقٌ نابٍ"، يُريدون أنه مِنْ أجْل أنَّ معناهُ غيرُ موافقٍ لِما يَليه، كالحاصل في مكانٍ لا يَصْلُح له، فهو لا يستطيعُ الطمأنينةَ فيه إلى سائرِ ما يجيءُ في صفةِ اللفظِ1، مما يُعْلَم أنه مستعارٌ له مِنْ معناه، وأنهم نَحَلوه إيّاهُ، بسببِ مضمونهِ ومؤدَّاه. هذا، ومَنْ تَعلَّق بهذا وَشَبهِه واعترضَهُ الشكُّ فيه، بعدَ الذي مضَى منَ الحِجَج، فهو رجلٌ قد أَنِسَ بالتقليدِ، فهو يَدْعو الشبهة إلى نفسه من ههنا وثَمَّ. ومَنْ كان هذا سبيلَه، فليسَ له دواءٌ سِوى السكوتِ عنه، وتَرْكِهِ وما يَختارُه لنفسِه من سُوءِ النظرِ وقِلَّةِ التدبُّرْ. 56 - قد فرَغْنا الآنَ من الكلامِ على جنسِ المزيَّة، وأنها من حيِّز المعاني دونَ الألفاظ، وأنها ليستْ لك حيثُ تَسْمعُ بأُذَنك، بل حيثُ تَنْظرُ بقلِبك، وتَستعينُ بفكرك، وتُعْمل رَوِيَّتَك، وتَراجع عقْلَك، وتَسْتنجِدُ في الجملة فَهْمَك، وبلغَ القولُ في ذلك أقصاهُ، وانتهى إلى مَدَاه. وينبغي أن نأخذَ الآنَ في تفصيل أمرِ المزيَّةِ، وبيانِ الجهاتِ التي منها تَعْرِض. وإنَّه لَمَرامٌ صعْبٌ ومطْلَبٌ عسير2، ولولا أَنه على ذلك، لما وجَدْت الناسَ بين مُنْكِرٍ له من أصله،

_ 1 في المطبوعة: "ما يجيء صفة من صفة اللفظ". 2 في "ج": "مطلبه"، وفي "س": "عسر".

ومتحيل له على غيرِ وَجْههِ1، ومعتقِدٍ أَنه بابٌ لا تقوى عليه العبارة، ولا يملك فيه إلاَّ الإِشارةَ، وأنَّ طريقَ التعليم إليه مسدُودٌ، وبابَ التفهيم دَونَه مغْلقٌ، وأنَّ معانيَك فيه مَعانٍ تَأبى أنْ تَبْرُز مِن الضَّمير، وأنْ تَدِينَ للتبيينِ والتَّصوير2، وأن تُرى سافرةً لا نِقابَ عليها، وبادية لا حِجابَ دونها3، وأن ليسَ للواصِفِ لها إلاَّ أن يُلَوِّح ويُشيرَ، أَوْ يَضربَ مثَلاً يُنْبئُ عن حُسْنٍ قد عرَفَه على الجُملة، وفضيلةٍ قد أَحسَّها، من غيرِ أنْ يُتْبعَ ذلك بَياناً، ويُقيمَ عليه بُرهاناً، ويَذكُرَ له عِلَّةً، ويُورِدَ فيه حَجَّة. وأنا أُنْزِلُ لكَ القولَ في ذلك وأُدرِّجه شيئاً فشيئاً، واستعينُ الله تعالى عليه، وأسأله التوفيق.

_ 1 في المطبوعة: "ومتخيل"، بالخاء المعجمة. 2 في "ج": "التصور". 3 في المطبوعة: "نادية"، وفسرها في التعليق بوجه يستغرب!!

الكناية والاستعارة والتمثيل بالاستعارة

الكناية والاستعارة والتمثيل بالاستعارة: فصل: في اللفظ يطلق والمراد به غيرُ ظاهره بيان في الكناية والمجاز والاستعارة: 57 - إِعْلَم أنَّ لهذا الضرْبِ اتساعَا وتفنُّناً لا إلى غايةٍ، إلاَّ أنَّه على اتِّساعه يَدورُ في الأمر الأعم على شيئين: "الكناية" و"المجاز". 58 - والمراد بالكناية ههنا أن يُريد المتكلمُ إثباتَ معنًى من المَعاني، فلا يذكُرُه باللّفظِ الموضوعِ له في اللُّغة، ولكنْ يَجيءُ إلى معنى هو تاليهِ ورِدْفُه في الوجود1، فيومئ به إليهِ، ويجعلهُ دليلاً عليه، مثال ذلك قولُهم: "هو طَويلُ النَّجاد"، يريدونَ طويلَ القامة "وكثيرُ رمادِ القِدْر" يَعْنون كثيرَ القِرى وفي المرأة: "نَؤومُ الضُّحى"، والمرادُ أنها مُتْرفةٌ مخَدْومة، لها مَنْ يَكفيها أمْرَها2، فقد أرادوا في هذا كُله، كما تَرى، معنًى، ثمَّ لم يَذْكُروه بلفظِه الخاصِّ به، ولكنّهُم تَوصَّلوا إِليه بِذِكْر معنًى آخر مِنْ شأنِه أن يَرْدُفَه في الوجود، وأنْ يكونَ إذا كانَ. أَفلا تَرى أنَّ القامةَ إذا طالتْ طالَ النجادُ؟ وإِذا كثُرَ القِرى كثُرَ رَمادُ القِدْر؟ وإِذا كانتِ المرأةُ مُتْرفةً لها مَنْ يَكفيها أَمْرَها، رَدِف ذلك أَنْ تنامَ إلى الضُّحى. 59 - وأمَّا "الَمجاز"، فقد عوَّل الناسُ في حدِّه على حديثِ النَّقْل، وأنَّ كلَّ لفظٍ نُقِلَ عن موضوُعهِ فهو "مَجاز"، والكلامُ في ذلك يطولُ، وقد ذكرت

_ 1 في "س"، وفي نسخة أخرى عند رشيد رضا: "ورادفه"، وهما بمعنى التابع، "ردفه يردفه" تبعه. 2 "أمرها"، أسقطها في "س".

ما هو الصحيحُ من ذلك في موضعٍ آخر، وأنا أقتصر ههنا على ذِكْر ما هو أشهرُ منه وأظهَرُ. والاسم والشهرة فيه لشيئين: "الاستعارة" و "التمثيل". وإِنما يكونُ "التمثيلُ" مَجازاً إذا جاءَ على حَدِّ "الاستعارة". 60 - فالاستعارة: أن تُريدَ تشبيهَ الشيءِ بالشيءِ، فَتَدعَ أنْ تُفْصحَ بالتشبيهِ وتُظْهرَه، وتجيءَ إلى اسمِ المشبَّه بهِ فتعُيِرَه المِشبَّةَ وتُجْرِيَه عليه. تُريدُ أن تَقول: رأيتُ رجلاً هو كالأسدِ في شجاعتهِ وقوةِ بطشِه سَواء"، فتَدَعُ ذلك وتقولُ: "رأيتُ أسداً". وضَرْبٌ آخرُ من "الاستعارة"، وهو ما كان نحو قوله: إذْ أَصْبَحتْ بيدِ الشَّمال زِمامُها1 هذا الضربُ، وإِن كان الناسُ يَضمُّونه إِلى الأَوَّل حيث يذكرونَ الاستعارةَ، فليسا سَواءً. وذاكَ أنكَ في الأولِ تجعلُ الشيءَ الشيءَ ليس به، وفي الثاني للشّيءِ الشيءَ ليس له. تفسيرُ هذا: أنك إذا قلتَ: "رأيتُ أسداً"، فقد ادَّعيت في إنسانٍ أنه أسدٌ، وجعْلته إياه، ولا يكون الإِنسان أَسَداً. وإذا قلت: "إذا أصبحَتْ بيدِ الشَّمال زمامُها"، فقد ادَّعيْتَ أن لِلشَّمال يداً، ومَعْلومٌ أنه لا يكونُ للريحِ يد.

_ 1 للبيد بن ربيعة، من معلقته، وصدره: وغداة ريح قد كشفت وقرة

أصول في التشبيه والتمثيل: 61 - وههنا أصلٌ يجبُ ضبطُه وهو أنَّ جعْلَ المشبهِ المشبهَ به على ضرِبين: أَحدُهما: أنْ تُنْزِلَه مَنزلةَ الشيءِ تَذكُرُه بأَمرٍ قد ثبتَ له، فأنتَ لا تحتاجُ إلى أَنْ تَعْمل في إثباتهِ وتَزْجِيَتَهِ1، وذلك حيثُ تُسْقِط ذكرَ المشبَّه من البين2، ولا تَذْكُرُه بوجهٍ منَ الوُجوهِ، كقولك "رأيتُ أسداً". والثاني: أن تَجعلَ ذلكَ كالأمرِ الذي يَحتاجُ إلى أن تَعْمل في إثباتِه وتَزجيتهِ، وذلك حيث تجري اسم المشبه به خبرًا على المشبَّه3، فتقولُ: "زيدٌ أسَدٌ، وزيدٌ هو الأسدُ" أو تجيءُ بِه على وجهٍ يَرجعُ إلى هذا كقولك: "إنْ لقيتَه لقيتَ به أسداً، وإنْ لقيتَه لَيَلْقيَنَّكَ منهُ الأسدُ" فأنتَ من هذا كلِّه تَعملُ في إثبات كونهِ "أَسداً" أو "الأسدُ"، فأنتَ في هذا كلِّه تَعملُ في إثبات كونهِ "أَسداً" أو "الأَسَدَ"، وتَضعُ كلامَك له. وأمَّا في الأول فتُخرِجُه مَخرجَ ما لا يَحْتاجُ فيه إلى إثبات وتقرير. والقياسُ يقتضي أنْ يُقال في هذا الضربِ أَعْني ما أنتَ تَعْملُ في إِثباتِه وتَزْجِيتهِ: أنَّه تَشبيهٌ على حدَّ المُبالغة، ويقتصرُ على هذا القدرِ4، ولا يُسمَّى "استعارة". 62 - وأمَّا "التّمثيلُ" الذي يكونُ مجازاً لمجيئك بهِ على حَدِّ الاستعارة، فمِثالُه قولُك للرَّجل يَتردَّدُ في الشّيءِ بين فعله وتركه: "أراك تقدم رجلًا وتؤخر

_ 1 "التزجية" أصلها الدفع والسوق الرقيق، وأراد به هنا أن يترفق ويتلطف به كتى يلائم مكانه في المعنى. 2 في المخطوطات: "من البين"، وفي المطبوعة: "من الشيئين"، هوه لا خير فيه، ويعني: من بين الكلام، ويكثر عبد القاهر من استعمال "البين" بهذا المعنى. وانظر ما سيأتي في الفقرة رقم: 70. 3 "خبرًا" في المخطوطات، وفي المطبوعة: "صراحة". 4 في "س": "على هذا الحد".

أُخرى" فالأصْل في هذا: أَراكَ في تَردُّدِك كَمَنْ يُقَدِّمُ رجْلاً ويؤخِّر أُخرى، ثم اخْتُصِرَ الكلامُ، وجُعِل كأنه يُقدِّم الرِّجْلَ ويُؤخِّرها على الحقيقة، كما كان الأصْلُ في قولك: "رأيتُ أَسَداً" رأَيتُ رجلاً كالأسد، ثم جُعِل كأنه الأَسَدُ على الحقيقة. وكذلك تقولُ للرجل يَعْمَل في غيرَ مَعْمَل1: "أَراك تَنفُخُ في غير فحمٍ، وتَخُطُّ على الماء"، فَتجْعلُه في ظاهرِ الأمرِ كأنه ينفخ ويخط، والمعنى على ذلك أنك في فِعْلِك كمنْ يَفْعل ذلك، وتقولُ للرَّجلِ يُعمِلُ الحيلةَ حتى يُميلَ صاحبَه إلى الشَّيءِ قد كان يأباهُ ويَمْتنعُ منه: "ما زال يَفْتِل في الذِّروة والغارِب حتى بَلغَ منهُ ما أَراد"، فتَجْعلُه بظاهرِ اللّفظِ كأنه كان منهُ فَتْلٌ في ذِرْوَةٍ وغاربٍ، والمعنى على أنَّهُ لم يَزَلْ يَرْفِقُ بصاحبهِ رِفْقاً يُشبهُ حالُه فيه حالَ الرجل يَجيء إلى البعيرِ الصَّعْب فيَحكُّه ويفتلُ الشَّعرَ في ذروتِه وغاربِه، حتى يَسْكنَ ويَسْتأنسَ، وهو في المعنى نَظيرُ قولهم "فلان يقرد فلاناً" يعنى به أن يتطلف له فعلَ الرجلِ يَنْزَعُ القُرادَ منَ البعيرِ ليلذَّهُ ذلك، فيَسْكُن ويَثْبتُ في مكانه حتى يتمكَّن من أَخْذه، وهكذا كل كلامٍ رأيتَهم قد نحوا فيه نحو التّمثيلَ2، ثم لم يُفْصحوا بذلك، وأَخرجوا اللَّفظَ مخرَجَه إذا لم يريدوا تمثيلًا.

_ 1 في "ج" والمطبوعة، بإسقاط "في"، والمعنى: من غير فائدة ولا جدوى. 2 في المطبوعة: "نحوا فيه التمثيل" وفي "س": "به نحو التمثيل".

ترجيح الكناية والاستعارة والتمثيل على الحقيقة

ترجيح الكناية والاستعارة والتمثيل على الحقيقة: فصل في الكناية والاستعارة والتمثيل: 63 - قد أَجمعَ الجميعُ على أن "الكنايةَ" أَبْلَغُ منَ الإفصاحِ، والتعريضَ أَوْقَعُ من التَّصريح، وأنَّ للاستعارةِ مزيةً وفَضلاً، وأنَّ المجازَ أَبداً أبلَغُ منَ الحقيقة، إلا أَنَّ ذلك، وإِن كان معلوم ًا على الجُملة، فإِنّه لا تَطمئنُّ نفْسُ العاقلِ في كُلَّ ما يُطْلَبُ العلمُ بِه حتى يَبْلُغَ فيه غايتَه، وحتى يُغْلِغِلَ الفكْرَ إلى زواياهُ، وحتى لا يَبْقى عليه مَوضعُ شبهةٍ ومكان مسئلة. فنحن وإنْ كنَّا نَعْلم أَنك إذا قلْتَ: "هو طويلُ النِّجاد، وهو جَمُّ الرماد"، كان أَبْهى لِمَعْناك، وأَنْبلَ مِن أَن تَدَعَ الكنايةَ وتُصرِّح بالذي تُريدُ. وكَذا إذا قلتَ: "رأيتُ أسداً"، كان لِكلامِكَ مزيةٌ لا تكونُ إذا قلتَ: رأيتُ رجلاً هو والأسدُ سواءٌ، في معنى الشجاعةِ وفي قوةِ القلب وشدةِ البطش وأشباهِ ذلك. وإِذا قلتَ: "بَلَغني أنك تُقَدِّمُ رِجْلاً وتُؤخِّر أخرى"، كان أَوْقَعَ من صَريحه الذي هو قولُك: بَلغني أنك تَتردَّد في أَمرك، وأنك في ذلك كمَن يقولُ: أَخرجُ ولا أخرج، فتقدم رجلًا وتؤخر أُخرى1 ونَقْطعُ على ذلك حتى لا يُخالجُنا شكٌّ فيه2 فإنَّما تَسْكُنُ أَنفُسُنا تمامَ السكونِ، إذا عرَفْنا السببَ في ذلك والعلَّةَ، ولِمَ كان كذلك، وهيأْنا له عبارةً تُفْهمُ عنا مَن نُريد إفهامَه. وهذا هو قولٌ في ذلك3:

_ 1 السياق: "فنحن وإنْ كنَّا نَعْلم أَنك إذا قلْتَ .... كان أوقع من صريحه .... ونقطع على ذلك". 2 جواب الشرط، والسياق: "فنحن وإن كنا نعلم .... فإنما نسكن أنفنسا". 3 في المطبوعة وحدها: ", هذا هو القول ... ".

64 - إعْلَمْ أنَّ سبيلك أَولاً أَنْ تَعْلَم أنْ ليستِ المزيةُ التي تُثْبتها لهذه الأجناس عَلَى الكلام المتروكِ على ظاهرِه، والمبالغةُ التي تدَّعى لها1 في أنفسِ المعاني التي يَقْصِدُ المتكلمُ إليها بخَبَره، ولكنها في طريق إثباتهِ لها وتقريرِه إياها. تفسيرُ هذا: أنْ ليس المعنى إذا قلنا: "إن الكنايَة أبْلغُ منَ التَّصريح"، أَنك لمَّا كنَّيْتَ عن المعنى زدْتَ في ذاته، بل المعنى أَنك زِدْتَ في إثباتهِ، فجَعلْتَه أبلغَ وآكَدَ وأَشَدَّ. فليستِ المزيةُ في قولهم: "جَمُّ الرماد"، أنّهُ دلَّ على قِرًى أكثرَ، بل المعنى إنك أَثبتَ له القِرى الكثيرَ من وجهٍ هو أَبلغُ، وأوجَبْتَه إيجاباً هو أَشدُّ، وادَّعيْتَه دَعْوى أنتَ بها أَنْطَقُ، وبِصِحَّتها أَوْثَقُ. وكذلك ليستِ المزيةُ التي تَراها لقولك: "رأيتُ أسداً" على قولك: رأيتُ رجلاً لا يتميزُ عن الأَسد في شجاعته وجُرأته أنك قد أَفدْتَ بالأول زيادة في مساواته الأسد، بل أن أَفَدْتَ تأكيداً وتشديداً وقوةً في إثباتك له هذه المساواةَ، وفي تقريرِكَ لها2. فليس تأثيرُ الاستعارةِ إذن في ذاتِ المعنى وحَقيقَتِه، بل في إيجابهِ والحُكْم به. 65 - وهكذا قياسُ "التمثيل"، تَرى المزيةَ أبداً في ذلك تَقعُ في طريقِ إثباتِ المعنى دون المعنى نَفْسِه. فإِذا سمعْتَهُم يقولون: إنَّ مِنْ شأنِ هذه الأجناسِ أنْ تُكسِبَ المعاني نبلًا وفضل ًا، وتُوجِبَ لها شَرَفاً، وأن تُفخِّمها في نفوسِ السامعين، وتَرْفَع أَقْدارَها عند المخاطَبِين، فإِنّهم لا يُريدون الشَّجاعةَ والقِرى وأشباهَ ذلك مِنْ مَعاني الكَلِم المُفْردةِ، وإنما يَعْنون إثباتَ معاني هذه الكلم لمن ثبت له ويخبر بها عنه.

_ 1 السياق: "أن تعلم أن ليست المزية ... في أنفس المعاني. 2 في المطبوعة: "بل أنك أفدت ... ".

66 - هذا ما ينبغي للعاقلِ أن يَجْعلَه على ذكر منه أبدًا، وأن يعلم أنه ليسَ لنا إذا نحنُ تَكلِّمْنَا في البلاغةِ والفصاحةِ1 معَ معاني الكلِم المفردةِ شغلٌ، ولا هيَ منَّا بسبيل، وإِنَّما نَعْمَد إلى الأحكام التي تَحْدُثُ بالتأليف والتركيب. وإذْ قد عرَفْتَ مكانَ هذه المزيةِ والمبالغةَ التي لا تزالُ تَسْمع بها، وأَنها في الإثباتِ دونَ المُثْبَتِ، فإنَّ لها في كلَّ واحدٍ من هذه الأجناس سَبباً وعلَّة. أما "الكنايةُ"، فإنَّ السببَ في أنْ كانَ للإثباتِ بها مزيةٌ لا تكونُ للتَّصريح2، أنَّ كلَّ عاقلٍ يَعْلمُ إذا رجعَ إلى نفسهِ، أَنَّ إثباتَ الصفةِ بإثباتِ دَليلِها، وإِيجابَها بما هُو شاهِدٌ في وجودِها، آكدُ وأبلغُ في الدعوى من أن تجيء إليها فثبتها هكذا ساذَجاً غُفْلاً. وذلك أنَّكَ لا تدَّعي شاهدَ الصفةِ ودليلهَا إلاَّ والأَمرُ ظاهرٌ معروفٌ، وبحيثُ لا يُشَكُّ فيه، ولاَ يُظَنُّ بالمُخْبر التجوُّزُ والغَلَطُ. وأما "الاستعارةُ"، فسبَبُ ما تَرى لها من المزيّةِ والفخامةِ3، أَنَّك إذا قُلْتَ: "رأيتُ أسداً"، كنتَ قد تلطَّفْتَ لما أَردْتَ إثباتَه له من فَرْط الشَّجاعةِ، حتى جعلْتَها كالشَّيءِ الذي يَجبُ له الثبوتُ والحصولُ، وكالأمرُ الذي نُصِبَ له دليلٌ يَقطع بوجودهِ. وذلك أَنه إذا كان أَسداً، فواجبٌ أن تكونَ له تلك الشجاعةُ العظيمةُ، وكالمُستحيلِ أو الممتنعِ أنْ يَعْرى عنها. وإِذا صرَّحتَ بالتَّشبيه فقلتَ: "رأيتُ رجلاً كالأسد"، كنتَ قد أَثبتَّها إثباتَ.

_ 1 السياق: " .... أن ليس لنا ... مع معاني الكلم ... ". 2 في "ج" أسقط: "فأن السبب في" وكتب: "وإن كان للإثبات". 3 في "ج": "فبسبب".

الشيءِ يترجَّحُ بين أن يكونَ وبين أن لا يكونَ، ولم يكنْ مِنْ حديثِ الوجوبِ في شيء. وحكْمُ "التمثيلِ"، حكْمُ "الاستعارةِ" سواءٌ، فإنَّك إذا قلتَ: "أَراكَ تُقدِّم رِجْلاً وتؤخَّر أخرى"، فأَوجَبْتَ له الصورةَ التي يُقْطَعُ معها بالتحيُّر والتردُّدِ1، كان أبلغَ لا محالةَ من أنْ تجريَ على الظاهر. فتقولُ: قد جَعْلتَ تتردَّدُ في أمرِك، فأنتَ كمَنْ يقولُ: أَخْرجُ ولا أخرج، فيقدم رجلًا ويؤخر أخرى.

_ 1 في "س": "يقع معها التحير".

تفاوت الكناية والاستعارة والتمثيل

تفاوت الكناية والاستعارة والتمثيل: فصل: الاستعارة وبدائعها 67 - إِعْلم أنَّ مِنْ شأنِ هذه الأجناسِ أنْ تجرى يه الفضيلةُ، وأن تَتفاوَتَ التفاوتَ الشديدَ، أفَلا تَرى أنك تجدُ في الاستعارةِ العاميَّ المبتذَلَ1، كقولنا: "رأيتُ أسداً، ووردتُ بحراً، ولقيتُ بَدراً" والخاصيُّ النادرُ الذي لا تَجِدُه إلاَّ في كلامِ الفُحول، ولا يَقْوى عليه إِلا افرادُ الرَّجال، كقوله: وسالتْ بأَعناقِ المَطِيِّ الأَباطِحُ2 أراد أنها سارتْ سيرًا حثيثًا في غابة السرعة، وكانت سرعة في لين وسلاسة، حتى كأنها كانت سُيُولاً وقعَتْ في تِلك الأباطحِ فجرتْ بها3. 68 - ومثلُ هذه الاستعارةِ في الحُسْن واللطفِ وعُلوِّ الطبقةِ في هذهِ اللفظة بعينها قولُ الآخر: سالتْ عليهِ شِعابُ الحيِّ حينَ دَعا ... أَنْصَارَهُ، بوجُوهٍ كالدنانيرِ4

_ 1 في المطبوعة: "أفلا ترى في الاستعارة". 2 صدر البيت: أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسيأتي الشعر بتمامه فيما بعد، وانظر ما سيأتي رقم: 70. 3 "حتى كأنها"، "حتى" زيادة من "س" وحدها. 4 هو لسبيع بن الخطيم التيمي، بقوله لزيد الفوارس الضبى، في أبيات، وينسب أيضًا لمحرز ابن المكععبر، ولدجاجة بن عبد قيس التيمي، وهو في الاختبارين، وفي الوحشيات رقم: 451، والمؤتلف والمختلف للآمدي: 112، وسيأتي برقم: 89، وفي هامش "ج": "أصحابه"، يعني مكان "أنصاره".

أرادَ أنه مُطاعٌ في الحيِّ، وأنهم يُسْرعون إِلى نُصْرته، وأنه لا يَدْعوهم لِحَرْبٍ أو نازلِ خَطْب، إِلا أَتَوْه وكَثرُوا عليه، وازْدَحموا حواليه، حتى تجدهم كالسيول تجيء من ههنا وههنا، وتنْصبُّ من هذا المسيلِ وذلك1، حتى يَغَصَّ بها الوادي ويطفَحَ منها. 69 - ومن بديعِ الاستعارةِ ونادرِها، إِلا أن جهةَ الغرابةِ فيهِ غيرُ جهتِها في هذا، قولُ يزيدَ بنِ مَسلمة بنِ عبدِ الملكِ يصفُ فَرساً له، وأَنَّه مُؤدَّبٌ، وأنه إِذا نزَلَ عنه وألقَى عِنانَه في قَرَبوس سَرْجه، وقفَ مكانَه إِلى أن يعودَ إليه: عوَّدْتُهُ فيما أَزورُ حَبَائبي ... إهمالَه، وكذاكَ كلَّ مَخاطِر وإِذا احْتَبى قَرَبوسُهُ بعِنانِهِ ... عَلَك الشَّكيمَ إلى انصراف الزائر2 فالغرابة ههنا في الشَّبَه نَفْسِه، وفي أَنْ اسْتَدركَ أَنَّ هيئةَ العِنان في موقعهِ من قَربوس السِّرِج، كالهيئةِ في موضعِ الثَّوب مِنْ رُكْبة المُحْتبي. 70 - وليسِت الغَرابةُ في قوله: وسالتْ بأعناقِ المطيَّ الأباطحُ3 على هذه الجملةِ4، وذلك أنه لم يُغْرِبْ لأنْ جَعَلَ المطيَّ في سُرعةِ

_ 1 في المطبوعة: أسقط "المسيل" وهي في المخطوطتين. 2 نسبة ليزيد بن مسلمة، وفي حاشية على الكامل للمبرد (1: 351" أنه "لمحمد بن يزيد، من ولد مسلمة بن عبد الملك". و "القربوس" وهو حنو سرج الفرس. و "الشكيم" في لجام الفرس، هو الحديدة المعترضة في فم الفرس. 3 انظر الفقرة السالفة رقم: 67. 4 يكثر عبد القاهر من استعمال "على هذه الجملة"، ويعني بها الوجه والمعنى والنمط.

سيرِها وسهولتهِ كالماءِ يجري في الأَبْطُحِ، فإنَّ هذا شَبَهٌ معروفٌ ظاهر، ولكنَّ الدِّقةَ واللطفَ في خصوصيةٍ أفادَها1، بأنْ جعَلَ "سال" فعلاً للأباطحِ، ثم عدَّاه بالباءِ، ثم بأَن أدخلَ الأعناقَ في البين2، فقال: "بأعناقِ المطيِّ"، ولم يَقُلْ: "بالمطيِّ"، ولو قالَ: "سالتِ المطيُّ في الأَباطح"، لم يَكُنْ شيئاً. وكذلك الغرابةُ في البيتِ الآخر، ليسَ في مُطْلق معنى "سال"، ولكنْ في تَعْديته بعلى والباء، وبأنْ جعَلَه فِعْلاً لقولِه "شعابُ الحَيِّ" ولولا هذه الأمورُ كلُّها لم يكنْ هذا الحُسْنُ. وهذا مَوضعٌ يَدِقُّ الكلامُ فيه. 71 - وهذِه أشياءُ من هذا الفن: اليومُ يومانِ مُذْ غَيِّبْتَ عن بَصَري ... نفْسي فداؤك، ماذنبي فأَعْتَذِرُ أُمسي وأُصِبحُ لا ألقاكَ، وَاحَزَنَاً ... لقدْ تأَنَّق في مكرُوهِيَ القَدَر3 سَوَّارُ بن المضَرَّب، وهو لطيف جدًا: بِعَرْض تَنُوفةٍ للريحِ فيها ... نَسيمٌ لا يرُوعُ الترب وإن4 بعض الأعراب: ولرب خصم جاهدين ذوي شذا ... تقذى صدورهم بهتر هاتر

_ 1 في "س" وأشار إليها رشيد رضا في نسخة: "الرقة" يدل على "الدقة". 2 في المطبوعة: "في البيت"، وأشار إلى نسخة فيها "البين"، أيضًا، وقد سلف بيان مثلها في الفقرة: 61. 3 في هامش "ج" حاشية لم أحسن قراءتها. 4 من قصيدة له من الأصمعيات رقم: 91، وروايته: "بكل تنزفة ... خفيف لا يروع".

لُدِّ ظأَرْتُهُم على ما ساءَهُمْ ... وَخسَأْتُ باطِلَهم بحق ظاهر1 المقصود لفظ: "خسأت"2. ابن المعتز: حتى إِذا ما عَرَف الصَّيْدَ الضّارْ ... وأَذِن الصُّبْحُ لَنا في الإبصارْ3 المعنى: حتى إِذا تَهيَّأ لنا أن نُبصر شيئاً لمَّا كانَ تعذُّرُ الإبصارِ مَنْعاً مِنَ الليل، جَعَل إمكانَهُ عند ظُهور الصبُّحِ إذْناً من الصبُّح. وله: بخيلٌ قدُ بُليتُ بهِ ... يَكُدُّ الوعدَ بالحُجَجِ4 وله: يُناجِينيَ الإِخلافُ من تحتِ مَطْلِهِ ... فَتَخْتَصِمُ الآمالُ واليأس في صدري5

_ 1 الشعر لثعلبة بن صغير المازني، في المفضليات رقم: 24. وكان في المطبوعة والمخطوطتين "نقذى عيونهم"، وهو سهو يفسد الشعر، فرددته إلى صوابه، و "الشاذا"، حدة الأذى. و "الهتر الهاتر" الكلام القبيح. و "تقدى"، تقذف القذى. و "لد" شديدي الخصومة جمع "ألد". و "ظأرتهم"، عطفتهم، كما نظار الناقة على فصيلها. و "خسأت"، دفعت وامطت. 2 هذا السطر غير موجود في المطبوعة. 3 ديوان ابن المعتز "استنابول" 4: 21. و "الضار" يعني "الضارى"، وهو الكلب، وفي المطبوعة: أنصار"، وشرحها بما لا غناء فيه. 4 ليس في المطبوع من شعره. 5 ليس في المطبوع من شعره.

ومما هو في غايةِ الحُسن، وهو من الفَنَّ الأوّلِ، قولُ الشاعر أنشده الجاحظ1: لَقد كنتَ في قومٍ عليكَ أشحَّةٍ ... بنَفْسِكَ إِلاّ أنَّ ما طاحَ طائحُ يَوَدُّونَ لو خاطُوا عليكَ جلودَهُمْ ... ولا تَدفعُ الموتَ النفوسُ الشحائحُ قال: وإِليه ذهبَ بشارٌ في قوله: وصاحبِ كالدُّمَّلِ الْمُمِدِّ ... حملْتُهُ في رُقعةٍ من جلدي2 72 - ومن سرِّ هذا البابِ، أنك تَرى اللفظَة المستعارةَ قد استُعيرتْ في عدَّةِ مواضعَ، ثم تَرى لها في بعضِ ذلك مَلاحةً لا تَجِدُها في الباقي. مثالُ ذلك أنك تَنْظر إلى لفظةِ "الجِسر" في قولِ أبي تمام: لا يَطْمعُ المرءُ أن يجْتابَ لُجَّتَهُ ... بالقولِ ما لمْ يَكُنْ جِسْراً له العَمَلُ3 وقوله: بَصْرْتَ بالرَّاحةِ العُظمى فلَمْ تَرَها ... تُنَال إِلاّ عَلَى جسرٍ منَ التعَبِ4 فتَرى لها في الثاني حُسْناً لا تَراه في الأَول، ثم تنظر إليها في قول ربيعة الرقى:

_ 1 في البيان والتبيين 1: 50، وقال: "ذهب إلى قول الأغر الشاعر"، وأنشد البيتين، وشعره هذا نقله أيضًا السهيلي في الروض الأنف 1: 175. 2 في البيان 1: 50، وفي ديوان بشار المطبوع. 3 في ديوانه، وروايته: "أن يجتاب غمرته"، ويروى: "ويختاز غمرته"، و "اجتباب الأرض وجابها"، قطعها واختراقها ونفذ منها. 4 في ديوانه، وروايته "بالراحة الكبرى"، وهي كذلك في "س".

قُولي نَعمْ ونَعمْ إِنْ قُلتِ واجبةٌ ... قالتْ عَسى وعسى جِسْرٌ إِلى نَعَمِ1 فتَرى لها لُطْفاً وخَلابةً وحُسْناً ليس الفَضْلُ فيه بقليل2. 73 - ومما هو أَصْلٌ في شرَف الاستعارة، أنْ تَرى الشاعرَ قد نجمع بين عدةِ استعاراتٍ، قَصْداً إِلى أَنْ يُلحقَ الشكلَ بالشَّكْلِ، وأن يُتِمَّ المعنى والشَّبهَ فيما يريد، مثاله قول امرئ القيس: فقلتُ لهُ لما تَمطَّى بصُلْبه ... وأَرْدَف أَعجازاً وناءَ بكَلْكَلِ3 لمَّا جعلَ لِلَّيل صُلْباً قد تمطَّى به، ثَنَّى ذلك فجعَلَ لَهُ أَعجازاً قد أردفَ بها الصُّلْبَ، وثلََّثَ فجعَل له كَلْكَلاً قد ناءَ به، فاسْتَوفى له جملةُ أركانِ الشَّخصِ، وراعَى ما يرَاه الناظرُ من سَواده، إِذا نظرَ قُدَّامه، وإِذا نَظَر إِلى خَلْفِه، وإذا رفَعَ البصرَ ومدَّه في عُرْض الجو.

_ 1 في شعر ربيعة الرقى "مجموع": 92، نقلًا عن طبقات ابن المعتز: 166 - 169، وهو فيها: قولي: نعم، إنها إن قلت نافعة، ليست عسى، وعسى صبر إلى نعم وهو كلام فاسد لا معنى له، والصواب ما ههنا. وفي هامش المخطوطة أمام هذا البيت: "ومثله قوله أبي العتاهية: أتيتم غداة النـ .... ... لجمته جسر الكلام منقطع، ولم أقف على شيء من ذلك في شعر أبي العتاهية 2 "الجلابة"، أن تخلب المرأة قلب الرجل بألطف القول وأخلبه، فتأخذه وتسلبه وتذهب به، وهو هنا مجاز. 3 من معلقته الغالية.

القول في نظم الكلام ومكان النحو منه

القول في نظم الكلام ومكان النحو منه: [القول في "النظم" وبتفسيره] 1: تفسير "النظم" وأسراره ودقائقه: 74 - واعلم أن ههنا: أسراراً ودقائقَ، لا يُمكن بَيانُها إلاَّ بَعْد أن تقدم جملةً منَ القول في "النَّظم" وفي تفسيرهِ والمُراد منه2، وأيِّ شيءٍ هو؟ وما محصولُه ومحصولُ الفضيلةِ فيه؟ فينبغي لنا أن نأْخُذَ من ذِكْرِه، وبَيان أَمره، وبيانِ المزيَّةِ التي تُدَّعى له مِنْ أينَ تَأْتيه؟ وكيفَ تَعْرِضُ فيه؟ وما أَسبابُ ذلك وعِلَلُه؟ وما المُوجِبُ له؟. وقد عَلمْتَ إطباقَ العُلماءِ على تعظيمِ شأنِ "النظم" وتخيم قَدْره، والتنويهِ بذكرهِ، وإجماعَهم أنْ لا فضْلَ معَ عَدَمِه، ولا قَدْر لكلامٍ إِذا هو لم يَستقمْ لَهُ، ولو بلغَ في غَرابةِ معناهُ ما بَلغَ3 وبَتَّهُمُ الحُكْمَ بأنه الذي لا تَمامَ دونَه، ولا قِوام إلاَّ بهِ، وأَنه القطُبُ الذي عليه المَدارُ، والعَمودُ الذي به الاستقلال. وما كانَ بهذا المحلَّ من الشَرَفِ، وفي هذِه المنزلةِ من الفضلِ، وموضوعاً هذا المَوْضعَ منَ المزية، وبالغاً هذا المبلغَ منَ الفضيلةِ كان حَرىّ بأن توقَظَ له الهِمَمُ، وتُوكَلَ به النفوسُ، وتُحرَّكَ له الأفكارُ، وتُستخدَمَ فيه الخواطرُ4 وكان العاقَلُ جَديراً أَن لا يَرْضى من نَفْسه بأن يَجد فيهِ سبيلاً إِلى مزيَّة عِلْم، وفَضْلِ استبانةٍ، وتلخيصٍ حُجَّةٍ5، وتحرير دليل، ثم يعرض

_ 1 هذا عنوان زدته، لأنه عليه مدار هذا الكتاب. 2 في المطبوعة وجدها: "أن تعد جملة". 3 "وبتهم الحكم"، معطوف على: "إطباق العلماء"، و "بت الحكم"، قطعه. 4 "وكان العاقل"، معطوف عليه قوله: "كان حرى". 5 "تلخيص الحجة"، شرحها وتفسيرها وبيانها، وانظر مثله في الفقرة رقم: 26.

عن ذلك صَفْحاً، ويَطْوي دونهُ كَشْحاً1 وأن يَرْبأ بنفسِه، وتَدْخلَ عليه الأَنفَةُ من أن يكونَ في سبيلِ المُقلِّدِ الذي لا يَبُتُّ حكْماً2، ولا يَقْتُل الشيءَ عِلْماً، ولا يجدُ ما يُبْرئُ من الشُّبهة3، ويَشفي غليلَ الشاكِّ، وهو يَستطيعُ أن يَرْتفعَ عن هذه المنزلةِ، ويُباينَ مَن هو بهذِه الصَّفة، فإنَ ذلك دليلُ ضَعْفِ الرأي وقِصرِ الهمّةِ ممَّن يختارُه ويعملُ عليه. "النظم" هو توخي معاني النحو، وبيان ذلك: 75 - إعلم أنْ ليسَ "النظمُ" إِلا أن تضعَ كلامكَ الوضعَ الذي يَقتضيهِ "علمُ النحو"، وتعملَ على قوانينهِ وأُصولِه، وتعرفَ مناهجَه التي نُهِجتْ فلا تزيغَ عنها، وتحفَظُ الرُّسومَ التي رُسمتْ لك4، فلا تُخِلَّ بشيءٍ منها. وذلك أنَّا لا نَعلم شيئاً يبتغيهِ الناظمُ بنَظْمه غيرَ أنَ ينظرَ في وُجوهِ كلَّ بابٍ وفُروقهِ، فينظرَ في "الخبرِ" إِلى الوجوهِ التي تَراها في قولك: "زيدٌ منطلقٌ" و "زيدٌ يَنطلِقُ"، و "ينطلِقُ زيدٌ" و "منطلِقٌ زيدٌ"، و "زيدٌ المُنطلِقُ" و "المنطلِقُ زيدٌ" و "زيدٌ هوَ المنطلقُ"، وزيدٌ هو منطلِقٌ". وفي "الشرطِ والجزاء" إِلى الوجوه التي تَراها في قولك: "إنْ تَخْرُجْ أَخرجْ" و "إنْ خرجْتَ خرجْتُ" و "إن تخرجْ فأنا خارجٌ" و "أنا خارجٌ إن خرجتَ" و "أنا إنْ خرجْتَ خارجٌ".

_ 1 وأن يربأ بنفسه"، معطوف على قوله: "أن لا يرضى من نفسه". 2 في "س": "يثبت حكمًا". 3 في "س": "من الشبه". 4 في المطبوعة: "الذي رسمته".

وفي "الحالِ" إِلى الوجوهِ التي تَراها في قولك: "جاءني زيد مسرعًا"، وجاءني يسرع"، و "جاءني وهو مسرع أو وهو يُسرع" و "جاءني قد أَسرَع" و "جاءني وقد أَسْرعَ". فيَعرفُ لكلِّ من ذلك موضِعَه، ويجيءُ به حيثُ ينبغي له. وينظرَ1 في "الحروف" التي تَشْتركُ في معنىً، ثم يَنفردُ كلُّ واحدٍ منها بخصوصيةٍ في ذلك المعنى، فيضع كلًا من ذلك ي خاصِّ معناهُ، نحْوَ أن يجيءَ بـ "ما" في نفي الحال، بـ "لا" إذا أراد نفي الاستقبال , بـ "إنْ" فيما يترجَّحُ بينَ أن يكونَ وأنْ لا يكون، وبـ "إِذا" فيما عُلمَ أنه كائنٌ. وينظرَ في "الجملِ" التي تُسْرَدُ، فيعرفَ موْضعَ الفصلِ فيها مِن موضعِ الوَصْل، ثم يعرفَ فيما حقُّه الوصْلُ موضعَ "الواو" من موْضعِ "الفاء"، وموضعَ "الفاء" ومن موضعِ "ثُمَّ"، وموضعَ "أو" من موضعِ "أم"، وموضَعَ "لكنْ" من موضعِ "بل". ويتصرَّفَ في التّعريفِ، والتَّنكيرِ، والتّقديمِ والتأخير، في الكلام كلِّه2، وفي الحذف، والتكرار والإضمار، والإظهار، فيصيب بكل من ذلك مكانَه3، ويستعملَه على الصِّحة وعَلَى ما ينبغي له. 76 - هذا هو السَّبيل، فلستَ بواجدٍ شيئاً يَرجِعُ صوابهُ إِنْ كان صواباً وخَطؤهُ إِن كانَ خطأ، إِلى "النَّظْم"، ويَدخلُ تحت هذا الاسم، إلا وهو

_ 1 "وينظر" معطوف على قوله في أول الفقرة: " .... أن ينظر في وجوه كل باب"، وكذلك ما سيأتي بعده. 2 في نسخة عنه رشيد رضا: وينظر: بدل "يتصرف". 3 في المطبوعة: "فيضع كلًا مكـ"، وعند رشيد رضا في نسخ، كما في المخطوطتين.

معنىً من معاني النحوِ قد أُصيب به موضِعُه، وَوُضِعَ في حقه أو عُومِلَ بخلافِ هذه المعاملة، فأزيلَ عن موضعهِ، واستُعمِل في غيرِ ما ينبغي له، فلا ترى كلاماً قد وُصف بصحّةِ نظمٍ أو فسادِه، أو وُصف بمزيةٍ وفضلٍ فيه، إلاَّ وأنت تجدُ مرجعَ تلك الصحَّةِ وذلك الفسادِ وتلكَ المزيةِ وذلك الفضلِ، إِلى معاني النَّحو وأَحكامه، ووَجْدتَه يَدْخل في أصلٍ من أصولهِ، ويتَّصلُ ببابٍ من أبوابه. شواهد على فساد "النظم": 77 - هذه جملةٌ لا تَزْدادُ فيها نظَراً، إِلا ازدَدْتُ لها تَصوُّراً، وازدادتْ عندكَ صحَّةً، وازدَدْتَ بها ثقةً. وليس من أَحدٍ تُحرِّكُه لأَنْ يقولَ في أمرِ "النظمِ" شيئاً، إِلا وجدْتَهُ قد اعترفَ لكَ بها أو ببعضِها، ووافقَ فيها دَرى ذَلك أو لم يَدْرَ. ويكفيكَ أَنهم قد كشَفوا عن وَجْه ما أَردناه حيثُ ذكَروا فسادَ "النظمِ"، فليسَ من أَحدٍ يُخالِفُ في نحو قولِ الفرزدق: وما مثلُه في الناسِ إِلا مُملَّكاً ... أبُو أمه حي أبوه يقاربه1 وقول المتبني: ولذا اسْمُ أغطيةِ العُيونِ جفونُها ... منْ أنها عَمَلَ السيُّوفِ عَوامِلُ2 وقوله: الطيبُ أنتَ إِذا أصابَكَ طِيبُه، ... والماءَ أنتَ إِذا اغْتَسلتَ الغاسِلُ وقوله: وفَاؤكُما كالرَّبعِ أَشْجَاهُ طاسِمُهْ ... بأن تُسعِدا، والدمعُ أشفاه ساجمه

_ 1 في دويانه. 2 الشعر الآتي كله في ديوانه.

وقوله أبي تمام: ثانيهِ في كبدِ السماءِ، ولم يكُنْ ... كاثْنَيْنِ ثان إذا هما في الغار1 وقوله: يَدي لِمَنْ شَاءَ رَهْنٌ لم يَذُقُ جُرَعاً ... مِنْ راحَتيْكَ دَرى ما الصَّابُ والعَسَلُ 2 وفي نظائِر ذلكَ ممَّا وَصفوه بفَساد النظْم، وعابوُه من جهةِ سوءِ التأليف، أَنَّ الفسادَ والخللَ كانا من أن تعاطى الشعر ما تَعاطاهُ من هذا الشأنِ على غيرِ الصَّواب، وصنَعَ في تقديم أو تأخيرٍ، أو حذف وإضمار، أو غير ذلك مما ليس له أن يَصْنعَه، وما لا يَسوغُ ولا يصحُّ على أُصولِ هذا العلم. وإِذا ثبت أن سبب فساد النظم واختلاله، وأن لا يُعملَ بقوانينِ هذا الشأنِ، ثبَتَ أنَّ سببَ صِحَّتِهِ أنْ يَعملَ عليها ثم إِذا ثبَتَ أنَّ مستَنْبَطَ صِحَّتِهِ وفسادِه من هذا العلمِ، ثبَتَ أنَّ الحكْم كذلك في مزيَّتِه والفضيلةِ التي تعرضُ فيه، وإِذا ثبتَ جميعُ ذلك، ثبتَ أنْ ليس هو شَيئاً غيرَ تَوخِّي معاني هذا العِلْمِ وأحكامِه فيما بينَ الكلم"3 والله الموفق للصواب. شواهد على محاسن "النظم": 78 - وإذا قد عرفْتَ ذلك، فاعمَدْ إِلى ما تَواصَفُوه بالحسن4،

_ 1 الشعر كله في ديوانه. 2 سياق الكلام: "فليسَ من أَحدٍ يُخالِفُ في نحوِ قولِ الفرزدق ... وي نظائر ذلك مما وصفوه .... أن الفساد والخلل". 3 من أول قوله: "وإذا ثبت جميع ذلك .... " إلى هنا، ساقط من "س". 4 في "ج": "تواصفه"، سهو ناسخ.

وتَشاهَدوا له بالفضْل، ثم جَعلوه كذلك من أجلِ "النظْم" خصوصاً، دونَ غيرهِ مما يُستحسَنُ له الشعرُ أو غيرُ الشعر، من معنى لطيفٍ أو حكمةٍ أو ادبٍ أو استعارةٍ أو تجنيسٍ أو غيرِ ذَلك مما لا يَدخلُ في النَّظم، وتأَمَّلهْ1، فإِذا رأيتَكَ قدِ ارتحْتَ واهتززْتَ واستحسنْتَ، فانظرْ إِلى حرَكات الأريحيَّةِ ممَّ كانتْ؟ وعندَ ماذا ظهرَتْ؟ فإِنك تَرى عِياناً أَنَّ الذي قلتُ لك كما قلتُ. اعمد إلى قول البحتري: بَلَوْنا ضَرائبَ مَنْ قد نَرى ... فَما إنْ رأَينا لِفتح ضَريبا هُوَ المرءُ أَبْدتْ له الحادِثاتُ ... عَزْما وَشِيكا ورأيا صَليبا تنقَّلَ في خْلُقَيْ سُؤْدُدٍ ... سَماحاً مُرجَّى وبَأساً مَهيبا فكالسَّيفِ إنْ جئتَه صارِخاً ... وكالبَحْر إِن جئتَه مُسْتثيباً2 فإِذا رأيتَها قد راقَتْك وكثرتْ عندك، ووَجدْتَ لها اهتزازاً في نفسك، فعُدْ فانظرْ في السَّببِ واستقْصِ في النَّظر، فإِنك تَعلمُ ضرورةً أنْ ليس إلاَّ أَنه قدَّم وأخَّر، وعرَّف ونَكَّر، وحذفَ وأضمرَ، وأعادَ وكرَّر، وتوخَّى على الجُملةِ وجْهاً منَ الوُجوهِ التي يَقْتضيها "علْمُ النحو"، فأصاب في ذلك كلِّه، ثم لَطُفَ مَوضعُ صَوابه، وأتى مأتًى يُوجِبُ الفضيلةَ. أفلا تَرى أنَّ أولَ شيءٍ يَروقُك منها قولُه: "هو المرء أبدت لها الحادثات" ثم قولُه: "تنقَّل في خُلْقَيْ سؤددِ" بتنكير "السؤدد" وإضافة "الخُلُقين".

_ 1 - السياق: "فاعمد إلى ما تواصفوه .... وتأمله". 2 في ديوانه، في الفتح بن خاقان، "الضرائب" جمع "ضريبة"، وهي الطيبعة والخلق. و"الضريب"، المثيل والشبيه. و "المستثيب" طالب الثواب.

إِليه ثم قولُه: "فكالسَّيف" وعطفُه بالفاء مع حَذفهِ المبتدأَ، لأنَّ المعنى لا محالةَ: فهو كالسَّيف ثم تكريرُهُ "الكاف" في قولِه: "وكالبحر" ثم أنْ قرَنَ إِلى كلَّ واحدٍ منَ التَّشبيهين شرطاً جوابُه فيه ثم أَنْ أخرجَ من كلَّ واحدٍ منَ الشَّرطين حالاً على مثالِ ما أخرَجَ مِن الآخرِ، وذلك قولهُ "صارخًا" هناك "ومستثيبًا" ههنا؟ لا تَرى حُسْناً تَنسِبُه إِلى النَّظمِ ليس سَببُهَ ما عددتُ، أو ما هو في حُكْم ما عددتُ، فاعْرفْ ذلك. 79 - وإِن أردتَ أَظْهرَ أمراً في هذا المعنى، فانظره إِلى قولِ إِبراهيمَ بنِ العَبّاس: فلَوْ إذْ نَبَا دَهرٌ، وأَنْكَرَ صاحبٌ، ... وسُلِّطَ أعداءٌ، وغابَ نَصيرُ تكونُ عنِ الأهوازِ داري بنَجْوةٍ، ... ولكنْ مَقَاديرٌ جَرَتْ وأُمورُ وإِنّي لأَرْجو بَعْدَ هذا محمَّداً ... لأِفضَلِ ما يُرجى أخٌ ووَزيرُ1 فإِنك تَرى ما ترى من الرَّوْنَقِ والطَّلاوة، ومن الحسن والحلاوة، ثم "إذْ نَبَا" على عاملهِ الذي هو "تكونُ"، وأَنْ لم يَقُلْ: فلو تكونُ عن الأهوازِ داري بنجوةِ إِذْ نبا دهرٌ ثم أَنْ قال: "تكونُ"، ولم يقُلْ "كان" ثم أَنْ أنكر الدهر ولم يقل: "إِذ نبا الدَّهرُ" = ثمَّ أنْ ساقَ هذا التنكيرَ في جميعِ ما أَتى به مِن بَعْد ثم أَنْ قال وأَنْكَرَ صاحبٌ ولم يقل وأنكرتُ صاحباً لا تَرى في البيتين الأَولين شيئاً غيرَ الذي عدَدْتُه لك تجعلُه حَسْناً في "النَّظم"، وكلُّه من معاني النَّحو كما ترى. وهكذا السبيلُ أبداً في كل حُسْنٍ ومَزيَّة رأيتَهما قد نُسبا إِلى "النظمِ"، وفَضْلٍ وشَرفٍ أُحِيلَ فيهما عليه.

_ 1 في ديوانه "الطرائف الأدبية": 132، بقوله للوزير محمد بن عبد الملك الزيات.

مزايا النظم بحسب المعاني والأغراض

مزايا النظم بحسب المعاني والأغراض: فصل: [في أن هذه المزايا في النظم، بحسب المعاني والأغراض التي تؤم] 1 بيان محاسن النظم: 80 - وإِذ قد عرفْتَ أنَّ مدارَ أمرِ "النظْم" على مَعاني النحو، وعلى الوجُوهِ والفُروق التي من شأْنها أَنْ تكونَ فيه، فاعلمْ أنَّ الفروقَ والوجوهَ كثيرةٌ ليسَ لها غايةٌ تقفُ عندها، ونهاية لا تجد لهال ازدياداً بَعْدها ثم اعْلَمْ أنْ ليستِ المزيةُ بواجبةٍ لها في أنْفُسِها، ومِنْ حيثُ هي على الإِطلاق، ولكنْ تعرضُ بسببِ المعاني والأغراضِ التي يُوضعُ لها الكلامُ، ثم بحَسَبِ موقعِ بعضِها من بعضٍ، واستعمالِ بعضِها معَ بعضٍ. تفسيرُ هذا: أنَّه ليسَ إِذا راقَكَ التنكيرُ في "سؤددٍ" من قولِه: "تنقَّلَ في خلقَيْ سؤددِ"2 وفي "دهرٌ" من قوله: "فلو إذْ نَبا دهرٌ"3، فإِنه يَجبُ أنْ يروقَكَ أبداً وفي كلَّ شيء ولا إِذا استحسنْتَ لفظَ ما لم يُسمَّ فاعلُه في قوله "وأنكرَ صاحبٌ"3، فإِنه ينبغي أَن لا تراهُ في مكان إلا أعطيته مثل استحسانك ههنا بل ليسَ مِنْ فضلٍ ومزيةٍ إلاَّ بحسَبِ الموضع، وبحَسبِ المعنى الذي تُريدُ والغرض الذي تؤُمُّ. وإِنّما سبيلُ هذه المعاني سبيلُ الأَصباغِ التي تُعملُ منها الصورُ والنقوشُ، فكما أَنك ترَى الرجلَ قد تَهدَّى في الأصباغ التي عَمِلَ منها الصورةَ والنّقشَ في ثوبِه الذي نسج، إلى ضرب من التخير

_ 1 هذا السطر كله، ليس في "ج"، ولا "س". 2 انظر الفقرة رقم: 78. 3 انظر الفقرة رقم: 79.

والتدبُّر في أَنفس الأَصباغِ وفي مواقِعها ومقاديرِها وكيفيّةِ مَزْجه لها وتَرتيبه إِياها، إِلى ما لم يتَهدَّ إِليه صاحبُه1، فجاء نَقشُه من أجْل ذلك أَعجَبَ، وصورتُه أغرَبَ، كذلك حالُ الشاعرِ والشاعرِ في توخِّيهما مَعاني النَّحو ووجوهِه التي علمت أنها محصول "النظم". صفة "النظْم": 81 - واعلمْ أنَّ مِن الكلام ما أنتَ تَرى المزيَّةَ في نَظْمه والحُسْنَ، كالآجزاءِ من الصِّبْغ تَتلاَحقُ وينْضَمُّ بعضُها إِلى بعض حتى تَكْثُرَ في العين، فأنتَ لذلك لا تُكْبِرُ شأْنَ صاحبهِ، ولا تَقْضِي له بالحِذْق والاستاذيَّة وسَعَةِ الذَّرْع وشدَّةِ المُنَّة2، حتى تَستوفي القطعةَ وتأتيَ على عدّةِ أبياتٍ. وذلك ما كانَ مِن الشعر في طبقةِ ما أنشدْتُكَ من أبياتِ البُحتريَّ3 ومنْهُ ما أَنْتَ تَرى الحُسْنَ يَهجُمُ عليك منه دفعةً، ويأتيكَ منه ما يملأُ العينَ ضَرْبَةً4 حتى تعرفَ منَ البيت الواحد مكانَ الرَّجُلِ منَ الفضْل، وموضعَه منَ الحذْق، وتشْهَدَ له بفضلِ المُنَّة وطولِ الباع، وحتى تَعْلَم، إنْ لم تَعْلَم القائلَ، أنَّه مِنْ قِبَل شاعرٍ فحلٍ5، وأنه خرجَ من تحتِ يَدٍ صَنَاعٍ، وذلك ما إذا أنْشَدْتَهُ وضعتَ فيه اليدَ على شيءٍ فقلتَ: هذا، هذا! وما كان كذلك فهو الشعر

_ 1 في "س"، وفي نسخة عند رشيد رضا: "إلى ما لم يكن يهتدي إليه". 2 "المنة"، القوة والضبط. 3 انظر رقم: 78. 4 في المطبوعة: "غرابة"، وفي المخطوطتين، ونسخة أخرى عند رشيد رضا، كما أثبت و "ضربة"، دفعة واحدة. 5 في المطبوعة: "من قبل".

الشاعرُ1، والكلامُ الفاخر، والنمطُ العالي الشريفُ والذي لا تَجده إلاَّ في شعْر الفحولِ البُزْلِ2، ثم المطبوعين الذين يلهمون القول إلهامًا. شواهد من محاسن النظم: 82 - ثم إِنّك تحتاجُ إِلى أن تستقريَ عدَّة قصائدَ، بل أن تَفْليَ ديواناً من الشعر3، حتى تَجْمعَ منه عدَّةَ أبياتٍ. وذلك ما كانَ مثْلَ قولِ الأَوّلِ، وتَمثَّل به أبو بكرِ الصّديقُ رضوانُ اللهِ عليه حين أَتاه كتاب خالد بالفتح في هزيمة الأعاجم: تَمنَّانا ليَلْقانا بقومٍ ... تخالُ بياضَ لأْمِهمُ السَرَابا4 فقد لاقيْتَنا فرأيْتَ حَرْباً ... عَواناً تمنعُ الشيخَ الشَرَابا5 أُنظرْ إِلى موضعِ "الفاء" في قولهِ: فقد لاقيتنا فرأيت حربًا

_ 1 في المطبوعة: "فهو شعر الشاعر"، وليس لشيء. 2 "البزل" جمع "بازل"، وهو البعير بنشق نابه ويبزل عند دخوله في السنة التاسعة، وتستحكم قوته. 3 مستعار للتفتيش والتنقيب، من "فلي الشعر"، بحثًا عن القمل الدقيق وصئبانه. 4 هذا من شعر الصحابي زياد بن حنظلة التميمي الذي بعثه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى قيس بن عاصم والزبرقان بن بدر ليتاونا على مسيلمة وطليحة والأسود، وشهد مع أبي بكر حرب مانعي الزكاة يوم الأبرق، فقال زياد: ويوم بالأبارق قد شهدنا ... على ذبيان يلتهب التهابًا أتيناهم بداهية نسوف ... مع الصديق إذا ترك العتابا والخبر كله في تاريخ الطبري 3: 222 - 225، وفيه البيتان اللذان ذكرتهما آنفًا. أما الذي أنشده عبد القاهر فقد أنسيت مكانه ومكان أبيات زياد بن حنظلة. 5 "اللأم"، جمع "لأمة"، وهي أداة الحرب من درع وبيضة وسلاح.

ومثل قول العباس بن الأحنف: قَالُوا خراسانُ أَقصى ما يُرادُ بِنا، ... ثُمَّ القفولُ، فقد جئْنا خُراسانا1 أنظرْ إِلى موضعِ "الفاء" و "ثم" قبلها. ومثلُ قولِ ابنِ الدمينة2: أبينى أفي يمنى يديك جعلتني ... فأقرح، أمْ صَيِّرْتِني في شِمالِكِ أَبِيتُ كأَنّي بين شِقَّيْنِ من عَصَا ... حِذارَ الرَّدى، أو خيفة من زيالِكِ تَعَالَلْتِ كيْ أشْجى، وما بكِ علَّةٌ ... تُريدينَ قَتْلِي قد ظفْرتِ بذلكِ3 انظر إِلى الفصْل والاستئنافِ في قوله: تُريدين قتلي، قد ظفرتِ بذلك ومثلُ قولِ أبي حَفْصٍ الشَّطرنجيَّ، وقاله على لسانِ عُلَيَّةَ أُختِ الرَّشيد، وقد كان الرَّشيدُ عتبَ عليها: لو كانَ يمنَعُ حسْنُ الفعْلِ صاحبَهُ ... مِنْ أنْ يكونَ له ذنبٌ إِلى أَحَدِ كانتْ عليه أبرى الناس كلهم ... من أن نكافا بسوء آخر الأبد ما أعجب الشيء نرجوه فتحرمه ... قد كنت أحسب أني ملأت يدي4

_ 1 في ديوانه: حين خرج مع الرشيد إلى خراسان، وفي هامش "ج" حاشية خفية الخط لم أحسن قراءتها. 2 في "ج"، "ابن دمينة"، غير معرف. 3 في ديوانه، و "الزيال"، الفراق، "زايله مزايلة وزيالا"، فارقه. 4 أبو حفص الشطرنجي، شاعر علية بنت المهدي، والشعر في الأغاني "الهيئة" 22: 48، وأسقط الشيخ رحمه الله بيتًا يقوم عليه معنى البيت الرابع، وهو: مالي إذا غبت لم أذكر بواحدة ... وإن سقمت فطال السقم لم أعد

انظرْ إِلى قولهِ: "قد كنتُ أَحسبُ" وإِلى مكان هذا الاستئناف. ومثل قول أبي داود: ولقَدْ أَغْتَدِي يُدافِعُ رُكْني ... أَحْوَذِيٌّ ذُو مَيْعَةٍ إضْريجُ سَلهبٌ شَرْجبٌ كأنَّ رِماحاً ... حَمَلتْهُ وَفِي السَّراةِ دُموجُ1 انظرْ إلى التنكيرِ في قولِه "كأن رماحًا". ومثل قول ابن البواب: أَتيتُكَ عائذاً بكَ مِنْـ ... ـكَ لمَّا ضاقَتِ الحِيَلُ وصَيَّرني هواكَ وبي ... لَحَيْني يُضْرَبُ المَثَلُ فإنْ سَلِمتْ لكُمْ نَفْسي ... فَما لاقَيْتُهُ جَلَلُ وإنْ قَتل الهوى رجُلاً ... فإِني ذلك الرَّجُلُ2 أُنُظرْ إِلى الإِشارةِ والتعريفِ في قولهِ: "فإِني ذلك الرَّجُل". ومثل قولِ عبدِ الصمد: مكْتَئِبٌ ذُو كَبدٍ حَرَّى ... تَبْكي عليهِ مُقلَةٌ عَبْرى يَرْفعُ يُمنْاهُ إِلى رَبِّه ... يَدْعو وفوقَ الكبد اليسرى3

_ 1 في ديوانه "دراسات في الأدب العربي": 299، يصف فرسًا، "أحوذي"، خفيف سريع العدو، "ذو ميعة"، ذو نشاط في حضره وعدوه، "إضريج"، جواد كثير العرق، وهو مما يحمد في الخيل. "سلهب"، طويل على وجه الأرض. و "شرجب"، طويل القوائم عاري أعالي العظام. و "السراة"، الظهر. و "دموج" ملاسة واجتماع وإحكام. 2 نسبه هنا لابن البواب، ونسبه في الأغاني 6: 168، 169 "الدار". لسليم بن سلام الكوفي المغني صاحب إبراهيم الموصلي، ونسبه المرزباني في نور القبس: 87 إلى اليزيدي "عبد الله بن يحيىبن المبارك". 3 هو "عبد الصمد بن المعذل"، والشعر في ديوانه المجموع، وهي في الزهرة 1: 24، منسوبًا إلى ماني، أربعة أبيات، هذان ثم بعدهما:

انظر إلى لفظة: "يدعو" وإِلى موقعها. ومثلُ قولِ جرير: لِمَن الديارُ ببُرقة الرَّوَحانِ ... إِذ لا نَبيعُ زمانَنا بزمانِ صَدعَ الغَواني إِذْ رَمَيْنَ، فؤادَهُ ... صَدْعَ الزجاجة مالذاك تَدانِ1 أُنظرْ إِلى قوله: "ما لذاك تدانِ"، وتأَمَّلْ حالَ هذا الاستئناف. ليس من بصيرٍ عارفٍ بجوهر الكلام، حسَّاس مُتفهِّم لسرِّ هذا الشأنِ، يُنْشِدُ أو يَقرأ هذه الأبياتَ، إلاَّ لم يلبثْ أَنْ يضَعَ يدَه في كلَّ بيتٍ منها على الموضِع الذي أشرتُ إليه، يَعْجَبُ ويُعَجِّب ويُكْبِر شأنَ المزيةِ فيه والفضْلَ.

_ يبقى إذا كلمته باهتًا ... ونفسه مما به سكرى تحسبه مستمعًا ناصتًا ... وقلبه في أمة أخرى 1 في ديوانه.

في النظم يتحد في الوضع ويدق فيه الصنع

في النظم يتحد في الوضع، ويدق فيه الصنع: فصل: "في النظم يتحد في الوضع، ويدق فيه الصنع" 1 شواهد أخرى على دقة النظم: 83 - واعلمْ أنَّ ممَّا هو أَصلٌ في أنَ يدِقَّ النظرُ، ويَغْمُضَ المَسْلكُ، في توخِّي المعاني التي عرفتَ: أنْ تتَّحِدَ أجزاءُ الكلامِ ويَدخلَ بعضُها في بعضٍ، ويشتدَّ ارتباطُ ثانٍ منها بأول، وأن تحتاج في الجِملة إِلى أن تضَعَها في النفس وضعًا واحد ًا، وأن يكونَ حالُكَ فيها حالَ الباني يَضعُ بيمينه ههنا في حالِ ما يَضَعُ بيَسارِه هناك. نَعم، وفي حالِ ما يُبْصر مكانَ ثالثٍ ورابعٍ يَضعُهما بَعْدَ الأَوَّلَيْن. وليس لِما شأْنهُ أن يجيءَ على هذا الوصفِ حَدٌّ يَحْصرُه، وقانونٌ يُحيطُ به، فإِنه يجيءُ على وجوهٍ شتَّى، وأنحاءَ مختلفةٍ. فمن ذلك أن تُزاوِجَ بينَ معنيينِ في الشرط والجزاء معاً، كقول البحتري: إِذا ما نَهى النّاهِي فلجَّ بيَ الهوى، ... أصاختْ إِلى الوَاشِي فلجَّ بها الهجرُ2 وقوله: إذا احتريت يومًا ففاضت دماؤها، ... تذكره القرى ففاضتْ دموعُها فهذا نوعٌ. ونوعٌ منه آخرُ، قول سليمان بن داود القضاعي:

_ 1 هذا السطر ليس في المخطوطتين "ج"، و "س". 2 الشعر والذي بعده في ديوانه.

فبينا المرءُ في علياءَ أَهْوى ... ومُنْحطِّ أُتيحَ له اعتلاء وبينا نعمة إذا حال بوس ... وبوس إذا تَعقَّبَه ثَراءُ1 ونوعُ ثالثٌ وهو ما كانَ كقول كثير: وإِنّي وتَهيامي بعَزّة بعدما ... تخلَّيْتُ مما بَيْنَنا وتخلَّتِ لَكالْمُرْتَجي ظلَّ الغمامةِ كلمَّا ... تَبَوَّأَ مِنها لِلْمَقيلِ اضْمَحلَّتِ2 وكقول البحتري: لعَمرُكَ إنَّا والزمانُ كما جَنَتْ ... على الأَضْعفِ الموهون عاديةُ الأَقْوى3 ومنه "التقسيمُ"، وخُصوصاً إِذا قسمت ثم جمعت، كقول حسان: قَومٌ إِذا حارَبوا ضَرُّوا عَدُوَّهُمُ ... أوْ حاوَلوا النفْعَ في أَشياعِهمْ نَفْعوا سَجِيَّةٌ تلك منهمْ غيرُ مُحْدَثةٍ ... إنَّ الخلائقَ، فاعْلمْ، شرُّها البِدَعُ4 ومن ذلك، وهو شيءٌ في غايةِ الحُسْن، قول القائل: لو أنَّ ما أنتمُ فيهِ يدَومُ لكُمْ ... ظنَنْتُ ما أنا فيهِ دائِماً أَبدا لكنْ رأيتُ اللَّيالي غيرَ تاركةٍ ... ما سَرَّ مِنْ حادثٍ أوْ ساءَ مُطَّرِدا فقد سكَنْتُ إِلى أني وأنكم ... سنستجد خلاف الحالتين غدا5

_ 1 لا أعرف الشاعر. 2 في ديوانه. 3 في ديوانه. في المطبوعة، وفي المخطوطتين "حنت"، وتحت الحاء حاء صغيرة دلالة على الإهمال، والصواب ما في الديوان. 4 في ديوانه، وفي "س": "تلك فيهم". 5 لم أعرف بعد قائله "على شهرة الشعر".

قوله: "سنستجد خلاف الحالتين غدًا"، جميع فيما قسَمَ لطيفٌ، وقد ازدادَ لُطفاً بحُسنِ ما بَناه عليه، ولُطْفِ ما توصَّل به إِليه من قولِه: "فقد سكنتُ إِلى أنَّي وأنكم". 84 - وإذْ قد عرفتَ هذا النمطَ منَ الكلام، وهو ما تتَّحِدُ أَجزاؤه حتى يُوضَعَ وَضْعاً واحداً، فاعلمْ أَنه النمطُ العالي والبابُ الأَعْظم، والذي لا تَرى سلطانَ المزيةِ يَعْظُم في شيءٍ كَعِظَمه فيه. وممَّا نَدرَ منه ولطُفَ مأْخذُه، ودقَّ نظرُ واضعِه، وجلَّى لكَ عن شأوٍ قد تحسر دونه العِتاقُ، وغايةٍ يعيى من قبلها المذاكي الفرح1 الأبيات المشهورة في تشبيه شيئين بشيئين، كبيت امرئ القيس: كأنَّ قُلوبَ الطيرِ رَطْباً ويابساً ... لَدى وَكْرِها العناب والحشف البالي2 وبيت الفرزدق: والشيبُ يَنْهضُ في الشَّبابِ كأنَّهُ ... ليَلٌ يَصِيحُ بجانبيه نهار3

_ 1 "العتاق" يعني الخيل العتاق، و "المذاكي" جمع "المذكى"، وهي من الخيل الجياد التي بغلت الذكاء، وهي سن القروح، و "القرح"، جمع "قارح"، وهو من الخيل ما بلغ خمس سنين، وتم تمامه. 2 في ديوانه، وفي المطبوعة: "بيت امرئ القيس" وفي "س": "كقول امرئ القيس"، والذي أثبته أرجح وأمضى في السياق. 3 في ديوانه، وفي هامش المخطوطة "ج"، "يصبح، أي يطرده من كلا جانبين [كقوله]: فدع عنك نهبًا صيح في حجراته "على هذا المعنى نفسه، فقال .... فلافت بصحراء ... " الكلام متآكل.

وبيت بشار: كأن مثار النقع فوق رءوسنا ... وأسيافنَا، لَيْلٌ تَهَاوى كواكِبُهْ1 ومِمّا أَتى في هذا الباب مأْتىً أَعْجَبَ مِمّا مَضَى كله، قوله زياد الأعجم: وإِنّا وما تُلقِي لَنا إنْ هجَوْتَنا ... لَكالبحر مَهْما يُلْقَ في البَحْرِ يَغْرقِ2 وإِنَّما كان أعجبَ، لأنَّ عمله أدقُّ، وطريقَه أغمضُ، ووجهَ المُشابكةِ فيه أغربُ3. 85 - واعلمْ أنَّ مِن الكلام ما أنتَ تَعلمُ إِذا تدبَّرْتَهُ أنْ لم يحتجْ واضعُه إِلى فكْرٍ ورويّةٍ حتى انتظَمَ، بل ترى سبيلَه في ضمِّ بعضِه إِلى بعضٍ، سبيلَ مَنْ عمدَ إِلى لآلٍ فخرَطَها في سلك، لا يبغي أكثر من يَمْنعَها التفرُّقَ5، وكمَنْ نَضَدَ أشياءَ بعضُها على بعضٍ، لا يُريد في نَضَده ذلكَ أن تجيء له منه

_ 1 في ديوانه. 2 الأغاني 15: 392 "الدار"، وذلك حين أخبره الفرزدق أنه هم أن يهجو قومع عبد القيس، فاسمهله زياد وقال له: كما أنت، حتى أسمعك شيئًا، فقال: وما تركالهاجون لي إن هجوته ... مصحًا أراه في أديم الفرزدق وإنا وما تهدي لنا إن هجوتنا ... ....................... فقال له الفرزدق: حسبك، هلم نتتارك. قال زياد: ذاك إليك! 3 في المطبوعة، "ووجه المشابهة"، وليست بشيء. 4 "له" ساقطة في المطبوعة. 5 في المطبوعة: "لا ينبغي"، وهو خطأ ظاهر.

هيئةٌ أو صورةٌ، بل ليس إلاَّ أنْ تكونَ مجموعةً في رأْي العينِ. وذلك إِذا كان معناك، معنى لا تحتاج أن تَصْنَعَ فيه شيئاً غيرَ أنْ تَعْطِفَ لفَظاً عَلَى مثلهِ، كقولِ الجاحظ: "جنّبَكَ اللهُ الشبهةَ، وعصَمَكَ منَ الحَيْرة، وجعَلَ بينكَ وبينَ المعرفةِ نَسَباً، وبينَ الصِّدْق سَبَباً، وحبَّبَ إِليك التثبُّتَ، وزَيَّن في عينكَ الإنصافَ، وأذاقَكَ حلاوةَ التَّقوى، وأشْعَرَ قلبَكَ عزَّ الحقِ، وأوْدَعَ صدْرَكَ برْد اليقينِ، وطردَ عنك ذُلَّ اليأسِ، وعرَّفَكَ ما في الباطلِ منَ الذَّلَّة، وما في الجهل من القِلَّة"1. وكقولِ بعضِهم: "للهِ دَرُّ خطيبٍ قامَ عندكَ، يا أميرَ المؤمنين، ما أفصحَ لسانَه، وأحسَنَ بيانَه، وأَمضى جَنانَه، وأَبلَّ ريقَه، وأسهلَ طريقَة". ومثلِ قولِ النابغةِ في الثّناءِ المسجوع: "أيفاخِرُك الملكُ اللخميُّ، فواللهِ لقَفاكَ خيرٌ من وجَهْهِ، ولَشِمالُكَ خيرٌ من يَمينه، ولأَخْمَصُكَ خيرٌ من رأْسه، ولَخَطَؤكَ خيرٌ من صَوابه، ولَعِيُّك خيرٌ من كلامه، ولَخَدَمُكَ خيرٌ من قَوْمه". وكقولِ بعضِ البلغاء في وصف اللسانِ: "اللسانُ أداةٌ يظَهر بها حُسْنُ البيان، وظاهرٌ يُخْبِر عنِ الضمير، وشاهدٌ يُنبئكَ عن غائبٍ، وحاكِم يُفْصَل بهِ الخِطابُ، وواعظٌ يَنْهى عن القَبيحِ، ومُزَيِّنٌ يَدعو إِلى الحُسْن، وزارعٌ يَحْرثُ المودَّة، وحاصدٌ يحصِدُ الضَّغينة، ومُلْهٍ يُونِق الأسماع".

_ 1 مقدمة كتاب الحيوان للجاحظ 1: 3.

فما كانَ من هذا وشَبَهه لم يَجِبْ به فضْلٌ إِذا وجَبَ، إلاَّ بمعناهُ أو بمُتون أَلفاظِه، دونَ نَظْمه وتأليفه، وذلك لأنه لا فضيلةَ حتى تَرى في الأمرِ مَصْنعاً، وحتى تَجدَ إِلى التخيُّر سبيلاً، وحتى تكونَ قد استدركْتَ صَواباً. 86 - فإِن قلْتَ: أفلَيْسَ هو كلاماً قد اطَّرد على الصَّواب، وسَلِم من العَيْب؟ أَفَما يكونُ في كثرةِ الصوابِ فضيلةٌ؟ قيلَ: أَمّا والصوابُ كما تَرى فَلاَ. لأنَّا لَسْنا في ذكْر تقويمِ الِلسان، والتحرُّز منَ اللحن وزيغ الإعراب، فتعتد بمثلِ هذا الصَّواب. وإِنما نحن في أمورٍ تُدرَك بالفِكَر اللطيفةِ، ودقائقَ يُوصلُ إِليها بثاقِب الفهم، فليس درك صواب دركًا يما نحنُ فيه حتى يَشْرُفَ موضعُه، ويَصعُبَ الوصولُ إِليه وكذلك لا يكونُ تَرْكُ خطأٍ تَرْكاً حتى يُحتاجَ في التحفُّظِ منه إِلى لُطْف نظَرٍ، وفَضْل رويةٍ، وقوةِ ذهنٍ، وشدةِ تيقظٍ. وهذا بابٌ يَنبغي أَن تُراعِيَه وأن تُعْنى به، حتى إِذا وازنْتَ بينَ كلامٍ وكلامٍ ودريتَ كيفَ تَصْنعُ، فضمَمْتَ إِلى كلَّ شَكْلٍ شكْلَه، وقابلْته بما هو نظيرٌ له، وميَّزْتَ ما الصَّنعةُ منه لفي لفظه، مما هو منه في نظمه. المزية في اللفظ والمزية في النظم كيف تشتبه: 87 - واعلمْ أنَّ هذا أعني الفرقَ بينَ أن تكونَ المزيةُ في اللفظِ، وبينَ أن تكونَ في النظم بابٌ يَكْثُر فيه الغَلطُ، فلا تزَالُ تَرى مُستحسِناً قد أخطأَ بالاستحسانِ موضعَه، فينَحَلُ اللفظَ ما ليسَ له، ولا تزالُ تَرى الشُّبهةَ قد دخلتْ عليك في الكلامِ قد حَسُنَ من لفظِه ونظمهِ، فظننْتَ أنَّ حُسْنه ذلك كلَّه لِلَّفظِ منه دونَ النظْم. 88 - مثالُ ذلك، أن تنظرَ إِلى قولِ ابن المعتز: وإني على إشفاق عيني من العِدى ... لتجمح مني نظرة ثم أطرق1

_ 1 في ديوانه، "باب الغزل".

فترى أنَّ هذه الطُلاَوةَ وهذا الظَّرْفَ، إِنَّما هو لأنْ جعلَ النظرَ "يجمحُ" وليس هو لذلك، بل لأَنْ قالَ في أول البيت "وإنِّي" حتى دخلَ اللامُ في قولِه "لتجمحُ" ثم قولُه: "مني" ثم لأنْ قالَ "نظرةٌ" ولم يقل "النَّظرُ" مثلاً ثم لمكانِ "ثمَّ" في قولِه: "ثم أُطرق" وللطيفةِ أخرى نصرتْ هذه اللطائفَ، وهي اعتراضُهُ بينَ اسم "إنَّ" وخبرها بقوله: "على إشفاق عيني من العدي". 89 - وإِنْ أردتَ أعجبَ من ذلك فيما ذكرتُ لك، فانظرْ إِلى قولِه وقد تقدَّم إِنشادُه قَبْلُ: سالتْ عَلَيْهِ شِعابُ الحيِّ حينَ دَعا ... أَنْصَارَهُ بوجوهٍ كالدنانيرِ1 فإنَّكَ تَرى هذه الاستعارة، على لُطْفها وغَرابتها، إِنَّما تَمَّ لها الحسْنُ وانتهى إِلى حيثُ انتهى، بما تُوخِّيَ في وضْع الكلامِ من التقديمِ والتأخيرِ، وتَجدُها قد مَلُحَتْ ولَطُفتْ بمعاونةِ ذلك ومؤازرتِه لها. وإن شكَكْتَ فاعمدْ إِلى الجارَّيْن والظَّرْف، فأَزِلْ كلآ منها عن مكانِه الذي وضَعَه الشاعرُ فيه، فقلْ: "سالتْ شعابُ الحيَّ بوجوهٍ كالدَّنانير عليه حين دعا أنصارَهُ"، ثم انظرْ كيفَ يكونُ الحالُ، وكيف يَذهبُ الحسْنُ والحلاوةُ؟ وكيف تَعْدَم أرْيَحِيَّتَكَ التي كانت؟ وكيف تَذْهب النشوةُ التي كُنتَ تجدُها؟ 90 - وجُملُة الأمر أن ههنا كلاماً حُسْنُه لِلَّفظ دونَ النظمِ، وآخرَ حُسْنُه للنَّظمِ دونَ اللفظِ، وثالثاً قد أتاهُ الحسنُ من الجهتين2، ووجبت له

_ 1 مضى في رقم: 68، والذي هنا يوهم أن الشعر لابن المعتز. 2 في المطبوعة "قرى الحسن" جمعه، والذي أثبته هو من "س"، ونسخة عند رشيد رضا، وفي "ج": "قد الحسن" أسقط "أتاه".

المزيةُ بكلا الأمرينِ. والإِشكالُ في هذا الثالثِ، وهو الذي لا تَزالُ تَرى الغلَطَ قد عارضَك فيه، وتَراكَ قَد حِفْتَ فيه على النَّظم1، فتركْتَه وطمحْتَ ببصرِكَ إِلى اللفظِ، وقدَّرْتَ في حُسْنٍ كان به وباللفظِ، أَنه لِلَّفظِ خاصَّة. وهذا هوَ الذي أردتُ حين قلتُ لك: "إنَّ في الاستعارةِ ما لا يُمكنُ بَيانُه إلاَّ مِنْ بَعد العلمِ بالنظْم والوقوفِ على حقيقته". مثال على ما تقع الشبهة فيه بين اللفظ والنظم: 91 - ومن دقيقِ ذلك وخَفِيِّه، أنكَ ترى الناسَ إِذا ذَكَروا قولَه تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4]، لم يَزيدوا فيه على ذِكْرِ الاستعارةِ، ولم ينسبوا الشرف لا إِليها، ولم يَرَوا لِلمزيَّة مُوجِباً سِواها، هكذا ترى الأمر في ظ اهر كلامِهمْ. وليس الأَمرُ على ذلك، ولا هذا الشَّرفُ العظيمُ، ولا هذه المزيةُ الجليلةُ، وهذه الرَّوعةُ التي تدخلُ على النُّفوس عند هذا الكلامِ لمجرَّدِ الاستعارة، ولكن لأنْ سُلِك بالكلام طريقُ ما يسندُ الفعْلُ فيه إِلى الشيءِ2، وهو لِما هو من سَبَبِهِ، فيُرفعُ به ما يُسند إِليه، ويُؤتى بالذي الفعلُ له في المعنى منصوباً بَعده، مبيناً أنَّ ذلك الإِسنادَ وتلك النسبةَ إِلى ذلك الأولِ، إِنَّما كانا من أجلِ هذا الثاني، ولما بينَه وبينَه منَ الاتَّصالِ والملابسةِ، كقولهم: "طابَ زيدٌ نفساً"، و "قر عمرو عينًا"، و "تصبب عرقًا"، و "كرم أصلًا"، و "حسن وجْهاً" وأشباهِ ذلك مما تَجِد الفعلَ فيه منقولاً عن الشيء إِلى ما ذلك الشيءُ من سببهِ. وذلك أَنَّا نَعلم أَنَّ "اشتعل" للشيبِ في المعنى، وإنْ كانَ هو للرأسِ في اللفظ، كما أنَّ "طاب" للنفس، و "قر" للعين، و "تصبب" للعرق، وإن

_ 1 "حاف عليه"، جار عليه وظلمه. 2 في المطبوعة: "لأن يسلك"، وهي لا شيء.

أُسِند إِلى ما أُسنِد إِليه. يُبَيِّنُ أنَّ الشرَفَ كان لأَن سُلِكَ فيه هَذا المسلكُ، وتُوُخَّيَ به هذا المذهبُ أنْ تَدَع هذا الطريقَ فيه1، وتأخذَ اللفظَ فتُسنِده إِلى الشَّيب صريحاً فتقول: "اشتعلَ شَيبُ الرأسِ"، أو "الشيبُ في الرأس"، ثم تنظر هل تَجدُ ذلك الحُسْنَ وتلك الفخامَة؟ وهل تَرى الروعةَ التي كنتَ تَراها؟ 92 - فإِن قلْتَ: فما السببُ في أَنْ كان "اشتعلَ" إِذا استُعيرَ للشَّيْب على هَذا الوجهِ، كان لهُ الفضْلُ؟ ولمَ بانَ بالمزيَّةِ منَ الوَجهِ الآخرِ هذه البَيْنُونَة؟ فإنَّ السببَ أَنَّه يُفيدُ، معَ لمَعانِ الشيبِ في الرأسِ الذي هو أَصْلُ المعنى، الشُّمولَ2، وأَنَّه قد شاعَ فيه، وأَخذَه من نواحيهِ، وأنه قد استغرقه وعمَّ جُمْلَتَه3، حتى لم يَبْقَ من السَّوادِ شيءٌ، أوْ لم يبْقَ منه إلاَّ ما لا يُعْتَدُّ به. وهذا ما لا يكونُ إِذا قيلَ: "اشتعلَ شَيبُ الرأسِ، أو الشيبُ في الرأس"، بل لا يُوجِبُ اللفظُ حينئذٍ أكثرَ مِنْ ظهورهِ فيه على الجُملة. وَوِزانُ هذا أنك تقولُ: "اشتعلَ البيْتُ ناراً"، فيكونُ المعنى: أنَّ النارَ قد وقَعَتْ فيه وُقوع الشُّمولِ، وأنَّها قد استولَتْ عليه وأخذَتْ في طرفَيْه ووَسَطِه. وتقولُ: "اشتعلتِ النارُ في البيت"، فلا يُفيد ذلك، بل لا يُقْتضَى أكثرُ من وقوعِها فيه، وإِصابتها جانباً منه. فأمَّا الشُّمول. وأنْ تكونَ قد استولتَ على البيت وابتزته، فلا يعقل من اللفظ البتة.

_ 1 "أن تدع" فاعل "يبين" أي يبين ذلك أن تترك هذا الطريق. 2 السياق: ..... أنه يفيد .... الشمول". 3 في المطبوعة: "استقر به"، وفي نسخة عند رشيد رضا: "استعر فهي"، وكلاهما لا شيء.

93 - ونَظيرُ هذا في التَّنزيلِ قولُه عزَّ وجَلَّ: {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا} [القمر: 12]، "التفجيرُ" للعيون في المعنى، وأَوْقَعُ على الأرضِ في اللفظ، كما أُسنِد هناك الاشتعالُ إِلى الرأس، وقد حصَلَ بذلك منْ معنى الشُّمول ههنا، مثْلُ الذي حصلَ هناك. وذلك أَنَّه قد أَفادَ أنَّ الأرضَ قد كانت صارتْ عُيوناً كلُّها، وأنَّ الماءَ قد كان يَفُور مِنْ كلَّ مكانٍ منها. ولو أُجريَ اللفظُ على ظاهرهِ فقيلَ: "وفجَّرْنا عيونَ الأرضِ، أو العيونَ في الأرض"، لم يُفِد ذلك ولم يَدُلَّ عليه، ولَكانَ المفهومُ منه أنَّ الماءَ قد كان فارَ من عيونٍ متفرقةٍ في الأرض، وَتَبجَّس مِن أماكنَ منها. واعلمْ أَنَّ في الآيةِ الأُولى شيئاً آخرَ من جنْس "النظّم"، وهو تَعريفُ الرأسِ" بالأَلِف واللاَّم، وإفادةُ معنى الإضافةِ من غَيْر إضافةٍ، وهو أَحدُ ما أوجبَ المزيَّةَ. ولو قيل: "واشتعلَ رأسي"، فصُرَّحَ بالإضافة، لذهب بعض الحسن، فاعرفه. مثال آخر لذلك في الاستعارة: 94 - وأنا أكتبُ لك شيئاً مما سَبيلُ "الاستعارةِ" فِيه هذا السبيلُ، ليَستحْكِمَ هذا البابُ في نفسِك، ولِتأْنَسَ به. فمِن عجيبِ ذلك قولُ بعض الأعراب: اللَّيْلُ داجٍ كَنَفا جِلْبابِهِ ... والبَيْنُ مَحْجورٌ على غُرَابهْ1 ليس كلُّ ما تَرى منَ الملاحَةِ لأنْ جعلَ لِلَّيل جلباباً، وحَجَر على الغرابِ، ولكنْ في أنْ وضعَ الكلامَ الذي تَرى، فَجعلَ "الليلَ" مبتدأ، وجعل "داجٍ" خبراً له وفعلاً لما بعده وهو "الكنفانُ"، وأضافَ "الجلبابَ" إلى

_ 1 في "ج"، "والليل محجور"، كأنه سهور من الناسخ.

ضميرِ "الليل"، ولأنْ جعلَ كذلك "البينُ" مبتدأ، وأجرى محْجوراً خبراً عنه1، وأنْ أخرجَ اللفظَ عَلَى "مفعولٍ". يُبيِّنُ ذلك أَنَّكَ لو قلْتَ: "وغرابُ البينِ محجورٌ عليه، أو: قد حُجرَ على غُرابِ البين"، لم تجد لههذه المَلاحة. وكذلك لو قلتَ: "قد دَجا كَنَفَا جلبابِ اللَّيل"، لم يكنْ شيئاً. 95 - ومن النَّادِر فيه قول المتنبي: غَصَبَ الدهرَ والملوكَ عَلَيْها ... فَبنَاها في وَجْنة الدَّهرِ خَالا2 قد تَرى في أَول الأمرِ أنَّ حُسْنه أَجْمَع في أنْ جَعلَ للدَّهرِ "وَجْنةً"، وجَعَلَ البُنيَّة "خالاً" في الوجنة3، وليسَ الأَمرُ على ذلك، فإنَّ مَوْضعَ الأُعجوبةِ في أنْ أَخْرج الكلام مخْرجَهُ الذي تَرى، وأَنْ أَتَى "بالخالِ" منصوباً على الحال من قوله "فَبنَاها". أفَلاَ ترى أَنك لو قُلْتَ: "وهي خالٌ في وَجْنة الدَّهر"، لوجدْتَ الصورة غيرَ ما تَرى؟ وشبيهٌ بذلك أنَّ ابنَ المعتزَّ قال: يا مِسْكةَ العطَّارِ ... وخالَ وَجْهِ النهارِ4 وكانت المَلاحَةُ في الإِضافةِ بعد الإضافة، لا في استعارةِ لفظةِ "الخالِ" إذْ معلومٌ أَنه لو قالَ: "يا خالا في وجهِ النهار" أو "يا مَنْ هو خالٌ في وجْه النهار"، لم يكن شيئًا.

_ 1 في "ج": "خبرًا عليه". 2 في ديوانه. 3 "البنية"، البناء، يعني قلعة الحدث التي بناها سيف الدولة، وهو يقاتل الروم في سنة 344 هـ. 4 في ديوانه، "باب الأوصاف والذم والملح"، بقوله لجارية سوداء.

ما يقال في تتابع الإضافات: 96 - ومِنْ شأنِ هذا الضربِ أن يَدْخلَه الاستكراهُ، قال الصاحبُ: "إياكَ والإضافاتِ المُتَداخلةَ1، فإنَّ ذلك لا يَحْسُن"، وذكَر أَنَّه يُستعملُ في الهجاء كقول القائل: يا عليُّ بنُ حمزةَ بنِ عمارَةْ ... أنتَ والله ثلجة في خياره2 ولا شبهة فيثقل ذلك في الأَكثر، ولكنه إِذا سَلِمَ منَ الاستكراهِ لطُفَ ومْلحَ. ومما حَسُنَ فيه قولُ ابن المعتز أيضًا؟ وظَلَّتْ تُديرُ الراحَ أَيْدي جآذرٍ ... عتاقِ دَنانيرِ الوجوهِ مِلاحِ3 ومما جاءَ منه حَسَناً جميلاً قول الخالدي في صفة غلام له: ويَعرِفُ الشِّعْرَ مثْلَ مَعْرِفَتي ... وهْو عَلَى أنْ يزيد مجتهد وصيرفي القريض، وزان دينار المـ ... ـعاني الدقاق، منتقد4 ومنه قول أبي تمام: خُذْها ابْنَةَ الفكْرِ المهذَّب في الدُّجى ... والليلُ أَسْوَدُ رُقْعَةِ الجِلْبابِ5 97 - ومما أكثرُ الحُسْنِ فيه بسبب النظم، قول المتنبى:

_ 1 في المطبوعة وحدها: "المتداخلة". 2 "علي بن حمزة بن عمارة الأصفهاني"، له ترجمة في معجم الأدباء لياقوت. 3 في ديوانه، "باب الشراب"، وفي "ج": "يدير الكأس". 4 ديوان: الخالدين: 122، من شعر له في غلامه "رشأ"، و "الخالدي" هو أحد الأخوين: "أبو عثمان سعيد بن هاشم الخالدي". 5 في ديوانه.

وقَيَّدتُ نَفْسي في ذَرَاك مَحَبةً ... ومَنْ وَجَدَ الإِحسانَ قَيْداً تَقيَّدا1 الاستعارةُ في أصْلها مُبْتذلة معروفةٌ، فإنَّك ترَى العاميَّ يقولُ للرجل يَكْثُر إحسانُه إِليه وَبرُّهُ له، حتى يألَفَه ويختارَ المقامَ عنده: "قد قيَّدني بكثرةِ إِحسانِه إليَّ، وجميلِ فِعْله معي، حتى صارتْ نَفسي لا تُطاوِعُني على الخروجِ من عنْدِه"، وإِنّما كان ما تَرى منَ الحُسْن، بالمَسْلك الذي سلَكَ في النظم والتأليف.

التقديم والتأخير

التقديم والتأخير: فصل 1: "القول في التقديم والتأخير" 98 - هو بابٌ كثيرُ الفوائد، جَمُّ المَحاسن، واسعُ التصرُّف، بعيدُ الغاية، لا يَزالُ يَفْتَرُّ لك عن بديعةٍ، ويُفْضي بكَ إِلى لَطيفة، ولا تَزال تَرى شِعراً يروقُك مسْمَعُه، ويَلْطُف لديك موقعُه، ثم تنظرُ فتجدُ سببَ أَنْ راقكَ ولطفَ عندك، أن قُدِّم فيه شيءٌ، وحُوِّل اللفظُ عن مكانٍ إلى مكان. 99 - واعلمْ أَنَّ تقديمَ الشيء على وجهينِ2: تقديمٌ يُقال إِنه على نيَّةِ التأخير، وذلك في كلَّ شيءٍ أًَقرَرْتَه معَ التقديمِ على حُكْمِه الذي كان عليه، وفي جنسهِ الذي كانَ فيه، كخبرِ المبتدأ إِذا قدَّمْتَه على المبتدأ، والمفعولِ إِذا قدَّمتَه على الفاعل كقولك: "منطلق زيد" و "ضرب عمرًا زيد"، معلوم أن "منطلق" و "عمرًا" لم يَخْرجا بالتقديم عمَّا كانا عليه، من كونِ هذا خبرَ مبتدأ ومرفوعاً بذلك، وكونَ ذلك مفعولاً ومنْصوباً من أجله كما يكونُ إِذا أَخَّرْتَ. وتقديمٌ لا على نيَّةِ التأخيرِ، ولكنْ على أنْ تَنقُلَ الشيءَ عن حُكْمٍ إِلى حكمٍ، وتجعلَ له بابا غيرَ بابهِ3، وإِعراباً غيرَ إِعرابهِ، وذلك أَن تجيءَ إلى اسمين

_ 1 "فصل"، ليس من المخطوطتين. 2 في "س": "تقديم الشيء على الشيء". 3 في المطبوعة: "وتجعله بابًا".

يُحتملُ كلُّ واحدٍ منهما أَنْ يكونَ مبتدأً ويكونُ الآخرُ خبراً له، فتُقَدِّمُ تارةً هذا على ذاك، وأخرى ذاكَ على هذا. ومثالُه ما تَصْنعه بزيدٍ والمنطلقِ، حيث تقولُ مرة: "زيدٌ المنطلقُ"، وأُخرى، "المنطلقُ زيدٌ"، فأنتَ في هذا لم تُقدِّمْ "المنطلقَ" على أن يكونَ مَتروكاً على حُكْمه الذي كان عليه معَ التأخير، فيكونَ خبرَ مبتدأ كما كانَ، بل على أَنْ تَنْقلَه عن كَونه خبراً إِلى كونهِ مبتدأً، وكذلك لم تؤخِّر "زيداً" على أن يكون مُبتدأ كما كان، بل على أن تُخرجَه عن كونِه مبتدأً إلى كونِه خبراً. وأَظهرُ من هذا قولُنا: "ضَربتُ زيداً" و "زيد ضربتُه"، لم تُقدِّم "زيداً" على أن يكون مفعولاً منصوباً بالفعل كما كان، ولكن على أن تَرْفَعه بالابتداءِ، وتشغلَ الفعلَ بضميرِه، وتجعلَه في موضع الخبر له. وإذا قد عرفتَ هذا التقسيمَ، فإِني أُتبعه بجملةٍ من الشرح. التقديم للعناية والاهتمام: 100 - واعلمْ أَنَّا لم نَجدْهُم اعْتَمدوا فيه شيئاً يَجري مَجرى الأَصْل، غيرَ العنايةِ والاهتمامِ. قال صاحبُ الكتاب، وهو يَذكُر الفاعلَ والمفعولَ1: "كأنَّهم يقدمون الذي بيانه أهم لهم، وهم ببيانه أَعْنى، وإِن كانا جميعاً يُهمَّانِهم ويَعْنيانِهم" ولم يَذْكر في ذلك مثالاً. وقال النحويون: إنَّ معنى ذلك أَنه قد يكونُ من أغراضُ الناس في فعلٍ ما أنْ يَقَع بإنسانٍ بعينهِ، ولا يُبالون مَنْ أَوْقَعَه، كَمِثل ما يُعلمُ مِنْ حالِهم في حالِ الخارجيَّ يَخْرُج فيعيثُ ويُفْسِد، ويَكْثُرُ به الأذى، أَنهم يُريدون قتله،

_ 1 فيه هامش "ج": "يعني به شيخ النحو سيبويه"، والنص في الكتاب 1: 14، 15، وفي المطبوعة و "ج"، "بشأنه أعني"، وأثبت ما في سيبويه، وفي "س".

ولا يُبالون مَنْ كانَ القتلُ منه، ولا يَعْنيهم منه شيءٌ. فإِذا قُتل، وأرادَ مُريدٌ الإِخبارَ بذلك، فإِنه يُقدَّم ذكرَ الخارجيَّ فيقول: "قَتَلَ الخارجيَّ زيدٌ"، ولا يقولْ: "قتلَ زيدٌ الخارجيَّ"، لأنه يعلم أنْ ليس للناسِ في أنْ يعلموا أنَّ القاتلَ له "زيدٌ" جَدْوى وفائدةٌ، فيَعْنيهم ذكْرُه ويهمُّهُمْ ويتَّصلُ بمسَّرتِهم ويَعْلم مِن حالِهم أَنَّ الذي هم متوقِّعون له ومُتَطلّعون إِليه متى يكونُ، وقوعُ القتلِ بِالخارجي المُفْسِد، وأَنهم قد كفُّوا شرَّه وتخلَّصوا منه. ثم قالوا: فإِن كان رجلٌ ليس له بأسٌ ولا يقَدَّرُ فيه أنه يَقتُلُ، فقَتلَ رجلاً، وأراد المخبر أن يخبر بذلك، فإن يُقدِّم ذكرَ القاتلِ فيقول: "قتلَ زيدٌ رجلاً"، ذاك لأَنَّ الذي يَعْنيه ويَعْني الناسَ مِن شأنِ هذا القتلِ، طرافَتُه وموضعُ الندْرةِ فيه، وبُعدُه كان منَ الظنِّ. ومعلومٌ أَنه لم يكنْ نادراً وبعيداً من حيثُ كان واقعاً بالذي وَقَع به، ولكنْ من حيثُ كان واقعاً مِنَ الذي وقعَ منه. فهذا جيِّد بالغٌ، إِلاّ أن الشأنَ في أَنه يَنبغي أن يُعرَفَ في كلَّ شيءٍ قُدِّمَ في موضعٍ من الكلامِ مثلُ هذا المعنى، ويُفسَّر وجهُ العنايةِ فيه هذا التفسير. لا يكفي أن يقال قدم للعناية: 101 - وقد وَقعَ في ظنونِ الناسِ أَنَّه يكفي أنْ يقالَ: "إِنه قُدِّم للعناية، ولأنَّ ذكْرَه أَهمُّ"، مِنْ غير أن يُذْكَر، مِنْ أين كانت تلك العنايةُ؟ وبمَ كانَ أهمَّ؟ 1 ولِتخيُّلهِم ذلك، قد صَغُر أمرُ "التقديمِ والتأخيرِ" في نفوسهم، وهَوَّنوا الخَطْبَ فيه، حتى إِنك لتَرى أكثرَهم يَرى تَتبُّعَه والنظرَ فيه ضرباً من التكلُّف. ولم ترَ ظنّاً أَزرى على صاحبهِ من هذا وشبهه2.

_ 1 في "س" والمطبوعة: "ولم كان". 2 في "س": "أردى على صاحبه".

مواضع التقديم والتأخير:

مواضع التقديم والتأخير: 102 - وكذلك صَنعوا في سائرِ الأبواب، فجعلوا لا ينظرون في "الحذف والتكرار" و "الإظهار والإضمار"، و "الفصل والوصلِ"، ولا في نَوْع من أنواعِ الفُروق والوجوه إِلا نَظَرُك فيما غيرُه أهمُّ لك، بل فيما إِنْ لم تعلَمْه لم يَضُرَّك. لا جَرَمَ أَنَّ ذلك قد ذَهَبَ بهم عن معرفةِ البلاغةِ، ومنَعَهم أن يَعرفوا مقاديَرها، وصد بأوجههم عن الجهةِ التي هي فيها1، والشِّقِّ الذي يَحْويها. والمَداخِلُ التي تَدخُلُ منها الآفةُ على الناس في شأنِ العلم، ويَبْلُغ الشيطانُ مُرادهَ منهم في الصدِّ عن طَلبهِ وإِحراز فضيلتهِ كثيرة، وهذه من أعجبها، وإن وجَدْتَ متعجِّباً. وليتَ شِعْري، إِن كانت هذه أموراً هيِّنة، وكان المدى فيها قريباً والجَدى يسيراً2، من أينَ كانَ نَظْمٌ أشرَفَ من نَظمٍ؟ وبِمَ عَظُمَ التفاوتُ، واشتدَّ التباينُ، وتَرقَّى الأمرُ إِلى الإِعجازِ، وإِلى أن يَقْهر أعناقَ الجبابرة؟ أو ههنا أمورٌ أُخَرٌ نُحيلُ في المزيّةِ عليها، ونَجْعلُ الإعجازُ كان بها، فتكونَ تلكَ الحوالةُ لنا عذْراً في تركِ النَّظرِ في هذهِ التي معنا، والإعراضِ عنها، وقلَّة المبالاةِ بها؟ أَوَ ليس هذا التهاونُ، إنْ نَظَر العاقلُ، خِيانةً منه لِعقله ودينهِ، ودخُولاً فيما يُزري بذي الخَطَر، ويغضُّ من قَدْر ذَوي القَدر؟ وهل يكون أضعفُ رأياً، وأبعدُ من حُسْن التدبُّر، منك إِذا أهمَّك أن تعرفَ الوجوهَ في "أأنذرتهم"3، والإِمالة في "رأى القمر" وتعرفَ "الصَّرَاطَ"

_ 1 في المطبوعة: "وصد أو جههم". 2 "الجدى"، النفع. 3 في المطبوعة: "إذا همك"، وفي "س": "إذا أهمك".

و "الزراط"1، وأشباهَ ذلك مما لا يَعْدُو عِلْمُك فيه اللفظَ وجَرْسَ الصوت، ولا يَمنعُكَ إنْ لم تَعلمْه بلاغةً2، ولا يَدْفعُكَ عن بيانٍ، ولا يُدخِلُ عليك شَكّاً، ولا يُغْلق دونَكَ بابَ معرفةٍ، ولا يُفْضى بك إِلى تحريفٍ وتبديلٍ، وإِلى الخطإ في تأويلٍ، وإِلى ما يَعظُمُ فيه المَعابُ عليكَ، ويُطيلُ لسانَ القادحِ فيك3 ولا يَعْنيكَ ولا يَهُمُّك أنْ تَعرف ما إِذا جهلْتَه عرَّضْتَ نفسَك لكلَّ ذلك، وحصلْتَ فيما هنالك، وكان أكثرُ كلامِك في التفسيرِ، وحيثُ تخوضُ في التأويل، كلامَ مَنْ لا يينى الشيءَ على أصلِه، ولا يأخذُهُ من مَأْخذه، ومَنْ ربَّما وَقَعَ في الفَاحش من الخطإ الذي يَبقى عارُه، وتَشنُع آثارُه. ونَسأل اللهَ العِصْمةَ من الزلَلِ، والتوفيقَ لما هو أقربُ إلى رضاه من القول والعمل. الخطأ في تقسيم التقديم والتأخير، إلى مفيد وغير مفيد: 103 - واعلمْ أَنَّ مِن الخطإ أَنْ يُقْسَم الأَمرُ في تقديمِ الشيءِ وتأخيرهِ قسميْن، فيُجْعَلَ مفيداً في بعضِ الكلامِ، وغيرَ مفيدٍ في بعضٍ وأَنْ يُعلَّل تَارةً بالعناية، وأخرى بأنه تَوْسِعةٌ على الشاعرِ، والكاتب، حتى تَطَّردَ لهذا قَوافيهِ ولِذاكَ سجعُهُ. ذاك لأنَّ منَ البعيد أَنْ يكونَ في جملةِ النظْم ما يدلُّ تارةً ولا يَدلُّ أُخْرى. فمتى ثبتَ في تقديمِ المفعولِ مَثلاً على الفِعل في كثيرٍ من الكلامِ، أَنَّه قد اخْتُصَّ بفائدةٍ لا تكونُ تلك الفائدةُ معَ التأخيرِ، فقد وَجَب أن تكونَ تلك قضيةً في كلَّ شيءٍ وكلِّ حالٍ. ومِنْ سبيلِ مَنْ يجعلُ التقديمَ وتركَ التقديم سواء،

_ 1 هذه الأحرف إشارة إلى القراءات في الآيات التي فيها هذه الألفاظ. 2 في "ج": "لم تمنعه"، سهو من الناسخ. 3 معطوف على قوله قبل: "إذا أهمك أن تعرف الوجوه ... ".

أنْ يدَّعي أنه كذلك في عمومِ الأحوال، فأما أن يجعله شريجين1، فيزعُمُ أنه للفائدةِ في بعضِها، وللتصرُف في اللفظِ مِنْ غيرِ معنًى في بعض، فمما ينبغي أن يَرْغَبَ عن القولِ به. 104 - وهذه مسائلُ لا يَستطِيع أحدٌ أن يَمتنِعَ من التَّفرقةِ بينَ تقديمِ ما قُدِّمَ فيها وتَرْكِ تقديمه. مسائل الاستفهام بالهمزة والفعل ماض: ومِنْ أَبْيَن شيءٍ في ذلك "الاستفهامُ بالهمزةِ"، فإنَّ موضعَ الكلام على أَنك إِّذا قلتَ: "أَفَعلْتَ؟ "، فبدأتَ بالفعل، كان الشكُّ في الفِعل نَفْسِه، وكان غَرضُكَ مِن استفهامِك أنْ تَعْلم وُجودَه. وإِذا قلتَ: "أأَنْتَ فعلتَ؟ "، فبدأْتَ بالاسمِ، كان الشكُّ في الفاعِل مَنْ هوَ، وكان التردُّدُ فيه. ومثالُ ذلك أَنَّك تقولُ: "أَبَنَيْتَ الدارَ التي كنتَ على أنْ تَبْنِيهَا؟ "، "أَقُلْتَ الشِّعرَ الذي كان في نفسكَ أنْ تقولَهُ؟ "، "أفرغت من الكتائب الذي كنتَ تَكتُبُه؟ "، تبدأ في هذا ونحْوهِ بالفعل، لأنَّ السؤالَ عنِ الفعلِ نفْسهِ والشكَّ فيه، لأنَّك في جميع ذلك متردِّدٌّ في وجودِ الفعل وانتفائه، مُجوِّزٌ أَنْ يكونَ. قد كانَ، وأنْ يكونَ لم يَكُنْ. وتقولُ: "أأَنْتَ بَنَيْتَ هذهِ الدارَ؟ "، "أأنْتَ قلتَ هذا الشعرَ؟ "، "أأَنتَ كتبْتَ هذا الكتابَ؟ "، فتَبْدأ في ذلك كله بالاسم، ذاك لأنك لم تَشُكَّ في الفعل أنه كانَ. كيفَ؟ وقد أشرْتَ إلى الدارِ مَبْنية، والشِّعر مَقُولاً، والكتابِ مكتوباً، وإِنما شكَكْتَ في الفاعل مَن هو؟

_ 1 في المطبوعة "أن يجعله بين بين"، و "شريحان"، لونان مختلفان في كل شيء، يعني قسمين متساويين.

فهذا منَ الفَرْق لا يَدْفعُه دافعٌ، ولا يَشكُّ فيه شاكٌّ، ولا يَخْفى فسادُ أحدِهما في موضع الآخر. فلو قلتَ: "أأَنْتَ بَنيتَ الدارَ التي كنتَ على أنْ تَبنيها؟ "، "أَأَنْتَ قلتَ الشعرَ الذي كان في نفسِك أن تَقولَه؟ "، "أأَنْتَ فرغْتَ منَ الكِتاب الذي كنتَ تكْتُبه؟ "، خرَجْتَ منِ كلام الناس. وكذلك لو قلْتَ: "أبَنَيْتَ هذه الدارَ؟ "، "أَقلت هذا الشعرَ؟ "، "أَكتبتَ هذا الكتابَ؟ "، قلْتَ ما ليس بقولِ. ذاكَ لِفَساد أنْ تقولَ في الشيء المُشَاهَدِ الذي هو نُصْبُ عينيكَ أَموجودٌ أم لا؟ ومما يُعلَمُ به ضرورةً أنه لا تكونُ البدايةُ بالفعل كالبداية بِالاسم أَنك تقولُ: "أقلتَ شعراً قط؟ "، "أرأيتَ اليومَ إِنساناً؟ "، فيكونُ كلاماً مستقيماً. ولَو قلتَ: "أأنتَ قلت شعرًا قط؟ "، "أأنت رأيت إنسانًا"، أحلت1، وذاك أَنه لا مَعْنى للسؤالِ عن الفاعلِ مَنْ هو في مثلِ هذا، لأنَّ ذلك إِنما يُتَصوَّر إِذا كانتِ الإشارةُ إِلى فعلٍ مخصوصٍ نَحْوَ أَنْ تقولُ: "مَنْ قال هذا الشعر؟ "، و "من بنى هذا الدار؟ " و "من أتاك اليوم؟ "، و "من أذن لك من الذي فعلتَ؟ "، وما أشبَه ذلك مما يُمكنُ أن يُنَصَّ فيه على مُعَيَّنٍ. فأمَّا قيلُ شعرٍ على الجملة، ورؤيةُ إنسانٍ على الإِطلاق، فمُحَالٌ ذلك فيه، لأَنه ليس مما يُخْتصُّ بهذا دون ذاكَ حتى يُسْأَلَ عن عينِ فاعلهِ. ولو كان تقديمُ الاسم لا يُوجب ما ذكَرْنا، من أنْ يكونَ السؤالُ عن

_ 1 في المطبوعة: "أخطأت"، وقال إنها أثبتها مكان "أحلت"، وهو خطأ منه. و "أحلت"، أتيت بالمحال.

الفاعل مَنْ هو؟ وكان يَصِحُّ أن يكونَ سؤالاً عن الفعلِ أكانَ أمْ لم يكُنْ؟ لكانَ ينبغي أَنْ يستقيمَ ذلك1. 105 - واعلمْ أَنَّ هذا الذي ذكرتُ لك في "الهمزة وهي للاستفهام" قائمٌ فيها إِذا هيَ كانت للتقرير. فإِذا قلتَ: "أَأَنْتَ فعلتَ ذاك؟ "، كان غرضك أن تقرره بأنه الفاعل. الاستفهام للتقرير: يُبَيِّنُ ذلكَ قولُه تعالى، حكايةً عن قَوْل نمروذ2: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيم} [الأنبياء: 62] لا شبْهةَ في أنَّهم لم يقولوا ذلك له عليه السلامُ وهم يُريدون أنْ يُقِرَّ لهم بأَنَّ كَسْرَ الأصنام قد كانَ، ولكنْ أن يقر بأنه منه كان، وكيف؟ 3 وقد أشاروا له إِلى الفِعل في قولهم: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا}، وقال هو عليه السلام في الجواب4: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]، ولو كان التقريرُ بالفعلِ لَكانَ الجوابُ: "فَعلْتُ، أوْ: لم أَفْعَل". فإِن قلتَ: أوَ ليسَ إِذا قال "أَفَعَلْتَ؟ " فهو يريدُ أيضاً أن يُقرِّره بأَنَّ الفعلَ كان منه5، لا بأنه كان على الجملة، فأيُّ فَرْقٍ بينَ الحالَيْنِ؟

_ 1 أسقط كاتب "س" فكتب: "أن يكون السؤال عن الفاعل أكان أم لم يكن". 2 "حكاية عن قول نمرود"، ليس في "س". 3 "كيف"، ليس في المطبوعة، ولا في "ج"، وهي من "س"، وأسقط "ج": "كان" التي قبلها. 4 في "س": قال عليه السلام، بل فعله". 5 في "ج": "أن يقرره بالفعل".

فإِنَّه إِذا قال1: "أَفَعَلْتَ؟ " فهو يقرره بالفعلِ مِنْ غيرِ أن يُردِّدَه بينَه وبينَ غيرهِ2، وكان كلامُه كلامَ مَنْ يُوهِمُ أنه لا يَدْري أنَّ ذلك الفعلَ كان على الحقيقةِ وإِذا قال: "أأنت فعلتَ؟ "، كان قد ردَّدَ الفعلَ بينهُ وبين غيره، ولم يكُنْ منهُ في نفيِ الفعلِ تردُّدٌ3، ولم يكنْ كلامُه كلامَ مَنْ يُوهم أنه لا يَدْري أَكانَ الفعلُ أمْ لم يَكُنْ، بدلالةِ أَنك تقولُ لك والفعلُ ظاهرٌ موجودٌ مشارٌ إِليهِ، كما رأيْتَ في الآية. 106 - واعلمْ أنَّ "الهمزةَ" فيما ذكرنا تَقريرٌ بفعلٍ قد كان، وإنكارٌ له لِمَ كان، وتوبيخٌ لفاعِلِه عليه. ولها مذهبٌ آخَرُ، وهو أن يكون الإنكار أَنْ يكونَ الفعلُ قد كانَ مِنْ أَصْله. ومثالُه قولُه تعالى {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} [الإسراء: 40]، وقولُه: عزَّ وجلَّ: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِين، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات: 153، 154]، فهذا رَدٌّ على المشركينَ وتكذيبٌ لهم في قولِهم ما يُؤَدِّي إِلى هذا الجهلِ العظيم، وإذا قدم الاسم فيهذا صارَ الإنكارُ في الفاعل. ومثالُه قولُكَ للرجل قد انْتَحلَ شِعراً: "أأَنْتَ قلتَ هذا الشعرَ؟ كذبتَ، لسْتَ ممنْ يُحْسِن مِثلَه"، أَنْكَرْتَ أنْ يكون القائل ولم تنكر الشعر.

_ 1 "فإنه"، جواب قوله: "فإن قلت". 2 في "ج" فوق: "يردده" ما نصه: "أي الفعل"، يعني أن الضمير يعود إلى، "الفعل" لا إلى المسئول. 3 في "ج" أسقط جملة: "ولم يكن ..... تردد".

وقد يكون أن يُرادُ إنكارُ الفعلِ من أَصْله1، ثم يُخرَجُ اللفظُ مخرجَه إِذا كان الإِنكار في الفاعل. مثالُ ذلك قولُه تعالى: {قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} [يونس: 59]، "الإذْنُ" راجعٌ إِلى قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا} [يونس: 59]، ومعلومٌ أَنَّ المعنى على إِنكارِ أنْ يكونَ قد كانَ منَ الله تعالى إذْنٌ فيما قالوه، من غيرِ أن يكونَ هذا الإذْنُ قد كانَ من غيرِ الله، فأضافوه إِلى الله، إلاَّ أَنَّ اللفظَ أُخرجَ مخرَجَهُ إِذا كانَ الأمرُ كذلك، لأنْ يُجعَلوا في صورةٍ مَنْ غَلِطَ فأضافَ إِلى الله تعالى إذْناً كان من غير الله، فإذا حقق عليها ارتدع. ومثال ذاك قولُكَ للرجلِ يَدَّعي أنَّ قولاً كان ممَّن تَعْلَم أنه لا يقولُه: "أهوَ قالَ ذاك بالحقيقةِ أم أنتَ تَغْلَطُ؟ "، تضَعُ الكلامَ وضْعهَ إِذا كنتَ علمتَ أنَّ ذلك القولَ قد كان مِنْ قائلٍ، لينصرِفَ الإنكارُ إِلى الفاعل، فيكونَ أَشَدَّ لنفيِ ذلك وإِبطالِه. ونظيرُ هذا قولُه تعالى: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ} [الأنعام: 143]، أُخرجَ اللفظُ مَخْرجَه إِذا كان قد ثبتَ تحريمٌ في أحدِ أشياءَ، ثم أُريدَ معرفةُ عينِ المحرَّم، معَ أنَّ المُرادَ إنكارُ التَّحريم مِنْ أصلهِ، ونَفْيُ أنْ يكونَ قد حُرم شيءٌ مما ذكروا أنه محرَّم. وذلك أنْ الكلامُ وُضعَ على أن يُجعلَ التحريمُ كأنه قد كانَ2، ثم يُقال لهم: "أَخْبِرونا عن هذا التَّحريم الذي زعمتُمْ، فيمَ هو؟ أفي هذا أم ذاك أم في الثالث؟ " ليتبيَّنَ بُطْلانُ قولِهمْ، ويَظْهَرَ مكانُ الفِرْية مِنهم على الله تعالى.

_ 1 في المطبوعة وحدها: "إذ يراد"، فاضطربت الجملة. 2 في المطبوعة: "وذلك أن كلام الكلام"، وفي "س": "وذلك لأن الكلام".

ومثلُ ذلك قولُكَ للرجلِ يدَّعي أمراً وأنتَ تُنْكِره1: "متى كان هذا؟ أفي ليلٍ أم نهار؟ " وتضع الكلامَ وضْعَ مَنْ سَلَّم أنَّ ذلك قد كانَ، ثم تُطالبه ببيانِ وقتهِ، لكي يَتَبيَّنَ كذبَهُ إِذا لم يَقْدر أن يَذكُرَ له وقتاً ويُفتضَح. ومثلُهُ قولُكَ: "مَنْ أَمرَكَ بهذا مِنَّا؟ وأَيُّنا أَذِنَ لكَ فيه؟ "، وأنتَ لا تَعني أنَّ أَمْراً قد كانَ بذلك مِنْ واحدٍ منكمِ، إِلاّ أنَّكَ تَضَعُ الكلامَ هذا الوضْعَ لكي تُضيِّقَ عليه، ولِيَظْهَر كَذِبُه حينَ لا يَستطيعُ أنْ يقولُ: "فلانٌ"، وأَنْ يُحيلَ على واحد2. تقديم الفعل وتقديم الاسم والفعل مضارع في الاستفهام: 107 - وإِذ قد بينَّا الفَرْقَ بينَ تَقديمِ الفعلِ وتقديم الاسم، والفعلُ ماضٍ، فينبغي أن تنظر فيه والفعلُ مضارعٌ. والقولُ في ذلك أَنك إِذا قلت: "أَتفَعلُ؟ " و "أَأَنْتَ تَفعل؟ " لم يَخْلُ من أن تُريدَ الحالَ أوِ الاستقبالَ. فإِنْ أردتَ الحالَ كان المعنى شَبيهاً بما مَضى في الماضي، فإِذا قلتَ: "أتفعلُ؟ " كان المعنى على أنكَ أردتَ أن تُقرِّره بفعلٍ هو يفعلُه، وكنتَ كمَن يُوهِمِ أنه لا يَعلمُ بالحقيقةِ أنَّ الفعلَ كائنٌ وإِذا قلتَ: "أأَنتَ تَفْعل؟ "، كان المعنى على أنك تريدُ أن تُقرِّره بأنه الفاعلُ، وكانَ أمْرُ الفعلِ في وجودِه ظاهراً، وبحيثُ لا يُحتاج إِلى الإِقرارِ بأنه كائن وإِن أردتَ بـ "تَفْعلُ" المستقبلَ، كان المعنى إِذا بدأْتَ بالفعلِ على أنك تَعْمد بالإِنكارِ إِلى الفعل نفسه، وتَزعم أنه لا يكونُ، أو أنَّه لا ينبغي أن يكون، فمثال الأول:

_ 1 في "ج": "قول الرجل"، سهو منه. 2 في "س": "على أحد".

أَيقتُلُني والمَشْرَفيُّ مُضَاجِعي ... وَمَسْنونةٌ زُرْقٌ كأَنيابِ أغوالِ؟ 1 فهذا تكذيبٌ منه لإنسانٍ تهَدَّدَهُ بالقتل2، وإنكارٌ أن يَقْدر على ذلك ويَستطيعَه. ومثْلُه أن يَطمعَ طامعٌ في أمرٍ لا يكونُ مثْلَهُ، فتُجهِّلَه في طمعهِ فتقولَ: "أيرضِى عنكَ فلانٌ وأنتَ مقيمٌ على ما يَكرهُ؟ أتَجِدُ عندَه ما تُحبُّ وقد فَعلتَ وصنَعْت؟ "، وعلى ذلك قولُه تعالى: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود: 28]. ومثال الثاني، قولك لرجل يركَب الخطرَ: "أتَخرجُ في هذا الوقتِ؟ أتذْهَبُ في غير الطريق؟ أتغرر بنفسك" وقولك لرجل يُضيعُ الحقَّ: "أَتنسى قديمَ إحسانِ فلانٍ؟ أتترْكُ صُحبتَه وتَتغيرُ عن حالك معَهُ لأنْ تغيَّر الزمان؟ " كما قال: أأتركُ أنْ قلَّتْ دراهمُ خالدٍ ... زيارتَه إِنّي إذا للئيم3 تفسير تقديم الفعل المضارع: 108 - وجملةُ الأمر أَنك تَنْحو بالإِنكارِ نَحْوَ الفعلِ، فإنْ بدأتَ بالاسمِ فقلتَ: "أأنتَ تَفعلِ؟ " أو قلتَ" "أهوَ يفعلُ؟ "، كنتَ وجَّهْتَ الإنكارَ إِلى نفسِ المذكورِ، وأبيْتَ أن تكونَ بموضعِ أَنْ يجيءَ منه الفعلُ وممن يجيءُ منه، وأن يكونَ بتلك المثابة.

_ 1 شعر امرئ القيس، في ديوانه. 2 في "س": "يهدده". 3 كامل المبرد1: 183، وفي مجموع شعر عمارة بن عقيل: 75، بقوله في خالد بن يزيد ابن مزيد الشيباني.

تفسير ذلك، أنك إذا قلت: "أأنت تمنعي؟ "، "أأنتَ تأخذُ على يدي؟ "، صرتَ كأنك قلتَ: إنَّ غيرَك الذي يستطيعُ منْعي والأخْذَ على يدي، ولستَ بذاك، ولقد وضعتَ نفسَك في غيرِ موضعِك هذا، إِذا جعلْتَه لا يكونُ منه الفعلُ للعَجْز، ولأنه ليس في وُسْعه. وقد يكونُ أن تجعلَه لا يجيءُ منه، لأنه لا يَختارُه ولا يَرْتضيه، وأنَّ نفْسَه نفسٌ تَأْبى مثلَه وتَكْرَهُه. ومثالُهُ أن تَقول: "أَهو يسأَل فلاناً؟ هو أَرفعُ همَّةً من ذلك"، "أَهو يمَنعُ الناسَ حقوقَهم؟ هو أكرمُ من ذاك". وقد يكونُ أن تَجعله لا يَفْعله لصِغَر قدْره وقِصَر همَّته، وأَنَّ نفْسَه نَفسٌ لا تَسمو. وذلك قولُك: "أهوَ يَسْمح بمثلِ هذا؟ أهوَ يرتاحُ للجميل؟ هو أقصرهمة من ذلك1، وأَقلُّ رغبةً في الخيرِ مما تظن".

_ 1 "من ذلك"، ساقطة من "س".

مواضع التقديم والتأخير: الاستفهام

مواضع التقديم والتأخير: الاستفهام تفسير تقديم الاسم والفعل مضارع: 109 - وجملةُ الأَمرِ أنَ تقديَم الاسمِ يَقْتضي أنَّك عَمَدتَ بالإِنكارِ إِلى ذاتِ مَنْ قيلَ "إِنَّه يَفْعل" أو قالَ هو "إني أفعلُ"، وأردتَ ما تُريدُه إِذا قلتَ: "ليسَ هوَ بالذي يفعلُ، وليس مثلُه يَفعل" ولا يكونُ هذا المعنى إِذا بدأتَ بالفعل فقلتَ: "أَتفعل؟ ". أَلا ترى أن من المُحالَ أنْ تَزعم أنَّ المعنى في قولِ الرجلِ لصاحبهِ: "أتَخْرجُ في هذا الوقتِ؟ أتغرِّرُ بنفسكَ؟ أتمضي في غيرِ الطريق؟ "، أنَّه أَنكَرَ أنْ يكونَ بمثابةِ مَن يفعلُ ذلك، وبموْضعِ من يجيء منه ذاكَ؛ لأنَّ العِلمَ مُحيطٌ بأنَّ الناسَ لا يُريدونه، وأنَّه لا يَليقُ بالحالِ التي يُستعملُ فيها هذا الكلامُ. وكذلك مُحالٌ أن يكونَ المعنى في قولِهِ جلَّ وعلاَ: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا

كَارِهُونَ} [هود: 28]، أنَّا لسْنا بمثابةِ مَنْ يجيءُ منه هذا الإلزامُ، وأَنَّ غيرَنا مَنْ يَفعله، جلَّ الله تعالى. وقد يَتوهَّمُ المتوهمُ في الشيءِ مِن ذلك أنه يحتملُ، فإِذا نَظَر لم يَحْتمل، فمِنْ ذلك قولُه: أيقتلُني والمشرفيُّ مُضاجِعي1 وقد يَظنُّ الظانُّ أنه يَجوز أن يكونَ في معنى أنه ليس بالذي يَجيء منه أن يَقْتلَ مثْلي، ويَتعلَّق بأنه قالَ قَبْلُ: يَغِطُّ غَطيطَ البَكر شُدَّ خِنَاقُهُ ... لِيَقْتُلَنِي والمرءُ ليسَ بقتَّالِ ولكنهُ إِذا نظَر عَلِمَ أنَّه لا يَجوز، وذاكَ لأنه قالَ: "والمشرفيُّ مضاجِعي" فذكَرَ ما يكونُ مَنْعاً منَ الفعل، ومحالٌ أن يقولَ: "هو ممَّنْ لا يَجيءُ منه الفعلُ"، ثم يقولُ: "إِني أَمنعُهُ"، لأنَّ المَنْعَ يُتَصَوَّر فيمن يَجيءُ منه الفعلُ، ومَع مَنْ يَصِحُّ منه، لا مَنْ هو منه مُحالٌ، ومَن هو نفسه عنه عاجز، فاعرفه. تفسير الاستفهام الدال على الإنكار: 110 - واعلمْ أَنَّا وإِنّ كنَّا نُفَسِّر "الاستفهامَ" في مثلِ هذا بالإِنكار فإنَّ الذي هو مَحْضُ المعنى: أَنه لِيَتَنَبَّه السامعُ حتى يَرجعَ إِلى نفسِه فيخجلَ ويرتدعَ ويعيي بالجواب2، إمَّا لأنه قدِ ادَّعَى القدرةَ عَلَى فِعْلٍ لا يَقدرُ عليه، فإِذا ثبتَ على دَعْواه قيل له: "فافْعَلْ"، فيَفْضحُه ذلك3 وإمَّا لأنه هم

_ 1 انظر البيت في رقم: 107. 2 في "س": "لقيته السامع"، وأسقط "ليرتدع". 3 في "ج": "ففضحه".

بأنْ يفعلَ ما لا يَسْتصوِبُ فِعْلَه، فإِذا رُوجع فيه تنبَّه وعرَفَ الخطأَ وإِمّا لأَنه جوَّزَ وجودَ أمرٍ لا يُوجَدُ مثلُه، فإِذا ثبت على تجويزه قبح على نفسه1، وقيلَ له: "فأَرِناهُ في موضعٍ وفي حالٍ، وأقِمْ شاهداً على أنَّه كان في وقْت". ولو كانَ يكونُ للإِنكار، وكان المعنى فيه مِنْ بَدْء الأمر2، لكان يَنْبغي أَنْ لا يَجيءَ فيما لا يَقولُ عاقلٌ إنه يكونُ، حتى يُنْكَرَ عليه، كَقَولهم: "أَتصعدُ إِلى السماء؟ "، "أتستطيعُ أن تَنْقلَ الجبالَ؟ "، "أَإِلى رَدِّ ما مضَى سبيلٌ؟ ". 111 - وإذْ قد عرفْتَ ذلك، فإِنَّه لا يُقرِّر بالمُحال، وبما لا يقولُ أَحدٌ إِنه يكونُ، إلاَّ على سبيلِ التمثيلِ، وعلى أنْ يُقالَ له: "إنَّكَ في دَعْواك ما ادَّعَيْتَ بمنزلةِ مَنْ يَدَّعي هذا المُحال، وإنكَ في طَمَعك في الذي طمعْتَ فيه بمنزلةِ مَنْ يَطْمعُ في الممتنع". 112 - وإِذ قد عَرَفْتَ هذا، فَمِمَّا هو مِنْ هذا الضربِ قولُه تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ} [الزخرف: 40]، ليس سماع الصُّم مما يدَّعيه أَحدٌ فيكون ذلك للإِنكار3، وإِنَّما المعنى فيه التمثيلُ والتَّشبيهُ، وأَنْ يُنْزَّل الذي يُظَنُّ بهم أنهم يَسْمعون، أو أنه يستطيعُ إسماعِهم، مَنْزلةَ مَنْ يَرى أنه يُسْمِعُ الصمَّ ويَهدي العُمْيَ ثمَّ المعنى في تَقديم الاسمِ وأَنْ لم يُقَلْ: "أَتُسمع الصمَّ"، هو أن يُقال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: "أأنت خصوصًا قد أوتيت

_ 1 في المطبوعة: "وبخ على تعنته"، وأثبت ما في المخطوطتين. 2 في هامش "ج" ما نصه: أي: وكان الإنكار المعنى، بمعنى أنه في "كان"، ضمير الإنكار". 3 في "س": "ليس إسماعهم مما يدعيه".

أنْ تُسمِعَ الصمَّ؟ " وأن يُجْعَل في ظَنَّه أنَّه يستطيعُ إِسماعَهم، بمثابةِ مَنْ يَظُنُّ أنَّه قد أُوتيَ قدرةً على إِسماعِ الصُّمَّ. ومن لطيف ذلك قول ابن أبي عيينة1: فدَع الوعيدَ فَما وعيدُكَ ضائري ... أَطنِينُ أجنحةِ الذُّبَابِ يَضيرُ2؟ جعلَه كَأنه قد ظَنَّ أنَّ طنينَ أجنحةِ الذبابِ بمثابةِ ما يَضيرُ، حتى ظن أن وعيده يضير. تفسير تقديم المفعول على المضارع، وهو فعل لم يكن: 113 - واعلمْ أنَّ حالَ المفعولِ فيما ذكرنا كحالِ الفاعلِ، أعني تقديمَ إسمِ المفعول يَقتضي أنْ يكونَ الإنكارُ في طريق الإِحالة والمنعِ مِنْ أن يكونَ3، بمثابةِ أَنَّ يُوقَع به مثلُ ذلك الفعلُ، فإِذا قلْتَ: "أزيداً تضربُ؟ "، كنتَ قد أَنكرْتَ أن يكونَ "زيدٌ" بمثابة أن يُضرَبَ، أَو بموضعٍ أن يُجْترأَ عليه ويُسْتَجازَ ذلك فيه، ومِن أَجْل ذلك قُدِّمَ "غير" في قولهِ تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} [الأنعام: 14] وقولهِ عزَّ وَجَلَ: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} [الأنعام: 40]، وكان له من الحُسْن والمزيَّة والفخامة، ما تَعلمُ أنه لا يكونُ لو أُخِّرَ فقيلَ: "قلْ أأتخذ غير الله وليًا".

_ 1 في "س": "ابن عيينة": وهو خطأ، هو: "عبد اللهبن محمد بن أبي عيينة". 2 من شعره، في كامل المبرد 1: 248. يقوله لعلي بن محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان دعاه إلى نصرته حين ظهرت المبيضة، فلم يجبه، فتوعده علي بن محمد، فقال له هذا الشعر: أعلى إنك جاهل مغرور ... لا ظلمة لك ولا لك نور 3 في المطبوعة: "أعني تقدم الاسم المفعول".

و "أتدعون غيرَ الله؟ "1 وذلك لأنه قد حصَل بالتقديم معنى قولك: "أيكون غير الله بمثابة أن يتخذ ولياً؟ وأَيرْضى عاقلٌ مِنْ نفسهِ أنْ يفعلَ ذلك؟ وأيكونُ جهلٌ أجهلَ وعمّى أعمى من ذلك؟ "، ولا يكونُ شيءٌ مِن ذلك إِذا قيلَ: "أأتَّخِذُ غيرَ الله ولياً". وذلك لأنَّه حينئذٍ يَتَناولُ الفعلَ أن يكونَ فقط، ولا يَزيد على ذلك، فاعرفْه. 114 - وكذلك الحكْمُ في قولِهِ تَعالى: {فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ} [القمر: 24] 2، وذلك لأنهم كُفْرَهم على أَنَّ مَنْ كان مثْلَهم بَشَراً، لم يكُن بمثابةِ أنْ يُتَّبع ويُطاع، ويُنْتَهَى إِلى ما يَأْمر، ويُصدَّقَ أَنه مبعوثٌ منَ الله تعالى، وأنهم مأمورون بطاعتهِ، كما جاء في الأُخرى: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا} [إبراهيم: 10]، وكقوله عزَّ وجلَّ {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً} [المؤنون: 24]. فهذا هو القولُ في الضَّربِ الأَول، وهو أن يكونَ "يَفْعلُ" بَعد الهمزة لِفعلٍ لم يكن. معنى التقديم والفعل موجود: 115 - وأما الضربُ الثاني، وهو أن يكونَ "يَفْعَل" لفعلٍ موجودٍ، فإنَّ تقديمَ الاسم يَقتضي شَبَهاً بما اقتضاهُ في "الماضي"3، منَ الأخذ بأن يُقرَّ أنه الفاعلُ، أو الإِنكارُ أنَ يكونَ الفاعل.

_ 1 في هامش "ج" هنا حاشية لم أستطع أن أقرأها. 2 في المطبوعة و "ج": {قالوا أبشرًا}، وفي "س": "وقالوا"، والتلاوة ما أثبت. 3 في المطبوعة: "شبهًا"، وكذلك في نسخة عند "س".

فمثالُ الأوَّلِ قولُك للرجل يَبْغي ويَظْلِمُ: "أَأنت تجيءُ إلى الضَّعيف فتغضبُ مالَه؟ "، "أأنتَ تَزْعُم أنَّ الأمرَ كَيْتَ وكَيتَ؟ " وعلى ذلك قولُه تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين} [يونس: 99]. ومثال الثاني: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف: 32].

مواضع التقديم والتأخير: النفي

مواضع التقديم والتأخير: النفي فصل- التقديم والتأخير في النفي: 116 - وإذا قد عرَفْتَ هذه المسائلَ في "الاستفهام"، فهذهِ مسائلِ في "النَّفي". إذا قلْتَ: "ما فعلتُ"، كنْتَ نَفَيْتَ عنك فِعْلاً لم يَثْبتْ أَنه مفعولٌ وإِذا قلتَ: "ما أنا فعلْتُ"، كنتَ نفيت عنك فعلا يثبت أَنه مفْعُولٌ1. تفسيرُ ذلك: أَنك إذا قلتَ: "ما قلتُ هذا"، كنتَ نَفيتَ أن تكونَ قد قلْتَ ذاك، وكنتَ نُوظرْتَ في شيءٍ لم يَثْبُتْ أنه مَقُولٌ؟ وإِذا قلتَ: "ما أنا قلتُ هذا"، كنتَ نفَيْتَ أن تكون القائلَ له، وكانتِ المناظرةُ في شيءٍ ثَبَتَ أنه مقُولٌ. وكذلك إذا قلتَ: "ما ضربتُ زيداً"، كنتَ نفيتَ عنكَ ضَرْبَه، ولم يَجِبْ أن يكونَ قد ضُرِبَ، بل يَجوزُ أن يكون ضَرَبَه غَيرُك، وأنْ لا يكونَ قد ضُرِبَ أصْلاً. وإِذا قلتَ: "ما أنا ضربْتُ زيداً"، لم تَقلْه إلاَّ وزَيدٌ مضروبٌ، وكان القصْدُ أن تَنْفي أنْ تكونَ أنتَ الضاربَ. ومن أَجْل ذلك صَلُحَ في الوجهِ الأولِ أن يكونَ المَنْفيُّ عامّاً كقولك: "ما قلتُ شعراً قط"، و "ما أكلت اليوم شيئًا" و "ما أنا قلت شعرًا قط", "ما أنا أكلت اليوم شيئًا" و "ما أنا رأيت أحدًا من الناس"، وذلك أنه يقتضي المحال، وهو أن يكون ههنا إنسانٌ قد قالَ كلَّ شعرٍ في الدُّنيا، وأكلَ كلَّ شيءٍ يؤكلُ، ورأى كلَّ أحدٍ من الناس، فنفيت أن تكونه.

_ 1 في المطبوعة: "ثبت أنه"، وفي "س": "نثبت" مشكولة.

117 - ومما هو مثالٌ بيِّن في أنَّ تقديمَ الاسم يقتضي وجود الفعل قوله: ومَا أنا أَسقَمْتُ جِسْمي بهِ ... وَلا أنا أَضرمتُ في القلبِ ناراً1 المَعنى، كما لا يَخفي، على أن السُّقمَ ثابتٌ موجودٌ، وليس القصدُ بالنفي إليه، ولكنْ إلى أن يكونَ هو الجالبَ له، ويكونَ قد جرَّه إلى نفسه. ومثله في الوضوح قوله: وما أنا وَحدي قلتُ ذا الشعرَ كلَّهُ2 "الشعرُ" مَقولٌ على القَطْع، والنفَّي لأنْ يكونَ هو وحده القائل له. 118 - وههنا أَمران يَرتفعُ معهُما الشكُّ في وجوبِ هذا الفَرْق، ويَصيرُ العِلمُ به كالضَّرورة. أحَدُهما: أنه يَصِحُّ لكَ أن تقولَ: "ما قلتُ هذا، ولا قاله أحد من الناس"، و "ما ضربتُ زيداً، ولا ضَرَبَه أحدٌ سوِاي"، ولا يصحُّ ذلك في الوجهِ الآخر. فلو قلتَ: "نما أنا قلتُ هذا، ولا قالَه أحدٌ من الناس" و "ما أنا ضَربتُ زيداً، ولا ضرَبَهُ أَحدٌ سواي"، كان خلفًا من القول3، وكان من التَّناقضِ بمنزلةِ أن تقولَ: "لستُ الضاربَ زيداً أمس"، فتثبت أنه قد ضرب،

_ 1 هو شعر المتنبي في ديوانه. 2 هو من شعر المتنبي، في ديوانه، وتتمة البيت: ولكن لشعري فيك من نفسه شعر 3 "الخلف"، بفتح الخاء وسكون اللام، الردئ من القول، يقال في المثل: "سكت ألفًا، وتطلق خلفًا".

ثم يقول مِنْ بَعدهِ: "وما ضَرَبَه أحدٌ مِن الناس"، و "لست القائلَ ذلك"، فتُثبِتَ أنه قد قيلَ، ثم تجيء فتقول و "ما قالَه أَحدٌ من الناس". والثاني منَ الأمرين أَنك تقولُ: "ما ضربتُ إلاَّ زيداً"، فيكونُ كلاماً مسْتقيماً، ولو قلتَ: "ما أنا ضربتُ إلا زيدًا"، كان لغو من القول، وذلك لأن نقض النفي بـ "إلا" يَقْتضي أن تكونَ ضربْتَ زيداً وتقديمُكَ ضميرَك وإيِلاؤه حَرْفَ النفْي، يقتضي نَفْي أن تكونَ ضربته، فهما يتدافعان1.فاعرفه. تقديم المفعول وتأخيره في النفي: 119 - ويجيءُ لك هذا الفرقُ على وَجْهه في تقديمِ المفعولِ وتأخيرِه. فإِذا قلتَ: "ما ضربتُ زيداً"، فقدَّمْتَ الفعلَ، كان المعنى أَنك قد نَفيْتَ أن يكونَ قد وقَع ضَرْبٌ منك على زيدٍ، ولم تَعرِضْ في أَمرٍ غَيرهِ لنفيٍ ولا إثباتٍ، وتركْتَه مُبْهَماً محتمَلاً. وإذِا قلتَ: "ما زيداً ضربتُ"، فقدَّمْتَ المفعولَ، كان المعنى على أنَّ ضرْباً وقعَ منكَ على إنسانٍ، وظُنَّ أنَّ ذلك الإنسانَ زيدٌ، فنفيتَ أَن يكون إيَّاه. فلكَ أن تقولَ في الوجهِ الأول: "ما ضربتُ زيداً ولا أحداً من الناس"، وليس لك [ذلك] في الوجه الثاني2. فلو قلتَ: "ما زيداً ضربتُ ولا أحداً من الناس"، كان فاسداً على ما مضى في الفاعل.

_ 1 "يتدافعان"، أي يدفع أحدهما الآخر ويبعده، وينفيه. 2 "ذلك"، زيادة من "س".

120 - ومما ينبغي أن تَعلمه1، أنه يَصحُّ لك أن تقولَ: "ما ضربتُ زيداً، ولكني أكْرمتُه"، فُتعْقِبَ الفعلَ المنفيَّ بإثباتِ فعلٍ هو ضدُّه ولا يصحُّ أن تقولَ: "ما زيداً ضربتُ، ولكني أكرمتُه"2 وذاك أنكَ لم تُرِد أن تقولَ: لم يكن الفعلُ هذا ولكنْ ذاك، ولكنَّك أردتَ أنه لم يكن المفعولُ هذا، ولكنْ ذاك. فالواجب إذن أن تقولَ: "ما زيداً ضربتُ ولكنْ عمراً". وحكْمُ الجارِّ مع المجرور في جميع ما ذَكرنا حكْم المنصوبِ، فإِذا قلتَ: "ما أمَرْتُك بهذا"، كان المعنى على نفْيِ أن تكونَ قد أمرتَه بذلك، ولم يَجبْ أن تكونَ قد أمرتَه بشيءٍ آخرَ وإِذا قلتَ: "ما بهذا أمرْتُك"، كنتَ قد أمرتَه بشيءٍ غيرِه.

_ 1 في "ج": "أن تعلمه إياه"، "إياه" زيادة مفسدة للكلام. 2 سقط من "س" هذه الجملة: "فتعقب الفعل .... ولكني أكرمته".

مواضع التقديم والتأخير: الخبر

مواضع التقديم والتأخير: الخبر فصل 1: التقديم والتأخير في الخبر المثبت وهو قسمان: 121 - واعلم أن الذي بان لك في "الاستفهام" و "النفي" منَ المعنى في التقديمِ، قائمٌ مثْلُه في "الخَبَر المُثْبَت". فإِذا عمدْتَ إلى الذي أردتَ أن تحدث عنه فعل فقدَّمْتَ ذِكرَه، ثُمَّ بنيتَ الفعلَ عليه فقلتَ: "زيد قد فعل" و "أنا فعلت"، و "أنت فعلْتَ"، اقتضى ذلك أن يكونَ القصدُ إلى الفاعلِ، إلاَّ أنَّ المعنى في هذا القصدِ ينقسم قسمين: القسم الجلي: أَحدُهما جليٌّ لا يُشْكِلُ: وهو أن يكون الفعلُ فِعْلاً قد أردتَ أن تَنُصَّ فيه على واحدٍ فتجعلَه له، وتزعمُ أنه فاعلُه دونَ واحدٍ آخرَ، أو دونَ كلِّ أحدٍ. ومثالُ ذلك أن تقولَ "أنا كتبتُ في معنى فلانٍ وأنا شفعتُ في بابه"2، تُريد أن تَدَّعِيَ الانفرادَ بذلك والاستبدادَ به، وتُزيلَ الاشتباهَ فيه، وتردَّ على من زَعم أنَّ ذلك كان مِنْ غيرِك، أو أَنَّ غيرَكَ قد كتَب فيه كما كتبتَ. ومن البيِّن في ذلك قولُهم في المثَل "أَتُعْلِمُنِي بِضَبٍّ أنا حرشته"3. القسم الثاني وتفسيره: والقسمُ الثاني: أن لا يكونَ القصْدُ إلى الفاعلِ على هذا المعنى، ولكنْ على أنك أردتَ أن تُحقِّق على السامع أَنه قد فعل، وتمنعه من الشك، فأنت

_ 1 "فصل"، في "ج" و "س"، وليس في المطبوعة. 2 معنى "معنى فلان"، "باب فلان"، أي: في شأنه وأمره. 3 المثل مشهور، في الميداني 1: 109، وجمهرة الأمثال 1: 76، و "حرش الضباب"، صديها، بأن يحرك يده عند جحر الضب حتى يظنه الضب حية فيخرج ذنبه ليضربها فيأخذه الحارش. وقوله: "أتعلمن"، أي أتخبرني.

لذلك تبدأ بذِكْره، وتَوَقُّعِه أوّلاً ومِنْ قَبْلِ أن تَذكر الفعلَ في نفسه1، لكي تُباعِدَه بذلك من الشُّبْهة، وتَمْنعَه من الإِنكار، أَوْ مِنْ أن يُظَنَّ بك الغَلطُ أو التزيُّدُ. ومثالُه قولُك: "هو يعطي الجزيل"، و "هو يُحبُّ الثناءَ"، لا تُريد أن تَزعم أنه ليس هنا مَنْ يُعطي الجزيلَ ويُحِبُّ الثناءَ غيرَهُ، ولا أن تُعرِّض بإنسانٍ وتحطَّه عنه، وتجعلَه لا يُعطي كما يُعْطي، ولا يَرْغَبُ كما يَرغب2، ولكنكَ تريدُ أن تُحقِّق على السامعِ أنَّ إعطاءَ الجزيل وحُبَّ الثناءِ دأْبُهُ، وأن تُمكِّن ذلك في نفسه. 121 - ومثاله في الشعر: همُ يفْرِشُونَ اللِّبدَ كلَّ طمِرَّةٍ ... وأَجْردَ سَبَّاحٍ يَبُذُّ المُغَالِبَا3 لم يُرِدْ أنْ يدَّعي لهم هذه الصفةَ دَعْوى مَنْ يُفرِدُهم بها، ويَنصُّ عليهم فيها، حتى كأنهُ يَعرِّضُ بقومٍ آخرين، فينْفي أن يكونوا أصحابَها. هذا مُحال. وإِنَّما أرادَ أن يصِفَهم بأنهم فرسانٌ يَمتهِدون صَهَواتِ الخيلِ، وأنهم يَقْتعدون الجِيادَ منها4، وأنَّ ذلك دأبُهُم، من غير أن يَعْرض لِنفْيه عن غَيرهم، إلاَّ أنه بدأَ بذكرِهم لِيُنبِّه السامعَ لهم، ويُعْلِمَ بَدِيّاً قصْدَه إليهم بما في نفسهِ من الصفة5،

_ 1 السياق: "وتوقعه أولًا .... في نفسه". 2 يعني: يرغب في الثناء. 3 "اللبد" الصوف أو الشعر المتلبد وقد جرت العادة بوضع قطعة منه على ظهر الفرس تحت السرج للينه. و "الطمرة" أنثى الطمر وهو الفرس الجواد أو المتجمع المتداخل الخلق كأنه متهيئ للوئب دائمًا. و "الأجرد" الفرس القصير الشعر. و "السباح" الذي يشبه عدوه السباحة. و "يبذ" يغلب "رشيد". 4 عند رشيد رضا في نسخة: "يعتقدون"، أي يملكونها. 5 "بديًا"، أي ابتداء من أول الأمر.

ليمنَعَه بذلك من الشكَّ، ومِنْ توهُّم أن يكونَ قد وصفَهم بصفةٍ ليستْ هي لهم، أو أن يكونَ قد أرادَ غيرَهم فغَلِط إليه. 123 - وعلى ذلك قول الآخر: هُمُ يَضْرِبونَ الكَبْشَ يَبْرُقُ بَيْضُه، ... عَلى وَجْهِهِ مِنَ الدِّماءِ سَبَائِبُ1 لم يُرد أن يدَّعيَ لهم الانفرادَ، ويَجْعلَ هذا الضربَ لا يكونُ إلاَّ منهم، ولكنْ أراد الذي ذكرتُ لك، مِنْ تَنبيهِ السَّامع لِقَصْدهم بالحديثِ من قَبْل ذِكْر الحديثِ، ليُحقِّق الأَمرَ ويؤكِّدَه. 124 - ومن البَيِّنِ فيه قولُ عروةَ بنِ أذينة: سليمى أزمعت بينا ... فأين نقولها أَينا2 وذلك أنه ظاهرٌ معلومٌ أَنه لم يُرد أن يجعلَ هذا الإزْماعَ لها خاصة، ويجعلَها من جماعةٍ لم يُزْمِع البينَ منهُم أحدٌ سِواها. هذا محالٌ، ولكنه أرادَ أنْ

_ 1 الشعر للأخنس بن شهاب التغلبي، الجاهل القديم، من قصيدته في المفضليات رقم: 41، "الكبش"، قائد القوم. و "سبائب" جمع "سببية"، يعني على وجهه طرائق من الدم. وفي "ج": "هم يترقون الكبش"، سهو وخطأ. 2 في ديوان شعره: 397 - 400، وفي هامش المخطوطة، ما نصه: "وبعده: وقد قالت لأتراب ... لها زهر تلافينا تعالين، فقد طاب ... لنا العيش تعالينا وغاب البرم الليـ ... ـلة، والعين فلا عينا إلى مثل مهاة الرمـ ... ـل تكسو المجلس الزنيا تمنين مناهن ... فكنا ما تمنينا

يُحقِّق الأمرَ ويؤكدَه. فأَوقَعَ ذِكرَها في سَمْعِ الذي كلم ابتداء من أَول الأمر. ليعلَم قَبْل هذا الحديث أنه أرادَها بالحديث، فيكون ذلك أبعدَ له من الشك. 125 - ومثله في الوضوح قوله: هُمَا يلْبسان المجْدَ أَحْسَن لِبْسةٍ ... شَحيحانِ ما اسْطاعا عليهِ كلاهُما1 لا شُبْهة في أنه لم يُرد أن يَقْصُر هذه الصفةَ عليهما، ولكن نَبَّه لهما قبْلَ الحديثِ عنهما. 126 - وأَبْيَنُ من الجميع قولُه تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الفرقان: 3]، وقوله عز وجل: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} [المائدة: 61]. تقديم المحدث عنه يفيد التنبيه والتحقيق: 127 - وهذا الذي قد ذكرتُ من أنَّ تقديمَ ذكرِ المحدِّث عنه يفيدُ التنبيهَ له، قد ذكَرَه صاحبُ الكتاب في المفعولِ إذا قُدِّم فرُفِع بالابتداءِ، وبُنيَ الفعلُ الناصبُ كانَ له عليه2 وعُدِّيَ إِلى ضميرهِ فشُغِلَ به. كقولنا في "ضربت عبد الله": "عبد الله ضربته"، فقال: و "إنما" قلتُ: "عبدُ اللَّه"، فنبَّهْتُه له، ثم بَنيتُ عليه الفعل، ورفعته بالابتداء"3.

_ 1 الشعر لعمرة الخثعمية، ترثى ابنها، وقال أبو رياش: هو لدرماء بنت سيار بن عبعبة الخثعمية، شرح الحماسة للتبريزي 3: 60 - 64. 2 معنى العبارة: وبنى الفعل الذي كان له ناصبًا، عليه. 3 ما بين القوسين نص كلام سيبويه في الكتاب 1: 41، وسيأتي أيضًا بعد قليل، في آخر رقم: 141.

128 - فإِن قلتَ: فمِن أينَ وجَبَ أن يكونَ تقديمُ ذِكْر المحدِّثِ عنه بالفعلِ، آكَدَ لإِثباتِ ذلك الفعلِ له، وأن يكونَ قولُه: "هما يَلبسان المجْدَ"1، أبلغَ فى جعلِهما يلبسانهِ من أن يقال: "يلبسانِ المجد"؟ فإنِّ2 ذلك من أَجْل أنه لا يُؤتى بالاسم مُعَرَّى منَ العوامل إلاَّ لحديثٍ قد نُويَ إسنادُه إليه، وإِذا كان كذلك، فإن قلت: "عبد الله"، فقد أشعرت قبله بذلك أنك قد أردتَ الحديثَ عنه، فإِذا جئتَ بالحديث فقلت مثلاً: "قامَ" أو قلتَ: "خرجَ"، أو قلتَ: "قَدِمَ" فقد عُلم ما جئتَ به وقد وطَّأْتَ له وقدَّمتَ الإِعلام فيه، فدخلَ على القلب دُخولَ المأنوسِ به، وقلبه قبول المهيأ له المطمئن إليه، ولك لا محالة أشد لثبوته، وأتقى للشُّبهة، وأَمنعُ للشكَّ، وأدخلُ في التَّحقيق. 129 - وجملةُ الأمر أنه ليس إعلامُك الشيءَ بغتةً غفلًا، مثْلَ إعلامِك له بعْدَ التنبيهِ عليه والتقدمةِ له، لأنَّ ذلك يَجْري مَجْرى تكريرِ الإِعلام في التأكيد والإحكام. ومن ههنا قالوا: إنَّ الشيءَ إذا أُضْمِر ثمَّ فُسِّر، كان ذلك أفخمَ له مِنْ أن يُذكَر من غير تقدمة إضمار3. ويدل على صحة ما قالوه أننعلم ضرورةً في قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ} [الحج: 46] فخامةً وشرفاً وروعةً، لا نَجد منها شيئاً في قولنا: "فإن

_ 1 انظر الفقرة رقم: 125 2 "فإن ذلك" جواب قوله آنفًا: "فمن أين وجب". وفي نسخة عند رشيد رضا: "قلت: ذلك من أجل ... ". 3 في المطبوعة وحدها: "تقدم إضمار".

الأبصارَ لا تَعْمى"، وكذلك السبيلُ أبداً في كلَّ كلامٍ كان فيه ضميرُ قصة. فقولُه تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117]، يُفيد من القوةً في نفيِ الفَلاحِ عنِ الكافرين، ما لو قيل: "إنَّ الكافرين لا يفلحون"، لم يستفد ذلك. ولم يكن ذلك كذلك إلا أنك تُعلمه إياهُ مِنْ بعدِ تقدمةٍ وتنبيهٍ، أنتَ به في حكْم مَنْ بدأَ وأعادَ ووطَّد، ثم بنى ولوَّح ثم صرَّح1. ولا يَخفى مكانُ المزيةِ فيما طريقه هذا الطريق. تقديم المحدث عنه يقتضي تأكيد الخبر: 130 - ويَشْهد لِما قلنا مِنْ أنَّ تقديمَ المحدَّثِ عنه يَقْتضي تأكيدَ الخبرِ وتحقيقَه له، أنَّا إذا تأَملْنا وجَدْنا هذا الضَّرْبَ منَ الكلام يجيءُ فيما سبقَ فيه إنكارٌ من مُنْكِرٍ، نحوُ أنْ يقولَ الرجلُ: "ليس لي علمٌ بالذي تقول" فتقولُ له: "أنتَ تَعْلم أنَّ الأمرَ على ما أَقولُ، ولكنك تَميل إلى خصمي" وكقول الناس: "هو يَعلمُ ذاك وإنْ أَنْكَرَ، وهو يَعلمُ الكَذِبَ فيما قالَ وإنْ حلفَ عليه" وكقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 75، 78]، فهذا من أَبْيَنِ شيءٍ. وذاكَ أنَّ الكاذبَ، لا سيَّما في الدِّين، لا يَعْترف بأنه كاذبٌ، وإِذا لم يعترفْ بأنه كاذبٌ، كان أبْعَدَ مِن ذلك أنْ يعترِفَ بالعِلْم بأنه كاذبٌ. أوْ يَجيء فيما اعترضَ فيه شكٌّ، نحوُ أَنْ يقولَ الرجلُ: "كأنَّك لا تعلمُ ما صَنعَ فلانٌ ولم يُبْلِغْك"، فيقولُ: "أنا أعلمُ، ولكني أداريه".

_ 1 في المطبوعة وحدها "ثم بين"، ويريد أنه يبنى على الاسم ثم يأتي بالخبر. 2 عطف على قوله في أول الفقرة: " .... وجدنا هذا الضرب من الكلام يجيء .... ".

أوْ في تكذيبِ مُدَّعٍ كقولهِ عزَّ وجلَّ: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} [المائدة: 61]، وذلك أنَّ قولَهم: "آمنَّا"، دعْوى منهم أَنَّهم لم يَخْرجوا بالكُفْر كما دَخلوا به، فالمَوضعُ موضعُ تكذيب. أو1 فيما القياسُ في مِثْله أنْ لا يكونَ، كقولهِ تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الفرقان: 3]، وذلك أنَّ عبادتَهم لها تَقْتضي أنْ لا تكونَ مخلوقة. وكذلك في كلَّ شيءٍ كان خبَراً على خلافِ العادةِ، وعما يُسْتَغرب من الأمر نحو أن تقول: "ألا تَعْجَبُ من فلان؟ يَدَّعي العظيمَ، وهو يَعْيى باليسيرِ، ويَزْعمُ انّهُ شُجاعٌ، وهو يَفْزَع من أدنى شيء". وجوه تقديم المحدث عنه، ومعانيها: 131 - ومِمّا يَحْسنُ ذلك فيه ويَكْثُر، الوعدُ والضمانُ، كقولِ الرجل: "أنا أُعطيك، أنا أَكفيك، أنا أَقومُ بهذا الأمر"، وذلك أنَّ مِن شأنِ مَنْ تَعِدُهُ وتَضْمَنُ له، أن يَعْترضَه الشكُّ في تمامِ الوعدِ وفي الوفاءِ به، فهو مِنْ أَحْوج شيءٍ إلى التَّأكيد. وكذلك يَكْثُر في المدحِ، كقولك: "أنت تُعطي الجزيلَ، أنتَ تَقْري في المَحْلِ، أنتَ تَجودُ حينَ لا يجود أحد"، وكما قال: ولأنت تقري ما خلَقْتَ وبَعْـ ... ـضُ القَومِ يَخْلُقُ ثُمَّ لا يفري2

_ 1 معطوف على أول الفقرة السابقة. 2 هو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه. وهذا البيت ليس في "س".

وكقول الآخر: نَحْنُ في المَشْتاةِ نَدْعُو الجفَلى1 وذلك أنَّ مِن شأنِ المادِح أنْ يَمْنعَ السَّامعينَ منَ الشَكَّ فيما يَمدح به، ويباعدَهُم مِن الشُّبهة، وكذلك المفتخر. تقديم المحدث عنه بعد واو الحال: 132 - ويَزيدُكَ بَياناً أَنه إذا كان الفعلُ مما لا يُشَكُّ فيه ولا يُنْكَر بحالٍ، لم يَكَدْ يجيءُ على هذا الوجه، ولكنْ يُؤتى به غيرَ مبنيٍّ على اسمٍ، فإِذا أَخبرْتَ بالخروج مثلاً عن رَجلٍ من عادته أَنْ يَخْرج في كلَّ غداةٍ قلتَ: "قد خرجَ"، ولم تَحتَجْ إلى أن تقولَ: "هو قد خرَجَ"، ذاك لأنه ليسَ بشيءٍ يَشُكُّ فيه السامعُ2، فتحتاجُ أن تُحقِّقه، وإلى أن تُقدِّم فيه ذكْرَ المحدَّثِ عنه. وكذلك إذا علمَ السامعُ من حالِ رجلٍ أنه على نيَّة الركوبِ والمضيِّ إلى موضعٍ، ولم يكن شَكٌّ وتردُّدٌ أنه يَرْكَب أو لا يَركَبُ، كان خَبَّركَ فيه أن تقولَ: "قد رَكِبَ"، ولا تقولُ3: "هو قد ركبَ". فإِن جئتَ بمثلِ هذا في صلةِ كلامٍ، ووضعْتَه بَعْدَ واوِ الحال، حسُنَ حينئذٍ، وذلك قولُك: "جئتُه وهو قد ركبَ"، وذاك أنَّ الحكْم يتغيرُ إذا صارتِ الجملةُ فيمثل هذا الموضع، ويصير الأمر بمعرض

_ 1 هو من شعر طرفة، في ديوانه، وتمامه: لا ترى الآدب فينا ينتقر و"المشتاة"، زمن الشتاء والجدب، و "الجفلي"، الدعوة العامة، و "التقري"، الدعوة الخاصة، يختار من يدعوهم وينتقرهم. 2 من أول قوله هنا: "فتحتاج"، إلى قوله بعد قليل "علم" ساقط في "ج" سهوًا. 3 في "س": "ولم تقل".

الشكِّ، وذاك أنه إِنما يَقولُ هذا مَنْ ظَنَّ أنه يصادفه في منزله، وأنه يَصل إليه مِنْ قَبْل أنْ يَرْكَب1. فإِن قُلْتَ: فإنكَ قد تقولُ: "جئتُه وقد رَكبَ" بهذا المعنى، ومع هذا الشكِّ. 2 فإنَّ الشكَّ لا يَقْوى حينئذٍ قوَّتَه في الوجهِ الأول، أَفلا تَرى أَنكَ إِذا استبطأْتَ إنساناً فقلْتَ: "أتانا والشمسُ قد طلعَتْ"، كان ذلك أبلغَ في استبطائكَ له من أن تقولَ: "أتانا وقد طلعتِ الشمسُ؟ " وعكسُ هذا أَنكَ إذا قلتَ: "أتَى والشمسُ لم تَطْلعْ"، كان أقوى في وصفك له بالعَجَلة والمَجيء قَبْل الوقتِ الذي ظُنَّ أنه يَجيءُ فيه، من أن تقول: "أَتى ولم تَطْلع الشمسُ بعدُ". هذا، وهو كلامٌ لا يكادُ يَجيءُ إلاَّ نابياً، وإنَّما الكلامُ البليغُ هو أنْ تبدأَ بالاسم وتَبني الفعلَ عليه كقوله: قد أغتدي والطيرُ لم تَكَلَّمِ3 فإِذا كانَ الفعلُ فيما بعْدَ هذهِ الواوِ التي يُراد بها الحالُ، مضارِعاً، لم يَصْلحُ إلا مبنياً على اسم كقولك: "رأيتُه وهو يكْتُبُ"، و "دخلْتُ عليه وهو يملي الحديث"4، وكقوله:

_ 1 في المطبوعة: "أن يصادفه .... وأن يصل". 2 "فإن الشك" جواب قوله قبل: "فإن قلت ..... ". 3 لم أقف عليه بهذا اللفظ. 4 في المطبوعة: "وهو على الحديث".

تمزرنها والدين يَدعو صَبَاحَهُ ... إذا ما بَنُو نَعْشٍ دَنَوْا فَتَصَوَّبُوا1 ليس يَصلحُ شيءٌ من ذلك إلاَّ على ما تراهُ، لو قلتَ: "رأيتُه ويكتبُ" و "دخلت عليه ويملي الحديث"، و "تمززتها ويدْعو الديكُ صباحَه"، لم يكن شيئاً. 133 - ومما هو بهذهِ المنزلةِ في أنك تَجِدُ المعنى لا يستقيمُ إلاَّ على ما جاءَ عليه من بناءِ الفعلِ على الاسم قولُه تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196]، وقولُه تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5]، وقولُه تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل: 17]، فإِنَّه لا يَخْفى على مَنْ له ذوقٌ أَنه لاو جيءَ في ذلك بالفِعْل غيْرَ مَبْنيِّ على الاسم فقيلَ: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ}، و {اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ}، و {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ}، لوَجِدَ اللفظُ قد نَبَا عنِ المعنى، والمعنى قد زالَ عن صورتِه والحالِ التي يَنْبغي أن يكون عليها.

_ 1 النابغة الجعدي في ديوانه، والضمير في "تمززتها" في البيت قبله: وهو: وصهباء لا تخفي القذى وهي دونه ... تصفق في راووقها ثم تقطب و"صفق الخمر" حولها من إناء إلى إناء لتصفو. و "الراووق"، الذي يصفي به الشرابو "تقطب" تمزج بالماء. و "تمززتها"، تمصصتها شيئًا بعد شيء. و "بنو نعش" يريد "بنات نعش" كواكب في منازل القمر الثمانية والعشرين. و "تصوبوا"، مالوا إلى الغروب عند الأفق.

تقديم المحدث عنه في الخبر المنفي: 134 - واعلمْ أَنَّ هذا الصنيعَ يقتضي في الفعل المنفيِّ ما اقتضاهُ في المُثْبَت، فإِذا قلتَ: "أنتَ لا تُحْسِن هذا"، كان أشَدَّ لنَفْي إحسانِ ذلك عنه من أن تقول: "لا تحسن هذا"، ويكون الكلام في الأول مَن هو أَشدُّ إعجاباً بنفسهِ، وأَعرَضُ دَعْوى في أنه يُحْسنُ، حتى إنك لو أتيتَ بـ "أنْتَ" فيما بعدَ "تُحسِن" فقلتَ: "لا تُحسِنُ أنتَ"، لم يكن له تلك القوة. وكذلك قولُه تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ} [المؤمنون: 59]، يفيدُ مِنَ التأكيد في نَفْي الإِشراك عنهم، ما لو قيل: "والذين لا يُشْركون بربَّهم، أو: بربَّهم لا يشركون" لم يُفِدْ ذلك. وكذا قولُه تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [يس: 7] وقولُه تعالى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلُون} [القصص: 66]، و {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنفال: 55].

مواضع التقديم والتأخير: مثل وغير

مواضع التقديم والتأخير: مثل وغير تقديم "مثل" و"غير" كالأمر اللازم: 135 - ومما يُرى تقديمُ الاسم فيه كاللازم: "مثْل"، و "غير"، في نحو قوله: مثلك يثني الحزن عن صَوْبِه ... ويَسْتَرِدُّ الدَّمعَ عَنْ غَرْبِهِ1 وقولِ النَّاسِ: "مِثْلُكَ رَعى الحقَّ والحُرْمَةَ"، وكقولِ الذي قال لهُ الحَجَّاجُ: "لأَحْمِلَنَّكَ على الأَدْهمِ"، يريد القَيْد، فقال على سبيلِ المغالَطةِ: "ومِثْلُ الأميرِ يَحْمِلُ على الأَدهم والأشْهب"2، وما أشبهَ ذلك مما لا يقصد فيه

_ 1 المتنبي، في ديوانه، وفي المطبوعة: "يثني المزن"، وهو خطأ صرف. 2 يعني الأدهم والأشهب من جياد الخيل.

بـ "مثْل" إلى إنسانٍ سِوَى الذي أُضيفَ إِليه، ولكنَّهم يَعْنون أَنَّ كلَّ مَنْ كان مِثْلَه في الحالِ والصفةِ، كانَ مِن مُقْتَضى القياس ومُوجِب العُرْفِ والعادة أنْ يَفْعلَ ما ذكرَ، أوْ أن يلا يفعل. ومن أجل أن كان المعنى كذلك قال1: ولَمْ أَقُلْ مثْلُكَ، أَعني به ... سِوَاك، يا فَرْداً بلا مُشْبِهِ2 136 - وكذلك حكمُ "غَيْر" إذا سُلِكَ به هذا المسْلَكَ فقيل: "غَيْري يفعل ذلك"، على معنى أني لا أفعلُه، لا أن يومئ بـ "غير" إلى إنسانٍ فيُخبر عنه بأن يفعلَ، كما قال: غَيْرِي بأَكْثَرِ هذا الناسِ يَنْخَدِعُ3 وذاك أنَّه معلومٌ أنَّه لم يُرد أن يُعرِّضَ بواحدٍ كان هناك فيستنقصُه ويصفُه بأنَّه مَضعوفٌ يُغَرُّ ويُخْدَع، بل لم يُردْ إلاَّ أن يقول: إني لَستُ ممن يَنْخَدِعُ وَيَغْتَرُّ. وكذلك لم يرد أبو تمام بقوله: وغَيُري يَأكُلُ المَعْرُوفَ سُحْتاً ... وتَشْحُبُ عِنْدَه بِيضُ الأَيادي4 أَنْ يُعَرِّضَ مثلاً بشاعرٍ سِواه، فَيزعُم أنَّ الذي قرِفَ به عندَ الممدوح من أنه هجاهُ، كان من ذلك الشاعرُ لا منه. هذَا محالٌ، بل ليس إلاَّ أَنه نَفى عن نفسهِ أن يكونَ ممَّن يَكْفُر النعمة ويلؤم.

_ 1 في المطبوعة: "أن المعنى كذلك". 2 هو آخر قصيدة المتني التي سلف بيتها قبل قليل. 3 هو المتبني، في ديوانه، والمصراع الثاني: إن قاتلوا جبنوا، أو حدثوا شجعوا 4 في ديوانه.

واستعمال "مثل" و "غير" على هذا السببيل شيءٌ مركوزٌ في الطباع، وهو جارٍ في عادةِ كلِّ قومٍ. فأنتَ الآن إذا تصفَّحْتَ الكلامَ وجدْتَ هذين الاسمين يُقدِّمان أبداً على الفعل إذا نُحِيَ بهما هذا النحوُ الذي ذكرتُ لك، وترى هذا المعنى لا يَسْتقيم فيهما إذا لم يُقدَّما. أفلا تَرى أَنك لو قلت: "يثني الحزن عن صوبه مثلك"1 و "رعى الحق والحرمة مثلك"، و "يحمل على الأدهم والأشهب مثل الأمير"، و "ينخدع غيري بأكثر هذا الناس"، و "يأكل غيري المعروفَ سُحْتاً"، رأيتَ كلاماً مقلوباً عن جهتهِ، ومُغيَّراً عن صورتِه، ورأيتَ اللفظَ قد نَبَا عن معناهُ، ورأيتَ الطبْعَ يأبى أن يرضاه.

_ 1 في المطبوعة: "يثني المزن".

مواضع التقديم والتأخير: قاعدة عامة

مواضع التقديم والتأخير: قاعدة عامة دستور في التقديم والتأخير في الاستفهام والخبر: 137 - واعلمْ أنَّ معَكَ دُستوراً لك فيه، إنْ تأملت، غني عن كل سِواهُ1، وهو أَنه لا يَجوز أن يكونَ لِنَظْم الكلامِ وتَرتيبِ أَجزائه في "الاستفهام" معنًى لا يكونُ لهُ ذلكَ المعنى في "الخبر". وذاكَ أنَّ "الاستفهامَ" استخبارٌ، والاستخبارَ هوُ طَلبٌ منَ المُخاطَب أن يُخْبرك. فإِذا كان كذلك، كان مُحالاً أن يَفْترِقَ الحالُ بينَ تقديمِ الاسمِ وتأخيرهِ في "الاستفهامِ"، فيكونُ المعنى إذا قلتَ: "أزيدٌ قام؟ " غيرَهُ إذا قلتَ: "أقامَ زيدٌ؟ "، ثم لا يكونُ هذا الافتراقُ في الخَبر، ويكونُ قولُك: "زيدٌ قام" و "قامَ زيدٌ" سواءً، ذاكَ لأنه يؤدِّي إلى أَنْ تستعملَه أمراً لا سبيلَ فيه إلى جوابٍ، وأن تَسْتَثْبِتَه المعنى على وجهٍ ليس عنده عبارةٌ يثبتُه لكَ بها على ذلك الوجه.

_ 1 في هامش "ج" حاشية جار التصوير على أواخر أسطرها، فلا تستبين قراءتها.

وجملةُ الأَمر، أنَّ المعنى في إدخالِكَ "حرْفَ الاستفهام" على الجملة من الكلام، وهو أنك تطلبأن يَقِفَكَ في معنى تلك الجملة ومَؤَدَّاها على إثباتِ أو نَفْي. فإِذا قلتَ: "أزيدٌ منطلقٌ؟ "، فأنتَ تطلب أنْ يقولَ لك: "نَعمْ، هو مُنطلِقٌ" أو يقولَ: "لا، ما هو مُنْطَلِقٌ". وإذا كان ذلك كذلك، كان مُحالاً أن تكونَ الجملةُ إذا دخلَتْها همزةُ الاستفهام استخباراً عنِ المعنى على وجهٍ، لا تكونُ هي إذا نُزِعَتْ منها الهمزةُ إخباراً به على ذلك الوجه، فاعرفه1.

_ 1 السياق: "لا تكون هي ..... إخبارًا به على ذلك الوجه".

تقديم النكرة على الفعل وعكسه

تقديم النكرة على الفعل وعكسه: فصل: "هذا كلام في النَّكِرة إذا قُدِّمتْ على الفعل، أو قدم الفعل عليها" النكرة وتقديمها على الفعل في الاستفهام: 138 - إِذا قلتَ: "أجاءَك رجلٌ؟ "، فأنتَ تُريد أن تسأله هل كان مجيء من واحد من الرجالِ إليه1، فإنْ قدّمتَ الاسمَ فقلتَ: "أرجلٌ جاءك؟ "، فأنتَ تسألُه عن جنسِ مَنْ جاءه، أرجلٌ هو أم امرأةٌ؟ ويكونُ هذا منكَ إِذا كنتَ عَلمتَ أنه قد أتاه آتٍ، ولكنَّكَ لم تعلمْ جنْسَ ذلك الآتي، فسَبيلُكَ في ذلك سَبيلُك إذا أردتَ أن تَعْرفَ عينَ الآتي فقلتَ: "أزيدٌ جاءك أم عمرو؟ ". ولا يجوز تقديم الاسم في المسئلة الأولى2، لأنَّ تقديمَ الاسمِ يكون إِذا كان السؤالُ عن الفاعل، والسؤالُ عَنِ الفاعل يكونُ إمَّا عن عَيْنه أو عَن جِنْسه، ولا ثالثَ. وإِذا كان كذلك، كان مُحالاً أن تُقَدِّم الاسمَ النكرةَ وأنتَ لا تُريد السؤالَ عن الجنس، لأَنَّه لا يكونُ لسؤالك حينئذٍ مُتَعلَّقٌ، من حيثُ لا يَبقى بَعْد الجنسِ إلا العَيْنُ. والنكرةُ لا تدلُّ على عينِ شيءٍ فيُسْأَل بها عنه. فإنْ قلتَ: "أَرجلٌ طويلٌ جاءَكَ أم قصيرٌ؟ "، كان السؤالُ عن أن الجائي كان3، مِنْ جنسِ طِوالِ الرجالِ أم قِصارِهم؟ فإِن وصفْتَ النكرةَ بالجملة فقلتَ: "أرجلٌ كنتَ عرفتَه من قَبْلُ أعطاكَ هذا أم رجلٌ لم تعرفه"،

_ 1 في المطبوعة وحدها: "أحد من الرجال". 2 يعني قولك: "أجاءك رجل"، أن تقدم وأنت تريد المعنى الذي ذكره لها. 3 "كان"، زيادة من "س".

كان السؤالُ عن المُعْطي، أكان ممن عرَفَه قبلُ، أم كان إنساناً لم تتقدَّمْ منه معرفة له1. تقديم النكرة في الخبر ومعناه: 139 - وإذْ قد عرفتَ الحكْم في الابتداءِ بالنَكرةِ في "الاستفهام" فأين "الخَبرَ" عليه. فإِذا قلتَ: "رجلٌ جاءَني": لم يَصْلُح حتى تُريدَ أَن تُعلِمَه أنَّ الذي جاءك رجلٌ لا امرأة، ويكونُ كلامُكَ مع مَن قد عَرَف أنْ قد أتاكَ آتٍ. فإِن لم تُرد ذاك، كان الواجبُ أن تقولَ: "جاءَني رجلٌ"، فَتقَدِّمَ الفعلَ. وكذلك إنْ قلتَ: "رجلٌ طويلٌ جاءَني" لم يستَقِمْ حتى يكونَ السامعُ قد ظَنَّ أنه قد أتاك قصيرٌ، أو نزَّلْتَه منزلة من ظن ذلك. تفسير قولهم: "شر أهر ذاناب": 140 - وقولههم "شراهر ذَا نابٍ"2، إنَّما قُدِّمَ فيه "شرٌّ"، لأنَّ المرادَ أن يُعلم أنَّ الذي أهرَّ ذا النابِ هو مِن جِنْسِ الشرِّ لا جِنْسِ الخير، فَجَرى مَجْرى أن تقولَ: "رجلٌ جاءني" تريدُ أنه رجلٌ لا امرأة، وقولُ العلماءِ إنه إنَّما يصلحُ،3 لأَنَّه بمعنى "ما أهَرَّ ذا نابٍ إلاَّ شرٌّ". بَيانٌ لذلك: ألا تَرى أنَّك لا تَقول: "ما أتاني إلا رجلٌ"، إلا حيثُ يَتَوهَّمُ السامعُ أنه قد أتتك امرأة، ذاك لأن الخبر ينقض النفي يكون حيث يراد

_ 1 "له"، ليست في المطبوعة. 2 أمثال الميداني 1: 326، وهو مثل يضرب عند ظهور أمارات الشر ومخايله، و "أهر" حمله على "الهرير"، وهو أن يكثر السبع عن أنيابه ويصوت إذا رأى ما يفزعه. و "ذو الناب"، السبع. 3 يعني: إنما يصلح في الابتداء بالنكرة.

أن يُقْصَر الفعلُ على شيءٍ1، ويُنْفى عمَّا عدَاهُ. فإِذا قلتَ: "ما جاءني إلاَّ زيدٌ"، كان المعنى أنكَ قد قَصَرْتَ المجيءَ على زيدٍ، ونفَيْتَه عن كُلِّ مَنْ عَدَاهُ. وإنَّما يُتَصَّورُ قَصْرُ الفعلِ على معلومِ، ومتى لم يُرَدْ بالنكرةِ الجنسُ، لم يَقفْ منها السامعُ على معلوم، حتى تزعم أَنِّي أقصُر له الفعلَ عليه، وأُخبِرُه أنه كان منه دونَ غيرهِ. 141 - واعلمْ أنَّا لم نُرِدْ بما قلناهُ2، من أنه إنَّما حَسُنَ الابتداءُ بالنكرةِ في قولهم: "شَرٌّ أهرَّ ذا ناب"، لأنه أُريد به الجنسُ، أَنَّ معنى "شرٌّ" و "الشرُّ" سواءٌ3، وإنَّما أردنا أَنَّ الغرضَ من الكلام أن نُبيِّنَ أنَّ الذي أَهرَّ ذا النابِ هو مِن جِنْسِ الشرِّ لا جنسِ الخير، كما أنَّا إذا قلنا فِي قولهم: "أرجلٌ أتاك أم المرأةُ أتاكَ" ولكنَّا نعني أنَّ المعنى عَلَى أنك سألْتَ عن الآتي أهو مِنْ جنس الرجال أم جنس النساء؟ فالنكرةُ إذنْ على أصلها منكونها لواحدٍ من الجنسِ، إلاَّ أنَّ القصْدَ منكَ لم يقعْ إلى كونهِ واحداً، وإنَّما وقعَ إلى كونهِ من جنسِ الرجالِ. وعكْسُ هذا أنك إذا قلتَ: "أرَجلُ أتاك أم رجلان؟ "، كان القصدُ منك إلى كونِه واحداً، دونَ كونِه رجلاً، فاعرِفْ ذلك أصْلاً، وهو أنه قد يكون في

_ 1 في المطبوعة: "بنقض النفي". 2 في المطبوعة: "واعلم أن لم نرد"، والصواب ما في المخطوطتين. 3 يعني "شر" نكرة، و "الشر" معرفة.

اللفظ دليلٌ على أمرينِ، ثم يَقعُ القصْدُ إلى أَحدِهما دُون الآخرِ، فيصيرُ ذلك الآخَرُ بأنْ لم يَدْخلْ في القصدِ كأنَّه لم يَدْخُل في دلالةِ اللفظ. وإذا اعتبرتَ ما قدمته من قول صاحب الكتاب: "إنما قلتُ: "عبدُ اللَّه" فنبَّهْتُه له، ثم بَنيتُ عليه الفعل"1، وجدْتَه يطابقُ هذا. وذاكَ أَنَّ التنبيهَ لا يكونُ إلاَّ على معلومٍ، كما أنَّ قَصْرَ الفعل لا يكونُ إلاَّ على معلوم، فإِذا بدأتَ بالنكرة فقلتَ: "رجلٌ"، وأنت لا تقَصدُ بها الجنسَ، وأن تُعْلم السامعَ أنَّ الذي أردتَ بالحديثِ رَجلٌ لا امرأةٌ، كان مُحالاً أن تقول: "إني قدَّمتُه لأُنَبِّهَ المخاطَبَ له"، لأنه يَخرجُ بك إلى أن تقول: إني أردتُ أن أُنبه السامعَ لِشيءٍ لا يَعْلمه في جملةٍ ولا تفصيلٍ. وذلك ما لا يُشَكُّ في استحالته، فاعرفه.

_ 1 يعني قول سيبويه، الذي رواه فيما سلف رقم: 127.

القول في الحذف

القول في الحذف: 142 - هو بابٌ دقيقُ المَسْلك، لطيفُ المأخذ، عجيبُ الأَمر، شبيهٌ بالسِّحْر، فإنكَ ترى به تَرْكَ الذِكْر، أَفْصَحَ من الذكْرِ، والصمتَ عن الإفادةِ، أَزْيَدَ للإِفادة، وتَجدُكَ أَنْطَقَ ما تكونُ إِذا لم تَنْطِقْ، وأَتمَّ ما تكونُ بياناً إذا لم تبن1.

_ 1 في "س": لم تبين".

القول في حذف المبتدأ

القول في حذف المبتدأ: 143 - وهذه جملةٌ قد تُنْكِرُها حتى تَخْبُرَ، وتَدْفعهُا حتى تَنْظُرَ، وأنا أَكتبُ لك بَديئاً أمثلةً ممَّا عَرَضَ فيه الحذفُ، ثم أُنبهُكَ على صحةِ ما أشرتُ إليه، وأُقيمُ الحجَّةَ من ذلك عليه. أنشد صاحب الكتاب1: اعْتَادَ قلبَكَ مِنْ لَيلى عَوائدُه ... وهاجَ أهواءَكَ المكنونةَ الطَّللُ رَبْعٌ قَواءٌ أذاعَ المُعْصِراتُ بِهِ ... وكلُّ حيرانَ سارٍ ماؤهُ خَضِلُ2 قال: أرادَ، "ذاكَ رَبْعُ قَواء أو هوَ رَبْعٌ". قال: ومثلُه قولُ الآخر: هل تَعرفُ اليومَ رسْمَ الدارِ والطَّلَلا ... كَما عرفت بحقن الصَّيْقَل الخِلَلاِ دارٌ لِمَرْوةَ إذْ أَهْلي وأَهلُهُمُ ... بالكانسيةِ نرعى اللهو والغزلا3

_ 1 "أنشد"، ليست في المطبوعة وحدها. 2 سيبويه 1: 142، ونسبهما البغدادي في شرح شواهد المغني لعمر بن أبي ربيعة، وليسا في ديوانه. و "القواء" المكان القفر. "أذاع المعصرات به"، وهي الرياح العاصفات ذوات الغبار والرهج: "وأذاعابه"، ذهبت به وطمست معالمه. و "حيران"، صفة لمحذوف هو السحاب المتردد، و "سار" يسير ليلًا. و "ماؤه خضل"، يحمل ماء غزيرًا. 3 سيبويه 1: 142، وينسبان لعمر بن أبي ربعية، وهما في ملحقات الديوان. و "الصيقل"، الذي يصقل السيوف ويجلوها. و "الخلل" جمع "خلة"، وهي جفن السيف المنقوش بالذهب. وفي المخطوطات والمطبوعة: "بالكامسية"، بامليم، وفي البلدان موضع يقال له: "كامس"، ولكن الذي في سيبويه فهو كما أثبت، وهو موضع أيضًا.

كأنه قال: تلك دارٌ. قال شيخُنا رحمه الله1: ولم يَحمل البيتُ الأولُ على أنَّ "الرَّبعَ" بَدَلٌ منَ الطلل"، لأنَّ الرَّبْع أكثرُ من الطَّلل، والشيءُ يُبدَلُ مما هو مِثلُه أو أكثرُ منه، فأما الشيءُ مِنْ أَقلَّ منه ففاسدٌ لا يُتَصور2 وهذه طريقةٌ مستمرَّةٌ لهم إذا ذكروا الديار والمنازل. حذف الفعل وإضماره: 114 - وكما يضمرون المبتدأ فيرفعون، قد يضمرون الفعل فينصبون، كبيت الكتاب أيضًا: ديارَ ميَّة إذْ ميٌّ تُسَاعِفُنَا ... ولا يَرى مثْلَها عُجْمٌ ولا عَرَبُ3 أَنْشَدهُ بنَصْبِ "ديارَ" على إضمارِ فعلٍ، كأنه قالَ: أذكرُ ديارَ مية. المواضع التي يطرد فيها حذف المبتدأ وأمثلته: 145 - ومن المواضع التي يطَّردُ فيها حذفُ المبتدأ، "القطع الأولَ، ويَستأنفون كلاماً آخرَ، وإِذا فعَلوا ذلك، أتوْا في أكثرِ الأمرِ بخبَرٍ من غَير مبتدإ مثال ذلك قوله:

_ 1 في هامش المخطوطة "ج": "يعني الشيخ أبا الحسن الفارسي، ابن أخت الشيخ أبي علي الفارسي". 2 في هامش المخطوطة بخط محدث: "الشيء لا يبدل من أقل منه"، كأنه تذكرة لقارئ. وفي "س": "فأما يدل الشيء من أقل منه"، بزيادة "بدل". 3 هو لذى الرمة في ديوانه، وهو في سيبويه 1: 140، 333.

وعلمتُ أني يوم ذا ... كَ مُنازلٌ كعباً ونهدا قَومٌ إذا لبسوا الحديـ ... ـدَ تَنمَّرُوا حلقًا وقدًا1 وقوله: همُ حَلُّوا مِنَ الشَّرفِ المُعَلَّى ... ومِنْ حَسَب العشيرة حيث شاءوا بُناةُ مكارمٍ وأُسَاةُ كلْمٍ ... دماؤهُمُ مِنَ الكَلَبِ الشفاء2 وقوله: رَآني عَلَى ما بي عُمَيْلةُ فاشْتكى ... إلى ماله حالي أسر كما جهر ثم قال بعد3: غلامٌ رَماهُ اللهُ بالخَيْرِ مُقْبِلاً ... لهُ سيمياءٌ لا تشق على البصر4 وقوله: إِذا ذُكِرَ ابْنا العَنْبريَّةِ لم تَضِقْ ... ذِراعِي، وألقى باسته من أفاخر

_ 1 هو عمرو بن معد يكرب، في ديوانه المجموع، وشرح الحماسة للتبريزي 1: 91، و "الحديد" يعني الدروع، والحلق: الدروع. و "القد" ترس من القد وهو الجلد. و "تنمروا"، كانوا كالنمور في أفعالهم في الحرب. 2 هو أبو البرج، القاسم بن حنبل المرى، شرح الحماسة 4: 96. و "أساة" جمع "آس"، وهو الطبيب المداوي. و "الكلم" الجرح، وكانوا يزعمون أن شفاء الذي عضعه الكلب أن يسقي من دم ملك. 3 هذا السطر زيادة في "س". 4 هو لابن عتقاء الفزاري، الكامل 1: 15، والأمالي 1: 237، وكان عميلة الفزاري، قد وصله بنصف ماله، لما رأى من رثا ثة حاله، وكان عميلة جميلًا. وروايتهم "بالخير يافعًا"، و "مقبل"، يريد به في إقبال شبابه.

هِلالانِ، حمّالانِ في كلِّ شَتْوةٍ ... مِنَ الثِّقْلِ ما لا تَسْتطيعُ الأباعِرُ1 "حَمّالانِ"، خبرٌ ثانٍ، وليس بصفةٍ، كما يكون لو قلتَ مثلاً: "رجلان حَمّالان". 146 - ومما اعْتِيدَ فيه أن يَجيءَ خَبراً قد بُني على مُبتدأ محذوفٍ، قولُهم بعد أن يَذْكُروا الرجلَ: "فَتًى من صفته كذا"، و "أغر من صفته كيت وكيت" كقوله: ألا لا فَتًى بعْدَ ابنِ ناشرةَ الفَتى ... ولا عرْف إلاَّ قد تَوَلَّى وأَدْبَرا فَتًى حنظليٌّ ما تَزالُ ركابُه ... تجودُ بمعروفٍ وتُنْكِرُ منكرًا2 وقوله: سأَشْكُرُ عَمْراً إنْ تراخَتْ منيَّتي ... أياديَ لم تُمْنَنْ، وإنْ هيَ جلَّتِ فتىً غيرُ محجوبِ الغِنى عن صديقِهِ ... ولا مُظْهِرُ الشَّكوى إذا النعل زلت3 ومن ذلك قول جميل:

_ 1 هو موسى بن جابر الحنفي، شرح الحماسة للتبريزي 1: 191، و "ألقى باسته من أفاخر"، سقط على عجزته من العجز، وما يجد من الذلة والقلة، و "هلالان"، كالهلال في الشهرة والارتفاع. و "الشتوة"، زمن الجدب في الشتاء. 2 هو أبو حزابة، الوليد بن حنيفة، يقوله في رثاء عبد الله بن ناشرة، أحد بني عامر بن زيد مناة بن تميم "ديوان الفرزدق: 267، 817 مدحه الفرذدق ورثاه". والشعر في البيان والتبيين3: 329، وليسفيه البيت الثاني، وهو في شرح الحماسة للتبريزي 3: 22. 3 هو محمد بن سعد الكاتب التميمي البغدادي، وينسب لأبي الأسود الدؤلي، ولعبد الله بن الزبير الأسدي، ولإبراهيم الصولي، انظر شرح حماسة أبي تمام 4: 69، ومعجم الشعراء للمرزباني: 421، وسمط اللآلي: 166، وديوان الصولي "الطرائف": 130.

وَهَلْ بُثَيْنَةُ، يا لَلْنّاسِ، قاضِيَتي ... دَيْني؟ وفاعِلةٌ خَيْراً فأَجزِيها؟ تَرْنُو بعينيْ مهاةٍ أَقْصَدتْ بِهما ... قلْبي عشيةَ تَرْميني وأَرْميها هَيْفاءُ مُقْبِلةً، عَجْزاءُ مُدْبِرةً، ... رَياَّ العِظام، بلا عَيْبٍ يُرى فيها منَ الأَوانسِ مِكْسالٌ، مُبَتَّلةٌ ... خَوْدٌ، غَذاها بِلينِ العيش غاديها1 وقوله أيضًا: إِني عشيةَ رحْتُ وَهْيَ حزينةٌ ... تَشْكُو إليَّ صبابة لصبور وتقول: بنت عِنْدِي، فديتُكَ، لَيْلَةً ... أَشْكو إليكَ، فإنَّ ذاكَ يسيرُ غرَّاءُ مبْسَامٌ، كأنَّ حديثَها ... دُرٍّ تحدَّرَ نظمه منثور مخطوطة المَتْنَيْنِ، مُضْمَرةُ الحَشا، ... رَياَّ الرَّوادِفِ، خَلْقُها ممكُورُ2 وقولِ الأُقيْشر في ابْنِ عَمِّ له موسرٍ، سألَهُ فمنعَه وقال: كَمْ أعطيكَ مالي وأنتَ تنفقه فيما لا يغنيك؟ والله لا أعطيتك3. فتكره حتى اجتمعَ القومُ في ناديهم وَهوَ فيهم، فشَكاهُ إلى القوم وذمَّه، فوثَبَ إليه ابنُ عمه فلطمه، فأنشأ يقول: سَريعٌ إلى ابْنِ العَمِّ يلْطِمُ وَجهَهُ، ... وليسَ إلى داعي النَّدى بِسَريعِ حَريصٌ على الدُّنيا، مُضِيعٌ لدِينِهِ، ... ولَيْسَ لِمَا في بَيْتِهِ بمُضِيعِ4

_ 1ليس في ديوانه جميل المجموع، وهو في التبيان لابن الزملكاني: 112، وجعله في المطبوعة ثلاث أبات، فقال في الثالث: "ريا العظام بلين العيش غاذيها"، وهو خطأ. "أقصدت قلبه"، رمته بسهم عينها فقتلته. 2 في مجموع شعره المطبوع. وهو في الأغاني "الدار" 8: 148، "محطوطة المتبين"، ليس في جانبي ظهرها ارتفاع، بل هو ممتلئ مستو مطمئن ممدود. و "ممكور"، مدمج غير مسترخ. 3 في المطبوعة: "لا أعطيك". 4 هو له في الخزانة 2: 281، ومعاهد التصيص 3: 242

147 - فتأمَّل الآنَ هذه الأبياتَ كلَّها، واسْتَقْرِها واحداً واحداً، وانظرْ إلى مَوقِعها في نفسِك، وإلى ما تَجدُه مِنَ اللطفِ والظَّرْفِ إذا أنتَ مررت بموضع الحذف منها، ثم فليت النفسَ عما تَجدُ1، وأَلْطفْتَ النظَرَ فيما تُحِسُّ به. ثُمَّ تَكلَّفْ أَن تَرُدَّ ما حذَفَ الشاعرُ، وأن تُخرجَه إلى لفظِك، وتُوقِعَه في سمعكَ، فإِنك تَعلمُ أنَّ الذي قلتُ كما قلتُ، وأنْ رُبَّ حَذْفٍ هو قِلادَةُ الجِيد، وقاعدةُ التَّجويد، وإنْ أردتَ ما هو أَصْدقُ من ذلك شهادةً، وأدلُّ دلالةً، فانظرْ إلى قولِ عبدِ الله بنِ الزَّبير يذكُر غريماً له قد ألح عليه: عرَضْتُ على زيدٍ ليأخذَ بعضَ ما ... يُحاوِلُه قَبْلَ اعتراضِ الشَّواغِلِ فدَبَّ دبيبَ البغْلِ يأْلَمُ ظَهْرُهُ ... وقالَ: تَعلَّمْ، أَنني غيرُ فاعلِ تثاءَبَ حتى قلْتُ: داسِعُ نفْسِه ... وأَخْرَجَ أَنياباً لهُ كالمَعَاوِلِ2 الأَصلُ: حتى قلتُ: "هو داسِعُ نفْسِه"، أي حسبْتُه من شدِّة التَّثاؤب، وممَّا به من الجهْدِ، يقذِفُ نفْسَه من جوفه، ويُخرجُها من صدره، كما يدْسَعُ البعيرُ جِرَّته. ثم إنَّك تَرى نصْبةَ الكلام وهيئتَه تَرومُ منك أنْ تَنْسى هذا المبتدأ، وتباعدَه عن وَهْمك، وتَجتهدُ أن لا يدورَ في خَلَدِكَ، ولا يَعْرِضَ لخاطرك، وتَراكَ كأنَّك تَتوقَّاه تَوَقِّيَ الشِّيءِ تكره مكانه، والثقيل تخشى هجومه. أمثلة من لطيف حذف المبتدأ: 148 - ومن لَطِيفِ الحَذْف قولُ بكْر بن النَّطَّاح:

_ 1 في المطبوعة: "ثم قلبت"، و "فليت"، فنشت. 2 في مجموع شعره: 115، عن الأغاني 14: 240، 241، وغريم عبد الله يقال له: "ذئب"، كما ذكر صاحب الأغاني، ولكنه جاء فيا لشعر ناك وهنا "عرضت على زيد". و "دسع البعير بجرته"، دفع الطعام فأخرجه من جوفه، ومضغه مرة أخرى.

العين تبدي الحب والغضا ... وتُظْهِرُ الإبرامَ والنَّقْضا دُرَّةُ، ما أَنصفْتِنِي في الهَوَى ... ولا رَحِمْتَ الجَسَدَ المُنْضَى غَضْبَى، ولا واللهِ يا أَهلَها ... لا أَطْعمُ البارِدَ أوْ ترضى1 يقوله في جاريةٍ كان يُحبُّها2، وسُعِيَ به إلى أهلِها فمنعوها منه. والمقصودُ قولهُ: "غَضْبَى"، وذلك أنَّ التقديرَ "هي غضبى" أو "غضبى هي" لا محالة، أَلا تَرى أَنك تَرى النفسَ كيف تَتفادى من إظهارِ هذا المحذوفِ3، وكيف تأنَسُ إلى إضمارهِ؟ وتَرى الملاحةَ كيف تَذهبُ إن أنتَ رُمْتَ التكلم به؟ 149 - ومن جيِّد الأمثلةِ في هذا الباب قولُ الآخرِ، يخاطبُ امرأتَه وقد لامَتْه على الجود: قالَتْ سُمَيَّةُ: قَدْ غَوَيْتَ بأنْ رأَتْ ... حَقاًّ تناوب مالنا ووفود غَيٌّ لعَمْرِكِ لا أزالُ أَعودُه ... ما دامَ مال عندنا موجود4 المعنى: "ذاك غيٌّ لا أزالُ أعودُ إليه، فدعي عنك لومي". خلاصة في شأن ما يحذف: 150 - وإذ عرفْتَ هذه الجملةَ من حالِ الحذْفِ في المبتدأ، فاعلمْ أنَّ ذلك سبيلُه في كلِّ شيء، فما مِن اسْمٍ أو فعلٍ تَجدُه قد حُذِفَ، ثم أُصيبَ به موضعُه، وحُذِفَ في الحال يَنْبغي أن يُحذَفَ فيها5، إلاَّ وأنت تَجدُ حذْفَه هناك أَحْسَنَ من ذكرهِ، وترة إضمارَهُ في النفس أَوْلى وآنسَ مِنَ النُّطْقِ به.

_ 1 "أو" في "س": "بمعنى حتى". 2 في المطبوعة و "ج"، "يقول"، وأثبت ما في "س". 3 في المطبوعة و "ج": "إلا أنك ترى النفس"، وأثبت ما في "س". 4 في المطبوعة: "ووفودًا" و "موجودًا"، وأثبت ما في "ج" و "س" وفي هامش "ج" ما نصه": "قال عبد القاهر: "ووفود" معطوفة على الضمير في "تناوب" التقدير: بأن رأت حقًا تناوب هو "والوفود ما لنا". 5 من قوله: "ثم أإصيب" إلى قوله: "يحذف فيها"، سقط من "س"، وستسقط منه هنا كلمات أترك الإشارة إليها.

القول في حذف المفعول به

القول في حذف المفعول به: 151 - وإذْ قد بدأْنا في الحذفِ بذكرِ المبتدأ، وهو حذف اسم، إذا لا يكون المبتدأ إلا اسمًا، فإن أُتْبعُ ذلكَ ذكْرَ المفعولِ بهِ إذا حُذِفَ خُصوصاً، فإِنَّ الحاجَةَ إليه أمسُّ، وهو بما نحنُ بصدده أَخصُّ، واللطائفُ كأنها فيه أَكثرُ، ومما يَظْهر بسببهِ مِنَ الحُسْن والرَّوْنَقِ أَعجبُ وأَظْهَرُ1. قاعدة ضابطة في معنى حذف الفاعل والمفعول: 152 - وههنا أصل يجب ضبطه، وهو أنم حالَ الفعلِ معَ المفعولِ، الذي يَتعدَّى إليه، حاله مع الفاعل. فكما أَنك إِذا قلتَ2: "ضربَ زيدٌ، فأَسندْتَ الفعلَ إلى الفاعل، كان غرَضُكَ من ذلك أَنْ نثبت الضرب فعلًا له، لا أن تفيد وجوب الضرب في نفسه وعلى الإطلاق. كذلك إذا عدَّيْتَ الفعلَ إلى المفعولِ فقلتَ: "ضربَ زيدٌ عَمرا"، كان غرَضُكَ أن تُفيد التباسَ الضربِ الواقعِ مِنَ الأول بالثاني ووقوعَه عليه، فقد اجتمعَ الفاعلُ والمفعولُ في أنَّ عمَلَ الفعلَ فيهما إنَّما كان مِنْ أَجْل أن يُعْلَم التباسُ المعنى الذي اشتُقَّ منه بِهما فعَمِلَ الرفعُ في الفاعل، ليُعلَم التباسُ الضربِ به من جهةِ وقوعهِ منه والنصْبُ في المفعول، ليُعْلَم التباسُه به من جهة وقوعه عليه. ولم يكن ذلك

_ 1 في المطبوعة: "وما يظهر". 2 في المطبوعة وحدها: "وكما".

ليُعلم وقوعُ الضربِ في نفسه، بل إذا أُريد الإخبارُ بوقوعِ الضرْبِ ووجودِه في الجملة من غير أن يُنْسَب إلى فاعلٍ أو مفعولٍ، أو يتعرَّضَ لبيان ذلك، فالعبارةُ فيه أن يقالَ: "كانَ ضربٌ" أو "وَقَع ضربٌ" أو "وُجد ضربٌ" وما شاكلَ ذلك مِنْ ألفاظٍ تفيدُ الوجودَ المجرَّدَ في الشيء. الأغراض في ذكر الأفعال المتعدية وأقسامها: 153 - وإذْ قد عرفتَ هذه الجملةَ، فاعلمْ أَنَّ أغراضَ الناس تختلفُ في ذكْر الأفعالِ المتعدِّية، فَهُمْ يذكرونها تارةً ومرادُهم أنْ يَقْتصِروا على إثبات المعاني التي اشتُقَّتْ منها للفاعلين، من غير أنْ يتعرَّضوا لذكْر المفعولين. فإِذا كان الأمرُ كذلك، كان الفعلُ المتعدي كغَير المتعدي مثلاً، في أنك لا تَرى له مفعولاً لا لفظًا ولا تقديرًا. القسم الأول: حذف المفعول، لإثبات معنى الفعل، لا غير: 154 - ومثالُ ذلك قولُ الناس: "فلانٌ يحُلُّ ويَعْقِدُ، ويأمر وينهى، ويضر وينفع"، وكقولهم: "هي يُعْطي ويُجْزِلُ، ويَقْري ويُضيفُ"، المعنى في جميع ذلك على إثباتِ المعنى في نفسهِ للشيء على الإطلاقِ وعلى الجملة، من غير أن يتعرَّضَ لحديثِ المفعولِ، حتى كأنك قلتَ: "صار إليه الحَلُّ والعَقْدُ، وصار بحيثُ يكون مِنه حَلٌّ وعقْدٌ، وأمرٌ ونَهْيٌ، وضَرٌّ ونَفْعٌ"، وعلى هذا القياس. 155 - وعلى ذلك قولُه تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، المعنى: هل يَسْتَوي مَنْ له عِلْم ومَنْ لا علمَ له؟ من غَيْرِ أن يقصدَ النصُ على معلوم. وكذلك قولُه تعالى {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [غافر: 68]، وقوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى، وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} [القمر: 43، 44] وقوله {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى}، [القمر: 48]، المعنى

هو الذي منه الإحياء والإماتة والغناء والإقناءُ. وهكذا كلُّ موضعٍ كان القصدُ فيه أن تثبت المعنى في نفسه فعلًا للشيء، وأن تخبر بأنَّ مِن شأنِه أن يكونَ منه، أوْ لا يكونُ إلاَّ منه، أوْ لا يكونَ منه، فإنَّ الفعلَ لا يُعدَّى هناك، لأَنَّ تعديته تَنْقُضُ الغرضَ وتُغيِّر المعنى. ألا ترى أنكَ إذا قلتَ: "هو يُعطي الدنانيرَ"، كان المعنى على أنك قصدْتَ أن تُعْلمَ السامعَ أنَّ الدنانيرَ تَدْخلُ في عطائِه، أو أنه يُعْطيها خصوصاً دونَ غيرها، وكان غرَضُك على الجملة بيانَ جنسِ ما تناولَه الإعطاءُ، لا الإعطاءُ في نفسِه، ولم يكن كلامُك معَ مَنْ نَفَى أن يكونَ كان منه إعطاءٌ بوجهٍ من الوجوه، بل مع مَن أَثْبَتَ له إعطاءً، إلا لم يُثبت إعطاءَ الدنانير. فاعرفْ ذلك، فإنه أصْلٌ كبيرٌ عظيمُ النفعِ. فهذا قسمٌ من خُلوِّ الفعلِ عن المفعولِ، وهو أنْ لا يكون له مفعول يمكن النص عليه. القسم الثاني: حذف مفعول مقصود، لدلالة الحال عليه، وهو قسمان، أولهما الجلي 156 - وقسمٌ ثانٍ: وهُوَ أن يكونَ له مفعولٌ مقصودًا قَصْدُه معلومٌ، إلا أنه يُحْذَفُ من اللفظ لدليلِ الحالِ عليه. وينقَسِم إلى جَليٍ لا صنعةَ فيه، وخَفِيٍّ تَدخلُه الصنعةُ. فمثالُ الجليِّ قولُهم: "أصغَيْتُ إليه"، وهم يُريدون "أذني"، و "أغضيت عليه"، والمعنى "جفني". القسم الثاني: الخفي الذي تدخله الصنعة ومثاله الأول 157 - وأما الخَفيُّ الذي تدخلُه الصنعةُ فيتفنَّنُ ويتنوَّعُ. فنوعٌ منه، أنْ تَذكُر الفعلَ وفي نفسِك له مفعولٌ مخصوصٌ قد عُلمَ مكانُه، إما بجري ذكر1، أو دليل حال، إلا أنك تنسبه نفسك وتخفيه،

_ 1 في المطبوعة وحدها "لجري ذكر".

وتُوهِمُ أنك لم تَذْكُر ذلكَ الفعلَ، إلاَّ لأنْ تُثْبِتَ نفْسَ معناه، مِنْ غيرِ أن تُعدِّيَهُ إلى شيءٍ، أو تَعْرضَ فيه لمفعولٍ. 158 - ومثاله قول البحتري: شَجْوُ حسَّادِهِ وغَيْظُ عِداهُ ... أن يَرى مُبْصِرٌ ويسْمَعَ واعِ1 المعنى، لا محالةَ: أن يَرى مُبصرٌ مَحاسِنَه، ويَسْمعَ واعٍ أخبارَه وأوصافَه، ولكنك تعلمُ على ذلك أنه كأنه يَسْرِقُ علْمَ ذلك مِنْ نفْسِه، ويدْفَع صورتَه عن وَهْمه، ليَحْصُل له معنى شريفٌ وغرَضٌ خاصٌّ. وذاك أنه يمدحُ خليفة2، وهو المعتزُّ، ويُعرِّضُ بخليفةٍ وهو المستعينُ، فأرادَ أن يقولَ: إنَّ محاسنَ المعتزِّ وفضائلَه، المحاسنُ والفضائلُ يَكفي فيها أنْ يَقع عليها بَصرٌ ويَعيَها سمْعٌ حتى يَعْلَم أنه المُستحِقُّ للخلافة، والفردُ الوحيدُ الذي ليس لأحدٍ أن يُنازِعَه مَرْتبتَها، فأنتَ ترَى حسَّادَه وليس شيءٌ أشْجى لهم وأغيظ، من علمهم بأن ههنا مُبْصراً يرَى وسامعاً يَعي، حتى لَيتَمنَّوْنَ أنْ لا يكونَ في الدنيا مَنْ له عينٌ يُبصر بها، وأُذُنٌ يَعي معها، كي يَخْفى مكانُ استحقاقِه لِشَرف الإمامةِ، فيجدوا بذلك سَبيلاً إلى منازعته إياها. مثال ثان من الخفي: 159 وهذا نوعٌ آخر منه، وهو أن يكونَ معك مفعولٌ معلومٌ مقصودٌ قَصْدُهُ، قد عُلِمَ أنه ليس للفعلِ الذي ذكرتَ مفعولٌ سِواهُ، بدَليلِ الحالِ أو ما سَبَق منَ الكلام، إلاَّ أنك تَطْرحُه وتَتَناساهُ وتدَعُه يَلزَمُ ضميرَ النفسِ، لِغَرضٍ غيرِ الذي مَضى. وذلك الغرضُ أن تتوفرَ العنايةُ على إثباتِ الفعلِ للفاعلِ، وتخلصَ له، وتَنصرف بجُملتها وكما هي إليه.

_ 1 في ديوانه. 2 في المطبوعة و "ج": "وقال إنه يمدح"، والصواب مافي "س".

160 - ومثاله قول عمرو بن معدي كرب: فلوْ أنَّ قَوْمي أَنطَقَتْني رماحُهُمْ ... نَطَقْتُ ولكنَ الرماحَ أَجرَّتِ1 "أَجرَّتْ" فعلٌ مُتَعدِّ، ومعلومٌ أنه لو عدَّاه لَمَا عدَّاهُ إلاَّ إلى ضميِر المتكلم نحوُ: "ولكنَّ الرماحَ أجرًّتْني" وأنه لا يتصور أن يكون ههنا شيءٌ آخرُ يَتعدَّى إليه، لاستحالة أنْ يقول: فلو أنَّ قومي أنطقتني رماحُهم ثم يقول: "ولكنَّ الرماحَ أجرَّتْ غَيري"، إلا أنك تَجدُ المعنى يُلزمُك أنْ لا تنطقَ بهذا المفعولِ ولا تُخرِجَه إلى لفظك. والسببُ في ذلك أَنَّ تَعْديتَكَ له تُوهِمُ ما هو خِلافُ الغَرَضِ، وذلك أنَّ الغرَضَ هو أن يثْبتَ أنه كان منَ الرماح إجْرارٌ وحبْسُ الألسنِ عن النطق2، وأن يصحَّح وجودُ ذلك. ولو قال: "أجرَّتْني"، جازَ أن يُتوهَّم أنه لم يَعْن بأن يُثبِتَ للرماح إجراراً، بل الذي عنَاه أن يَبيِّنَ أنها أجرَّتْه3. فقد يُذَكرُ الفعلُ كثيراً والغرَضُ منه ذكْرُ المفعول، مثالُه أنك تقولُ: "أضَربْتَ زيداً؟ " وأنتَ لا تُنكِرُ أن يكون كان منَ المخاطب أو يستطيعَه. فلمَّا كان في تعديةِ "أجرَّت" ما يُوهِمُ ذلك، وقَفَ فلم يُعدِّ البتَّةَ، ولم ينطق بالمفعول، لخلص العنايةُ لإثباتِ الإجرارِ للرماحِ وتصحيحِ أنه كان منها، وتسلم بكليتها لذلك.

_ 1 هو في ديوانه المطبوع، وهو في شرح الحماسة 1: 84. و "أجر الفصيل"، شق لسانه ووضع فيه عودًا لئلا يرضع أمه، ويعني عمرو أن قومه لم يبلوا بلاء حسنًا في حربهم، ولو أحسنوا البلاء لنطق بمدحهم، ولكنهم أساءوا، فكانت إساءتهم قاطعة للسانه، فبقى لا ينطق. 2 في المطبوعة: "حبس الألسن". 3 في المطبوعة: "يتبين".

161 - ومثله قول جرير: أمنَّيْتِ المُنى وخَلَبْتِ حتَّى ... تركْتِ ضميرَ قَلْبِي مُسْتهاما الغرضُ أن يُثبت أنه كان منها تَمْنِيَةٌ وخَلاَبة، وأن يقول لها: أهكذا تَصْنعين؟ وهذه حيلتُك في فِتنِة الناس؟ مثال من بارع الحذف الخفي: 162 - ومِنْ بارعِ ذلك ونادِرِه، ما تجدُه في هذه الأبيات. روَى المرزُباني في "كتاب الشعر" بإسنادٍ، قال: لما تشاغَلَ أبو بكرٍ الصدِّيق رضَي الله عنه بأهل الرِّدَّةِ، استبطأتْه الأَنصارُ [فكلموه] 1، فقال: إما كلَّفْتموني أخلاقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم2، فوَاللهِ ما ذاكَ عندي ولا عِنْد أحدٍ من الناس، ولكنِّي واللهِ ما أُوتيِ مِنْ مودَّةٍ لكُمْ ولا حسْنِ رأْي فيكم3، وكيف لا نُحِبُّكم؟ فواللهِ ما وجدْتُ مثَلاً لنا ولَكُم إلا ما قال طفيلٌ الغَنَويُّ لبني جعفر بن كلاب: جِزَى الله عَنّا جَعْفَراً حين أُزِلقَتْ ... بِنا نَعْلُنا في الواطِئين فزَلَّتِ أَبَوْا أنْ يَمَلُّونا، ولَوْ أنَّ أُمَّنا ... تُلاقي الذي لاَقوْهُ منَّا لملت هم خلطونا بالنفوس وألجئوا ... إلى حجرات أدفأت وأظلت4

_ 1 الزيادة بين القوسين من مجالس ثعلب، وإسقاطها مخل. 2 أي: أن كلتموني، و "ما" زائدة. 3 أي لا أتهم في مودتي لكم وحسن رأيي فيكم. 4 هو بلفظه تقريبًا في مجالس ثعلب: 461، وبإسناده، وهو: "حدثنا أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي المعروف بثعلب، حدثنا عمر بن شبة، حدثنا ابن عائشة قال: سمعت أصحابنا يذكرون أن أبا بكر لما تشاغل .... "، وكأنه هو إسناد المرزباني نفسه. والشعر في زيادته ديوانه: 57: وهو في الأغاني "الدار" 15: 368، والوحشيات رقم: 415. هذا ورواية ثعلب، وأبي تمام في الوحشيات، وأبي الفرج في الأغاني في صدر البيت الخير: فذو المال موفور وكل معصب إلى حجرات

فيها حَذْفُ مفعولٍ مقصودٍ قصْدُه في أربعةِ مواضع قوله: "لملت"، و "ألجئوا" و "أدفأت" و "أظلت"، لأن الأصل: "لملتنا" و "ألجئونا إلى حجرات أدفأَتْنا وأظلَّتْنا"، إلاَّ أنَّ الحالَ على ما ذكرتُ لكَ، من أَنه في حَدِّ المُتناسي1، حتى كأَنْ لا قَصْدَ إلى مفعولٍ، وكأَنَّ الفعل قد أُبهِمَ أَمرُه فلم يُقْصَدْ به قصْدُ شيءٍ يقع عليه، كما يكونُ إذا قلتَ: "قد ملَّ فلانٌ"، تريدُ أن تقولَ: قد دَخَلَهُ المَلالُ، من غيرِ أن تَخُصَّ شيئاً2، بل لا تَزيد على أن تَجْعلَ المَلالَ مِنْ صفتهِ، وكما تقولُ: "هذا بيتٌ يُدفئ ويظلُّ"، تُريد أنه بهذه الصفة. 163 - واعلمْ أنَّ لك في قوله: "أجرت"، و "لملت"، فائدةَ أُخرى زائدةً على ما ذكْرتُ من توفير العناية على إثبات الفعلِ، وهي أن تقولَ: كانَ مِن سُوءِ بَلاءِ القوم ومِنْ تَكْذيبهم عن القتالِ ما يُجِرُّ مثْلَه3، وما القضيةُ فيه أنه لا يُتَّفَق على قومٍ إلا خَرَس شاعرُهم فلم يَسْتطعْ نطْقاً وتَعْديتُك الفعلَ تَمنُع مِن هذا المعنى، لأنكَ إذا قلتَ: "ولكنَّ الرماحَ أَجرَّتْني"، لم يُمكن أن يتأَوَّل على معنى أَنه كان منها ما شأنُ مِثْلِه أن يُجِرَّ، قضيةً مستمرةً في كلِّ شاعرِ قومٍ4، بل قد يجوزُ أن يُوجَدَ مثلُه في قومٍ آخرين فلا يُجَرُّ شاعرهم. ونظيره

_ 1 في المطبوعة: "في حد المتناهي"، خطأ محض. 2 في "س"، ونسخة عند رشيد رضا: "من غير أن تقصد". 3 "التكذيب"، يقال: "أراد شيئًا ثم كذب عنه"، أي أحجم، ولم يصدق الجملة. 4 في هامش "ج"، أما هذا الموضع، حاشية أقطع فإنها من كلام عبد القاهر، في نسخته التي نقل عنها كاتب "ج"، وهذا نصها: [فإن قيل: تقدير العموم مع إضافته لا يتصور، وإنما يتصور ذلك أن لو قال: "لو أن أما تلاقي الذي لاقوه منا لملت" فالجواب: إنه لو كان الغرض من الكلام التمثيل، فإن الخاص فيه يجري مجرى العام. يقول الرجل لصاحبه: "أنت تشكر من لم يحسن إليك"، يريد أن ذلك حكم الجملة، ومثله قوله: إنك إن كلفتني ما لم أطق ... ساءك ما سرك مني من خلق لم يرد أن يخص نفسه بذلك، ويجعله خلقًا هو فيه، بل أراد أن ذلك ما عليه [تمشي] الطباع، فاعرفه].

أَنك تقولُ: "قد كان منكَ ما يُؤلم"، تُريد ما الشرْطُ في مثله أنْ يُؤلم كلَّ أحدٍ وكلَّ إنسانٍ. ولو قلتَ: "ما يؤلمني" لم يُفد ذلك، لأنه قد يجوزُ أن يؤلمكَ الشيءُ لا يؤلِمُ غيرَكَ. وهكذا قوله: "ولو أنَّ أُمَّنا تُلاقي الذي لاقَوْهُ منَّا لَمَلَّتِ"، يتضمَّنُ أَنَّ مَنْ حُكمَ مثلُه في كل أُمِّ أنْ تملَّ وتسْأَمَ، وأنَّ المشقةَ في ذلك إلى حدٍ يُعلم أنَّ الأُمَّ تملُّ له الابْنَ وتتَبرَّمُ به، مع ما في طباعِ الأمهاتِ منَ الصبرِ على المكارهٍِ في مَصالح الأولادِ. وذلك أنه وإن قال: "أمُّنا"، فإن المعنى على أنَّ ذلك حُكْمُ كلِّ أمّ مع أولادها1 ولو قلتَ: "لَمَلَّتْنا"، لم يحتملْ ذلك، لأنه يَجري مجْرى أن تقولُ: "لو لَقيتْ أُمُّنا ذلك لَدَخلَها ما يُملُّها منَّا"، وإذا قلتَ "ما يُمِلُّها منَّا" فقيَّدْتَ، لم يَصْلح لأَن يُرادَ به معنى العموم وأنه بحيثُ يَمَلُّ كلَّ أم من كلِّ ابنٍ. وكذلك قولُه: إلى حُجُراتٍ أدفأتْ وأظلتِ لأنَّ فيه معنى قولِك: "حُجُراتٍ من شأنِ مثْلها أن تُدَفئَ وتُظِلَّ"، أي هيَ بالصفةِ التي إذا كان البيت

_ 1 من أول قوله: "وذلك أنه" إلى هنا، ساقط في "س".

عليها أَدْفأَ وأَظَلَّ. ولا يجَيءُ هذا المعنى مع إظهار المفعول، إذْ لا تقول: "حجراتٍ من شَأْنِ مِثْلِها أن تُدفئنا وتُظلَّنا"، هذا لغوٌ من الكلام. فاعرِفْ هذه النكْتَةَ، فإنَّك تَجدُها في كثير من هذا الفَنِّ مضمومةً إلى المعنى الآخر، الذي هو توفيرُ العناية على إثباتِ الفعلِ، والدلالةِ على أنَّ القصدَ من كر الفعلِ أن تُثْبتَه لفاعلهِ، لا أن تُعلِمَ التباسه بمفعوله. زيادة بيان في الحذف الخفي: 164 - وإن أردتَ أنْ تزدادَ تَبييناً لهذا الأصل1، أعني وُجوبَ أنْ تُسْقِط المفعولَ لتتوفَّر العنايةُ على إثباتِ الفعل لفاعلِه ولا يَدخلَها شَوْبٌ، فانظرْ إلى قوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} [القصص: 23، 24]، فيها حذف مفعول في أربعة مواضع، إذا المعنى: "وجدَ عليه أمةَ منَ الناس يَسْقون" أغنامهم أو مواشيهم و "امرأتين تذودان" غنمهما و "قالتا لا نَسْقِي" غنمَنَا "فسقى لهما" غنمَهَما. ثم إنَّه لا يَخْفى على ذي بَصَرٍ أنه ليس في ذلك كلِّه إلاَّ أن يُتْرَكَ ذِكْرُه ويُؤْتى بالفعل مطْلقاً، وما ذاك إلاَّ أنَّ الغرضَ في أن يُعلَم أَنه كان منَ الناس في تلك الحال سَقْيٌ، ومن المرأتينِ ذَوْدٌ، وأنهما قالتا: لا يكونُ منَّا سقْيٌ حتى يُصْدِرَ الرعاءُ، وأنه كان مِنْ موسى عليه السلام من عبد ذلك سَقْي، فأمَّا ما كان المَسْقيُّ؟ أغَنماً أم إبلاً أم غيرَ ذلك، فخارجٌ عن الغرَض، ومُوْهِمٌ خِلافَه. وذاكَ أنه لو قيل: "وجَد مِنْ دونِهمْ امرأتينِ تَذُودانِ غنَمَهما"، جاز

_ 1 في المطبوعة: "تبيينًا"، وفي "س": "لهذا الأمر".

أن يكونَ لم يُنْكر الذودَ من حَيْثُ هو ذَوْدٌ، بل مِنْ حيثُ هو ذَوْدُ غَنم، حتى لو كان مكانَ الغنمِ إبلٌ لم يُنكر الذودَ كما أنك إذا قلتَ:"ما لك تمنعُ أخاك؟ "، كُنْتَ مُنْكِراً المنعَ، لا من حيثُ هوَ مَنعٌ، بل مِنْ حيثُ هو منعُ أخٍ، فاعرْفه تَعْلمْ أَنكَ لم تَجِدْ لِحَذْف المفعولِ في هذا النحوِ مِن الرَّوعة والحُسْن ما وجَدْتَ، إلاَّ لأنَّ في حَذْفه وتَرْكِ ذِكْرِه فائدةً جليلةً، وأَنَّ الغرَضَ لا يصح إلا على تركه. مثال آخر للحذف الخفي: 165 - وممَّا هو كأنَه نَوعٌ آخرُ غيرُ ما مضى، قول البحتري: إذا بَعُدَتْ أَبلَتْ، وإن قَرُبَتْ شَفَتْ ... فهِجْرانُها يُبْلي، ولُقيانُها يَشْفي1 قد عُلِمَ أنَّ المعنى: إذا بَعُدَتْ عني أَبْلَتني، وإنْ قَرُبَتْ مني شفَتْني إلاَّ أَنك تَجِدُ الشعرَ يأبى ذِكْرَ ذلك، ويُوجِبُ أطِّراحَه. وذاك لأَنَّه أرادَ أن يَجْعلَ البِلى كأنه واجِبٌ في بِعادها أن يُوجِبَه ويَجْلبه، وكأَنَّه كالطَّبيعة فِيه، وكذلك حالُ الشفاءِ معَ القُرب، حتى كأنه قال: أتدري ما بِعادُها؟ هو الداءُ المُضْني وما قُرْبُها؟ هو الشفاءُ والبُرْءُ مِنْ كلِّ داءٍ. ولا سبيلَ لك إلى هذه اللطيفةِ وهذه النكْتة، إلا بحذف المفعول البتة، فاعرفه.

_ 1 في ديوانه، وأمام البيت حاشية أخرى، كأنها أيضًا منقولة من حواشي نسخة عبد القاهر التي نسخ عنها كاتب "ج"، وهذا نص الحاشية. [هذا مبنى على أن هذه المرأة من الحسن والجمال بحيث لا يراها أحد إلا عشقها، وكان حالة معها هذه الحالة. وهذا المعنى هو ما [افتتح] به المتبني: أتراها لكثرة العشاق ... تحسب الدمع خلقة في المآقي

وليس لِنَتائجِ هذا الحذفِ، أعني حَذْفَ المفعولِ، نهايةٌ، فإنه طريقٌ إلى ضروبٍ من الصَّنْعة، وإلى لطائف لا تحصى. نوع آخر، وهو: "الإضمار على شريطة التفسير" ومثاله 166 - وهذا نوع منه آخر: اعلم أن ههنا باباً منَ الإضمار والحذفِ يُسمَّى "الإضمار على شريطةِ التفسير"، وذلك مثْلُ قولِهم: "أكْرَمني وأَكْرَمْتُ عبدَ اللهِ"1، أردتُ: "أكرَمني عبدُ الله، وأكرمتُ عبدَ الله"، ثم تركتُ ذِكْرَه في الأولِ استغناءً بذِكْرهِ في الثاني. فهذا طريقٌ معروفٌ ومذْهَبٌ ظاهرٌ، وشيءٌ لا يُعْبَأُ به، ويُظَنُّ أنه ليس فيه أَكثرُ مما تُريكَ الأمثلةُ المذكورةُ منه وفيه إذا أنتَ طلبتَ الشيءَ من مَعْدِنِه منْ دقَيقِ الصنعةِ ومن جَليلِ الفائدةِ، ما لا تَجدُه إلاَّ في كلامِ الفحول. 167 - فمِنْ لطيفِ ذلك ونادرِهِ قولُ البحتري: لوْ شِئْتَ لم تُفْسِدْ سَماحَة حاتِمٍ ... كَرَماً ولمْ تَهْدِمْ مآثِرَ خالدِ2 الأصلُ لا محالةَ: لو شئْتَ أن لا تُفْسِدَ سماحةَ حاتمٍ لم تُفْسِدْها، ثم حُذِفَ ذلك مَن الأول استغناءً بدلالته في الثاني عليه، ثم هو على ما تراهُ وتَعلَمُه منَ الحُسْن والغَرابة، وهو على ما ذكرتُ لك من أنَّ الواجبَ في حُكْم البلاغة أن لا يُنْطَقَ بالمحذوف ولا يَظَهَرَ إلى اللفظُ. فليس يَخفى أنك لو رَجَعْتَ فيه إلى ما هو أصْلُه فقلتَ: "لو شئتَ أن لا تُفسِدَ سماحةَ حاتمٍ لم تُفْسِدْها"، صِرْتَ إلى كلامٍ غَثٍّ، وإلى شيءٍ يَمجُّهُ السمْعُ، وتَعافُهُ النفْسُ. وذلك أنَّ في البيانِ،

_ 1 انظر التعقيب على هذا المثل فيما يأتي، الفقرة رقم: 172. 2 البيت في ديوانه.

إذا ورَدَ بعدَ الإبهامِ وبعدَ التَّحريك له، أبداً لطفاً ونبلاً لا يكونُ إذا لم يتقدَّمْ ما يُحرِّكُ. وأنتَ إذا قلتَ: "لو شئتَ"، علمَ السامعُ أنكَ قد علَّقْتَ هذه المشيئةَ في المعنى بشيءٍ، فهو يَضَعُ في نفسه أن ههنا شيئاً تَقْتضي مَشيئتُه له أن يكونَ أو أن لا يكونَ. فإذا قلتَ: "لم تُفسِد سماحةَ حاتم"، عرَفَ ذلك الشيءَ ومَجيءُ "المشيئةِ" بعد "لو" وبعْدَ حروفِ الجزاءِ هكذا موقوفةٌ غيرُ مُعدَّاةٍ إلى شيءٍ، كثيرٍ شائعٍ، كقوله تعالى {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل: 9]، والتقديرُ في ذلك كلِّه على ما ذكرتُ. فالأَصْلُ: لو شاء الله أن يجمعهم على الهدى ولو شاءَ أنْ يَهدِيَكم أجمعينَ لهَداكم إلاَّ أَنَّ البلاغةَ في أن يُجاءَ به كذلك محذوفاً. متى يكون إظهار المفعول أحسن من حذفه: 168 - وقد يتَّفقُ في بعضِه أن يكونَ إظهارُ المفعولِ هو الأَحْسَنَ وذلك نَحْو قولِ الشاعر: ولَوْ شِئتُ أَنْ أبْكي دماً لبَكَيْتُهُ ... عليهِ ولكنْ ساحةُ الصبرِ أوْسَعُ1 فقياسُ هذا لو كان على حدِّ {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام: 35] أن يقولَ: "لو شئتُ بكيتُ دماً"، ولكنه كأنه تركَ تلك الطريقةَ وعدَلَ إلى هذهِ، لأنها أحسن من هذا الكلامِ خُصوصاً. وسببُ حسْنِه أنَّه كأنهُ بِدْعٌ عجيبٌ أنْ يشاءَ الإِنسانُ أن يَبْكي دَماً2. فلمَّا كان كذلك، كان الأَوْلى أن يُصرِّحَ بذِكْره ليقرِّرَهُ في نفسِ السِّامع ويُؤنِسَه به.

_ 1 للخريمي، وهو إسحاق بن حسان السعدي، يرثى عثمان بن عامر بن عمارة بن خريم الذبياني، أحد قواد الرشيد، الكامل 1: 251. 2 "بدع" مبتدع لا يؤلف.

169 - وإذا استقرَيْتَ وجدْتَ الأمرَ كذلك أبدا متى كان مفعولُ "المشيئةِ" أمراً عظيماً، أو بديعاً غريباً، كان الأَحْسَنَ أنْ يُذكَرَ ولا يُضْمَر. يقول الرجل يخبر عن عزة1: "لو شئتُ أَن أَردَّ على الأميِر ردَدْتُ" و "لو شئتُ أنْ أَلْقى الخليفَةَ كلَّ يومٍ لَقِيتُ". فإذا لم يكن مما يُكْبِرُهُ السامعُ، فالحذفُ كقولك: "لو شئت خرجت" و "لو شئت قمت" و "لو شئت أنصفت"، و "لو شئتُ لقلت"، وفي التنزيلِ: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} [الأنفال: 31]، وكذلك تقول: "لو شئت كنت كزيد"، قال: لَوْ شئتُ كنتُ كَكُرْزٍ في عبادتِه ... أو كابْنِ طارِق حَوْلَ البَيْتِ والحَرَمِ2 وكذلِكَ الحكُمُ في غيرهِ مِنْ حُروفِ المُجَازاة أن تقولَ3:: "إن شئت

_ 1 في المطبوعة وحدها: "عن عزة نفسه"، زيادة فاسدة. 2 من شعر عبد الله بن شبرمة القاضي، يقوله لابن هبيرة، ويذكر فيه: "كرزبن وبرة الحارثي الجرجاني العابد"، و "محمد بن طارق". قال ابن شبرمة لما سمع ابن هبيرة الشعر قال له: من كرز؟ ومن ابن طارق؟ قال فقلت له: أما كرز فكان إذا كان في سفر واتخذ الناس منزلًا، اتخذ هو منزلًا للصلاة، وأما ابن طارق: فلو اكتفى أحد بالتراب كفاه كف من تراب". وكان كرز يختم القرآن في كل يوم وليلة ثلاث ختمات، وكان محمد بن طارق في كل يوم وليلة سبعين أسبوعًا، كان يقدر طوافه في اليوم عشر فراسخ. وفي هامش المخطوطة "ج"، البيت الثاني، وهو: قد حال دون لذيذ العيش جدهما ... وشمرا في طلاب الفوز والكرم والبيتان في الحيوان 3: 492، وحلية الأولياء لأبي نعيم 5: 81، 82، مع اختلاف في بعض ألفاظهما. وكان في المطبوعة: "ابن طارف". وفي نسخة عند رشيد رضا على الصواب. 3 "عن غيره من حروف المجازاة"، يعني غير "لو" التي مضى ذكرها قبل. وفي المطبعة وحدهما: "وكذا الحكم".

قلت" و "إن أَردتُ دفعتُ"، قال الله تعالى: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24]، وقال عزَّ اسْمُه {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39]، ونظاهر ذلك من الآي، ترَى الحذْفَ فيها المستمرَّ. أمثلة ما يعلم أنه ليس فيه لغير الحذف وجه: 170 - وممَّا يُعْلَمُ أَنْ ليس فيه لغيرِ الحذْفِ وجه قول طرفة: وإنْ شئتُ لم تُرْقِلْ، وإنْ شئتُ أرْقَلَتْ ... مخافَةَ مَلْوِيٍّ مِنْ القِدِّ مُحْصَدِ1 وقولُ حميد: إن شئتُ غنَتْني بأجزاعِ بِيشَةٍ ... أو الزُّرْقِ من تَثليثَ أَوْ بيَلَمْلما مُطَوَّقةٌ ورقاءُ تَسْجَعُ كَلَّما ... دَنا الصيفُ وانجابَ الربيعُ فأَنجَما2 وقولُ البحتري: إذا شاءَ غادى صِرمةً أو غدا على ... عقائل سرب أو تقنص ربربا3 وقوله: لو شئتَ عُدْتَ بلادَ نَجْدٍ عَوْدةً ... فحَللْتَ بين عقيقهِ وزَرْودِهِ4 معلوم أنكَ لو قلْتَ: "وإن شئتَ أنْ لا تُرْقِلَ لم تُرْقل"، أو قلتَ: "إذا شئتُ أن تُغنِّيني بأجزاعِ بيشةَ غَنَّتْني"، "إذا شاء أن يغادي صرمة غادي"،

_ 1 في ديوانه، من معلقته. و "الإرقال" ضرب السير السريع، و "القد"، الجلد، ويعني السوط. و "المحصد"، المحكم القتل. 2 في يدوانه. و "بيشة" و "الزرق" و "تثليث" و "يلملم" مواضع. و "إنجاب"، ذهب وانكشف. و "أنجم، أقلع. 3 "الصرمة"، قطعة من الإبل. و "عقائل السرب" كرائمة، و "السرب"، من الظباء قطيعه. و "الربرب" قطيع يقر الوحش. 4 في ديوانه. "و "العقيق"، و "زرود"، موضعان بنجد.

و "لو شئتَ أن تَعودَ بلادَ نجدٍ عودةً عُدْتَها" أذهب الماءَ والرونقَ، وخرجْتَ إلى كلامٍ غَثٍّ، ولفظٍ رث. 171 - وأما قول الجوهري: فَلمْ يُبْقِ منِّي الشوقُ غيرَ تَفكُّري ... فَلَوْ شئتُ أن أَبْكِي بكَيْتُ تَفَكُّرا1 فقد نَحَا به نَحْو قولهِ: وَلَو شئتُ أن أبكي دماً لبكيتُه2 فأظْهَر مفعولَ "شئتُ"، ولم يَقُلْ: "فلو شئتُ بكيتُ تفكُّراً"، لأجل أَنَّ له غرَضاً لا يَتمُّ إلاَّ بذكِر المَفْعولِ، وذلك أنه لم يُردِ أَن يقولَ: "ولَو شئتُ أن أبكي تفكُّراً بكيتُ كذلك"، ولكنه أرادَ أن يقولَ: قد أَفناني النحولُ، فلم يَبْقَ مني وفيَّ غيرُ خواطِرَ تَجولُ، حتى لو شئتُ بكاء فَمَريْتُ شُؤوني3، وعصَرْت عيني ليسيلَ منها دمعٌ لم أَجدْه، ولخَرجَ بدلَ الدمع التفكُّرُ4. فالبكاءُ الذي أرادَ إيقاعَ المشيئِة عليه مُطْلَقٌ مُبْهم غيرُ مُعَدَّى إلى "التفكُّر" البتَّةَ، و "البكاء" الثاني مقيَّد معدَّى إلى التفكُّر. وإذا كان الأمرُ كذلك، صارَ الثاني كأنه شيءٌ غيرُ الأول، وجرَى مَجْرَى أن تقولَ: "لو شئتَ أن تُعطي درهماً أعطيتَ درهَمين" في أنَّ الثاني لا يَصْلح أن يكونَ تفسيراً للأول.

_ 1 "الجوهري" هو "أبو الحسن، علي بن أحمد الجوهري الجرجاني"، قال الثعالبي في صفته "تجم جرجان"، وذكر أنه ورد نيسابور سنة 377هـ، وكان شاعرًا، وذكر من شعره قصيدة على الراء، كأن هذا البيت منها. "يتيمة الدهر 3: 259 - 274" وانظر معاهد التنصيص 1: 254. 2 الشعر في الفقرة السالفة رقم: 168. 3 في "س": "مريت جفوني" و "الشؤون"، مجاري الدمع في العين. و "مرى ضرع الناقة"، حلبها. 4 في المطبوعة: "ويخرج بدل".

مثال آخر نادر لطيف في الخدمة: 172 - واعلمْ أنَّ هذا الذي ذكَرْنا ليس بصريحٍ: "أكرمت وأكرمني عبد الله"1 لكنه شبيهٌ به في أنه إنَّما حُذِفَ الذي حذف من مفعول "المشيئة" و "الإرادة"، لن الذي يأتي في جوابِ "لو" وأخَواتها يدلُّ عليه. 173 - وإذا أردتَ ما هو صريحٌ في ذلك، ثم هو نادرٌ لطيفٌ يَنْطوي على معنى دقيقٍ وفائدةٍ جليلةٍ، فانظُرْ إلى بيتِ البحتري: قد طَلَبْنا فلم نَجدْ لكَ في السُّؤْ ... دُدِ والمَجْد والمَكَارِم مِثْلا2 المعنى: قد طَلَبْنا لك مِثْلاً، ثم حذَفَ، لأنَّ ذكْرَه في الثاني يدلُّ عليه، ثم إنَّ للمجيءِ به كذلك مِن الحُسْن والمَزيَّة والرَّوعة ما لا يَخْفَى3. ولو أنه قال: "قد طلبَنْا لكَ في السؤددِ والمجدِ والمكارمِ مَثَلاً فلم نَجِدْه"، لم تَرَ مِنْ هذا الحُسْن الذي تَراه شيئاً4. وسببُ ذلك أَنَّ الذي هو الأصْلُ في المدح والغرض بالحقيقة، هو نَفْي الوجودِ عنِ "المثل"، فأَمَّا "الطلبُ"، فكالشيءِ يُذكر ليُبنى عليه الغَرَضُ ويُؤَكَّد به أَمْرُه. وإذا كان هذا كذلك، فلو أنه قالَ: "قد طلبَنْا لكَ في السؤددِ والمجدِ والمكارمِ مِثْلاً فلم نَجدْه"، لكان يكونُ قد تركَ أن يُوقِعَ نفْيَ الوجودِ على صريحِ لفظِ "المِثْل"، وأوْقَعَه على ضميرِه. ولن تبلغَ الكنايةُ مبلغَ التصريح أبدًا5.

_ 1 انظر أول الفقرة رقم: 166. 2 في ديوانه. 3 في المطبوعة وحدها: "في المجيء به". 4 من أول قوله هنا: "لم تر من هذا الحسن" إلى قوله بعد أسطر: "مثلًا فلم نجده"، ساقط في "س". 5 في المطبوعة وحدها: "مبلغ الصريح".

مثال آخر، من خطبة قيس بن خارجة بن سنان: 174 - ويُبيِّن هذا، كلامٌ ذكَرَه أبو عثمانَ الجاحظُ في كتاب البيان والتبيين1، وأنا أكتبُ لك الفصل حتى تستبين الذي هو المُرادُ، قال: "والسنَّةُ في خُطبِة النِّكاحِ أنْ يُطيلَ الخاطِبُ ويُقصِّرَ المجِيبُ، ألا ترى أن قيس بن خارجة [بن سنان] لمَّا ضرَبَ بسيفِه مُؤخَّرةَ راحلةِ الحاملَين في شأن حمالة داحس [والغبراء] 2 وقال: مالي فيها أيُّها العَشَمتَانِ؟ 3 قالا: بل ما عندَك؟ قال: عندي قِرى كلِّ نازلٍ، ورضِى كلِّ ساخِطٍ، وخُطبةٌ مِنْ لَدُنْ تطْلُعُ الشمسُ إلى أن تَغْرُبَ، آمرُ فيها بالتَّواصُل، وأَنْهى فيها عنِ التَّقاطُع قالوا: فخطَبَ يوماً إلى اللَّيل، فما أعاد كلمةً ولا معْنى4. فقيلَ لأبي يعقوب5: هلاَّ اكْتَفى بالأمِر بالتواصلِ، عنِ النَّهْي عن التقاطع؟ أو ليس الأمرُ بالصلةِ هو النهْيُ عن القطيعة؟ قال: أو ما علمْتَ أنَّ الكنايةَ والتعريضَ لا يَعْملان في العقولِ عَمَلَ الإِيضاح والتَّكشيفِ"6.انتهى الفصْلُ الذي أَردتُ أن أَكْتبَه. فقد بصَّرك هذا أنْ لن يكونَ إيقاعُ نَفْي الوجودِ على صَريحِ لفظِ المِثل، كإيقاعهِ على ضَمِيره.

_ 1 هو في البيان والتبيين 1: 166، وكتاب "البرصان والعرجان" للجاحظ ص: 89 وما بين الأقواس منه، وانظر جمهرة نسب قريش رقم: 41. 2 اللذان حملا الحمالة، وهي الدية، "والحارث بن عوف بن أبي حارثة"، و "هرم بن سنان ابن أبي حارثة"، ويقال هما: "خارجة بن سنان" و "الحارث بن عوف"، وانظر جمهرة نسب قريش رقم: 38، والتعليق عليه. 3 يقال: "رجل غثمة، وعجوز غشمة"، كبير هرم يابس من العزال. 4"فما أعاد كلمة ولا معنى"، ليست في البيان. 5 "أبو يعقوب"، هو "إسحق بن حسان بن قوهى الخريمي". 6 في المطبوعة: "عمل الإيضاح"، وفي البيان: "الكشف".

أمثلة أخرى للحذف: 175 - وإذْ قد عرَفْتَ هذا، فإنَّ هذا المعنى بعينِه قد أَوْجَبَ في بيتِ ذي الرُّمة أنْ يَضعَ اللفظَ على عكسِ ما وضَعه البحتريُّ1، فيُعملَ الأوَّلَ من الفعلين، وذلك قولُهُ: ولم أَمدَحْ لأرضيهِ بِشعري ... لَئِيماً، أَنْ يكونَ أصابَ مالا2 أعْمَلَ "لم أمدحْ"، الذي هو الأول، في صريح لفظ "اللئيم"، و "أرْضى"، الذي هو الثاني، في ضميِرهِ. وذلك لأنَّ إيقاعَ نَفْي المدحِ على اللئيم صريحاً، والمجيءَ به مكشوفًا ظاهرصا، هو الواجبُ من حيثُ كان أصْلُ الغرضِ، وكان الإرضاءُ تعليلاً له. ولو أنه قال: "ولم أمدح لأُرْضِيَ بشعري لئيماً"، لكانَ يكونُ قد أَبْهمَ الأمرَ فيما هو الأصْلُ، وأبانَهُ فيما ليس بالأَصْل، فاعرفْه. 176 - ولهذا الذي ذكَرْنا من أنَّ للتَّصريح عَمَلاً لا يكونُ مثلُ ذلك العمل للكناية، كان فعادة اللفظِ في مِثْلِ قولهِ تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء: 105] وقولهِ تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1، 2] من الحُسْنِ والبَهْجة، ومنَ الفَخَامة والنُّبل، ما لا يَخْفى موضِعُه على بصيرٍ. وكان لو تُرِكَ فيه الإظهارُ إلى الإضمار فقيل: "وبالحقِّ أنزلناه وبه نزل": و "قلْ هُوَ الله أَحدٌ هو الصَّمَدُ" لعدِمْتَ الذي أنت واجده الآن.

_ 1 يعني البيت السالف في رقم: 172. 2 في ديوان ذي الرمة.

القول في الحذف: نتيجة

القول في الحذف: نتيجة فصل: مثال آخر للحذف: 177 - قد بانَ الآنَ واتَّضحَ لِمَنْ نَظَر نظَرَ المتثبِّتِ الحصيفِ الراغبِ في اقتداحِ زِنادِ العَقْل، والازْديادِ من الفضْلِ، وَمْن شأْنُه التوقُ إلى أن يَعْرفَ الأشياءَ على حَقائقها، ويَتغلغَلَ إلى دقائقها، ويربأ بنفسه عن مرتبة المقلد الذبي يَجري معَ الظاهِر، ولا يَعْدو الذي يَقَعُ في أولِ الخاطرِ1 أَنَّ الذي قلتُ في شأنِ "الحَذْف" وفي تفخيم أمرِه، والتَّنويهِ بذِكْره، وأنَّ مأْخَذَه مَأْخذٌ يُشْبِهُ السِّحْر، ويَبْهَرُ الفِكْر، كالذي قلتُ2. 178 - وهذا فَنٌّ آخرُ من معانِيه عجيبٌ، وأنا ذاكرُه لك3. قال البحتري في قصيدته التي أولها: أعَنْ سَفَهٍ يومَ الأُبَيْرَقِ أم حِلْمِ4 وهو يذكر مُحاماةَ الممدوحِ عليه، وصيانَتَه له، ودفْعهَ نوائب الزمان عنه: وكَمْ ذُدْتَ عَنِّي مِنْ تَحامُل حادِثٍ ... وسَوْرةِ أَيام حَزَزْنَ إلى العَظْم الأَصْلُ لا محالةَ: حززْنَ اللَّحْمَ إلى العظم، إلاَّ أنَّ في مجيئهِ به محذوفاً، وإسقاطِه له مِنْ النُّطْق، وتَرْكهِ في الضميرِ، مزَّيةً عجيبةً وفائدةً جليلةً.

_ 1 السياق: "قد بان الآن ...... أن الذي قلت". 2 السياق: "أن الذي قلت ...... كالذي قلت". 3 في "ج": "وما أذكره لك"، وفي نسخة عند رشيد رضا: وهو ما أذكره لك"، كما في "س". 4 في ديوانه.

وذاك أنَّ مِنْ حِذْق الشاعرِ أَنْ يُوقِعَ المعنى في نَفْس السامعِ إيقاعاً يَمنعُه به مِنْ أنْ يتوَهَّم في بدءِ الأمر شيئاً غيرَ المرادِ، ثم ينصرفُ إلى المرادِ، ومعلومٌ أنه لو أظْهَر المفعولَ فقال: "وسَوْرة أيامٍ حززنَ اللَّحَم إلى العظم"، لجاز أن يقعَ في وَهْم السامع إلى أنْ يجيءَ إلى قولِه: "إلى العظم"، أنَّ، هذا الحزَّ كان في بعضِ اللحم دُونَ كلِّه، وأنه قطَعَ ما يَلي الجِلْدَ ولم يَنْتَهِ إلى ما يلي العظم. فلما كان كذلك، وترك ذِكْر "اللحم" وأَسْقَطَه من اللفظ، ليُبْرِئَ السامعَ من هذا الوهمِ، ويَجعلَهُ بحيثُ يَقعُ المعنى منه في أَنْفِ الفَهْمِ1، ويَتصوَّرُ في نفسه من أولِ الأمْر أنَّ الحزَّ مضى في اللحمِ حتى لم يَردَّه إلاَّ العْظمُ. أفيكونُ دليلٌ أوضحَ من هذا وأَبْيَنَ وأجْلى في صحة ما ذكرتُ لك، مِنْ أنك قد ترى ترك أفْصَحَ من الذكْرِ، والامتناعَ من أن يَبْرزَ اللفظ من الضمير، أحسن للتصوير؟

_ 1 "ألف كل شيء"، أوله.

الفروق في الخبر "تقسيمه"

الفروق في الخبر "تقسيمه": فصل 1: القول على فروق في الخبر الخبر الذي هو جزء من الجملة والخبر الذي ليس بجزء منها: 179 - أَولُ2 ما ينبغي أن يُعْلَم منه أنَّه يَنقسمُ إلى خَبرٍ هو جُزءٌ من الجملةِ لا تَتمُّ الفائدةُ دونَه3، وخَبرٍ ليس بجزءٍ منَ الجملة، ولكنه زيادةٌ في خَبرٍ آخرَ سابقٍ له. فالأولُ خبرُ المبتدأ، كمُنْطَلِقٌ في قولك: "زيدٌ مُنْطلقٌ"، والفعلُ كقولك: "خرجَ زيدٌ"، فكلُّ واحدٍ من هذين جزءٌ منَ الجملة، وهو الأَصْل في الفائدة والثاني هو الحالُ: كقولك: "جاءني زيدٌ راكباً"، وذاكَ لأنَّ الحالَ خبرٌ في الحقيقة، مِنْ حيثُ إنك تُثْبتُ بها المعنى لذي الحالِ، كما تثبتُ بخبرِ المبتدأ للمبتدأ، وبالفِعْل للفاعل4. ألاَ تَراكَ قد أَثبتَّ "الركوبَ" في قولَك: "جاءني زيدٌ راكباً" لزيدٍ؟ إلاَّ أنَّ الفَرْقَ أنك جئْتَ به لتزيدَ معنًى في إخباركَ عنه بالمجيءِ، وهو أن تَجْعلَه بهذه الهيئة في مجيئهِ، ولم تُجرِّدْ إثباتَكَ للركوب ولم تُباشِرْه، به، بل ابتدأَتَ فأَثبتَّ المجيءَ، ثمَّ وصلْتَ به الركوبَ فالتبسَ به الإثباتُ على سبيل التَّبَع للمجيءِ، وبشَرْط أنْ يكونَ في صِلَته. وأمَّا في الخبر المطلق نحو: "زيد منطلق" و "خرج عمرو"، فإنك مُثْبِتٌ للمعنى إثباتاً جرَّدْتَه له، وجعلْتَه يُباشِرُه من غيرِ واسطةٍ، ومن غيرِ أَن تتسبب بغيره إليه، فأعرفه.

_ 1 "فصل"، ليست في "ج" ولا "س". 2 هذه الفقرة رقم: 179، سيأتي بنصها في الفقرة رقم: 241. 3 في المطبوعة وحدها: "أنه يقسم .... ". 4 في المطبوعة وحدها: "كما ثبته".

الفروق في الخبر: الاسم والفعل في الإثبات

الفروق في الخبر: الاسم والفعل في الإثبات 180 - وإذْ قد عرَفْتَ هذا الفرْقَ، فالذي يَليه من فُروق الخَبَر، وهو الفرْقُ بينَ الإثباتِ إذا كان بالاسم، وبيْنَه إذا كانَ بالفعلِ. وهو فرقٌ لطيفٌ تَمسُّ الحاجة في علم البلاغة إليه. الفرق بين الخبر إذا كان بالاسم، وإذا كان بالفعل، وأمثلتها: 181 - وبيانُه، أنَّ موضوعَ الاسم على أن يُثْبَتَ به المعنى للشيءِ من غيرِ أن يَقتَضي تجدُّده شيئاً بعْدَ شيء. 182 - وأما الفعلُ فموضوعُه على أنه يقتضي تَجدُّدَ المعنى المُثْبَت به شيئاً بعْدَ شيء"1. فإذا قلتَ: "زيدٌ منطلقٌ"، فقد أَثبتَّ الانطلاقَ فعْلاً له، من غيرِ أن تجعلَه يَتجدَّد ويَحْدُثُ منه شيئاً فشيئاً، بل يكونُ المعنى فيه كالمعنى في قولك: "زيد طويل"، و "عمرو قصير": فكما لا تقصد ههنا إلى أن تَجعل الطولَ أو القِصَر يتجدَّد ويَحدثُ، بل تَوجِبُهما وتُثْبِتُهما فقط، وتَقْضي بوجوِدهما على الإطلاقِ، كذلك لا تتعرَّضُ في قولك: "زيدٌ منطلقٌ" لأكْثَرَ مِن إثباتِهِ لِزَيد. 183 - وأمَّا الفعلُ، فإنهُ يُقْصَدُ فيه إلى ذلك، فإذا قلتَ: "زيدٌ ها هو ذا يَنْطلقُ"، فقد زَعمْتَ أنَّ الانطلاقَ يقعُ منه جُزءاً فجزءاً، وجعلْتَهُ يُزاوله ويُزَجِّيه. 184 - وإنْ شئتَ أن تُحِسَّ الفرْقَ بينهما مِنْ حيثُ يَلْطُفُ، فتأملْ هذا البيت: لا يأْلَفُ الدِّرْهَمُ المَضْرُوبُ خِرقَتَنا، ... لكِنْ يَمُرُّ عليها وهو منطلق2

_ 1 هذه الفقرة ساقطة من "س". 2 قائلة النضر بن جؤبة، في معاهد التنصيص 1: 207، وشرح الواحدي على ديوان المتنبي: 157، وفي المطبوعة وحدها "صرتنا".

هذا هو الحُسْنُ اللائقُ بالمعنى، ولو قلتَه بالفعل: "لكنْ يَمُرُّ عليها وهو ينطلقُ"، لم يحسن. الفرق بين الخبر صفة مشبهة، والخبر إذا كان فعلا: 185 - وإذا أردت أن تعتبره حيث لا يَخْفى أَنَّ أحدَهما لا يَصْلُح في موضعِ صاحبهِ1، فانظرْ إلى قولِه تعالى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف: 18]، فإنَّ أَحداً لا يَشكُّ في امتناعِ الفعلِ ههنا، وأنَّ قولَنا: "كَلبُهم يبسُطُ ذراعَيه"، لا يؤدِّي الغرضَ، وليس ذلك إلاَ لأنَّ الفعلَ يقتضي مزاولةَ وتجدُّدَ الصفةِ في الوقتِ، ويَقْتضي الاسمُ ثُبوتَ الصفةِ وحُصولها من غيرِ أن يكونَ هناك مُزاولةٌ وتَزْجيةُ فعلٍ، ومعنىً يَحْدُث شيئاً فشيئاً. ولا فرْقَ بينَ "وكلبهم باسِطٌ"، وبينَ أن يقولَ: "وكلْبُهم واحدٌ" مثلاً، في أنك لا تُثْبِتُ مُزاولةً، ولا تَجعل الكَلْبَ يفعل شيئاً، بل تُثْبتِهُ بصفةٍ هو عليها. فالغرضُ إذن تَأديةُ هيئةِ الكلبِ. ومتى اعتبرْتَ الحالَ في الصِّفاتِ المشبَّهةِ وجَدْتَ الفرْقَ ظاهراً بيِّناً، ولم يَعترضْك الشكُّ في أنَّ أحدَهما لا يَصْلُح في موضعِ صاحبه. فإذا قلتَ: "زيدٌ طويلٌ"، و "عمرو قصير": لم يصلح مكانه "يطول" و "يقصر"، وإنما تقول: "يطول" و "يقصر"، إذا كان الحديثُ عن شيءٍ يَزيد ويَنمو كالشجر والنبات والصبي ونحو ذلك، ومما يتجدَّدُ فيه الطولُ أو يَحْدثُ فيه القِصَر. فأمَّا وأنتَ تُحدِّثُ عن هيئةٍ ثابتةٍ، وعن شيءٍ قد استقرَّ طولُه، ولم يكن ثمَّ تَزايدٌ وتجدُّدٌ، فلا يَصْلُح فيه إلاَّ الاسْمُ.

_ 1 في المطبوعة: "بحيث لا يخفى".

أمثلة الفرق بين الخبر إذا كان فعلا، وبينه إذا كان اسما: 186 - وإذا ثبت الفرق بين الشيء والشيء في مواضعَ كثيرةٍ1، وظهرَ الأمرُ، بأَنْ تَرى أحدَهما لا يصْلُح في موضعِ صاحبهِ، وجَبَ أنْ تقضيَ بثُبوتِ الفرقِ حيثُ تَرى أَحدَهما قد صلُحَ في مكانِ الآخَرِ، وتَعْلَم أنَّ المعنى مع أحدِهما غَيرُهُ مع الآخرِ، كما هو العبرةُ في حَمْل الخَفيِّ على الجليِّ. وينعكسُ لك هذا الحكمُ أَعني أنك كما وجدْتَ الاسمَ يقَعُ حيثُ لا يَصلُح الفعلُ مكانه، كذلك نجد الفِعْلَ يَقَعُ ثُم لا يَصلُحُ الاسمُ مكانَه، ولا يؤدِّي ما كانَ يؤديه. 187 - فمن البَيِّنِ في ذلك قول الأعشى: لعَمْري لقدْ لاحتْ عيونٌ كثيرةٌ ... إلى ضوءِ نارٍ في يَفاع تَحَرَّقُ تُشَبُّ لِمَقْرورَين يَصْطَليانِها ... وبات على النار الندى والمحلق2 معلوم أن لو قيل: "إلى ضوء نارٍ مُتَحَرِّقة"3، لَنَبا عنه الطبْعُ وأنكرَتْه النفسُ، ثم لا يكونُ ذاك النبوُّ وذاك الإنكارُ من أجل القافية وأنها تُفْسَد به، بل من جهةِ أنه لا يُشْبِهُ الغرَضَ ولا يليقُ بالحال. 188 - وكذلك قوله: أوَ كُلّما وَرَدَتْ عُكاظَ قبيلةُ ... بَعثُوا إلىَّ عَريفَهُم يَتَوَسَّمَ4 وذاك لأنَّ المعنى في بيتِ الأعشى على أنَّ هناك مُوقِداً يتجدَّدُ منه الإلهابُ والإشعالُ حالاً فحالاً، وإذا قيل: "متحرِّقة"، كان المعنى أن هناك نارًا قد

_ 1 في المطبوعة وحدها: "بين الشيئين". 2 في ديوان الأعشى. و "المحلق" بتشديد اللام وكسرها وبفتحها أيضًا، واسمه "عبد العزى ابن خثم بن شداد بن ربيعة المجنون بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب"، وسمى "المخلق". لأن فرسًا عضه في خده عضة كالحلقة. 3 في "ج" و "س": "محرقة". 4 الشعر لطريف بن تميم العنبري، في "الأصمعيات" رقم: 39.

ثَبُتتْ لها وفيها هذه الصفةُ، وجرَى مَجْرى أن يقالَ: "إلى ضوءِ نارٍ عظيمةٍ" في أنه لا يفيدُ فعلاً يُفْعل وكذلك الحالُ في قوله: بعثوا إليَّ عريفهم بتوسم وذلك لأنَّ المعنى على توسُّم وتأملٍ ونظرٍ يتجدَّد من العَريف هناك حالاً فحالاً، وتصفُّحٌ منه للوجوه واحداً بعدَ واحدٍ. ولو قِيل: "بَعثوا إليَّ عريفَهم متوسِّماً"، لم يُفد ذلك حقَّ الإفادة. 189 - ومن ذلك قولُه تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 2]، لو قيلَ: "هل من خالقٍ غيرُ اللهِ رازقٌ لكم"، لكان المعنى غيرَ ما أُريدَ. 190 - ولا ينبغي أن يَغُرَّكَ أنَّا إذا تكلَّمْنا في مسائل المبتدأ والخبر قدَّرْنا الفعلَ في هذا النحو تقدير الاسم، كما تقول، في "زيدٌ يقومُ"، إنه في موضعِ "زيدٌ قائمٌ"، فإنَّ ذلك لا يَقْتضي أن يستويَ المعنى فيهما استواءً لا يكون من بَعْدِهِ افتراقٌ، فإنهما لوِ اسْتويا هذا الاستواءَ، لم يكن أحدُهما فِعْلاً والآخرُ اسماً، بل كان يَنْبغي أن يكون جميعًا فعلين، أو يكونا اسمين.

الفروق في الخبر: التعريف والتنكير في الإثبات

الفروق في الخبر: التعريف والتنكير في الإثبات من فروق الخبر في الإثبات، وأمثلته: 191 - ومِنْ فروقِ الإثباتِ أنَّك تقولُ: "زيدٌ منْطَلِقٌ" و "زيدٌ المنطلقُ" و "المنطلقُ زيدٌ"، فيكون لك في كلِّ واحدٍ من هذه الأَحْوال غَرضٌ خاصٌّ وفائدةٌ لا تكونُ في الباقي. وأَنا أفسِّر لك ذلك. 192 - إعلمْ أنك إذا قلتَ: "زيدٌ منطلقٌ"، كانَ كلامُك مع مَنْ لم يعلَمْ أنَّ انطلاقاً كان، لا مِنْ زَيْد ولا مِنْ عَمْرو، فأنتَ تُفيدُه ذلك ابتداءً. وإذا قلتَ: "زيدٌ المنطلقُ" كان كلامُك مع مَنْ عَرَفَ أنَّ انطلاقاً كان، إا من زَيْد وإمّا من عَمرو، فأنتَ تُعْلِمه أنه كان من زيدٍ دون غيره.

والنُكتةُ أنك تُثْبِتُ في الأول الذي هو قولك: "زيدٌ منطلقٌ" فِعْلاً لم يَعْلم السامعُ من أصْله أنه كان، وتُثبتُ في الثاني الذي هو "زيدٌ المنطلقُ" فعْلاً قد عَلِمَ السامعُ أنَّه كان، ولكنه لم يَعْلَمهُ لِزَيْدٍ، فأَفَدْتَهُ ذلك. فقد وافقَ الأولَ في المعنى الذي له كانَ الخبرُ خبراً، وهو إثباتُ المعنى للشيء. وليس يَقْدَح في ذلك أنكَ كنْتَ قد علمْتَ أنَّ انطلاقاً كان من أحَدِ الرجلين، لأنك إذا لم تَصِلْ إلى القَطْع على أنه كان من زيدٍ دون عمرو، وكان حالُك في الحاجةِ إلى من يُثْبته لزيدٍ1، كحالك إذا لم تَعْلم أنه كانَ من أَصْله. 193 - وتمامُ التحقيق أنَّ هذا كلامٌ يكونُ معك إذا كنتَ قد بُلِّغْتَ أنه كانَ مِن إنسانٍ انطلاقٌ مِنْ مَوْضعِ كذا في وَقْتِ كذا لغرضِ كذا، فجوَّزْتَ أنْ يكونَ ذلك كان مِنْ زيدٍ. فإذا قيلَ لك: "زيدٌ المنطلقُ"، صار الذي كان معلوماً على جهِة الجواز، معلوماً على جهةِ الوجوبِ. ثم إنهم إذا أرادوا تأكيدَ هذا الوجوبِ أدْخلوا الضميرَ المسمَّى "فصْلاً" بين الجزءين فقالوا: "زيدٌ هو المنطلق". إذا كان الخبر نكرة، جاز أن تعطف على المبتدأ مبتدأ آخر، وتفصيل ذلك: 194 - ومن الفرق بين المسئلتين، وهو مما تَمسُّ الحاجةُ إلى معرفتهِ، أنك إذا نكَّرْتَ الخبرَ جازَ أن تأتيَ بمبتدأ ثانٍ، على أنْ تُشركه بحرفِ العطفِ في المعنى الذي أخبرْتَ به عن الأوَّل، وإذا عرَّفتَ لم يَجُزْ ذلك. تفسيرُ هذا أنك تقول: "زيدٌ منطلق وعمرو"، تريدُ "وعمروٌ منطلقٌ أيضاً"، ولا تقولُ: "زيدٌ المنطلق وعمرو"، ذلك لأنَّ المعنى مع التعريفِ على أنك أردْتَ أن تُثبت انطلاقاً مخصوصاً قد كان من واحدٍ، فإذا أَثْبتَّه لزيدٍ لم يَصِحَّ إثباتُه لعمرو.

_ 1 في المطبوعة وحدها، " ..... من كان يثبته"، وهي زيادة لا خير فيها.

ثم إنْ كان قد كان ذلك الانطلاقُ من اثنينٍ، فإنه ينبغي أن تَجْمَع بينهما في الخبر فتقول: "زيد وعمرو هما المنطلقان"، لا أن تُفرِّق فتُثْبِتَه أولاً لزيد، ثم تجيء فتُثْبتَه لعمرو. ومِنَ الواضح في تمثيلِ هذا النحوِ قولُنا: "هو القائلُ بيتَ كذا"، كقولك: "جريرٌ هو القائل: ولَيْسَ لِسَيْفي في العِظَامِ بقيّةٌ1 فأنتَ لو حاولتَ أن تُشْرك في هذا الخبرِ غيرَه، فتقولُ: "جريرٌ هو القائلُ هذا البيتَ وفلانٌ"، حاولت محالًا، لأنه قول بعينِه2، فلا يُتصوَّر أن يُشرَكَ جريراً فيه غيره.

_ 1 في ديوان جرير، وتمامه: وللسيف أشوى وقعة من لسانيا 2 في المطبوعة وحدها: "قوله بعينه".

الفروق في الخبر: القصر في التعريف

الفروق في الخبر: القصر في التعريف الخبر معرفا بالألف واللام، نحو "زيد هو الشجاع"، وتفصيل فروق الوجه الأول: 195 - وعلم أنكَ تَجد "الأَلف واللامَ" في الخبرِ على معنى الجنسِ، ثم تَرى له في ذلك وجوهاً: أحدهما: أن تَقْصُرَ جنْسَ المعنَى على المُخْبَر عنه لقَصْدِك المبالغةَ، وذلك قولُك: "زيدٌ هو الجوادُ" و"عمرو هو الشجاعُ"، تريدُ أنه الكاملُ إلاَّ أنكَ تُخْرجُ الكلامَ في صورةٍ تُوهم أنَّ الجُودَ أو الشجاعةَ لم تُوجَدْ إلا فيه، وذلك لأنك لم تَعْتَدَّ بما كان مِنْ غَيْره، لقُصوره عن أن يَبْلغَ الكمالَ. فهذا.

كالأولِ في امتناع العَطْف عليه للإشراك، فلو قلت: "زيد هو الجواد وعمرو"، كان خَلْفاً من القول. معنى الوجه الثاني: 196 - والوجُه الثاني: أن تَقْصُرَ جِنسَ المعنى الذي تُفيدُه بالخبرِ على المُخْبرَ عنه، لا على معنى المبالغة وتَرْك الاعتدادِ بوجودهِ في غير المخْبَر عنه، بل على دَعوى أنه لا يُوجَدُ إلا منه. ولا يكونُ ذلك إلاَّ إذا قيَّدت المعنى بشيءٍ يُخصِّصُه ويجعلُه في حكمِ نوعٍ برأسهِ، وذلك كنحوِ أن يُقيَّد بالحالِ والوقْتِ كقولك: "هو الوَفِيُّ حينَ لا تَظُنَّ نفسٌ بنفسٍ خيراً". وهكذا إذا كان الخبرُ بمعنًى يتعدَّى، ثمَّ اشترطْتَ له مفعولاً مخصوصًا، كقول الأعشى: هُوَ الواهِبُ المِئَةَ المُصْطفاةَ، ... إمَّا مِخاضاً وإمَّا عِشَاراً1 فأنتَ تَجْعلُ الوفاءَ في الوقِت الذي لا يَفي فيهِ أحَدٌ، نوعاً خاصاً مِنَ الوفاء، وكذلك تجعلُ هِبَة المئة من الإبل نوعاً خاصاً، وكذا الباقي. ثم إنك تَجعلُ كلَّ هذا خبراً على معنى الاختصاص، وأنَّه للمذكورِ دونَ مَن عَداهُ. ألا تَرى أنَّ المعنى في بيتِ الأعشى: أنه لا يَهَبُ هذه الهبةَ إلا الممدوحُ؟ وربما ظنَّ الظانُّ أنَّ "اللام" في "هُوَ الواهبُ المِئَة المُصْطفاةَ" بمنزلِتها في نحوِ "زيدٌ هو المنطلقُ"، من حديث كان القَصْد إلى هبةٍ مخصوصةٍ2، كما كان القصدُ إلى انطلاقٍ مخصوصٍ. وليس الأمْرُ كذلك، لأنَّ القصدَ ههنا إلى جنسٍ منَ الهِبة مخصوصٍ، لا إلى هبةٍ مخصوصةٍ بعينها. يَدُلُّكَ على ذلك أن المعنى على أنه يتكرَّر منه، وعلى أن يجعلُهُ يهبُ المئةَ مرةً بعدَ أُخرى3، وأما

_ 1 - في ديوانه. 2 في "ج" "إلى مئة مخصوصة"، خطأ. 3 في المطبوعة: "وعلى أنه يجعله".

المعنى في قولك: "زيدٌ هو المنطلقُ"، فعلى القصد إلى انطلاق كان مرة وادة، لا إلى جنسٍ من الانطلاقِ. فالتكرُّر هناك غيرُ مُتصوَّر، كيفَ؟ وأنتَ تقولُ: "جريرٌ هو القائل وَليْسَ لِسَيفي في العِظَامِ بقيةٌ"1، تُريد أن تُثبتَ له قِيلَ هذا البيتِ وتأليفَه. فأفْصِلْ بينَ أن تقصِدَ إلى نوعِ فعلٍ، وبينَ أن تقصدَ إلى فعلٍ واحدٍ متعيَّنٍ، حالهُ في المعاني حال زيد في الجرال، في أنه ذات بعينها. الوجه الثالث: 197 - والوجه الثالث: أن لا يَقصد قصْرَ المعنى في جنسِه على المذكورِ، لا كما كان في "زيدٌ هو الشجاعُ"ـ تُريد أن لا تعتدَّ بشجاعةِ غيرهِ ولا كما تَرى في قولِه: "هُو الواهبُ المئةَ المصطفاةَ"، ولكن على وجهٍ ثالثٍ، وهو الذي عليه قولُ الخنساء: إذا قَبُحَ البكاءُ على قتيلٍ ... رأَيْتُ بكاءَكَ الحسَنَ الجَميلا2 لم تُرِدْ أنَّ ما عدا البكاءَ عليه فليس بحَسَنٍ ولا جَميل، ولم تُقّيِّدِ الحَسَن بشيءٍ فيتُصوَّر أن يُقْصَرَ على البقاء، كما قَصَرَ الأعشى هبةَ المئةِ على الممدوح، ولكنها أرادتْ أن تُقِره في جنسِ ما حُسْنُهُ الحُسْنُ الظاهرُ الذي لا يُنْكرهُ أحدٌ، ولا يَشكُّ فيه شاكُّ. 198 - ومثُله قولُ حسان: وإنَّ سَنام المَجْدِ مِنْ آلِ هاشمٍ ... بَنُو بنت مخزوم ووالدك العبد3

_ 1 انظر الفقرة السالفة: 194. 2 في ديوانها. 3 في ديوانه.

الفروق في الخبر: نكت أخرى للتعريف

الفروق في الخبر: نكت أخرى للتعريف الوجه الرابع في الخبر المعرف بالألف واللام وهو مسلك دقيق، وأمثلته، وهو "الموهوم": 199 - واعلمْ أنَّ للخبر المعُرَّف "بالألفِ واللام" معنًى غيرَ ما ذكرتُ لك، ولهُ مَسْلكٌ ثَمَّ دقيقٌ ولَمَحَةٌ كالخَلْسِ، يكونُ المتأمِّلُ عنده كما يقالُ: "يُعرَّفُ وينكَّرُ"، وذلك قولُك: "هو البطلُ المحامي" و "هو المتقي المرنجي"، وأنتَ لا تقصدُ شيئاً مما تقَدَّم، فلستَ تشيرُ إلى معنى قد عَلمَ المخاطَبُ أنه كان، ولم يَعْلَمْ أنه ممَّن كان كما مضى في قولك: "زيدٌ هو المنطلقُ" ولا تريدُ أن تقصُرَ معنى عليه على معنى أنه لم يَحصُلْ لغيرهِ على الكَمال، كما كان في قولك: "زيد هو الشجاعُ" ولا أن تقول: ظاهر أنه بهذهِ الصفة2، كما كان في قوله: "ووالدُكَ العبْدُ" ولكنَّك تُريد أن تقولَ لصاحبك: هل سمعتَ بالبطل المحامي؟ وهل خصلت معنى هذه الصفةِ؟ وكيفَ يَنْبغي أن يكونَ الرجلُ حتى يَستحِقَّ أن يُقالَ ذلك له وفيه؟ فإنْ كنتَ قتلتَه عِلماً، وتصوَّرْتَه حقَّ تصورهِ، فعليكَ صاحبَك واشدُدْ به يدَك، فهو ضالَّتُكَ وعندَه بُغْيتُكَ، وطريقُه طريق قولكِ3: "هل سمعتَ بالأَسَد؟ وهل تعرفُ ما هو؟ فإِن كنتَ تَعرفُه، فَزيدٌ هو هو بعينه".

_ 1 لم أقف على بعد. 2 في المطبوعة: "إنه ظاهر بهذه الصفة"، وفي "س": "ظاهره أنه .... ". 3 في المطبوعة وحدها "كطريق قولك".

200 - ويزدادُ هذا المعنى ظهوراً بأن تكونَ الصفةُ التي تريدُ الإخبارَ بها عن المبتدأ مُجْراةً على موصوف، كقوله ابن الرومي: هُوَ الرجُلُ المَشْرُوكُ في جُلِّ مالِهِ ... ولكنَّه بالمَجْد والحَمْد مُفْرَدُ1 تقديرُه، كأنه يقولُ للسامع: فكِّرْ في رجلِ لا يتميزُ عفاتُه وجيرانُه ومعارِفُه عنْهُ في مالِه وأَخْذ ما شاؤوا منه، فإذا حصلت صورته في نفسك، فأعلك أنه ذلكَ الرجلُ. 201 - وهذا فنٌّ عجيبُ الشأنِ، وله مكانٌ من الفَخامةِ والنُبْل، وهو مِنْ سِحْر البيانِ الذي تَقْصُرُ العبارةُ عن تأديةِ حقِّه. والمُعَوَّلُ فيه على مراجعةِ النفسِ واستقصاءِ التأمُّلِ، فإذا علمتَ أنه لا يريدُ بقوله: "الرجلُ المشروكُ في جُلِّ مالهِ" أن يقول: "هو الذي بلغت حديثه، وعرفت من حاله وقصته أن يُشرَكُ في جُلِّ ماله، على حدِّ قولِكَ: "هو الرجلُ الذي بلغَكَ أنه أنفقَ كذا، والذي وهبَ المئة المصطفاةَ من الإبل" ولا أنْ يقولَ إنه على معنى: "هو الكاملُ في هذه الصفةِ"، حتى كأنَّ ههنا أقواماً يُشركون في جلِّ أموالهم، إلا أنه في ذلك أكملُ وأتَمُّ، لأنَّ ذلك لا يُتَصوَّر. وذاك أنَّ كوْنَ الرجل بحيث يُشْرَكُ في جلِّ ماله، ليس بمعنى يَقعُ فيه تَفاضُلٌ2، كما أن بَذْلَ الرجلِ كَلَّ ما يَملكُ كذلك ولو قيلَ: "الذي يُشْرَكُ في ماله"، جازَ أن يَتفاوَتَ. وإذا كان كذلك، علمتَ أنه معنًى ثالثٌ. وليس إلا ما أشرْتَ إليه من أنه يقولُ

_ 1 ديوانه: 589، وفيه: "ولكنه باخلبر والحمد". 2 في المطبوعة: "ليس معنى"، وفي "س" "وذاك أن إشراك الرجل في جل ماله، معنى لا يقع فيه تفاضل".

للمخاطب: "ضع في نسك معنى قولك: رجل متشروك في جُلِّ مالهِ، ثم تأمْل فلاناً، فإنك تَسْتملي هذه الصورةَ منه، وتَجدهُ يؤدِّيها لك نَصّاً، ويأتيكَ بها كَمَلاً". 202 - وإن أردْتَ أن تسمعَ في هذا المعنى ما تَسْكُن النفسُ إليه سكونَ الصَّادي إلى بَرْد الماءِ، فاسمعْ قوله: أن الرجل المدعو عاق فقرِهِ ... إذا لَمْ تُكارِمْني صروفُ زَمَاني1 وإنْ أردت أعجب من ذلك فقوله: أهدَى إليَّ أبو الحُسين يَدا ... أَرْجو الثوابَ بها لديه غدا وكذلك عاداتُ الكَريم إذا ... أَوْلَى يَداً حُسِبَتْ علَيْهِ يدا إن كان يحسد نفسه أحد، ... فلأزعمك ذلك الأحد2 فهذا كلُّه على معنى الوْهم والتقدير، وأن يُصَوِّر في خاطرِه شيئاً لم يَره ولم يَعْلمه، ثم يُجْريه مُجْرى ما عَهِد وعَلِم. "الذي" ومجيئها في الخبر الموهوم: 203 - وليس شيءٌ أغلبَ على هذا الضرْبِ المَوْهوم من "الذي"، فإنه يجيء كثيرًا من أنك تُقدِّر شيئاً في وَهْمك، ثم تُعبِّر عنه "بالذي"، ومثال ذلك قوله: أخوك الذي إن تدعه لملمة ... يحبك وإن تغضب إلى السيف يغضب3

_ 1 لم أقف عليه بعد. 2 هو لابن الرومي في دويانه: 786. 3 هو لأبي حوط، حجية بن المضرب الكسوني، والشعر في شرح حماية التبريزي 3: 98، والمؤتلف والمختلف للآمدي: 183.

وقول الآخر: أخوك الذي إن ريته قال إنما ... أريت وإن غاتبته لانَ جانِبُهْ1 فهذا ونحْوُه على أنكَ قدَّرْتَ إنساناً هذه صفتُه وهذا شأْنُه، وأَحلْتَ السامعَ على من يَعِنُّ في الوهم2، دون أن يكونَ قد عرفَ جرلًا بهذه الصفةِ فأعلمتَه أن المستحِقَّ لاسمِ الأُخوَّة هو ذلك الذي عَرَفه، حتى كأنك قلتَ: "أخوك زيدٌ الذي عرفتَ أنكَ إنْ تدعُه لملمة يحبك". 204 - ولكَوْن هذا الجنسِ معهوداً من طريقِ الوَهم والتخيُّل، جَرىَ على ما يُوصفُ بالاستحالةِ، كقولكَ للرجل وقد تَمنَّى: "هذا هو الذي لا يكون"، و "هذا ما لا يدخل في الوجود"، وكقوله: مالا يَكونُ فلاَ يَكونُ بحيلَةٍ ... أبداً وَمَا هُوَ كائنٌ سَيُكُونُ3 وَمِنْ لطيفِ هذا الباب قولُه: وإنِّي لمشتاقٌ إلى ظلِّ صاحبِ ... يَروقُ ويَصْفو إنْ كَدِرْتُ عليهِ4 قَدْ قدَّر كما تَرى ما لَمْ يعلمْه موجوداً، ولذلك قال المأمونُ: "خذْ منِّي الخِلافةَ وأعطني هذا الصاحب". فهذا التعريفُ الذي تَراه في الصاحب لا يَعْرِضُ فيه شك أنه موهوم.

_ 1 هو لشار من يرد في ديوانه. 2 في المطبوعة: "يتعين في الوهم"، خطأ. 3 هو لعبد الله بن محمد بن أبي عيينة، بقوله لذى اليمينين، الكامل للمبرد 1: 23. 4 هو لأبي العتاهية. ديوانه "بيروت"، الأغاني 11: 346 "الدار"، كتاب بغداد لطيفور: 332.

الفرق بين: "المنطلق زيد" و"زيد المنطلق" والمبتدأ والخبر معرفتان 205 - وأمَّا قولُنا: "المنطلقُ زيدٌ"، والفرْقُ بينَه وبينَ أن تقول: "زيدٌ المنطلقُ"1، فالقولُ في ذلك أنك وإنْ كنتَ تَرى في الظاهر أنهما سواءٌ من حيثُ كانَ الغرضِ في الحَالَيْن إثباتَ انطلاقٍ قد سَبَق العلمُ به لزيدٍ2، فليسَ الأمرُ كذلك، بل بينَ الكلامَيْن فصْلٌ ظاهرٌ. وبيانُه: أنك إذا قلتَ: "زيدٌ المنطلقِ"، فأنتَ في حديِث انطلاقٍ قد كان، وعرَفَ السامعُ كونَه، إلاَّ أنه لم يَعْلم أَمِنْ زيدٍ كان أمْ مِن عَمرو؟ فإذا قلت: "زيدٌ المنطلقُ"، أزلتَ عنه الشكَّ وجعلْتَه يَقْطعُ بأنه كان مِنْ زيدٍ، بعد أن كان يَرى ذلك على سَبيل الجَواز. وليس كذلك إذا قدمت "المنطلقُ" فقلت: "المنطلق زيد"، بلى يكون المعنى حيئذ على أنك رأَيْتَ إنساناً ينطِلق بالبُعْد منك، فلم تثبته3، ولم تعلَمْ أزيدٌ هو أمْ عمروٌ، فقال لك صاحبُك: "المنطلقُ زيدٌ"، أي هذا الشخصُ الذي تراه من بُعْد هو زيدٌ. وقد تَرى الرجلَ قائِماً بين يديكَ وعليه ثوبُ ديباجٍ، والرجلُ ممن عرفْتَه قديماً ثم بَعُدَ عَهْدُك به فتناسَيْتَه، فيقالُ لك: "اللابسُ الديباجَ صاحبُك الذي كان يكونُ عندَك في وقتِ كذا، أمَا تعرِفُه؟ لَشَدَّ ما نَسِيتَ"، ولا يكون الغرض أن يثبت له ليس الديباجِ، لاستحالةِ ذلك، من حيثُ إنَّ رؤيتَك الديباجَ عليه تُغْنيك عن إخبارِ مُخْبر وإثباتِ مثبت لبسه له.

_ 1 في المطبوعة: "بينه وبين زيد المنطلق". 2 في المطبوعة: "من حيث كون الغرض ... ". 3 في المطبوعة وحدها: "فلم تثبت".

فمتى رأيتَ اسمَ فاعلٍ أو صفة منَ الصفات قد بُدىءَ به، فجُعل مبتدأً، وجُعل الذي هو صاحبُ الصِّفة في المعنى خبراً، فاعلَمْ أنَّ الغرضَ هناك، غيرُ الغرض إذا كان اسمُ الفاعل أو الصفةُ خبراً، كقولك: "زيد المنطق". اختلاف معنى التقديم والتأخير في المعرفتين إذا كانتا مبتدأ وخبرا: 206 - واعلمْ أنه ربَّما اشتَبهتْ الصورةُ في بعضِ المسائل من هذا البابِ، حتى يُظنَّ أنَّ المعرفتين إذا وقعتا مبتدأ وخبراً، لم يختلفِ المعنى فيهما بتقديمٍ وتأخير. ومما يُوهم ذلك قولُ النحويين في "باب كان": "إذا اجتمعَ معرفتانِ كنتَ بالخِيار في جعْلِ أيِّهما شئتَ اسماً، والآخر خَبراً، كقولك: "كان زيدٌ أخاط" و "كان أخوك زيداً"، فيُظَنُّ مِنْ ههنا أنَّ تكافؤَ الاسمين ي التعريف يقتضي أن لا يَختلِف المعنى بأن نبدأ بهذا وثنتنى بذاك، وحتى كان الترتيبُ الذي يُدَّعى بينَ المبتدأ والخبر وما يُوضع لهما من المنزلِة في التقدم والتأخر، يَسْقطُ ويرتَفِعُ إذا كان الجزآن معاً معرفتين. 207 - ومما يُوهم ذلك أنك تقول: "الأمير زيد"، و "جئتك والخليفةُ عبدُ الملك"، فيكون المعنى على إثباتِ الإمارة لزيدٍ، والخلافةِ لعبدِ الملك، كما يكونُ إذا قلت: "زيد الأمير" و "عبد الملك الخليفةُ"، وتقولهُ لمن لا يُشاهِد1، ومَنْ هو غائبٌ عن حضرةِ الإمارة ومعْدِن الخلافة. وهكذا من يتوهم في نحو قوله:

_ 1 في المطبوعة: "تقوله لمن يشاهد"، أسقط "لا"، ففسد الكلام.

أَبُوكِ حُبابٌ سارقُ الضَّيفِ بُرْدَهُ ... وجَدِّيَ يا حَجَّاجُ فارسُ شَمَّرا1 أنه لا فَصْلَ بينه وبينَ أن يقالَ: حبابٌ أبوكَ، وفارسُ شمَّر جَدِّي". وهو موضِعُ غامض. والذي يُبيِّن وجهَ الصَّوابِ، ويدلُّ على وجوبِ الفرق بين المسئلتين: أنك إذا تأملت الكلام وجدت الا يَحْتَمِلُ التَّسويةَ، وما تجدُ الفرْقَ قائماً فيه قياماً لا سبيلَ إلى دَفْعه، هو الأَعَمَّ الأكثَر2. 208 - وإن أردتَ أَنْ تعرفَ ذلك، فانظرْ إلى ما قدَّمتُ لك من قولك: "اللابسُ الديباجَ زيدُ"3، وأنتَ تُشير له إلى رجلٍ بينَ يديه، ثم انظرْ إلى قولِ العَرب: "ليسَ الطِّيبُ إلاَّ المِسْك"4، وقولِ جرير: ألستُمْ خيرَ مَنْ رَكبَ المَطايا5 ونحوِ قولِ المتنبي: ألست ابن الألى سعدوا وسادوا6

_ 1 هو لجميل في مجموع شعره، وهو في شرح الحماسة للتبريزي 1: 165، واللسان "شمر"، وغيرهما. 2 السياق: "وما تجد الفرق .... هو الأعمم الأكثر". 3 مضى في الفقرة رقم: 205. 4 مشهور عند النحاة، انظر سيبويه 1: 147. 5 في ديوانه: وتمامه: وأندي العالمين بطون راح 6 في ديوانه، وتمامه: ولم يلدوا امرءًا إلا نجيبا

وأشباهِ ذلك مما لا يُحصى ولا يُعَدُّ وأرد المعن على أن يَسْلَمَ لك مع قَلْبِ طَرَفَيْ الجملة1، وقُلْ: "ليس المسكُ إلا الطيبَ"، و "أليس خيرُ مَنْ ركبَ المطايا إياكم؟ "، و "أليس ابنُ الألى سعِدوا وسادوا إِيَّاكَ"؟ 2 تعلمْ أنَّ الأمرَ على ما عرَّفْتُك من وجوبِ اختلاف المعنى بحسب التقديم والتأخير. المبتدأ مبتدأ لأنه مسند إليه والخبر خبر لأنه مسند تثبت به وبيان ذلك: 209 - وههنا نكتة جيب القطعُ معها بوجوبِ هذا الفرقِ أبداً، وهي أنَّ المبتدأَ لم يكُنْ مبتدأً لأنه منطوقٌ به أولًا، ولا كان الخبر خبرًا لنه مذكورٌ بَعْد المبتدأ، بل كان المبتدأُ مبتدأً لنه مُسْندٌ إليه ومُثْبَتٌ له المعنى، والخبَرُ خبراً لأنه مسنَدٌ ومثْبَتٌ به المعنى. تفْسير ذلك: أنَّك إذا قلتَ: "زيدٌ منطلقٌ" فقد أثبتَّ الانطلاقَ لزيدٍ وأَسندْتَه إليه، فَزَيدٌ مثبَتٌ له، ومنطلق مثْبَتٌ به، وأمَّا تقديمُ المبتدأ على الخبرِ لفظاً، فحكْمٌ واجبٌ من هذِه الجهة، أي من جهِة أنْ كان المبتدأُ هو الذي يُثْبَتُ له المعنى ويسند إليه، والخبَرُ هو الذي يُثْبَتُ به المعنى ويُسنَد. ولو كان المبتدأ مبتدأ لنه في اللفظ مقدَّمٌ مبدوءٌ به، لكان يَنبغي أن يَخْرج عن كونِه مبتدأ بأن يقالَ: "منطلقٌ زيدٌ"، ولوجَبَ أن يكونَ قولُهم: "إن الخبرَ مقدَّمٌ في اللفظِ والنيَّةُ به التأخيرُ"، مُحالاً. وإذا كان هذا كذلك ثم جئتَ بمعرفتين فجعلتهما متبدأ وخبراً فقد وجَبَ وجوباً أن تكونَ مثبِتاً بالثاني معنى للأول. فإذا قلت: "زيدًا أخوك"، كنتَ قد أثبتَّ بأخوك معنى لزيدٍ، وإذا قدمت وأخرت فقلت:

_ 1 "وأرد المعنى"، سياقه في اول الفقرة: وإن أردت أن تعرف ذلك، فانظر ... وأراد المعنى". 2 السياق: "فانظر .... وأرد المعنى ... تعلم".

"أخوك زيد"1، وجب أن تكون مثبتًا يزيد معنى لأخوك، وإلا كان تسميتك له الآن متبدأ وإذا ذاك خبراً، تغييراً للاسم عليه مِنْ غيرِ معنى، ولأذى إلى أن لا يكون لقولهم "المبتدأ والخير" فائدةٌ غيرَ أن يتقدمَ اسمٌ في اللفظ على اسم، من غير أن ينفدر كل واحد منما بحكْمٍ لا يكون لصاحبهِ. وذلك مما لا يُشكُّ في سقوطه. 210 - ومما يدلُّ دلالةً واضحةً على اختلافِ المعنى إذا جئتَ بمعرفتَيْن، ثم جعلتَ هذا مبتدأ وذاك خبراً تارة، وتارة بالعكس قولهم: "الحبيب أنت"، و "أنت الحبيبُ"، وذاك أنَّ معنى "الحبيبُ أنتَ"، أنه لا فصْل بينك وبينَ مَنْ تُحبُّه إذا صدَقَت المحبةُ، وأنَّ مثَل المتحابَّيْنِ مثَلُ نفْسٍ يقتسمُها شخصان، كما جاء عن بعض الحكماءِ أنه قال: "الحبيبُ أنتَ إلا أنه غيرُكَ". فهذا كما ترى فوق لطيف وكنكتة شريفةٌ، ولو حاولتَ أن تُفيدها بقولك: "أنت الحبيبُ"، حاولتَ ما لا يَصِحُّ، لأنَّ الذي يُعْقَل من قولك "أنتَ الحبيبُ" هو ما عناه المتنبي في قوله: أنتَ الحبيبُ ولكنِّي أعوذُ بهِ ... مِنْ أنْ أكون محبصا غيرَ مَحْبوبِ2 ولا يَخفى بُعْدُ ما بينَ الغرضَيْن. فالمعنى في قولك: "أنتَ الحبيبُ" أنَّكَ الذي أخْتَصُّه بالمحبة مِنْ بين الناس، وإذا كان كذلك، عرفتَ أنَّ الفرْقَ واجبٌ، أبداً، وأنه لا يجوزُ أن يَكون "أخوك زيدٌ" و "زيد اخوك" بمعنى واحد.

_ 1 من أول قوله: "كنت قد أثبت بأخوك" إلى هنا، ساقط في "ج"، سهوًا من الكاتب. 2 في ديوانه.

211 - وههنا شيءٌ يجبُ النظرُ فيه، وهو أنَّ قولك: "أنتَ الحبيبُ"، كقولِنا "أنتَ الشجاعُ"، تُريد أنه الذي كملت فيه الشجاعة أم كقولنا1: "زيدٌ المنطلقُ"، تريد أنه الذي كان منهُ الانطلاقُ الذي سمِعَ المخاطَبُ به؟ وإذا نظرْنا وجدناه لا يَحْتمِل أن يكونَ كقولنا: "أنتَ الشجاعُ"، لأنه يقتضي أن يكونَ المعنى أنَّه لا مَحبَّة في الدنيا إلا ما هو بهِ حبيبٌ، كما أنَّ المعنى في "هوَ الشجاعُ" أنه لا شجاعَة في الدنيا إلاَّ ما تَجِِدُه عندَه وما هو شجاعٌ به. وذلك مُحال. 212 - وأمرٌ آخرُ وهو أنَّ الحبيب "فعيل" فمعنى" "مفعول"، فالمحبة إذن ليست هل له بالحقيقة، وإِنما هي صفةٌ لغيرِه قد لابَسَتْه وتعلَّقَتْ به تعلُّقَ الفعلِ بالمفعول. والصفةُ إذا وُصِفَتْ بكمالٍ وُصِفتْ به على أَنْ يَرجِعَ ذلك الكمالُ إلى مَنْ هي صفةٌ له، دونَ مَن تُلابِسُه ملابسةَ المفعول. وإذا كان كذلك، يعد أن تَقولَ: "أنتَ المحبوبُ"، على معنى أنتَ الكاملُ في كونك مَحبوباً، كما أنَّ بعيداً أن يقالَ: "هو المضروبُ"، على معنى أَنه الكاملُ في كونِه مضروباً. وإنْ جاء شيءٌ من ذلك جاء على تعسُّفٍ فيهِ وتأويلٍ لا يُتصوَّر ههنا، وذلك أنْ يقالَ مثلاً: "زيدٌ هو المظلومُ"، على معنى أنه لم يُصِبْ أحداً ظلمٌ يَبلغُ في الشِّدَةِ والشَّناعة الظلمَ الذي لَحِقَه، فصار كلُّ ظلمٍ سِواهُ عَدْلاً في جَنْبهِ ولا يجيءُ هذا التأويلُ في قولنا: "أنتَ الحبيبُ"، لأنَّا نَعْلم أَّنهم لا يريدون بهذا الكلام أن يقولوا: إنَّ أحداً لم يُحبَّ أحدًا مجتبى لك، وأن ذلك قد أبطل

_ 1 في المطبوعة: "أو كقولنا".

المحبات كلها حتى صبرت الذي لا يُعْقَلُ للمحبةِ معنًى إلاَّ فيه. وإنما الذي يريدون أنَّ المحبةَ مني بجملتها مقصورةٌ عليكَ، وأنه لَيْسَ لأحدٍ غيرَكَ حظٌّ في محبةٍ منِّي. 213 - وإذا كان كذلك بانَ أَنه لا يكونُ بمنزلةِ "أنتَ الشجاعُ"، تريدُ الذي يتكامل الوصفُ فيه1، إلا أنه يَنْبغي من بَعْدُ أن تعْلم أَنَّ بينَ "أنتَ الحبيبُ" وبينَ "زيدٌ المنطلقٌ" فرقاً، وهو أنَّ لكَ في المحبة التي أَثْبَتَّها طرفاً من الجنسية، من حيثُ كان المعنى أنَّ المحبَّةَ مني بجملتها مقصورةٌ عليك، ولم تَعمدْ إلى محبةٍ واحدةٍ من مَحَبَّاتك. ألا تَرى أنَّك قد أَعطَيْتَ بقولكَ: "أنتَ الحبيبُ" أنك لا تُحِبُّ غيرَه، وأنْ لا محبةَ لأحدٍ سِواه عندَك؟ ولا يتصور هذا في "زيد المنطلق"، لأنه وجْهَ هناك للجنسيةِ، إذْ ليس ثَمَّ إلا انلاطق واحدٌ قد عَرفَ المخاطبُ أنه كان، واحتاجَ أن يُعيَّن له الذي كان منه ويُنَصَّ له عليه. فإن قلتَ: "زيدٌ المنطلقُ في حاجتك"، تريدُ الذي من شأنه أن يَسْعى في حاجَتك، عرَضَ فيه معنى الجنسيةِ حينئذٍ على حدها في "أنت الحبيب". أسماء الأجناس والمصادر تتنوع إذا وصفت: 214 - وههنا أصْلٌ يجب أن تُحْكِمَهُ: وهو أنَّ من شأنِ أسماءِ الأجناسِ كلِّها إذا وُصِفَتْ، أن تَتنوَّعَ بالصفةِ، فيصيرَ "الرجلُ" الذي هو جنسٌ واحدٌ إذا وصفْتَه فقلتَ: "رجلٌ ظريفٌ"، و "رجل طويل"، و "رجل قصير"، و "رجل شاعر"، و "رجل كاتبٌ"، أنواعاً مختلفةً يُعَدُّ كلُّ نوعٍ منها شيئًا على حدة، وتستأنف في اسم "الرجل" بكلِّ صفةٍ تَقْرِنها إليه جنسية2.

_ 1 في المطبوعة وحدها: "الذي تكامل". 2 "جنسية"، مرفوع بقوله "وتستأنف"، أي: تستأنف بكل صفة جنسية.

215 - وهكذا القول في "المصادر"، تقول: "العلم" و "الجهل" و "الضرب" و "القتل" و "السير" و "القيام" و "القعود"، فتجدُ كلَ واحدٍ من هذه المعاني جنساً كالرجل والفرس والحمارِ. فإذا وصفتَ فقلتَ: "عِلمُ كذا" و "علم كذا" كقولك: "علم ضروري" و "علم مكتسب"، و "علم جلي" و "علم خفي" و "ضرب شديد" و "ضرب خفيف" و "سير سريع" و "سير بطيء" وما شاكل ذلك، آتقسم الجنس منها أقاسامًا، وصار أنواعًا، وكان مثلها مثل الشيء والمجموع المؤلفِ تَفْرُقُه فِرَقاً وتَشْعَبُه شُعبَا. وهذا مذهبٌ معروف عندهم، وأصل متعارف فيكل جيل وأمة. المصادر تتفرق بالصلة، كما تتفرق بالصفة: 216 - ثم إن ههنا أصلاً هو كالمتفرِّع على هذا الأصل أو كالنظيرِ له، وهو أن مِنْ شأنِ "المصدر" أن يفرَّقَ بالصَّلات كما يُفرَّقُ بالصِّفات. ومعنى هذا الكلامِ أنَّك تقولُ "الضربُ"، فتراه جنساً واحداً، فإذا قلتَ: "الضربُ بالسيف"، صار بتعديتك له إلى السيف1، نوعاً مَخصوصاً. ألا تراكَ تَقولُ: "الضربُ بالسيف غيرُ الضربِ بالعصا"، تُريدُ أنهما نوعانِ مختلفانِ، وأنَّ اجتماعَهما في اسم "الضَّرْب" لا يُوجب اتفاقَهما، لأن الصِّلةَ قد فصلَتْ بينُهما وفرَّقَتْهما. ومن المثالَ البيِّن في ذلك قول المتنبي: وتوهَّمُوا اللعِبَ الوَغى، والطعنُ في الـ ... ـهيجاءِ غير الطعن في الميدان2

_ 1 في المطبوعة: "تعيتك"، بغير باء. 2 في ديوانه، و "الوغي" و "الهيجاء" الحرب، و "الميدان"، يريد به ميدان التدريب على استعمال السلاح، وهو أشبه باللعب.

لولا أن اختلاف صلة المصدر تقضي اختلافه في نفسِه، وأن يَحْدُثَ فيه انقسامٌ وتَنوُّعٌ، لَمَا كان لهذا الكلامِ معنًى، ولَكانَ في الاستحالة كقولك: و "الطعن غير الطعن". فقد بان إذْن أنه إنَّما كانَ كلُّ واحدٍ من الطَّعْنَيْن جِنْساً بَرأْسِهِ غيرَ الآخَر، بأَنْ كان هذا في الهيجاءِ، وذاك في الميدانِ. وهكذا الحُكْم في كلِّ شيء تعدَّى إليه "المصْدَرُ" وتعلَّقَ به. فاختلافُ مفعولَيْ المصدر يقتضي اختلافَه، وأن يكونَ المتعدِّي إلى هذا المفعولِ غيرَ المتعدِّي إلى ذاك. وعلى ذلك تقولُ: "ليسَ إعطاؤكَ الكثير كإعطائك القليل"، وهكذا إذا عذبته إلى الحال كقولك: "ليس إعطاؤه مُعْسِراً كإعطائك مُوسِراً" و "ليس بذْلُكَ وأنتَ مقل، كبذلك وأنت مكثر". الاسم المشتق أيضا يتفرق بالصلة: 217 - وإذا قد عرفْتَ هذا مِن حُكْم "المصدِر" فاعتبرْ به حكْمَ الاسمِ المشتقِّ منه. وإذا اعتبرْت ذلك علمْتَ أَنَّ قولك: "هو الوفيُّ حين لا يفي أحد"، و "هو الواهب المئة المصطفاة"، وقوله1: وهو الضارب الكتيبة، والطعـ ... ـنة تعلو، والضَّربُ أَغْلى وَأَغْلَى2 واشباهُ ذلك كلُّها أخبارٌ فيها معنى الجنسية، وأنها في نوعِها الخاصِّ بمنزلِة الجنسِ المُطْلَق إذا جعلْتَه خبَراً فقلتَ: "أنتَ الشجاعُ". وكما أنكَ لا تَقْصِد بقولك: "أنتَ الشجاعُ" إلى شجاعة بعينها قد

_ 1 انظر الفقرة رقم: 196. 2 في ديوان المتنبي، وفي المطبوعة: "أغلى وأغلى"، و "أغلى" من "الغلاء"، أي الضرب أعز وجودًا من الطعن وأغلى.

كانتْ وعُرِفَتْ من إنسانٍ، وأَردْتَ أن تَعرفَ ممَّنْ كانت بل تُريد أن تَقْصُرَ جنْسَ الشجاعةِ عليه، ولا تَجعلُ لأحدٍ غيرهِ فيه حظَّاً، كذلك لا تَقصدُ بقولك: "أنتَ الوفيُّ حين لا يَفي أحدٌ" إلى وفاءٍ واحدٍ. كيفَ؟ وأنتَ تقول: "حينَ لا يفي أحدٌ". وهكذا محال أن تقصد في قولِه: "هُوَ الواهبُ المئةَ المصطفاةَ"، إلى هبةٍ واحدةٍ، لأنه يَقْتضي أَن يقصِدَ إلى مِئةٍ منَ الإبلَ قد وَهَبها مرةً، ثم لم يعد لمثلها. ومعلوم أن خلافُ الغرضِ، لأنَّ المعنى أنه الذي مِنْ شأنِه أن يَهَبَ المئةَ أبداً، والذي يبلغُ عطاره هذا المبلغَ، كما تقول: "هو الذي يُعطي مادحة الألف والألفين"، وكقوله: وحاتمُ الطائيُّ وهَّابُ المِئي1 وذلك أوضَحُ من أن يخفى. الألف واللام الدالة على الجنسية لها مذهب في الخبر، غيره في المبتدأ ووجوه هذا المعنى: 218 - وأصْلٌ آخرُ: وهو أن مِنْ حَقِّنا أن نعْلم أنَّ مَذْهَب الجنسية في الاسم وهو خبر، غير مذهبها وهو مبتدأ.

_ 1 لامرأة من بني عقيل، تفخر بأخوالها من اليمن، وقبله. حيدة خالي ولقيط وعلي نوادر أبي زيد: 91، واللساني "مأى" وغيرهاوهو مشهور. وفي هامش المخطوطة ما نصه: "مئة تجمع على مئى، ويكون الأصل: مووى ..... ثم تقلب الواو باء كما يقال مضى في مضى يمضي: والأصل مضوى، كقعود، والمعروف الجمع بالواو، كقولك: مئة ومئون، مثل رئة ورئون، وثبة وثبون".

تفسيرُ هذا: أنَّا وإنْ قلْنا إنَّ "اللامَ" في قولك: "أنت الشجاعُ" للجنس، كما هُوَ له في قولهم: "السجاع موقي، والجبان ملقي"1، فإن الفرق ينهما عظيمٌ. وذلك أنَّ المعنى في قولك: "الشجاعُ مُوَقَّى"، أنك تُثْبِتُ الوقايةَ لكلِّ ذاتٍ مِنْ صفتها الشجاعةُ، فهو في معنى قولِك: الشجعانُ كلُّهم مُوَقَّوْنَ. ولستُ أقولُ إن الشجاعَ كالشجعان على الإطلاق، وإنْ كان ذلك ظنَّ كثيرٍ من الناس، ولكني أريدُ أنك تَجعلُ الوقايةَ تستغرق الجنس وتشتمله وتَشِيعُ فيه. وأمَّا في قولك: "أنت الشجاعُ"، فلا مَعنى فيهِ للاستغراقِ، إذْ لسْتَ تُريد أن تَقولَ: "أنتَ الشجعانُ كلُّهم" حتى كأنكَ تَذْهَبُ به مذْهَب قولِهِمْ: "أنتَ الخَلْقُ كلُّهم" و "أنت العالم"، كما قال: وليس الله بِمُسْتَنْكَرٍ ... أنْ يَجْمَع العالَمَ في واحدِ2 219 - ولكن لحديث "الجنسية" ههنا مأخذ آخرَ غيرَ ذلك، وهو أنك تَعْمدُ بها إلى المصدِر المشتقِّ منه الصفةُ وتُوجِّهُها إليه، لا إلى نفسِ الصِّفَة. ثُم لكَ في تَوْجيهها إليه مَسْلَكٌ دقيقٌ. وذلك أنَّه ليس القصْدُ أَنْ تأتيَ إلى شَجاعاتٍ كثيرةٍ فَتجمَعَها له وتُوجِدَها فيه، ولا أنْ تَقول: إنَّ الشجاعاتِ التي يُتوهَّمُ وجودُها في الموصوفينَ بالشجاعة هي موجودةٌ فيه لا فيهم هذا كلُّه محالٌ، بل المعنى على أنك تقولُ: كنَّا عقَلْنا الشجاعةَ وعرَفْنا حقِيقَتَها، وما هي؟ وكيف يَنبغي أن يكون الإنسانُ في إقدامِه وبَطْشه حتى يعلم أنه شجاع على

_ 1 مثل، انظر كتاب الأمثال لأبي عبيد القاسم بن سلام: 116 رقم: 297. وقائله حنين ابن خشرم السعدي. 2 هو لأبي نواس، في ديوانه. وصدر البيت مكتوب في هامش "ج"، وليس في "س"، وفي المطبوعة "ليس على الله ... ".

الكمال: واستَقْرَيْنا الناسَ فلم نجدْ في واحدٍ منهم حقيقةَ ما عرَفْناه، حتى إِذا صِرْنا إلى المخاطَبِ، وَجدْناه قِد استكمَلَ هذه الصفةَ، واستجمعَ شرائِطَها، وأخلصَ جوهرَهَا، ورسَخَ فيهِ سِنخُها1. ويُبيِّن لك أنَّ الأمرَ كذلك اتفاقُ الجميعِ على تفسيِرهم له بمعنى الكامِل، ولو كان المعنى على أنهُ اسْتغْرق الشجاعاتِ التي يُتوهَّمُ كونها في الوصوفين بالشجاعة، لَمَا قالوا إنَّه بمعنى الكامل في الشجاعِة، لأنَّ الكمالَ هو أن تكونَ الصِّفة على ما يَنْبغي أَن تكونَ عليه، وأنْ لا يخالِطَها ما يَقْدحُ فيها، وليس الكمالُ أن تجتمعَ آحادُ الجنسِ وينضمَّ بعضُها إلى بعض. فالغرض إذان بقولنا: "أنتَ الشجاعُ"، هو الغرَضُ بقولهم: "هذه هيَ الشجاعةُ على الحقيقة، وما عَداها جُبْنٌ" و "هكذا يكون العلم، وما عداه تخيل"2، و "هذا هو الشعرُ" وما سواهُ فليس بشيءٍ". وذلك أَظَهرُ من أَنْ يَخفى. 220 - وضربٌ آخرُ منَ الاستدلال في إبطالِ أن يكونَ "أنتَ الشجاعُ" بمعنى أنكَ كأنكَ جميعُ الشجعانِ، على حَدِّ "أنتَ الخلْقُ كلُّهم"3، وهو أنك في قولك: "أنت الخلق" و "أنت الناس كلهم" و "قد جميع العالَم مِنْكَ في واحدٍ"، تدَّعي له جميعَ المعاني الشريفةِ المتفرقةِ في الناسِ، من غيرِ أن تُبْطِل تلك المعاني وتَنْفيها عن الناس، بل على أن تَدَّعي له أمْثالَها. ألا تَرى أنك إذا قلتَ في الرجلِ: "إنه معدود بألف رجل"، فلست

_ 1 "سنخها"، أصلها وجذرها. 2 في "س"، وفي نسخة عهند رشيد رضا: "وهذا هو العلم، وما عداه جهل". 3 انظر الفقرة رقم: 218.

تعني أنه معدود بألف لا مَعْنى فيهم ولا فضيلةَ لهم بوجْهٍ1، بل تريدُ أنَّه يُعْطِيكَ من معاني الشجاعةِ أو العِلْمِ أو كذا أو كذا مجموعاً2، مَّا لا تَجِدُ مقدارَه مفرَّقاً إلا في ألفِ رجلٍ. وأمَّا في نحوِ "أنتَ الشجاعُ"، فإنك تدعي له مقدارَه مفرَّقاً إلا في ألفِ رجلٍ. وأمَّا في نحوِ "أنتَ الشجاعُ"، فإنك تدَّعي له أن قد انفردَ بحقيقةِ الشجاعةِ، وأنه قد أُوتي فيها مزيَّةً وخاصيَّةً لم يُؤْتَها أَحدٌ، حتى صار الذي كان يَعدُّه الناسُ شجاعةً غيرَ شجاعةٍ، وحتى كأَنَّ كلَّ إقدامٍ إحجامٌ، وكلَّ قوةٍ عُرِفَتْ في الحرب ضَعْفٌ. وعلى ذلك قالوا: "جادَ حتى بَخَلَ كلَّ جوادٍ، وحتى منَعَ أن يَسْتحِقَّ اسمَ الجوادِ أحَدٌ"، كما قال: وإنَّكَ لا تَجود عَلَى جوادٍ ... هِباتُكَ أنْ يُلَقَّبَ بالجوادِ3 وكما يقالُ: "جادَ حتى كَأَنْ لم يُعْرَف لأحدٍ جودٌ، وحتى كَأَنْ قد كذب الواصفون الغيث بالجود"، كما قال: أعطيتَ حتى تَركْتَ الريحَ حاسِرةً ... وَجُدْتَ حتّى كأن الغيث لم يجد4

_ 1 في نسخة عند رشيد رضا: "ويألف رجل لا غناء فيهم". 2 في المطبوعة: "بل تريد أن تعطيه"، وفي "س": " .... أن يعطيك". 3 هو للمتنبي في ديوانه، وقبله بيت متصل معناه بمعناه، وهو: نلومك يا علي لغير ذنب ... لأنك قد زريت على العباد ومعنى البيت: هباتك لا تجود على أحد باسم الجواد: لأنه لا يستحق هذا الاسم، مع ما يرى من جودك، وزيادتك عليه، "شرح الواحدي". 4 هو للبحتري في ديوانه. و "حاشرة" قد أعيت وكلت فضعف هبوبها.

الفروق في الخبر: التعريف بالذي

الفروق في الخبر: التعريف بالذي هذا فصل في "الذي" خصوصًا: "الذي"، ومجيئه لوصف المعارف بالجمل، وما تحتها من الأسرار: 211 - إعْلَمْ أنَّ لك في "الذي" عِلماً كثيراً، وأسرار جمَّةً، وخفايا إذا بحثْتَ عنها وتصوَّرْتَها أطَّلَعْتَ على فوائدَ تُؤنِسُ النفسَ، وتُثلِجُ الصدرَ، بما يُفْضي بكَ إليه منَ اليقين، ويُؤدِّيه إليكَ من حُسْن التَّبيين. والوجْهُ في ذلك أنْ تتأملَ عباراتٍ لهمْ فيه لِمَ وُضِعَ، ولأيِّ غرَضٍ اجْتُلِبَ، وأشياءَ وصَفُوه بها. فمن ذلك قولهم: "إن "الذي" اجْتُلِبَ ليكونَ وصْلَةً إلى وصْفِ المعارفِ بالجُمل، كما اجتُلِب "ذو" ليُتَوصَّل به إلى الوصْف بأسماءِ الأجناس"، يعنون بذلك أنك تقولُ: "مررتُ بزيدٍ الذي أبوه منطلِقٌ" و "الرجل الذي كان عندنا أمسي"، فتجدك قد توصلت بـ "الذي" إلى أن أَبَنْتَ زيداً مِنْ غَيره، بالجملة التي هو قولُك: "أبوه منطلِقٌ"، ولولا "الذي" لم تَصِلْ إلى ذلك كما أنك تقولُ: "مررتُ برجلٍ ذي مال" فتتوصل بـ "ذي" إلى أن تبين الرجلُ من غيرهِ بالمال، ولولا "ذو" لم يتأتَّ لكَ ذلكَ، إذ لا تستطيعُ أن تقول: "برجل مالي". 222 - فهذه جملةٌ مفهومةٌ؟ إلا أنَّ تحتَهَا خبايا تحتاجُ إلى الكشفِ عنها. فمِنْ ذلك أنْ تَعلم مِنْ أينَ امتنَعَ أن توصَفَ المعرفةُ بالجملة، ولِمَ لمْ يكُن حالُها في ذلك حالَ النكرةِ التي تَصِفُها بها في قولكَ: "مررتُ برجل أبوه منطلق": و "رأيت إنسانًا تقاد الجنائب بين يديه"1.

_ 1 "الخبائب" جمع "جنيبة"، وهي الدابة تقاد، ويعني أنه أمير أو سلطان.

وقالوا: إنَّ السببَ في امتناعِ ذلكَ: أنَّ الجملَ نكراتٌ كلُّها، بدَلالةِ أنها تُستفادُ، وإنما يستفادُ المجهولُ دونَ المعلوم. قالوا: فلمَّا كانت كذلك، كانت وفق النكرة1، فجازَ وصْفُها بها، ولم يَجُزْ أن توصَفَ بها المعرفة، إذا لم تكن وفقًا لها. "الذي" توصل بجملة سبق من السامع العلم بها: 223 - والقول البين في ذلك أن يقالَ2: إنَّه إنَّما اجتُلِبَ حتى إذا كان قد عُرِفَ رَجلٌ بقصةٍ وأمْرٍ جَرى له، فتخصَّص بتلك القِصة وبذلك الأمِر عندَ السَّامعِ، ثم أُريدَ القصْدُ إليه، ذُكِرَ "الذي". تفسيرُ هذا أنك لا تَصِلُ "الذي" إلاَّ بجملةٍ من الكلام قد سَبق مِن السامعِ عِلمٌ بها، وأَمرٌ قد عرَفَه له، نحْوَ أَنْ تَرى عندَه رجلاً يُنشِدُه شعراً فتقولُ له مِنْ غَدٍ: "ما فعلَ الرجلُ الذي كانَ عندَك بالأمسِ يُنْشِدُك الشِّعرَ؟ ". هذا حُكْم الجملةِ بَعْدَ "الذي"، إذا أنتَ وصفْتَ به شيئاً. فكانَ معنى قولهم: "إنه اجتُلب ليتوَصَّل به إلى وصْف المعارف بالجمل"، أنه جيءَ به لِيَفْصل بين أن يُراد ذِكْرُ الشيءِ بجملةٍ قد عرَفها السامعُ له، وبين أن لا يكون الأمر كذلك. "الذي" تأتي بعدها أيضا جملة غير معلومة للسامع: 224 - فإنْ قلتَ: قد يُؤتى بَعْد "الذي" بالجملة غيرِ المعلومة للسامع، وذلك حيثُ يكون "الذي" خبراً"، كقولك: "هذا الذي كان عندَك بالأمسِ" و "هذا الذي قَدِمَ رسولاً من الحَضْرة، أنتَ في هذا وشَبَهه تُعْلِم المخاطَبَ أمراً لم يَسْبق له بِه علْمٌ. وتفيدُه في المشارِ إليه شيئاً لم يكنْ عندَه. ولو لم يَكُنْ كذلكَ، لم يكنِ "الذي" خبراً، إذ كان لا يكونُ الشيءُ خبراً حتى يُفَادَ به.

_ 1 في المطبوعة: "وفقًا للنكرة". 2 في المطبوعة وحدها: "والقول المبين".

فالقولُ في ذلك: إنَّ الجملةَ في هذا النحوِ، وإن كان المخاطَبُ لا يَعْلَمها لعينِ مَنْ أشرتَ إليه، فإنه لا بدَّ مِن أن يكونَ قد عَلِمها على الجملة وحُدِّثَ بها. فإنك على كلِّ حالٍ لا تقولُ: "هذا الذي قدِمَ رسولاً"، لمن لم يَعْلم أنَّ رسولاً قَدِم ولم يبلغْه ذلك في جملةٍ ولا تفصيل وكذا لا تقولُ: "هذا الذي كان عندك أمسِ"، لمن قد نسيَ أنه كان عندَه إنسانٌ وذهَبَ عن وَهْمه، وإِنما تَقولُه لمن ذاك على ذكرٍ منه، إلاَّ أنه رأى رجلاً يُقْبل مِن بعيدٍ، فلا يعلم أنه ذاك، ويظنه إنسانًا عيره. 225 - وعلى الجملة، فكلُّ عاقلٍ يَعلم بَوْنَ ما بينَ الخبرِ بالجملة مع "الذي" وبينَها معَ غيرِ "الذي"، فليس مِنْ أَحَدٍ به طِرْقٌ إلاَّ وهو لا يَشكُّ أنْ ليس المعنى في قولك1: "هذا الذي قدم رسولًا"2، كالمعنى إذا قلتَ: "هذا قدِمَ رسولا مِن الحضرة" ولا "الذي يَسْكُن في محلَّةِ كذا"، كقولك: "هذا يَسكنُ محلةَ كذا"، وليس ذاك إلاَّ أنك في قولك: "هذا قَدِم رسولاً من الحضرة" مبتدئ خبَراً بأَمرٍ لم يَبْلْغِ السامعَ ولم يبلَّغْهُ ولم يَعلَمْه أصلاً وفي قولكَ: "هذا الذي قدِم رسولا"، مُعْلِمٌ في أمرٍ قد بلَغَه أن هذا صاحبه3، فلم يحل إذن منَ الذي بدأنا به في أمْر الجملة مع "الذي"، من أن ينبغي أن تكونَ جملةً قد سبَقَ مِن السامعِ عِلْمٌ بها فاعرْفه، فإِنَّه من المسائلِ التي مَن جَهلهَا جَهِلَ كثيراً من المعاني، ودخلَ عليه الغلطُ في كثيرٍ منَ الأمور، والله الموفِّق للصواب.

_ 1 "به طرق"، بكسر فسكون: أي قوة، وأصل "الطرق"، السمن والشحم. 2 في المطبوعة و "س" هنا: " ..... رسولًا من الحضرة"، و "الحضرة يعني حضرة الخلافة. 3 "معلم في امر"، أي مخبر.

الفروق في الحال:

الفروق في الحال: فروق في الحال لها فضلُ تعلّقٍ بالبلاغة: الحال، ومجيئها جملة مع الواو تارة، وبغير الواو تارة: 226 - إِعْلَمْ أنَّ أوَّل فرْقٍ في الحال أّنَّها تَجيءُ مفرداً وجملةً، والقصْدُ ههنا إلى الجملة. وأوَّلُ ما ينبغي أنْ يُضْبَطَ مِن أمِرها أَنَّها تجيءُ تارةً معَ "الواو" وأُخْرى بغيرِ "الواو"، فمثالُ مَجيئها معَ الواو قولك: "أتاني وعليه ثوب ديباج"، و "رأيته وعلى كتفه سيف"، و "لقيت الأمير والجند حواليه"1، و "جاءني زيدٌ وهو متقلِّدٌ سيفَه" ومثالُ مَجيئها بغيرِ "واو": "جاءني زيدٌ يَسعى غلامُه بين يَدَيْه" و "أتاني عمرو يَقودُ فَرَسه"، وفي تمييزِ ما يقتضي "الواوَ" ممَّا لا يَقْتضيه صعوبةٌ. 227 - والقولُ في ذلك أنَّ الجملةَ إذا كانت من مُبتدإ وخبَرٍ، فالغالبُ عليها أنْ تَجيءَ مع "الواو" كقولكَ: "جاءني زيد وعمرو أمامه" و "أتاني وسيفُه على كَتِفه"، فإنْ كان المبتدأ من الجملةِ ضميرَ ذي الحال، لم يَصْلح بغيرِ "الواو" البتَّةَ، وذلك كقولكَ: "جاءني زيدٌ وهو راكب" و "رأيت زيدًا وهو جالس"، و "دخلت عليه وهو يملي الحديث" و "انتهيت إلى الأمير وهو يعبئ الجيشَ"، فلو تركتَ "الواوَ" في شيءٍ من ذلك لم يصْلُح. فلو قلتَ: "جاءني زيدٌ هو راكب"، و "دخلت عليه هو يُملي الحديثَ"، لم يكنْ كلاماً. 228 - فإنْ كان الخبرُ في الجملة من المبتدإ والخبر ظرفًا، ثم كان

_ 1 في هامش "ج" بخطه: "والجيش"، يعني مكان "الجند".

قد قُدِّم على المبتدإ كقولنا: "عليه سيفٌ" و "في يده سوط"، كَثُر فيها أن تجيءَ بغَيرِ "واوٍ". فمِمَّا جاء منه كذلك قولُ بشَّار: إذَا أنْكَرَتْني بَلدةٌ أوْ نَكِرْتُها ... خرجْتُ مَعَ البازي عليَّ سَوادُ1 يَعْني عليَّ بقيةٌ من الليل، وقول أمية: فاشْرَبْ هنيئاً عليكَ التاجُ مُرْتَفِقاً ... في رَأْسِ غمدان دارًا منك محلالا2 قول الآخر: لَقَدْ صَبَرَتْ لِلذُّلِّ أعوادُ مِنْبَرٍ ... تقوُم عَلَيها في يديكَ قضيبُ3 كلُّ ذلك في مَوْضعِ الحالِ، وليس فيه "واوٌ" كما ترى، ولا هُوَ محتمِل لها إذا نظرتَ. 229 - وقد يجيءُ تَرْك "الواو" فيما ليس الخبرُ فيه كذلكَ، ولكنه لا يَكثُر، فمن ذلك قولهمُ: "كلَّمتُهُ فوهُ إلى فيَّ" و "رجَع عَوْدُهُ على بَدْئهِ"، في قولِ من رفعَ ومنه بيتُ "الإصلاح". نَصَفَ النهارُ، الماءُ غامِرُهُ ... ورَفيقُه بالغَيْبِ لا يدري4

_ 1 في ديوانه، يعني حروجه في سواد الليل. و "البازي"، الصقر. 2 في ديوان أمية بن أبي الصلت. 3 هو شعر واثلة بن خليفة السدوسي، يهجو عبد الملك بن المهلب بن أبي صفرة، وهو في البيان والتبيين 1: 291، 292/ 2: 313، وضبطه في "س": لقد صبرت". 4 هو للمسيب بن علس، خال الأعشى، وهو مجموع شعر الأعشين: 352، وهو في إصلاح المنطق لابن السكيت: 269، وفيه: "وشريكه بالغيب" قال فقبله: "نصف النهار ينصف، إذا انتصف"، وقال بعده: "أراد: أنتصف النهار والماء غامره ولم يخرج. وقال: وذكر غائصًا أنه غاص، فانتصف النهار، فلم يخرج من الماء"، وهي من جياد القصائد النوارد. وفي هامش المخطوطة "ج": "أي: والمءا غامره". وضبطت أنا أبو فهر "النهار" بالنصب أيضًا، لأنه يقال: نصف الشيء الشيء"، بلغ نصفه، ويقال: "نصفت القرآن، بلغت منه النصف، و "نصف عمره"، أي بلغ نصفه.

ومن ذلك ما أنشدَه الشيخُ أبو علي في "الإغفال"1: ولَوْلا جَنَانُ الليلِ ما آبَ عامرٌ ... إلى جَعْفرٍ، سِرْبالُه لم يُمَزَّقِ2 230 - وَمِمّا ظاهرُه أنَّه منه قوله: إذا أتيت أبا مروان نسأله ... وجَدْتَه حاضِراهُ الجودُ والكَرمُ3 فقولُه: "حاضِراهُ الجودُ"، جملةٌ من المبتدأ والخبر كما تَرى، وليس فيها "وَاوٌ"، والمَوضِعُ موضعُ حالٍ، ألا تراكَ تقولُ: "أتيتُه فوجدتُه جالساً"، فيكونُ "جالساً" حالاً، ذاك لأنَّ "وجدتُ" في مثلِ هذا مِن الكلام لا تكونُ المتعديةَ إلى مفعولينِ، ولكنْ المتعديةَ إلى مفعولٍ واحدٍ كقولكَ: "وجدْتُ الضالَّة" إلاَّ أنه ينبغي أن تَعْلم أنَّ لتقديمهِ الخبرَ الذي هو "حاضراه" تأثيراً في معنى الغِنى عن "الواوِ"، وأنه لو قالَ: "وجدتُه، الجودُ والكرَمُ حاضراهُ" لم يَحسُنْ حسْنَه الآنَ، وكان السببُ في حسْنه معَ التقديم، أنَّه يَقْرُبُ في المعنى مِنْ قولكَ: "وجدتُه حاضرُه الجودُ والكرمُ" أو "حاضراً عندَه الجوُد والكرمُ". جملة الحال، والفعل مضارع مثت غير منفي لا تكاد تجيء بالواو: 231 - وإن كانِت الجملةُ من فِعْلٍ وفاعلٍ، والفعلُ مضارعٌ مُثْبَتٌ غيرُ منفيِّ، لم يكَد يَجيء بالواوِ، بل تَرى الكلامَ على مَجيئها عاريةً منَ "الواو"، كقولك: "جاءني زيدٌ يَسْعى غلامُه بين يديه"، وكقوله:

_ 1 "أبو على الفارسي"، وكتابه "الإغفال". 2 الشعر لسلامة بن جندل في ديوانه، وفي الآصمعيات رقم: 42، واللسان "جنن"، وروايته كما هنا، وأجود الروايتين ما في الديوان والأصمعيات: "سر بالله لم يحرق"، أي لم تخرقه الرماح والسهام. و "جنان الليل"، ما يسترك من ظلمته. 3 ينسب للأخطل، وليس في ديوانه.

وَقَدْ عَلَوْتُ قُتُودَ الرحْل يَسْفَعُني ... يومٌ قُدَيَدِيمَة الجوزاء مسموم1 وقوله: ولقَدْ أَغْتَدِي يُدافِعُ رُكْني ... أَحْوَذِيٌّ ذُو مَيْعَةٍ إضريجُ2 وكذلك قولُك: "جاءني زيدٌ يُسْرعُ"، لا فصل بين أن يكون الفعل ذي الحالِ، وبينَ أن يكونَ لمن هو مِنْ سَبَبِه، فإنَّ ذلك كلَّه يستمرُّ على الغَنى عن "الواوِ"، وعليه التنزيلُ والكلامُ. ومثالهُ في التنزيل قولُه عزَّ وجلَّ: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] وقولُه تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [النمل: 17، 18]، وكقوله عزَّ اسمُه {وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأعراف: 186]. مجيء جملة الحال فعلا مضارعا ومعه الواو: 232 - فأما قول ابن همام السلولي: فلما خشيت أظافيره ... نجوت، وأرهنهم مالكًا3

_ 1 هو شعر علقمة بن عبدة، في ديوانه: و "المفضليات: 120، وسيأتي أيضًا رقم: 243 و "قنود الرجل"، خشب الرجل وأدواته. و "يسفعني" يحرقني ويغير لوني من همسة وحره، و "الجوزاء" برج من أبراج الشمس، يشتد الحر بنزولها فيه. و "مسموم"، شديد السموم، وهي الريح الحارة. و "قديديمة" تصغير "قدام"، وروايته في الديوان والمفضليات: "يوم تجيء به الجوزاء". 2 هو لأبي داود، وقد مضى في الفقرة رقم: 82. 3 هو عبد اللهبن همام السلولي، في أنساب الأشراف (القسم الرابع، الجزء الأول من إحسان عباس": 293، 294، ومعاهد التنصيص 1: 285، يقوله ليزيد بن معاوية، حين أمر ابن زياد، أن يأخذه، فآخذه، فسأله أن يكلفه عريفه، وكان اسم العريف "مالكًا" ففعل. ثم هرب ابن همام وأخذ عريفه ولحق بيزيد بن معاوية فاستجار به فآمنه، فقال له هذا الشعر لما رجع إلى دياره. وفي المطبوعة: "أظافرهم"، وهو خطأ، والضمير يعود إلى الأسد في البيت قبله، وهو: وكرهني أرضكم أنني ... رأيت بها أسدًا شابكًا و"شابك" مشتبك الأنياب، فهو أشد لفرسه.

في روايةِ مَنْ رَوى "وأرهُنُهم"1، وما شبَّهوه به من قولهم: "فقمت وأَصُكُّ وجْهَهُ" فليستَ الواو فيها للحال، وليس المعنى "نجوت راهنًا مالكًا" و "قمت صاكًا وجهه"، ولكن "أرهن" و "أصك" حكاية حال، مثل قوله: وَلَقد أَمرُّ عَلَى اللئيمِ يَسُبُّني ... فَمضَيْتُ، ثُمَّتَ قلْتُ لا يَعْنيني2 فكما أن "أمُرُّ" ههنا في معنى "مررت"، كذلك يكون "أرهن" و "أصك" هناك في معنى "رهنت" و "صككت". ويُبيِّن ذلك أنك ترَى "الفاءَ" تَجيء مكانَ "الواوِ" في مثلِ هذا، وذلك كنَحْو ما في الخَبرَ في حديثِ عبدِ الله بنِ عَتيك حينَ دخَلَ على أبي رافعٍ اليهوديِّ حصْنَه قال: "فانتهيتُ إليه، فإذا هو في بَيْتٍ مظلمٍ لا أدري أينَ هوَ منَ البيتَ، فقلتُ: أبا رافعٍ! فقالَ: منْ هذا؟ فأهويتُ نحوَ الصَّوْتِ، فأضربُه بالسَّيف وأنا دَهِشٌ"3 فكما أنَّ "أَضرِبُه" مضارعٌ قد عطَفه بالفاء على ماضٍ، لأنه في المعنى ماضٍ، كذلك يكون "أرهنُهم" معطوفاً على الماضي قبلَه وكما لا يُشَكُّ في أنَّ المعنى في الخبر: "فأهويت فضربت"،

_ 1 وذلك لأن الرواية الأخرى: "وأرهنتهم مالكًا". 2 هو من شعر شيمر بن عمرو الحنفي، وقيل: لرجل من بني سلول، والشعر في الأصمعيات رقم: 38. رواه سيبويه في الكتاب 1: 416، والخزانة 1: 173، وتفسير الطبري 2: 351، وبعده: غضبان، ممتلئًا على إهابه ... إني وربك سخطه يرضيني 3 لم أقف عليه بهذا اللفظ من حديث عبد الله بن عتيك رضي الله عنه.

كذلك يكونُ المعنى في البيت: "نجوتُ ورهَنْتُ"، إلا أنَّ الغرضَ في أخراجهِ على لفظِ الحالِ، أن يَحكيَ الحالَ في أحدِ الخبرَيْن، ويدَعَ الآخر على ظاهره، كما كان ذلك في "ولقد أمرُّ عَلَى اللئيمِ يَسبُّني، فمضيتُ"، إلاَّ أن الماضي في هذا البيت مؤخَّر معطوفٌ، وفي بيتِ ابن همَّام وما ذكرناه معه، مقدم معطوف عليه. فاعرفه. مجيء الحال مضارعا منفيا، يجيء بالواو، كثير: 233 - فإنْ دخَلَ حرفُ نَفْي على المضارع تغيَّر الحكْمُ، فجاءَ بالواوِ وبِتَرْكِها كثيراً، وذلك مثلُ قولِهم: "كنتُ ولا أُخَشَّى بالذئبِ"1، وقولِ مسكين الدارمي: أكْسَبَتْه الوَرِقُ البيضُ أباً ... ولقدْ كانَ ولا يُدعَى لأَِبْ2 وقولِ مالِك بن رُفَيعٍ، وكان جنى جناية فطلبه مصعب بن الزبير: يغاني مصعب وبنو أبيه ... فأين أحيد عنهم؟ لا أحيد

_ 1 مثل، وقليلًا ما يرد في كتب الأمثال، وهو في اللسان مادة "خشى"، و "أخشى"، أخوف. 2 هو في المجموع من شعره، والأغاني 20: 211 "الهيئة"، وغيرها، يقوله في امرأته، بقول قبله: من رأى ظبيًا عليه لولؤ ... واضح الخدين مقرونًا بضب ويقول في آخرها: لا تلمها، إنها من نسوة ... ملحها موضوعة فوق الركب "ملحها فوق الركب"، كناية عن سوء خلقها وقلة وفائها. و "الورق"، الفضة، والضمير في "أكسبته" للظبي، ويعني به امرأته.

أقادُوا مِنْ دَمِي وتَوَعَّدوني ... وكنتُ وما يُنَهْنِهُنِي الوعيد1 "كان" في هذا كله تامة والجلة الداخلُ عليها "الواوُ" في موضِعِ الحالِ. ألا ترى أنَّ المعنى: "وُجدْتُ غيرَ خاشٍ للذئبِ"، و "لقد وجد غير مدعو لأب" و "وجدت غيرَ منَهْنَه بالوعيد وغيرَ مبالٍ به"، ولا معنى لجعلها ناقصة، وجَعْلٍ "الواوِ" مزيدة. 234 - وليس مجيءُ الفعل المضارعِ حالاً، على هذا الوجه، بعزيزٍ في الكلام، ألا تَراك تقولُ: "جعلتُ أمشي وما أدري أين أضع رجلي" و "جعل يقول ولا يَدري"، وقال أبو الأسود: "يصيب وما يدري"2، وهو شائع كثير. مجيء المضارع منفيا حالا، بغير الواو كثيرٌ: 235 - فأمَّا مجيءُ المضارعِ مَنْفياً حالاً مِنْ غَير "الواو" فيَكْثُر أيضاً ويَحْسُن، فمن ذلك قوله: ثووا لا يُريدون الرواحَ وغالَهُمْ ... منَ الدَّهرِ أسبابٌ جرين على قدر3

_ 1 هكذا هنا، وفي الأمالي 3: 127، "مالك بن أبي رفيع الأسدي .... وكان صعلوكًا، فطلبه مصعب بن الزبير فهرب منه وقال هذا الشعر، وروايته كما في "س" بغاني مصعب"، وهي أجود الروايتين فأثبتها. وكان في "ج" والمطبوعة: "أتاني مصعب". 2 هو في صدر بيت لأبي الأسود، بقوله لعبد الله بن فروخ ويقال قالها للحصين بن أبي الحر العنبري. وأيضًا في صدر البيت نفسه منسوبًا إلى فرات بن حيان، ويقال إنه أيضًا لأبي سفيان بن الحارث، والبيت: يصيب وما يدري، ويخطى وما درى وكيف يكون النوك إلا كذلك وفي شعر فرات "إلا كذلكا"، و "النوك"، الحمق. وانظر معجم الشعراء للمرزباني: 317. 3 هو لعكرشة العبسي، أبي الشغب، يرثي بنيه، وهو في شرح الحماسة للتبريزي 3: 49، 50، ومجالس ثعلب: 242، والشعر بتمامه في مقطعات مراث لابن الأعرابي، رقم: 4، ورواية البيت على الصواب كما أثبته، وفي المطبوعة والمخطوطتين: "مضوا لا يريدون الرواح".

وقال أرطاةُ بنُ سُهَيَّةَ، وهو لطيفٌ جداً: إنْ تَلقَني، لا تَرى غَيري بناظِرةٍ ... تنْسَ السِّلاحَ وتعْرِفْ جَبْهةَ الأَسدِ1 فقولُه: "لا ترى" في موضعٍ حالٍ. ومثلُه في اللُّطفِ والحُسْن قولُ أعشى هَمْدان، وصَحِبَ عبَّاد بنَ ورقاءَ إلى أصبهانَ فلم يَحْمَدْه فقال: أتَيْنَا أصبهانَ فهزَّلَتْنا ... وكنَّا قَبْل ذلك في نَعيم وكانَ سَفاهةً منِّي وَجهلاً ... مَسِيري، لا أَسِيرُ إلى حَميمِ2 قولُه: "لا أسيرُ إلى حَميمٍ"، حالٌ من ضميرِ المتكلمِ الذي هو "الياء" في "مسير"، وَهُوَ فاعلٌ في المعنى، فكأنه قال: وكان سَفاهةً مني وجهلاً أَنْ سرتُ غيرَ سائرٍ إلى حَميمٍ، وأنْ ذهبتُ غيرَ متوجِّهٍ إلى قريب، وقال خالد بن يزويد بن معاوية: لَو أَنَّ قَوْماً لاِرتفاعِ قَبيلةٍ ... دَخَلُوا السماءَ دخلتُهَا لا أُحْجَبُ3 وهو كثيرٌ إلا أنه لا يَهْتَدي إلى وضْعِه بالموضع المَرْضِيِّ إلاَّ من كان صحيح الطبع. الماضي يجيء حالا بالواو وغير الواو مقرونا مع "قد": 236 - ومما يجيءُ بالواوِ وغيرِ "الواوِ"، الماضي، وهو لا يقعُ حالاً إلا مع "قد" مُظْهَرةً أو مقدَّرَةً. أما مجيئُها بالواوِ فالكثيرُ الشائعُ، كقولِكَ: "أتاني وَقَدْ جَهِدَهُ السيرُ" وأّمَّا بغيرِ "الواو" فكقوله:

_ 1 أبياته في الأغاني 13: 34 "الدار" بقوله لشبيب بن البرصاء، وكان قال: "وددت أنى جمعني وأين الأمة أرطأة بن سهية يوم قتالي فأشفي منه غيظي". فبلغ ذلك أرطأة، فقال: "إن تلفني"، الشعر. 2 في مجموع شعر الأعشين: 341، والصحيح أن الأعشى صحب أبا سليمان خالد بن عتاب بن ورقاء البراحي، انظر الأغاني: 6: 43 "الدار". 3 غير منسوب، في شرح شواهد العيني "الخزانة 13: 191".

مَتَى أَرى الصبْحَ قَدْ لاحَتْ مَخَايلُه ... والليلَ قد مزقت عنه السرابيل1 وقول الآخر: فآبُوا بالرماحِ مُكَسَّراتٍ ... وأُبْنَا بالسيوفِ قَدِ انْحِنْينا2 وقال آخر، وهو لطيف جدًا: يمْشُون قدْ كَسَروا الجُفُونَ إلى الوغَى ... مُتَبَسِّمينَ وفيهمِ اسْتِبْشارُ3 237 - وممِّا يجيءُ بالواو في الأكثرِ الأَشْيع، ثم يَأتي في مواضعَ بغيرِ "الواو" فَيْلطُفُ مكانُه ويَدلُّ على البلاغة، الجملةُ قد دَخلَها "ليس" تقول: "أتاني وليس عليه ثوبٌ" و "رأيته وليس معه غيرُه"، فهذا هوَ المعروفُ المُسْتعمَل، ثم جاءَ بغيرِ "الواو" فكانَ من الحُسْن على ما ترى، وهو قول الأعرابي: لَنا فتى وحبَّذَا الافْتَاءُ ... تَعْرِفُهُ الأَرسانُ والدِّلاءُ إذا جَرىَ في كفِّه الرِّشاءُ ... خُلَّى القَلِيبَ ليس فيه ماء4

_ 1 الشعر لحندج بن حندج المري، شرح الحماسة للتبريزي 4: 160، وسيأتي في رقم: 243. 2 هو من النصفة، قصيدة ععبد الشارق بن عبد العزى الجهني، شرح الحماسة للتبريزي2: 229 - 234 3 في هامش المخطوطة "ج" حاشية نصها: "كسروا الجفون" من قوله: ومن قبل ما أعييت كاسر عينه ... زيادًا ولم تقدر على حبائله وهو وصف بدل على ثبات الجاش، وعلى الثقة بالله. قال أبو فهر: أظن أن كثر الجفون، هو كير جفون السيوف، حتى لا تغمد، وتكون أبدًا مصلته في الحرب. 4 لم أقف عليه بعد.

مجيء جملة الحال بغير واو: هذا الباب: أنَّكَ ترَى الجملةَ قد جاءتْ حالاً بغير "واو" ويَحْسُن ذلك1، ثم تَنظرُ فترَى ذلك إنما حَسُنَ من أجْلِ حرفٍ دخلَ عليها. مثالُهُ قول الفرزدق: فَقُلْتُ عَسى أنْ تُبْصريني كأنَّما ... بنِيَّ حَواليَّ الأسودُ الْحَوَارِدُ2 قولُه: "كأنما بَنيَّ" إلى آخرهِ، في موضعِ الحال من غَيْرِ شُبْهة، ولو أنك تَرَكْتَ "كأن" فقلتَ: "عسى أن تُبصريني بَنِيَّ حَواليَّ كالأَسود"، رأيْتَهُ لا يَحْسُنُ حُسْنَه الآن3، ورأيتَ الكلامَ يقتضي "الواو" كقولكَ: "عسى أن تُبْصريني وبنيَّ حواليَّ كالأسود الحوارِد". 239 - وشَبيهٌ بهذا أنك تَرى الجملةَ قد جاءتْ حالاً بِعَقِب مفردٍ، فلَطُفَ مكانُها، ولو أنك أَردْتَ أن تَجْعلها حالاً من غيرِ أنْ يَتقدَّمها ذلك المفردُ لم يحْسُن، مثالُ ذلك قولُ ابنِ الرومي:

_ 1 في "س"، "فحسن ذلك"، وفي نسخة عند رشيد رضا: "فيحسن ذلك". 2 في ديوانه، وروايته "الأسود اللوايد"، وهي أصح الرواتين، وأولاها بهذا الشعر. ورواية أكثر كتب البلاغة كما هنا، وأيضًا رواية الديوان: "فإني عسى"، وهي أبيات ثلاثة يقولها الفرزدق لأمرأته طيبة بنت العجاج المجاشعي، وقالت له: ليس لك ولد، وإن مت ورثك قومك! فقال لها: تقول: أراه واحدًا طاح أهله ... يومله في الوارثين الأباعد فإن عسى .................. ... ................... فإن تميمًا قبل أن يلد الحصى ... أقام زمانًا وهو في الناس واحد و"الحوارد"، الغضاب. و "اللوابد" جمع "لابد"، وهو الأسد. و "اللبدة"، وهو الشعر اللابد على زبرته. و "تميم" هو أبو القبيلة التي منها الفرزدق، و "الحصى"، العدد الكثير، شبه في الكبير بالحصى. وفي هامش المخطوطة "ج"، ذكر البيت الثالث: "فإن تميمًا .... ". 3 في المطبوعة وحدها: "حسنه في الأول".

واللهُ يُبْقيكَ لنا سَالِماً ... بُرْدَاكَ تَبْجِيلٌ وتعظيمُ1 فقوله: "برادك تبجيلٌ"، في مَوْضِع حالٍ ثانية، ولوْ أَنك أسقَطْتَ "سالماً" من البيت فقلتَ: "واللهُ يُبقيكَ بُرْداك تبجيل"، لم يكن شيئاً. اختلاف الجمل الواقعة حالا، في مجيئها بالواو وبغيرها: 240 - وإذْ قد رأيتَ الجملَ الواقعةَ حالاً قد اختلفَ بها الحالُ هذا الاختلافَ الظاهرَ، فلا بُدْ من أن يكونَ ذلك إنَّما كان من أجل علل توجيه وأسبابٍ تقْتضيه، فمُحالٌ أن يكون ههنا جملةٌ لا تَصْلحُ إلاَّ مع "الواوِ"، وأخرى لا تَصْلحُ فيها "الواوُ"، وثالثةٌ تَصْلُحُ أن تجيءَ فيهأ "بالواو" وأنْ تَدَعَها فلا تجيءُ بها، ثم لا يكونُ لذلك سبَبٌ وعلَّة، وفي الوقوفِ على العلَّة في ذلك إشكالٌ وغُموضٌ، ذلك لأنَّ الطريقَ إليه غيرُ مسْلوكٍ، والجهةَ التي منها تعرف غير معروفة، وأن أكتبُ لك أصْلاً في "الخبرِ" إذا عرَفْتَه انفتح لك وجه العلة في ذلك. "الخبر" نوعان، جزء من الجملة وخبر ليس بجزء من الجملة: 241 - اعلم2 أنَّ "الخبرَ" يَنقسمُ إلى خَبرٍ هو جُزءٌ من الجملةِ لا تَتمُّ الفائدةُ دونَه، وخَبرٍ ليس بجزءٍ منَ الجملة، ولكنه زيادةٌ في خبر آخر، سابق له. فالول خبر المبتدأن كمُنْطَلِقٌ في قولك: "زيدٌ مُنْطلقٌ"، والفعلُ كقولك: "خرجَ زيدٌ"، وكلُّ واحدٍ من هذين جزءٌ منَ الجملة، وهو الأَصْل في الفائدة والثاني هو الحالُ كقولك: "جاءني زيدٌ راكباً"، وذاكَ لأنَّ الحالَ خبرٌ في الحقيقة، مِنْ حيثُ إنك تُثْبتُ بها المعنى لذي الحالِ كما ثبت بخبر المبتدأ

_ 1 في ديوانه: 2315. 2 هذه الفقرة رقم: 241، قد سلف بنصها في الفقرة: 179.

للمبتدأ1، وبالفِعْل للفاعل. ألاَ تَراكَ قد أَثبتَّ الركوبَ في قولَك: "جاءني زيدٌ راكباً" لزيدٍ؟ إلاَّ أنَّ الفَرْقَ أنك جئْتَ به لتزيدَ معنًى في إخباركَ عنه بالمجيءِ، وهو أن تَجْعلَه بهذه الهيئة في مجيئهِ، ولم تُجرِّدْ إثباتَك للركوب ولم تُبْاشِرْه به ابتداءً2، بل بدأْتَ فأَثبتَّ المجيءَ، ثم وَصلْت به الركوبَ، فالتبسَ به الإثباتُ على سَبيل التَّبَعِ لغيِره، وبشَرْط أنْ يكونَ في صِلَته, وأمَّا في الخبر المطلق نحو: "زيد منطلق" و "خرج عمرو"، فإنَّك أثبتَّ المعنى إثباتاً جرَّدْتَه له، وجعلْتَه يُباشِرُه من غيرِ واسطةٍ3، ومن غيرِ أَن يتسبب بغيره إليه. جملة الحال وامتناعها من الواو، وتفسير ذلك: 242 - وإذْ قَدْ عَرفْتَ هذا، فاعلمْ أنَّ كلَّ جملةٍ وقعَتْ حالاً ثم امتنعَتْ منَ "الواو"، فذاك لأَجْل أنَّك عمَدْتَ إلى الفعل الواقعِ في صدرِها فضَمَمْتَه إلى الفعلِ الأَول في إثباتٍ واحدٍ، وكلُّ جملةٍ جاءتْ حالاً، ثم اقتضتْ "الواو"، فذاكَ لأنكَ مستأنِفٌ بها خَبَراً، وغيرُ قاصدٍ إلى أنْ تَضُمَّها إلى الفعلِ الأولِ في الإثبات. 243 - تفسيرُ هذا: أَنك إذا قلْتَ: "جاءني زيدٌ يُسْرعُ"، كانَ بمنزلة قَوْلِك: "جاءني زيدٌ مُسرعاً"، في أنك تُثْبِتُ مَجيئاً فيه إسْراعٌ، وتَصِلُ أَحَد المعنَييْنِ بالآخَرِ، وتجعلُ الكلامَ خبراً واحداً، وتريدُ أن تقولَ: "جاءني كذلك، وجاءني بهذه الهيئة"، وهكذا قوله:

_ 1 في المطبوعة: "كما تثبته بالخبر للمبتدأ"، وفينسخة عند رشيد رضا، كالذي أثبت هنا. 2 "ابتداء" زئادة في هذا الموضع، ولم تكن في رقم: 179. 3 في المطبوعة "مباشرة"، وقال رشيد رضا: "في نسخة: يباشره".

وَقَدْ عَلَوْتُ قُتُودَ الرحْل يَسْفَعُني ... يومٌ قُدَيَدِيمَة الجوزاءِ مسْمُومُ1 كأنه قال: "وقَدْ عَلَوْتُ قُتُودَ الرجل بارزاً للشمس ضاحياً"، وكذلك قولُه: مَتَى أَرى الصبحَ قَدْ لاحَتْ مَخايِلهُ2 لأنه في معنى: "متى أرى الصبح باديًا متجلِّياً" وعلى هذا القياس أبداً. وإذا قلتَ: "جاءني وغلامه يسعى بين يديه" و "رأيت زيداً وسَيفُه على كتفه"3، كان المعنى على أنك بدأَتَ فأثبتَّ المجيءَ والرؤْيةَ، ثم استأنَفْتَ خبراً، وابتدأتَ إثباتاً ثانياً لسعيِ الغلام بِين يديه، ولكونِ السيفِ على كَتِفه، ولمَّا كان المعنى على استئنافِ الإثباتِ، احْتِيجَ إلى ما يَربِطُ الجملةَ الثانيةَ بالأُولى، فجيءَ بالواو كما جيء بها في قولك: "زيدٌ منطلقٌ وعمرو ذاهب" و "العلم حَسَنٌ والجهلُ قَبيحٌ". وتَسْميتُنا لها" واو حال"، لا يُخْرجها عن أنْ تكونَ مجْتَلَبةً لِضَمِّ جملةٍ إلى جملةٍ. ونَظيرُها في هذا "الفاءُ" في جوابِ الشرطِ نحوُ: "إنْ تأتِني فأَنْتَ مُكْرَم"، فإنها وإنْ لم تكن عاطفةً، فإِن ذلك لا يُخْرجُها مِنْ أن تكونَ بمنزلة العاطفةِ في أنها جاءتْ لتَرْبِطَ جملة ليس مِنْ شأنِها أن ترتبِطَ بنفسِها4، فاعرفْ ذلك ونزَّل الجملةَ في نحوِ: "جاءني زيدٌ يسرعُ" و "قد علوت قتود

_ 1مضى البيت في رقم: 231، وهو لعلقمة بن عبدة. 2 مضى في رقم: 236، وتمامه: والليل قد مزقت عنه السرابيل 3 انظر الفقرة رقم: 226. 4 في المطبوعة وحدها: "أن تربط بنفسها".

الرجل يسفعني يومٌ"، مَنْزِلةَ الجزاءِ الذي يَسْتغني عنِ "الفاء"، لأنَّ مِن شأنِه أن يرتبطَ بالشَّرط من غير رابط، وهو قولك: "إن تعطيني أَشكُرْك" ونزَّل الجملةَ في "جاءني زيدٌ وهو راكبٌ"، منزلةَ الجزاءِ الذي ليس من شأنِه أنْ يَرتَبطَ بنفسهِ، ويحتاجُ إلى "الفاء"، كالجملة في نحوِ: "إنْ تأتني فأنتَ مُكْرَمٌ"، قياساً سويًا وموازنة صحيحة1. بيان دخول الواو على الجملة: 244 - فإنْ قلتَ قد عَلِمْنا أنَّ علَّة دخولِ "الواو" على الجملة أن تَسْتأنِفَ الإثباتَ، ولا تَصلَ المعنى الثاني بالأول في إثباتٍ واحدٍ، ولا تُنَزِّلَ الجملةَ منزلةَ المفردِ ولكنْ بقِيَ أنْ تعلَمَ لِمَ كان بعضُ الجمل، بأنْ يكون تَقديرُها تقديرَ المفرد في أَنْ لا يُستأْنَفَ بها الإثباتُ، أوْلى مِنْ بعض؟ 2 وما الذي منَعَ في قولكَ: "جاءني زيدٌ وهو يسرعُ، أو: وهو مسرع" من أن يَدخُلَ الإسراعُ في صلةِ المجيءِ ويُضَامَّه في الإثبات، كما كان ذلك حِينَ قلتَ: "جاءني زَيْدٌ يُسرع"؟ فالجوابُ أن السببَ في ذلك أَنَّ المعنى في قولك: "جاءني زيدٌ وهو يُسرعُ"، على استئنافِ إثباتٍ للسرعة، ولم يكنْ ذلك في "جاءني زيدٌ يُسْرعُ". وذلك أنكَ إذا أَعدْتَ ذكْر "زَيدٍ" فجئْتَ بضميرِه المنفصلِ المرفوع، كانَ بمنزِلِة أنْ تُعيدَ اسْمَه صريحاً فتقولُ: "جاءني زيدٌ وزَيدٌ يسرعُ" في أّنَّك لا تَجد سبيلاً إلى أّنْ تُدخِلَ "يسرعُ" في صلةِ المَجيء، وتَضُمَّه إليه في الإثبات. وذلك أنَّ إعادتَكَ ذكْرَ "زيدٍ" لا يكون حتى تقصد استئناف الخبر.

_ 1 السياق: "ونزل الجملة .... قياسًا سويًا ... ". 2 السياق: "لم كان بعض الجمل ... أولى من بعض" خبر "كان".

عنه بأنه يُسرعُ، وحتى تَبتدئَ إثباتاً للسُّرعَة، لأنك إنْ لم تَفْعلْ ذلك، تركْتَ المبتدأ، الذي هو ضميرُ "زيدٍ" أو اسْمُه الظاهرُ، بمَضِيعةٍ، 1 وجعَلْتَه لَغُواً في البَيْن2، وجرى مجْرى أن تقول: "جاءني زيدٌ وعمرو يُسرع أمامه"، ثم تزعُمُ أنك لم تستأنِفْ كلاماً ولم تبتدئ للسرعة إثباتاً، وأنَّ حالَ "يُسْرعُ" ههنا، حالُه إذا قلتَ: "جاءني زيدٌ يسرعُ، فجعلْتَ السرعةَ له، ولم تذكُرْ "عَمراً"، وذلك مُحال. 245 - فإن قلتَ: إنَّما استحالَ في قولك: "جاءني زيدٌ وعمرو يُسرعُ أمامَه" أَن تَرُدَّ "يُسرع" إلى "زيدٍ" وتُنْزِله منزلةَ قولكَ: "جاءني زيدٌ يُسرع"، من حيث كان في "يُسرع" ضميرٌ لعمرو، وَتَضَمُّنُهُ ضميرَ عمرو يَمْنع أن يكونَ لزيدٍ، وأن يقدَّرَ حالاً له. وليس كذلك: "جاءني زيدٌ وهو يسرعُ"، لأنَّ السرعةَ هناك لزيدٍ لا محالةَ، فكيفَ ساغ أن تَقيس إحدى المسئلتين على الأُخرى؟ قيل: ليس المانعُ أن يكون "يُسرع" في قولك: "جاءني زيد وعمرو يسرع أمامه"؟ حالاً من زيدٍ أنَّه فعلٌ لعمرو، فإنك لو أخَّرْتَ "عَمراً" فرفَعْتَه "بيُسرع"، وأولَيْتَ "يسرع" زيدًا فقلت: "جاءني زيد يسرع عمرو أَمامَه" وجدتَه قد صلُح حالاً لزيدٍ، مع أنه فعْلٌ لعمرو وإنما المانعُ ما عرَّفْتُكَ، مِنْ أنكَ تدَعُ "عَمراً" بمَضِيعةٍ3، وتجيءُ به مبتدأً، ثم لا تعطيه خبرًا4.

_ 1 السياق: "تركت المبتدأ ... " بمضيعة". 2 "في البين"، أي بينهما، وقد فسرته آنفًا. 3 انظر الفقرة السالفة: 244. 4 عند هذا الموضع حاشية في "ج"، هي بلا شك من كلام عبد القاهر: هذا نصها:

ومما يدل على فساد ذلك أن يؤدِّي إلى أن يكونَ "يُسرع" قد اجتمعَ في موضعِه النصْبُ والرفعُ، وذلك أنَّ جعْلَه حالاً من "زيدٍ" يَقتضي أن يكونَ في موضع نصب وجعله خبرًا عن "‘مرو" المرفوعِ بالابتداءِ يَقتضي أَنْ يكونَ في موضعِ رفعٍ. وذلك بيِّنُ التدافعِ. ولا يَجِبُ هذا التدافعُ إذا أخَّرْتَ "عمراً" فقلْتَ: "جاءني زيدٌ يسرع عمرو أمامه"، لأنك ترفعه حينئذ بيسرعُ1، على أنه فاعلٌ له، وإذا ارتفعَ به لم يوجب في موضعه إعرابًا2،

_ = "مما يزيد في بيان هذا المسئلة أنك لو قلت: "جاءني زيد وعمرو مسرع بين يديه"، لم تستطيع أن تنصب "مسرعًا" على أن تجعله داخلًا في إثبات المجيء، لأن نصبه يخرجه من أن يكون خبرًا عن "عمرو"، فيبقى "عمرو" مبتدأ لا خبر له. وإذا عرفت هذا في "مسرع" الذي هو اسم، فقس "يُسرع" في قولك: "جاءني زيد وعمرو يسرع أمامه" عليه وإذا قلت: "جاءني زيد يسرع عمرو أمامه"، أمكنك أن تضع الاسم موضع الفعل فتقول: "جاءني زيد مسرعًا عمرو أمامه"، ويكون لعمرو عامل يعمل فيه ولا يبقى ضائعًا، لأن اسم الفاعل إذا تقدم، صح أن يرتفع "عمرو" به وإذا تأخر لم يصح، لأنه إذا تأخر صار "عمرو" مبتدأ، وإذا صار مبتدأ احتاج إلى خبر، والاسم [لا يكون خبرًا وينصب]. وهذا الذي بين القوسين جاز عليه التصوير، فلم يبق منه إلا حروف، فهكذا قرأته، والله أعلم. 1 "حينئذ"، ليست في المطبوعة، وأشار رشيد رضا أنها عنده في نسخة. 2 في المطبوعة بين قوله: "لم يوجب في موضعه إعرابًا"، وقوله: "فيبقى مفرغًا"، كلام ليس في شيء من الأصول، وقد نبه الشيخ رشيد رضا في الاستدراك على أنها حاشية، وليست في الأصل وهذا نصها:

فيبقى مُفْرَغاً لأن يُقدَّرَ فيه النصْبُ على أَنه حالٌ من "زيدٍ" وجَرَى مجْرى أن تقول "جاءني زيد مسرعًا عمرو أمامه". القياس أن لا تَجيءَ جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ إلا مع الواو، وعلة ترك ذلك: 246 - فإن قلتَ: فقد يَنبغي على هذا الأصلِ أن لا نجيء جملةٌ مِن مبتدأٍ وخبرٍ حالاً إلاَّ معِ "الواو"، وقد ذكرتُ قبْلُ أنَّ ذلك قد جاءَ في مواضعَ من كلامهم1. فالجوابُ أنَّ القياسَ والأصْلَ أن لا تَجيءَ جملةٌ مِن مبتدأٍ وخبرٍ حالاً إلاَّ مع "الواو"، وأمَّا الذي جاءَ من ذلك فَسَبيلهُ سبيلُ الشيءِ يَخرجُ عن أَصْله وقياسِه والظاهرِ فيه، بضربٍ منَ التَّأويل ونوعٍ منَ التشبيه، فقَولُهم: "كلَّمتُهُ فوهُ إلى فيَّ"2، إنما حَسُن بغيرِ "واو" من أجْل أنَّ المعنى: كلَّمْتُهُ مشافِهاً له وكذلك قولُهم: "رجعَ عَوْدُه على بَدْئه"، 2 إنما جاءَ الرفعُ فيه والابتداءُ من غيرِ "واو"، لأن المعنى: رجَعَ ذاهباً في طريقه الذي جاءَ فيه وأما قولُه: "وجدتُه حاضراهُ الجودُ والكرمُ"3 فلأَنَّ تقديمَ الخَبر الذي هو "حاضراهُ"، يجعله.

_ "أي إن "عمرو" إذا ارتفع بيسرع، فلا يمكن أن يكون عاملًا في موضع "يسرع" بشيء من الإعراب، فإنه لا يتأتي أن يكون عاملًا معمولًا لشيء واحد، فيبقى موضع "يسرع" مفرغًا لأن يقدر فيه النصب على الحالية، بخلاف ما لو كان "يسرع" مؤخرًا عن "عمرو امامه"، فإنه إن اتصل "يسرغ" بزيد كان محله النصب، مع أن "عمرو" المبتدأ، عمل في موضعه الرفع، فيأتي التدافع كما سبق". وبلا ريب البتة، ليس هذا من كلام عبد القاهر. 1 انظر ما سلف من عند الفقرة رقم: 226 وما بعدها. 2 انظر الفقرة: 229. 3 انظر الفقرة: 230.

كأنه قال: "وجدتُه حاضراً عندَهُ الجودُ والكرمُ". وليس الحَمْلُ على المعنى، وتَنزيلُ الشيءِ منزلةَ غيرِه، بعَزيزٍ في كلامِهم، وقَدْ قالوا: "زيدٌ أضرِبْه"، فأجازوا أن يكونَ مثالُ الأمر في موضعِ الخَبر، لأنَّ المعنى على النَّصب نحوُ: "اضرب زيد" ووضَعوا الجملةَ، من المبتدأ والخبر موضعِ الفعل والفاعل في نحوِ قولِهِ تعالى1: {أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} [الأعراف: 193]، لأنَّ الأصْلَ في المعادلة أن تكونَ الثانيةُ كالأُولى نحو: "أدعَوْتموهم أم صَمَتُّمْ". ويدلُّ على أنْ ليس مجيءُ الجملةِ من المبتدإ والخبر حالاً بغيرِ "الواو" أصلاً، قلَّتُهُ2، وأنه لا يَجيءُ إلاَّ في الشيءِ بَعْدَ الشيءِ. هذا، ويجوزُ أنْ يكونَ ما جاءَ مِن ذلك إنما جاءَ على إرادةِ "الواو"، كما جاءَ الماضي على إرادة "قد". 247 - واعلمْ أنَّ الوجْهَ فيما كان مثلَ قولِ بشار: خرجْتُ مَعَ البازي عَلَيَّ سوادُ3 أنْ يُؤخذَ فيه بمذهبِ أبي الحَسنِ الأَخْفش4، فيُرفَعَ ِ"سواد" بالظرف دون الابتداء، ويجري الظرفُ ههنا مجرْاه إذا جرَتِ الجملةُ صفةً على النكرة

_ 1 في "س"، وفي نسخة عند رشيد رضا: "ووضح الجملة من المبتدإ والخبر". 2 "قلته"، فاعل "ويدل". 3 انظر الفقرة السالفة رقم: 228. 4 "الأخفش"، ليس في "ج" ولا "س".

نحوُ: "مررتُ برجلٍ معه صقرٌ صائداً به غداً"1، وذلك أنَّ صاحبَ الكتاب يُوافق أبا الحسن في هذا الموضع فيرفع "صقرًا" بما في "معه" من معنى الفعلِ، فلذلكَ يجوزُ أن يُجْرِيَ الحالَ مَجْرى الصفةِ، فيَرفعَ الظاهرَ بالظْرف إذا هو جاءَ حالاً، فيكونَ ارتفاعُ "سَوادُ" بما في "عَلَيَّ" من معنى الفعل، لا بالإبتداءِ. ثم ينبغي أن يُقدَّر ههنا خصوصاً أن الظرفَ في تقديرِ اسم فاعلٍ لا فعل، أعني أنْ يكونَ المعنى: "خرجتُ كائناً عَلَيَّ سوادٌ، وباقياً عَلَيَّ سواد، ولا يقدر: "يكون علي سواد"، و "يبقى عَلَيَّ سَوادُ"، اللهمَّ إلاَّ أنْ تُقدِّر فيه فعْلاً ماضياً مع "قد" كقولك: "خرجتُ مع البازي قدْ بقيَ عَلَيَّ سوادُ"، والأولُ أظهرُ. 248 - وإذا تأملتَ الكلامَ وجدتَ الظرفَ وقَدْ وقَعَ مواقِعَ لا يستقيمُ فيها إلا أنْ يُقدَّر تقديرَ اسم فاعلٍ، ولذلك قال أبو بكرِ من السرَّاج في قولِنا2: "زيدٌ في الدار"، إنك مُخيَّرٌ بَيْنَ أنْ تُقدِّرَ فيه فعلاً فتقولَ: "استقرَّ في الدارِ"، وبينَ أَن تقدِّرَ اسمَ فاعلٍ فتقولَ: "مستقرٌّ في الدار"، وإذا عاد الأمرُ إلى هذا، كان الحالُ في تركِ "الواو" ظاهرة3، وكان "سواد" ي قوله "خرجتُ مع البازي عَلَيَّ سوادُ"، بمنزلة "قضاء الله" في قوله: سأَغْسِلُ عَنّي العارَ بالسيفِ جالِباً ... عَلَيَّ قضاءَ الله ما كان جالبًا4

_ 1 هذا مثال سيبويه في الكتاب 1: 241، ولكن ليس فيه، غدًا"، فيحقق. 2 "ابن السراج"، ليست "ج" ولا "س". 3 في نسخة عند رشيد رضا: "على ظاهره"؟ 4 شعر سعد بن ناشب المازني، شرح الحماسة للتبريزي 1: 35. وفي "س" أسقط البيت، وساق الكلام هذا: "بمنزلة قضاء الله في كونه اسمًا ظاهرًا".

في كونِهِ اسماً ظاهراً قد ارتفعَ باسمِ فاعلٍ قد اعتمَدَ على ذي حالٍ، فعَمِلَ عَملَ الفِعْل. ويدلُّكَ على أن التقديرَ فيه ما ذكرتُ، وأنه من أجْل ذلك حَسُنَ1، أنَّكَ تَقول: "جاءني زيدٌ والسيفُ على كَتِفه" و "خرج والتاجُ عليه"، فتَجِدُه لا يَحْسُن إلا بالواوِ، وتعَلم أنَّكَ لو قلتَ: "جاءني زيدٌ السيفُ على كتفه" و "خرج التاجُ عليه"، كان كلاماً نافراً لا يكادُ يقعُ في الاستعمال، وذلك لأنه بمنزلةِ قولِك: "جاءني وهو متقلد سيفه" و"خرج وهو لابسٌ التاجَ"، في أنَّ المعنى على أنك استأنفْتَ كلاماً وابتدأْتَ إثباتاً وأنك لم تُرِدْ: "جاءني كذلكَ" ولكن "جاءني وهُوَ كذلكَ"، فاعرفه.

_ 1 السياق: "ويدلُّكَ على أن التقديرَ فيه ما ذكرتُ ..... أنك تقول: "جاءني زيد".

باب الفصل والوصل

باب الفصل والوصل: بسم الله الرحمن الرحيم القول في الفصل والوصل: 248م- اعلمْ أنَّ العلمَ بما ينبغي أن يُصْنَعَ في الجملِ من عطفِ بعضها على بعضٍ، أو تركِ العطفِ فيها والمجيءَ بها منثورة، تُسْتَأْنَفُ واحدةٌ منها بعد أخرى1 من أسرارِ البلاغة، ومما لا يتأتَّى لتمامِ الصَّوابِ فيه إلاَّ الأعرابُ الخُلَّص2، والإَّ قَوْمٌ طُبِعُوا على البلاغة3، وأوتوا فنَّاً مِنَ المعرفة في ذوقِ الكلامِ هم بها أفرادٌ. وقد بلغَ من قوة الأمر في ذلك أنَّهم جعلوهُ حَدّاً للبلاغة، فقد جاء عَنْ بعضهم أنه سُئِل عنها فقال: "مَعْرِفَةُ الفَصلِ منَ الوصلِ"4، ذاك لغموضِه ودقِة مَسْلكِه، وأّنَّه لا يَكْمُلُ لإِحرازِ الفضيلة فيه أحدٌ، إلاَّ كَمَلَ لسائِر معاني البلاغة. 249 - واعلم أنَّ سبيلَنا أن ننظَر إلى فائدةِ العطف في المُفْرد، ثم نَعودَ إلى الجملة فننظرَ فيها ونتعرفَ حالَها. ومعلومٌ أن فائدَةَ العطف في المُفردِ أن يُشْرِكَ الثاني في إِعراب الأول، وأنه إذا أَشْرَكَه في إِعرابه فقد أَشْرَكَه في حُكْمِ ذلك الإِعرابِ، نحو أن المعطوف على

_ 1 السياق: "اعلم أن العلم بما ينبغي .... من أسرار البلاغة". 2 في المطبوعة وحدها: "ما لا يأتي". 3 في المطبوعة وحدها" "والأقوام طبعوا ... ". 4 في هامش "ج" هنا حاشية: إنما سئل عن ذلك أبو تمام الطائي، وفي البيان والتبيين14: 87: "قيل للفارسي: ما البلاغة؟ قال: معرفة الفصل من الوصل".

المرفوع بأنه فاعلٌ مثلُه، والمعطوفَ على المنصوبِ بأنَّه مفعولٌ به أو فيه أوْ لُه شريكٌ له في ذلك. وإذا كان هذا أصلَه في المفرد، فإِنَّ الجملَ المعطوفَ بعضُها على بعضٍ على ضربين: أحدُهما: أن يكونَ للمعطوفِ عليها موضعٌ من الإِعراب، وإذا كانت كذلك، كان حكمها حكم المفرد، إذ لا يكون للجملة موضع من الإعراب حتى تكونَ واقعة موقعَ المفرد، وإذا كانت الجملةُ الأولى واقعة موقعَ المُفْرَدِ، كان عطفُ الثانية عليها جارياً مجرى عطف المفرد على المفرد1، وكان وجهُ الحاجة إلى "الواو" ظاهراً، والإِشراكُ بها في الحُكْمِ موجوداً، فإذا قلتَ: "مررتُ برجلٍ خُلُقهُ حَسَنٌ وخَلْقه قبيحٌ" كنتَ قد أشركتَ الجملَة الثانيةَ في حُكمِ الأُولى، وذلك الحكمُ كونُها في موضع جرٍّ بأَنَّها صفةٌ للنكرة. ونظائرُ ذلك تَكْثُر، والأمرُ فيها يَسْهُلُ. والذي يشكلُ أمُره هو الضربُ الثاني، وذلك أن تَعطِفَ على الجملةِ العاريةِ الموضعِ من الإِعرابِ جملة أخرى، كقولك: "زيد قائم، وعمرو قاعد" و "العلم حسنٌ، والجهلُ قبيحٌ"، لا سبيلَ لنا إلى أن ندَّعيَ أن "الواوَ" أشركتِ الثانيةَ في إعراب قد وجب للأولى بوجه من الوجه. وإذا كان كذلك، فينبغي أنْ تعلمَ المطلوبَ مِنْ هذا العطفِ والمغْزى منه، ولمَ لَمْ يَسْتَوِ الحالُ بينَ أن تعطِفَ وبَيْنَ أن تَدَعَ العطفَ فتقولَ: "زيدٌ قائمٌ، عمروٌ قاعدٌ"، بعد أن لا يكونَ هنا أمرٌ معقولٌ يؤتَى بالعاطفِ ليُشْرِكَ بين الأولى والثانيةِ فيه؟

_ 1 في "ج": " .... واقعة موقوع المفرد، وكان وجه الحاجة ... "، وأسقط كلمات، وفي المطبوعة: " .... مجرى عطف المفرد، وكان وجه الحاجة"، أسقط "على المفرد".

معاني العطف بالواو والفاء وثم: 250 - واعلمْ أنه إنما يَعْرِضُ الإِشكالُ في "الوِاو" دونَ غيرِها مِنْ حروفِ العطفِ، وذاك لأَن تلكَ تفيدُ مع الإِشراكِ معانَي، مثلَ أنَّ "الفاء" توجب الترتيب من غير تراخ، و "ثم" توجيه مَع تراخٍ، و "أوْ" تردِّدُ الفعلَ بينَ شيئين وتجعلُهُ لأّحِدهما لا بِعَيْنِه، فإِذا عطفتَ بواحدة منها الجملةَ على الجملةَ، ظهرتِ الفائدةُ، فإذا قلت: "أعطاني فشكرته"، ظهرَ بالفاءِ أنَّ الشكرَ كان مُعْقَباً على العطاءِ ومسبَّباً عنه وإذا قلتَ: "خرجتُ ثم خرجَ زيدٌ"، أفادتْ "ثم" أن خروجَه كان بَعْدَ خروجِكَ، وأن مُهْلَةً وقعتْ بينهما وإذا قلتَ: "يعطيكَ أو يكسوكَ"، دلَّتْ "أو" على أنه يفعلُ واحداً منهما لا بِعَيْنِه. وليس "للواو" معنى سوى الإشراكِ في الحكمِ الذي يَقْتَضيهِ الإعرابُ الذي أتبعتَ فيه الثانيَ الأولَ. فإذا قلت: "جاءني زيد وعمرو" لم تقد بالواو شيئاً أكثر من إشراك عمرو في المجيء الذي أثبتَّه لزيدٍ، والجمْعِ بينُه وبينَه، ولا يُتَصوَّرُ إشراكٌ بينَ شيئين حتَّى يكونَ هناك معنى يقعُ ذلك الإِشراكُ فيه. وإذا كانَ ذلك كذلكَ، ولم يكن مَعَنا في قولنا: "زيد قائم وعمرو قاعدٌ" معنى تزعمُ أن "الواو" أشركتْ بَينَ هاتين الجملتين فيه، ثبت إشكال المسئلة. 251 - ثم إن الذي يوجِبُه النظرُ والتأملُ أّنْ يقال في ذلك: إن اوإن كنا إذا قلنا: "زيد قائم وعمرو قاعد"، فإنا لا نرى ههنا حكماً نزعمُ أنَّ "الواو" جاءتْ للجمعِ بين الجملتين فيه، فإنا نرى أمراً آخرَ نحصُلُ معه على معنى الجمعِ. وذلك أَنّا لا نقول: "زيد قائم وعمرو قاعد"، حتى يكون عمرو بسبب من زيدٍ، وحتى يكونا كالنَّظيرينِ والشريكَيْنِ، وبحيث إذا عرفَ السامُع حالَ الأّوَّل عناه أن يعرفَ حالَ الثاني. يدلُّكَ على ذلكَ أنَّكَ إنْ جئتَ فعطفتَ على الأَوَّل شيئاً ليس منه بسببٍ، ولا هُوَ مما يُذْكَرُ بذكرِه ويتَّصِلُ حديثُه.

بحديِثه، لم يستقْم. فلو قلتَ: "خرجتُ اليومَ من داري"، ثم قلتَ: "وأحسنُ الذي يقولُ بيتَ كذا"، قلتَ ما يُضْحَكُ منه. ومن ههنا عابوا أبا تمام في قوله: لا والذي هُوَ عالِمٌ أنَّ النَّوَى ... صَبِرٌ وأنَّ أبا الحُسَيْنِ كريمُ1 وذلك لأنه لا مناسبةَ بينَ كَرَمِ أبي الحسين ومرارِة النَّوى، ولا تعلُّقَ لأَحِدهما بالآخرِ، وليس يقتضي الحديثُ بهذا الحديثُ بذاك. 252 - واعلمْ أنه كما يجبُ أن يكونَ المحدَّثُ عنه في إحدى الجملتين بسببٍ من المحدَّثِ عنه في الأخرى، كذلكَ ينبغي أنْ يكونَ الخبرُ عن الثاني مما يَجْرِي مَجْرى الشبيهِ والنظيرِ أو النَّقيضِ للخبر عن الأولِ. فلو قلتَ: "زيدٌ طويلُ القامة وعمرو شاعرٌ"، كان خُلْقاً، لأنه لا مُشاكلَةَ ولا تعلُّق بينَ طولِ القامةِ وبين الشعرِ، وإنما الواجب أن يقال: "زيد كاتب وعمرو شاعر"، و "زيد طويل القامة وعمرو قصيرٌ". وجملةُ الأمِر أنها لا تجيءُ حتى يكونَ المَعْنى في هذِهِ الجملة لَفْقاً للمعنى في الأخرى ومُضَامَّاً له، مثل أن "زيداً" و"عمرًا" إذا كانا أخوَيْن أو نظيرين أو مُشتبكَيِ الأحوالِ على الجملة، كانتِ الحالُ التي يكونُ عليها أحدُهما، من قيامٍ أو قعودٍ أو ما شاكَلَ ذَلكَ، مضمومة في النَّفسِ إلى الحالِ التي عليها الآخَرُ من غَير شَكٍ2. وكذا السبيل أبدًا.

_ 1 في ديوانه. 2 في "ج": "كانت الحال التي كون عليها الآخر من غير شك"، أسقط ما بين الكلامين سهوًا.

والمعاني في ذلك كالأَشخاصِ، فإنما قلتَ مثلاً: "العلمُ حسنُ والجهلُ قبيحٌ"، لأنَّ كونَ العلم حَسَناً مضمومٌ في العقولِ إلى كونِ الجهلِ قبيحًا. عطف الجمل بالواو: 253 - واعلمْ أنَّه إذا كان المخَبرُ عنه في الجملتين واحداً كقولنا: "هو يقولُ ويفعلُ، ويَضُرُّ ويَنْفَعَ، ويُسيءُ ويُحْسِنُ، ويأمُرُ ويَنْهى، ويَحُلُّ ويْعقِد، ويأخُذُ ويُعْطي، ويَبيعُ ويَشْتَري، ويأكُلُ ويشرَبُ" وأشباه ذلك، ازدادَ معنى الجمعِ في "الواو" قوة وظهوراً، وكان الأمْرُ حينئذٍ صريحاً. وذلكَ أنَّك إذا قلتَ: "هو يَضُرُّ وينفعُ"، كنتَ قد أفدتَ "بالواو" أنكَ أوجبتَ له الفعلينِ جميعاً، وجعلَته يفعلُهما معاً، ولو قلتَ: "يَضرُّ ينفعُ": من غير "واو" لم يجبْ ذلك، بل قد يجوزُ أن يكونَ قولُكَ "ينفعُ"، رجوعاً من قولك "يضرٌّ" وإبطالاً له. 254 - وإذا وقعَ الفعلانِ في مثل هذه في الصِّلة، ازدادَ الاشتباكُ والاقترانُ حتى لا يتصوَّرُ تقديرُ إفرادٍ في أحدِهما عن الآخِر، وذلك في مثلِ قولَك: "العَجَبُ من أني أحسنت وأسأت" و "يكفيك ما قلت وسمعت" و"أيحسن أن تنهَى عن شيءٍ وتأتَي مثلَه؟ "، وذلك أنه لا يشتبه على عاقلٍ أنَّ المعنى على جعلِ الفِعْلَين في حكمِ فعلٍ واحد. ومِنَ البيِّن في ذلك قولُه: لا تَطْمَعُوا أَنْ تُهِينُونَا ونُكْرِمَكُمْ ... وأن نَكُفَّ الأّذَى عَنْكُمْ وتُؤْذُونا1 المعنى: لا تطمعوا أن تروا إكرامنا قد وجد مع إهانتكم، وجامعها في الحصول.

_ 1 شعر الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب، شرح الحماسة للتبريزي 1: 121.

وممَّا له مأخذٌ لطيفٌ في هذا البابِ قول أبي تمام: لَهانَ عَلَيْنا أنْ نقولَ وتَفْعلا ... ونَذْكُرَ بَعْضَ الفضل منك وتفضلا1 الصفة والتأكيد لا تحتاج إلى شيء يصلها بالموصوف أو المؤكد: 255 - واعلم أنه كماكان من الأسماءِ ما يَصِلهُ معناهُ بالاسم قبلَه، فيستغني بصلة له عن واصلٍ يصلُه ورابطٍ يربِطُه وذلك كالصِّفِة التي لا تحتاجُ في اتِّصالِها بالموصوفِ إلى شيء يصلها به، وكالتأكيد الذي لا يَفتقِرُ كذلك إلى ما يِصلُه بالمؤكَّد2 كذلك يكونُ في الجملِ ما تتصلُ من ذاتِ نفسها بالتي قَبلها، وتَستغني بربطِ معناها لها عن حَرْفِ عطفٍ يربُطها، وهي كلُّ جملةٍ كانت مؤكِّدةً للتي قبلها ومبينِّةً لها، وكانت إذا حُصِّلتْ لم تكن شيئاً سِواها، كما لا تكونُ الصفةُ غيرَ الموصوفِ، والتأكيدُ غيرَ المؤكد. فإذا قلت: "جاءني زيد الظريف"، و "جاءني القوم كلهم"، لم يكن "الظريف" و "كلهم" غير زيد وغير القوم. الجملة المؤكدة لا تحتاج إلى عاطف وأمثلة ذلك: 256 - ومثالُ ما هو من الجمل كذلك قوله تعالى: {آلم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 1، 2] قوله: "لا ريب فيه"، بيان وتوكيد وتحقيق لقوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ}، وزيادةُ تَثْبيتٍ له، وبمنزلِة أنْ تقولَ: "هو ذلك الكتابُ، هو ذلك الكتابُ"، فتعيدُه مرة ثانية لتثبته، وليس يثبت الخبرِ غيرَ الخبرِ، ولا شَيءَ يتميّزُ به عنه فيحتاجُ إلى ضامٍّ يَضُمُّه إليه، وعاطفٍ يعطفه عليه.

_ 1 في ديوانه، والرواية فيه "بعض الفضل عنك". 2 السياق: "وأعلمْ أنه كما كان في الأسماءِ ما يصله .... كذلك يكون في الجمل".

257 - ومثلُ ذلك قولُه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 6، 7] قولُه تعالى: {لا يُؤْمِنُونَ}، تأكيدٌ لقولِه: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ}، وقولُه: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ}، تأكيدٌ ثانِ أبلغُ من الأول، لأنَّ مَن كان حالُه إذا أنذر مثل حاله إذا لم يندر، كانَ في غايِة الجَهْل، وكان مطبوعاً على قَلْبِه لا محالةَ. 258 - وكذلكَ قولُهُ عَزَّ وجَلَّ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ، يُخَادِعُونَ اللَّهَ} [البقرة: 8، 9] إنما قال "يخادعون" ولم يقل: "ويخادعون" لأنه هذه المخادعةَ ليست شيئاً غيرَ قولِهم: "آمنا"، من غير أن يكونوا مؤمنين، فهو إذن كلامٌ أَكَّدَ به كلامٌ آخرُ هو في معناه، وليس شيئاً سواه. 259 - وهكذا قولُه عزَّ وجلَّ: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14]، وذلك لن معنى قولهم: "إنّا معكُم": أّنا لم نؤمنْ بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم نترك اليهودية. وقولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} خبرٌ بهذا المعنى بعينه، لأنَّه لا فَرْقَ بين أن يقولوا: "إن لم نَقُل ما قُلْناه من أنَّا آمنا إلا استهزاء"، وبين أن يقولوا: "إن لم نَخْرُجْ من دينكِم وإنَّا معكم"، بل هما في حُكْم الشيءِ الواحد، فصار كأنهم قالوا: "إن معكم لم تفارقكم" فكما لا يكون "إنا لم نفارقْكم" شيئاً غيرَ {إِنَّا مَعَكُمْ}، كذلك لا يكون {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} غيرَه، فاعرِفْه. 260 - ومن الواضحِ البَيِّنِ في هذا المعنى قولُه تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} [لقمان: 7]، لم يأت معطوفًا.

نحو: {كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} لأنَّ المقصودَ من التشبيه بِمَنْ في أذنيه وقْرٌ، هُوَ بعينه المقصودُ من التشيبه بمن في أذنيه وقر، وهو بعينه المقصودُ مِنَ التشبيه بِمَنْ لم يسمع، إلاَّ أنَّ الثاني أبلغُ وأكَدُ في الذي أُرِيدَ. وذلك أنَّ المعنى في التشبيهين جميعاً أنْ يَنْفِيَ أن يكونَ لتلاوةِ ما تُلِيَ عليه من الآياتِ فائدَةٌ معه، ويكونَ لها تأثيرٌ فيه، وأنْ يجعلَ حالَه إذا تُلِيتْ عليه كحالِه إذا لم تُتْلَ. ولا شبهةَ في أن التشبيه بِمَنْ في أذنيه وقرٌ ابلغُ وآكَدُ في جعلِه كذلكَ، مِنْ حيثُ كان مَنْ لا يصحُّ منه السَّمْعُ وإن ارادَ ذلكَ، أبعدَ مِنْ أنْ يكونَ لتلاوةِ ما يُتْلَى عليه فائدةٌ، مِنَ الذي يصحُّ منه السَّمْعُ إلا أنه لا يسمعُ، إما اتفاقاً وإما قصداً إلى أنْ لا يسمعَ. فاعرفْه وأحسِنْ تدبُّره. 261 - ومنَ اللطيف في ذلك قولُه تعالى: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 21]، وذلك أن قوله: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ}، مشابِكٌ لقولِهِ: {مَا هَذَا بَشَرًا} ومُداخلٌ في ضِمْنه من ثلاثة أوجهٍ1: وجهان هو فيهما شبيهٌ بالتأكيدِ، ووجهٌ هو فيه شبيهٌ بالصفةِ. فأحدُ وجهَيْ كونِه شبيهاً بالتأكيدِ، هو أنه إذا كان مَلكاً لم يكن بشراً، وإذا كان كذلك كان، إثباتُ كونِهِ ملكاً تحقيقاً لا محالَة، وتأكيداً لنفي أنْ يكونَ بشراً. والوجهُ الثاني أن الجاريَ في العرِف والعادةِ أنه إذا قيلَ: ما هذا بشراً وما هذا بآدميٍّ" والحال حالُ تعظيمٍ وتعجُّبٍ مما يُشَاهَدُ في الإِنسانُ مِنْ حُسْنِ خلْقٍ أو خُلُق2 أن يكونَ الغرضُ والمرادُ من الكلام أن يقال إنه ملك،

_ 1 في "س"، ونسخة عند رشيد رضا: "وداخل في ضمنه". 2 السياق: " ..... أنه إذا قيل .... أن يكون الغرض .... ".

وأنه يُكْنَى به عن ذلك، حتى إنَّه يكون مفهومَ اللفظ1، وإذا كان مفهوماً مِنَ اللفظ قَبْلَ أن يُذْكَر، كان ذكرهُ إذا ذُكِرَ تأكيداً لا محالَة، لأنَّ حَدَّ "التأكيدِ" أنْ تحقِّقَ باللفظِ مَعْنًى قَد فُهِمَ مِنَ لَفْظٍ آخرَ قَدْ سَبَقَ منَكَ. أفلا ترى: أنه إنما كان "كلُّهم" في قولَك: "جاءني القوم كلُّهم" تأكيداً من حَيْثُ كانَ الذي فُهِمَ منه، وَهُوَ الشُّمولُ، قد فُهم بديئاً من ظاهِرِ لفظِ "القومِ"، ولو أنَّه لم يكن فُهِم الشمولُ من لفظِ "القومِ"، ولا كانَ هو مِنْ موجبه، لم يكن "كلٌّ" تأكيداً، ولكان المشمول مُستفاداً من "كلِّ" ابتداء. وأما الوجه الثالث الذي هو فيه شبيهٌ بالصِّفة، فهو أنه إذا نُفَيَ أن يكونَ بَشراً، فقد أثبتَّ له جنسَ سِواه، إذْ منَ المُحالِ أن يخرُجَ من جنسِ البشرِ، ثم لا يدخُلُ في جنسٍ آخرَ. وإذا كانَ الأمُر كذلكَ، كان إثباتُه "مَلَكاً" تبييناً وتعييناً لذلك الجنسِ الذي أريدَ إدخالُه فيه، وإغناء عن أن تحتاجَ إلى أن تسألَ فتقولَ: "فإنْ لم يكنْ بشراً، فما هُوَ؟ وما جنسُه؟ " كما أنك إذا قلتَ: "مررتُ بزيدٍ الظريفِ" كان "الظريفُ" تَبييناً وتعييناً للذي اردتَ مِنْ بينَ مَنْ له هذا الاسمُ، وكنتَ قد أغنيتَ المخاطَبَ عن الحاجةِ إلى أن يقول: "أيَّ الزيدين أردت؟ ". الإثبات والتأكيد بإن وإلا: 262 - ومما جاءَ فيه الإِثباتُ "بإنْ وإلا" على هذا الحد قوله عز وجل: {مَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس: 69] وقولُه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4] أفلا ترى أنَ الإِثباتَ في الآيتين جميعاً تأكيدٌ وتثبيتٌ لنَفي ما نُفِيَ؟ فإِثباتُ ما عُلِّمَه

_ 1 عند هذا الموضع حاشية في "ج" نصها: "معناه أنه إذا كان الحال حال تعظيم، لم يحتمل قولك: "ما هو بآدمي"، و "ما هو بشرًا"، إلا أن تقول: إنه ملك".

النبي صلى الله عليه وسلم إليه ذِكراً وقرآناً، تأكيدٌ وتثبيتٌ لنَفي أن يكونَ قد عُلِّم الشعرَ وكذلك إثباتُ ما يتلوهُ عليهم وحياً مِنَ الله تعالى1، تأكيدٌ وتقريرٌ لنفيِ أن يكون نُطِق به عَنْ هوى2. 263 - وأعلمْ أنَّه ما من عِلْمٍ من علوم البلاغة أنت تقول فيه: "إنه خَفيٌّ غامضٌ، ودقيقُ صَعْبٌ" إلاّ وعِلْمُ هذا البابِ أغمضُ وأخفى وأدقُّ وأصعبُ. وقد قِنَعَ الناسُ فيه بأنْ يقولوا إذا رأوا جملة قد تُرِكَ فيها العطفُ: "إنَّ الكلامَ قد استؤنفَ وقُطِعَ عما قبله"، لا تطلبُ أنفسُهم منه زيادة على ذلك. ولقد غَفِلوا غَفْلةً شديدة. الجملة يظهر فيها وجوب العطف، ثم يترك العطف لعارض: 264 - وممَا هو أصلٌ في هذا الباب أنَّك قد ترى الجملةَ وحالُها معَ التي قبلها حالُ ما يُعْطَفُ ويُقْرَنُ إلى ما قبلَه، ثم ثراها قَدْ وجبَ فيها تركُ العطفِ، لأمرٍ عرضَ فيها صارت به أجنبية مما قبلها. مثال ذلك قولهُ تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 14]، وذلك أنه ليس بأجنبي مِنْه، بل هو نظيرُ ما جاءَ معطوفاً من قولهِ تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] وقوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّه} [آل عمران: 54]، وما أشبهَ ذلك مما يُرَدُّ فيه العَجُزُ على الصَّدر، ثم إنك تجدهُ قد جاءَ غير معطوف، وذلك لأمر أوجب أن

_ 1 تحت قوله "وحيًا" في هامش "ج" ما نصه: "نصب على الحال". 2 في "س" والمطبوعة: "تقرير لنفي"، ولم يذكر "تأكيد".

لا يُعطَفَ، وهو أنَّ قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}، حكاية عنهم أنهم قالوا، وليس يخبر من الله تعالى وقولُه تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}، خبرٌ منَ الله تعالى أنه يجازيهم على كُفْرِهم واستهزائِهم. وإذا كان كذلك، كانَ العطفُ مُمتنعاً، لاستحالةِ أن يكونَ الذي هو خَبَرٌ منَ الله تعالى، معطوفاً على ما هو حكاية عنهم، ولإيجاب ذلك أنْ يخرجَ من كونِه خبراً مِنَ الله تعالى، إلى كونِه حكاية عنهم، وإلى أنْ يكونوا قد شَهِدوا على أنفسهِم بأنَّهم مؤاخدون، وأن الله تعالى معاقبهم عليه1. وليس كذلك الحالُ في قولهِ تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ}، و {مَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّه}، لأن الأوَّلَ من الكلامَيْنِ فيهما كالثاني، في أنه خَبَرٌ مِنَ الله تعالى ولَيْسَ بحكايةٍ. وهذا هُوَ العِّلةُ في قولِه تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 11، 12] إنما جاء {إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} مُستأنفاً مُفتتحاً "بأَلا"، لأنَّه خبرٌ من الله تعالى بأنهم كذلك والذي قبله من قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}، حكاية عنهم. فلو عطف لَلَزِم عليه مثلُ الذي قدَّمتُ ذكرَه منَ الدخولِ في الحكايةِ، ولصارَ خبراً مِنَ اليهودِ ووصفاً مِنْهم لأنفسهم بأنه مُفْسِدون، ولصار كأنه قِيلَ: قالوا: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}، وقالوا إنهم المفسِدون، وذلك ما لا يُشَكُّ في فسادِه. وكذلك قولهُ تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13] ولو

_ 1 في المطبوعة: و "من": "يعاقبهم عليه".

عطف: {إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} على ما قَبْلَه، لكان يَكونُ قد أُدْخِلَ في الحكايةِ، ولصار حديثاً مِنهم عن أنفسهم بأنهم هُمُ السفهاءُ، من بَعْدِ أن زَعموا أنهم إنَما تُركوا أن يؤمِنوا لئلا يكونوا من السفهاء. لا يعطف الخبر على الاستفهام: 265 - على أن في هذا أمر آخر، وهو أن قوله: {أَنُؤْمنُ} استفهام، لا يُعْطَفُ الخبرُ على الاستفهام. فإِن قلت: هَلْ كان يجوزُ أن يُعْطَف قولُه تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على "قالوا" من قولِه: {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} لا على ما بعد، وكذلك كان يعفل في {إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ}، و {إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ}، وكان يكونُ نظيرَ قولِه تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ} [الأنعام: 8] وذلك أن قوله: {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا} معطوف، من غير شك، على "قالوا" دون ما بعده؟ قيل: إن حكم العطف على "قالوا" فيما نحنُ فيه1، مخالفٌ لحكمه في الآية التي كذرت. وذلك أن "قالوا" ههنا جوابُ شرطٍ، فلو عُطِف قولُه: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} عليه، لَلزِمَ إدخالُه في حُكْمِه مِنْ كونه جوابًا، وذلك لا يصح. بيان العطف على جواب الشرط: وذاك أنه متى عُطِف على جوابِ الشرطِ شيءٌ "بالواو" كان ذلك على ضربينِ: أحدُهما: أن يكونا شيئين يتصوَّرُ وجودُ كلِّ واحدٍ منهما دُونَ الآخر، ومثالُه قولكَ "إن تأتِني أكرمك أعطك وأكسك"2 والثاني: أن يكون

_ 1 في المطبوعة: "إن حكم المعطوف على قالوا"، وفي "ج": "إن حكم" قالوا "فيما نحن فيه". 2 "أكرمك"، ليست في "ج".

المعطوفُ شيئاً لا يكونُ حتى يكونَ المعطوفُ عليه، ويكونَ الشرطُ لذلك سبباً فيه بوساطةِ كونه سبباً للأول1، ومثالُه قولُك: "إذا رجَع الأَميرُ إلى الدار استأذنتهُ وخرجتُ"، فالخروجُ لا يكونُ حتى يكون الاستئذانُ، وقد صارَ "الرجوعُ" سَبباً في الخروج، من أجلِ كونِه سبباً في الاستئذان، فيكونُ المعنى في مثلِ هذا على كلامين، نحوُ: "إذا رجَع الأميرُ استأذنتُ، وإذا استأذنت خرجتُ". وإذا قد عرفْتُ ذلك، فإِنه لو عُطِفَ قولُه تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على "قالوا" كما زعمتَ، كان الذي يتصوَّرُ فيه أن يكونَ من هذا الضربِ الثاني، وأن يكونَ المعنى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}، فإِذا قالوا ذلك استهزأَ اللهُ بهم ومدَّهم في طُغْيانِهم يَعْمَهون. وهذا وإن كان يُرَى أنه يَسْتَقيمُ، فليس هو بمستقيمٍ. وذلك أنَّ الجزاءَ إنَّما هو على نَفْس الاستهزاءِ وفِعْلِهم له وإرادتهم إياه في قولهم: "آمنا"، لا على أنهم حدثوا على أنفسهم بأنه مستهزؤون والعَطْفُ على "قالوا" يَقْتضي أَنْ يكونَ الجزاءُ على حديثهم عَنْ أنفسِهم بالاستهزاء، لا عليه نفسِه. ويبيِّنُ ما ذكرناه مِنْ أنَّ الجزاءَ يَنْبغي أن يكونَ على قَصْدِهم الاستهزاءَ وفِعلهم له، لا على حديثهم عن أنفسهم بأن مستهزؤون2 أنَّهم لو كانوا قالوا لكُبرائهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} وهُم يريدونَ بذلكَ دَفْعَهم عَن أنفسِهم بهذا الكلام3، وأنت يَسْلَموا من شَرِّهم، وأنْ يوهموهُم أَنَّهم مِنْهم وإن

_ 1 في المطبوعة وحدها: "بواسطة". 2 السياق: "وبين ما ذكرناه .... أنهم لو كانوا .. ". 3 في "ج": "دفعًا عن أنفسهم".

لم يكونوا كذلك1 لكان لا يكونُ عليهم مؤاخذةٌ فيما قالوه، من حَيْثُ كانت المؤاخذةُ تكونُ على اعتقادِ الاستهزاءِ والخديعةِ في إظهار الإيمان، لا في قول: "إنا استهزأنا" من غير أن يقتر بذلك القول اعتقاد ونية. ما يوجب الاستئناف وترك العطف وأمثلته: هذا، وههنا أمرٌ سِوَى ما مضَىَ يوجِبُ الاستئنافَ وتركَ العطفِ، وهو أنَّ الحكايةَ عنهم بأنهم قالوا كيتَ وكيتَ، تحرِّكُ السامعين لأن يعلموا مصيرَ أمرهم وما يصنع بهم، وأننزل بِهِمُ النِّقْمةُ عاجلاً أم لا تنزلُ ويُمْهلَونَ2 وتوقع في أنفسهم التمني لأنْ يتبيَّنَ لهم ذلك. وإِذا كان كذلك، كانَ هذا الكلامُ الذي هو قولُه: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}، فيم عنى ما صدر جوابًا عن هذا المقدر مبتدأ غيرَ معطوف، ليكونَ في صورتِهِ إذا قيل: "فإِنْ سألتم قِيلَ لكم": {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون}. 266 - وإذا استقريتَ وجدتَ هذا الذي ذكرتُ لك، من تنزيلِهم الكلام إذا جاء يعقب ما يقتضي سؤالًا3، منزلته إذا صريح بذلك السؤالِ4 كثيراً، فمن لطيفِ ذلك قولهُ: زعم العوال أَنَّنِي في غَمْرَةٍ، ... صَدَقُوا، ولكِنْ غَمْرَتِي لا تنجلي5

_ 1 السياق: "أنهم لو كانوا قالوا لكبرائهم ... لكان لا يكون عليهم". 2 السياق: "تحرك السامعين لأن يعلموا ... وتوقع في أنفسهم التمني". 3 السياق: "من تنزيلهم الكلام ... منزلته ... ". 4 السياق: وإذا استقريت وجدت هذا .... كثيرًا". 5 هو في المغني، باب الجمل التي لا محل لها من الإعراب، وفي شرح شواهد للسيوطي: 270، ومعاهد التنصيص 1: 280.

لمَّا حَكَى عن العواذِلِ أنَّهم قالوا: "هُوَ في غَمْرَةٍ"، وكان ذلك مما يحرِّك السامعَ لأنَّ يسألهَ فيقولَ: "فما قولُكَ في ذلكَ، وما جوابُك عَنْه؟ "، أَخْرَجَ الكلامَ مُخْرَجَهُ إِذا كان ذلكَ قَدْ قِيل له، وصارَ كأنَّه قال: "أقول: صَدَقُوا، أنَّا كما قالوا، ولكنْ لا مَطْمَعَ لهم في فلاحِي"، ولو قالَ: "زعمَ العواذلُ أنني في غَمْرةٍ وصَدَقُوا"، لكانَ يكون لم يصنع في نفسه أنه مسئول1، وأن كلامَه كلامُ مجيبٍ. 267 - ومثْلُه قولُ الآخَرِ في الحماسة: زَعَمَ العَواذِل أنَّ ناقَةَ جُنْدَبٍ ... بجَنوبِ خَبْتٍ عُرّيَتْ وأُجِمَّتِ كَذَبَ العَواذِلُ لو رأَيْنَ مُنَاخَنا ... بالقادسية فلن لج نووذلت2 وقد زادَ هذا أمرَ القطعِ والاستئنافِ وتقديرَ الجواب، تأكيد بأنْ وضَعَ الظاهِرَ موضعَ المُضْمر، فقال: "كذَب العواذلُ": ولم يَقُلْ "كَذَبْنَ"، وذلك أنَّه لمَا أعادَ ذِكْرَ "العواذلِ" ظاهراً، كان ذلك أَبْيَنَ وأقوىَ، لكونِه كلاماً مستأَنفاً مِنْ حَيْثُ وَضَعَه وضعًا لا يحتاج فيه إل ىما قبله، وأتى به مأتَى ما لَيْس قبلَه كلامٌ. 268 - وممَّا هُوَ على ذلك قول الآخر: زعمتم إن إخوانكم قريش ... لهم إلف وليس لكم إلاف3

_ 1 في المطبوعة وحدها: "لم يصح في نفسه". 2 هو في شرح الحماسة للتبريزي 1: 162، ـ و "جندب"، هو الشاعر، ونسبه في معاهد التنصيص 1: 392، وقال "جندب بن عمار". و "خبت" ماء لكلب. و "عريت" الناقة من رحلها. و "أجمت"، أريحت من الركوب والسير. و "لج" جندب في السير والتابعد، و "ذلت" الناقة من طول السفر. 3 شعر مساور بن هند بن قيس بن زهير بن جذيمة العبسي، يهجو بني أسد شرح الحماسة للتبريزي 4: 12، وكان مساور يهاجي المرار بن سعيد الفقعسي الأسدي، "أسد" هو "أسد بن خزيمة ابن مدركة"، وقريش من ولد أخيه كنانة بن خزيمة بن مدكة، فمن هنا وغيره قالت بنو أسد: نحو إخوةى قريش، فكذبهم مساور بن هند، وقال: لقريش رحلة الشتاء والصيف، وهي "الإلاف"، وليس لكم مثله، وبعد البيت: أولئك أومنوا جوعًا وخوفًا ... وقد جاعت بنو أسد وخافوا

وذلك أن قولَه: "لهم إلفٌ" تكذيبٌ لدعواهُم أنهم من قريش، فهو إذن بمنزلةِ أن يقولَ: "كذبتُم، لهم إلفٌ، وليس لكم ذلك": ولو قال: "زعمتم أن إخوانكم قريشٌ ولهم إلفٌ وليس لكم إلافٌ"، لصارَ ممنزلة أن يقول: "زعمتم أن إخواتكم قريش وكذبتم"، في أنه كان خيرج عن أن يكون موضوعاً على أنه جوابُ سائلٍ يقولُ له: "فماذا تقولُ في زعمتم ذلك في دعواهم؟ " فاعرِفْه. واعلمْ أنه لو أظهرَ "كذَبتْمُ"، لكان يجوزُ له أن يَعْطِفَ هذا الكلامِ الذي هو قولُه: "لهم إلفٌ" عليه بالفاء، فيقول: "كَذَبْتُم فلهم إلفٌ، وليس لكم ذلك" فأما الآنَ فلا مَسَاغَ لدخولِ الفاءِ البتَّةَ، لأنَّه يصيرُ حينئذٍ معطوفاً بالفاء على قولِه: "زَعَمْتُم أن إخوانكم قريش"، وذلك يخرج إلى المجال، مِنْ حيثُ يصير كأَنه يستشهدُ بقوله: "لهم إلفٌ"، على أنَّ هذا الزعمَ كان منهم، كما أنك إذا قلت: "كذبتم فهلم إلفٌ"، كنتَ قد استشهدتَ بذلكَ على أنهمْ كذبوا، فاعرِفْ ذلك. 269 - ومن اللطيفِ في الاستئناف، على معنى جعلِ الكلامِ جواباً في التقديرِ، قول اليزيدي: مَلَّكْتُهُ حَبْلي ولكنَّهُ ... أَلْقَاهُ من زُهْدٍ عَلى غارِبي وقالَ إِنّي في الهَوى كاذِبٌ ... انْتَقَمَ الله من الكاذب1

_ 1 "اليزيدي"، هو "أبو محمد"، "يحيى بن المبارك بن المغيرة العدوي"، والبيتان غير منسوبين في الأغاني 22: 168 "الهيئة".

استأنفَ قولَه: "انتقمَ اللهُ من الكاذبِ"، لأَنه جعلَ نفسَه كأنه يجيبُ سائلاً قالَ له: "فما تقولُ فيما اتَّهمكَ به مِن أنَّك كاذبٌ؟ " فقال أقولُ: "انتقمَ اللهُ منَ الكاذبِ". 270 - ومن النادرِ أيضاً في ذلك قولُ الآخَرِ: قالَ لي كيْفَ أَنْتَ قُلْتُ عَليلٌ ... سَهَرٌ دائمٌ وحُزْنٌ طَوِيْلُ1 لِما كانَ في العادةِ إذا قيلَ للرجلِ: "كيفَ أنتَ؟ " فقالَ: "عليلٌ"، أن يسألَ ثانياً فيقالَ: "ما بكَ؟ وما علَّتُك؟ "، قَدَّر كأنه قد قيلَ له ذلكَ، فأَتَى بقولِه: "سهرٌ دائمٌ" جواباً عَنْ هذا السؤالِ المفهوم مِن فحوى الحالِ، فاعرفهْ: 271 - ومن الحسن البين في ذلك قول المتنبي: وما عقب الرياح له محلًا، ... عفاه من دا بِهِمُ وَساقا2 لمَّا نَفَى أن يكونَ الذي يُرى به منَ الدُّروسِ والعَفاءِ منَ الرياحِ، وأن تكونَ التي فعلتْ ذلك، وكان في العادةِ إذا نُفِيَ الفعلُ الموجودُ الحاصلُ عن واحدٍ فقيلَ: "لم يفعلْه فلانٌ"، أن يقالَ: "فمَنْ فعلَه؟ " قدَّر كأنَّ قائلاً قال: "قد زعمتَ أنَّ الرياحَ لم تَعْفُ له مَحلاً، فما عفاه إذن؟ "، فقالَ مجيباً له: "عفاهُ مَنْ حَدا بِهم وساقا". 272 - ومثله قوله الوليد بن يزيد: عَرفْتُ المَنْزلَ الخالي ... عَفا مِنَ بَعْدِ أحَوْالِ

_ 1 مشهور غير منسوب. 2 في دويانه.

عفاه كل حنان ... عسوف الويل هَطّالِ1 لما قالَ: "عفا من بعدِ أحوالِ"، قَدَّرَ كأنه قيلَ له: "فما عفاهُ؟ " فقالَ: "عفاه كلُّ حنَّان". 273 - واعلمْ أن السؤالَ إِذا كانَ ظاهراً مذكوراً في مثلِ هذا، كان الأكثرُ أنْ لا يُذكرَ الفعلُ في الجوابِ، ويُقْتَصرَ على الاسمِ وحدهَ. فأما مع الإِضمار فلا يجوزُ إلاَّ أن يُذْكرَ الفعلُ تفسيرُ هذا: أنه يجوز لك إِذا قيلَ: "إنْ كانتِ الرياحُ لم تَعْفُه فما عفاهُ؟ " أن تقول: "من حدابهم وسَاقا" ولا تقولَ: "عفاهُ مَن حدا"، كما تقولُ في جوابِ من يقولُ: "مَنْ فعلَ هذا؟ ": زيدٌ ولا يجبُ أن تقولَ: "فعلَه زيدٌ". وأما إذا لم يكنِ السُّؤالُ مذكوراً كالذي عليه البيتُ، فإِنَّه لا يجوزُ أن يُتْرَكَ ذكرُ الفعلِ. فلو قلتَ مثلا: "وما عفت الرياح له محلًا، من حدابهم وساقًا" تزعم أنك أردت "عفاه من حدابهم"، ثم ترك ذكرَ الفعلِ، أَحَلْتَ2، لأنه إنَّما يجوزُ تركُه حيثُ يكونُ السؤالُ مذكوراً، لأَن ذكرَه فيه يدلُّ على إرادتِه في الجوابِ، فإِذا لم يوت بالسُّؤالِ لم يكن إلى العلم بهِ سبيلٌ، فاعرف ذلك.

_ 1 في شعره المجموع، والأغاني: 32، "الدار"، و "الحنان" من صفة السحاب الذي يسمع رعده كحنين الإبل. و "عسوف"، مطره شديد العسف، و "الويل" المطر الشديد، و "هطال" متتابع الودق. 2 السياق: "فلو قت مثلًا .... تزعم أنك أردت .... أحلت"، أي جئت بالمحال.

ما جاء في التنزيل "قال" غير معطوف وأمثلته: 274 - واعلم أنَّ الذى تراهُ في التنزيلِ من لفظِ "قال" مَفصولاً غيرَ معطوف، هذا هو التقديرُ فيه، واللهُ أعلم. أعني مثلَ قولِه تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ، إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ، فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ، فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ، فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ} [الذاريات: 24 - 28]، جاء على ما يقعُ في أنفسِ المخلوقين منَ السُّؤال. فلما كان في العُرفِ والعادةِ فيما بينَ المخلوقينَ إذا قيل لهم: "دخلَ قوم على فلان فقالوا كذا"، أخرجَ الكلامَ ذلك المُخْرجَ1، لأنَ الناسَ خوطبوا بما يتعارفونه، وسلك باللظف معهم المَسْلكُ الذي يَسْلُكُونه. وكذلك قولُه: {قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ}، وذلك أن قولَه: {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ، فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ، فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ}، يقتضي أن يُتْبعَ هذا الفعلُ بقولٍ: فكأنه قِيل واللهُ أعلمُ: "فما قال حينَ وَضَعَ الطعامَ بين أيديهم؟ "، فأتى قولُه: {قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} جواباً عن ذلك. وكذا: {قَالُوا لا تَخَفْ}، لأنَّ قولَه: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً}، يقتضي أن يكونَ من الملائكةِ كلامٌ في تأنيسِه وتَسكينه مما خامَره، فكأنه قيلَ: "فما قالوا حينَ رأوه وقد تغيَّرَ ودخلتْه الخيفةُ؟ " فقيل: "قالوا لا تَخفْ". 275 - وذلك، واللهُ أعلم، المعنى في جميع ما يجيءُ منه على كثرتِه، كالذي يجيءُ في قِصَّةِ فرعونَ عليه اللعنةُ، وفي رَدِّ موسى عليه السلام عليه كقولِه: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ

_ 1 السياق: "فلما كان في العرف والعادة .... أخرج الكلام".

كُنْتُمْ مُوقِنِينَ، قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ، قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ، قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ، قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ، قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ، قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء: 23 - 31]، جاء ذلك كلُّه، واللهُ أعلمُ، على تقديرِ السؤال والجوابِ كالذي جرتْ به العادةُ فيما بين المخلوقين، فلما كان السامع منا إِذا سَمِع الخبرَ عن فرعونَ بأنه قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ}، وقعَ في نفسه أن يقول: "فما قال موسى له؟ " أتى قوله: {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، مأتى الجوابِ مبتدأ مفصولاً غيرَ معطوف. وهكذا التقديرُ والتفسيرُ أبداً في كل ما جاءَ فيه لفظُ "قال" هذا المجيء، وقد يكونُ الأمرُ في بعضِ ذلك اشدَّ وضوحاً. 276 - فمما هَوَ في غاية الوضوح قولُهُ تعالى {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ، قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} [الحجر: 57، 58]، وذلك أنَّه لا يَخْفى على عاقلٍ أنه جاء على معنى الجواب، وعلى أن نزل السامعون كأنهم قالوا: "فما قالَ له الملائكةُ؟ "، فقيل: {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ}. 277 - وكذلك قولُه عزَّ وجلَّ في سورة يس {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ، إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ، قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ، قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ، وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ، قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ

مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ، قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ، وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس: 13 - 21]، التقدير الذي قدرناه من معنى السؤل والجواب بين ظاهر في ذلكَ كلِّه، ونسألُ الله التوفيقَ للصَّواب، والعصمة من الزلل.

فصل: 278 - وإذْ قد عَرْفت هذه الأصولَ والقوانينَ في شأنِ فَصْل الجُملِ ووَصْلها، فاعلمْ أنَّا قد حصَلْنا من ذلك على أنَّ الجُمَل على ثلاث أضربِ: جملةٌ حالُها مع التي قبلَها حالُ الصفةِ معَ الموصوفِ والتأكيدِ مع المؤكَّدِ، فلا يكونُ فيها العطفُ البتَّةَ، لِشبْهِ العَطْفِ فيها، لو عُطِفَتْ، بعَطْفِ الشيءِ على نَفْسِه. وجملةٌ حالها مع التي قبْلها حالُ الاسمِ يكونُ غيرَ الذي قَبْله، إلاَّ أَنه يُشارِكُهُ في حكْم، ويدخلُ معه في معنًى، مثْلَ أن يكونِ كِلا الاسْمَيْن فاعلاً أو مفعولاً أو مضافاً إليه، فيكون حقُّها العطفَ. وجملةٌ ليستْ في شيء مِنَ الحالين، بل سبيلُها مع التي قبْلَها سبيلُ الاسم مع الاسم لا يكونُ منه في شيءٍ، فلا يكونُ إيَّاه ولا مشارِكاً له في معنى، بل هو شيء إذا ذُكِرَ لم يُذْكَر إلا بأمرٍ يَنفردُ به، ويكونُ ذكْرُ الذي قبلَه وتَرْكُ الذكْر سواءٌ في حالِه، لعدم التعلُّق بينَهُ وبينَهُ رأساً. وحقُّ هذا تَرْكُ العطفِ البتَّةَ. فَتْركُ العطفِ يكونُ إمَّا للاتصالِ إلى الغاية أوِ الانفصال إلى الغايةِ والعطفُ لما هو واسطةٌ بينَ الأمرينِ، وكانَ له حالٌ بينَ حاليَنْ، فاعرفْه.

فصل: بيان دقيق في شأن عطف الجمل: 279 - هَذا فنٌّ من القَول خاصُّ دقيقٌ. إعلَمْ أنَّ مما يَقِلُّ نظَرُ الناسِ فيه من أَمْر "العطفِ" أنَّه قد يُؤْتى بالجملة فلا تعطف على ما يليها، لوكن تُعْطَفُ على جملةٍ بينها وبينَ هذه التي تُعْطفُ جملةٌ أو جملتانِ، مثالُ ذلك قولُ المتنبي: تَولَّوْا بغْتَةً فكأَنَّ بيْناً ... تَهَيَّبني فَفاجَأَني اغْتيالا فكانَ مَسِيرُ عِيسِهِمُ ذَميلاً ... وسيرُ الدمعِ إثْرَهُمُ انْهِمالا1 قولُه: "فكان مَسيرُ عيسهِم"، معطوفٌ على "تولَّوا بَغتةً"، دونَ ما يليهِ من قولِه: "ففاجأني"، لأنَّا إنْ عطفناه على هذا الذي يليه أفسَدْنا المعنى، من حيثُ إنه يدخلُ في معنى "كأَنَّ"، وذلك يؤدِّي إلى أن لا يكونَ مسيرُ عيسهِم حقيقةً، ويكونَ مُتَوهَّماً، كما كان تهيُّبُ البينِ كذلك. 280 - وهذا أصْلٌ كبيرٌ. والسببُ في ذلك أن الجملةَ المتوسِّطةَ بين هذه المعطوفةِ أخيراً، وبين المعطوفِ عليها الأولى، تَرتبطُ في معناها بتلك الأولى، كالذي ترى أن قوله: "فكأن بيننا تهيَّبني"، مرتبطٌ بقوله: "تَولَّوا بَغتة"، وذلك أنَّ الثانية مسبَّبٌ والأُولى سبَبٌ. ألا ترَى أنَّ المعنى: "تولوا بغتة فتوهمت أن بيتًا تهيبني؟ " ولا شكَّ أنَّ هذا التوهُّم كان بسببِ أنْ كان التوليِّ بغتةً. وإِذا كان كذلك، كانتْ مع الأولى كالشيءِ الواحدِ، وكان منزلتُها منها منزلة المعفعول والظرفِ وسائرِ ما يجيءُ بعدَ تمام الجملةِ من مَعْمولاتِ الفعل، مما لا يمكنُ إفرادُه عن الجملة2، وأن يعتد كلامًا على جدته.

_ 1 في ديوانه. 2 في المطبوعة و "ج": "على الجملة".

281 - وههنا شيء ىخر دقيقٌ، وهو أنَّك إذا نظرْتَ إلى قوله: "فكان مسير عسهم ذميلا"، وجدْتَه لم يُعْطَف هو وحدَه على ما عُطِفَ عليه، ولكنْ تجدُ العطْفَ قد تناولَ جملةَ البيتِ مربوطاً آخرُه بأَوَّلِهِ. ألا تَرى أنَّ الغرضَ من هذا الكلام أن يَجْعل تولِّيهم بغتةً، وعلى الوجه الذي توهَّم من أجلِه أنَّ البينَ تهيَّبه، مُسْتدعياً بكاءه1، وموجباً أنْ يَنْهملَ دمعُه، فلم يَعْنهِ أنْ يذكر ذملان العيس إلا لليذكر هَمَلانَ الدمعِ، وأن يوفِّق بينهما. وكذلكَ الحكْمُ في الأول، فنحن وإن كنَّا قلْنا إنَّ العطْفَ على "تَولوا بغتة"، فإنَّا لا نَعْني أن العطُفَ عليه وحَده مقطوعاً عمَّا بَعْدَه، بل العطفُ عليه مَضموماً إليه ما بَعْدَه إلى أخرهِ، وإِنما أردْنا بقولنا "إِنَّ العطفَ عليه"، أن تعلمك أنه الأصْلُ والقاعدةُ، وأن نَصْرفَك عن أن تَطْرَحَه، وتَجْعلَ العطْفَ على ما يَلي هذا الذي تعْطِفُه، فتزعُمَ أنَّ قولَه: "فكانَ مَسِيرُ عيسِهم" معطوفٌ على "فاجأني"، فتَقعُ في الخطأَ كالذي أريناك. فامر العطف إذ، موضوعٌ على أنَّك تَعْطِفُ تارةً جملةً على جملةٍ، وتَعْمِد أخرى إلى جُملتين أو جملٍ بعضاً على بعضٍ، ثم تعْطفُ مجموعَ هذي على مجموع تلك. بيان في العطف في الشرط والجزاء: 282 - ويَنْبغي أنْ يُجْعَل ما يُصْنَعُ في الشرطِ والجزاءِ من هذا المعنى أصلاً يُعْتَبرُ به. وذلك أَنَّك تَرى، متى شئتَ، جملتين قد عطفت إحداهما على الأخرى،

_ 1 السياق: "أن يجعل توليهم بغتة .... مستدعيا بكاءه".

ثم جَعلنا بمجموعِهِما شرْطاً1، ومثالُ ذلك قولُه تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 112]، الشرطُ كما لا يخفَى في مجموعِ الجملتين لا في كلِّ واحدةٍ منهما على الانفراد، ولا في واحدةٍ دونَ الأخرى، لأنَّا إنْ قلنا إنه في كل واحدة منهما على الانفرادِ، جعلناهُما شَرْطين، وإذا جعلناهُما شرطينِ اقتضَتا جَزَاءَيْن، وليس منه إشراكُ ما ليس بشرطٍ في الجزم بالشرط، وذلك ما لا يخفى فسَادُه. ثم إنا نعلم من طريق المعنى أن الجزء الذي هو احتمالُ البهتانِ والإِثمِ المبينِ، أمرٌ يتعلَّقُ إيجابُه لمجموعِ ما حصلَ منَ الجملتين، فليس هو لاكتساب الخطيئةِ على الانفرادِ، ولا لرمي البرئ بالخَطيئةِ أو الإِثم على الإِطلاق، بل لِرمْي الإنسان البرئ بخطيئةٍ أو إثمٍ كانَ مِنَ الرامي، وكذلك الحكْمُ أبداً. فقولُه تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100] لم يُعلَّقِ الحكْمُ فيه بالهجرةِ على الانفراد، بل بها مَقْروناً إليها أنْ يُدرِكَهُ الموتُ عليها. 283 - واعلمْ أنَّ سبيلَ الجُملتين في هذا، وجعْلَهما بمجموعهما بمنزلةِ الجملةِ الواحدةِ، سبيلُ الجزءينِ تُعْقَدُ منهما الجملةُ، ثم يُجْعَلُ المجموعَ خبراً أو صفةً أو حالاً، كقولك: "زيد قام غلامه" و "يزيد أبوه كريم" و "مررت برجل أبوه كريم" و "جاءني زيدٌ يَعدو به فرسُه". فكما يكونُ الخبرُ والصفةُ والحالُ لا محالةَ في مجموعِ الجزْءَيْنِ لا في أحَدهما، كذلك يكونُ الشرْطُ في

_ 1 في المطبوعة وحدها: "ثم جعلنا مجموعهما ... "، وهو خطأ. 2 في المطبوعة: "وإن قلنا إن في واحدة".

مجموعِ الجملتين لا في إحداهُما، وإِذا علمتَ ذلك في الشرطِ، فاحْتذِه في العطفِ، فإِنكَ تجدُه مثلَه سواءً. 284 - ومما لا يكونُ العطْفُ فيه إلا على هذا الحَدِّ قولُه تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [القصص: 44، 45]، لو جرَيْتَ على الظاهرِ فجعَلْتَ كلَّ جملةٍ معطوفةً على ما يَليها، منعَ منه المعنى. وذلك أنه يلزَمُ منهُ أن يكونَ قولُه: {وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ}، وذلك ما لا يَخْفى فسادُه. وإِذا كانَ كذلك، بانَ منه أنه ينبغي أن يكون قد عُطِفَ مجموعُ "وما كنتَ ثاوياً في أهل مدين" إلى "مرسلين"، على مجموعِ قولهِ: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} إلى قوله "العُمُر". 285 - فإِن قلت: فهَلاَّ قدَّرْتَ أن يكونَ: {وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} معطوفاً على: {وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ}، دونَ أن تزعمَ أنه معطوفٌ عليه مضموماً إليه ما بعدَهُ إلى قولهِ: "العمرُ"؟ قيل: لأنَّا إنْ قدَّرْنا ذلك، وجبَ أن يُنوى به التقديمُ على قوله: {وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا} وأن يكونَ الترتيبُ "وما كنتَ بجانبِ الغربيِّ إذا قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين، وما كنتَ ثاوياً في أهل مَدْيَنَ تتلوا عليهم آياتنا

ولكنا أنشأْنا قروناً فتطاولَ عليهم العمرُ ولكنَّا كنا مُرسِلين" وفي ذلك إزالةُ "لكنَّ" عن موضِعِها الذي ينبغي أن تكونَ فيه. ذاك لأنَّ سبيلَ "لكنَّ" سبيلُ "إلاَّ"، فكَما لا يجوز أن تقولَ: "جاءني القومُ وخرَجَ أصحابُكَ إلا زيدًا وإلا عمرصا" يجعل "إلا زيدًا" استثناء من جانءي القوم" و "إلا عمراً" من "خرج أصحابُك"، كذلك لا يجوز أن تصنعَ مثلَ ذلك "بلكن" فتقول: "ما جاءني زيدٌ، وما خرجَ عمرُو ولكنَّ بكراً حاضرٌ، ولكنَّ أخاكَ خارجٌ"، فإِذا لم يَجُزْ ذلك، وكان تقديُركَ الذي زعمتَ يؤدِّي إليه، وجَبَ أن تَحْكُم بامتناعه. فاعرفْه. هذا، وإنما تَجوزُ نيَّةُ التأخيرِ في شيءٍ معناه يَقْتضي لهُ ذلكَ التأخيرَ، مثلَ أَنَّ كونَ الاسم مفعولاً، يَقتضي له أنْ يكونَ بعْدَ الفاعلِ، فإِذا قُدِّمَ على الفاعل نُويَ به التأخَيرُ، ومعنى "لكنَّ" في الآية، يقتضي أنْ تكونَ في مَوضِعها الذي هيَ فيه، فكيفَ يجوزُ أن يُنْوى بها التأخيرُ عَنْه إلى موضِعٍ آخرَ؟

باب اللفظ والنظم

باب اللفظ والنظم: هذه فصول شتى في أمر "اللفظ" و "النظم" فيها فضل شحذ للبصيرة، وزيادة كشف عما فيها من السريرة فصل: غلط منكر في شأن البلاغة، والرد عليه: 286 - وغلَطُ الناسِ في هذا البابِ كثيرٌ. فمِنْ ذلك أَنك تَجدُ كثيراً ممَّن يتكلَّمُ في شأن البلاغة، إذا ذكَر أنَّ للعربِ الفضلَ والمزيةَ في حسْنِ النظمِ والتأليفِ، وأنَّ لها في ذلك شأْواً لا يبلُغُه الدخلاءُ في كلامِهم والمولَّدونَ، جعَلَ يُعلِّل ذلك بأنْ يقولَ: "لا غرْوَ، فإنَّ اللغَةَ لها بالطَّبعِ ولنا بالتكلف، ولن يبلغ الدخيل في اللغات والأنسة مبْلَغَ مَنْ نشأَ عليها، وبُدئ مِن أولِ خَلْقهِ بها"، وأشباهِ هذا مما يُوهِمُ أنَّ المزيَّةَ أَتتْها من جانبِ العِلْم باللغة. وهو خَطأٌ عظيمٌ وغلَطٌ منْكَرٌ يُفْضِي بقائله إلى رفْع الإعجازِ مِنْ حيثُ لا يَعْلَم1. وذَلكَ أنه لا يَثْبتُ إعجازٌ حتى تَثْبُتَ مَزايا تَفُوقُ علومَ البشرِ، وتَقْصُرُ قِوى نَظَرِهم عنها، ومعلومات ليس في متن أفكارهم وخواطرهم أن تقضي بهم إليا، وأنْ تُطْلِعهَم عليها، وذلك محالٌ فيما كان علْماً باللغة، لأنَّه يؤدِّي إلى أن يحدُثَ في دلائلِ اللغةِ ما لم يتواضَعْ عليه أهلُ اللغةِ. وذلك ما لا يَخْفى امتناعُه على عاقلٍ. 287 - واعلمْ أَنَّا لم نُوجِبْ المزيَّةَ من أجلِ العِلْم بأنفُسِ الفروقِ والوجوهِ فتستند إلى اللغة، ولكنَّا أوجبْناها للعلم بمواضِعها، وما ينبغي أن يصنع فيها،

_ 1 في "س": "دفع الإعجاز"، وهي جيدة جدًا، بمعنى: إنكار الإعجاز، كما سيأتي في رقم: 299.

فليس الفضْلُ للعلم بأنَّ "الواو" للجمع، و"الفاء" للتعقيب بغير تَراخٍ، و"ثم" له بشرطِ التَراخي، و"إنْ" لكذا و"إذا" لكذا، ولكنْ لأَنْ يتأتَّى لكَ إِذا نظَمْتَ شعراً وألَّفْتَ رسالةً أنْ تُحْسِنَ التخيُّرَ، وأن تَعْرِفَ لكلٍّ مِنْ ذلك مَوضِعَه. 288 - وأمرٌ آخرُ إذا تأمَّله الإِنسان1 أَنِفَ من حِكايةِ هذا القولِ، فضْلاً عن اعتقادِه، وهو أنَّ المزيَّةَ لو كانت تَجبُ من أجْلِ اللغةِ والعِلْم بأوضاعِها وما أرادَهُ الواضعُ فيها، لكانَ يَنَبْغي أنْ لا تَجِبَ إلا بِمْثل الفرْقِ بين "الفاء" و "ثم" و "إنْ" و "إذا" وما أشبَهَ ذلك، مما يعبِّرُ عنه وضعٌ لغوي، فكانت لا تَجِبُ بالفصْل وتَرْك العْطفِ، وبالحذْفِ والتكرارِ، والتقديمِ والتأخيرِ، وسائرِ ما هو هيئةٌ يُحْدِثُها لك التأليفُ، ويَقْتضيها الغَرضُ الذي تَؤُم، والمعنى الذي تَقْصِد، وكانَ ينبغي أن لا تَجب المزيةُ بما يَبْتدِئه الشاعرُ والخطيبُ في كلامِهِ منِ استعارةِ اللفظ لشيءِ لم يُسْتَعَر له، وأنْ لا تكونَ الفضيلةُ إلاَّ في استعارةٍ قد تُعورِفَتْ في كلامِ العربِ. وكفى بذلك جَهْلاً. 289 - ولم يكنْ هذا الاشتباهُ وهذا الغَلطُ إلاَّ لأنَّه ليس في جُملة الخفايا والمُشْكِلات أغربُ مَذْهباً في الغموض، ولا أَعْجَبُ شأناً، من هذه التي نحنُ بصَدَدِها، ولا أَكثرُ تفلُّتاًَ منَ الفَهْم وانْسلالاً منها وإنَّ الذي قاله العلماءُ والبلغاءُ في صفتِها والإِخبارِ عنها، رموزٌ لا يَفْهمُها إلاَّ مَنْ هُوَ في مثْلِ حالِهمْ مِنْ لُطْفِ الطَّبْع، ومَنْ هو مُهَيَّأٌ لِفَهْم تلكَ الإشاراتِ، حتى كأنَّ تلكَ الطباعَ اللطيفةَ وتلكَ القرائحَ والأذهانَ، قد تواضعَتْ فيما بينها على ما سَبيلُه سبيلُ الترجمةِ يِتَواطأُ عليها قومٌ فلا تَعْدُوْهم، ولا يعرفها من ليس منهم.

_ 1 في المطبوعة وحدها: "إنان" بلا تعريف.

كلام الجاحظ في شأن إعجاز القرآن: 290 - وليتَ شِعْري مِنْ أينَ لِمَنْ لَمْ يتْعَبْ في هذا الشأن، ولم يمارسْه، ولم يوفرْ عنايَتَه، عليه، أنْ يَنْظُرَ إلى قولِ الجاحظِ وهو يذكر عجاز القرآن: "وَلو أَنَّ رجلاً قرأَ على رَجُلٍ منْ خُطبائهم وبُلَغائهم سورةً قصيرةً أو طويلةً، لَتبيَّنَ له في نظامِها ومَخْرجها منْ لفظِها وطابعها، أنه عاجز من مِثْلها، ولو تَحدَّى بها أبلَغَ العربِ لأَظْهَر عجْزَه عنها"1. وقولِه وهو يَذكُر رواةَ الأَخبار: "ورأيتَ عامتَهم، فقد طالَتْ مُشاهَدتي لَهُم وهُم لا يَقفونَ إلاَّ على الألفاظِ المتخيَّرةِ، والمعاني المنتخَبة، والمخَارِج السهلةِ، والديباجةِ الكريمةِ، وعلى الطبعِ المتمكِّن، وعلى السَّبْك الجيِّد، وعلى كلِّ كلامٍ له ماء ورونق". وقوله في بت الحطيئة: متَى تَأَتِهِ تَعْشُو إِلى ضَوْءِ نارِهِ ... تَجدْ خيرَ نارٍ عندَها خيرُ مَوْقِدِ "وما كانَ ينبغي أن يُمدَح بهذا البيتِ إلاَّ مَنْ هُوَ خيرُ أهلِ الأرضِ، على أَني لم أُعْجَب بمعناه أكثرَ من عَجَبي بلفظهِ، وطَبْعه، ونَحْته، وسَبْكه، فيَفْهَمُ منه شيئاً أو يقفُ للطابَع والنظامِ والنحْتِ والسَّبْكِ والمَخَارجِ السَّهْلةِ، على معنى، أو يَحْلى منه بشيءٍ، وكَيْفَ بأنْ يَعْرفه؟ ولربَّما خفيَ على كثيرٍ من أَهْله". 291 - واعلمْ أن الداءَ الدَّويَّ، والذي أعيا أمرُهُ في هذا الباب، غَلطُ منْ قدَّمَ الشعرَ بمعناه، وأقلَّ الاحتفالَ باللفظِ، وجعَلَ لا يُعطيهِ من المزية إن هو

_ 1 هو في كتابه "حجج النبوة"، انظر رسائل الجاحظ 3: 229، وفيها: "وفي لفظه وطبعه".

أَعطى إلاَّ ما فَضَل عن المعنى يقولُ: "ما في اللفظِ لولا المعنى؟ وهلِ الكلامُ إلا بمعناه؟ ". فأنتَ تراهُ لا يُقدِّم شعراً حتى يكونَ قد أَوْدَعَ حكمةً وأَدباً، واشتملَ على تشبيهٍ غريبٍ ومعنى نادرٍ، فإنْ مالَ إلى اللفظِ شيئاً، ورأى أنْ ينحلَه بعضَ الفضيلةِ، لم يَعِرفْ غيرَ "الاستعارةِ"، ثم لا يَنْظُر في حالِ تلك "الاستعارةِ" أَحَسُنَتْ بمجرَّدِ كونِها استعارةً، أَمْ مِن أجْل فَرْقٍ ووَجْهٍ أم للأمرَيْن؟ لا يحفلُ بهذا وشبههِ، قد قَنَعَ بظواهرِ الأمورِ، وبالجُمَل، وبأنْ يكونَ كَمَنْ يَجْلُبُ المتاعَ للبيعِ، إِنما همُّه أن يروِّجَ عنه. يرى أنَّه إِذا تكلمَ في الأخذ والسرقةِ، وأحْسَنَ أن يقولَ: "أخذَهُ من فلانٍ، وألمَّ فيه بقولِ كذا"، فقدِ استكمل الفضْلَ، وبلغَ أقصى ما يرادُ. 292 - واعلمْ أنَّا وإنْ كنَّا إذا اتَّبَعْنا العُرفَ والعادةَ وما يَهْجسُ في الضَّميرِ وما عليه العامَّةُ، أرَانا ذلكَ أنَّ الصوابَ معهم، وأنَّ التعويلَ ينبغي أن يكونَ على المعنى. وأنَّه الذي لا يَسوغُ القولَ بخلافِه1 فإنَّ الأمرَ بالضدِّ إذا جئْنا إلى الحقائقِ، وإلى ما عليه المحصِّلون، لأنَّا لا نَرى متقدِّماً في علمِ البلاغةِ، مبرِّزاً في شأوِها، إلاَّ وهو يُنْكِرُ هذا الرأيَ وَيعيبُه، ويُزْري على القائل به ويغض منه. معرفة الشعر وتمييزه، والأخبار في ذلك: 293 - ومن ذلك ما رُويَ عن البحتَريِّ. رُويَ أنَّ عبيد الله بن عبد الله ابن طاهرٍ سألَه عن مُسْلم وأبي نُوَاس: أيُّهما أشعرُ؟ فقال: أبو نُوَاس. فقالَ: إنَّ أبا العباسِ ثَعْلباً لا يوافقُك على هذا. فقال: ليس هذا من شأن ثعلب

_ 1 السباق: "واعلمْ أنَّا وإنْ كنَّا إذا اتَّبَعْنا العُرفَ .... أرانا ذلك أن الصواب معهم .... فإنَّ الأمرَ بالضدِّ إذا جئْنا إلى الحقائقِ".

وذويهِ، مِن المُتعاطينَ لعلْمِ الشعرِ دُون عَمله، إنما يعلُم ذلك من دُفع في مَسْلك طريقِ الشعرِ إلى مُضَايِقه وانتهى إلى ضَروراته1. 294 - وعن بعضِهم أنه قال: رآني البحتري ومعي دفترُ شعرٍ فقال: ما هذا؟ فقلتُ: شعرَ الشَّنفرى. فقال: وإلى أينَ تَمْضي؟ فقلتُ: إلى أبي العباس أقرؤه عليه. فقال: قد رأيتُ أَبا عبَّاسِكم هذا منذُ أيامٍ عندَ ابنِ ثَوَابة فما رأيتُه ناقداً للشعرِ ولا مُميزاً للألفاظِ، ورأيتُه يَستجيد شيئاً ويُنشِدُه، وما هو بأَفضَلِ الشعر. فقلتُ له: أمَّا نَقْدُه وتَمييزُه فهذه صناعةٌ أُخرى، ولكنَّه أعرفُ الناس بإِعرابهِ وغَريبهِ، فما كان يُنْشِدُ؟ قالَ قولَ الحارثِ بنِ وَعْلَة: قَومي هُمُ قَتلُوا أُمَيمَ أَخي ... فإِذا رَمَيْتُ يُصِيبني سَهْمي فلِئنْ عفَوْتُ لأَعْفُوَنْ جَلَلاً ... ولئنْ سَطَوْتُ لأُوهِنَنْ عَظْمي2 فقلتُ: واللهِ ما أَنْشَد إلاَّ أحْسَن شعرٍ في أحسنِ معنًى ولفظٍ. وقال: أَين الشعرُ الذي فيهِ عُروقُ الذهبِ؟ فقلتُ: مثْلُ ماذا؟ فقالَ: مثلُ قولِ أبي ذؤَاب: إن يَقْتُلوكَ فقَدْ ثَلَلْتَ عُروشَهُمْ ... بِعُتَيْبَةَ بنِ الحارثِ بِنِ شِهاب بأَشَدِّهم كَلَباً عَلَى أَعْدائِهِ ... وأعزهم فقدًا على الأصحاب3

_ 1 ستأتي في الفقرة رقم: 314. 2 الشعر للحارث بن وعلة الذهلي، شرح الحماسة للتبريزي 1: 107، والمؤتلف والمختلف للآمي: 197، و "أميم"، متأذى "يا أميم"، مرخم، و "أوهنن"، من الوهن، وهو الضعف. و"جللًا"، أي صفحت عن أمر جليل عظيم. 3 الشعر لأبي ذؤاب ربيعة بن عبيد الأسدي، في المؤتلف والمختلف للآمدي: 126، والأمالي: 2: 72، والسمط: 706، وفي روايته اختلاف. وكان في المطبوعة وحدها "على أعدائهم".

295 - وفي مثل هذا قال الشاعر: زَوامِلُ للأشعارِ لا عِلْمَ عندهُمْ ... بجيِّدها إلاَّ كَعِلْم الأَباعِرِ لعمرُكَ ما يَدْرِي البعَيرُ إذا غَدَا ... بأَوْسَاقِه أَوْ راحَ ما في الغرائرِ1 وقال الآخر: يا أبا جعفر تَحَكَّمُ في الشعْـ ... ـرِ ومَا فيكَ ألةُ الحُكَّامِ إنَّ نَقْدَ الدينارِ إلاَّ على الصَّيْـ ... ـرَف صَعْبٌ فكَيْفَ نَقْدُ الكَلامِ قَدْ رأيناكَ لسْتَ تَفْرُق في الأشْـ ... ـعارِ بَيْنَ الأَرْواحِ والأَجْسَامِ 296 - واعلْمْ أَنَّهم لم يَعيبوا تقديمَ الكلام بمعناه من حيثُ جَهِلوا أنَّ المعنى إذا كان أدباً وحكْمةً وكان غَريباً نادراً، فَهو أَشَرَفُ مما ليس كذلكَ بل عابوه مِن حيثُ كان مِنْ حُكْمِ مَنْ قَضى في جنسٍ من الأجناسِ بفضلٍ أو نقصٍ، أنْ لا يَعْتبرَ في قَضِيَّتِهِ تلك إلى الأوصافَ التي تَخصُّ ذلك الجنسَ وتَرْجعُ إلى حقيقته، وأن لا ينظر يها إلى جنس آخر، وإن كان من الأولى بسبيلٍ، أو متصلاً به اتصالَ ما لا ينفك منه. سبيل الكلام سبيل التصوير والصياغة: 297 - ومعلومٌ أنَّ سبيلَ الكلامِ سبيلُ التصويرِ والصياغةِ، وأنَّ سبيلَ المعنى الذي يُعَبَّرُ عنه سبيلُ الشيءِ الذي يقعُ التصويرُ والصَّوْغُ فيه، كالفضةِ والذهبِ يُصاغ منهما خاتَمٌ أو سوارٌ. فكما أنَّ مُحالاً إِذا أنتَ أردْتَ النظرَ في

_ 1 الشعر لمروان من أبي حفصة. و "الزوامل" جمع "زاملة"، وهو البعير يحمل عليه الرجل زاده ومناعه. و "الأوساق"، جمع "وسق"، الحمل. و "الغرائر" جمع "غرارة"، وهي الحوالق، الكامل للمبرد 2: 90، اللسان "زمل".

صَوْغَ الخاتَم، وفي جودةِ العملُ ورداءتهِ، أن تنظر إلى الفضةِ الحاملةِ تلك الصورةِ، أو الذهبِ الذي وقع فيه ذلك العملُ وتلكَ الصنعةُ1 2 كذلك مُحالٌ إِذا أردتَ أن تَعرف مكانَ الفضلِ والمزيةِ في الكلامِ، أن تَنظُرَ في مجرَّد معناهُ وكما أنَّا لو فضَّلْنا خاتَماً على خاتمٍ، بأنْ تكونَ فضة هذه أجودَ، أو فَصُّه أنفسَ، لم يكنْ ذلك تفضيلاً له من حيثُ هو خاتمَ كذلك ينبغي إذا فضَّلنا بيتاً على بيتٍ من أجلِ معناه، أن لا يكون ذلك تَفضيلاً له مِنْ حيثُ هو شِعرٌ وكلامِ. وهذا قاطع، فاعرفه. مقالة الجاحظ في أن المعاني مطروحة في الطريق، وبيان ذلك: 298 - واعلمْ أَنك لستَ تنظرُ في كتابٍ صُنِّفَ في شأنِ البلاغةِ، وكلامٍ جاءَ عن القدماءِ، إلاَّ وجدْتَه يَدلُّ على فسادِ هذا المذهبِ، ورأيتَهُمْ يَتشدَّدُون في إنكارِه وَعْيبه والعَيْبِ به. وإِذا نظرتَ في كتب الجاحظَ وجدتَه يبلغُ في ذلك كلَّ مَبلغٍ، ويتشدَّد غايةَ التشدُّد، وقد انتهى في ذلك إلى أنْ جعلَ العِلْم بالمعاني مشتركاً، وسوَّى فيه بينَ الخاصَّة والعامَّة فقالَ: "ورأيتُ ناساً يُبَهرِجونَ أشعارَ المولَّدينَ، ويَستَسْقطون مَنْ رَواها، ولم أرَ ذلكَ قطُّ إلاَّ في روايةِ غيرِ بَصيرٍ بجوهَر ما يُرْوَى، ولو كان له بَصرٌ لَعَرف موضِعَ الجيِّد ممَّن كانَ، وفي أيِّ زمانٍ كان. وأنا سمعتُ أبا عمرِو الشيبانيَّ، وقدْ بلغَ مِنِ استجادته لهذين البيتينِ ونحنُ في المسجد الجامعِ يومَ الجمعةِ، أن كلَّفَ رجلاً حتَّى أَحضرَهُ قِرطاساً ودواةً حتى كتَبَهما. قال الجاحظُ: وأنا أَزعمُ أنَّ صاحبَ هذين البيتين لا يقولُ شعراً أبدًا، ولولا أن

_ 1 "ذلك" ساقطة من المطبوعة. 2 السياق: "فكما أن محالًا ...... كذلك محال".

أَدخَلَ في الحكومةِ بعضَ الغَيْبِ1، لزعمتُ أنَّ ابنَه لا يقولُ الشعر أيضاً، وهما قولُه: لا تحسبنَّ الموتَ موْتَ البِلَى ... وإنَّما الموتُ سؤالُ الرجالْ كِلاَهُما موتٌ، ولكنَّ ذَا ... أَشَدُّ مِنْ ذاكَ عَلى كُلِّ حالْ ثم قال: "وذهبَ الشيخُ إلى استحسانِ المعاني، والمعاني مطروحةٌ في الطريقِ يَعْرفُها العجميُّ والعربيُّ، والقرويُّ والبدويُّ، وإنما الشأنُ في إقامةِ الوزنِ وتَخيّر اللفظِ، وسهولَة المَخْرج، وصحَّةِ الطَّبْعِ، وكَثْرةِ الماءِ، وجودةِ السَّبْك، وإنما الشِّعرُ صياغةٌ وضربٌ من التصوير"2. فقد تَراهُ كيفَ أَسْقَطَ أمرَ المعاني، وأبَى أن يجب لها فضل فقال: "هي مطروحةٌ في الطريقِ"، ثمَّ قال: "وأنا أزعمُ أن [ابن] صاحبَ هذين البيتين لا يقولُ شعراً أبداً" فأعْلَمَكَ أنَّ فَضْلَ الشعرِ بلفظِه لا بمعناهُ، وأنه إذا عَدِمَ الحُسْنَ في لفظِه ونَظْمه، لم يستحقَّ هذا الاسمَ بالحقيقة. وأعادَ طَرَفاً منْ هذا الحديثِ في "البيان" فقال: "ولقد رأيتُ أبا عمرو الشيباني يكتبُ أشعاراً منْ أفواهِ جلسائهِ ليُدخِلَها في بابِ التحفُّظ والتذكُّر3، وربَّما خيِّل إليَّ أنَّ أبناءَ أولئكَ الشعراءِ لا يستطيعونَ أبداً أن يقولوا شعراً جيداً، لمكان أعراقهم من أولئك

_ 1 "بعض الغيب"، أي أن يقول رجمًا بالغيب، وفي الحيوان: "بعض الفتك"، وفي "س"، "بعض العيب"، وأولاها ما أثبت. 2 هذا الفصل كله في كتاب الحيوان 3: 130 - 132، وفيه: "فإنما الشعرصياغة، وضرب من النسج، وجنس من التصوير"، والشعر فيه، وفي البيان والتبيين 2: 171. 3 في المطبوعة والبيان: "يكتب".

الآباءِ" ثم قال: "ولولا أنْ أكونَ عيَّاباً، ثُمَّ للعلماء خاصة، لصورتُ لكَ بعضَ ما سمعتُ من أبي عبيدَة، ومَن هو أبعدُ في وهْمك من أبي عبيدة"1. 299 - واعلمْ أَنهم لم يَبْلغوا في إِنكارِ هذا المذهبِ ما بلَغوه إلاَّ لأنَّ الخطأَ فيه عظيمٌ، وأنه يُفْضي بصاحبه إِلى أنْ يُنْكِر الإعجازَ ويُبْطِلَ التحدِّي من حيثُ لا يَشعر. وذلك أنه إنْ كان العملُ على ما يَذهبون إليه، من أنْ لا يَجِبَ فضلٌ ومزيةٌ إلاَّ من جانِبِ المعنى، وحتى يكونَ قد قالَ حكمةً أو أدباً، واستخرجَ معنًى غريباً أو تشبيهاً نادراً2، فقد وَجَب اطِّراحُ جميعِ ما قالَه الناسُ في الفصاحةِ والبلاغةِ، وفي شأنِ النظمِ والتأليفِ، وبَطَلَ أنْ يجِبَ بالنظم فضْلٌ، وأنْ تَدْخُلَه المزيةُ، وأن تتفاوتَ فيه المنازلُ. وإِذا بطَلَ ذلك، فقد بطَل أنْ يكَون في الكلامِ مُعْجِزٌ، وصارَ الأمرُ إلى ما يقولُه اليهودُ ومَنْ قالَ بمثْلِ مقَالِهم في هذا البابِ، ودخلَ في مثلِ تلك الجَهالات، ونَعُوذ بالله من العمى بعد الإبصار.

_ 1 هذا الفصل في كتاب البيان والتبيين 4: 24. 2 في المطبوعة وحدها: "أو شبيهًا نادرًا".

باب اللفظ والنظم: فصل منه

باب اللفظ والنظم: فصل منه فصل: إرادة معنى بعبارتين، ما معناه: 300 - لا يكونُ لإِحدى العبارتين مزيةٌ عَلَى الأُخرى، حتى يكونَ لها في المعنى تأثيرٌ لا يكونُ لصاحبتها. فإِنْ قلتَ: فإِذا أفادتْ هذه ما لا تُفيدُ تلكَ، فليسَتا عبارتَيْنِ عَنْ معنى واحدٍ، بل هما عبارتان عن معنَيَيْن اثنينِ. قيل لكَ: إنَّ قولَنا "المعنى" في مثل هذا، يُرادُ به الغرضُ، والذي أرادَ المتكلمُ أن يُثْبته أو يَنْفِيَه، نَحْو إنْ تَقْصد تشبيهَ الرجلِ بالأسد فتقولَ "زيدٌ كالأسد"، ثم تريدُ هذا المعنى بعينهِ فتقولُ: "كأن زيداً الأسدُ"، فتُفيدُ تشبيهَهُ أيضاً بالأَسد، إلاَّ أنك تَزيدُ في معنى تشبيهِهِ به زيادةً لم تَكُنْ في الأولِ، وهي أنْ تَجعله من فَرْط شَجاعته وقوةِ قَلْبه، وأنه لا يَرُوعُه شيءٌ، بحيث لا يتَميَّزُ عن الأسدِ، ولا يُقَصِّر عنه، حتى يتوَّهم أنه أسدٌ في صورة آدميٍّ. وإِذا كان هذا كذلك، فانظرْ هل كانت هذه الزيادةُ وهذا الفرقُ إلاَّ بما تُوَخِّيَ في نظمِ اللفظِ وترتيبهِ، حيثَ قُدِّم "الكافُ" إِلى صدرِ الكلامِ ورُكِّبتْ مع "أنَّ"؟ وإِذا لم يكنْ إِلى الشكِّ سبيلٌ أنَّ ذلكَ كانَ بالنظم، فاجعلْه العِبْرَة في الكلام كله، ورضى نَفْسَك على تفهُّم ذلكَ وتَتبُّعه، واجعلْ فيها أنك تزاولُ منه أمْراً عظيماً لاَ يُقادَرُ قَدْرُه، وتَدخُلُ في بحرٍ عميقٍ لا يُدْرَك قعرُه.

فصل: هو فَنٌّ آخره يرجع إلى هذا الكلام تفصيل آخر، في العبارتين ترى أنهما يؤديان غرضا واحدا: 301 - قد عُلِمَ أنَّ المُعارِضَ للكلام معارِضٌ له من الجهة التي منها ويوصف بأنه فَصيحٌ وبَليغٌ، ومتخيَّر اللفظُ جيدُ السبْكِ، ونحوُ ذلك من الأوصافِ التي نَسَبُوها إلى اللفظِ. وإذا كان هذا هكذا، فبِنا أنْ نَنْظرَ فيما إِذا أُتيَ به كان مُعارضاً ما هوَ؟ أهو أنْ يجيءَ بلفظٍ فيضعَه مكانَ لفظٍ آخرَ، نحوُ أنْ يقولَ بدلَ "أسدٍ" "ليثٌ"، وبدلَ "بَعُدَ" "نأى"، ومكانَ "قرُبَ" "دنا"، أمْ ذلك ما لا يذهبُ إليه عاقلٌ ولا يقولُه مَنْ به طَرْقٌ؟ 1 كيفَ؟ ولَوْ كان ذلك معارَضةً لكان الناسُ لا يَفصلِون بين الترجمةِ والمعارَضَة، ولكان كلُّ مَنْ فَسَّرَ كلاماً معارِضاً له. وإِذا بطَل أن يكونَ جهةً للمعارَضَة، وأن يكونَ الواضِعُ نفسُه في هذِه المنزلةِ معارِضاً على وجهٍ منَ الوجوهِ، علمتَ أنَّ الفصاحةَ والبلاغةَ وسائرَ ما يَجري في طريقِهما أوصافٌ راجعةٌ إلى المعاني، وإلى ما يُدَلُّ عليه بالألفاظِ، دونَ الألفاظِ أنفُسِها، لأنه إذا لم يكنْ في القسمةِ إِلا المعاني والألفاظُ، وكانَ لا يُعْقَل تعارضٌ في الألفاظِ المجرَّدة2، إِلا ما ذكرتُ، لم يَبْقَ إلا أنْ تكونَ المعارضةُ معارضةً من جهةٍ تَرجعُ إِلى معاني الكلام المعقولةِ، دون ألفاظِه المسموعَةِ. وإِذا عادتِ المعارضةُ إِلى جهةِ المعنى، وكانَ الكلامُ يعارَض من حيثُ هو فَصيحٌ وبليغٌ ومُتخيَّرُ اللفظِ، حصَلَ من ذلك "الفصاحة" و"البلاغة" و"تخير اللفظ" عبارة عن خصائص ووجوه تكون

_ 1 "طرق"، بكسر الطاء، قوة، وأصله السمن والشحم. 2 في "س": "معارض"، وفي هامشها "تعارض"، نسخة أخرى.

معاني الكلامِ عليها، وعن زياداتٍ تَحْدثُ في أصولِ المعاني، كالذي أريتُكَ فيما بينَ "زيدٌ كالأسد" و "كأنَّ زيداً الأسدُ"، وبأنْ لا نَصيبَ للألفاظِ من حيثُ هي ألفاظٌ فيها بوجهٍ من الوُجوه. 302 - واعلمْ أنك لا تَشْفي الغُلَّة ولا تنْتهي إِلى ثلجِ اليقينِ، حتى تتجاوزَ حدَّ العلمِ بالشيء مجْملاً، إِلى العِلْم به مفصَّلاً، وحتَّى لا يُقْنِعَك إِلاّ النظرُ في زواياهُ، والتَّغلغلُ في مكامنه، وحتى تكون كمَنْ تتَبَّع الماءَ حتى عرَفَ منْبَعهَ، وانتهى في البحثِ عن جوهرِ العُود الذي يُصْنَع فيه إِلى أنْ يعْرِفَ منْبِتَه، ومَجرى عُروقِ الشجرِ، الذي هو منه، وإنَّا لنراهُم يقيسونَ الكلامَ في معنى المعارَضة على الأعمالِ الصناعيةِ، كنَسْج الديباجِ وصَوْغِ الشَّنْفِ والسِّوَار وأنواعِ ما يُصاغُ1، وكلِّ ما هو صَنْعةٌ وعملُ يَدٍِ، بعد أن يَبلُغَ مبلغاًً يقعُ التفاضُلُ فيه، ثم يَعظُم حتى يَزيدَ فيه الصانعُ على الصانِع زيادةً يكونُ له بها صيتٌ، ويدخُلُ في حدِّ ما يَعْجَزُ عنه الأكثرونَ. وهذا القياسُ، وإِن كان قياساً ظاهِراً معلوماً، وكالشيءِ المركوزِ في الطباعِ، حتى ترَى العامَّةَ فيه كالخاصَّة فإنَّ فيه أمراً يجبُ العلمُ به: وهو أنه يُتصوَّر أنْ يَبْدأ هذا فيَعْمل ديباجاً ويُبْدِعَ في نقشِه وتصويره، فيجيءُ آخرُ ويَعْمل ديباجاً آخرَ مثْلَه في نقْشهِ وهيئتِه وجملةِ صفتِه، حتى لا يَفْصِلَ الرائي بينهما، ولا يقَعَ لمن لم يَعْرِفْ القصةَ ولم يَخْبُر الحالَ إلا أنهما صنعةُ رجلٍ واحدٍ، وخارجان من تحت يدٍ واحدةٍ. وهكذا الحكْم في سائرِ المصنوعاتِ، كالسِّوار يَصوغُه هذا، ويجيءُ ذاكَ فيعمل سوارًا مثله، ويؤدي صفته كما هي2، حتى لا يُغادِرَ منها شيئاً البتة.

_ 1 "الشنف"، القرط يلبس في أعلى الأذن، أو القرط عامة، والجمع "شنوف وأشناف". 2 في المطبوعة: "صنعته"، وعند رشيد رضا في نسخة أخرى كما هنا.

303 - وليس يُتَصوَّر مثلُ ذلك في الكلامِ، لأنه لا سبيلَ إِلى أن تجيء إلى معنى بيتٍ مِنَ الشعرٍ، أو فْصِلٍ منَ النثرِ، فتؤديه بعينه وعلى خاصيته وصفته بعبارةأخرى1، حتى يكونَ المفهومُ مِن هذهِ هو المفهومُ مِن تلكَ، لا يُخالِفُه في صِفَةٍ ولا وَجْهٍ ولا أمرٍ من الأُمور. ولا يَغُرَّنَّكَ قولُ الناسِ: "قد أتى بالمعنى بعينِه، وأخَذَ معنى كلامِهِ فأَدَّاهُ على وجههِ"، فإِنه تَسَامحٌ منهم، والمرادُ أنه أدَّى الغرَضَ، فأمَّا أن يؤدِّيَ المعنى بعينهِ على الوجْه الذي يكونُ عليه في كلامِ الأوَّلِ، حتى لا تَعْقِلَ ههنا إِلاّ ما عقَلْتَه هناك، وحتى يكونَ حالُهما في نفْسِك حالَ الصورَتَيْنِ المشتبهتَيْنِ في عينك كالسوارَيْن والشَّنْفَيْن، ففي غاية الإِحالةِ، وظنٌّ يُفضي بصاحبهِ إِلى جهالةٍ عظيمةٍ، وهي أنْ تكونَ الألفاظُ مختلفةَ المعاني إِذا فُرِّقتْ، ومتَّفِقَتهَا إِذا جُمِعَتْ وأُلِّفَ منها كلامٌ. وذلك أنْ ليسَ كلامُنا فيما يُفْهَمُ من لفظتينِ مفردَتْين نحوُ "قعد" و "جلس"، ولكنْ فيما فُهم من مجموعِ كلامٍ ومجموعِ كلامٍ آخرَ، نحوُ أنْ تنظر في قولِهِ تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]، وقولِ الناسِ: "قتلُ البعضِ إحياءٌ للجميع"2، فإِنَّه وإنْ كان قد جرَتْ عادةُ الناسِ بأنْ يقولوا في مثل هذا: "إنهما عباراتان معبَّرُهما واحدٌ"، فليس هذا القولُ قولاً يمكنُ الأخذُ بظاهرِهِ، أوْ يَقَعُ لعاقلٍ شكٌّ أنْ لَيسَ المفهومُ مِن أحدِ الكلامَيْن المفهومَ من الآخر.

_ 1 في المطبوعة: "وصنعته"، وعند رشيد رضا في نسخة اخرى كما هنا. 2 انظر ما سيأتي رقم: 461.

فصل: بيان في شأن الكناية والاستعارة والتمثيل: 304 - الكلامُ على ضَرْبين: ضربٌ أنتَ تَصِلُ منه إِلى الغَرضِ بدلالةِ اللفظِ وحدَه، وذلك إِذا قصَدْتَ أن تُخْبِر عن "زيدٍ" مثلاً بالخروجِ على الحقيقة، فقلتَ: "خرجَ زيدٌ"، وبالانطلاقِ عن "عمرو" فقلتَ: "عمروٌ منطلِقٌ"، وعلى هذا القياسِ. وضربٌ آخرُ أنتَ لا تصِلُ منه إِلى الغرضِ بدلالة اللفظِ وحدَه، ولكنْ يدلُّكَ اللفظُ على معناه الذي يَقْتضيه موضوعُهُ في اللغُّة، ثُمَّ تَجدُ لذلك المعنى دَلالةً ثانيةٌ تَصِلُ بها إلى الغَرَض. ومَدارُ هذا الأمر على "الكناية" و"الاستعارة" و"التمثيل"، وقد مضتِ الأمثلةُ فيها مشروحة مُستقصاةً1. أوَ لا تَرى أنكَ إذا قلْتَ: "هو كثيرُ رمادِ القِدْر"، أو قلتَ: "طويلُ النجادِ"، أو قلتَ في المرأةِ: "نَؤُومُ الضحى"، فإنَّكَ في جميعِ ذلك لا تُفيدُ غرضَك الذي تعني من مجرد اللفظ، ولكن نيدل اللفظُ على معناه الذي يُوجِبُهُ ظاهرهُ، ثم يَعْقِلُ السامعُ من ذلك المعنى، على سبيلِ الاستدلالِ، معنًى ثانياً هو غَرَضُك، كمعرفتِكَ مِنْ "كثيرِ رمادِ القدرِ" أنه مضيافٌ، ومن "طويلِ النِّجاد" أنه طويلُ القامة، ومن "نؤوم الضحى" في المرأة أنها مُتْرفَةٌ مخدومةٌ، لها مَنْ يَكفيها أَمْرَها. وكذا إِذا قال: "رأيتُ أسداً"، ودلَّكَ الحالُ على أنه لم يُرِدِ السبعَ، علمتَ أنه أرادَ التشبيهَ، إِلا أنَّه بالغَ فجعلَ الذي رآه بحيث لا يتميِّزُ عن الأسد في شجاعته.

_ 1 انظر ما سلف من أول الفقرة: 57.

وكذلك تعلم من قولهِ: "بَلَغَني أنك تُقَدِّمُ رجلاً وتؤخر أَخرى"، أنَّه أراد التردُّدَ في أمرِ البَيْعة واختلافِ العَزْم في الفعلِ وتَرْكِه، على ما مضى الشرح فيه1. بيان في شرح قوله: "المعنى"، و"معنى المعنى" وهو فصل جيد: 305 - وإذ قد عرفت هذه الجملة، فههنا عبارة مختصرة وهي أن تقول: "المعنى"، و "معنى المعنى"، تعني بالمعنى المفهومَ من ظاهرِ اللفظِ والذي تَصِلُ إليه بغير واسطة و"بمعنى المعنى"، أن تَعْقِل من اللفظِ معنًى، ثم يُفضي بكَ ذلكَ المعنى إِلى معنى آخرَ، كالذي فسَّرْتُ لك. 306 - وإذْ قد عرفتَ ذلك، فإِذا رأيتَهم يجعلونَ الألفاظَ زينةً للمعاني وحِلْيةً عليها أو يجعلونَ المعاني كالجواري، والألفاظَ كالمعارضِ لها2، وكالوشْيِ المحبَّر واللباس الفاخرِ والكُسْوة الرائقة، إِلى أشباهِ ذلك مما يُفخِّمون به أمرَ اللفظِ، ويجعلونَ المعنى يُنبل به ويشرُفُ3 فاعلمْ أنهم يضعون كلامًا قد أعطاكَ المتكلمُ أغراضَه فيهِ مِنْ طريقِ معنى المعنى4، فكنَّى وعرَّضَ، ومثَّل واستعارَ، ثم أحْسَنَ في ذلك كلِّه وأصابَ، ووضعَ كلَّ شيءٍ منه في موضعِهِ، وأصابَ به شاكلتَه، وعمَد فيما كنَّى به وشبَّهَ ومثَّلَ، لما حسُنَ مأخذُه، ودَقَّ مسلَكُه، ولطُفَتْ إشارتُه، وأن المِعْرَضَ وما في معناه، ليس في اللَفْظَ المنطوقَ به، ولكنْ معنى اللفظِ الذي دَلَلْتَ به على المعنى الثاني، كمعنى قولِه:

_ 1 انظر ما سلف من أول الفقرة: 57. 2 "المعارض" جمع "معرض"، بكسر الميم، وهو الثوب تعرض فيه الجارية وتجلي. 3 السياق: "فإذا رأيتهم يجعلون الألفاظ ... فاعلم". 4 في المطبوعة: "فاعلمْ أنهم يَضَعونَ كلاماً قد يُفخِّمون به أمر اللفظ، ويجعلون المعنى أعطاك المتكلم فيه أعراضه .... ". وليس هذا في "ج" ولا "س"، فأثبت ما فيهما، وهو الصواب.

.... ..... .......... ........ فإِنّي ... جبانُ الكَلْبِ مهزولُ الفصيلِ1 الذي هو دليلٌ على أنَّه مِضْيافٌ، فالمعاني الأُوَلُ المفهومةُ من أنْفُس الألفاظِ هي المَعارِضُ والوشْيُ والحَلْيُ وأشباهُ ذلكَ، والمعاني الثَّواني التي يُومَأُ إِليها بتلكَ المعاني، هي التي تُكْسَى تلك المعارضَ، وتزين بذلك الوشي والحلي2.

_ 1 بيت شعر، وسيأتي بتمامه في رقم: 364، وصدر: وما يك في من عيب فإني 2 في هامش "ج" حاشية هي من كلام عبد القاهر، كما رجحت، هذا نصها: "ههنا نكتة، وهي أن الوشي من الثياب يكون وشيًا كان على اللابس، أو كان قد خلع وترك ... دلوا بها على معان ثوان تكون وشيًا وحليًا ما دامت لباسًا لتلك المعاني، فإذا خلعت عنها ونظر إليها منزوعة منها، لم تكن وشيًا ولا حليًا. فلو قلت: "فصلان فلان [هزلي] "، وأنت لا تكنى بذلك عن نحره أمهاتها للضيافة، لم يكن من معنى الوشى والحلى في شيء. وكذلك يتغير الحال بأن تحول الشيء من ذلك عما كنوا به عنه، فلو جعلت قوله: ولا ابتاع إلاقرينة الأجل في صفة قصاب، لم يكن من الحسن الذي هو له الآن في شيء، فاعرفه". يقول أبو فهر: مكان النقط مطموس في التصوير، وسيأتي البيت الذي أنشده بعد قليل، برقم: 311، وصدره: لا أمتع لاعوذ بالفصال وقوله آنفا: "فصلان فلان [هزلي] "، إشارة إلى البيت الذي سيأتي بعد قليل: "فإني جبان الكلب مهزول الفصيل".

307 - وكذلك إِذا جَعَلُوا المعنى يُتَصَوَّرُ من أجلِ اللفظِ بصورةٍ، ويبدو في هيئةٍ، ويتشكَّل بشكلٍ يُرجِع المعنى في ذلكَ كلِّه إِلى الدلالاتِ المعنوية، ولا يصلُح شيءٌ منه حيثُ الكلامُ على ظاهرهِ، وحيثُ لا يكون كناية ولا تمثل ولا استعارةٌ1، ولا استعانةٌ في الجملةِ بمعنىً على معنًى، وتكونُ الدلالةُ على الغَرض مِنْ مجرَّد اللفظِ، فلو أَنَّ قائلاً قال: "رأيتُ الأسَدَ"، وقال آخرُ: "لَقِيتُ الليثَ"، لم يَجُزْ أن يقال في الثاني انه صورالمعنى فيغير صورتِهِ الأُولى، ولا أنْ يُقال أبرزَهُ في معرضٍ سِوى معرضِه، ولا شيئاً من هذا الجنسِ. وجملةُ الأمر أنَّ صُوَرَ المعاني لا تتغيَّر بِنَقْلها من لفظٍ إلى لفظٍ، حتى يكونَ هناك اتساعٌ ومجازٌ، وحتى لا يُرادَ منَ الألفاظِ ظواهرُ ما وُضِعَتْ له في اللغة، ولكنْ يُشارُ بمعانيها إِلى معانٍ أُخَرَ. 308 - واعلمْ أن هذا كذلكَ ما دامَ النظْمُ واحداً، فأمَّا إِذا تغيَّر النظْمُ فلا بدَّ حينئذٍ من أنْ يتغيَّر المعنى، على ما مضى منَ البيانِ في "مسائلِ التقديمِ والتأخيرِ"2، وعلى ما رأيت في المسئلة التي مضَت الآنَ3، أعني قولَك: "إنَّ زيداً كالأسد"، و "كأن زيداً الأسدُ"، ذاكَ لأَنَّه لم يتغيَّر من اللفظِ شيءٌ، وإِنَّما تغيَّرَ النظمُ فقط. وأما فتْحُكَ "أَنْ" عندَ تقديم الكاف وكانتْ مكسورةً فلا اعتدادَ بها، لأنَّ معنى الكَسْرِ باقٍ بحاله.

_ 1 في المطبوعة: "وحيثُ لا يكونُ كنايةٌ وتمثيلٌ به ولا استعارة"، وهو فاسد. 2 انظر ما سلف برقم: 98، وما بعده. 3 انظر ما سلف قريبًا رقم:

309 - واعلمْ أنَّ السببَ في أَنْ أَحالوا في أشباهِ هذِه المحاسنِ التي ذكرْتُها لكَ على اللفظِ، أنها ليستْ بأنفُس المعاني، بل هي زياداتٌ فيها وخصائصُ. ألا ترى أنْ ليستِ المزيةُ التي تجدُهَا لِقولك: "كأنَّ زيداً الأسدُ" على قولك: "زيد كالأسد"، لشيء خارجٍ عن التشبيه الذي هو أصْل المعنى1، وإِنما هو زيادةٌ فيه وفي حُكْم الخصوصيَّةِ في الشَّكْلِ، نحْو أن يُصاغَ خاتمٌ على وجهٍ، وآخرُ على وجهٍ آخرَ، تَجمعُهما صورةُ الخاتَمِ، ويفترقان بخاصَّةٍ وشيءٌ يُعْلَم، إلاَّ أنه لا يُعْلَم منفرداً. ولمَّا كانَ الأمرُ كذلك، لَم يُمكِنْهم أنْ يُطلِقوا اسمَ المعاني على هذه الخصائص، إِذا كان لا يَفترِقُ الحالُ حينئذٍ بينَ أصْلِ المَعنى، وبين ما هو زيادةٌ في المعنى وكيفيةٌ له وخصوصيةٌ فيه، فلمَّا امتنعَ ذلكَ تَوصَّلوا إِلى الدَّلالة عليها بأنْ وَصفوا اللفْظَ في ذلك بأوصافٍ يُعْلمُ أنها لا تكونُ أوصافاً له من حيثُ هو لفظٌ، كنحْوِ وصْفِهم له بأنَّه لفظٌ شريفٌ، وأنه قد زانَ المعنى، وأنَّ له ديباجةً، وأنَّ عليه طُلاوة، وأنَّ المعنى منه في مثلِ الوشْي، وأنه عليه كالحَلْي، إِلى أشباهِ ذلك مما يُعْلَم ضرورةً أنه لا يُعنَى بمثلِه الصوتُ والحرفُ. ثمَّ إِنه لمَّا جرَت به العادةُ واستمرَّ عليه العُرفُ وصارَ الناسُ يقولون اللفظَ واللفظ لزم من ذلكَ بأنفُسِ أقوامٍ باباً منَ الفسادِ2، وخامَرهم منه شيء لست أحسن وصفه.

_ 1 في المطبوعة: "شيئًا خارجًا". 2 يقال: "لزه يلزه لزًا"، شده وألصقه وقرنه به، وأصله من "لزاز البيت"، وهو الخشبة التي يلز بها الباب. في "ج": "لز ذلك"، وفي المطبوعة: "لز ذلك .... بابًا"، وكلاهما خطأ والصواب في "س".

فصل: بيان في استعمال "اللفظ"، والمراد به دلالة المعنى على المعنى: 310 - ومِن الصفاتِ التي تجدهُم يُجْرُونها على "اللفظ"، ثمَّ لا تَعترضِكُ شُبهةٌ ولا يكونُ منكَ توقُّفٌ في أنها ليستْ له، ولكنْ لمعناه، قولُهم: "لا يكونُ الكلامُ يستحقُّ اسمَ البلاغةِ حتى يُسابِقَ معناهُ لفظَهُ، ولفظُه معناه، ولا يكونَ لفظُه أسبقَ إِلى سمعك من معناه إِلى قلبكَ" وقولُهم: "يدخلُ في الأُذن بلا إذْن"، فهذا مما لا يَشُكُّ العاقلُ في أنه يَرجِعُ إِلى دلالةِ المعنى على المعنى، وأنه لا يُتصوَّر أنْ يُرادَ به دلالةُ اللفظِ على معناه الذي وُضِع له في اللغةِ. ذاك لأَنهُ لا يَخلو السامِعُ من أنْ يكونَ عالِماً باللغةِ وبمعاني الألفاظِ التي يَسمعُها، أو يكونَ جاهلاً بذلك. فإِن كانَ عالِماً لم يُتَصوَّرْ أنْ يَتفاوتَ حالُ الألفاظِ معه، فيكونَ معنى لفظٍ أسرعَ إِلى قلبِه من معنى لفظٍ آخرَ وإنْ كان جاهلاً كان ذلك في وصفهِ أبْعدَ. وجملةُ الأمرِ أنَّه إِنما يُتصوَّر أن يكونَ لمعنى أسرعَ فهماً منه لِمعنىً آخرَ، إِذا كانَ ذلك مما يدرَكُ بالفكْر، وإِذا كان مما يتجدَّد له العلمُ به عند سَمْعِه للكلامِ. وذلك مُحالٌ في دلالاتِ الألفاظ اللغوية، لأن طريقَ معرفتها التوقيف، والتقديم بالتعريفِ. 311 - وإذا كان ذلك كذلك، عُلِمَ عِلْمَ الضرورةِ أنَّ مصْرِفَ ذلك إِلى دلالات المعاني على المعاني، وأنهم أرادوا أنَّ مِن شَرْط البلاغة أنيكون المعنى الأولُ الذي تجعلُه دليلاً على المعنى الثاني ووَسيطاً بينَكَ وبينَه، متمكِّناً في دلالتِه، مستقلاً بوسّاطَتهِ، يَسْفُرُ بينَكَ وبينَه أحْسَنَ سِفارة، ويُشيرُ لك إليهِ

أبْيَنَ إِشارةٍ، حتى يخيَّلَ إِليكَ أنَّك فهِمْتَه من حاقِّ اللفظِ، وذلك لقِلَّة الكُلفة فِيه عليكَ، وسرعةِ وصولهِ إِليكَ، فكانَ من "الكنايةِ" مثل قوله: لا أُمتِعُ العُوذَ بالفِصَالِ، ولا ... أبتاعُ إِلاَّ قريبة الأجل1 ومن "الاستعارة" مثل قوله: وصَدْرٍ أراحَ الليلُ عازِبَ هَمِّهِ ... تضاعَفَ فيه الحُزْنُ مِنْ كُلِّ جانِبِ2 ومن "التمثيلِ" مثلَ قوله: لا أَذُودُ الطيرَ عَنْ شَجَرٍ ... قد بلَوْتُ المُرَّ مِنْ ثَمَرِهْ3 312 - وإِنْ أردتَ أنْ تعرِفَ ما حالُه بالضِّدِّ من هذا4، فكانَ منقوصَ القوَّة في تأديةِ ما أريدَ منه، لأَنَّهُ يعترِضُه ما يَمنعه أن يَقْضيَ حقَّ السِّفارةِ فيما بينكَ وبينَ معناكَ، ويُوضحَ تمامَ الإيضاحِ عن مَغْزاك، فانظرْ إِلى قولِ العباسِ بنِ الأحنف: سأَطلبُ بُعْد الدارِ عنكُمْ لِتَقْربوا ... وتَسْكُبُ عينايَ الدموع لتجمدا5

_ 1 الشعر لإبراهيم بن هرمة في شعره "المجموع: 158. و "العوذ" جمع "عائذ"، وهي الناقة الحديثة النتاج، إذا ولدت من عشرة أيام إلى خمسة عشر يومًا، ثم هي "مطفل"، تعوذ بولد وتقيم معه، أو يعوذ بها ولدها ليرضعها. و "الفصال" جمع "فصيل"، وهو ولد الناقة، ويجمع على "فصلان" أيضًا، وسيأتي برقم: 365، ثم رقم: 369. 2 هو للنابغة الذبياني، في ديوانه. 3 هو لأبي نواس في دويانه. 4 في المطبوعة: "ما له بالضد". 5 في ديوانه.

بدأَ فدلَّ بسَكْبِ الدموعِ على ما يُوجِبه الفِرَاقُ منَ الحُزْن والكَمَد، فأحْسَنَ وأصابَ، لأنَّ مِن شأنِ البكاءِ أبداً أن يكونَ أمارةً للحُزنِ، وأنْ يُجْعَلَ دَلالةً عليه وكنايةً عنه، كقولِهم: "أبكاني وأضْحكَني"، على معنى "ساءني وسرَّني"، وكما قال: أبكانيَ الدهرُ، ويا رُبّما ... أضْحَكني الدهْرُ بِما يُرْضي1 ثم ساقَ هذا القياسَ إِلى نقيضِه، فالتمسَ أن يَدُلَّ على ما يُوجبهُ دوامُ التَّلاقي من السرورِ بقولِه: "لتجمُدا"، وظنَّ أنَّ الجمودَ يَبْلغُ له في إفادةِ المسرَّة والسلامةِ من الحزنِ ونظرَ إِلى أن الجمودَ خُلُوُّ العينِ من البَكاء وانتفاءُ الدموعِ عنها، وأنه إِذا قالَ "لتجمدا"، فكأنَّه قال: "أحزنُ اليومَ لئلاَّ أحزنَ غداً، وتبكي عيناي جهدَهما لئلاَّ تبكيا أبداً" وغَلِطَ فيما ظنَّ، وذاك أنَّ الجمودَ هو أن لا تبكي العين، ويستراب في أنْ لا تَبْكي2، ولذلكَ لا ترَى أحداً يذكرُ عينَه بالجمودِ إلاَّ وهُوَ يشكوها ويذمُّها وينسبها إلى البخل، ويعدُّ امتناعها من البكاءِ تَرْكاَ لمعونةِ صاحِبها على ما بهِ من الهم، ألا ترى إلى قوله: ألاَ إِنَّ عَيناً لم تَجُدْ يومَ واسِطٍ ... عليك بجاري دمعها لجمود3

_ 1 هو لحطان بن المعلي، والشعر في الحماسة شرح التبريزي 1: 152، والزهرة 2: 188. 2 في المطبوعة: "ويشتكي من أن لا تبكي"ن وفي "ج" و "س": "وتستراد في أن لا تبكي"، ورجحت ان الصواب: "يستراب"، أي يدخل على المرء فيها لاريبة والشك. 3 لشعر لأبي عطاء السندي، بقوله في ابن هبيرة، وقلته المنصور بواسط بعد أن آمنه، شرح الحماسة للتبريزي 2" 151.

فأتَى بالجمودِ تأكيداً لنفي الجُودِ، ومُحالٌ أن يَجْعَلها لا تَجودُ بالبكاءِ وليس هناك التماسُ بكاءٍ، لأنَّ الجودَ والبُخْل يَقْتضيانِ مطلوباً يُبْذَلُ أو يُمْنَعُ، ولو كان الجمودُ يَصْلُح لأنْ يُرادَ به السلامةُ منَ البكاء، ويصِحَّ أن يُدَلَّ به على أنَّ الحالَ حالُ مَسَّرةٍ وحُبورٍ، لجازَ أن يُدْعى به للرجلِ فيقالَ: "لا زالتْ عينُك جامدةً"، كما يقالُ: "لا أبكى اللهُ عينَكَ"، وذاك مما لا يُشَكُّ في بُطْلانه. وعلى ذلك قولُ أهل اللغةِ: "عينٌ جَمُودٌ، لا ماءَ فيها، وسنةٌ جمادٌ، لا مطرَ فيها، وناقةٌ جمادٌ، لا لَبَن فيها"، وكما لا تُجْعَلُ السنةُ والناقةُ جماداً إلاَّ على مَعْنى أنَّ السنةَ بخيلةٌ بالقَطْر، والناقةُ لا تَسْخُو بالدُّرِّ، كذلك حُكْمُ العينِ لا تُجْعَل "جَمُوداً" إِلا وهناكَ ما يَقْتضي إرادةَ البكاءِ منها، وما يَجْعَلُها إِذا بكَتْ مُحْسِنةً موصوفَةً بأنْ قَدْ جادَتْ وسخَتْ وإِذا لم تَبْكِ، مسِيئةً موصوفةً بأنْ قد ضنَّتْ وبَخِلَتْ. 313 - فإنْ قيلَ: إِنه أرادَ أن يقولَ: "إِني اليومَ أَتجرَّعُ غُصَصَ الفِراقِ، وأحْمِلُ نَفْسي على مُرِّهِ، واحْتمِلُ ما يُؤدِّيني إِليه من حُزْنٍ يُفيضُ الدموعَ مِنْ عَيني ويَسْكُبُها، لكي أتسبَّب بذلك إلى وصْلٍ يدومُ، ومسَرَّةٍ تتَّصِلُ، حتى لا أعرِفَ بعدَ ذلك الحزنَ أصْلاً، ولا تعرِفَ عيني البكاءَ، وتصيرَ في أنْ لا تُرى باكيةُ أبداً، كالجَمودِ التي لا يَكُونُ لها دَمْعٌ". 1فإنَّ ذلكَ لا يَستقيمُ ولا يستتب، لأنه يُوقِعُه في التناقضِ، ويَجْعَلُه كأنه قال: "احْتَمِل البكاءَ لهذا الفراقِ عاجلاً، لأصيرَ في الآجِل بدَوَام الوصْلِ واتِّصالِ السُّرورِ في صُورةِ مَنْ يُريد مِنْ عَينِه أنْ تَبكي ثم لا تَبْكي، لأَنها خُلِقَتْ جامدةٌ لا ماءَ فيها"، وذلك مِن التهافُتِ والاضطرابِ بحيثُ لا تنجع الحيلة فيه.

_ 1 هو جواب قوله في اول الفقرة: "فإن قيل".

وجملةُ الأمرِ أَنَّا لا نعلمُ أحداً جعلَ جمود العين دليل سرورة وأمارةَ غِبْطةٍ، وكنايةٍ عن أنَّ الحالَ حالُ فرحٍ. فهذا مثالٌ فيما هو بالضدِّ مما شرَطوا من أنْ لا يكونَ لفظُه أسبقَ إلى سَمعك، من معناهُ إِلى قلبكِ لأنَك ترى اللفظَ يصِلُ إِلى سمعِكَ، وتحتاجُ إِلى أن تحب وتُوضِعَ في طلبِ المعنى. ويَجْري لكَ هذا الشرحُ والتفسيرُ في "النظْمِ" كما جرَى في "اللفظِ"، لأنه إِذا كان النظْمُ سَويّاً، والتأليفُ مستقيماً، كان وُصولَ المعنى إِلى قلبِك، تِلوَ وصولِ اللفظِ إِلى سَمْعك. وإِذا كان على خلافِ ما ينبغي، وصَلَ اللفظُ إلى السمعِ، وبقيت في المعنى تطلبه وتنعب فيه، وإِذا أفرطَ الأمرُ في ذلكَ صارَ إِلى التعقيدِ الذي قالوا: "إِنه يسْتَهِلكُ المعنى". 314 - واعلمْ أنْ لمْ تَضِقِ العبارةُ ولم يُقَصِّرِ اللفظُ ولم يَنْغَلقِ الكلامُ في هذا الباب1، إلاَّ لأنَّه قد تَناهى في الغُموض والخَفَاء إلى أقصى الغايات، وأنكَ لا ترى أغْربَ مَذْهباً، وأعجَبَ طريقاً، وأحْرى بأن تَضْطرِبَ فيه الأراءُ، منه. وما قولُك في شيءٍ قد بلَغ مِنْ أمرِه أن يُدَّعَى على كبار العلماء أنهم لم يَعْلَموه ولم يَفْطِنوا له؟ فقد ترى أنَّ البحتريَّ قال حينَ سُئِلَ عن مسلمٍ وأبي نُوَاس: أيُّهما أشعرُ؟ فقال: أبو نُوَاس. فقيل: فإنَّ أبا العباس ثَعلباً لا يوافقُك على هذا. فقال: ليس هذا من شأنَ ثَعْلَب وذويهِ مِن المُتعاطينَ لعلْمِ الشعرِ دُون

_ 1 في "ج": "يتعلق"، تحت العين "ع"، تثبيتًا لإهمالها، وليس بجيد.

عَمله، إنما يَعْلَمُ ذلك مَنْ دُفِع في مَسْلك طريقِ الشعر إِلى مضايقِه وانتهى إلى ضروراته1. 315 - ثم لم ينفَكَّ العالِمونَ به والذين هُمْ مِنْ أهلِه، من دُخولِ الشُّبهة فيه عليهم، ومن اعتراض السَّهْو والغلطِ لهم. رُويَ عن الأصمعي أنه قال: كنت أشدو من أبي عمرِو بنِ العلاء وخلفٍ الأَحمر2، وكانا يأتيان بشاراً فيُسلِّمانِ عليه بغايةِ الإعظامِ، ثم يقولانِ: يا أبا مُعاذٍ، ما أحدثْتَ؟ فيُخْبِرُهما ويُنْشِدُهما، ويَسْألانِه ويكتبانِ عنه متواضِعَيْن له، حتى يأتيَ وقتُ الزوالِ، ثم ينصرفان. وأتيَاه يوماً فقالا: ما هذه القصيدةُ التي أحدثْتَها في سَلمِ بنِ قُتَيْبَةَ؟ قالَ: هي التي بلَغَتْكُم. قالوا: بلَغَنا أنَّك أكْثَرتَ فيها مِنَ الغَريب. قال: نعَمْ، بلغني أنَّ سَلْم بْنَ قتيبةَ يَتباصَرُ بالغريب، فأحببْتُ أن أوردَ عليه ما لا يَعْرَفُ. قالوا: فانْشِدْناها يا أبا مُعاذ. فأنشدهما: بكرًا صاحبي قبل الهجير ... إذا ذاكَ النجاحَ في التَّبْكيرِ حتى فرَغ منها، فقال له خلفٌ: لو قلتَ يا أبا مُعاذٍ مكانَ "إن ذاك النجاحَ في التبكيرِ".

_ 1 انظر ما سلف رقم: 293. 2 في المطبوعة: "كنتُ أسيرُ مع أبي عمرِو بنِ العلاء"، وفي الأغاني: "كنت أشهد مع خلف بن أبي عمرو بن العلاء". وصاحب الأغاني ساق هذه القصة نفسها منسوبة إلى "خلف بن أبي عمرو بن العلاء"، كا يدل عليه سياقه، ولكن الذي هنا من نسبتها إلى أبيه "أبي عمرو بن العلاء"، أرجع عندي. وهذا يحتاج إلى تفصيل ليس هذا مكانه. وفي هامش المخطوطة "ج" ما نصه: "الشادي، الذي يشدو شيئًا في الأدب، أي يأخذ طرفًا منه كانه ساقه وجمعه، صحاح"، وهو نقل من صحاح الجوهري لكاتب غير كاتب هذه النسخة، وقصيدة بشار في ديوانه.

بكِّرا فالنَّجاحُ في التَّبْكيرِ كان أحسَنَ. فقال بشارٌ: إِنما بنَيْتُها أعرابية وَحْشيَّة فقلتُ: إنَّ ذاكَ النجاح في التبكير، كما يَقولُ الأعرابُ البدويون، ولو قلتُ: "بكِّرا فالنجاحُ"، كانَ هذا من كلامِ المولَّدينَ، ولا يُشْبِهُ ذاكَ الكلامَ، ولا يَدْخُل في معنَى القصيدةِ. قالَ: فقامَ خلَفُ فقبَّلَ بَيْنَ عينيه"1، فهل كان هذا القولُ من خَلَف والنقدُ عَلَى بشارٍ، إِلاّ لِلُطفِ المعنى في ذلك وخفائه؟ "إن"، تغني غناء "الفاء"، في ربط الجملة بما قبلها: 316 - واعلمْ أنَّ مِنْ شأنِ "إنَّ" إِذا جاءتْ على هذا الوجهِ، أَن تُغْني غَناء "الفاءِ" العاطِفةِ مثلاً، وأنْ تُفيدَ من رَبْط الجملةِ بما قبلَها أمراً عجيباً. فأنتَ تَرى الكلامَ بها مستأنفًا غير مستأنف، ومقطوعًا موصولاً معاً. أفلا تَرى أنك لو أَسْقَطْتَ "إنَّ" من قولِهِ: "إنَّ ذاك النجاحَ في التبكيرِ"، لم تَرَ الكَلاَم يلتئِمُ، ولرأيتَ الجملةَ الثانيةَ لا تتَّصل بالأولى ولا تكونُ منها بسبيلي، حتى تجيءَ بالفاءِ فتقولُ: "بكِّرا صاحبيَّ قبلَ الهجير، فذاك النجاح في التبكير" ومثله قوله بعضِ العرب: فغَنِّهَا وهْي لكَ الفِداءُ ... إنَّ غِناءَ الإِبلِ الحُداءُ2 فانظرْ إِلى قولِه: "إنَّ غِناءَ الإبلِ الحداءُ"، وإِلى ملاءمَتِهِ الكلامَ قبلَه، وحسْنِ تشبثِه به، وإِلى حُسْن تعطُّفِ الكلامِ الأول عليه. ثم انظر إذا تركت

_ 1 هذه القصة بهذا اللفظ في الأغاني 3: 190، وفيها الخلاف الذي أشرت إليه في التعليق السابق. وستأتي الإشارة إليه في رقم: 372. 2 سيأتي أيضًا في رقم: 372.

"إنَّ" فقلتَ: "فغنِّها وهيَ لك الفداءُ، غناءُ الإِبلِ الحداءُ"، كيفَ تكونُ الصورةُ؟ وكيفَ يَنْبو أحَدُ الكلامَيْن عنِ الآخَرِ؟ وكيف يُشئِم هذا ويعرق ذلك؟ حتى لا تَجدَ حيلةً في ائتلافِهما حتى تَجْتَلِبَ لهما "الفاءَ" فتقول: "فغنِّها وهيَ لكَ الفداءُ، فغناءُ الإبلِ الحُداء"، ثم تعلَّمْ أنْ ليستِ الأُلفةُ بينهما مِنْ جنسِ ما كانَ، وأنْ قد ذَهبتِ الأنَسَة التي كنتَ تَجِدُ، والحسن الذي كنت ترى. فصل في "كاد"، وتفسير قولهم: "لم يكد يفعل": 317 - ورويَ عن [عَنبسة] أنه قال: قدِمَ ذو الرمة الكوفةَ فوقفَ يُنشِدُ الناسَ بالكناسة قصيدته الحائية التي منها1: هِيَ البُرْءُ، والأسقامُ، والهمُّ، والمُنى، ... وموتُ الهَوى في القَلْبِ مِنّي المبرِّحُ وكانَ الهَوى بالنأْي يُمْحَى فيمَّحي، ... وحُبُّكِ عِنْدي يَستجِدُّ ويَرْبَحُ إِذا غيَّرَ النّّأيُ المحبِّينَ لمْ يَكَدْ ... رسَيسُ الهَوى مِنْ حُبِّ ميَّةَ يَبْرَحُ قال: فلما انتهى إِلى هذا البيتِ ناداه ابنُ شُبْرُمَة: يا غيلانُ، أراه قد بَرِحَ! قالَ: فشنَق ناقَتَه وجعَل يتأَخَّر بها ويفكر2، ثم قال: إِذا غيَّر النأيُ المحبينَ لم أَجِدْ ... رسَيسَ الهوى مِن حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ

_ 1 هكذا هنا "عن عنبسة"، وأرجح أنه خطأ، ولذلك وضعته بين قوسين لأن راوي الخبر هو "عبد الصمد بن المعذل، عن جده غيلان بن الحكم بن البختري بن المختار"، كما في المراجع التالية، و "الكناسة"، محلة بالكوفة، كان الناس يجتمعون في سوقها. وشعر ذي الرمة في ديوانه، ورواية البيت الثاني: وبعض الهوى بالهجر ... "، وهي أجود. و "رسيس الهوى"، ما ثبت منه في سرارة قلبه. 2 "شنق البعير"، جذبه بزمامه حتى يرفع رأسه، وفي "س": "شنق بناقته"، وفي المطبوعة وحدها: ويتفكر".

قال: فلما انصرفتُ حدثتُ أبي1، قال: أخطأَ ابنُ شُبْرُمة حين أنكَرَ على ذي الرُّمة ما أنكر2، وأخطأ ذو الرُّمة حين غيَّر شِعْرَه لقولِ ابن شبرمة، إِنما هذا كقولِ اللهِ تعالى: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40]، وإِنما هُوَ: لم يَرَها ولم يَكَدْ3. 318 - واعلمْ أنَّ سبَبَ الشُّبهةِ في ذلكَ أَنَّه قد جَرَى في العُرفِ أن يقالَ: "ما كادَ يفعل" و "لم يكدْ يفعلُ" في فعلٍ قد فُعِلَ، على معنى أنَّهُ لم يَفْعل إلاَّ بعْدَ الجهدِ، وبعد أن كان بعيدًا الظنِّ أنْ يَفْعَله، كقولِه تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71]، فلمَّا كانَ مجيءُ النفيِ في "كادَ" على هذا السبيلِ، توهَّم ابنُ شُبْرُمةَ أنَّه إِذا قال: "لم يكَدْ رسيسُ الهوى مِن حبِّ ميَّةَ يبرحُ" فقد زَعم: أنَّ الهَوى قد بَرِح، ووقعَ لذي الرُّمة مثلُ هذا الظنِّ. وليس الأمرُ كالذي ظنَّاهُ، فإنَّ الذي يقتضيهِ اللفظُ إذا قيل: "لم يكد يفعل" و "ما كادَ يَفعل"، أنْ يكونَ المرادُ أنَّ الفعلَ لم يكنْ من أصْله، ولا قارَبَ أن يكونَ، ولا ظُنَّ أنَّه يكونُ. وكيفَ بالشكِّ في ذلك؟ وقد عَلِمْنا أنَّ "كادَ" موضوعٌ لأنْ يَدُلَّ على شدَّةِ قُرْب الفِعلِ من الوقوعِ، وعلى أنه قد شارَفَ الوجودَ. وإِذا كان كذلك، كان مُحالا أن يوجِبَ نَفْيُه وجودَ الفعلِ، لأنه يؤدِّي إِلى أن يوجِبَ نفيُ مقاربةِ الفعلِ الوجودَ وجودَه4، وأن يكون قولك:

_ 1 "حدثت أبي" قائله "غيلان بن الحكم"، وأبوه هو "الحكم بن ابختري بن البختار"، و "ابن شبرمة"، هو "عبد الله بن شبرمة الضبي"، كان شاعرًا فقيهًا قاضيًا جوادًا ورعًا، من الرجال الكبار. 2 "ما أنكر" زيادة من "س"، وفي الأغاني: "ما أشند". 3 الخير بتمامه في الموشح: 179، 180، والأغاني 18: 34، "الهيئة". 4 "وجوده" منصوب مفعول "يوجب" أي يوجب هذا النفي وجوده.

"ما قاربَ أنْ يَفْعل"، مقْتضِياً على البتَّ أنه قد فعل1. 319 - وإذا قد ثبتَ ذلك، فمن سبيلكَ أن تَنْظُر. فمتى لم يكنِ المعنى على أنه قد كانت هناك صورةٌ تقتضي أنْ لا يكونَ الفعلُ، وحالٌ يَبعُدُ معَها أن يكونَ، ثُمَّ تغيَّرَ الأمرُ، كالذي تراهُ في قولِهِ تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71]، فليس إلاَّ أن تُلزِمَ الظاهرَ، وتجعلَ المعنى على أنك تَزْعمُ أنَّ الفعلَ لم يقارِبْ أن يكونَ، فضلاً عن أن يكون. فالمعنى إذن في بيتِ ذي الرّمة على أنَّ الهوى مِنْ رسوخِه في القلبِ، وثُبوته فيه وغلَبَته على طِباعِه، بحيثُ لا يُتوَهَّم عليه البِراحُ، وأنَّ ذلك لا يقارِبُ أن يكونَ، فضلاً عن أن يكونَ، كما تقولُ: "إِذا سَلاَ المُحِبُّونَ وفَتَروا في محبتهم، لم يقع لي في وهم، ولم يجر متى على بالٍ: أنه يجوزُ عَلَيَّ ما يُشْبِه السلوة، وما بعد فترةً، فضلاً عن أنْ يُوجَدَ ذلك مني وأصبر إِليه. وينبغي أنْ تعلمَ أنَّهُمْ إِنما قالوا في التفسير: "لم يَرها ولم يكد"، فبدأُوا فنقوا الرؤية، ثم عطفوا "لم يكد" عليه، ليعموك أنْ ليس سبيلُ "لم يكد" ههنا سبيلَ "ما كادوا" في قولهِ تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71]، في أنه نَفْيٌ معقِّبٌ على إثباتٍ، وأنْ ليس المعنى على أنَّ رؤيةً كانت مِنْ بعْدِ أن كادتْ لا تكون، ولكنَّ المعنى على أنَّ رؤيتَها لا تُقارِب أنْ تكونَ، فضلاً عن أن

_ 1 في هامش "ج" حاشية لعبد القاهر، هذا نصها: "إذا لم يقع في جواب "إذا"، وجب أن يتقدمه نفي كقولك: "ما فعله ولا كاد يفعل، فاعرفه". يقول أبو فهر: قوله: "إذا لم يقع، يعني نفي "كاد".

نكون، ولو كان "لَم يكَدْ" يُوجِب وجودَ الفعلِ، لكان هذا الكلام متهم مُحالاً جارياً مَجْرى أن تقولَ: "لم يَرَها ورآها"، فاعرفْه. 320 - وههنا نكتةٌ، وهي أنَّ "لم يكد" فيالآية والبيت واقع في جواب "إذا"، والمضاي إِذا وقَعَ في جوابِ الشرطِ على هذا السبيلِ، كان مستقبَلاً في المعنى فإِذا قلتَ: "إِذا خرجْتَ لمْ أخرُجْ"، كنتَ قد نفَيْتَ خروجًا فيما سيتقبل. وغّا كان الأَمر كذلكَ، استحالَ أن يكونَ المعنى في البيتِ أو الآيةِ على أنَّ الفعلَ قد كانَ، لأنه يؤدِّي إِلى أن يجيءَ "بلم أفعلْ" ماضياً صريحاً في جوابِ الشرطِ فتقول: "إِذا خرجتَ لم أخرجْ أمسِ"، وذلك محالٌ. ومما يتَّضِحُ فيه هذا المعنى قولُ الشاعر: ديارٌ لجهمَةَ بالمُنْحَنى ... سَقاهُنَّ مرتجزٌ باكرُ وراحَ عليهنَّ ذو هَيْدَبِ ... ضعيفُ القُوى، ماؤهُ زاخِرُ إذا رامَ نَهْضاً بها لَمْ يَكَدْ ... كذِي الساقِ أَخْطأَها الجابِرُ1 321 - وأعودِ إِلى الغرضِ. فإِذا بلغَ من دقةِ هذه المعاني أنْ يَشْتَبهِ الأمرُ فيها على مثْل خَلَفٍ الأحمرِ وابنِ شُبرمة، وحتى يشْتبهِ على ذي الرُّمة في صواب قاله، فيرى أنه غير صواب، فمنا ظنك بغيرهم؟ وما يعجبك من أن يكثر التخليط فيه؟

_ 1 أذكر الشعر، ولكن لا أدري أين هو. يصف سحابًا، وهو "المرتجز الباكر"، و "المرتجز" السحاب المتتابع الرعد، يكون بطيء الحركة لكثرة مائة. و "الباكر"، السحاب الذي يأتي من أخر الليل عند السحر.

"كل"، وتفصيل القول فيها في النفي والإثبات، وأمثلة ذلك: 322 - ومِنَ العَجَب في هذا المعنى قولُ أبي النجم: قدْ أصبَحَتْ أُمُّ الخيارِ تدَّعي ... عليَّ ذَنْباً كُلُّه لَمْ أصْنَعِ1 قد حمَلَهُ الجميعُ على أنَّه أَدْخَلَ نَفْسَه مِنْ رفع "كلُّ" في شيءٍ إِنما يجوزُ عندَ الضَّرورةِ، مِنْ غيرِ أن كانت به إليه ضرورةٌ. قالوا: لأَنَّه ليس في نَصْبِ "كلّ" ما يَكْسِرُ له وَزْناً، أو يَمنَعُهُ مِنْ معنى أَرادهُ. وإِذا تأمَّلتَ وجدْتَه لم يَرتكِبْه ولم يَحْمِل نفسَه عليه إلاَّ لحاجةٍ له إِلى ذلكَ، وإلاَّ لأنَّه رأى النَّصْبَ يَمنعُه ما يريدُ. وذاك أنه أرادَ أنها تدَّعي عليه ذَنباً لم يَصْنع منه شيئاً البتَّةَ لا قليلًا ولا كثيرًا ولابعضًا ولا كُلاًّ. والنصْب يَمنعُ من هذا المعنى، ويَقْتضي أن يكونَ قد أتى منَ الذنبِ الذي ادَّعته بعْضَه. وذلك أنَّا إِذا تأملْنا وجَدْنا إِعمالَ الفِعلِ في "كل" والفعلُ منفيٌّ، لا يَصْلُحُ أن يكونَ إلاَّ حيثُ يُراد بعضاً كان وبعضاً لم يكن. تقولُ: "لم ألق كل القوم"، و "لم آخذْ كلَّ الدراهم"، فيكونُ المعنى أنك لقِيتَ بعضاً من القومِ ولم تَلْقَ الجميعَ، وأخذْتَ بعضَاً من الدراهمِ وتركْتَ الباقي ولا يكونُ أَنْ تريدَ أنك لم تَلْقَ واحداً من القوم، ولم تأخذ شيئًا من الدارهم. وتعرَّفْ ذلك بأن تَنْظرَ إِلى "كل" في الإِثبات وتتعرفَ فائدتَه فيه. وإِذا نظرتَ وجدتَهُ قد اجْتُلِبَ لأنْ يُفيدَ الشُّمولَ في الفعلِ الذي تُسْنِدُه إِلى الجملةِ أو تُوقِعُه بها. تفسيرُ ذلك، أنكَ إِنما قلْتَ: "جاءني القومُ كلُّهم"، لأنكَ لو قُلْتَ: "جاءَني القومُ" وسكَتَّ، لكانَ يَجوزُ أن يَتوهَّم السامعُ أنه قد تخلَّفَ عنكَ

_ 1 في المجموع من شعره، وهو في سيبويه 1: 44، 69، وسائر كتب النحاة وكتب ضرورة الشعر.

بَعضُهم، إلاَّ أنكَ لم تعتدَّ بهم، أو أنَّكَ جَعَلْتَ الفعلَ إِذا وقَعَ مِن بَعْضِ القومِ فكأنَّما وَقَعَ منَ الجميع، لِكَوْنهم في حُكْمِ الشخصِ الواحدِ، كما يقالُ للقبيلة: "فعلْتُم وصنعْتُم"، يُرادُ فِعْل قد كانَ مِنْ بَعْضِهم أوْ واحدٍ منهم. وهكذا الحُكْم أبداً. فإذا قلت: "رأيت القوم كلهم" و "مررت بالقومِ كلِّهم"، كُنْتَ قد جئتَ "بكلٍّ" لئلاَّ يُتَوهَّمَ أنه قد بَقِيَ عليكَ مَنْ لم تَرَهُ ولم تَمُرَّ به. وينبغي أن يُعْلَم أنَّا لا نَعْني بقولنا "يفيدُ الشُّمولَ"، أنَّ سبيلَه في ذلك سبيلُ الشيءِ يُوجِبُ المعنى مِن أصْله، وأنه لولا مكانُ "كلّ" لَمَا عُقِلَ الشُّمولُ ولم يكنْ فيما سَبَق مِن اللفظِ دليلٌ عليه. كيفَ؟ ولو كانَ كذلكَ لم يكنْ يُسمَّى "تأكيداً". فالمعنى أنه يمنعُ أن يكونَ اللفظُ المقتضِي الشُّمولَ مستعمَلاً على خلافِ ظاهرِه ومتجوَّزاً فيه. 323 - وإِذ قد عرفت ذلك، فههنا أصْلٌ، وهو أَنَّه مِن حُكْم النفي إِذا دَخل على كلامٍ، ثُمَّ كان في ذلكَ الكلام تقييد على وجهه من الوجوهِ، أن يتوجَّه إِلى ذلكَ التقييدُ، وأن يقعَ له خصوصاً. تفسيرُ ذلك: أنَّك إِذا قلتَ: "أتاني القومُ مجتمِعينَ"، فقالَ قائلٌ: "لم يأْتكِ القومُ مجتمعين"، كانَ نَفْيُه ذلك متوجِّهاً إِلى الاجتماعِ الذي هو تقييدٌ في الإِتيان دونَ الإِتيان نفْسِه، حتى إنَّه إنْ أرادَ أنْ ينفيَ الإِتيانَ مِنْ أصلهِ، كان مِنْ سَبيله أن يقولَ: "إنَّهم لم يأْتوكَ أصْلاً، فما مَعْنى قولِكَ: مجتمعين". هذا مما لا يَشُكُّ فيه عاقلٌ.

وإِذا كانَ هذا حكْمُ النفي إِذا دَخَلَ على كلامٍ فيه تقييدٌ، فإنَّ التأكيدَ ضربٌ منَ التقييدِ. فَمتى نَفَيْتَ كلاماً فيهِ تأكيدٌ، فإنَّ نَفْيكَ ذلكَ يتوجَّه إلى التأكيدِ خصوصاً ويَقَعُ له. فإِذا قلتَ: "لم أرَ القومَ كلَّهم" أوْ "لَمْ يأتِني القومُ كلُّهم" أوْ "لم يأتِني كلُّ القومِ" أو "لَمْ أَرَ كلَّ القومِ"، كنتَ عمدْتَ بنَفْيِكَ إِلى معنى" كل" خاصة، وكانَ حكْمُه حُكْمَ "مجتمعين" في قولِكَ: "لم يأتِني القومُ مجتمعين" وإِذا كان النفيُ يَقَعُ "لكلِّ" خصوصاً، فواجبٌ إِذا قلتَ: "لم أتني القومُ كلُّهم" أوْ "لم يأتِني كلُّ القومِ"، أَنْ يكونَ قد أتاكَ بعضُهم كما يجبُ إِذا قلتَ: "لم يأتني القومُ مجتمعين"، أنْ يكونوا قد أتوك أشاتًا. وكما يستحيلُ أن تقولَ: "لم يأتني القومُ مجتمعينَ"، وأنتَ تُريد أنهم لم يأتوكَ أصْلاً لا مجتمعين ولا منفردين كذلك محالٌ أنْ تقول: "لا يأتِني القومُ كلُّهُمْ"، وأنتَ تريدُ أنَّهم لم يأتوك أصْلاً، فاعرفْه. 324 - واعلمْ أَنَّك إِذا نظرْتَ وجَدْتَ الإثباتَ كالنَفْي فيما ذكرتُ لكَ، ووجدتَ النفيَ قد احتذاهُ فيه وتَبِعَه، وذلك أنك إِذا قلتَ: "جاءني القومُ كلُّهم"، كان "كُلّ" فائدةَ خبرِك هذا، والذي يتوجَّه إِليه إثباتُك، بدلالةِ أنَّ المعنى على أنَّ الشكَّ لم يقَعْ في نفسِ المجيءِ أنه كانَ من القومِ على الجملةِ، وإِنَّما وَقعَ في شُموله "الكل"، وذلك الذي عناكَ أمرُه مِن كلامِكَ. 325 - وجملةُ الأَمْرِ أَنَّه ما مِنْ كلامٍ كانَ فيه أمرٌ زائدٌ على مجرَّدِ إثباتِ المعنى للشيء، إلاَّ كان الغرضَ الخاصَّ من الكلام، والذي يُقْصَد إِليه ويزْجى القولُ فيه. فإذا قلت: "جاءني زيد راكبًا"، و "ما جاءني زيدٌ راكباً" كنتَ قد وضعْتَ كلامَكَ لأن نثبت مجيئه راكبًا او ننفي ذلك، لا لأن تُثْبِتَ المجيءَ وتنْفِيَه مطلقاً. هذا ما لا سبيلَ إِلى الشَّكَّ فيه.

326 - واعلمْ أنَّه يَلزَمُ مَنْ شكَّ في هذا فتوهَّمَ أنَّه يجوزُ أن تقولَ: "لم أرَ القومَ كلَّهم"، على معنى أنك لم تَرَ واحداً منهم1 أن يُجْريَ النهيَ هذا المَجرى فتقولَ: "لا تَضْرب القومَ كلَّهم"، على معنى لا تضْربَ واحداً منهم وأن تقولَ: "لا تَضْربِ الرجلَيْن كليهما"، على معنى لا تَضْرِبْ واحد منهما. فإِذا قال ذلك لَزِمه أن يُحيلَ قولَ الناس2: لا تَضْرِبْهما معاً، ولكنِ اضْرِبْ أحدهما"، و "لا تأخذهما جميعًا، لكن واحداً منهما"، وكفى بذلك فساداً. 327 - وإذْ قد بانَ لَكَ من حالِ النَّصْب أنه يقتضي أن يكونَ المعنى على أنه قد صنَعَ منَ الذنبِ بعْضاً وتركَ بعضاً3، فاعلمْ أنَّ الرفعَ على خلافِ ذلك، وأنه يقتضي نفْيَ أن يكونَ قد صَنَع منه شيئاً، وأتى منه قليلاً أو كثيراً وأنك إِذا قلتَ: "كلُهم لا يأتيك"، و "كلُّ ذلك لا يكونُ"، و "كلُّ هذا لا يَحْسُن"، كنتَ نَفَيْتَ أن يأتِيَه واحدٌ منهم، وأبيْتَ أن يكونَ أو يَحْسُنَ شيءٌ مما أشرتَ إِليه. 328 - ومما يشهدُ لكَ بذلك من الشّعرِ قولُه: فكيفَ؟ وكلٌّ ليسَ يَعْدُو حِمَامَه ... ولا لامرئٍ عما قضى الله مزحل4

_ 1 السياق: "واعلمْ أنَّه يَلزَمُ مَنْ شكَّ في هذا .... أن تجري النهي". 2 في المطبوعة وحدها: "أن يختل قول الناس"، ومعنى "يحيل"، أي يجعله محالًا. 3 رجع إلى القول في "علي دنبا كله لم أصنع"، رقم: 322، وما بعده. 4 هو شعر إبراهيم بن كنيف النبهاني، شرح حماسة التبريزي 1: 136، وأمالي القالي 1: 170، وهي عند الهجري في النوادر والتعليقات منسوبًا لبكر بن النطاح. و "مزحل"، مصدر ميمي من "زخل"، إذا تباعد، يعني ليس منه مهرب.

المعنى عَلَى نفْي أن يَعْدُوَ أحدٌ منَ الناسِ حِمَامَه، بلا شُبْهة. ولو قلتَ: "فكيفَ وليس يعدو كلُّ حِمامَه": فأَخَّرْتَ "كلاّ"، لأفسدتَ المعنى، وصرْتَ كأنكَ تقولُ: "إنَّ منَ الناس من يسمل من الحمام ويبقى خالد ًا لا يموت". 329 - ومثله قول دعبل: فواللهِ ما أَدري بأيِّ سِهامِهَا ... رَمَتني وكلٌّ عندنا ليس بالمكدي أبا الجيد أمْ مَجْرى الوِشاحِ، وإنني ... لأُنْهِمُ عَينَيها مع الفاحِِمِ الجَعْدِ1 المَعْنى عَلَى نَفْي أن يكونَ في سِهامها مُكْدٍ على وجهٍ منَ الوجوهِ. 330 - ومن البَيِّنِ في ذلك ما جاء في حديث ذي اليدين حين قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: "أقَصُرَتِ الصلاةُ أم نَسِيْتَ يا رسولَ الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "كلُّ ذلك لم يَكُنْ". فقال ذو اليدين: بَعْضُ ذلكَ قَدْ كان"2، المعنى لا محالَة على نفي

_ 1 هو في المجموع من شعره، و "المدي" الذي يخيب، ولا يصيب هدفه. وقوله: "لأنهم"، أي أنهم عينها، واعلم أن التاء في "التهمة" مبدلة من الواو، فقولهم: "تهمة" أصلها "وهمة"، ولكنهم في هذا الفعل أجروا التاء المبدلة مجرى الصل، فقالوا: "أتهمه إتهامًا"، ويقال أيضًا "أوهمه" بمعنى ابتهمه، على الأصل. 2 حديث ذي اليدين في السهور في الصلاة، مذكور في دواوين السنة من طريق "محمد بن سيرين عن أبي هريرة"، وليس فيه هذا اللفظ، ولكنه جاء في صحيح مسلم، في كتاب المساجد، "باب السهو في الصلاة والسجود"، من حديث أبي سفيان مولى بن أبي أحمد قال: سمعت أبا هريرة، ولفظه: "كلُّ ذلك لم يَكُنْ! " فقال ذو اليدين: قد كان بعض ذلك"، وهو عند أحمد في المسند2: 460 "المطبوعة الأولى" وقال: "عن عبد الرحمن مولى ابن أبي أحمد، قال: سمعت أبا هريرة"، وفيه: "قال: "كل ذلك لم يكن"، فقال ذو اليدين: قد كان ذلك يا رسول الله"، وهو عند أبي داود في سننه، في كتاب الصلاة، "باب السهو في السجدتين" من حديث سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، وفيه "قال: "كل ذلك لم أفعل". فقال الناس: قد فعلت". يقول أبو فهر: قوله هنا "بعض ذلك قد كان"، وقولهم في حديث مسلم: "قد كان بعض ذلك"، يعني أنه قد كان السهو: لا قصر الصلاة. وكذلك ما جاءني في حديث أحمد قول ذي اليدين: "قد كان ذلك يا رسول الله"، وما جاء في حديث أبي داود: "فقال الناس: قد فعلت"، يعنون به السهو بلا شك، لا قصر الصلاة.

الأَمرين جميعاً، وعلى أنه عليه السلامُ أرادَ أنه لم يكنْ واحدٌ منهما، لا القِصَرُ ولا النِّسْيانُ. ولو قِيلَ: "لَمْ يكنْ كلُّ ذلك"، لكانَ المعنى أنه قد كانَ بعضُه. 331 - واعلمْ أنَّه لمَّا كانَ المعنى مع إِعمال الفعلِ المِنفيِّ في "كل" نحوُ: "لمْ يأتِني القوم كلهم" و "لم أرَ القومَ كلَّهم"، على أنَّ الفعلَ قد كانَ مِن البعضِ، ووَقَع على البعضِ، قلتَ: "لم يأتِني القومُ كلُّهم، ولكنْ أتاني بعضُهم" و "لم أرَ القومَ كلَّهم، ولكنْ رأيتُ بعضَهم" فأثبتَّ بعد ما نَفَيْتَ، ولا يكونُ ذلك معَ رَفْع "كلّ" بالابتداءِ. فلو قلتَ: "كلُّهم لم يأتني، ولكن أتاني بعضهم" و "كل ذلك لم يكُنْ، ولكنْ كان بعضُ ذلك"، لم يَجُزْ، لأنَّه يؤدِّي إلى التناقُضِ، وهو أنْ تقولَ: "لم يأتِني واحدٌ منهم، ولكنْ أتاني بعضُهم". 332 - واعْلمْ أنَّه ليس التأثيرُ لِما ذكَرْنا من إِعمالِ الفعلِ وتَرْك إِعمالِه على الحقيقةِ، وإِنَّما التأثيرُ لأَمرٍ آخَر، وهو دخولُ "كل" في حيِّز النَّفْي، وأن لا يَدْخُل فيه. وإِنما علَّقْنا الحكْم في البيتِ وسائرِ ما مَضى بإِعمالِ الفعلِ وتركَ إِعمالِه1، من حيثُ كان إعمالُه فيه يقتضي دخولَه في حيِّز النفي، وتَرْكُ إعمالهِ يُوجبُ خروجَه منه، من حيثُ كان الحرفُ النافي في البيتِ حرفاً لا ينفصِلُ عن الفعلِ، وهو "لم" لا أنَّ كَوْنَهُ مَعْمولاً للفعل وغير معمول،

_ 1 "البيت" يعني بيت أبي النجم: "كله لم أصنع".

بمقتضى ما رأيتَ من الفَرْق. أفَلاَ تَرى أنك لو جئتَ بحرْفِ نَفي يُتَصوَّر انفصالُه عن الفعلِ، لرأيتَ المعنى في "كل" مع تَرْكِ إِعمالِ الفعلِ، مِثْلَه مع إعمالِه، ومثالُ ذلكَ قوله: ما كلُّ ما يتمنَّى المرءُ يُدرِكُه1 وقولُ الآخر: ما كلُّ رَأْي الفتى يَدْعو إِلى رَشَد2 "كلٌ" كما ترى غيرُ مُعْمَلٍ فيه الفعلُ، ومرفوعٌ، إِما بالابتداءِ، وإِما بأنه اسمُ "ما"، ثم إِنّ المعنى مع ذلك على ما يكون عليه إذا أعملْتَ فيه الفعلَ فقلتَ: "ما يُدرِكُ المرءُ كلَّ ما يتمناه"، و "ما يدعو كلُّ رأيِ الفتى إِلى رَشَد"، وذلك أن التأثيرَ لوقوعِه في حيِّز النفي، وذلك حاصلٌ في الحالين. ولو قدَّمْتَ "كلاّ" في هذا فقلت: "كلُّ ما يتمنى المرءُ لا يدركه" و "كل رأي الفتى لا يدعو إِلى رَشَد" لتغيَّرَ المعنى، ولصارَ بمنزلةِ أنْ يقالَ: "إنَّ المرءَ لا يدرك شيئًا مما يتمناه"، و "لا يكونُ في رأيِ الفتى ما يدعو إِلى رَشَدٍ بوجْهٍ من الوجوه". 333 - واعلمْ أنَّكَ إِذا أدخلْتَ "كلاّ" في حيِّز النفي، وذلك بأن تُقدِّم النفيَ عليه لفظاً أو تقديراً، فالمعنى على نفي الشمول دون نفي الفعل

_ 1 هو شعر المتنبي في ديوانه، وعجزه: تجرى الرياح بما لا تشتهي السفن 2 ذكره ابن هشام في مغني اللبيب في "باب كل"، وذكره غيره من النحاة، وكأنهم أخذوه، من عبد القاهر ولا يعرف تمامه.

والوصفِ نَفْسِه. وإذا أخرجتَ "كلاّ" من حيِّز النفي ولمْ تُدْخِلْه فيه، لا لفظاً ولا تقديراً، كان المعنى على أنَّك تتبَّعْتَ الجملةَ، فنَفَيْتَ الفعلَ والوصفَ عنها واحداً واحداً. والعلةُ في أنْ كانَ ذلك كذلكَ، أنكَ إِذا بدأتَ "بكلٍّ" كنتَ قد بنَيْتَ النفيَ عليه, وسلَّطْتَ الكلِّية على النفْي وأعملْتَها فيه، وإعمالُ معنى الكُلِّيةِ في النفي يَقْتضي أن لا يَشُذَّ شيءٌ عن النفي، فاعرفْه. 334 - واعلمْ أنَّ مِن شأنِ الوجوهِ والفُروقِ أنْ لا يزالَ يَحْدثُ بسببِها وعلى حَسبِ الأغراضِ والمعاني التي تَقَعُ فيها، دقائقُ وخفايا لا إِلى حدٍّ ونهايةٍ وأنَّها خفايا تكْتُم أنفُسَها جَهْدَها حتى لا يتنبه لأكثرِها، ولا يُعلَمُ أنها هي، وحتى لا تَزالُ تَرى العالِمَ يَعرِضُ له السهوُ فيه، وحتى إنه ليقصِدُ إلى الصواب فيقعُ في أثناء كلامه ما يوهم الخطأ، كل ذلك لشدة الخفاء وفرط الغموض.

فصل: القول في آية: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِن} 335 - واعلمْ أنه إِذا كان بيِّناً في الشيء أنه لا يَحتمِلُ إِلاّ الوجْهَ الذي هو عليه حتى لا يُشْكِلَ، وحتى لا يُحْتاج في العلم بأنَّ ذلك حقُّه وأنه الصوابُ، إِلى فكْرِ ورويةٍ1 فلا مَزِيَّةَ, وإِنما تكونُ المزيةُ ويجِبُ الفضلُ إِذا احتمَلَ في ظاهِر الحالِ غيرَ الوجه الذي جاءَ عليه وجهاً آخرَ، ثمَّ رأيتَ النفسَ تَنْبو عن ذلكَ الوجهِ الآخرِ، ورأيتَ للذي جاء عليه حُسْناً وقبولًا تعدمهما إِذا أنتَ تركْتَه إِلى الثاني. 336 - ومثالُ ذلكَ قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} [الأَنعام: 100]، ليس بخافَ أن لتقديمِ "الشركاءِ" حُسْناً وروعةً ومأخذاً من القلوبِ، أنتَ لا تجدُ شيئاً منه إِنْ أنتَ أخَّرْتَ فقلتَ: "وجعَلوا الجنَّ شركاء الله"، وأنك ترى حالَك حالَ مَنْ نُقِلَ عن الصورةِ المُبْهجة والمَنْظر الرائقِ والحُسْنِ الباهرِ، إِلى الشيءِ الغُفْل الذي لا تَحْلَى منهُ بكثيرِ طائلٍ، ولا تصيرُ النفسُ به إِلى حاصلٍ. والسببُ في أن كانَ ذلك كذلكَ، هو أن للتقديم فائدة شريفة ومعنى جليلاً لا سبيلَ إِليه مع التأخيرِ. 337 - بيانه، أنَّا وإنْ كنَّا نرى جملةَ المعنى ومحصولَه أنَّهم جعلوا الجنَّ شركاءَ وعبدوهُمْ مع الله تعالى، وكان هذا المعنى يَحصُلَ مع التأخيرِ حصولَه مع التقديمِ، فإِنَّ تقديمَ "الشركاءِ" يفيدُ هذا المعنى، ويفيدُ معه معنى آخر، وهو أنه ما كانَ يَنبغي أن يكونَ لله شريكٌ، لا من الجن ولا غير الجن.

_ 1 السياق: "واعم أنه إذا كان بيتًا .... فلا مزية".

وإذا أخر فقيل: "جعلوا الجن شركاء الله"، لم يُفِدْ ذلكَ، ولم يكنْ فيه شيءٌ أكثرُ من الإِخبارِ عنهم بأنهم عبَدوا الجنَّ مع اللهِ تعالى، فأما إنكارُ أنْ يُعْبَد مَعَ الله غيرُه، وأنْ يكونَ له شريكٌ مِنَ الجنِّ وغيرِ الجنِّ، فلا يكونُ في اللفظِ مع تأخيرِ "الشركاءِ" دليلٌ عليه. وذلك أنَّ التقديرَ يكونُ مع التقديمِ: أنَّ "شركاءَ" مفعول أول لجعل، و"الله" في موضعِ المفعولِ الثاني، ويكونُ "الجنّ" على كلام ثانٍ، وعلى تقديرِ أنه كأنه قيل: "فمن جَعلوا شركاءَ لله تعالى؟ "، فقيل: "الجنَّ". وإِذا كان التقديرُ في "شركَاء" أنه مفعولٌ أوّلُ، و "لله" في موضعِ المفعولِ الثاني، وقَعَ الإِنكارُ على كونِ شركاء لله تعالى على الإطلاق، من غيرِ اختصاصِ شيءٍ دونَ شيءٍ. وحصَلَ مِن ذلك أنَّ اتخاذَ الشريكِ من غَيْرِ الجنِّ قد دخَلَ في الإِنكارِ دخولَ اتِّخاذِه من الجنِّ، لأَنَّ الصفةَ إِذا ذُكرت مُجَرَّدة غيرَ مُجْراة على شيءٍ، كانَ الذي تَعَلَّقَ بها من النَّفْي عامَّا في كلِّ ما يجوزُ أن تكونَ له تلك الصفةُ. فإِذا قلتَ: "ما في الدار كريمٌ"، كنتَ نفَيْتَ الكينونَةَ في الدارِ عنْ كلِّ مَنْ يكون الكرَمُ صفةً له. وحكْمُ الإِنكارِ أبداً حكْمُ النفي. وإِذا أُخِّر فقيلَ: "وجعَلوا الجنَّ شركاءَ لله"، كان "الجنَّ" مفعولاً أولَ، و "الشركاء" مفعولاً ثانياً. وإِذا كان كذلك، كان "الشركَاء" مخصوصاً غيرَ مُطْلَق، من حيثُ كانَ مُحالاً أن يَجْريَ خبراً على الجنِّ، ثم يكونَ عامّاً فيهم وفي غيرهم. وإِذا كان كذلكَ، احْتَمَلَ أن يكونَ القصدُ بالإِنكار إِلى "الجنِّ" خصوصاً، أن يكونوا "شركاءَ" دون غيرهم، جل الله تعالى عن أن يكونَ له شريكٌ وشبيهٌ بحالٍ. 338 - فانظرْ الآنَ إِلى شرَفِ ما حصَل من المعنى بأن قُدِّم "الشركاءُ"، واعتبرْهُ فإنهُ يَنبِّهك لكثيرٍ منَ الأمورِ، ويدُلُّك على عِظَمِ شأنِ

"النظمِ"، وتعلمُ به كيف يكونُ الإيجازُ بهِ وما صُورَتُه؟ 1 وكيفَ يُزادُ في المعنى من غيرِ أن يُزاد في اللفظِ، إِذ قدْ ترَى أنْ ليس إِلاّ تقديمٌ وتأخيرٌ، وأنه قد حصَل لك بذلك من زيادةِ المعنى، ما إِنْ حاولتَ مع تَرْكِهِ لم يحصُلْ لك، واحتجْت إِلى أن تَسْتَأْنِفَ له كلاماً، نحو أن تقول: "وجعلوا الجن شركاء الله، وما يَنْبغي أن يكونَ للهِ شريكٌ لا مِنَ الجنِّ ولا مِنْ غَيْرهم"، ثم لا يكونُ له إِذا عَقَلَ من كلامَيْن من الشَّرَف والفخامةِ ومِن كَرَمِ الموقعِ في النفسِ، ما تَجِدُه له الآنَ وقد عَقلَ من هذا الكلام الواحد. القول في: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاة}: 339 - ومما يُنظرُ إِلى مثلِ ذلكَ2، قولُه تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: 96] إِذا أنتَ راجعتَ نفسَك وأذكيتَ حسَّك، وجدتَ لهذا التنكيرِ وأنْ قِيلَ: "على حياةٍ"، ولم يُقَلْ: "على الحياةِ"3، حُسْناً وروعةً ولطفَ موقعٍ لا يقادره قدرُه، وتَجِدُكَ تَعْدَمُ ذلكَ مع التعريفِ، وتخرجُ عن الأريحيةِ والأُنْس إِلى خلافِهما. والسببُ في ذلك أنَّ المعنى على الازدِياد منَ الحياةِ لا الحياة من أصلها، وذلك أنه لا يَحْرِصُ عليه إِلاّ الحيُّ، فأمَّا العادِمُ للحياة فلا يصحُّ منه الحرْصُ على الحياةِ ولا على غيرها3. وإِذا كانَ كذلكَ، صارَ كأنه قيلَ: "ولتجدنَّهُمْ أحْرَصَ الناسِ، ولو عاشوا ما عاشوا، على أن يزدادوا إِلى حياتِهم في ماضي الوقت وراهِنِه، حياةً في الذي يَستقْبِل"4. فكما

_ 1 في "س": كيف يكون الإعجاز وما صورته". 2 "ومما ينظر إلى مثل ذلك"، ليس في "ج" ولا "س". 3 من أول قوله: "حسنًا" إلى قوله هنا: " .... الحرص على الحياة، ساقط من "ج". 4 في هامش المخطوطة "ج"، بخط الناسخ، وهو من تعليقات عبد القاهر على الأرجح، ما نصه: "أي: أن يزدادوا إلى حياتهم في راهن الحياة، بمنزلة أن تقول: يحبون أن يزدادوا إلى حياتهم في راهن الحال مثل الحياة من أصلها. وكلاهما غاية الحسن".

أنك لا تقول ههنا: "أن يزدادوا إِلى حياتِهم الحياةَ" بالتعريفِ، وإِنما تقولُ: "حياةً" إِذْ كانَ التعريفُ يَصْلحُ حيثُ تُراد الحياةُ على الإطلاق، كقولنا: "كلُّ أحدٍ يُحب الحياةَ، ويَكرهُ الموتَ"، كذلك الحكْمُ في الآية. 340 - والذي ينبغي أَنْ يُراعى: أنَّ المعنى الذي يُوصفُ الإنسانُ بالحرصِ عليهِ، إِذا كانَ موجوداً حالَ وصفِك له بالحرصِ عليه، لم يُتصوَّر أن تجعَلَه حريصاً عليه من أصلِه. كيف؟ ولا يُحْرَصُ على الراهن ولا الماضي، وإِنما يكونُ الحِرصُ على ما لم يُوجَدْ بعد. تنكير "حياة" في: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} 341 - وشبيهٌ بتنكير الحياةِ في هذه الآية تنكيرُها في قوله عز وجل: [البقرة: 179]، وذلكَ أنَّ السببَ في حُسنِ التنكيرِ، وأنْ لم يَحْسُن التعريفُ، أنْ ليسَ المعنى على الحياةِ نفسِها، ولكنْ على أنه لمَّا كانَ الإنسانُ إِذا عَلمَ أنه إِذا قتلَ قُتِل، ارتدعَ بذلك عن القتل، فسلم صاحبُه، صار حياةُ هذا المَهْمومِ بقتلِه في مستأنفِ الوقتِ، مستفادَةً بالقِصَاصِ1، وصارَ كأنَّه قد حَييَ في باقي عمره به. وإِذا كان المعنى على حياةٍ في بعضِ أوقاتِه، وجَبَ التنكيرُ وامتنعَ التعريفُ، من حيثُ كان التعريفُ يَقْتضي أن تكونَ الحياةُ قد كانَتْ بالقِصاص من أصْلها، وأن يكونَ القِصاص قد كان سبباً في كونِها في كافَّة الأوقاتِ. وذلك خلافُ المعنى وغيرُ ما هو المقصود.

_ 1 أي صارت حياة الذي هم بقتله، مستفادة في مستأنف الوقت بالقصاص.

ويُبَيِّنُ ذلك أنك تقولُ: "لكَ في هذا غِنًى"، فتنكِّرُ إِذا أردتَ أن تَجْعل ذَلك من بعضِ ما يُسْتَغْنى به، فإِنْ قلتَ: "لكَ فيه الغِنى"، كان الظاهرُ أنك جعلتَ كلَّ غِناه به. 342 - وأمرٌ آخرُ، وهو أنه لا يكون ارتداعٌ حتى يكونَ همٌّ وإرادةٌ وليس بواجبٍ أن لا يكونَ إنسانٌ في الدنيا إلاَّ وله عَدوٌّ يَهمُّ بقتله ثم يردَعُه خوفُ القِصاصِ. وإِذا لم يَجِبْ ذلك، فمَن لم يَهُمَّ إِنسانٌ بقتلِه، فكُفيَ ذلك الهَمَّ لخوفِ القصاصِ، فليس هو ممَّن حَيِيَ بالقصاص. وإِذا دخَلَ الخصوصُ، فقد وَجَبَ أن يقالَ "حياةٌ" ولا يقالَ "الحياةُ"، كما وَجَبَ أن يقالَ "شفاءٌ" ولا يقالُ "الشفاءُ" في قولِه تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69]، حيثُ لم يكن شفاءٌ للجميع. 343 - واعلمْ أنه لا يُتصوَّر أنْ يكونَ الذي هَمَّ بالقتلِ فلم يقْتُلْ خوفَ القِصاص داخلاً في الجملة1، وأن يكونَ القِصاصُ أفادَهُ حياةً كما أفادَ المقصودَ قتلُه. وذلك أنَّ هذه الحياةَ إِنَّما هي لمن كان يَقْتُل لولا القِصاصُ، وذلك محالٌ في صِفَةِ القاصِدِ للقتلِ، فإِنما يَصِحُّ في وصفِه ما هو كالضدِّ لهذا، وهو أن يقالَ: إِنه كان لا يُخافُ عليه القَتلُ لولا القصاصُ، وإِذا كانَ هذا كذلكَ، كان وجهاً ثالثًا في وجوب التنكير.

_ 1 في هامش "ج" بخط الناسخ، وهو من تعليقات عبد القاهر، ما نصه: "جملة الأمر أن المعنى على أن الهلاك انتفى على العموم بقتله، من أجل خوف القصاص. ولا يتصور أن يقال: إن الهلاك انتفى عن الهام بقتل غيره من أجل خوف القصاص".

فصل: الآفة العظمى في ترك البحث عن العلة التي توجب المزية في الكلام: 344 - واعلمْ أنه لا يصادِفُ القولَ في هذا البابِ موقعاً من السامِعِ، ولا يَجدُ لديه قَبولاً، حتى يكونَ من أهلِ الذوقِ والمعرفةِ، وحتى يكونَ ممن تُحدِّثهُ نفسُه بأنَّ لِمَا يُومئُ إِليه من الحُسْن واللطْف أصْلاً، وحتى يختلفَ الحالُ عليه عندَ تأمُّلِ الكلامِ، فيجَدَ الأريحيَّة تارةً، ويعْرى منها أخرى، وحتى إِذا عجَّبْتَه عَجِبَ، وإذا نَبَّهْتَه لَموضع المزيةِ انْتَبَه. فأما من كان الحالانِ والوجهانِ عنده أبداً على سَواء، وكان لا يفقد من أمرِ "النظمِ" إِلا الصحَّةَ المُطلقةَ، وإلاَّ إِعراباً ظاهراً، فما أقَلَّ ما يُجدي الكلامُ معه. فَلْيَكُنْ مَنْ هذه صِفتُهُ عندكَ بمنزلةِ مَنْ عَدِمَ الإحساسَ بوزِن الشِّعر، والذوقِ الذي يُقيمه به، والطَّبعَ الذي يُميٍّزُ صحيحَه من مكسورِه، ومَزاحِفه من سالِمِه، وما خرجَ مِن البحرِ ممَا لم يَخْرُجُ منهُ1 في أنك لا تتصدَّى له، ولا تتكلَّفُ تعريفَه، لِعلْمِكَ أنه قد عدمَ الأداةَ التي معها يَعرفُ، والحاسَّةَ التي بها يَجدُ. فليكُنْ قَدْحُكَ في زنَدٍ وارٍ، والحكُّ في عُودٍ أنت تطمعُ منه في نار. 345 - واعلمْ أنّ هؤلاء، وإنْ كانوا همُ الآفةَ العظمى في هذا البابِ، فإنَّ مِن الآفَةِ أيضاً مَنْ زَعم أنه لا سبيلَ إِلى معرفةِ العِلَّةِ في قليلِ ما تعرف المزية

_ 1 السياق: "فَلْيَكُنْ مَنْ هذه صِفتُهُ عندكَ بمنزلةِ مَنْ عدم الإحساس ... في أنك لا تتصدى له".

فيه وكثيرِه، وأنْ ليس إلاَّ أنْ تَعلمَ أنَّ هذا التقديمَ وهذا التنكيرَ، أو هذا العطْفَ أو هذا الفصْلَ حسَنٌ، وأنَّ له موقعاً من النفسِ وحظَّا من القَبول، فأمَّا أنْ تَعلم لمَ كان كذلك؟ وما السَّبَبُ؟ فَمِمَّا لا سبيلَ إِليه، ولا مطمعَ في الاطِّلاعِ عليه، فهو بتوانِيهِ والكَسل فيه، في حُكْم مَنْ قالَ ذلك. 346 - واعلمْ أنه ليسَ إذا لم تمكن معرفةُ الكلِّ، وجَبَ تركُ النظرِ في الكلِّ. وأنْ تعرفَ العلَّةَ والسببَ فيما يُمْكِنك معرفةُ ذلك فيه وإِنْ قلَّ فتجعلَه شاهداً فيما لم تَعْرِفْ1، أحْرَى مِن أنْ تَسُدَّ بابَ المعرفة على نفسِك، وتأْخذَها عن الفهم والتفهُّم، وتعوِّدَها الكسَل والْهُوَيْنا. قال الجاحظُ: "وكلامٌ كثيرٌ قد جَرى على ألسنةِ الناس، وله مَضَرّةٌ شديدةٌ وثمرةٌ مُرَّةٌ. فمِنْ أَضَرَّ ذلك قولُهم: "لم يَدَع الأولُ للآخِرِ شَيئاً"، قال: فلو أنَّ علماءَ كلِّ عصر مذجرت هذه الكلمةُ في أسمْاعهم، ترَكُوا الاستنباطَ لِمَا لَمْ يَنتهِ إِليهم عَمَّن قَبْلَهم، لرأيتَ العِلم مُختلاًّ. واعلمْ أنَّ العلمَ إِنما هو معدِنٌ2، فكما أنه لا يمنعك أن ترى ألوف وِقْرِ قد أُخرجَتْ من معدنِ تبْرٍ3، أنْ تطلُبَ فيه، وأن تأخُذَ ما تَجد ولو كَقَدْرِ تُومةٍ4، كذلكَ، ينبغي أن يكون رأيْكَ في طلبِ العلمِ"5. ومنَ الله تعالى نَسألُ التوفيق.

_ 1 "وأن تعرف العلة"، يعني "معرفتك العلة .... أحرى من النار تسد باب المعرفة". 2 المعدن" هو الموضع الذي تستخرج منه جواهر الأرض كالذهب والفضة، وهو الذي نسميه اليوم المنجم". 3 في المطبوعة وحدها: "ألف وقر" و "الوفر" بكسر فسكون، جمل ما يحمله البعير أو البغل. و "التبر"، الذهب. 4 "التومة"، حبة تعمل من الفضة كالدرة مستديرة. 5 نص الجاحظ هذا، أعيان أن أقف عليه في كتبه التي بين يدي الآن.

باب اللفظ والنظم: فصل في المجاز الحكمي

باب اللفظ والنظم: فصل في المجاز الحكمي فصل: هذا فَنٌّ من المجازِ لم نذكره فيما تقدم بين في المجاز الحكمي، وأمثلته وهو كنز من كنوز البلاغة: 347 - إِعلم أنَّ طريقَ المجازِ والاتِّساعِ في الذي ذكَرْناه قبلُ1، أنَّكَ ذكرتَ الكلمةَ وأنتَ لا تُريد معناها، ولكنْ تُريد معنىً ما هو رِدْفٌ له أو شبيهٌ، فتجوَّزْتَ بذلك في ذات الكلمة وفي اللفظ نفسه. وإذا قد عرفْتَ ذلكَ فاعلمْ أنَّ في الكلامِ مجازاً على غيرِ هذا السبيلِ، وهو أن يكونَ التجوُّزُ في حُكْم يَجْري على الكلمة فقط، وتكونَ الكلمةُ متروكةً على ظاهرِها، ويكونُ معناها مقصوداً في نفسهِ ومُراداً مِنْ غَير توريةٍ ولا تعريض. 348 - والمثالُ فيه قولُهم "نهارُك صائم وليلك قائم" و "نام ليلي وتجلَّى همي"، 2 وقولُه تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16]، وقول الفرزدق: سَقَتْهَا خُروقٌ في المَسامِع، لَمْ تَكُنْ ... عِلاطاً، ولا مخبوطة في الملاغم3

_ 1 انظر ما سلف من رقم: 57، وما بعدها. 2 "نام ليلى وتجلي همي"، سيأتي برقم: 349، فانظره. 3 ليس في ديوان الفرزدق، وهو له في الكامل للمبرد 1: 45، وسيأتي رقم 467 وفي المطبوعة وحدها: "سقاها" هنا وفيما سيأتي. والضمير في "سقتها" للإبل. و "العلاط" وسم يكون في عتق البعير عرضًا، خطأ أو خطين أو خطوطًا في كل جانب. و "الخياط" سمه فوق الحد، والناقة. "مخبوطة" عليها هذه السمة. و "الملاغم"، ما حول الفم مما يبلغه اللسان ويصل إليه، من اللغام"، وهو زيد أفواه الإبل. ويقول: لم تكن هذه سمات إبله، بل سماتها خروق في آذانها، فلما رآها الذائدون عن الحوض سقوها، وإنما يسقونها لعرة أصحابها. فكان الحروق في المسامع هي التي أوردتها الماء وكفت الذائدين عنها.

أنت ترى مجازاً في هذا كلِّه، ولكنْ لا في ذَواتِ الكَلِم وأنْفُس الألفاظِ، ولكنْ في أحكامٍ أُجْرِيَتْ عليها. أفلاَ تَرى أنك لم تتجوَّز في قولك: "نهارُكَ صائمٌ وليلُك قائم" في نفس "صائم، و "قائم"، ولكنْ في أنْ أجْرَيْتَهما خَبَرَيْنِ على النَّهارِ والليلِ. وكذلك ليس المجازُ في الآية في لفظة "ربحتْ" نفسِها، ولكن في إِسنادها إِلى التجارة. وهكذا الحكمُ في قولهِ: "سقتها خروق" ليس التجوّزُ في نفس "سقتها"، ولكنْ في أن أسْنَدَها إِلى الخُروق. أفلا ترى أنك لا تَرى شيئاً منها إلاَّ وقد أريدَ به معناه الذي وُضِع له على وجهِه وحقيقتِه، فلم يُرِدْ بصائمٍ غيرَ الصَّوْمِ، ولا بقائمٍ غيرَ القيام، ولا بربحت غير الريح، ولا بسقت غير السقى، كما أريد "بسالت" في قوله: وسالتْ بأعناقِ المطيِّ الأباطِحُ1 غيرَ السَّيْلِ. 349 - واعلمْ أنَّ الذي ذكرتُ لك في المجاز هناك2، مِنْ أنَّ مِنْ شأنِه أنْ يفْخُمَ عليه المعنى وتحدُثَ فيه النباهةُ، قائمٌ لك مثلُه ههنا، فليس يَشْتَبِه عَلى عاقلٍ أنْ ليس حالُ المعنى وموقعه في قوله: فنامَ لَيْلي وتجلَّى همِّي3 كحالِه وموقِعِه إذا أنتَ تركتَ المجازَ وقلتَ: "فنمتُ في ليلي وتجلى

_ 1 سلف في رقم: 70. 2 يعني فيما سلف رقم: 57، وما بعده. 3 هو رجز رؤية في ديوانه، يقوله للحارث بن سليم، وقبله: حارث، وقد فرجت عني غمي

همِّي"، كما لم يكنِ الحالُ في قولكُ: "رأيتُ أسداً"، كالحالِ في "رأيتُ رجلاً كالأسدِ". ومَنْ الذي يَخْفى عليه مكانُ العُلُوِّ وموضِعُ المزية وصورةُ الفُرقان بينَ قولِه تعالى {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ}، وبينَ أنْ يُقال: "فما رَبحوا في تجارتِهم؟ ". 350 - وإنْ أردتَ أَنْ تزدادَ للأمرِ تَبيُّناً، فانظر إلى بيت الفرزدق: يَحْمي إذا اختُرِطَ السيوفُ نِساءَنا ... ضَرْبٌ تطيرُ لَه السواعدُ أرعَلُ1 وإلى رَونِقه ومائِه، وإلى ما عليه مِنَ الطَّلاوة. ثم ارْجِع إلى الذي هو الحقيقةُ وقُل: "نحمي إذا اخْتُرِطَ السيوفُ نساءَنا بضربٍ تطيرُ له السواعدُ أرعلِ"، ثم اسْبرْ حالَكَ؟ هل ترَى مما كنتَ تراه شيئاً؟ 351 - وهذا الضربُ منَ المجاز على حدَّته كنزٌ من كنوزِ البلاغةِ، ومادَّةُ الشاعرِ المُفْلِق والكاتبِ البليغِ في الإِبداع والإحسانِ، والاتِّساع في طرقِ البيان، وأنْ يجيءَ بالكلام مَطبوعاً مصنوعاً، وأن يضَعه بَعيدَ المرامِ، قريباً منَ الأفهامِ. ولا يَغُرَّنَّكَ مِنْ أمرِه أنَّك تَرى الرجُلَ يقولُ: "أتى بيَ الشوقُ إلى لقائكَ، وسارَ بيَ الحنينُ إلى رؤيتك، وأقدَمني بلدَك حقٌّ لي على إنسان"، وأشباهُ ذلك مما تَجدُه لِسَعَته وشُهْرته يَجْري مَجْرى الحقيقةِ التي لا يُشْكِلُ أمرُها، فليس هو كذلك أبداً، بل يَدِقُّ ويَلْطُفُ حتى يَمْتِنعَ مثْلُه إلاَّ على الشاعرِ المُفْلِقِ، والكاتبِ البليغِ، وحتى يأتيَك بالبِدعةِ لم تَعرفْها، والنادرةِ تأنَقُ لها.

_ 1 البيت في ديوانه، و "اخترط السيف"، و "أرعل"، يريد ضرب أهوج لا يبالي ما أصاب، ومثله "أرعن".

352 - وجملةُ الأمرِ أنَّ سبيلَه سبيلُ الضرْبِ الأولِ الذي هو مجازٌ في نفسِ اللفظ وذاتِ الكلمة، فكما أنَّ مِن الاستعارة والتَّمثيل عاميَّا مثل: "رأيت أسدًا" و "وردت بحرًا"، و "شاهدت بدرًا"، و "سل من رأيه سيفاً ماضياً"1، وخاصّياً لا يكمُلُ له كل أحد، مثله قوله: وسالتْ بأعْناقِ المطيِّ الأباطحُ2 كذلك الأمرُ في هذا المجازِ الحُكْميِّ. 353 - واعلمْ أنه ليس بواجبٍ في هذا أن يكونَ للفعل فاعلٌ في التقدير إذا أنتَ نَقَلْتَ الفعلَ إليه عدْتَ به إلى الحقيقة، مثلَ أنَّكَ تقول في: {رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16] 3 "ربحوا في تجارتهم"، وفي "يحمي نسائنا ضَرْبٌ"4، "نَحمي نساءنا بضرب" فإِنَّ ذلك لا يتأتَّى في كلِّ شيءٍ. ألا تَرَى أنه لا يُمكِنُكَ أن تُثْبِتَ للفعل في قولك: "أقدَمني بلدَك حقٌّ لي على إنسان"5، فاعلاً سوى الحقِّ، وكذلك لا تستطيعُ في قولهِ: وصيَّرني هَواكِ وَبي ... لِحَيني يُضْرَبُ المَثَلُ6 وقوله: يزيدُكَ وجْهُهُ حُسْناً ... إِذا ما زِدْتَه نَظَرا7

_ 1 "ماضيًا"، من "ج" و "س". 2 مضى برقم: 348. 3 انظر رقم: 347، 349. 4 انظر رقم: 349. 5 انظر رقم: 351. 6 انظر الشعر في الفقرة رقم: 82، لابن البواب، ولغيره. 7 لأبي نواس في ديوانه.

أنْ تزعُمَ أنَّ "لصيَّرني" فاعلاً قد نُقِلَ عنه الفعلُ، فجُعِلَ "للهوى" كما فُعِلَ ذلك في "ربحت تجارتهم" و "يحمي نساءنا ضرْبُ"، ولا تستطيعُ كذلك أن تُقدِّر "ليزيد" في قوله: "يزيدُك وجهُه" فاعلاً غيرَ "الوجهِ"، فالاعتبار إذنْ بأنْ يكونَ المعنى الذي يرجِعُ إليه الفعلُ موجوداً في الكلام على حقيقته. معنى ذلك أن "القدوم" في قولك: "أقدمي بلدَك حقٌّ لي على إنسان"، موجودٌ على الحقيقة، وكذلك "الصيرورةُ" في قوله: "وصيَّرني هواك"، و "الزيادة" في قوله: "يزيدُك وجهُه" موجودتان على الحقيقة، وإذا كان معنى اللفظِ موجوداً على الحقيقةِ، لم يكُنِ المجازُ فيه نَفْسَه، وإِذا لم يكنِ المجازُ في نفسِ اللفظِ، كان لا مَحالة في الحُكْم. فاعرفْ هذه الجملةَ، وأَحْسِنْ ضبْطَها، حتى تكونَ على بصيرةٍ من الأمر. 354 - ومنَ اللطيف في ذلك قولُ حاجزِ بنِ عوف: أَبي عَبَرَ الفوارسَ يومَ دَاجٍ ... وعمِّي مالكٌ وضع السهاما فلو صاحبتنا لرضيت منا ... إذا لم تعبق المائة الغلاما1

_ 1 حاجز بن عوف بن الحارث الأردي، جاهلي صعلوك عداء، والشعر في الأغاني 13: 210، 211 ورواية صاحب الأغاني "أبي ربع الفواس ... "، أي أخذ ربع الغنائم. وأما "عبر الفرواس"، كما هنا، فهي بمعنى، استدل لهم حتى يعرف من أمرهم ما يعنيه، وذلك لأن أباه قال لأصحابه: "انزلوا حتى أعبتر لكم" و "يوم داج"، قال صاحب الأغاني، أغار عوف بن الحارث ... على بني هلال بن عامر بن صعصعة في يوم داج مظلم"، والذي يظهر أن "داج" اسم موضع، والله أعلم. وقوله "وعمي مالك"، فقال صاحب الأغاني هو "عم أبيه: مالك بن ذهل بن سلامان الأزدي" ثم فسر قوله: "وضع السهاما"، في قصة طويلة. وقوله: "لم تغبق المئة"، هو من "الغبوق"، وهو شرب اللبن آخر النهار. وشرحه الشيخ بعد. وفي المطبوعة وحدها "لرضيت عنا".

يُريد إذا كان العامُ عامَ جَدْب وجفَّت ضروعُ الإبل، وانقطع الدَّرُّ، حتى إن حلَبَ منها مئةٌ لم يَحْصل من لبنها ما يكونُ غَبُوقَ غلامٍ واحدٍ. فالفعلُ الذي هو "غبَق" مستعملٌ في نفسه على حقيقته، غيرَ مخرج من معناهُ وأصْلِه إلى معنى شيءٍ آخر، فيكونُ قد دخلَه مجازٌ في نفسِه، وإنما المجازُ في أن أُسنِد إلى الإِبلِ وجُعِل فِعْلاً لها، وإسنادُ الفعلِ إلى الشيءِ حُكْم في الفعلِ، وليس هو نفسَ معنى الفعلِ، فاعرفْه. ليس كل شيء يصلح للمجاز الحكمي بسهولة، ومثال ذلك: 355 - واعلمْ أنَّ مِن سبَب اللطفِ في ذلك أنَّه ليس كلُّ شيء يَصْلُح لأن يُتعاطى فيه هذا المجازُ الحُكْمي بسهولةٍ، بل تَجدُك في كثيرٍ من الأمر، وأنتَ تحتاجُ إلى أن تُهيِّئَ الشيءَ وتصلِحَه لذلك، بشيءٍ تتوخاه في النظْم. وإنْ أرَدْت مثالاً في ذلك فانظْر إلى قوله: تناسَ طِلابَ العامِريَّة إذْ نأتْ ... بأسْجَحَ مِرْقالِ الضُّحَى قَلقِ الضَّفْرِ إذا ما أحسَّتْهُ الأفاعي تحيَّزتْ ... شواةُ الأفاعي مِنْ مُثَلَّمةٍ سُمْرِ تجوبُ له الظَّلْماءَ عينٌ كأنَّها ... زجاجةُ شَرْبٍ غيرُ مَلأى ولا صِفْرِ1 يَصِفُ جَملاً، ويريد أنه يهتديَ بنورِ عينِه في الظلْماءِ، ويُمكنه بها أن يَخْرُقَها ويمضيَ فيها، ولولاها لكانتِ الظلماءُ كالسدِّ والحاجزِ الذي لا يجد شيئًا

_ 1 "أسجح"، يعني خده، قليل اللحم سهل طويل، يعني بعيرًا. و "مرقال الضحى"، كثيرة الإرقال. وهو سرعة السير، و "فلق الضفر"، وهو ما شددت به البعير من الشعر المضفور، وقلق لضمره من طول السير. و "تحيزت الأفعى، وتحوزت، وانحازت"، تلوت وتقبضت وتحرقت. و "شواة الأفعى" يعني جلدها. و "المثلمة" التي انسكر حرفها، يعني مناسم البعير.

يفرجه به، ويجعل لنفسه فيه سبيلًا. فأت الآن تعلم أن لولا أنه قال: "تجوبُ له": فعلَّق "له الحبوب، لَمَا صلحَتْ "العَينُ" لأن يُسْنَد "تجوب" إليها، ولكان لا تَتَبَيَّنُ جهةَ التجوُّز في جعْل "تجوب" فعَلاً للعين كما ينبغي. وكذلك تَعْلم أنه لو قال مثلاً: "تجوبُ له الظلماءَ عينُه"، لم يكنْ له هذا الموقعُ، ولاضطْرَبَ عليه معناهُ، وانقَطَع السِّلْكُ من حيثُ كان يَعيبه حينئذٍ أن يَصِفَ العينَ بما وصفَها به الآنَ1 فتأملْ هذا واعتَبِرْهُ. فهذه التهيئةُ وهذا الاستعدادُ في هذا المجاز الحُكْمي، نظيرُ أنك تَراك في الاستعارةِ التي هي مجازٌ في نفسِ الكلمةِ وأنتَ تحتاجُ في الأمر الأكثرِ إلى أنْ تُمهِّد لها وتُقدِّم أو تؤخِّر ما يُعْلَمُ به أَنكَ مستعيرٌ ومُشبِّهٌ، ويُفتَحُ طريقُ المجاز إلى الكلمة. 356 - ألا تَرى إلى قوله: وصاعقةٍ من نَصْلِه يَنْكفي بها ... عَلى أَرْؤُسِ الأقرانِ خمسُ سحائبِ2 عنَى بخمسِ السحائبِ، أناملَه، ولكنه لم يأتِ بهذه الاستعارة دفعةَ، ولم يَرْمها إليك بغْتةً، بل ذكر ما يُنْبئ عنها، ويُسْتَدلُّ به عليها، فذكَر أن هناكَ صاعقةً، وقال: "مِنْ نصلِه"، فبيَّن أنَّ تلك الصاعقة من نصل سيفه ثم قال: "أروس الأقرانِ"، ثم قال: "خمسُ"، فذكر "الخمسَ" التي هي عدَدُ أناملِ اليدِ، فبانَ مِن مجموعِ هذه الأمور غرضه. 357 - وأنشدوا لبعض العرب: فإنْ تعافُوا العدلَ والإيْمانا ... فإنَّ في أيْمَاننا نيرانا3

_ 1 في المطبوعة: "يعيبه"، وفي "س": "يعينه". 2 هو للبحتري في ديوانه. 3 الرجز في الخصائص 3: 176، ومعاهد التنصيص 2: 131 غير منسوب.

يريدُ أنَّ في أيماننا سيوفاً نَضْربكُم بها، ولولا قولُه أوَّلاً: "فإِنْ تعافوا العدلَ والإيمانَ"، وأنَّ في ذلك دلالةً على أنَّ جوابَه أنَّهم يُحَارَبُون ويُقْسَرُون على الطاعةِ بالسيفِ، ثم قولُه: "فإنَّ في أيماننا"، لمَا عُقِلَ مرادُه، ولما جازَ له أنْ يَستعيرَ النيرانَ للسيوفِ، لأنه كان لا يَعْقِل الذي يُريد، لأنَّا وإنْ كنَّا نقول: "وفي أيديهم سيوفٌ تلمع كأَنها شُعَلُ نارٍ"1 كما قال: ناهضتَهُمْ والبارقاتُ كأنَّها ... شُعَلٌ على أيديهِمُ تَتَلهَّبُ2 فإنَّ هذا التشبيه لا يبلُغُ مَبْلَغَ ما يُعْرَفُ مَعَ الإِطلاق، كمعرفتنا إذا قال: "رأيتُ أسداً"، أنهُ يُريد الشجاعةَ، وإذا قال: "لقيتُ شمساً وبدراً"، أنه يُريدُ الحُسْنَ ولا يقوى تلك القوة، فاعرفه3. ضرب مما طريق المجاز فيه، هو "الحكم"، ومثال وبيانه: 358 - وممَّا طريقُ المَجاز فيه الحكْمُ، قولُ الخنساء: تَرْتَعُ ما رتعَتْ، حَتّى إذا ادَّكَرَتْ ... فإنَّما هيَ إقْبالٌ وإِدبارُ4 وذاك أنها لم تُرِدْ بالإِقبال والإِدبارِ غيرَ معناهُما، فتكونَ قد تجوَّزت في نفسِ الكلمةِ، وإنما تجوَّزَتْ في أَنْ جعلَتْها لكثرةِ ما تُقبِلُ وتُدْبِرُ، ولِغَلَبة ذاكَ عليها واتصاله منها5، وإنه لم يكن لها حال غيرها، كأنها قد تجسمت من الإقبال

_ 1 في المطبوعة وحدها: "شغل النيران". 2 هو للبحتري في ديوانه. 3 السياق "فإن هذا التشبيه لا يلغ مبلغ ما يعرف ... ولا يقوى تلك القوة". 4 هو في ديوانها، تقوله في بقرة وحشية فقدت ولدها، وأدنوا إليها "بوا"، فحنت، وقبله: فما عجول على بو تطيف به ... لها حنينان إصغار وإكبار 5 في "المطبوعة، و "س": "واتصاله بها".

والإِدبارِ. وإِنما كان يكونُ المجازُ في نفْس الكلمةِ، لو أنها كانت قد استعارتِ "الإقبالَ والإدبارَ" لمعنىً غيرِ معناهُما الذي وُضعا له في اللغة. ومعلومٌ أنْ ليس الاستعارةُ مما أرادته في شيء. تنبيه على فساد من جعل هذا المجاز من باب ما حذف منه المضاف، وأقيم المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه: 359 - واعلمْ أنْ ليس بالوجهِ أنْ يُعَدَّ هذا على الإِطلاق مَعدَّ ما حُذِفَ منه المضافُ وأقيمَ المضافُ إليه مُقامه، مثلَ قولِه عزَّ وجل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَة} [يوسف: 82]، ومثل قول النابغة الجعدي: وكيفَ تُواصِلُ مَنْ أصْبَحَتْ ... خُلاَلَتُهُ كأَبي مَرْحَبِ1 وقول الأعرابي: حَسِبْتَ بُغَام راحلتي عنَاقا ... وما هيَ وَيْبَ غَيْرِك بالعَنَاقِ2 وإنْ كنَّا نراهُم يذكرونَه حيثُ يذكرون حذف المضاف3، ويقولون

_ 1 في مجموع شعره، و "الخلالة" الصداقة، و "أبو مرحب"، كنية الذئب. ويقال: "أبو مرحب" للرجل الحسن الوجه، يلقاك ببشره، وباطنه خلاف ما نرى، أكنه الذي يقول لك: "مرحبًا"، بلسانه، وقلبه غير مرحب. وكان في "ج": "من أبي مرحب" وذكر الأخرى في الهامش. 2 الشعر لذى الخرق الطهوى، يخاطب الذئب، في نوادر أبي زيد: 116، ومجالس ثعلب: 76، 185، وتفسير الطبري 3: 103، يقولها لذئب تبعه في طريقه، وقيل البيت: ألم تعجب لذئب باتب يسرى ... ليؤذن صاحبًا له باللحاق و"البغام"، صوت الظبية والناقة وحنينهما. و "العتاق": أنثى المعز, وفي هامش المطبوعة بخط الناسخ ما نصه: "يخاطب ذئبًا، أي حسبت ناقتي عناقًا، وبغامها بغام عناق" 3 الضمير في "يذكرونه" لبيت الخنساء في الفقرة السالفة

إنه في تقدير: "فإِنما هي ذاتُ إقبالٍ وإدبارٍ"، ذاكَ لأنَّ المضافَ المحذوفَ مِن نحوِ الآية والبيتينِ، في سبيل ما يُحْذفُ من اللفظِ ويُرادُ في المعنى، كمثل أن يُحْذَفَ خبر المبتدإ والمبتدأ، إذا دَلَّ الدليلُ عليه إلى سائرِ ما إذا حُذِفَ كان في حكْم المنطوق به. وليس الأمرُ كذلك في بيتِ الخنساء، لأنَّا إِذا جعلْنا المعنى فيه الآن كالمعنى إِذا نحنُ قلنا: "فإِنما هي ذاتُ إقبالٍ وإدبارٍ"، أفسَدْنا الشِّعرَ على أنفسِنا وخرَجْنا إلى شيءٍ معسول، وإلى كلامٍ عامِّيٍّ مرذولٍ، وكان سبيلُنا سبيلَ من يزعم مثلًا في بيت المتبني: بدَتْ قَمراً، ومالتْ خُوطَ بانٍ، ... وفاحَتْ عَنْبَراً، ورنَتْ غَزالا1 أَنه في تقديرِ محذوفٍ، وأنَّ معناه الآن كالمعنى إذا قلتَ: "بدتْ مثلَ قمرٍ، ومالتْ مثلَ خوطِ بانٍ، وفاحَتْ مثلَ عنبرٍ، ورَنَتْ مثلَ غَزالٍ"، في أنَّا نَخْرجُ إلى الغَثاثة، وإلى شيءٍ يَعْزِلُ البلاغةَ عن سلطانها، ويخْفِضُ من شأنها، ويَصُدُّ أوجُهَنا عن محاسنها، ويسد باب المعرفة وبلطائفها علينا. فالوجْهُ أن يكون تقديرُ المضافِ في هذا على المعنى أنه لو كان الكلامُ قد جيءَ بهِ على ظاهرهِ ولم يُقْصدْ إلى الذي ذكرنا من المبالغة والاتِّساع، وأنْ تُجْعَلَ الناقةُ كأَنها قد صارتْ بجملتها إقبالاً وإدباراً، حتى كأَنها قد تجسَّمَتْ منهما، لَكانَ حقُّه حينئذٍ أن يُجاء فيه بلفظِ "الذاتِ" فيُقال: "إنما هي ذاتُ إقبالٍ وإدبارٍ". فأَمَّا أن يكونَ الشعرُ الآن موضوعاً على إرادةِ ذلك وعلى تنزيلهِ منزلةَ المنطوقِ به حتى يكونَ الحالُ فيه كالحال في:

_ 1 هو في ديوانه.

حسبتَ بُغَامَ راحِلتي عَناقاً حينَ كان المعنى والقصْدُ أن يقولَ: "حسبتَ بغامَ رَاحلتي بغامَ عناق"1، فمما لا مساغَ له عندَ مَنْ كان صحيحَ الذوق صحيح المعرفة نسابة للمعاني.

_ 1 السياق: "فأَمَّا أن يكونَ الشعرُ الآن موضوعاً على إرادة ذلك ... فمما لا مساغ له".

باب اللفظ والنظم: فصل منه

باب اللفظ والنظم: فصل منه فصل: مسألة في تفسير: "إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قلب"، ومعنى "القلب" 360 - هذه مسئلة قد كنتُ عمِلْتُها قديماً، وقد كتبتُها ههنا لن لها اتصالاً بهذا الذي صارَ بنا القولُ إليه. قولُه تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 27]، أي لِمَنْ أعْمَلَ قلْبَه فيما خُلِق القلبُ لهُ مِنَ التدبُّر والتفكُّر والنظرِ فيما ينبغي أن يُنْظَرَ فيه. فهذا على أن يُجْعلَ الذي لا يَعِي ولا يسَمعُ ولا يَنْظرُ ولا يتفكَّرُ، كأنه قد عَدِمَ القلبَ من حيثُ عَدِمَ الانتفاعَ به، وفاتَه الذي هو فائدةُ القلبِ والمطلوب منه كما يجعل الذي لا يَنْتفِعُ بِبصرِهِ وسَمْعه ولا يُفكِّر فيما يؤدِّيان إليه، ولا يَحْصُل من رؤية ما يُرَى وسَماعِ ما يُسْمَعُ على فائدةٍ، بمنزلةِ مَنْ لا سَمْعَ له ولا بَصَرَ. فأمَّا تفسيرُ مَنْ يُفَسِّرهُ على أنه بمعنى "من كان له عقلٌ"، فإِنه إنما يَصحُّ على أن يكونَ قد أرادَ الدلالةَ على الغرضِ على الجملة، فأمَّا أن يؤخذَ به على هذا الظاهر حتى كأنَّ "القلبَ" اسمٌ "للعقل"، كما يتوهمه الحَشْوِ ومَنْ لا يَعرِفُ مخارِجَ الكلامِ1، فمحالٌ باطلٌ، لأنه يؤدي إلى إبطالِ الغرَضِ من الآيةِ، وإلى تَحْريفِ الكلامِ عن صورتِه، وإزالةِ المعنى عن جهته. وذاك أنَّ المرادَ به الحثُّ على النظرِ، والتقريعُ على تَرْكه، وذمُّ مَنْ يُخِلُّ به وَيغْفِل عنه. ولا يَحْصُل ذلك إلا بالطريقِ الذي قدَّمْتُه، وإلاَّ بأنْ يكونَ قد جُعِل من لا يَفْقَه بقلبهِ ولا يَنْظُر ولا يَتفكَّر، كأنه ليس بذي قلبٍ، كما يُجْعَل كأنه جمادٌ، وكأنه ميْتٌ لا يَشْعر ولا يُحِسّ. وليس سبيلُ مَنْ فسَّر "القلبَ" ههنا على "العقل"، إلا سبيلَ من

_ 1 في المطبوعة: "أهل الحشو"، وهو فساد. و "الحشو" من الكلام، الفضل الذي لا يعتمد عليه. و "الحشو" من الناس صغارهم وأراذلهم.

فسر عليه "العين" و "السمع" في قول الناس: "هذا بَيِّنٌ لمن كانت له عَينٌ، ولِمَنْ كان له سَمْع" وفسَّرَ "العمى" و "الصمم" و "الموت" في صفةِ من يُوصَفُ بالجهالة، على مُجرَّد الجهل، وأجْرى جميعَ ذلك على الظاهر، فاعرفْه. 361 - ومن عادةِ قومٍ ممَّن يتعاطى التفسيرَ بغير علمٍ، أن يتوهَّموا أبداً في الألفاظ الموضوعةِ على المجاز والتمثيلِ، أنها على ظواهرِها، فُيُفسدوا المعنى بذلك، ويُبطلوا الغرضَ، ويمنعوا أنفسَهم والسامعَ منهم العلمَ بموضع البلاغة، ومكان الشرف. وناهيكَ بهم إِذا هم أخذوا في ذكرِ الوجوه، وجعَلوا يُكثرون في غيرِ طائل، هناكَ تَرى ما شئتَ من بابِ جهلٍ قد فتَحُوه، وزنْدِ ضلالةٍ قد قَدَحوا به، ونسألُ الله تعالى العصمة والتوفيق.

فصل: فصل دقيق في "الكناية"، وإثبات الصفة عن طريقها، وأمثلة ذلك: 362 - هذا فنٌّ من القول دقيق المسلك، لطيفُ المأخذ، وهو أَنَّا نراهم كما يصنعون في نفسِ الصفة بأن يذهبوا بها مذهب الكنايةِ والتعريضِ، كذلك يذهبون في إِثباتِ الصفة هذا المذهبَ. وإذا فعلوا ذلك، بدتْ هناك محاسنُ تملأ الطرْفَ. وَدقائقُ تُعجزُ الوصفَ، ورأيتَ هنالك شعراً شاعراً، وسحْراً ساحراً، وبلاغةً لا يكمل لها إلا الشاعرُ المُفْلِق، والخطيبُ المِصْقَع. وكما أنَّ الصفةَ إذا لم تأتِكَ مُصرَّحاً بذِكْرها، مكشوفاً عن وجهها، ولكن مدلولاً عليها بغيرها، كان ذلك أفخمَ لشأنها، وألطفَ لمكانِها، وكذلك إثباتك الصفة للشيء ثبتها له، إِذا لم تُلْقِه إلى السامع صريحاً، وجئتَ إليه من جانبِ التعريضِ والكنايةِ والرمزِ والإِشارة، كان له من الفضلَ والمزيَّة، ومن الحسْن والرونق، ما لا يقلُّ قليلُه، ولا يُجْهَلُ موضِعُ الفضيلةِ فيه. 363 - وتفسيرُ هذه الجملةِ وشرحُها: أنهم يرومون وصْفَ الرجل ومدْحَه، وإثباتَ معنًى من المعاني الشريفةِ له، فيَدَعونَ التصْريحَ بذلك، ويُكَنُّونَ عن جَعْلها فيه بِجَعْلها في شيءٍ يَشْتمِلُ عليه وَيتَلبَّس به، ويتوصَّلون في الجملة إلى ما أَرادوا من الإِثباتِ، لا من الجهةِ الظاهرةِ المعروفةِ، بل من طريقٍ يَخْفى، ومَسْلكٍ يَدِقُّ؟ ومثالُه قولُ زيادٍ الأعجمِ: إنَّ السَّماحَةَ والمُروءةُ والنَّدَى ... في قُبَّةِ ضُرِبَتْ على ابْنِ الحَشْرجِ1

_ 1 الشعر في الأغاني 15: 386 "الدار"، وكان زياد الأعجم نزل على عبد الله بن الحشرج وهو باسبور، فأنزله وألطفه. وفي هامش المخطوطة "ج" ما نصه: وبعده. ملكٌ أغَرُّ مُتَوَّجٌ ذُو نائِلٍ ... للمُعْتَفِيْنَ، يَمِيْنهُ لَم تَشْنَجِ يا خَيْرَ من صَعِدَ المنابِرَ بالتُّقى ... بعدَ النَّبِيِّ المُصْطفى المُتَحَرِّجِ لمَّا أَتَيْتُكَ رَاجِياً لِنَوالِكُمْ ... أَلفَيْتُ بَابَ نوالِكُمْ لَمْ يرتج

أرادَ، كما لا يخفى، أنْ يُثْبِتَ هذه المعاني والأوصافَ خلالاً للمدوح وضرائبَ فيه1، فتركَ أنْ يُصرَّحَ فيقولَ: "إنَّ السماحةَ والمروءةَ والندى لمجموعةٌ في ابنِ الحَشْرج، أو مقصورةٌ عليه، أو مختصَّة به"، وما شاكَلَ ذلك مما هو صريحٌ في إثباتِ الأوصافِ للمذكورين بها، وعدَلَ إِلى ما تَرى مَن الكناية والتَّلويح، فجعل كونَها في القُبَّة المضروبةِ عليه، عبارةً عن كونها فيه، وإِشارةً إِليه، فخرَجَ كلامُه بذلك إِلى ما خَرَجَ إِليه منَ الجَزالةِ، وظهرَ فيه ما أنت تَرى منَ الفخَامة، ولو أنه أَسْقَط هذه الواسِطَة من البَيْن، لما كان إِلاَّ كلاماً غُفْلاً، وحديثاً ساذَجاً. 364 - فهذه الصنعةُ في طريقِ الإثباتِ، هي نظيرُ الصنعةِ في المعاني، إِذا جاءتْ كناياتٍ عن معانٍ آخَر، نحو قوله: وما يَكُ فيِّ مِنْ عيبٍ فإنِّي ... جبانُ الكلبِ مهزولُ الفَصيل2 فكما أَنَّه إِنَّما كان مِنْ فاخرِ الشِّعر، وممَّا يقَعُ في الاختيار3، لأجل أنه أَرادَ أنْ يذْكُرَ نفسَه بالقرى والضيافةِ، فكنَّى عن ذلك بجُبْنِ الكَلْب وهُزالِ الفصيلِ، وتَرَكَ أن يُصرِّحَ فيقولَ: "قد عُرِفَ أنَّ جَنابِي مألوف، وكلبي

_ 1 "الضرائب" جمع "ضريبة". وهي الخليقة والسجية والطبيعة. 2 غير منسوب، في شرح الحماسة للتبريزي 4: 93، والحيوان 1: 384، وهو بيت عائر، إلا ثاني له، وقد سلف شطره في رقم: 306. 3 يعني اختيار أبي تمام له في الحماسة.

مؤدَّبٌ لا يَهِرُّ في وجوهِ مَنْ يَغْشاني من الأضياف، وأني أنحر المتالي من إبل، وأَدَعُ فِصالَها هَزْلى"1 كذلك، إِنما راقَكَ بيتُ زياد، لأنه كنَّى عن إثباتِه السماحةَ والمروءةَ والندى كائنةً في الممدوحِ، بجعلها كائنةً في القبةِ المضروبةِ عليه. 365 - هذا، وكما أنَّ مِنْ شأنِ الكنايةِ الواقعةِ في نفسِ الصفةِ أن تجيءَ على صورٍ مختلفةٍ، كذلك مِنْ شأنها إذا وقعَتْ في طريقِ إثباتِ الصفةِ أنْ تجيءَ على هذا الحدِّ، ثم يكونُ في ذلك ما يتناسَبُ، كما كان ذلك في الكنايةِ عن الصفةِ نفسِها. تفسيرُ هذا: أنك تَنظُرُ إِلى قولِ يزيد بن الحَكَم يمدح به يزيدَ بنَ المهلَّبِ، وهو في حَبْسِ الحَجّاجِ: أَصْبَحَ في قَيْدِكَ السَّمَاحَةُ والمجدُ ... وفَضْلُ الصَّلاحِ والحسَبُ2 فتراه نظيراً لبيتِ "زياد"، وتَعْلم أنَّ مكان "القيد" ههنا هو مكانُ "القبَّة" هناك. كما أنَّك تَنْظُر إلى قوله: "جبانُ الكلب"، فتعلمُ أنَّه نظيرٌ لقوله: زجرت كلابي أن يهر عقورها3

_ 1 "المتالي" الأمهات من النوق تتلوها أولادها وتتبعها. 2 هو من شعره في الأغاني 12: 291، "الدار". 3 هو شعر شبيب بن البرصاء، في الأغاني 12: 275، "الدار" وتمامه: ومستنبح يدعو وقد حال دونه ... من الليل سجفا ظلمة وستورها رفعت له ناري، فلما اهتدى بها ... زجرتُ كلابي أَنْ يهِرَّ عَقُورها

مِنْ حَيثُ لم يكُنْ ذلك "الجبنُ" إلاَّ لأَنْ دامَ منهُ الزجْرُ واستمرَّ، حتى أخرجَ الكَلْبَ بذلك عمَّا هو عادتُه منَ الهَريرِ والنَّبْح في وجْه مَنْ يَدْنو مِنْ دارٍ هو مُرْصَدٌ لأن يَعُسَّ دونها. وتنظُرُ إلى قولهِ: "مهزولُ الفصيل"، فتعلمُ أنه نظيرُ قولِ ابن هَرْمَةَ: لا أُمْتِع العُوذَ بالفصال1 وتنظُر إلى قول نصيب: لِعَبْدِ العَزيزِ على قَوْمِهِ ... وغيرهمُ منَنٌ ظاهِرَهْ فبابك أسهل أبوابهم ... ودارك مأهولةعامرة وكلبك آنس بالزائين ... مِنَ الأُمّ بالإبْنَةِ الزائرَهْ2 فَتَعلمُ أنه من قول الآخر: يكادُ إذا ما أبصرَ الضيفَ مَقْبلاً ... يَكلّمه مِنْ حُبِّهِ وهْوَ أَعْجَمُ3 وأنَّ بينهُما قرابةً شديدة ونسبًا لاصقًا، وأن صورتهما فيفرط التناسُب صورةُ بيتَي "زيادٍ" و"يزيدَ". 366 - ومما هو إثباتٌ للصفةِ على طريقِ الكنايةِ والتَّعريض، وقولهم "المجْدُ بَيْنَ ثَوْبَيْه، والكَرَمُ في بُرْدَيْه"، وذلك أن قائلَ هذا يتَوصَّلُ إلى إثباتِ المجدِ

_ 1 هو شعر إبراهيم قبن هرمة، وقد سلف برقم: 311، وسيأتي بعد قليل برقم: 369. 2 هو في شعره المجموع، والرواية الصحيحة: "أرأف بالزائرين"، كما سيأتي برقم: 368. 3 هو لإبراهيم بن هرمة في شعره المجموع، والبيان والتبيين 3: 205.

والكَرَم للممدوحِ، بأن يَجعلَهما في ثوبِه الذي يلْبَسُه، كما توصَّل "زيادٌ" إلى إثباتِ السماحةِ والمروءة والنَّدى لابنِ الحَشْرج، بأنْ جَعَلَها في القُبَّة التي هو جالسٌ فيها. ومن ذلك قوله: وحيْثُما يكُ أمرٌ صالحٌ فَكُنِ1 وما جاءَ في معناه من قوله: يَصيرُ أَبانٌ قَرينَ السَّماحِ ... والمَكْرُماتِ مَعاً حيثُ صارا2 وقولُ أبي نُواسَ: فَما جازَهُ جُوْدٌ ولا حلَّ دُونَه ... ولكنْ يَصيرُ الجُودُ حَيْثُ يَصيرُ3 كلُّ ذلك تَوصُّلٌ إلى إثباتِ الصِّفة في الممدوح بإِثباتها في المكانِ الذي يكونُ فيه، وإلى لُزومها له بلُزومها الموضِعَ الذي يَحُلُّه. وهكذا إنِ اعتبرْتَ قولَ الشَّنفَرى يصف امرأة بالعفة: يبيتُ بمنجاةٍ مِنَ اللَّوْم بيْتُها ... إِذا ما بُيوتٌ بالملامَةِ حُلَّتِ4 وجدْتَهُ يَدْخُل في معنى بيتِ "زيادٍ"، وذلك أنه توصَّلَ إلى نفي اللوم

_ 1 هو شعر زهير بن أبي سلمى، وكان في المطبوعة والمخطوطة، "تكن" بالتاء، وهو خطأ. والشعر يقوله لهرم بن سنان، وصدره: هناك ربك ما أعطاك من حسن 2 هو للكميت في شعره المجموع 3 هو في ديوانه. 4 هي من المفضلية رقم: 20، وفي هامش المخطوطة بخط كاتبها فوق كلمة: "بمنجاة"، وكأنه قول عبد القاهر، ما نصه: "الرواية الصحيحة: بمنحاة، بالحاء غير المعجمة".

عنها وإبعادِها عنه، بأن نَفَاه عن بيتها وباعَدَ بينَهُ وبَيْنَهُ، وكان مَذْهبُه في ذلك مذْهَبَ "زيادٍ" في التوصُّلِ إلى جَعْلِ "السماحةِ والمروءةِ والنَّدى" في ابنِ الحَشْرَجِ، بأن جعَلَها في القبَّة المضروبةِ عليه. وإنَّما الفرقُ أنَ هذا يَنْفي، وذاك يُثْبِتُ. وذلك فَرْقٌ لا في موضِعِ الجمعِ، فهو لا يَمْنَعُ أن يكونا من نصاب واحد. 367 - ومما هو حُكْم المناسِب لبيتِ "زيادٍ" وأمثالهِ التي ذكَرْتُ، وإنْ كانَ قد أُخْرِجَ في صورةٍ أغربَ وأبدع، قول حسان رضي الله عنه: بَنَى الْمَجْدَ بَيْتاً فَاسْتَقَرَّتْ عِمَادُه ... عَليْنا، فأعْيى الناس أن يتحولا1 وقول البحتري: أوما رأيتَ المجدَ أَلْقى رحْلَه ... في آلِ طلحةَ ثُمَّ لَمْ يَتحوَّلِ2 ذاكَ لأنَّ مدَارَ الأمرِ على أنَّه جَعَلَ المجْدَ والممدوحَ في مكانٍ، وجعَلَه يكونُ حيثُ يكونُ. 368 - واعلمْ أنه ليس كلُّ ما جاء كنايةً في إثباتِ الصفةِ يَصْلحُ أَنْ يُحْكَمَ عليه بالتناسُبِ. معنى هذا: أنَّ جعْلَهمُ الجُودَ والكَرَمَ والمجْدَ يَمْرضُ بِمَرضِ الممدوح كما قال البحتري: ظَلِلْنا نَعودُ الجودَ من وَعْكِكَ الذي ... وجَدْتَ وقلنا اعتل عضو من المجد3

_ 1 في ديوانه. 2 في ديوانه. 3 في ديوانه.

وإنْ كان يَكونُ القصْدُ منه إثباتَ الجودِ والمجدِ للممدوحِ، فإِنَّه لا يَصِحُّ أنْ يقالَ إِنه نظيرٌ لبيتَ "زيادٍ" كما قلنا ذاك في بيتِ أبي نواس: ولكنْ يصَيرُ الجودُ حيثُ يصَيرُ وغيرِه مما ذكَرْنا أنه نظيرٌ له كما أنه لا يجوزُ أن يُجْعَل قَولُه: وكلبُكَ أرافُ بالزائرينَ1 مثلاً، نظيراً لقوله: مهزولُ الفصيل2 وإنْ كان الغَرضُ منهما جميعاً الوصفَ بالقِرى والضيافةِ، وكانا جميعاً كنايتين عن معنى واحدٍ، لأنَّ تعاقُبَ الكناياتِ على المعنى الواحدِ لا يُوجِبُ تَناسُبَها، لأنه في عَرُوض أنْ تَتَّفِقَ الأشعارُ الكثيرةٌ في كونها مَدْحاً بالشجاعة مَثَلاً أو بالجودِ أو ما أشبه ذلك. كيف تختلف "الكنايتان"، فلا تكون إحداهما نظيرا للأخرى: 369 - وقد يَجْتمِعُ في البيت الواحدِ كنَايتانِ، المغْزى منهما شيءٌ واحدٌ، ثم لا تكونُ إِحداهما في حكْم النظيرِ للأُخرى. مثالُ ذلك أنه لا يكون قوله: "جبان الكلب" نظير لقوله: "مهزولُ الفصيل"، بل كلُّ واحدةٍ من هاتينِ الكنايَتْينِ أَصْلٌ بنفسِه، وجنسٌ على حدة، وكذلك قولِ ابن هَرْمَةَ: لا أُمْتِع العُوذَ بالفصال ولا ... أَبْتاعُ إلا قريبةَ الأَجَلِ3 ليس إحدى كنايتَيْه في حُكْمِ النظيرِ للأخرى، وإن كانَ المكنى بهما عنه واحدًا، فاعرفه.

_ 1 انظر رقم: 365، والتعليق عليك هناك. 2 انظر رقم: 364. 3 انظر ما سلف رقم: 311، 365.

370 - وليس لِشُعَبِ هذا الأصْلِ وفروعِه وأمثلتِه وصُورهِ وطُرُقِهِ ومسالِكِه حدٌّ ونهايةٌ. ومن لطيفِ ذلك ونادره قول أبي تمام: أَبَيْنَ فمَا يَزُرْنَ سِوى كَريم ... وحسْبُكَ أَن يَزُرْنَ أبا سَعيدِ1 ومثلُه، وإنْ لم يَبلُغْ مبلغه، قول الآخر: مَتى تَخْلُو تَميمٌ مِنْ كَريمٍ ... ومَسْلمَةُ بْنُ عَمْروٍ مِنْ تميمِ2 وكذلك قولُ بعضِ العربِ: إذا لله لم يَسْقِ إلاَّ الكِرامَ ... فسقَى وجوهَ بني حَنْبَلِ وسَقى ديارَهُمُ باكِراً ... مِنَ الغَيْثِ في الزمن الممحل3

_ 1 في ديوانه، وفي هامش "ج" بخط كاتبها، وكأنه تعليق لعبد القاهر. " أي: وحسبك في الدلالة على أنهن لا يزرن سواه، أنهن يزرن أبا سعيد، والخطاب في مثل هذا لكل من سمع الشعر". 2 لم أقف عليه بعد. 3 هذا الشعر في الأغاني 22: 269 - 371 منسوبًا لزهير بن عروة بن جلهمة بن حجر بن خزاعي، التميمي المازني، ولقبه السكب" وهو في الأزمنة والأمكنة 2: 46، 247، لبعض بني مارن، ونسب المبرد بيتًا منه في الكامل 2: 68 للمازني مبهمًا، وذكر بعضه في اللسان (ربب"، وقال ابن بري: "ورأيت من نسبه لعروة بن جلهمة المازني"، وذلك لأن صاحب اللسان نسبه لعبد الرحمن بن حسان، إذا روى عن الأصمعي، أنه قال: "أحسن بيت قالته العرب في وصف الرباب "السحاب" يعني قوله: كأن الرباب دوين السحاب ... نعام تعلق بالأرجل ونسبه لعبد الرحمن أيضًا أبو عبيد القاسم بن سلام (معجم الأدباء 6: 165"، ورواية البيت الثاني في الأغاني: فنعم بنو العم والأقربون ... لدى حطمة الزمن الممحل وأخشى أن يكون الشيخ جمع بين بيتين في بيت.

وفنٌّ منه غريبٌ، قَولُ بعضِهم في البرامكة: سألت الندى والجود مالي أراكُما ... تَبدَّلتُما ذُلاَّ بِعِزٍّ مؤيَّدِ وما بالُ ركْنِ المجْدِ أَمْسَى مُهَدَّما ... فَقالا: أُصِبْنا بابنِ يَحيى مُحمَّدِ فقلتُ فهلاَّ مُتَّمَا عِنْدَ موتهِ ... فقَدْ كُنْتُما عبْدَيْه في كُلِّ مَشْهدِ فقالا: أقمنا كي نعزى بفقده ... سافة يوم، ثم تتلوه في غد1

_ 1في البيت الأول "عز مؤيد"، من "أيده" إذا قواه وعزره، وكان في المطبوعة والمخطوطتين "مؤيد" بالباء الموحدة، وهو عندي ليس بشيء.

باب اللفظ والنظم: فصل في إن ومواقعها

باب اللفظ والنظم: فصل في "إن" ومواقعها فصل: خبر الكندي الفيلسوف مع ثعلب وزعمه أن في كلام العرب حشوا: 371 - واعلمْ أَنّ ممَّا أَغمضَ الطريقَ إِلى معرفَةِ ما نحنُ بصدده، أَنَّ ههنا فروقاً خفيَّةً تَجهلُها العامَّةُ وكثيرٌ من الخاصة، ليس أَنَّهم يَجْهلونَها في موضعٍ ويَعْرفونها في آخرَ، بل لا يَدْرون أَنها هي، ولا يَعْلمونها في جملةٍ ولا تفْصيل. رُويَ عن ابن الأنباريِّ أَنه قال: ركبَ الكنْديُّ المتفلسِف إلى أبي العبّاس وقال له: إني لأَجِدُ في كلامِ العَرب حَشْواً! فقال له أبو العباس: في أي وضع وجَدْتَ ذلك؟ فقال: أَجدُ العربَ يقولون: "عبدُ الله قائمٌ"، ثم يقولون "إنَّ عبدَ الله قائمٌ"، ثم يقولونَ: "إنَّ عبدَ اللهَ لقائمٌ"، فالألفاظُ متكررةٌ والمعنى واحدٌ. فقال أبو العباس: بل المعني مختلفةٌ لاختلافِ الألفاظِ، فقولُهم: "عبدُ الله قائمٌ"، إخبار عن قيامه وقولهم: "إن عبد عبدَ الله قائمٌ"، جوابٌ عن سؤالِ سائلٍ وقوله: "إنَّ عبدَ اللهِ لقائمٌ"، جوابٌ عن إنكارِ مُنْكِرٍ قيامَهُ، فقد تَكرَرَّت الألفاظُ لتكرُّرِ المعاني. قال فما أَحَارَ المتفلسِفُ جواباً1. وإِذا كان الكنديُّ يذَهْبُ هذا عليهِ حتى يَرْكَبَ فيه ركُوبَ مستفهِمٍ أو معْترِضٍ، فما ظنُّكَ بالعامَّة، ومَنْ هو في عِدادِ العامَّة، ممَّنْ لا يَخْطُرُ شبْهُ هذا بباله؟ دخول "إن" في الكلام، وخصائصها: 372 - واعلمْ أنَّ ههنا دقائقَ لو أنَّ الكنديَّ استقرى وتصفَّحَ وتَتَبَّع مواقِعَ "إنَّ"، ثم ألْطَفَ النظرَ وأكثرَ التدبُّرَ، لعَلِمَ عِلْمَ ضرورةٍ أنْ ليس سواء دخولها وأن لا تدخل.

_ 1 ضل عني موضع هذا الخبر الآن.

فأوَّلُ ذلك وأعْجَبُه ما قدَّمتُ لك ذكْرَه في بيتِ بشارٍ: بكِّرا صاحبيَّ قبلَ الهَجيرِ ... إنَّ ذاكَ النَّجاحَ في التبكيرِ1 وما أنشدتُه معه من قولِ بعضِ العرب: فغَنِّهَا وهْي لكَ الفِداءُ ... إنَّ غناءَ الإِبِلِ الحُداءُ2 وذلك أنه هَلْ شيءٌ أَبْينُ في الفائدةِ، وأَدلّ على أنْ ليس سواءً دخولُها وأنْ لا تدخل، أنكَ ترى الجملةَ إذا هيَ دخلَتْ تَرتبِطُ بما قبْلَها وتأتلفُ معه وتَتَّحدُ به، حتى كأنَّ الكلامَيْنِ قد أُفرِغا إفراغاً واحداً، وكأَن أحدَهُما قد سُبِكَ في الآخَرِ؟ هذه هي الصورةُ، حتى إذا جئتَ إلى "إنَّ" فأسقطتَها، رأيتَ الثاني منهما قد نَبَا عن الأولِ، وتجافى معناه عن معناه، ورأيْتَه لا يتَّصلُ به ولا يكونُ منه بسبيلٍ، حتى تجيءَ "بالفاءِ" فتقولُ: "بكِّرا صاحبيَّ قبلَ الهجيرِ، فذاكَ النجاحُ في التبكير"، و "غنِّها وهيَ لكَ الفداءُ، فغناءُ الإِبلِ الحُداءُ"، ثم لا ترَى "الفاء" تعيد الجملتين إل ما كانتا عليه مِنَ الألفة، ولا تردُّ عليك الذي كنت تجد "بإن" من المعنى. 373 - وهذا الضربُ كثيرٌ في التَّنزيلِ جدَّاً، من ذلك قولُه تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1]، وقولُه عزَّ اسمُه {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى

_ 1 مضى في رقم: 315. 2 مضى في رقم: 316.

مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17]، وقولُه سبحانه {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103]، ومن أبْيَن ذلك قولُه تعالى: {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [هود: 27/ المؤمنون: 27] وقد يتكرَّرَ في الآيةِ الواحدةِ كقوله عزَّ اسمُه: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف: 53]، وهي عَلَى الجملةِ من الكَثْرة بحيثُ لا يدركها الإحصاء. محاسن دخول "إن" على ضمير الشأن وأمثلته: 374 - ومِنْ خصائِصِها أَنك تَرى لِضميرِ الأمرِ والشأنِ معها منَ الحُسْنِ واللطفِ ما لا تَراه إذا هي لم تَدْخُل عليه، بل تراه لا يصلحُ حيثُ صَلَحَ إلاَّ بها، وذلك في مثْلِ قولهِ تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 9]، وقولِه {أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [التوبة: 63]، وقولِه: {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ} [الأنعام: 54] وقوله: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117]، ومن ذلك قولُه: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَار} [بالحج: 46] وأجاز أبو الحَسنِ فيها وجْهاً آخرَ1 وهو أنْ يكونَ الضميرُ في "إنها" للأَبصار، أُضْمِرَتْ قبْلَ الذكْرِ على شَريطة التفسير. والحاجةُ في هذا الوجْه أيضاً إلى "أنَّ" قائمةٌ، كما كانت في الوجهِ الأولِ فإِنه لا يُقال: "هيَ لا تَعْمى الأَبصار" كما لا يُقالُ: "هوَ مَنْ يَتَّقِ ويَصْبِرُ فإنَّ الله لا يُضيع". فإِن قلتَ: أوَ ليسَ قد جاء ضميرُ الأمرِ مبتدأً به مُعرًّى مِن العوامِلِ في قولِهِ تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد}؟

_ 1 "أبو الحسن"، هو الأخفش.

قيل: هو وإنْ جاء ههنا، فإِنه لا يكادُ يُوجَدُ مع الجملة منَ الشَّرْط والجزاء، بل تراهُ لا يجيءُ إلاَّ "بإن" على أنهم قد أجازوا {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد}، أنْ لا يكونَ الضميرُ للأَمر. 375 - ومن لطيفِ ما جاء في هذا الباب ونادرِهِ، ما تجدُه في آخِرِ هذه الأبيات، أنشدها الجاحظ لبعض الحجازيين: إذا طمع يومًا عراني قريته ... كتائب بأس كرَّها وطِرادَها أَكُدُّ ثِمَادي والمياهُ كثيرةٌ ... أُعالِجُ مِنها حفْرَها واكْتِدادَها وأَرْضى بها مِنْ بحرِ آخرَ، إنَّه ... هُوَ الرّيُّ أن تَرْضَى النفوسُ ثِمادَها1 المقصودُ قولُه: "إنه هو الرّيُّ"، وذلك أَن الهاءَ في "إنه" تحتَملُ أمرَيْن: أحدُهما: أن تكونَ ضميرَ الأَمْرِ، ويكونَ قولُه: "هو" ضمير: "أن ترضى"، وقد أضمره قبل الذكْر على شريطةِ التفسير. الأصل: "إنَّ الأمرَ، أن ترضى النفوسُ ثِمادَها، الرِّيُّ"، ثم أُضمِر قبل الذكْرِ كما أُضمرِت "الأبصارُ" في "فإنها لا تَعْمَى الأبصار" على مذهب أبي الحسنِ، ثم أتى بالمضْمَرِ مصرَّحاً به في آخر الكلام2، فعُلِمَ بذلك أن الضميرَ السابقَ له، وأنَّه المراد به.

_ 1 هو في البيان والتبيين 3: 338، والبيتان الأخيران في مجالس ثعلب: 664، واللسان "كدد". "عراني"، غشيني ونزل على نزول الضيف. "وكذا الشيء يكده"، و "أكنده"، نزعه بيده، يكون ذلك في السائل الجامد. و "الثماد"، الماء القليل، يقول: أرضى القليل وأقنع به. وفي هامش "ج" بخطه، ما نصه: " من بحر آخر، أي: بدلًا من بحر آخر". 2 في المطبوعة وحدها: "ثم أتى بالمفسر".

والثاني: أن تكون الهاء في "إنه" ضميرَ "أنى تَرْضى" قبلَ الذكْرِ، ويكونَ "هو" فَصْلاً، ويكونُ أصْلُ الكلام: "إنَّ أنْ تَرضى النفوسُ ثِمادها هو الرِّيُّ" ثُم أُضمِر على شريطةِ التفسير. وأَيَّ الأمَرْينِ كان، فإِنه لا بدَّ فيه من "إِنَّ"، ولا سبيلَ إلى إِسقاطها، لأنَّكَ إنْ أسقطْتَها أَفْضَى ذلكَ بكَ إلى شيءٍ شنيعٍ، وهو أن تقولَ: "وأَرْضى بها من بحر آخر هو الرى أن ترضى النفوس ثمادها". "إن" تربط الجملة بما قبلها: 376 - هذا، وفي "إنَّ" هذه شيءٌ آخرُ يُوجِبُ الحاجةَ إليها، وهو أَنها تَتولَّى من رَبْط الجملةِ بما قبْلَها نحواً مما ذكرتُ لك في بيتِ بشارٍ1. ألا ترى أَنك لو أَسقطْتَ "إنَّ" والضميرَيْنِ معاً، واقتصَرْتَ على ذكرِ ما يَبْقى من الكلامِ، لم تَقلْهُ إلا "بالفاء" كقولك: "وأرضَى بها من بحرِ آخرَ، فالريُّ أن ترضَى النفوسُ ثِمادها". فلو أنَّ الفيلسوفَ قد كان تَتَبَّع هذه المواضعَ2، لَما ظَنَّ الذي ظنَّ. هذا، وإِذا كان خلَفُ الأحمرُ وهو القدوةُ، ومَنْ يُؤخذُ عنه، ومَن هُو بحيثُ يَقول الشعرَ فيَنْحَلُه الفحولَ الجاهليينَ فيخفَى ذلك له، ويجوزُ أَنْ يَشْتبه ما نحن فيه عليه حتى يقَعَ له أن يَنْتَقِد على بشَّار3، فلا غروَ أن تَدْخُلَ الشُّبهةُ في ذلك على الكندي.

_ 1 انظر رقم: 372. 2 انظر الخبر في رقم: 371. 3 انظر ما سلف رقم: 315.

"إن"، تهيء النكرة لأن يكون لها حكم المبتدأ في الحديث عنها: 377 - ومما تَصنعُه "إنَّ" في الكلام، أنَّك تَراها تهيئ النكِرةَ وتُصْلِحُها لأن يكونَ لها حكْمُ المبتدأ، أعنى أن تكونَ محدَّثاً عنها بحديثٍ من بعدها. ومثال ذلك قوله: إنَّ شِواءَ ونَشْوَةً ... وخَبَب البازلِ الأمُونِ1 قد تَرى حسنَها وصحَّةَ المعنى معها، ثم إنَّك إنْ جئتَ بها من غيرِ "إنَّ" فقلتَ: "شواءٌ ونشوةٌ وخبَبُ البازلِ الأمونِ" لم يكنْ كلاماً. 378 - فإنْ كانتِ النكرةُ موصوفةً، وكانتْ لذلك تَصْلحُ أن يبتدأ بها، فإن تَراها مع "إِنَّ" أحْسَنَ، وترى المعنى حينئذٍ أَوْلى بالصِّحَّة وأمْكَنَ، أفلاَ تَرى إلى قوله: إنَّ دَهْراً يلفُّ شَملي بسُعدى ... لَزَمانٌ يَهُمُّ بالإحسانِ ليس بخفيٍّ وإنْ كانَ يستقيمُ أنْ تقولَ: "دهرٌ يلفُّ شملي بسُعدى دهرٌ صالحٌ"2 أنْ ليسَ الحالانِ على سواءٍ، وكذلك ليس بِخَفيِّ أَنَّك لو غمدت إلى قوله: إن أمرًا فادحًا ... عن جوابي شغلك3

_ 1 الشعر لسلمى بن ربيعة التيمي، شرح الحماسة للتبريزي 3: 83، وخبر "إن" في البيت الخامس، وهو: من لذة العيش، والفتى ... للدهر، والدهر ذو فنون و"البازل" من الإبل الذي تناهت قوته في السنة التاسعة، و "المون"، الناقة الموثقة الخلق. 2 السياق: "ليس بخفي .... أن ليس الحالان على سواء". 3 الشعر لأم الليك بن السلكة، ترثى ولدها. وشعرها الجيد في شرح الحماسة للتبريزي 2: 191، 192

فأسقطتَ منه "إِن" لَعدِمْتَ منه الحسْنَ والطلاوةَ والتمكُّنَ الذي أنتَ واجِدُهُ الآنَ، ووجَدْتَ ضعفاً وفتورًا. "إن"، أثرها في الجملة، أنها تغني عن الخبر، ومثال ذلك: 379 - ومن تأثير "إن" في الجملة، أنها ت غني إذا كانتْ فيها عن الخَبر، في بعضِ الكلامِ1. ووَضَعَ صاحبُ الكتاب في ذلك باباً فقال: "هذا بابُ ما يَحْسُنُ عليه السكوتُ في هذه الأحرُفِ الخمسةِ، لإضمارِكَ ما يكونُ مستقرًّا لها وموضعًا لو أظهرته. وليس هذا المضمطر بنفس المظهر، وذلك: "إن مالًا" و "إن ولدًا"، و "إن عدداً"، أي: "إنَّ لَهُمْ مالاً" فالذي أضمرتَ هو "لهم" ويقولُ الرجلُ للرَّجل: "هلْ لكُم أحدٌ؟ إنَّ الناسَ أَلْبٌ عليكمْ"، فَيَقول: "إنَّ زيداً وإِنَّ عَمراً" أَي: "لنا"، وقال [الأعشى]: إنَّ مَحَلاًّ وإنَّ مُرْتحلا ... وإِنَّ في السَّفْرِ إذا مَضَوْا مَهَلا2 ويقول: "إنَّ غيرَها إبلاً وشاءَ" كأنه قال: "إنَّ لنا، أو: عندَنا، غيرَها"، قال: وانتصبَ "الإِبلُ" و "الشاء" كانتصابِ "الفارسِ" إذا قلتَ: "ما في الناسِ مثله فارسًا"، وقال: ومثل ذلك قوله: يا لَيْتَ أيَّام الصِّبَا رَوَاجِعا3 قال: فهذا كقولِهم: "أَلاَ ماءً بارداً"، كأنه قال: "ألا ماءً لنا بارداً: وكأنه قال: يا ليتَ أيام الصبا أقبلت رواجع"4.

_ 1 في "س": " ... أنها إذا كانت فيها حذف الخبر"، ومثله في نسخة عند رشيد رضا. 2 الشعر في ديوان الأعشى، وفي المطبوعة: "وإن في النفس إن مضوا"، وهو خطأ، وفي "ج" "إن مضوا"، والذي في نص سيبويه "وإن في السفر ما مضىِ". 3 البيت للعجاج عند ابن سلام في طبقات فحول الشعراء رقم: 101، وهو في محلقات ديوانه طبع أوربة. 4 هذا النص كاملًا في كتاب سيبويه 1: 283، 284.

380 - فقد أراك في هذا كلِّه أنَّ الخبرَ محذوف، وقد نرى حُسْنَ الكلامِ وصحَّتَه مع حذفِه وترْكِ النطقِ به. ثم إنَّك إِنْ عمَدْتَ إلى "إِنَّ" فأسقطتَها، وجدْتَ الذي كان حسُنَ من حذفِ الخبرِ، لا يَحْسُنُ أو لا يَسوغُ. فلو قلت: "مال"، و "عدد" و "محل" و "مرتحل" و "غيرها إبلاً وشاءً" لم يكنْ شيئاً. وذلك أنَّ "إِنَّ" كانت السَّببَ في أنْ حَسُنَ حذفُ الذي حُذِفَ من الخَبر، وأنها حاضِنتُهُ، والمترجِمُ عنه، والمتكفل بشأنه. بيان في شأن "إن"، و"الفاء" التي يحتاج إليها إذا أسقطت "إن": 381 - واعلمْ أنَّ الذي قلنا في "إنَّ" من أنَّها تدخلُ على الجُملة1، من شأنها إذا هي أُسقطتْ منها أن يُحتاجَ فيها إلى "الفاءِ"2 لا يَطِّردُ في كلِّ شيءٍ وكلِّ موضعٍ، بل يكونُ في موضعٍ دونَ موضعٍ، وفي حالٍ دونَ حالٍ، فإِنك قد تَراها قد دَخَلتْ على الجملةِ ليستْ هي مما يَقْتضي "الفاءَ"، وذلك فيما لا يُحصى كقولهِ تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ، فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}، وذاكَ أنَّ قبله {إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُون} [الدخان: 50 - 52]. ومعلومٌ أنَّك لو قلتَ: "إنَّ هذا ما كنتُم به تمترون، فالمتقون فيج ناب وعيونٍ"، لم يكنْ كلاماً وكذلك قولُه: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}، لأنَّك لو قلتَ: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ} [الأنبياءِ100 - 101] فالذين سبقت لهم من الحسنى، لم تَجِدْ لإِدخالِك "الفاء" فيه وجهاً وكذا قولُه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الحج: 87]، {الَّذِينَ آمَنُوا}

_ 1 في "ج": "تدخل على المبتدإ"، والسياق يأباه. 2 السياق: و "اعلم أن الذي قلنا في "إن" لا يطرد".

اسم "إنَّ"، وما بعدَه معطوفٌ عليه، وقولُه: {إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 1 جملةٌ في موضعِ الخبرِ، ودخولُ "الفاء" فيها محالٌ، لأنَّ الخَبر لا يُعطَف على المبتدأ، ومثلُه سواءٌ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30]. 382 - فإذنْ، إنما يكونُ الذي ذكَرْنا في الجملة من حديثِ اقتضاءِ "الفاءِ"، إذا كان مصدرُها مصدرَ الكلام يُصحَّحُ به ما قبلَه، ويُحْتَجُ له، ويُبَيَّنُ وجهُ الفائدة. فيه. ألاَ ترى أنَّ الغرضَ من قوله: إنَّ ذاكَ النجاحَ في التبكير2 جُلُّه أن يُبيِّن المعنى في قوله لصاحبيه: "بَكِّرا"، وأن يحْتجَّ لنفسه في الأَمرِ بالتبكير، ويُبيَّنَ وَجْهَ الفائدةِ فيه؟ وكذلكَ الحكْم في الآي التي تَلَوْناها فقولُه: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} 3، بيانٌ للمعنى في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ}، ولِمَ أُمروا بأَنْ يَتَّقُوا وكذلك قولُه: {إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} 3، بيانٌ للمعنى في أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة، أي بالدعاء لهم. وهذا سبيلُ كلِّ ما أنتَ تَرى فيه الجملةَ يُحتاجُ فيها إلى "الفاء"، فاعرفْ ذلك. 383 - فأمَّا الذي ذُكر عن أبي العباس4، مِنْ جَعْله لها جواب

_ 1 من أول قوله: "إن الذي آمننوا: اسم إن ... "، إلى هنا من "س" وحدها. 2 انظر ما سلف رقم: 372. 3 انظر ما سلف رقم: 373. 4 انظر رقم: 371.

سائلٍ إذا كانتْ وحدَها، وجوابَ مُنْكِر إذا كان معها اللامُ، فالذي يدلُّ على أنَّ لها أصْلاً في الجوابِ، أنَّا رأيناهُمْ قد ألزمُوها الجملةَ من المبتدأ والخبر إذا كانت جواباً للقَسَم، نحو: "واللهِ إِنَّ زيداً مُنْطلِقٌ" وامتنعوا مِنْ أن يقولوا: "واللهِ زيدٌ منطِلقٌ". مجيء "إن" في الجواب عن سؤال سائل، وأمثلته: 384 - ثم إنَّا إذا استقرَيْنا الكلامَ وجَدْنا الأمرَ بيِّناً في الكثير من مواقِعها، أنه يُقصَدُ بها إلى الجوابِ كقولهِ تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا، إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ} [الكهف: 83، 84]، وكقولِه: عزَّ وجَلَّ في أَوَّلِ السورة: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} [الكهف: 13]، وكقوله تعالى: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء: 216]، وقولِه تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنعام: 56]، [سورة غافر: 66]، وقوله: {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} [الحجر: 89]، وأشباه ذلك مما يعلم قبه أنَّه كلامٌ أُمِرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بأن يُجيبَ به الكفارَ في بعضِ ما جادَلوا وناظَروا فيه. وعلى ذلكَ قولُه تعالى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 16]، وذاك أنَّه يَعْلم أنَّ المعنى: فأتياهُ، فإِذا قالَ لَكُما ما شأْنُكُما؟ وما جاءَ بكُما؟ وما تقولانِ؟ فقُولا: إنَّا رسولُ ربِّ العالمينَ. وكذا قولُه: {وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 14]، هذا سبيلُهُ. ومَنِ البيِّن في ذلك قولُه تعالى في قِصَّةِ السَّحَرة: {قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقلِبُونَ} [الأعراف: 125]، وذلك لأنه عِيَانٌ أنه جوابُ فرعونَ عن قولِه: {آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [الأعراف: 123]، فهذا هو وجْهُ القولِ في نُصْرةِ هذه الحكاية.

بيان في "إن" ومجيئها للتأكيد: 385 - ثم إنَّ الأصْلَ الذي ينبغي أنْ يكونَ عليه البناءُ، هو الذي دُوِّن في الكتبِ، من أنها للتأكيدِ، وإذا كانَ قد ثَبَت ذلكَ، فإِذا كان الخبرُ بأمْرٍ ليس للمخاطَبِ ظنٌّ في خِلافهِ البتَّةَ، ولا يكونُ قد عقد في نسه أنَّ الذي تزعُم أَنه كائنٌ غيرُ كائنٍ، وأنَّ الذي تزعُم أنه لم يكنْ كائنٌ فأنتَ لا تحتاجُ هناك إلى "إنَّ"، وإنما تحتاجُ إليها إذا كاَن له ظَنُّ في الخلاف، وعقد قلب على نفي ما ثبت أو إثبات ما ننفي. ولذلك تَراها تزدادُ حُسْناً إذا كان الخبرُ بأمرٍ يَبْعُدُ مثْلُه في الظنِّ، وبشيءٍ قد جرتْ عادةُ الناسِ بخلافِهِ، كقول أبي نُوَاس: عليكَ باليأسِ منَ الناسِ ... إنَّ غِنى نَفْسِك في الياسِ1 فقد تَرى حُسْنَ موقعِها، وكيف قبولُ النفسِ لها، وليسَ ذلك إلاَّ لأنَّ الغالِبَ على الناس أنهم لا يَحمِلون أنفسَهم على اليأس، ولا يدَعُونَ الرجاءَ والطمَعَ، ولا يعترفُ كلُّ أحدٍ ولا يُسلِّمُ أنَّ الغِنى في اليأس. فلمَّا كان كذلك، كان الموضعُ مَوْضعَ فقرٍ إلى التأكيدِ، فلذلك كان من حُسْنها ما تَرى. ومثلُه سواءٌ قولُ محمد بن وهب: أجَارتَنا إنَّ التَّعَفُّفَ باليَاسِ ... وصَبْراً على اسْتِدْرارِ دُنْيا بإبْساسِ حَرِيَّانِ أنْ لا يَقْذِفا بمذلَّةٍ ... كَريماً وأنْ لا يُحوِجاهُ إلى الناسِ أجارَتنا إنَّ القِداحَ كواذبٌ ... وأكْثرُ أَسْبابِ النّجاحِ معَ الياس2

_ 1 في ديوانه، في باب العتاب، وروايته هنا: "إن الغني ويحك في اليأس". 2 هو في الأغاني 19: 75، "الهيئة"، في خبر يدل على أن عدة أبيات القصيدة اثنان وسبعون بيتًا، يقولها في الحسن بن رجاء حين تولى الجبل. و "الإبساس" أن يمسح ضرع الناقة وصوت بها، لتسكن له وتذر، يريد الترفق بالدنيا إذا ضنت، حتى يأتي ما شاء الله من الرزق. وخبر "إن" هو قوا "حريان" في البيت الثاني. فالسياق: إن التعفف باليأس وإن صبرا على استدرار دنيا بإساس ... حريان".

هو: كما لا يَخْفَى، كلامٌ معَ مَنْ لا يَرى أنَ الأمْرَ كما قال، بل يُنْكِرهُ ويَعْتقد خلافَه. ومعلومٌ أنه لم يقلْه إلاَّ والمرأةُ تَحْدوهُ وتبعثُه على التعرُّضِ للناس، وعلى الطلب. "إن"، ومجيئها في التهكم، وشرطها إذا كانت في جواب سائل: 386 - ومن لطيفِ مواقعِها أنْ يُدَّعى على المخاطَب ظَنَّ لم يظنَّه، ولكنْ يُرادُ التهكُّم به، وأنْ يُقالَ: "إنَ حالَكَ والذي صنَعْتَ يَقْتضي أن تكونَ قد ظننْتَ ذلكَ". ومثالُ ذلكَ الأول: جاء شقيق عارضًا محه، ... إنَّ بَني عَمِّكَ فيهمْ رِماحْ1 يقولُ: إنَّ مجيئَه هكذا مُدِلاً بنَفْسِه وبشجاعَتِهِ قد وضعَ رمْحَه عرضاً، دليلٌ على إعجابٍ شديدٍ، وعلى اعتقاد منه أنه لا يقوم لهأحد، حتى كأنْ ليس مع أحدٍ منَّا رمحٌ يدفَعَهُ به، وكأنَّا كلَّنا عُزْلٌ. وإِذا كان كذِلكَ، وَجَبَ إذا قيلَ أنَّها جوابُ سائلٍ، أنْ يُشْتَرَطَ فيه أنْ يكونَ للسائلِ ظنٌّ في المسئول عنه على خلافِ ما أنتَ تُجيبُهُ به. فأمَّا أَنْ يُجْعل مجرَّدُ الجوابِ أصْلاً فيه فلا، لأنه يؤدي إلى أنْ لا يَسْتقيم لنا إذا قال الرجلُ: "كيفَ زيد؟ " أنْ تقولَ: "صالحٌ"، وإِذا قال: "أينَ هو؟ " أن تقول: "في الدار" وأنْ لا يصحَّ حتى تقولَ: "إنه صالحٌ"، "وإنه في الدار"، وذلك ما لا يقولُه أحَد.

_ 1 الشعر لخجل بن نضلة، أحد بني عمروبن عبد بن قتيبة بن معن بن أعصر، في البيان والتبيين 3: 340، والمؤتلف والمختلف: 82.

وأمَّا جعْلُها إذا جُمِعَ بينها وبين "اللام" نحو: "إنَّ عبدَ الله لقائم" للكلامِ مع المنكَّر، فجيِّدٌ، لأنَّه إذا كان الكلامُ مع المُنَكَّر، كانت الحاجةُ إلى التأكيدِ أشدَّ. وذلك أنَّك أحوجُ ما تكونُ إلى الزيادة في تثبيت خيرك، إذا كانَ هناك مَنْ يَدْفعُه ويُنْكِر صحَّتَه، إلاَّ أنه يَنبغي أن يُعْلَم أنه كما يكونُ للإنكارِ قد كانَ مِن السامعِ، فإِنه يكون للإنكار يعلم أو يرى أن يكون من السامعين. وجلمة الأمر أنك لا تقولُ: "إنَّه لكذلك"، حتى تريد أن تضع كلامك وضع من يزغ فيه عن الإنكار1. "إن" تدخل للدلالة على أن ظنك الذي ظننت مردود: 387 - واعْلَمْ أنها قد تَدْخلُ للدلالة على أنَّ الظنَّ قد كان منكَ أيُّها المتكلِّمُ في الذي كان أنَّه لا يكونُ. وذلك قولُكَ لِلشيءِ هو بمرأى من المُخاطَبِ ومَسْمع: "إنه كان من الأمْر ما تَرى، وكان منِّي إلى فلانٍ إحسانٌ ومعروفٌ، ثم إنه جَعلً جَزائي ما رأيْت"، فتجعلُكَ كأنك تَردُّ على نفْسِك ظَنَّكَ الذي ظنَنْتَ، وتُبيِّنُ الخطأ الذي توهَّمْتَ. وعلى ذلك، واللهُ أعلمُ، قولُه تعالى حكايةً عن أمِّ مريم رضي الله عنهما: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران: 36]، وكذلك قولُه عزَّ وجَلَّ حكايةً عن نوحٍ عليه السلام: {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُون} [الشعراء: 117]، وليس الذي يَعْرِضُ بسببِ هذا الحرفِ من الدقائق والأُمور الخفيَّةِ، بالشيء يُدْرَك بالهُوَينا. ونحن نَقْتصِر الآن على ما ذكَرْنا، ونأخذُ في القولِ عليها إذا اتصلتْ بها "ما".

_ 1 "وزعه عن الأمر يزعه وزعًا"، كفه ورده، ودفعه عنه.

باب القصر والاختصاص

باب القصر والاختصاص: فصل في "إنما" ومواقعها فصل: في مسائل "إنمًا" قول الفارسي في "إنما" في كتابه "الشيرازيات": 388 - قال الشيخُ أبو علي في "الشيرازيَّات"1: "يقولُ ناسٌ من النَّحْويين في نحْو قولهِ تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33]، إنَّ المعنى: ما حَرَّمَ ربِّي إلاَّ الفواحشَ. قال: وأصبتُ ما يدل على صحته قولهم في هذا، وهو قول الفرزدق: أَنَا الذائدُ الحامي الذِّمارَ، وإنَّما ... يُدافِعُ عَنْ أحسابِهِم أَنا أوْ مِثْلِي2 فليس يَخْلو هذا الكلامُ مِنْ أن يكونَ موجِباً أو مَنْفيّاً. فلو كان المراد به الإيجاب لم يستقيم، ألاَ ترى أنَّك لا تقولُ: "يُدافعُ أنا" و "لا يقاتل أنا"، وإنما تقول: "أدافع" و "أقاتل" إلاَّ أنَّ المعنى لمَّا كانَ: "ما يُدافِعُ إلا أنا"، فصَلْتَ الضميرَ كما تفصِلهُ مَع النَّفي إذا ألحقتَ معه "إلاَّ"، حَمْلاً على المعنى، وقال أبو إسحاقَ الزجَّاجُ في قولِه تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} [البقرة: 173، سورة النحل: 115]، النصْبُ في "الميتة" هو القراءةُ، ويجوزُ: "إنما حُرِّمَ عليكم". قال أبو إسحاقَ: والذي اختارُه أن تكونَ "ما" هي التي تمنعُ "إنَّ" مِنَ العمل، ويكونُ المعنى: "ما حُرِّمَ عليكُم إلاَّ الميتةُ"، لأنَّ "إنما" تأتي إثباتاً لما يُذْكَرُ بعدَها، ونَفْياً لِمَا سواهُ، وقولِ/ الشاعر/. وإنَّما يُدافِعُ عَنْ أحسابِهِم أَنا أوْ مِثْلِي المعنى: ما يُدافِع عن أحسابِهم إلا أنا او مثلي". انتهى كلام أبي علي.

_ 1 هو الشيخ أبي على الفارسي. 2 هو في ديوانه، وانظر ما سيأتي في رقم: 404.

ليس كلُّ كلام يصلُحُ فيه "ما"، و"إلا" يصلح فيه "إنما": 389 - اعلمْ أنَّهم، وإنْ كانوا قَدْ قَالوا هذا الذي كتبته لك، فإنه لم يَعْنُوا بذلك أنَّ المعنى في هذا هُوَ المعنى في ذلكَ بعينِه، وأنَّ سبيلَهما سبيلُ اللفظَيْن يُوضَعان لمعنى واحدٍ. وفرقٌ بينَ أنْ يكونَ في الشيءِ معنَى الشيءِ، وبينَ أنْ يكونَ الشيءُ الشيءَ عَلَى الإطلاق. يُبيِّنُ لكَ أنَّهما لا يكونان سواءً، أنه ليس كلُّ كلامٍ يصلُحُ فيه "ما" و "إلاَّ"، يصلحُ فيه "إنما". ألاَ تَرى أنها لا تَصْلُح في مثلِ قولِه تعالى: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّه} [آل عمران: 62]، ولا نحوِ قولِنا: "ما أحدٌ إلاَّ وهُو يقولُ ذك"، إذْ لوْ قلتَ: "إنَّما مِنْ إلهٍ اللهُ" و "إنما أحَدٌُ وهو يقولُ ذاك"، قلتَ ما لا يكون له معنى. فإن قلت: إن ذلك أنَّ "أحداً" لا يقعُ إلاَّ في النفيِ وما يَجْري مَجْرى النفي من النَهْي والاستفهام، وأنَّ "مِنْ" المَزيدةَ في "ما مِنْ إلهٍ إلا اللهُ"، كذلكَ لا تكونُ إلاَّ في النفي. قيل: ففي هذا كفايةٌ، فإنه اعترافٌ بأنْ ليسا سواءً، لأنهما لو كانا سواءً لكانَ ينبغي أن يكونَ في "إِنما" مِنَ النفي مثلُ ما يكونُ في "ما" و "إلاَّ" وكما وجدتَ "إنما" لا تصلحُ فيما ذكرْنا، كذلك تجد "ما" و "إلا" لا تصْلُح في ضَرْبٍ من الكلام قد صلحتْ فيه "إنما"، وذلكَ في مثلِ قولكَ:"إنما هو دِرهمٌ لا دينارٌ"، لو قلتَ: "ما هو إلاَّ درهمٌ لا دينارٌ"، لم يكنْ شيئاً. وإذْ قد بانَ بهذه الجملةِ أنَّهم حينَ جعلوا "إنما" في معنى "ما" و "إلا"، لم يَعْنوا أنَّ المعنى فيهما واحدٌ على الإطلاق، وأن يُسْقطوا الفرْقَ1 فإني أُبَيِّن لكَ أمرَهُما، وما هو أصْلٌ في كلِّ واحدٍ منهما، بعون الله وتوفيقه.

_ 1 السياق: "وإذ قد بان بهذه الجملة ..... فإني أبين لك ... ".

"إنما"، تجيء لخبر لا يجهله المخاطب، وتفسير ذلك: 390 - إِعْلم أنَّ موضوعَ "إنما" على أن تجيءَ لخَبرٍ لا يَجهلُهُ المخاطَبُ ولا يَدفعُ صِحَّتَه، أو لا يُنزَّلُ هذه المنزلةَ1. تفسيرُ ذلك أَنكَ تقولُ للرجل: "إنما هو أخوك" و "إنما هُوَ صاحُبك القديمُ": لا تقولُه لِمَنْ يَجْهلُ ذلك ويدفَعُ صحَّتَه، ولكنْ لِمَن يَعْلَمُه ويُقِرُّ به، إلاَّ أنَّك تُريد أن تُنَبِّهَهُ للذي يجبُ عليه من حقِّ، الأخِ وحُرْمةِ الصاحبِ، ومثله قوله2: إنما أنتَ والدٌ، والأبُ القا ... طِعُ أحْنى مِنْ واصلِ الأولادِ3 لم يُرد أن يُعْلِمَ كافوراً أنه والدٌ، ولا ذاكَ مما يحتاجُ كافورٌ فيه إلى الإِعلام، ولكنه أراد أنْ يُذكِّرَهُ منه بالأمر المعلوم ليبنى عليه استداء ما يُوجِبهُ كونُهُ بمنزلةِ الوالدِ4. ومثلُ ذلك قولُهم: "إنَّما يَعْجَلُ مَنْ يَخْشَى الفَوْتَ"، وذلكَ أنَّ مِن المعلومِ الثابتِ في النفوسِ أنَّ من لم يخشى الفوتَ لَمْ يَعْجَل. ومِثالُه مِنَ التنزيلِ قولُه تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} [الأَنعام: 36]، وقولُه عز وجل: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [يس: 11]، وقولُه تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات: 45]، كلُّ ذلكَ تذكيرٌ بأمرٍ ثابتٍ معلومٍ. وذلك أنَّ كلَّ عاقلٍ يَعْلَم أنَّه لا تكونُ استجابة إلا ممن

_ 1 انظر ما سيأتي أيضًا برقم: 418. 2 في المطبوعة و "ج" "قول الآخر"، كأنه سهو. 3 هو المتنبي، في ديوانه. 4 في المطبوعة: "لينبني".

يسمع ويعقل مايقال له ويُدْعى إليه، وأنَّ مَنْ لم يَسْمعْ ولم يعقِلْ لم يَسْتجبْ. وكذلك معلومٌ أنَّ الإنذارَ إنما يكونُ إنذاراً ويكونُ له تأثيرٌ، إذا كان معَ مَنْ يؤمِنُ بالله ويَخْشاهُ ويُصدِّقُ بالبعثِ والساعةِ، فأمَّا الكافرُ الجاهلُ، فالإنذارُ وتَرْكُ الإنذار معه واحدٌ. فهذا مثالُ ما الخبرُ فيهِ خبرٌ بأمرٍ يعلمُه المخاطَبُ ولا يُنْكِرُه بحالٍ. 391 - وأمَّا مثالٌ ما يُنَزَّل هذه المنزلةَ، 1 فكقولِه: إنما مُصْعَبٌ شِهابٌ مِنَ ... الله تجلَّتْ عن وجْهِهِ الظلْماءُ2 ادَّعى في كونِ الممدوحِ بهذه الصفةِ، أنَّه أمرٌ ظاهرٌ معلومٌ للجميع، على عادةِ الشعراءِ إذا مَدَحوا أنْ يدَّعوا في الأوصاف التي يَذْكُرون بها الممدوحينَ أنها ثابتةٌ لهم، وأنَّهم قد شُهروا بها، وأنهم لم يَصِفوا إلاَّ بالمعلومِ الظاهرِ الذي لا يدفعُه أحد، كما قال: وتعدلني أفناءُ سَعْدٍ عليهمُ ... وَمَا قلْتُ إلاَّ بالذَّي عَلِمَتْ سَعْدُ3 وكما قال البحتري: لا أدَّعي لأبي العلاءِ فَضيلَةً ... حتَّى يُسَلِّمَها إلَيْهِ عِدَاه4 ومثلُه قولُهم: "إنما هو أسَدٌ"، و "إنما هو نار"، و "إنما هو سيف

_ 1 انظر أول الفقرة رقم: 398. 2 هو لابن قيس الرقيات في ديوانه. 3 هو للحطيئة في ديوانه. 4 هو في ديوانه.

صارمٌ"، إذا أدخلوا "إنما" جعلوا ذلك في حُكْم الظاهرِ المعلومِ الذي لا يُنْكَر ولا يدفع ولا يخفى. 392 - وأما الخبر بانلفي والإثبات نحو: "ما هذا إلا كذا"، و "إن هو إلا كذا"، فيكون للمر يُنْكِرهُ المخاطَبُ ويَشُكُّ فيه. فإذا قلتَ: "ما هو إلاَّ مُصيبٌ" أو: "ما هو إلا مخطئ"، قلتَه لمن يدفَعُ أن يكونَ الأمْرُ على ما قلت، وإذا رأيتَ شخصاً مِنْ بعيدٍ فقلتَ: "ما هو إلا زيدٌ"، لم تَقُلْه إلاَّ وصاحِبُك يَتوهَّم أنه ليس بزيدٍ، وأنه إنسانٌ آخرُ، ويجدُّ في الإنكارِ أن يكون "زيدًا". وإأذا كان الأمرُ ظاهراً كالذي مضَى، لم تَقُلْه كذلك، فلا تقول للرجل ترقفه على أخيهِ وتُنَبِّهُهُ للذي يَجب عليه منْ صِلة الرَّحِم ومنْ حُسْن التحابِّ1: "ما هُوَ إلاَّ أخوك" وكذلك لا يَصْلُح في "إنما أنتَ والدٌ": "ما أنتَ إلاَّ والدٌ"، فأما نحوُ: "إنما مصعبٌ شهابٌ"، فيَصلُحُ فيه أن تقولَ: "ما مصعبٌ إلاَّ شهابٌ"، لأنَّه ليس من المعلومِ على الصحَّة، وإنما ادَّعى الشاعرُ فيه أنَّه كذلك، وإذا كانَ هذا هكذا، جاز أن تقول بالنفي والإثباتِ، إلاَّ أنك تُخْرِجُ المدحَ حينئذٍ عن أن يكونَ على حَدِّ المبالغةِ، من حيثُ لا تكونُ قد ادَّعيتَ فيه أنه معلوم، وأنهبحيث لا يُنْكِره مُنْكِرٌ، ولا يُخَالِفُ فيه مُخالِفٌ.

_ 1 في "ج"، "حسن التحافي" بالحاء، وفي "س": "التجافي" بالجيم وهي ليست بشيء. أما "التحافي"، كأنه من "الحفاوة"، يقال: "تحفي به، واحتفى" إذا بالغ في إكرامه. وهي حسنة إن شاء الله، وقد تركت ما في المطبوعة كما هو لظهوره، وإن كنت أخشى أن يكون رشيد رضا قد غيرها، وأن الأصل "التحافي"، كما في "ج".

"إن"، و"إلا" وبيان المراد فيهما، والفرق بينهما وبين "إنما": 393 - قولهُ تعالى: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [إبراهيم: 10] إنما جاء، والله أعلم، "بإن" و "إلاَّ" دونَ "إنَّما"، فلم يَقُلْ: "إنما أنتُم بشرٌ مثلُنا"، لأنهم جعلوا الرسلَ كأنهم بادِّعائهم النبوَّة قد أَخرجوا أنفُسَهم عن أن يكونوا بَشَراً مثلَهم، وادَّعوا أمْراً لا يجوزُ أنْ يكَون لِمَنْ هو بشرٌ. ولمَّا كان الأمرُ كذلك، أُخرجَ اللفظُ مُخرَجَهُ حيثُ يُرادُ إثباتُ أمرٍ يدفَعُه المخاطَبُ ويدَّعي خلافَه، ثم جاء الجوابُ منَ الرسُل الذي هو قولُه تعالى: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [إبراهيم: 11]، كذلك "بإن" و "إلا" دون "إنَّما"، لأنَّ مِنْ حُكْمِ مَنْ ادَّعى عليه خصْمُه الخلافَ في أمرٍ هو لا يُخالِفُ فيه، أن يُعيد كلامَ الخصْمِ على وجه، ويجيءَ به على هيئتِه ويَحْكيه كما هو. فإِذا قلتَ للرجلِ: "أنتَ مِنْ شأنِكَ كيتَ وكيتَ"، قال: "نَعَمْ، أنا مَنْ شأني كيتَ وكيتَ، ولكنْ لا ضَيْرَ عَلَيَّ، ولا يلزَمُني مِنْ أجْلِ ذلك ما ظنَنْتُ أنه يلزَمُ" فالرُّسُلُ صلواتُ اللهُ عليهم كأنهم قالوا: "إنَّ ما قُلْتُم مِنْ أَنَّا بشرٌ مثلُكم كما قلتم، لَسْنا نُنْكِر ذلك ولا نَجْهَلُه، ولكنَّ ذلك لا يَمْنعُنا مِنْ أن يكونَ اللهُ تعالى قَدْ منَّ علينا وأكْرَمنا بالرسالة. وأمَّا قولُه تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110]، [فصلت: 6]، فجاء "بإنما"، لأنَّه ابتداءُ كلام قد أمِرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأنْ يُبلِّغه إيَّاهُم ويقولَه معَهم، وليس هو جواباً لكلامٍ سابقٍ قد قِيلَ فيه: "إنْ أنْتَ إلاَّ بشرٌ مثلُنا"، فيجبُ أنْ يُؤْتى به على وفْقِ ذلك الكلامِ، ويُراعَى فيه حَذْوُه، كما كانَ ذلك في الآيةِ الأولى. 394 - وجملةُ الأمرِ أنك متى رأيتَ شيئاً هُوَ مِن المَعْلوم الذي لا يُشَكُّ

فيه قد جاء بالنَّفي، فذلك لتقديرِ معنًى صارَ به في حُكْم المشكوكِ فيه، فمِنْ ذلك قولُه تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ، إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِير} [فاطر: 22، 23] إنما جاء واللهُ أعلم، بالنفي والإِثبات، لأنه لمَّا قال تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُور}، وكان المعنى في ذلك أن يقال للنبي صلى الله عليه وسلم "إنك لن تستطيعَ أن تُحوِّل قلوبَهُم عمَّا هي عليه من الإِباء، ولا تملِكُ أن تُوقِعَ الإيمانَ في نفوسِهم، مع إصرارِهم على كُفرهم، واستمرارِهم على جَهْلِهم، وصدِّهم بأسْماعِهم عما تقوله لهم وتتوله عليه"1 كان اللائقُ بهذا أن يُجعَل حالُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم حالَ مَنْ قد ظَنَّ أنه يملكُ ذلكَ، ومَنْ لا يَعْلَمُ يقينًا أنه ليس ي وُسْعه شيءٌ أكثرُ من أن يُنْذِر ويُحَذِّر، فأخْرَجَ اللفظَ مُخْرَجَه إذا كان الخطابُ مع مَنْ يَشُكُّ، فقيل: "إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ". ويُبيِّنُ ذلك أنَّك تقولُ للرجل يُطِيلُ مُناظَرةَ الجاهلِ ومقاولَتَهُ: "إنَّك لا تَستطيعُ أنْ تُسْمِعَ الميِّتَ، وأنْ تُفْهِمَ الجمادَ، وأن تحوِّلَ الأعمى بصيرًا، وليس بيدك إيلا تُبَيِّنَ وتحتجَّ، ولستَ تملكُ أكثرَ من ذلك" لا تقول ههنا: "فإنَّما الذي بيدِك أنْ تُبَيِّنَ وتحتجَّ"، ذلك لأنك لم تَقُلْ له "إنك لا تستطيع أنْ تُسْمِعَ الميتَ"، حتى جعلته بماثبة مَنْ يَظُنُّ أنه يملك وراءَ الاحتجاجِ والبيانِ شيئاً. وهذا واضحٌ، فاعرفْه. ومثلُ هذا في أنَّ الذي تقدَّم منَ الكلام اقتضى أن يكونَ اللفظُ كالذي تَراه، من كَوْنه "بإنْ" و "إلا"، قولُه تعالى: {قُلْ لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188].

_ 1 السياق: "لأنه لما قال الله تعالى .... كان اللائق".

باب اللفظ والنظم

باب اللفظ والنظم: بيان في "إنما": فصل: هذا بيان آخر في "إنما" "إنما" تفيد إيجاب الفعل لشيء، ونفيه عن غيره: 395 - اعْلَمْ أنها تفيدُ في الكلام بَعْدَها إيجابَ الفعلِ لشيءٍ، ونَفْيَه عن غيرِه، فإذا قلْتَ: "إنما جاءني زيدٌ"، عُقِلَ منه أنكَ أرَدْتَ أن تنفي أن يكون الجاني غيرَه. فمعنى الكلامِ معَها شبيهٌ بالمعنى في قولك: "جاءني زيدٌ لا عمرو"، إلا أنَّ لَهَا مزيَّةً، وهي أنَّك تَعْقِلُ معها إيجابَ الفعلِ لشيءٍ ونفْيَه عن غيرِه دفعةً واحدةً في حالٍ واحدةٍ. وليس كذلك الأمرُ في: "جاءني زيد لا عمرو"، فإنَّك تَعْقلُهما في حالين ومزيةً ثانية، وهي أنها تَجْعلُ الأمرَ ظاهراً في أن الجاني "زيدٌ"، ولا يكونُ هذا الظهورُ إذا جعلتَ الكلامَ "بلا" فقلتَ: "جاءني زيدٌ لا عمرُو". تفسير أن "لا" العاطفة، تنفي عن الثاني ما وجب للأول: 396 - ثم اعلمْ أنَّ قولَنا في "لا" العاطفةِ: "إنها تنفي عن الاثني ما وَجَب للأولِ"، ليس المرادُ به أنها تنفي عن الثاني أنْ يكون قد شاركَ الأوَّلَ في الفعل، بل أنها تنفي أن يكونَ الفعلُ الذي قلتَ إنه كانَ من الأول، قد كان مِن الثاني دونَ الأولِ. ألاَ تَرى أنْ ليس المعنى في قولك: "جاءني زيدٌ لا عمروٌ"، أنه لم يكُنْ مِن عمرو مجيءٌ إليك مثلُ ما كانَ من "زيدٍ"، حتى كأنه عكسُ قولك: "جاءني زيدٌ وعمرو"، بل المعنى أنَّ الجائي هو زيدٌ لا عمرو، فهو كلامٌ تقولُه مع مَن يَغْلط في الفعل قد كانَ مِنْ هذا، فيتوَهَّم أنه كان من ذلك.

والنكتةُ أنه لا شُبْهةَ في أنْ ليس ههنا جائيان، وأنه ليس إلا جاءٍ واحدٌ، وإنما الشبهةُ في أنَّ ذلك الجائي زيدٌ أم عمرو، فأنتَ تُحقِّقُ على المخاطَب بقولِك: "جاءني زيدٌ لا عمرو"، أنه "زيدٌ" وليس بعمروٍ. ونكتةٌ أخرى: وهي أنك لا تقول: "جاءني زيدٌ لا عمرو"، حتى يكونَ قد بلغَ المخاطَبَ أنه كان مجيءٌ إليك من جاءٍ، إلاَّ أنه ظنَّ أنه كان مِنْ "عمروٍ"، فأعلَمْتَه أنه لم يكْن مِنْ "عمروٍ" ولكنْ من "زيد". معاني "لا" العاطفة، قائمة في الكلام "بإنما": 397 - وإذ عرفت هذه المعاني في الكلام "بلا" العاطفةِ، فاعلمْ أنها بجُملتها قائمةٌ لك في الكلام "بإنما". فإذا قلتَ: "إنما جاءَني زيدٌ"، لم يكن عرضك أنْ تنفيَ أن يكونَ قد جاءَ مع "زيدٍ" غيرُه، ولكنْ أن تنفيَ أن يكونَ المجيءُ الذي قلتَ إنه كانَ منه، كان من "عمرو". وكذلك تكونُ الشبهةُ مرتفعةً في أنْ ليس ههنا جائيان، وأنْ ليسَ إلا جاءٍ واحدٌ، وإنما تكونُ الشبهةُ في أنَّ ذلك الجائي "زيدٌ". وكذلك لا تقول: "إنما جاءني زيدٌ"، حتى يكونَ قد بلَغَ المخاطَب أنْ قدْ جاءَك جاءٍ، ولكنَّه ظنَّ أنه "عمرُو" مثلاً، فأعلَمْتَه أنه "زيدٌ". فإنْ قلتَ: فإنه قد يصحُّ أنْ تقولَ: "إنَما جاءَني مِنْ بين القومِ زيدٌ وحدَه، وإنما أتاني مِنْ جملتهم عمروٌ فقط"، فإنَّ ذلك شيءٌ كالتَكلُّفِ، والكلامُ هُوَ الأولُ، ثم الاعتبارُ به إذا أُطْلِقَ فَلَمْ يقيد "بوحده" وما في معناه. ومعلومٌ أنكَ إذا قلتَ: "إنتما جاءني زيد"، ولم نرد على ذلك، أنه لا يسبق إىل القلبِ مِن المعنى إلاَّ ما قدَّمْنا شرْحَه، مِنْ أنك أردْتَ النصَّ على "زَيْدٍ" أنه الجائي، وان

باب القصر والاختصاص

باب القصر والاختصاص: فصل في "ما" و"إلا": تُبْطِلَ ظنَّ المخاطَبِ أنَّ المجيءَ لم يَكُنْ منه، ولكنْ كان مِن "عمرو" حَسَبَ ما يكونُ إذا قلتَ: "جاءني زيدٌ لا عمرو"، فاعرفه. بيان وأمثلة فيما فيه "ما" و"إلا": 398 - وإذْ قَدْ عرفْتَ هذه الجملةَ، فإنَّا نَذْكُر جملةً من القولِ في "ما" و "إلاَّ" وما يكونُ مِنْ حُكْمهما. إِعلمْ أنك إذا قلتَ: "ما جاءني إلاَّ زيدٌ": احتَمَلَ أمرين: أحدُهما: أنْ تُريدَ اختصاصَ "زيدٍ" بالمجيءِ وأن تنفيه عمن غداه، وأنْ يكونَ كلاماً تقولهُ، لا لأنَّ بالمخاطَب حاجةً إلى أن يعْلمَ أنَّ "زيداً" قد جاءَك، ولكنْ لأنَّ به حاجةً إلى أن يعلم أنه لم يجىء إليكَ غيرُه. والثاني: أن تُريد الذي ذكَرْناه في "إنما"، ويكونُ كلاماً تقولُه ليُعْلَم أنَّ الجائي "زيدٌ" لا غيرُه. فمن ذلك قولُكَ للرجل يدعي قلتَ قولاً ثم قلتَ خلافَهُ: "ما قلتُ اليومَ إلاَّ ما قلتُه أمسِ بعينِه" ويقولُ: "لم تَر زيداً، وإنما رأيتَ فلاناً"، فتقولُ: "بلْ لم أرَ إلا زيداً". وعلى ذلك قولُه تعالى: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 117]، لأنه ليس المعنى: أني لم أَزِدْ على ما أمَرْتني به شيئاً، ولكنَّ المعنى: أني لم أدَّع ما أمَرْتَني به أن أقولَه لهم وقلتُ خِلافَه. ومثالُ ما جاءَ في الشعر من ذلك قوله: قَدْ عَلِمَتْ سَلْمى وجاراتُها ... ما قطَّر الفارسَ إلا أنا1

_ 1 هو لعمرو بن معد يكرب، في ديوانه، وفي سيبويه 1: 379، وفي فرحه الأديب: 135، وقال الغندجاني: قال ابن السيرافي: "قطر الفارس" ألقاه على أحد قطر به، وهما جانباه "ثم قال: "قل غناء على المستفيد هذا القدر، وذلك أنه لا يكاد يعرف حقيقة معناه إلا بمعرفة القصة المتعلق بها، وذلك أن عمرو بن معد يكرب حمل يوم القادسية على مرزبان، وهو يرى أنه رستم، فقتله، فقال في ذلك: ألمم بسلمى قبل أن تظعنا ... إن لليلى عندنا ديدنا قَدْ عَلِمَتْ سَلْمى وجاراتُها ... ما قطَّر الفارسَ إلا أن شككت بالرمح حيازيمه ... والخيل تعدو زيما بيننا

المعنى: أن الذي قَطَّر الفارسَ، وليسَ المعنى على أنَّه يريد أن يزعم أنه انفرد بأنقطره، وأنه لم يشركه فيه غيره. بيان في قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} وتقديم اسمه سبحانه: 399 - وههنا كلام ينبغي أن تغلمه، إلاَّ أنِّي أكتُبُ لكَ مِنْ قبلِه مسألةً، لأنّ فيها عوناً عليه. قولُه تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، في تقديم اسمِ الله عزَّ وجلَّ معنى خلافُ ما يكونُ لو أُخِّرَ. وإنما يَبِينُ لكَ ذلكَ إذا اعتبرتَ الحكمَ في "ما" و "إلا"، وحصلْتَ الفرْقَ بينَ أن تقولَ: "ما ضَرَبَ زيداً إلاَّ عمرو"، وبينَ قولِك: "ما ضرَبَ عمروٌ إلا زيداً". والفرقُ بينهما أنك إذا قلتَ: "ما ضرَبَ زيداً إلا عمرو"، فقدَّمْتَ المنصوبَ، كان الغرَضُ بيانَ الضاربِ مَنْ هُو، والإخبارُ بأنَّه عمرو خاصةً دون غيره وإذا قلتَ: "ما ضرَب عمرو إلاَّ زيداً"، فقدَّمتَ المرفوعَ، كان الغرضُ بيانَ المضروبِ مَنْ هو، والإخبار بأنه "زيدٌ" خاصَّةً دونَ غيرِه. 400 - وإذْ قد عرفْتَ ذلكَ فاعتبرْ بهِ الآيةَ، وإذا اعتبرْتَها بهِ علمتَ أنَّ تقديمَ اسمِ الله تعالى إنما كانَ لأجْلِ أنَّ الغرضَ أن يبيَّن الخاشونَ مَنْ هُمْ، ويُخْبَر بأنهم العلماءُ خاصَّةً دونَ غيرهم. ولو أُخِّر ذكْرُ اسمِ الله وقدَّم

"العلماءُ" فقيلَ: "إنَّما يخشَى العلماءُ اللهَ"، لصارَ المعنى على ضدِّ ما هو عليه الآن، ولصارَ الغرَضُ بيانَ المَخْشيِّ مَنْ هو، والإخبارُ بأنه اللهُ تعالى دونَ غيرِه، ولم يَجِبْ حينئذٍ أن تكونَ الخَشْيَةُ مِنَ الله تعالى مقصورةً على العلماءِ، وأن يكونوا مَخْصوصين بها كما هو الغرضُ في الآية، بل كان يكونُ المعنى أنَّ غيرَ العلماء يَخشَوْن اللهَ تعالى أيضاً، إلاَّ أَنَّهم مع خَشْيتهم اللهَ تعالى يخشَوْنَ معه غيرَه، والعلماءُ لا يَخْشَونَ غيرَ الله تعالى. وهذا المعنى وإنْ كانَ قد جاءَ في التنزيلِ في غيرِ هذه الآية كقولهِ تعالى: {وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب: 29]، فليس هو الغرضَ في الآية، ولا اللفظُ بمُحْتملِ له البتَّة. ومَنْ أجازَ حَمْلَها عليه، كان قد أبطَلَ فائدةَ التقديمِ، وسوَّى بينَ قولِه تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}، وبينَ أنْ يُقالَ: "إنما يخشَى العلماءُ اللهَ"، وإذا سوَّى بينهُما، لَزمَه أن يسوِّيَ بين قولِنا: "ما ضَرَبَ زيداً إلا عمرو" وبينَ: "ما ضرَب عمرو إلاَّ زيداً"، وذلك ما لا شُبْهَةَ في آمتناعه. "ما" و"إلا" وتقديم المفعول في الجملة وتأخيره، وأن الاختصاصَ مع "إلاَّ" يقعُ في الذي تؤخِّرُهُ: 401 - فهذه هي المسئلة، وإذ قد عرفتها فالأمر فيما بين: أن الكلام "بما" و "إلا" قد يكونُ في معنى الكلامِ "بإنما"، ألا تَرى إلى وضوحِ الصورةِ في قولك: "ما ضرب زيدًا إلا عمرو" و "ما ضرب عمرو إلا زيداً"، أنه في الأولِ لبيانِ مَن الضارب، وفي الثاني لبيان منالمضروب، وإن كانا تكلُّفاً أن تَحْمِله على نفْي الشركةِ، فتريدُ "بما ضرَب زيداً إلاَّ عمرو" أَنه لم يضرِبْهُ اثنان، و "بما ضرَب عمرو إلاَّ زيداً"، أنه لم يَضْرِب اثنين. 402 - ثم اعلمْ أنَّ السببَ في أنْ لم يكنْ تقديمُ المفعولِ في هذا

كتأخيرِه، ولم يكنْ "ما ضَربَ زيداً إلاَّ عمرو" و "ما ضرَبَ عمرو إلا زيداً"، سواءٌ في المعنى أنَّ الاختصاصَ يَقعُ في واحدٍ من الفاعلِ والمفعولِ، ولا يقعُ فيهما جميعاً. ثم إنَّه يقعُ في الذي يكونُ بعد "إلاَّ" منهما دونَ الذي قبلَها، لاستحالةِ أن يحدُثَ معنى الحرفِ في الكلمة من قبْلَ أن يَجيء الحرفُ. وإذا كان الأمرُ كذلكَ، وجَبَ أن يَفْترقَ الحالُ بينَ أَن تقدم المعفول على "إلاَّ" فتقولَ: "ما ضرَب زيداً إلاَّ عمرو"، وبين أن تقدِّم الفاعلَ فتقولَ: "ما ضربَ عمرو إلاَّ زيداً"، لأنَّا إنْ زعَمْنا أنَّ الحالَ لا يَفترِقُ، جعَلْنا المتقدِّمَ كالمتأخِّرِ في جوازِ حدوثِه فيه. وذلك يقتضي المحالَ الذي هو أن يَحْدُثَ معنى "إلاَّ" في الاسمِ مِنْ قببل أن تجيء بها، فآعرفه. 403 - وإذا قد عَرفْتَ أنَّ الاختصاصَ مع "إلاَّ" يقعُ في ذلك تؤخِّرُهُ من الفاعل والمفعولِ، فكذلك يَقعُ مع "إنما" في المؤخَّر منهما دونَ المقدَّمِ. فإذا قلت: "إنما ضرَب زيداً عمرو"، كان الاختصاصُ في الضاربِ، وإذا قلتَ: "إنما ضربَ عمرو زيداً"، كان الاختصاصُ في المضروبِ، وكما لا يَجوزُ أنْ يستويَ الحالُ بينَ التقديم والتأخيرِ معَ "إلاَّ"، كذلكَ لا يجوزُ مع "إنما". العود إلى القول في "إنما" وما يقع فيه الاختصاص بعدها: 404 - وإذا استبَنْتَ هذهِ الجملةَ1، عرفْتَ منها أنَّ الذي صنعهُ الفرزدقُ في قولِه: وإنَّما يُدافعُ عن أحسابهم أنا أو مثلي2

_ 1 في "س": "وإذا استثبت هذه الجملة". 2 انظر رقم: 388، ثم في هذا الموضع من "ج" حاشية بخط الكاتب هذا نصها: "قوله: "إنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي"، إنما امتنع فيه إذا قال: "إنما أدافع عن أحسابهم"، أن يكون المعنى مثله الآن، من أجل أن =

شيءٌ لو لم يصنَعْه لم يصِحَّ له المعنى. ذاك لأن غرضه أن يخص

_ = الاختصاص إنما انصرف في قوله: "إنما يدافع عن أحسابهم أنا" إليه دون الأحساب، من حيث أن المقصود بالاختصاص يكون لهذا الثاني دون الأول، كما قد بينا من أنك إذا قلت: "إنما ضرب زيدًا عمرو"، كان المعنى على اختصاص الفاعل، وإذا قلت: "إنما ضرب عمرو زيدًا"، كان الاختصاص في المفعول فإنما كان الاختصاص في بيت الفرزدق لقوله: "أنا" بأن قدم "الأحساب" عليه. وهو إذا قال: "أدافع"، آستكن ضميره في الفعل فلم يتصور تقديم "الأحساب" عليه، ولم يقع "الأحساب" إلا مؤخرًا عن ضمير الفرزدق، وإذا تأخر انصرف الاختصاص إليه لا محالة. فإن قلت: إنه يمكنه أن يقول: "فإنما أدافع عن أحسابهم أنا"، فتقدم "الأحساب" على "أنا". قيل: إنه إذا قال: "أدافع" كان الفاعل الضمير المستكن في الفعل، وكان "أنا" الظاهر تأكيدًا له، والحكم يتعلق بالمؤكد دون التأكيد. لأن التأكيد كالتكرير، فهو يجيء من بعد نفوذ الحلكم، فلا يكون تقديم الجار مع المجرور الذي هو قوله: "عن أحسابهم" على الضمير الذي هو تأكيد، تقديمًا على الفاعل. وجملة الأمر أن تقديم المفعول على الفاعل إنما يكون إذا ذكرت المفعول قبل أن تذكر الفاعل، ولا سبيل لك إذا قلت: "إنما أدافع عن أحسابهم" إلى أن تذكر المفعول قبل ذكر الفاعل، لأن ذكر الفاعل ههنا هو ذكر الفعل، من حيث أنه [استكن] مستكن في الفعل، فكيف يتصور تقديم شيء عليه". ثم قال كاتب النسخة فوق لفظ "حاشية"، ما يأتي:

المدافع لا المدافع عنه. ولو قال: "إنما أدافع عن أحسابهم"، لصار المعنى أنه يخص المدافع عنه1، وأنه يَزعمُ أنَّ المدافعةَ منه تكونُ عن أحسابِهم لا عَن أحسابِ غيرِهم، كما يكونُ إذا قال: "وما أُدافِعُ إلاَّ عن أحسابِهم"، وليس ذلك معناه، إنَّما معناه أنْ يَزعُمَ أنَّ المُدافِعَ هُوَ لا غيرُه، فاعرِفْ ذلك، فإنَّ الغلَطَ كما أظَنُّ يدْخُلُ على كثيرٍ ممَّن تَسمعُهم يقولونَ: "إنه فَصلَ الضميرَ للحَمْل على المعنى"، فيَرى أنه لوْ لم يَفْصِلْه، لكان يكونُ معناه مثْلَه الآن. هذا ولا يجوزُ أن يُنْسَب فيه إلى الضرورةِ، فيُجْعَلَ مثَلاً نظير قول الآخر: كأنَّا يَوْمَ قُرَّى إنْما نَقْتُل إيَّانا2 لأنَّه ليس به ضرورةٌ إِلى ذلك، من حيث أن "أدافع" و "يدافع" واحد في الوزن، فاعرف هذا أيضًا.

_ = "هذه الحاشية مؤخرة في أماليه المدونة". يقول أبو فهر: هذا نص يقطع، كما قطعت آنفًا قبل أن أصل إلى هذا الموضع، بأن جميع الحواشي التي كتبها كانت النسخة، وهي من كلام عبد القاهر: والحمد لله أولًا وآخرًا. هذا، وقد أثبت هذه الحاشية هنا، كما في المخطوطة، لأن فيها بعض التوضيح لما قاله هنا، ولأني أظن أن الشيخ عبد القاهر هو الذي كتبها على نسخته في هذا الموضع فوضعها الكاتب في موضعها من الحاشية مع أنها ستأتي في متن الكاب بنصها في رقم: 405، مع قليل من الاختلاف. ثم انظر التعليق على رقم: 405 هناك، ثم ما سيأتي رقم: 456. 1 من أول قوله: "ولو قال: إنما أدافع ... " إلى هذا الموضع ساقط من المطبوعة، ومن "ج"، وبسقطوه فسد الكلام. 2 هو من شواهد سيبويه 1: 271، 383، وهو في منسوب في "1: 383" لبعض النصوص، وكذلك في ابن يعيش 3: 101، وهو منسوب في الخصائص 2: 194 لأبي بحيلة "؟ "، وأما في أمالي ابن الشجري 1: 39، وتهذيب الألفاظ: 201، والخزانة 2: 406، فهو منسوب لذي الإصبع العدواني، وهي خمسة أبيات:

405 - وجملةُ الأمْر أنَّ الواجبَ أنْ يكونَ اللفظُ على وجهٍ يَجعلُ الاختصاصَ فيه للفرزدق. وذلك لا يكونُ إلاَّ بأنْ يُقدِّم "الأحسابَ" على ضميرِه، وهو لو قال: "وإِنما أُدافِع عن أَحسابهم"، استكنَّ ضميرُه في الفعل، فلم يتصوَّر تقديمُ "الأحسابِ" عليه، ولم يقعِ "الأحساب" إلاَّ مؤخَّراً عن ضَمير الفرزدق، وإِذا تأخرتْ انصرفَ الاختصاصُ إِليها لا مَحالة. فإنْ قلتَ: إِنَّه كان يمكنه أنْ يقولَ1: "وإِنما أُدافِعُ عن أحسابهم أَنا"، فيقدِّمَ "الأحسابَ" على "أنا". قيل: إِذا قال: "أُدافِع" كان الفاعلُ الضميرَ المستكنَّ في الفعلِ، وكان "أنا" الظاهرُ تأكيداً له، أعني للمستكن، والحكم يتعلق باملؤكد دون التأكيد، لأنَّ التأكيدَ كالتكريرِ، فهو يجيءُ من بَعْد نفوذِ الحكْم، ولا يكونُ تقديمُ الجارِّ مع المَجْرور، الذي هو قولُه "عن أحسابهم" على الضمير الذي هو تأكيدٌ، تقديماً له على الفاعلَ، ولا يكونُ لكَ إِذا قلتَ: "وإِنَّما أُدافعُ عن أحسابِهم"، سبيلٌ إِلى أن تَذْكُر المفعولَ قبل أن تذكُرَ الفاعلَ، لأنَّ ذكْرَ الفاعل

_ = لقينا منهم جمعا ... فأوفى الجمع ما كانا كَأنَّا يومَ قُرَّى إنَّـ ... ما نَقْتُل إيَّانا قتلنا منهم كل ... فتى أبيض حسانا يرى يرفل في بردين ... من أبراد نجرانا إذايسرح ضأنًا مـ ... ـئة أتبعها ضانًا 1 في المطبوعة: "كان عليه"، خطأ بلا ريب.

ههنا هو ذكْرُ الفعلِ، من حيثُ إنَّ الفاعلَ مستكِنَّ في الفِعْلِ، فكيف يُتَصوَّرُ تقديمُ شيءٍ عليه، فاعرفه1. الاختصاص يقع في الذي بعد "إلا" من فاعل أو مفعول، أو جار ومجرور يكون بدل أحد المفعولين: 406 - واعلمْ أَنك إنْ عمَدْت إِلى الفاعلِ والمفعولِ فأخَّرْتَهما جميعاً إلى ما بَعْد "إلاَّ"، فإنَّ الاختصاصَ يقَعُ حينئذٍ في الذي يلي "إِلاّ" منهما. فإذا قلتَ: "ما ضرَبَ إلاَّ عمرو زيداً"، كان الاختصاصُ في الفاعلِ، وكان المعنى أنك قلت: "إنَّ الضاربَ عمرو لا غيرُه" وإِن قلْتَ: "ما ضربَ إِلا زيداً عمرو"، كان الاختصاصُ في المفعول، وكان المعنى أنك قلتَ: "إِنَّ المضروبَ زيدٌ لا مَنْ سِواه"2 وحُكْم المفعولَيْنِ حكْمُ الفاعلِ والمفعولِ فيما ذكرتُ لك. تقولُ: "لم يكْسُ إلاَّ زيداً جُبَّةً"، فيكونُ المعنى أنه خَصَّ "زِيداً" من بين الناس بكُسوةِ الجُبَّة فإن قلْتَ: "لم يَكْسُ إلا جبة زيدًا"، كان المغنى: أنه خَصَّ الجبَّةَ من أصنافِ الكُسْوة. وكذلك الحكُم حيثُ يكونُ بدلَ أحدِ المفعولين جارٌّ ومجرور، كقول السيد الحميري: لَوْ خُيِّر المِنْبرُ فرْسانَه ... ما اخْتَارَ إلاَّ منكم فارسًا3

_ 1 هذه الفقرة: 405 بتمامها غير موجودة في "س"، والكلام فيها متصل، من آخر الفقرة: 404، بأول الفقرة: 406، وهذا يوضح بعض ما قلته في التعليق الطويل في رقم: 404. 2 انظر ما سيأتي في رقم: 406، 417. 3 هو في شعره المجموع، والأغاني 7: 240، "الدار" قالها لأبي العباس السفاح، لما استقر له الأمر، وقام إليه السيد الحميري حين نزل عن المنبر، فأنشده أبياتًا منها هذا.

الاختصاصُ في "منكُم" دونَ "فارساً" ولو قلتَ: "ما اختارَ إلاَّ فارساً منكم"، صار الاختصاصُ في "فارسًا"1. حكم المبتدأ والخبر إذا جاء بعد "إثما": 407 - واعلمْ أَنَّ الأمرَ في المبتدأ والخَبر، إنْ كانا بَعْدَ "إِنّما" عَلَى العبرةِ التي ذكرتُ لك فيالفاعل والمفعولِ، إِذا أنتَ قدَّمْتَ أَحدَهما على الآخَرِ. معنى ذلك: أنك إنْ تركتَ الخبرَ في موضِعهِ فلَمْ تُقدِّمه على المبتدأ، كان الاختصاصُ فيه وإِن قدَّمْتَه على المبتدأ، صار الاختصاصُ الذي كان فيه في المبتدأ. تفسيرُ هذا، أَنك تقولُ: "إِنما هذا لك"، فيكونُ الاختصاصُ في "لك" بدلالةِ أَنك تقولُ: "إِنَّما هذا لكَ لا لِغيرك" وتقولُ: "إِنما لكَ هذا"، فيكونُ الاختصاصُ في "هذا"، بدلالةِ أنك تقول: "إما لكَ هذا لا ذاكَ"، والاختصاصُ يكونُ أبداً في الذي إِذا جئتَ "بلا" العاطفة كان العطف عليه. وإذا أردْتَ أن يزدادَ ذلك عندَكَ وضوحاً، فانظرْ إِلى قولِه تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد: 40]، وقوله عزَّ وعَلاَ: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ} [التوبة: 92]، فإنَّك تَرَى الأمرَ ظاهراً أنَّ الاختصاصَ في الآية الأولى في المبتدأ الذي هو "البلاغُ" و "الحساب"، دون الخبر الذي هو "عليك" و "علينا" وأنَّه في الآيةِ الثانيةِ في الخَبر الذي هو "عَلَى الذين"، دونَ المبتدأ الذي هو "السبيل".

_ 1 من أول قوله هنا: "في فارسًا" إلى آخر قوله بعد قليل: "وإن قدمته على المبتدإ صار الاختصاص"، سقط من كاتب "ج" سهوًا.

عود إلى الاختصاص إذا كان "بما" و"إلا": 408 - واعلم أنه إذا كان الكلام "بما" و "إلا" كان الذي ذكرتُه مِنْ أنَّ الاختصاصَ يكونُ في الخبر إنْ لم تقدِّمْه، وفي المبتدأ إنْ قدَّمْتَ الخبرَ أوضحَ وأَبْيَنَ1، تقولُ: "ما زيدٌ إلاَّ قائمٌ"، فيكون المعنى أنَّكَ اختَصَصْتَ "القيامَ" من بينِ الأوصافِ التي يُتوهَّم كونُ زيدٍ عليها بجَعْله صفةً له. وتقول: "ما قائم إلا زيد"، يكون المعنى أنك اختصصت زيدًا بكونه موصوفاً بالقيام. فقد قَصْرتَ في الأول الصفةَ على الموصوفِ، وفي الثاني الموصوف على الصفة. 409 - واعلمْ أَنَّ قولَنا في الخبرِ إذا أُخِّر نحو: "ما زيدٌ إلاَّ قائم"، أَنك اختصصْتَ القيامَ من بينِ الأوصافِ التي يُتوهَّم كونُ زيدٍ عليها، ونفَيْتَ ما عدا القيامَ عنه، فإنما تعني أنك نفَيْتَ عنه الأوصافَ التي تُنَافي القيامَ، نحو أنْ يكونَ "جالساً" أو "مضطجعاً" أو "متكئًا" أو ما شاكل ذلك ولم ترد أنك نفَيْتَ ما ليس مِنَ القيامِ بسبيلٍ، إذا لسنا نَنْفي عنه بقَوْلِنا: "ما هوَ إِلاّ قائم" أن يكونَ "أسودَ" أو "أبيضَ" أو طويلاً" أو "قصيراً" أو "عالِماً" أو "جاهِلاً"، كما أنا إأذا قلنا: "ما قائم إلا زيد"، لم يرد أنه ليس في الدنيا قائمٌ سِواهُ، وإِنَّما نَعْني ما قائمٌ حيثُ نحن، وَبِحَضْرَتِنا، وما أشبه ذلك. 410 - واعلم أن الأمرين في قولِنا: "ما زيدٌ إلاَّ قائم"، أنْ ليس المعنى على نفْي الشركةِ، ولكنْ على نفي أن لا يكون المذكور، ويكون بذله شيءٌ آخر. أَلا ترى أنْ ليس المَعنى أنه ليس له معَ "القيامِ" صفةٌ أخرى، بلِ المعنى أَنْ ليس له بدَلَ القيام صفةٌ ليستْ بالقيام، وأنْ ليس القيامُ، منفياً عنه، وكائنًا مكانه فيه "القعود" أو "لاضطجاع" أو نحوهما.

_ 1 السياق: "كان الذي ذكره له .... أوضح وأبين".

فإن قلت: قصورة المعنى إذن صورته إذا وضعت الكلام "بإنما" فقتلت: "إِنما هو قائمٌ"، ونحنُ نَرى أنَّه يجوزُ في هذا أن تَعْطِفَ "بلا" فتقول: "إنما هو قائمٌ لا قاعدٌ"، ولا نرى ذلك جائزًا مع "ما" و "إلا" إذْ ليس من كلام الناس أَن يقولوا1: "ما زيدٌ إِلاّ قائمٌ لا قاعدٌ". 2فإنَّ ذلك إِنما لم يَجُزْ مِن حيثُ إنَّكَ إِذا قلتَ: "ما زيدٌ إلاَّ قائمٌ"، فقد نفيتَ عنه كلَّ صفةٍ تُنَافي "القيامَ"، وصرتَ كأنك قلتَ: "ليس هو بقاعدٍ ولا مضطجِعٍ ولا متكئٍ"، وهكذا حتى لا تدَعَ صفةً يخرجُ بها من "القيامِ". فإِذا قلتَ مِن بَعْد ذلك "لا قاعد"، كنتَ قد نفيْت "بلا" العاطفةِ شيئاً قد بدأْتَ فنفَيْتَه، وهي موضوعةٌ لأنْ تنفي بها ما بدأت فأوجبته، لالأن تُفيدَ بها النفيَ في شيءٍ قد نَفيتَه. ومن ثَمَّ لم يَجُزْ أنْ تقولَ: "ما جاءني أحدٌ لا زيدٌ"، على أنْ تعْمَد إلى عبض ما دَخل في النفيِ بعمومِ "أحدٍ" فتنفيَه على الخُصوص، بل كان الواجِبُ إِذا أردتَ ذلك أنْ تقولَ: "ما جاءني أحدٌ ولا زيد"، فتجيء "البواو" من قبل "لا"، حتى تخرج بذلك على أن تكونَ عاطفةً، فاعرفْ ذلك. 411 - وإذْ قد عرفْتَ فسادَ أن تقولَ: "ما زيدٌ إلاَّ قائمٌ لا قاعدٌ"، فإِنَّك تَعْرِفُ بذلك امتناعَ أن تقولَ: "ما جاءني إِلا زيدٌ لا عمرو" و "ما ضربتُ إِلا زيداً لا عمراً" وما شاكَلَ ذلك. وذلك أَنك إِذا قلْتَ: "ما جاءني إلاَّ زيدٌ"، فقد نفَيْتَ أنْ يكونَ قد جاءك أَحدٌ غيرُه، فإذا قلت:

_ 1 في "س"، ونسخة عند رشيد رضا: "في الكلام". 2 "فإن ذلك" هو جواب من قال: "فصورة المعنى إذن ... ".

"لا عمرو"، كنتَ قد طلبتَ أن تنفيَ "بلا" العاطفةِ شيئاً قد تقدَّمْتَ فنفيتَه، وذلك، كما عرَّفْتُكَ، خروجٌ بها عن المعنى الذي وُضِعَتْ له إلى خلافه. بيان آخر في معنى "إنما" في الجملة، في "ما" و"إلا"، وأن حكم "غير" حكم "إلا": 412 - فإِنْ قيلَ: فإِنَّك إِذا قلتَ: "إِنما جاءني زيد"، فقد نفَيْتَ فيه أيضاً أن يكونَ المجيءُ قد كانَ من غيرهِ، فكانَ ينبغي أن لا يجوزَ فيه أيضاً أن تعطِفَ بلا فتقول: "إنما جاءني زيد لا عمرو". قيل: إنَّ الذي قلْتَه من أنك إِذا قلتَ: "إِنما جاءني زيد" فقد نفَيْتَ فيه أيضاً المجيءُ قد كانَ من غيرهِ، فكانَ ينبغي أن لا يجوزَ فيه أيضاً أن تعطِفَ بلا فتقول: "إنما جاءني زيد لا عمرو". قيل: إنَّ الذي قلْتَه من أنك إِذا قلتَ: "إِنما جاءني زيد" فقد نفَيْتَ فيه أيضاً المجيءَ عن غيرهِ غيرُ مُسلَّمٍ لك على حقيقته. وذلك أنه ليس معكط إلاَّ قولُكَ: "جاءني زيد"، وهو كلامٌ كما تَراه مُثْبَتٌ ليس فيه نَفْيٌ البتةَ، كما كانَ في قولِك: "ما جاءني إلاَّ زيدٌ"، وإِنما فيه أَنَّك وضعْتَ يدَك عَلَى "زيدٍ" فجعلتَه "الجائي"، وذلك وإِن أوجبَ انتفاءَ المجيء عن غيرِه، فليس يُوجِبُه مِن أجْل أنْ كان ذلك إعمالَ نفْي في شيءٍ، وإِنما أوجبَه من حيثُ كان "المجيءُ" الذي أخبرْتَ بهِ مَجيئاً مخصوصاً، إذ كانَ لزيدٍ لم يكنْ لغيره. والذي أَبَيْناهُ أن تنفي "بلا" العاطفةِ الفعلَ عن شيءٍ وقد نفَيْتَه عنه لفظاً. 413 - ونظيرُ هذا أنَّا نعْقِل من قولنا: "زيدٌ هو الجائي"، أنَّ هذا المجيءَ لم يَكنْ مِن غيرهِ، ثم لا يمنعُ ذلك مِن أن تجيءَ فيه "بلا" العاطفةِ فتقولَ: "زيدٌ هو الجائي لا عمرو"، لأنَّا لم نعقلْ ما عَقَلْناه من انتفاءِ المجيءِ عن غيرِه، بنَفْي أوقعناهُ على شيءٍ، ولكنْ بأنَّه لما كانَ المجيءُ المقصودُ مجيئاً واحداً، كان النصُّ على "زيدٍ" بأَنه فاعلُه وإثباته له، نفياً له من غيرِه، ولكنْ مِن طريقِ المعقولِ، لا من طريقِ أَنْ كانَ في الكلامِ نَفيٌ، كما كان ثَمَّ، فاعرفْه.

414 - فإِنْ قيل: فإِنَّك إِذا قلتَ: "ما جاءني إِلاّ زيدٌ"، ولم يكن غرَضُك أنْ تنفيَ أَنْ يكونَ قد جاءَ معهُ واحدٌ آخرُ، كان المجيء أيضًا مجيئًا واحدًا. قيل: وإِنْ كانَ واحداً، فإِنَّك إِنما تُثْبِتُ أنَّ "زيداً" الفاعلُ له، بأنْ نَفَيْتَ المجيءَ عن كلِّ مَنْ سِوى زيدٍ1، كما تصنعُ إِذا أردتَ أن تنفيَ أن يكون قد جاءَ معه جاءٍ آخرُ. وإِذا كان كذلك، كانَ ما قلناهُ مِن أَنك إنْ جئتَ "بلا" العاطفةِ فقلتَ: "ما جاءني إلاَّ زيدٌ لا عمرُو"، كنتَ قد نفَيْتَ الفعلَ عن شيءٍ قد نَفيتَه عنه مرةً صحيحاً ثابتاً، كما قلناه، فاعرفْه. 415 - واعلمْ أنَّ حكْم "غير" في جميعِ ما ذكرْنا، حُكْمُ "إلاَّ". فإذا قلتَ: "ما جاءني غيرُ زيدٍ"، احتملَ أنْ تريدَ نفيَ أنْ يكونَ قد جاءَ معه إنسانٌ آخرُ، وأنْ تُريدَ نفيَ أنْ لا يكونَ قد جاءَ، وجاءَ مكانَه واحدٌ آخرُ2 ولا يصحُّ أن تقولَ: "ما جاءني غيرُ زيدٍ لاعمرو"، كما لم يَجُزْ: "ما جاءني إِلاّ زيدٌ لا عمرو".

_ 1 في المطبوعة: "فإنك إنما بينت". 2 في "س"، ونسخة عند رشيد رضا: "ففي أن يكون قد جاء مكانه واحد آخر".

فصل: في نكتة تتصل بالكلام الذي تضعه "بما" و "إلا" بيان آخر في "ما" و"إلا": 416 - إعلمْ أنَّ الذي ذكَرْناه من أنَّك تقولُ: "ما ضرَبَ إلا عمروٌ زيداً"، فتُوقِعُ الفاعلَ والمفعولَ جميعاً بعْد "إِلاّ"1، ليس بأكثَرِ الكلام، وإِنَّما الأكثرُ أنْ تُقدِّم المفعولَ على "إِلاَّ"، نحوُ: "ما ضرَبَ زيداً إلاَّ عمرو"، حتى إنَّهم ذهَبوا فيه أعني في قولكَ: "ما ضرَبَ إلاّ عمرو زيداً" إِلى أنَّه على كلامَيْن، وأنَّ "زيداً" منصوبٌ بفعلٍ مضمَرٍ، حتى كأن المتكلِّمَ بذلكَ أيهم في أوَّلِ أمرِهِ فقال: ما ضرَبَ إلاَّ عمروٌ" ثم قيلَ له: "مَنْ ضَرَبَ؟ " فقال: "ضرَبَ زيداً". 417 - وههنا، إِذا تأملْتَ، معنىً لطيفٌ يُوجِبُ ذلكَ، وهو أَنَّك إذا قلتَ: "ما ضَرَبَ زيداً إلاّ عمرو"، كان غرضُك أن تَختَصَّ "عَمْراً" "بضربِ" "زَيْدٍ"، لا بالطرب على الإِطلاق. وإذا كانَ كذلِكَ، وجَبَ أَن تُعَدِّيَ الفعلَ إِلى المفعولِ مِن قَبْل أنْ تذكُر "عَمراً" الذي هو الفاعلُ، لأنَّ السامعَ لا يَعْقِلُ عنكَ أَنَّكَ اختصصْتَه بالفعلِ معدًّى حتى تكونَ قد بدأتَ فعدَّيْتَه أعني لا يَفهم عنكَ أنك أردتَ أَنْ تختصَّ "عَمراً" بضربِ "زيدٍ"، حتى تذكرَه له مُعَدًّى إِلى "زيدٍ"، فأمَّا إِذا ذكَرْتَه غيرَ معدى فقلتَ: "ما ضَرَبَ إلا عمروٌ"، فإنَّ الذي يَقعُ في نفسِه أنَّك أردتَ أنْ تزعُمَ أنه لم يَكُنْ مِن أحدٍ غير "عمرو" ضرب، وأنه ليس ههنا مضْروبٌ إلاَّ وضارِبُه عمرو، فاعرفه أصلاً في شأن التقديم والتأخير.

_ 1 انظر ما سلف رقم: 406.

فصل في العود إلى مباحث إنما

فصل في العود إلى مباحث "إنما": فصل زيادة بيان في "إنما"، وهو فصل طويل متشعب، فيه غموض: 418 - إن قيل: قد مَضيْتَ في كلامِك كلِّه على أنَّ "إِنما" للخبرلا يجهلُه المخاطَبُ، ولا يكونُ ذكْرُك له لأنْ تُفيدَه إياهُ1، وإنَّا لنراها في كثيرٍ من الكلامِ، والقصدُ بالخبر بعْدَها أن تُعْلم السامعَ أمراً قد غلِطَ فيه بالحقيقة، واحتاجَ إِلى معرفتِه، كمِثْلِ ما ذكرتَ في أوّلِ الفَصْل الثاني مِنْ قولك2: "إِنّما جاءني زيدٌ لا عمروٌ"، وتراها كذلك تَدورُ في الكُتب للكَشْف عن معانٍ غيرِ معلومةٍ، ودلالةِ المتعلِّمِ منها عَلَى ما لا يَعْلم. قيل: أمَّا ما يجيءُ في الكلامِ مِنْ نحْوِ: "إِنما جاءَ زيدٌ لا عمرو"، فإِنه وإنْ كانَ يكونُ إِعلاماً لأمرٍ لا يَعْلمهُ السامعُ، فإِنه لا بدَّ معَ ذلك مِنْ أنْ يُدَّعى هناك فضْلُ انكشافٍ وظهورٍ في أنَّ الأمَر كالذي ذكَرَ. وقد قسمتُ في أولِ ما افتتحتُ القولَ فيها فقلتُ: "إِنها تجيءُ للخبر لا يَجهلُه السامعُ ولا ينكر صحته، أو لما ينزل هذه المنزلةَ"3. وأمَّا ما ذكرتُ مِنْ أَنَّها تَجيء في الكتبِ لدلالةِ المتعلِّم على ما لم يَعلمْه، فإنَّك إِذا تأملْتَ مواقعَها وجدْتَها في الأمر الأَكْثرِ قَدْ جاءتْ لأمرٍ قد وقع العلم بموجبه وبشيء يدل عليه. "إذا قلتَ: كان زيدٌ، فقد ابتدأَتَ بما هو معروفٌ عندَه مثلهُ عندَكَ،

_ 1 انظر ما سلف رقم: 390، وما بعده. 2 "الفصل الثاني"، يعني رقم: 395 وما بعده. 3 هو ما جاء في صدر الفقرة رقم: 390.

وإِنما يَنتظرُ الخَبَر. فإِذا قلتَ: "حليماً"، فقد أعلمتَه مثلَ ما علِمْتَ. وإِذا قلتَ: "كان حليماً"، فإِنما يَنتظِرُ أنْ تعرِّفَه صاحِبَ الصفة"1. وذاكَ أنه إِذا كان معْلوماً أنه لا يكون متبدأ من غيرِ خبرٍ، ولا خَبرٌ مِن غيرِ مبتدإٍ، كانَ معلوماً أنك إِذا قلتَ: "كان زيدٌ" فالمخاطَبُ يَنتظِرُ الخبرَ، وإِذا قلتَ: "كان حليماً"، أنه يَنتظِرُ الاسْمَ، فلم يقع إذن بعْد "إِنما" إلاَّ شيءٌ كانَ معلوماً للسَّامِعِ مِن قَبْل أنْ ينتهيَ إِليه. 419 - وممَّا الأمرُ فيه بيِّنٌ، قولُه في باب "ظننْتُ"2: "وإِنما تَحْكي بعْد "قلتُ" ما كان كلاماً لا قولا"3. وذلك أنَّه معلومٌ أنكَ لا تحكي بعد "قلتُ"، إِذا كنتَ تَنْحوِ نحْوَ المعنى، إلاَّ ما كَانَ جملةً مُفيدةً، فلا تقولُ: "قال فلانٌ زيدٌ" وتَسْكتُ، أَللهمَّ إلاَّ أنْ تُريدَ أَنَّه نطَقَ بالاسمِ على هذهِ الهيئةِ، كأنَّكَ تُريد أَنه ذكَرَهُ مرفوعاً. ومثلُ ذلك قولُهم: "إِنّما يحذَفُ الشيءُ إِذا كانَ في الكلامِ دليلٌ عليه"، إِلى أشباه ذلك مما لا يُحصى، فإِنْ رأيتَها قد دخلتْ على كلامٍ هو ابتداءُ إعلامٍ بشيءٍ لم يَعلَمْهُ السامعُ، فلأَن الدليلَ عليه حاضِرٌ معه، والشيءَ بحيث

_ 1 هذا نص سيبويه في الكتاب 1: 22. 2 "قوله"، يعني قوله سيبويه. 3 هو في الكتاب 1: 62، ونص كلام سيبويه: "واعلم أن "قلت" في كلام العرب إنما وقعت ليحكي بها. وإنما يحكي بعد "القول" ما كان كلامًا لا قولًا، نحو: قلت زيد منطلق ... ".

يَقعُ العِلمُ به عن كَثَبٍ. واعلمْ أنه ليس يكادُ يَنتهي ما يُعَرض بسببِ هذا الحرف من الدقائق1. ما لا يحسن فيه العطف بلا: 420 - ومما يَجبُ أن يُعْلَم: أنه إِذا كانَ الفعلُ بَعْدها فعلاً لا يصِحُّ إلاَّ مِن المذكورِ ولا يكونُ مِنْ غيرِه، كالتذكُّر الذي يُعْلَم أنه لا يكونُ إِلاّ مِن أُولي الألبابِ2 لم يحسُنِ العطفُ "بلا" فيه، كما يَحْسنُ فيما لا يُختصُّ بالمذكور وتصح مِن غَيره. تفسيرُ هذا: أنه لا يَحْسنُ أن تقولَ: "إِنما يتذكَّرُ أُولو الألبابِ لا الجهالُ"، كما يَحْسن أن تقولَ: "إِنما يجيءُ زيدٌ لا عمروٌ". ثُمَّ إنَّ النفيَ فيما نحن فيه3، النفيُ يتقدَّم تارةً وَيتأخَّرُ أخرى، فمثالُ التأخير ما تراه في قولك: "إنما [جاءني] زيدٌ لا عمرو"4، وكقَولِهِ تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 21، 22]، وكقول لبيد: إنما يجزى الفتى ليس الجمل5

_ 1 "الحرف" يعني "إنما". 2 من أول قوله هنا "لم يحسن العطف"، إلى آخر قوله بعد سطرين: {أُولُو الْأَلْبَابِ}، سقط من كاتب "ج" سهوًا. 3 في المطبوعة، وفي "س": "ثُمَّ إنَّ النفيَ فيما يجيءُ فيه النفيُ"، وهي سيئة، والذي في "ج" هو الصواب المحض. 4 في النسخ جميعًا "إنما يجيء زيد لا عمرو"، وليس صوابًا، بدليل السياق بعده، فغيرته ووضعته بين القوسين. 5 هو في ديوانه، في طولته اللامية الساكنة، وصدره: فإذا جوزيت قرضًا فاجزره العرب تقول "الفتى"، وتعني به اللبيب الفطن، وتقول: "الجمل"، وتعني به الجاهل يقول: إنما يجزى اللبيب لا الجاهل.

ومثالُ التقديم قولُك: "ما جاءني زيدٌ، وإِنما جاءني عمرو"، وهذا مما أنتَ تعلَمُ به مكانَ الفائدةِ فيها، وذلك أنك تعلم ضرورةأنك لو لم تُدْخِلْها وقلتَ: "ما جاءني زيدٌ وجاءني عمرو"، لكان الكلامُ مع مَنْ ظنَّ أنهما جاءك جميعاً، وأنَّ المعنى الآن مع دخولِها، أَنَّ الكلامَ معَ مَن غَلِطَ في عينِ الجائي، فظن أنه كان زيدًا لا عمرًا. بيان في انضمام "ما" إلى "إن" في "إنما" وقول النحاة هي "كافة": 421 - وأمرٌ آخرُ، وهو ليس ببعيدٍ: أنْ يَظُنَّ الظَّانُّ أنَّه ليس في انضمام "ما" إِلى "إِنّ" فائدةٌ أكثرُ من أنها تُبْطِل عملَها، حتى تَرى النحويِّينَ لا يَزيدون في أكثرِ كلامهم على أنها "كافَّة"، ومكانُها ههنا يُزيل هذا الظنَّ ويُبْطِلُه. وذلك أنك تَرى أنك لو قلت: "ما جاءني زيدٌ، وإنَّ عمراً جاءني"، لم يُعقل منه أنك أردتَ أنَّ الجائي "عمروٌ" لا "زيدٌ" بل يكونُ دخولُ "إنَّ" كالشيءِ الذي لا يُحتاجُ إِليه، ووجدتَ المعنى يَنْبو عنه. "إنما" إذا جاءت للتعريض بأمر هو مقتضى الكلام، ومثاله في الشعر: 422 - ثم اعلمْ أَنك إِذا استقريْتَ وجدْتَها أقوى ما تكونُ وأعْلَقَ ما ترى بالقلب، إِذا كان لا يُراد بالكلامِ بعدَها نفْسُ معناه، ولكنَّ التعريضَ بأمرٍ هو مُقْتضاه، نحوُ أنَّا نعلمُ أَنْ ليس الغَرضُ مِن قولِه تعالى: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد: 19] [الزمر: 9]، أنْ يَعلَم السَّامِعُون ظاهرَ معناه، ولكنْ أن يُذَمَّ الكفَّارُ، وأنْ يُقالَ إِنهم مِنْ فرطِ العِنادِ ومِنْ غلبةِ الهوى عليهم، في حُكْم مَنْ ليس بذي عقْلٍ، وإِنكم إنْ طمِعْتُم منهم في أنْ يَنْظروا ويَتذكَّروا، كنتُم كمَنْ طمِعَ في ذلك مِنْ غيرِ أُولي الألباب. وكذلك قولُه: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات: 45]، وقولُه عَزَّ اسْمُه: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ

بِالْغَيْبِ} [فاطر: 18]، المعنى على أنَّ مَن لم تكنْ له هذه الخَشْيةُ، فهو كأنهُ ليس له أُذُنٌ تَسمَعُ وقلْبٌ يَعْقِلُ، فالإنذارُ معه كَلاَ إِنذارٌ. 423 - ومثال ذلك في الشعر قوله: أَنا لَمْ أُرْزَقْ محبَّتَها ... إِنَّما لِلْعبدِ ما رُزقا1 الغرضُ أن يُفْهِمَك مِن طريقِ التعريضِ أنه قد صار يَنْصَحُ نفسَه، ويَعلَمُ أنه يَنْبغي له أن يقْطَع الطمَعَ من وصلِها2، ويَيْأَسَ من أن يكونَ منها إسعافٌ. ومن ذلك قوله: وإِنَّما يَعْذِرُ العشَّاقَ مَنْ عَشِقا يقولُ: إِنَّه ليس يَنْبغي للعاشقِ أن يلومَ من يَلُومُهُ في عِشْقه، وأنه ينبغي أنْ لا يُنْكَر ذلك منه، فإِنه لا يَعْلَمُ كنْهَ البلوَى في العِشْقِ، ولو كان ابْتُليَ به لعرَفَ ما هو فيه فعذره. وقوله: ما أنتَ بالسَّبَبِ الضعيفِ وإنَّما ... نُجْحُ الأُمورِ بقوَّةِ الأَسْبابِ فاليومَ حاجتُنا إليكَ ... وإِنما يُدْعى الطبيبُ لساعةِ الأوَصابِ3 يقولُ في البيتِ الأول: إِنه ينبغي أن أَنجحَ في أمري حِينَ جعلتك السبب

_ 1 هو للعباس من الأحنف في ديوانه، وروايته: "لم أرزق مودتكم". 2 "ويعلم أنه"، هكذا في النسخ جميعًا، والأجود أن يقول: "ويعلمها". 3 عند رشيد رضا: "في نسخة المدينة: هذا الشعر للباخرزي".

إِليه. ويقولُ في الثاني: إنَّا قد وضَعْنا الشيءَ في موضِعِه، وطلَبْنا الأمرَ من جهَتهِ، حينَ استعنَّا بك فيما عَرضَ من الحاجةِ1، وعوَّلْنا على فضْلِكَ، كما أَنَّ مَنْ عوَّل عَلَى الطبيبِ فيما يَعْرِضُ له من السُّقْم، كان قد أصاب التعويل مَوْضِعَه، وطلَبَ الشيءَ مِنْ معدنِه. 424 - ثم إنَّ العجَبَ في أنَّ هذا التعريضَ الذي ذكرتُ لكَ، لا يَحصُلُ من دُونِ "إِنما". فلو قلتَ: "يتذكَّرُ أُولو الألباب"، لم يدل ما دَلَّ عليه في الآية، وإنْ كان الكلامُ لم يتغيرْ في نفسِه، وليس إلاَّ أنهن ليس فيه "إِنما"2. والسببُ في ذلك أنَّ هذا التعريضَ، إِنما وقعَ بأنْ كان مِنْ شأنِ "إِنَّما" أنْ تُضَمِّنَ الكلامَ معنى النفْي مِنْ بَعْد الإثباتِ، والتصريحِ بامتناعِ التذكُّر ممَّن لا يَعْقِل. وإِذا أُسِقطتْ من الكلامِ فقيلَ: "يتذكر أولوا الألباب"، كان مجرد

_ 1 في "ج" و "س": "حتى استعنا". 2 عند هذا الموضع في "ج"، حاشية بخط الكاتب، وهي بلا شك من كلام عبد القاهر، كما أسلفت في التعليق على رقم: 404، فيما سلف. ونص الحاشية هو: "إذا نلت": "العاقل يتذكر"، فأنت في ذكر من لا تنفى عنه العقل، ولا تمنعه أن يفعل ما يفعله العقلاء وإذا قلت: "إنما يتذكر العاقل"، فأنت في ذكر من تنفي عنه القعل، وتمنعه من أن يجيء منه ما يجيء من العقلاء. ويبينه أنك إذا قلت: "الكريم يعفو"، فأنت في ذكر من تجعله أهلًا لأن يفعل ما يفعله الكريم وإذا قلت: "إنما يعفو الكريم"، فأنت في ذكر من تباعده من ذلك".

وصفٍ لأُولي الألبابِ بأنهم يتذكَّرونَ، ولم يكنْ فيه معنى نفْي للتذكُّر عمَّنْ ليس منهم. ومُحالٌ أن يقَعَ تعريضٌ لشيءٍ ليس له في الكلام ذِكْرٌ1، ولا فيه دليلٌ عليه. فالتعريضُ بمثلُ هذا أعني بأن تقول: "يتذكَّر أولو الألباب" بإسقاط "إنما"، يقع إذنْ إنْ وَقَعَ، بمَدْح إنسانٍ بالتيقُّظ، وبأنه فعلَ ما فعلَ، وتنبَّه لِمَا تنبَّه له، لعَقْله وحلسن تمييزه، كما يقال: "كذلك يفعل العاقل"، و "هكذا يفعل الكريم". وهذا موعض فيه دقةٌ وغموضٌ، وهو ممَّا لا يكادُ يقع في نفسه أحد أنه ينبغي أن يتعرض سبببه، ويَبْحثَ عن حقيقة الأمرِ فيه. 425 - وممَّا يجبُ لك أن تَجعلَه على ذكْرٍ منكَ مِنْ معاني "إِنما"، ما عرَّفْتُكَ أولاً مِنْ أنها قد تَدْخُلُ في الشيء على أنْ يُخَيِّلَ فيه المتكلمُ أَنه معلومٌ، ويدَّعي أَنَّه مِن الصحة بحيث لا يدفع دافعٌ، كقوله: إنَّما مُصْعَبٌ شِهابٌ مِن الله2 ومنَ اللطيفِ في ذلك قولُ قَتبَ بن حصن3: ألا أيها الناهي فزارة بعد ما ... أجدت لغزو، إنما أنت حالم4

_ 1 في "س": "تعريض بشيء". 2 هو ابن قيس الرقيات، ومضى الشعر في رقم: 391. 3 في المطبوعة: "قس بن حصن" وهو خطأ، وضبطته بفتحتين، وضبط في "س": "قنب" بضم فسكون، والله أعلم. 4 الشعر منسوب في معجم الشعراء: 339، 340 في ترجمة قنب بن حصن: من بني شمخ بن فزارة، وقال: "رويت لغيره"، ورواها في الأمالي 1: 258 في خبر، غير منسوبة، وقال

ومن ذلك قولُه تعالى حكايةً عن اليَهُود: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُون} [البقرة: 11]، دخلتْ "إِنّما" لتدلَّ على أنَّهم حين ادَّعَوا لأنفهسم أنَّهمْ مُصْلِحون، أَظهروا أنهم يدَّعون مِن ذلك أمرًا ظاهرًا معلومًا، ولذلك أكيد الأمرَ في تكذيبِهم والردِّ عليهم، فجمَعَ بين "أَلاَ" الذي هو للتَّنبيه، وبين "إنَّ" الذي هو للتأكيد، فقيل: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُون} [البقرة: 12].

_ البكري في اللآلي: 576: "الشعر لبعض بني فزارة"، وغير منسوبة في مجموعة المعاني: 40، ونسبها أبو الفرج في مقاتل الطالبين: 376 لعويف القوافي، وذكرها أيضًا في ترجمته في الأغاني 19: 192، ونسبها أبو تمام في الوحشيات رقم: 156 لأبي حرجة الفزاري، وبعد البيت: أبي كل حر أن يبيت بوتره ... ويمنع منه النوم، إذا أنت نائم أقول لفتيان العشى تروحوا ... على الجرد في أواهن الشكائم وقلت لفتيان مصاليت إنكم ... قدامي، وإن العيش لا هو دائم قفوا وقفة، من يحيى لا يخز بعدها ... ومن يحترم لا تتبعه اللوائم وهل أنت، إن باعدت نفسك عنهم ... لتسلم، فيما بعد ذلك سالم

باب اللفظ والنظم

باب اللفظ والنظم: فصل: إزالة شبهة في شأن "النظم والترتيب" 426 - اعلم أنه لا يصحل تقدير الحكاية في "النظم والتتريب"، بل لن تعدُوَ الحكايةُ الألفاظَ وأجراسَ الحروفِ، وذلك أنَّ الحاكي هو مَنْ يأتي بمثْلِ ما أتى به المحكي عنه، ولابد من أن تكونَ حكايتُه فعلاً لَهُ، وأَنْ يكونَ بها عاملًا عملًا مثل عمل المحي عنهُ، نحو أَن يصوغَ إنسانٌ خاتَماً فيُبْدعَ فيه صنعة، ويأتي في صناعته بخاصة تستعرب، فيعمد واحد آخر فيعل خاتماً على تلك الصُّورةِ والهيئةِ، ويجيءَ بمِثْلِ صنْعَتهِ فيه، ويُؤدِّيها كما هي، فيقالُ عند ذلك: "إنه قد حكى عمل فلان، وصنة فلان". 427 - و "النظم والترتيبُ" في الكلامِ كما بيَّنَّا، عَملٌ يَعْمَلُه مؤلف الكلام في معاني الكلام لا في ألفاظِها، وهو بما يَصْنعُ في سبيلِ مَنْ يأخذُ الأصباغَ المختلفةَ فيتوخَّى فيها ترتيبًا يحدث عنه ضروب من النقشِ والوَشْي. وإذا كانَ الأمرُ كذلك، فإنَّا إنْ تعدَّينا بالحكايةِ الألفاظَ إلى النظمْ والترتيبِ، أدَّى ذلك إلى المُحال، وهو أنْ يكونَ المُنْشِدُ شعرَ أمرئ القيس، قد عَمِلَ في المعاني وترتيبها واستخراج النتائجِ والفوائدِ، مثْلَ عملِ امرئ القيس، وأنْ يكونَ حالُه إذا أَنشدَ قولَه: فقلتُ لهُ: لما تَمطَّى بصُلْبه ... وأَرْدَف أَعجازاً وناءَ بِكَلْكَلِ1 حالَ الصائغِ يَنْظُر إلى صورةٍ قد عَمِلها صائغٌ مِنْ ذهبٍ لهُ أو فضة، فيجيء بمثلها من ذبه وفضَّتهِ. وذلك يخْرجُ بمُرتكِبٍ، إنْ ارْتَكَبَه، إلى أن يكون

_ 1 هو شعر امرئ القيس، كما هو معروف. الراوي مستحقًا لأن يوصف بأنه: "استعار" و "شبه"، وأن يُجْعَل كالشّاعرِ في كل ما يكونُ به ناظماً، فيُقال: إنه جعَلَ هذا فاعلاً، وذاك مفعولاً، وهذا مبتدأ، وذاك خبراً، وجعلَ هذا حالاً، وذاكَ صفةً، وأنْ يُقالَ: "نَفَى كذا" و "أثبت كذا"، و "أبدل كذا من كذا". و "أضاف كذا إلى كذا"، وعلى هذا السبيل، كا يقال ذاك في الشاعر. وإذا قيل ذلك، لزمه منه أنْ يُقال فيه: "صدَقَ، وكَذَبَ"، كما قال في المحْكيِّ عنه، وكفَى بهذا بُعْداً وإحالةً. ويجمع هذا كله، أنه يلزم مننه أن يُقال: "إنه قال شعراً"، كما يقال فيمنْ حَكَى صَنعةَ الصّائغِ في خاتَمٍ قد عَمِلَه: "إنه قد صاغ خاتماً".

الراوي مستحقًا لأن يوصف بأنه: "استعار" و "شبه"، وأن يُجْعَل كالشّاعرِ في كل ما يكونُ به ناظماً، فيُقال: إنه جعَلَ هذا فاعلاً، وذاك مفعولاً، وهذا مبتدأ، وذاك خبراً، وجعلَ هذا حالاً، وذاكَ صفةً، وأنْ يُقالَ: "نَفَى كذا" و "أثبت كذا"، و "أبدل كذا من كذا". و "أضاف كذا إلى كذا"، وعلى هذا السبيل، كا يقال ذاك في الشاعر. وإذا قيل ذلك، لزمه منه أنْ يُقال فيه: "صدَقَ، وكَذَبَ"، كما قال في المحْكيِّ عنه، وكفَى بهذا بُعْداً وإحالةً. ويجمع هذا كله، أنه يلزم مننه أن يُقال: "إنه قال شعراً"، كما يقال فيمنْ حَكَى صَنعةَ الصّائغِ في خاتَمٍ قد عَمِلَه: "إنه قد صاغَ خاتماً". وجُملةُ الحديثِ أن نَعْلَمُ ضرورةَ أنه لا يتأتَّى لنا أن تنظم كلاماً من غير رَويَّةٍ وفكْرٍ، فإِنْ كانَ راوي الشعرِ ومُنْشِدُه يَحْكي نَظْم الشاعرِ على حقيقته، فَيْنبغي أنْ لا يتأتَّى له روايةُ شعرِهِ إلا برويَّةٍ، وإلاَّ بأنْ يَنْظُرَ في جميعِ ما نَظَرَ فيه الشاعرُ مِنْ أَمْرِ "النظْم". وهذا ما لا يَبقى معه موضعُ عذر للشاك. إزالة شبهة في حكاية ألفاظ الشعر: 429 - هذا، وسببُ دخولِ الشُّبهَةِ على من دَخَلَتْ عليه، أنه لمَّا رأى المعانيَ لا تَتَجلَّى للسامعِ إلاَّ مِنَ الألفاظِ، وكان لا يوقَفُ على الأمورِ التي بِتَوخِّيها يكونُ "النظْمُ"، إلاَّ بأنْ يَنْظُر إلى الألفاظ مرتَّبةً على الأنحاء التي يوجب ترتيبُ المعاني في النفسِ1 وجرتِ العادةُ بأن تكونَ المعاملةُ مع الألفاظِ فيقالُ: "قد نَظَم ألفاظاً فأحْسَنَ نظْمَها، وألَّفَ كَلِماً فأجادَ تأليفَها"2 جعل الألفاظَ الأصْلَ في "النظمِ"، وجعلَه يُتوخَّى فيها أنفسها، وترك

_ 1 "وجرت العادة"، معطوف على قوله في أول الكلام: "أنه لما رأى المعاني لا تتجلى ... ". 2 السياق: "أنه لما رأى المعاني لا تتجلى ..... وجرت العادة .... جعل الألفاظ".

أنْ يُفكَّر في الذي بيَّنَّاهُ من أنَّ "النظْمَ" هو توخِّي معاني النحوِ في معاني الكلم، وأنَّ توخِّيها في متونِ الألفاظِ مُحال. فلما جعلَ هذا في نفسِه، ونشِبَ هذا الاعتقادُ به، خَرَجَ له من ذلك أنَّ الحاكي إذا أدَّى ألفاظَ الشعرِ على النَّسق الذي سَمِعَها عليه، كان قد حكَى نظْمَ الشاعرِ كما حكَى لفظَه. وهذه شُبْهةٌ قد مَلَكَتْ قلوبَ الناس، وعشَّشَتْ في صُدورِهم، وتَشَرَّبَتْها نفوسُهم، حتى إنكَ لَتَرى كثيراً منهم وهو من حلوها عندَهم محلِّ العلمِ الضروري، بحيثُ إنْ أومأتْ له إلى شيءٍ مما ذَكَرْناه أشمازَّ لك، وسَكَّ سَمْعَهُ دَونك، وأظهرَ التعجُّبَ منك. وتلك جريرةُ تَرْكِ النظرِ، وأخْذِ الشيءِ من غيرِ معدنه، ومن الله التوفيق.

فصل: النظم والترتيب وتوخي معاني النحو

فصل: النظم والترتيب وتوخي معاني النحو 430 - إعْلَمْ أنَّا إذا أضفْنَا الشعرَ أو غيرَ الشعرِ من ضروب الكلامِ إلى قائلِهِ، لم تكنْ إضافتُنا له من حيثُ هو كَلِمٌ وأوضاعُ لغةٍ، ولكنْ من حيثُ تُوُخِّيَ فيها "النظمُ" الذي بيَّنا أنه عبارةٌ عن تَوخِّي معاني النحو في معاني الكلم. وذلك أنَّ مِنْ شأنِ الإضافةِ الاختصاصَ، فهي تتناولُ الشيءَ من الجهةِ التي تُختصُّ منها بالمضافِ إليه، فإذا قلتَ: "غلامُ زيدٍ"، تناولتِ الإضافةُ التي تُختصُّ منها بالمضافِ إليه، فإذا قلتَ: "غلامُ زيدٍ"، تناولتِ الإضافةُ "الغلامَ" من الجهة التي تختص منها بزيد، وهي كونه مملوكًا. بيان الجهة التي يختصُّ منها الشعرُ بقائلهِ: 431 - وإِذا كان الأمرُ كذلِك، فينبغي لنا أن نَنْظرَ في الجهة التي يختصُّ منها الشعرُ بقائلهِ. وإِذا نَظَرْنا وجَدْناه يختصُّ به من جهةِ تَوخِّيه في معاني الكَلمِ التي ألَّفه منها، ما توخَّاه من معاني النحو، ورأيْنا أنفُسَ الكلمِ بمعزَلٍ عن الاختصاص، ورأيْنا حالَها معه حالَ الإبريسَم مع الذي يَنسِجُ منه الديَباجَ، وحالُ الفضةِ والذهبِ معَ مَنْ يصوغُ منهما الحُليَّ. فكما لا يشْتبِهُ الأمرُ في أنَّ الديباجَ لا يُخْتَصُّ بناسجهِ من حيثُ الإِبْرِيسَمُ، والحليَّ بصائِغها من حيثُ الفضةُ والذهبُ، ولكنْ من جهة العمل والصنعة، وكذلك يَنْبغي أنْ لا يَشْتَبِهَ أنَّ الشعرَ لا يختص بقائله من جهة أنفس الكلم وأضواع اللغة. 432 - وتزداد تبينًا لذلك بأن تنظر في القائل إذا أضفْتَه إلى الشعر فقلتَ: "امرؤُ القَيْس قائلُ هذا الشعر"، مِنْ أينَ جعلْتَه قائلاً له؟ أمِنْ حيثُ

نَطَق بالكَلِم وسمعْتَ ألفاظَها مِن فيهِ، أمْ من حيث صنع في معانيها ما نصع، وتوخَّى فيها ما توخَّى؟ فإنْ زعمتَ أنكَ جعلْتَه قائلاً له من حيثُ إنه نَطَقَ بالكَلِم وسمعْتَ ألفاظَها مِنْ فيهِ على النَّسقِ المخصوص، فاجعلْ راويَ الشعرِ قائلاً له، فإِنه يَنطِقُ بها ويُخْرِجُها مِنْ فيهِ على الهيئة والصورةِ التي نطقَ بها الشاعرُ. وذلك ما لا سبيلَ لك إليه. 433 - فإِن قلتَ: إنَّ الراويَ وإنْ كان قد نطقَ بألفاظِ الشعرِ على الهيئةِ والصورةِ التي نطقَ بها الشاعرُ، فإنَّه هو لم يبتدئْ فيها النَّسَقَ والترتيبَ، وإنما ذلك شيءٌ ابتدأَهُ الشاعرُ، فلذلك جعلْتَه القائلَ له دونَ الراوي. قيل لكَ: خَبِّرْنا عنك، أَترى أنه يتصوَّر أن يجبُ لألفاظ الكلم التي تراها في قولهِ: قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرى حبيبٍ ومَنْزِل1 هذا الترتيبُ، من غيرِ أنْ يتوخَّى في معانيها ما تَعْلم أنَّ امرأ القيس توخَّاه مِنْ كونِ "نَبْكِ" جواباً للأمرِ، وكونِ "مِنْ" مُعدِّيةً له إلى "ذكرى"، وكونِ "ذكرى" مضافةً إلى "حبيبٍ"، وكونِ "منزلِ" معطوفاً على "حبيبٍ"، أم ذلك محالٌ؟ فإِن شكَكْتَ في استحالتِه لم تُكلَّم2. وإن قلتَ: نعَمْ، هو محال.

_ 1 هو شعر امرئ القيس، كما تعلم. 2 "لم تكلم"، لأنك فقدت العقل والتمييز، وهذا كثير في زماننا!!

قيل لك: فإِذا كان مُحالاً أن يَجِبَ في الألفاظ ترتِيبٌ مِنْ غيرِ أنْ يتوخَّى في معانيها معانيَ النحو، كان قولُكَ: "إنْ الشاعرَ ابتدأ فيها ترتيباً"، قولاً بما لا يتحصل. لا يكون ترتيب حتى يكون قصد إلى صورة وصفة: 434 - وجملةُ الأمرِ أنَّه لا يكونُ ترتيبٌ في شيءٍ حتَّى يكونَ هناكَ قصْدٌ إلى صورةٍ وصنْعةٍ إنْ لم يُقدَّم فيه ما قُدِّم، ولم يُؤخَّر ما أُخِّر، وبُدئَ بالذي ثُنيَ به، أو ثنِّي بالذي ثُلِّث به، لم تحْصلْ لكَ تلكَ الصورةُ وتلك الصفة، وإذا كان كذلك، فينبغي أن تنظر إلى الذي يَقْصِدُ واضعُ الكلامِ أنْ يحصُلَ له من الصورةِ والصَّنعةِ: أفي الألفاظِ يَحصُلُ له ذلك، أم في معاني الأَلفاظِ؟ وليس في الإمكان أنت يَشُكَّ عاقلٌ إِذا نَظَر، أنْ ليس ذلك في الألفاظِ، وإنَّما الذي يُتصوَّرُ أنْ يكونَ مقصوداً في الألفاظِ هو "الوزنُ"، وليس هو مِنْ كلامِنا في شيءٍ، لأنَّا نحنُ فيما لا يكونُ الكلامُ كلاماً إلاَّ به، وليس لِلْوزنِ مدخلٌ في ذلك.

عود إلى مسألة اللفظ والمعنى وما يعرض فيه من الفساد

فصل: عود إلى مسألة "اللفظ" و"المعنى" وما يعرض فيه من الفساد 435 - واعلمْ أني على طول ما أعدتُ وأبدأتُ، وقلتُ وشرحتُ، في هذا الذي قامَ في أوهام الناس من حديثِ "اللفظِ"، لربما ظننتَ أني لم أصنع شيئًا، وذاك أنى ترى الناسَ كأنه قد قُضِيَ عليهم أنْ يكونوا في هذا الذي نحنُ بصَدَدِه، على التقليدِ البحْت، وعلى التوهُّم والتخيُّلِ، وإطلاقُ اللفظِ منْ غيرِ معرفةٍ بالمعنى، قد صارَ ذاكَ الدأبَ والدَّيْدَنَ، واستحْكَمَ الداءُ منهُ الاستحكامَ الشديدَ، وهذا الذي بيِّناه وأوْضحْناه، كأنك ترى أبداً حجازًا بينهم بين أن يعرفوه1، وكأنك تسمعهم من شيئاً تَلفِظُه أسماعُهم، وتُنكره نفوسُهم2، وحتى كأَنه كلما كان الأمرُ أَبْينَ، كانوا عن العلم به، وفي توهُّم خلافهِ أَقعد، وذاك لأَنَّ الاعتقادَ الأوّلَ قد نَشِب في قلوبهم، وتأشَّب فيها، ودخَلَ بعروقهِ في نواحيها، وصارَ كالنبات السوءِ الذي كلَّما قلعْتَه عادَ فنبَتَ3. 436 - والذي له صاروا كذلك، أنهم حينَ رأوْهُمُ يُفْرِدون "اللفظَ" عن "المعنى"، ويَجْعلون له حُسْناً على حدة، ورأوْهم قد قَسَموا الشِّعرَ فقالوا: "إنَّ منه ما حَسُنَ لفظُه ومعناه، ومنه ما حَسُن لفظُه دونَ معناهُ، ومنه ما حَسُن معناهُ دونَ لفظِه"، ورأوهم يَصِفون "اللفظَ" بأوصافٍ لا يصفونَ بها "المعنى"، ظنوا أنَّ للفظ، مِنْ حيثُ هو لفظٌ حُسْناً ومزيَّةً ونُبْلاً.

_ 1 في المطبوعة وحدها: "حجابًا بينهم" 2 في المطبوعة وحدها: "وتنكره" 3 ماذا كان يقول عبد القاهر لو أدرك زماننا هذا؟

وشَرَفاً، وأنَّ الأوصافَ التي نَحلُوه إياها هي أوصافهُ على الصحَّة، وذهَبوا عمَّا قدَّمْنا شرْحَه مِنْ أنَّ لهم في ذلك رأياً وتدبيراً، وهو أنْ يَفْصِلوا بينَ المعنى الذي هو الغرضُ، وبين الصورةِ التي يَخْرجُ فيها، فنَسَبوا ما كانَ منَ الحُسْن والمزيَّةِ في صورةِ المعنى إلى "اللفظِ"، ووصفوه في ذلك بأوصافٍ هي تُخْبِرُ عن أنفُسها أنَّها ليستْ له، كقولهم: "إنه حَلْيُ المعنى، وإنه كالوشيْ عليه، وإنه قد كسب المعنى ذلًا وشَكْلاً1، وإنه رشيقٌ أنيقٌ، وإنه متمكِّنٌ، وإنَّه على قَدْرِ المعنى لا فاضلٌ ولا مقصِّرٌ"، إلى أشباهِ ذلك ممَّا لا يُشَكُّ أنه لا يَكونُ وصْفاً له من حيثُ هو لفظٌ وصَدَى صوتٍ، إلاَّ أنهم كأنَّهم رأوْا بَسْلا حراماً أنْ يكونَ لهم في ذلك فِكْرٌ ورويةٌ2، وأن يميِّزوا فيه قَبيلاً من دبير. 437 - وممَّا الصفةُ فيه للمعنى، وإنْ جرى في ظاهرِ المعاملةِ على "اللفظِ"، إلاَّ أنه يَبْعُد عند الناسِ كلَّ البعدِ أن يكونَ الأمرُ فيه كذلك، وأنْ لا يكونَ من صفةِ "اللفظِ" بالصحةِ والحقيقةِ3 وصْفُنا اللفظَ بأنه "مَجازٌ". وذاك أنَّ العادةَ قد جرتْ بأنْ يُقال في الفرق بين "الحقيقة" و "المجاز": إنَّ "الحقيقةَ"، أَنْ يُقَرَّ اللفظُ على أصْلِهِ في اللغة، و "المجاز"، أنْ يُزالَ عن موضعِه، ويُسْتعملَ في غيرِ ما وُضِع له، فيقالُ: "أسدٌ" ويرادَ "شُجاع"، و "بحر" ويراد جواد.

_ 1 "الشكل" بكسر الشين وسكون الكاف، هو عنج المراة، وغزلها، وحسن دلها. 2 "البسل"، الحرام الكريه، وفي "س"، كتب "بتلًا" بالتاء وضبطها، وهو خطأ، وسيأتي في "س" مثله في رقم: 53. 3 السياق: ومما الصفة فيه للمعنى ... وصفنا اللفظ".

وهو وإنْ كانَ شيئاً قد استَحْكمَ في النفوسِ حتَّى إنك تَرى الخاصَّةَ فيه كالعامَّة، فإن الأمر بعد على خلافهِ. وذاك أنَّا إذا حقَّقْنا، لم نجدْ لفظَ "أسدٍ" قد استُعمِل على القطْع والبتِّ في غيرِ ما وُضِع له. ذاك لأنه لم يُجْعَل في معنى "شجاعٍ" على الإِطلاقِ، ولكنْ جُعِل الرجلُ بشجاعته أسداً، فالتجوُّزُ في أنِ ادَّعَيْتَ للرجل أنه في معنى الأسدِ1، وأنه كأنَّه هو في قوة قَلْبه وشدَّةِ بطْشِه، وفي أنَّ الخوفَ لا يخامِرُهُ، والذُّعْرَ لا يَعْرِضُ له. وهذا إن أنتَ حصَّلْتَ، تجوُّزٌ منك في معنى اللفظِ لا اللفظِ، وإنما يكونُ اللفظُ مُزالاً بالحقيقةِ عن موضِعِهِ، ومنقولاً عما وُضِعَ له. أنْ لو كنتَ تَجد عاقلاً يقول: "هو أسَد"، وهو لا يُضمِر في نفسِه تشبيهاً له بالأسدِ، ولا يُريد إلاَّ ما يريدُه إذا قال: "هو شجاعٌ". وذلك ما لا يُشَكُّ في بطلانه. التجوز في ذكر "اللفظ"، وأنه المراد به "المعنى": 438 - وليس العجبُ إلاَّ أنهم لا يَذْكُرون شيئاً من "المجازِ" إلاَّ قالوا: "إنَّه أبلغُ من الحقيقة". فليتَ شعري، إنْ كان لفظُ "أسد" قد نُقِل عما وُضِعَ له في اللغة، وأزيلَ عنه، وجُعِل يرادُ به "الشجاعُ" هكذا غُفْلاً ساذجاً، فمن أين يجبُ أنْ يكونَ قولنا: "أسد"، أبلغ من قولنا "شجاع"؟ إزالة شبهة في شأن "المجاز": وهكذا الحُكْم في "الاستعارة"، هي، وإنْ كانت في ظاهرِ المعاملة من صفةِ "اللفظِ"، وكنَّا نقول: "هذه لفظة مستعارة" و "قد استُعِيرَ له اسمُ الأسد" فإنَّ مآلَ الأمرِ إلى أنَّ القصدَ بها إلى المعنى.

_ 1 في "ج"، حاشية بخط كاتب النسخة هذا نصها: "تجوزه أنه ادعى لما ليس بأسد أنه أسد".

بيان مهم في معنى "جعلته أسدا" ونحو ذلك: 439 - يدلك على ذلك أن تقول: "جعله أسدًا" و "جعله بدرًا" و "جعله بحْرا"، فلو لم يكنِ القصْد بها إلى المعنى، لم يكنْ لهذا الكلام وَجْهٌ، لأنَّ "جعَل" لا تصْلح إلاَّ حيثُ يُراد إثباتُ صفة للشيء، كقولنا: "جعلته أميرًا" و "جعلته واحدَ دهره"، تُريد أثبتُّ له ذلك. وحكْمُ "جعَل" إذا تعدَّى إلى مفعولين حكْمُ "صَيَّر"، فكما لا تقول: "صيَّرْته أميراً"، إلا على معنى أنك أثبَتَّ له صفةَ الإِمارة، كذلك لا يَصِحُّ أن تقولَ: "جعلته أسداً"، إلا على معنى أنك جعلتَه في معنى الأسد ولا يقال: "جعلتُه زيداً"، بمعنى "سمَّيْتُه زيداً"، ولا يقال للرجل: "إجْعَل ابنَك زيداً" بمعنى: "سمِّه زَيْدا" و "وُلِدَ لفلانٍ ابنٌ فَجَعله زيداً"، وإنما يَدخُل الغَلطُ في ذلك على من لا يحصل1. بيان في قوله: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} 440 - فأما قولُه تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف: 19]، فإنما جاء على الحقيقة التي وصفتها، وذلك أنَّ المعنى على أنهم أثْبَتوا للملائكةِ صفةَ "الإِناث"، واعتقدوا وُجودَها فيهم. وعن هذا الاعتقادِ صدرَ عنهم ما صدَر من الاسْم، أعني إطلاقَ اسْمِ "البنات"، وليس المعنى أنهم وضعوا لها لفظَ "الإناثِ" أو لفظَ "البناتِ" اسْماً من غير اعتقاد معنى وإثبات صفة. وهذا محال لا يقوله له عاقلٌ. أَما تَسْمَعُ قولَ الله تعالى: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلون} [الزخرف: 19] فإنْ كانوا لم يزيدوا على أنْ أجرَوْا الاسْم على الملائكةِ ولم يَعْتقدوا إثباتَ صفةٍ ومعنىً بإجرائه عليهم، فأيُّ معنىً لأنْ يقال: "أشْهدوا خَلْقَهم"؟ هذا، ولو كانوا

_ 1 انظر ما سيقوله في معاني "جعل" فيما سيأتي رقم: 507، 508.

لم يَقْصِدوا إثباتَ صفةٍ، ولمْ يزيدوا على أنْ وضَعوا اسْماً1، لما استحقُّوا إلاَّ اليسيرَ من الذَّم، ولما كان هذا القولُ منهم كفْراً. والأمرُ في ذلك أظْهَرُ مِنْ أن يَخْفى2. 441 - وجملةُ الأمر أنه إنْ قيل: "إنَّه ليس في الدنيا علم قد عرض الناس فيه مِن فحشِ الغلط، ومن قبيح التورُّطِ، ومِنَ الذهاب معَ الظنونِ الفاسدةِ3 ما عرَضَ لهم في هذا الشأن"4، ظننْتَ أنْ لا يُخْشَى على من يقوله الكَذِبُ. وهل عجَبٌ أعْجَبُ من قومٍ عُقَلاء يتْلون قولَ الله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإِسراء: 88] ويؤمنون به، ويدينون بأن القرآن معجزٌ، ثُمَّ يَصدُّون بأوجُهِهم عن برهانِ الإِعجازِ ودليلهِ، وَيَسْلكونَ غيرَ سبيلِه؟ ولقَدْ جَنوْا، لو دَرَوْا ذاك، عظيمًا.

_ 1 في المطبوعة وحدها: "ووضعوه اسمًا"، وليس بشيء. 2 سيأتي مثل هذه الفقرة في رقم: 508، 509. 3 السياق: " ... علم قد عرض للناس فيه ... ما عرض لهم ... ". 4 والسياق: " ... أنه إن قيل: .... ظننت ... ".

تمام القول في النظم وأنه توخى معاني النحو

تمام القول في النظم وأنه توخى معاني النحو 442 - واعلمْ أنه وإنْ كانت الصورةُ في الذي أعَدْنا وأبْدأْنا فيه من أنَّه لا معنى للنظم غيرُ توخِّي معاني النحوِ فيما بينَ الكَلم، قد بلغَتْ في الوضوح والظهورِ والانكشافِ إلى أقصى الغايةِ، وإلى أنْ تكونَ الزيادَةُ عليه كالتكلُّف لِمَا لا يُحْتاجُ إليه، فإِنَّ النفْسَ تنازعُ إلى تتبُّعِ كلِّ ضربٍ منَ الشبْهَةِ يُرَى أنه يعرضُ للمُسلمِ نفسِه عند اعتراض الشكِّ. 443 - وإنَّا لنرَى أنَّ في الناس من إذا رأى أن يَجري في القياس وضربِ المثَل أن تشبِّه الكلمَ في ضمِّ بعضِها إلى بعضٍ، بضَمِّ غَزَل الإبْرَيْسم بعضِه إلى بعضٍ ورأى أنَّ الذي يَنْسِجُ الديباجَ ويَعمَلُ النقْشَ والوشْيَ لا يَصْنَعُ بالإِبريسم الذي يَنْسِجُ منه1، شيئاً غيرَ أنْ يَضُمَّ بعضَه إلى بعضٍ، ويتخيَّر للأَصباغِ المختلفةِ المواقعَ التي يعلمُ أنه إِذا أوْقَعَها يها حدثَ له في نَسْجه ما يُريد منَ النَقْش والصورةِ2 جرى في ظنَّه أنَّ حالَ الكلمِ في ضَمِّ بعضِها إلى بعضٍ، وفي تخيُّر المواقع لها3، حالُ خيوطِ الإِبريسم سواءٌ، ورأيَتَ كلامَه كلامَ مَنْ لا يعَلم أنه لا يَكونُ الضمُّ فيها ضمّاً، ولا المَوْقِعُ مَوْقعاً، حتى يكونَ قد توخَّى فيها معانيَ النحو4 وأنك إن عمدت إلى الألفاظ فجعلتَ تُتْبعُ بعضَها بعضاً من غيرْ أنْ تتوخَّى فيها معانيَ النحوِ، لم تكن صنَعْتَ شيئًا تدعي به.

_ 1 السياق: " ... لا يصنع بالإبريسم ... شيئًا غير أن يضم". 2 السياق: "وإنا لنرى في الناس مَنْ إِذا رأى أنَّه يَجري في القياس ... ورأى أن الذي ينسج الديباج ... جرى في ظنه". 3 السياق: "أن حال الكلم ... حال خيوط". 4 السياق: "أنه لا يكون الضم ضمًا. وأنك إن عمدت".

مؤلِّفاً، وتُشَبَّهُ معه بِمَنْ عَمِلَ نَسْجاً أو صنَعَ على الجملةِ صَنيعاً، ولم يُتصوَّر أنْ تكون قد تخيرت لها المواقع. استدلال على أن "النظم" هو توخي معاني النحو، وهو مهم: 444 - وفساد هذا وشبهه من الظنِّ، وإنْ كان معلوماً ظاهراً، فإنَّ ههنا استدلالًا لطيفًا تكثر بسببه الفائدة. وهو أن يُتصَوَّر أنْ يعمَدَ عامِدٌ إلى نظْم كلامٍ بعينهِ فيُزيلَه عنِ الصورةِ التي أرادَها الناظمُ له ويُفْسِدَها عليه، من غير أَن يُحَوِّلَ منه لفظاً عن موضِعه، أَو يُبَدِّلَه بغيره، أو يُغيِّر شيئاً من ظاهر أمرهِ على حالٍ. مثالُ ذلك: أنَّكَ إنْ قدَّرْتَ في بيت أبي تمام: لعاب الأفاعي القاتلات لغابه ... وأَرْيُ الجَنى اشتارَتْه أيْدٍ عواسِلُ1 أنَّ "لعابَ الأفاعي" مبتدأٌ و "لعابُه" خبرٌ، كما يُوهِمُه الظاهر، أفسدْتَ عليه كلامَه، وأبطلْتَ الصورةَ التي أرادها فيه. وذلك أنَّ الغرضَ أنْ يُشَبِّه مداد قلمهِ بلعاب الأفاعي، على معنى أنه إذا كتب في إقامة السياسات أتلف به النفوس، وكذلك الغرضَ أنْ يُشَبِّه مِدادَهُ بأرْي الجنَي2، على معنى أنه إِذا كتَبَ في العطايا والصِلاتِ أوصَلَ به إلى النفوس ما تَحْلو مذاقَتُه عندها، وأدْخَل السرورَ واللذةَ عليها. وهذا المعنى إنما يكونُ إِذا كان "لعابُه" مبتدأ، و "لعاب الأفاعي" خبرًا، فأما تقديرك أنت يكون "لعاب الأفاعي" مبتدأ

_ 1 في ديوانه، وهو من جيد شعره في وصف القلم. و "الأرى"، العسل، و "اشتارته"، جنته من الخلايا. و "العواسل" التي تطلب العسل. 2 من أول قوله: "مداد قلمه بلعاب الأفاعي" إلى أول قوله: "مداده بلعاب الأفاعي"، ساقط في "ج" سهوًا من الناسخ، وكذلك سقط من المطبوعة سهوًا عن صحة المعنى.

و "لعابُه"، خبراً فيُبْطِل ذلك ويَمْنَع منه البتَّةَ، ويَخْرجُ بالكلام إلى ما لا يجوزُ أن يكونَ مُراداً في مثل غَرَض أبي تمام، وهو أنْ يكون أرادَ أنْ يُشَبِّه "لعابَ الأفاعي" بالمِداد، ويشبِّه كذلك "الأرْيَ" به. فلو كان حالُ الكلم في ضمِّ بعضِها إلى بعضٍ كحالِ غَزْل الإبرَيْسَم، لكانَ ينْبغي أن لا تتغيَّر الصورةُ الحاصلةُ من نَظْمِ كَلِمٍ، حتى تُزال عن مواضِعها، كما لا تتغيرُ الصورةُ الحادِثةُ عن ضَمِّ غزلِ الإِبريسم بعضه إلى بعض، حتى نزال الخيوط مواضِعها. 445 - واعلمْ أنَّه لا يَجوزُ أن يكونَ سبيلُ قولِه: "لعابُ الأفاعي القاتلاتِ لعابُه"، سبيلَ قولِهم: "عتابُك السيفُ". وذلك أن المعنى في بيت أبي تمام على أنك مشبه شيئًا بشيء، وجامع بينهما في وصفٍ1، وليس المعنى في: "عتابُكَ السيفُ"، على أنك تُشَبِّه عتابَه بالسيفِ، ولكنْ على أنْ تَزْعُم أنه يَجْعَلُ "السيفَ" بدلاً من "العتاب". أفلا تَرَى أنه يصحُّ أنْ تقولَ: مدادُ قلمِه قاتلٌ كسمِّ الأفاعي"، ولا يَصِحُّ أن تقولَ: "عتابك كالسيفِ"، اللَّهمَّ إلاَّ أنْ تَخْرجَ إلى بابٍ آخرَ، وشيءٍ ليس هو غرضَهم بهذا الكلام، فتُريد أنه قد عاتَب عتاباً خَشِناً مؤلماً. ثم إنك إنْ قلتَ: "السيفُ عتابُك"، خرجْتَ به إلى معنى ثالثٍ، وهو أن تزْعُم أنَّ عتابَه قد بلغَ في إيلامهِ وشدةِ تأثيرهِ مبلغاً صارَ له السيفُ كأنه ليس بسيفٍ. 446 - واعلمْ أنَّهُ إنْ نظَر ناظرٌ في شأن المعاني والألفاظ إلى حال

_ 1 في المطبوعة: تشبه شيئًا بشيء لجامع .. ".

السامع، نفإذا رأي المعانيَ تقعُ في نفْسِه من بَعْد وقوعِ الألفاظِ في سَمْعِه. ظنَّ لذلك أنَّ المعانيَ تِبْعٌ للألفاظِ في ترتيبها. فإنَّ هذا الذي بيَّنَّاهُ يُريه فسادَ هذا الظنِّ. وذلك أنه لو كانتْ المعاني تكونُ تِبْعاً للألفاظ في ترتيبها، لكان مُحالاً أنْ تتغيَّر المعاني والألفاظُ بحالها لم تَزُلْ عن تَرْتيبها. فلمَّا رأينا المعانيَ قد جازَ فيها التغيُّر مِن غَيْر أنْ تتغيَّرَ الألفاظُ وتزولَ عن أماكِنِها، عَلِمْنا أنَّ الألفاظَ هي التابعةُ، والمعاني هي المتبوعة. الإشكال في معرفتين، هما مبتدأ وخبر، وفصل الإشكال بالمعنى: 447 - واعلمْ أنه ليس مِن كلام يعمدُ واضِعُه فيه إلى معرِفَتَيْنِ فيجعلُهما مبتدأً وخبراً، ثم يقدِّمُ الذي هو الخبرُ، إلاَّ أشكلَ الأمرُ عليكَ فيه، فلَمْ تَعْلَمْ أنَّ المقدَّمَ خبرٌ، حتى ترجِعَ إلى المعنى وتُحْسِن التدبُّرَ. أنشدَ الشيخ أبو علي في "التذكرة"1: نَمْ وإنْ لم أنَمْ كرايَ كَراكا2 ثم قال: "ينبغي أن يكونَ "كرايَ" خبراً مقدَّماً، ويكونَ الأصلُ: "كراكَ كرايَ"، أي نَم، وإن لم أَنَمْ فنومُكَ نومي، كما تقول: "قُمْ، وإن

_ 1 "أبو علي" هو الفارسي. 2 في هامش المخطوطة هنا ما نصه: "أوله: شاهدى الدمع أن ذاك كذا كا لأبي تمام الطائي". وهي في ديوانه، وروايته" شاهد منك أن ذاك كذا كذا

جلسَتَ، فقيامُكَ قيامي، هذا هو عُرْفُ الاستعمال في نحوِه" ثم قال: "وإِذا كان كذلك، فقد قُدِّم الخبرُ وهو معرفةٌ، وهو يُنْوى به التأخيرُ من حيث كان خَبَراً" قال: "فهو كبيت الحماسة: بَنُونا بَنُو أبنائِنا وبَنَاتُنا ... بَنوهُنَّ أبناءُ الرجالِ الأَباعدِ1 فقدَّمَ خبرَ المبتدأ وهو معرفةٌ، وإنما دلَّ على أنه ينوي التأخيرَ المعنى2، ولولا ذلك لكانتِ المعرفةُ، إذا قُدّمتْ، هي المبتدأ لتقدمها، فافهم ذلك". هذا كله لفظه. بيان السبب في تعدد أوجه تفسير الكلام: 448 - واعلمْ أنَّ الفائدةَ تَعْظُم في هذا الضربِ من الكلامِ، إذا أنتَ أحسنْتَ النظَرَ فيما ذكرتُ لك، من أنكَ تستَطيعُ أنْ تَنقُلَ الكلامَ في معناه عن صورةٍ إلى صورةٍ، من غير أن تغير من لظفه شيئاً، أو تحوّلَ كلمةً عن مكانها إلى مكانٍ آخرَ، وهو الذي وَسَّعَ مجالَ التأويلِ والتفسيرِ، حتى صاروا يتأولون ي الكلام الواحدِ تأويلَيْنِ أوْ أكثر، ويُفَسِّرون البيتَ الواحدَ عدَّةَ تفاسيرَ. وهو، على ذاك3، الطريقُ المزلَّةُ الذي ورَّط كثيراً من الناس في الهَلَكة، وهو مما يَعْلم به العاقلُ شدَّةَ الحاجةِ إلى هذا العِلْم، وينْكشِفُ معه عُوَارُ الجاهلِ به، ويُفتضَحُ عنده المُظْهِرُ الغِنى عنه. ذاك لأنه قد يَدْفع إلى الشيءِ لا يصح

_ 1 هذا البيت في شرح التبريزي للحماسة 2: 41، في آخر شرح بيتي غسان بن وعلة، وهو في الحماسة، طبعة عبد الله عسيلان في متن الحماسة برقم: 175، ويؤيد ذلك ما جاء ههنا. وذكر صاحب الخزانة: 213 أنه ينسب للفرزدق. 2 في هامش "ج" ما نصه: "أي: دل المعنى على أنه". 3 أي: وهو الطريق المزلة، مع ذلك ...

إلاَّ بتقديرِ غَير ما يُريه الظاهرُ، ثم لا يكونُ له سبيلٌ إلى معرفةِ ذلك التقديرِ إذا كان جاهلاً بهذا العلم، فيتسكَّع عند ذلك في العَمَى، ويقع في الضَّلال. مثال في تفسير قوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 449 - مثالُ ذلك أنَّ مَنْ نظَر إلى قوله تعالى {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإِسراء: 110] ثم لم يَعْلمْ أنْ ليسَ المعنى في "ادعوا" الدعاءَ، ولكنِ الذكْرَ بالاسمِ، كقولك: "هو يدعي زيدًا" و "يدعي الأميرَ"، وأنَّ في الكلام محذوفاً، وأنَّ التقديرَ: قُل ادعوهُ اللهَ، أو ادعوهُ الرحمنَ، أيَّاً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى1 كان بغرض أنْ يقعَ في الشركِ، من حيثُ إنه إنْ جرى في خاطره أنَّ الكلامَ على ظاهره، خرج ذلك به، والعياد باللهِ تعالى، إلى إثبات مَدْعُوَّيْنَ، تعالى اللهُ عن أنْ يكونَ له شريكٌ. وذلك مِن حيثُ كان مُحالاً أن تَعْمِدَ إلى اسمَيْن كلاهما اسمُ شيءٍ واحدٍ، فتعطِفَ أحدَهما على الآخَر، فتقولَ مثلاً: "اُدْعُ لي زيداً أو الأمير"، و "الأمير" هو زيد. وكذلك محال أن تقول: "أياما ندعوا" وليس هناك إلاَّ مَدْعوٌّ واحدٌ، لأن مِنْ شأن "أي" أنْ تكونَ أبداً واحداً من اثنين أو جماعةٍ، ومِن ثَمَّ لم يكن له بدٌّ من الإضافةِ، إما لفظاً وإما تقديرًا. مثال في قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرُ ابْنُ اللَّهِ} بغيرِ تنوينٍ "عزير" 450 - وهذا بابٌ واسعٌ2. ومِن المُشْكِلِ فيه قراءةُ مَن قرأ3: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30]، بغيرِ تنوينٍ. وذلك أنَّهم قد حَملوها على وجهين:

_ 1 السياق: ... " أن من نظر ... ثم لم يعلم ... كان بغرض ... ". 2 في المطبوعة وحدها: "وهناك باب". 3 قرأه بتنوين "عزيز" بعض المكيين والكوفيين، عاصم والكسائي ويعقوب، وقرأه الباقون بغير تنوين، ضمة واحدة.

أحدُهما: أنْ يكون القارئ له أرادَ التنوينَ ثم حذفَه لالْتقاءِ الساكنَيْن، ولم يحرِّكْهُ، كقراءةِ مَنْ قرأ1: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدُ اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1، 2] بتركِ التَنوين مِنْ "أحَد:، وكما حُكيَ عن عمارةَ بنِ عَقيل أنه قرأ2: {وَلا اللَّيْل سَابِق النَّهَار} [يس: 40]، بالنْصب، فقيلَ له: ما تُريد؟ فقال: أريدُ سابقٌ النهارَ. قيل: فهلاَّ قلْتَه؟ فقال: فلو قلْتُه لكان أوزَنَ وكما جاءَ في الشعر من قوله: فأَلْفَيْتُهُ غيرَ مستعتِبٍ ... ولاَ ذاكِرَ اللهَ إلاَّ قليلا3 إلى نظائرِ ذلك، فيكونُ المعنى في هذه القراءةِ مثْلَه في القراءة الأُخرى، سَواء. والوجهُ الثاني: أنْ يكونَ الابنُ صفةً، ويكونَ التنوينُ قد سقَط على حدِّ سقوطِهِ في قولنا: "جاءَني زيدُ بنُ عمروٍ"، ويكونَ في الكلام محذوفٌ. ثم اختَلَفوا في المحذوف، فمنهم من جعله مبتدأً فقدَّرَ: "وقالتِ اليهودُ هو عزير بن الله" ومنهم من جَعَلَه خبراً فقدَّر؟ "وقالتِ اليهودُ عزيرُ ابنُ اللهِ معبودُنا". وفي هذا أمرٌ عظيم، وذلك أنك إِذا حكَيْتَ عن قائلٍ كلاماً أنتَ تُريد أن تُكَذِّبه فيه، فإنَّ التكذيبَ ينصرفُ إلى ما كان فيه خبرصا، دون ما كان صفةً. تفسيرُ هذا: أَنَّك إِذا حكيتَ عن إنسانٍ أنَّه قال: "زيدُ بن عمرو

_ 1 ذكر أبو حيان في البحر المحيط 8: 528، من قرأ بهذه القراءة. 2 انظر شواذ القراءات لابن خالويه: 125. 3 هو لأبي الأسود الدؤلي في ديوانه، والأغاني 11: 17، والبيت في سيبويه 1: 58، وتفسير الطبري 3: 306.

سيِّدٌ"، ثم كذَّبْتَه فيه، لم تكُنْ قد أنكرتَ بذلك أن يكون زيدَ ابن عمروٍ، ولكنْ أنْ يكونَ سيِّداً وكذلك إذا قال: "زيدٌ الفقيهُ قد قَدِم"، فقلتَ له: "كَذَبْتَ" أو "غَلِطْتَ". لم تَكُن قد أنكرْتَ أن يكونَ زيدٌ فقيهاً، ولكنْ أن يكون قد قَدِم1. هذا ما لا شُبهةَ فيه، وذلك أنك إذا كذَّبْتَ قائلاًَ في كلامٍ أو صدَّقْته، فإِنما يَنْصرِف التكذيبُ منك والتصديقُ إلى إثباته ونفيه، والإثبات والنفي يتناولات الخبرَ دونَ الصفةِ. يدلُّكَ على ذلك أنَّكَ تَجِدُ الصفةَ ثابتةً في حالِ النفي، كثُبوتها في حالِ الإِثبات. فإِذا قلتَ: "ما جاءني زيدٌ الظريفُ"، كانَ "الظَّرْفُ" ثابتاً لزيدٍ كثبوته إذا قلتَ: "جاءني زيدٌ الظريفُ" وذلك أنْ ليس ثُبوتُ الصفةِ لِلذي هي صفةٌ له، بالمتكلِّم وبإِثباته لها فتنتفي بنَفْيه، وإنما ثُبوتُها بنفسها، ويتقرَّرُ الوجودُ فيها عندَ المخاطَب، مثلَه عند المتكلِّم، لأنه إذا وقعتِ الحاجةُ في العلم إلى الصفةِ، كان الاحتياجُ إليها من أجْل خِيفةِ اللَّبْس على المخاطَبِ. تفسيرُ ذلك: أنكَ إذا قلتَ: "جاءني زيدٌ الظريفُ"، فإنك إنما تحتج إلى أنْ تصِفَه بالظريفِ، إذا كان فيمن يجيءُ إليكَ واحدٌ آخرُ يُسمَّى "زيداً"، فأنتَ تَخْشى إنْ قلْتَ: "جاءني زيدٌ" ولم تَقُل: "الظريفُ"، أنْ يَلْتَبِس على المخاطَبِ فلا يَدْرِي أهذا عنيتَ أم ذاك؟ وإذا كان الغرضُ من ذكْرِ الصفة إزالةَ اللَّبس والتبيين، كان مُحالاً أن تكونَ غيرَ معلومةٍ عند المخاطَب، وغير ثابتة، لأنه يؤدي إلى أن ترم تبيينَ الشيءِ للمخاطَب بوصفٍ هو لا يَعلَمُه في ذلك الشيء. وذلكَ ما لا غايةَ وراءه في الفساد.

_ 1 من أول قوله: "فقلت له: كذبت" إلى هنا، ساقط من كاتب "ج" سهوًا.

وإذا كان الأمر كذلك، كان جل "الابنِ" صفةً في الآية، مُؤديًا إلى الأمْرِ العظيم، وهو إخراجُه عن موضعِ النفي والإنكارِ، إلى موضع الثبوتِ والاستقرارِ، جلَّ الله تعالى عن شَبَهِ المخلوقين، وعن جَميع ما يقولُ الظالمونَ، علوّاً كبيراً. 451 - فإِن قيلَ: إنَّ هذه قراءةٌ معروفةٌ، والقولُ بجواز الوصفيَّةِ في "الابن" كذلك معروفٌ ومدوَّنٌ في الكتبِ، وذلك يَقْتضي أن يكونوا قد عرَفوا في الآيةِ تأويلاً يَدخُل به "الابْن" في الإِنكار مع تقديرِ الوصفيَّة فيه. قيل: إنَّ القراءةَ كما ذكرتُ معروفةٌ، والقولُ بجَواز أن يكونَ "الابْنُ" صفةً مثْبَتٌ مسطورٌ في الكتبِ كما قلتُ، ولكنَّ الأصلَ الذي قدَّمناه منْ أنَّ الإِنكارَ إِذا لَحِقَ لَحِقَ الخبرَ دونَ الصفة1 ليس بالشيءِ الذي يعترضُ فيه شكٌّ أو تتسلطُ عليه شبْهَةٌ. فليس يَتَّجه أن يكونَ "الابنُ" صفةً ثم يَلْحقُهُ الإنكارُ مع ذلك، إلاَّ على تأويلٍ غامضٍ، وهو أن يقالَ: إنَّ الغرضَ الدلالةُ على أنَّ اليهودَ قد كان بلغَ من جَهْلهم ورُسوخِهم في هذا الشِّرْكِ، أنهم كانوا يَذْكُرون "عُزيراً" هذا الذكْرَ، كما تقولُ في قومٍ تريدُ أن تصفَهم بأنهم قد استُهلِكوا في أمرِ صاحبِهم وغَلَوْا في تعظيمه: "إني أراهُمْ قد اعتقَدوا أمْراً عظيماً، فهم يقولون أبداً: زيدٌ الأميرُ"، تريدُ أنه كذلك يكون ذكْرُهُم إذا ذكَروهُ، إلاَّ أنَّه إنما يستقيمُ هذا التأويلُ فيه، إذا أنتَ لم تقدِّر له خبَراً معيناً، ولكنْ تريدُ أنهم كانوا لا يخبرون عنه بخببر إلا كان ذكرهم له هكذا.

_ 1 السياق: "ولكن الأصل الذي قدمناه .... ليس بالشيء ... ".

مثال آخر في بيان قوله: {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} 452 - ومما هو من هذا الذي نحنُ فيه قولُه تعالى: {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} [النساء: 171]. وذلك أنَّهم قد ذَهبوا في رفْع "ثلاثةٍ" إلى أنها خبرُ مبتدأ محذوفٍ، وقالوا: إنَّ التقديرَ: "ولا تقولوا آلهتُنا ثلاثةٌ". وليس ذلك بمستقيمٍ. وذلك أنَّا إذا قلْنا: "ولا تقولوا آلهتُنا ثلاثة"، كان ذلك، والعياذُ بالله، شبيه الإثباتِ أنَّ ههنا آلهةً، من حيثُ إنَّكَ إذا نفيْتَ، فإنما تَنفي المعنى المستفادَ من الخَبر عن المبتدأ، ولا تنفي معنى المبتدأ، فإِذا قلتَ: "ما زيدٌ منطلقاً" كنتَ نفيْتَ الانطلاقَ الذي هو معنى الخبرِ عن زيدٍ، ولم تَنْفِ معنى زيد ولم تُوجِبْ عدَمَه. وغذاكان ذلك كذلك، فإِذا قُلْنَا: "ولا تقولوا آلهتُنا ثلاثةٌ"، كنَّا قد نفَيْنا أن تكونَ عِدَّةُ الآلهة ثلاثةً، ولم تنف أن تكونَ آلهةً، جلَّ الله تعالى عن الشريكِ والنظيرِ كما أنك إِذا قلتَ: "ليس أُمراؤنا ثلاثةً"، كنتَ قد نفَيْتَ أن تكونَ عِدَّةُ الأمراءِ ثلاثةً، ولم تَنْفِ أن يكون لكُمْ أمراءُ. هذا ما لا شبْهةَ فيه. وغذا أدَّى هذا التقديرُ إلى هذا الفسادِ، وَجَبَ أنْ يَعْدِل عنه إلى غيره. والوجهُ، واللهُ أعلمُ، أن تكونَ "ثلاثة" صفةَ مبتدأ لا خبرَ مبتدإٍ، ويكونَ التقديرُ: "ولا تقولوا لنا آلهةٌ ثلاثة أو: في الوجود آلهة ثلاثة"، ثم حُذِفَ الخبرُ الذي هو "لنا" أو "في الوجود" كما حُذِفَ من: "لا إله إلاَّ الله" و {مَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّه} [آل عمران: 62]، فبقي "ولا تقولوا آلهةٌ ثلاثةٌ"، ثم حُذِف الموصوفُ الذي هو "آلهة"، فبقي: "ولا تقولوا ثلاثةٌ". وليس في حذْف ما قدَّرْنا حذْفَه ما يتوقّفُ في صحَّته. أما حذفُ الخبر الذي قلْنا إنه "لنا" أو "في الوجود"، فمطَّردٌ في كلِّ ما معناهُ التوحيدُ، ونفيُ أن يكون معَ الله، تعالى عن ذلك، إلهٌ.

حذف الموصوف بالعدد شائع: 453 - وأما حذْفُ الموصوفِ بالعدد، فكذلك شائعٌ، وذلك أَنه كما يَسوغُ أن تقولَ: "عندي ثلاثة"، وأنتَ تريدُ "ثلاثةَ أثوابٍ"، ثم تَحذفُ، لعِلْمكَ أنَّ السامعَ يَعْلمُ ما تُريد، كذلك يسَوغُ أنْ تَقولَ: "عندي ثلاثةٌ"، وأنت تُريد "أثوابٌ ثلاثة"، لأنه لا فَصْلَ بين أن تَجْعَل المقصودَ بالعددِ مميَّزاً، وبين أنْ تَجعلَهُ موصوفاً بالعدد، في أَنه يَحْسُنُ حذْفُه إِذا عُلِمَ المراد. يبين ذلك أنكَ تَرى المقصودَ بالعددِ قد تُرِكَ ذكرُهُ، ثم لا تستطيعُ أن تُقدِّرَه إِلا موصوفًا، وذلك في قولك: "عندي اثنان"، و "عندي واحد"، يكونُ المحذوفُ ههنا موصوفاً لا محالةَ، نحو: "عندي رجلانِ اثنانِ" و "عندي درهمٌ واحدٌ"، 1 ولا يكونُ مميَّزاً البتةَ2، من حيث كانوا قد رفضوا إضافة "الواحد" و "الاثنين" إلى الجِنْس، فتركوا أن يقولوا: "واحدُ رجالٍ" و "آثنا رجالٌ" على حدِّ "ثلاثةُ رجالٍ"، ولذلك كان قولُ الشاعر: ظَرْفُ عجوزٍ فيه ثِنْتَا حَنْظَلِ3 شاذًا

_ 1 من أول قوله: "يكون المحذوف ... " إلى هذا الموضع، ساقط من كاتب "ج"، سهوًا. 2 في هامش "ج"، ما نصه: "أي: ولا يكون المحذوف مميزًا". 3 الرجز لخطام الريح المجاشعي، وفي شرح الحماسة للتبريزي 4: 166 غير منسوب، وقبله: كأن خصييه من التذلدل ولكن أورده أبو تمام برواية: سحق جراب فيه ثنتا حنظل وذكر أبو محمد الغندجاني الرجز كله لخطام في "إصلاح ما غلط فيه النمري".

هذا، ولا يمتنع أن يجعل المحذوفَ من الآية في موضعِ التمييز دونَ موضع الموصوف، فيجعل التقديرَ، "ولا تقولوا ثلاثة آلهة"، ثم يكونُ الحكْمُ في الخَبرِ على ما مضى، ويكونَ المعنى، والله أعلم، ولا تقولوا لنا ثلاثة آلهة، أو في الوجود ثلاثةُ آلهة"1. 454 - فإنْ قلتَ: فلِمَ صار لا يَلْزمُ على هذا التقديرِ ما لَزِمَ عَلَى قولِ مَنْ قدَّر: "ولا تَقولوا آلهتنا ثلاثةٌ"؟ 2 فذاكَ لأنَّا إذا جعَلْنا التقديرَ3: ولا تقولوا لنا، أو: في الوجود، آلهةٌ ثلاثةٌ، أو ثلاثةُ آلهةٍ"، كنَّا قد نفينا الوجود على الآلهةِ، كما نفَيْناه في "لا إله إلا الله"، و {مَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّه} [آل عمران: 62]. وإِذا زعَموا أنَّ التقديرَ "ولا تقولوا آلهتُنا ثلاثةٌ"، كانوا قد نَفَوْا أَنْ تكونَ عِدَّةُ الآلهةِ ثلاثةً، ولم يَنْفُوا وُجودَ الآلهة. فإنْ قيل: فإنَّه يَلزَمُ على تقديركَ الفسادُ من وجْهٍ آخرَ، وذاكَ أنَّه يَجوزُ إذا قلتَ: "ليس لنا أمراءُ ثلاثةٌ"، أنْ يكونَ المعنى: ليس لنا أمراءُ ثلاثةٌ4، ولكنْ لنا أميرانِ اثنانِ، وإذا كان كذلكَ: كان تقديرُكَ وتقديرُهُمْ جميعاً خطأً.

_ 1 في "ج"، من أول قوله: "ثم يكون الحكم ... " إلى أول قوله: "ثلاثة آلهة"، سقط سهوًا من كاتبها. 2 "فذاك" جواب السؤال. 3 أسقط كاتب "ج" فكتب "لَزِمَ عَلَى قولِ مَنْ قدَّر، ولا تَقولوا آلهتنا ثلاثة، فذاك لأنا". سها سهوًا أخل بالكلام. 4 "أنْ يكونَ المعنى: ليس لنا أمراءُ ثلاثةٌ"، سقط من كاتب "ج" سهوًا.

قيل: إنَّ ههنا أمراً قد أغْفَلْتَه، وهو أن قولهم {أَآلِهَتُنَا}، يُوجِبُ ثُبوتَ آلهةٍ، جلَّ اللهُ وتعالى عَمَّا يقولُ الظالمونَ عُلوًّا كبيراً. وقولُنا: "ليس لنا آلهةٌ ثلاثةٌ"، لا يُوجبُ ثبوتَ اثنينِ البتةَ. فإنْ قلتَ: إن كانَ لا يُوجبُه، فإنَّه لا يَنْفِيه. قيل: يَنْفيهِ ما بَعْدَهُ مِنْ قولِه تعالى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171]. فإنْ قيلَ: فإنَّه كما يَنْفي الإلهَيْن، كذلك ينفي الآلهةَ. وإِذا كان كذلك، وجَبَ أنْ يكونَ تقديرُهم صحيحاً كتقديركَ. قيل: هو كما قلتَ ينفي الآلهةَ، ولكنَّهم إذا زعَموا أنَّ التقديرَ: "ولا تقولوا آلهتُنا ثلاثةٌ"، وكان ذلك والعياذُ باللهِ من الشِّرْك يَقْتضي إثباتَ آلهةٍ، كانوا قد دفَعوا هذا النفيَ وخالفوه وأخرجوا إلى المناقَضَة. فإِذا كان كذلك، كان مُحالاً أن يكون للصحة سبيل إلى ما قالوا. وليس كذلك الحالُ فيما قدَّرْناه، لأنَّا لم تقدر شيئاً يقتضي إثباتَ إلهيَنْ، تعالَى اللهُ، حتى يكونَ حالُنا حالَ مَنْ يَدفَعُ ما يُوجِبُه هذا الكلامُ من نَفْيهِما. يُبيِّنُ لك ذلِكَ: أَنه يَصِحُّ لنا أَنْ نَتَّبعَ ما قدَّرناه نفْي الاثنينِ، ولا يَصِحُّ لهم. تفسيرُ ذلك: أنَّه يصِحُّ أن تقولَ: "ولا تَقولوا لنا آلهةٌ ثلاثةٌ ولا إلهان"، لأنَّ ذلك يَجْري مَجرْى أَنْ تقولَ: "ليس لنا آلهةٌ ثلاثةٌ ولا إلهان"، وهذا صَحيحٌ ولا يصِحُّ لهم أَنْ يقولوا: "ولا تقولوا آلهتُنا ثلاثةٌ ولا إلهانِ"1، لأنَّ ذلك يجري

_ 1 كتب كاتب "ج": "ليس لنا آله ولا إلهان، لأن ذلك يجري مجرى ... "، فأسقط وأفسد الكلام.

مَجْرى أنّ يقولوا: "ولا تقولوا آلهتُنا إلهَانِ". وذلك فاسدٌ، فاعرفْه وأَحْسِنْ تأمُّلَهُ. 455 - ثم إنَّ ههنا طريقاً آخَرَ، وهو أَنْ تُقَدِّر: "ولا تقولوا الله والمسيح وأمه ثلاثة"، أي نبعدهما كما نَعبدُ اللهَ. يُبيِّنُ ذلك قولُه تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة: 73]، وقد استقرَّ في العُرْفِ أنَّهم إذا أرادوا إلحاقَ اثنينِ بواحدٍ في وصفٍ منَ الأوصافِ، وأن يجعلوها شَبيهَيْن له، قالوا: "هُمْ ثلاثةٌ"، كما يقولونَ إذا أرادوا إلحاقَ واحدٍ بآخرَ وجَعْلَه في معناه، "هما اثنانِ"، وعلى هذا السبيل كأنَّهم يقولون: "هُم يُعَدُّونَ معَداً واحداً" ويُوجِبُ لهم التساويَ والتشارُكَ في الصفةِ والرتبةِ، وما شاكَل ذلكَ. 456 - واعلمْ أنه لا معنى لأن يقالَ: إنَّ القولَ حكايةٌ، وإنَّه إِذا كان حكايةً لم يلزَمْ منه إثباتُ الآلهةِ، لأنه يَجْري مَجْرى أنْ تقولَ: "إنَّ مِنْ دين الكفَّارِ أنْ يقولوا: الآلهةُ ثلاثةٌ"1، وذلك لأنَّ الخطابَ في الاية للنصارى أنسهم. ألا ترى إلى قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى

_ 1 في هامش "ج" بخط كاتبها ما نصه: "هذا تعليل لقولي: لم يلزم من إثبات الآلهة". وهذا نص قاطع على أن جميع حواشي "ج"، من كلام عبد القاهر، كما استظهرت قبل أن أقرأ هذا، وانظر التعليق السالف على رقم: 404.

مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} [النساء: 171]. وإِذا كان الخطابُ للنصارى، كان تقديرُ الحكايةِ مُحالاً، فـ "ـلا تَقولوا" إذنْ في معنى: "لا تعْتَقِدوا"، وإِذا كانَ في معنى الاعتقادِ، لَزِمَ إذا قدَّرَ "ولا تقولوا آلهتُنا ثلاثةٌ"، ما قُلْنا إنَّه يَلْزمُ مِن إثباتِ الآلهةِ. وذلك لأن الاعتقادَ يَتعلَّق بالخبر لا بالمُخْبَرِ عَنْه. فإِذا قلتَ: "لا تعتقدْ أنَّ الأمراءَ ثلاثةٌ"، كنتَ نهَيْتَه عن أنْ يعتقدَ كونَ الأُمراءِ على هذه العِدَّة، لا عنْ أَنْ يَعْتَقِدَ أنَّ ههنا أُمراءَ. هذا ما لا يَشُكُّ فيه عاقلٌ. وإنَّما يكونُ النهْيُ عن ذلك إذا قلتَ: "لا تَعْتقِدْ أَنَّ ههنا أُمراءَ"، لأنَّك حينئذٍ تَصيرُ كأنَّك قلَْتَ: لا تعتقِدْ وجودَ أمراءَ. هذا، ولو كان الخطابُ معَ المؤمنينَ، لكانَ تَقديرُ الحكايةِ لا يَصِحُّ أيضاً. ذلك لأنه لا يجوزُ أنْ يُقالَ: "إنَّ المؤمنينَ نهوا عن أن يحكموا عن النصارى مقالَتَهم، ويُخْبروا عنْهم بأنَّهم يقولونَ كَيْتَ وكيْتَ"، كيفَ؟ وقد قال اللهُ تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30] ومِنْ أينَ يَصِحُّ النهْيُ عَنْ حكايةِ قولِ المُبْطِل، وفي تَرْك حكايتهِ تركٌ له وكفره، وامتناعٌ من النعْي عليه، والإنكارِ لِقَوْلِه، والاحتجاجِ عليه، وإقامةِ الدليل على بُطْلانه، لأنه لا سبيلَ إلى شيءٍ من ذلك إلاَّ مِنْ بَعْدِ حكايةِ القولِ والإِفصاحِ به، فاعرِفْه.

تحرير القول في الإعجاز والفصاحة والبلاغة

بسم الله الرحمن الرحيم تحرير القول في الإعجاز والفصاحة والبلاغة: 457 - قد أردنا أن نستأنِفَ تقريراً نزيدٌ به الناسَ تَبصيراً أنَّهم في عمياءَ من أمرِهم حتَّى يسلكوا المسلَكَ الذي سلكناه، ويُفْرِغوا خواطِرَهُم لتأمُّلِ ما استخرجناه وأنَّهم، ما لم يأخذوا أنفسَهم بذلك، ولم يُجرِّدوا عناياتِهم له1 في غرورٍ، كمن يَعِدُ نفسه الريَّ من السَّرابِ اللامع، ويخادعها بأكاذيب المطامع. بيان في معنى "التحدي"، وأي شيء طولبوا أن يأتوا به؟ وهو مهم: 458 - يقال لهم: إنكم تتْلون قولَ اللهِ تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [هود: 13]، وقوله: {بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِه} [البقرة: 23]، فقولوا الآن: أيجوزُ أنْ يكونَ تعالى قد أمرَ نبيه صلى الله عليه وسلم بأنْ يتحدَّى العربَ إلى أن يُعارضوا القرآنَ بمثلِهِ، من غيرِ أن يكونوا قد عَرَفوا الوصفَ الذي إذا أتَوا بكلامٍ على ذلك الوصفِ، كانوا قد أَتَوا بمثلِه؟ ولا بُدَّ من "لا"، لأنَّهم إنْ قالوا: "يجوزُ"، أبطلوا التحدِّي، من حيث إنَّ التحدي -كما لا يخفى- مطالبةٌ بأن يأتوا بكلامٍ على وصفٍ، ولا تصحُّ المطالبةُ بالإِتيان به على وصفٍ من غيرِ أن يكونَ ذلك الوصفُ معلوماً للمطالَبِ2 ويبطلُ بذلك دعوى الإِعجاز أيضاً؛ وذلك لأنه لا يتصور أن

_ 1 السياق: "وأنهم ... في غرور". 2 السياق: " ... إن قالوا: يجوز، أبطلوا التحدي ... ويبطل بذلك".

يقالَ: إنه كانَ عَجْزٌ، حتى يثبتَ معجوزٌ عنه معلوم؛ فلا يقومُ في عَقْل عاقلٍ أن يقول لخصمٍ له: "قد أعجزَك أن تفعل مثل فعلي"، وهو لا يشير له إلى وصفٍ يَعلَمُه في فعله، ويراهُ قد وقعَ عليه؛ أفلا تَرى أنَه لو قالَ رَجلٌ لآخرَ: "إني قد أحدثتُ في خاتَمٍ عملتهُ صنعة أنتَ لا تستطيعُ مثلَها"، لم تَتَّجه له عليه حجةٌ، ولم يثبُتْ به أنه قد أتى بما يعجزُه، إلا من بعدِ أن يرِيَهُ الخاتمَ، ويشيرَ له إلى ما زعمَ أنه أبدعَه فيه منَ الصَّنعة، لأنه لا يصحُّ وصفُ الإِنسانِ بأنه قد عَجزَ عن شيءٍ، حتى يريدَ ذلك الشيءَ ويقصدَ إليه، ثم لا يتأتَّى له. وليس يتصوَّرُ أن يقصِدَ إلى شيءٍ لا يعلَمُه. وأن تكونَ منه إرادةٌ لأمرٍ لم يعلمْه في جملةٍ ولا تفصيلٍ. 459 - ثم إنَّ هذا الوصفَ ينبغي أنْ يكونَ وصْفاً قد تجدَّد بالقرآن، وأمر لم يُوجَدْ في غيرهِ، ولم يُعْرف قَبْلَ نزولِه. وإِذا كان كذلك؛ فقد وَجَب أنْ يُعْلَم أَنه لا يجوزُ أن يكونَ في "الكَلم المفردةِ"، لأَن تقديرَ كونِه فيها يؤدِّي إلى المُحال، وهو أن تكونَ الألفاظُ المفردةُ التي هي أوضاعُ اللُّغة، قد حدَثَ في مذاقة حروفِها وأصدائها أوصافٌ لم تكُنْ1، لتكونَ تلك الأوصاف فيها أقبل السامعون عليها إِذا كانتَ متلوَّة في القرآن، لا يَجدونَ لها تلكَ الهيئاتِ والصفاتِ خارِجَ القرآنِ2. ولا يجوزُ أن تكونَ في "معاني الكلم المفردة"، التي هي لها بوضع

_ 1 في المطبوعة وحدها: "حذاقة حروفها"، خطأ صرف. 2 معطوف على قوله في أول البقرة: " .... لا يجوزُ أن يكونَ في الكَلم المفردةِ ... ".

اللغة؛ لأنه يؤدي إلى أن يكونَ قد تجدد في معنى "الحمد" و"الرب"، ومعنى "العالمين" و"الملك" و"اليوم" و"الذين"، وهكذا، وصْفُ لم يكُنْ قَبْل نزولِ القرآن. وهذا ما لَوْ كان ههنا شيءٌ أَبَعدُ من الحال وأشنعُ لكان إيَّاه1. ولا يجوزُ أَن يكون هَذا الوصفُ في "ترتيب الحَركاتِ والسَّكَناتِ"، حتى كأَنهم تُحُدُّوا إلى أن يأتوا بكلام تكون كلماته على تواليه في زِنَةِ كلماتِ القرآنِ، وحتى كأنَّ الذي بانَ به: القرآنُ مِن الوَصْف في سبيلِ بَيْنُونَة بِحُور الشِّعْر بعضِها مِنْ بَعضٍ، لأنه يخرج إلى ما تعاطه مُسيلِمَةُ من الحماقة في: "إنا أعطيناكَ الجَماهر، فَصَل لِربِّك وجاهِرْ"، "والطَّاحناتِ طحناً". وكذلك الحكْمُ إنْ زَعم زِاعمٌ "أنَّ الوصْفَ الذي تُحُدُّوا إليه هو أَن يَأْتوا بكلامٍ يَجعلونَ له مَقاطعَ، وفواصلَ، كالذي تَراهُ في القرآن"؛ لأنه أيضاً ليس بأكثرَ مِن التَّعويلِ على مراعاةِ وزْنٍ. وإنَّما الفواصلُ في الآيِ كالقوافي في الشِّعر، وقد عَلِمْنا اقتدارَهم على القوافي كيف هوَ، فلَوْ لم يكنِ التحدِّي إلا إلى فُصولٍ منَ الكلامِ يكونُ لها أواخرُ أشباهِ القوافي، لم يُعْوِزْهُم ذلك، ولم يتعذَّرْ عليهم. وقد خُيِّل إلى بعضهم إن كان الحكاية صححية شيءٌ من هذا، حتى وَضعَ على ما زَعموا فصولَ كلام أواخرُها كأواخرِ الآيِ2، مثْلَ "يعلمون" و "يؤمنون" وأشباه ذلك3.

_ 1 أيضًا، معطوف آخر على أول البقرة. 2 في المطبوعة وحدها: فصول الكلام، خطأ. 3 معطوف على ما أشرت إليه في الفقرة السالفة. وهذه العبارة الآتية كلها ليست في "س".

ولا يَجوزُ أَن يكونَ الإِعجازُ بأن لم يُلْتَقَ في حُروفه ما يَثْقُلُ على اللسانِ. أي شيء بهر العقول من القرآن، وكلام الوليد بن المغيرة، وابن مسعود، والجاحظ: 460 - وجملةُ الأمرِ أَنه لَن يَعرِضَ هذا وشَبهُهُ من الظنونِ لِمَنْ يَعرِضُ لهُ إلاَّ مِن سوءِ المعرفةِ بهذا الشأنِ، أوْ للخذلانِ، أو لِشهوةِ الإِغرابِ في القولِ. ومَنْ هذا الذي يَرْضى مِنْ نَفْسه أنْ يَزعمَ أنَّ البرهانَ الذي بان لهم، والأمر الذي بهرهم، والهيبة التي ملأتْ صدُورَهم1، والروعةَ التي دخلتْ عليهم فأزعَجَتْهم حتَّى قالوا: "إنَّ له لحلاوةً، وإنَّ عليه لطولاة، وأن أسفله لمعذق، وإنَّ أعلاه لَمْثْمِرٌ2، إنما كان لِشيءٍ راعَهُم من مَواقعِ حركاتِه، ومِن تَرتيبٍ بيْنَها وبَيْنَ سكناته؟ أم لِفَواصلَ في أواخرِ آياته؟ مِنْ أَيْنَ تَليقُ هذه الصفةُ وهذا التشبيهُ بذلك؟ أم ترَى ابنَ مَسْعود حين قال في صفةِ القرآن: "لا يَتْفَه ولا يَتَشَانُّ"3، وقال: "إِذا وقعتُ في آلِ حم، وقعتُ في روضاتٍ دَمِثاتٍ

_ 1 في المطبوعة وحدها: "والهيئة"، خطأ. 2 هذه رواية مشهورة، والذي في كتب السير "سيرة ابن هشام" وأن الوليد بن املغيرة قال: "إن لقوله حلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة"، هذه رواية ابن إسحاق، وروى ابن هشام "إن أصله لغذق". و "الغذق"، النخلة التي ثبت أصلها، وطاب فرعها إذا جنى، و "الغذق"، الروي المخصب، وكذلك تفسير "المغذقط الذي ثبتت أصوله، و "المغذق"، المخصب. وكان في المطبوعة "لمغذق" بالغين المعجمة والدال المهملة، والذي في "ج" و "س": "لمغذق" بالغين المهملة والذال المعجمة. 3 الخبر بهذا اللفظ في غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام 3: 153/ 4: 55، بغير إسناد، وهو في مسند أحمد بن حنبل رقم: 3845 من حديث طويل: "إن هذا القرآ لا يختلف، ولا يستشن، ولا ينفه لكثرة الرد" و "ينشان" لا يخلق، وهو مأخوذ من "الشن" وهو الجلد الخلق البالي، و "يستشن"، يصير شنًا باليًا. و "يتفه"، من الشيء "التافه"، أي لا يبتذل حتى يلحق بالخسيس.

أتأنَّق فيهنَّ"1، أي أَتتبَّع محاسنَهنَّ قال ذلك من أجْل أوزانِ الكلماتِ، ومن أجْل الفواصِلِ في أواخرِ الآيات؟ أم تَرى أنَّهم لذلك قالوا: "لا تَفْنى عجائِبُه، ولا يَخْلُقُ على كثرة الردِّ"2. أم تَرى الجاحظَ حينَ قال في كتابِ النبوَّة: "ولو أَنَّ رجلاً قرأَ على رجُل مِن خطبائِهم وبُلغائهم سورةً واحدةً، لَتبيَّنَ له في نظامِها ومَخْرجها، منْ لفظِها وطابَعِها أنه عاجز عن مثلها، لو تَحدَّى بها أبلَغَ العربِ لأَظْهَر عجْزَه عنها"3 لغا ولغط4. فليسَ5 كلامُه هذا مما ذهَبوا إليه في شيء. 461 - وَينبغي أن تكونَ موازَنَتُهم بيْنَ بعضِ الآي وبين ما قاله الناس في

_ 1 خبر عبد الله بن مسعود هذا في تفسير ابن كثير في أول سورة غافر (7: 275) غير مسند. و "ذمثاث"، جمع "ذمثة"، وهي المخصبة اللينة السهلة المعيشة. 2 انظر ما سلف في التعليق رقم: 3، ص: 388 وهو في خبر علي رضي الله عنه في صحيح الترمذي، كتاب "ثواب القرآن"، "باب ما جاء في فضل القرآن، بإسناد فيه كلام". 3 مضى كلام الجاحظ هذا آنفًا برقم: 290. 4 "لغا يلغو" أتى باللغو من الكلام، وهو ما لا يمتد به، ولا يحصل منه على فائدة ولا نفع. و"لفظ يلغط لغطًا"، أتى بأصوات مبهمة وألفاظ ذات جلبة لا يفهم لها معنى. وكان في المطبوعة وحدها: "لغًا ولفظًا"، وهو سيء جدًا، لأن السياق: "أم ترى الجاحظ حين قال ... لغا ولغط". 5 الصرف في "لامه" مرودد إلى الجاحظ.

معناها، كموازنَتِهِمْ بيْن: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]، وبَيْن: "قَتْلُ البعضِ إحياءٌ للجميع"1 خطأً مهم2؛ لأنَّا لا نَعْلم لحديثِ التحريكِ والتسْكينِ وحديثِ الفاصلةِ مذهباً في هذه الموازنة، ولا نَعْلمهُم أرادوا غيرَ ما يُريده الناسُ إذا وازَنُوا بين كلامٍ وكلامٍ في الفصاحةِ والبلاغةِ ودقَّةِ النظم وزيادة الفائدة. ولولا أن الشطيان قد استحوذَ على كثيرٍ من الناس في هذا الشأنَ، وأنهم -بِتَرْك النظرِ، وإهمالِ التدبُّر وَضعفِ النيَّةِ، وقِصَر الهِمَّة- قد طرَّقوا له حتى جعَل يُلْقي في نفوسِهم كلَّ محالٍ وكلَّ باطلٍ3، وجَعَلوا هُمْ يُعطون الذي يُلْقيه حَظَّا من قبولهم، ويبوؤونه مكاناً مِن قلوبهم، لمَا بلغَ من قَدْر هذه الأقوالِ الفاسدةِ أنْ تدخُلَ في تصنيفٍ، ويعادَ ويُبْدأَ في تبيينٍ لوجهِ الفسادِ فيها وتعريف. الحجة على إبطال "الصرفة" وهي مقالة المعتزلة: 462 - ثُم إنَّ هذه الشناعاتِ التي تقدَّمَ ذِكْرُها، تَلزَمُ أصحابَ "الصَّرْفة" أيضاً؛ وذاكَ أَنه لو لم يكنْ عجْزُهم عن مُعَارضةِ القرآن وعن أنْ يأتوا بمثلِه، لأنه مُعْجِزٌ في نفسه؛ لكنْ لأن أُدخِلَ عليهمُ العَجزُ عنه، وصُرفَتْ هِمَمهُمُ وخَواطرُهم عن تأليفِ كلامٍ مثْلهِ، وكان حالُهم على الجملةِ حالَ مَن أُعْدِمَ العلمَ بشيءٍ قد كان يَعلَمُه، وحيل بينَه وبينَ أمرٍ قد كانَ يَتَّسِعُ له4، لكانَ ينبغي أنْ لا يتعاظَمَهُمْ، ولا يكون منهم ما يدل على إكبارهم امره،

_ 1 مضى ذلك في رقم: 303. 2 السياق: "وينبغي أن تكون موازنتهم ... خطأ منهم". 3 "طرفوا له"، جعلوا له طريقًا يسلكه إلى ما يسوله لهم من الفساد. 4 السياق: "وذاك أنه لو لم يكن عجزهم ... لكان ينبغي".

وتعجُّبهم منه، وعلى أَنه قد بَهَرَهُم، وعظُمَ كل العظم عندهم؛ بل كان ينبغي أن يكون الإكبار منهم والتعجب للذي دخل من العجز عليهم1، ورأوه مِن تَغيُّرِ حالِهم، ومِنْ أَن حِيلَ بينَهم وبينَ شيءٍ قد كانَ عليهِمْ سَهْلاً، وأنْ سُدَّ دونَه بابٌ كانَ لهُم مفتوحا، أرأيتَ لو أنَّ نبياً قال لقومِهِ: "إنَّ آيتي أنْ أَضعَ يدي على رأسي هذه الساعةَ، وتُمْنَعون كلُّكُم من أَن تستطيعوا وَضْعَ أَيديكُمْ على رؤسكم"، وكان الأمرُ كما قال، مِمَّ يكونُ تعجُّبُ القومِ، أَمِنْ وضعِه يدَه على رأسهِ، أمْ من غجزهم أن يضعوا أيديهم على رؤسهم؟ "النظم" و"الاستعارة" هما موضع الإعجاز: 463 - ونعودُ إلى النَّسَق فنقولُ: فإِذا بطَلَ أن يكونَ الوصْفُ الذي أعجزَهم من القرآنِ في شيءٍ ممَّا عدَدَناه، لم يَبْقَ إلاَّ أن يكون في "النظم"؛ لأنه ليس مِنْ بَعْدِ ما أَبطَلْنا أن يكون فيه إلا "النظم" و"الاستعارة". ولا يمكنُ أنْ تُجْعَلَ "الاستعارةُ" الأَصْلَ في الإعجاز وأن يُقْصَرَ عليها؛ لأنَّ ذلك يؤدي إلى أَن يكونَ الإِعجازُ في آيٍ معدودةٍ في مواضعَ مِن السورِ الطوالِ مخصوصةٍ، وإذا امتنع ذلك فيها، ثبت أن "النظم" مكانه الذي ينبغي أن يكون فهي. وإذا ثبت أنه في "النظم"، و"التأليف"2، وكنَّا قد عَلِمْنا أنْ ليسَ "النظمُ" شيئاً غير

_ 1 في "ج": "وعظم كل العظم عندهم، ورواه من تغير حالهم"، أسقط فأفسد الكلام. وفي المطبوعة: "وعظم كل العظم عندهم، والتعجب للذي دخل عليهم من العجز، ولما رأوه"، وهو فاسد أيضًا. 2 كان في المطبوعة مختلًا، وغير مطابق لما في "س"، وهو الذي أثبتناه هنا، أما كاتب "ج"، فقدسها فأسقط جملًا كثيرة، وهذا نص سياق "ج": "فإذا بطل أن يكون الوصوف الذي أعجزَهم من القرآنِ في شيءٍ ممَّا عددناه؛ إلاَّ أَن يكونَ في النظْمِ والتأليفِ، لأنه ليس مِنْ بَعْدِ ما أَبطَلْنا أن يكونَ فيه إلاَّ النظْمُ، وإذا ثبتَ أنَّه في النظم والتأليف ... " = وأما المطبوعة، فكان كما يلي، فمرا على مواضعه: "لم يبق إلا أن تكون في الاستعارة ولا يمكن الاستعارة"؛ فأسقط ما بين الكلامين عند موضع العلامة، ثم أتى به بعد قوله: "من السور الطوال مخصوصة، على هذا السياق: "وإِذا امتنعَ ذلكَ فيها لم يبْقَ إلاَّ أَن يكونَ في النظْمِ والتأليفِ، لأنه ليس مِنْ بَعْدِ ما أَبطَلْنا أن يكونَ فيه إلا النظم". ولم يرد في المطبوعة ما ههنا: "وإذا امتنع ذلك فيها ثبت أن النظم مكانه .. ". وأيضًا كتب مكان "يقصر عليها" "يقصد إليها"؛ فكان ما في المطبوعة كلامًا ملفقًا سيئًا.

توخي معاني النحو وأحكامِه فيما بينَ الكلمِ، وأنا إن يقينا الدهر تجهد أفكارَنا حتى نَعْلَم، للكلِمِ المفردةِ سِلْكاً يَنْظِمُها، وجامعاً يَجْمعُ شمْلَها ويؤلِّفها، ويَجْعل بعضَها بسبَبٍ مِنْ بعضٍ، غيرَ توخِّي معاني النحو وأحكامهِ فيها1، طَلَبنا ما كلُّ محالٍ دُونَه2؛ فقد بانَ وظهَرَ أنَّ المتعاطيَ القَوْلَ في "النظم"، والزاعمَ أنه يحاولُ بيانَ المزيةِ فيه، وهو لا يَعْرِض فيما يُعيدُه ويُبديهِ للقوانين والأصول التي قدَّمْنا ذِكْرَها، ولا يَسْلك إليه المَسالِكَ التي نَهَجْناها3، في عمياءَ مِنْ أمره، وفي غرورٍ من نفسه، وفي خِداعٍ من الأماني والأضاليلِ4؛ ذاك لأنَّه إذا كان لا يكونُ "النظمُ" شيئاً غيرَ توخِّي معاني النحو وأَحكامهِ فيما بينَ الكَلِمِ، كان مِن أَعجْب العَجَبِ أَنْ يزَعُمَ زاعم أنه يطلب المزية في

_ 1 السياق هنا: "وأنا إن بقيا الدهر، نجهد أفكارنا .... طلبنا ما كل محال دونه". 2 والسياق هنا: "وإذا ثبت أنه في النظم، وكنا قد علمنا ... فقد بان وظهر"، وهو جواب "إذا" في صدر الجملة. 3 السياق: "بان وظهر أن المتعاطي ... في عمياء من أمره". 4 يعني بقوله "المتعاطي القول في النظم" و"الزاعم أنه يحاول بيان المزية .... وهو لا يعرض فيما يعيده ويبديه للقوايين والأصول التي قدمنا ذكرها ... في عمياء من أمره، ومن غرور في نفسه"، يعني بهذا كله المعتزلي الكبير القاضي عبد الجبار، وما كتبه في "المغني" 16: 197، وما بعدها؛ لأنه هو الذي استخدام لفظ "النظم"، فأكثر، ولم يخرج بطائل، وقد أشرت إلى ذلك فيما سلف في رقم: 55، التعليق رقم: 2.

"النَّظْم"، ثم لا يَطْلبُها في معاني النحو وأحكامِه التي "النظْمُ" عبارةٌ عن توخِّيها فيما بين الكلم. "الاستعارة" و"الكناية" و"التمثيل" من مقتضيات "النظم": 464 - فإنْ قيل: قولُكَ "إلاَّ النظم"1، يقتضي إخراجَ ما في القرآنِ مِن الاستعارةِ وضروبِ المجازِ من جملةِ ما هوَ به مُعْجِزٌ؛ وذلك ما لا مَساغَ له. قيلَ: ليس الأمرُ كما ظننْتَ؛ بل ذلك يقتضي دُخولَ الاستعارةِ ونَظائرِها فيما هو بهِ مُعْجزٌ؛ وذلك لأنَّ هذه المعاني التي هي "الاستعارة"، و"الكناية" و"التمثيل"، وسائرُ ضُروبِ "المجاز" مِن بَعْدِها من مُقْتَضياتِ "النظم"، وعنه يحدث وبه يكونُ2؛ لأنه لا يُتصوَّر أن يَدخُلَ شيءٌ منها في الكَلِم وهي أفرادٌ لم يُتَوخَّ فيما بينَها حكْمٌ من أحكام النحو؛ فلا يُتَصَّورُ أن يكونَ ههنا "فعلٌ" أو "اسمٌ" قد دَخلَتْهُ الاستعارةُ، مِن دونِ أنْ يكونَ قد أُلِّفَ مع غيره؛ أفلا تَرى أَنه إنْ قدَّر في "اشتعلَ" من قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4]، أنْ لا يكونَ "الرأسُ"، فاعلاً له، ويكونَ "شيباً" منصوباً عنه عَلَى التمييز، لم يُتصوَّرْ أن يكونَ مستعاراً؟ وهكذا السبيلُ في نظائرِ "الاستعارةِ"، فاعرفْ ذلك3. خطأ المعتزلة في ظنهم أن المزية في "اللفظ"، واضطرابهم في ذلك: 465 - واعلمْ أَن السببَ في أنْ لم يقع النظر منهم موقعه، أنهم

_ 1 يعني قوله في أول الفقرة السالفة: "لأنه ليس مِنْ بَعْدِ ما أَبطَلْنا أن يكون فيه إلا النظم والاستعارة". 2 في المطبوعة: "وعنها يحدث، وبها يكون". 3 هذه الفقرة "464" كلها ساقطة من "س".

حين قالوا: "تطلب المزية"1، ظنوا أن موضعَها "اللفظُ" بناءً على أنَّ "النظْمَ" نظْمُ الألفاظِ، وأنه يَلْحقُها دونَ المعاني وحِينَ ظَنُّوا أنَّ موضِعَها ذلك واعتقدُوه، وقَفوا على "اللفظِ"، وجعَلوا لا يَرْمون بأَوهامِهم إلى شيءٍ سِواهُ؛ إلاَّ أَنهمْ، على ذاكَ، لم يَسْتطيعوا أن ينطِقوا في تصحيح هذا الذي ظَنّوه بحَرْف؛ بل لم يتكلَّموا بشيءٍ إلاَّ كان ذلك نَقْضاً وإبِطالاً لأنْ يكونَ "اللفظُ" -مِنْ حيَثُ هو لفظٌ- مَوْضعاً للمزيَّةِ وإلا رأيتَهم قدِ اعتَرفُوا، من حيثُ لم يذروا، بِأنْ ليسَ لِلْمزيةِ التي طلَبوها موضِعٌ ومكانٌ تكونُ فيه، إلاَّ معاني النحوِ وأحكامِه. وذلك أنهم قالوا: "إنَ الفصاحةَ لا تَظْهرُ في أفرادِ الكلماتِ. وإنما تَظْهرُ بالضمِّ على طريقةٍ مخصوصةٍ"2، فقولُهم "بالضم"، لا يَصِحُّ أن يُرادَ به النطقُ باللفظةِ بعْدَ اللفظةِ، مِنْ غيرِ اتصالٍ يكونُ بين مغعنييهما؛ لأنه لو جازَ أنْ يكونَ لِمجرَّدِ ضَم اللفظِ إلى اللفظِ تأثيرٌ في الفصاحةِ، لكانَ يَنبغي إذا قيلَ: "ضَحِكَ، خَرَجَ" أنْ يَحْدُثَ في ضَمِّ "خرجَ" إلى "ضحكَ" فصاحةٌ! وإِذا بطَل ذلك، لم يَبْقَ إلا أنْ يكونَ المعنى في ضمِّ الكلمةِ إلى الكلمةِ توَخِّيَ معنًى من معاني النحو فيما بينَهُما. وقولُهم: "على طريقةٍ مخصوصةٍ"، يُوجِبُ ذلك أيضاً؛ وذلك أَنه لا يكونُ للطريقةِ إذا أنتَ أردْتَ مجرَّدَ اللفظ معنى.

_ 1 إنما يعني بهذا كله القاضي عبد الجبار المعتزلي، كما أشرت إليه في ص: 392، تعليق: 4. 2 هذا لفظ القاضي عبد الجبار بنصه في المغني 16: 199، "فصل في الوجه الذي له يقع التفاضل في فصاحة الكلام".

وهذا سبيلُ كلِّ ما قالوه، إِذا أنتَ تأمَّلتَهُ تَراهُمْ في الجميعِ قد دفَعوا إلى جَعْل المزية في معاني النحو وأحكامِه مِنْ حيثُ لم يَشْعروا؛ ذلك لأنه أَمرٌ ضروريٌّ لا يمكن الخروج منه. رد قول عبد الجبار المعتزلي: "إنَّ المعاني لا تَتزايد؛ وإِنما تتزايدُ الألفاظُ" 466 - ومما تَجِدُهم يَعْتمِدونَه ويرجعِونَ إليه قولُهم: "إنَّ المعاني لا تتزايدُ؛ وإنَّما تَتزايدُ الألفاظُ"1، وهذا كلامٌ إذا تأملْتَه لم تَجِدْ له معنًى يَصِحُّ عليه؛ غيرَ أنْ تَجْعلَ "تزايُدَ الألفاظِ" عبارة على المزايا التي تَحْدُثُ مِن توخِّي معاني النحوِ وأَحكامهِ فيما بينَ الكَلِم؛ لأنَّ التزايُدَ في الألفاظِ من حيثُ هي ألفاظٌ ونُطْقُ لسانٍ، مُحالٌ. 467 - ثم إنَّا نَعْلمُ أَنَّ المزيةَ المطلوبةَ في هذا البابِ، مزيةٌ فيما طريقُهُ الفكْرُ والنظَرُ مِن غَيرِ شُبْهة. ومحالٌ أَنْ يكونَ اللفظُ له صفةٌ تُسْتَنْبَطُ بالفِكْرِ، ويُسْتعانُ عليها بالرويَّة، أللهمَّ إلاَّ أنْ تُريد تأليفَ النغَمِ. وليس ذلك ممَّا نحنُ فيه بسبيلٍ. ومِنْ ههنا لم يَجُزْ، إذا عُدَّ الوجوهُ التي تَظهر بها المزيةُ، أنْ يُعَدَّ فيها الإعرابُ؛ وذلك أنَّ العِلْم بالإِعرابِ مشترَكٌ بينَ العَربِ كلِّهم، وليس هو مما يُسْتنبَط بالفكْرِ، ويُسْتعانُ عليه بالرويَّة؛ فليسَ أحدُهم، بأنَّ إعرابَ الفاعل الرفعُ أو المفعولِ النصبُ، والمضاف إليه الجرُّ، بأعلم من غيره ولا ذاك مما يَحتاجون فيه إلى حِدَّةِ ذهنٍ وقوةِ خاطرِ2، إنما الذي تقَعُ الحاجةُ فيه إلى ذلك،

_ 1 هذا أيضًا قول القاضي عبد الجبار المعتزلي في المغني: 16: 199، وقد مضى آنفًا رقم: 55، تعليق: 2، وص: 392، تعليق: 4، وص 394، تعليق: 2. 2 في المطبوعة: "ولا ذاك المفعولُ به مما يَحتاجون فيه" زيادة لإفساد الكلام لا غير.

العلمِ بما يُوجِبُ الفاعليةَ للشيءِ إذا كان إيجابُها من طريقِ المجازِ، كقولهِ تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُم} [البقرة: 16]، وكقولِ الفرزْدق: سقْتها خروقٌ في المسامِعِ1 وأشباهِ ذلِكَ، مما يَجعلُ الشيءَ فيه فاعلاً على تأويلٍ يَدقُّ، ومن طريقٍ تَلْطُفُ، وليس يكونُ هذا علماً بالإِعراب، ولكن بالوصْفِ الموجبِ للإِعراب. ومن ثَمَّ لا يجوزُ لنا أنْ نَعْتدَّ في شأنِنا هذا بأنْ يكونَ المتكلِّمُ قد اسْتَعملَ من اللغتين في الشيءِ ما يقالُ: "إنه أفصحهما"، أو بأن يكونَ قد تَحفَّظ مما تخطئ فيه العامَّة، ولا بأن يكونَ قد استعْمَلَ الغريبَ؛ لأنَّ العلمَ بجميع ذلك لا يعدو أن يكونَ عِلْماً باللغةِ، وبأَنْفُس الكَلِمِ المفردة، وبما طريقُهُ طريقُ الحِفْظِ، دونَ ما يُستَعانُ عليه بالنظَرِ، ويُوصَلُ إليه بإعمالِ الفِكْر، ولئن كانتِ العامَّةُ وأشباهُ العامَّةِ لا يكادونَ يعرِفونَ الفصاحةَ غيرَ ذلك؛ فإنَّ مِن ضَعْف النَّحيزَة إِخطارَ مثْلِه في الفكْرِ2، وإجراءَه في الذكْرِ، وأنتَ تزعمُ أَنكَ ناظرٌ في دلائلِ الإعجازِ. أترَى أنَّ العَرب تُحُدُّوا أن يَختاروا الفَتْحَ في الميمِ من "الشَّمَع"، والهاءِ منَ "النهْر" على الإسْكان وأنْ يتحفَّظوا مِن تخليطِ العامَّة في مثْلِ: "هذا يَسْوَى أَلفا"3 أو إلى أنْ يأْتوا بالغريبِ الوحشيِّ في كلام يعارِضون به القرآنَ؟ 4 كيفَ؟ وأنتَ تقرَأُ السورةَ من السور الطوال فلا

_ 1 مضى في الفقرة رقم: 347، بتمامه. 2 "النحيزة"، الطبيعة المغروزة في الإنسان. 3 لأن صوابه "هذا يساوي ألفًا". 4 في "ج" والمطبوعة: "في الكلام" بالتعريف.

تجد فيها من الغريب شيئًا، وتتأمل ما جَمَعهُ العلماءُ في غَريب القرآن؛ فترى الغريبَ منه إلا في القليلِ، إنما كان غريباً من أَجْل استعارةٍ هي فيهِ، كمِثْل {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 93]، ومثْل: {خَلَصُوا نَجِيًّا} [يوسف: 80]، ومثْلِ {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94]، دون أن تكون اللفظةُ غريبةً في نفسها؛ إنما ترى ذلك في كلماتٍ معدودةٍ كَمِثلِ: {عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا} [ص: 16] و {ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُر} [القمر: 13]، و {جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} [مريم: 24]. غريب اللغة، ليس له مكان في الإعجاز: 468 - ثم إنَّه لو كان أَكْثَرُ ألفاظِ القرآنِ غريباً، لكانَ محالاً أن يَدْخُلَ ذلك في الإِعجازِ، وأنْ يَصِحَّ التحدِّي به. ذاك لأنه لا يَخْلو إذا وقَعَ التحدِّي به من أن يُتحدَّى مَنْ له علْمٌ بأمثالهِ منَ الغريبِ، أو مَنْ لا عِلْمَ له بذلك. فلو تُحدِّي بهِ مَن يَعْلَمُ أمثالَه، لم يتَعذَّر عليه أن يعارِضَه بمثله. ألا تَرى أنه لا يتعذَّرُ عليكَ إذا أنتَ عرفْتَ ما جاء منَ الغريبِ في معنى "الطويل" أَنْ تعارِض مَنْ يقولُ: "الشوقَبُ"، بأن تقولَ أنتَ "الشوذَبُ"، وإِذا قال: "الأمَقُّ" أن تقول "الأَشقُّ"؟ 1 وعلى هذا السبيل. ولو تُحُدِّي به مَنْ لا عِلْمَ له بأمثالِ ما فيه من الغريبِ، كان ذلك بمنزلةِ أن يُتَحدَّى العربُ إلى أن يتكلموا بلسانِ التركِ. 469 - هذا، وكيفَ بأنْ يدْخلَ الغريبُ في بابِ الفضيلة، وقد ثَبتَ عنهم أَنهم كانوا يَروْنَ الفضيلةَ في تَرْك استعمالِه وتجنُّبهِ؟ أفلاَ تَرى إلى قول عمر

_ 1 هذه الألفاظ بمعنى الطويل مع فروق فيها.

رضي اللهُ عنه في زهيرٍ: "إنه كان لا يُعاظِل بَيْنَ القَوْل، ولا يَتَتَبَّعُ حُوشيِّ الكلام"؟ فقرنَ تَتَبُّعَ "الحُوشيِّ" وهو الغريبُ مِنْ غيرِ شُبْهة إلى "المُعاظلةِ" التي هيَ التعقيد1. وقال الجاحظُ في "كتاب البيان والتبيين"2: "ورأيتُ الناس يتداولون رسالة يحيى بن يعمر على لسانِ يزيدَ بنِ المهلَّب إلى الحجَّاج3: "إنَّا لقينا العدو فقتلنا طائفة [وأسرنا طائفةً، ولحقتْ طائفةٌ] بعراعرِ الأَودية وأهضامِ الغِيطان، وبتْنا بعُرْعُرَةِ الجبلِ، وباتَ العدوُّ بحضيضِه"؛ فقال الحجَّاج: ما يزيدُ بأبي عُذْرِ هذا الكلامِ! [فقيل له: إن يحيى بن يعمر معه! فأمر بأن يحمل إليه؛ فلما "أتاه] قال: أينَ ولدتَ؟ فقال: بالأهواز؛ فقال: فأنى لك هذه الفصاحةُ؟ قال: أخذتُها عن أبي"4. قال: "ورأيتُهم يُديرون في كتُبِهم: أنَّ امرأةً خاصمتْ زوجَها إلى يحيى بنِ يَعْمر؛ فانْتَهَرها مراراً، فقال له يحيى: إنْ سألتُكَ ثَمَنَ شَكْرها وشَبْرِك، أنشأتَ تطلها وتضهلها"5.

_ 1 انظر طبقات فحول الشعراء رقم: 79، ص: 63. 2 في هذا الموضع كتب "كتاب البيان والتبيين"، مضبوطة في "ج" و "س" معًا. وهو خلاف مشهور، ومع ذلك سيأتي في النسختين أيضًا "البيان والتبيين"، كما سأشير إليه في التعليق. 3 في المطبوعة: "عن لسان .. ". 4 هو في البيان والتبيين: 1: 377، 378، وشرح الجاحظ ألفاظه فقال: "عراعر الأودية" أسافلها. و "عراعر الجبال" أعاليها. و "أهضام الغيطان"، مداخلها. و "الغيطان" جمع "غائط"، وهو الحائط ذو الشجر". وقوله: "ما يزيد بأبي عذر هذا الكلام"، أي ليس هو قائله، والمبتدئ به. 5 هو في كتاب البيان 1: 378، وفسره الجاحظ فقال: "قالوا: "الضهل"، التقليل و "الشكر"، الفرج، و "الشبر"، "النكاح. و "تطلها"، تذهب بحقها يقال: دم مطول. ويقال: "بئر ضهول"، أي قليلة الماء".

ثم قال: "وإن كانوا إنما قَدْ روَوْا هذا الكلامَ لكي يَدلَّ على فصاحةٍ وبلاغةٍ؛ فقد باعدَه اللهُ من صفةِ البلاغة والفصاحة"1. أصل فساد مقالة المعتزلة في ظنهم أن أوصاف "اللفظ" أوصاف له في نفسه: 470 - واعلمْ أنك كلَّما نظرتَ وجدْتَ سببَ الفسادِ واحداً، وهو ظنُّهم الذي ظنُّوه في "اللفظِ"، وجعلهم الأوصاف التي تجري عليها كلَّها أوصافاً له في نفسِه، ومن حيثُ هو لفظٌ، وترْكُهم أن يُميِّزوا بينَ ما كان وصْفاً لهُ في نفسِه، وبيْنَ ما كانوا قد كسبوه إياه من أجْلِ أمرٍ عَرَضَ في معناه2. ولمَّا كان هذا دأْبَهم، ثم رأَوْا الناسَ وأظهرُ شيءٍ عندَهم في معنى "الفصاحةِ"، تقويمُ الإِعرابِ، والتحفظُ منَ اللَّحْن، لم يَشُكُّوا أنه ينبغي أن يُعتَدَّ به في جملةِ المزايا التي يفاضَلُ بها بينَ كلامٍ وكلامٍ في الفصاحةِ، وذهبَ عنهم أنْ ليس هُو من "الفصاحةِ" التي يَعْنينا أمرُها في شيء، وأنَّ كلاَمنا في فصاحةٍ تجبُ للَّفظِ لا من أجْلِ شيءٍ يدْخُلُ في النطقِ؛ ولكنْ من أجْل لطائفَ تُدْرَكُ بالفَهم، وإنَّا نعْتبرُ في شأنِنا هذا فضيلةً تَجبُ لأَحَدِ الكلامَيْنِ على الآخَر، مِن بَعْد أن يكونا قَد برِئا من اللَّحْن، وسَلِمَا في ألفاظِهما من الخَطَأ. 471 - ومن العَجَب أنَّا إذا نظَرْنا في الإعرابِ، وجَدْنَا التفاضُل فيه مُحالاً؛ لأنه لا يُتَصَوَّرُ أن يكونَ للرَّفْع والنصْبِ في كلامٍ، مزيةٌ عليهما في كلامٍ آخَر؛ وإنما الذي يُتَصَوَّرُ أنْ يكون ههنا: كلامانِ قد وقعَ في إعرابهما خللٌ، ثم كان أحَدُهما أكْثَر صواباً من الآخر، وكلامانِ قد استمرَّ أحدُهما على.

_ 1 هو في البيان 1: 378، وفي نسخ الدلائل زيادة "وبلاغة"، وقوله: "والفصاحة"، زيادة ألحقتها من البيان. 2 في المطبوعة وحدها: "أكسبوه إياه".

الصَّوابِ ولم يَسْتمرَّ الآخَرُ، ولا يكونُ هذا تفاضُلاً في الإِعراب، ولكن تركاً له في شيء، واستعمالًا في آخَرَ، فاعرفْ ذلك. 472 - وجملةُ الأمرِ أنك لا تَرى ظنَّاً هو أَنْأَى بصاحبِه عن أن يصِحَّ له كلامٌ، أو يستمِرَّ له نظامٌ، أو تَثْبُتَ له قدَمٌ، أو يَنْطِقَ منه إلاَّ بالمُحال فمٌ1، مِنْ ظَنِّهم هذا الذي حامَ بهم حَوْلَ "اللفظِ"، وجعلهم لا يعدونه، ولا يرون للمزية مكانًا دونه. قوله: "إن الفصاحة تكون في المعنى" ورد شبهة المعتزلة وغيرهم في فهم ذلك 473 - واعلمْ أنه قد يَجْري في العبارة منَّا شيءٌ، هو يُعيدُ الشُّبهةَ جَذَعة عليهم، وهو أنَّه يقَعُ في كلامِنا أنَّ "الفصاحةَ" تكونُ في المعنى دون اللفظ، فإذا سَمِعوا ذلك قالوا: كيف يكونُ هذا، ونَحْنُ نَراها لا تَصْلُح صفةً إلاَّ لِلَّفظِ، ونراها لا تَدخلُ في صفةِ المعنى البتَّةَ، لأنَّا نرى الناسَ قاطبةً يقولون: "هذا لفظٌ فصيحٌ، وهذه ألفاظٌ فصيحةٌ"، ولا نَرى عاقِلاً يقولُ: "هذا معنى فصيحٌ، وهذهِ معانٍ فِصاحٌ". ولو كانتِ "الفصاحةُ" تكونُ في المعنى، لكانَ ينبغي أن يقال ذلك، كما أنا لمَّا كان الحُسْنُ يكونُ فيهِ قيل: "هذا معنى حَسَنٌ، وهذه معانٍ حَسَنَةٌ". وهذا شيء يَأخُذُ من الغِرِّ مأخذاً: والجوابُ عنه أنْ يُقالَ: إنَّ غَرَضَنا مِن قولنا: "إنَّ الفصاحةَ تكونُ في المعنى"، أنَّ المزيَّةَ التي مِنْ أجلها استحق اللفظ الوصف بأنه "فصيح"، هي في المعنى دون اللفظ، لأنه لو كانت بها المزية التي

_ 1 السياق "لا ترى ظنًا هو أنأى بصاحبه .... من ظنهم هذا ... ".

من أجلها يستحق اللفظ الوصف بأنه فصيح، تكونُ فيه دونَ معناهُ1، لكان ينبغي إِذا قلنا في اللفظةِ: "إِنها فصيحةٌ"، أن تكونَ تلك الفصاحة واجبة لها بكل حالي. ومعلومٌ أنَّ الأمْرَ بخلافِ ذلك، فإنَّا نَرى اللفظةَ تكونُ في غايةِ الفصاحةِ في موضعٍ، ونَراها بِعَيْنِها فيما لا يُحْصى من المواضِع وليس فيها مِن الفصاحةِ قليلٌ ولا كثيرٌ2. وإِنما كان كذلك، لأنَّ المزيَّةَ التي مِنْ أجْلها نَصِفُ اللفظَ في شأننا هذا بأنه فصيحٌ، مزيةٌ تحدث من عبد أنْ لا تكونَ، وتظهرُ في الكَلِم من بَعْدِ أنْ يَدخُلَها النظْمُ. وهذا شيءٌ إِن أنتَ طلَبْتَه فيها وقد جئْتَ بها أفراداً لم تَرُمْ فيها نَظْماً، ولم تُحْدِث لها تأليفاً، طلبْتَ مُحالاً. وإِذا كان كذلك، وَجَبَ أن يعلم قطعًا وضورة أنَّ تلك المزيةَ في المعنى دونَ اللفظِ. 474 - وعبارةٌ أُخرى في هذا بعينِه، وهي أن يُقال: قد علِمْنا عِلْماً لا تَعْترِضُ معَه شُبْهةٌ: أنَّ "الفصاحةَ" فيما نحنُ فيه، عبارةٌ عن مزيَّةٍ هي بالمتكلِّم دونَ واضِع اللغةِ. وغذا كان كذلك، فينبغي لنا أنْ ننظُرَ إِلى المتكلم، هل يستطيعُ أن يَزيد مِنْ عنْدِ نفْسِه في اللفظِ شيئاً ليس هو له في اللغة، حتى يَجعَلَ ذلك من صَنيعِه مزيةً يُعبَّر عنها بالفصاحة؟ وإِذا نظَرْنا وجَدْناه لا يستطيعُ أن يصْنَعَ باللفظِ شيئاً أصْلاً، ولا أن يحدث فيها وصفًا. كيف؟ وهو إن فعل.

_ 1 الذي كان في المطبوعة: " ... التي من أجلها استحق اللفظ بأنه فصيحٌ، عائدةٌ في الحقيقةِ إِلى معناه، ولو قيل إِنها تكونُ فيه دونَ معناهُ، لكان ينبغي". أسقط ما بين الكلامين كما ترى، والذي أثبتناه هو الصواب المحض، كما هو في "ج" و "س" وفي نسخة بغداد التي أشار إليها رشيد رضا، ونقل نصها مطابقًا لما في مخطوطتينا. 2 سها كاتب "ج" فأسقط بعض اللفظ فساق الكلام هكذا: "تكون في غاية الفصاحة قليل ولا كثير".

ذلك أفسَدَ على نفسِه، وأبطلَ أن يكونَ متكلِّماً، لأنه لا يكون متكلِّماً حتى يَسْتَعمِل أوضاعَ لغةٍ على ما وضعت عليه1. وإذا ثبت في حالِه أنه لا يستطيعُ أن يَصْنع بالألفاظِ شيئاً ليس هو لها في اللغة، وكنَّا قد اجتمعْنا على أنَّ "الفصاحةَ" فيما نحن فيه، عبارةٌ عن مزيةٍ هي بالمتكلِّم البتَّةَ وجب أن تعلم قطعًا وضورة أنَّهم وإِن كانوا قد جَعَلوا "الفصاحةَ" في ظاهرِ الاستعمالِ مِنْ صفةِ اللفظِ، فإِنَهم لم يَجْعلوها وصْفاً له في نفسه، ومِن حيثُ هو صدى صوتٍ ونطقُ لسانٍ، ولكنهم جَعلُوها عبارة عن مزية أفادها المتكلم في المعنى، لأنه إذا كان اتفاقًا أنها عبارة عن مزية أفادها المتكلم، ولم نره أفاد في اللفظِ شيئاً، لم يَبْقَ إِلا أنْ تكون عبارة عن مزية أفادها المتكلم، ولم نره أفاد في اللفظِ شيئاً، لم يَبْقَ إِلا أنْ تكون عبارة عن مزية أفادها في المعن2. "فصاحة اللفظ"، لا تكون مقطوعة بل موصولة بغيرها مما يليها: 475 - وجملةُ الأمْرِ أنَّا لا نُوجِبُ "الفصاحَة" لِلْفَظةٍ مقطوعةٍ مرفوعةٍ من الكلامِ الذي هي فيه، ولكنا نوجبها لفها موصولةً بغيرها، ومعلَّقاً معناها بمعنى ما يَليها. فإِذا قلنا في لفظةِ "اشتعل" مِنْ قولِه تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4]، إنها في أعلى رتبة من الفصاحة3، لم توجب تلك

_ 1 في المطبوعة: "على ما وضعت هي عليه"، زيادة بلا طائل. 2 في "ج"، أسقط الكاتب سهوًا ما ترى هنا فاختل المعنى. كتب: "ولكنهم جعلوها عبارة عن مزية أفادها في المعنى. وجملة الأمر" وأما في المطبوعة فقد أسقط أيضًا وكتب: "ولكنهم جَعلُوها عبارةً عن مزيةٍ أفادَها المتكلِّمُ، ولمَّا لم تَزِدْ إفادتُه في اللفظِ شيئاً لم يَبْقَ إِلا أنْ تَكونَ عبارة عن مزية في المعنى"، وهذا لا شيء. 3 في المطبوعة وحدها "أعلى المرتبة".

"الفصاحةَ" لها وحَدْها، ولكِنْ موصولاً بها "الرأسُ" معرَّفاً بالألف واللام، ومَقْروناً إليهما "الشيبُ" منكَّراً منصوباً. 476 - هذا، وإِنما يقعُ ذلك في الوَهْم لِمَنْ يَقَعُ له أعني أن يوجب الفصاحةُ للَّفظةِ وحدَها1 فيما كان "استعارةً"، فأمَّا ما خَلاَ منَ الاستعارةِ من الكلامِ الفصيح البليغِ، فلا يَعْرِض توهُّمُ ذلك فيه لعاقلٍ أصْلاً. أفلا تَرَى أنه لا يقَعُ في نفسِ مَن يَعْقِلُ أدنى شيءٍ، إِذا هو نظَرَ إِلى قولهِ عزَّ وجلَّ: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون: 4]، وإلى إِكبارِ الناس شأنَ هذه الآيةِ في الفصاحة، أن يضَعَ يدَهُ على كلمةٍ كلمةٍ منها فيقولَ: "إِنها فصيحة؟ " كيفَ؟ وسبَبُ الفصاحةِ فيها أمور لا شك عاقلٌ في أنها معنويَّةٌ: أوَّلُها: أنْ كانت "على" فيها متعلقةً بمحذوفٍ في موضِع المفعولِ الثاني. والثاني: أنْ كانت الجملةُ التي هي "هُم العدوُّ" بعْدَها عاريةً من حرفِ عطفٍ. والثالث: التعريفُ في "العدوِّ" وأنْ لم يقل: "هُمْ عدوٌّ". ولو أنك علَّقْتَ "على" بظاهرٍ، وأدخلْتَ على الجملة التي هيَ "هم العدوُّ" حرف عطف، وأسقطت "الألف والألام" من "العدو" فَقُلْتَ: "يحسَبُون كلَّ صيحةٍ واقعة عليهم، وهُمْ عدوٌّ"، لرأيتَ الفصاحةَ قد ذهبتْ

_ 1 السياق: "إنما يقعُ ذلك في الوَهْم لِمَنْ يَقَعُ له ... فيما كان استعارة".

عنها بأسْرها، ولو أنك أخْطَرْتَ ببالِكَ أنْ يكونَ "عليهم" متعلِّقاً بنَفْس "الصَّيحة"، ويكونَ حالُه معها كحالِه إِذا قلتَ: "صحْتُ عليه". لأخرجْتَه على أنْ يكونَ كلاماً، فضْلاً عن أن يكونَ فصيحًا. وهذا هو الفيصل لمن عقل. القول في "مات حتف أنفه": 477 - ومِنَ العجيبِ في هذا، ما رُويَ عن أمير المؤمنين عليِّ رضوانُ اللهُ عليه أنه قال: "ما سَمِعتُ كلمةً عربيةً مِن العَربِ إلاَّ وسمعْتُها من رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وسمِعْتُه يقول: "مات حتْفَ أنفِهِ"، وما سمعتُها من عَربيٍّ قبله"1 لا شُبْهَةَ في أنَّ وصْفَ اللفظِ "بالعربيّ" في مثْلِ هذا يكون في

_ 1 هذا خبر مشهور نسبته إلى علي رضي الله عنه، ولكن لم أقف عليه منسوبًا إلى على في غير كتب الأدب، وإنما هو من حديث عبد الله بن عتيك رضي الله عنه، وهو في مسند أحمد: 4: 36 من زيادات ابنه عبد الله قال: "حدثنا عبد الله، حدثي أبي، حدثنا يزيد بن هرون قال: أنبأنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن محمد بن عبد الله بن عتيك، أحد بني سلمة، عن أبيه عبد الله بن عتيك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من خرج من بيته مجاهدًا في سبيل الله عز وجل ثم قال بأصابعه هؤلاء، الثلاث، الوسطى والسبابة والإبهام، فجمعهن، وقال: وأين المجاهدون فخر عن دابته ومات، فقد وقع أجره على الله، أو لدغته دابة فمات، فقد وقع أجره على الله أو مات حتف أنفه، فقد وقع أجره على الله عز وجل والله" إنها لكلمة ما سمعتها من أحد من العرب قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم "فمات فقد وقع أجره على الله، ومن مات قعصًا فقد استوجب المآب". وانظر أيضًا ترجمة "عبد الله بن عتيك" رضي الله عنه في أسد الغابة، وانظر أيضًا غريب، الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام 2: 67، 68.

معنى الوصْف بأنه فصيحٌ. وإِذا كانَ الأمرُ كذلك، فانظُرْ هل يَقَعُ في وهْم مُتوهِّم أنْ يكونَ رضيَ اللهُ عنه قد جعَلَها "عربيةً" مِنْ أجْل ألفاظِها؟ وإِذا نظرْتَ لم تشك في ذلك. بيان آخر في "النظم" وتوخي معاني النحو: 478 - واعلمْ أنكَ تَجِدُ هؤلاءِ الذين يَشكُّون فيما قلناه، تجري على ألسنتهم ألفاظٌ وعباراتٌ لا يَصِحُّ لها معنى سِوى توخِّي معاني النحو وأحكامِه فيما بَيْن معاني الكَلِم، ثم تَراهُمْ لا يَعْلَمون ذلك. فمِن ذلك ما يقولُه الناسُ قاطبةً من أنَّ العاقلَ يُرتِّبُ في نفسِه ما يُريد أن يَتكلَّم به. وغذا رجَعْنا إِلى أنفُسِنا لم نَجِدْ لذلك معنىً سوى أنه يَقْصِدُ إِلى قولِكَ "ضَرَبَ" فيجعلُه خبراً عن "زيدٍ"، ويجعلُ "الضرْبَ" الذي أخْبَرَ بوقوعِه منه واقعاً على "عمروٍ" ويجعلُ "يومَ الجمعةِ" زمانَه الذي وقَعَ فيه، ويجعَلُ "التأديبَ" غرَضَه الذي فعَل "الضَرْبَ" من أجْله، فيقولُ: "ضَرَبَ زيدٌ عَمراً يومَ الجمعةِ تأديباً له". وهذا كما تَرى هُو تَوخِّي معاني النحو فيما بين معاني هذه الكَلِم. ولو أنك فرضْتَ أنْ لا تتوخَّى في "ضرَب" أن تَجْعَلَه خبراً عن "زيدٍ" وفي "عمرو" أن تجعله مفعولاً به الضرب، وفي "يومِ الجمعة" أن تَجْعله زماناً لهذا الضرْب، وفي "التأديبِ"، أنْ تَجعله غَرَض زيدٍ من فعلٍ الضرب ما تصوِّرَ في عقلٍ، ولا وَقَع في وَهْم، أن تكونَ مرتِّباً لهذه الكَلِم، وإذْ قد عرفْتَ ذلك، فهو العِبْرةُ في الكلام كلِّه، فمَنْ ظَنَّ ظناً يؤدِّي إِلى خِلافِه، ظَنَّ ما يخرُج به عن المعقول. ومِنْ ذلك إثباتُهم التعلُّقَ والاتِّصالَ فيما بينَ الكلم وصواحِبها تارة،

ونفيهم لهما أُخْرى. ومعلومٌ علْمَ الضرورةِ أنْ لن يُتصوَّرَ أن يكونَ لِلَّفظِةِ تعلُّقٌ بلفظةٍ أُخرى من غير أن يعتبر حال معنى هذا مع معنى تِلكَ، ويُراعى هناك أمرٌ يصلُ إحداهما بالأُخرى، كمراعاةِ كون: "نَبْكِ"، جواباً للأمر في قوله: "قفانبك"، وكيف بالشك في ذلك؟ ولو كنت الألفاظُ يتَعلَّقُ بعضُها ببعضٍ من حيثُ هي ألفاظٌ، ومع اطِّراح النظرِ في معانيها، لأدَّى ذلك إلى أنْ يكونَ الناسُ حينَ ضَحِكوا مَّما يصنَعُه المجان من قراءة أنصافِ الكتب، ضَحِكوا عن جهالةٍ، وأن يكونَ أبو تمام قد أخطأ حين قال: عَذَلاً شَبيهاً بالجنونِ كأَنَّما ... قرأتْ بِهِ الوَرْهاءُ شَطْرَ كتابِ1 لأنَّهم لم يَضْحكوا إلاَّ من عَدمِ التعلُّقِ، ولم يجعلْهُ أبو تمام جُنوناً إلاَّ لذلك. فانظرْ إِلى ما يلزَمُ هؤلاءِ القوم من طرائف الأمور.

_ 1 هو في ديوانه.

فصل في أن الفصاحة والبلاغة للمعاني

فصل في أن الفصاحة والبلاغة للمعاني: فصل: دليل آخر على بطلان أن تكون "الفصاحة" صفحة للفظ من حيث هو لفظ: 479 - وهذا فنٌّ من الاستدْلال لطيفٌ على بُطْلانِ أن تكون "الفصاحةُ" صفةً لِلَّفْظِ من حيثُ هو لفظ. لا تخلو "الفصاحةُ" من أن تكونَ صفة في اللفظ محسوسة تُدرك بالسَّمْع، أو تكونَ صفة فيه معقولةً تُعرف بالقلب. فمحال أن تكون صفةً في اللفظ محسوسة، لأنها لو كانت كذلك، لكان ينبغي أن يستويَ السامعون للَّفظ الفصيح في العلم بكونه فصيحًا. وإِذا وجبَ الحكمُ بكونِها صفةً معقولة، فإِنا لا نَعرِفُ لِلَّفْظِ صفةً يكونُ طريقُ معرفَتِها العقل دون الحس، إلا دلالته على معنى1 وإِذا كان كذلك، لَزِم منه العلمُ بأنَّ وصْفَنا اللفظَ بالفصاحةِ، وصفٌ له من جِهَة معناه، لا من جهةِ نفسه، وهذا ما لا يَبْقى لِعاقلٍ معه عُذْرٌ في الشَّكِّ، والله الموفق للصواب. بيان آخر في بطلان أن تكون الفصاحة للفظ من حيث هو لفظ: 480 - وبيانٌ آخرُ، وهو أنَّ القارئ إِذا قرأ قولَه تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4]، فإِنه لا يَجِدُ الفصاحةَ التي يَجِدُها إلاَّ مِنْ بعدِ أن ينتهيَ الكلام إِلى آخرهِ. فلو كانت "الفصاحة" "صفة للفظ" "اشتعل"، لكطان ينبغي أن يحسبها القارئ فيه حالَ نطقه به. فمحالٌ أن تكونَ للشيء صفةٌ، ثم لا يصحُّ العلمُ بتلك الصفةِ إلا من بعد عذمه. ومَنْ ذا رأى صفةً يَعْرى موصوفُها عنها

_ 1 في المطبوعة: "على معناه".

في حالِ وجودهِ، حتى إِذا عُدِمَ صارت موجودةٌ فيه؟ وهل سَمِع السامعون، في قديم الدهر وحديثه، بصفةٍ شرطُ حصولِها لمَوْصوفِها أَنْ يُعْدَمَ الموصوفُ؟ فإنْ قالوا: إنَّ الفصاحةَ التي ادَّعيناها لِلَفْظِ "اشتعَل" تكونُ فيه في حالِ نُطْقنا به، إلاَّ أنَّا لا نَعْلم في تلك الحال أنَّها فيه، فإِذا بلَغْنا آخِرَ الكلام علِمْنا حينئذٍ أنها كانت فيه حين نُطْقِنا به. قبل: هذا فنٌّ آخرُ من العَجَب، وهو أن تكون ههنا صفةٌ موجودةٌ في شيءٍ، ثمَّ لا يكونُ في الإمكانِ ولا يَسَعُ في الجوازِ، أنْ يعلم وجودَ تلكَ الصفةِ في ذلك الشيءِ إلاَّ من بعْدَ أن يُعْدَم، ويكونَ العلمُ بها وبكوْنِها فيه محجوبًا عنها حتى يُعْدَم، فإذا عُدِم عَلِمْنا حينئذٍ أنها كانتْ فيهِ حينَ كانَ. 481 - ثم إِنه لا شُبْهةَ في أنَّ هذه الفصاحةَ التي يَدَّعونها لِلَّفْظِ هي مُدَّعاةٌ لمجموعِ الكلمةِ دون آحادِ حروفِها، إذْ ليس يَبْلغُ بهم تهافُتُ الرأي إِلى أَن يَدَّعوا لِكلِّ واحدٍ من حروفِ "اشتعلَ" فَصَاحةً، فَيَجْعَلُوا "الشِّين" على حِدَتهِ فَصيحاً، وكذلك "التاء" و "العين" و "اللام". وإِذا كانتِ الفصاحةُ مدَّعاةً لِمَجموعِ الكلمةِ، لم يُتصوَّرْ حصولُها لها إلاَّ من بعْدِ أن تعدم كلها وينقضي أمر النطق بها. ذاك لأنه لا يُتصوَّر أن تدخُلَ الحروفُ بجملتها في النطقِ دفعةً واحدةً، حتى تُجعلَ "الفصاحةُ" موجودةً فيها في حالِ وجودها. وما بعْد هذا إلاَّ أن نسألَ اللهَ تَعالى العصمةَ والتوفيق، فقد بلغَ الأمرُ في الشناعةِ إِلى حد، إذ تنبه العاقلُ لَفَّ رأسَهُ حياءً من العقلِ1، حين يراه قد قال قولًا هذا مؤداه، وسك مسلكًا إلى هذا مفضاه.

_ 1 في المطبوعة: "انتبه"، وفي "س": "تبينه".

وما مَثَلُ مَنْ يَزعُمُ أنَّ "الفصاحةَ" صفةٌ للفظ من حيث هو لفظ ونطق ليسان، ثم يَزْعُم أنَّه يَدِّعيها لمجموعِ حُروفِه دونَ آحادِها، إلاَّ مثَلُ مَنْ يزعُمُ أنَّ ههنا غَزْلاً إذا نسيج منه ثوبٌ كان أحْمَر، وإِذا فُرِّقَ ونُظر إليه خَيْطاً خيطاً، لم تكنْ فيه حُمْرةٌ أصلًا! 482 - ومن طريق أمْرهِم، أنَّك تَرى كافَّتَهم لا يُنكِرون أنَّ اللفظ المستعار إذا كان فصيحًا، كان فصاحتُه تلك من أجْل استعارتهِ، ومن أجْل لطفٍ وغرابةٍ كانا فيها، وتَراهم مع ذلك لا يَشُكُّون في أن الاستعارةَ لا تُحْدِثُ في حروفِ اللفظِ صفةً ولا تُغيِّرُ أجْراسَها عمَّا تكونُ عليه إِذا لم يكن مستعاراً، وكان متروكاً على حقيقته، وأنَّ التأثيرَ من الاستعارةِ إنَّما يكونُ في المعنى. كيفَ؟ وهُمْ يعتَقِدونَ أنَّ اللفظَ إِذا استُعيرَ لِشيءٍ، نُقِلَ عن معناه الذي وُضع له بالكُلِّية. وإِذا كان الأمرُ كذلك، فلولا إهمالُهُمْ أنفُسَهم وتركُهُم النظر، لقد كان يكون فيه ذا ما يُوقِظُهم من غَفْلتِهم، ويَكْشِف الغِطاء عن أعينهم1.

_ 1 انظر أيضًا ما سيأتي في رقم: 550.

تحرير القول في الإعجاز والفصاحة والبلاغة

تحرير القول في الإعجاز والفصاحة والبلاغة: فصل: بيان أن الفكر لا يتعلق بمعاني الكلم مجردة من معاني النحو 483 - ومما ينبغي أنْ يَعْلَمهُ الإِنسانُ ويجعلَه على ذكرٍ، أنه لا يُتصوَّرُ أنْ يتعلَّقَ الفكْرُ بمعاني الكَلِم أفراداً ومجرَّدةً من معاني النحو، فلا يقومُ في وهْمٍ ولا يصِحُّ في عقْلٍ، أنْ يتَفَكَّرَ مُتفكِّرٌ في معنى "فعلٍ" مِنْ غيرِ أن يُريدَ إعمالَه في "اسْمٍ"، ولا أن يتفكَّر في معنى "اسْم" من غَيْرِ أنْ يُريدَ إِعمال "فعلٍ" فيه، وجَعْلَه فاعلاً له أو مفَعولاً، أو يريدَ فيه حكْماً سوى ذلك من الأحكام1، مثْلَ أن يُريدَ جَعْلَه مبتدأً، أو خبراً، أو صفةً أو حالاً، أو ما شَاكَلَ ذلك. وإنْ أردْتَ أن تَرى ذلك عِياناً فاعْمَدْ إِلى أيِّ كلامٍ شئْتَ، وأزِلْ أجزاءَهُ عن مواضِعها، وضْعاً يَمْتَنِعُ معه دخولُ شيءٍ من معاني النحو يها، فقل في: قِفَا نَبْك مِنْ ذِكرى حبيبٍ ومَنْزِلِ "مِنْ نَبْك قِفَا حبيبٍ ذكرى منزِلِ"، ثم انظرْ هل يتعلَّقُ منكَ فكْرٌ بمعنى كلمة منها؟ 484 - واعلم أني لست أقول إلى الفكْرَ لا يتعلَّق بمعاني الكَلِمِ المفردَةِ أصْلاً، ولكن أقولُ إِنه لا يتعلَّقُ بها مجرَّدَةً من معاني النحْو، ومنْطوقاً بها على وجهٍ لا يتأتَّى معه تقديرُ معاني النحو وتوخِّيها فيها، كالذي أريتك، وإلا فإنك

_ 1 في المطبوعة: "ويريد منه".

إِذا فكَّرْتَ في الفعلَيْنِ أو الاسْمَيْن، تُريد أن تخبر أحدهما عن الشيء أيُّهما أوْلى أن تُخْبَر به عنه وأشْبَهُ بغَرَضِك، مثلَ أن تَنْظُر: أيُّهما أمْدَحُ وأذمُّ، أو فكّرتَ في الشيئينِ تُريد أن تُشَبِّه الشيءَ بأحَدِهما أيُّهما أشْبَهُ به1 كنتَ قد فكَّرْت في معاني أَنفُسِ الكَلِم، إلاَّ أنَّ فكْرَكَ ذلك لم يكنْ إِلاّ مِن بَعْد أنْ توخَّيْتَ يها معنىً من معاني النحوِ، وهو إن أردْتَ جَعْلَ الاسمِ الذي فكَّرْتَ فيه خبراً عن شيءٍ أردتَ فيه مَدْحاً أو ذمّاً أو تشبيهاً، أو غيرَ ذلك منَ الأغراضِ2 ولم تَجىءْ إلى فعل أو اسم ففكرت ففيه فرْداً، ومِنْ غَيْر أنْ كان لكَ قَصْدٌ أن تجعله خيرًا أو غير خبر. فاعرف ذلك. شرح مثال على مقالته الأنفة في بيت بشار، وأدلة ذلَك: 485 - وإنْ أردْتَ مثالاً فخُذْ بيتَ بشار: كأن مثار النقع فوق رؤسنا ... وأسيافَنا ليلٌ تَهاوى كَواكِبُهْ3 وانظُرْ هلْ يُتصوَّرُ أنْ يكونَ بشَّار قد أخْطَرَ معاني هذهِ الكَلمِ ببالِه أفرادا عاريةً من معاني النحوِ التشبيهِ منه على شيءٍ وأنْ يَكون فكَّرَ في "مثال النقعِ"، مِنْ غَيْر أنْ يكونَ أرادَ إضافةَ الأول إلى الثاني وفكر في "فوق رؤسنا"، مِن غَيْر أنْ يكونَ قد أرادَ أن يُضيفَ "فوقَ" إِلى "الرؤوس" وفي "الأسيافِ" من دونِ أنْ يكونَ أرادَ عطفَها بالواو على "مثار" وفي "الواو".

_ 1 السياق: "فإنك إذا فكرت في الفعلين .... كنتَ قد فكَّرْت في معاني أَنفُسِ الكَلِم". 2 السياق: "كنتَ قد فكَّرْت في معاني أَنفُسِ الكَلِم ... ولم تَجِئ إلى فعلٍ أو اسم ففَكَّرْتَ .. ". 3 سلف البيت برقم: 84، ص: 96.

من دونِ أن يكونَ أرادَ العطْفَ بها وأن يكون كذلك فكَّرَ في "اللَّيل"، مِنْ دونِ أن يكونَ أرادَ أنْ يَجعلَهُ خبراً "لكأن" وفي تَهاوى كَواكِبُه"، من دونِ أن يكون أرادَ أن يَجْعَلَ "تهاوى" فعلاً للكواكبِ1، ثم يَجْعَلَ الجملةَ صفةً لِلَّيلِ، لِيَتِمَّ الذي أراد من التشبيه؟ 2 أم لم يخطر هذه الأشياءُ ببالِه إلاَّ مُراداً فيها هذهِ الأحكام والمعاني التي نراها فيها؟ 486 - وليت شِعْري، كيفَ يُتصوَّر وُقوعُ قصدٍ منكَ إِلى معنى كلمةٍ مِنْ دُونِ أن تريدَ تَعْليقها بمعنى كلمة أخرى؟ ومعْنى "القَصدِ إِلى معاني الكَلِم"، أنْ تُعْلِمَ السامِعَ بها شيئاً لا يَعْلَمُه. ومعلومٌ أنَّكَ، أيها المتكلمُ، لستَ تقصدُ أن تُعلمَ السامع الكَلِم المفردةِ التي تكلُمُه بها، فلا تقولُ: "خرجَ زيدٌ"، لِتُعْلِمَه معنى "خرَج" في اللغةَ، ومعنى "زيدٌ". كيفَ؟ ومُحالٌ أن تُكَلِّمَه بألفاظٍ لا يعرفُ هو معانيها كما تعرف. ولهذا لم يكنْ الفِعْلُ وحدَهُ مِن دون الاسم، ولا الاسمُ وحدَه من دون اسمٍ آخَرَ أو فعلٍ، كلاماً. وكنتَ لو قلتَ: "خرَج"، ولم تأتِ باسمٍ، ولا قدَّرْتَ فيه ضميرَ الشيء، أو قلْتَ: "زيد"، ولم تَأْتِ بفعلٍ ولا اسْمٍ آخَرَ ولم تُضْمِرْهُ في نفسك، كان ذلك وصوتًا تصوته سواء، فاعرفه. "نظم الكلام"، وتوخي النحو يسبك الكلام سبكا واحدا: 487 - واعلمْ أنَّ مَثلَ واضِعِ الكلام مثَلُ مَنْ يأخذ قطعًا من الذهب

_ 1 أسقط كاتب "ج" كلامًا، فكتب: " ... فكَّرَ في اللَّيل مِنْ دونِ أن يكونَ أراد أن يجعل تهاوى فعلًا للكواكب". 2 السياق من أول الفقرة: " ... هلْ يُتصوَّرُ أنْ يكونَ بشَّار قد أخْطَرَ معاني فيه هذ الكلم بباله ... أم لم يخطر هذه الأشياء بباله".

أو الفضةِ فيُذيبُ بعضَها في بعضٍ حتى تَصير قطعةً واحدةً. وذلك أنك إِذا قلتَ: "ضربَ زيدٌ عمراً يومَ الجمعةِ ضَرْباً شديداً تأديباً له"، فإنكَ تَحصُل من مجموعِ هذهِ الكَلِم كلِّها على مفهومٍ، هو معنًى واحدٌ لا عدَّةُ معانٍ، كما يتوهَّمُه الناسُ. وذلَك لأنك لم تَأْتِ بهذه الكَلِمِ لِتُفيدَهُ أنْفُسَ معانيها، وإِنما جئتَ بها لتُفيدَه وجوهَ التعلُّق التي بينَ الفعلِ الذي هو "ضرَب"، وبينَ ما عُمِلَ فيه، والأحكامُ التي هي محصولُ التعلُق. وإِذا كان الأمرُ كذلك، فيَنبغي لنا أن ننظرَ في المفعولية من "عَمروٍ"، وكونٍ "يوم الجمعة" زماناً للضرب، وكونِ "الضرْب" ضرْباً شديداً، وكونِ "التأديبِ" علَّةً للضرْب، أيتصوَّر يها أن تُفرَدَ عن المعنى الأول الذي هو أصلُ الفائدةٍ، وهو إسنادُ "ضرَب" إِلى "زيد"، وإثباتُ "الضرْب" به له، حتى يُعْقَل كونُ "عمرو" مفعولًا به، وكون "يوم الجمعة" مفعلولًا فيه، وكونُ "ضرْباً شديداً" مصدراً، وكونُ "التأديب مفعولاً له"1 من غيرِ أن يَخْطُرَ ببالِكَ كونُ "زيدٍ" فاعلاً للضَّرْبِ؟ وإِذا نَظَرْنا وجَدْنا ذلك لا يتصوَّر، لأن "عمراً" مفعولٌ لضرب وقعَ مِن "زيد" عليه، و "يومَ الجمعة" زمانٌ لضرْبٍ وقَع من زيد، و "ضرباً شديداً" بيانٌ لذلك الضرْبِ كيف هُو وما صفته، و "التأديب" علة له وبيانُ أنه كان الغرَضُ منه. وإِذا كان ذلك كذلك، بانَ منه وثَبَتَ، أنَّ المفهومَ من مجموع الكَلِم معنىً واحدٌ لا عِدَّةُ معانٍ، وهو إثباتُك زيداً فاعلاً ضَرْباً لعمروٍ في وقت

_ 1 السياق من وسط الفقرة: "أيُتصوَّر فيها أن تُفرَدَ عن المعنى الأول ... من غفير أن يخطر ببالك".

كذا، وعلَى صِفَةِ كذا، ولغرضِ كذا. ولهذا المعنى تقول إنه كلام واحد. عود إلى بيان ما في بيت بشار وأنه سبيكة واحدة: 488 - وأإذا قد عرَفْتَ هذا، فهو العِبْرَةُ أبداً. فبيتُ بشار إِذا تأَملْتَه وجدْتَهُ كالحَلْقةِ المفْرَغَةِ التي لا تَقْبَلُ التقسيمَ، ورأيتَه قد صنعَ في الكَلِم التي فيه ما يَصْنَعُه الصانعُ حين يأخُذُ كِسَراً من الذَّهب فيُذِيبُها ثمَّ يَصبُّها في قالبٍ، ويُخرِجُها لكَ سِواراً أو خلْخالاً. وإنْ أنتَ حاوَلْتَ قَطْعَ بعضِ ألفاظِ البيتِ من بعضٍ، كنْتَ كمَنْ يَكْسِرُ الحَلْقة ويَفْصِمُ السِّوارَ1. وذلك أنه لم يُرِدْ أن يُشَبِّهَ "النقْعَ" بالليل على حدة، و "الأسياف" بالكَواكِب عَلى حدَة، ولكنهُ أرادَ أن يُشَبِّه النقْعَ والأسيافُ تَجُولُ فيه بالليل في حالِ ما تَنْكَدِرُ الكواكِبُ وتتهاوى فيه2. فالمفهومُ من الجميع مفهومٌ واحد، والبيتُ مِن أوله إِلى آخرِه كلامٌ واحدٌ. فانظُرِ الآنَ ما تقولُ في اتحادِ هذه الكَلِم التي هي أجزاءُ البيتِ؟ أتقولُ: إنَّ ألفاظَها اتَّحدتْ فصارتْ لفظةً واحدةً؟ أمْ تقولُ: إنَّ معانيَها اتَّحَدتْ فصارتْ الألفاظُ مِن أجْل ذلك كأنَّها لفظةٌ واحدةٌ؟ فإِن كنت لا تشك أن الاتحاج الذي تراه هو في المعاني، وإذا كان مِن فسادِ العقلِ، ومِن الذَّهابِ في الخَبَل، أنْ يتوهَّمَ مُتَوهِّمٌ أنَّ الألفاظَ يَندمِجُ بعضها في بعض حتى تصير لظفة واحدة.

_ 1 "فصم السوار وغيره" أن يكسره أو يصدعه من غير أن يبين بعضه من بعض. وانظر بيد بشار فيما سلف رقم: 482. 2 "انكدرت النجوم"، انقضت وتناثرت.

فقد أراك ذلك، إِن لم تُكابِرْ عقْلَكَ، أَنَّ "النظْمَ" يكون في معاني الكَلِم دونَ ألفاظِها، وأنَّ نظْمَها هو تَوخِّي معاني النحوِ فيها. وذلك أنه إِذا ثَبَتَ الاتحادُ، وثَبَت أنَّهُ في المعاني، فَيَنْبغي أن تَنْظُرَ إِلى الذي به انحدت المعاني في بيتِ بشار. وإِذا نظَرْنا لم نجدْها اتَّحَدَتْ إلاَّ بأنْ جُعِلَ "مثارُ النقعِ" اسمَ "كأَنَّ"، وجُعلَ الظرفُ الذي هو "فوقَ رءوسنا" معمولًا "لمثار" ومعلقًا به، وأشرك "أالأسياف" في "كأنَّ" بعطفِه لها على "مثارِ"، ثم بأن قال: "ليلٌ تهاوى كواكِبُهْ"، فأتَى بالليلِ نكرة، وجعل جملة قوله: "تهاوى كواكبُه"، خبراً "لكان". فانظرْ هلْ ترى شيئاً كان الاتحادُ به غيرَ ما عدَّدْناه؟ وهل تَعرِفُ له مُوجِباً سِواه؟ فلولا الإِخلادُ إِلى الهُوَيْنا، وتركُ النظرِ وغطاءٌ أُلقي على عيونِ أقوامٍ، لكانَ يَنبغي أنْ يكونَ في هذا وحدَهُ الكفايةَ وما فوق الكفايةِ. ونسألُ الله تعالى التوفيق. آفة الذين لهجوا بأمر "اللفظ" من المعتزلة وبيان فساد أقوالهم: 489 - واعلمْ أنَّ الذي هو آفة هؤلاءِ الذين لَهَجُوا بالأباطيلِ في أمرِ "اللفظِ" أنَّهم قومٌ قد أسلموا أنفسهم إلى التخيل، وألقوا مفادتهم إلى الأوْهام، حتى عدلتْ بِهم عن الصوابِ كلَّ معدلٍ، ودخلَتْ بِهم مِنْ فُحْشِ الغلَطِ في كلِّ مدْخَلٍ، وتعسَّفَتْ بهم في كلِّ مَجْهلٍ، وجعلَتْهم يرتَكِبونَ في نُصْرةِ رأيِهم الفاسِد القولَ بكلِّ مُحال، ويقتحمون في كلِّ جَهالة، حتى إِنك لو قلتَ لهم: "إِنه لا يتأتَّى للناظم نَظْمُه إِلا بالفكر والروية، فإِذا جعلتم "النظْمَ" في الألفاظِ، لَزِمَكُمْ من ذلك أن تجعلوا فكْرَ الإِنسان إِذا هو فكَّر في نظم الكلام، فكْرا في الألفاظ التي تريد أنْ يَنطِقَ بها دُونَ المعاني1 لم يُبالوا أن

_ 1 السياق: "حتى إِنك لو قلتَ لهم: إِنه لا يتأتى للناظم ... لم يبالوا".

يَرتَكِبوا ذلك، وأن يتعلقوا فيه، بما في العادة ومَجْرى الجِبِلَّة منْ أنَّ الإِنسانَ يخيل إليه إذا هو فكر، أنه كأنه ينطِقُ في نفسه بالألفاظ التي يفكر في معانيها، حتى يرى أنه يسمعُها سماعَه لها حين يُخرِجُها مِنْ فيهِ، وحين يَجري بها اللسانُ. وهذا تجاهلٌ، لأنَّ سبيلَ ذلك سبيلُ إنسانٍ يتخيَّل دائماً في الشيء قد رآه وشاهدَه أنه كأنَّه يرَاه وينظُرُ إليه، وأنَّ مِثالَهُ نُصْبُ عَيْنه، فكَما لا يوجِبُ هذا أنْ يكونَ رائياً له، وأنْ يكُون الشيءُ موجوداً في نفسه، كذلك لا يكون تخيله أنه كأنه ينطق بالألفاظ، موجبًا أن كون ناطقاً بها، وأنْ تكونَ موجودةً في نفسه، حتى يَجْعلَ ذلك سببًَا إِلى جعل الفِكْرِ فيها. فكر الإنسان، هل هو فكر في الألفاظ وحدها؟ أم هو فكر في الألفاظ والمعاني معا؟: 490 - ثم إنا نَعْمل على أنه يَنْطِق بالألفاظِ في نفْسِه، وأنه يَجِدُها فيها على الحقيقة، فَمِنْ أينَ لنا أنه إذا فكَّر كان الفكر منه فيها؟ أماذا يَرومُ، ليتَ شِعْري، بذلك الفِكْرِ؟ ومعْلومٌ أنَّ الفِكْرَ من الإنسانِ يكونُ في أنْ يُخْبِرَ عن شيءٍ بشيءٍ، أو يَصِفَ شيئاً بشيءٍ، أو يُضيف شيئاً إلى شيءٍ، أو يُشْرِكَ شيئاً في حكْم شيءٍ، أو يُخْرِجَ شيئاً من حكْمٍ قد سبَق منه لشيء، أو يَجْعلَ وجُودَ شيءٍ شرطاً في وجودِ شيء، وعَلَى هذا السبيلُ؟ وهذا كلُّه فِكْرٌ في امور معقولةٍ زائدة على اللفظ1. 491 - وإِذا كان هذا كذلك، لم يحل هذا الذي يجعل في الألفاظ فكر مِنْ أحَدِ أمرَيْن: إمَّا أن يُخرجَ هذهِ المعانيَ مِنْ أنْ يكونَ لواضعِ الكلامِ فيها فكْرٌ ويجعلَ الفِكْرَ كلَّه في الألفاظِ وإمَّا أن يجعل فكْرا في اللفظِ مفرداً عن الفكرْة في هذه المعاني. فإنْ ذَهب إِلى الأوَّل لم يكلم، وإن ذهب إلى الثاني لزمه

_ 1 في المطبوعة: "أمور معلومة معقولة"، زاد ما لا خير فيه.

أن يُجوِّزَ وقوعَ فكْرٍ من الأعجميِّ الذي لا يعرِفُ معانيَ ألفاظِ العربية أصْلاً1، في الألفاظِ. وذلك مما لا يَخْفى مكانُ الشنعةِ والفضيحة فيه. كشف وهم في مسألة ترتب الألفاظ في النفس، والسمع: 492 - وشبيهٌ بهذا التوهُّم منهم، إنك قد تَرى أحدَهم يَعْتَبِر حالَ السامع، فإِذا رأى المعانيَ لا تترتب في نسه إلاَّ بترتُّب الألفاظِ في سمعه، ظنَّ عندَ ذلك أن المعاني تبع للألفاظ، وأن الترتيب يها مكتَسبٌ مِن الألفاظِ، ومن ترتُّبها في نُطْق المتكلِّم. وهذا ظنٌّ فاسدٌ ممَّنْ يظنُّه، فإنَّ الاعتبارَ يَنبغي أن يكونَ بحالِ الواضعِ للكلامِ والمؤلِّف له، والواجِبُ أن يُنظرَ إِلى حالِ المعاني معه لا مَعَ السامِع، وإِذا نظَرْنا عَلمْنا ضرورةَ أنه محالٌ أنْ يكونَ الترتُّبُ فيها تِبعاً لترتُّب الألفاظِ ومكُتَسباً عنه، لأنَّ ذلك يقتضي أنْ تكونَ الألفاظُ سابقةً للمعاني، وأن تَقَع في نفْسِ الإِنسان أولاً، ثمَّ تقعُ المعاني مِنْ بَعْدها وتاليةً لها، بالعكْسِ ممَّا يَعْلَمُه كلُّ عاقلٍ إِذا هو لم يُؤخذ عن نَفْسه، ولم يُضْرَبْ حِجابٌ بينه وبينَ عَقْلِه. وليتَ شعري، هل كانتِ الألفاظُ إلاَّ مِن أجْل المعاني؟ وهل هي إلاَّ خَدمٌ لها، ومُصرَّفَةٌ على حكمها؟ أوَ ليستْ هي سمات لها، وأوضاعًا قد وضعت لتذل عليها؟ فكيفَ يُتصوَّرُ أن تَسْبِقَ المعانيَ وأن تتقَدَّمَها في تَصَوُّرِ النفسِ؟ إنْ جازَ ذلك، جازَ أن تكون أسامي الأشياءِ قد وُضِعَتْ قبْل أن عرفتْ الأشياء، وقيلَ أنْ كانتْ. وما أدري ما أقولُ في شيءٍ يجرُّ الذاهبينَ إليه إِلى أشباهِ هذا من فنونِ المحال، وردئ الأقوال2.

_ 1 السياق: "أن يجوز وقوع فكر من الأعجمي ... في الألفاظ". 2 في المطبوعة: "وروئ الأحوال" وهو لا شيء.

493 - وهذا سؤالٌ لهم من جِنْسٍ آخرَ في "النظم". قالوا: لو كان "النظم" يكون معاني النحو، لكانَ البدويُّ الذي لم يسمعْ بالنحوِ قطُّ، ولم يَعرفِ المبتدأَ والخبرَ وشيئاً مما يذكُرونه، لا يتأتَّى له نظْمُ كلامٍ. وإنَّا لَنرَاه يأتي في كلامِهِ بِنَظْمٍ لا يحسنه المتقدم في علم النحو. رد شبهة للمعتزلة في "النظم"، وأن البدوي، لم يسمع بالنحو قط، والصحابة لا يعرفون ألفاظ المتكلمين: قيلَ: هذه شبهةٌ من جنس ما عرَضَ للذين عابوا المتكلمين فقالوا: "إِنَّا نعلم أن الصحابةَ رضيَ اللهُ عنهم والعلماءَ في الصدْرِ الأول، لم يكونوا يعرفون "الجوهر" و "العرض" و "صفة النفس" و "صفة المعنى" وسائرَ العباراتِ التي وضعْتُموها، فإنْ كان لا تَتِمُّ الدلالةُ على حدوثِ العالَم والعِلْمِ بوحدانية الله1، إلا بمعرفة هذه اأشياء التي ابتدأتُموها، فينَبغي لكم أنْ تدَّعوا أَنكم قد علِمتُم في ذلك ما لم يعْلَموه، وأنَّ منزلَتَكم في العِلْم أعلى من منازِلِهم". وجوابُنا هو مثْلُ جوابِ المتكلِّمينَ، وهو أَنّ الاعتبارَ بمعرفةِ مدْلولِ العباراتِ، لا بمعرفة العباراتِ، فإِذا عرَفَ البدويُّ الفرْقَ بين أنْ يقولَ: "جاءني زيدٌ راكباً"، وبين قولهِ: "جاءني زيدٌ الراكبُ"، لم يَضُرَّهُ أنْ لا يعرفَ أَنه إِذا قال: "راكباً"، كانتْ عبارةُ النحويينَ فيهِ أن يقولوا في "راكب": "إنَّه حالٌ"، وإِذا قال: "الراكبُ"، إِنه صفةٌ جاريةٌ على "زيد" وإِذا عرَف في قوله: "زيدٌ منطلقٌ" أَنَّ "زيداً" مُخْبَرٌ عنه، و "منطلق" خَبرٌ، لم يضره أن لا يعلم أن نسمى "مجدًا" مبتدأ وغذاعرف في قولِنا: "ضربْتُه تأديباً له"، أنَّ المعنى فيالتأديب أنه غرضه من الضرب، وأنه ضرْبَه ليتأدَّبَ، لم يضرَّه أنْ لا يَعْلَم أن نسمى "التأديب" مفعولًا له.

_ 1 في "س" و "ج": "حدث العالم"، مضبطوطة في المخطوطتين، وهو مصدر غريب، والله أعلم.

ولو كان عدمه العلم بهذه العبارات1، بمنعه العلمَ بما وضعْناها له وأردناه بها لكانَ ينبغي أن لا تكون له سبيلٌ إلى بيانِ أَغراضِه، وأنْ لا يَفْصِلَ فيما يَتكلَّم به بين نفي وإثباتٍ، وبين "ما" إِذا كان استفهاماً، وبينَه إِذا كان بِمعنى "الذي"، وإِذا كان بمعنى المجازاة، لأنه لم يسمع عبارتنا في الفرْقِ بين هذه المعاني. أَترى الأعرابيَّ حين سمِعَ المؤذِّن يقولُ: "أَشْهدُ أنَّ محمداً رسول الله" بالنصب، فاأنكر وقال: صنَعَ ماذا؟ أَنْكَر عن غَيْر علمٍ أن النصب يخرجه عن أن يكون خيرًا ويجعلُه والأوَّلَ في حكْم اسمٍ واحد، وأنه إِذا صارَ والأوَّلَ في حكْم اسمٍ واحدٍ، احتيجَ إِلى اسْمٍ آخر أو فعْلٍ، حتى يكونَ كلاماً، وحتى يكون قد ذَكَرَ ما لهُ فائدةٌ؟ إنْ كان لم يَعلَمْ ذلك، فلماذا قال: "صَنَع ماذا؟ "، فطلب ما يجعلُه خيرًا؟ بيان في رد شبهة المعتزلة: 494 - ويكفيك أنه يلزم على ما قالوه أنت يكونَ امرؤ القيس حينَ قال: قِفَا نَبْكِ من ذكرى حبيبٍ وَمنزلٍ قاله وهو لا يَعْلم ما نعنيه بقولِنا: إنَّ "قفا" أمُرٌ، و "نَبكِ" جوابُ الأَمر، و "ذكرى" مضافٌ إلى "حبيب"، و "منزل" معطوفٌ على الحبيب وأنْ تكونَ هذه الألفاظُ قد ترتبت له من غيرِ قَصْدٍ منه إِلى هذه المعاني2. وذلكَ يُوجِبُ أن يكونَ قال: "نبْكِ" بالجزم من غيرِ أن يكونَ عرَفَ معنىً يوجب الجزم وأني به مؤخراً عن "قفا"، من غير أن عرف لتأخيره موجبًا سوى طلب الوزن.

_ 1 في المطبوعة، وفي نسخة عند "س": عدم العلم". 2 في المطبوعة وحدها: "قد رتبت له".

ومَنْ أفْضَتْ به الحالُ إِلى أمثالِ هذه الشناعاتِ، ثم لم يَرْتدِعْ، ولم يتبيَّنْ أنه على خَطأٍ، فليس إِلاّ ترْكُهُ والإعراضُ عنه. 495 - ولولا أنا نحنب أن ينبس أحد في معنى السؤال والاعتراض بحروف إلاَّ أَريناه الذي استَهْواه، لكان تَرْكُ التشاغلُ بإيرادِ هذا وشبَههِ أَوْلى. ذاك لأنَّا قد علِمْنا علْمَ ضرورةٍ أنَّا لو بَقينا الدهرَ الأطول تصعد ونُصوِّبُ1، ونبحثُ وننقّب، نبْتغي كلمةً قد اتصلتْ بصاحبةٍ لها، ولفظةٍ قد انتظمت مع أختها، من غير أن توخي فيما بينهما معنىً من معاني النحو2، طَلبْنا ممتنعًا، وثنينا مطايا الفكر ظلمًا. فإن كان ههنا مَنْ يَشُكُّ في ذلك، ويزعُم أنه قد علِمَ لاتصالِ الكَلِم بعضِها ببعض، وانتظامِ الألفاظِ بعضِها مع بعضٍ، معانيَ غيرَ معاني النحو، فإنا نقول له: هاتِ، فبَيِّنْ لنا تلكَ المعاني، وأَرِنا مكانَها، واهْدِنا لَها، فلعلَّكَ قد أُوتيتَ عِلْماً قد حُجِبَ عنَّا، وفُتِحَ لك بابٌ قد أُغلقَ دوننا: وذاكَ لَهُ إِذا العنقاءُ صارتْ ... مُرَبَّبَةً وَشَبَّ ابن الخصى3

_ 1 "الدهر" في المطبوعة و "س"، اما "ج" فكتب كلمة لم أحسن قراءتها. 2 في المطبوعة وحدها: "نتوخى". 3 الشعر لأبي تمام في ديوانه "العنقاء" طائر ضخم لا يكاد يرى إلا في الدهور، هكذا زعموا. ويعني بقوله: "مريبة"، أن يربيها الناس كما يربي الحمام، وهذا محال. وكذلك الحصى لا ولد له، فأتى يكون له ولد يشب!

فصل آخر في أن الفصاحة والبلاغة للمعاني

فصل آخر في أن الفصاحة والبلاغة للمعاني: فصل: آفة وشبهة في مسألة التعبير عن المعنى بلفظين أحدها فصيح، والآخر غير فصيح 496 - قد أردتُ أنْ أُعيدَ القولَ في شيءٍ هو أصل الفساد ومعظم الآفة، والذيصار حجازاً بين القوم وبَيْنَ التأمُّل، وأخذَ بهم عن طريق النظرِ، وحالَ بينهُم وبينَ أنْ يُصْغُوا إِلى ما يقاَلُ لهم، وأنْ يفتحوا للذي تُبيَّنُ أعينُهم، وذلك قولهُم: "إنَّ العقلاءَ قدِ اتَّفقوا على أنَّه يصِحُّ أنْ يُعبَّر عن المعنى الواحدِ بلفظَينْ، ثم يكونُ أحدُهما فصيحاً، والآخرُ غيرَ فصيحٍ. وذلك، قالوا، يقتضي أن يكونَ لِلَّفظِ نصيبٌ في المزيَّة، لأنها لو كانت مقصورةً على المعنى، لَكان مُحالاً أَنْ يُجعَلَ لأحدِ اللفظَيْنِ فضْلٌ على الآخَر، مع أَنَّ المعبَّرَ عنه واحد". وهذا شيءٌ تراهُم يُعْجَبون به ويكثروت تردداه، مع أَنهم يؤكَّدونه فيقولون: "لولا أَنَّ الأمرَ كذلك، لكانَ يَنْبغي أنْ لا يكونَ للبيتِ من الشِّعْر فَضْلٌ على تفسيرِ المفسِّر له، لأنه إِن كان اللفظُ إنما يَشْرُفُ مِن أجل منعناه، فإنَّ لفظَ المفسِّر يأتي على المعنى ويؤديه لا محالة، إِذ لو كان لا يؤدِّيه، لكان لا يكونُ تفسيراً له". ثم يقولون: "وإِذا لزِمَ ذلكَ في تفسيرِ البيتِ من الشِّعْر، لَزمَ مثْلُه في الآيةِ مِنَ القرآنِ" وهُم إِذا انتَهَوْا في الحِجَاج إِلى هذا الموضِع، ظَنُّوا أنهم قد أَتَوْا بما لا يجوزُ أن يُسْمَعَ عليهم معه كلامٌ1، وأنَه نقض ليس بعده إبراهيم، وربما

_ 1 "معه" ليست في "ج"، وفي هامش "س" كتب: "معه"، وكتب فوقها: "لعله"، يريد أن يقول: إن العبارة أجود استقامة إذا زاد "معه"، فكتبها رشيد رضا: "أن يسمع معه لعلة كلام"، فأتى بشيء غريب طريف جدًا.

أَخْرجَهُمُ الإعجابُ به إِلى الضَّحكِ والتعجُّبِ ممَّنْ يرى أن إلى الكلام عليه سبيلًا، وأنه يَسْتطيعَ أنْ يُقيمَ على بُطْلانِ ما قالوه دليلاً. 497 - والجوابُ، وبالله التوفيق، أنْ يُقالَ للمحتجِّ بذلك: قولُك إِنه يَصِحُّ أنْ يُعبَّر عن المعنى الواحدِ بلفظَيْن، يَحْتمِلُ أمرَيْن: أحدهما: أَن تُريدَ باللفظَيْن كَلِمتَيْنِ مَعْناهُما واحِدٌ في اللغة، مثل "الليث" و "الأسد"، ومثل "شحط" و "بعد"، وأشباهٍ ذلك ممَّا وُضِع اللفظان فيه لِمعْنى. والثاني: أن تُريد كلامَيْن. فإنْ أردْتَ الأَوَّلَ خرجْتَ من المسأَلة، لأنَّ كلامَنا نحْنُ في فصاحةٍ تَحْدُثُ مِن بَعْد التأليفِ، دونَ الفصاحة التي تُوصَفُ بها اللفظةُ مفردةً، ومن غير أن يُعْتَبر حالُها مع غيرها. وإنْ أردْتَ الثاني، ولابد لك مِنْ أَنْ تُريده، فإنَّ ههنا أصْلاً، مَنْ عَرَفَهُ عَرَف سقوطَ هذا الاعتراض. وهو أنْ يَعْلَم أنَّ سبيلَ المعاني سَبيلُ أَشكالِ الحُليِّ، كالخاتَم والشَّنْفِ والسِّوار، فكما أَنَّ مِنْ شأْنِ هذه الأشكالِ أن يكونَ الواحدُ منها غُفْلاً ساذجاً، لم يعمل صانعُه فيه شيئًا أكثر من أن أتى بما يَقْعُ عليه اسْمُ الخاتَمِ إِن كان خاتماً1، والشَّنْفِ إِن كان شَنْفاً، وأن يكونَ مصنوعاً بديعاً قد أَغْرَب صانعُه فيه. كذلك سبيلُ المعاني، أن تَرى الواحدَ منها غُفْلاً ساذجاً عامياً موجوداً في كلام الناس كُلِّهمِ، ثم تَراه نفْسَه وقد عَمَد إِليه البَصيرُ بشأنِ البلاغةِ وإِحداثِ الصُّوَرِ في المعاني، فيَصْنَعُ فيه ما يصنع الصنع الحاذق،

_ 1 في المطبوعة وحدها: "أن يأتي بما يقع ... ".

حتى يُغْرِبَ في الصنعةِ، ويُدِقَّ في العمل، ويُبْدِعَ في الصياغَة. وشواهدُ ذلك حاضِرةٌ لك كيف شئت، وأمثلته نصب عينك من أينَ نظَرْتَ. تنظرُ إِلى قول الناس: "الطبع لا يتغير"، و "لست تَسْتطيعُ أَنّ تُخْرِجَ الإنسانَ عمَّا جُبِلَ عليه"، فترَى معنى غُفَلاً عامياً معروفاً في كل جيلٍ وأمه، ثم تنظرُ إِليه في قولِ المتنبي: يُرادُ مِنَ القلبِ نِسْيانُكُمْ ... وتَأْبى الطباعُ عَلَى الناقِلِ1 فتَجدُه قد خَرجَ في أحْسَنِ صورة، وترَاه قد تَحوَّلَ جوهرةً بعد أنْ كانَ خَرْزةً، وصارَ أعجبَ شيءٍ بعد أنْ لم يكن شيئًا. رد شبهة المعتزلة هذه وفساد قولهم، وهو فصل جيد: 498 - وإذْ قد عرَفْتَ ذلك، فإِن العقلاءَ إِلى هذا قصَدُوا حين قالوا: "إِنه يَصِحُّ أنْ يُعبَّر عن المعنى الواحدِ بلفظَينْ، ثم يكونُ أحدُهُما فصيحاً والآخرُ غيرَ فَصيح"، كأنَّهم قالوا: إنه يصح أن تكون ههنا عبارتان أَصْلُ المعنى فيهما واحدٌ، ثم يكونُ إحداهما في تحسين ذلك المعنى وتزينه، وإِحداثِ خصوصيةٍ فيه تأثيرٌ لا يكونُ للأُِخْرى. 499 - واعلمْ أَن المخالِفَ لا يَخْلو مِنْ أنْ ينكر أن يكون للمعنى إحدى العبارتَيْن حسْنٌ ومزيةٌ لا يكونان له في الأخرى، وأنْ تَحْدُثَ فيه على الجملةِ صورةٌ لم تكُن2 أو يُعْرف ذلك. فإنْ أَنكرَ لم يُكلم، لأنه يؤديه إِلى أن لا يجعلَ لِلمعنى في قوله:

_ 1 هو في ديوانه. 2 السياق: " .... أَن المخالِفَ لا يَخْلو مِنْ أنْ يُنْكِر .... أو يعرف".

وتأتي الطباعُ على النَّاقلِ مزيةٌ على الذي يُعقَل من قولهم: "الطبع لا يتغير"، و "لا يَستطيعُ أنْ يُخرجَ الإنسانَ عما جُبِل عليه" وأن لا يرى لقول أبي نواس: وليس الله بِمُسْتَنْكَرٍ ... أنْ يَجْمَع العالَمَ في واحدِ1 مزيةٌ على أنْ يُقال: "غيرُ بديع في قدرةِ اللهِ تَعالى أن يَجْمعَ فضائِلَ الخَلْقِ كلَّهم في رجُلٍ واحدٍ" ومَن أَدَّاهُ قولٌ يقوله إِلى مثل هذا، كان الكلامُ معه مُحالاً، وكنتَ إِذا كلَّفْتَه أَنْ يعرفَ، كَمَنْ يكلَّفُ أن يميز بحوز الشعرِ بعضِها من بعضٍ، فيَعْرفَ المديدَ من الطويلِ، والبسيطَ من السريع2 مَنْ ليس له ذوقٌ يُقيمُ به الشِّعْرَ مِن أَصْلِه. وإِنْ اعترفَ بأَنَّ ذلك يكون، قلنا له: أَخْبِرْنا عنكَ، أَتقولُ في قوله: وتَأْبى الطباعُ على الناقلِ إنَّهُ غايةٌ في الفصاحة؟ فإِذا قالَ: نعم. قيلَ له: أفكانَ كذلك عندكَ من أجْلِ حروفِه، أمْ من أجْلِ حُسْنٍ ومزيةٍ حَصَلا في المعنى؟ فإِن قال: مِنْ أَجْل حُروفه: دخلَ في الهذيان وإِنْ قال: من أجل حُسْنٍ ومزيّةٍ حصَلا في المعنى، قيل له: فذاكَ ما أَردْناكَ عليه حين قلْنا: إِن اللفظَ يكونُ فَصيحاً من أجْل مزيةٍ تقعُ في معناه، لا مِنْ أجْل جَرْسِه وصداه. "التشبيه"، يكشف شبهة المعتزلة: 500 - واعلمْ أنه ليس شيءٌ أبْيَن وأوْضَحَ وأَحْرى أن يكشف الشبهة

_ 1 هو في ديوانه، وكتبه في المطبوعة هنا وفيما بعد: "ليس على الله بمستنكر". 2 السياق: "كمن يكلف. من ليس له ذوق ... ".

عن متأمِّلهِ في صحَّةِ ما قلناه1، مِن "التشبيهِ". فإنكَ تقولُ: "زيدٌ كالأسَدِ" أو "مثلَ الأسدِ" أَوْ "شبيهٌ بالأسدِ"، فتجدُ ذلكَ كلَّه تشبيهاً غُفْلاً ساذَجاً ثم تقولُ: "كأنَّ زيداً الأَسَدُ"، فيكونُ تشبيهاً أيضاً، إلاَّ أَنك تَرى بَيْنَه وبينَ الأولِ بَوْناً بعيداً، لأنك تَرى له صورةً خاصةً، وتَجِدُكَ قد فخَّمْتَ المعنى وزدْتَ فيه، بإنْ أفدْتَ أَنه مِن الشجاعةِ وشدةِ البطْشِ، وأَنَّ قلْبَه قلبٌ لا يُخامِرُه الذعْرُ ولا يَدخلُه الروْعُ، بحيثُ يتوهَّم أَنه الأَسَدُ بعينه ثم تقول: "لَئنْ لقِيتَهُ لَيَلْقَينَّكَ منه الأَسَدُ"، فتَجدُه قد أفادَ هذه المبالغةَ، لكنْ في صورةٍ أحْسَنَ، وصِفَةٍ أخَصَّ، وذلك أَنك تَجْعَلهُ في "كأن"، يتوهَّم أَنه الأسَدُ، وتَجعلُه ههنا يُرى منه الأسدُ على القطع، فيَخرُجُ الأَمرُ عن حدِّ التوهُّم إِلى حدِ اليقينِ ثم إِن نظرت إلى قوله: أَإِن أُرعِشَتْ كفَّا أبيكَ وأصْبَحَتْ ... يداكَ يدَيْ لَيْثٍ فإنَّكَ غالِبُهْ2 وجدَتهُ قد بَدا لكَ في صورةٍ أنقَ وأحْسَنَ ثم إِن نظرْتَ إلى قول أرطاة ابن سهية: إن تلقني لا ترى غير بِنَاظرةٍ ... تنسَ السِّلاحَ وتعْرِفْ جبهةَ الأَسدِ3 وجدْتَه قد فضَلَ الجميعَ، ورأيتَه قد أُخْرِجَ في صورة غير تلك الصور كلها.

_ 1 السياق: "ليس شيء أبين وأوضح ... من التشبيه ... ". 2 الشعر للفرزدق في ديوانه، وفي الأغاني 21: 327، "الهيئة"، وروايته: "فإنك جاذبه". 3 مطلع شعر له في الأغاني، وقد مضى رقم: 235.

شبهة المعتزلة في قولهم "اللفظ" واستدلالهم بأن تفسير الشعر يجب أن يكون كالمفسر. ورد الشبهة: 501 - واعلمْ أَنَّ من الباطلِ والمُحالِ ما يَعْلمُ الإنسانُ بُطلانَه واستحالتَه بالرجوعِ إِلى النفْس حتى لا يَشُكّ. ثم إِنه إِذا أرادَ بيانَ ما يجِدُ في نفْسِه والدلالةِ عليه، رأَى المَسْلكَ إِليه يَغْمُضُ ويَدِقُّ. وهذه الشبهةُ أعني قولَهم: "إِنه لو كان يجُوزُ أنْ يكونَ الأمرُ على خلافِ ما قالوه مِن أَنَّ الفصاحةَ وصْفٌ لِلَّفظِ مِنْ حيثُ هو لفظٌ، لكانَ يَنْبغي أنْ لا يكونَ للبيتِ من الشعرِ فضْلٌ على تَفسير المفسِّر"1، إِلى آخره2 من ذاك. وقد علقتْ لذلك بالنفوس وقَويتْ فيها، حتى إنَّكَ لا تلقى إِلى أَحدٍ من المتعلِّقين بأمرِ "اللفظ" كلمةً مما نحنُ فيه، إلاَّ كان هذا أوَّلَ كلامهِ، وإِلاَّ عَجِبَ وقال: "إِنَّ التفسيرَ بيانٌ للمفسَّر، فلا يجوز أنْ يبَقى مِنْ معنى المفسَّر شيءٌ لا يؤدِّيه التفسيرُ، ولا يأتي عليه، لأنَّ في تجويزِ ذلك القولِ بالمُحالِ، وهو أن لا يزالَ يَبْقى مِن معنى المفسَّرِ شيءٌ لا يَكونُ إِلى العلم به سبيلٌ. وإِذا كان الأمرُ كذلك. ثبَتَ أنَّ الصحيحَ ما قلْناه، من أنه لا يجوزُ أن يكونَ لِلَّفظِ المفسَّر فضْلٌ من حيثُ المعنى على لفظِ التفسير. وإذا لم يجز أن يكونه الفضلُ من حيثُ المعنى، لم يَبْقَ إلاَّ أنْ يكونَ من حيثُ اللفَظُ نفسُه". فهذا جملةُ ما يمكِنهُم أنْ يقولوه في نُصْرة هذه الشبهةِ، قد استقصيْتُه لكَ. وإِذ قد عرفْتَه فاسمَعِ الجوابَ. وإِلى اللهِ تعالى الرغبةُ في التوفيق للصواب. 502 - إعلمْ أنَّ قولَهم: "إنَّ التفسيرَ يجبُ أنْ يكونَ كالمفسَّر"، دعوى لا تَصِحُّ لَهم إلاَّ مِن بعْدِ أنْ يُنْكِروا الذي بيَّناه، مِنْ أنَّ مِن شأْن المعاني أن تختلف.

_ 1 انظر قولهم فيما سلف: رقم: 496. 2 السياق: وهذه الشبهة ... من ذاك".

بها الصور، ويدفعوه أصلًا، وحتى يدعوا أنه لا فرق بين "الكناية" و "التصريح"، وأنَّ حالَ المعنى مع "الاستعارةِ" كحالهِ مع تَرْك الاستعارة، وحتى يُبْطلوا ما أَطْبَقَ عليه العقلاءُ مِن أنَّ "المجازَ" يكونُ أبداً أبلغَ من الحقيقة، فَيْزعموا أنَّ قولنا: "طويل النجاد" و "طويل القامةِ" واحدٌ، وأنَّ حال المعنى في بيت ابن هرمة. وَلا أبتاعُ إلا قريبةَ الأجَلِ1 كحالهِ في قولك: أنا مضيافٌ وأَنَّك إِذا قلتَ: "رأيتُ أسداً"، لم يكنِ الأمرُ أقوى من أَنْ تقولَ: "رأيتُ رجلاً هو مِنَ الشجاعةِ بحيثُ لا ينقصُ عن الأَسد"، ولم تكنْ قد زدتَ في المعنى بأنِ ادَّعيتَ له أنَّه أسَدٌ بالحقيقة ولا بالغْت فيه2 وحتَّى يَزْعمُوا أنه لا فضلَ ولا مزيةَ لقولهم: "أَلقيتُ حَبْلَه على غارِبِه"، على قولك في تفسيره: "خلَّيتُهُ وما يريدُ، وتركْتُه يفَعلُ ما يشاءُ" وحتَّى لا يَجعلوا لِلمعنى في قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 93]، مزيةً على أن يقال: "اشتدَّتْ محبتُهم للعجْلِ وغلَبَتْ على قلوبهم"، وأن تكونَ صورةُ المعنى في قولِه عزَّ وجل: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4]، صورتَه في قولِ من يقولُ: "وشابَ رأسي كله" و "أبيض رأْسي كلُّه" وحتى لا يَرَوْا فرْقاً بين قولِه تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16]، وبينَ: "فما رَبِحوا في تجارَتِهم" وحتى يَرْتكبوا جميعَ ما أرَيْناك الشَّناعةَ فيه، من أنْ لا يكون فرق بين قول المتنبي:

_ 1 سلف بيت ابن هرمة برقم: 311، 365، 369. 2 في "ج" والمطبوعة: "ولم تكن قدرت في المعنى"، وهو سيء.

وتَأْبى الطباعُ على الناقلِ1 وبينَ قولهم: "إِنك لا تَقدِرُ أن تغيِّر طبَاعَ الإِنسان" ويَجْعلوا حالَ المعنى في قولِ أبي نواس: ولَيْسَ للهِ بمستنكَرٍ ... أنْ يَجْمَع العالَمَ في واحدِ2 كحالهِ في قولِنا: "إِنه ليس ببديعٍ في قُدْرة الله أن يجع فضائلَ الخَلْقِ كلِّهم في واحد" ويرتكبوا ذلك في الكلام كلِّه، حتى يَزْعموا أنَّا إِذا قلْنا في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} إنَّ المعنى فيها: "أنه لمَّا كان الإنسانُ إِذا هَمَّ بقَتْلِ آخَر لِشيءٍ غاظَهُ منه، فذَكَر أَنَّه إنْ قَتَله قُتِلَ ارتَدَعَ، صار المهمومُ بِقَتْله كأنه قد استفادَ حياةً فيما يستقبل بالقصاص3 كنا قد أدينا المعنى في تسيرنا هذا على صورتِه التي هو عليها في الآية، حتى لا نَعرفَ فضْلاً، وحتى يكونَ حال الآية والتفسير حال اللفظين إِحداهما غريبةٌ والأخرى مشهورة، فتفسَّرُ الغريبةُ بالمشهورةِ، مثلَ أن تقول مثلاً في "الشَّرجب" إِنه الطويلُ4، وفي "القطَّ" إِنه الكِتاب، وفي "الدُسُّرِ" إِنه المَسامير. ومَنْ صارَ الأمرُ به إِلى هذا، كان الكلامُ معه مُحالاً. 503 - واعلمْ أَنه ليس عجب أعجب من حال من يرى كلامين5،

_ 1 سلف برقم: 497. 2 سلف برقم: 499. 3 السياق: "حتى يَزْعموا أنَّا إِذا قلْنا في قوله تعالى ... كا قد أدينا". 4 في المطبوعة وحدها: "الشوقب". 5 في المطبوعة وحدها: "ليس عجيب".

أجزاءُ أحَدِهما مخالِفةٌ في معانيها لأجزاءِ الآخَر، ثم يَرى أنَّه يَسَعُ في العقْلِ أن يكونَ معنى أحَدِ الكلامَيْن مثْلَ معنى الآخر، سواء حتى يقعد فيقولُ1: "إِنه لو كانَ يكونُ الكلامُ فَصيحاً مِن أجْل مزيَّةٍ تكونُ في معناه، لكانَ يَنبغي أَن تُوجَد تلكَ المزيةُ في تفسيرهِ". ومثْلُه في العَجَب أنه يَنظُرُ إِلى قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُم} [البقرة: 16]، فيرَى إعرابَ الاسْم الذي هو "التجارةُ"، قد تغيَّر فصارَ مرفوعاً بعد أن كان مجروراً، ويرى أنهن قد حُذِفَ من اللفظ بعضُ ما كان فيهِ، وهو "الواوُ" في "ربحوا"، و "في" من قولنا: "في تجارتهم"، ثم لا يَعْلَم أنَّ ذلك يَقْتضي أنْ يكونَ المعنى قد تَغيَّر كما تغيَّر اللفظُ. الكلام الفصيح قسمان: مزية اللفظ ومزية النظم 504 - واعلمْ أَنه ليسَ للحِجَجِ والدلائل في صحَّةِ ما نحنُ عليه حَدٍّ ونهايةٌ، وكلَّما انتهى منه بابٌ انفتَحَ فيه بابٌ آخر، وقد أردتُ أن آخذَ في نوعٍ آخرَ من الحِجَاج، ومن البَسْط والشرحِ، فتأملْ ما أكْتبُه لك. 505 - إعلمْ أَنَّ الكلامَ الفصيحَ ينقسمُ قسمين: قسمٌ تُعزى المزيةُ والحسْنُ فيه إِلى اللفظِ وقسمٌ يعزى ذلك فيه إلى النظم2.

_ 1 في المطبوعة وحدها: "حى يتصدى فيقول"، وفي هامش "س" عن نسخة: "يقصد". 2 يستمر الإمام عبد القاهر في كلامه، عن القسم الأول حتى ينتهي إلى رقم: 532، ثم يبدأ الكلام عن البقسم الثاني.

القسم الأول: "الكناية" و"الاستعارة" و"التمثيل على حد الاستعارة" فالقسم الأول: "الكناية" و "الاستعارة" و "التمثيل الكائن على حَدِّ الاستعارة"، وكلُّ ما كان فيه، على الجملةِ، مَجازٌ واتساعٌ وعُدُولٌ باللفظ عن الظاهر، فما مِنْ ضَرْبٍ من هذه الضُّروب إلاَّ وهو إِذا وقَعَ على الصواب وعلى ما يَنْبغي، أوْجَبَ الفضْلَ والمزيَّةَ. فإِذا قلتَ: "هو كثيرُ رمادِ القدْر"، كان له موقِعٌ وحظٌّ من القَبول لا يكون إِذا قلتَ: "هو كثيرُ القِرى والضِّيافة". وكذا إِذا قلتَ: "هو طويلُ النِّجاد"، كان له تأثيرٌ في النفس لا يكون إِذا قلتَ: "هو طويلُ القامة". وكذا إِذا قلتَ: "رأيتُ أسداً"، كان له مزيةٌ لا تكونُ إِذا قلتَ: "رأيتُ رجلاً يُشبهُ الأسدَ ويُساويه في الشجاعة". وكذلك إِذا قلتَ: "أَراكَ تُقَدِّمُ رِجْلاً وتؤخِّرُ أخرى"، كان له موقعٌ لا يكون إِذا قلت: "أراد تتردَّدُ في الذي دعوتُكَ إِليه، كمَنْ يقولُ: أَخرجُ ولا أخرجُ، فيُقدِّم رِجْلاً ويؤُخِّر أُخرى". وكذلك إِذا قلتَ: "أَلقى حبْلَه على غاربه"، كان له مأخَذٌ من القَلْب لا يكونُ إِذا قلتَ: "هو كالبعيرِ الذي يُلْقَى حَبْلُه على غاربة حتى يَرْعى كيْفَ يشاءُ ويذهَبَ حيثُ يُريد". لا يَجْهَلُ المزيةَ فيه إلاَّ عديمُ الحِسِّ ميِّتُ النَّفْس، وإلاَّ مَنْ لا يكلم، لأنه من مبادئ المعرفةِ التي مَن عَدِمَها لم يَكنْ للكلام معه معنى.

النظر في "الكناية": 506 - وإذْ قد عرفْتَ هذه الجملةَ، فينبغي أنْ تنظر إلى هذ هالمعاني واحداً واحداً، وتعْرِفَ مَحْصولَها وحقائقَها، وأنْ تَنظُرَ أولاً إِلى "الكنايةِ"، وإِذا نظرْتَ إِليها وجدْتَ حقيقتهَا ومحْصولَ أمرِها أَنها إثباتٌ لِمعنىً، أنتَ تَعْرِفُ ذلك المعنى مِنْ طريقِ المعقولِ دونَ طَريق اللفظ. ألاَ ترى أَنكَ لَمَّا نظرْتَ إلى قولهم: "هو كثيرُ رَمادِ القِدْر"، وعرفْتَ منه أنَّهم أرادوا أَنه كثيرُ القِرى والضِّيافة، لم تعرِفْ ذلك مِنَ اللفظِ، ولكنَّك عرفْتَه بأن رجَعْتَ إِلى نَفْسك فقلتَ: إِنه كلامٌ قد جاء عنهم في المدح، ولا معنى للمدح بكثرة الرمادِ، فليس إِلا أَنَّهم أرادوا أن يَدلُّوا بكَثرْة الرماد على أَنه تُنْصَبُ له القدورُ الكثيرةُ، ويُطْبخ فيها للقِرى والضيافةِ، وذلك لأَنه إِذا كَثُرَ الطبخُ في القدورِ كثُرَ إحراقُ الحطَبِ تَحتَها، وإِذا كثُرَ إِحراقُ الحطَبِ كَثُرَ الرمادُ لا محالة. وهكذا السبيلُ في كلِّ ما كانَ "كنايةً" فليسَ مِنْ لَفْظِ الشعر عرفتَ أنَّ ابنَ هَرْمة أرادَ بقوله: ولا أبتاعُ إِلاَّ قريبةَ الأجَلِ1 التمدُّحَ بأنه مضيافٌ، ولكنك عرفْتَه بالنَّظرِ اللطيفِ، وبأنْ علِمْتَ أنه لا معنى للتمدُّح بِظاهرِ ما يَدُلُّ عليه اللفظُ من قُرْبِ أجَلِ ما يَشْتريهِ، فطلبْتَ له تأويلاً، فعلمْتَ أَنه أرادَ أنه يَشْتري ما يَشْتريهِ للأَضياف، فإِذا أشترى شاةً أو بعيراً، كان قد اشترى ما قد دَنا أجلهُ، لأنه يُذْبحُ ويُنْحرُ عن قَريبٍ. النظر في "الاستعارة": 507 - وإذا قد عرفْتَ هذا في "الكناية"، "فالاستعارةُ" في هذه القضية2. وذاكَ أنَّ موضوعَها على أنك تثبت بها معنى لا يعرف السامع ذاك المعنى من اللفظِ، ولكنَّه يَعرفُه من معنى اللفظ.

_ 1 مضى الشعر برقم: 502، ص: 426، تعليق: 1 2 "في هذه القضية"، يعني أنه القول في "الاستعارة" مشابه للقول في "الكناية".

بَيانُ هذا، أَنَّا نَعْلم أَنَّك لا تقولُ، "رأيتُ أسداً"، إِلاَّ وغَرضُكَ أَن تُثْبِتَ للرجُل أَنه مساوٍ للأَسد في شجاعته وجُرْأته، وشدَّة بطْشه وإقدامه، وفي أنَّ الذعْرَ لا يُخامرُه، والخوف لا يعرف له. ثم تَعْلم أَنَّ السامعَ إِذا عَقَل هذا المعنى لم يَعقِلْه من لفظِ "أسَد"، ولكنَّه يَعقِلُه من معناه، وهو أنه يَعْلم أَنه لا معنى لجعله "أسداً"، مع العلم بأنه "رجُل" إلاَّ أنك أردْتَ أنه بلغَ من شدة مشابهته للأسد وماواته إِياه، مبْلغاً يُتَوهَّم معه أَنه أَسدٌ بالحقيقة، فاعرفْ هذه الجملة وأحسن تأملها. الاستعارة، يراد بها المبالغة لا نقل اللفظ عما وضع له في اللغة: 508 - واعلمْ أَنكَ تَرى الناسَ وكأنهم يرَوْن أَنك إِذا قلتَ: "رأيتُ أسَداً"، وأنتَ تُريد التشبيهَ، كنتَ نقلْتَ لفْظَ "أسدٍ" عما وُضع له في اللغة، واستعملْتَه في معنى غيرِ معناه، حتى كأنْ ليس "الاستعارةُ" إلاَّ أن تَعْمدَ إِلى اسْم الشيءِ فتجعلَه اسماً لشبيههِ، وحتى كأن لا فصل بين "الاستعارة"، وبين تسمة المطرِ "سماءً"، والنَّبتِ "غيثاً"، والمزادةِ "راوية"، وأشباهِ ذلك مما يوقع فيه اسم الشء على ما هو منه بسبَبٍ، ويَذْهبون عمَّا هو مركوزٌ في الطِّباع من أنَّ المعنى فيه المبالَغةُ1، وأَنْ يُدَّعى في الرجُل أَنه ليسَ برجُل، ولكنه أَسدٌ بالحقيقة، وأَنه إِنما يُعار اللفظُ مِنْ بَعْد أنْ يعارَ المعنى، وأَنه لا يُشْرَكُ في اسم "الأسدِ"، إلاَّ مِنْ بَعْد أن يُدْخَل في جنس الأَسدِ. لا تَرى أحداً يَعْقِل إِلاَّ وهُو يَعْرفِ ذَلك إِذا رجعَ إِلى نفسه أدنى رُجوعٍ. ومِن أجْل أَنْ كانَ الأمرُ كذلك، رأيتَ العقلاءَ كلَّهم يُثْبِتون القولَ بأنَّ مِن شأْنِ "الاستعارةِ" أن تكونَ أبداً أَبلغَ من الحقيقة، وإِلا فإن كان ليس

_ 1 في المطبوعة وحدها: "المعنى فيها".

ههنا إِلا نقْلُ اسْم من شيءٍ إِلى شيءٍ، فمِنْ أينَ يَجبُ، ليتَ شعري، أَن تكونَ الاستعارةُ أبلغَ من الحقيقة، ويكونَ لِقَوْلنا: "رأيتُ أَسداً"، مزيةٌ على قولنا: "رأيتُ شبيهاً بالأسد"؟ وقد علمنا أنه محال أن يتغر الشيء في نسه، بأن يُنْقَل إِليه اسْمٌ قد وُضِع لِغيره1، من بَعْد أنْ لا يُرادَ مِن معنى ذلك الاسْم فيه شيءٌ بوجْهٍ من الوجوهِ2، بل يُجعلَ كأنه لم يُوضَعْ لذلك المعنى الأصليِّ أصْلاً. وفي أيِّ عَقْلٍ يُتَصوَّر أَنْ يتغيرَ معنى "شبيهاً بالأسد"، بأنْ يُوضَع لفظُ "أسدٍ" عليه، ويُنْقَلَ إِليه؟ 509 - واعلمْ أنَّ العقلاءَ بنوا كلامهم، إذا قاسموا وشبَّهوا، على أنَّ الأشياءَ تستحِقُّ الأَسامي لِخَواصِّ معانٍ هي فيها دونَ ما عَداها، فإِذا أثبتوا خاصة شيء لشيء، أثبتوا له أسم، فإِذا جعَلوا "الرجُلَ" بحيثُ لا تَنقصُ شجاعتُه عن شجاعةِ الأَسد ولا يَعدمُ منها شيئاً، قالوا: "هو أَسد" وإِذا وصَفوه بالتَّناهي في الخيرِ والخصالِ الشريفة، أو بالحُسْن الذي يَبْهَرُ قالوا: "هو مَلَكٌ" وإِذا وصَفُوا الشيءَ بغاية الطِّيبِ قالوا: "هو مِسْك". وكذلك الحُكْم أبداً. ثم إنَّهم إِذا استقْصَوْا في ذلك نفَوْا عن المشبَّه اسْمَ جنسِه فقالوا: "ليس هو بإنسانٍ، وإنما هو أسد"، و "ليس هو آدميّاً، وإِنما هو مَلكٌ"، كما قال الله تعالى: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيم} [يوسف: 31].

_ 1 "من بعد أن يراد" فبعد "يراد" أسقط كاتب "س" كلامًا كثيرًا جدًا حتى تنتهي إلى أواخر رقم: 530، فكتب: "من بعد أن يراد إذا جئت به صريحًا فقلت"، كلامًا متصلًا كما ترى. 2 أسقط كاتب "ج" لفظ "شيء".

ثم إنْ لم يُريدوا أَنْ يُخرجُوه عن جنسِه جملةً قالوا: "هو أسَدٌ في صورةِ إنسان" و "هو ملَكٌ في صورةِ آدميٍّ" وقد خرَجَ هذا للمتنبي في أحْسَنِ عبارةٍ، وذلك في قوله: نحنُ ركبٌ مِلْجِنّ في زِيّ ناسٍ ... فَوْقَ طَيْرٍ لها شُخُوصُ الجِمَالِ1 510 - ففي هذه الجملة بيانٌ لمن عَقَل أنْ ليستِ "الاستعارةُ" نْقْلَ اسْم عن شيءٍ إِلى شيءٍ، ولكنَّها ادِّعاءُ معنى الاسْمِ لشيءٍ، إِذ لو كانتْ نَقْلَ اسْمٍ وكان قولُنا: "رأيتُ أسداً"، بمعنى: رأيتُ شبيهاً بالأسد، ولم يكن ادِّعاءَ أَنه أسدٌ بالحقيقة لكانَ مُحالاً أنْ يُقال: "ليس هو بإنسانٍ، ولكنَّه أسدٌ" أو "هو أسدٌ في صورةِ إِنسان"، كما أنه محالٌ أن يقالَ: "ليس هو بإنسانٍ، ولكنَّه شبيهٌ بأَسد" أو يقالَ: "هو شَبيهٌ بأسَدٍ في صورة إِنسان". 511 - واعلمْ أَنه قد كثُرَ في كلامِ الناسِ استعمالُ لفظِ "النَّقْلِ" في "الاستعارة"، فمِنْ ذلك قولُهم: "إنَّ الاستعارةَ تعْليقُ العبارةِ على غير ما وُضِعَت له في أصْل اللغةِ على سبيل النَّقْل"2: وقال القاضي أبو الحسن3: "الاستعارةُ ما اكتُفيَ فيه بالاسْمِ المُستعار عن الأصليِّ، ونُقِلت العبارة فجعلت في مكان غيرها"4.

_ 1 هو في ديوانه: "ملجن"، الأجود أن تكتب "م الجن"، أي "من الجن"، وهو حذف في الحرف مشهور. 2 هذا هو نص لفظ الزماني في كتابه "النكت" في إعجاز القرآن"، ثلاث رسائل في إعجاز القرآن": 79. 3 هو القاضي الجرجاني، "أبو الحسن علي بن عبد العزيز"، صاحب "كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه". 4 هو نص كلام القاضي الجرجاني في الوساطة: 40 "طبعة صيدا"، وتما كلامه هو: "وملاكها: تقريب الشبه، ومناسبة المستعار له للمستعار منه، وامتزاج اللفظ بالمعنى حتى لا يوجد بينهما منافرة، ولا يتبين في أحدهما إعراض عن الآخر". وانظر ما سيأتي رقم: 514.

ومن شأْنِ ماَ غَمُضَ من المعاني ولَطُف، أن يصْعُبَ تصويرُه على الوجْه الذي هو عليه لعامَّةِ الناس، فيقَعَ لِذلكَ في العبارات التي يُعبَّر بها عنه، ما يُوهمُ الخطَأ، وإطلاقُهم في "الاستعارةِ" أنها "نقلٌ للعبارَةِ عمَّا وُضِعت له"، من ذلك1، فلا يَصِحُّ الأَخذُ به. وذلك أَنك إذا كنتَ لا تُطْلِقُ اسْمَ "الأَسد" على "الرجُلِ"، إلاَّ مِنْ بَعْد أن تُدْخِلَه في جنسِ الأُسود من الجهة التي بيَّنَّا، لم تَكنْ نقلْتَ الاسمَ عما وُضِعَ له بالحقيقةِ، لأنكَ إنما تكونُ ناقِلاً، إِذا أنْتَ أَخرجْتَ معناهُ الأَصْليَّ من أنْ يكونَ مقصودَكَ، ونفَضْتَ به يدَك. فأَمَّا أنْ تكون اقلًا له عن معناه، مع إرادةِ معناهُ، فمحالٌ متناقض. أمثلة على أن "النقل"، لا يتصور في بعض "الاستعارة": 512 - واعلمْ أنَّ في "الاستعارةِ" ما لا يُتصوْر تقديرُ النقلِ فيه البتَّةَ، وذلك مثلُ قولِ لبيد: وغداة ربح قد كشفت وقرة ... إذا أصبحت بيد الشمال زمامها2

_ 1 السياق: "وإطلاقهم في الاستعارة ... من ذلك". 2 هو في ديوانه، وقد سلف برقم: 60.

"اليد" قد نُقِلِ عن شيءٍ إلى شيءٍ. وذلك أَنه ليس المعنى على أَنَّه شبَّه شيئاً باليد، فيمُكِنُكَ أن تزعُمَ أنه نقَل لفظ "اليد" إليه، وإنما لامعنى على أَنه أَراد أنْ يُثْبتَ للشَّمال في تصريفِها "الغداةَ" على طبيعتِها، شَبَهَ الإِنسان قد أَخذَ الشيءَ بيدِهِ يُقَلِّبهُ ويُصرِّفُه كيفَ يُريد. فلما أَثبتَ لها مثْلَ فعلِ الإنسانِ باليدِ، استعارَ لها "اليدَ". وكما لا يُمكِنُكَ تقديرُ "النقلِ" في لفظِ "اليَدِ"، كذلك لا يمكنْكَ أنْ تَجْعل الاستعارةَ فيه من صفةِ اللفظِ، ألا تَرى أَنه محالٌ أن تقول: إنه استعارَ لفظَ "اليد" للشَّمال؟ وكذلك سبيلُ نَظائرِه، مما تَجدُهم قد أَثبتُوا فيه للشيءِ عُضْواً مِن أعضاءِ الإِنسان، من أجْل إثباتهم له المعنى الذي يكونُ في ذلك العضو من الإنسان كبيت الحماسة: إِذا هزَّهُ في عظْم قرنٍ تهلَّلتْ ... نواجذُ أفواهِ المنَايا الضواحِكِ1 فإنَّه لمَّا جعَل "المنايا" تضحَكُ، جعَل لها "الأَفواهَ والنواجِذَ" التي يكونُ الضحك فيها وكبيت المتنبي: خَميسٌ بِشَرْقِ الأرضِ والغَرْبِ زَحْفُهُ ... وفي أُذُنِ الجَوْزاءِ منهُ زَمَازِمُ2 لمَّا جعَل "الجوزاءَ" تَسْمعُ على عادتِهم في جعْل النجومِ تَعْقِلُ، ووصْفِهم لها بما يوصف به الأناسيُّ أثْبَتَ لها "الأُذُنَ" التي بها يكونُ السمع من الأناسي.

_ 1 الشعر لتأبط شرًا، وهو في شرح الحماسة للتبريزي 1: 49، والضمير في "هزه" للسيف في البيت قبله. 2 هو في ديوانه.

513 - فأنت الآن لاتستطيع أن تزعُمَ في بيت الحماسة أنه استعارَ لفظَ "النواجذ" ولفظَ "الأفواه"، لأَن ذلك يُوجب المُحالَ، وهو أنْ يكونَ في المنايا شيءٌ قد شبَّهة بالنواجِذ، وشيء قد شبَّهه بالأفواه، فليس إلاَّ أن تقولَ: إنه لمَّا ادَّعى أن المنايا تُسَرُّ وتَسْتبشر إِذا هو هزَّ السيف، وجعلهخا لسرورها بذلك تضحُكُ1 أرادَ أن يبالغَ في الأمر، فجعلها في صورةِ مَنْ يضحك حتى تَبدوَ نواجذُهُ من شدَّة السرورِ. وكذلك لا تستطيعُ أنْ تَزعُمَ أَنَّ المتنبي قد استعارَ لفظَ "الأُذُن"، لأَنه يُوجبُ أن يكونَ في "الجوزاءِ" شيءٌ قد أرادَ تشبيهَهُ بالأذن. وذلك من شنيع المحال. تحقيق في معنى "الاستعارة": 514 - فقد تبيَّن من غيرِ وجهٍ أنَّ "الاستعارةَ" إنما هي ادَّعاءُ معنى الاسم للشيء، لا تقل الاسم عن الشيء. وإذا ثبتَ أنها ادِّعاءُ معنى الاسم للشيء، علمتَ أنَّ الذي قالوه من "أنها تعليقٌ للعبارة على غير ما وضعت له في اللغة، وقل لها عمَّا وضعتْ له"2 كلامٌ قد تسامحوا فيه، لأَنه إذا كانتِ "الاستعارةُ" ادعاءَ معنى الاسم، لم يكن الاسمُ مُزالاً عمَّا وُضع له، بل مقرًا عليه. تفسير معنى "جعل" في الكلام وفي القرآن: 515 - واعلمْ أنك تراهُمْ لا يمتنعونَ إذا تكلَّموا في "الاستعارةِ" من أنْ يَقولوا: "إنه أرادَ المبالغةَ فجعلَه أسداً"، بل هُمْ يلجأون إلى القول به. وذلك صريحٌ في أنَّ الأصْل فيها المعنى، وأنه المستعارُ في الحقيقة، وأن قولَنا: "استعيرَ له اسمُ الأسَدَ"، إشارةٌ إلى أنه استُعير له معْناه، وأنه جُعِل إياهُ.

_ 1 السياق: "إنه لما ادعى ... أراد أنه يبالغ". 2 انظر الفقرة السالفة رقم: 511.

وذلك أنا لو لم نَقْلْ ذلك، لم يَكُنْ "لجُعِلَ" ههنا معنى، لأنَّ "جعل" لا يَصْلُحُ إلاَّ حيثُ يُراد إثباتُ صفةٍ للشيء، كقولِنا: "جعلْتُه أميراً" و "جلعته لِصّاً" تريدُ أنَّك أثبَتَّ له الإِمارة، ونسبْتَه إلى اللصوصيَّة وادَّعَيْتَها عليه ورمَيْتَه بها. وحكْمُ "جعَل"1، إذا تعدَّى إلى مفعولين، حكْمُ "صَيَّر"، فكما لا تقول" صيَّرْته أميراً"، إلا على معنى أنك أثبَتَّ له صفةَ الإِمارة، كذلك لا يَصِحُّ أن تقولَ: "جعلته أسداً"، إلا على معنى أنك أثبت له المعنى الأسد2. وأمَّا ما تَجدُه في بعضِ كلامِهم من أن "جَعَل" يكونُ بمعنى "سَمَى"، فمما تَسامحوا فيه أيضاً، لأنَّ المعنى معلومٌ، وهو مثْلُ أن تَجِدَ الرجُلَ يقولُ: "أنا لا أسَمِّيه إنساناً"، وغرضُه أن يقولَ: إني لا أُثْبِتُ له المعانيَ التي بها كان الإِنسان إنساناً، فأما أن يكون "جعل" في معنى "سمَّى"، هكذا غُفلاً، فمما لا يخفى فسادُه. ألاَ تَرى أنك لا تَجِدُ عاقِلاً يقول: "جعلتُه زيداً"، بمعنى: سمَّيْتُه زيداً ولا يقال للرجل: "إجْعَل ابنَك زيداً"، بمعنى: سمِّه زَيْدا و "وُلِدَ لفلانٍ ابنٌ فجعَلَه عبدَ الله"، أي: سمَّاه عبدَ الله3. هذا مَا لا يَشُكُّ فيه ذو عقلٍ إذا نَظَر. 516 - وأكثَرُ ما يكون منهم هذا التسامحُ، أعني قولَهم إنَّ "جعَل" يكون بمعنى "سمَّى" في قوله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ

_ 1 قد سلف كلامه في "جعل" في رقم: 438 - 440. 2 أسقط كاتب "ج" من أول "صفة الإمارة" إلى قوله هنا: "أثبت له" سهوًا، ففسد الكلام. 3 قد مضى الكلام في معاني "جعل"، فيما سلف رقم: 438 - 440.

إِنَاثًا} [الزخرف: 19]، فقد تَرى في التفسيرِ أنَّ "جعلَ" يكون بمعنى "سمَّى"، وعلى ذاك فلا شبْهةَ في أنْ ليس المعنى على مجرَّدِ التسمية، ولكنْ على الحقيقة التي وصفْتُها لكَ. وذاكَ أنَّهم اثْبَتوا للملائكةِ صفةَ الإناثِ واعتقدوا وُجودَها فيهم، وعن هذا الاعتقادِ صدرَ عنهم ما صدَر من الاسْم أعني إطلاقَ اسْمِ "البنات" وليس المعنى أنهم وضعوا لها لفظَ "الإناثِ" ولفظَ "البناتِ"، من غير اعتقادِ معنى وإثباتِ صفةٍ. هذا محالٌ. 517 - أوَ لا تَرى إلى قولهِ تعالى: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلون} [الزخرف: 19]، فلو كانوا لم يَزيدوا على إجراءِ الاسْمِ على الملائكة، ولم يَعتِقدوا إثباتَ صفةٍ لما قال الله تعالى: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ}. هذا ولو كانوا لم يَقْصِدوا إثباتَ صفةٍ، ولم يكنْ غيرَ أن وَضَعوا اسْماً لا يُريدونَ به معنىً، لَمَا استحقُّوا إلاَّ اليسيرَ من الذَّم، ولما كان هذا القولُ منهم كُفْراً. والتفسيرُ الصحيحُ والعبارةُ المستقيمةُ، ما قاله أبو إسحاقٍ الزجَّاج رحِمَه الله، فإِنه قال: إن "الجعلَ" ههنا في معغنى القَوْلِ والحُكْمِ على الشيء، تقول: "قد جَعَلْتُ زيداً أعلمَ الناسِ"، أي وصفْتَه بذلك وحكمْتَ به1. تعرف "الاستعارة" من طريق المعقول دون اللفظ، وكذلك "الكناية": 518 - ونَرجع إلى الغرَض فنقولُ: فإِذا ثَبَتَ أنْ ليستِ "الاستعارةُ" نَقْلَ الاسْمِ، ولكنْ ادعاءَ معنى الاسْم وكنَّا إذا عقَلْنا من قولِ الرجُلِ: "رأيتُ أسداً"، أنه أرادَ به المبالَغَةَ في وصْفِه بالشجاعة، وأنْ يقولَ: إنَّه مِنْ قُوَّةِ القلب، ومن فَرْط البَسالةِ وشدَّة البطْشِ، وفي أنَّ الخوفَ لا يخامِرُهُ، والذُّعْرَ لا يَعْرِضُ

_ 1 انظر الفقرة السالفة: 440، وما قبلها.

له، بحيثُ لا يَنْقصُ عن الأسَد1 لم نعقل ذلك من لفظ "أسد"، لكن مِنَ ادِّعائه معنَى الأسد الذي رآه2 ثبت بذلك أنَّ "الاستعارةَ" كالكِنَاية، في أنَّك تَعْرِفُ المعنى فيها من طريف المعقول دون طريق اللفظ3. 519 - وإذا قد عرفت أن طريف العلم بالمعنى في "الاستعارة" و "الكناية" معاً، المعقولُ4، فاعلمْ أنَّ حكْمَ "التمثيلِ" في ذلك حكمهما، بل الأمرُ في "التمثيلِ" أظْهَرُ. وذلك أنه ليس مِن عاقلٍ يَشُكُّ إذا نظَر في كتابِ يزيدَ بنِ الوليد إلى مروان بن محمدٍ، حينَ بلغه أنه يتلكَّأ في بَيْعَته: "أما بَعْدُ، فإِني أراك تقدِّم رجْلاً وتؤخرُ أُخرى، فإِذا أتاكَ كتابِي هذا فاعْتمِدْ على أَيَّتِهما شئْتَ، والسلامُ". يعلم5 أنَّ المعنى أنه يقولُ له: بلَغني أنك في أمْرِ البَيْعة بين رأْيَيْن مختلفين، تَرى تارة أن نبايع، وأخرى أنْ تَمْتنع من البيعة، فإذا أتاك كتابي هذا فاعل على أيِّ الرأيين شئْتَ وإنه لم يَعْرف ذلك من لفْظِ "التقديمِ والتأخيرِ"، أوْ من لفظِ "الرِّجل"، ولكنْ بأنْ علمَ أنه لا معنى لتقديم الرجل

_ 1 السياق: "وكنا إذا عقلنا ... لم تعقل". 2 السياق من عند أول الفقرة: "فإذا ثبت أن ليست الاستعارة .... ثبت بذلك أن الاستعارة". 3 انظر ما قاله في الكناية من الفقرة رقم: 506 إلى آخر الفقرة: 511. 4 "المعقول" خبر "أن طريق العلم". 5 السياق: "إذا نظر يعلم، وهذا الخبر سلف في رقم: 63.

وتأخيرها في رَجُلٍ يُدْعى إلى البيعة، وإنَّ المعنى على أنه أرادَ أن يقولَ: إنَّ مثَلَكَ في تردُّدكَ بين أنْ تُبَايع، وبين أن تَمْتنعَ، مثَلُ رَجُلٍ قائمٍ ليذهَبَ في أمرٍ، فجَعَلَتْ نَفسُه تُريهِ تارةً أنَّ الصوابَ أنْ يذْهَبَ وأُخرى أنه في أنْ لا يَذْهَبَ فجعلَ يُقدّم رِجْلاً تارةً، ويُؤخِّر أُخْرى. 520 - وهكذا كلُّ كلامٍ كان ضرْبَ مثَلٍ، لا يَخْفى على مَنْ له أدنى تمييزٍ أنَّ الأغراضَ التي تكونُ للناس في ذلك لا تُعْرَف من الألفاظِ، ولكنْ تكونُ المعاني الحاصلةٌ من مجموعِ الكلام أدلَّةً على الأغراضِ والمقاصدِ. ولو كان الذي يكونُ غَرَضَ المتكلِّم يُعْلَم من اللفظِ، ما كان لِقولهم: "ضَرَبَ كذا مثلاً لكذا"، معنى، فما اللفظُ "يُضْرَبُ مَثَلاً" ولكنْ المعنى. فإِذا قلْنا في قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "إيَّاكم وخضراءَ الدِّمن" 1، إنَّه ضَرَبَ عليه السلامُ "خضراءَ الدِّمن" مثلاً للمرأة الحَسّناء في مَنْبت السوء، لم يكن المعنى أنه صلى الله عليه وسلم ضرَب لَفْظَ "خضراءِ الدِّمن" مثلاً. لها. هذا ما لا يَظُنُّه مَنْ بهِ مَسٌّ، فضلاً عن العاقل. 521 - فقد زالَ الشكُّ وارتفعَ في أنَّ طريقَ العلْمِ بما يُراد إثباتُه والخُبر به في هذه الأجناس الثلاثةِ، التي هي "الكناية" و "الاستعارة" و "التمثيل" المعقولُ دونَ اللفظِ2، من حيثُ يكونُ القصْدُ بالإثبات فيها إلى معنى ليس

_ 1 هذا خبر مشهور، ولم يرد في شيء من دواوين السنة، ورواه الزامهرمزى بإسناده في "كتاب امثال الحديث" 126، من طريق: "أبي وجزة السعدي الشاعر "يزيد بن عبيد"، عن عطاء ابن يزيد الليثي، عن أبي سعيد الخدري". 2 "المعقول" خير قوله: "أن طريق العلم".

هو معنى اللفظِ، ولكنَّه معنىَ يُستَدلُّ بمعنى اللفظِ عليه، ويُسْتنبَطُ منه، كنحْوِ ما تَرى من أنَّ القصْد في قولهم: "هو كثيرُ رمادِ القِدْر"، إلى كَثْرة القِرى، وأنتَ لا تعرف ذلكَ من هذا اللفظِ الذي تَسْمَعُهُ، ولكنك تعرفه بأن تستبدل عليه بمعناه، على ما مَضَى الشرحُ فيه1. الفصاحة وصف للكلام بمعناه لا بلفظه مجردا: 522 - وإذْ قد عرفت ذلك، فينبغي أن يقالَ لهؤلاء الذين اعترضوا علينا في قولنا: "إنَّ الفصاحةَ وصفٌ يجب للكلام من أجل مزيةٍ تكونُ في معناه، وأنها لا تكونُ وصْفاً له من حيثُ اللفظُ مجرداً عن المعنى"، واحتجُّوا بأن قالوا: "إنَّه لو كان الكلامُ إِذا وُصِف بأنه فصيحُ، كان ذلك من أجل مزيةٍ تَكونُ في معناه، لوجَب أن يكونَ تفسيرُه فصيحاً مثله"2 أخبرونا عنكم3، أترونَ أنَّ مِن شأنِ هذه الأجناسِ، إذا كانت في الكلام، أن تكونَ له بها مزيةُ تُوجبُ له الفصاحةَ، أم لا ترون ذلك؟ فإِنْ قالوا: لا ترى ذلك لم يكلَّموا. وإن قالوا: نَرى للكلام، إذا كانتْ فيه، مزيةٌ تُوجِبُ له الفصاحةَ، قيل لهم: فأخبرونا عن تلك المزية، أتكونُ في اللفظ أم في المعنى؟ فإِن قالوا: في اللفظِ دخَلُوا في الجَهالة، من حيث يَلْزَمُ من ذلك أن تكونَ "الكنايةُ" و "الاستعارة" و "التمثيل" أوصافًا للفظ، لأنه لا يتصور أن

_ 1 انظر رقم: 505، 506. 2 انظر ما سلف رقم: 499، 504 وغيرها. 3 السياق: "فينبغي أن يقال لهؤلاء ..... أخبرونا عنكم".

تكون مزيتُها في اللفظِ حتى تكونَ أوصافاً له. وذلك مُحالٌ، من حيثُ يَعْلَمُ كلُّ عاقل أنه لا يُكنَّى باللفظ عن اللفظ، وأنه إنما يُكَنَّى بالمعنى عن المعنى. وكذلَك يَعْلَمُ أنه لا يُستعار اللفظُ مجرداً عن المعنى، ولكنْ يُستعار المعنى، ثُمّ اللفظُ يكون تِبْعَ المعنىـ على ما قدَّمْنا الشرحَ فيه1. ويَعلمُ كذلك أنه محالٌ أنْ يُضرَبَ "المثَلُ" باللفظ، وأنْ يكونَ قد ضُرِبَ لفظُ: "أراك تُقدِّم رِجْلاً وتؤخْر أخرى" مَثَلاً لتردُّده في أمر البَيْعة. وإن قالوا: هي في المعنى. قيل لهم: فهو ما أردْناكُم عليه، فدَعُوا الشكَّ عنكم، وانتبهوا من رقْدَتِكُمْ، فإِنه علْمٌ ضروريٍّ قد أدَّى التقسيمُ إليه، وكلُّ علْم كان كذلك، فإِنه يَجِبُ القَطْعُ على كلِّ سؤالٍ يُسْألُ فيه بأنه خطأ، وأن السائلُ ملّبوسٌ عليه. كشف الغلط في فصاحة الكلام: 523 - ثم إنَّ الذي يَعرف به وجْهَ دخولِ الغلطِ عليهم في قولِهم: "إنه لو كان الكلامُ يكونُ فصيحاً من أجْل مزيةٍ تكونُ في معناه، لوجَب أن يكونَ تفسيرُه فصيحاً مثْلَه"، هو أنك إذا نظرتَ إلى كلامهم هذا وجدْتَهم كأنَّهم قالوا: "إنه لو كانَ الكلامُ إذا كان فيه كنايةٌ أو استعارةٌ أو تمثيلٌ، كان لذلك فصيحاً، لوَجَب أن يكونَ إذا لمْ توجَدْ فيه هذه المعاني فصيحاً أيضاً". ذاك لأنَّ تفسيرَ "الكنايةِ" أن تتركها ونصرِّحَ بالمُكنَّى عنه فنقولَ: إنَّ المعنى في قولهم: "هو كثيرُ رمادِ القِدْر"، أنه كثيرُ القِرى وكذلك الحكْمُ في "الاستعارة"، فإِنَّ تفسيرها أن تتركها، ونصرِّحَ بالتشبيه فنقولَ في "رأيتُ أسداً": إنَّ المعنى: رأيتُ رجلاً يُساوي الأسدَ في الشجاعة وكذلك الأمر في "التمثيل"، لأن

_ 1 انظر ما سلف رقم: 519 وما بعده.

تفسيرَه أنْ نَذْكر المتمثَّل له فنقول في قوله: "أراكَ تقدِّم رجْلاً وتؤخِّر أُخرى": إنَّ المعنى أنه قال: أراكَ تتردَّد في أمر البَيْعة فتقولُ تارةً أفعلُ، وتارةً لا أفعلُ، كمن يُريدُ الذهابَ في وجْهٍ، فَتُرِيهِ نفسُه تارةً أنَّ الصوابَ في أنْ يذْهَبَ، وأُخرى أنه في أن لا يذهب، فهو يقدم رجلاً ويؤخِّر أُخرى1. وهذا خروجٌ عن المعقول، لأنه بمنزلةِ أن تقول لرجل قد نُصبَ لوصفِ علَّةً: "إنْ كان هذا الوصفُ يَجب لهذه العلةِ، فينبغي أن يجبَ مع عدمها". 524 - ثم إنَّ الذي استهواهُم، هو أنهم نظَروا إلى تفسيرِ ألفاظِ اللغة بعضِها ببعض، فلما رأَوْا اللفظَ إذا فُسِّرَ بلفظٍ، مثْلِ أنْ يقالَ في "الشَّرجب" إنه الطويلُ، لم يَجُزْ أن يكونَ في المفسَّر من حيثُ المعنى، مزيةٌ لا تكونُ في التفسير2 ظَنَّوا أنَّ سبيلَ ما نحن فيه ذلكَ السبيلُ، وذلك غَلَطٌ منهم، لأنه إنما كان للمفسَّر، فيما نحن فيه، الفضلُ والمزيَّةُ على التفسير، من حيث كانت الدلالةُ في المفسَّر دلالةَ معنى على معنى، وفي التفسير دلالة لفظٍ على معنى. وكان من المركوزِ في الطباعِ، والراسخِ في غرائِزِ العقولِ، أنه متى أُريد الدلالةُ على معْنى، فتُرك أنْ يُصرَّحَ به ويُذْكَر باللفظ الذي هو له في اللغة، وعُمد إلى معنى آخر فأُشير به إليه، وجُعل دَليلاً عليه3 كان للكلام بذلك حسْنٌ ومزيَّة لا يكونان إذا لم يُصنَع ذلك، وذكر بلفظه صريحًا.

_ 1 في المطبوعة: "فيقدم رجلًا". 2 السياق من أول الفقرة: "فلما رأوا اللفظ ذا فسر .. ظنوا". 3 السياق: "متى أُريد الدلالةُ على معْنى فتُرك أنْ يصرح به ... كان للكلام".

ولا يكونُ هذا الذي ذكرتُ أنه سببُ فضلِ المفسَّر على التفسير، من كونِ الدلالة في المفسَّر دلالةَ معنى على معنى، وفي التفسير دلالةَ لفظ على معنى1، حتى يكون لِلَّفظِ المفسَّر معنىً معلومٌ يَعرِفُه السامعُ، وهو غيرُ معنى لفظِ التفسير في نفسِه وحقيقتِه، كما تَرى من أنَّ الذي هو معنى اللفظ في قولهم: "هو كثيرُ رمادِ القدر"، غيرُ الذي هو معنى اللفظ في قولهم: "هو كثيرُ القِرى"، ولو لم يكن كذلك، لم يُتصوَّر أن يكون ههنا دلالة معنى على معنى. 525 - وإذا قد عرَفْتَ هذه الجملة، فقد حصَل لنا منها أنَّ المفسَّر يكون له دلالتانِ: دلالةُ اللفظِ على المعنى، ودلالةُ المعنى الذي دلَّ اللفظُ عليه على معنى لَفْظٍ آخَرَ ولا يكونُ للتفسيرِ إلاَّ دلالةٌ واحدةٌ، وهي دلالةُ اللفظِ، وهذا الفرقُ هو سببُ أنْ كان للمفسَّر الفضلُ والمزيةُ على التفسير. ومحالٌ أن يكونَ هذا قضيةَ المفسَّر والتفسير في ألفاظِ اللغة، ذاكَ لأنَّ معنى المفسَّر يكون دالًا مجهولاً عند السامع، ومحالٌ أن يكونَ للمجهول دلالةٌ. 526 - ثم إنَّ معنى المفسَّر يكون هو معنى التفسيرِ بعينه، ومحالٌ إذا كان المعنى واحداً أن يكون للمفسَّر فضلٌ على التفسيرِ، لأن الفضْلَ كان في مسألتنا بأنْ دلَّ لفظُ المفسَّر على معنىً، ثم دلَّ معناهُ على معنى آخرَ. وذلك لا يكونُ مع كونِ المعنى واحداً ولا يتصوَّر. بيانُ هذا: أنه محالٌ أنْ يقالَ إنَّ معنى "الشرجب" الذي هو المفسَّر، يكون دليلاً على معنى تفسيره الذي هو "الطويلُ" على وِزان قولِنا

_ 1 السياق: "لا يكون هذا الذي ذكرت ... حتى يكون ... ".

إنَّ معنى: "كثيرُ رمادِ القِدْرِ"، يدلُّ على معنى تفسيرِه الذي هو "كثيرُ القِرى"، لأمرَيْن: أحدهما: أنك لا تفسر طالشرجب" حتى يكونَ معناهُ مجهولاً عند السامعِ، ومحالٌ أن يكونَ للمجهول دلالةٌ. والثاني: أن المعنى في تفسيرنا "الشرجب" بالطويل، أن تعلم السامعَ أن معناه هو معنى الطويلِ بعينه. وإِذا كان كذلك، كان محالاً أن يُقال: إن معناه يدل على معنى الطويل، بل الذي يُعقَل أنْ يقالَ: إنَّ معناه هو معنى الطويلِ. فاعرفْ ذلك. 527 - وانظُرْ إلى لَعِب الغَفْلة بالقوم، وإلى ما رأَوا في مَنامهم من الأحلامِ الكاذبةِ! ولو أنهم ترَكُوا الاستنامةَ إلى التقليدِ، والأخذ بالهُوينا، وترْكِ النظر، وأشعروا قلوبهَم أنَّ ههنا كلاماً ينبغي أن يُصْغى إليه1 لَعلِموا، ولَعادَ إعجابُهم بأنفسِهم في سؤالِهم هذا وفي سائر أقوالهم، عجبا منها ومن تطويج الظنون بها. الوجوه التي تكون للكلام مزية: 528 - وإذا قد بَانَ سقوطُ ما اعتَرَضَ به القومُ وفُحْشُ غلَطِهم، فينبغي أن تَعلَم أنْ ليستِ المزايا التي تَجدها لهذهِ الأجناسِ على الكلامِ المتروكِ على ظاهرِهِ، والمبالغةُ التي تُحِسُّها2 في أنفُس المعاني التي يَقصِدُ المتكلِّم بخَبره إليها، ولكنها في طريق إثباتِه لها، وتقريرِه إياها، وأنَّك إذا سمعتهم يقولون: "إن من

_ 1 السياق: " ...... ولو أنهم تركوا الاستنامة .... لعلموا". 2 السياق: "فينبغي أن تعلم أن ليست المزايا .... في أنفس المعاني ... ".

شأنِ هذهِ الأجناسِ أن تُكْسِبَ المعانيَ مزيةً وفضلًا، وتوجب لها شرفًا ونبلًا، وأن تفحمها في نفوس السامعين"1 فإنهم لا يَعْنون أنفُسَ المعاني، كالتي يَقصِد المتكلِّمُ بخَبره إليها، كالقِرى والشجاعةِ والتردُّدِ في الرأي، وإنما يَعْنون إثْباتَها لما تُثْبَتُ له ويخبر بها عنه. فغّا جَعلوا للكنايةِ مزيةً على التَّصريحِ، لم يَجْعلوا تلكَ المزيةَ في المعنى المكنَّى عنه، ولكنْ في إثباته للذي يثبت له، وذلك أنَّا نَعْلَم أنَّ المعاني التي يُقْصَدُ الخَبرُ بها لا تتَغيَّر في أنفسِها بأن يُكنَّى عنها بمعانٍ سواها، ويُتْرَك أن تذكر بالألفاظ التي هي لها في اللغة. ومَنْ هذا الذي يَشُكُّ أنَّ معنى طولِ القامة وكثرةِ القِرى لا يتغيَّران بأن يُكنَّى عنهما بطولِ النجاد وكثرة رماد القدر، وتقدير التغير فيهما يُؤدي إلى أنْ لا تكونَ الكنايةُ عنهما، ولكنْ عن غيرِهما؟ 2. 529 - وقد ذكرتُ هذا في صدْرِ الكتاب3، وذكرتُ أنَّ السببَ في أنْ كان يكون للإِثبات إذا كان من طريقِ "الكنايةِ" مزيَّة لا تكونُ إذا كان من طريقِ التصريح4، أنك إذا كنَّيْتَ عن كثرةِ القِرى بكثرةِ رمادِ القدر، كنتَ قد أثبتَّ كثرةَ القِرى بإِثباتِ شاهدِها ودليلِها، وما هو علم على وجودها، وذلك

_ 1 السياق: "وأنك إذا سمعتهم يقولون ... فإنهم لا يعنون". 2 في هامش "ج"، بخطه كاتبها ما سأحاول أن أقرأه، لجور التصوير على الهامش، وهذا نصه: "إنما يكون الكلام كناية، إذا كان [دليلًا على] معنى له لفظ في اللغة موضوع [فلا يدل بهذا] اللفظ عليه، ولكن يدل بمعنى لفظ آخر عليه". هكذا قرأته على الجور الذي أدركه، فإن أحسنت فبحمد الله، وإبلا فإني استغفره واتوب إليه. 3 مضى في أول الكتاب من الفقرات رقم: 63 - 66. 4 السياق: " ... أن السبب في أن يكون للإثبات .... مزية .... أنك إذا كنيت".

لا مَحالةَ يكون أبلغَ من إثباتِها بنفسِها، وذلك لأَنه يكونُ سبيلُها حينئذٍ سبيلَ الدعوى تكونْ مع شاهدٍ. وذكرتُ أنَّ السببَ في أَنْ كانت "الاستعارةُ" أبلغَ من الحقيقةِ1، أنك إذا ادَّعيْتَ للرجُل أنه أسدٌ بالحقيقة، كان ذلك ,اشد في تسويته بالأسد في الشجاعة. ذاك لأنه محال أن يكون منَ الأُسود، ثم لا تكونُ له شجاعةُ الأُسودِ. وكذلك الحكْمُ في "التمثيل" فإِذا قلتَ: "أراكَ تُقدَّم رجْلاً وتؤخِّر أخرى"، كان أبلغَ في إثباتِ الترددِ له من أن تقول: "أنتَ كمن يقَدِّم رجلا ويؤخِّر أخرى". 530 - واعلمْ أنه قد يَهْجُسُ في نفسِ الإِنسان شيءٌ يظنُّ مِن أجْله أنه يَنبغي أنْ يكونَ الحُكْمُ في المزيَّة التي تحدُثُ بالاستعارةِ، أنها تَحْدُثُ في المُثْبَت دون الإثباتِ. وذلك أن تقول: إنَّا إِذا نظَرْنا إلى "الاستعارةِ" وجدناها إنما كانت أبلغَ من أجلِ أنها تدلُّ على قوَّةِ الشَّبه، وأنه قد تَناهَى إلى أنْ صارَ المشبَّه لا يتميَّزُ عن المشبَّهِ بهِ في المعنى الذي من أجلهِ شُبِّهَ به. وإذا كان كذلكَ، كانت المزيةُ الحادِثةُ بها حادثةً في الشَّبه. وإِذا كانتْ حادِثَةً في الشَبَه، كانت في المُثْبَت دونَ الإثباتِ. والجوابُ عن ذلك أنْ يقالَ: إن الاستعارةَ، لعَمْري، تقْتضي قوَّةَ الشَبهِ، وكونَه بحيثُ لا يَتميزُ المشبَّهُ عن المشبَّه به، ولكنْ ليس ذاك سببَ المزيةِ، وذلك لأنه لو كان ذاك سببَ المزيةِ، لكان ينبغي إذا جئت به صريحًا.

_ 1 هي في أول الكتاب رقم: 75 - 70.

فقلتَ1: "رأيتُ رجُلاً مساوياً للأسد في الشجاعةِ، وبحيثُ لولا صورتُه لظنْنتَ أنكَ رأيتَ أسداً"، وما شاكلَ ذلك من ضروبِ المبالغة أنْ تَجِد لكلامِكَ المزيةَ التي تَجدُها لقولك: "رأيتُ أسداً". وليس يَخْفى على عاقلٍ أنَّ ذلكَ لا يكونُ. 531 - فإنْ قال قائلٌ: إنَّ المزيَّة من أجْلِ أَنَّ المساواةَ تُعْلَم في "رأيتُ أسداً" من طريقِ المعنى، وفي "رأيتُ رجلاً مساوياً للأسد" من طريقِ اللفظِ. قيلَ: قد قلنا فيما تَقدَّم2، إنه محالٌ أن يتغيَّر حالُ المعنى في نفسه، بأنْ يكَنَّى عنه بمعنىً آخر، وأنه لا يُتصوَّر أنْ يتغيَّر معنى طولِ القامة بأن يكنى عنه بطول النِجاد، ومعنى كثرةِ القِرى بأنْ يكنَّى عنه بكثرةِ الرماد. وكما أنَّ ذلك لا يُتصوَّر، فكذلكَ لا يُتصوَّر أن يتغيَّر معنى مساواةٍ الرجلِ الأسدَ في الشجاعةِ، بأن يُكنَّى عن ذلك ويُدَلَّ عليه بأن تَجْعَله "أسداً". فأنتَ الآن إذا نظرت إلى قوله: فأسبلت لولؤا من نرجس وسقت ... وردًا وغضت على العُنَّابِ بالبَرَدِ3 فرأيته قد أفادَكَ أنَّ "الدمع" كان لا يحرم من شبه الؤلؤ،

_ 1 عند أول قوله: "إذا جئت به صريحًا" ينتهى ما أسقط كاتب "س"، حيث وصل الكلام في أواخر الفقرة رقم: 508، فكتب: "من بعد أن لا يرد إذا جئت به صريحًا، وانظر التعليق هناك. 2 انظر ما سلف رقم: 528. 3 هو للوأواء الدمشقي، في دويانه.

و "العين" من شبَه النرجس1 شيئاً، فلا تَحْسَبنَّ أنَّ سبب الحسن الذي تراه فيه، والأربحية التي تجدها عنده، أنه أفاذك ذلك فحسْبُ. وذاكَ أنك تستطيعُ أنْ تجيءَ به صريحاً فتقول: "فأسبَلَت دمعاً كأنه اللؤلُؤ بعينه، من عينِ كأنها النرجسُ حقيقة"، ثم لا تَرى من ذلك الحسْن شيئاً. ولكن اعلمْ أنَّ سبَب أنْ راقَك، وأَدْخَلَ الأريحيةَ عليك، أنه أفادكَ في إثباتِ شدَّة الشبةِ مزيَّة، وأوْجَدَك فيه خاصةً قد غُرِزَ في طبْع الإنسانِ أن يَرتاحَ لها2، ويَجِدَ في نفسِه هِزَّةً عندها، وهكذا حكْم نظائِرِه كقولِ أبي نواس: تَبْكي فتُذري الدرَّ عن نرجسٍ ... وتَلْطِمْ الوردَ بعناب3 وقول المتبني: بدَتْ قَمراً ومالتْ خُوطَ بانٍ ... وفاحَتْ عَنْبَراً ورنت عغزالًا4 إذا ظهر التشبيه في "الاستعارة" فبحت: 532 - واعلمْ أنَّ مِن شأنِ "الاستعارةِ" أنك كلما زدْتَ إرادتَكَ التشبيهَ إخفاءَ، ازدادتِ الاستعارةُ حُسْناً، حتى إنَّك تَراها أغْرَبَ ما تكونُ إذا كان الكلامُ قد أُلِّف تأليفاً إن أردتَ أن تُفْصح فيه بالتشبيه، خرجْتَ إلى شيءٍ تعافه النفس ويلفظه المسع، ومثال ذلك قول ابن المعتز:

_ 1 السياق: "أفادك أن الدمع كأن لا يحرم .... شيئًا"، وكان في المطبوعة وحدها "يحرم"، وقوله "لا يحرم" أي لا يسقط ولا ينقص منه شيئًا. 2 في "س": "قد عرف". 3 هو في ديوانه. 4 هو في ديوانه، وقد مضى برقم: 359.

أثمرت أغصان راحته ... لجناة الحُسْنِ عُنَّابا1 ألا تَرى أنك لو حملتَ نفسَك على أن تُظهرَ التشبيهَ وتُفصِحَ به، احتجَتْ إلى أن تقول: "أثمرتْ أصابعُ يدِه التي هيَ كالأغصانِ لطالبي الحُسْن، شبيهَ العُنَّاب من أطرافها المخضوبة"، وهذا ما لا تَخْفى غثاثَتُه. مِنْ أجْل ذلك كان موقِعُ "العنَّاب" في هذا البيتِ أحسَنَ منه في قوله: وعضَّتْ على العُنابِ بالبَرَد وذاك لأنَّ إظهارَ التشبيهِ فيه لا يقبح هذا القبح المفرد، لأنك لو قلْتَ: "وعضَّتْ على أطرافِ أصابعَ كالعنابِ بثغرٍ كالبَرَد"، كان شيئاً يُتكلَّم بمثلِه وإنْ كانَ مَرْذولاً. وهذا موضعٌ لا يَتبيَّنُ سره إلا من كان مهلب الطَّبْعِ حادَّ القريحةِ2. وفي الاستعارةِ علْمٌ كثيرٌ، ولطائِفُ معانٍ، ودقائقُ فروقٍ، وسنقولُ فيها إن شاء الله في موضع آخر. القسم الثاني: وهو الذي تكون فصاحته في النظم 533 - واعلمْ أنَّا حينَ أخذْنا في الجوابِ عن قولِهم: "إنَّه لو كان الكلامُ يكونُ فصيحاً مِن أجْل مزيَّةٍ تكونُ في معناه، لكانَ ينبغي أن يكونَ تفسيرُه فصيحاً مثلَه"3، قلْنا: "أَنَّ الكلامَ الفصيحَ ينقسمُ قسمين، قسمٌ تُعزى المزيةُ فيه إلى اللفظِ، وقسمٌ تُعْزى فيه إلى النظم"4، وقد ذكرنا في

_ 1 في ديوانه، في باب الفخر، وفي المطبوعة: "بجنان الحسن"، خطأ، وفي "ج": "لجناة الحب"، وهو لا شيء. 2 في "س" والمطبوعة: "ملتهب". 3 انظر رقم: 499، 504، 522. 4 انظر ما سلف رقم 508، وهذا موضع القسم الثاني.

القسمِ الأول من الحِجَج ما لا يَبْقى معه لعاقلٍ، إذا هو تأمَّلَها، شَكٌّ في بُطْلانِ ما تعَلَّقوا به، مِنْ أنه يَلْزَمُنا في قولِنا: "إنَّ الكلام يكونُ فَصيحاً مِن أجْل مزيةٍ تكونُ في معناه"1، أن يكونَ تفسيرُ الكلامِ الفصيحِ فصيحاً مثلَه، وأنَّه تَهُّوسٌ منهم، وتفحم في المحالات2. وأما القسمُ الذي تُعزى فيه المزيةُ إلى "النظْم"، فإِنَّهم إنْ ظنُّوا أنَّ سؤالَهم الذي اغترُّوا به يتجهُ لهم فيه، كان أمرُهم أعجَبَ، وكان جهلُهم في ذلك أغْرَبَ. وذلك أن "النظم"، كما بينا، إنما هو توخّي معاني النحو وأحكامِه وفروقِه ووُجوهه، والعملُ بقوانينه وأُصولِه، وليستْ معاني النحو معانيَ ألفاظ3، فيتصوَّر أن يكونَ لها تفسيرٌ. 534 - وجملةُ الأمر، أنَّ "النظْمَ" إنما هو أنَّ "الحمدَ" من قولِه تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} مبتدأ، و "لله" خبره، و "ربِّ" صفةٌ لاسم الله تعالى ومضافٌ إلى "العالمين" و "العالمينِ" مضافٌ إليه، و "الرحْمنِ الرحَيم" صفتانِ كالرَّبِ، و "مالكِ" من قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} صفة صفةٌ أيضاً، ومضافٌ إلى يوم. و "يومِ" مضافٌ إلى "الدين"، و "إياك" ضميرُ اسم الله تعالى، وهو ضميرٌ يقَعُ موقِعَ الاسمِ إذا كان الاسمُ منصوباً، معنى ذلك أنكَ لو ذكَرْت اسْمَ الله مكانه لقلت: "الله تعبد"، ثم إنَّ "نعْبدُ" هو المقتضي معنى النصْبِ فيه، وكذلك حكم {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} معطوف بالواو على جملة {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، و {الصِّرَاطَ}

_ 1 انظر ما سلف رقم: 506. 2 في المطبوعة وحدها: "في المجادلات". 3 في "س": "معاني لفظ"، وفي المطبوعة: "معاني الألفاظ".

مفعولٌ، و {الْمُسْتَقِيمَ} صفةٌ للصِراط، و {صِرَاطَ الَّذِينَ} بدل من {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}، و {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} صلة الذين، {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} صفة {الَّذِينَ}، و {الضَّالِّينَ} معطوفٌ على {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}. فانظرِ الآنَ هَلْ يتصوَّر في شيءٍ مِن هذه المعاني أن يكونَ معنى اللفظِ؟ وهل يكونُ كونُ "الحمدُ" مبتدأ معنى لفظِ "الحمد"؟ أم يكون كونُ "ربِّ" صفة وكونُه مضافاً إلى "العالمين" معنى لفظ "الرب"؟ 535 - فإِنْ قيلَ: إنه إنْ لم تكنْ هذه المعاني معانيَ أنفُسِ الألفاظِ، فإِنها تُعْلَمُ على كلِّ حال من ترتب الألفاظ، ومن الإعراب، فالبرقعة في "الدال" من "الحمد" يُعْلَم أنه مبتدأٌ، وبالجرِّ في "الباء" من "ربِ" يُعْلَم أنه صفة، وبالياء في "العالمينَ" يُعْلم أنه مضافٌ إليه، وعلى هذا قياسُ الكُلِّ. قيل: ترتيبُ اللفظ لا يكونُ لفظاً، والإعرابُ وإنْ كان يَكونُ لفْظاً، فإِنه لا يُتصوَّر أن يكونَ ههنا لفظانِ كلاهما علامةُ إعرابٍ، ثم يكونُ أحدُهُما تفسيراً للآخَر. وزيادةُ القولُ في هذا من خطَل الرأي، فإنه مما يعلمه العقال ببَديهةِ النظرِ، ومَنْ لَمْ يتنبَّهْ له في أوَّل ما يَسْمَع، لم يَكُنْ أهلاً لأنْ يكلم. ونعوذ إلى رأسِ الحديث فنقول. 536 - قد بطَلَ الآنَ من كلِّ وجهٍ وكلِّ طريقٍ، أنْ تكونَ "الفصاحةُ" وصْفاً لِلَّفظ من حيثُ هو لفظٌ ونطقُ لسانٍ، وإذا كان هذه صورةَ الحالِ وجملةَ الأمرِ، ثم لم تَرَ القومَ تفكَّروا في شيءٍ ممَّا شرحْناه بحالٍ، ولا أخطَرُوه لهم ببالٍ، بانَ وظهَر أنَهم لم يأتوا الأمرَ مِن بابِه، ولم يَطْلبُوه من مَعْدِنه، ولم يسلُكُوا إليه طريقَه، وأنهمْ لم يزيدوا على أنْ أوْهَموا أنفُسَهم وهماً كاذباً أنَّهم قد أبانوا

الوجْه الذي به كان القرآنُ معجِزاً، والوصفَ الذي به بانَ مِن كلام المخلوقينَ، مِنْ غيرِ أنْ يكونوا قد قالوا فيه قولاً يَشْفي من شَاكٍّ غليلاً، ويكونُ علَى عِلْمٍ دليلاً، وإلى معرفة ما قَصدوا إليه سبيلاً1. الردة على المعتزلة في مسألة "اللفظ": 537 - واعلمْ أنَّه إذا نظرَ العاقِلُ إلى هذه الأدلة فرأى ظهروها، استبعدَ أنْ يكونَ قد ظنَّ ظانٌّ في "الفصاحةِ" أنَّها مِن صفةِ اللفظِ صريحاً، ولعمري إنه لكذلك ينبغي، إلا أنا إنما تنظر إلى جِدِّهم وتَشدُّدِهم وبتِّهمُ الحُكْمَ "بأنَّ المعانيَ لا تتزايدُ، وإنما تتزايدُ الألفاظُ"2، فلئِنْ كانوا قد قالوا "الألفاظُ" وهم لا يُريدونها أنفُسَها، وإنما يريدون لطائفَ معانٍ تُفْهم مِنْها، لقد كان ينبغي أنْ يتَّبعوا ذلك مِن قولِهم ما ينبئ عن غرضهم، وأن يذكروا أنهم عتوا بالألفاظ ضرْباً من المعنى، وأن غرَضَهم مفهومٌ خاصٌّ. 538 - هذا، وأمرُ "النظم" في أنه ليس شيئاً غيرَ توخِّي معاني النحوِ فيما بينَ الكَلم، وأن ترتب المعاني في أنه ليس شيئاً غيرَ توخِّي معاني النحوِ فيما بين الكَلِم، وأنَّك تُرتِّبُ المعاني، أولاً في نفسِك، ثم تحذو على ترتيبها الألفاظَ في نُطْقك، وأنَّا لو فَرَضْنا أن تخلوا الألفاُظُ منَ المعاني، لم يُتصوَّر أنْ يَجبَ فيها نَظْمٌ وترتيبٌ3 في غاية القوَّة والظهورِ، ثم ترَى الذين لَهَجُوا بأمرِ "اللفظِ" قد أبَوْا إلا أن يجعلوا "النظم" في الألفاظ. ترى الرجُلَ منهم يَرى ويَعْلم أنَّ الإنسانَ لا يسَتطيعُ أن يجيءَ بالألفاظ مرتَّبةً إلاَّ من بعد أن يفكر في

_ 1 يعني بهذا القاضي عند الجبار المعتزلي وما كتبه في كتابه "المغني". 2 هذا نص مقالة القاضي عبد الجار المعتزلي، وقد مضى برقم: 55، ورقم: 466. 3 السياق: هذا، وأمر النظم ... في غاية القوة ... ".

المعاني ويرتِّبها في نفسه على ما أعلَمْناكَ، ثم تُفتِّشه فتَراهُ لا يَعرِفُ الأمرَ بحقيقتِه، وتَراه يَنظُر إلى حالِ السامعِ، فإِذا رأى المعانيَ لا تقَعُ مرتَّبةً في نفسِه إلاَّ من بعْدِ أن تقَعَ الألفاظُ مرتَّبة في سَمعِه، نسيَ حالَ نفسِه، واعتَبَر حالَ مَنْ يمسع منه1. وسبَبُ ذلك قِصَرُ الهمةِ، وضَعْفُ العنايةِ، وتركُ النظرِ، والأنسُ بالتقليد. وما يُغْني وضوحُ الدلالةِ مَعَ مَنْ لا ينظر فيها، وإن الصبح لملأ الأفقَ، ثم لا يَراه النائمُ ومَنْ قد أطْبَقَ جفْنَه؟ كلام العلماء في الفصاحة أكثره كالرمز والتعريض دون التصريح: 539 - واعلمْ أنكَ لا تَرى في الدنيا عِلْماً قد جرى الأمرُ فيه بَديئاً وأخيراً على ما جرى عليه في "علمٍ الفصاحةِ والبيانِ". اما البدئ، فهو أنَّك لا تَرى نوعاً من أنواع العلوم إلا وإذا تأملت كلام الأولين الذي عَلَّموا الناسَ، وجدْتَ العبارةَ فيه أكثرَ من الإِشارة، والتصريحَ أغلبَ من التلويج. والأمرُ في "علمِ الفصاحةِ" بالضِّدِّ مِن هذا. فإِنك إِذا قرأتَ ما قالَه العلماءُ فيه، وجدْتَ جُلَّه أو كُلَّهَ رمزاً ووَحْياً، وكنايةً وتعريضاً، وإيماءً إلى الغرض من وجْهٍ لا يَفْطِنُ له إلاَّ مَنْ غلغَلَ الفكْرَ وأدَّقَ النظَرَ، ومَنْ يَرجعُ من طَبْعه إلى ألْمَعيَّةِ يَقْوى معها على الغامِض، ويصلُ بها إلى الخفيِّ، حتى كان بَسْلاً حَراماً أن تتجلَّى معانيهم سافرةَ الأوجُهِ لا نِقابَ لها2، وباديةَ الصَّفحةِ لا حجابَ دونَها، وحتى كأنَّ الإفصاحَ بها حَرامٌ، وذكرَها إلاَّ على سبيل الكناية والتعريض غير سائغ.

_ 1 انظر ما سلف رقم: 492. 2 في "س": "بتلًا حرامًا" بالتاء، وقد مضى مثل ذلك في آخر رقم: 441.

وأمَّا الأَخيرُ، فهو أَنَّا لم نَرَ العقلاءَ قد رضُوْا مِن أَنفُسِهم في شيءٍ من العلوم أنْ يحفَظوا كلاماً للأَوَّلينَ ويتدارَسُوه، ويُكلِّمَ به بعضُهم بعضاً، مِنْ غَير أن يعرِفوا له معنى، ويقفوا منه على غرَضٍ صحيحٍ، ويكونَ عندهم، إن يسألوا عنه، بيانٌ له وتفسيرٌ1 إلاَّ "علمَ الفصاحةِ"، فإِنك تَرى طبقاتٍ منَ الناس يتداولونَ فيما بينهم أَلفاظاً للقدماء وعباراتِ، مِنْ غَير أنْ يعرِفوا لها معنًى أَصْلا، أَوْ يستطيعوا إن يسألوا عنها أن يذكروا لها تفسير يصح. بيان معان في وصف "اللفظ"، كقولهم "لفظ متمكن غير قلق": 540 - فمِنْ أقْرَبِ ذلك، أَنك تَراهم يقولون إذا هُمْ تكلَّموا في مزيَّةِ كلامٍ على كلامٍ: "إنَّ ذلك يكونُ بجزالةِ اللفظِ"2 وإِذا تكلَّموا في زيادةِ نظمٍ على نظمٍ: "إنَّ ذلك يكون لوقوعه على طريقة مخصوصة وعلى وجوه دونَ وجهٍ"3، ثمّ لا تَجدُهَم يُفسِّرون الجزالَةَ بشيء، ويقوون في المراد "بالطريقة" و "الوجه" ما يَحْلَى منه السامعُ بطائل. ويقرؤون في كُتب البلغاءِ ضُروبَ كلامٍ قد وَصفُوا "اللفظَ" فيها بأوصاف يعلم ضرورةً أَنها لا تَرْجعُ إليه من حيثُ هو لفظٌ ونُطْقٌ لسانٍ وصدى حرفٍ، كقولهم: "لفظٌ متمكِّنٌ غيرُ قَلقٍ ولا نابٍ به، مَوْضِعُه، وأَنَّه جيِّدُ السبْكِ صحيحُ الطابعِ، وأنَّه ليس فيه فضْلٌ عن معناهُ" وكقولهم: "إنَّ مِنْ حقِّ اللفظِ أنْ يكونَ طِبْقاً للمعنى، لا يَزيد عليه ولا يَنقُصُ عنه" وكقول بعْضِ مَنْ وصَفَ رجُلاً مِن البُلغاء: "كانت أَلفاظُه قوالبَ لِمعانيه"، هذا إذا مدَحوه وقَولِهم إذا ذَمُّوه: "هو لفظٌ معقَّدٌ، وإنَّه بتعقيده قد استَهْلكَ المعنى" وأشباهٌ لهذا4، ثم لا يخطر ببالهم أنه يجب أن

_ 1 السباق: "لم نر العقلاء رضوا عن أنفسهم في شيء من العلوم .... إلا علم الفصاحة". 2 هذا قول القاضي عبد الجبار المعتزلي في المغني 16: 198. 3 هذا أيضًا من كلام القاضي عبد الجبار. 4 السياق: "ويقرؤون في كتب البلغاء ... ثم لا يخطر".

يُطْلَب لِمَا قالوه معنًى، وتُعْلَمَ له فائدةٌ، ويَجْشَمَ فيه فكْرٌ، وأن يُعتقدَ على الجملة أقلُّ ما في الباب، أَنه كلامٌ لا يصِحُّ حَمْلُه على ظاهِره، وأن يكونَ المرادُ "باللفظِ" فيه نطْقَ اللسانِ. فالوصفُ بالتمكُّن والقَلَق في "اللفظ" محالٌ، فإنما يتمكَّنُ الشيءُ ويقْلَقُ إذا كان شيئًا يثبت في مكان، و "الألفاظ" حروف لا يجود مِنها حرفٌ حتى يعدَمَ الذي كان قبلَه. وقولُهم: "متمكِّنٌ" أو "قَلِقٌ" وصْفٌ للكلمةِ بأَسرها، لا حرفٍ حرْفٍ منها1. ثم إنه لو كان يَصِحُّ في حروفِ الكلمةِ أن تكونَ باقيةً بمجموعها، لكانَ ذلك فيها مُحالاً أيضاً، من حيثُ إنَّ الشيءَ إنما يتمكَّنُ وَيقْلقُ في مكانه الذي يُوجَد فيه، ومكانُ الحروفِ إنما هو الحَلْقُ والفمُ واللسانُ والشفتانِ، فلو كان يَصِحُّ عليها أنْ تُوصَف بأنها تتمكَّن وتقْلَقُ، لكانَ يكون ذلك التمكين وذلك القَلَقُ منها في أَماكنها مِنْ الحَلْق والفَم واللسانِ والشفتين. وكذلك قولُهم: "لفظٌ ليس فيه فضلٌ عن معناه"، محالٌ أنْ يكونَ المرادُ به "اللفظَ"، لأنه ليس ههنا اسمٌ أو فعلٌ أو حرفٌ يَزيد على معناهُ أو ينقُصُ عنه. كيف؟ وليس بالذَّرْع وضعت الألفاظ على المعاني2. وإذا اعتبْرنا المعانيَ المستفادةَ من الجمل، فكذلك. وذلك أنه ليس ههنا جملةٌ مِنْ مبتدإ وخَبرٍ أو فِعْل وفاعلٍ، يحصل بها الإثبات أو النفي، أثم أو أنقص مما يحصل باخرىز وإنما فضل اللفظ عن المعنى: أن تزيد الدلالةَ بمعنى على معنى، فتُدْخِلَ في أثناءِ ذلك شيئًا لا حاجة باملعنى المدلول عليه إليه.

_ 1 في المطبوعة: "لا حرف منها". 2 "الذرع" يعني به القياس بالذراع.

وكذلك السبيل في "السبك والطابَع" وأشباهِهما، لا يحُتَملُ شيءٌ من ذلك أن يكونَ المُرادُ به "اللفظَ" من حيثُ هو لفظٌ. مسألة "اللفظ" وغلبتها على المعتزلة وغيرهم: 541 - فإِن أردتَ الصدقَ، فإِنَّك لا تَرى في الدنيا شأناً أَعْجبَ من شأنِ الناسِ مع "اللفظ"، ولا فساد رأى مازج النفوس وخارمها واستحكم يها وصار كإحدى طبائعها، من رأيهم في "اللَّفظ". فقد بلَغَ من مَلَكتهِ لهم وقُوَّتهِ عليهم، أنْ تَرَكهم وكأنَّهم إذا نُوظِروا فيه أخذَوا عن أنفُسِهم، وغيَّبوا عن عقولهم، وحِيلَ بينَهم وبينَ أنْ يكونَ لهم فيما يَسْمعونَه نَظَرٌ، ويُرى لهم إيرادُ في الإِصغاء وصَدَرُ، فلستَ تَرَى إلاَّ نفوساً قد جَعلَتْ تَرْكَ النظرِ دأْبَها، ووَصَلَتْ بالهُوينا أَسبابَها، فهي تعتر بالأضاليلِ وتَتباعَدُ عن التحصيلِ، وتُلْقي بأيديها إلى الشَّبَه، وتُسْرعُ إلى القولِ المموَّه. 542 - ولقد بلغَ مِن قلَّة نظَرِهم أنَّ قوماً منهم لمَّا رَأَوْا الكُتُبَ المصنَّفةَ في اللُّغةِ قد شاعَ فيها أنْ تُوصفَ الألفاظُ المفردةُ بالفصاحةِ، ورأوا أبا العباس ثعلباً قد سمَّى كتاقبه "الفصيح"، ـ مع أنه لم يذكر فيه اللُّغةَ والألفاظَ المفردةَ، وكان مُحالاً إذا قيلَ: إنَّ "الشمَع" بفتح الميم، أفصحُ من "الشمْع" بإِسكانه، أن يكونَ ذلك من أجلِ المعنى، إذا ليس تُفيد الفتحةُ في الميم شيئاً في الذي سُمِّي به1 سبَقَ إلى قلوبهم أنَّ حُكْمَ الوصفِ بالفَصَاحة أَينما كان وفي أي شيءٍ كان، أن لا يكونَ له مرجِعٌ إلى المعنى البتةَ، وأَن يكونَ وصْفاً لِلفَّظِ في نفسه، ومِن حيثُ هو لفظٌ ونطقُ لسانٍ، ولم يعلموا أنَّ المعنى في وصْف الألفاظِ المفردةِ بالفصاحة، أنها في اللغة أثْبَتُ، وفي استعمال الفصحاء أكثر.

_ 1 السياق: "أنَّ قوماً منهم لمَّا رَأَوْا الكُتُبَ المصنَّفةَ .... سبق إلى قلوبهم".

أوْ أنها أَجْرى على مقاييس اللغةِ والقوانينِ التي وَضعوها. وانَّ الذي هو معنى "الفصاحةِ" في أصل اللغة، هو الإنابة عن المعنى، بدلالة قولهم: "فصيح" و "أعجم"، وقولهم: "أفصح الأعجمي"، و "فصح اللحان" و "أفصح الرجُلُ بكذا"، إذا صرَّحَ به وأَنه لو كان وصفهم الكلمات المفردة بالفصاحةِ من أجْل وصْفٍ هُوَ لَها من حيثُ هي ألفاظٌ ونطقُ لسان، لوجب إذا وجت كلمةٌ يقال إنها كلمةٌ فصيحةٌ على صفةٍ في اللفظِ، أن لا تُوجَد كلمةٌ على تلك الصفةِ، إلا وَجَبَ لها أن تكونَ فصيحةً1، وحتى يَجِبَ إذا كانت "فقهتُ الحديثَ" بالكسر أفصحَ منه بالفتح، أن يكونَ سبيلُ كلَّ فعلٍ مثْلِه في الزِّنَةِ أَنْ يكونَ الكَسرُ فيه أفْصَحَ من الفتح. ثم إنَّ فيما أودَعهُ ثعلبُ كتابَه، ما هو أفصَحُ، مِن أجْل أنْ لم يكُنْ فيه حرفٌ كان فيما جعلَهُ أفصَحَ منه2، مثْلُ إن "وقفت" أفصلح من "أَوْقَفْتُ"، أفتَرى أَنه حدَث في "الواو" و "القاف" و "الفاء" بأنْ لم يكن معها الهمزةُ، فضيلةٌ وجَبَ لها أن تكونَ أفصَحَ؟ وكفى برأيٍ هذا مؤدَّاهُ تَهافتاً وخَطلاً! وجملةُ الأمر أَنه لا بدَّ لقولِنا "الفصاحةُ" مِنْ معنًى يُعْرَفُ، فإنْ كان ذلك المعنى وصْفاً في ألفاظٍِ الكلمات المفردةِ، فينبغي أنْ يُشارَ لنا إليه، وتوضَعَ اليد عليه.

_ 1 أسقط كاتب "ج" من أول قوله: "على صفة في اللفظ"، إلى هنا. 2 عبارة الشيخ هنا كزة جدًا. يعني أن ثعلبًا أورد كلمات في كتابه، فقال: هذا أفصح من هذه، وفي أفصح الكلمتين، حرف ليس في الأخرى.

"الاستعارة"، تكون في معنى "اللفظ": 543 - ومن أَبْيَن ما يَدلُّ على قلةِ نَظَرِهم، أَنه لا شبْهةَ على مَن نَظَر في كتابٍ تُذْكَر فيه "الفصاحةُ"، أنَّ "الاستعارةَ" عنوانُ ما يُجْعَلُ به "اللفظُ" فصيحاً، وأن "المجازَ" جملته، و "الإيجاز" مِن مُعْظم ما يُوجِبُ لِلََّفظِ الفصاحةَ. وأنتَ تراهم يذكرون ذلك يعتمدونه، ثم يَذْهَبُ عنهم أنَّ إيجابَهم "الفصاحةَ" لِلَّفْظِ بهذه المعاني، اعترافٌ بصحةِ ما نحن نَدْعوهم إلى القولِ به، من أَنه يكونَ فصيحاً لمعناه. أمَّا "الاستعارةُ"، فإِنهم إنْ أَغْفَلوا فيها الذي قلنا، من أَنَّ المستعارَ بالحقيقةِ يكونُ معنى "اللفظِ"، واللفظُ تِبْعٌ، مِنْ حيثُ إنَّا لا نَقول: "رأيتُ أَسداً"، ونحنُ نَعْني رَجُلاً، إلاَّ على أنَّا ندَّعي أَنَّا رأينا أَسداً بالحقيقة، من حيثُ نَجْعلُه لا يتميزُ عن الأَسد في بأسه وبطشه وجزأه قلْبه فإِنهم على كلِّ حال لا يستطيعون أنْ يَجعلوا "الاستعارةَ" وصْفاً لِلَّفظِ مِن حيثُ هو لفظٌ، مع أَّنَّ اعتقادَهم أَنك إذا قلتَ: "رأيتُ أسداً"، كنتَ نقلْتَ اسْمَ "الأسدِ" إلى "الرجُلِ" أوْ جعلْتَه هكذا غُفْلاً ساذَجاً في معنى شجاعٍ. افتَرى أنَّ لفظَ "الأسدِ" لمَّا نُقِل عن السَّبُع إلى "الرجُلِ" المشبَّه به، أحدثَ هذا النقلُ في أجراسِ حروفهِ ومذاقَتِها وصْفاً صارَ بذلك الوصْفِ فصيحاً؟ 544 - ثم إنَّ من "الاستعارَة" قَبيلاً لا يَصِحُّ أنْ يكونَ المستعارُ فيه "اللفظَ" البتَّةَ، ولا يصِحُّ أن تَقعَ الاستعارةُ فيه إلاَّ على المعنى، وذلك ما كان مثْلَ "اليد" في قول لبيد: وغداة ربح قد كشفت وقرة ... إذا أصبحت بيد الشمال زمامها1

_ 1 قد سلف في الفقرة رقم: 512.

ذاك أنه ليس ههنا شيءٌ يَزْعمُ أَنَّه شبَّهَهُ باليد، حتى يكونَ لفظُ "اليد" مستعاراً له، وكذلك ليس فيه شيءٌ يُتَوهَّمُ أن يكونَ قد شبَّهه بالزِّمام، وإنما المعنى على أنه شبَّه "الشَّمالَ" في تصريفها "الغداةَ" على طبيعتها، بالإنسانِ يكون زمامُ البعيرِ في يَدِه، فهو يُصَرِّفُه على إرادته، ولمَّا أرادَ ذلك جَعَل للشَّمالِ يداً، وعلى الغداة زماماً. وقد شرحْتُ هذا قبْلُ شرْحاً شافياً1. 545 - وليس هذا الضربُ من الاستعارة بدُون الضربِ الأولِ في إيجابِ وصْفِ "الفصاحةِ" للكلام، لا بَلْ هو أَقوى منه فيِ اقتضائها. والمَحاسِنُ التي تَظهرُ به، والصورُ التي تَحْدثُ للمعاني بسببه، آنقُ وأعجبُ. وإنْ أردتَ أن تَزْداد عِلماً بالذي ذكرتُ لكَ من أمرِهِ، فانظرْ إلى قوله: سقته كف الليل أكواس الكَرى2 وذلك أنَه ليس يَخْفى على عاقلٍ أنه لم يُرد أن يُشبِّه شيئاً بالكفِّ، ولا أراد ذلك في "الأكواس" ولكن لما كان يقال: "سكر الكرى" و "سكر النوم"، استعار للكرى "الأكواس"، كما استعار الآخَرُ "الكأْسَ" في قوله: وقد سَقَى القومَ كأسَ النعسةِ السَّهَرُ3 ثم إنه لمَّا كان الكَرى يكونُ في الليل، جعلَ الليلَ ساقياً، ولمَّا جَعلَه ساقياً جعلَ له كفًا، إذا كان الساقي يناول الكأس بالكف.

_ 1 انظر ما سلف، الفقرة رقم: 512. 2 لم أعرف قائله. وهكذا هو "ج" و "س"، والمطبوعة هنا، وفيما سيأتي، وهو بلا شك جمع "كأس"، وكأنه سهل الهمزة ثم جمع "كاسًا" على "أكواس". 3 الشعر لأبي دهبل الجمحي، وهو في ديوانه، وروايته: "كأس النشوة"، وصدر البيت: أقول والركب قد مالت عمائمهم

546 - ومن اللطيفِ النادِرِ في ذلَك، ما تراهُ في آخِرِ هذه الأبياتِ، وهي للحَكَم بْنِ قنبر: ولَوْلا اعْتِصامي بالمُنَى كلَّما بَدا ... ليَ اليأسُ منها، لم يَقُمْ بالهَوى صَبْري ولَوْلا انْتِظاري كل يوم جدي غدٍ، ... لراحَ بِنَعْشِي الدّافِنونَ إلى قَبْري وقَدْ رايني وَهْنُ المُنى وانِقباضُها ... وبَسْطُ جديدِ اليأسِ كَفَّيْهِ في صدْري ليس المعنى على أَنه استعارَ لفظَ "الكفينِ" لشيءٍ، ولكنْ على أنه أرادَ أنْ يَصِفَ اليأسَ بأنَّه قد غلَب على نفسِه، وتمكَّن في صدْرِه، ولمَّا أرادَ ذلك وصفه بما يصفون فيه الرجل بفضل القدرة على الشيء1، وبأنه ممكن منه، وأن يَفْعلُ فيه كلَّ ما يريدُ2، كقولهم: "قد بَسطَ يديهِ في المال يُنفِقُه ويصنَعُ فيه ما يشاء"، و "قد بَسطَ العامِلُ يدَه في الناحية وفي ظُلْم الناس"، فليس لك إلا أن تقول: "إنما لما أراد ذلك، جعل الليأس "كفَّيْنِ"، واستعارَهما له، فأَمَّا أَنْ تُوقِعَ الاستعارةَ فيه على "اللفظ"، فما لا تخفى استحالتهُ على عاقل3. "المجاز"، كالاستعارة، إلا أنه أعم: 547 - والقولُ في "المجازِ" هو القولُ في "الاستعارة"، لأنه ليس هو بشيء غيرها، وغنما الفَرْقُ أَنَّ "المجازَ" أعمُّ من حيثُ إنَّ كلَّ استعارةِ مجازٌ، وليس كلُّ مجازٍ استعارةً. وإذا نظرنا من "المجاز" يما لا يطلق عليه أن "استعارة" ازداد خطأ القوم

_ 1 في المطبوعة "يصفون به"، وفي نسخة عند رشيد رضا "فيه" أيضًا. 2 في المطبوعة: "متمكن عنه وأنه يفعل"، وفي "س": "ومن أن يفعل". 3 في المطبوعة: "فمما".

قبحًا وشناعة. وذلك أن يَلزَمُ على قياس قولهم أنْ يكونَ إنما كان قولُه تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [يونس: 67]، أَفصَحَ مِن أَصْله الذي هو قَوْلُنا: "والنهارَ لِتُبْصِروا أنتُمْ فيه، أو مبصراً أنتم فيه"، من أجْلِ أنه حدَثَ في حروفِ "مُبْصر" بأن جَعَل الفِعْل للنهارِ على سعَةِ الكلامِ1 وصفٌ لم يكن وكذلك يَلزمُ أن يكونَ السببُ في أنْ كان قول الشاعر: فنام لَيْلي وتجلَّى همِّي2 أفصحَ من قولنا: فنمت في ليل3 أنْ كسبَ هذا المجازُ لفظَ "نام" ولفظ "الليل" مذاقَةً لم تكُنْ لهما. وهذا مما يَنْبغي للعاقل أنْ يستَحيَ منه، وأَنْ يأنفَ من أن يهمل النظر إهمالًا يوديه إلى مثله، وتسأل الله تعالى العصمة والتوفيق. القول في "الإيجاز": 548 - وإذْ قد عرفْتَ ما لَزِمَهم في "الاستعارةِ" و "المجاز"، فالذي يَلزَمُهم في "الإِيجاز" أَعجبُ. وذلكَ أنه يلزَمُهم إنْ كانَ "اللفظُ" فصيحاً لأَمرٍ يَرْجِعُ إليه نسه دون معناه أن يكون كذلك موجزًا لمر يرجع إلى نفسه، وذلك في المُحَال الذي يُضْحَك منه، لأنه لا معنى للإِيجاز إلاَّ أنْ يَدُلَّ بالقليل منَ اللفظِ على الكَثير من المعنى، وإذا لم تَجعلْهُ وصْفاً لِلَّفظِ من أجْلِ معناه، أبطَلْتَ معناهُ، أعني أبطلت معنى الإيجاز.

_ 1 السياق: "أنه حدث في حروف مبصر .... وصف". 2 الرجز لرؤية، وقد سلف برقم: 348. 3 السياق: "يلزم أن يكون السبب .... أن كسب"، وموقعها خير "يكون".

549 - ثم إنَّ ههنا معنىً شريفاً قد كان ينبغي أن تكون قد ذكرناه في أثناءِ ما مَضَى من كلامِنا، وهو أَنَّ العاقلَ إذا نَظَر عَلِمَ علْم ضرورةٍ أنه لا سبيلَ له إلى أنْ يُكثِرَ معانيَ الألفاظِ أو يُقلِّلَها، لأنَّ المعانيَ المُودَعةً في الألفاظِ لا تتغيَّر على الجملةِ عمَّا أرادَهُ واضعُ اللغةِ، وإِذا ثبَتَ ذلك، ظَهَر منه أَنه لا معنى لقولِنا: "كثرةُ المعنى مع قِلَّة اللفظِ"، غيرَ أنَّ المتكلَّم يتَوصَّل بدلالةِ المعنى على المعنى إلى فوائدَ، لَوْ أَنه أرادَ الدلالةَ عليها باللفظ لاحتاجَ إلى لفظ كثير. الرأي الفاسد وخطره إذا قاله عالم له صيت ومنزلة: 550 - واعلمْ أَن القولَ الفاسِدَ والرأيَ المدخولَ، إِذا كان صدره عن قوم لهم نَباهةٌ وصيتٌ وعلوٌّ منزلةٍ في أنواعٍ من العلوم غيرِ العِلْم الذي قالوا ذلك القولَ فيه1، ثم وقَعَ في الأَلْسُن فتداولتْه ونَشرَتْه، وفشَا وظَهَر، وكَثُرَ الناقلون له والمُشِيدُون بِذكْره2 صار تَرْكُ النَّظرِ فيه سنَّةً، والتقليدُ ديناً، ورأيتَ الذين همْ أهلُ ذلك العِلْم وخاصَّتُه والممارِسون له، والذينَ هُمْ خُلَقاءُ أنْ يَعرِفوا وجْهَ الغلطِ والخطأ فيه لو أنَّهم نظَروا فيه3 كالأجانب الذين ليسوا من أهله، في قبول والعمل به والركون إليه، ووجدتهم قد أععطوه مقادتهم، وألا نوا له جانِبَهم، وأَوْهَمَهمْ النظَرُ إلى مُنْتَماه ومنْتَسَبهِ، ثم اشتهارِه وانتشارِه وإطباقِ الجمع بعدَ الجمع عليه4 أَنَّ الضَّنَّ به أصوب، والمحامة عليه أَوْلى. ولربما بل كلَّما ظنوا أنه لم يَشِعْ ولم يَتَّسعْ، ولم يَرْوِهِ خلفٌ عن

_ 1 في المطبوعة وحدها: "إذا كان صدوره عن قوم". 2 السياق: "إذا كان صدره عن قوم لهم نباهة ... صار ترك النظر" .. 3 السياق: "ورأيت الذين هم أهل ذلك العلم ... كالأجانب" .. 4 السياق: "وأوهمهم النظر إلى منتماه ... أن الضن به".

سَلَف، وأخِرُ عن أول، إلا لأنَّ له أصْلاً صحيحاً، وأنه أُخذَ من معْدِن صدقٍ، واشتُقَّ من نَبْعةٍ كريمةٍ، وأَنه لو كان مَدْخولاً لظَهَر الدَّخَلُ الذي فيه على تقادُم الزمان وكرورِ الأيام. وكمْ من خَطإٍ ظاهرٍ ورأْيٍ فاسدٍ حظيَ بهذا السبَبِ عندَ الناس، حتى بَوَّأُوه في أَخَصِّ موضعٍ من قلوبهم، ومنحوه المحبَّة الصادقةَ من نفوسهم، وعطفوا عليه عطْفَ الأُمِّ على واحدِها. وكم من داءٍ دَويٍّ قد استحْكَم بهذه العِلَّة، حتى أعْيَا علاجُه، وحتى بَعِلَ به الطبيبُ1. ولَوْلاَ سلطانُ هذا الذي وصفتُ على الناس، وأَنَّ له أخذه تمنع القلوب على التدبر2، وتقطع عنها ذواعي التفكُّر لمَا كان لهذا الذي ذَهَب إليه القومُ في أمرِ "اللفظِ" هذا التمكُّنُ وهذه القوَّةُ، ولا كان يَرْسُخُ في النفوسِ هذا الرسوخ، وتنشعب عروقه هذا الشعب3، مع الذي بانَ مِن تهافُتهِ وسقُوطهِ4 وفُحْشِ الغلط يه، وأنَّكَ لا تَرى في أَديمهِ مِنْ أَين نظَرْتَ، وكيفَ صرَّفْتَ وقلَّبْتَ مَصَحّاً5، وَلا تَراه باطِلاً فيه شَوْبٌ من الحقِّ، وزَيفاً فيه

_ 1 في هامش "ج": "بعل" أي تحبر"، وأزيد: وبرم به ولم يدر كيف يصنع فيه. 2 "الأخذة" أصلها ضرب من التمائم، نوخذا المرأة به زوجها عن السناء غيرها، وهو من السحر. 3 في المطبوعة: وتشعب عروفه هذا التشعب"، وهي جيدة. و "الشعب"، و "التشعب"، التفرق. 4 أسقط كاتب "س" كلامًا، فكتب: "لما كانلهذا الذي ذَهَب إليه القومُ في أمرِ اللفظِ على تهافته وسقوطه" ثم كتب ما أسقطه هنا بعد قوله فيما سيأتي بعد أسطر، أي بعد قوله: "والغيظ صرفًا"، وهو سهور شديد. 5 السياق: "لا ترى في أديمه ... مصحًا"، و "الأديم" بشرة الجلد وظاهره، يريد لا ترى فيه موضعا صحيحًا لم يتخرق.

شيءٌ من الفِضَّة، ولكنْ تَرى الغِشَّ بَحْتاً والغيظ صرفًا، ونسأل الله التوفيق. الرد على المعتزلة في مسألة "اللفظ" وبيان تقصيرهم: 551 - وكيف لا يكونُ في إسارِ الأُخْذَةِ1، ومَحُولاً بينه وبين الفِكْرة مَنْ يُسلِّمُ أنَّ الفصاحةَ لا تَكونُ في أفرادِ الكلماتِ، وأنها إنما تَكُونُ فيها إذا ضُمَّ بعضُها إلى بعْضٍ2، ثم لا يَعْلَم أنَّ ذلك يَقْتضي أنْ تكونَ وصْفاً لها، مِن أجْلِ معانيها، لا مِنْ أَجْل أَنفُسِها، ومِنْ حَيثُ هي ألفاظٌ ونُطْقُ لسانٍ؟ ذاكَ لأنه ليس مِنْ عاقلٍ يَفْتَح عينَ قلبهِ، إلاَّ وهو يَعْلَمُ ضرورةَ أنَّ المعنى في "ضَمِّ بعضِها" إلى بعْضٍ"، تعليقُ بعضِها ببعضٍ، وجَعْلُ بعْضِها بسَببٍ من بعض، لا أن ينطق بعضها في أَثر بعضٍ، مِنْ غير أنْ يكونَ فيما بينها تَعلُّقٌ3 ويعْلمُ كذلك ضرورةً إِذا فكرَّ، أنَّ التعلُّقَ يكونُ فيما بين معانيها، لا فيها بينها أَنفُسِها. ألا تَرى أَنَّا لوْ جَهِدْنا كلَّ الجَهْدِ أَنْ نَتصَّورَ تعلُّقاً فيما بينَ لفظين لا معنى تحتهما، لم نتصوَّر؟ ومن أَجْلِ ذلك انقسَمتْ الكَلِمُ قسمَيْنِ: "مؤتلفٌ" وهو الاسْمُ مع الاسْم، والفعلُ مع الاسْمِ و "غير موتلف" وهو ما عدا ذَلك كالفِعْل معَ الفْعلِ، والحَرْفِ مع الحرفِ. ولو كان التعلُّقُ يكونُ بين الألفاظِ، لكانَ ينبغِي أنْ لا يَختلِفَ حالُها في الائتلافِ، وأنْ لا يكونَ في الدنيا كلمتانِ إلاَّ ويصِحُّ أنْ يأْتلِفا، لأنه تنافي بينهما من حيث هي ألفاظ.

_ 1 سلف تفسيرها في التعليق قريبًا: ص: 465، تعليق: 2. 2 هذا نص القاضي عبد الجبار المعتزلي، وقد سلف برقم: 465، وسيأتي في ىخر هذه الفقرة أيضًا، وانظر ما سيأتي أيضًا في رقم: 554 وما بعدها، بيانه عن "الاحتذاء" عند الشعراء وأهل العلم بالشعر، وهو فصل مهم في الرد على القاضي المعتزلي. 3 في المطبوعة: "فيما بينهما".

وإذا كان كلُّ واحدٍ منهم قد أَعطى يدَه بأنَّ الفصاحةَ لا تكونُ في الكَلِم أَفراداً، وأنها إنما تكونُ إذا ضُمَّ بعضُها إلى بعض، وكان يكون المراد بضم بضعها إلى بعضٍ، تعليقَ معانيها بعضِها ببعضٍ، لا كَوْنَ بعضِها في النُّطقِ على أثرِ بعضٍ1 كان واجباً، إذا عُلِم ذلكَ، أن يُعْلَم أنَّ الفصاحةَ تَجِبُ لها من أجْل معانيها، لا من أجْل أنْفُسها، لأنه محالٌ أن يكونَ سبب ظهور الفصاحة يها، تعلُّقُ معانيها بعضِها ببعضٍ، ثم تكون الفصاحةُ وصفًا تجب لها لأنفسها لا لماعنيها. وغذا كان العلم بهذه ضرورةً، ثم رأيتَهم لا يَعْلمونَه، فليس إلاَّ أن اعتزامَهم على التقليد قد حالَ بينهم وبين الفكرة، وعرض لهم منه شبه الأخذة2. تعويل المعتزلة على "نسق الألفاظ" في شأن الفصاحة: 552 - وأعلمْ أنكَ إِذا نظرتَ وجدْتَ مَثلَهم مثَلَ مَنْ يرَى خيَالَ الشيءِ فَيحْسبُهُ الشيءَ، وذاك أَنهم قد اعتمدُوا في كلِّ أمرِهم على النسق الذي يرونه في الألفاظ، وجعل لا يحَفِلون بِغيره، ولا يُعَوِّلون في الفصاحةِ وباللاغة على شيء سواء، حتى انتهوا إلى أن زعموا مَن عَمَد إلى شعرٍ فصيح فقرأه ونطقَ بألفاظهِ على النسَقِ الذي وضعَها الشاعرُ عليه، كان قد أتى بمثْلِ ما أتى به الشاعرُ في فصاحَته وبلاغَته، إلاَّ أَنهم زعَموا أنه يكونُ في إتْيانه بهِ مُحْتذياً لا مبتدئًا3.

_ 1 في المخطوطتين والمطبوعة: "وكان واجبًا"، وهو خطأ ظاهر، والصواب إسقاط الواو، لأن السياق: "إذا كان كل واحد قد أعطى بيده .... كان واجبًا". 2 "الأخذة"، سلف منذ قليل تفسيرها ص: 465، تعليق: 2. 3 هذا صريح مقالة القاضي عبد الجبار المعتزلي، وتجدها في المغني 16: 222.

553 - ونحن إذا تأَملْنا وجَدْنا الذي يكونُ في الألفاظِ من تقديمِ شيءٍ منها على شيءٍ، إنما يقَعُ في النفس أَنَه "نَسَقٌ"، إذا اعتبَرْنا ما تُوخِّي من معاني النَّحو في معانيها، فأمَّا مَع تَرْكِ اعتبارِ ذلك، فلا يَقَعُ ولا يُتصوَّرُ بحالٍ، أفلا تَرى أَنَّكَ لو فرَضْتَ في قولهِ: قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرى حبيبٍ ومنزلِ أنْ لا يكونَ "نبْكِ" جواباً للأمْر، ولا يكونَ مُعدًّى "بِمنْ" إلى "ذِكْرى" ولا يكونَ "ذكرى" مضافةً إلى "حبيب"، ولا يكونَ "منزل" معطوفاً بالواو على "حبيب"1 لخَرَجَ ما تَرى فيه مِنَ التقديم والتأخيرِ عن أن يكونَ "نَسَقاً"؟ ذاك لأنَّه إنما يكونُ تقديمُ الشيءِ على الشيءِ نَسَقاً وتَرتيباً، إذا كان ذلكَ التقديمُ قد كان لِمُوجِبٍ أوْجَبَ أنْ يقدَّم هذا ويؤخَّر ذاك، فأَمَّا أنْ يكونَ مع عدم الموجِبِ نسَقاً، فَمحال، لأنه لو كان يكونُ تقديمُ اللفظِ على اللفظِ مِنْ غَيْر أنْ يكونَ لهُ مُوْجِبٌ "نَسقاً"، لكان يَنبغي أن يكونَ تَوالي الألفاظِ في النُّطق على أَيِّ وجْهٍ كان "نَسَقاً"، حتى إنك لو قلْتَ: "نبْك قِفا حبيبِ ذكرى من"، لم تَكنْ قد أعدَمْتَه النسَقَ والنظْم وإنما أعدَمْتَه الوزْنَ فقط. وقد تقدَم هذا فيما مضى2، ولكنَّا أعَدْناه ههنا، لأنَّ الذي أَخَذْنا فيه من إسلامِ القوم أنفسهم إلى التقليد، اقتضى إعادته. "الاحتذاء"، و"الأسلوب": 554 - واعلمْ أنَّ "الاحتذاءَ" عندَ الشعراءِ وأهلِ العلمِ بالشعر وتقديره وتمييزه3، أن يبتدئ الشاعر في معنى له وغرض أسلوبًا و "الأسلوب"

_ 1 السياق: "أفلا ترى لو فرضت في قوله ... لخرج ما ترى". 2 انظر ما سلف رقم: 493. 3 انظر التعليق السالف على آخر الفقرة رقم: 552.

الضْربُ مِنَ النْظم والطريقةُ فيه فيعمَدَ شاعرٌ آخرُ إلى ذلك "الأسلوبِ" فيجيءَ بهِ في شِعره، فيُشبَّه بِمَنْ يقْطَع مِن أَديمه نعْلاً على مثال نعْلٍ قد قطَعها صاحبُها، فيقال: "قدِ احْتذى على مثالِه"، وذلك مثلُ أَنَّ الفرزدق قال: أنرجو ربيع أن تجديء صِغارُها ... بِخَيرٍ، وَقدْ أَعْيَا رُبَيْعاً كِبارُها1 واحْتَذاه البعيث فقال: أَترجُو كُلَيْبٌ أنْ يَجيء حديثُها ... بَخير، وقد أَعْيَا كُلَيْباً قَدِيمُها2 وقالوا: إنَّ الفرزدقَ لمَّا سمع هذا البيت قال: إِذا ما قلتُ قافيةً شَروداً ... تَنَحَّلهَا ابنُ حمراءِ العِجَانِ3 ومثلُ ذلك أَنَّ البعيثَ قال في هذه القصيدة: كليب لئام الناس قد تعلمونه ... وأنتَ إذا عُدَّت كُلَيبٌ لَئيِمُها4 وقال البحتريُّ: بنو هاشم في كل مشرق ومغرب ... كرام بنى الدنيا وأنت كريمها5

_ 1 هو في ديوانه، يهجو بني ربيع بن الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة، وانظر لهذا وما بعده النقائض: 124، 125. 2 هو في قصيدة البعث في النقائض: 109، 125. 3 هو في ديوانه، والنقائض: 125، وقال: "تنخلها"أي أخذ خيارها. و "تنحلها" "يعني بالمهملة"، "انتحلها"، و "ابن حمراء العجان"، يعني البعيث، لأن أمه أعجمية غير عربية. 4 هو في قصيدته في النقائض: 109 5 هو في ديوانه.

وحكى العسكريُّ في "صنعة الشَّعر"1 أنَّ ابنَ الروميِّ قال: قال لي البحتريُ: قولُ أبي نواس: ولم أَدْرِ مَنْ هُمْ غيرَ ما شهِدَتْ لهم ... بشرفي ساباطَ الديارُ البَسَابِسُ2 مأخوذٌ من قول أبي خراش الهذلي: وَلَمْ أَدْرِ مَنْ أَلْقى عليه رداءَهُ ... سِوى أَنه قَدْ سُلَّ مِنْ ماجدٍ مَحْضِ3 قال فقلتُ: قد اختلفَ المعنى! فقال: أَمَا تَرى حَذْوَ الكلامِ حَذْواً واحداً؟ وهذا الذي كتبتُ من جلى الأخذ في "الحذو"4، ومما هو ي د الخفي قول البحتري: ولن يَنْقُلَ الحسَّادُ مجْدَكَ بعْدَما ... تمكَّنَ رَضوى وآطمأن متالع5 وقول أبي تمام: ولقد جهدتهم أَنْ تُزِيلوا عِزَّهُ ... فإِذا أَبانٌ قدْ رَسَا ويلملم6

_ 1 كأنه كتاب آخر غير "ديوان المعاني"، لأبي هلال العسكري. 2 هو في ديوانه، و "ساباط" هو ساباط كسرى بالمدائن، و "البسابس"، القفار. 3 في شرح أشعار الهذلين: 1230، وشرح الحماسة للتبريزي 2: 145. 4 في المطبوعة: "حلى الأخذ"، وشرحه بما لا يحسن أن يقال. 5 هو في ديوانه، و "رضوى" و "متالع" جبلان. 6 هو في ديوانه، و "أبان" و "يلملم" بجلان، وفي "س": "ولقد أرادوا أن يزيلوا"، على غير رواية الديوان.

قد احتذى كل واحد مننهما على قول الفرزدق: فادْفَعْ بِكفْكَ، إنْ أردُتَ بِناءَنا ... ثهلانَ ذا الهضَباتِ هَل يتحْلَحَلُ1 وجملةُ الأمر أَنهم لا يَجْعلون الشاعرَ "مُحْتذِياً" إلاَّ بما يَجْعلونه بهِ آخذًا ومسترقًا، قال ذو الرمة: وشعرٍ قَدْ أَرِقْتُ له غريبٍ ... أُجَنّبُهُ المُسانَد والمُحَالا فبتُّ أُقِيمُهُ وأَقَدُ مِنْهُ ... قَوافِيَ لا أُريد لها مِثَالا2 قال يقول: لا أَحْذوها على شيءٍ سمِعْتُه. فأَمَّا أنْ يُجْعَل إنشادُ وقراءتُه "احتذاءً" فَما لا يعْلَمونَه كيف؟ وإذا عَمَد عامِدٌ إلى بيتِ شعرٍ فوضَعَ مكانَ كل لفظة لفظًا في معناه، كثل أنْ يقولَ في قولِه: دَعِ المَكارِمَ لا تَرْحَلْ لِبُغْيتهِا ... واقْعُدْ فإِنَّك أنتَ الطاعِمُ الكاسي3 ذَرِ المآثِرَ لا تَذْهَبْ لِمَطْلَبِها ... واجْلِسْ فإنكَ أنتَ الآكلُ اللابسُ4 لم يجعلوا ذلك "احتذاء" ولم يوهلوا صاحِبَه لأن يُسَمُّوه "مُحْتذِياً"، ولكنْ يُسمُّونَ هذا الصنيع "سلخًا"، ويرذلونه ويسحقون المتعاطيَ له. فمِنْ أينَ يجوزُ لنا أن نقول في صبي يقرأ قصيدة أمرئ القيس: إنه احتذاه في قوله:

_ 1 هو في ديوانه. 2 هو في ديوانه. 3 هو شعر الخطيئة في ديواهه. 4 كتب في "س": "الآكل الشارب"، وهو ليس بشيء، وسيأتي البيتان في رقم: 567.

فقلتُ لهُ لما تَمطَّى بصُلْبه ... وأَرْدَف أَعجازاً وناءَ بِكَلْكَلِ1 والعَجَبُ مِن أنَّهم لم يَنْظروا فيَعْلَموا أَنه لو كان مُنْشِد الشعرِ "مُحْتذياً"2، لكانَ يكونُ قائلُ شعرٍ، كما أنَّ الذي يحذو النْعلَ بالنعلِ يكون قاطِعَ نِعْلِ. وهذا تقريرٌ يصلح لأن يحفظ للمناظرة مناقشة "الاحتذاء" و"النسق" في إعجاز القرآن: 556 - ينبغي أن يقال لمن يزعم أن المنشدإذا أنشد شعر آمرئ القيس، كان قد أَتى بِمثْلهِ على سبيلِ "الاحْتِذاء": أخبرْنا عنكَ؟ لماذا زعَمْتَ أنَّ المنشِدَ قد أتى بمثل ما قاله امرئ القيس؟ ألأنه نطقَ بأنفُسِ الألفاظِ التي نطقَ بها، أَمْ لأَنه راعى "النَسَق" الذي راعاه في النطقِ بها؟ فإِنْ قلتَ: "إنَّ ذلكَ لأَنه نطَق بأَنفُسِ الألفاظِ التي نطَقَ بها"، أَحَلْتَ، لأنه إنما يَصِحُّ أنْ يقالَ في الثاين إنه أتى بِمثْلِ ما أتى به الأوَّلُ، إذا كان الأوَّلُ قد سَبقَ إلى شيءٍ فأحدثه ابتداء، وذلك في الألفاظ محجال، إذْ ليس يُمكِنُ أنْ يُقال: إنه لم يَنْطِقْ بهذه الألفاظِ التي هي في قوله: قفا نبكِ مِنْ ذِكرى حبيبٍ ومنزلِ قبْل امرئ القيس أحد.

_ 1 امرؤ القيس في معلقته. 2 في "س": "يكون محتذيًا".

وإن قلتَ: إنَّ ذلك لأنه قد راعى في نُطْقه بهذه الألفاظِ "النسَقَ" الذي راعاه امرؤ القس. قيل: إنْ كنتَ لهذا قضَيْتَ في المُنْشِد أنه قد أَتَى بِمْثل شِعْره، فأخْبِرْنا عنكَ؟ إِذا قلتَ: "إن التحدِّيَ وقَع في القرآن إلى أن يُؤتى بمثله على جهةِ الابتداءِ"1، ما تَعْني به؟ أَتَعْني أَنه يأتي في ألفاظٍ غيرِ أَلفاظ القرآن، بمثل التّرتيبِ والنَّسَقِ الذي تَراه في ألفاظ القرآنِ. فإِن قال: ذلك أَعْني. قيل له: أَعلِمْتَ أَنه لا يكونُ الإتيانُ بالأشياءِ بَعْضِها في أَثرِ بعضٍ على التَّوالي نَسَقاً وتَرتيباً، حتى تكونَ الأشياءُ مختلفةً في أَنْفُسها، ثم يكونَ للَّذي يَجيءُ بها مَضموماً بعضُها إلى بعضٍ، غرضٌ فيها ومقصودٌ، لا يَتمُّ ذلك الغرَضُ وذاك المقصود إبلا بأَنْ يتَخيَّر لَها مواضِعَ، فيَجعلَ هذا أولاً، وذاك ثانيصا؟ فإِنَّ هذا ما لا شُبهة فيه على عاقل. وإِذا كان الأمرُ كذلك، لزِمَك أن تُبَيِّنَ الغرضَ الذي اقتضَى أنْ تكونَ ألفاظُ القرآنِ منْسوقةً النَّسَقَ الذي تَراه. ولا مَخْلَصَ له من هذه المُطالبة، لأنه إذا أبى أن يكون المقتصى والموجِبُ للَّذي تَراه من النَّسق، المعانيَ2 وجَعلَه قد وجب لأمر يرجع

_ 1 هذا كلام القاضي عبد الجبار المعتزلي في المغني 16: 222، يقول بعد كلام: " ... فيجب في القرآن أن يكون التحدي واقعًا بهم على المعتاد، فيكون ما يورده المتحدي في حكم المتبدأ، ويكون مشاركًا للمتحدي في أن يكون ما يورده مبتدئًا، وخارجًا عن أن يكون محتذيًا، لأن الاحتذاء أو الحكاية، لا معتبر لها في هذا الباب". 2 "المعاني" اسم "يكون".

إلى اللفظ، لم تجد شيئًا يحيل في وجوبه عليه البتةَ1، اللهُمَّ إلاَّ أَنَّ يَجْعل الإعجازَ في الوزن، ويَزْعُمَ أنَّ "النَسقَ" الذي تراه في ألفاظ القرآنِ إنما كان معْجِزاً، من أجْل أنْ كان قد حَدث عنه ضربٌ من الوزن يُعجِز الخلقَ عن أنْ يأْتوا بمثله. وإذا قال ذلك، لم يُمْكِنْه أنْ يقولَ: "إنَّ التحدِّيَ، وقَع إلى أن يأْتوا بمثلِهِ في فصاحَتِه وبلاغَتِه"، لأن الوزن ليس هو في الفصاحة والبلاغة في شيء، إذا لو كان له مَدْخَلٌ فيهما، لكانَ يَجبُ في كل قصيدتين افتقتا في الوزن أن تنفقا في الفصاحة والبلاغةِ. فإن دعا بعضُ الناس طوال الإِلْفِ لِمَا سَمعَ من أَنَّ الإعجازَ في اللفظ إلى أَنْ يَجْعلَه في مجرَّدِ الوزْنِ، كان قد دَخَل في أمرٍ شنيعٍٍ، وهو أنَه يكونُ قد جَعلَ القرآنَ مُعجِزاً، لا مِن حيثُ هو كلامٌ، ولا بما به كان لِكَلامٍ فضْلٌ على كلامٍ فليسَ بالوزْنِ ما كان الكَلامُ كلاماً، ولا به كان كلامٌ خَيراً من كلام. سهولة "اللفظ" وخفته في شأن إعجاز القرآن: 557 - وهكذا السبيلُ إنْ زعَم زاعِمٌ أنَّ الوصفَ المعجزَ هو "الجَرَيانُ والسهولَةُ"، ثم يعني بذلك سلامَتَهُ من أن تلتقيَ فيه حروفٌ تَثْقُل على اللسان، لأنه ليس بذلك كان الكلامُ كلاماً، ولا هو بالذي يتنَاهى أَمرُه إنْ عُدَّ في الفضيلةِ إلى أن يكونَ الأَصْلَ، وإلى أن يكونَ المعَّولَ عليه في المفاضَلةِ بين كلامٍ وكلامٍ، فما به كان الشاعرُ مفلقًا، والخطيب مصقعًا، والكاتب بليغًا.

_ 1 في المطبوعة وحدها، كتب "يحيل الإعجاز في وجوبه"، زاد ما أفسد الكلام.

558 - ورأينا العقلاءَ1، حيثُ ذكَروا عجْزَ العربِ عن مُعارَضَةِ القرآن، قالوا: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم تحدَّاهم وفيهم الشعراءُ والخطباءُ والذين يُدِلُّونَ بفصاحةِ اللسان، والبراعةِ والبَيان، وقوةِ القرائحِ والأَذْهان، والذين أُوتوا الحِكْمةَ وفصْلَ الخِطابِ2 ولم نَرهم قالوا: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم تَحدَّاهم وهم العارِفُون بما يَنبغي أن يُصْنَع3، حتى يَسْلَم الكلامُ من أن تلتقيَ فيه حروف تنقل على اللسان. ولَمَّا ذكَروا معجزاتِ الأنبياءِ عليهم السلام وقالوا: إنَّ اللهَ تعالى قد جَعَل معجزةَ كلِّ نَبيّ فيما كان أغْلَبَ على الذين بُعِثَ فيهم، وفيما كانوا يتباهَوْنَ به، وكانت عوامهم تعظم به خواصهم4 قالوا: إنما لمَّا كان السِّحْرُ الغالِبَ على قومِ فِرْعونَ، ولم يكُنْ قد استَحكَم في زمانِ استحكامَه في زمانِه، جَعَل تعالى معجِزَةَ موسى عليه السلام في إبطاله وتوهينه ولما كان الغلب على زمانِ عيسى عليه السلام الطِّبُ، جعلَ الله تعالى معجزته في إبراه الكمه والأَبْرصِ وإحياءِ الموتى ولما انتَهَوْا إلى ذكْر نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم وذكْرِ ما كان الغالبَ على زمانهِ، لم يذكوا البلاغَة والبيانَ والتصرُّفَ في ضروب النظْم. وقد ذكرت في الذي تقدم غير ما ذكرته ههنا5، مما يدل على سقوط

_ 1 في "ج"، و "رأيت العقلاء"، والسياق يأباها. 2 في العبارة تقصير. 3 العبارة غير جيدة، وسياقها: "إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم تحدَّاهم ... حتى يسلم الكلام". 4 السياق: "ولما ذكروه معجزات الأنبياء ... قالوا". 5 في "س" "غير ما ذكرته ههنا" وهو الصواب بلا ريب، وفي "ج" والمطبوعة: "عين ما ذكرته، وهذا ليس صحيحًا، لم يذكر ما قاله ههنا بعينه فيما مضى من الكتاب، والذي أشار إليه هو في رد القول بالحروف تثقل على اللسا، وقد مضى ذلك برقم: 49 - 52.

هذا القولِ، وما دعاني إلى إعادةِ ذِكْره إلا أنه ليس لتهالك الناسِ في حديث "اللفظ" والمحاماةُ على الاعتقاد الذي اعتقدوه فيه وضن أنسهم به1 حدٍّ، فأحْبَبْتُ لذلك أن لا أَدعَ شيئاً مما يجوزُ أن يَتعلَّق به متعلِّقٌ، ويلجأَ إليه لاجئ، ويقعَ منه في نفْس سامعٍ شَكًّ، إلا استقصيت في الكشف عن بطلانه. 559 - وههنا أمرٌ عجيبٌ، وهو أنَه معلومٌ لكلٍّ مَنْ نَظَر، أنَّ الألفاظَ من حَيْثُ هي ألفاظٌ وكَلِمٌ ونُطْقُ لسانِ، لا تخْتصُّ بواحدٍ دونَ آخر، وأنها إنما تختص إذا توخي يها النظْمُ2. وإِذا كان كذلك، كان مَنْ رفَعَ "النظْمَ" مِن البين3، وجعَلَ الإعجازَ بجُملته في سهولةِ الحُروف وجَرَيانها4، جاعلاً له فيما لا يصِحُّ إضافتُه إلى الله تعالى. وكَفَى بهذا دليلاً على عَدمِ التوفيق، وشدَّةِ الضلالِ عن الطريق.

_ 1 سياق العبارة: "ليس لتهالك القوم في حديث اللفظ ..... حد"، وهو إشارة لتهالك المعتزلة وشيخهم القاضي عبد الجبار المعتزلي في "حديث اللفظ"، والمحاماة دونه ... ". وقد أشار عبد القاهر إلى ذلك مرارًا قبل ذلك. وكانت هذه العبارة في المطبوعة، وفي "س" و "ج" هكذا: "وما دعاني إلى إعادةِ ذِكْره، إلاَّ أنه ليس "تهالك" الناس فيحديث اللفظ، والمحاماة على الاعتقاد الذي اعتقده فيه، "وظن" أنفسهم به "إلى حد"، وفي "جد"، وحدها "إلى أحد". وهذا الذي وضعته بين الأقواس هو الذي غيرته، لأن هذا نص فاسد جدًا لا معنى له، ولا يستقيم. والذي غيرته هو الصواب إن شاء الله، وهو الذي دل عليه كل كلام عبد القاهر في شأن اللفظ فيما مضى. وقوله "الناس"، هنا يعني المعتزلة، كما سيكون جليًا في رقم: 562. 2 في "س": "وأنها لا تختص إذا توخى فيه النظم"، وهو فساد محض. وفي نسخة عند رشيد رضا: "أنها لا تختص إلا إذا توخى فيها النظم"، وهو الصواب أيضًا. 3 "من البين" يعني من بين ما يجعلها تختص بقائل. وقد سلفت قبل هذه العبارة مرارًا، وسأذكر مواضعها في الفهارس. 4 السياق: "كان من رفع النظم ... جاعلًا له ... ".

خاتمة كتاب دلائل الإعجاز

خاتمة كتاب دلائل الإعجاز 560 - قد1 بلغنا في مداواة الناسِ مِنْ دائهم، وعلاجِ الفسادِ الذي عرضَ في آرائِهم كلَّ مبلغَ، وانتهينا إلى كلِّ غاية، وأخذنا بهم عَنِ المجاهل التي كانوا يتعسَّفون فيها إلى السَّنن اللاَّحِب2، ونقلْنَاهم عَنِ الآجنِ المطروقِ إلى النَّمير الذي يَشْفي غليلَ الشارِب3، ولم ندعْ لباطِلِهم عِرْقاً ينبضُ إلاَّ كويناهُ، ولا للخلافِ لساناً ينطقُ إلاَّ أخرَسْناه، ولم نتركْ غِطاءً كان على بصَرِ ذي عَقْلٍ إلا حَسرْناهُ، فيا أيُّها السامعُ لِمَا قلناهُ، والناظرُ فيما كتبناهُ، والمتصفِّحُ لما دوَّنَّاهُ، إنْ كنتَ سمعتَ سماعَ صادقِ الرغبةِ في أن تكونَ في أَمركَ على بصيرةٍ، ونظرتَ نظَرَ تامِّ العنايةِ في أن يُورِدَ ويَصْدُرَ عن معرفةٍ، وتصفَّحْتَ تصفُّحَ مَن إذا مارَسَ باباً من العلم لم يقنعْه إلا أن يكونَ على ذِروة السَّنام، ويضرب بالمعن من السَّهام، فقد هُديتَ لضالَّتك، وفتح لك الطريقُ إلى بُغْيتك، وهُيِّئ لك الأداةُ التي بها تبلغُ، وأُوتيت الآلةَ التي معها تصل. فخذْ لنفسكَ بالتي هي أملًا ليديك، وأعوذ بالحظِّ عليكَ، ووازنْ بين حالِك الآن وقد تنبَّهْتَ من رَقْدتك، وأفقْتَ من غفْلتك، وصرتَ تعلمُ إِذا أنتَ خُضتَ في أمر "اللفظ" و "النظم" معنى ما تذكر، وتعلم كيف نورد

_ 1 في المطبوعة عنوان لهذا، وكتب في وسط السطر: "فصل"، وهذا ليس في المخطوطتين. 2 "السنن" الطريق المسلوك، و "اللاحب" الواضح الواسع المنقاد. 3 "الآجن"، الماء المتغير الطعم. "المطروق" الذي تطرقه الأنعام والوحش، و "النمير"، الماء الزاكي الناجع في الري.

وتصْدر1، وبينها وأنتَ من أمرها في عمياءَ، وخابطٌ خَبْطَ عشواءَ، قُصاراكَ أنْ تكرِّرَ ألفاظاً لا تعرفُ لشيءٍ منها تفسيراً وضروبَ كلامٍ للبلغاء إذا سئلت على أغراضهم فيها لم تستطيع لها تَبْيينا، فإنكَ تراكَ تُطيل التعجُّبَ من غفلتك، وتكثرُ الاعتذارَ إِلى عقلك من الذي كنتَ عليه طولَ مُدَّتك. ونسأَلُ اللهَ تعالى أن يجعل كل ما نأتيه، ونقصده ننتحيه، لوجههِ خالصاً، وإلى رضاه عزَّ وجَلَّ مؤدِّياً، ولِثَوابهِ مقْتَضِياً، وللزُّلْفى عنده مُوْجِبا، بمَّنه وفضلهِ ورحمته2.

_ 1 السياق: "ووازن بين حالك ... وينها وأنت من أمرها في عمياء". 2 هذه الفقرة الأخيرة رقم: 560، صريحة الدلالة على أن هذا هو آخر كتاب "دلائل الإعجاز"، ولكنه في المطبوعة لم يذكر شيئًا، ولكنه كتب بعدها "بسم الله الرحمن الرحيم"، دون فاصل واضح. أما في المخطوطة "ج" فإنه ترك بياضًا كبيرًا بين الكلامين، ثم بدأ بالبسملة، فكان دلالة على انقضاء كتاب "دلائل الإعجاز"، وأما "س" فهي التي جاءت بالأمر صريحًا فقد كتب. "تم الكتاب والحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلامه، وهو حسبنا ونعم الوكيل" وبهذا انتهت نسخة "س"، وليس فيها شيء مما سيأتي بعد هذا في "ج"، وفي المطبوعة فمن أجل ذلك، فصلت ما بعد هذا عن "كتاب دلائل الإعجاز"، ووضعت له عنوان: "رسائل وتعليقات" كتبها عبد القاهر الجرجاني وهذه الرسائل متصلة الأواصر بكتاب ""دلائل الإعجاز" اتصالًا واضحًا، كتبها عبد القااهر بعد الفراغ من كتابه الدلائل. سترى ذلك واضحًا. وقد رتبتها متسلسلة كما هي في المخطوطة "ج".

"رسائل وتعليقات" كتبها عبد القاهر الجرجاني

"رسائل وتعليقات" كتبها عبد القاهر الجرجاني

إزالة الشبهة في جعل الفصاحة والبلاغة للألفاظ

بسم الله الرحمن الرحيم إزالة الشبهة في جعل الفصاحة والبلاغة للألفاظ: بيان مهم في مسألة "اللفظ" و"المعنى": 561 - إعلمْ أَنه لمَّا كان الغلَطُ الذي دخَل على الناس في حديثِ "اللفظِ" كالداءِ الذي يَسْري في العروقِ، ويُفْسِد مِزاجَ البدنِ، وجَبَ أن يُتوخَّى دائباً فيهم ما يتوخَّاه الطبيبُ في النَّاقِه، من تعهُّدهِ بما يزَيد في مُنَّته1، ويُبَقِّيه على صحَّتِه، ويؤمّنُهُ النُّكْسَ في علَّتهِ2. وقد علِمْنا أنَّ أصْل الفسادِ وسبَبَ الآفةِ، هو ذَهابهُم عن أنَّ مِن شأنِ المعاني أن تَختلِفَ عليها الصورُ، وتَحدُثَ فيها خواص وموايا من بعد أن لا تكون. وإنك ترَى الشاعرَ قد عَمدَ إلى معنىً مبتذَلٍ، فصنَعَ فيه ما يَصْنَعُ الصانِعُ الحاذِقُ إذا هو أغرب ي صَنْعة خاتمٍ وعَمَلِ شَنْفٍ وغيرهما من أصناف الحِلى. فإنَّ جهْلَهم بذلك من حالِها، هو الذي أغواهم واستهواهم، وورطهم يما توَرَّطوا فيه من الجهَالات، وأَدَّاهُم إلى التعلُّق بالمُحالات. وذلك أَنهم لمَّا جَهِلوا شأنَ الصورةِ، وضَعُوا لأَنفُسِهم أساساً، وبنَوْا على قاعدة فقالوا: إنه ليسَ إِلاّ المعنى واللفظُ، ولا ثالثَ وإنه إذا كان كذلكَ، وجَبَ إذا كان لأحدِ الكلامَيْنِ فضيلةٌ لا تَكون للآخَر، ثم كان الغرَضُ مِنْ أحدِهما هوَ الغَرَضَ من صاحبه3 أن يكون مرجع

_ 1 "المنة" بضم الميم، القوة. 2 "النكس" بضم النون وفتحها، العود في المرضى بعد قرب الشفاء. 3 السياق: "وجب ..... أن يكون".

تلك الفضيلة إلى اللفظ خاصة، وأن لا يكونَ لها مرجعٌ إلى المعنى، من حيثُ إنْ ذلك، زَعموا، يُؤدِّي إلى التناقضِ، وأنْ يكونَ معناهُما مُتَغايِراً وغيرَ متغايرٍ معاً. ولمَّا أَقَرُّوا هذا في نُفوسِهِم، حَمَلوا كلامَ العلماءِ في كلِّ ما نَسَبوا فيه الفضيلةَ إلى "اللفظِ" على ظاهرِه، وأَبَوْا أن ينظُروا في الأوصافِ التي أَتْبعوها نسبتَهم الفضيلةَ إلى "اللفظِ"، مثلَ قولهم: "لفظٌ متمكِّنٌ غيرُ قَلقٍ ولا نابٍ به موضِعُه"، إلى سائر ما ذكرْناه قبْلُ1، فيَعْلمَوا أَنهم لم يُوجِبوا لِلَّفظ ما أوجَبُوه من الفضيلةِ، وهُمْ يَعْنُونَ نُطْقَ اللسانِ وأجراسَ الحرُوف، ولكنْ جعَلوا كالمواضَعَة فيما بَيْنَهم أَنْ يقولوا "اللفظَ"، وهُم يُريدون الصورةَ التي تَحْدُثُ في المعنى، والخاصَّة التي حَدثَتْ فيه، ويَعْنونَ الذي عَناه الجاحظُ حيث قال. "وذهبَ الشيخُ إلى استحسانِ المعاني، والمعاني مطروحةٌ وسطَ الطريقِ، يَعْرِفُها العربيُّ ولاعجمي، والحضريُّ والبدويُّ، وإنَّما الشعرُ صياغةٌ وضرْبٌ من التَّصوير"2. وما يعَنونه إذا قالوا: "إنه يأخُذُ الحديث فيشنفه ويقرطه، ويأخذ المعنىخرزة فيردُّه جَوهرةً، وعباءةً فيجعلُه ديباجَةً، ويأخذُه عاطِلاً فيرده حاليصا". وليس كون هذا مرادهم، بحيث كان بنيغي أن يخفى هذا الخفاء ويشتبه هذا الاشتباء، ولكنْ إذا تعاطَى الشيءَ غيرُ أهلِه، وتولَّى الأمرَ غيرُ البصير به، أَعْضَلَ الداءُ، واشتدَّ البلاءُ. ولو لم يكن مِنَ الدليلِ على أنَّهم لم يَنْحَلُوا "اللفظَ" الفضيلةَ وهم يُريدونه نَفْسَه وعلى الحقيقةِ إلاَّ واحدٌ، وهو وصْفُهم له بأنه يزين المعنى، وأنه حلى

_ 1 انظر ما سلف رقم: 540، وهذا دليل على أن عبد القاهر هذا الرسائل والتقبيدات، تعقيبًا على كتابه الذي فرغ منه، وهو "دلائل الإعجاز". 2 مضى قول الجاحظ وتجريحه فيما سلف الفقرة رقم: 298، ورقم: 577.

له1 لكان فيه الكفايةُ. وذاك أنَّ الألفاظَ أدلَّةٌ على المعاني، وليس للدليل إلاَّ أنْ يُعْلِمَكَ الشيءَ على ما يكونُ عليه، فأَما أن يصيرَ الشيء بالدليل، على صفةٍ لم يكُنْ عليها2، فما لا يقومُ في عقلٍ، ولا يُتَصوَّر في وهم. 562 - وممَّا إذا تفكَّرَ فيه العاقلُ أطالَ التعجُّبَ من أمرِ الناس3، ومن شدَّةِ غَفْلتهم قولُ العلماء حيث ذكروا "الأخذ" و "السرقة": "إنَّ مَنْ أخذَ معنًى عارياً، فكَساه لفظاً مِنْ عندِه كانَ أحقَّ به"4، وهو كلامٌ مشهورٌ متداولٌ يقرأُه الصبيانُ في أوَّلِ كتابِ "عبد الرَّحمن"، ثم لا ترى أحداً من هؤلاء الذين لهَجُوا بجعلِ الفضيلةِ في "اللفظ"، يفكِّرُ في ذلك فيقول: من أَين يُتصوَّر أن يكون ههنا معنىً عارٍ من لفظٍ يَدلُّ عليه؟ ثم من أين يعقل أن يجئ الواحدُ منا لِمعنىً من المعانيِ بلفظٍ مِنْ عنده، إنْ كان المرادُ باللفظ نُطْقَ اللسان؟ ثم هبْ أنَه يصِحُّ له أن يَفْعلَ ذلك، فمن أَينَ يَجِبُ إذا وَضَع لفظاً على معنىً، أن يصيرَ أَحقَّ به من صاحبه الذي أخذه منه، إن كانوا هو لا يَصْنَع بالمعنى شيئاً، ولا يُحْدِثُ فيه صفةً، ولا يَكْسِبُه فضيلةً؟ وإذا كان كذلك، فَهَلْ يكون

_ 1 السياق: "ولو لم يكن من الدليل ... إلا واحدً، وهو وصفهم ... لكان فيه الكفاية". 2 السياق: "أن يصير الشيء" على صفة لم يكن عليها"، يعني أن يصير المعنى بواسطة اللفظ على صفة لم يكن عليها. 3 قوله "الناس" هنا، يعني المعتزلة وأصحابه، وانظر ما سلف في آخر رقم: 528، والتعليق عليه. 4 هو في مقدمة كتاب "الألفاظ الكتابية" لعبد الرحمن بن يعسى الهمذاني، وتوفي سنة 324.

لكلامهِم هذا وجهٌ سِوى أنْ يكونَ "اللفظُ" في قولهم: "فكسناه لفظاً من عنده"1، عبارةً عن صورةٍ يُحْدِثها الشاعرُ أو غيرُ الشاعر للمعنى؟ فإِن قالوا: بل يكونُ، وهو أنْ يستعيرَ لِلمعنى لفظاً. قيلَ: الشأنُ في أنَّهم قالوا: "إذا أَخذ معنىً عاريا فسكاه لفظًا من عنده، كان أحق به"1، و "الاستعارة" عندكم مقصورةٌ على مجرَّد اللفظِ، ولا ترَوْنَ المستعيرَ يَصْنَع بالمعنى شيئاً، وتَرونَ أنَّه لا يحدثُ فيه مزيَّةٌ على وجهٍ من الوجوه، وإذا كان كذلك، فمِنْ أَين، ليتَ شِعْري، يكون أحق به، فاعرفه. أمثلة على ما تفعله صنعة الشاعر في الصورة، والمعنى واحد: 563 - ثُمَّ إنْ أردْتَ مثالاً في ذلك، فإنَّ من أحسن شيء فيه، ما صمع أبو تمام في بيتِ أَبي نُخَيْلة، وذلك أن أَبا نُخيلةَ قال في مسلمَةَ بنِ عبد الملك: أمسلم إني يا ابن كلِّ خَليفةٍ ... ويا جَبَل الدُّنيا ويا واحِدَ الأرضِ شكرتُكَ إنَّ الشكْرَ حبْلٌ مِنَ التُّقى ... وما كلُّ مَنْ أولَيْتَهُ صالحاً يَقْضي وأَنْبَهْتَ لي ذِكرى وما كانَ خامِلاً ... ولكنَّ بعضَ الذكْرِ أَنبهُ مِنْ بَعْضِ2 فعَمد أبو تمام إلى هذا البيت الأخير فقال: لقد زِدْتَ أوْضاحي امْتِداداً، ولمْ أَكُنْ ... بَهيماً ولا أَرْضي مِنَ الأَرْضِ مَجهلا ولكنْ أيادٍ صادفَتْني جِسَامُها ... أغرَّ فأَوفَتْ بي أغرَّ مُحجَّلا3

_ 1 هو في كلام عبد الرحمن في كتابه "الألفاظ الكتابية"، والذي نقله عنه آنفًا في اول هذه الفقرة. 2 هو لأبي نخيلة الراجز، وشعره في الأمالي 1: 30. 3 في ديوانه، و "الأوضاح" جمع "وضح" بياض محمودًا في الفرس، و "البهيم" من الخيل، ما ليس به وضح، و "أرضى"، يعني دياره وديارة قومه، ليست بمجهل من الأرض، يعني شهرتهم. ومن ضبط "أرضى" فعلًا مضارعًا فقد أخطأ المعنى.

564 - وفي "كتاب الشّعرِ والشُّعراء" للمرزُباني فصلٌ في هذا المعنى حسَنٌ. قال. ومن الأَمثال القديمة قولهُم: "حَرًّا أخافُ على جاني كَمأَةٍ لا قُرّاً"1، يُضرَب مثَلاً للذي يَخافُ مِن شيءٍ فيَسْلمُ منهُ ويُصِيبهُ غيرهُ مما لم يَخَفْهُ، فأخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال: وحَذِرْتُ مِنْ أَمْرٍ فمرَّ بِجانبي ... لم يُنْكِني ولقيت ما لم أحذر2 وقال لبيد: أخشى على أربد الحتوف لا ... أرْهَبُ نَوْءَ السّماكِ والأَسدِ3 قال: وأخذَه البحتريُّ فاحسن وطغى اقتدارًا على العبارة، واستاعًا في المعنى، فقال: لو أَنَّني أُوفي التجاربَ حَقَّها ... فيما أرَتْ لرجوت ما أخاشه4

_ 1 هو في جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري 1: 373، وليس فيه "لاقرأ"، و "القر" البرد، يضرب مثلًا للرجل يخاف أمرًا وغيره أخوف منه. ومن هذا الموضع في مخطوطة "ج" المصورة عندي، مطموس في التصوير أكثره من أول ص: 310 إلى ص: 320، فأنا أقرأ منها ما استطعت أن أقرأ. 2 هو سهم بن حنظلة بن حلوان، أحد بني غنى بن أعصر، والشعر في المؤتلف، والمختلف للآمدي: 136، وقبله: كم من عدو قد رماني كاشح ... ونجوت من أمر أغر مشهر يقال "نكيت في العدو أنكى كناية، ونكيت العدو أنكي"، إذا كثرت فيه الجراح والقتل، فوهن أمره. وقال الآمدي: "وقوله في البيت الأخير: "ما لم أحذر" البحتري فقال: ينال الفتى ما لم يؤمل وربما ... أتاحت له الأقدار ما لم يحاذبر 3 الشعر في ديوان لبيد. 4 هو في ديوانه.

565 - وشبيه بهذا الفصل فصل آخر في هذا الكتاب أيضًا1، أنشد إبراهيم بن المهدي: يا مَنْ لِقَلْبِ صِيغَ من صَخْرةٍ ... في جسد من لولوء رطْبِ جرحتُ خدَّيْه بلحْظي فَمَا ... بَرِحْتُ حتى اقتصى مِنْ قلبي2 ثم قال: قالَ عليُّ بنُ هارون: أخذه أحمد بن أبي فَنَن معنىً ولفظًا فقال: أَدْمَيْتُ باللحظاتِ وجْنَتَهُ ... فاقتصَّ ناظرُهُ مِنَ القَلْبِ3 قال: ولكنَّه بنقاءِ عبارتِه وحُسْنِ مأخذهِ، قد صارَ أَوْلى به. 566 - ففي هذا دليلٌ لِمن عقَلَ أَنهم لا يَعْنونَ بحُسْنِ العبارةِ مجَّردَ اللفظِ، ولكن صورة وصفة وخصوصية تحدُثُ في المعنى، وشيئاً طريقُ معرفتِه على الجملة العقلُ دون السمْع، فإِنه على كلِّ حالٍ لم يَقُلْ في البحتريِّ إنه "أحْسَن فطغى اقتداراً على العبارةِ"4، من أَجْلِ حروفٍ. لو أنني أوفي التجاربَ حقَّها وكذلك لم يصِفْ ابنَ أبي فَنن بنقاءِ العبارةِ، من أجْل حروف. أدميت باللحظات وجنته 567 - واعلم أنك إذا سيرت أحوالَ هؤلاءِ الذين زَعَموا أنه إذا كان المعبَّرُ عَنهُ واحداً، والعبارةُ اثنتَيْن، ثم كانتْ إحدى العبارتَيْن أَفْصَحَ من الأخرى وأحسن،

_ 1 يعني "كتاب العشر والشعراء" للمرزباني، المذكور آنفًا. 2 لم أقف بعد على هذا الشعر. 3 البيت في ديوان المعاني 1: 284. 4 يعني قول المرزباني.

فإِنه يَنبغي أن يكونَ السببُ في كونها أَفْصَحَ وأحسَنَ، اللفظَ نفسَه1 وجدتَهم قد قالوا ذلك من حيثُ قاسوا الكلامَيْن على الكلمتَيْن، فلما رأَوْا أَنه إذا قيل في "الكلمتين" إنَّ معناهُما واحدٌ، لم يكنْ بينهُما تفاوتٌ، ولم يكن للمعنى في إِحداهما حالٌ لا يكون له في الأخرى2 ظَنُّوا أن سبيلَ الكلامين هذا السبيلُ ولقد غَلِطوا فأَفْحَشوا، لأنه لا يُتصوَّرُ أنْ تكونَ صورةُ المعنى في أَحدِ الكلامَينِ أو البيتين، ثمل صورتِه في الآخَر البتَّةَ، اللَّهُمَّ إلاَّ أنْ يَعْمدَ عامِدٌ إلى بيتٍ فيضَعَ مكانَ كلِّ لفظة منه لفظةً في معناها، ولا يَعْرِضُ لنظْمهِ وتأليفه، كمثلِ أن يقولَ في بيت خطيئة3: دَعِ المَكارِمَ لا تَرْحَلْ لِبُغْيتهِا ... واقْعُدْ فإِنَّك أنتَ الطاعمُ الكاسي ذَرِ المفاخرَ لا تَذْهَبْ لِمَطْلَبِها ... واجْلِسْ فإنكَ أنتَ الآكِلُ اللابسْ وما كان هذا سبيله، كان بمعزلي من أنْ يكونَ به اعتدادٌ، وأنْ يَدخُلَ في قبيلِ ما يفاضَلُ فيه بين عبارتين، بل لا يصِحُّ أنْ يُجعلَ ذلك عبارةً ثانية، ولا أن يجعل الذي تعاطاه بِمَحَلِّ، مَنْ يوصَف بأنه أخذَ معنىً. ذلك لأنه لا يكونُ بذلك صانِعاً شيئاً يَستحقُّ أنْ يُدْعى من أجْلهِ واضعَ كلامٍ، ومستأنِفَ عبارة واقئل شعر. ذاك لأن بيت خطيئة لم يكُن كلاماً وشعراً مِن أجْل معاني الألفاظ المفردة التي تراها فيه، مجرَّدةً معرَّاةً من معاني النظْمِ والتأليفِ، بل منها مُتَوخىًّ فيها ما ترَى من كَوْن "المكارِم" مفعولاً "لدع"، وكونِ قوله: "لا ترحلْ لبغيتها" جملةً أكَّدتْ

_ 1 السياق: "واعلم أنك إذا سبرت أحوال هؤلاء .... وجدتهم". 2 السياق: "فلما رأَوْا أَنه إذا قيل في الكلمتين .... ظنوا". 3 كتبه بغير لام التعريف، هنا وفيما بعد، والبيت الذي بعده قد مضيا في رقم: 525.

الجملةُ قبلها، وكون "اقعدْ" معطوفاً بالواو على مجموعِ ما مضى، وكون جملةِ "أنتَ الطاعِمُ الكاسي"، معطوفة بالفاء على "اقعد"، فالذي يَجيء فلا يُغيِّر شيئاً من هذا الذي به كان كلاماً وشعراً، لا يكونُ قد أتى بكلامٍ ثانٍ وعبارةٍ ثانية، بل لا يكونُ قد قالَ من عندِ نفْسِه شيئاً البتةَ. 568 - وجملةُ الأمر أَنه كما لا تكون الفِضّةُ أو الذَهَب خاتماً أو سِواراً أو غيرَهُما من أصناف الحِلَى بأنفُسِهما، ولكنْ بما يحدُثُ فيهما من الصُّورة، كذلك لا تكونُ الكَلِمُ المفردةُ التي هي أسماءٌ وأفعالٌ وحروفٌ، كلاماً وشعراً، من غير أن يحدُثَ فيها النظْمُ الذي حقيقَتُه توَخِّي معاني النحو وأَحكامِه. فإذنْ ليس لمن يتصدَّى لمَا ذكَرْنا، مِن أَنْ يَعْمَد إلى بيتٍ فيضَعُ مكانَ كلِّ لفظةٍ منها لفظة في معناها، إلاأن يُسْتَرَكَّ عقلُه1، ويُسْتَخفَّ، ويُعدَّ معدَّ الذي حُكي أنه قال: "إني قلتُ بيتاً هو أَشعَرُ من بيت حسان، قال حسان: يغشون حتى ما نهر كلابُهُمْ، ... لا يَسْأَلون عَنِ السوادِ المُقْبِلِ2 وقلتُ: يغشون حتى ما نهر كِلابُهُمْ ... أَبَداً ولا يَسَلُونَ مَنْ ذا المُقبِلُ3 فقيلَ: هو بيتُ حَسّان، ولكنَّك قد أفسدتَه.

_ 1 "يسترك"، أي يعد ركيكًا متهالكًا. 2 هو في ديوانه، و "السواد"، الشخص الذي يرى كأنه سواد من بعيد، لا تتبين العين معارفه،. 3 في المطبوعة: "ولا يسألون"، واختل وزن الكلام.

الموازنة بين المعنى المتحد واللفظ المتعدد

الموازنة بين المعنى المتحد واللفظ المتعدد 569 - واعلمْ أنه إنما أُتِيَ القومُ مِنْ قِلَّة نظرهم في الكتب التي وضعها العلماء اختلافِ العبارتَين على المعنى الواحد، وفي كلامهم في أَخْذ الشاعرِ مِنَ الشاعرِ، وفي أنْ يقولَ الشاعرانِ على الجملةِ في معنى واحدٍ، وفي الأَشعارِ التي دوَّنوها في هذا المعنى. ولو أنهم كانوا أخَذُوا أنفُسَهم بالنظرِ في تلك الكتبِ، وتدبَّروا ما فيها حقَّ التدَبُّر، لكان يكونُ ذلك قد أيقظَهم مِن غفْلَتهم، وكشف الغطاء عن أعينهم. الشاعران يقولان في معنى واحد وهو قسمان: 570 - وقد أردتُ أن أكتبَ جملةً من الشِّعْر الذي أنتَ ترى الشاعرَيْن فيه قدْ قالا في معنىً واحدٍ، وهو يَنقَسِمُ قسمين: قَسمٌ أنتَ ترَى أحدَ الشاعرَين فيه قد أتى بالمعنى غُفْلاً ساذَجاً، وترى الآخَرَ قد أخرجَه في صورةٍ تَروقُ وتُعْجِبُ. وقسمٌ أنتَ ترى كلَّ واحدٍ من الشاعرَين قد صَنعَ في المعنى وصور. القسم الأول: أحدهما غفل، والآخر مصور 571 - وأبدأُ بالقسمِ الأول الذي يكونُ المعنى في أحد البيتين غفلًا، وفي القسم الأول: الآخَرِ مصوَّراً مَصْنوعاً، ويكونُ ذلك إمَّا لأنَّ متأَخِّراً قصَّر عن مُتقدِّم، وإمَّا لأنْ هُدى متأخرٍ لشيءٍ لم يَهْتدِ إليه المتقدِّمُ. ومثالُ ذلك قول المتنبي1: بسئ اللَّيالي سَهِدْتُ مِنْ طَرَبي ... شَوْقاً إِلى مَنْ يَبيتُ يَرْقُدُها2

_ 1 أكثر اختيار عبد القاهر هنا عن أبي تمام والبحترى والمتبني وغيرهم من أصحاب الدواوين المطجبوعة، فسأترك الإشارة إلى دواوينهم في التعليق إلا عند وجود اختلاف. 2 هو في ديوانه، وكان في المطبوعة: "سهرت".

مع قول البحتري: لَيلٌ يُصَادِفُنِي ومَرْهَفَةَ الحَشَا ... ضِدَّيْنِ أَسْهَرُهُ لَهَا وتنامه1 وقول البحتري: وَلو ملَكتُ زَماعاً ظَلَّ يَجْذِبُني ... قَوْداً لَكَانَ نَدَى كَفَّيكَ من عقلي2 مع قول المتبني: وقَيَّدتُ نَفْسي في ذَرَاك مَحَبةً ... ومَنْ وَجَدَ الإحسان قيدًا تقيدا وقول المتنبي: إذا اعتل سيف الدولة اغتلت الأَرضُ ... وَمَنْ فَوْقَهَا وَالْبَأسُ وَالْكَرَمُ الْمَحْضُ مع قول البحتري: ظَلِلْنا نَعودُ الجودَ من وَعْكِكَ الذي ... وجَدْتَ وقلنا اغتل عضو من المجد وقول المتنبي: يعطيك مبتدرًا فَإِنْ أَعْجَلْتَهُ ... أَعْطَاكَ مُعْتَذِراً كَمَنْ قَدْ أَجْرَما3 مع قول أبي تمام: أخو عَزماتٍ فِعْلُهُ فِعلُ مُحْسِنٍ ... إلَيْنَا وَلكنْ عذره عذر مذنب4

_ 1 هو في مطبوعة الصيرفي "المعارف"، وليس في غيرها. 2 "الزماع"، العزم على الرحيل، و "العقل" جمع "عقال"، وهو ما يعقل به البعير لحبسه. 3 في المطبوعة: "يعطيط مبتدئًا". 4 هذه رواية أشير إليها، ورواية الديوان، وهي أجود: أخو أزمات بذله بذل محسن

وقول المتنبي: كريم مني اسْتُوهِبْتَ ما أَنتَ رَاكِبٌ ... وَقَدْ لقِحَتْ حَرْبٌ فإنك نازل مع قول البحتري: مَاضٍ عَلَى عَزْمِهِ في الْجُودِ لَوْ وَهَبَ الشـ ... ـبَابَ يَوْمَ لِقَاءِ الْبِيضِ مَا نَدِمَا وقولُ المتنبي: وَالَّذِي يَشْهَدُ الوَغَى سَاكِنُ الْقَلْـ ... ـبِ كَأَنَّ القتال فيها ذمام مع قول البتحري: لَقَدْ كَانَ ذَاكَ الجَأْشُ جَأْشَ مُسَالمٍ ... عَلَى أَنَّ ذَاكَ الزّيَّ زِيُّ مُحَارِبِ وقولُ أبي تمام: الصُّبْحُ مَشْهُورٌ بِغَيْرِ دَلاَئِلِ ... مِنْ غَيْرِهِ ابتْغِيَتْ ولا أعلام مع قول المتبني: وليس يصح في الأفهام شَيْءٌ ... إذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى دَلِيلِ وقولُ أبي تمام: وَفِي شَرَفِ الْحَدِيثِ دَلِيلُ صِدْق ... لِمُخْتَبِرٍ عَلَى الشرف القديم1 مع قول المتنبي: أَفْعَالُه نَسَبٌ لوْ لمْ يقُلْ مَعَهَا ... جَدِّي الخصيب عرفنا العرق بالغصن وقول البحتري: وأَحَبُّ آفاقِ البلادِ إِلى الفَتى ... أرضٌ يَنالُ بها كريم المطلب2

_ 1 كان في المطبوعة: "على شرف". 2 في المطبوعة: "إلى فتى".

مع قول المتنبي: وكل امرئ يُولِي الْجَمِيلَ مُحَبَّبٌ ... وَكلُّ مكَانٍ يُنْبِتُ العِزَّ طيب وقول المتنبي: يُقِرُّ لَهُ بالْفَضْلِ مَنْ لاَ يَوَدُّهُ ... وَيقْضِي لَهُ بِالسَّعْدِ مَنْ لاَ يُنَجِّمُ مع قولِ البحتري: لا أدَّعي لأبي العلاءِ فَضيلَةً ... حتَّى يُسَلِّمَها إليه عداه وقول خالد الكاتب: رَقَدْتَ وَلَمْ تَرْثِ للِسَّاهِرِ ... وَلَيلُ الْمُحِبِّ بِلاَ آخر1 مع قول بشار: لخدك مِنْ كَفَّيكَ فِي كُلِّ لَيلةٍ ... إِلى أنْ تَرَى ضَوْءَ الصبَّاحِ وِسادُ تبِيتُ تُرَاعي اللَّيلَ تَرْجُو نفَادَهُ ... وَليْسَ لِلَيلِ العَاشِقينَ نفَادُ2 وقولُ أبي تمام: ثوى بالمشرقين لها ضَجَاجٌ ... أطارَ قُلوبَ أَهْلِ المَغْرِبَيْنِ3 وقولُ البحتري: تَناذَرَ أهلُ الشَّرقِ منه وقائعاً ... أطاعَ لها العاصفون في بلد العرب

_ 1 أمالي القالي 1: 100، ومعه بيت آخر: ولم تدر بعد ذهاب الرقا ... د ما صنع الدمع من ناظري ولما سمعهما دعبل بن علي الشاعر قال: "لقد أدمن الرمية، حتى أصاب الثغرة". 2 في ديوانه، وكان في المطبوعة: "لخديك"، وهو خطأ، وفي الديوان: "ترى وجه الصباح". 3 في المطبوعة: "لهم ضجاج"، و "لها" ضمير "الوقائع" مما في البيت الذي قبله.

مع قول مسلم: لمَّا نزلتُ على أَدْنى ديارِهم ... أَلْقَى إليكَ الأقاصي بالمقاليد1 وقول محمد بن بشير: أُفْرُغْ لحاجَتِنا ما دمتَ مشغولاً ... فلو فَرَغْتَ لكنتَ الدهرَ مَبْذولا2 مع قول أبي عليٍّ البصير: فقُلْ لسعيدٍ أسعدَ اللهُ جَدَّه ... لقد رَثَّ حتى كادَ ينصرمُ الحبْلُ فلا تعتذرْ بالشُّغْلِ عنا فإِنما ... تُناطُ بك الآمالُ ما اتَّصل الشغل3 وقول البحتري: مِنْ غادةٍ مُنِعَتْ وتَمْنَعُ وَصْلَها ... فَلَوَ أنْها بُذِلَتْ لنا لم تَبْذُلِ4 مع قولِ ابنِ الرومي: ومِنَ البَليَّة أَنَّني ... عُلّقتُ ممنوعاً مَنوعا5 وقولُ أبي تمام: لئنْ كانَ ذنبي أنَّ أحْسَنَ مَطْلبي ... أساءَ ففي سوء القضاء لي العذر

_ 1 في ديوانه. 2 لم أقف عليه. 3 أبو علي البصير، الفضل بن جعفر بن الفضل بن يونس النخعي الكاتب، وبين البيتين بيت متصل معناه بالثاني، وهو في معجم الشعراء للمرزباني، 314: فكن عند اأملت فيك فإننا ... جميعًا لما أوليت من حسن أهل 4 في الديوان: "وتمنع نيلها". 5 ديوانه: 1462.

مع قول البحتري: إذا محاسني آلاتي أُدِلُّ بها ... كانتْ ذُنوبي فقلْ لي كيف أعتذر وقول أبي تمام: قد يقدم العير من ذغر على الأسد1 مع قول البحتري: فجاءَ مجيءَ العَيْرِ قادتْه حَيْرةٌ ... إِلى أهْرَتِ الشِّدْقَينِ تَدْمَى أظافِرُهُ وقولُ معنِ بن أوس: إِذا انصرَفَتْ نفسي عَنِ الشيءِ لم تَكَدْ ... إليه بوجهِ آخِرَ الدهرِ تُقْبِلُ مع قولِ العباس بن الأحنف: نَقْلُ الجبالِ الرواسيِ مِنْ أَماكِنها ... أَخَفُّ من ردِّ قلبٍ حينَ يَنْصرِفُ2 وقولُ أمية بن أبي الصلت: عطاؤك زين لامرئ إِنْ أصبتَهُ ... بخيرٍ وما كلُّ العطاءِ يزينُ3 مع قول أبي تمام: تُدْعى عطاياه وَفراً وهْيَ إنْ شُهرتْ ... كانتْ فخارا لمن يعفوه موتنفا ما زلتُ منتظراً أعجوبة عَنَناً ... حَتى رأيتُ سؤالًا يجتنى شرفًا

_ 1 صدر البيت في ديوانه: أطلبت ردعك حتى صرت لي غرضًا 2 في ديوانه، وفيه: "أخف من نقل قلب"، وهذه أجود. 3 في ديوانه، وفيه: "إن حبوته بخير"، وهي أجود.

وقول جرير: بعَثْنَ الهوَى ثمَّ ارتَمَيْنَ قلوبنَا ... بأَسْهُمِ أعداءِ وهن صديق1 مع قول أبي نواس: إِذا امتَحَنَ الدُّنيا لبيبٌ تكَشَّفَتْ ... لهُ عنْ عدو في ثياب صديق وقول كثير: إِذا ما أرَادتْ خُلَّةٌ أنْ تُزيلَنا ... أَبَيْنا وقُلْنا الحاجِبيَّةُ أَوَّلُ2 مع قولِ أبي تمام: نَقّلْ فؤادَك حيثُ شِئْتَ مِنَ الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول وقول المتنبي: وعندَ مَنِ اليومَ الوفاءُ لصاحبٍ ... شَبيبٌ وأَوْفى مَنْ تَرى أخَوانِ مع قولِ أَبي تمام: فلا تَحْسبَا هِنداً لها الغَدْرُ وحدَها ... سَجيَّةُ نفس كل غانية هند وقول البحتري: فلم أر في زنق الصَّرى ليَ مَوْرِداً ... فحاولتُ وِرْدَ النيلِ عندَ احتفاله3

_ 1 في ديوانه، وفيه: "دعون الهوى". 2 في ديوانه. 3 في ديوانه، وروايته: "ولم أرض في رنق الصرى"، و "الرنق"، الماء القليل الكدر، و "الصرى"، الماء الذي طال استنقاعه فتغير. و "النيل" نهر من أنهار الرقة، حفره الرشيد، وسمى باسم نيل مصر.

مع قول المتنبي: قَواصِدُ كافورٍ تَوارِكُ غَيْرِهِ ... ومَنْ قَصَدَ البحرَ استقل السواقيا وقول المتنبي: كأنما يولد الندى معهم ... لا عاذر ولا هرم مع قول البحتري: عريقون في الإفضال يونتف الندى ... لناشئهم من حيث يونتف العمر وقول البحتري: فلا تعلين بالسيفِ كلَّ غَلائِهِ ... لِيمضي فإنَّ الكَفَّ لا السيف تقطع مع قول المتنبي: إذا الهند سوت بين سيفي كريهة ... فسيفكط في كف تزيل التساويا وقول البحتري: سامَوْكَ من حَسَدٍ فأفضلَ منهمُ ... غيرُ الجَوادِ وجاد غير المفضل فبذلك فينا ما بذَلْتَ سَماحةً ... وتَكَرُّماً وبذَلْتَ ما لم تبذل مع قول أبي تمام: أَرى الناسَ مِنهاجَ الندى بعدَ ما عَفَتْ ... مهايعه المثلى ومحت لواجبه1 ففي كلِّ نَجَدِ في البلادِ وغائرٍ ... مواهبُ ليست منه وهي مواهبه وقول المتنبي: بيضاءُ تُطمِعُ فيما تَحْتَ حُلَّتِها ... وعزَّ ذلكَ مطلوبًا إذا طلبا

_ 1 "المهايع"، جمع "مهيع"، وهو الطريف الواسع المنبسط. و "اللواحب" جمع "لاحب"، وهو الطريق المستوى الواضح. و "محت"، بليت ودرست.

مع قول البحتري: تبدو بعطفة مطمع حتى إذا ... شغل الحلى ثنت بصدقة موبس وقول المتنبي: إذْكارُ مِثْلِكَ تَرْكُ إِذكاري لهُ ... إذْ لا تُريدُ لِمَا أُريدُ مُتَرجِما مع قولِ أبي تمام: وإذا المَجْدُ كان عَوْني على المَرْ ... ءِ تقاضيته بترك التقاضي وقول أبي تمام: فنَعِمْتِ مِن شمسِ إِذا حُجبت بَدتْ ... مِنْ خِدرِها فكأَنها لم تُحْجَبِ مع قولِ قيس بن الخطيم: قضى لها الله حين صورها الـ ... ـخالق أن لا يكنها سدف1 وقول المتنبي: رامياتٍ بأسْهُمِ ريشُها الهُدْ ... بُ تشُقُّ القُلوبَ قبلَ الجلودِ مع قولِ كُثيرِّ: رمتني بسهمٍ ريشُهُ الكُحْلُ لم يجُزْ ... ظواهرَ جِلدي وهْوُ في القلبِ جارحُ2 وقولُ بعضِ شعراء الجاهلية، ويُعْزَى إِلى لبيد:

_ 1 رواية ديوانه: "حين يخلقها الخالق"، و "السدف"، ظلمة الليل، يريد أن وجهها يضيء في ظلمة الليل. 2 هو ي ديوانه "إحسان عباس"، وفيه: "لم يصب ظواهر جلدي".

ودَعوتُ رَبي بالسلامةِ جاهِداً ... ليُصِحَّني فإِذا السَّلامةُ داء1 مع قول أبي العتاهية: أسرع في نقص امرئ تمامه ... تدبر في إقبالها أيامه2 وقوله: أقلل زيارتك الحبيـ ... ـب تكون كالثوب استجده إن الصديق بمله ... أنْ لا يزالَ يَراكَ عندَهْ مع قولِ أبي تمام: وطولُ مُقامِ المرءِ في الحيِّ مُخْلقٌ ... لديباجَتيْهِ فاغترب تتجدد وقول الحريمي: زادَ مَعْروفَك عندي عِظَما ... أَنَّه عندَك محقورُ صَغيرُ تَتناساهُ كأَنْ لم تَأتِهِ ... وهُوَ عِنْدَ الناس مشهور كبير3 مع قول المتبني: تَظْنُّ مِن فقْدِكَ اعتدادَهَمُ ... أَنَّهُم أَنْعَموا وما علموا

_ 1 في الكامل للمبرد 1: 128، ولم يذكر فيما نسب إلى لبيد، في ديوانه "إحسان عباس"، وقبله متصلًا به: كانت قناتي لا تلين لغامز فألانها الإصباح والإمساء 2 في تكملة الديوان، وكأنه من أرجوزته "ذات الأمثال". 3 الخريمي هو "أبو يعقوب": إسحق بن حسان بن قوهي الأعور"، والبيتان في الشعر والشعراء لابن قتيبة: 833، وشرح ديوان المتنبي للواحدي: 152، مع خلاف في الرواية.

وقول البحتري: ألمْ تَرَ للنوائبِ كيفَ تَسْمُو ... إِلى أهْلِ النوافل والفضول مع قول المتنبي: أَفاضلُ الناسِ أَغراضٌ لِذا الزَّمنِ ... يخْلُو مِن الهم أخلاهم من الفطن وقول المتنبي: تَذَلَّلْ لها واخضَعْ على القربِ والنَّوَى ... فما عاشِقٌ مَنْ لا يَذِلُّ ويَخْضَعُ مع قولِِ بعض المحدثين: كنْ إِذا أحببتَ عَبْداً ... للذي تَهوى مُطِيعا لن تَنالَ الوصْلَ حتى ... تُلْزِمَ النفسَ الخُضوعا وقولُ مضرِّس بن ربعي: لَعمرُكَ إِنِّي بالخليلِ الذي لَهُ ... عليَّ دلالٌ واجبٌ لمُفَجَّعُ وإنيَ بالمَولى الذي ليسَ نافعي ... ولا ضَائري فُقدانُهُ لمُمَتَّعُ1 مع قولِ المتنبي: أَمَا تَغْلَطُ الأَيامُ فيَّ بأَنْ أَرى ... بَغيضاً ثنائي أو حبيبًا تقرب وقول المتنبي: مظلومةُ القَدّ في تشبيهِهِ غُصُناً ... مظلومةُ الريقِ في تشبيه ضربا2

_ 1 هكذا نسب الشعر لمضرس بن ربعي، وهو خطأ وسهو يما أرجع، إنما هو للبراء بن ربعي الفقعسى، يرثى أخاه سليمًا، وهو في شرح الحماسة للتبريزي 2: 167، 168، وفي مقطعات مراث لابن الأعرابي رقم: 43. 2 أمام هذا البيت حاشية بخط كاتبها، وهي كما سلف، من كلام عبد القاهر هذا نصها: "سبب ما ترى فيه من القصور: أن الواجب أن تجعل هي نفسها مظلومة من أحل تشبيه قدها بالغصن، وريقها بالضرب، لا أن يجعل القد والريق مظلومين. ألا ترى أن اللائق أن يقول: إن شبهت قدها بالغصن ظلمتها، ولا يحسن أن يقول: إن شبهت قدها بالغصن ظلمته". و"الضرب"، العسل.

القسم الثاني: من الموازنة بين الشعرين والإجادة فيهما من الجانبين

القسم الثاني: من الموازنة بين الشعرين، والإجادة فيهما من الجانبين مع قوله: إذا نحن شبهناك بالبدر طالعًا ... بخسانك حَظّاً أنتَ أَبْهى وأَجمَلُ ونَظْلِمُ إنْ قِسْناك بالليثِ في الوغَى ... لأَِنكَ أحْمى للحريمِ وأَبسَلُ 572 - ذكرُ ما أنتَ ترى فيه في كلِّ واحدٍ من البيتين صنعةً وتصويراً واستاذيةً على الجملة، فمن ذلك، وهو في النادر، قول لبيد: واكذِبِ النفسَ إِذا حدَّثْتَها ... إنَّ صدْقَ النفسِ يُزري بالأَمَلْ1 مع قولِ نافعِ بنِ لَقيط2: وإِذا صدقتَ النفسَ لم تَتركْ لها ... أَملاَ ويأمُلُ ما اشْتَهى المكذوبُ3 وقولُ رجلٍ من الخوارج أُتِيَ به الحجاج في جماعةٍ من أصحاب قَطَرِيٍّ فقتلَهم، ومنَّ عليه لِيَدٍ كانت عنده، وعاد إلى قطري، فقال له قطرىك عاود قتال عدو الله الحججاج. فأبى وقال:

_ 1 هو في ديوانه. 2 نافع بن لقيط الفقعسى، ويقال له أيضًا "نويفع"، ويقال: "نافع بن نفيع الفقعسى"، طبقات فحول الشعراء: 367. 3 هو من قصيدته نافع الطويلة، رواها الزجاجي في اماليه: 126 - 128، عن الأخفش، عن ثعلب، وهي أيضًا في لسان العرب بتمامها "مرط"، وهذا البيت ليس فيها، ولكنه منها بلا ريب.

أَأُقاتِل الحجَّاجَ عَنْ سُلْطانه ... بِيدٍ تُقِرُّ بأَنها مَولاتُهُ ماذا أقولُ إذا وقفتُ إزاءَهُ ... في الصفِّ واحتجَّتْ لَهُ فَعَلاتُهُ وتحدَّثَ الأَقوامُ أنَّ صَنائعاً ... غُرِسَتْ لَدَيَّ فَحَنْظَلَتْ نَخلاتُهُ1 مع قول أبي تمام: أُسَرْبِل هُجْرَ القولِ مَنْ لو هَجَوْتُهُ ... إذَنْ لهجانى عنه معروفه عندي وقول النابغة: إذا ما غزا بالجيشِ حلَّقَ فَوْقَهُ ... عَصائِبُ طيرٍ تَهْتَدي بعَصَائبِ جوانحَ قَدْ أيقنَّ أن قَبِيلَهُ ... إِذا ما التَقى الصفَّانِ أولُ غالِبِ2 مع قولِ أَبي نواس: وإِذا مَجَّ القَنا عَلَقَا ... وتراءَى الموتُ في صُوَرِهُ راحَ في ثِنْيَيْ مُفاضَتِهِ ... أَسَدٌ يَدمى شَبا ظفُرهْ تتأيى الطيرُ غُدْوَته ... ثِقةً بالشِبْع من جَزَرِهُ3 المقصودُ البيت الأخير.

_ 1 هذه الأبيات وقصتها لعامر بن حطان الخارجي، وهو أخو عمران بن حطان، وخرجها إحسان عباس في "ديوان شعر الخوارج": 217، وفاته أنها في الموازنة للآمدي، وفي "إعتاب الكتاب": 61، 62، وفي كتاب "العفو والاعتدار" لرقام البصرى: 559، وهي عنده ثلاثة عشر بيتًا، وعند الآخرين ستة أبيات، وقبل البيت الثاني، بيت متصل به: إني أذن لأخو الدناءة والذي ... عفت على عرفانه جهلاته 2 كان في المطبوعة: "إذا ما غدا"، وكأنه تصحيف، ويرى: "أبصرت فوقهم عصائب طير، كما في ديوانه, وفيه أيضًا: "إذا ما التقى الجمعان". 3 في ديوانه. "العلق"، الدم، و "المفاضة" الدرع، و "تتأيي" تتحرى وتتوخى وتتعمد. "جزره"، يعني القتلى الذين جزرتهم سيوفه، وانظر الفقرة التالية، وفي الديوان: "تتأيي الطير غزوته".

573 - وحكى المرزباني قال: "حدثني عمرو الوراق قال: رأيتُ أبا نواس يُنْشد قصيدتَه التي أولها: أيها المنتاب عن عفره1 فسحدته، فلما بلغ إلى قوله: تتأيى الطيرُ غدوتَهُ ... ثِقةً بالشِّبْع مِن جَزَرِهُ قلتُ له: ما تركتَ للنابغة شيئاً حيثُ يقولُ: "إِذا ما غدَا بالجيش"، البيتين، فقال: اسكُتْ، فلئن كان سَبَقَ فما أسأْتُ الاتِّباعَ". وهذا الكلام من أبينواس دليلٌ بيِّنٌ في أنَّ المعنى يُنْقَل من صورةٍ إِلى صورة. ذاك لأنه لو كان لا يكونُ قد صنَعَ بالمعنى شيئاً، لكانَ قوله: "فما أسأتُ الاتِّباع" مُحالاً، لأنه على كل حالٍ لم يَتْبَعْه في اللفظ. ثم إنَّ الأَمر ظاهرٌ لِمَن نظَر في أنه قد نَقَل المعنى عن صورته التي هو عليها في شِعْر النابغَة إِلى صورةٍ أُخرى. وذلك أن ههنا معنيَيْنِ: أحدُهما: أصْلٌ، وهو: عِلْمُ الطَّير بأنَّ الممدوحَ إِذا غزا عَدُوّاً كان الظفَرُ له، وكان هو الغالبَ. والآخرُ فرْعٌ، وهو: طمَعُ الطيرِ في أن تتَّسع عليها المطاعِمُ من لحوم القتلى.

_ 1 في هامش المخطوطة، بخط كاتبها، ما نصه: "يقال: لقيته عن عفر: أي بعد شهر ونحوه". وكان في المطبوعة: "من عفر"، وهو في الديوان على الصواب.

وقد عَمَد النابغةُ إِلى "الأَصْل"، الذي هو علْمُ الطير بِأنَّ الممدوحَ يكونُ الغالبَ، فذَكَره صريحاً، وكَشَفَ عن وجهه، واعتمَدَ في "الفرع" الذي هو طمَعُها في لحوم القتلى، وأَنها لذلك تُحَلِّقُ فوقه على دلالةِ الفَحْوى. وعكَسَ أبو نواس القصَّة، فذكَر "الفرْعَ"الذي هو طمَعُها في لحوم القتلى صريحاً، فقال كما ترى: ثقة بالشِّبْعِ مِنْ جزرهُ وعوَّلَ في "الأَصْل"، الذي هو علمُها بأنَّ الظفرَ يكونُ للمدوح، على الفحوى. ودلالةُ الفحوى على عِلْمِها أنَّ الظفر يكون للمدوح، هي في أَنْ قال: "من جَزَرِه"، وهي لا تثق بأن شبعها يكون في جَزَر الممدوح، حتى تعلمَ أَنَّ الظَّفر يكونُ له. أفيكونُ شيءٌ أظهرَ من هذا في النقلِ عن صورةٍ إِلى صورة؟ 574 - أرجِعُ إِلى النَّسق ومن ذلك قول أبي العتاهية: شِيمٌ فَتَّحَتْ من المدْحِ ما قَدْ ... كانَ مُسْتَغلَقاً على المُدَّاحِ1 مع قولِ أبي تمام: نظمتْ له خرَز المديحِ مَواهِبٌ ... يَنْفُثْنَ في عقد اللسان المفحم وقول أبي وجزة: أتاكَ المَجْدُ منْ هَنَّا وهَنَّا ... وكنتَ له بمجتمع السيول2

_ 1 في ملحقات ديوانه: 515، عن "الصبح المبى"، و "الإبانة" للعبيدي، هو عند الواحي في شرح ديوانه المتنبي ص: 100. 2 هو لأبي وجزة السعدي، يزيد بن عبيد، في ديوانه المعاني للعسركي 1: 59، وكان في المطبوعة: "مجتمع"، وهو خطأ.

مع قول منصور النمرى: إنَّ المكارِمَ والمعروفَ أَوديةٌ ... أَحلَّكَ اللهُ منها حيث تجتمع1 وقول بشار: الشّيبُ كُرْهٌ وكُرْهٌ أنْ يُفارِقَني ... أَعْجِبْ بشيءٍ على البغضاء مودود2 مع قول البحتري: تعيب العانيات عليَّ شَيبي ... ومَنْ لي أن أمتَّعَ بالمَعيبِ وقول أبيتمام: يشتاقُهُ مِنْ كمَالِهِ غدُهُ ... ويُكْثِرُ الوَجْدَ نحوهُ الأمس مع قول ابن الرومي: إمامٌ يَظَلُّ الأمسُ يُعمِلُ نَحْوهُ ... تَلَفُّتَ ملْهوفٍ ويَشْتاقُهُ الغَدُ3 لا تنظرْ إِلى أنه قال: "يشتاقُه الغَدُ"، فأعادَ لفظَ أبي تمام، ولكنَّ انْظُرْ إِلى قوله: يُعملُ نحوَهُ تلفتَ ملهوفٍ. وقولُ أبي تمام:

_ 1 هو من قصيدته المشهورة في الرشيد، الأغاني 13: 145 "الدار"، والقصيدة منشورة في أحد أعداد مجلة المجتمع بدمشق. 2 هذا البيت ينسب لبشار، ولمسلم بن الوليد، وليس في ديوانهما، وهو لبشار في أمالي المرتضى 1: 607، وفي مجموعة المغاني: 124، وهو لمسلم في ديوانه المعاني 2: 158، وسمط اللآلئ: 334، وهو له في تاريخ بغداد 13: 97، 98 ثلاثة أبيات أولها، عن أبي تمام: نام العواذل واستكفين لائمتي ... وقد كفاهن نهض البيض والسود أما الشباب فمفقود له خلف ... والشيب يذهب مفقودًا بمفقود 3 هو في ديوانه: 787، وفيه: "كريم يظل الأمس".

لئن ذمت الأعداء سوء صباحها ... فليس يودى شكرها الذئب والنسر مع قول المتبني: وأنْبتَّ مِنْهُمْ ربيعَ السِّباعِ ... فأَثْنَتْ بإحسانِكَ الشاملِ وقولُ أبي تمام: ورُبَّ نائي المَغاني رُوحُهُ أبداً ... لَصِيقُ رُوحي ودان ليس بالدانى مع قول المتنبي: لنا ولأَهْلِهِ أبَداً قُلوبٌ ... تلاَقى في جسومٍ ما تلاقى وقول أبي هفان: أصبحَ الدهرُ مُسيئاً كلُّهُ ... مالَهُ إلاَّ ابنَ يَحْيى حَسَنهْ مع قولِ المتنبي: أزالتْ بِكَ الأيامُ عَتْبي كأنما ... بَنُوها لَها ذَنْبٌ وأنتَ لَها عذْرُ وقولُ علي بنِ جبلة: وأَرى الليالي ما طوَتْ مِنْ قُوَّتي ... رَدَّته في عِظتي وفي إِفهامي1 مع قولِ ابن المعتز: وما يُنتقَصْ من شَبابِ الرِّجال ... يَزِدْ في نهاها وألبابها2

_ 1 هو في مجموع شعره مخرجًا، وبعده: وعلمت أن المرء من سنن الردى ... حيث الرمية من سهام الرامي 2 هو في ديوانه، في باب الفخر.

وقول بكر بن النطاح: ولوْ لم يكنْ في كفِّهِ غيرُ روحِهِ ... لجَاد بِها فلْيتَّقِ اللهَ سائِلُهْ1 مع قول المتنبي: إِنكَ مِنْ مَعْشَرٍ إِذا وَهَبوا ... ما دُونَ أعمارهم فقد بخلوا وقول البحتري: ومن ذاا يلومُ البحرَ أَنْ باتَ زاخراً ... يفيضُ وصوبَ المزْنِ أَنْ راحَ يَهْطِلُ مع قولِ المتنبي: وما ثَناكَ كلامُ الناسِ عَنْ كَرَمٍ ... ومَنْ يسد طريق العارض الهطل وقول الكندي: عَزُّوا وعَزَّ بِعزِّهمْ مَنْ جَاوَرُوا ... فهُمُ الذُّرى وجماجم الهامات إن يطلبوا بتتراتهم يُعطَوا بها ... أو يُطلَبوا لا يُدْرَكوا بتِراتِ2 مع قول المتنبي: تُفيتُ الليالي كلَّ شيءٍ أخذْتَه ... وهنَّ لِمَا يأخذن منك غوارم وقول أبي تمام: إذا سيفه أضحى على اللهام حاكِماً ... غَدا العَفْوُ منهُ وهْوَ في السيفِ حاكم مع قول المتنبي: لهُ مِنْ كَريمِ الطَّبْع في الحرْبِ مُنْتَضٍ ... ومن عادة الإحسان والصفح غامد

_ 1 هذا بيت يقحم في شعر أبي تمام، وهو في ديوانه. 2 أعياني أن أجدهما، وهما موجودان.

575 - فانظُرِ الآنَ نظرَ مَنْ نَفَى الغفْلةَ عن نفسِه، فإنكَ ترَى عِياناً أنَّ لِلْمعنى في كل واجد من البيتِ الآخَر وأنَّ العلماءَ لم يُريدوا حيثُ قالوا: "إنَّ المعنى في هذا هو المعنى في ذاك"، أن الذي يعقل من هذا لا يخالف الذي يعقل مِن ذاك وأنَّ المعنى عائدٌ عليكَ في البيتِ الثاني على هيئَتهِ وصِفَتهِ التي كانَ عليها في البيتِ الأول وأنْ لا فرْقَ ولا فصل ولا تباني بوجهٍ من الوجوه وإنَّ حكْم البيتينِ مثَلاً حكْمُ الاسمينِ قد وُضِعا في اللغة لشيءٍ واحدٍ، كالليثِ والأَسد1 ولكنْ قالوا ذلك على حَسَبِ ما يقولُه العُقَلاء في الشيئينِ يَجْمَعهما جنسٌ واحدٌ، ثم يفترقانِ بخواصَّ ومَزايا وصفاتٍ، كالخاتم والخاتَم، والشَّنْف والشَّنْف، والسِّوارِ والسوار، وسائرِ أصنافِ الحِلَى التي يَجْمعها جنسٌ واحدٌ، ثم يكونُ بينهما الاختلافُ الشديدُ في الصَّنْعة والعَمَل. 576 - ومَنْ هذا الذي يَنظُر إِلى بيتِ الخارجِي وبيتِ أبي تمام2، فلا يَعْلَمُ أنَّ صورةَ المعنى في ذلك غيرُ صورتِه في هذا؟ كيفَ، والخارجيُّ يقول: "واحتجَّتْ له فَعْلاتُه" ويقولُ أبو تمام: إذن لَهجاني عنْه مَعْروفُه عندي ومتى كان "احتجَّ" و "هجا" واحدًا في المعنى؟

_ 1 السياق: "وأن العلماء لم يريدوا حيث قالوا ... ولكن قالوا ذلك". 2 هو فيما سلف قريبًا ص: 501.

وكذلك الحكْمُ في جميع ما ذكرْناه، فليسَ يُتَصوَّرُ في نفسِ عاقلِ أنْ يكونَ قولُ البحتري: وأَحَبُّ آفاقِ البلادِ إِلى الفَتى ... أرضٌ يَنالُ بها كَريمَ المَطْلَبِ وقولُ المتنبي: وكلُّ مكانٍ يُنبِتُ العزَّ طيِّبُ1 سواءً 577 - واعلمْ أنَّ قولَنا "الصورةُ"، إِنما هو تمثيلٌ وقياسٌ لما نَعْلَمه بعقولنا على الذي نرَاه بأبصارنا، فلما رأَينْا البَيْنونة بين آحادِ الأجناسِ تكونُ مِنْ جِهةَ الصورةِ، فكان تبين إنسانٍ مِنْ أنسانٍ وفرَسٍ من فرسٍ2، بخصوصيةٍ تكونُ في صورةِ هذا لا تكونُ في صورةِ ذاك، وكذلك كان الأمرُ في المصنوعاتِ، فكانَ تَبَيُّنُ خاتَمٍ من خاتمٍ وسِوَارٍ من سِوَارٍ بذلك، ثم وجَدْنا بينَ المعنى في أحد البيتين وبينه في الآخر بينونةً في عقولِنا وفَرْقاً3، عَبَّرْنا عن ذلك الفرقِ وتلكَ البينونةِ بأَنْ قلْنا: "لِلمعنى فيِ هذا صورةٌ غيرُ صورتهِ في ذلك". وليس العبارة من ذلك بالصورةِ شيئاً نحن ابتدأناه فيُنْكِرَهُ مُنْكِرٌ، بل هو مُستعمَلُ مشهورٌ في كلام العلماءِ، ويكفيك قول الجاحظ: "وإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير"4.

_ 1 هو فيما سلف قريبًا ص: 491. 2 في المطبوعة: "بين إنسان"، وبعده بقليل "بين خاتم". 3 السياق: "فلما رأينا البينونة .... عبرنا عن ذلك الفرق وتلك البينونة". 4 سلف فيما مضى في الفقرة رقم: 298، وفي المطبوعة: "صناعة".

578 - واعلمْ أنه لو كانَ المعنى في أَحدِ البيتين يكونُ على هيئتِه وصِفَته في البيتِ الآخَر، وكانَ التالي من الشاعِرَيْن يَجيئُك به مُعَاداً على وجهه لم يُحدِثْ فيه شيئاً، ولم يُغيِّر له صِفةً، لكان قولُ العلماءِ في شاعرٍ: "إِنه أَخَذَ المعنى مِنْ صاحِبِه فأحْسَنَ وأجادَ"، وفي آخَرَ "إِنه أسَاءَ وقصَّر"، لغوْاً من القولِ، من حيثُ كان مُحالاً يُحْسِنَ أو يسيءَ في شيءٍ لا يَصْنع به شيئاً. وكذلك كانَ يكونُ جَعْلُهم البيتَ نظيراً للبيتِ ومناسِباً له، خطأً منهم، لأنه مُحال أن يُناسِبَ الشيءُ نفسَه، وأن يكونَ نَظيراً لنفسِه. وأمرٌ ثالث: وهو أنهم يقولون في واحد: "إنه أخذ المعنى فظر أَخْذُه"، وفي آخر: "إِنه أَخذَه فأخفَى أخْذَه"، ولو كان المعنى يكونُ مُعاداً على صورتِه وهيئتِه، وكانَ الأَخْذ له مِنْ صاحِبه لا يَصْنع شيئاً غيرَ أن يُبدِّل لفظاً مكانِ لفظٍ، لكان الإخفاءُ فيه مُحالاً، لأن اللفظ لا يُخْفى المعنى، وإنما يُخْفيه إخراجُه في صورةٍ غيرِ التي كانَ عليها. 579 - مثالُ ذلك إن القاضي أبا الحَسَن1، ذكَر فيما ذكرَ فيه "تناسب المعاني"، بيت أبي نواس: خُلِّيَتْ والحُسْنَ تَأخذُهُ ... تَنْتقي منهُ وتَنْتخِبُ2 وبيتَ عبدِ الله بن مصعب: كأنَّك جئتَ محتكِماً عليهمْ ... تَخيَّرُ في الأبوَّةِ ما تشاء

_ 1 يعني القاضي الجرجاني أبا الحسن علي بن عبد العزيز في كتابه "الوساطة بين المتنبي وخصومه، وهذا كلها في "الوساطة": 160، وشعر أبي نواس وبشار وأبي تمام في دواوينهم. 2 هو في ديوانه، وذكر القاضي بعده: فاكتست منه طرائفه ... واستزادت فضل ما تهب

وذكر أنهما معًا من بيت بشار: خُلِقتُ على ما فيَّ غيرَ مُخَيَّرٍ ... هوايَ، ولو خُيِّرْتُ كنتُ المهذَّبا والأمرُ في تناسب هذه الثلاثةِ ظاهرٌ. ثم إنه ذكَرَ أنَّ أبا تمام قد تناوله فأخفاه وقال: فلَوْ صوَّرْتَ نفسَك لم تَزِدْها ... على ما فيكَ من كَرمِ الطِّباعِ 580 - ومن العجَب في ذلك ما تراه إِذا أنتَ تأملْتَ قولَ أبي العتاهية: جزى البخيل على صالحة ... غنى بخفته على ظَهْري أَعلى وأَكْرمَ عن يَدَيْهِ يَدي ... فَعلَتْ، ونزَّه قدْرُه قدْري وُرزِقتُ مِن جَدْواهُ عافيةً ... أنْ لا يَضيقَ بشكْرهِ صَدْري وغَنِيتُ خلوًا من تفضله ... أحنوا عليه بأحسن العذر ما فاتني خير امرئ وَضَعتْ ... عَنّي يَداهُ مؤونةَ الشكْرِ1 ثم نظرتَ إلى قول الذي يقول: أعتقني سوء ما صنعت من الرق ... فيا برْدَها على كَبِدي فصرتُ عَبْداً للسُّوءِ منك وما ... أحسن سوء قبلي إلى أحد2

_ 1 الشعر في ديوانه "بيروت": 345، وأسرار البلاغة: 143. 2 الشعر في أسرار البلاغة: 143، وحماسة ابن الشحرى 1: 291 "الملوحى" وفيها التخريج، غير معزو إلى أحد، وكان من الأسرار والمطبوعة: "للسوء فيك". وبعد هذا في المخطوطة سقط ورقتين: من ص: 324، إلى ص: 327، وسأشير إلى ذلك بعد قليل.

وصف الشعر والإدلال به

وصف الشعر والإدلال به 581 - وممَّا هو في غاية النُّدرة من هذا الباب، ما صنعه الجاحظ بقول نصيب: ولو سَكتوا أثنتْ عليكَ الحقائبُ حين نثرَه فقال، وكتبَ به إِلى ابن الزيات: "نحنُ، أَعزك اللهُ، نَسْحَرُ بالبيان، ونُموِّه بالقول، والناسُ ينظرون إِلى الحالِ، ويقْضُونَ بالعِيان، فأَثِّرْ في أَمرنا أَثراً ينطِقُ إِذا سكَتْنا، فإنَّ المدَّعي بغير بينة متعرض للتكذيب". قول الشعراء في وصف الشعر: 582 - وهذه جملة منْ وَصْفهم الشعرَ وعملِه، وإدلالهِمْ به. 1أبو حية النميري: إنَّ القصائدَ قد عَلِمْنَ بأنَّني ... صنَعُ اللسانِ بهنَّ، لا أَتَنحَّلُ وإِذا ابتدأتُ عروضَ نَسْجٍ ربض ... جعلت تذل لما أريد وتسهل

_ 1 من حر الشعر ونفيسه ما قاله أبو يعقوب الخريمي في صفة شعره، رواه الخالديان في الأشباه والنظائر1: 226. من كل غائرة إذا وجههتها ... طلعت بها الركبان كل نجاد طورًا تمثلها الملوك، وتارة ... بين الثدى تراض والأكباد يعني بالغائرة، قصيدة يقولها في الغور، ثم يوجهها، فتسير به الركبان مصعدة في كل نجد، ويناشهدها ملوك الناس وملوك البيان، ويتمثلون بها، ويفتن بها أهل الغناء، فيروضونها بالتلحين، فهي تلحن على العيدان المحتضنة بين الثدى والأكباد، شغفًا بها. وهذا شعر فاخر كان يقال مثله يوم كان ملوك الناس ملوكًا، ويوم كان شعر الناس شعرًا، وكان غناء الناس غناء!

حتى تُطاوِعَني، ولو يَرْتاضُها ... غَيْري لحاوَلَ صَعْبةً لا تقبل1 583 - تميم بن مقبل: إِذا مُتُّ عن ذكْر القوافي فلَنْ تَرى ... لها قائلاً بَعْدي أَطبَّ وأشْعَرا وأكثرَ بَيْتاً سائراً ضُرِبَتْ له ... حُزونُ جبالِ الشعرِ حتَّى تَيَسَّرا أغرَّ غريباً يَمْسَحُ الناسُ وجْهَهُ ... كما تمسح الأيدي الأغز المشهرا2 584 - عدى بن الرقاع: وقصيدةِ قد بِتُّ أجْمَعُ بَينها ... حَتَّى أُقوِّمَ ميلَها وسِنادَها نظرَ المُثَقِّفُ في كعوبِ قنَاتِهِ ... حتَّى يُقيمَ ثِقَافهُ مُنْآدَها3 585 - كَعْبُ بن زهير فَمَنْ للقوافي، شَانَها مَن يَحُوكُها ... إِذا ما توى كعب وفوز جزول يُقَوِّمُها حَتَّى تَلِينَ مُتُونُها ... فَيقْصُرُ عَنْهَا كلُّ ما يتمثل4 586 - بشار عَمِيتُ جَنِيناً، والذكاءُ مِنَ العَمَى، ... فجئتُ عجيبَ الظن للعلم موئلا

_ 1 في شعره المجموع، عن دلائل الإعجاز: وقوله: "أتنحل"، أي لا أغير على شعر غيري، فأسترق معانيه وأدعيها لنفسي، , "العروض" ناقة صعبة لم تذلل، ولم تقبل الرياضة بعد. وأراد بالنسخ نسخ الشعر، و "الربض" من الدواب وغيرها، الذي لا يقبل الرياضة، ولم تذل لراكبها بعد. و "تذل"، تلين وتسهل بعد صعوبة. 2 الشعر في ديوانه، وهو فيه "لها تاليًا بعدي"، و "بيتًا ماردًا"، وهو أجود وأدق. و "الأغر المهشر"، الفرس، يعني جاء سابًا فمسح الناس وجهه إكرامًا له، وحبا له. 3 في قصيدته، نشرها الأستاذ الميمنى في الطرائف الأدبية، "الثقاف" آلة تسوى بها قناة الرمح. و "المنآد" الذي فيه عوج. 4 في ديوانه. و "جرول" هو الخطيئة. و "توى" و "فوز" هلك.

وغاص ضياءُ العينِ لِِلْعِلْم رافداً ... لِقَلْبٍ إِذا ما ضَيِّع الناسُ حَصِّلا وشِعرٍ كنَورِ الروْضِ لاءمْتُ بَيْنَهُ ... بقولٍ إِذا ما أحزنَ الشعرُ أَسْهَلا1 587 - وله زَوْرُ ملوكٍ عليه أُبَّهةٌ ... يُغرَفُ مِن شِعْره ومن خُطَبِهُ للهِ ما راحَ في جوانحِهِ ... من لولؤ لا يُنَامُ عَنْ طَلَبهْ يَخرجُ مِن فيهِ للندى، كما ... يخرج ضوء السراج من لهبه2 588 - أبو شريح العمير فإنْ أَهلِكْ فقد أَبقَيْتُ بَعْدي ... قوافيَ تُعْجِبُ المتمثِّلينا لَذِيذاتِ المَقَاطعِ محْكَماتٍ ... لوَ أنَّ الشِّعْرَ يلبس لارتدينا3 589 - الفرزدق بلغنا لشمس حين تكونُ شَرْقا ... ومسقَطَ قَرنِها من حيثُ غابا

_ 1 في زيادات ديوانه. 2 في ديوانه. و "الزور"، الزائر، يستوى فيه المذكر والمؤنث، والمفرد والجمع. 3 لم أعرف "أبا شريح العمير"، وهو مجموعة المعاني: 178 لشاعر جاهلي، وفي البيان والتبيين 1: 222، وديوان المعاني: 1: 8 غير منسوب، وانفرد صاحب حماسة الشجرى بنسبته إلى ابن ميادة، وهذا خطأ أو سهو، لأنه فيما أرجع أخذه من البيان والتبيين، لأن الجاحظ عقد بابًا فقال: "ووصفوا كلامهم في أعشارهم، فجعلوها كبرود العصب، وكالحلل والمعاطف، والديباج والوشى، وأشباه ذلك. وأنشدني أبو الجماهر جندب بن مدرك الهلالي" وذكر أبياتًا ثم قال: "وأنشدني لابن ميادة: نعم إنني مهد ثناء ومدحة ... كبرد اليماني يربح البيع تاجره وأنشد" ثم ذكر البيتين، فاختلط الأمر على الشجرى في نقله إلى حماسته، فنسبه لابن ميادة. وهذا شعر فاخر.

بِكلِّ ثنِيَّةٍ وبكلِّ ثَغرٍ ... غرائبهُنَّ تَنتَسِبُ انْتِسابا1 590 - ابن ميادة فَجَرْنا ينابيعَ الكَلامِ وبَحْرَهُ ... فأصْبَحَ فيهِ ذو الروايةِ يَسْبَحُ وما الشعرُ إِلاّ شعرُ قيسٍ وخِنْدِفٍ ... وشِعْرُ سواهُمْ كُلْفَةٌ وتَملُّحُ2 591 - وقال عقالُ بن هشام القيني يرد عليه: ألا أبلغ الرَّمَّاحَ نقْضَ مقالةٍ ... بها خَطِلَ الرَّمَّاحُ أو كان يَمزَحُ لئن كان في قيسٍ وخِنْدِفَ ألسُنٌ ... طِوالٌ، وشِعرٌ سائرٌ ليس يُقْدَحُ لقد خَرَّقَ الحيُّ اليمانون قَبْلَهم ... بُحورَ الكلام تُسْتقَى وهْيَ طفَّحُ وهُمْ عَلَّموا مَنْ بَعْدَهُمْ فتعلَّموا ... وهمْ أَعْرَبوا هذا الكَلامَ وأَوْضَحوا فلِلسَّابقينَ الفَضْلُ لا يجحدونه ... وليس لمسبوق عليهم تبجح3 592 - أبو تمام كَشَفْتُ قِناعَ الشّعرِ عن حُرِّ وجْهِهِ ... وطيَّرتُه عن وكره وهو واقع بغر يراها ن يراها بسمعه ... ويدنوا إليها ذو الججى وهو شاسع

_ 1 في ديوانه، بقوله لجرير، وقبله، يعني شعره وقصائده: وغر قد نسقت مشهرات ... طوالع، لا تطيق لها جوابا "غر"، كالفرس الأغر يعرف من بين الخيل، "مشهرات"، يردن كل بلد فتطلع على أهله فيتناشدونها، ونسجها يدل على نسبها، يعني أن يقال: هذا الفرزدق يقول. "والتثنية" الطريق في الجبل يسكله الناس، و "الثغر" فرجة في بطن واد أو في جبل، أو في طريق مسلوك. 2 هو في الأغاني 2: 309 (الدار). 3 هو في الأغاني 2: 309 "الدار"، وسماه عقال بن هاشم"، و "الرماح" هو "ابن ميادة".

يَودُّ وِداداً أنَّ أَعضاءَ جِسْمِهِ ... إِذا أُنشِدَتْ شوقًا إليها مسامع1 593 - وله حذّاءَ تَملأُ كلَّ أُذْنٍ حكْمةً ... وبَلاغةً، وتُدِرُّ كل وريد كالرد والمرجانِ أُلّف نَظْمُهُ ... بالشَّذْر في عُنُقِ الفتاةِ الرُّودِ كَشقيقةِ البُرْدِ المُنَمنَمِ وشيُهُ ... في أرضِ مَهرةَ أو بلادِ تَزِيد يُعطَى بها البشرىالكريم ويَرْتدي ... بردِائها في المحفِلِ المَشْهودِ بُشْرَى الغَنيِّ أبي البنات تتابعت ... بشراوه بالفارس المولود2 594 - وله: جاءتْكَ مِنْ نَظْمِ اللسانِ قِلاَدَةٌ ... سِمْطانِ، فيها اللؤلؤُ المَكْنونُ أحْذَاكَها صَنَعُ الضَّميرِ يَمُدُّه ... جَفْرٌ إِذا نَضَبَ الكلامُ مَعِين3 595 - أخذ لفْظَ "الصَّنَع" من قوله أبي حَيّة: بأنني صنَعُ اللسانِ بهنَّ لا أتنحَّلُ ونقله إِلى الضمير، وقد جعل حسَّانُ أيضاً اللسانَ "صنعًا"، وذلك في قوله: أهدى لهم مدحًا قلب موازره ... فيمنا أحب لسان حائك صنع4

_ 1 شعر أبي تمام هذا، والآتي بعده في ديوانه. و "شاسع"، هو البعيد. 2 "حذاء" خفيفة السير في البلاد، و "تدر كل وريد"، تذبح من يحسده أو يحاول ما حاوله. و "الشذر"، ما يصاغ من ذهب أو فضة على هيئة الؤلؤة. و "الفتاة الرود"، الناعمة المتمايلة دلًا. و "الشقيقة"، ما يشق من البرود، و "المنمنم" المنقوش نقشًا دقيقًا. و "مهرة" من بلاد اليمن، و "بنو تزيد" من قضاعة، تنسب إليها البرود النفيسة. 3 يقال: "أحذاه من الغنيمة"، أي أعطاه. و "الجفر"، البئر الواسعة المستديرة التي لم تطو بعد. و "معين" يجري على وجه الأرض ماؤها. 4 هو في ديوانه.

596 - ولأبي تمام: إليك أرحنا عازب الشعر بعد ما ... تمهَّل في روضِ المعاني العجَائِبِ غرائبُ لاقتْ في فنائكَ أُنسَها ... مِن المَجْدِ فَهْيَ الآنَ غيرُ غَرائبِ ولو كان يفنَى الشعرُ أفناهُ ما قَرَتْ ... حياضُكَ منهُ في السنين الذَّواهِبِ ولكنّهُ صَوْبُ العقولِ، إِذا انْجَلَتْ ... سحائبُ منه أعقبت بسحائب1 597 - البحترى ألستُ المُوالِي فيكَ نَظْمَ قصائدٍ ... هي الأنجُم اقْتَادَتْ معَ الليلِ أَنْجُمَا ثناءٌ كأَنَّ الروضَ منهُ مُنوِّرا ... ضُحَى، وكأَنَّ الوشْيَ منهُ منَمْنما2 598 - وله: أحسن أبا حسن بالشعر، إذا جعلت ... عليك أنجمه بالمدح تنتثر فقد أئتك القوافي غب فائدة ... كمكا تفتح غب الوابل الزهر3 599 - وله إليك القوافي نازعات قواصدًا ... يُسَيَّرُ ضاحِي وَشْيها ويُنَمْنَمُ ومُشْرِقَةٌ في النظْمِ غر يزينها ... بهاء وحسنًا أنها فيك تنظم4

_ 1 "العازب" من الإبل، التي خرج يرعى بها راعيها كلًا بعيدًا عن ديار الحي. و "أراح الإبل"، إذا ردها إلى مراحها بعد غروب الشمس، حيث تأوى إلى مراحها ليلًا لتبيت فيه. و "قرت حياضك"، "قرى الماء في الحوض" جمعه، ورواية الديوان "في العصور الذواهب"، و "الصواب"، المطر. 2 في ديوانه، "فيه مسهمًا"، أي منقوشًا على هيئة السهام. 3 في المطبوعة: "تنتشر"، وهو خطأ. 4 "يسير"، أي ينسج على هيئة الحلة السيراء، ذات الخطوط. وفي المطبوعة: "أنها لك".

600 - وله بمنقوشة نقش الدنانير ينتفي ... لها اللفظُ مُختاراً كما يُنْتقى التِّبْرُ 601 - وله أيذهَبُ هذا الدهرُ لم يُرَ مَوْضِعي ... ولم يُدْرَ ما مِقدارُ حَلّي ولا عَقْدِي ويَكْسِدُ مثلى وهو تاجر سودد ... يَبيعُ ثميناتِ المكارِمِ والمَجْدِ سوائرُ شِعرٍ جامعٍ بِدَدَ العُلى ... تعلَّقنَ مَنْ قَبلي وأتعبْنَ مَن بَعْدي يقدِّرُ فيها صانعٌ مُتعمِّلٌ لأحكامِها تقديرَ داود في السرد1 602 - وله تاله يَسهرُ في مديحِكَ ليلَهُ ... مُتَمَلْمِلاً وتَنامُ دونَ ثوابه يقظان ينتخل الكلامَ كأنهُ ... جيشٌ لديهِ يُريدُ أَنْ يَلْقَى بِهِ فأتَى بهِ كالسيفِ رَقَرَقَ صَيْقَلٌ ... ما بَيْنَ قائمٍ سِنْخِهِ وذُبابِهِ2 603 - ومن نادر وصفه للبلاغة قوله: في نظام من البلاغة ما شك ... أمْرُؤٌ أنَّه نظامُ فَريدِ وبَديعٍ كأنَّه الزَّهَرُ الضاحك ... في رونق الربيع الجديد

_ 1 "البدد"، المتفرق. و "تعلقن"، يعني أنها فتنت الشعراء قبلهم، فتعلقنها حب علاقة. و "السرد" حلق الدروع، وإلى داود عليه السلام تنسب صنعة الدروع. لقوله تعالى له: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ: 11]. 2 في المطبوعة: "لله"، وهو خطأ لا شك فيه. وفي الديوان "ينتخب الكلام"، وكان في المطبوعة: "ينتحل الكلام"، بالحاء المهملة وهو تصحيف وفساد .... و "نحل الشيء وتنحله وانتخله"، بالخاء المعجمة، صفاه واختاره، وعزل عنه ما يكدره أو يفسده. و "الصيقل" الذي يجلو السيوف حتى يترقرق ماؤها من حدتها. و "السنخ" مغرز السيف في مقبضه، و "الذباب" طرف السيف.

عود إلى الاحتجاج على بطلان مذهب اللفظ

عود إلى الاحتجاج على بطلان مذهب اللفظ مشرق في جوانب السمع ما ... يحلقه عَوْدُهُ على المُسْتَعيدِ حُجَجٌ تُخْرِسُ الألدَّ بألفا ... ظِ فُرادى كالجوهرِ المعْدودِ ومَعانٍ لو فصَّلَتْها القَوافي ... هجنت شعر جرول ولبيد جزن مُستعمَلَ الكلامِ اخْتياراً ... وتجنَّبْنَ ظُلمَةَ التَّعقيدِ ورَكبْنَ اللّفظَ القريبَ فأدركْنَ ... بهِ غايةَ المرادِ البَعيدِ كالعَذارَى غَدَوْنَ في الحُلَلِ الصُّفْـ ... ـرِ إِذا رُحْنَ في الخطوط السود1 عرضه من ذكر وصف الشعراء الشعر، وأنه يدرك بالعقل، لا بمذاقة الحروف: 604 - الغرضُ من كَتْبِ هذه الأبياتِ، الاستظهارُ، حتى إنْ حَمَل حاملٌ نَفْسَه على الغَرَرِ والتقحُّم على غيرِ بصيرةٍ، فَزَعَمَ أنَّ الإعجازَ في مذاقةِ الحروفِ، وفي سلامَتِها مما يَثقُل على اللسانِ علِمَ بالنظرِ فيها فَسادَ ظنِّه وقبْحَ غَلَطِه، من حيثُ يَرى عياناً أنْ ليس كلامهم كلام من خطر ذلك منه يبالي، ولا صفاتُهم صفاتٍ تَصْلُحُ له على حالٍ. إذْ لا يَخْفَى على عاقلٍ أنْ لم يكن ضرب

_ 1 في ديوانه، يقوله في بلاغة محمد بن عبد الملك الزيات الكاتب الوزير، وذكر قبل البيت الأول "عبد الحميد الكاتب" فقال لابن الزيات: لتفننت في الكتابة حتى ... عطل الناس فن عبد الحميد و"الفريد"، اللؤلؤ. و "جرول"، الحطيئة، و "لبيد بن ربيعة" الفحل، وفي الديوان والمطبوعة قوله: "حزن مستعمل الكلام" بالحاء المهملة، وهكذا يجري في الكتب، وهو عندي خطأ لا شك فيه، وتصحيف مفسد للكلام والشعر معًا، وإنما هو "جزن" بالجيم المعجمة، من "جاز المكان" إذا تعداه وتركه خلفه. يقول: إن معانيه تعدين مبتذل اللفظ والكلام وتركته، "وتجنبن ظلمة التعقيد، وركبن اللفظ القريب"، وهو اللفظ المختار الجيد الذي لا ابتذال فيه ولا تعقيد. وهو في بعض نسخ الديوان "جزن" بالجيم، وهو الصواب المحض، وأما "حزن" فهو تصحيف يتقي، وكلام يرغب عن مثله. وفي بعض نسخ الديوان: "كالعذارى غدون في الحلل البيض"، وهي جيدة.

"تميمٍ" لحُزونِ جبالِ الشعر، لأنْ تسْلَم ألفاظُه من حروفٍ تثقُل على اللسان ولا كان تقويم "عدى" لشعره وتشبيهه نظرَه فيه بنَظَر المثقِّفِ في كُعوبِ قناتِهِ لذلك وأَنه مُحالٌ أنْ يكونَ له جعلَ "بشار" نورَ العينِ قد غاضَ فصار إلى قلبه1، وأن يكون الؤلؤ الذي كان لا ينامُ عن طلبهِ وأنْ ليس هو صَوْبَ العقولِ الذي إِذا انجلَتْ سحائبُ منه أعقبتْ بسحائب وأنْ ليس هو الدرَّ والمرجانَ مؤلَّفاً بالشذْرِ في العَقْد ولا الذي له كان "البحتريُّ" مقدِّراً "تقديرَ داودَ في السَّرد". كيف؟ وهذه كلُّها عباراتٌ عما يدرك بالعقل ويتسنبط بالفكر، وليس الفكرُ الطريقَ إِلى تمييزِ ما يَثْقُلُ على اللسان مما لا يَثْقُل، إِنَّما الطريقُ إِلى ذلك الحسُّ. 605 - ولولا أنَّ البلوى قد عظُمَتْ بهذا الرأي الفاسدِ، وأنَّ الذين قد استهلكوا قفيه قد صاروا من فرط شعفهم به يصغون إلى كل شيء سمعونه، حتى لو أنا إنسانًا قال: "باقلي حار"، يريهم أن يريد نصرة مذهبهم، لأقبلوا بأوجههم عليه وألقوا أسماعَهم إِليه2 لكان اطَّراحُه وترْكُ الاشتغالِ بهِ أصْوبَ، لأنه قولٌ لا يتصلُ منه جانبٌ بالصواب البتة. ذاك لأنَّه أولُ شيءٍ يؤدِّي إِلى أن يكونَ القرآنُ مُعْجِزاً، لا بما بهِ كان قرآناً وكلامَ اللهِ عزَّ وجَلَّ، لأنه على كلِّ حال إِنما كان قُرآناً وكلامَ اللهِ عزَّ وجلَّ بالنظْمِ الذي هو عَليه. ومعلومٌ أن ليس "النظْمُ" مِن مذاقةِ الحروفِ وسلامَتِها مما يثقل على اللسان في شيء.

_ 1 في المطبوعة: "قد غاص"، وهو تصحيف. 2 في المطبوعة: "فألقوا".

ثم إِنه اتفاقٌ منَ العقلاء أنَّ الوصْفَ الذي به تَنَاهى القرآنُ إِلى حدٍّ عجزَ عنه المَخلُوقونَ، هو الفصاحةُ والبلاغةُ. وما رأيْنا عاقلاً جعلَ القرآن فصيحاً أو بليغاً، بأنْ لا يكونَ في حروفِه ما يَثْقُل على اللسان، لأنه لو كان يَصِحُّ ذلك، لكان يَجبُ أن يكونَ السوقيُّ الساقِطُ من الكلامِ، والسفساف الردئ من الشعرِ، فصيحاً إِذا خفَّت حروفُه. 606 - وأعْجَبُ من هذا، أنه يلزم منه أن لو عَمَد عامِدٌ إلى حرَكاتِ الإِعراب فجعَل مكانَ كلِّ ضَمَّةٍ وكَسْرةٍ فتحةً فقال: "الحمدَ للهَ"، بفتح الدالِ واللام والهاءِ، وجرَى على هذا في القرآنِ كلِّه، أنْ لا يَسْلُبَه ذلك الوصفَ الذي هو معْجِزٌ به، بل كان يَنْبغي أن يزيدَ فيه، لأنَّ الفتحةَ كما لا يَخْفَى أخفُّ من كلِّ واحدةٍ من الضَّمةِ والكَسْرة. فإِنْ قال: إنَّ ذلك يُحيل المعنى. قيلَ له: إِذا كان المعنى والعلةُ في كونهِ معجزاً خفةَ اللفظِ وسهولَتَه، فينبغي أنْ يكونَ مع إحالةِ المعنى مُعْجِزاً، لأنه إذا كان معجزًا لوصف يخصُّ لفظَه دون معناهُ، كانَ مُحالاً أن يَخْرجَ عن كونهِ معجِزاً، مع قيام ذلك الوصف فيه. بيان أن قولهم في اللفظ، يسقط "الكناية" و"الاستعارة" و"التمثيل" و"المجاز" و"الإيجاز": 607 - ودعْ هذا، وهَبْ أنه لا يَلزَمُ شيءٌ منه، فإِنه يكْفي في الدلالةِ على سقوطهِ وقلَّةِ تمييز القائل به، أنه يَقْتضي إسقاطُ "الكناية" و "الاستعارة" و "التمثيل" و "المجاز" و "الإيجاز" جملةٌ، واطِّراحُ جميعها رأساً، مع أنها الأقطابُ التي تَدورُ البلاغةُ عليها، والأعضادُ التي تَسْتَنِدُ الفصاحةُ إِليها، والطَّلِبةُ التي يتنازَعُها المُحْسِنونَ، والرِّهانُ الذي تُجرَّبُ فيه الجيادُ، والنضالُ الذي تُعْرَفُ به الأيدي الشِّدَادُ، وهي التي نَوَّهَ بذكْرِها البلغاءُ، ورفَعَ من أقدارِها العلماءُ،

وصنفوا فيها الكتب، ووكلوا بها الهم، وصرَفوا إِليها الخواطِرَ، حتى صارَ الكلامُ فيها نوعاً من العِلْم مفْرَداً، وصناعةً على حِدَة، ولم يَتَعاطَ أحَدٌ من الناس القولَ في الإعجازِ إلاَّ ذكَرَها وجعَلَها العُمُدَ والأركانَ فيما يوجب الفضل والمزية، وخصوصًا "الاستعارة" و "الإيجاز"1، فإِنكَ تَراهُمْ يجعلونَهُما عنوانَ ما يَذكُرونَ، وأولَ ما يُورِدون. وتَراهُم يَذْكرون من "الاستعارةِ" قولَه عز وجل: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4]، وقولَه: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 93]، وقولَه عزَّ وجَلَّ: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} [يس: 37]، وقوله عزَّ وجلَّ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَر} [الحجر: 94]، وقولَه: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} [يوسف: 80]، وقولَه تعالى: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4]، وقولَه: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُم} [البقرة: 16]. ومن "الإيجازِ" قولَه تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58]، وقولَه تعالى: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِير} [فاطر: 14]، وقوله {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57]، وتراهم على لسانٍ واحدٍ في أنَّ "المجازَ" و "الإيجاز" من الأركانِ في أمْر الإِعجاز. 608 - وإِذا كان الأمرُ كذلك عندَ كافَّةِ العلماءِ الذينَ تكلَّموا في المزيا التي للقُرآن، فَيَنْبغي أن يُنْظَر في أمْر الذي يُسَلَّمُ نفسَه إِلى الغرورِ، فَيزعُم أنَّ الوصوف الذي كانَ له القرآنُ مُعجزاً، هو سَلامةُ حروفه مما يثقل على اللسان،

_ 1 في المطبوعة: "والمجاز"، ومثل الذي هنا في نسخة عند رشيد رضا. وهو الصواب، يدل عليه ما يأتي.

أيصِحُّ له القولُ بذلك إلاَّ مِنْ بَعْد أنْ يدَّعي الغَلطَ على العقلاءِ قاطبةً فيما قالوه، والخطأَ فيما أجْمعوا عليه؟ وإِذا نظَرْنا وجْدَناه لا يَصِحُّ له ذلك إلاَّ بأنْ يَقْتَحِمَ هذه الجهالةَ، اللهُمَّ إلاَّ أنْ يَخْرُجَ إِلى الضُّحْكَةِ فيزعمَ مَثلاً أنَّ من شأنِ "الاستعارة" و "الإيجاز" إِذا دَخلا الكَلامَ، أنْ يَحْدُثَ بهما في حروفه خفة، وتتجدد فيها سهولةٌ، ونسألُ اللهَ تعالى العِصْمَةَ والتوفيقَ. 609 - واعلم أنا لا نأتي أَنْ تكونَ مذاقةُ الحروفِ وسلامتُها مما يَثْقُل على اللِّسانِ داخِلاً فيما يُوجِبُ الفضيلةَ، وأنْ تكونَ مما يُؤكِّدُ أمرَ الإِعجازِ، وإِنما الذي نُنْكِرُه ونُفَيِّلُ رأيَ مَنْ يَذْهَبُ إِليه1، أن يَجْعَلَه معجِزاً به وَحْدَه، ويَجعلَه الأصْلَ والعُمْدةَ، فيَخرجَ إلى ما ذكرنا من الشناعات. بيان آخر في شأن "اللفظ"، وفساد القول به: 610 - ثم إنَّ العجَبَ كلَّ العجَبِ ممَّنْ يَجعَلُ كلَّ الفضيلةِ في شيءٍ هو إِذا انْفَرَد لم يَجِبْ به فضْلٌ البتَّةَ، ولم يَدْخُل في اعتداد بحال. وذاك أنه لا يَخْفى على عاقلٍ أنه لا يكونُ بسهولةِ الألفاظِ وسلامَتِها مما يثْقُل على اللسان، اعتداد، حتى يكون قد ألف منهنا كلامٌ، ثم كان ذلك الكلامُ صحيحاً في نَظْمه والغرضِ الذي أُريدَ به، وأنه لو عَمد عامدٌ إِلى ألفاظٍ فجَمعها مِن غيرَ أن يُراعيَ فيها معنىً، ويُؤلِّف منها كلاماً، لم تَرَ عاقلاً يعتدُّ السهولةَ فيها فضيلةً، لأنَّ الألفاظَ لا تُرادُ لأنفسِها، وإِنما تُرادُ لتُجعَلَ أدلَّةَ على المعاني. فإِذا عَدِمَتِ الذي لهُ تُرادُ، أو اختَلَّ أمرُها فيه، لم يعتد بالوصاف التي تكون في أنفُسها عليها، وكانتِ السهولةُ وغير السهولة فيها واحدًا.

_ 1 "قيل رأيه"، قبحه وخطأه لفساده.

ومن ههنا رأيتُ العلماءَ يذمُّون مَنْ يحمِلُه تطلُّبُ السَّجَعِ والتجنيس على أن يضيم لها المعنى1، ويدخل الخلل عليه من أجلها، وعلى أَنْ يتعسَّف في الاستعارةِ بسَبَبهما، ويَرْكَبَ الوعورةَ، ويسلُكُ المسالِكَ المجهولةَ، كالذي صنَع أبو تمام في قوله: سيف الإمام الذي سمته هييته ... لمَّا تَخَرَّم أهلَ الأرضِ مخْترِما قَرَّت بِقُرَّانَ عينُ الدينِ وانتشرتْ ... بالأشترينِ عيونُ الشِّرْكِ فاصطُلِما2 وقوله: ذهبَتْ بمَذْهَبهِ السماحةُ والْتَوَتْ ... فيه الظنونُ أمَذهَبُ أم مُذْهَبُ3 ويَصْنعه المتكلفونَ في الأسجاعِ. وذلك أنه لا يُتصوَّر أن يَجِبَ بهما، ومِنْ حيثُ هما، فضلٌ، ويقعَ بهما مع الخُلوِّ منَ المعنى اعتدادٌ. وإِذا نظرتَ إِلى تجنيسِ أبي تمام: "أمَذهَبٌ أم مُذهَبُ" فاستضعفتَه، وإِلى تجنيس القائل: حتَّى نجا من خَوفِهِ وما نَجا4 وقولِ المحدث: ناظراها فيما جَنَى ناظِراهُ ... أو دَعَاني أمُتْ بما أودعاني5

_ 1 في المطبوعة: "بضم"، وفسرها تفسير من لا ينظر. و "يضيم" بظلمه ويبخسه. 2 في ديوانه. و "تخرم"، استأصل. 3 في ديوانه. 4 البيت في أسرار البلاغة: 70، وهو في البيان والتبيين 1: 150/ 3: 72، والحيوان 3: 75، وروى: "من شخصه" و "من جوفه" وقال: "ومن الإيجاز المحذوف قول الراجز، ووصف سهمه حين رمى غيرًا، كيف نفذ سهمه، وكيف صرعه"، وهكذا الكلام عندي من أوهام الجاحظ، وإنما الصواب: "من خوفه" بالخاء المعجمة من فوق، , "نجا" الأولى من "النجو" وهو ما يخرج من البطن من الغائط، يريد أنه من خوفه أحدث، ثم لم نج. أما الذي قاله الجاحظ، فهو لا شيء. 5 خرجه في أسرار البلاغة، وهو لشمسويه البصري، وينسب لغيره فراجعه هناك.

فاستحسنْتَه، لم تَشُكَّ بحالِ أنَّ ذلك لم يَكُنْ لأمرٍ يرجعُ إِلى اللفظِ، ولكنْ لأنَّكَ رأيت الفائدة ضعفت في الول، وقويَتْ في الثاني. وذلك أنكَ رأيتَ أبا تمام لم يَزِدْكَ بمذهب ومذهب، على أنْ أسْمَعَكَ حُروفاً مكرَّرة لا تجدُ لها فائدة إِن وُجدتْ، إِلاّ متكلَّفة متمحَّلة، ورأيتَ الآخَر قد أعادَ عليك اللفظةَ كأنَّه يَخدَعُكَ عَنِ الفائدة وقد أعطاها، ويُوهِمُكَ أنه لم يَزِدْك وقد أحْسَن الزيادةَ ووفَّاها. ولهذهِ النكتةِ كانَ التجنيسُ، وخصوصاً المستوفَى منه، مثلَ "نجا" و "نجا"، من حِلى الشعر. والقولُ فيما يَحْسنُ وفيما لا يَحْسُنُ من التجنيسِ والسجعِ يَطولُ، ولم يكنْ غَرضُنا من ذكْرِهما شَرْحَ أمرهما1، ولكنْ توكيدَ ما انتهى بنا القولُ إِليه مِن استحالةِ أن يكونَ الإعجازُ في مجرَّد السهولةِ وسلامةِ الألفاظِ مما يَثقُلُ على السان. 611 - وجملة المر، أنَّا ما رأينا في الدنيا عاقلاً اطَّرَحَ النظْمَ والمحاسِنَ التي هو السببُ فيها من "الاستعارة" و "الكناية" و "التمثيل"، وضروب "المجاز" و "الإيجاز"، وصدَّ بوجهه عنْ جَميعِها، وجعلَ الفَضْلَ كلَّه والمزيةَ أجمَعها في سلامَةِ الحروفِ مما يَثْقُلُ. كيفَ؟ وهو يؤدِّي إِلى السُّخْفِ والخُروجِ من العقْلِ كما بيَّنَّا. 612 - واعلمْ أنه قد آنَ لنا نعودَ إِلى ما هو الأمْرُ الأعظَمُ والغَرضُ الأهَمُ، والذي كأنه هو الطَّلِبة، وكلُّ ما عَداهُ ذرائعُ إِليه. وهو المَرامُ، وما سواهُ أسبابٌ للتسلُّق عليه، وهو بيانُ العِلل التي لها وَجَبَ أن يكونَ لِنظْمٍ مزيةٌ على نظم، وأن يعظم أمر التفاضل فيه وتيناهى إِلى الغاياتِ البعيدةِ2. ونحنُ نسألُ الله تعالى العون على ذلك، والتوفيق له والهداية له.

_ 1 في "ج" "ولكن غرضنا"، وهو لا يستقيم. 2 في المطبوعة: "وإن يعم امر التفاضل"، وهو خطأ.

الخبر وما يتحقق به الإسناد

بسم الله الرحمن الرحيم الخبر وما يتحقق به الإسناد: "النظم"، هو توخي معاني النحو، وهو معدن البلاغة: 613 - ما أظن بك أيها القارئ لكتابِنا، إِن كنتَ وفَّيته حقَّه من النظرِ، وتدبَّرتَه حقَّ التدبرِ، إِلاّ أنكَ قد علمتَ علماً أَبى أن يكون للشكِّ فيه نصيبٌ، وللوقف نحوكَ مذهبٌ، أنْ ليس "النظمُ" شيئاً إلاَّ توخِّي معاني النحو وأحكامِه ووجوهِه وفروقه فيما بَيْنَ معاني الكلم1 وأنك قد تبيَّنت أنه إِذا رُفعَ معاني النَّحو وأحكامُه مما بينَ الكَلم حتى لا تُرادَ فيها في جملةٍ ولا تفصيلٍ، خرجت الكلم المنطوقُ ببعضِها في أثرِ بعضٍ في البيتِ من الشعرِ والفصلِ من النَثْر2، عن أنْ يكونَ لكونِها في مواضِعِها التي وُضِعَتْ فيها مُوجبٌ ومُقتضٍ3، وعنْ أن يُتصوَّر أن يقالَ في كلمة منها إِنها مرتبطةٌ بصاحبةٍ لها، ومتعلِّقةٍ بها، وكائنةٌ بسببٍ منها4 وإنْ حَسُنَ تصوُّرك لذلك، قد ثبت فيك قَدَمَكَ، وملأ مِنَ الثقةِ نفسَك، وباعَدَك من أن تَحنَّ إِلى الذي كنتَ عليه، وأن يَجُرَّك الإلفُ والاعتيادُ إِليه وأنك جعلتَ ما قلناه نَقْشاً في صدركَ، وأثبتَّه في سويداءِ قلبكَ، وصادقتَ بينَه وبينَ نفسِك. فإِنْ كانَ الأمرُ كما ظنناه. رجونا أن يصادفَ الذي نريدُ أن نستأنفَه بعونِ الله تعالى منكَ نية حسنة تقيكَ المللَ5، ورغبة صادقة تدفعُ

_ 1 معطوف على قوله: "إلا أنك علمت علمًا". 2 السياق: "خرجت الكلم. عن أن يكون". 3 السياق: يعني: وخرجت عن أيتصور. 4 السياق: "إلا أنك قد علمت علمًا وأنك قد بيينت وأن حسن تصورك، قد ثبت". 5 السياق: "أن يصادف نية حسنة".

عنكَ السأمَ، وأَرْيحيةً يخفُّ معها عليك تعبُ الفِكْر وكدُّ النظر، واللهُ تعالى وليُّ توفيقك وتوفيقنا بمنّهِ وفضلهِ. ونبدأ فنقول: 614 - فإِذا ثبتَ الآن أنْ لا شَكَّ ولا مِرْيَةَ في أنْ ليسَ "النظمُ" شيئاً غيرَ توخِّي معاني النحو وأحكامه فيما بين معاني الكلم، ثبتَ من ذلك أنَّ طالبَ دليلِ الإِعجازِ مِنْ نَظْمِ القرآنِ، إِذا هو لم يطلبْهُ في معاني النحو وأحكامه ووجوه وفروقِه، ولم يَعْلمْ أنها مَعْدنِه ومَعانُه1، وموضعه ومكانُه، وأنه لا مُستنبَط له سِواها، وأنْ لا وجْهَ لطلبهِ فيما عداها2، غارٌّ نفْسَه بالكاذِب من الطَمَع، ومُسْلمٌ لها إِلى الخُدَع، وأنهُ إِنْ أبى أن يكونَ فيها، كان قد أبى أنْ يكون القرآنُ معجزاً بنظمه، ولزمه أن يُثبت شيئاً آخر يكون معجزًابه، وأنْ يلحقَ بأصحابِ "الصَّرفة" فيدفعَ الإِعجازَ من أصلِه3، وهذا تقريرٌ لا يدفعه إِلا مُعانِدٌ يَعُدّ الرجوعَ عن باطلٍ قد اعتقدَه عجزاً، والثَّباتَ عليه مِنْ بَعْدِ لزوم الحجَّةِ جلداً4، ومن وضعه نفسَه في هذه المنزلةِ، كان قد باعَدَها من الإِنسانية. ونسألُ الله تَعالى العصمةَ والتوفيقَ. "الخبر"، أصل في معاني الكلام، في النفي والإثبات: 615 - وهذه أصولٌ يحتاجُ إِلى معرفَتِها قبل الذي عمدنا له. اعلمْ أن معاني الكلام كلَّها معانٍ لا تتصور إلا فيما بين شيئين، والأصل

_ 1 "المعان" المباءة والمنزل، ويعد بعضهم ميمه أصلية، وبعضهم أنه على وزن "مفعل". 2 السياق: "أن طالب دليل الإعجاز إذا هو لم يطلبه ولم يعلم أنها معدنه غار نفسه"، فهو خير "أن". 3 "أصحاب الصرفة"، هم المعتزلة. 4 "جلدًا"، ساقطة من "ج"، و "الجلد"، القوة والشدة.

والأولُ هو "الخبر". وإِذا أحكمتَ العلم بهذا المعنى فيه، عرفتَه في الجميع. ومن الثابتِ في العقولِ والقائمِ في النفوسِ، أنه لا يكونُ خبرٌ حتى يكونَ مخبَرٌ به وَمُخبرٌ عنه، لأنه، ينقسم إلى "إثبات" و "نفي". و "الإثبات"، يقتضي مثبتًا ومثبتًاله، و "النفي" يقتضي مَنفياً ومنفياً عنه. فلو حاولتَ أنْ تتصور إثبات معنى أو نَفْيُهُ مِنْ دون أن يكونَ هناكَ مُثبتٌ له ومنفيٌّ عنه، حاولتَ ما لا يَصِحُّ في عَقْلِ، ولا يقعُ في وهم. ومن أجل ذلك امتنع أنت يكون لك قصد إلى فعل من غير أن تريد إسناده إلى شيء مظهر او مقدر1، وكان لفظُكَ به، إِذا أنتَ لم تُرِدْ ذلك، وصوتًا توصته سواء2. 616 - وإِن أُردتَ أن تستحكم معرفةُ ذلكَ في نفسك، فانظرإليك إذا قبل لك: "ما فعلَ زيدٌ؟ " فقلتَ: "خرجَ"، هَلْ يتصوَّرُ أن يقعَ في خَلَدِك من "خرج" معنى من دون أن ينوي فيه ضميرَ "زيد"؟ وهل تكونُ، إِن أنتَ زعمتَ أنك لم تنوِ ذلك، إِلا مُخْرِجاً نفسك إلى الهَذَيان؟ وكذلكِ فانظر إِذا قيلَ لك: "كيفَ زيدٌ؟ "، فقلتَ: "صالحٌ"، هل يكونُ لقولِكَ "صالح" أثرٌ في نفسِك، من دون أن تريدَ "هو صالح"؟ أم هل يَعْقِلُ السامعُ منه شيئاً إِن هو لم يعتقد ذلك؟ فإِنه مما لا يبقَى معه لعاقل شَكٌّ أن "الخبرَ" معنى لا يتصوَّر إِلا بين شيئينِ، يكونُ أَحدُهما مثْبَتاً، والآخَرُ مثبَتاً له، أو يكونُ أحدُهما منْفِيّاً، والآخَرُ منفيّاً عنه وأنه لا يُتصوَّر مثُبَتٌ من غَيْر مثبَتٍ له، ومنفي من دون منفي عنه.

_ 1 في المطبوعة: "أو مقدر مضمر". 2 في هامش "ج" بخطه ما نصه: "أي مع صوت". ثم انظر الفقرة التالية رقم: 636 مكررة.

ولما كان الأمرُ كذلكَ، أَوجَبَ ذلك أنْ لا يُعْقَلَ إلاَّ من مجموع جملةِ فعْلٍ واسمٍ كقولِنا: "خرجَ زيدٌ"، أو اسمٍ واسْمٍ، كقولنا: "زيد منطلق"، فليس في الدنيا خير يعرف من غير هذا السبيل، ويبغير هذا الدليلِ. وهو شيء يعرفُه العقلاء في كل جبل وأمة، وحكمٌ يجري عليه الأمرُ في كلِّ لسان ولغة. لابد للخبر من مخبر به، يوصف هو بالصدق والكذب: 617 - وإِذْ قَدْ عَرَفْتَ أنه لا يُتصوَّر الخبرُ إِلاّ فيما بينَ شيئين: مخبرٍ به ومخبرٍ عنه، فينبغي أن تعلم أنهُ يحتاجُ مِنْ بَعد هذين إِلى ثالثٍ. وذلك أنه كما لا يتصوَّر أن يكونَ ههنا خبرٌ حتى يكونَ مخبَرٌ به وَمُخبرٌ عنه، كذلك لا يُتصوّر أن يكونَ خبرٌ حتى يكونَ له "مُخبِرٌ" يصدرُ عنه ويحصلُ من جهته، ويكونَ له نِسبةٌ إِليه، وتعودُ التَّبعةُ فيه عليه، فيكونَ هو الموصوفَ بالصدق إِن كان صدقاً، وبالكَذِب إِن كان كَذباً. أفلا تَرى أن من المعلوم أنه لا يكون إِثباتٌ ونفيٌ حتى يكونَ مثبتٌ ونافٍ يكون مصدرُهما من جهته، ويكون هو المُزْجِيَ لهما، والمبرم والنقاض فيهما، ويكونَ بهما مُوافقاً ومُخالفاً، ومصيباً ومخطئاً، ومحسناً ومسيئاً1. 618 - وجملةُ الأمرِ، إنَّ "الخبرَ" وجميعَ الكلامِ، معانٍ ينشِئُها الإِنسانُ في نفسهِ، ويُصرِّفها في فكره، ويناجي بها قلبه، ويارجع فيها عقلَه، وتوصَفُ بأنَّها مقاصدُ وأغراضٌ، وأعظمُها شأناً "الخَبرُ"، فهو الذي يُتصوَّر بالصُوَرِ الكثيرة، وتقعُ فيه الصناعاتُ العجيبةُ، وفيه يكونُ، في الأمرِ الأعمِّ، المزايا التي بها يقعُ التفاضلُ في الفصاحَةِ، كما شرحنا فيما تقدَّم، ونشرحُه فيما تقول من بعد إن شاء الله تعالى2.

_ 1 انظر الفقرة التالية رقم: 638. 2 انظر الفقرة التالية رقم: 639، والفقرة: 641.

619 - واعلمْ أنك إِذا فتشتَ أصحابَ "اللفظِ" عما في نفوسهم، وجدتهم قد تهوهموا في "الخبر" أنه صِفَةٌ للفظ، وأن المعنى في كونِه إِثباتاً، أنه لفظ يدلُّ على وجود المعنى من الشيء أو فيه وفي كونه نفياً، أنه لفظ يدل على عدمه وانتفائه عن الشيء. وهو شيءٌ قد لَزمَهم، وسَرَى في عروقِهم، وامتزجَ بطباعِهم، حتى صارَ الظَنُّ بأكثرهم أن القولَ لا ينجعُ فيهم. بطلان دعوى أصحاب "اللفظ" في توهمهم أن "الخبر" صفة "للفظ": 620 - والدليلُ على بطلانِ ما اعتقدوه، أنه محالٌ أن يكون "اللفظُ" قد نُصِبَ دليلاً على شيءٍ، ثم لا يحْصُل منه العِلْمُ بذلك الشيء، إِذ لا معنى لكونِ الشيء دليلاً إِلا إِفادته، إِياكَ العلمَ بما هو دليلٌ عليه. وإِذا كان هذا كذلك، عُلِم منه أنْ ليسَ الأمرُ على ما قالوه، من أن المعنى في وصفنا "اللفظَ" بأنَّه خبرٌ، أنه قد وُضِعَ لأن يدلَّ على وجودِ المعنى أو عدمه، لنه لو كانَ كذلكَ، لكانَ ينبغي أن لا يقع في سامِعٍ شكٌّ في خبرٍ يَسْمَعُه، وأن لا تسمعَ الرجلَ يثبتُ وينفي إِلا علمتَ وجودَ ما أثبتَ وانتفاء ما نفى، وذلكَ مما لا يشك في بطلانه. فإذا لم يكنْ ذلك مما يُشَكُّ في بطلانِهِ، وَجَبَ أن يُعْلَمَ أنَّ مدلولَ "اللفظ" ليس هو وجودَ المعنى أو عدمَه، ولكنِ الحكمُ بوجود المعنى أو عَدمِه، وأن ذلك، أي الحكمُ بوجود المعنى أو عدمِه، حقيقةُ الخبر، إِلاّ أنه إِذا كان بوجودِ المعنى منَ الشيء أو فيه يسمى "إِثباتاً"، وإِذا كان بِعَدَم المعنى وانتفائهِ عن الشيء يسمَّى "نفياً". ومن الدليل على فسادِ ما زعموه، أنه لوكان معنى "الإثبات"، الدلالةَ على وجود المعنى وإِعلامَه السامع أيضًا، وكان معنى طالنفي" الدلالة على عدمه وإِعلامَه السامعَ أيضاً، لكان ينبغي إِذا قال واحدٌ: "زيد عالم"، وقال أخر: "زيدٌ ليس بعالمٍ"، أن يكونَ قد دلَّ هذا على وجودِ العلم وهذا على عدمه، وإِذا قال الموحِّدُ: العالَمُ مُحْدَثٌ، وقال المُلْحِدُ: "هو قديمٌ"، أن يكونَ قد دَلَّ الموحِّدُ على حدوثِه، والملحِدُ على قِدَمِه، وذلك ما لا يقوله عاقل.

621 - تقريرٌ لذلك بعبارة أخرى: لا يتصوَّر أن تَفْتَقِرَ المعاني المدلولُ عليها بالجمل المؤلَّفة إلى دليلٍ يدُلُّ عليها زائدٍ على اللفظ. كيف؟ وقد أجمعَ العقلاءُ على أن العِلْمَ بمقاصِد الناس في محاوراتِهم علمُ ضرورةٍ، ومن ذَهَب مذهباً يقتضي أن لا يكونَ "الخبرُ" معنى في نفسِ المتكلِّمِ، ولكن يكونُ وصفاً للفظ من أجلِ دلالتِه على وجودِ المعنى من الشيءِ أو فيه، أو انتفاءِ وجودِه عنه، كان قد نقضَ منه الأصْلَ الذي قَدَّمناه، من حيثُ يكونُ قد جعلَ المعنى، المدلول عليه باللفظ، لا يعرفُ إِلا بدليلٍ سوى اللفظِ. ذاك لأنَّا لا نعرفُ وجودَ المعنى المُثْبَتِ وانتفاءَ المنفيِّ باللفظ، ولكنا نَعْلَمُه بدليلٍ يقومُ لنا زائدٍ على اللفظِ. وما منْ عاقلٍ إِلاّ وهو يعلمُ ببديهةِ النظر أن المعلومَ بغيرِ اللفظ، لا يكونُ مدلولَ اللفظ. 622 - طريقة أخرى: الدلالةُ على الشيء هي لا محالة إِعلامُك السامعَ إِياه، وليس بدليلٍ ما أنتَ لا تعلمُ به مدلولاً عليه. وإِذا كان كذلك، وكان مما يُعْلم ببدائه المعقولِ أن الناسَ إِنما يكلِّم بعضُهم بعضاً ليعرفَ السامع غرض المتكلم ومقصوده، فينبغي أن يَنْظُرَ إِلى مقصودِ المُخْبر من خببره، ما هو؟ أهو أن يعلم السامع المخبر به والمخبر عنه، أم أن يعلمَه إثبات المعنى المخبرَ به للمخبَرِ عنه؟ فإِنْ قيلَ: إِن المقصودَ إِعلامُه السامعَ وجودَ المعنى من المخبر عنه، فإِذا قال: "ضربَ زيدٌ" كان مقصودُه أن يُعلمَ السامعَ وجودَ الضرب من زيدٍ، وليس الإثبات لا إِعلامَه السامعَ وجودَ المعنى. قيل له: فالكافرُ إِذا أثبتَ مع الله، تعالى عما يقول الظالمون، إلهاً آخر،

يكونُ قاصداً أن يَعْلَم، نعوذ بالله تعالى، أن مع الله تعالى إلهاً آخر؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً1، وكفى بهذا فضيحة. 623 - وجملةُ الأمرِ، أنه ينبغي أنْ يقالَ لهم: أتشكُّونَ في أنه لا بُدَّ منْ أَن يكونَ لخبر المخبر معنى يعلمُه السامعُ علماً لا يكونُ معه شكٌّ، ويكون ذلكَ معنى اللفظِ وحقيقته؟ فإِذا قالوا: لا نشكُّ. قيل لهم: فما ذلك المعنى؟ فإِن قالوا: هو وجودُ المعنى المخبرَ به مَن المخبر عنه أو فيه، إِذا كان الخبرُ إِثباتاً، وانتفاؤه عنه إِذا كان نفياً لم يمكنهم أن يقولوا ذلك إِلاّ من بعد أن يكابروا فيدعوا أنهم إذا مسعوا الرجلَ يقولُ: "خرجَ زيدٌ"، علموا علماً لا شَكَّ معه، وجودَ الخروج من زيد. وكيف يدَّعون ذلكَ، وهو يقتضي أن يكونَ الخبرُ على وفق المخبر عنه أبدًا، وأنه لا يجوزَ فيه أن يقع على خلافِ المخبر عنه، وأن يكونَ العقلاءُ قد غَلِطوا حين جعلوا من خاص وصفه أن يحتملُ الصدقَ والكذبَ، وأن يكونَ الذي قالوه في أخبارِ الآحادِ وأخبارِ التَّواترِ2 من أنَّ العلم يقع بالتواتر دون دونَ الآحادِ سَهواً منهم، ويقتضي الغنى عن المعجزة، لأنه إنما احتيج إليها لي حصل العلم يكون الخبر على وِفْق المخبَرِ عنه، فإِذا كان لا يكون إِلاّ على وفقِ المخبر عنه، لم تقع الحاجة إلى دليل بدل على كونه كذلك، فاعرفه.

_ 1 قوله: "آخر، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً"، ليس في "ج". 2 هذا إشارة إلى مقالة المعتزلة في شأن أخبار الآحاد.

624 - واعلمْ أنه إِنما لزمهُمْ ما قُلناه، من أن يكونَ الخبرُ على وفقِِ المخبَرِ عنه أبداً، من حيثُ إِنه إِذا كان معنى الخبر عندهم، إِذا كان إِثباتاً، أنه لفظٌ موضوعٌ ليدلَّ على وجود المعنى المخَبر به من المخبر عنه أو فيه، وجبَ أن يكون كذلك أبداً، وأن لا يصحَّ أن يقالَ: "ضرب زيد"، إِلاّ إِذا كانَ الضربُ قد وُجِد من زيد. وكذلك يجبُ في النفي أن لا يصحَّ أن يقالَ: "ما ضربَ زيد"، إِلاّ إِذا كان الضربُ لم يوجد منه، لأن تجويزَ أنْ يقالَ: "ضربَ زيدٌ"، من غير أن يكون قد كان منه ضرب، وأنه يُقال: "ما ضربَ زيدٌ، وقد كانَ منه ضربٌ، يوجبُ على أصلهم إِخلاءَ اللفظ من معناه الذي وُضِعَ ليدلَّ عليه. وذلك ما لا يشك في فساده. ولا يلزمنا ذلك على أصلِنا، لأن معنى "اللفظ" عندنا هو الحكمُ بوجودِ المخبر به من المخبر عنه أو فيه، إِذا كان الخبر إِثباتاً، والحكم بعدمِه إِذا كان نفياً، واللفظ عندنا لا ينفك من ذلك لاو يخلو منه. وذلك لأن قولنا: "ضرب" و "ما ضربَ"، يدلُّ من قولِ الكاذب على نفس ما يدل عليه من قولِ الصادق، لأنَّا إِن لم نقل ذلك، لم يخلُ من أن يزعمَ أن الكاذبَ يُخلي اللفظ من المعنى، أو يزعم أنه يجعل للفظ معنًى غيرَ ما وضع له، وكلاهما باطلٌ. 625 - ومعلومٌ أنه لا يزالُ يدورُ في كلامِ العقلاء في وصفِ الكاذبِ: "أنّه يثبتُ ما ليس بثابتٍ، وينفي ما ليس بمنتفٍ"، والقولُ بما قالوه يؤدي إِلى أن يكونَ العُقَلاءُ قد قالوا المحالَ، من حيثُ يجب على أصلِهم أن يكونوا قد قالوا: إِن الكاذبَ يدل على وجودِ ما ليس بموجودٍ، وعلى عدمِ ما ليس بمعدومٍ. وكفى بهذا تهافُتاً وخَطَلاً، ودخولاً في اللغو من القول.

وإِذا اعتبرنا أصلنا كان تفسيرهُ: أن الكاذبَ يحكمُ بالوجود فيما ليس بموجودٍ، وبالعدم فيما ليس بمعدوم، وهو أسدُّ كلام وأحسنه. 626 - والدليلُ على أن اللفظَ من قولِ الكاذب يدلُّ على نفس ما يدل عليه من قولِ الصادق، إنهم جعلوا خاصَّ وصفِ الخبر أنه يحتَمِل الصدقَ والكَذِبَ، فلولا أنَّ حقيقتَهُ فيهما حقيقةٌ واحدةُ، لما كانَ لحدِّهم هذا معنى، ولا يجوزُ أن يقالَ: إِن الكاذبَ يأتي بالعبارةِ على خلافِ المعبَّر عنه لأن ذلك إِنما يقال فيمن أرادَ شيئاً، ثم أتى بلفظ لا يصح للذي أراد، ولا يمكننا أن نزعمَ في الكاذب أنه أرادَ أمراً، ثم أتى بعبارةٍ لا تصلح لما أراد. توهمهم أن "المفعول"، زيادة في الفائدة والاحتجاج لبطلانه: 627 - ومما ينبغي أن يحصل في هذا الباب، أنهم قد أصَّلوا في "المفعولِ" وكلِّ ما زاد على جزئي الجملة، أنه يكون زيادة في الفائدة. وقد يتخيل إلى من ينظر إلى ظاهرِ هذا من كلامهم، أنهم أرادوا بذلك أنك تضمُّ بما تزيده على جزئي الجملة فائدة أخرى، وينبني عليه أن ينقطعَ على الجملة، حتى يتصوَّر أن يكون فائدة على حدة، وهو ما لا يعقل، إذا لا يتصوَّر في "زيدٍ" من قولك: "ضربتُ زيدًا"، أن يكون شيئًا برأسه، حتى تكون بتعديتك "ضربت" إليه قد ضممتَ فائدة إلى أخرى. وإذا كان ذلك كذلك، وجب أن يعلمَ أن الحقيقة في هذا: أن الكلامَ يخرج بذكرِ "المفعول" إلى معنى غيرِ الذي كان، وأن وِزانَ الفعل قد عُدِّي إلى مفعولٍ معهُ، وقد أطلق فلم يقصدْ به إلى مفعولٍ دونَ مفعول، وزانُ الاسم المخصَّص بالصفةِ مع الاسم المتروك على شَياعه، كقولك: "جاءَني رجلٌ ظريفٌ"، مع قولك: "جاءني رجلٌ"، في أنك لستَ في ذلك كمن يضمُّ معنى إلى معنى وفائدة إلى فائدة، ولكن كمن يريد ههنا شيئاً وهناك شيئاً آخر. فإِذا قلتَ: "ضربتُ زيداً"، كان المعنى غيره إذا قلت: "ضربت" ولم تزد "زيداً".

وهكذا يكون الأمرُ أبداً، كلَما زدتَ شيئاً، وجدتَ المعنى قد صارَ غير الذي كان. ومن أجلِ ذلكَ صَلُح المجازاةُ بالفعل الواحد، إذا أتى به مطلقًا في الشطر، ومعدى إلى شيء في الجزاء، كقوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ} [الإسراء: 7]، وقولِه عزَّ وجل: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِين} [الشعراء: 130]، مع العلم بأن الشرطَ ينبغي أن يكونَ غيرَ الجزاء، من حيثُ كان الشرطُ سبباً والجزاءُ مسبِّباً، وأنه محال أن يكونَ الشيء سبباً لنفسِه. فلولا أن المعنى في "أحسنتُم" الثانية، غيرُ المعنى في الأولى، وأَنها في حكيم فعلٍ ثانٍ، لما سَاغ ذلك، كما لا يسوغ أن تقول: "إنْ قمتُ قمتَ، وإن خرجتُ خرجتَ"، ومثلُه من الكلام قولُه: "المرءُ بأصغريه، أن قال قال بيان، وإن صالَ صالَ بجَنانٍ"1، ويجري ذلك في الفعلين قد عُدِّيا جميعاً، إلا أن الثاني منهما قد تعدى إلى شيء زاد على ما تعدَّى إليه الأول، ومثالهُ قولُك: "إن أتاك زيدٌ أتاك لحاجة"، وهو أصلٌ كبير. والأدلةُ على ذلك كثيرة، ومن أولاها بأن يحفظ: أنك ترى البيتَ قد استحسنه الناسُ وقَضَوا لقائله بالفضلِ فيه، وبأنَه الذي غاصَ على معناه بفكره، وأنه أبو عُذْره، ثم لا ترى ذلك الحسنَ وتلك الغرابة كانا، إلا لِما بناهُ على الجملةِ دونَ نفسِ الجملةِ. ومثالُ ذلك قول الفرزدق: وما حملت أم أمرئ في ضُلوعها ... أعقَّ منَ الجاني عَليها هِجائيا2 فلولا أن معنى الجملة يصيرُ بالبناءِ عليها شيئاً غيرَ الذي كان، ويتغيَّر في ذاتِه، لكان محالاً أن يكونَ البيتُ بحيثُ تراه من الحسن والمزية، وأن يكون معناه

_ 1 من كلام ضمرة بن ضمرة، لما دخل على النعمان بن المنذر، البيان والتبيين 1: 171. 2 في ديوانه، ثم انظر الفقرة التالية رقم: 640، ولهذا البيت، ولما قبله من هذه الفقرة، ورقم: 632، أيضًا.

خاصاً بالفرزدقِ، وأن يقضيَ له بالسبق إليه، إذ ليس في الجملة التي بُني عليها ما يوجب شيئاً من ذلك، فاعرفه. 628 - والنكتة التي يجب أن تُراعَى في هذا، أنه لا تتبينُ لك صورةُ المعنى الذي هو معنى الفرزدق، إلا عند آخر حروف من البيت، حتى إن قطعتَ عنه قولَه "هجائيا" بل "الياء" التي هيَ ضمير الفرزدق، لم يكن الذي تعقلُه منه ممَّا أراده الفرزدق بسبيل، لأن غرضه تهويلُ أمر هجائه، والتحذيرُ منه، وأن من عرَّض أمَه له، كان قد عرَّضَها لأعظم ما يكونُ من الشرِّ. 629 - وكذلك حكمُ نظائِرهِ من الشِّعْرِ، فإِذا نظرت إلى قول القطامي: فهنَّ يَنْبُذنَ من قولٍ يُصبْنَ بهِ ... مَواقعَ الماء من ذي الغلة الصادي1 وجدتك لاتحصل على معنى يصحُّ أن يقالَ إنه غرضُ الشاعرِ ومعناه، إلا عند قولهِ "ذي الغلة". 630 - ويزيدك استبصاراً فيما قلناه، أن تنظرَ فيما كانَ من الشِّعْرِ جُملاً قد عُطِفَ بعضُها على بعض بالواو، كقوله: النشر مسك، والوجوه دنا ... نير وأطراف الاكف عنم2 وذلك أنه ترى الذي تعقِلُه من قولِه: "النَشرُ مسكٌ"، لا يصيرُ بانضمام قوله: "والوجوهُ دنانيرُ"، إليه شيئاً غير الذي كان، بل تراه باقياً على حاله. كذلك ترى ما تعقلِ من قوله: "والوجوه دنانير"، لا يلحقه تغيير بانضمام قوله: و "أطراف الأكف غنم"، إليه.

_ 1 هو في ديوانه. 2 هو للمرقش من قصيدته الجليلة، في المفضليات.

631 - وإِذ قد عرفتَ ما قررناه من أنَّ من شأنِ الجملة أن يصير معناها بالبناء عليها شيئاً غيرَ الذي كان، وأنه يتغيِّر في ذاته، فاعلم أن ما كان من الشعر مثل بيت بشار: كأن مثار النقع فوق روسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه1 وقول امرئ القيس: كأنَّ قُلوبَ الطيرِ رَطْباً ويابساً ... لَدى وَكْرِها العناب والحشف البالي2 وقول زياد: وإِنّا وما تُلقِي لَنا إنْ هجَوْتَنا ... لَكالبحر مَهْما يُلْقَ في البحرِ يَغْرَقِ3 كان له مزيةٌ على قول الفرزدق فيما ذكرنا، لأنك تجدُ في صدرِ بيتِ الفرزدق جملة تؤدي معنى، وإِن لم يكن معنى يصحُّ أن يقال إنه معنى فلان، ولا تجدُ في صدر هذه الأبيات ما يصح أن بعد جملة تؤدي معنى، فضلاً عن أن تؤدي معنى يقال إنه معنى فلان. ذاك لأن قولَه: "كأَنَّ مُثارَ النقع" إلى: "وأسيافنا"، جزءٌ واحدٌ و "ليل تهاوى كواكبه" بجملته الجزء الذي ما لم تأتِ به لم تكن قد أتيت بكلام. وهكذا سبيل البيتين الآخرين. فقولهُ: "كأنَّ قُلوبَ الطيرِ رَطْباً ويابساً لدى وَكْرِها" جزءٌ وقولهُ: "العنابُ والحَشفُ البالي" الجزء الثاني وقوله: "وإنَّا وما تُلْقي لنا إِنْ هَجَوتَنا" جزء، وقوله: "لكالبحرِ، الجزء الثاني، وقولُه: "مهما تلقِ في البحر يغرقِ"، وإن كان جملة مستأنفة ليس لها في الظاهر تعلق بقوله: "لكالبحر"، فإِنها لما كانت مبيِّنة لحال هذه التشبيه، صارتْ كأنَّها متعلَّقة بهذا التشبيه، وجرى مجرى أن تقول: "كالبحر في أنَّه لا يُلقى فيه شيء إلا غرق".

_ 1 سلف في رقم: 84، 485. 2 سلف في رقم: 84. 3 سلف في رقم: 84.

الخبر وما يتحقق به الإسناد: فصل منه

الخبر وما يتحقق به الإسناد: فصل منه فصل: "الإثبات" معنى تكون به المزية في الكلام: 632 - وإِذا ثبَتَ أنَّ الجملةَ إذا بُنيَ عليها حصَلَ منها ومِن الذي بُنِيَ عليها في الكثير، معنىً يَجب فيه أن يُنْسَب إلى واحدٍ مخصوصٍ، فإنَّ ذلك يقتضي لا محالَة أن يكونَ "الخبرُ" في نفسه معنىً هو غيرُ المخبَر به والمخبَر عنه. ذاك لِعِلْمنا باستحالة أنْ يكونَ لِلمعنى المخبَر به نسبةٌ إلى المخبِر، وأن يكون المستنبَط والمستخرَجَ والمستعانَ على تصويره بالفِكْر. فليس يَشُكُّ عاقلٌ أنه مُحالٌ أن يكونُ لِلْحَمْل في قوله: "وما حمَلتْ أم امرئ في ضلوعها"، نسبةٌ إلى الفرزدق، وأن يكونَ الفكْرُ منه كانَ فيه نفْسَه، وأن يكونَ معناهُ الذي قيل إنَّه استَنْبَطه واستخرجه وغاصَ عليه. وهكذا السبيلُ أبداً، لا يُتصوَّر أنْ يكونَ لِلمعنى المخبَر به نسبةٌ إلى الشعر، وأن يَبلُغَ من أمره أن يَصير خاصاً به، فاعرفْه. 633 - ومن الدليل القاطع فيه، ما بيَّنَّاهُ في "الكناية"، و "الاستعارة" و "التمثيل" وشرحناه، من أَنْ من شأن هذه الأجناسِ أن توجِبَ الحسْنَ والمزيَّةَ، وأنَّ المعاني تُتصوَّرُ مِنْ أجْلها بالصوَرِ المختلفة، وأن العلمَ بإيجابها ذلك ثابتٌ في العقولِ، ومركوزٌ في غَرائز النفوسِ1. وبيَّنَّا كذلك أنه محالٌ أنْ تكونَ المزايا التي تَحدُثُ بها، حادثة في المعنى المْخبَرِ به، المثْبَت أو المَنْفيِّ، لِعلْمنا باستحالة أَنْ تكونَ المزيةُ التي تجدها لقولنا: "هو طويلُ النجاد" على قولنا "طويل القامة" في الطول، والتي تَجدها لقولنا: "هو كثيرُ رمادِ القدر" على قولنا: "هو كثير القرى

_ 1 انظر رقم: 50، 524، وآخر: 531.

والضيافة في كَثْرةِ القِرى1. وإذا كان ذلك مُحالاً، ثبَتَ أنَّ المزيةَ والحسْنَ يكونان في إثبات ما يُراد أن يُوصفَ به المذكورُ، والإِخبارُ به عنه. وإذا ثبَت ذلك، ثبَتَ أنَّ "الإِثبات" معنىً، لأنَّ حصولَ المزيةِ والحُسْن فيما ليس بمعنى، محال2.

_ 1 انظر ما سلف من رقك/ 505، 506. 2 الفصل التالي في المخطوطة وص: 343 من "ج" تتضمن آخر هذا الفصل، عند قوله: "محال"، ثم يبدأ بعدها ما سيأتي برقم: 642، موصولًا به. واقرأ التعليق التالي.

هذا مما نقل مسودته بخطه بعد وفاته رحمه الله بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي وعيه اعتمادي1 "ألفاظ اللغة" لم توضع إلا لضم بعضها إلى بعض، ويضمها تكون الفائدة. وهذا موضع "الخبر" و"الإسناد": 634 - آعلم أن ههنا أصْلاً أنتَ ترى الناسَ فيه في صورةِ مَنْ يَعرِفُ مِن جانبٍ ويُنْكِر مِن آخَر، وهو أن الألفاظ المفردة التي هو أوضاع اللغة، لم توضح لِتُعْرفَ معانيها في أنفسها، ولكن لأن يُضَمَّ بعضها إلى بعض، فيعرف فيما بينهما فوائدُ. وهذا علِمٌ شريفٌ، وأَصْلٌ عظيم. والدليلُ على ذلك، أن إنْ زعمنا أنَّ الألفاظَ، التي هي أوضاعُ اللغة، وإنما وُضِعتْ ليُعرَفَ بها معانيها في أَنفُسها، لأَدَّى ذلك إلى ما لا يَشُكَّ عاقِلٌ في استحالته2، وهو أن يكونوا قد وضَعُوا لِلأجناسِ الأسماءَ التي وضَعُوها لها لتَعرِفَها بها، حتى كأنهم لو لم يكونوا قالوا: "رجل" و "فرس" و "دار"، لما كان يكون

_ 1 هذا الفصل من رقم: 634، إلى رقم: 641 هو في المخطوطة "ج"، يأتي بعد رقم: 652، ويبدأ في المخطوطة من ص: 352، إلى أوسط ص: 356. وقد أبقيته في موضعه هذا من مطبوعة رشيد رضا، وأثبته كما هو في موضعه منها، إذ لا ضير في ذلك، لأن هذه كلها فصول ملحقة بأصل كتاب "دلائل الإعجاز"، وأكثر هذا الفصل مكرر بعض ما مضى، كما سأشير إليه في تعليقاتي. وهو دليل على أن الشيخ رحمه الله كان يكتب هذه الفصول في أوراق منفصلة، ليلحقها في مواضعها في كتابه "دلائل الإعجاز". فلما توفي رحمه الله، وجمعوا أوراقه، نقلها الناقلون كما هي، دون نظر إلى التكرار الذي فيه. ومع ذلك في إثباته كما هو فائدة، نعرف منها طريقة شيخنا عبد القاهر في عمله وتأليفه. ومثل هذا نادر في شأن المؤلفين. وأيضًا فربما كان هذا دليلًا على أن "دلائل الإعجاز"، كان آخر ما ألفه عبد القاهر، وأنه لو طال به العمر، لنفي وأثبت، وأنزل كل فصل منها في منزله من كتابه. 2 في "ج": "أدى ذلك" بغير لام.

لنا علم بهذه الأجناس ولو لم يكونوا وضعوا أمثلة الأفعال لما كان لنا علم بمعانيها1 حتى لو لم يكونوا قالوا: "فعل" و "يفعل"، لمَا كنَّا نَعْرِفُ الخبرَ في نفسه ومن أصلِه ولو لم يكونوا قَدْ قالوا: "إفْعَل"، لمَا كنَّا نَعرِفُ الأمرَ مِنْ أَصْله، ولا نَجده في نفوسِنا وحتى لو لم يكونوا قد وَضَعوا الحروفَ، لكنَّا نَجْهلُ معانيهَا، فلا نعقلُ نَفْياً ولا نَهْياً ولا استفهاماً ولا استثناء. كيف؟ والمواضَعةُ لا تكونُ ولا تُتصوَّرُ إلاَّ على مَعْلوم، فمحالٌ أن يُوضَع اسْمٌ أو غيرُ اسم لغير معلوم، أن المواضَعةَ كالإِشارة، فكما أنكَ إذا قلتَ: "خذْ ذاك"، لم تكُنْ هذه الإشارةُ لتَعرِّفِ السامعَ المشارَ إليه في نفسِه، ولكن ليعلمَ أنه المقصود من بين سائر الأشياء التي نراها ونبصرها. كذلك حكْمُ "اللفظِ" مع ما وُضِعَ له. ومَن هذا الذي يَشُكُّ أَنَّا لم نَعْرِف "الرجل~" و "الفرس" و "الضرب" و "القتل" إلاَّ مِن أَساميها؟ 2 لو كان لذلكَ مَساغٌ في العقل، لكان ينبغي إِذا قيل: "زيد" أن تَعْرِفَ المسمَّى بهذا الاسمِ من غَير أن تكونَ قد شاهدْتَه أو ذُكِرَ لك بصفة. 635 - وإذا قلنا في العلم باللغات من متبدأ الأمر أنه كان إلهامًا3، فإن الإلهام لا يَرجِعُ إلى معاني اللغات4، ولكنْ إلى كون ألفاظ اللغات سمات

_ 1 في المطبوعة "لمَا كان يكونُ لنا عِلمٌ بمعانيها، وحتى لو لم يكونوا قالوا". 2 في "ج" "من أساميها" بحذف "إلا". 3 في المطبوعة: " ... في العلم واللغات"، وهو خطأ. 4 كان في المطبوعة هنا ما يأتي: "فإِنَّ الإِلهامَ في ذلك إنما يكونُ بين شيئينِ، يكونُ أَحدُهما مثْبَتاً والآخَرُ مثبَتاً له، أو يكون أحدها منْفِيّاً، والآخَرُ منفيّاً عنه، وأنه لا يُتصوَّر مثُبَتٌ من غَيْر مُثبَتٍ له، ومنفيٍّ من غير مَنْفيٍّ عنه. فلما كان الأمرُ كذلك، أَوجَبَ ذلك أنْ لا يُعْقَلَ إلاَّ من مجموع جملةِ فعْلٍ واسمٍ، كقولِنا: "خرجَ زيدٌ"، فما عقلناه منه، وهو نسبةٌ الخُروج إلى "زيد" لا يرجع إلى معاني اللغات"، وهو إقحام مفسد للكلام بلا ريب. فإن أول الكلام في "الإلهام"، والذي بعده كلام في الخبر" والذي أثبته هو ما في "ج" على الصواب والاستقامة. وسأشير بعد إلى موقع هذا الكلام في "ج"، في الفقرة: 637.

لتلك المعاني1، وكونِها مُرادةً بها. أفلاَ تَرى إلى قولهِ تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 31]، أَفتَرى أَنَّه قيلَ لهم: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ}، وهم لا يعرفون المشار إليهم بهؤلاء؟ 636 - وإذْ قد عرفتَ هذه الجملةَ، فاعلمْ أَنَّ معاني الكلام كلَّها معانٍ لا تُتصوَّر إِلا فيما بين شيئين، والأصل والأولُ هو "الخبر"، وإِذا أحكمتَ العلم بهذا المعنى فيه عرفتَه في الجميع. ومن الثابتِ في العقولِ والقائمِ في النفوسِ، أنه لا يكونُ خبرٌ حتى يكونَ مخبَرٌ به وَمُخبرٌ عنه، لأنه ينقَسِم إلى "إثبات" و "نفي"، و "الإثبات" يقتضي مثبتًا ومثبتًا له، و "النفي" يقتضي مَنفياً ومنفياً عنه. فلو حاولتَ أنْ تتصور إثبات معنى او نفيه، من غير أن يكونَ هناكَ مُثبتٌ له ومنفيٌّ عنه، حاولتَ ما لا يَصِحُّ في عَقْلِ، ولا يقع في وهم. من أجل ذلك امته أن يكون لك قصد إلى فعل من غير أن تريد إسناده إلى شيء2، وكنت إذا قلت: "ضرب"، لم تستطيع أن تريد منه معنى في نفسك، من غير أن تريد الخبر به عن شيء مظهر أو مقدر، وكان لفظُكَ به، إِذا أنتَ لم تُرِدْ ذلك، وصوتًا تصوته، سواء3. 367 - وإن أردت أن يستحكم معرفةُ ذلكَ في نفسِكَ، فانظرْ إِليك إِذا قيلَ لك: "ما فعلَ زيدٌ"؟ فقلتَ: "خرجَ"، هَلْ يتصوَّرُ أن يقعَ في خَلَدِك من

_ 1 في المطبوعة: "لذلك المعنى"، وهو كلام فاسد. 2 في المطبوعة: "ومن ذلك امتنع"، وهو لا شيء. 3 الفقرة: 636، هي مكرر الفقرة السالفة: 615.

"خرج" معنى مِنْ دون أن تَنويَ فيه ضميرَ "زيد"؟ 1 وهل تكونُ إِن أنتَ زعمتَ أنك لم تنوِ ذلك إِلا مُخْرِجاً نفسَك إلى الهَذَيان؟ 2 وكذلكِ فانظر إِذا قيلَ لك: "كيفَ زيدٌ"؟، فقلتَ: "صالحٌ": هل يكونُ لقولِكَ: "صالح" أثرٌ في نفسِك من دون أن تريدَ "هو صالح"3؟ أم هل يعقل السامع شيئًا إن هو لم يعتقد ذلك؟ 4. إذا ثبت ذلك5، فإنه مالًا يبقَى معه لعاقل شَكٌّ6، أن الخبرَ معنى لا يتصوَّر إِلا بين شيئينِ يكونُ أَحدُهما مثْبَتاً، والآخَرُ مثبَتاً له، أو يكونُ أحدُهما منفييًا، والآخَرُ منفيّاً عنه وأنه لا يُتصوَّر مثُبَتٌ من غيرِ مثبَتٍ له، ومنفيٌّ من دونِ مَنْفيٍّ عنه. فلما كان الأمرُ كذلك، أَوجَبَ ذلك أنْ لا يُعْقَلَ إلاَّ من مجموع جملةِ فعْلٍ واسمٍ7، كقولِنا: "خرجَ زيدٌ"، أو اسمٍ واسمٍ، كقولنا: "زيدٌ منطلقٌ". فليس في الدنيا خبرٌ يعرفُ من غيرِ هذا السبيلِ، وبغيرِ هذا الدليلِ، وهو شيء يعرفُه العقلاء في كل جبل وأمة، وحكمٌ يجري عليه الأمرُ في كلِّ لسان ولغة8.

_ 1 في المطبوعة: "أن يقع في خلدك معنى من دون"، وأسقط فاختل الكلام. 2 في المطبوعة: "وهل تكون وأنت زعمت أنك"، وهو كلام فاسد. 3 في المطبوعة: "أثر فيك"، وهو كلام سقيم. 4 في المطبوعة: "وهو لم يعتقد ذلك"، سيء. 5 "إذا ثبت ذلك" سقط من كاتب "ج" سهوًا. 6 في المطبوعة: "فإنه لا ينبغي لعاقل"، كلام سقيم. 7 كان في المطبوعة هنا: "أن الخبر لا يتصور إلا من فعل واسم، كقولنا "زيد خارج"، فليس في الدنيا خير"، أسقط هنا ما أثبته في أول الفقرة: 635، فأفسد بالإثبات والإسقاط الكلامين جميعًا. 8 الفقرة: 637، هي مكرر الفقرة السالفة: 616.

638 - وإذا قَدْ عَرَفْتَ أنه لا يُتصوَّر الخبرُ إِلاّ فيما بينَ شيئين: مخبرٍ به ومخبرٍ عنه، فينبغي أن تعلم أنهُ يحتاجُ مِنْ بَعد هذين إِلى ثالثٍ، وذلك أنه كما لا يتصوَّر أن يكونَ ههنا خبرٌ حتى يكونَ مخبَرٌ به وَمُخبرٌ عنه، كذلك لا يتصور حتى يكونَ له مُخبِرٌ يصدرُ عنه ويحصلُ من جهته، وتعودُ التَّبعةُ فيه عليه، فيكونَ هو الموصوفَ بالصدق إِن كان صدقاً، وبالكَذِب إِن كان كذبًا. أفلا ترى أن من المعلوم ضرورة أنه لا يكون إِثباتٌ ونفيٌ، حتى يكونَ مثبتٌ ونافٍ يكون مصدرُهما من جهته، ويكون هو المُزْجِيَ لهما، والمبرِمَ والناقِضَ فيهما، ويكونَ بهما موافقًا ومخالفًا، ومصيبًا ومخطئًا، ومسيئًا ومحسنًا1. "الخبر" وجميع معاني الكلام، معانٍ يُنْشئُها الإنسانُ في نفسِه: 639 - وجملة الأمر أن الخبر وجميع معماني الكلامِ معانٍ ينشِئُها الإِنسانُ في نفسهِ، ويُصرِّفها في فكره2، ويناجي بها قلبه، ويارجع فيها عقلَه، وتوصَفُ بأنَّها مقاصدُ وأغراضٌ. وأعظمُها شأناً الخَبرُ، فهو الذي يُتصوَّر بالصُوَرِ الكثيرة، وتقع فيه الصناعات العجيبة، وفيه تكون المزايا التي بها يقعُ التفاضلُ في الفصاحَةِ على ما شرحنا3. 640 - ثم إنا نظرنا في المعنى التي يَصفُها العقلاءُ بأنها معانٍ مستنْبَطة، ولطائفْ مستخْرَجةٌ، ويجعلون لها اخْتِصاصاً بقائلٍ دونَ قائلٍ، كمثل قولهم في معاني أبيات من الشعر4: "إنه معنىً لم يُسْبَق إليه فلان، وأنه الذي فطن له.

_ 1 الفقرة: 638 هي مكرر الفقرة السالفة: 617. 2 في المطبوعة: "وجمع معاني الكلام ينشئها"، وهو لا شيء. 3 الفقرة: 639، هي الفقرة فيها سلف رقم: 618، ولم يكن في المطبوعة هنا قوله: "على ما شرحنا". 4 في المطبوعة: "في معان من الشعر"، وهو لا شيء.

واستخْرَجَه، وإنه الذي غاصَ عليه بفِكْرِهِ، وإنه أبو عُذْرِه، لم تَجدْ تلك المعانيَ في الأمر الأَعمِّ شيئاً غيرَ الخَبر الذي هو إثبات المعنى للشيء ونفيه عنه. ويدلك على ذلك أنك لا تنظر إلى شيءٍ من المعاني الغريبةِ التي تخْتَصُّ بقائلٍ دونَ قائل1، إلاَّ وجدتَ الأَصْل فيه والأَساسَ الإثباتَ والنَّفْيَ. وإن أردْتَ في ذلك مثالاً فانظرْ إلى بيتِ الفرزدق: وما حملَتْ أم أمرئ في ضُلوعها ... أعقَّ منَ الجاني عَليها هِجائيا فإنَّك إذا نظَرْتَ لم تَشُكَّ في أنَّ الأصْل والأساسَ هو قولُه: "وما حملتْ أُمُّ امرئ"، وأنَّ ما جاوزَ ذلك مِنَ الكلمات إلى آخر البيتِ، مستَنِدٌ إليه ومبنيٍّ عليه2، وأنك إنْ رفعتَهُ لم تجِدْ لشيءٍ منها بَياناً، ولا رأيتَ لذِكْرها مَعنى، بل تَرى ذِكْرك لها إن ذكَرْتَها هَذَياناً. والسبَبُ الذي مِنْ أجْله كان كذلك، أنَّ مِنْ حُكْم كل ما عدا جزئي الجملة "الفعل والفاعل" و "المبتدأ والخبر"، أن يكون تخصيصًا للمعنى المثبت أو المنفي3، فقولُه: "في ضلوعِها"، يُفيدُ أولاً أنه لم يُرِدْ نفْيَ الحَمْلَ على الإِطلاق، ولكنِ الحَمْلَ في الضلوع، وقولهُ: "أعقَّ"، يُفيد أنه لم يُرِد هذا الحَمْلَ الذي هو حَملٌ في الضلوع أيضاً على الإِطلاق، ولكنْ حمْلاً في الضلوع محمولهُ أعقُّ من الجاني عليها هجاءه. وإِذا كان ذلك كلُّه تخصيصاً للحَمْل، لم يُتصوَّر أن يُعْقَل من دون أن يُعْقَلَ نفي الحمل، لأنه لا يتصور

_ 1 في المطبوعة: "أنا لا تنظر". 2 في المطبوعة: "مستند ومبنى عليه" أسقط "إليه". 3 في المطبوعة: "تحقيقًا للمعنى المثبت والمنفي" وهو خطأ يتضح صوابه مما يلي، وهو على الصواب في "ج".

تخصيصُ شيءٍ لم يدخلْ في نفيٍ ولا إثبات، ولا ما كان في سبيلهما من الأمر به، والنهي عنه, والاستخبار عنه1. 641 - وإذْ قد ثبَتَ أَن الخَبر وسائرَ معاني الكلام، معانٍ ينشِئُها الإِنسانُ في نفسهِ، ويُصرِّفها في فِكْره، ويناجي بها قلبَه، ويراجعُ فيها لُبَّهُ2، فاعلمْ أَنَّ الفائدةَ في العلم بها واقعةٌ من المنشئ لها، وصادرة عن القاصد إليها. وإذا قلنا في الفعل: "إنه موضوعٌ للخَبَرِ"3 لم يكنِ المعنى فيه أنه موضوع لن يُعْلَم به الخبَرُ في نفسِه وجنسِه، ومن أَصْلهِ، وما هو؟ ولكنَّ المعنى أنه موضوعٌ، حتى إذا ضممته إلى اسم، عقل به ومن ذلك الاسم، الخبر4، بالمعنى الذي اشتق ذلك الفعل منه من مسمى ذلك الاسم5، واقعًا منك أيها المتكلم، فاعرفه6.

_ 1 هذه الفقرة: 640، ليست مكررة يتفاصليها، ولكنها إعادة كتابة لما تضمنته أواخر الفقرة السالفة رقم: 627، قبيل ذكره بيت الفرزدق، ثم الفقرة: 632، وهذا الاختلاف موضع نظر مهم، في طريقة عبد القاهر في تأليفه، وفي مراجعته لما كتب، وفي شأن ما يجيء بعد انتهاء "كتاب دلائل الإعجاز"، كما كتبه، أو سوده، والذي انتهى عند آخر الفقرة رقم: 560، كما أشرت إليه هناك. 2 في المطبوعة: "ويرجع فيها إليه"، تصحيف لا ريب فيه. 3 في المطبوعة: وإذا قلت"، لا شيء. 4 السياق: "عقل به ... الخبر"، "الخبر" نائب فاعل. 5 كان في المطبوعة هكذا: "عُقِلَ منه ومن الاسمِ أنَّ الحكْمَ بالمعنى الذي اشتقَّ ذلك الفِعلُ منه على مسمّى ذلك الاسم واقع منك" وهو كلام لا يستقيم، وفيه تغيير ظاهر. و "واقعًا" حال. 6 الفقرة: 641، انظر لهذه الفقرة ما سلف رقم: 618، ورقم: 639.

إدراك البلاغة بالذوق وإحساس النفس

إدراك البلاغة بالذوق وإحساس النفس بسم الله الرحمن الرحيم بيان في "النظم"، ودخول الشبهة في أمره، وأن مرده إلى "الذوق" 1: 642 - أعلمْ أنك لن تَرى عجَباً أعْجبَ من الذي عليه الناسُ فِي أمرِ النَّظْم"، وذلك أنه ما مِن أَحدٍ لهُ أدنى معرفةٍ إِلاَّ وهو يَعلمُ أن ههنا نظْماً أحْسَنَ من نظْمٍ، ثم تراهُمْ إذا أنتَ أردْتَ أن تُبَصْرَهم ذلك تَسْدَرُ أعينُهُم2، وتضلُّ عنهم أفهامُهم. وسببُ ذلك أنهم أولُ شيء عَدِموا العِلْمَ به نفسَه، من حيث حَسِبوه شيئاً غيرَ تَوخِّي معاني النحو، وجعلوه يَكونُ في الألفاظِ دونَ المعاني. فأنتَ تَلْقى الجَهْد حتى تُمِيلَهم عن رأيهم، لأنكَ تُعالِجُ مرَضاً مُزْمناً، وداءً متمكِّناً. ثم إِذا أنتَ قُدْتَهم بالخَزَائم إلى الاعترافِ بأنْ لا معنى له غيرُ توخِّي معاني النحو3، عَرَض لهم من بَعْد خاطِرَ يَدهَشُهُمْ، حتى يكادوا يَعودون إلى رأسِ أمرهم. وذلك أنَّهم يَرَوْنَنا ندَّعي المزيةَ والحُسْن لِنَظْم كلامٍ من غير أن يكونَ فيه من معاني النحو شيءٌ يُتَصوَّرُ أنْ يتفاضَلَ الناسُ في العلمِ به، ويرونَنا لا نَستطيعُ أن نضَع اليَدَ من معاني النحو ووجوه على شيء تزعم أنَّ مِنْ شأنِ هذا أنْ يُوجِبَ المزيَّةَ لكلِّ كلامٍ يكونُ فيه، بل يَرَوْننا ندَّعي المزيةَ لكلِّ ما ندَّعيها له مِن معاني النحو ووجوه وفُروقهِ في موضعٍ دونَ مَوْضِعٍ، وفي كلامٍ دون كلامٍ، وفي الأقلِّ دونَ الأَكثرِ، وفي الواحدِ من الأَلْف. فإِذا رأَوْا الأمرَ كذلكَ، دخلَتْهم الشُّبْهَةُ وقالوا: كيف يصَيرُ المعروفُ مَجهولاً؟ ومِنْ أَين يُتصوَّر أن يكونَ للشيءِ في كلام مزيةٌ عليه في كلامٍ آخَر، بعْدَ أن تكون حقيقته فيهما حقيقة واحدة.

_ 1 هذا الفصل يأتي في "ج"، في ص: 343 منها، بعد آخر الفقرة: 633 مباشرة، وما بينهما زيادة في المطبوعة ليست في "ج". 2 "سدر بصره يسدر سدرًا"، تحير فلم يكد يبصر. 3 "الخزائم" جمع "خزامة"، وهي حلقة من شعر تجعل في وترة أنف البعير، يشد بها الزمام.

فإذا رأوا التنكير يكون فيما لا يصحى منَ المواضِعِ ثم لا يَقْتضي فَضْلاً، ولا يُوجِبُ مزيةً، اتَّهمونا في دَعْوانا ما ادَّعيناه لتنكير الحياة في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]، من أنَّ له حُسْناً ومزيةً، وأنَّ فيه بلاغة عَجيبة، وظَنُّوه وهْماً منَّا وتخيُّلاً. ولسنا نَستطيعُ في كشْفِ الشُبهة في هذا عنهم، وتصويرِ الذي هو الحقُّ عندهم، ما استطعناهُ في نَفْس النظْم، لأنَّا ملَكْنا في ذلك أن نَضْطرَّهم إلى أن يَعْلموا صحَّةَ ما نقولُ. وليس الأمرُ في هذا كذلك، فليس الداءُ فيه بالهيِّن، ولا هو بحيثُ إذا رُمْتَ العلاجَ منه وجدتَ الإمكانَ فيه مع كلِّ أحدٍ مُسْعِفاً، والسعيَ مُنْجِحاً، لأنَّ المزايا التي تحتاجُ أن تُعْلِمَهم مكانَها وتصورَ لهم شأنها، أمور خفيفة، ومعان روحاية، أنتَ لا تستطيعُ أن تُنَبِّه السامِعَ لها، وتحدث له علمًا بها، حتى يكون مهيئًا لإدراكها، وتكونَ فيه طبيعةٌ قابلةٌ لها، ويكونَ له ذوق وقريجة يَجِدُ لهما في نفسه إحساساً بأنَّ مِن شأن هذه الوجوه والفروق أن تعرض فيه المزية على الجملة ومن إذا تصفَّح الكلامَ وتدبَّر الشعرَ، فرَّقَ بين موقع شيء منها وشيء، ومن إذا أنشدته قوله: لي منْكَ ما للنَّاس كلِّهِمُ ... نَظَرٌ وتَسليمٌ على الطرق1

_ 1 لشمروخ، وهو "أبو عمارة" "محمد بن أحمد بن أبي مرة المكي"، وهي أبيات في معجم الشعراء: 438، والزهرة: 10، ومصارع العشاق ص: 174، غير منسوب. وأبياته هي: يا من بدائع حسن صورته ... تثنى إليه أعنه الحدق لي منْكَ ما للنَّاس كلِّهِمُ ... نَظَرٌ وتَسليمٌ على الطرق لكنهم سعدوا بأمنهم ... وشقيت حين أراك بالفرق سلموا من البلوى ولي كبد ... حرى ودمعة هائم ملق

وقول البحتري: وسَأَسْتَقِلُّ لكَ الدموعَ صبابَةً ... وَلَو أنَّ دِجْلةَ لي عليك دموع1 وقوله: رأت فلتات الشَّيبِ فابتسمتْ لها ... وقالتْ نجومٌ لو طَلَعْنَ بأسعد2 وقول أبي نواس: ركبٌ تَساقَوا على الأكْوارِ بَينَهُمُ ... كأسَ الكرَى، فانتشَى المَسْقيُّ والساقي كأنَّ أعناقَهُمْ، والنومُ واضِعُها ... على المناكب لم تعمد بأعناق3 وقوله: يا صاحبي عصيت مصطبحًا ... وغدوت للذات مطروحًا فتزُّودوا منِّي مُحادَثةً ... حَذرُ العَصَا لم يُبقِ لي مرحا4 وقول إسمعيل بن يسار: حتى إذا الصبح بدا ضوءه ... وغبت الجوزاءُ والمِرْزمُ خرجتُ والوطءُ خفيٌّ كما ... يَنْسابُ من مكمنه الأرقم5

_ 1 في ديوانه، في وداع إبراهيم بن الحسن بن سهل. 2 في ديوانه، وفي المطبوعة: "مكنات الشيب" وشرحها شرحًا غير لائق. و "فلتات الشيب". أول ما أسرع إليه من الشيب فلتة. 3 في ديوانه، آخر باب المدائح، وانظر التشبيهات لابن أبي عون: 189، والحيوان 7: 258، والبرصان: 531، وفي رواية البيت الثاني "لم تعمد". في هامش المخطوطة: "لم تعدل"، وفي الديوان: "لم تدعم"، وكل جيد في معنى واحد. 4 في ديوانه، في الخمريات. 5 شعره في الأغاني 4: 417، "الدار"، و "الجوزاء" يعني نظم الجوزاء، وهو أحد المبرزمين، وهما من النجوم التي تغيب عند دنو الصبح. و "الأرقم"، الحية.

أنق لها، وأخذته الأربحية عندها، وعرف لطف موقع "الحذف" و "التنكير" في قوله: نظرٌ وتسليمٌ على الطرقِ وما في قولِ البحتري: "لي عليكَ دموعُ" مِنْ شبْه السِّحر، وأنَّ ذلك من أجْل تقديم "لي" على "عليك"، ثم تنكيرِ "الدموع" وعرَفَ كذلك شرَفَ قولِه: وقالتْ نجومٌ لو طلعْن بأسعد وغلو طبقتِه، ودقةَ صنعتِه. 643 - والبلاءَ1، والداءَ العياء، إنَّ هذا الإِحساسَ قليلٌ في الناس، حتى إنه ليكونُ أن يقعَ للرجل الشيءُ من هذه الفروقِ والوجوهِ في شِعْرٍ يقوله: أو رسالةٍ يكتُبها، الموقعَ الحسَن. ثم لا يعلمُ أنه قد أحْسَنَ. فأمَّا الجهلُ بمكانِ الإِساءة فلا تَعْدمُه، فلستَ تملكُ إذاً من أمرِكَ شيئاً حتى تظفرَ بمَنْ له طبعٌ إذا قدحْتَه وَرَى، وقلبٌ إذا أرْيتَهُ رأى، فأمَّا وصاحبُك مَنْ لا يرى ما تُريه، ولا يهتدي للذي تَهديه، فأنتَ رام في غيرِ مَرْمًى، ومُعَنٍّ نفسَك في غيرِ جَدْوى، وكما لا تُقيم الشعرَ في نفسِ مَن لا ذوقَ له، كذلك لا تُفهِمُ هذا الشأنَ مَنْ لم يؤْتَ الآلة التي بها يَفْهم، إلاَّ أنه إنما يكونُ البلاءُ إذا ظنَّ العادِمُ لها أنه أُوتيَها، وأنه ممَّنْ يكملُ للحكْم، ويصحُّ منه القضاءُ، فجعَل يقول القولَ لو علِمَ غبه لاستحى منه. فاما الذي يحسن بالنقص من نفسه، ويعلم أنه قد عدم علمًا قد أوتيته مِنْ سِواه، فأنتَ منه في راحة، وهو رجلٌ عاقلٌ قد حماهُ عقلُه أنْ يعْدُو طورَهُ، وأن يتكلَّف ما ليس بأهلٍ لَهُ.

_ 1 هذه الفقرة كلها: 643، هي ختام الرسالة الشافية رقم: 50 كما سيأتي ورحم الله الشيخ الكبير عبد القاهر، فكأنه يتكلم في هذا كله عن زماننا نحن، لا عن زمانه.

وإِذا كانَتِ العلومُ التي لها أصولُ معروفةٌ، وقوانينُ مضبوطةٌ قد اشتركَ الناسُ في العِلْم بها، واتَّفقوا على أنَّ البناءَ عليها، إذا أخطأ فيها المخطئ ثم أعجب برأيه، لم تستطع رَدُّه عن هواه، وصَرْفُه عن الرأي الذي رآه، إلاَّ بَعْدَ الجهْدِ، وإلاَّ بعد أن يكونَ حَصيفاً عاقِلاً ثَبْتاً إذا نُبِّهَ انْتَبَهَ، وإِذا قيلَ: إنَّ عليكَ بقيةً مِنَ النَّظَرِ، وقفَ وأصْغى، وخَشِيَ أن يكونَ قد غُرَّ، فاحتاطَ باستماعِ ما يُقال له، وأنِفَ من أن يلجَّ من غير بيِّنة، ويستطيلَ بغيرِ حُجَّة، وكان مَنْ هذا وصْفُه يَعزُّ ويقِلُّ1 فكيف بأنْ تَرُدَّ الناسَ عن رأيهم في هذا الشأنِ، وأصلُك الذي تردُّهم إليه، وتعقول في محاجَّتهم عليه، استشهادُ القرائحِ، وسَبْرُ النفوسِ وقلبها، وما يعرض فيها من الأريحية عندما تمسع، وكانَ ذلك الذي يَفتحُ لك سمعَهم، ويكشِفُ الغِطاءَ عن أعيُنهمْ، ويَصْرِفُ إليكَ أوجُهَهُم، وهم لا يَضعُون أنفُسَهم موضِعَ منَ يرى الرأيَ ويُفتي ويَقْضي، إلاَّ وعندَهم أنهم ممَّن صفتْ قريحَتُه، وصحَّ ذوقُه، وتمَّتْ أداتُه. فإِذا قلتَ لهم: "إنكم قد أُتيتُمْ مِن أنفْسِكم"، رَدُّوا عليكَ مثلَه وقالوا: "لا، بل قرائِحُنا أصحُّ، ونظرُنا أصْدَقُ، وحِسُّنا أَذْكى، وإنما الآفةُ فيكُم لأنكم خيلتم إلى أنفسكم أُموراً لا حاصِل لها، وأوهَمَكُم الهوى والميلُ أنْ تُوجِبوا لأحدِ النظْمَيْنِ المتساويَيْن فضْلاً على الآخَرِ، مِن غيرِ أن يكونَ ذلك الفضْلُ معقولاً" فتبقى في أيدهم حَسِيراً لا تَملكُ غيرَ التعجُّب. فليس الكلامُ إذن بمعن عنك، ولا القولُ بنافعٍ، ولا الحُجَّةُ مسموعةً، حتى تجدَ مَنْ فيه عونٌ لكَ على نفسه، ومن إذا أبى عليكَ، أبى ذَاك طبعُه فردَّه إليكَ، وفتَحَ سمعه لك، ورفع الحجاب بينك

_ 1 السياق آت من أول الفقرة: "وإِذا كانَتِ العلومُ التي لها أصولُ معروفةٌ .... فكيف بأن ترده".

وبينَه، وأخذَ به إلى حيثُ أنتَ، وصرَفَ ناظِرَه إلى الجهة التي إليها أوْمأتَ، فاستبدَلَ بالنِّفار أُنْساً، وأراكَ مِنْ بَعْد الإِباء قَبُولاً. 644 - ولم يكنِ الأمرُ على هذه الجملةِ إلاَّ لأنه ليس في أصنافِ العلومِ الخفيَّةِ، والأُمور الغامضةِ الدقيقةِ، أعجبُ طريقاً في الخفاء من هذا. وإنَّكَ لَتُتْعِبُ في الشيء نفْسَك، وتُكِدُّ فيه فكْرَك، وتَجْهَدُ فيه كلَّ جَهْدِك، حتى إِذا قلتَ قد قتَلْتُه عِلْماً، وأحكَمْتُه فَهْماً، كنت بالذيلا يزال يتراءى لك فيه من شبهة، ويعرض فيه من شك1، كما قال أبو نواس: أَلاَ لا أَرى مثْلَ امترائيَ في رَسْمِ ... تغص به عيني ويلظفه وهمي أنت صُوَرُ الأشياءِ بَيني وبينَهُ ... فظَنِّي كَلاَ ظَنِّ، وعِلْمي كَلاَ عِلْمِ2 645 - وإنكَ لتنظرُ في البيتِ دهراً طويلاً وتفسره، ولا ترى أنه فيه شيئاً لم تَعلَمْه، ثم يبدو لكَ فيه أمرٌ خفيٌّ لم تكنْ قد علِمْتَه، مثال ذلك بيت المتنبي: خطأ خفي في "النظم": عَجَباً لهُ! حِفْظُ العِنَانِ بأنْمُلٍ ... ما حِفْظُها الأشياءَ مِنْ عاداتِها3 مضى الدهرُ الطويلُ ونحن نقرؤه فلا نُنْكِرُ منه شيئاً، ولا يَقَعُ لنا أنَّ فيه خطأَ، ثم بانَ بأَخِرةٍ أنه قد أخطأ. وذلك أنه كان ينبغي أن يقولَ: "ما حفظُ الأشياءِ من عادتها"، فيضيفُ المصدرَ إلى المفعولِ، فلا يَذكُر الفاعلَ، ذاك لأن المعنى على

_ 1 يقول: كنت بهذا الذي يتراءى لك، كما قال أبو نواس. 2 في ديوانه، "في باب الخمريات"، وفيه: "فجهل كلا جهل". 3 في ديوانه، وفي "ج"، "حفظ البنان"، خطأ صرف.

أنه ينفي الحفْظَ عن أنامله جُملةً، وأنه يزْعُم أنه لا يكونُ منها أصْلاً، وإضافَتُه الحفظَ إلى ضميرِها في قوله: "ما حفظُها الأشياءَ"، يقتضي أن يكون قد أثبْتَ لها حِفْظاً1. ونظيرُ هذا أنك تقول: "ليس الخروجُ في مثل هذا الوقت من عادي"، ولا تقولُ: "ليس خُروجي في مثلِ هذا الوقت من عادتي"، وكذلك تقولُ: "ليس ذمُّ الناسِ مِنْ شأني"، ولا تقولُ: "ليس ذمِّي الناسَ مِنْ شأني"، لأن ذلك يُوجِبُ إثباتَ الذمِّ ووجودَه منك. ولا يصِحُّ قياسُ المصْدَرِ في هذا على الفعل، أعني أنه لا ينبغي أن يُظَنَّ أنه كما يجوز أن يُقال: "ما مِن عادتها أن تَحْفظَ الأشياءَ"، كذلك ينبغي أن يجوزَ: "ما مِنْ عادتها حفظها الأشياء"، ذاك أن إضافة المضدر إلى الفاعل يقتضي وجودَه، وأنه قد كان منه، يُبيِّنُ ذلك أنك تقولُ: "أمرْتُ زيداً بأن يَخْرج غداً"، ولا تقول: "أمرتُه بخروجهِ غداً". 646 - ومما فيه خطأ هو في غاية الخفاء قوله: ولا تشك إلى خلق فتشمته ... شكوى الخريج إلى الغِربانٍ والرَّخَمِ2 وذلك أنك إِذا قلتَ: "لا تضجر ضجر زيد"، كانت قد جعلْتَ زيداً يضجرُ ضَرْباً من الضجر، مثْلَ أن تجعله يُفرِّطُ فيه أو يُسْرعُ إليه. هذا هو مُوجِبُ العُرْفِ. ثم إنْ لم تعتبر خصوصًا وصْفٍ، فلا أقلَّ من أن تَجعلَ الضجَرَ على الجملةِ من عادتِهِ، وأنْ تَجعلَه قد كان منه. وإذا كان كذلك، اقتضَى قولُه:

_ 1 في هامش "ج" بخط كاتبها ما نصه: "فيكون المعنى أن حفظ الأشياء ليس عادة له، فالمنفي حينئذ كون الحفظ عادة له، والمراد عدم ثبوت الحفظ له أبدًا". 2 هو في ديوانه.

شكوى الجريحِ إلى الغربانِ والرخَمِ أنْ يكونَ ههنا "جريح"، قد عرف من حاله أنه يكون له "شكوى إلى الغربان والرخم"، وذاك مُحال. وإنما العبارةُ الصحيحةُ في هذا أن يقال: "لا تَشَكَّ إلى خَلْقٍ، فإنَّكَ إنْ فعلتَ كان مثَلُ ذلكَ مثَلَ أنْ تُصوِّرَ في وهْمِك أنَّ بَعيراً دَبِراً كشَفَ عن جرحه1، ثم شكاه إلى الغربان والرخم". خطأ آخر في اتباع تأويل لبعض العلماء: 647 - ومن ذلك تَرى من العلماءِ مَن قد تأوَّلَ في الشيء تأويلاً وقَضى فيه بأمرٍ، فتَعْتَقِدُه اتِّباعاً له، ولا تَرتابُ أنه على ما قَضى وتأوَّلَ، وتَبْقى على ذلك الاعتقادِ الزمانَ الطويلَ، ثم يلوحُ لك ما تعلَم به أنَّ الأمرَ على خِلاف ما قَدَّرَ. ومثالُ ذلك أنَّ أبا القاسم الآمديَّ، ذكَر بيتَ البحتريِّ: فصاغَ ما صاغَ مِنْ تِبْرٍ ومِنْ وَرِقٍ ... وحاكَ ما حاكَ من وَشْي وديباجِ2 ثم قال: "صَوْغُ الغيث وحَوكُه للنبات ليس باستعارةِ، بلْ هو حقيقةٌ، ولذلك لا يقالُ: "هو صائغٌ" ولا "كأنه صائغ" وكذلك لا يقال: "هو حائك" و "كأنه حائك"، قال: "على أنَّ لفظَ "حائك" في غايةِ الركاكة إذا أُخرج على ما أخرجَهُ أبو تمام في قوله: إِذا الغيثُ غادى نَسْجَهُ خِلْتَ أنه ... خَلَتْ حُقُبٌ حَرْسٌ له وهْوَ حائكُ3 قال: وهذا قبيح جدًا"4.

_ 1 "دبر البعير"، إذا تقرح ظهره من الحمل أو القتب، فهو "دبر". 2 هو في ديوانه، و "الورق"، الفضة. 3 هو في ديوانه، و "الحرس"، الدهر الطويل. 4 هذا الذي نقله عن الآمدي هو في الموازنة 1: 497، 498، "دار المعارف".

فقلتُ: لمَ ترَكَ الأستاذُ هذا البيتَ؟ فقال: لعلَّ القلمَ تجاوَزَهُ؟ قال: "ثم رآني من بَعْدُ فاعتذرَ بعُذرٍ كان شَرّاً مِنْ تَرْكه. قال: إنما تركْتُه لأنه أعادَ السيفَ أربعَ مرّاتٍ. قال الصاحِبُ: لَوْ لم يُعِدْه أربعَ مراتٍ فقال:"بجهلٍ كجهلِ السيف وهو مُنْتَضى، حلم كحِلم السيفِ وهو مغمدُ"، لفسَدَ البيْتُ". والأمرُ كما قال الصاحبُ، والسببُ في ذلك أنك إذا حدَّثْتَ عن اسمٍ مُضافٍ، ثم أردْتَ أن تَذْكُر المضافَ إليهِ، فإِن البلاغَة تقتضي أن تذكره باسمه الظاهر ولا تضمره. 649 - تفسير هذا أنَّ الذي هوَ الحسَنُ الجميلُ أن تقولَ: "جاءني غلامُ زيدٍ وزيدٌ"، ويقبُحُ أن تقول: "جاءني غلامُ زيدٍ وهُو"، ومن الشاهِد في ذلك قول دعيل: أضيافُ عِمران في خِصْبٍ وفي سَعةٍ ... وفي حِبَاءِ وخَيرٍ غيرِ ممنوعِ وضيفُ عمرٍو وعمرٌو يَسْهرانِ معاً ... عمرو لبِطْنَتِه والضيفُ للجُوعِ1 وقولُ لآخر: وإنْ طُرَّةٌ راقَتْكَ فانْظُرْ فرُبَّما ... أَمَرَّ مذاقُ العود والعود أخضر2

_ 1 هو في مجموع ديوانه، وفي الكامل للبمرد 2: 104، وروايته: أضياف سالم في خفض وفي دعة ... وفي شراب ولحم غير ممنوع 2 هو في أسرار البلاغة: 104، و "الطرة" في الأصل حاشية الثوب، وموع هدبه. و "طرة الجارية"، أن يقطع لها في مقدم ناصيتها كالعلم أو كالطرة تحت التاج، تتجمل بذلك.

وقول المنتبى: بمن نضرب الأمثال أم من نفيسه ... إليكَ وأهْلُ الدهرِ دونكَ والدهرُ1 ليس بخفيٍّ على مَنْ لَهُ ذوقٌ أنه لو أتى موضعُ الظاهرِ في ذلك كله بالضمير فقيل: "وضيفُ عمروِ وهو يسهران معاً"، و "ربما أمرَّ مذاقُ العودِ وهو أخضر"، و "أهلُ الدهر دونَكَ وهو"، لعُدِمَ حُسْنٌ ومزيةٌ لا خفاءَ بأمرِهما، ليس لأنَّ الشعرَ يَنكَسِرُ، ولكنْ تنكره النفس. 650 - وقد يرى في بادئ الرأي أنَّ ذلك من أجْل اللَّبْسِ، وأنكَ إذا قلتَ: "جاءني غلامُ زيدٍ وهو"، كان الذي يقَعُ في نفسِ السامعِ أنَّ الضميرَ للغلام، وأنكَ على أنْ تجيءَ له بخَبر، إلا أنَّه لا يستمرُّ، من حيثُ إنَّا نقول: "جاءني غلمانُ زيدٍ وهو"، فتَجِدُ الاستنكارَ ونبُوَّ النفسِ، مع أنْ لا لَبْسَ مثْلَ الذي وجدْناه. وإذا كان كذلك، وجَب أن يكونَ السببُ غيرَ ذلك. 651 - والذي يوجُبِه التأمُّلُ أن يُردَّ إلى الأصْل الذي ذَكَره الجاحِظُ: من أنَّ سائلاً سألَ عن قولِ قيسِ بنِ خارجة: "عندي قِرى كلِّ نازلٍ، ورضَى كلِّ ساخِطٍ، وخُطبةٌ مِنْ لَدُنْ تطْلُعُ الشمسُ إلى أن تَغْرُبَ، آمرُ فيها بالتَّواصُل، وأَنْهى فيها عن التقاطُع"، فقال: أليسَ الأمرُ بالصِّلة هو النهيُ عن التقاطعِ؟ قال فقال أبو يعقوب: أما علمتَ أنَّ الكنايةَ والتعريضَ لا يَعملان في العقولِ عملَ الإِفصاحِ والتكشيف"، 2 وذكرتُ هناك أن هذا الذي ذُكِر، من أنَّ للتصريحِ عملاً لا يكون

_ 1 هو في ديوانه. 2 هو فيما سلف رقم: 174، وفيه في البيان: "فقيلَ لأبي يعقوب: هلاَّ اكْتَفى بالأمِر بالتواصلِ والنهي علن التقاطع، أو ليس الأمرُ بالصلةِ هو النهْيُ عن التقاطعِ؟ قال: أو ما علمت أن الكناية ... ".

مثلُ ذلك العملِ للكنايةِ، كان لإعادةِ اللفظِ في قولهِ تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء: 105]، وقولِه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1، 2]، عملٌ لولاها لم يَكنْ. وإِذا كان هذا ثابتاً معلوماً، فهو حكْم مسألتنا. 652 - ومن البيِّنِ الجليِّ في هذا المعنى، وهو كبيتِ ابن الرومي سواءٌ، لأنه تشبيهٌ مثْلُه بيتُ الحماسة: شَدَدْنا شَدَّةَ الليثِ ... غدا والليثُ غضبانُ1 ومن الباب قول النابغة: نفْسُ عصامٍ سوَّدتْ عِصاما ... وعلَّمَتْهُ الكرَّ والإِقداما2 لا يخفَى على مَنْ له ذوقٌ حسَنٌ هذا الإظهارَ، وأنَّ له موقعاً في النفس، وباعثًا للأربحية، لا يكون إِذا قيل: "نفسُ عصامٍ سَوَّدته"، شيء منه البتة. "تم الكتاب" "في أواسط شهر ربيع الول سنة ثمان وستين وخمسئة. غفر الله لكاتبه ولوالديه ولجميع المؤمنين والمؤمنات برحمته إنه أرحم الراحمين وخير الغافرين".

_ 1 الشعر للفند الزماني، شرح حماسة أبي تمام للتبريزي 1: 13، وروايته: "مشينا مشية الليث"، رواية أخرى. 2 للنابغة، يقول لبواب النعمام بن المنذر: "عصام بن شهبرة الجرمي"، الفاخر للمفضل بن سلمة: 145 وغيره.

فصول ملحقة بالكتاب

فصول ملحقة بالكتاب: مسئلة يرجع فيها الكلام إلى "الإثبات": 653 - العلم بالإثبات والنفي وسائر معاني الكلام في غرائز النفوس، ولم توضع أمثلة الأفعال لتعلم المعاني في أنفسها، بل لتعلم، واقعة من المتكلم توضع أمثلة الأفعال لتعلم هذه المعاني في أنفسها، بل لتعلم، واقعة من المتكلم وكائنة في نفسه1. فواضع اللغة لما [قال]: "ضرب"، كأنه قال إنه موضوع [للضرب] 2، حتى إذا أردت إثبات "الضرب" لشيء، ضممته إلى اسم ذلك الشيء فعلم بذلك [أن] إثبات الضرب له واقعًا منك وكائنًا في نفسك، محصول قولنا في "ضرب"، إنه خبر، وانه موضوع ليعرف به. وإذا ضم إلى اسم إثبات "الضرب" لمسمى ذلك الاسم، فهو. موضوع ليدل على وضوع إثبات منك ووجوده في نفسك، وليس في أن "الإثبات" لا يقع إلا متعلقًا بشيئين، ما يمنع أن يكون "الإثبات" معنى مستقلًا بنفسه معلومًا ومثله أنه لا يصح وجود صفة من غير موصوف، ثم لا يمنع ذلك أن تكون "الصفة" في نفسها معلومة. تفسير ذلك: أنه لا يصح وجود سواد وحركة في غير محل، ثم لم يمنع ذلك أن يكونا معلومين في أنفسهما. وجملة الأمر أن حاجة الشيء في وجوده إلى شيء آخر، لا يمنع أن يكون شيئًا مستقلًا بنفسه معلومًا، وليس ههنا شيء أكثر من أن هذا يقتضي ذاك،

_ 1 انظر ما سلف في اوائل الفقرة رقم: 634. 2 ما بين القوسين زيادة لا يستقيم الكلام إلا بها، وكذلك ما سيأتي بعده.

و "الاقتضاء" وصف في المقتضى لا في المقتضى، فاقتضاء "العلم" معلومًا، وصف في "العلم" وكائن في حقيقته، وليس بوصف في المعلوم. وإذا كان كذلك، كان محالًا أن يظن أنه لا يصح أن يكون "العلم" في نفسه وعلى الانفراد معلومًا. فإن قيل: لو جاز أن يكون "العلم" على الانفراد معلومًا، جاز أن يكون على الانفراد موجودًا. قيل: إنا [لا] نعني بقولنا: "إنه يصح أن يكون "العلم" على الانفراد معلومًا، "العلم" مطلقًا من غير نص على معلوم. ووجود "العلم" مطلقًا مبهمًا ومن غير معلوم منصوص عليه، محال.

فصل: 654 - يصح توهم وجود "السواد" في محل هو في حال التوهم أبيض وتكون حقيقة هذا أنه يتوهم في هذا المحل الأبيض، وجود مثل اللون الذي يراه في المحل الأسود، ولو فرضنا أن لا يكون رأى محلًا أسود قط، لم يتصور منه هذا التوهم. وإذا ثبت هذا، فإنه ما من فاعل إلا وهو يجد في نفسه إثبات معنى لشيء، فنحن إذا قلنا في "ضرب" أنه موضع لإثبات المعنى لشيء، كنا أشرنا له إلى هذا المعنى الذي عرفه في نفسه، كما أنا إذا قلنا إن لفظ "رجل" موضوع للآدمي الذكر، كنا أشرنا له إلى ما عرفه بعينه، إلا أن الشأن أنا نشير له في الاسم إلى شيء قد عرفه موجودًا. فيجب أن ينظر إذا قلنا: "إن الفعل موضوع لإثبات المعنى للشيء"، أنكون أشرنا إلى معنى قد علمه موجودًا، أم إلى شيء يعلم صحة وجوده1.

_ 1 هنا حاشية في هامش "ج" بخط كاتبها: "أول ما يولد المعنى يعلم الشيء، وإنما [يكون قد] علمه من قبل موجودًا"، هكذا قرأته، مع تآكل في الهامش.

فصل: 655 - إن كان أبو الفتح بن جني قال: ما قال في قول المتنبي: وفيها قيت يوم للقراد1 حتى تكون فضيلة يكون بيت المتنبي بها أشعر من بيت الحطيئة2، فمحال أن يكون البيت بزيادة تقع في مجرد الإغراق من دون صنعة تكون في تلك الزيادة3 أشعر من البيت ذي الصنعة، ولا سيما مثل صنعة الخطيئة، التي لا يبلغ المتأمل لها غاية في الاستحسان، إلا رأى أن يزيد. ومن سلك في الموازنة.

_ 1 هو في ديوانه، وصدر البتي، في صفة ناقته: فلم تلق ابن إبراهيم عنسى ورواية الديوان: "قوت يوم"، وهما سواء، و "القوت" و "القيت" ما يمسك الرمق. 2 كأنه يعني بيت الخطيئة، والله أعلم، قوله: قروا جارك العيمان، لما تركته ... وقلص عن برد الشراب مشافره سنامًا ومحضًا أنبت اللحم واكتست ... عظام امرئ ما كان يشبع طائره "قروا"، أضافوه وأطعموه. و "العيمان". الشديد الشهوة إلى شرب اللبن. و "قلص عن برد الشراب مشافره"، أي لم يزل في زمن الشتاء والجدب يشرب الماء البارد حتى قلصت شفتاه. و "المحض" اللبن الذي لم يخالده ماء. والشاهد فيه قوله: "ما كان يشبع طائره، يعني أنه قد بلغ من هزاله ما لو وقع عليه طائر، لما شبع، لأنه لا يجد مما يأكله منه إلا القليل التافه. وهذا موضع المقارنة بينه وبين قول المتنبي في هزال ناقته، حيث يقول: إنه لم يبلغ أرض ممدوحة، وفي ناقته ما يقوت القراد على ضآلته يومًا واحدًا. 3 السياق: "فمحال أن يكون البيت من غير صنعة أشعر من البيت ذي الصنعة".

بين الشعرين هذا المسلك، أداه ذلك إلى ما سخف من الرأى، وهو أن يجعل المتنبي في قوله: وصدرك في الدنيا ولو دخلت بنا ... وبالجن فيه، ما درت كيف ترجع1 أشعر من البحترى في قوله: مفازة صدر لو تطرق لم يكن ... ليسلكها فردًا سليك المقانب2

_ 1 هو في ديوانه، وروايته: "وقلبك في الدنيا"، وهذا هو الصواب، لأنه متعلق. ببيت قبله ذكر فيه "الصدر" في الثوب، ثم جعل هنا "القلب" في الصدر. 2 هو في ديوانه، "سليك المقانب" هو سليك بن السكة الصعلوك العداء، و "المقانب"، وهي جمع "مقنب"، وهي جماعة الخيل عليها فرسانها، و "تطرق"، أي يصير فيها طرق تسلك.

فصل: 565 - إذا قلت: "هذا ينحت من صخر، وذاك يعرف من بحر"، لم تكن شبهت قيل الشعر بالنحت والغرف، لكن تكون قد شبهت هذا في صعوبة قول الشعر عليه، وفي آحتياجه إلى أن يكد نفسه بمن ينحت من الصخر وشبهت الآخر في سهولة قوله عليه، وفي أنه يناله عفوًا، بمن يعرف من بحر. يبين ذلك: أن ليس الشبه بوصف يرجع إلى "النحت" و "الغرف" على ذاك. وإذا كان كذلك، كان المعنى على تشبيه الذي يحتاج إلى أن يكد النفس بالذي ينحت الصخر، والذي يسهل عليه ويأتيه عفوًا بالذي يعرف من بحر، لا على تشبيه قول الشعر في نفسه من حيث هو قول شعر وتأليف كلام وإقامة وزن وقافية، بالنحت والغرف، هذا محال. ثم إن المزية التي تجدها لترك التصريح بالتشبيه، وأنك لم تقل: "هو كمن ينحت من صخر"، ليست لأنك لما قلت: "هو ينحت من صخر" جعلته أشبه بالناحت من الصخر، ولكن بأنك جعلت شبه الناحت من الصخر له أثبت، فاعرفه.

"مسئلة": 657 - قال النمرى في قوله في الحماسة1: لنا إبل لم تهن ربها ... كرامتها والفتى ذاهب "يقول: لم يكرمها فتهينه كرامتها، قال: وهذا كقولك: "لم تبدلني صيانة مالي"، أي لم أصنه فأبتدل، لا أنه أكرمها فلم يهنه ذاك. قال ومثله قول النابغة: مثل الزجاجة، لم تكحل من الرمد2 أي: لم ترمد فتكحل منه3. قال الشيخ الإمام: الأولى أن يكون المعنى: لم تمنعنا كرامتها أن تنحرها للأضياف ونسخو بها. ونظر هو إلى ما جرت به العادة من أن يقال في وصف الجواد: إنه لا خطر للمال عنده. وذلك وإن كان معروفًا من كلام الناس، فإنهم يقولونه على معنى أنه كأنه من حيث الحمد والذكر والذكر الجميل، لا يكون النفيس من المال عنده نفيسًا، وأنه يبذله بذل الشيء الذي لا يكون له قيمة. وإنهم ليخرجون

_ 1 من شعر حزاز بن عمرو، في الحماسة. 2 في ديوانه، في ذكر ابنة الخس، أو عنز اليمامة، وهي زرقاء اليمامة، ويذكر حدة بصرها، وصدره: يحفه جانبًا نيق وتتبعه 3 هذا هو نص كلام أبي عبد الله النمرى في كتابه "معاني أبيات الحماسة"، الذي نشره أخيرًا ولدنا الدكتور عبد الله بن عبد الرحيم العسيلان، وهو فيه التعليق على الحماسية: 741، ص: 225.

لطلب المبالغة في ذلك إلى أن يزعموا أنه يبغض المال ويريد هلاكه، وأنه يطلبه بترة، وأنه حنق عليه كما قال: حنقعلى بدرا للجين1 وكل ذلك على تقدير "كأن". وإلا فلو كان الأمر على الظاهر، لكان ذلك يخرج به إلى أن لا يستحق على بذله الحمد، ولكان يكون ذلك للجهالة بنفاسة النفيس. ومن كان إعطاؤه المال على هذا السبيل، كان مؤوفًا. ولهذا قال الفضل بن يحيى: "أيظن الناس أنا لا نجد بأموالنا ما يجد البخلاء؟ ". ولو كان لا يكون النفيس من المال نفيسًا عند جواد، لكان قولهم: "إنه يشتري الحمد بالغلاء"، محالًا، لأنه لا يكون المشترى الشيء غاليًا حتى يبذل فيه من المال ما يكون له خطر عظيم عنده. هذا ويجوز أن يكون المعنى في قوله: "كرامتها"، نفاستها في أنفسها، وأن لا تقدر فيه التعدية، وأن يقال: "كرامتها علينا أو عليه، أي على ربها" كما يقولون: يهينون كرائم أموالهم لأضيافهم، ولا تهينهم بأن تدعوهم إلى الضن بها، فتورثهم الهون والسقوط في أقدارهم، فاعرفه. هذا آخر ما وجد على سواد الشيخ من هذا الكتاب. كتب في شعبان المبارك سنة ثنتين وسبعين وخمسمئة

_ 1 هو قول المتنبي في ديوانه: حنق على بدر اللجين وما أتت ... بإساءة، وعن المسيء صفوح

"مسئلة": 658 - إذا قلنا في الفعل: "إنه يدل على الزمان"، لم يكن المعنى أنه يدل على الزمان في نفسه، ولكن أنه يدل على كون الزمان الماضي زمانًا للمعنى الذي أخبرت به عن "زيد". وإذا كان ذلك كذلك في الحقيقي من الأفعال، فهو كذلك في "كان". فإذا قلنا: إنه عبارة عن الزمان فقط، كان الغرض فيه أنا نستفيد من "كان" أن زمان وقوع الانطلاق من "زيد" هو الزمان الماضي، فاعرفه.

الرسالة الشافية في وجوه الإعجاز

بسم الله الرحمن الرحيم الرسالة الشافية في وجوه الإعجاز: قال الشيخ عبد القاهر بن عبد الرحمن رضي الله عنه: الحمدُ لله ربِّ العالمينَ حمدَ الشاكرينَ، وصلَواتُه على النبي محمد وآله أجمعين. 1 - آعلم أن لكل نوع من المعنى نوعًا من اللفظ هو به أخص وأولى، وضروبًا من العبارة هو بتأديته أقوم، وهو فيه أجلى، ومأخذًا إذا أخذ منه كان إلى الفهم أقرب، وبالقبول أخلق، وكان السمع له أوعى، والنفس إليه أميل. وإذا كان الشيء متعلقًا بغيره، ومقيسًا على ما سواه، كان من خير ما يستعان به على تقريبه من الأفهام، وتقريره في النفوس، أن يوضع له مثال يكشف عن جهة ويؤنس به، ويكون زمامًا عليه يمسكه على المتفهم له والطالب علمه. 2 - وهذه جمل من القول في بيان عجز العرب حين تحدوا إلى معارضة القرآن، وإذعانهم وعلمهم أن الذي سمعوه فائتٌ للقوى البشرية، ومتجاوزٌ للذي يتَّسع له ذرع المخلوقين وفيما يتصل بذلك مما له اختصاص بعلم أحوال الشعراء والبلغاء ومراتبهم، وبعلم الأدب جملة قد تحريت فيه االإيضاح والتبيين، وحذوت الكلام حذوًا هو بعرف علماء العربية أشبه، وفي طريقهم أذهب، وإلى الأفهام جملة أقرب. وأسأل الله التوفيق للصواب والعون عليه، والإرشاد إلى كل ما يزلف لديه، إنه على ما يشاء قدير. 3 - معلوم أن سبيل الكلام سبيل ما يدخله التفاضل، وأن للتفاضل فيه غايات ينأى بعضها عن بعض، ومنازل يعلو بعضها بعضًا، وأن علم ذلك علم يخص أهله، وأن الأصل والقدوة فيه العرب، ومن عداهم نبع لهم، وقاصر فيه عنهم،

وأنه لا يجوز أن يدعي للمتأخرين من الخطباء والبلغاء عن زمان النبي صلى الله عليه وسلم الذي نزل فيه الوحي، وكان فيه التحدي1، أنهم زادوا على أولئك الأولين، أو كملوا في علم البلاغة أو تعاطبها لما لم يكملوا له. كيف؟ ونحن نراهم يحملون عنهم أنفسهم2، ويبرأون من دعوى المداناة معهم، فضلًا عن الزيادة عليهم. هذا خالد بن صفوان يقول: "كيف نجاريهم وإنما نحكيهم؟ أم كيف نسابقهم، وإنما نجرى على ما سبق إليينا من أعرافهم؟ ". ونرى الجاحظ يدعي للعرب الفضل على الأمم كلها في الخطابة والبلاغة، ويناظر في ذلك الشعوبية، ويجهلهم ويسفه أحلامهم في إنكارهم ذلك، ويقضي عليهم بالشفوة وبالتهالك في العصبية، ويبطل ويطنب، مث يقول: "ونحن أبقاك الله إذا ادعينا للعرب الفضل على الأمم كلها في أصناف البلاغة، من القصيد والأرجاز، ومن المنثور والأسجاع، ومن المزدوج وما لا يزدوج، فمعنا على أن ذلك لهم3 شاهد صادق، من الديباجة الكريمة، والرونق العجيب، والسبك والنحت الذي لا يستطيع أشعر الناس اليوم ولا أرفعهم في البيان أن يقول مثل ذلك، إلا في اليسير والشيء القليل". انتهى كلامه4.

_ 1 السياق: "وأنه لا يجوز أن يدعي للمتأخرين .... أنهم زادوا". 2 في المخطوطة "ج": "يجعلون عنهم"، وصححها ناشرو هذه الرسالة: "يجهلون عنه"، وكلاهما مقال فاسد. وقوله: "يخملون عنهم أنفسهم"، أن يضعون من أنفسهم ويخفضونها توفيرًا لهم، ومعرفة بفضلهم. 3 في البيان والتبيين: "فمعنا العلم أن ذلك لهم"، وحذف لفظ "العلم" ههنا أجود. والسياق: "فمعنا .... شاهد صادق". 4 البيان والتبيين 3: 29.

والأمرُ في ذلك أظْهَرُ مِنْ أن يَخْفى، أو أن ينكره إلا جاهل أو معاند. 4 - وإذا ثبت أنهم الأصل والقدوة، فإن علمهم العلم. فبنا أن ننظر في دلائل أحوالهم وأقوالهم حين تلى عليهم القرآن وتحدوا إليه، وملئت مسامعهم من المطالبة بأن يأتوا بمثله، ومن التقريع بالعجز عنه، وبت الحكم بأنهم لا يستطيعونه ولا يقدرون عليه. وإذا نظرنا وجدناها تفصح بأنهم لم يشكوا في عجزهم عن معارضته والإتيان بمثله، ولم تحدثهم أنفسهم بأن لهم إلى ذلك سبيلًا على وجه من الوجوه. 5 - 1أما "الأحوال" فدلت من حيث كان المتعارف من عادات الناس التي لا تختلف، وطبائعهم التي لا تتبدل، أن لا يسلموا لخصومهم الفضيلة وهم يجدون سبيلًا إلى دفعها، ولا ينتحلون العجز وهم يستطيعون قهرهم والظهور عليهم. كيف؟ وإن الشاعر أو الخطيب أو الكاتب يبلغه أن بأقصى الإقليم الذي هو فيه من يبأى بنفسه2، ويدل بشعر يقوله، أو خطبة يقوم بها، أو رسالة يعملها، فيدخله من الأنفة والحمية ما يدعوه إلى معارضته، وإلى أن يظهر ما عنده من الفضل، ويبذل ما لديه من المنة، حتى إنه ليتوصل إلى أن يكتب إليه، وأن يعرض كلامه عليه3، بعض العلل وبنوع من التمحل. هذا، وهو لم ير

_ 1 هذا أول الكلام في "الأحوال"، وسيأتي القول في "الأقوال"، من عند رقم: 7. 2 "بأى عليه يبأى بأوا"، فخر عليه وأظهر الكبر. 3 السياق: "ليتوصل بعض العلل".

ذلك الإنسان قط، ولم يكن منه إليه ما يهز ويحرك ويهيج على تلك المعارضة، ويدعو إلى ذلك التعرض. وإن كان المدعي ذلك بمرأى منه ومسمع، كان ذلك أدعى له إلى مباراته، وإلى إظهار ما عنده، وإلى أن يعرف الناس أنه لا يقصر عنه، أو أنه منه أفضل. فإن انضاف إلى ذلك أن يدعوه الرجل إلى مماتنته، ويحركه لمقاولته1، فذلك الذي يسهر ليله ويسلبه القرار، حتى يستفرغ مجهوده في جوابه، ويبلغ أقصى الحد في مناقضته. وقد عرفت قصة جرير والفرزدق، وكل شاعرين جمعهما عصر، ثم عرض بينهما ما يهيج على المقاولة، ويدعو إلى المفاخرة والمنافرة، كيف جعل كل واحد منهما في مغالبة الآخر، وكيف جعل ذلك همه ووكده2، وقصر عليه دهره؟ هذا، وليس به، ولا يخشى، إلا أن يقضي لصاحبه بأنه أشعر منه، وأن خاطره أحد، وقوافيه أشرد، لا ينازعه ملكًا، ولا يفتات عليه بغلبته له حقًا، ولا يلزمه به إتاوة، ولا يضرب عليه ضريبة؟ 6 - وإذا كان هذا واجبًا بين نفسين لا يروم أحدهما من مباهاة صاحبه إلا ما يجري على الألسن من ذكره بالفضل فقط، فكيف يجوز أن يظهر في صميم العرب، وفي مثل قريش ذوى الأنفس الأبية والهمم العلية، والأنفة والحمية من يدعي النبوة، ويخبر أنه مبعوث من الله تعالى إلى الخلق كافة، وأنه بشير بالجنة

_ 1 "ماتن الرجل"، فعل به مثل ما يفعل به. و "ماتن فلان فلانًا"، إذا عارضه في شعر أو جدل أو خصومة، ليرى أيهما أمتن وأقوى. و "قاوله مقاولة"، فاوضه القول أي قول كان. 2 "وكده"، مراده وهمه ومقصده.

ونذير بالنار، وأنه قد نسخ به كل شريعة تقدمته، ودين دان به الناس شرقًا وغربًا، وأنه خاتم النبيين، وأنه لا نبي بعده، إلى سائر ما صدع به صلى الله عليه وسلم1، ثم يقول: "وحجتي أن الله تعالى قد أنزل على كتابًا عربيًا مبينًا، تعرفون ألفاظه، وتفهومون معانيه، إلا أنكم لا تقدرون على أن تأتوا بمثله، ولا بعشر سور منه، ولا بسورة واحدة، ولو جهدتم جهدكم، واجتمع معكم الجن والإنس" ثم لا تدعوهم نفوسهم إلى أن يعارضه، ويبينوا سرفه في دعواه، مع إمكان ذلك، ومع أنهم لم يسمعوا إلا ما عندهم مثله أو قريب منه؟ هذا، وقد بلغ بهم الغيظ من مقالته، ومن الذي ادعاه، حدًا تركوا معه أحلامهم الراجحة، وخرجوا له عن طاعة عقولهم الفاضلة، حتى واجهوه بكل قبيح، ولقوه بكل أذى ومكروه، ووقفوا له بكل طريق، وكادوه وكل من تبعه بضروب المكايدة، وأرادوهم بأنواع الشر. وهو سمع قط بذي عقل ومسكة استطاع أن يخرس خصمًا له قد اشتط في دعواه بكلمة يجيبه بها، فترك ذلك إلى أمور يسفه فيها، وينسب معها إلى ضيق الذرع والعجز، وإلى أنه مغلوب قد أعوزته الحيلة، وعسر عليه المخلص؟ 2 أم هل عرف في مجرى العادات، وفي دعواعي النفوس ومبنى الطبائع، أن يدع الرجل ذو اللب حجته على خصمه، فلا يذكرها، ولا يفصح بها، ولا يجلى عن وجهها، ولا يريه الغلط فيما قال، والكذب فيما أدعى، لا، ولا يدعي أن ذلك

_ 1 في المطبوعة وحدها: "إلى آخر"، بلا فائدة في التغيير. 2 في المطبوعة: "وعر عليه المخلص"، تغيير بلا داع.

عنده1، وأنه مستطيع له، بل يجعل أول جوابه له ومعارضته إياه، التسرع إليه والسفه عليه، واٌدام على قطع رحمه، وعلى الإفراط في أذاه؟ أم هل يجوز أن يخرج خارج من الناس على قوم لهم رياسة، ولهم دين ونحلة، فيولب عليهم الناس، ويدبر في إخراجهم من ديارهم وأموالهم، وفي قتل صناديدهم وكبارهم، وسبى ذرايهم وأولادهم، وعمدته التي يجد بها السبيل إلى تالف من يتألفه2، ودعاء من يدعوه، دعوى له، إذا هي أبطلت بطل أمره كله، وانتقض عليه تدبيره ثم لا يعرض له في تلك الدعوى، ولا يشتغل بإبطالها، مع إمكان ذلك، ومع أنه ليس بمتعذر ولا ممتنع؟ وهل مثل هذا إلا مثل رجل عرض له خصم من حيث لم يحتسبه، فادعى عليه دعوى إن هي سمعت كان منها على خطر في ماله ونفسه، فأحضر بينة على دعواه تلك، وعند هذا المدعي عليه ما يبطل تلك البينة أو يعارضها، وما يحول على الجملة بينه وبين تنفيذ دعواه، فيدع إظهار ذلك والاحتجاج به، ويضرب عنه جملة، ويدعه وما يريد من إحكام أمره وإتمامه، ثم يصير الحال بينهما إلى المحاربة، وإلى الإخطار بالمهج والنفوس، فيطاوله الحرب، ويقتل فيها أولاده وأعزته، وتنهج عشيرته، وتعنم أمواله، ولا يقع له في أثناء تلك الحال أن يرجع إلى القاضي الذي قضى لخصمه بديًا3، ولا إلى القوم الذين سمعوا منه وتصوروه بصورة المحق فيقول: "لقد كانت عندي حين أدعي ما أدعي بينه على فساد دعوه وعلى كذب شهوده، قد تركتها تهاونًا بأمره، أو أنسيتها، أو منع مانع دون

_ 1 أسقط الناشران: "لا" الأولى اقتحامًا. 2 غير الناشران فكتبا: "وعدته التي يجد بها السبيل". 3 "يديا" و "بديئًا" إي من أول الأمر.

عرضها، وها هي هذه قد جئتكم بها، فانظروا فيها لتعلموا أنكم قد غررتم؟ ". ومعلوم بالضرورة أن هذا الرجل لو كان من المجانين، لما صح أن يفعل ذلك، فكيف بقوم هم أرجح أهل زمانهم عقولًا، وأكملهم معرفة، وأجزلهم رأيًا، وأثقبهم بصيرة؟ فهذه دلالة "الأحوال". 7 - 1وأما "الأقوال" فكثيرة: منها حديث ابن المغيرة2، روى أنه جاء حتى أتى قريشًا فقال: إن الناس يجتمعون غدًا بالموسم، وقد فشا أمر هذا الرجل في الناس، فهم سائلوكم عنه فماذا تردون عليهم3؟ فقالوا: مجمون يخنق. فقال: يأتونه فيكلمونه فيجدونه صحيحًا فصيحًا عاقلًا4، فيكذبونكم! قالوا نقول: هو شاعر. قال: هم العرب، وقد رووا الشعر، وفيهم الشعراء، وقوله ليس يشبه الشعر، فيكذبونكم! قالوا نقول: هو كاهن. قال: إنهم لقوا الكهان، فإذا سمعوا قوله لم يجدوه يشبه الكهنة، فيكذبونكم! ثم انصرف إلى منزلة فقالوا: صبأ الوليد يعنون: أسلم، ولئن صبأ لا يبقى أحد إلا صبأ. فقال لهم ابن أخيه أبو جهل بن هشام بن المغيرة: أنا

_ 1 مضت دلالة "الأحوال" التي بدأت في رقم: 5، وتبدأ دلالة "الأقوال". وزاد الناشران هنا لفظ "دلالة" قبل الأقوال، ولا حاجة إليها، لأنه قال في رقم: 5 "وأما الأحوال"، فكذلك فعل هنا. 2 هو أبو المغيرة، الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكان ذا سن ومهابة في قريش، وحديثه في سيرة ابن هشام 1: 288، 289 بغير هذا اللفظ، ولم أقف عليه بهذا اللفظ بعد. 3 في المخطوطة: "تردون عليه"، والصواب ما أثبته الناشران "عليهم". 4 غيرها الناشران فكتبا: "عادلًا"، وهو لا معنى له.

أكفيكموه. قال: فأتاه مخزونًا فقال: ما لك يا ابن أخ؟ قال: هذه قريش تجمع لك صدقة يتصدقون بها عليك، تستعين بها على كبرك وحاجتك. قال: أولست أكثر قريش مالًا؟! قال: بلى، ولكنهم يزعمون أنك صبأت لتصيب من فضل طعام محمد وأصحابه. قال: والله ما يشبعون من الطعام، فكيف يكون لهم فضول؟! ثم أتى قريشًا فقال: أتزعمون أني صبأت؟ ولعمري ما صبأت، إنكم قلتم: محمد مجنون، وقد ولد بين أظهركم لم يغب عنكم ليلة ولا يومًا فهل رأيتموه يخنق قط؟ وقلتم: شاعر؟ وأنتم شعراء، فهل أحد منكم يقول ما يقول؟ وقلتم: كاهن، فهل حدثكم محمد في شيء يكون في غد إلا أن يقول إن شاء الله! قالوا: فكيف تقول يا أبا المغيرة؟ قال: أقول هو ساحر: فقالوا: وأي شيء السحر؟ قال: شيء يكون ببابل، من حذقه فرق بين الرجل وامرأته، والرجل وأخيه، إنا لله، أفما تعلمون أن محمدًا فرق بين فلان وفلانة زوجته1، وبين فلان وابنه، وبين فلان وأخيه، وبين فلان ومواليه، فلا ينفعهم ولا يلتفت إليهم ولا يأتيهم؟ قالوا: بلى. فاجتمع رأيهم على أن يقولوا إنه ساحر، وأن يردوا الناس عنه بهذا القول. وانصرف، فمر بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منطلقًا إلى رحله، وهم جلوس في المسجد، فقالوا: هل لك يا أبا المغيرة إلى خير؟ فرجع إليهم فقال: ما ذلك الخير؟ فقال: التوحيد. قال: ما يقول صاحبكم إلا سحرًا. وما هو إلا قول البشر يرويه عن غيره. وعبس في وجوهم وبسر، ثم أدبر إلى أهله مكذبًا، واستكبر عن حديثهم الذي قالوا له وعن الإيمان، فأنزل الله تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [المدثر: 18، 19]، الآية.

_ 1 في المخطوطة "ج": "إنا لله فما تعلمون"، وغيرها في المطبوعة: "أليس مما تعلمون"، ولا حاجة إليه، إنها سها الكاتب فأسقط الألف.

8 - ومنه ما رواه محمد بن كعب القرظي قال1: حدثت أن عتبة بن ربيعة وكان سيدًا حليمًا قال يومًا: ألا أقوم إلى محمد فأكلمه فأعرض عليه أمور لعله أن يقبل منها بعضها، فتعطيه أيها شياء؟ وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه، وروا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يكثرون قالوا: بلى يا أبا الوليد! فقام إليه، وهو صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده، فقال: يا ابن أخي! إنك منا حيث علمت من السطة في العشيرة2، والمكان في النسب، وإنك أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت بين جماعتهم، وسفهت أحلامهم، وعبت آلهتهم، وكفرت من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورًا تنظر فيها، لعلك أن تقبل منها بعضها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم. "قل". قال: إن كنت إنما تريد المال بما جئت به من هذا القول، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت تريد شرفًا سودناك حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي بك رئيًا لا تستطيع رده عن نفسك3، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوي منه، أو لعل هذا الشعر شعر جاش به صدرك، فإنك لعمري بني عبد المطلب تقدرون من ذلك على ما لا نقدر عليه4. حتى إذا فرغ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوقد فرغت"؟ قال: نعم. قال: "فاسمع مني"، قال: قل. قال: "بسم الله الرحمن الرحيم {حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} " [فصلت: 1 - 4]، ثم

_ 1 حديث محمد بن كعب القرظي، هو في سيرة ابن هشام 1: 313، 314. 2 "السطة" في الحسب، هي الشرف والرفعة. 3 "الرئى"، التابع من الجن، يلازم المرء ويحدثه ويتحدث عنه. 4 من أول قوله: "أو لعل هذا شعر"، إلى هنا ليس في سيرة ابن هشام.

مضى فيها يقرؤها، فلما سمعها عتبة أنصت له، وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليهما يستمع منه، حتى انتهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد، ثم قال له: "قد سمعت ما سمعت فأنت وذاك"! فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس قالوا: ما وراءك؟ قال: ورائي أني سمعت قولًا والله ما سمعت بمثله قط، وما هو بالشعر ولا السحر ولا الكهانة، يا معشر قريش أطيعوني، خلو بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فإن نصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهره على العرب به، فملكه ملككم، وكنتم أسعد الناس به. قالوا: سحرك بلسانه! قال: هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم. 9 - ومنه ما جاء في حديث أبي ذر في سبب إسلامه1: روي أنه قال: قال لي أخي أنيس: إن لي حاجة إلى مكة، فانطلق فراث، فقلت: ما حبسك؟ قال: لقيت رجلًا [يقول] إن الله تعالى أرسله. فقلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون شاعر، ساحر، كاهن. قال أبو ذر: وكان أنيس أحد الشعراء، قال: والله لقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلم يلتئم على لسان أحد، ولقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون.

_ 1 حديث إسلام أبي ذر، روي من طرق، وبألفاظ مختلفة، وبهذا اللفظ في صحيح مسلم، في كتاب فضائل الصحابة، "باب من فضائل أبي ذر رضي الله عنه"، من طريق "حميد بن هلال، عن عبد الله ابن الصامت، عن أبي ذر"، وهو أيضًا في طبقات ابن سعد 4: 1/ 161. و "راث على"، أبطأ. وروايتهما: "فلا يلتئم على لسان بعدي"، و "أقراء الشعر" يعني بخوره وطرائقه وأنواعه، جمع "قرى".

10 - ومن ذلك ما روي أن الوليد [بن عقبة] 1 أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأ. فقرأ عليه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]، فقال: أعد فأعاد، فقال: "والله إنَّ له لحلاوةً، وإنَّ عليه لطُلاوةً، وإنَّ أسفله لمعرق، وإن أعلاه لمثمر، وما يقول هذا بشر". 11 - واعلم أنه لا يجوز أن يقال في هذا وشبهه إنه لا يكون دليلًا حتى يكون من قول المشركين بعضهم لبعض، حين خلوا بأنفسهم فتفاوضوا وتحاوروا وأفضى بعضهم بذات نفسه إلى بعض وإن كان منه من كلام المؤمنين، أو ممن قاله ثم آمن، فإنه لا يصح الاحتجاج به في حكم الجدل، من حيث يصير كأنك تحتج على الخصم برأي تراه أنت، وبقول أنت تقوله، وذلك أنه إنما يمتنع أن يدل إذا صدر القول مصدر الدعوى والشيء يدفعه الخصم وينكره، فأما ما كان مخرجه مخرج التنبيه على أمر يعرفه ذوو الخبرة، وأطلقه قائله إطلاق الواثق بأنه معلوم للجمع، وأنه ليس من بصير يعرف مقادير الفضل والنقص إلا وهو يحوج إلى تسليمه والاعتراف به شاء أم أبي فهو دليل بكل حال، ومن قول كل قائل، وحجة من غير مثنوية2، ومن غير أن ينظر إلى قائله أموافق أم مخالف، ذاك لأن

_ 1 هكذا في المخطوطة، وهو خطأ لا شك فيه، كأنه اختلط عليه اسمه "الوليد بن عتبة بن ربيعة"، وهذا الخبر إنما يروى في تحبر الوليد بن المغيرة، انظر ما سلف رقم: 7، والسيرة الشامية 2: 472 وغيرها، وسيأتي في رقم: 44 من هذه الرسالة. 2 "مثنوية"، استثناء.

الدلالة ليست من نفس القول وذاك الصفة، بل في مصدرهما، وفي أن أخرجها مخرج الإخبار عن أمر هو كالشيء البادي للعون، لا يعمل أحد بصره إلا رآه. 12 - وإذا رأينا "الأحوال" و "الأقوال" منهم قد شهدت1، كالذي بان، باستسلامهم للعجز وعلمهم بالعظيم من الفضل والبائن من المزية، الذي إذا قيس إلى ما يستطيعونه ويقدرون عليه في ضروب النظم وأنواع التصرف، فإنه الفوت الذي لا ينال2، وارتقى إلى حيث لا تطمع إلهي الآمال، فقد وجب القطع بأنه معجز. ذلك لأنه ليس إلا أحد الأمرين3: فإما أن يكونوا قد علموا المزية التي ذكرنا أنهم علموها على الصحة وإما أن يكونوا قد توهموها في نظم القرآن، وليست هي فيه لغلط دخل عليهم. ودعوى الثاني من الأمرين سخف، فإن ذلك لو ظن بالواحد منهم لبعد، ذلك لأنه لا يتصور أن يتوهم العاقل في نظم كلام، جل مناه ومنى أصحابه أن يستطيع معارضته، وأن يقدر على إسكات خصمه المباهي به، أنه قد بلغ في المزية هذا المبلغ العظيم غلطًا وسهوًا4، فكيف بأن يشمل هذا الغلط كلهم5، ويدخل على كافتهم؟ وأي عقل يرضى من صاحبه

_ 1 في المخطوطة والمطبوعة: "فمنهم قد شهدت"، وهو لا يستقيم. 2 السياق: "الذي إذا قيس فاته الفوت فقد وجب". 3 في المخطوطة: "ليس أحد الأمرين"، وصححها في المطبوعة: "ليس إلا أحد أمرين". 4 السياق: "لا يتصور أن يتوهم العاقل .... أنه قد بلغ في المزية". 5 في المطبوعة: "يشتمل".

بأن يتوهم عليهم مثل هذا من الغلط، وهم من إذا ذاق الكلام عرف قائله من قبل أن يذكر، ويسمع أحدهم البيت قد استرفده الشاعر فأدخله في أثناء شعر له، فيعرف موضعه وبنيه عليه، كما قال الفرزدق لذي الرمة أهذا شعرك؟ هذا شعر لاكه أشد لحيين منك1 إلى ضروب من دقيق المعرفة يقل هذا في جنبها؟ وإذا لم يصح الغلط عليهم، ولم يجز أن يدعي أنه كان معهم في زمانهم من كان بالأمر أعلم2، وبالذي وقع التحدي إليه أقوم، فما زالت الشبهة في كونه معجزًا له. 13 - وإن قالوا: فإن ههنا أمرًا آخر، وهو ما علمنا من تقديمهم شعراء الجاهلية على أنفسهم، وإقرارهم لهم بالفضل، وإجماعهم في امرئ القيس وزهير والنابغة والأعشى أنهم أشعر العرب. وإذا كان ذلك كذلك، فمن أين لنا أن نعلم أنهم لم يكونوا بحيث لو تحدوا إلى معارضة القرآن لقاموا بها واستطاعوها؟ قيل لهم: هذا الفصل على ما فيه لا يقدح في موضع الحجة، وذلك أنهم كانوا، كما لا يخفى، يروون أشعار الجاهليين وخطبهم، ويعرفون مقاديرهم في الفصاحة معرفة من لا تشكيل جهات الفضل عليه، فلو كانوا يرون فيما رووا وحفظوا مزية على القرآن3، أو رأوه قريبًا منه، أو بحيث يجوز أن يعارض بمثله، أو يقع لهم إذا قاسموا وازنوا أن هذا الذي تحدوا إلى معارضته لو تحدى إليه من قبلهم لاستطاعوا أن يأتوا بمثله، لكانوا يدعون ذلك ويذكرون، ولو ذكروه لذكر

_ 1 خبره في الأغاني 18: 21 "الهيئة"، وفي غيره. 2 في المطبوعة: "أنه كان في زمانهم"، أسقط "معهم". 3 في المخطوطة: "كانوا يرؤون كما رووا وحفظوا"، وهو كلام مضطرب، وصححه الناشران، وحذفا "وحفظوا" لم؟ لا أدري.

عنهم. ومحال إذا رجعنا إلى أنفسنا واستشففنا حال الناس فيما جبلوا عليه1 أن يكونوا قد عرفوا لما تحدوا إليه وفرعوا بالعجز عنه شبهًا ونظمًا، ثم يتلى عليهم: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]، فلا يزيدون في جوابه على الصمت، ولا يقولون: "لقد روينا لمن تقدم ما علمت وعلمنا أنه لا يقصر [عما] أتيت به، فمن أين استجزت أن تدعي هذه الدعوى"؟ فإذا كان من المعلوم ضرورة أنهم لم يقولوا ذلك، ولا رأوا أن يقولوا، ولو على سبيل الدفع والتلبيس والتشعب بالباطل2، بل كانوا بين أمرين: إما أن يخبروا عن أنفسهم بالعجز والقصور، وذلك حين يخلو بعضهم ببعض، وكان الحال حال تصادق وإما أن يتعلقوا بما لا يتعلق به إلا من أعورته الحيلة، ومن فل بالحجة3، من نسبته إلى السحر تارة، وإلى أنه مأخوذ من فلان وفلان أخرى4، يسمون أقوامًا مجهولين لا يعرفون بعلم، ولا يظن بهم أن عندهم علمًا ليس عند غيرهم5 ثبت أنهم قد كانوا علموا أن صورة أولئك الأوائل صورتهم، وأن التقدير فيهم أنهم لو كانوا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تحدوا إلى معارضته، في مثل حال هؤلاء الكائنين في زمانه حالهم. وإذا كان هذا هكذا، فقد انتفى الشك، وحصل اليقين الذي تسكن معه النفس، ويطمئن

_ 1 في المطبوعة: "واستشفعنا" و "استشف الأمر"، تأمله لينظر ما وراءه. 2 غير ما في المخطوطة فكتب "الشغب"، كأنه ظنه خطأ! 3 في المخطوطة والمطبوعة: "فعل بالحجة"، وهو خطأ ظاهر. و "فله يفله"، كسره وهزمه. 4 في المخطوطة والمطبوعة: "وفلان آخر" كلام غير مستقيم. 5 السياق من أول الفقرة: "فإذا كان من المعلوم".

عنده القلب، أنه معجز ناقض للعادة، وأنه في معنى قلب العصا حية، وإحياء الموتى، في ظهور الحجة به على الخلق كافة، وبان أن قد سعد المؤمنون وتحسر المبطلون1. والحمد لله رب العالمين على أن هدانا لدينه، وأنار قلوبنا ببرهانه ودليله، وإباه جل وعز نسأل التثبيت على ما هدى له، وإتمام النعمة بإدامة ما خوله، بفضله ومنه.

_ 1 "السياق: "وإذا كان هذا، فقد انتفى الشك. وبان أن قد سعد".

فصل: 14 - واعلم أن ههنا بابًا من التلبيس أنت تجده يدور في أنس قوم من الأشقياء، وتراهم يومئون إليه، ويهمسون به، ويستهوون الغر الغبي بذكره، وهو قولهم: "قد جرت العادة بأن يبقى في الزمان من يفوت أهله حتى يسلموا له، وحتى لا يطمع أحد في مداناته، وحتى ليقع الإجماع منهم أنه الفرد الذي لا ينازع1. ثم يذكرون أمرأ القيس والشعراء الذين قدموا على من كان معهم من أعصارهم، ومما ذكروا الجاحظ وكل مذكور بأنه كان أفضل من كان في عصره، ولهم في هذا الباب خبط وتخليط لا إلى غاية. وهي نفثة نفثها الشيطان فيهم، وإنما أتوا من سوء تدبرهم لما يسمعون2، وتسرعهم إلى الاعتراض قبل تمام العلم بالدليل. وذلك أن الشرط في المزية الناقضة للعادة، أن يبلغ الأمر فيها إلى حيث المداناة، وحتى لا تحدث نفس صاحبها بأن يتصدى، ولا يجول في خلد أن الإتيان بمثله يمكن، وحتى يكون يأسهم منه وإحساسهم بالعجز عنه في بعضه، مثل ذلك في كله. 15 - وليت شعري، من هذا الذي سلم لهم أنه كان في وقت من الأوقات من بلغ أمره في المزية وفي العلو على أهل زمانه هذا المبلغ، وانتهى إلى هذا الحد؟ إن

_ 1 في المخطوطة: و "حتى لا يقع الإجماع منه"، وصححه الناشران: "حتى ليقع الإجماع فيه ... " والجيد ما أثبت. 2 في المخطوطة والمطبوعة: "سوء تدبيرهم"، وهو خطأ.

قيل: "امرؤ القيس"، فقد كان في وقته من يباريه ويماتنه، بل لا يتحاشى من أن يدعي الفضل عليه. فقد عرفنا حديث "علقمة الفحل"، وأنه لما قال امرؤ القيس، وقد تناشدا: "أينا أشعر؟ "، قال: "أنا"، غير مترث ولا مبال، حتى قال امرؤ القيس: "فقل وانعت فرسك وناقتك، وأقول وأنعت فرسي وناقتي" فقال علقمة: "إني فاعل، والحكم بيني وبينك المرأة من ورائك"، يعني أم جندب امرأة آمرئ القيس، فقال امرؤ القيس: خليلي مرا بي على أم جندب ... نقض لبانات الفؤاد المعذب1 وقال علقمة: ذهبت من الهجران في كل مذهب ... ولم يك حقًا كل هذا التجنب2 وتحاكما إلى المراة، ففضلت علقمة3.

_ 1 في ديوانه. 2 في ديوانه. 3 في هامش "ج"، حاشية بخط كاتبها، هذا نصها: "وإنما فضلت علقمة على امرئ القيس، لأنهما وصفا الفرس، فقال امرؤ القيس: فللزجر ألهوب، وللساق درة ... وللسوط منها وقع أخرج مهذب وقال علقمة: إذا ما ركبنا لم تخاتل بجنة ... ولكن ننادي من بعيد ألا آركب فقالت: قلت: "فللزجر ألهوب"، البيت، لو فعل هذا بأتان لعدت". قال أبو فهر: في رواية بيت امرئ القيس اختلاف شديد، وبعض الاختلاف في بيت علقمة.

16 - وجرى بين امرئ القيس والحارث اليشكرى في تتميمه أنصاف الأبيات التي أولها: أحار أريك برقًا هب وهنًا ... كنار مجوس تستعر استعارًا ما هو مشهور، حتى قالوا امرؤ القيس: لا أماتنك بعد هذا1. 17 - ثم وجدنا الخبار تدل على خلاف لم يزم بين الناس فيه وفي غيره، أي أشعر؟ وعلى أي لم يستقر الأمر في تقديمه قرارًا برفع الشك. رووا أن أمير المؤمنين عليًا، رضوان الله عليه، كان يفطر الناس في شهر رمضان، فإذا فرغ من العشاء تكلم فأقل، وأوجز فأبلغ. قال: فاختصم الناس ليلة في أشعر الناس، حتى ارتفعت أصواتهم، فقال رضوان الله عليه لأبي الأسود الدؤلي: قل يا أبا الأسود. وكان يتعصب لأبي دؤاد، فقال: أشعرهم الذي يقول: ولقد اعتدى يدافع ركنى ... أحوذى ذو ميعة إضريج مخلط مزيل مكر مفر ... منفح مطرح سبوح خروج سَلهبٌ شَرْجبٌ كأنَّ رِماحاً ... حَمَلتْهُ، وَفِي السَّراةِ دموج2 فأقبل أمير المؤمنين -رضوان الله عليه- على الناس فقال: كل شعرائكم محسن، ولو جمعهم، زمان واحد وغاية ومذب واحد في القول، لعلمنا أيهم

_ 1 الخبر في دوان امرئ القيس، وفي كثير من الكتب. وفي هامش "ج" بخط كاتبها ما نصه: "مماتنة الشاعرين: أن يقول هذا بيتًا وهذا بيتًا، كأنهما يمتدان إلى غاية". 2 سبق تخريج هذا الشعر في "دلائل الإعجاز" رقم: 231، وفي المطبوعة: "مخلط مزيد"، خطأ.

أسبق إلى ذلك، وكلهم قد أصاب الذي أراد وأحسن فيه، وإن يكن أحدهم أفضل، فالذي لم يقل رغبة ولا رهبة: امرؤ القيس بن حجر، كان أصحهم بادرة، وأجودهم نادرة. 18 - وعن ابن عباس أنه سأل الخطيئة: من أشعر الناس؟ قال: أمن الماضين أم من الباقين؟ فقال: إذن من الماضين، فهو الذي يقول: ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره ومن لا يتق الشتم يشتم وما الذي يقول: ولست بمستبق أخًا لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب بدون ذلك، ولكن الضراعة أفسدته كما أفسدت جرولًا يعني نفسه والله يا آبن عباس لولا الجشع والطمع لكنت أشعر الماضيين، فأما الباقون فلا أشك أني أشعرهم1. 19 - وقالوا: كان الأوائل لا يفضلون على زهير أحدًا في الشعر ويقولون: "قد ظلمه حقه من جعله كالنابغة". قالوا: "وعامة أهل الحجاز على ذلك". وعن ابن عباس أنه قال: سامرت عمر بن الخطاب -رضوان الله عليه- ذات ليلة فقال: أنشدني لشاعر الشعراء. فقلت: ومن شاعر الشعراء؟ قال: زهير. قلت:

_ 1 الخبر في الأغاني 2: 193، وكان في المخطوطة والمطبوعة: "من أشعر الناس من الماضين والباقين"، وهو كلام فاسد. والشعر الأول لزهير في معلقته، والثاني للنابغة في ديوانه.

يا أمير المؤمنين، ولم كان شاعر الشعراء؟ قال: لأنه لا يتتبع وحشى الكلام في شعره، ولا يعاظل بين القول. 20 - وروى عن أبي عبيدة أنه قال: أشعر الناس ثلاثة: امرؤ القيس بن حجر، وزهير بن أبي سلمى، والنابغة الذبياني، ثم اختلفوا فيهم: فزورت اليمانية تقديمًا لصاحبهم أخبارًا رفعوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى عن يحيى بن سليمان الكاتب أنه قال: بعثني المنصور إلى حماد الرواية أسأله عن أشعر الناس، فأتيته وقلت: إن أمير المؤمنين يسألك عن أشعر الناس. فقال: ذاك الأعشى صناجها. 21 - فقد علمنا أن امرأ القيس كان أشعرهم عندهم1، وأن تفضيلهم غيره عليه إنما كان على سبيل المبالغة، وعلى جهة الاستحسان للشيء يتمثل به في الوقت ويقع في النفس، وما أشبه ذلك م نالأسباب التي يعطي بها الشاعر أكثر مما يستحق. أليس فيه أنه مما لا يبعد في القياس، وأنه مما يتسع له الاحتمال، وأنه ليس بالقول الذي يعاب، والحكم الذي يزرى بصاحبه، وأنه فضله عليهم لم يكون بالفضل الذي يمنع أن يكونوا أكفاء له ونظراء، يسوغ للواحد منهم، ويسوغ هو لنفسه، دعوه مساواته والتصدي لمباراته؟ هذا، وفي حاجة المنصور إلى أن يسأل عن أشعر الشعراء، وقد مضى الدهر بعد الدهر، دليل [على] أن لم يكن الذي روى من تفضيله قولًا مجمعًا عليه من

_ 1 في المخطوطة: فقد علمنا على أن امرأ القيس"، وأنا أرجح أن الصواب: "وقد علمنا على أن امرأ القيس"، وكأن السياق يدل على صوابه.

أصله وفي أول ما قيل1، وأنه كان كالرأي يراه قوم وينكره آخرون، وأن الصورة كانت كالصورة مع جرير والفرزدق، وأبي تمام والبحتري. ذاك لأه لو كان القول بأنه أشعر الناس قولًا صدر مصدر الإجماع في أوله، وحكمًا أطبق عليه الكافة حين حكم به، حتى لم يوجد مخالف، ثم استمر كذلك إلى زمام المنصور، لكان يكون محالًا أن يخفى عليه حتى يحتاج فيه إلى سؤال حماد وكان يكون كذلك بعيدًا من حماد أن يبعث إليه مثل المنصور، في هيبته وسلطانه ودقة نظره وشدة مؤاخذته، يسأله فيجازف له في الجواب، ويقول قولًا لم يقله أحد، ثم يطلقه إطلاق الشيء الموثوق بصحته، المتقدم في شهرته، فتدبر ذلك. 22 - ويزيد الأمر بيانًا أن رأيناهم حين طبقوا الشعراء جعلوا امرأ القيس وزهيرًا والنابغة والأعشى في طبقة، فأعلموا بذلك أنهم أكفاء ونظراء، وأن فضلًا أن كان لواحد منهم، فليس بالذي يوئس الباقين من مداناته2، ومن أن يستطيعوا التعق به والجرى في ميدانه، ويمنعهم أن يدعوا لأنفسهم أو يدعي لهم أنهم ساووه في كثير مما قالوه أو دنوا منه، وأنهم جروا إلى غياته أو كادوا. وإذا كان هذه صورة الأمر، كان من العمى التعلق به، ومن الخسار الوقوع في الشبهة بسببه. 23 - وطريقة أخرى في ذلك، وتقرير له على ترتيب آخر، وهو أن الفضل يجب والتقديم، إما لمعنى غريب يسبق إليه الشاعر فيستخرجه، أو استعارة بعيدة.

_ 1 في المطبوعة: "الذي روى من تفضيله مجمعًا عليه"، أسقط "قولًا". 2 في المخطوطة: "معافاته"، وفي المطبوعة: "معاناته"، وكلتاهما عديمة المعنى، وإنما هو تصحيف لا أكثر.

يفطن لها، أو لطريقة في النظم يخرتعها. ومعلوم أن المعول في دليل الإعجاز على النظم، ومعلوم كذلك أن ليس الدليل في المجيء ينظم لم يوجد من قبل فقط، بل في ذلك مضمومًا إلى أن يبين ذلك "النظم" من سائر ما عرف ويعرف من ضروب "النظم"، وما يعرف أهل العصر من أنفسهم أنهم يستطيعونه1، البينونة التي لا يعرض معها شك لواحد منهم أنه لا يستطيعه، ولا يهتدي لكنه أمره، حتى يكونوا في استشعار اليأس من أن يقدروا على مثله، وما يجري مجرى المثل له، على صورة واحدة، وحتى كان قلوبهم في ذلك أفرغت في قالب واحد2. وإذا كان الأمر كذلك لم يصح لهم تعلق بشأن امرئ القيس حتى يدعوا أنه سبق إلى نظم بان من كل نظم عرف لمن قبله ولمن كان معه في زمانه، البينونة التي ذكرنا أمرها. وهم إذا فعلوا ذلك، ورطوا أنفسهم في أعظم ما يكون من الجهالةن من حيث أن يفضي بهم إلى أن أن يدعوا على من كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم من الشعراء والبلغاء قاطبة الجهل بمقادير البلاغة، والنقصان في علمها3، ولأنفسهم الزيادة عليهم، وأن يكونوا قد استدركوا في نظم امرئ القيس مزية لم تعلمها قريش والعرب قاطبة، ذلك لما مضى آنفًا من أن محالًا أن يكون معهم وبين أيديهم نظم يعرفون من حاله أنه مساو في الشرف نظم القرآن، ثم لا يذكرونه ولا يحتجون به على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يخبرهم أن الذي أتى به خارج عن طوق البشر ويتجاوز قواهم.

_ 1 السياق: "أن يبين ذلك النظم ... البينونة". 2 في المخطوطة والمطبوعة: "أفرغت في قلب واحد"، والذي أثبته أجود. 3 قوله: "ولأنفسهم" أي: وادعوا لأنفسهم، معطوفًا على ما قبله.

هذا، ومن يسلم بأن امرأ القيس زاد في البلاغة وشرف النظم على نظم من كان قبله، ما إذا اعتبر كان في مزية قدر القرآن على نظم من كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم أن من أين لهم هذه الدعوى؟ ألشيء علموه هم في شعره، بان لهم عند قياسه إلى شعر من كان قبله كأبي دواد والأفوه الأودي وغيرهما؟ أم لخبر أتاهم؟ فليرونا مكانه، وليس لهم إلى ذلك سبيل، بل قد أتى الخبر بما يجهلهم في هذه الدعوى ويكذبهم، وهو الذي تقدم من قول أبي الأسود وتفضيله أبا دواد بحضرة أمير المؤمنين على رضوان الله عليه1، ويعد أن قال له: "قل يا أبا الأسود"، أفيكون أن يكونوا قد عرفوا لامرئ القيس المزية التي ذكروها، وكان فضله على من تقدمه الفضل الذي قالوه، ثم يقول أمير المؤمنين لأبي الأسود: "قل"، بحضرة العرب، وبعقب أن تشاجروا في أشعر الناس، فيؤخره ويقدم أبا دؤاد، ثم لا يسمع نكيرًا، كالذي يجب فيمن قال الشيء الظاهر بطلانه، وذهب مذهبًا لا مساغ له! وليست تذكر أمثال هذه الزيادة، ويتكلف الجواب عنها، أنها تأخذ موضعًا من قلب ذي لب، ولكن الاحتياط بذكر ما يتوهم أن يستروح إليه الغوى، ويغالط به الجاهل. وإذا كانت الشبهة في أصل الدين، كانت كالداء الذي يخشى منه على الروح، ويخاف منه على النفس، فلا يستقل قليله، ولا يتهاون باليسير منه، ولا يتوهم مكان حركة له إلا استقصى النظر فيه، وأعيد الكي على نواحيه، وكالحيوان ذي السم يعاد الحجر على رأسه، ما دام يرى به حس وإن قل. والله ولي العصمة، والمسئول أن يجعل كل ما نعيد ونبدئ فيه لوجهه، بفضله ومنه.

_ 1 انظر ما سلف رقم: 17.

24 - فاعلم أنهم إذا ذكروا في تعلقهم بلتوابع، ومحاولتهم أن يمنعوا من الاستدلال، مع تسليم عجز العرب عن معارضة القرآن من تراخي زمانه عن زمان النبي صلى الله عليه وسلم، كالجاحظ وأشباهه، كانوا في ذلك أجهل، وكان النقض عليهم أسهل. وذلك أن الشرط في نقض العادة أن يعم الأزمان كلها، وأن يظهر على مدعي النبوة ما لم يستطيعه مملوك قط. وأما تقدم واحد من أهل العصر سائرهم، ففي معنى تقد واحد من أهل مصر من الأمصار غيره ممن يضمه وإياه ذلك المصر، لا فضل في ذلك بين الأمصار والأعصار إذا حققت النظر، إذ ليس بأكثر من أن واحدًا زاد على جماعة معدودين في نوع من الأنواع، فكان أعلمهم أو أكتبهم أو أشعرهم، أو أحذقهم في صنعة، وأبهرهم في عمل من الأعمال. وليس ذلك من الإعجاز في شيء، إنما المعجز ما علم أنه فوق قوى البشر وقدرهم، إن كان من جنس ما يقع التفاضل فيه من جهة القدر، أو فوق علومهم، إن كان من قبيل ما يتفاضل الناس فيه بالعلم والفهم. وإذا كنا نعلم أن استمداد الجاحظ وأشباه الجاحظ من كلام العرب والبلغاء الذين تقدموا في الأزمنة، وانهم فجروا لهم ينابيع القول فاستقوا، ومثلوا لهم مثلًا في البلاغة افحتذروا، إذن لم يبلغ شأو ما بلغ1، ولم يدر لهم من ضروع القول ما ذر، لو أن طباعًا لم تشرب من مائهم2، ولم تعذ بجناهم، ولم يكن حالهم في الاكتساب منهم، والاستمداد من ثمار قرائحهم، وتشمم الذي قاح من روائحهم3، حال النحل التي تغتذى بأريح الأنوار وطيب الأزهار، وتملأ

_ 1 غيروا ما في المخطوطة فجعلوه: "إذن لم يبلغوا شأو ما بلغوا"، والذي في المخطوطة صحيح كل الصحة، وأساء الناشر إن إذا لم يشير إلى ما في المخطوطة. 2 في المخطوطة والمطبوعة: "ولو أن طباعًا"، الواو مفسدة للكلام. 3 السياق: "ولم يكن حالهم حال النحل".

أجوافها من تلك اللطائف، ثم تمجها أربًا وتقذفها ماديًا1، إذن لكان الجاحظ وغير الجاحظ في عداد عامة زمانهم الذين لم يروا، ولم يحفظوا، ولم يتتبعوا كلام الأولين، من لدن ظهر الشعر وكان الخطابة إلى وقتهم الذي هم فيه2، ولم يعرفوا إلا ما يتكلم به آباؤهم وإخوانهم ومساكنوهم في الدار والمحلة، أو كانوا لا يزيدون عليهم إن زادوا بمقدار معلوم. فمن أعظم الجهل وأشد الغباوة، أن يجعل تقدم أحدهم لأهل زمانه من باب نقض العادة، وأن يعد معد المعجز3. 25 - فمثل هذه الطبقة إذن مع الصدر الأول، وقياس هؤلاء الخلف مع أولئك السلف، ما جرى بين ابن ميادة وعقال4، قال ابن ميادة: فَجَرْنا ينابيعَ الكَلامِ وبَحْرَهُ ... فأصْبَحَ فيهِ ذو الروايةِ يَسْبَحُ وما الشعرُ إِلاّ شعرُ قيسٍ وخندف ... وقول سواهم كلفة وتملح فقال عقال بجيبه: ألا أبلغ الرَّمَّاحَ نقْضَ مقالةٍ ... بها خَطِلَ الرَّمَّاحُ أو كان يَمْزَحُ5 لقد خَرَّقَ الحيُّ اليمانون قَبْلَهم ... بُحورَ الكلام تستقي وهي طفح وقد عَلَّموا مَنْ بَعْدَهُمْ فتعلَّموا ... وهمْ أَعْرَبوا هذا الكلام وأوضحوا فللسابقين الفضل لا تنكرونه ... وليس لملخوق عليهم تبجح

_ 1 في المطبوعة: "مذيا"، أساء فغير ما في المخطوطة، و"الأرى"، العسل. و"الماذي"، العسل الأبيض. 2 في المطبوعة: "وكانت الخطابة"، والذي في المخطوطة لا غبار عليه. 3 في المخطوطة: "معد العجز". 4 سلف شعر ابن ميادة وعقال في دلائل الإعجاز: 590، 591، مع بعض الاختلاف هنا في حروف منه. 5 في المخطوطة والمطبوعة: "أو كاد يمزح"، وهي تصحيف.

26 - وفي الذي قدمت في أول الجزء مفتتح هذه الرسالة من قول خالد ابن صفوان: "كيف تجاريهم، وإنما نحكيهم"1 وما أتبعته من قول الجاحظ في شأن العرب، وفي أن الاقتداء بهم والأخذ منهم والتسليم لهم، وأنهم لا يستطيع أشعر الناس وأرفعهم في البيان أن يضاهيهم، ويقول مثلا لذي قالوه في جودة السبك والنحت، وكثرة الماء والرونق، إلا في اليسير2 غنى للعاقل وكفاية، اللهم إلا أن يتجاهل متجاهل فيدعي في الجاحظ وأمثاله فضلًا لم يدعوه لأنفسهم، أو يزعم أنهم ضاموا أنفسهم تعصبًا للعرب، فتشاهدوا لها بأكثر مما عرفوا، وتواصفوها بمزية [ومما] لم يعلموا3، فيفتح بذلك بابًا من الركاكة والسخف لا يجاب عن مثله، ولا يشتغل بالإصغاء إليه، فضلًا عن الكلام عليه. 27 - واعلم أنه إن خيل إلى قوم من جهال الملحدة4، أنه كان في المتأخرين من البلغاء كالجاحظ وأشباه الجاحظ، من استطاع معارضة القرآن فترك خوفًا، أو أنهم فعلوا ذلك ثم أخفوه، لم يتصور تخيلهم ذلك حتى يقتحموا هذه الجهالة التي ذكرتها، أعني أن يزعموا أنهم كانوا عند أنفسهم أفصح وأبلغ من بلغاء قريش وخطابئهم، وأن خطيبهم كان أخطب من قس وسحبان، وشاعرهم أشعر من امرئ القيس ومن كل شاعر كان في العرب، إلا أنهم صانعوا الناس،

_ 1 مضى كلام خالد، والجاحظ في الفقرة رقم: 3. 2 السياق: "وفي الذي قدمت غنى وكفاية". 3 جعلها الناشران: " ... بمزية لم يعلموها"، والذي أثبته بين القوسين يقيم الكلام على الدرب. 4 غيرها الناشران فكتبا: "الملاحدة" بلا علة.

فمنعوا أنفسهم الفضيلة ونحوها العرب. وذاك أن محالًا أن يعتقدوا فيهم، أعنى في العرب، ما اعتدقه الناس، وفي أنفسهم ما أفصحوا به من القصور عن مداناتهم، وشدة الانحطاط عنهم، ثم أن يستطيعوا ما لم يستطعه العرب1، ويكملوا ما لم يكملوا له. ومن هذا الذي يشك في بطلان دعوى من بلغ بالمصلى غاية وقد انقطع السابق2، وزعم في الناقص الحذق أنه استقل بشيء عى به المشهود له بالحذق والتقدم؟ هذا ما لا يدور في خلد، ولا تنعقد له صورة في وهم، فاعرف ذلك.

_ 1 في المخطوطة: "ثم يستطيعوا"، بإسقاط "أن" سهوًا. 2 في المخطوطة: "من بلغ بالمصلى غاية قد انقطع السابق"، فزاد في المطبوعة فقال: "السابق [عليها] ". وليس موضع فساد الجملة في هاذ، بل في إسقاط الواو من "وقد انقطع"، وسياق ما يأتي يدل على صواب ما أثبت. و "المصلى" من الخيل هو الذي يجيئ بعد الفرس "السابق" عند السباق في الحلبة.

فصل: في فن آخر من السؤال 1 28 - وهو أن يقولوا: إنا قد علمنا من عادات الناس وطبائعهم أن الواحد منهم تواتيه العبارة، ويطيعه اللفظ في صنف من المعاني، ثم يمتنع عليه مثل تلك العبارة وذلك اللفظ في صنف آخر1. فقد يكون الرجل، كما لا يخفى، في المديح أشعر منه في المرائي، وفي الغزل واللهو والصيد أنفذ منه في الحكم الآداب، ونراه يستطيع في الأوصاف والتشبيهات ما لا يستطيع مثله في سائر المعاني، وترى الكاتب وهو في الإخوانيات أبلغ منه في السلطانيات، وبالعكس. هذا أمر معروف ظاهر لا يشتبه. وإذا كان كذلك، فعلل العجز الذي ظهر فيهم عن معارضته القرآن، لم يظهر لأنهم لا يستطيعون مثل ذلك النظم، ولكن لأنهم لا يستطيعونه في مثل معاني القرآن. واعلم أن هذا السؤال إذا وقع الجواب عنه وقع عن جملته، وكان الحسم في الداء كله. وذاك أن يقولوا: إنه لا تصح المطالبة إلا بما يتصوره وجوده، وما يدخل في حيز الممكن، وإنا لنعلم من حال المعاني أن الشاعر يسبق في الكثير منها إلى عبارة يعلم ضرورة أنها لا يجيء في ذلك المعنى إلا ما هو دونها ومنحط عنها، حتى يقضي له بأنه قد غلب عليه واستبد به، كما قضى الجاحظ لبشار في قوله: كأنَّ مُثارَ النقعِ فَوقَ رؤوسِنا ... وأسيافنَا لَيْلٌ تهاوى كواكبه

_ 1 أسقط الناشران "ثم"، من قوله: "ثم يمتنع"؟ وغبرًا أيضًا ما في المخطوطة، وكتبا: "في جزء آخر"، ولا أدري لم.

فإنه أنشد هذا البيت نظائره ثم قال: وهذا المعنى قد غلب عليه بشار، كما غلب عنترة على قوله: وخلا الذباب بها فليس ببارح ... غردًا كفعل الشارب المترنم هزجًا يحك ذراعه بذراعه ... قدح المكب على الزناد الأجذم قال: فلو أن آمرأ القيس عرض لمذهب عنترة في هذا لافتضح"1. وليس ذاك لأن بشارًا وعنترة قد أوتيا في علم النظم جملة ما لم يوت غيرهما، ولكن لأنه إذا كان في مكان خبئ فعثر عليه إنسان وأخذهِ، لم يبق لغيره مرام في ذلك المكان، وإذا لم يكن في الصدقة إلا جوهرة واحدة، فعمد إليها عامد فشقها عنها، استحال أن يستام هو او غيره إخراج جوهرة أخرى من تلك الصدفة. وما هذا سبيله في الشعر كثي لا يخفى على من مارس هذا الشأن. فمن البين في ذلك قول القطامي: فهنَّ يَنْبُذنَ من قولٍ يُصبْنَ بهِ ... مَواقعَ الماء من ذي الغلة الصادي2 وقول آبن حازم: كفاك بالشيب ذنبًا عند غانيه ... وبالشباب شفيعًا أيها الرجل3

_ 1 كلام الجاحظ في الحيوان 3: 127، وبيت بشار مضى في الدلائل، وبيتا عشرة في معلقته وديوانه. 2 البيت في ديوانه. 3 لمحمد بن حازم الباهلي، وكنيته أبو جعفر، وفي ديوانه المعاني 2: 152 "لأبي حازم الباهلي"، خطأ. وفي المخطوطة "أبي حازم"، خطأ أيضًا، صوابه "ابن حازم" كما كتبت، وهذا الشعر في الأغاني 14: 94، "الدار" ثلاثة عشر بيتًا، وانظر أيضًا أمالي الشريف المرتضى 1: 606، وسمط اللآلي: 336، وتخريجها، وقال ابن الأعرابي وذكر هذا الشعر كله: "أحسن ما قال المحدثون من شعراء هذا الزمان، في مديح الشباب وذم الشيب".

وقول عبد الرحمن بن حسان: لم تفتها شمس النهار بشيء ... غير أن الشباب ليس يدوم1 وقول البحتري: عريقون في الإضال يوتنف الندى ... لناشئهم من حيث يوتنف العمر2 لا ينظر في هذا وأشباهه عارف إلا علم أنه لا يوجد في المعنى الذي يرى مثله، وأن الأمر قد بلغ غايته، وأن لم يبق للطالب مطلب. 29 - وكذلك السبيل في المنثور من الكلام، فإنك تجد فيه متى شئت فصولًا تعلم أن لن يستطاع في معانيها مثلهان فمما لا يخفى أنه كذلك قول أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضيوان علي بن أبي طالب رضوان الله عليه: "قيمة كل امرئ ما يحسنه"، وقول الحسن رحمه الله عليه: "ما رأيت يقينًا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت". ولن تعدم ذلك إذا تأملت كلام البلغاء ونظرت في الرسائل. ومن أخص شيء بأن يطلب ذلك فيه، الكتب المبتدأة الموضوعة في العلوم المستخرجة، فإنا نجد أربابها قد سبقوا في فصول منها إلى ضرب من اللفظ والنظم، أعيا من بعدهم أن يطلبوا مثله، أو يجيئوا بشبيه له، فجعلوا لا يزيدون على أن يحفظوا تلك الفصول على وجوهها، ويودوا ألفاظهم فيها على نظامها وكما هي3. وذلك ما كان مثل قول سيبويه في اول الكتاب:

_ 1 ليس لعبد الرحمن بن حسان هو لأبيه حسان بن ثابت في ديوانه. 2 مضى في دلائل الإعجاز رقم: 571. 3 في المطبوعة: "ويرددوا ألفاظهم"، لا يدري لم غير النص.

"وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء، وبنيت لما مضى وما يكون ولم يقع، وما هو كائن لم ينقطع"1. لا نعلم أحدًا أتى في معنى هذا الكلام بما يوازنه أو يدانيه، أو يقع قريبًا منه، ولا يقع في الوهم أيضًا أن ذلك يستطاع، أفلا ترى أنه إنما جاء في معناه قولهم" والفعل ينقسم بأقسام الزمان، ماض وحاضر ومستقبل"، وليس يخفى ضعف هذا في جنبه وقصوره عنه. ومثله قوله2: "كأنهم يقدمون الذي باينه أهم لهم، وهم بشأنه أغنى، وإن كانا جميعًا يهمانهم ويغنيانهم". 30 - وإذا كان الأمر كذلك، لم يمتنع أن يكون سبيل لفظ القرآن ونظمه هذا السبيل3، وأن يكون عجزهم عن أن يأتوا بمثله في طريق العجز عما ذكرنا ومثلنا، فهذا جملة ما يجئ لهم في هذا الضرب من التعلق قد استوفيته. وإذ قد عرفته، فاسمع الجواب عنه، فإنه يسقطه عنك دفعة، ويحسمه عنك حسمًا4.

_ 1 سيبويه 1: 2. 2 في المخطوطة والمطبوعة: "ومثله قولهم"، وهو سهو من الناسخ، وهذا القول هو قول سيبويه في الكتاب 1: 15، ونقله عبد القاهر قبل ذلك في دلائل الإعجاز. انظر الفقرة رقم: 100. 3 من أغرب تصحيف كتبه كاتب هذه النسخة أن كتب مكان "القرآن": "الفراق"، كيف فعل هذا؟ وسيأتي أغرب منه عبد قليل. 4 هذا جواب السؤال الذي بدأه في رقم: 28.

31 - واعلم أنهم في هذا كرام قد أضل الهدف، وبان قد زال عن القاعدة، وذاك أنه سؤال لا يتجه حتى يقدر أن التحدي كان إلى أن يعبروا عن معاني القرآن أنفسها وبأعيانها بلفظ يشبه لفظه، ونظم يوازي نظمه. وهذا تقدير باطل، فإن التحدي كان إلى أن يجيئوا في اي معنى شاءوا من المعاني بنظم يبلغ نظم القرآن في الشرف أو يقرب منه. بدل على ذلك قوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13]، أي مثله في النظم، وليكن المعنى مفترى كما قلتم1، فلا إلى المعنى دعيتم، ولكن إىل النظم، وإذا كان كذلك، كان بينًا أنه بناء على غير أساس، ورمى من غير مرمى، لأنه قياس ما امتنعت فيه المعارضة من جهة وفي شيء مخصوص، على ما امتنعت معارضته من الجهات كلها وفي الأشياء أجمعها. فلو كان إذ سبق الخليل وسيبويه في معاني النحو إلى ما سبقا إليه من اللفظ والنظم، لم يسبق الجاحظ في معانيه التي وضع كتبه لها إلى ما يوازي ذلك ويضاهيه، أو كان بشار إذا سبق في معناه إلى ما سبق إليه، لم يوجد مثل نظمه فيه لشاعر في شيء من المعاني لكان لهم في ذلك متعلق. فأما وليس من نظم يقال: "إنه لم يسبق إليه" في معنى، إلا ويوجد أمثاله أو خير منه في معان آخر، فمن أشد المحال وأبينه الاعتراض به. واعلم أنا لو سلمان لهم الذي ظنوه على بطلانه من أن التحدي كان إلى أن يعبر عن أنفس معاني القرآن بما يشبه لفظه ونظمه، لم نعدم الحجاج معهم، وأن يكون لنا عليهم كلام في الذي تعلقوا به، ودفع لهم عنه. إلا أن العلماء آثروا أن يكون الجواب من الوجه الذي ذكرت، إذ وفق ما نص عليه في التنزيل، وكان

_ 1 في المخطوطة والمطبوعة: "لما قلتم".

فيه سد الباب وحسم الشبه جملة. ومن ضعف الرأي أن تسلك طريقًا يغمض، وقد وجدت السنن اللاجب، وأن تطاول المريض في علاجك، ومعك الدواء الذي يشفي من كثب، وأن ترخى من خناق الخصم، وفي قدرتك ألا يملك نفسًا، ولا يستطيع نطقًا. 32 - ثم إن أردت أن تكلمهم على تسليم ذلك، فالطريق فيه أن يقال لهم على أول كلامهم حيث قالوا: "إنا رأينا الرجل يكون في نوع أشعر، وعلى جودة اللفظ والنظم أقدر منه في غيره"1 2 إنه ينبغي أن تعلموا أول شيء أنكم حرفتم كلام الناس في هذا عن موضعه، فإنا إذا تأملنا الحال في تقديمهم الشاعر في فن من الفنون، وجدناهم قد فعلوا ذلك على معنى أنه قد خرج في معاني ذلك الفن ما لم يخرجه غيره، واتسع لما [لم] يتسع له من سواه. فإذا قالوا: "هو أنسب الناس"، فالمعنى أنه قد فطن في معاني الغزل [وما] يدل على شدة الوجد وفرط الحب والهيمان لما لم يفطن له غيره. وكذلك إذا قالوا: "أمدح، أو أهجى"، فالمعنى أنه قد اهتدى في معاني الزين والشين وفي التحسين والتهجين إلى ما لم يهتد إليه نظراؤه، ولو كانوا في اللفظ وانظم يذهبون، لكان محالًا أن يقولوا: "هو أنسب"، لأن ذلك في صفة اللفظ والنظم محال. ومن هذا الذي يشك أن لم يكن قول جرير: ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح3

_ 1 في المطبوعة: "وعلى حوك اللفظ والنظم"، لا أدري لم غيروا ما في المخطوطة. 2 قوله: "إنه ينبغي"، هو بدء الرد على قولهم. 3 البيت في ديوانه.

أمدح بيت عند من قال ذلك، من أجل لفظه ونظمه، وأن ذلك كان من أجل معناه؟ هذا ما لا معنى لزيادة القول فيه. 33 - فإن قالوا: هم، وإن كانوا قد أرادوا المعنى في قولهم: "هذا أمدح، وذاك أهجى، وهذا أنسب، وذاك أوصف"، فإنه لن تتسع المعاني حتى تتسع الألفاظ، ولن تقع مواقعها المؤثرة حتى يحسن النظم. وإذا كان كذلك فموضعنا منه بحاله1. ثم ليس بمنكر ولا مجهول ولا مجهول أن يكون لفظ الشاعر ونظمه إذا تعاطي المدح، أحسن وأفضل منهما إذا هو هجا أو نسب. قيل: إنا ندع النزاع في هذا ونسلمه لكم، فأخبرونا عن معاني القرآن2، أهي صنف واحد أم أصناف؟ فإن قلتم: "صنف واحد"، تجاهلتم، فقد علمنا الحجج والبراهين، والحكم والآداب، والترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، والوصف والتشبيه والأمثال، وذكر الأمم والقرون واقتصاص أحوالهم، والنبأ عما جرى بينهم وبين الأنبياء عليهم السلام، وما لا يصحى ولا يعد. وإن قلتم: "هي أصناف"، كما لا بد منه. قيل لكم: فقد كان ينبغي لشعراء العرب وبلغئها أن يعمد كل منهم إلى الصنف الذي تنفذ قريحته فيه فيعارضه، وأن يجلعوا الأمر في ذلك قسمة بينهم. وفي هذا كفاية لمن عقل.

_ 1 في المطبوعة والمطبوعة:"موضعنا منه"، بغير فاء، سهو. 2 كتب في المخطوطة: "معاني الأقران"، مكان "القرآن"، وهذا عجب! وانظر التعليق السالف ص: 605، تعليق: 3.

وأما قولهم: "إنه قد يكون أن يسبق الشاعر في المعنى إلى ضرب من اللفظ والنظم، يعلم أنه لا يجيء في ذلك المعنى أبدًا إلى ما هو منحط عنه" فإنه ينبغي أن يقال لهم: قد سلمنا أن الأمر كما قلتم وعلمتم، أفعلمتم شاعرًا او غير اشعر عمد إلى ما لا يحصى كثرة من المعاني، فتأتى له في جيمعها لفظ أو نظم أعيا الناس أن يستطيعوا مثله، أو يجدوه لمن تقدمهم؟ أم ذلك شيء يتفق للشاعر، من كل مئة بيت يقولها، في بيت؟ ولعل [غير] الشاعر على قياس ذلك. وإذا كان لابد من الاعتراف بالثاني من الأمرين، وهو أن لا يكون إلا نادرًا وفي القليل، فقد ثبت إعجاز القرآن بنفس ما راموا به دفعه، من حيث كان النظم الذي لا يقدر على مثله قد جاء منه فيما لا يصحى كثرة من المعاني. 35 - وهكذا القول في الفصول التي ذكروا أنه لم يوجد أمثالها في معانيها1، لأنها لا تستمر ولا تكثر، ولكنك تجدها كالفصوص الثمينة والوسائط النفيسة وأفراد الجواهر2، تعد كثيرًا حتى ترى واحدًا. فهذا وشبهة من القول في دفعهم مع تسليم ما ظنوه من أن التحدي كان إلى أن يعبر عن معاني القرآن أنفسها ممكن غير متعذر، إلا أن الأولى أن يلزم الجدد الظاهر3، وأن لا يجابوا إلى ما قالوه من أن التحدي كان إلى أن يؤدي في أنفس معانيه بنظم وافظ

_ 1 في المخطوطة والمطبوعة: "لم يوجب أمثالها"، وهو تصحيف ظاهر. 2 "الوسائط" جمع "واسطة"، و "واسطة القلادة"، هي الجوهرة التي تكون في وسط الكرس المنظوم، و "الكرس"، نظم القلادة. 3 "الجدد"، الطريق المستوى الواضح.

يشابهه ويساويه، ويجزم لهم القول بأنهم تحذوا إلى أن يجيئوا في أي معنى أرادوا مطلقًا غير مقيد، وموسعًا عليهم غير مضيق، بما يشبه نظم القرآن أو يقرب من ذلك. 36 - ومما يحيل أن يكون التحدي قد كان إلى ما ذكروه ومع الشرط الذي توهموه، أن العرب قد كانت تعرف "المعارضة" ما هي وما شرطها، فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم قد عدل بهم في تحديه لهم إلى ما لا يطالب بمثله، لكان ينبغي أن يقولوا: "إنك قد ظلمتنا، وشرطت في معارضة الذي جئت به ما لا يشترط، أو ما ليس بواجب أن يشترك، وهو أن يكون النظم الذي تعارض به في انفس معاني هذا الذي تحديت إلى معارضته، فدع عنا هذا الشرط، ثم اطلب فإنا نريك حينئذ مما قاله الأولون وقلناه وما نقوله في المستأنف، ما يوازي نظم ما جئت به في الشرف والفضل ويضاهيه، ولا يقصر عنه". وفي هذه كفاية لمن كانت له أذن نعي، وقلب يعقل. قد ثم الذي أردت في جواب سؤالهم، وبان بطلانه بيانًا لا يبقى معه إن شاء الله شك لناظر، وإذا هو نصح نفيه وأذكى حسه، ونظر نظر من يريد الدين، ويرجو مما عبد الله، ويريد فيما يقول ويعمل وجه تقدس أسمه~، وإليه تعالى ترغيب في أن يجعلنا ممن هذه صفته في كل ما ننتحيه وننظر فيه، بفضله ومنه ورحمته، إنه على ما يشاء قدير. الحمد لله حق حمده، والصلاة على رسوله محمد وآله من بعده.

الرسالة الشافية في وجوه الإعجاز والقول في الصرفة

بسم الله الرحمن الرحيم الرسالة الشافية في وجوه الإعجاز، والقول في الصرفة: فصل: في الذي يلزم القائلين بالصرفة: 37 - اعلم أن الذي يقع في الظن من حديث القول بالصرفة، أن يكون الذي ابتدأ القول بها ابتدأه على توهم أن التحدي كان إلى أن يعبر عن أنفس معاني القرآن بمثل لفظه ونظمه، دون أن يكون قد أطلق لهم وخيوا في المعاني كلها. ذاك لأن في القول بها على غير هذا الوجه أمورًا شنيعة، يبعد أن يرتكبها العاقل ويدخل فيها. وذاك أنه يلزم عليه أن تكون العرب قد تارجعت حالها في البلاغة والبيان، وفي جودة النظم وشرف اللفظ وأن يكونوا قد نقصوا في قرائحهم وأذهانهم، وعدموا الكثير مما كانوا يستطيعون وأن تكون أشعارهم التي قالوها، والخطب التي قاموا بها، وكل كلام احتفلوا فيه1، من بعد أن أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتحدوا إلى معارضه القرآن2 قاصرة عما سمع منهم من قبل ذلك القصور الشديد، وأن يكون قد ضاق عليهم في الجملة مجال قد كان يتسع لهم، ونضبت عنهم نمواد قد كانت تعزر3. وخذلتهم قوى قد كانوا يصولون بها، وأن تكون أشعار شعار النبي صلى الله عليه وسلم التي قالوها في مدحه عليه السلام وفي الرد على المشركين ناقصة متقاصرة عن شعرهم في الجاهلية، وأن يشك في الذي روي في شأن حسان من نحو

_ 1 في المخطوطة والمطبوعة: "وكل كلام اختلفوا فيه"، وهو لا معنى له. 2 السياق: "وأن تكون أشعارهم التي قالوها. قاصرة عما سمع منهم". 3 غير ما في المخطوطة، وكتب "موارد قد كانت".

قوله عليه السلام1: "قل وروح القدس معك" 2، لأنه لا يكون معانًا مؤيدًا من عند الله، وهو يعدم مما كان يجده قبل كثيرًا، ويتقاصر أنف حاله عن السالف منها تاقصرًا شديدًا3. 38 - فإن قالوا: إنه نقصان حدث في فصاحتهم من غير أن يشعروا به. قيل لهم: فإن كان الأمر كذلك، فلم تقم عليهم حجة، لأنه لا فرق بين أن لا يكونوا قد عدموا شيئا من الفصاحة التي كانوا يعرفونها لأنفسهم قبل التحدي بالقرآن والدعاء إلى معارضته، وبين أن يكونوا قد عدموا ذاك، ثم لم يعلموا أنهم قد عدموه. ذاك لأن الآية بزعمهم إنما كانت في المنع من نظم ولفظ قد كان لهم ممكنًا قبل أن تحدوا، ولا يكون منع حتى يرام الممنوع4، ولا يتصور أن يروم الإنسان الشيء ولا يعلمه، ويقصد في قوله له وفعل إلى أن يجيء به على وصف وهو لا يعرف ذلك الوصف ولا يتصوره بحال من الأحوال. وإذا جعلناهم لا يعلمون أن كلامهم الذي يتكلمون به اليوم قاصر عن الذي تكلموا به أمس، وأن قد امتنع عليهم في النظم شيء كان يواتيهم، وسلبوا منه معنى قد كان لهم حاصلًا5 استحال

_ 1 غير ما في المخطوطة وكتب "الذي روى عن شأن حسان". 2 هو أحد ألفاظ الحديث رواه البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب دواوين السنة: "اللهم أيده بروح القدس". 3 "أنف الشيء"، أوله وابتداؤه. 4 في المخطوطة: "حتى يراهم الممنوع"، وصححه في المطبوعة. 5 السياق: "إذا جعلناهم لا يعلمون ... استحال".

أن يعلموا أن لنظم القرآن فضلًا على كلامهم الذي يسمع منهم، وعلى النظم الواهن الباقي لهم1، ذاك لأن عذر القائل بالصرفة، أن كلامهم قبل أن تحدوا قد كان مثل نظم القرآن، وموازيًا له، وفي مبلغه من الفصاحة. 39 - وإذا كان كذلك، لم يتصور أن يعلموا أن للقرآن مزية على كلامهم، وعندهم أن كلامهم باق على ما كان عليه في القديم لم ينقص ولم يدخله خلل. وإذا لم يتصور أن يعلموا أن للقرآن مزية على ما يقولونه ويقدرون عليه في الوقت2، لم يتصور أن يحاولوا تلك المزية، وإذا لم يحاولوها لم يحسوا بالمنع منها والعجز عن نيلها، وإذا لم يحسوا بالعجز والمنع لم تقم عليهم حجة به. فالذي يعقل إذن مع هذه الحال، أن يعتقدوا أنهم قد عارضوا القرآن وتكلموا بما يوازيه ويجري مجرى المثل له، من حيث أنه إذا كان عندهم أن كلامهم باق على ما كان عليه في الأصل وقبل نزول القرآن، وكان كلامهم إذا ذاك في حد المثل والمساوى للقرآن، فواجب مع هذا الاعتقاد أن يعتقدوا أن في جملة ما يقولونه في الوقت ويقدرون عليه، ما يشبه القرآن ويوازيه. 40 - واعلم أنه يلزمهم أن يفضوا في النبي صلى الله عليه وسلم بما قضوا في العرب، من

_ 1 في المخطوطة والمطبوعة: "وعلى النظم الزاهر الباقي لهم"، وهو غير مستقيم، و "الواهن"، الذي أصابه الوهن، وهو الضعف. 2 غيره في المطبوعة، فكتب: "في الرتب" وهو فساد، وقوله: "في الوقت"، يعني: الآن وسيأتي مثله بعد أسطر على الصواب.

دخول النقص على فصاحتهم، وتراجع الحال بهم في البيان، وأن تكون النبوة قد أوجبت أن يمنع شطرًا من بيانه، وكثيرا مما عرف له قبلها من شرف اللفظ وحسن النظم. وذلك لأنهم ذا لم يقولوا ذلك، حصل منه أنيكون عليه السلام قد تلا عليهم: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] 1، في حال هو يستطيع يها أن يجيء بمثل القرآن ويقدر عليه، ويتكلم ببعض ما يوازيه في شرف اللفظ وعلو النظم. اللهم إلا أن يقتحموا جهالة أخرى، فيزعموا أنه عليه السلام قد كان من الأصل دونهم في الفصاحة، وأن الفضل والمزية التي بها كان كلامهم قبل نزول القرآن في مثل لظفه ونظمه، قد كان لبلغاء العرب دون النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا قالوا ذلك، كانوا قد خرجوا من قبيح القول إلى مثله، فلم يشك أحد أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن منقوصًا في الفصاحة، بل الذي أتت به الأخبار أنه صلى الله عليه وسلم كان أفصحَ العرب. 41 - ومما يلزمهم على أصل المقالة أنه كان ينبغي لهم2 لو أن العرب كانت منعت منزلة من الفصاحة قد كانوا عليها أن يعرفوا ذلك من أنفسهم، كما قدمت، ولو عرفوا لكان يكون قد جاء عنهم ذكر ذلك، ولكانوا قد قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: "إنا كنا نستطيع قبل هذا الذي جئتنا به، ولكنك قد سحرتنا، واحتلت

_ 1 السياق: أن عليه السلام قد تلا عليهم ... في حال هو يستطيع". 2 في المخطوطة: "أنه كان ينبغي له أن العرب كانت منعت"، وصححها الناشران: "أنه كان ينبغي، إن كانت العرب منعت، والذي أثبته هو الصواب إن شاء الله. والسياق: "أنه كان ينبغي لهم أن يعرفوا ذلك".

في شيء حال بيننا وبينه"، فقد نسبوه إلى السحر في كثير من الأمور، كما لا يخفى، وكان أقل ما يجب في ذلك أن يتذاكروه فيما بينهم، ويشكوه البعض إلى البعض، ويقولوا: "ما لنا قد نقصنا في قرائحنا، وقد حث كلول في أذهاننا" ففي أن لم يرو ولم يذكر أنه كان منهم قول في هذا المعنى، لا ما قل ولا ما كثر، دليل [على] أنه قول فاسد1، ورأى ليس من آراء ذوى التحصيل. 42 - هذا، وفي سياق آية التحدي ما يدل على فساد هذا القول، وذلك أنه لا يقال عن الشيء منعه الإنسان بعد القدرة عليه، وبعد أن كان يكثر مثله منه: "إني قد جئتكم بما لا تقدرون على مثله ولو احتشدتم له، ودعونهم الإنسان والجن إلى نصرتكم فيه"، وإنما يقال: "إني أعطيت أن أحول بينكم وبين كلام كنتم تستطيعون وأمنعكم إياه، وأن أقحمكم عن القول البليغ، وأعدمكم اللفظ الشريف"، ومما شاكل هذا. ونظيره أن يقال للأشداء وذوي الأيد: "إن الآية أن تعجزوا عن رفع ما كان يسهل عليكم رفعه، وما كان لا يتكاءدكم ولا يثقل عليكم"2. ثم إنه ليس في العرف ولا في المعقول أن يقال: "لو تعاضدتم واجتمعتم جميعكم لم تقدروا عليه"3، ي شيء قد كان الواحد منهم يقدر على مثله،

_ 1 في المخطوطة والمطبوعة: "فبقى أن لم يرو"، والصواب ما أثبت. وسياق الكلام: ففي أن لم يرو. دليل على أنه قول فاسد". 2 كان في المخطوطة: "ولا يثقل عليكم عراته ليس في العرف"، وهو في المطبوعة أتوابه على الصواب. 3 في المخطوطة والمطبوعة: "واجتمعتم وجمعتم"، وهو خطأ ظاهر. والسياق: "أن يقال لو تعاضدتم ... ، في شيء قد كان ... ".

ويسهل عليه ويستقل به، ثم يمنعون منه وإنما يقال ذلك حيث يراد أن يقال: "إنكم لم تستطيعوا مثله قط، ولا تستطيعونه البتة وعلى وجه من الوجوه، حتى إنكم لو استضفتم إلى قواكم وقدركم التي لكم قوى وقدرًا، وقد استمددتم من غيركم، لم تستطيعوه أيضًا" من حيث إنه لا معنى للمعاضدة والمظافرة والمعاونة1، إلا أن تضم قدرتك إلى قدرة صاحبك حتى يحصل باجتماع قدرتكما ما لم يكن يحصل. فقد بان إذن أن لا مساغ لحمل الآية على ما ذهبوا إليه، وأن لا محتمل فيها لذلك على وجه من الوجوه، وظهر به وسائر ما تقدم أن القول بالصرفة، ولا سيما على هذا الوجه، قول في غاية البعد والتهافت، وانه من جنس ما لا يعذرا لعاقل في اعتقاده. ولم أقل: "ولا سيما على هذا الوجه"2، وانا أعني أن للقول بها على الوجه الأول مساغًا في الصحة، ولكني أردت أن فساده كأنه أظهر، والشناعة عليه أكثر، وإلا فما هما، إن أردت البلاطن، إلا سواء. 43 - فإن قلت: فكيف الكلام عليهم، إذا ذهبوا في "الصرفة" إلى الوجه الآخر، فزعموا أن التحدي كان أن يأتوا في أنفس معاني القرآن بمثل نظمه ولفظه؟ وما الذي دل على فساده؟

_ 1 غيروا عمدًا ما في المخطوطة وكتبوا: "والمظاهرة"، بلا سبب معقول، و "التظافر، والتضافر، والتظاهر" بمعنى واحد، وهو التعاون والتألب على الأمر. 2 في المخطوطة: "ولم أقبل ولا سيما على هذا الوجه، وأنا أعني أن القول"، وصواب قراءته ما أثبت. وهذا استدراك منه على قوله قبل سطرين: "ولا سيما على هذا الوجه"، وغيروا في المطبوعة الكلام، فكتبوا مكان "مساغًا": "مساغ"، ومكان "كأنه أظهر": "كان أظهر"، ولم يشيروا إلى هذا التغيير المفسد للكلام.

فإن1 على فساد ذلك أدلة منها قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَات} [هود: 13]، وذاك أنا نعلم أن المعنى2: فأتوا بعشر سور تفترونها أنتم وإذا كان المعنى على ذلك، فبنا أن ننظر في الافتراء إذا وصف المعنى، وإذا لم يرجع إلا إلى المعنى وجب أن يكون المراد3: إن كنتم تزعمون أني قد وضعت القرآن وافتريته، وجئت به من عند نفسي، ثم زعمت أنه وحي من الله، فعضوا أنتم أيضًا عشر سور وافتروا معانيها كما زعمتم أني افتريت معاني القرآن. فإذا كان المراد كذلك، كان تقديرهم أن التحدي كان أن يعمدوا إلى أنفس معاين القرآن فيعبروا عنها بلفظ ونظم يشبه نظمه ولفظه4، خروجًا عن نص التنزيل وتحريفًا له. وذاك أن حق اللفظ إذا كان المعنى ما قالوه أن يقال: "إن زعمتم أني افتريته، فأتوا أنتم في معاني هذا المفتري بمثل ما ترون من اللفظ والنظم". يبين ذلك أنه لو قال رجل شعرًا فأحسن في لظفه ونظمه وأبلغ، وكان له خصم يعانده، فعلم الخصم أنه لا يجد عليه مغمزًا في النظم واللفظ، فترك ذلك جانبًا وتشاغل عنه، وجعل يقول: "إني رأيتك سرقت معاني شعرك وانتحلتها وأخذتها من هذا وذاك، فقال له الرجل في جواب هذا الكلام: "إن كنت قد سرقت معاني

_ 1 هذا جواب السؤال. 2 في المخطوطة والمطبوعة: "وذاك أنا لا نعلم"، وهو خطأ ظاهر. 3 في المطبوعة: "وإذا لم يرجع إلا إلى المعنى، كان المراد، لا أدري لم غيروا ما في المخطوطة دون دلالة على التغييرز. 4 في المطبوعة: "فيغيروا عنها بلفظ"، تصحيف.

شعري، فقل أنت شعرًا مثله مسروق المعاني" لم يعقل منه إلا أنه يقول: "فقل أنت شعرًا في معانٍ أخر تسرقها كما سرقت معاني بزعمك" ولم يحتمل أن يريد: "أعمد إلى معاني فقل فيها شعرًا مثل شعري", وإنما يعقل ذلك إذا هو قال: "إن كنت قد سرقت معاني شعري، فقل أنت في هذه المعاني المسروقة مثل الذي قلت، وأنظم فيه الكلام مثل نظمي لكلامي، وخبره تحبيري". 44 - هذه جملة لا تخفي على من عرف مخارج الكلام، وعلم حق المعنى من اللفظ، وما يحتمل مما لا يحتمل. ومنها ما تقدم1، من أنه لا يقال في الشيء قد كان يكثر مثله من الإنسان ثم منع منه: "ايت بمثله، وأجهد جهدك، واستعن عليه، فإنك لا تستطيع ولو أعانك الجن والإنس"2، وإنما يقال ذلك في البديع المتبدأ، أو الذي لم يسبق إليه، ولم يوجد مثله قط. وهذا المعنى وإن كان يلزمهم في الوجهين، فإنه لهم في هذا الوجه الذي نحن فيه ألزم، وذاك أن قولك للرجل يقدر على مثل الشيء اليوم في كثير من الأحوال والأمور3، ويعوقه عنه عائق في حال واحدة وأمر واحد: "لو اجتمع الإنسن والجن فأعانوك لم تقدر على مثله"4 أبعد وأقبح من قولك ذلك. وقد كان يقدر عليه في سالف الأزمان، ثم منعه جملة، وجعل لايستطيعه البتة.

_ 1 انظر رقم: 42. 2 في المخطوطة والمطبوعة: "استعن عليك"، وهو لا شيء. 3 في المخطوطة: "وذاك أنك قولك للرجل"، وصححه في المطبوعة. 4 السياق: "أن قولك للرجل يقدر, ... أبعد وأقبح".

1 ومنها الأخبار التي جاءت عن العرب في تعظيم شأن القرآن وفي وصفه بما وصفوه به من نحو: "إن عليه لطلاوة، وإن له لحلاوة، وإن أسفله لمعذق، وإن أعلاه لمثمر"2، وذاك أن محالًا أن يعظموه، وأن يبهتوا عند سماعه، ويستكينوا له، وهم يرون فيما قالوه وقاله الأولون ما يوازيه، ويعلمون أنه لم يتعذر علثيهم لأنهم لا يستطيعون مثله، ولكن وجدوا في أنفسهم شبه الآفة والعارض يعرض للإنسان فيمنعه بعض ما كان سهلًا عليه بل الواجب في مثل هذه الحال أن يقولوا: "إن كنا لا يتهيأ لنا أن تقول في معاني ما جئت به ما يشبه، إنا لتأتيك في غيره من المعاني ما شئت وكيف شئت، بما لا يقصر عنه ولا يكون دونه". 45 - وجملة الأمر أن علم النبوة عندئذ والبرهان، إنما كان [يكون] في الصرف والمنع عن الإتيان بمثل نظم القرآن لا في نفس النظم3. وإذا كان كذلك، فينبغي إذا تعجب المتعجب وأكبر المكبر، أن يقصد بتعجبه وإكباره إلى المنع الذي فيه الآية والبرهان، لا إلى الممنوع منه. وهذا واضح لا يشكل.

_ 1 ههنا سقط من الناسخ كلام لا شك في سقوطه، فالخلل في الكلام ظاهر جدًا، وقد لا يتجاوز السقط مقدار سطر أو سطرين. 2 سلف هذا في رقم: 10، مع اختلاف يسير، وكان هنا في المخطوطة والمطبوعة: "وإن عليه لحلاوة"، وهي تصحيف وسهو. 3 كان في المخطوطة والمطبوعة: "وجملة الأمر أن علم النبوة عندهم والبرهان، إنما كان في الصرف والمنع"، وهو كلام ظاره الاختلال، صوابه إن شاء الله ما كتبت.

46 - فإن قالوا: إنه ليكون أن يستحسن الشاعر الشعر يقوله غيره ويكبر شأنه، ويرى فيه فضلًا ومزية على ما قاله هو من قبل، ثم هو لا ييأس من أن يقدر على مثله إذا هو جهد نفسه وتعمل له. فنحن نجعل لفظ القرآن ونظمه على هذا السبيل، وتقول: إنهم سمعوا منه ما بهرهم وعم في نفوسهم، وأنهم [كانوا على حال أنسوا من أنفسهم بأنهم يأتون بمثله إذا هم اجتهدوا1، فحيل بينهم وبين ذلك الاجتهاد، وأخذوا عن طريقه، ومنعوا فضل المنة التي طمعوا معها في أن يجروا إلى تلك الغاية ويبلغوا ذاك الذي أرادوا2 وإذا كنا نعلم أن الشعر المفلق ربما اعتاص القول عليه حتى عييا بقافية، وحتى تنسد عليه المذاهب، وأن الخطيب المصقع يرتج عليه حتى لا يجد مقالًا، وحتى لا يفيض بكلمة، لم يكن الذي قلناه وقدرناه بعيدًا أن يكون، وأن يسعة الجواز ويحتمله الإمكان. قيل لهم: أنتم الآن كأنكم أردتم أن تسحنوا امركم3، وأن تغطوا على بعض العوار، وأن تتملصلوا من الذي تلزمون4، وليس لكم في ذلك كبير جدوى إذا حقق الأمر، وإنما هو خداع وضرب من التزيق. وأول ما يدل على بطلان ما قلتم، وأن الذي عرفنا من حال الناس فيما سبيله ما ذكرتم، الضجر والشكوى، وأن يقولوا: "ما بالنا؟ 5 ومن أين دهينا؟ وكيف

_ 1 في المخطوطة والمطبوعة: ولكنهم على حال أنسوا ... " وهو غير مستقيم، والذي أثبت هو حق الكلام. 2 في المخطوطة: "طمعوا أن يجيروا إلى تلك الغاية، ويبلغوا ذلك المدى أرادوا" وصواب قراءته ما أثبت، وجعلها في المطبوعة: "ويبلغوا ذلك المدى [الذي] أرادوا"، ولا حاجة إلى هذا. 3 غير ما في المخطوطة وكتب مكان "أنتم": "إنكم" بلا فائدة. 4 في المطبوعة: وأن تتملسوا، لم يحسن قراءة المخطوطة. 5 في المخطوطة والمطبوعة: "ما لنا"، والأجود ما أثبت، سها الناسخ.

الصورة؟ إنا وإن كنا نسمع قولًا له فضل ومزية على ما قلناه، فإنه ليس بالذي ينبغي أن نعجز عنه هكذا حتى لا نستطيع في معارضته ما نرضى1، فلا ندري أسحرنا أماذا كان؟ " ففي أن لم يرو عنهم شيء من هذا الجنس على وجه من الوجوه، دليل أن لا أصل لما توهموه، وأنه تلفيق باطل. ثم إنه ليس في العادة أن يدعن الرجل لخصمه، ويستكين له، ويلقى بيده، ويسكت على تقريعه له بالعجز وترديده لاقول في ذلك، وقدر ما ظهر من المزية قدر قد يطمع الإنسان في مثله2، ويرى أنه يناله إذا هو اجتهد وتعمد3 بل العادة في مثل هذا أن يدفع العجز عن نفسه، وأن يجحد الذي عرف لصاحبه من المزية ويتشدد، كما فعل حسان4، فيدعي في مساواته، وأنه إن كان جرى إلى غاية رأي لنفسه بها تقدما إنه ليجري إلى مثلها، وأن يقول: "لا تغل ولا تفرط ولا تشتط في دعواك، فلئن كنت قد نلت بعض السبق، إنك لم تبعد المدى بعد من لا يداني ولا يشك غباره، فرويدًا، وأكفف من غلوائك". 47 - واعلم أنهم يتمحلهم هذا قد وقعوا في امر يوهي قاعدتهم، ويقدح في أصل مقالتهم، فقد نظروا لأنفسهم من وجه وتركوا النظر لها من آخر. وذاك أن من حق المنع إذا جعل آية وبرهانًا، ولا سيما للنبوة، أن يكون في اظهر الأمور،

_ 1 كتب في المطبوعة: "إنه ليس بالذي ينبغي"، حذف الفاء من "فإنه"، كأنه ظنها خطأ. 2 في المخطوطة والمطبوعة: "وقدر اأظهر من المزنة ... "، وهو خطأ ظاهر. 3 السياق: "ثم إنه ليس في العادة ... بل العادة". 4 لم أقف عبد على أمر حسان.

وأكثرها وجودًا، وأسهلها على الناس، وأخلقها بأن تبين لكل راء وسامع أنه قد كان منع، لا أن يكون المنع من خفي لا يعرف إلا بالنظر، وإلا بعد الفكر، ومن شيء لم يوجد قط ولم يعهد، وإنما يظن ظنًال أنه يجوز أن يكون، وأن له مدخلًا ي الإمكان إذا آجتهد المجتهد، وهل سمع قط أن نبيًا أتى قومه فقال: "حجتي عليكم، والآية في أني نبي إليكم، أن تمنعوا من أمر لم يكن منكم قط، وليس يظهر في بادئ الرأي وظاهر الأمر أنكم تستطيعونه، ولكنه موهوم جوازه منكم، إذا أنتم كددتم أنفسكم، وجمعتم ما لكم، واستفرغتم مجهودكم، وعاودتم الاجتهاد فيه مرة بعد أخرى"؟ أم ذلك ما لا يقوله عاقل، ولا يقدم عليه إلا مجازف لا يدري ما يقول؟ وإذا كان كذلك، وكان الذي قالوه من أن المنع كان من نظم لم يوجد منهم قط، إلا أنهم أحسوا في أنفسهم انهم يستطيعونه إذا هم اجتهدوا واستفرغوا الوسع،1 بهذه المنزلة، وداخلًا في هذه القضية2 فقد بان أنهم بذلك قد أوهوا قاعدتهم، وقدحوا في أصل المقالة، من حيث جعلوا الآية والبرهان وعلم الرسالة والأمر المعجز للخلق، في المنع من شيء لم يوجد قط، ولم يعلم أنه كان في حال من الأحوال، وليس بأكثر من أن ظن ظنًا أنه مما يحتمله الجواز ويدخل في الإمكان، إذا أدمن الطلب، وكثر فيه التعب، واستنزفت قوى الاجتهاد، وأرسلت له الأفكار في كل طريق، وحشدت إليه الخواطر في كل جهة. وكفى بهذا ضعف راي وقلة تحصيل.

_ 1 السياق: " ... وكان الذي قالوه من أن المنع كان من نظم ... بهذه المنزلة". 2 السياق: "وإذا كان الذي قالوه ... فقد بان".

فصل: 48 - وهذا فصل أختم به: ينبغي أن يقال: ما هذا الذي أخذتم به أنفسكم؟ وما هذا التأويل منكم في عجز العرب عن معارضة القرآن؟ وما دعاكم إليه؟ وما أردتم منه؟ أأن يكون لكم قول يحكي، وتكونوا أمة على حدة، أم قد أتاكم في هذا الباب علم لم يأت الناس؟ فإن قالوا: أتانا فيه علم. قيل: أفمن نظر ذلك العلم أم خبر؟ فإن قالوا: من نظر. قيل لهم: فكأنكم تعنون أنكم نظرتم في نظم القرآن ونظم كلام العرب ووازنتم فوجدتموه لا يزيد إلا بالقدر الذي لو خلوا والاجتهاد وإعمال الفكر، ولم تفرق عنهم خواطرهم عند القصد إليه، والمصد له لأتوا بمثله؟ فإن قالوا: كذلك نقول. قيل لهم: فأنتم تدعون الآن أن نظركم في الصاحة نظر لا يغيب عنه شيء من أمرها، وأنكم قد أحطتم علمًا بأسرارها، وأصبحتم ولكم فيها فهم وعلم لم يكن للناس قبلكم. وإن قالوا: عرفنا ذلك بخبر. قيل: فهاتوا عرفونا ذلك، وأني لهم تعريف مالم يكن، وتثبيت ما لم يوجد!

ولو كان الناس إذا عن لهم القول نظروا في موداه، وتبينوا عاقبته، وتذكروا وصية الحكماء حين نهوا عن الورود حتى يعرف الصدر، وحذروا أن تجيء أعجاز الأمور بغير ما أوهمت الصدور إذا لكفوا البلاء، ولعدم هذا وأشباهه من فاسد الآراء، ولكن يأتي الذي في طباع الإنسان من التسرع، ثم من حسن الظن بنفسه، والشغف بأن يكون متبوعًا في رأيه، إلا أن يخدعه وينسبه أنه موصى بذلك، ومدعو إليه، ومحذر من سوء المغبة إذا هو تركه وقصر فيه. وهي الآفة لا يسلم منها ومن جنايتها إلا من عصم الله1. وإليه عز اسمه الرغبة في أن يوفق للتي هي أهدى، ويعصم من كل ما يوتع الدين2، ويثلم اليقين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

_ 1 في المخطوطة والمطبوعة: "وهم الآفة"، وهو سهور ظاهر من الكاتب. 2 من "الونغ"، وهو الهلاك، و "أوتغه يوتغه"، أفسده وأهلكه.

بسم الله الرحمن الرحيم 49 - قول من قال: "إنه يجوز أن يقدر الواحد من الناس من بعد انقضاء زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ومضى وقت التحدي، على أن يأتي بما يشبه القرآن ويكون مثله، لأن ذلك لا يخرج عن أن يكون قد كان معجزًا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم1، وحين تحدى العرب إليه"2 قول لا يصح إلا لمن لا يجعل القرآن معجزًا في نفسه3، ويذهب فيه إلى "الصرفة". فأما الذي عليه العلماء من أنه معجز في نفسه، وأنه في نظمه وتأليفه على وصف لا يهتدي الخلق إلى الإتيان بكلام هو في نظمه وتأليفه على ذلك الوصف، فلا يصح البتة ذاك لا فرق بين أن يكون الفعل معجزًا في جنسه كإحياء الموتى، وبين أن يكون معجزًا لوقوعه على وصف، وإذا كان كذلك، فكما أنه محال أنه يكون ههنا إحياء ميت لا من فعل الله، كذلك محال أن يكون ههنا نظم مثل نظم القرآن لا من فعله تعالى. فهذا هو. ثم إنه قول إذ نقر عنه انكشف عن أمر منكر، وهو إخراج أن يكون وحيًا من الله، وأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد تلقاه عن جبريل عليه السلام والذهاب إلى أنت يكون قد كان على سبيل الإلهام، وكالشيء يلقى في نفس الإنسان ويهدى له من طريق الخاطر والهاجس الذي يهجس في القلب. وذلك مما يستعاذ بالله منه، فإنه تطرق للإحاد، والله ولي العصمة والتوفيق.

_ 1 في المخطوطة والمطبوعة: "إلا أن ذلك لا يخرج"، وهو خطأ من الناسخ لا شك فيه. 2 السياق: "قوله من قال .... قول لا يصح". 3 في المطبوعة: "إلا لمن يجعل القرآن"، سقطت "لا".

بسم الله الرحمن الرحيم فصل: 50 - 1 اعلم أن البلاء والداء العياء، أن ليس علم الفصاحة وتمييز بعض الكلام من بعض بالذي تستطيع أن تفهمه من شئت ومتى شئت، وأن لست تملك من أمرِكَ شيئاً حتى تظفرَ بمَنْ له طبعٌ إذا قدحْتَه وَرَى2، وقلبٌ إذا أرْيتَهُ رأى فأمَّا وصاحبُك مَنْ لا يرى ما تريه، ولا يهتدي للذي تهديه، فأنت معه كالنافخ في الحم من غير نار، وكالملتمس الشم من أخشم3, وكما لا تُقيم الشعرَ في نفسِ مَن لا ذوق له، كذلك لا يفهم هذا الباب مَنْ لم يؤْتَ الآلة التي بها يَفْهم إلاَّ أنه إنما يكونُ البلاءُ إذا ظنَّ العادم لها أنه قد أويتها، وأنه ممَّنْ يكملُ للحكْم ويصحُّ منه القضاءُ، فجعل يخبط ويخلط، ويقول القول لو علم غبه لاستحي منه4. وأما الذي يحس بالنقص في نفسه5، ويعلم أنه قد عدم علماً قد أُوتيَهُ مِنْ سِواه، فأنتَ منه في راحة، وهو رجلٌ عاقلٌ قد حماهُ عقلُه أنْ يعدُوَ طورَهُ6، وأن يتكلَّف ما ليس بأهل له.

_ 1 هذه الفقرة كلها مضت في دلائل الإعجاز في الفقرة: 643، مع اختلاف يسير. 2 في المخطوطة والمطبوعة: "بأن لست تملك ... إذا قدحته فيرى"، وقد سها الناسخ وأخطأ، والصواب ما أثبت. و "ورى الزند يرى وريًا"، إذا اتقد عند القدح. 3 "الأخشم"، الذي سقطت خياشيمه، فهو لا يجد ريح طيب ولا نتن. 4 قرأها "عيه"، بالياء في المطبوعة! و "الغب" العاقبة. 5 كتبها في المطبوعة: "الذي يحسن تأليفه في نفسه"!! كلام غريب، ولم يحسن قراءة المخطوطة. 6 أسقط في المطوعة: "قد" من "قد حماه".

وإِذا كانَتِ العلومُ التي لها أصولُ معروفةٌ، وقوانينُ مضبوطةٌ، قد اشتركَ الناسُ في العِلْم بها، واتفقوا على أن البناء عليها والرد إليها، إذا أخطأ فيها المخطئ ثم أعجب برأيه لم تستطيع رَدُّه عن هواه، وصَرْفُه عن الرأي الذي رأى، إلاَّ بَعْدَ الجهْدِ، وإلاَّ بعد أن يكونَ حَصيفاً عاقِلاً ثَبْتاً، إذا نُبِّهَ انْتَبَهَ، وإِذا قيلَ: "إنَّ عليكَ بقيةً مِنَ النَّظَرِ"، وقفَ وأصْغى، وخَشِيَ أن يكونَ قد غُرَّ، فاحتاطَ باستماعِ ما يُقال له، وأنِفَ من أن يلجَّ من غير بيِّنة، ويستطيلَ بغير حُجَّة. وكان من هذا وصفه بعز ويقِلُّ: فكيف بأنْ تَرُدَّ الناسَ عن رأيهم في أمر الفصاحة، وأصلك الذي تردهم إليه، وتعول ي محاجَّتهم عليه، استشهادُ القرائحِ1، وسَبْرُ النفوسِ وفلْيُها وما يعرِضُ فيها من الأريحية عندما تسمع2 وهم لا يَضعُون أنفُسَهم موضِعَ منَ يرى الرأي ويفي ويَقْضي، إلاَّ وعندَهم أنهم ممَّن صفتْ قريحَتُه، وصحَّ ذوقُه، وتمَّتْ أداتُه. فإِذا قلتَ لهم: "إنكم أتيتم من أنفسكم، ومن أنكم لا تفطنون"، ردوا مثله عليك، وعابوك، ووقعوا فيك، وقالوا: "لا، بل قرائِحُنا أصحُّ، ونظرُنا أصْدَقُ، وحسنا أذكى، وإنما الآفة فيكم، فإنكم جئتم فخيلتم إلى أنفسكم أُموراً لا حاصِل لها، وأوهَمَكُم الهوى والميلُ أن توجبوا لأحد النظمين المتساويين فضلًا عن الآخر، من غير ان يكون له ذلك الفضل"، فتبقى في أيدهم حسيرًا لا تملك غير التعجب3.

_ 1 في المطبوعة، لم يحسن القراءة، فكتب: "استشهاد القرآن"!!. 2 في المطبوعة، لم يحسن القراءة، فكتب: "وما يعرض فيها من الأدعية"، وهذا أغرب وأعجب. 3 وأيضًا في المطبوعة: "فبقى في أيديهم حيث لا يملك غير التعجب"، لم يحسن القراءة، وهذه أشد غرابة وأشنع.

فليس الكلام إذن بمعن عنك، ولا القولُ بنافعٍ، ولا الحُجَّةُ مسموعةً، حتى تجد من فيه عون لك، ومن إذا أبي عليكَ أبى ذَاك طبعُه فردَّه إليكَ، وفتَحَ سمعه لك، ورفع الحجاب بينه وبينك، وأخذَ به إلى حيثُ أنتَ، وصرَفَ ناظِرَه إلى الجهة التي إليها أوْمأتَ، فاستبدَلَ بالنِّفار أنسًا، وأراك من بعد الإباء قبولًا، وبالله التوفيق.

الفهارس

الفهارس فهرس آيات القرآن العظيم: سورة الفاتحة 2 - 7 السورة كلها، و "الصراط": 109، 452، 453 سورة البقرة 1، 2 "الم ذلك الكتاب لا ريب فيه": 227 6، 7 "إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم": 109، 228 8، 9 "ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله": 228 11، 12 "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا في الأَرْضِ قالوا إنما نحن مصلحون إلا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون": 232، 358 13 "وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون": 232، 233 14 "وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن": 228، 231، 232، 234 15 "الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون": 231، 232، 232، 234 15 "الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون": 231، 232، 233، 234، 235 16 "فما ربحت تجارتهم": 293 - 295، 296، 396، 427، 429، 521 23 "بسورة من مثله": 385 31 "وَعَلَّمَ آدم الأسمآء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الملائكة فَقَالَ أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين": 541 71 "فذبحوها وما كادوا يفعلون": 275، 276 93 "وأشربوا في قلوبهم العجل": 397، 427، 521

96 "ولتجدنهم أحرص الناس على حياة": 288 173 "إنما حرم عليكم الميتة والدم": 328 179 "ولكم في القصاص حياة": 261، 289، 428، 547 سورة آل عمران 36 "قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى والله أَعْلَمُ بما وضعت": 327 54 "ومكروا ومكر الله": 231، 62 "وما من إله إلا الله": 329 75، 78 "ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون": 133 سورة النساء 100 "ومن يخرج من بيته مهاجر إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وقع أجره على الله": 246 112 "وَمَن يَكْسِبْ خطيئة أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احتمل بهتانًا وإثمًا عظيمًا": 246 124 - "يخادعون الله وهو خادعهم": 231، 232 171 "ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرًا لكم": 179، 383، 384 "يأهل الكتاب لا تغلو في دينكم غير الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله ولكمته أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بالله ورسوله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خير لكم": 383، 384 "إنما الله إله واحد": 382 سورة المائدة 61 - "وإذا جاءؤكم قالوا آمنا وقد دخلوا باكلفر وهم قد خرجوا به": 131، 134 73 "الصابئون": 31 73 "لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثلاثة": 383 117 "مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أن أعبدوا الله ربي وربكم": 337

8 "قالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكاً لقضى الأمر": 233 14 "قل أغير الله أتخذ وليًا": 121 35 "ولو شاء الله لجمعهم على الهدى": 164 36 "إنما يستجيب الذين يسمعون": 330 39 "مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صراط مستقيم": 166 40 "قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله وأتتكم الساعة أغير الله تدعون": 121 54 "أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب": 317 56 "قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ من دون الله": 324 77 "رأى القمر": 109 100 "وجعلوا لله شركاء الجن": 286 143 "قل الذكرين حرم أم الأنثيين أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين: 115 سورة الأعراف 33 "قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ منها وما بطن": 328 104 "وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين": 324 123 "آمنتم به قبل أن آذن لكم": 324 125 "قالوا إنا إلى ربنا منقلبون": 324 186 "ويذرهم في طغيانهم يعمهون": 205 188 "قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَآءَ الله وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير وَمَا مسني السوء إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ": 334 196 "إِنَّ وَلِيِّيَ الله الذي نَزَّلَ الكتاب وَهُوَ يتولى الصالحين": 137 سورة الأنفال 31 "لو نشاء لقلنا مثل هذا": 165 55 "إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ فهم لا يؤمنون": 138 57 "فشرد بهم من خلفهم": 521 58 "وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سواء": 521

30 "وقالت اليهود عزير ابن الله": 375، 384 63 "أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نار جهنم": 317 93 "إنما السبيل على الذين يستأذنونك": 345 103 "خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم": 317 سورة يونس 59 "قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رزق فجعلتم منه حلالًا وحرامًا" = "قل الله أذن لكم": 115 67 "هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مبصرًا": 463 99 "أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين": 23 سورة هود 13 "أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات": 385، 606، 617 28 "أنلزمكموها وأنتم لها كارهون": 118، 119 37 "وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ": 317 44 "وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوى على الجودي وقيل بعدًا للقوم الظالمين": 45 سورة يوسف 9 "إنه مَنْ يَتَّقِ ويَصْبِرُ فإنَّ الله لا يُضيع أجر المحسنين": 317 31 "ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم": 229، 433 53 "وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رحيم": 317 80 "فلما استيأسوا منه خلصوا نجيًا": 397، 521 82 "واسأل القرية": 301 سورة الرعد 19 "إنما يتذكر أولوا الألباب": 353، 354

40 "فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب": 345 سورة إبراهيم 10، 11 "إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا" "قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مثلكم"، الآيتان: 122، 333 سورة الحجر 57، 58 "قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين": 241 89 "وقل إني أنا النذير المبين": 324 94 "فاصدع بما تؤمر": 397، 521 سورة النحل 9 "ولو شاء لهداكم أجمعين": 164 69 "يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شفاء للناس": 290 90 "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإتياء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرونِ": 585 115 "إنما حرم عليكم الميتة": 328 سورة الإسراء 7 "إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم": 534 40 "أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بالبنين واتخذ مِنَ الملائكة إِنَاثاً إنكم لتقولون قولًا عظيمًا": 114 88 "قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يأتوا بمثل هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لبعض ظهيرًا" 369، 385، 588، 614 105 "وبالحق أنزلناه وبالحق نزل": 170، 557 110 "قُلِ ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيَّاً ما تدعو فله الأسماء الحسنى": 375 سورة الكهف 13 "نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بالحق إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمنوا بربهم": 324

18 "وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد": 175 30 "إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نضيع أجر من أحسن عملًا": 323 83، 84 "ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض": 324 110 "قل إنما أنا بشر مثلكم": 333 سورة مريم 4 "واشتعل الرأس شيبًا": 100، 393، 402، 407، 427، 521 24 "جعل ربك تحتك سريا": 397 سورة الأنبياء 62، 63 "أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم = "بل فعله كبيرهم هذا": 113 100، 101 "لهمْ فيها زَفِيرٌ وهم فيها لا يسمعون إن الذين سبقت لهم من الحسنى أولئك عنها مبعدون": 322 سورة الحج 1 "يا أيُّها النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عظيم": 316، 323 17 "إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس والذيبن أشركوا إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة": 322 46 "فإنها لا تعمى الأبصار": 132، .... سورة المؤمنون 24 "إن هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لنزل ملائكة": 122 27 "وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ": 317 59 "والذين هم بربهم لا يشركون": 138 117 "إنه لا يفلح الكافرون": 133، 317

سورة النور 40 "ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لم يكد يراها": 275 سورة الفرقان 3 "واتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وهم يخلقون": 131، 134 5 "وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بكرة وأصيلًا": 137 سورة الشعراء 16 "فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فقولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين": 324 23 - 31 "قال فرعون وما رب العالمين"، الآيات: 240، 241 117 "قال رب إن قومي كذبون": 327 130 "وإذا بطشتم بطشتم جبارين": 534 216 "فإن عصوك فقل إني برئ مما تعملون": 324 227 "إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَذَكَرُواْ الله كثيرًا": 28 سورة النمل 17 "وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس فهم يوزعون": 137 سورة القصص 23، 24 "وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً من الناس يسقون"، الآيتان: 161 44، 45 "وما كنت بجانب الغربي إذا قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين، ولكن أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ العمر وَمَا كُنتَ ثَاوِياً في أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ولكنا كنا مرسلين": 247 66 "فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنبآء يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ": 138 سورة لقمان 7 ""وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً كأن لم يمسعها كأن في أذنيه وقرًا": 228

17 "يا بني أَقِمِ الصلاة وَأْمُرْ بالمعروف وانه عَنِ المنكر واصبر على مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عزم الأمور: "316، 317 سورة فاطر" 3 "هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السماء والأرض": 177 14 "ولا ينبئك مثل خبير": 521 18 "إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب": 354، 355 22، 23 "وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القبور إِنْ أنت إلا نذير: 334 28 "إنما يخشى الله من عباده العلماء": 338، 339 سورة يس 7 "لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يؤمنون": 138 11 "إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب": 330 13 - 21 "واضرب لهم مثلًا أصحاب القرية إذا جاءها المرسلون"، الآيات: 241، 242 37 "وآية لهم الليل نسلخ منه النهار": 521 40 "ولا الليل سابق النهار": 376 69 "وما علمناه الشعر وما بنبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين": 24، 25، 230 سورة الصافات 153، 154 "أَصْطَفَى البنات على البنين مَا لَكُمْ كَيْفَ تحكمون": 114 سورة ص 16 "عجل لنا قطنا": 397 سورة الزمر 9 "قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يعلمون": 154 سورة غافر 66 "قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ من دون الله": 324 68 "هو الذي يحيى ويميت": 154

سورة فصلت 1 - 4 "حم تنزيل من الرحمن الرحيم"، الآيات: 583 6 "قل إنما أنا بشر مثلكم": 333 سورة الشورى 24 "فإن يشأ الله يختم على قلبه": 166 سورة الزخرف 19 "وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثاً" "أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون": 368، 438، 439 32 "أهم يقسمون رحمة ربك": 123 40 "أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي": 120 سورة الدخان 50 - 52 "إن هذا ما كنتم به تمترون، إن المتقين في جنات وعيون"، الآيات: 322 سورة محمد 4 "حتى تضع الحرب أوزارها": 521 سورة ق 37 "إن في ذلك لذكى لمن كان له قلب": 304 سورة الذاريات 24 - 28 "هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين"، الايات: 240 سورة النجم 3، 4 "وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى": 230

سورة القمر 12 "وفجرنا الأرض عيونًا": 102 13 "ذات ألواح ودسر": 397 24 "فقالوا أبشر منا واحدًا نتبعه": 122 43، 44، 48 "وانه هو أضحك وأبكى وأنه أمات وأحيى" "وأنه هو أغنى وأقنى": 154 سورة المنافقون 4 "يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ، هُمُ العدو فاحذرهم": 403 سورة الحاقة 13 "فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة": 31 سورة المدثر 6 "ولا تمنن تستكثر": 205 18، 19 "إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر": 582 سورة النازعات 45 "إنما أنت منذر من يخشاها": 330، 345 سورة الغاشية 21، 22 "إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر": 353 سورة الليل 17، 18 "وسيجنبها الأتقى. الذي يؤتي ماله يتزكى": 205 سورة الإخلاص 1، 2 "قل هو الله أحد الله الصمد"

فهرس الحديث

فهرس الحديث: "إنما الشعرُ كلامٌ، فحَسَنُه حَسَنٌ، وقبيحُه قبيح": 24 "أياكم وخضراء الدمن": 441 "لأَنْ يمتلئَ جوفُ أَحدِكم قيحاً، فيَرِيَهُ، خيرٌ له من أن يمتلئ شعرًا": 16 "إن من الشحر لحكمة، وإن من البيان لسحرًا": 16 "قل وروح القدس معك": 17، 612 "مانسى ربُّك، وما كان ربُّكَ نَسِيّاً، شعراً قلْتَه": 17 حديث عبد الله بن مسعود في القتلى يوم بدر: 18 حديث محمد بن سلمة الأنصاري، عن استشاده صلى الله عليه وسلم حسنًا شعر الأعشى في هجاء علقمة بن علاقة: 19 حديث عاءشة، واستشاده صلى الله عليه وسلم شعرًا لسعية بن غريض اليهودي: 19 حديث أم المؤمنين سودة، وإنشادها شعرًا، ظنت عائشة وحفصة أنها تعرض بهما، ومعرفته صلى الله عليه وسلم أنه ليس عدي وتيم من قريش: 20 حديث أبي بكر، وسؤاله صلى الله عليه وسلم عن صواب إنشاد شعر سمعه: 21 حديث النابغة الجعدي، وإنشاده، وقوله له: "لا يفضض الله فاك": 22 حديث كعب بن زهير، وخير قصيدته المشهورة: 22 حديث ذي اليدين حين قال: "أقَصُرَتِ الصلاةُ أم نَسِيْتَ يا رسولَ الله؟ ": 282 حديث إسلام أبي ذر: 584

فهرس الشعر

فهرس الشعر: ومنحط أتيح له اعتلاء سليمان بن داود القضاعي "الوافر": 94 تخبر في الأبوة ما تشاء عبد الله بن مصعب "الوافر": 509 ومن حسب العشيرة حيث شاءوا أبو البرج قاسم بن حنبل "الوافر": 148 ليصحنى فإذا السلامة داء لبيد "كامل": 497، 498 تجلت عن وجهه الظلماء ابن قيس الرقيات "الخفيف": 331 ولقد كان ولا يدعي لأب مسكين الدارمي "الرمل": 207 وكل مكان ينبت العز طيب المتنبي "طويل": 492، 508 بغيضًا تنائى أو حبيبًا تقرب المتنبي "طويل": 499 على شعث أي الرجال المهذب النابغة "طويل": 593 إذا ما بنو نعش دنوا فتوبوا النابغة الجعدي "طويل": 137 على وجه من الدماء سبائب الأخنس بن شهاب "طويل": 130 ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب نصيب "طويل"511 تقوم عليها في يديك قضيب واثلة بن خليفة السدوسي "طويل": 203 تنتقي منه وتنتخب ابو نواس "المديد": 509 ولا يرى مثلها عجم ولا غرب ذو الرمة "بسيط": 147 شغل على أيمانهم تتهلب البحترى "الكامل": 300 قيد الظنون أمذهب أم مذهب أبو تمام "الكامل": 523 دخلوا السماء دخلتها لا أحجب خالد بن يزيد بن معاوية "الكامل": 209 أملآ ويأمل ما آشتهى المكذوب نافع بن لقيط "الكامل": 500 كرامتها والفتى ذاهب حزاز بن عمرو "متقارب": 567 عقائل سرب أو تقنص ربربا البحتري "الطويل": 166 هواى ولو خيرت كنت المهذبا بشار "الطويل": 510 وأجرت سباحًا بيذ المغالبا "الطويل": 129 على قضاء الله ما كان جالبًا سعد بن ناشب "الطويل": 220 لجناة الحسن عنابا ابن المعتز "المديد": 451 وعز ذلك مطلوبًا إذا طلبا المتبني "بسيط": 496

مظلومة الريق في تشبيها ضربا المتنبي "بسيط": 499 تحال بياض لأمهم السرابا زياد بن حنظلة التميمي "الوافر": 89 ومسقط قرنها من حيث غابًا الفرزدق "الوافر": 513 ولم يلدوا امرءًا إلا نجيبا المتنبي "الوافر": 188 فما إن رأينا لفتح ضريبا ألبحتري "المتقارب": 85 نقض لبانات الفؤاد المعذب امرؤ القيس "طويل": 591 إلينا ولكن عذره عذر مذنب أبو تمام "طويل": 490 بحبك وإن تغضب إلى السيف يغضب حجية بن المضرب "طويل": 184 ولم يك حقًا كل هذا التجنب علقمة "طويل": 591 على أروس الأقران خمس سحائب البحتري "طويل": 299 على أن ذاك الزى زى محارب البحتري "طويل": 491 ليسلكها فردًا سليك المقانب البحتري "طويل": 565 تمهل في روض المعاني العجائب أبو تمام "طويل": 516 تضاعف فيه الحزن من كل جانب النابغة "طويل": 268 عصائب طير تهتدي بعصائب النابغة "طويل": 5014 أطاع لها العاصون في بدل الغرب البحتري "طويل": 492 تنال إلا على جسر من التعب أبو تمام "البسيط": 78 من أن أكون محبًا غير محبوب المتنبي "البسيط": 190 ومن لي أن أمتع بالمعيب البحتري "وافر": 504 أرض ينال بها كريم المطلب البحتري "الكامل": 491، 508 من خدرها فكأنها لم تحجب أبو تمام "الكامل": 104 قرأت الورهاء شطر كتاب أبو تمام "الكامل": 406 بعتيبة بن الحارث بن شهاب أبو ذؤاب ربيعة الأسدي "الكامل": 253 وليغلبن مغالب الغلاب كعب بن مالك "الكامل": 17 فاقتص ناظره من القلب أحمد بن أبي فنن "الكامل": 486 في جسد من لؤلؤ رطب إبراهيم بن المهدي "السريع": 486 مجد، وفضل الصلاح والحسب يزيد بن الحكم "المنسرح": 308

ألقاه من زهد على غاربي اليزيدي "يحيى بن المبارك" "السريع": 237 وتلطم الورد بعناب أبو نواس "السريع": 450 خلالته كأبي مرحب النابغة الجعدي "متقارب": 301 وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه بشار "الطويل": 96، 411، 536، 602 أربت، وإن عاتبته لأن جانبه بشار "الطويل": 185 مهايعه المثلى ومحت لواحبه أبو تمام "الطويل": 496 أبو امه حتى أبوه يقاربه الفرزدق "الطويل": 83 يداك يدى ليث فإنك غالبه الفرزدق "الطويل": 425 يغرف من شعره ومن خطبه بشار "المنشرح": 513 ويسترط الدمع من غربه المتنبي "السريع": 138 متململًا وتنام دون ثوابه البحتري "الكامل": 517 يزد في نهاها وألبابها ابن المعتز "متقارب": 505 إذا ما بيوت بامللامة حلت الشنفرى "الطويل": 310 بنا نعلنا في الوطئين فزلت طفيل الغنوى "الطويل": 158 نطقت ولكن الرماح أجرت عمرو بن معد يكرب "الطويل": 157 تخليت مما بيننا وتخلت كثير "الطويل": 94 أيادي لم تمنن وإن هي جلت محمد بن سعد الكاتب "الطويل": 149 بجنوب خبت عريت وأجمعت جندب "الكامل": 236 فهم الذرى وجماجم الهامات الكندي "الكامل": 506 بيد تقر بأنها مولانه عامر بن حطان الخارجي "الكامل": 501، 507 ما حفظها الأشياء من عاداتها المتبني "الكامل": 551 أحوذى ذو ميعة إضريج أبو دؤاد الأيادي "الخفيف": 91، 205، 592 وحال ما حاك من وشى وديباج البحتري "بسيط": 553

يكد الوعد بالحجج ابن المعتز "الوافر": 77 في قبة ضربت على ابن الحشرج زياد الأعجمي "الكامل": 306، 307 إن بنى عمك رماح حجل بن نضلة "السريع": 328 وموت الهوى في القلب منى المبرح ذو الرمة "طويل": 274 بها خطل الرماح أو كان يمزح عقال بن هشام القينى "طويل": 514، 599 فأصبح فيه ذو الرواية يسبح ابن ميادة "طويل": 514، 599 وسألت بأغناق المطي الأباطح "طويل": 74، 75، 294، 296 بنفسك إلا أن ما طاح طائح الأغر الشاعر "طويل": 78 طواهر جلدي وهو في القلب جارح كثير "طويل": 497 عتاق دنانير الوجوه ملاح ابن المعتز "طويل": 104 بإساءة وعن المسيء صفوح المتبني "كامل": 568 وغدوت للذات مطرحًا أبو نواس "كامل": 548 وأندى العالمين بطون راح جرير "الوافر": 188، 607 كان مستعلقًا على المداج أبو العتاهية "الخفيف": 503 ولكنه بالمجد والحمد مفرد ابن الرومي "الطويل": 183 تلفت ملهوف ويشتاقه الغد ابن الرومي "طويل": 504 أتحت ضلوعي جمرة تتوقد ابن الرومي "طويل": 554 ومن عادة الإحسان والصفح غامد المتنبي "طويل": 506 بنى حوالي الأسود الحوارد الفرزدق "طويل": 211 سجية نفس كل غانية هند أبو تمام "طويل": 495 بنو بنت مخزوم ووالدك العبد حسان "طويل": 181 وما قلت إلا بالذي علمت سعد الحطيئة "طويل": 331 خرجت مع البازى على سواد بشار "طويل": 203، 219 إلى أن ترى ضوء الصباح وسا بشار" "طويل": 492 عليك بجاري دمعها لجمود أبو عطاء السندى "طويل": 269

فأين أحيد عنهم لا أحيد مالك بن رفيع "الوافر": 207 حقًا تناوب ما لنا ووفود "الكامل": 125 وهو على أن يزيد مجتهخد الخالدي "المنسرح": 104 وتسكب عيناى الذموع لتجمدا العباس بن الأحنف "الطويل": 268 ومن وجد الإحسان قيدًا تقيدًا المتنبي "طويل": 105، 490 أرجو الثواب بها لديه غدا ابن الرومي "الكامل": 184 ك منازل كعبًا ونهدًا عمرو بن معد يكرب "الكامل": 148 ظننت ما أنا فيه دائم أبدًا "البسيط": 94 تبدلتما ذلًا بعز مؤيد "الطويل": 314 وقالت نجوم لو طلعن بأسعد البحتري "الطويل": 548، 549 لديباجتيه فاغترب تتجدد أبو تمام "الطويل": 498 تجد خير نار عندها خير موقد الحطيئة "الطويل": 251 مخافة ملوى من القد محصد طرقة "الطويل": 166 بنوهن أبناء الرجال الأباعد الفرزدق "الطويل": 374 وجدت وقلنا اعتل عضو من المجد البحتري "الطويل": 311، 490 ولم يُدْرَ ما مِقدارُ حَلّي ولا عَقْدِي البحتري "الطويل": 517 جميعًا، ومهما لمته لمته وحدي أبو تمام "الطويل": 58، 60 إذا لهجاني عنه معروفة عندي أبو تمام "الطويل": 501، 507 رمتنى وكل عندنا ليس بالمكدي دعيل أبو تمام "الطويل": 282 ما كلُّ رَأْي الفتى يَدْعو إِلى رَشَد "بسيط": 284 تنس السلاح وتعرف جبهة الأسد أرطأة بن سهية "بسيط": 209، 425 وجدت حتى كأن الغيث لم يجد البحتري "بسيط": 198 قد يقدم الغير من ذعر على الأسد أبو تمام "بسيط": 494 مِنْ أنْ يكونَ له ذنبٌ إِلى أَحَدِ أبو حفص الشطرنجي "بسيط": 90 مثل الزجاجة لم تكحل من الرمد النابغة "بسيط": 567 وردًا وعضت على العتاب بالبرد الوأواء الدمشقي "بسيط": 449، 451 مواقع الماء من ذي الغلة الصادي القطامي "بسيط": 535، 603 أعجب بشيء على البغضاء مودود بشار "مسلم "بسيط": 504 ألقى إليه الأقاصي بالمقاليد مسلم بن الوليد "بسيط": 49

وتشحب عنده بيض الأيادي أبو تمام "الوافر": 139 هباتك أن تلقب بالجواد المتنبي "الوافر": 198 وفيها قيت يوم للقراد المتنبي "الوافر": 564 وحسبك أن يزرن أبا سعيد أبو تمام "الوافر": 313 كرمًا ولم تهدم مآثر خالد البحتري "الكامل": 163 طلعت بها الركبان كل نجاد الخريمي "الكامل": 511 وبلاغة وتدر كل وريد أبو تمام "الكامل": 515 أن يجمع العالم في واحد أبو نواس "السريع": 196، 424، 428 رق، فيابردها على كبدي "المنسرح": 510 أرهب نوء السماك والأسد لبيد "المنسرح": 485 ـك امرؤ أنه نظام فريد البحتري "خفيف": 517 ب تشق القلوب قبل الجلود المتنبي "خفيف": 497 طع أحنى من واصل الأولاد المتنبي "خفيف": 330 ب تكون كالثوب استجده أبو العتاهية "الكامل": 498 فحللت بين عقيقه وزروده البحتري "الكامل": 166 كتائب يأس، كرها وطرادها بعض الحجازيين "طويل": 318 حتى أقوم ميلها وستادها عدى بن الرقاع "الكامل": 512 شوقًا إلى من يبيت يرقدها المتنبي "المنسرح": 489 إلى ماله حالي أسر كما جهر ابن عنقاء الفزاري "الطويل": 148 لا ترى الآدب فينا ينتفر طرفة "الرمل": 135 أنه عندك محقور صغير الخريمي "الرمل": 498 أمر مذاق العود والعود أخضر "طويل": 555 وفي سائر الدهر الغيوث المواطر "طويل": 182 ذراعي، وألقى باسته من يفاخر موسى بن جابر الحنفي "طويل": 148، 149 أصاخت إلى الواشي فلج بن الهجر البحتري "طويل": 93 لناشئهم من حيث يؤتنف العمر البحتري "طويل": 496، 604

لها اللفظ مختارًا كما ينتقى التبر البحتري "طويل": 517 أساء ففي سوء القضاء لي العذر أبو تمام "طويل": 493 فليس يؤدي شكرها الذئب والنسر أبو تمام "طويل": 504، 505 ولكن لشعري فيك من نفسه شعر المتنبي "طويل" 125 بنوها لها ذنب وأنت لها عذر المتنبي "طويل": 505 إليك، وأهل الدهر دونك والدهر المتنبي "طويل": 556 وسلط أعداء وغاب نصير إبراهيم بن العباس "طويل": 86 ولكن يصير الجود حيث يصير أبو نواس "طويل": 310، 312 نفسي فداؤك، ما ذئبي فأعتذر "بسيط": 76 كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر البحتري "بسيط": 494 عليك أنجمه بالمدح تنتثر البحتري "بسيط": 516 وقد سقى القوم كأس النومة السهر أبو دهبل "بسيط": 461 فإنما هي إقبال وإدبار الخنساء "بسيط": 300 متبسمين وفيهم استبشار "كامل": 210 ليل يصيح بجانبيه نهار الفرزدق "كامل": 95 تشكو إلى صبابة لصبور جميل "كامل": 150 أطنين أجنحة الذباب يضير ابن أبي عيينة "كامل": 121 سقاهن مرتجز باكر "متقارب": 277 لها قائلًا بعدي أطب وأشعرًا تميم بن أبي بن مقبل "طويل": 512 وجدي يا حجاج فارس شمرا جميل "طويل": 188 فلو شئت أن أبكي بكيت تفكرا الجوهري الجرجاني "طويل": 21، 22 ولا عرف إلا قد تولى وأدبرا أبو حزابة، الوليد بن حنيفة "طويل": 149 كنار مجوس تستعر استعارا امرؤ القيس، الحارث اليشكري "الوافر": 592 إذا ما زدته نظرا أبو نواس ": 296 تبكي علية مقلة عبرى عبد الصمد بن المعدل "السريع": 91 ولا أنا أضرمت في القلب نارًا المتنبي "المتقارب": 125 ة إما مخاضًا وإما عشارا الأعشى "المتقارب": 180 ج والمكرومات معًا حيث صارا الكميت "المتقارب": 310

أتاحت له الأقدار ما لم يحاذر البحتري "طويل": 485 هـ بجيدها إلا كعلم الأباعر مروان بن أبي حفصة "طويل": 254 بأسجح مرقال الضحى قلق الضفر "طويل": 298 لي اليأس منها، لم يقم للهوى صبرى الحكم بن قنبر "طويل": 462 من الدهر أسباب جرين على قدر عكرشة العبسي "طويل": 208 فتختصم الآمال واليأس في صدري ابن المعتز "طويل": 77 أنصاره بوجوه كالدنانير سبيع بن الخطيم "بسيط": 74، 99 لم ينكنى، ولقيت ما لم أحذر سهم بن حنظلة "الكامل": 485 تقذى صدورهم بهتر هاتر بعض الأعراب "الكامل": 76 إهماله، وكذاك كل مخاطر يزيد بن مسلمة "الكامل": 75 هلًا نزلت بآل عبد الدار "الكامل": 21 كاثنين ثان إذ هما في الغار أبو تمام "الكامل": 84 ـض القوم يحلق ثم لا يفرى زهير "الكامل": 134 عنى بخفته على ظهري أبو العتاهية "الكامل": 510 ورفيقه بالغيب لا يدري المسيب بن علس "الكامل": 203 ألناقض الأوتار والواتر الأعشى "السريع": 19 وخال وجه النهار ابن المعتز "المجتث": 103 إن ذاك النجاح في التبكير بشار "الخفيف": 272، 323، 316 وليل المحب بلا آخر خالد الكاتب "متقارب": 492 إلى أهرت الشدقين تدمى أظافره البحتري "طويل": 494 وقلص عن برد الشراب مشافره الخطيئة "طويل": 564 زجرت كلابي أن يهر عقورها شبيب بن البرصاء "طويل": 308 بخير وقد أعيا ربيعًا كبارها الفرزدق "طويل": 469 قد بلوت المر ثمره أبو نواس "المديد": 268 وتراءى الموت في صوره أبو نواس "المديد": 501 - 503 أنت والله ثلجة في خياره أبو نواس "الخفيف": 104 وغيرهم نعم ظاهره نصيب "متقارب": 309، 312

واجلس فإنك أنت الآكل اللابس "بسيط": 471، 487 بشرقي ساباط الديار البسابس أبو نواس "طويل": 470 ويكثر الوجد نحوه الأمس أبو تمام "المنسرح": 504 ما اختار إلا منكم فارسًا السيد الحميري "السريع": 344 وصبرًا على استدرار دنيا بإبساس محمد بن وهيب "طويل": 325 واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي الحطيئة "بسيط": 471، 487 شغل الخلى ثنت بصدفة مويس البحتري "كامل": 497 مثلًا من المشكاة والنبراس أبو تمام "كامل": 14 إن غنى نفسك في الياس أبو نواس "السريع": 325 ومن فوقها واليأس والكرم المحض المتنبي "الطويل": 490 وتظهر الإبراهم والنقضا بكر بن النطاح "السريع": 152 ويا جبل الدنيا ويا واحد الأرض أبو نخيلة "طويل": 484 سوى أنه قد سل عن ماجد محض أبو خراش الهذلي ": 470 أضحكنى الدهر بما يرضى حطان بن المعلى "السريع": 269 وتقاضيته بترك التقاضي أبو تمام "خفيف": 497 يمضي فإن الكف لا السيف يقطع البحتري "طويل": 496 عليه ولكن ساحة الصبر أوسع الخريمي "طويل": 164 فما عاشق من لا يذل ويخضع المتبني "طويل": 499 وبالجن فيها، ما درت كيف ترجع المتنبي "طويل": 565 على دلال واجب لمفجع مضرس بن ربعي "طويل": 499 تمكن رضوى واطمأن متالع البحتري "طويل": 470 وطيرته عن وكره وهو واقع أبو تمام "طويل": 514

فيما أحب لسان حائك صنع أبو تمام "بسيط": 515 أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا حسان "بسيط": 94 غيرى بأكثر هذا الناس ينخدع المتنبي "بسيط": 139 أحلك الله منها حيث تجتمع منصور النمري "بسيط": 504 ولو أن دجلة لي عليك دموع البحتري "كامل": 548 وجعت من الإصغاء ليتًا وأخدعا الصمة القشيري "طويل": 47 علقت ممنوعا منوعًا ابن الرومي "الكامل": 493 للذي تهوى مطيعًا بعض المحدثين "الرمل": 499 وأعتقت من رقع المطامع أخدعي البحتري "الطويل": 47 وليس إلى داعي الندى بسريع الأقيشر "طويل": 150 وفي حباء وخير غير ممنوع دعبل "بسيط": 555 على ما فيك من كرم الطباع أبو تمام "وافر": 510 أن يرى مبصر ويمسع واعي البحتري "الخفيف": 156 تذكرت القربى ففاضت دموعها البحتري "الطويل": 93 من الأرض إلا أنت للذل عارف قيس بن معدان الكليبي "الطويل": 20 أخف من رد قلب حين ينصرف العباس بن الأحنف "بسيط": 494 لهم إلف وليس لكم إلاف مساور بن هند "الوافر": 236 وقد جاعت بنو أسد وخافوا "الوافر": 237 هـ ـخالق أن لا يكنها سدف قيس بن الخطيم "المنسرح": 497 كانت فخارًا لمن يعفوه مؤتنفا أبو تمام "بسيط": 494 فهجرانها يبلى ولقيانها يشفى البحتري "الطويل": 162 هلا نزلت بآل عبد مناف مطرود بن كعب الخزاعي "الكامل": 21 إلى ضوء نار في يفاع تحرق الأعشى "الطويل" 176

ولو قيل هاتوا حققوا لم يحققوا أنس بن أبي إياس الديلي "طويل": 40 بأسهم أعداء وهن صديق جرير "طويل": 495 لكن يمر عليها وهو منطلق النضر بن جوية "البسيط": 174 إننما للعبد ما رزقا العباس بن الأحنف "المديد": 355 وإنما يعذر العشاق من عشقا "بسيط": 355 تلافي في جسوم ما تلاقى المتنبي "وافر": 505 لكالبحر، مهما يلق في البحر يغرق زياد الأعجم "الطويل": 96، 536 إلى جعفر سرباله لم يمزق سلامة بن جندل "طويل": 204 له عن عدو في ثياب صديق أبو نواس "طويل": 495 كأس الكرى فانتشى المسقى والساقي أبو نواس "بسيط": 548 وما هي ويب غيرك بالعناق ذو الخرق الطهوى "الوافر": 301، 303 نظر وتسليم على الطرق محمد بن أحمد المكي "كامل": 547، 549 تحسب الدمع خلقة في المآتي المتنبى "الخفيف": 162 هـ عن جوابي شغللك أم السليك بن السلكة "مديد": 320 أضججت هذا الأنام من خرقك أبو تمام "المنسرح": 47 خلت حقب حرس له وهو حائك أبو تمام "طويل": 553 نم وإن لم أنم كراى كراكا أبو تمام "الخفيف": 373 نجوت وأرهنهم مالكا عبد الله بن همام السلولي "متقارب": 205 وكيف يكون النوك إلا كذلك أبو الأسود الدؤلي "الطويل": 208 نواجذ أفواه المنايا الضواحك تأبط شرًا "طويل": 436 فأقرح، أم صيرتنى في شمالك ابن الدمينة "طويل": 90 إنما يجزى الفتى ليس الجمل لبيد "الرمل": 353 إن صدق النفس يزرى بالأمل"الرمل": 500

وإنما الموت سؤال الرجال "السريع": 256 ولا لامرئ مما قضى الله مزحل إبراهيم بن كنيف "طويل": 281 أبينا وقلنا الحاجبية أول كثير "طويل": 495 إذا ما نوى كعب وفوز جرول كعب بن زهير "طويل": 512 بخسناك حظا أنت أبهى واجمل المتنبى "طويل": 500 يفيض وصوب المزن إن راح يهطل "طويل": 506 إليه بوجه آخر الدهر تقبل معن بن أوس "طويل": 371 وقد لقحت حرب فإنك نازل المتنبي "طويل": 491 لقد رث حتى كاد ينصرم الحبل أبو علي البصير "طويل": 493 بالقول، لم يكن جسرًا له العمل أبو تمام "بسيط": 78 من راحتيك درى ما الصاب والعسل أبو تمام "بسيط": 84 وبالشباب شفيعًا أيها الرجل ابن حازم الباهلي "بسيط": 603 وهاج أهواءك المكنونة الطلل عمر بن أبي ربيعة "بسيط": 146 والليل قد مزقت عنه الساربيل حندج بن حندج المرى "بسيط": 210، 214 متيم إثرها لم يفد مكبول كعب بن زهير "بسيط": 22، 23 ـك، لما ضاقت الحيل ابن البواب "الوافر": 91، 296 أبدًا ولا يسلون من ذا المقبل "كامل": 488 صنع اللسان بهن لا أتحمل أبو حية النميري "كامل": 511، 515 ضرب تطير له السواعد أرعل الفرزدق "كامل": 295 ثهلان ذو الهضبات هل يتحلحل الفرزدق "كامل": 83 من أنها عمل السيوف عوامل المتبني "كامل": 83 والماء أنت إذا اغتسلت الغاسل المتنبي "كامل": 83 ما دون أعمارهم فقد بخلوا المتنبي "المنسرح": 506 سهر دائم وحزن طويل المتنبي "الخفيف": 238 فجئت عجيب الظن للعلم موئلا بشار "طويل": 512 ونذكر بعض الفضل منك وتفضلا أبو تمام "طويل": 227 بهيمًا، ولا أرضى من الأرض مجهلا أبو تمام "طويل": 484

علينا فأعيى الناس أن يتحولا حسان "الطويل": 311 كما عرفت بجفن الصيقل الخللا عمر بن أبي ربيعة "البسيط": 146 في رأس غمذان دارا منك محلالا أمية بن أبي الصلت "البسيط": 203 فلو فرغت لكنت الدهر شغولَا محمد بن بشير "البسيط": 493 أجنبه المساند والمحالا ذو الرمة "الوافر": 471 تهيبى ففاجأنى اغتيالا المتنبى "الوافر": 244 وفاحت عنبرًا ورنت غزالا المتبي "الوافر": 302، 450 رأيت بكاءك الحسن الجميلا الخنساء "الوافر": 181 لئيما أن يكون أصاب مالًا البحتري "الكامل": 170 وإن في السفر إذا مضوا مهلا الأعشى "منسرح": 321 دد والمجد والمكارم مثلا البحتري "الخفيف": 168 ـنة تعلو والضرب أغلى وأغلى المتنبي "الخفيف": 194 فبناها في وجنة الدهر خالًا المتنبي "الخفيف": 103 ولا ذاكر الله إلا قليلا أبو الأسود الدؤلي "متقارب": 376 قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل امرؤ القيس "طويل": 363، 410، 419، 468 وأردف أعجازًا وناء بكلكل "طويل": 79، 359، 472 ثمال اليتامى عصمة للأرامل أبو طالب "طويل": 18 يحاوله قبل اعتراض الشواغل عبد الله بن الزبير "طويل": 151 لدى وكرها العناب والحشف البالي امرؤ القيس "طويل": 95، 536 ومسنونة رزق كأنياب أغوال امرؤ القيس "طويل": 117، 119 ليقتلني والمرء ليس بقتال امرؤ القيس "طويل": 119 يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي الفرزدق "طويل": 328، 340 فؤادا لكان ندى كفيك من عقلي البحتري "بسيط": 490 ومن يسد طريق العارض الهطل المتبني "بسيط": 506 جبان الكلب مهزول الفصيل المتنبي "الوافر" 264، 307، 309، 312 إلى أهل النوافل والفضول البحتري "الوافر": 499

إذا احتاج النهار إلى دليل المتنبي "الوافر": 491 وكنت له بمجتمع السيول أبو وجزة "الوافر": 503 صدقوا، ولكن غمرتي لا تنجلي "الكامل": 235 في آل طلحة ثم لم يتحول البحتري "الكامل": 311 فلو أنها بذلت لنا لم تبذل البحتري "الكامل": 493 غير الجواد وجاد غير المفضل البحتري "الكامل": 496 ما الحب إلا للحبيب الأول أبو تمام "الكامل": 495 لا يسألون عن السواد المقبل حسان "الكامل"488 عفا من بعد أحوال الوليد بن يزيد "الهزج": 238 أبتاع إلا قريبة الأجل ابن هرمة "المنسرح": 264هـ، 268، 309، 312، 427، 431 فوق طير لها شخوص الجمال المتبني "الخفيف": 434 بعدها بالآمال جد بخيل محمد بن يسير "الخفيف": 57، 61 فسقى وجوه بني حنبل زهير بن عروة، السكب "متقارب": 313 وتأبى الطباع على الناقل المتنبي "متقارب": 423، 424، 428 فأثنت بإحسانك الشامل المتنبي "متقارب": 505 زيادًا ولم تقدر على حبائله "طويل": 210 هـ لجاد بها فليتق الله سائله بكر بن النطاح "طويل": 506 فحاولت ورد النيل عند حتفاله البحتري "طويل": 495 نير وأطراف الأكف غنم المرقش "سريع": 535 يسير ضاحي وشبها وينمنم البحتري "طويل": 516 ويقضي له بالسعد من لا ينجم المتنبي "طويل": 492 يكلمه من حبه وهو أعجم ابن هرمة "طويل": 309

غدا العفو منه وهو للسيف حاكم أبو تمام "طويل": 506 أجدت لغزو إنما أنت حالم فتب بن حصن "طويل": 357، 358 وفي أذن الجوزاء منه زمازم المتنبي "طويل": 436 وهن لما يأخذن منك غوارم المتنبي "طويل": 506 زيارته إني إذن للئيم عمارة بن عقيل "طويل": 117 وجدته حاضراه الجود والكرم "الأخطل" "بسيط": 204 يوم قديديمة الجوزاء مسموم علقمة بن عبدة "بسيط": 205، 214 وغدًا لغيرك كفها والمعصم "الكامل": 13 فإذا أبان قد رسا ويلملم أبو تمام "الكامل": 470 بعثوا إلى عريفهم يتوسم طريف بن تميم العنبرى "الكامل": 176 صبر وأن أبا الحسين كريم أبو تمام "الكامل": 225 وغابت الجوزاء والمرزم إسماعيل بن يسار "السريع": 548 برداك تبجيل وتعظيم ابن الرومي "السريع": 212 لا صغر عاذر ولا هرم المتنبي "المنسرح": 496 أنهم أنعموا وما علموا "المنسرح": 498 غير أن الشباب ليس يدوم حسان "خفيف": 604 ـب كأن القتال فيها ذمام المتنبي "خفيف": 491 هي الأنجم اتادت مع الليل أنجما البحتري "طويل": 516 أو الزرق من تثليث أو بيلملما حميد بن ثور "طويل": 166 شحيحان ما اسطاعا عليه كلاهما عمرة الخثعمية "طويل": 131 شباب يوم لقاء البيض ما ندما البحتري "بسيط": 491 لما تخرم أهل الأرض مختر ما أبو تمام "بسيط": 523 تركت ضمير قلبي مستهامًا جرير "الوافر": 158 وعمى مالك وضع السهاما حاجز بن عوف الأزدي "الوافر": 297 أعطاك معتذرًا كمن قد أجرما المتنبي "الكامل": 490 إذا لا تريد لما أريد مترجما "الكامل": 497 يفره ومن لا يتق الشتم يشتم زهير "طويل": 593 خروجي منها سالمًا غير غارم عمارة بن الوليد "طويل": 13، 14

علاطًا، ولا مخبوطة في الملاغم الفرزدق "طويل": 293، 396 أعن سفه يوم الأبيرق أم حلم البحتري "طويل": 171 وسورة أيام حززن إلى العظم البحتري "طويل": 171 تغص به عيني ويلظفه وهمي أبو نواس "طويل": 551 قالت: عسى، وعسى جسر إلى نعم ربيعة الرقى "البسيط": 79 أو كابن طارق حول البيت والحرم ابن شرمة القاضي "البسيط": 165 شكوى الجريح إلى الغربان والرخم المتبني "البسيط": 552 ومسلمة بن عمرو من تميم "وافر": 313 وكنا قبل ذلك في نعيم أعشى همدان "وافر": 209 لمختبر على الشرف القديم أبو تمام "وافر": 491 ينفثن في عقد اللسان المفحم أبو تمام "الكامل": 503 غردًا كفعل الشارب المترنم عنترة "الكامل": 603 فإذا رميت يصيبنى سهمي الحارث بن وعلة "الكامل": 253 من غيره ابتغيت ولا أعلام أبو تمام "الكامل": 491 ردته في عظتي وفي إفهامي على بن جبلة "الكامل": 505 ـر، وما فيك آلة الحكام "الخفيف": 254 بأن تسعدا، والدمع أشفاه ساجمه المتنبي "الطويل": 83 ضدين أسهره لها وتنامه البحتري "الكامل": 490 إذا أصبحت بيد الشمال زمامها لبيد "الكامل": 67، 435 كرام بنى الدنيا وأنت كريمها البحتري "طويل": 469 وأنت إذا عدت كليب لئيمها البعيث "طويل": 469 بخير وقد أعيا كليبًا قديمها البعيث "طويل": 469 بخير وما كل العطاء يزين امية بن أبي الصلت "طويل": 494 تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن المتبني "بسيط": 284 سمطان فيها اللؤلؤ المكنون أبو تمام "الكامل": 515 أبدًا وما هو كائن سيكون ابن أبي عيينة "الكامل": 185 غدا والليث غضان الفندالزماني "هزج": 557

وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا الفضل بن العباس "بسيط": 226 ثم الفول فقد جئنا خراسانا العباس بن الأحنف "بسيط": 90 وأبنا بالرماح قد أنحنينا عبد الشارق بن عبد العزى "الوافر": 210 قوافي تعجب المتمثلينا أبو شريح العمير "الوافر": 513 فأين تقولها أينا عروة بن أذينة "الهزج" [أو الوافر]: 130 نما نقتل إيانا لبعض اللصوص "الهزج": 342، 343 ما قطر الفارس إلا أنا عمرو بن معد يكرب "السريع": 337، 338 إذا لم تكارمني صروف زماني "الطويل": 184 لعوقة شيء عن الدوران المتنبي "طويل": 48 شبيب وأوفى من ترى أخوان المتنبي "طويل": 495 وحيثما يك أمر صالح يكن زهير "بسيط": 310 جدى الخصيب عرفنا العرق بالغصن المتنبي "بسيط": 491 يخلو من الهم أخلاهم من الفطن المتنبي "بسيط": 499 لصيق روحي ودان ليس بالداني أبو تمام "بسيط": 505 وخبب البازل الأمون سلمى بن ربيعة "بسيط": 320 نسيم لا يروع الترب وإن سوا بن المضرب "الوافر": 76 تنحلها ابن حمراء العجان الفرزدق "الوافر": 469 أطار قلوب أهل المغربين أبو تمام "الوافر": 492 إذ لا نبيع زماننا بزمان جرير "الكامل": 92 هيجاء غير الطعن في الميدان المتنبي "الكامل": 193 فمضيت ثمت قلت: لا يعنيني شمر بن عمرو الحنفي "الكمل": 206 لزمان يهم بالإحسان "الخفيف": 320 أودعاني أمت بما أودعاني شمسويه البصري "الخفيف": 523 ما له إلا ابن يحيى حسنة أبو هفان "الرمل": 505 حتى يسلمها إليه عداه البحتري "الكامل": 331، 492 فيما أرت، لرجوت ما أخشاه البحتري "الكامل": 485، 486

سواك يا فردًا بلا مشبه المتنبي "السريع": 1396 أعق من الجاني عليها هجائيًا الفرزدق "طويل": 534، 544 وللسيف أشوى وقعة من لسانيا جرير "طويل": 179 تقاضاه شيء لا يمل التقاضيا أبو حية النميرى "طويل": 48 فسيفك في كف تزيل التساويا المتنبي "طويل": 496 ومن قصد البحر استقل السواقيا المتنبي "طويل": 496 مريبة وشب ابن الخصى أبو تمام "الوافر": 420 ديني وفاعلة خيرًا فأجزيها جميل "البسيط": 150 يروق ويصفو إن كدرت عليه أبو العتاهية "الطويل": 185 الألف المقصورة إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى عمر بن أبي ربيعة "الطويل": 47 على الأضعف الموهون عادية الأقوى البحتري "طويل": 94 يومًا فتدركه العواقب قد نمى سعية بن غريض، وغيره "الكامل": 19 الأرجاز تعرفه الأرسان والدلاء "رجز": 21 إن غناء الإبل الحداء "رجز": 273، 316 والبين محجوز على غرابه "رجز": 102 حملته في رقعة من جلدي بشار "رجز": 78 وأذن الصبح لنا في الأبصار ابن المعتز "رجز": 77 وليس قرب قبر حرب قبر "رجز": 57

على ذنبًا كله لم أصنع أبو النجم "رجز": 278 إنك إن كلفتني ما لم أطق "رجز": 160 هـ ظرف عجوز يه ثنتا حنظل خطام الريح المجاشعي "رجز": 380 وعلمته الكر والإقداما النابغة "رجز": 557 فنام ليلى وتجلى همي رؤبة "رجز": 294، 463 قد أغتدى والطير لم تكلم "رجز": 136 نذير في إقباله أيامه أبو العتاهية "رجز": 498 فإن في أيماننا نيرانا بعض العرب "رجز": 299 وحاتم الطائي وهاب المئى امرأة بن عقيل "رجز": 195 سقته كف الليل أكواس الكرى "رجز": 461 حتى نجا من خوفه وما نجا "رجز": 523 صدور أبيات ذكر تمامها ألست ابن الألى سعدوا وسادوا المتنبي "الوافر": 188 ألستم خير من ركب المطايا جرير "الوافر": 188 حنق على بدر اللجين" المتبني "كامل": 586 سقتها خروق في المسامع "الفرزدق" "الطويل": 396 "لا أمتع العوذ بالفصال" ابن هرمة "المنسرح": 264 هـ ما كل ما يتمنى المرء يدركه المبتني "بسيط": 284 نحن في المشتاة ندعو الجفلى طرفة "الرمل": 35 وليس لسيفي في العظام بقية جرير "طويل": 179 وما أنا وَحدي قلتُ ذا الشعرَ كلَّهُ المتنبي "طويل": 125 "يصيب ولا يدري" أبو الأسود "طويل": 208

فهرس الشعراء

فهرس الشعراء: إبراهيم بن العباس "الصولي": 86، 149 إبراهيم بن كنيف النبهاني: 281 إبراهيم بن المهدي: 486 إبراهيم بن هرمة "ابن هرمة" أحمد بن أبي فتن: 286 الأخطل: 204 الأخنس بن شهاب التغلبي: 130 أرطأة بن سهية: 209، 425 إسحق بن حسان السعدي "الخريمي" إسماعيل بن يسار: 548 أبو الأسود الدؤلي: 149، 208، 376، 592، 597 الأعشى: 19، 176، 180، 194، 321 أعشى همدان: 209 الأغر الشاعر: 87 الأفوه الأودي: 597 الأقيشر: 150 امرؤ القيس: 79، 95، 119، 359، 363، 410، 419، 468، 471، 472، 536، 590، 591 - 594، 597، 603 أمية بن أبي الصلت: 203، 494 أنس بن أبي إياس الديلي: 40 الباخرزي: 355 البحتري: 47، 85، 93، 94، 156، 162، 163، 166، 168، 171، 198، 252، 253، 299، 300، 311، 469، 470، 485، 491 - 500، 506، 508، 516، 517، 548، 549، 553، 554، 565، 595، 604 بشار بن برد: 78، 96، 185، 203، 219، 272، 316، 319، 410، 492، 504، 510، 512، 513، 536، 602، 603 أبو البرج "القاسم بن حنبل" بشر بن أبي خازم: 32 بعض اللصوص: 342، 343 البعيث: 469 بكر بن النطاح: 151، 152، 506 ابن البواب: 91، 296 تأبط شرًا: 436 أبو تمام: 14، 47، 57، 60، 78، 84، 104، 139، 225، 227، 313، 371، 373، 406، 470، 484، 491 - 498، 501، 503، 504، 505، 506، 507، 514، 515، 516، 523، 524، 553، 554، 595 تميم بن أبي بن مقبل: 512 ثعلبة بن صعير المازني: 77

جرير: 92، 158، 179، 188، 495، 578، 595، 607 جميل: 149، 150، 188 جندب بن عمار: 236 الجوهري "علي بن أحمد الجرجاني": 167 حاجز بن عوف الأزدي: 297 الحارث اليشكرى: 592 ابن حازم "محمد بن حازم": 603 حجل بن نضلة: 326 حجية بن المضرب السكوني "أبو حوط": 184 أبو حرجة الفزاري: 358 أبو حزابة "الوليد بن حنيفة": 149 حزاز بن عمرو: 567 حسان بن ثابت: 17، 19، 94، 181، 311، 488، 515، 604 حطان بن المعلي: 269 الحطيئة: 251، 331، 471، 488، 564، 593 أبو حفص الشطرنجي: 90 الحكم بن قنبر: 462 حميد بن ثور: 166 حندج بن حندج المرى: 210، 214 أبو حية التميرى: 47، 48، 511، 515 خالد الكاتب: 492 خالد بن يزيد بن معاوية: 209 الخالدي "سعيد بن هاشم": 104 أبو خارش الهذلي: 470 الخريمي "أبو يعقوب، إسحاق بن حسان بن قوهي السعدي": 164، 169، 498، 511 خطام الريح المجاشعي: 380 الخنساء: 181، 300 - 302 أبو دؤاد الإيادي: 91، 205، 6 - 3، 597 دجاجة بن عبد قيس التيمي: 74 درماء بنت سيار الخثعمية: 131 دعبل الخزاعي: 282، 555 ابن الدمينة: 90 أبو دهبل الجمحي: 461 أبو ذؤاب، ربيعة بن عبيد الأسدي: 253 ذو الإصبع العدواني: 342، 343 ذو الخرق الطهوي: 301، 303 ذو الرمة: 147، 170، 274، 275، 276، 471 رؤية: 293، 463 ربيعة الرقى: 78، 79 ابن الرومي: 183، 184، 493، 504، 554 زياد الأعجم: 96، 306، 536 زياد بن حنظلة التميمي "الصحابي": 89 زهير بن أبي سلمى: 134، 310، 593، 594 زهير بن عروة بن جلهمة "السكب": 313 سبيع بن الخطيم التيمي: 74، 99 سعد بن ناشب المازني: 220 سعية بن غريض اليهودي: 20 سعيد بن هاشم "الخالدي"

أبو سفيان بن الحارث: 208 السكب "زهير بن عروة بن جلهمة" سلامة بن جندل: 204 سلمى بن ربيعة التيمي: 320 أم السليك بن السلكة: 320 سليم بن سلام الكوفي المغني: 91 سليمان بن داود القضاعي: 93، 94 سهم بن حنظلة: 485 سوار بن المضرب: 76 السيد الحميري: 344 ابن شبرمة "عبد الله بن شبرمة": 165 شبيب بن البرصاء: 308 أبو شريح العمير: 513 أبو الشغب "عكرشة العبسي": 208 شمر بن عمرو الحنفي: 206 شمسوية البصرى: 523 الشنفرى: 253، 310 الصمة بن عبد الله القشيري: 47 الصولي "إبراهيم بن العباس": 86 طرفة: 135، 166 طريف بن تميم العنبري: 176 طفيل الغنوي: 158 عامر بن حطان "أخو عمران" الخارجي: 501، 507 عامر بن الطفيل: 19 العباس بن الأحنف: 90، 268، 355، 494 عبد الله بن رواحة: 17 عبد الله بن الزبير الأسدي: 149، 151 عبد الله بن شبرمة القاضي "ابن شبرمة" عبد الله بن محمد "ابن أبي عيينة" عبد الله بن مصعب: 509 عبد الله بن همام السلولي "ابن همام" عبد الله بن يحيى بن المبارك "اليزيدي" عبد الرحمن بن حسان: 604 عبد الشارق بن عبد العزى الجهني: 210 عبد الصمد بن المعدل: 91، 274 أبو العتاهية: 185، 498، 503، 510 العجاج: 321 عدي بن الرقاع: 512 عروة بن أذينة: 130 أبو عطاء السندي: 269 عقال بن هشام القينى: 514، 599 امرأة من بني عقيل: 195 عكرشة العبسى "أبو الشغب" علقمة بن عبدة الفحل: 205، 214، 591 علي بن أحمد الجرجاني "الجوهري" علي بن جبلة~: 505 عمارة بن عقيل: 117 عمر بن أبي ربيعة: 47 عمرة الخثعمية: 131 عمرو بن معد يكرب: 147، 148، 157، 337، 338 عنترة: 603 ابن عنقاء الفزاري: 148 ابن أبي عيينة طعبد الله بن محمد": 121، 185

فرات بن حيان: 208 الفرزدق: 83، 95، 211، 293، 295، 328، 340، 374، 396، 425، 469، 470، 513، 534، 544، 578، 595 الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب: 226 الفند الزماني: 558 القاسم بن حنبل المرى "أبو البرج": 148 قنب بن حصن: 357، 358 القطامي: 535، 603 ابن قيس الرقيات: 331، 357 قيس بن الحطيم: 497 قيس بن معدان الكليبي: 20 كثير: 94، 495، 497 كعب بن زهير: 17، 22، 23، 512 الكميت: 310 الكندي الشاعر: 506 لبيد بن ربيعة: 67، 353، 435، 485، 497، 498، 500 أبو ليلى "النابغة الجعدي": 21 مالك بن رفيع: 207 المتنبي: 48، 83، 103، 104، 125، 138، 139، 162، 188، 190، 193، 194، 198، 238، 244، 284، 302، 302، 331، 423، 427، 428، 434، 436، 450، 489، 491، 492، 495 500، 505، 506، 508، 510، 551، 552، 556، 564، 565، 568 محرز بن المكعبر: 74 محمد بن أحمد بن أبي مرة المكي: 547 محمد بن بشير: 493 محمد بن حازم البالهي "ابن حازم": 603 محمد بن سعد الكاتب التميمي: 149 محمد بن وهب: 325 محمد بن يسير الرياشي: 57، 60 المرقش: 535 مروان بن أبي حفصة: 254 مساور بن هند العبسي: 236 مسكين الدارمي: 207 مسلم بن الوليد: 252، 271، 493 المسيب بن علس: 203 مضرس بن ربعي: 499 ابن المعتز: 77، 98، 103، 104، 505، معن بن أوس: 494 منصور النمري: 504 موسى بن جابر الحنفي: 148، 149 ابن ميادة: 514، 599 النابغة الجعدي "أبو ليلى": 21، 22، 137، 301 النابغة الذبياني: 97، 268، 501 - 503ـ 557، 567، 593، 594 نافع "نويفع" بن لقيط الفقعسى: 500 أبو النجم: 278 أبو نخيلة: 484

نصيب: 309، 312، 511 النضر بن جوبة: 174 أبو نواس: 196، 252، 268، 271، 296، 310، 312، 325، 424، 428، 450، 470، 495، 501 - 503، 509/ 548، 553 ابن هرمة "إبراهيم بن هرمة": 264، 309، 312، 427، 431. أبو هفان: 505 ابن همام السلولي "عبد الله بن همام": 205 - 207 الوأواء الدمشقي: 449، 451 واثلة بن خليفة السدوسي: 203 أبو وجزة السعدي: 503 ورقة بن نوفل: 20 الوليد بن حنيفة "أبو حزابة" الوليد بن يزيد: 238 يحيى بن المبارك العدوي "اليزيدي" يزيد بن الحكم: 308 يزيد بن مسلمة بن عبد الملك: 75 اليزيدي "عبد الله بن يحيى بن المبارك": 91 اليزييدي "يحيى بن المبارك العدوي": 237 ابن يسير "محمد": 57 "أبو يعقوب" "الخريمي" "إسحاق بن حسان ابن قوهي".

فهرس الأعلام

فهرس الأعلام: الآمدي "أبو القاسم": 553 الأخفش "أبو الحسن": 19، 317 الأصمعي: 272 ابن الأنباري: 315 الأنصار: 158 أنيس، أخو أبي ذر: 584 أهل الردة: 158 بجير بن زهيربن أبي سلمى: 22 البرامكة: 314 البرج بن مسهر الطائي "الخارجي": 15 أبو بكر السراج: 220 أبو بكر الصديق، 17، 18، 21، 89، 158 تيم تميم: 20، 21 تيم قريش: 20، 21 ابن ثوابة: 253 ثعلب أبو العباس: 252، 253، 271، 315، 458، 459 الجاحظ: 15، 78، 97، 169، 251، 255، 256، 272، 389، 398، 482، 508، 511، 576، 590، 600، 606 بنو جعفر بن كلاب: 185 أم جندب "امراة امرئ القيس": 591 ابن جني: 564 أبو جهل بن هشام بن المغيرة: 581 الحارث بن وعلة الذهلي: 253 الحجاج: 308، 398، 500، 501 ابن أبي حد رد الأسلمي: 19 الحسن البصري: 19، 317 أبو الحسن الفارسي "شيخ عبد القاهر": 147 حفصة أم المؤمنين: 20 حماد الراوية: 594 الخارجي "البرج بن مسهر": 15 خالد بن صفوان: 576، 600 خالد بن عتاب بن ورقاء الرياحي: 209 خالد بن الوليد: 89 خلف الأحمر: 272، 277، 319 الخليل: 606 الخوارج: 500 داحس والغبراء: 169 أبو ذر: 584 الرشيد: 90 الرماني: 434 الزبير بن بكار: 21

ابن الزيات: 511 زيد بن ثابت: 13 أبو سفيان بن حرب: 19 سودة نبت زمعة أم المؤمنين: 20 سيبويه: 107، 131، 145، 146، 351، 352، 604 - 606 ابن شبرمة "عبد الله": 274، 275، 277 الشبعي: 189 الصاحب بن عباد: 554، 55 ضمرة بن ضمرة: 534 أبو طالب: 17، 18 طاوس: 15 عائشة أم المؤمنين: 19، 20، 21 عباد بن ورقاء: 209 ابن عباس: 593 أبو العباس "ثعلب" عبد الله بن عتيك: 404 عبد الرحمن بن عيسى الهمذاني: 483 عبد الملك بن عمير: 13، 14 عُبَيْدَ الله بنَ عبدِ الله بنِ طاهرٍ: 252 أبو عبيدة: 594 عتبة بن ربيعة: 583، 584 عدي تميم: 20، 21 عدي قريش: 20، 21 العسكري "أبو هلال": 470 عصام بن شهبرة الجرمي: 557 علقمة بن علانة: 19 أبو علي الفارسي: 204، 328، 373 علي بن أبي طالب: 15، 404، 592، 597، 600 علية، أخت الرشيد: 90 عمارة بن الوليد: 13، 14 عمر بن الخطاب: 13، 593 عمرو الوراق: 502 أبو عمرو الشيباني: 255، 256 أبو عمرو بن العلاء: 272 عنبسة: 274 غريض اليهودي: 20 "أبو الفضل" ابن العميد: 554، 55 القاضي عبد الجبار المعتزلي: 63، 394، 395، 454، 456، 466، 467 القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني: 434، 509 قطرى بن الفجاءة: 500 قيس بن خارجة بن سنان: 169 قيصر: 19 كرز بن وبرة الحارثي العابد: 165 الكندي الفيلسوف: 315، 319 بنو لؤى: 13

محمدبن أبي بكر الصديق: 13 محمد بن جعفر بن أبي طالب: 13 محمد بن حاطب: 13 محمد بن طارق، العابد: 165 محمد بن طلحة بن عبيد الله: 13 محمد بن كعب القرظي: 583 محمد بن مسلمة الأنصاري: 19 محمد بن يوسف الثقفي "أخو الحجاج": 15 المرزباني: 13، 158، 485، 502 مروان بن محمد: 440 مسروق: 18 ابن مسعود: 388، 389 مسلمة بن عبد الملك: 484 مصعب بن الزبير: 207 مطرود بن كعب الخزاعي: 21 المنصور: 594 النعمان بن المنذر: 534، 557 نمورذ: 113 النمري "أبو عبد الله": 567 الوليد بن عتبة بن المغيرة: 585 الوليد بن [عقبة]؟: 585 الوليد بن المغيرة: 388، 581، 585 يحيى بن يعمر: 398 يزيد بن المهلب: 308، 398 يزيد بن الوليد: 440

فهرس الأماكن

فهرس الأماكن: أبرق العزاف: 22 إصبهان: 209 الحجاز "أهل الحجاز": 593 الكناسة: 274 اليمن: 13، 15 يوم بدر: 18 فهرس الكتب: "إصلاح المنطق": 203 "الإغفال"، لأبي على الفارسي: 204 "الألفاظ الكتابية"، لعبد الرحمن بن عيسى الهمذاني: 483 "التذكرة"، لأبي على الفارسي: 373 "الجمهرة"، لابن دريد: 50 "الشيرازيات"، لأبي على الفارسي: 328 "صنعة الشعر"، لأبي هلال العسكري: 470 "الفصيح"، لثعلب: 458 "الكتاب" "سيبويه" في الإعلام "كتاب البيان والتبيين": 169 "كتاب البيان والتبيين"، للجاحظ: 398 "كتاب الشعر والشعراء"، للمرزباني: 158، 485، 486 "كتاب العين"، للجاحظ: 389

فهرس الأمثال والأقوال

فهرس الأمثال والأقوال: "شر أهر ذا ناب": 143، 144 "الحبيب أنت إلا أنه غيرك"، بعض الحكماء: 190 "رجع عوده على بدئه": 218 "كلمته فوه إلى في": 218 "قتل البعض إحياء للجميع": 261، 390 "إن مالًا" و "إن ولدًا" و "إن عددًا" و "إن غيرها إبلًا وشاء": 321 "مات حتف أنفه": 404 "المرء بأصغريه، إن قال قال بيان، وإن صال صال بجنان"، ضمرة بن ضمرة: 534

فهرس دلائل الإعجاز

فهرس دلائل الإعجاز: المقدمة: المدخل في دلائل الإعجاز، من إملاء عبد القاهر كتاب "دلائل الإعجاز". 3 - خطبة الكتاب 4 - بيان في فضل العلم 5 - علم البيان، وما لحقه من الضيم والخطأ، ومقالة من ذم الشعر والنحو، وبيان منزلتها من إعجاز القرآن، والرد على بعض المعتزلة في مقالتهم في إعجاز القرآن. 11 - فصل، في الكلام على من زَهد في رواية الشعر وحفظه، وذم الاشتغال بعلمه وتعلمه، وحجج عبد القاهر في الرد عليهم. 15 - الدفاع عن الشعر، وبيان ما جاء في الأحاديث من ذمه ومن مدحه. 17 - أَمرَه صلى الله عليه وسلم بقول الشعر، وسماعه إياه وإنشاده، وعلمه به وارتياحه لسماعه. 24 - عله منعه صلى الله عليه وسلم من الشعر 26 - تمام الدفاع عن الشعر، وتعلق من ذمه بأحوال الشعراء 28 - تفنيد كلام من زهد في النحو واحتقره 33 - ذم عبد القاهر لهل زمانه 43 - سبب تأليف كتاب "دلائل الإعجاز" 35 - فاتحة القول في "الفصاحة" و "البلاغة" 38 - دليل الإعجاز، والرد على المعتزلة 41 - استحسان الكلام كيف يكون 43 - فصل في تحقيق القول في "الفصاحة" و "البلاغة"، وقضية "اللفظ" عند المعتزلة، وبيان فسادها 46 - "اللفظ" الواحد يقع مقبولًا ومكروهًا 49 - فصل في الفرق بين قولنا "حروف منظومة"، و "كلم منظومة"، وبيان معنى "النظم"، ورد شبهة فيه 55 - فصل، في أن النظم هو توخي معاني الإعراب

57 - فصل، في الرد على من يقول: "الفصاحة للفظ وتلاؤم الحروف" 63 - الرد على القاضي عبد الجبار المعتزلي في مسالة اللفظ، وقوله: "إن المعاني لا تتزايد، إنما تتزايد الألفاظ" 66 - فصل في "اللفظ" يطلق والمراد به غيرُ ظاهره، وبيان في "الكناية" و "المجاز" و "الاستعارة"، وقاعدة "التشبيه" و "التمثيل" 70 - فصل في "الكناية"، و "الاستعارة" و "التمثيل" 74 - فصل في "الاستعارة" وبدائعها 80 - القول في "النظم" وتفسيره، وأه توخي معاني النحو 83 - شواهد على فساد "النظم"، وشواهد على محاسنه 87 - فصل في أن مزايا "النظم"، تابعة للمعاني والأغراض، وصفة النظم"، وشواهد من محاسنه 93 - فصل في "النظم" يتحد في الوضع، ويدق5 فيه الصنع، وشواهد على ما يوصف بالفضل لمعناه لا لنظمه 98 - كيف تشتبه المزية في "اللفظ"، والمزية في "النظم، وأمثلة هذه الشبهة في "الاستعارة" والقول في تتابع الإضافات 106 - فصل في القول في التقديم والتأخير، وهو باب كثير الفوائد. بيان في التقديم للعناية والاهتمام، وأنه لا يكفي أن يقال: "قدم للعناية"، وخطأ تقسيم التقديم والتأخير إلى مفيد وغير مفيد. 111 - مسائل في الاستفهام، في التفرقة بين تقديم ما قدم وتأخير ما أخر، وفي الأسماء والأفعال - "الاستفهام بالهمزة، والفعل ماض" 113 - "الاستفهام" للتقرير، والإنكار، والتوبيخ، في الأفعالوالأسماء، والفروق في ذلك 116 - "الاستفهام"، تقديم الفعل وهو مضارع، وتفسير معناه 117 - "الاستفهام"، تقديم الاسم، والفعل مضارع، وتفسير الاستفهام الدال على الإنكار 121 - "الاستفهام"، تقديم الاسمالمفعول والفعل مضارع، وأقسامه 124 - فصل، فيه مسائل في النفي، مع التقديم والتأخير، وتقديم الفاعل، وتقديم المفعول 128 - فصل في التقديم والتأخير في "الخبر المثبت"، وهو قسمان جلي، وخفي 131 - تقديم المحدث عنه يفيد التنبيه والتحقيق والتأكيد، ومعاني ذلك 135 - تقديم المحدث عنه بعد "واو الحال" 138 - تقديم المحدث عنه في الخبر المنفي تقديم "مثل" و "غير"، لازم، ومعنى ذلك 140 - دستور في التقديم والتأخير في الاستفهام والخبر

142 - تقديم النكرة على الفعل في الاستفهام، وتقديمها في الخبر 146 - فصل، القول في "الحذف"، وهو باب دقيق المسلك، حذف المبتدأ، وحذف الفعل 147 - المواضع التي يطرد فيها المبتدأ، وأمثلته. وخلاصة في شأن ما يحذف 153 - القول في حذف المفعول به، وقاعدة ضابطة في حذف الفاعل والمفعول 154 - الأغراض في ذكر الأفعال المتعدية. القسم الول في حذف المفعول، لإثبات معنى الفعل لا غير 155 - القسم الثاني، حذف مفعول مقصود لدلالة الحال عليه، وهو قسمان: جلي، وخفي - "الخفيط، هو الذي يدخله الصنعة، وأمثلة الخفي وأنواعه وبيانه، و "الإضمار على شريطة التفسير" 164 - متى يكون إظهار المفعول أحسن من حذفه 166 - أمثلة ما يعلم أنه ليس فيه لغير الحذف وجه 171 - فصل، في مثال آخر عجيب في "الحذف" 173 - فصل، في القول على فروق في "الخبر": خبر جزء من الجملة، وخَبرٍ ليس بجزءٍ منَ الجملة، ولكنه زيادةٌ في خبر آخر سابق له، كالحال والصفة 174 - الفرق الثاني، هو الفرْقُ بينَ الإثباتِ إذا كان بالاسم، وبينه إذا كان بالفعل، ومثاله 175 - الفرق بين الخبر إذا كان صفة مشبهة، وإذا كان فعلًا 176 - أمثلة الفرق بين الخبر إذا كان فعلًا، وبينه إذا كان اسمًا 177 - فروق الخبر في الإثبات وأمثلته ومعناه 178 - إذا كان الخبر نكرة جاز أنتعطف على المبتدأ مبتدأ آخر 179 - الخبر معرفًا بالألف واللام، على معنى الجنسن، وله وجوه مختلفة - الوجه الأول: أن تَقْصُرَ جنْسَ المعنَى على المُخْبَر عنه للمبالغة 180 - الوجه الثاني: أن تقصر جنس المعنى، على دَعوى أنه لا يُوجَدُ إلا منه 181 - الوجه الثالث: أن تقره في جنس ما حسن الحسن الظاهر الذي لا ينكره أحد 182 - الوجه الرابع: وهو دقيق المسلك، وهو الذي سماه الموهوم" وبيانه وأمثلته 184 - "الموهوم"، وغلبة "الذي" عليه وأمثلته

186 - الفرق بين "المنطق زيد"، و "زيد المنطلق"، والمبتدأ والخبر معرفتان، وأمثلته وبيانه، معرمعرفة أن ليس المتبدأ متبدأ لتقدمه، بل لأنه مسند إليه، والخبر خبر لأنه مسند ثبت به، وبيان ذلك وأمثلته 192 - أسماء الأجناس تتنوع إذا وصفت، وهو أصل يجب إحكامه 193 - وأيضًا "المصادر" تتفرق بالصلة، كما تتفرق بالصفة، وكذلك الاسم المشتق أيضًا 195 - "الألف واللام" الدالة على الجنسية، لها مذهب في الخبر، غير مذهبا في المبتدأ، ووجوه هذا المعنى 199 - فصل في "الذي" خصوصًا، وفيه أسرار جمة ومجيء "الذي لوصف المعارف بالجمل 200 - "الذي" ننوصل بجملة معلومة للسامع و "الذي" يأتي بعدها جملة غير معلومة للسامع 202 - فصل، فروق في الحال، لها فضلُ تعلّقٍ بالبلاغة "الحال" ومجيئها جملة مع الواو تارة وغبير الواو تارة، وأمثلة ذلك 204 - جملة الحال والفعل مضارع مثبت غير منفي، لا تكاد تجيء بالواو 205 - مجيء جملة الحال فعلًا مضارعًا ومعه الواو 207 - مجيء المحال مضارعًا منفيًا يكثر في الكلام، وأمثله 208 - مجيء الحال مضارعًا منفيًا يكثر أيضًا ويحسن، وأمثلته 209 - الماضي يجيء حالًا بالواو وغير الواو مقرونًا مع "قد" 210 - "ليس"، مجيء جملتها حالًا، الأكثر الأشيع اقترانها بالواو، ومثال مجيئها بغير الواو فكان له حسن ومزية 210 - "ليس" مجيء جملتها حالًا، الأكثر الأشيع اقترانها بالواو، ومثال مجيئها بغير الواو فكان له حسن ومزية 211 - مجيء جملة الحال بغير "واو" من أجل حرف دخل عليها، فصارت لها مزية 212 - العلة في اختلاف الجمل الواقعة حالًا، في مجيئها بالواو وغير الواو، وأن المسلك إليها غامض، وأن الأصل المودي إلى تبين العلة هو "الإثبات"، لا يتم إلا بمعرفة أن الخبر نوعان: خبر جزء من الجملة، وخبر ليس بجزء منها. 213 - جملة الحال وامثتناعها من الواو، وتفسير ذلك وأمثلته 215 - دخول الواو على جملة الحال وبيانه وتفسيره 218 - القياس أن لا تَجيءَ جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ إلا مع الواو، وعلة ترك مجيء الواو في هذه الجمل 220 - الكلام في الظرف، وتأويل مجيئه خبرًا

222 - فصل، القول في الفصل والوصل - من أسرار البلاغة، عطف الجمل بعضها على بعض، أو ترك العطف - عطف المفرد، والجمل المعطوف بعضها على بعض على ضربين: الأول أن يكون للمعطوف عليها موضع في الإعراب، وحكمها حكم المفرد، الثاني: أن تَعطِفَ على الجملةِ العاريةِ الموضعِ من الإعراب، جملة أخرى، وهو موضع الإشكال في العطف بالواو دون غيرها، وبيان ذلك وتفسيره. 226 - عطف الجمل بالواو، ومكان الصلة بينهما، والقوانين في فصل الجمل ووصلها 227 - الصفة والتأكيد لا تحتاج إلى شيء يصلها بالموصوف أو المؤكد، وأمثلة ذلك 230 الإثبات بالحرفين "إن" و "إلا" 231 - الجملة يظهر فيها وجوب العطف، ثم يترك العطف لعارض بجعلها كالأجنبية، وأمثلة ذلك 233 - لا يعطف الخبر على الاستفهام بيان العطف على جواب الشرط 235 - ما يوجب الاستئاف وترك العطف، وأمثله 240 - ما جاء في التنزيلِ من لفظِ "قال"، مَفصولاً غيرَ معطوف 243 - فصل، في أن ترك العطفِ يكونُ إمَّا للاتصالِ إلى الغاية، أوِ الانفصال إلى الغايةِ، والعطفُ لما هو واسطةٌ بين الأمرين 244 - فصل دقيق، الجملة لا تعطف على ما يلهيا، ولكن تعطف على جملة بينها وبينها جملة أو جملتان 245 - بيان في العطف في الشرط والجزاء، وبيان ذلك 249 - فصول شتى في أمر "اللفظ" و "النظم"، فيها شحذ للبصيرة، وزيادة كشف عما فيها من السريرة فصل، غلط بعض من يتكلم في شأن "البلاغة"، لأنه ليس في جملة الخفايا أغرب مذهبًا في الغموض من مزايا البلاغة، وأن ما قاله العلماء في صفة "البلاغة" رموزٌ لا يَفْهمُها إلاَّ مَنْ هُوَ في مثل حالهم من لطف الطبع، ومثاله. 251 - كلام الجاحظ في شأن إعجاز القرآن، وما غلط فيه من قدم الشعر باملعنى، وأقل الاحتفال باللفظ 252 - معرفة الشعر وتمييزه، والأخبار في ذلك

254 - سبيل الكلام سبيل التصوير والصياغة 255 - قول الجاحظ: إن المعاني مطروحة في الطريق، وتفسير هذا وبيان صحته 258 - فصل، لا يكونُ لإِحدى العبارتين مزيةٌ عَلَى الأُخرى، حتى يكونَ لها في المعنى تأثيرٌ لا يكو لصاحبتها، ومرجع ذلك إلى أن يتوخى في نظم اللفظ وترتيبه 259 - فصل، وهو فن يرجع إلى هذا الكلام، وتفصيل البيان في العبارتين تظن أنهما يؤديان معنى واحدًا 262 - فصل، الكلام ضربان: أحدهما تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ، والآخر لا تصل إِلى الغرضِ بدلالة اللفظِ وحدَه، ولكنْ يدلُّكَ "اللفظ" بمعناه في اللغة، ثم تجد لهذا المعنى دلالة أخرى تصل بها إلى الغرض. وعلى هذا مدار "الكناية" و "الاستعارة" و "التمثيل"، فهذا هو "المعنى" و "معنى المعنى" 263 - بيان في شرح قول "المعنى" و "معنى المعنى"، وهو فصل جيد في شأن "النظم" 267 - فصل في استعمال "اللفظ"، والمراد به دلالة المعنى على المعنى 268 - قصور "اللفظ" عن أداء المعنى، ومثاله في النقص والتعقيد 272 - مثال على غموض المسلك إلى معاني "اللفظ"، واشتباهه على العلماء، وأمثلة ذلك 273 - "إن" تغنى غناء "الفاء في ربط الجملة بما قبلها 274 - "كاد" ومعناها، وبيان قولهم: "لم يكد يفعل" 276 - دقة هذه المعاني واشتباهها على العلماء 278 - "كل" وتفصيل القول فيها، في النفي والإثبات وأحكامهما، وأمثلة ذلك 286 - فصل في المزية تكون ويجب به االفضل، إذا احتملا لكلام فيظ اهره وجهًا آخر تنبو عنه النفس - مثاله قوله تعالى: {وجعلوا لله شركاء الجن}، وما في التقديم هنا من معنى شريف لا سبيل إليه مع التأخير 288 - القول في قولُه تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ}، وتنكير "حياة" 289 - تنكير "حياة" في قوله تعالى: {ولكن في القصاص حياة} 291 - فصل، الآفة العظمى في ترك البحث عن العلة التي توجب المزية في الكلام، ومضرة قولهم: "ما ترك الأول للآخر شيئًا"

293 - فصل، هذا فصل في "المجاز" لم نذكره فيما تقدم - بيان في "المجاز الحكمي"، وهو كنز من كنوز البلاغة، وأمثلته وبيانه 298 - ليس كل شيء يصلح للمجاز الحكمي بسهولة، ومثال ذلك 300 - ضرب مما طريق المجاز فيه الحكم، ومثاله 301 - تنبيه على فساد قول من جعل هذا المجاز من باب ما حُذِفَ منه المضافُ، وأقيمَ المضافُ إليه مقامه 304 - فصل في تفسير قولُه تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كان له قلب}، وخطأ من فسر قوله "قلب" أي "عقل"، وخطأ بعض من يتعاطى التفسير 306 - فصل، بيان دقيق في "الكناية"، وإثبات الصفة عن طريقها، وأمثلة ذلك 312 - كيف تختلف الكتابتان، فلا يكون إحداهما نظيرة للأخرى 315 - فصل في "إن" ومواقعها - خبر الكندي الفيلسوف مع ثعلب، وزعمه أن في كلام العرب حشوًا - دخول "إن" في الكلام وخصائصها 317 - محاسن دخول "إن" على ضمير الشأن، وأمثلته 319 - "إن" تربط الجملة بما قبلها 320 - "إن" تهيئ النكرة لأن يكون لها حكم المبتدإ في الحديث عنها 321 - "إن"، أثرها فيا لجملة، وأنها تغنى عن الخبر، وأمثلة ذلك 322 - بيان في شأن "إن" و "الفاء" التي يحتاج إليها إذا أسقطت "إن" 324 - مجيء "إن" في الجواب عن سؤال سائل، وأمثلته 325 - "إن" ومجيئها للتأكيد، وبيان ذلك 326 - "إن" ومجيئها للتهكم، وشرطها إذا كانت في جواب سائل 327 - "إن" تدخل للدلالة على أن ظنك الذي ظننت مردود 328 - القصر والاختصاص فصل في مسائل "إنما" قول أبي على الفارسي في "الشيرازيات" في "إنما"

329 - ليس كل كلام يصلحفيه "ما" و "إلا" يصلح فيه "إنما". 330 - "إنما" تجئ لخبر لا يجهله المخاطب، وتفسير ذلك 333 - "إن" و "إلا" وبيان المراد فيهما والفرق بينهما وين "إنا" 335 - فصل، هذا بيان آخر في "إنما" - تفسير: أن "لا" العاطفة، تنفي عن الثاني ما وجب للأول 336 - معاني "لا" العاطفة قائمة في "إنما" 337 - بياءن وامثلة فيما فيه "ما" و "إلا". 328 - بيان في قولُه تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} وتقديم اسمه سبحانه 329 - "ما" و "إلا"، وتقديم المفعول فيا لجملة وتأخيره، وأن الاختصاصَ مع "إلاَّ" يقعُ في الذي تؤخِّرُهُ 340 - العود إلى القول في "إنما" وما يقع فيه الاختصاص بعدها 344 - الاختصاص يقع في الذي بعد "إلا" من فاعل أو مفعول، أو جار ومجرور يكون بدل أحد المفعولين 345 - حكم المبتدأ والخبر إذا جاءنا بعد "إنما" 346 - عود إلى الاختصاص، إذا كان بالحرفين "ما" و "إلا" 348 - بيان آخر في معنى "إنما" في الجملة، في "ما" و "إلا"، وأن حكم "غير" حكم "إلا" 350 - فصل، في نكتة تتصل بالكلام الذي تضعه "بما" و "إلا" 351 - فصل زيادة بيان في "إنما"، وهو فصل طويل متشعب فيه غموض 353 - ما لا يحسن فيه العطف "بلا" 354 - بيان في انضمام "ما" إلى "إن" في "إنما" وقول النحاة: "ما"كافة - "إنما" إذا جاءت للتعريض بأمر في مقتضى الكلام، ومثاله في الشعر 359 - فصل وبيان، وإزالة شبهة في شأن "النظم" و "الترتيب"، وهو "الحكاية" 362 - فصل، بيان الجهة التي يختص منها الشعر بقائله، وهي "النظم" و "الترتيب" وتوخي معاني النحو - لا يكون "ترتيب" حتى يكون قصد إلى صورة وصفة

365 - فصل، عود إلى مسألة "اللفظ" و "المعنى"، وما يعرض فيه من الفساد 367 - التجوز في ذكر "اللفظ"، وأن المراد به "المعنى"، وإزالة شبهة في شأن "المجاز" 368 - بيان مهم في معنى "جعلته أسدًا"، ونحوه، وتفسير "جعل" - بيان في قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عباد الرحمن إناثًا} فصل، تمام القول في "النظم"، وأنه توخي معاني النحو، والدليل على ذلك 373 - الإشكال في معرفتين هما مبتدأ وخبر، وفصل الإشكال بالممعنى 374 - بيان السبب في تعدد أوجه تفسير الكلام 375 - مثال في تفسير قوله تعالى: {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن} - مثال في تفسير قوله تعالى: "وقالت اليهود عزيرُ ابن الله" في قراءة من قرأ بغير تنوين 379 - مثال آخر في بيان قولُه تعالى: {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ}. 380 - حذف الموصوف بالعدد شائع في الكلام، وتمام القول في الآية السالفة 385 - تحرير القول في إعجاز القرآن، وفي "الفصاحة" و "البلاغة" - بيان في معنى "التحدي"، وأي شيء طولب العرب أن يأتوا بمثله. وهو مهم 388 - أي شيء بهر العقول من القرآن، وكلام الوليد بن المغيرة، وابن مسعود، والجاحظ، في صفة القرآن 390 - الحجة على إبطال "الصرفة"، وهو مقالة المعتزلة 391 - "النظم" و "الاستعارة" هما مناط الإعجاز 393 - "الاستعارة" و "الكناية" و "التمثيل" من مقتضيات "النظم" - خطأ المعتزلة في ظنهم أن المزية في "اللفظ"، واضطرابهم في ذلك 395 - رد قول القاضي عبد الجبار: "إن المعاني لا تتزايد، إنما تتزايد الألفاظ" 397 - "غريب اللغة" ليس له مكان في الإعجاز 399 - أصل فساد مقالة المعتزلة، هو ظنهم أو أوصاف "اللفظ" أوصاف له في نفسه 400 - قول عبد القاهر "إن الفصاحة تكون في المعنى"، ورد شبهة المعتزلة وغيرهم في فهم كلامه 402 - "فصاحة اللفظ" لا تكون مقطوعة من الكلام الذي هي فيه، بل موصولة بغيرهما مما يليها

404 - القول في قول صلى الله عليه وسلم: "مات حتف أنفه"ز 405 - بيان آخر في أن "النظم" هـ9وتوخي معاني النحو 407 - فصل، وهو فَنٌّ من الاستدْلال لطيفٌ، على بُطلان أن تكون "الفصاحةُ" صفةً لِلَّفْظِ من حيثُ هو "لفظ" 410 - بيان في أن "الفكر" لا يتعلق بمعاني الكلم مجردة من معاني النحو 412 - "نظم الكلام"، وتوخي معاني، يسبك الكلام سبكًا واحدًا 415 - آفة الذين لهجوا بأمر "اللفظ" من المعتزلة، وباين فساد أقوالهم 416 - فكر الإنسان، هل هو فكر في الألفاظ وحدها، أم هو فكر في الألفاظ والمعاني معًا؟ 417 - كشف وهم في مسألة ترتيب الألفاظ فيا لنفس والسمع 418 - رد شبهة للمعتزلة في "النظم"، وقولهم إن البدوي لم يمسع بالنحو قط، وأن الصحابة لا يعرفون ألفاظ المتكلمين 421 - فصل، آفة وشبهة في مسألة التعبير عن المعنى بلفظين، أحدهما فصيح والاخر غير فصيح، وهذه شبهة للمعتزلة، ورد هذه الشبهة 424 - "اتشبيه"، يكشف هذه الشبهة 425 - شبهة المعتزلة في قولهم: "إن التفسير للبيت من الشعر مثلًا يجب أن يكون كالمفسر، ورد ذلك 429 - الكلام الفصيح قسمان: قسم مزينه في "اللفظ"، وقسم مزيته في "النظم" 430 - القسم الأول، "الكناية" و "الاستعارة" و "التمثيل على حد الاستعارة" 431 - انلظر في "الكناية" و "النظر في "الاستعارة" 432 - "الاستعارة"، يراد بها المبالغة، لانقل اللفظ عما وضع له في اللغة 435 - أمثلة على أن "النقل" لا يتصور في بعض "الاستعارة" 437 - تحقيق في معنى "الاستعارة" وتفسير معنى "جعل" في الكلام وفي القرآن 439 - تعرف "الاستعارة" من طريق المعقول دون "اللفظ"، وكذلك "الكناية" 442 - "الفصاحة" وصف للكلام بمعناه لا بلفظه مجردًا 443 - كشف الغلط في "فصاحة الكلام"، و "التفسير" و "المفسر" 446 - الوجوه التي يكون بها للكلام مزية

450 - إذا ظهر التشبيه في "الاستعارة"، قبحت 451 - القسم الثاني، وهو الذي تكون فصاحته في "النظم" 454 - الرد على المعتزلة في مسألة "اللفظ" 455 - كلام العلماء في "الفصاحة"، أكثره كالرموز والتعريض دون التصريح 456 - بيان معان في وصف "اللفظ"، كقولهم: "لفظ متمكن غير قلق" 458 - مسألة "اللفظ" وغلبتها على المعتزلة وغيرهم 460 - "الاستعارة" تكون في معنى "اللفظ" 462 - "المجاز" كالاستعارة، إلا أنه أعم 463 - القوف في "الإيجاز" 464 - الرأي الفاسد وخطره إذا قاله عالم له صبيت ومنزلة 466 - الرد على المعتزلة في مسألة "اللفظ"، وبيان تقصيرهم 467 - تعويل المعتزلة على "نسق الألفاظ" في شأن الفصاحة، ثم "الاحتداء" و "الابتداء" 468 - "الاحتذاء" و "الأسلوب" 472 - فصل، هذا تقريريصلح لأن يحفظ لملناظرة مناقشة "الاحتذاء" و "الابتداء" و "النسق" في إعجاز القرآن 474 - سهولة "اللفظ" وخفته في شأن إعجاز القرآن 477 - خاتمة كتاب "دلائل الإعجاز"، وتمام نسخة أسعد أفندي 479 - "رسائل وتعليقات"، كتبها عبد القاهر الجرجاني 481 - 1 إزالة الشبهة في جعل الفصاحة والبلاغة للألفاظ - باين مهم في مسألة "اللفظ" و "المعنى" 484 - أمثلة على ما تفعله صنعة الشارعين في الصورة، والمعنى واحد 489 - الشاعران يقولون في معنى واحد، وهو قسمان: 489 - القسم الأول: أحدهما غفل، والآخر مصور

500 - القسم الثاني: في البيتين جميعًا صنعة وتصوير 507 - تعقيب على هذين القسمين 508 - القوف في معنى "الصورة" و "التصوير" 511 - جملة من وصفهم العشر وعمله، وإدلالهم به 518 - غرضه من ذكر وصف الشعراء الشعر، وانه دليل على أن مزيته تدرك بالعقل لا بمذاقة الحروف 520 - بيان أن قولهم في "اللفظ"، يسقط "الكناية" و "الاستعارة" و "المجاز" و "الإيجاز" 522 - بيان آخر في شأن "اللفظ"، وفساد القول به. 525 - مقالة في الخبر والإسناد "النظم" هو توخي معاني النحو، وهو معدن البلاغة 526 - أصول يحتاج إلى معرفتها "الخبر" أصل في معاني الكلام في النفي والإثبات 528 - لابد للخبر من مخبر به، وهو الذي يوصف بالصدق والكذب وأن "الخبرَ" وجميعَ الكلامِ معانٍ ينشِئُها الإِنسانُ في نفسه 529 - بطلان دعوى أصحاب "اللفظ" في توهمهم أن "الخبر" صفة "للفظ" 533 - توهمهم أن "المفعول" زيادة في الفائدة، والاحتجاج لبطلان ذلك 537 - فصل، "الإثبات" معنى تكون به المزية في الكلام 539 - هذا ما نقل من مسودة عبد القاهر بخطه بعد وفاته رحمه الله -ألفاظ اللغة لم توضع إلا لضم بعضها إلى بعض، وبضمها تكون الفائدة، وهذا موضع "الخبر" و "الإسناد" 543 - "الخبر" وجميع معاني الكلام، معانٍ يُنْشئُها الإنسانُ في نفسِه 546 - بيان في "النظم"، ودخول الشبهة في أمره، وأن مراده إلى "الذوق" 549 - البلاء هو أن الإحساس بالمزية قليل في الناس 551 - خطأ خفي في "النظم"، قد لا تدركه إلا بعد دهر طويل

552 - خطأ خفي آخر في "النظم" 553 - خطأ آخر في اتباع تأويل بعض العلماء 557 - تمام كتاب "دلائل الإعجاز" في نسخة "حسين جلبي" 561 - فصول ملحقة بكتاب "دلائل الإعجاز" في نسخة "حسين جلبي" 1 مسألة يرجع فيها الكلام إلى "الإثبات" 563 - 2 فصل، في الإثبات 564 - 3 فصل، تعليق على ما قاله ابن جني في بيت للمتنبي 566 - 4 فصل، في بيان معنى: "هذا ينحت من صخر، وذاك يعرف من بحر" 567 - 5 مسألة، تعليق على كلام لأبي عبد الله النمري، في كتابه "معاني أبيات الحماسة" 568 - "هذا آخر ما وجد على سواد الشيخ من هذا الكتاب"، يعني "دلائل الإعجاز". 569 - 6 مسألة، في تفسير قولهم: "إن الفعل يدل على الزمان" 573 - "الرسالة الشافية"، لأبي بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني. وهذه الرسالة خارجة من كتابه "دلائل الإعجاز" 575 - جمل من القول في "إعجاز القرآن" - الأصل والقدوة في إعجاز القرآن هم العرب، ومن عداهم تبع لهم، والمتأخرون من الخطباء والبلغاء بعد زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وقول خالد بن صفوان، والجاحظ: أنهما لا يجاريان العرب الأول ولكن يحاكيانهم 577 - دلائل "أحوال" العرب و "أقوالهم"، حين نزل القرآن عليهم - دلائل الأحوال، الدالة على عجزهم حين تحدوا بالقرآن 581 - دلائل الأقوال، الدالة على عجزهم حين تحدوا بالقرآن 585 - الاحتجاج لدلالة هذه الأحوال والأقوال على إعجاز القرآن 590 - فصل في شبهة من قال: "جرت العادة بأن يبقى في الزمان من يفوت أهله حتى يسلموا له، وحتى لا يطمع أحد في مداناته"، والدليل على بطلان ذلك

592 - الأخبار الدالة على اختلاف الناس في أي الشعراء أشعر 595 - بيان في تقديم الشعراء وتفضيلهم من أي وجه يكون؟ 598 - الشرط فيما ينقض العادة "يعني المعجزة" أن يعم الأزمان كلها 600 - قول الملحدة أنه كان في المتأخرين من البلغاء من استطاع معارضة القرآن، فترك إظهاره خوفًا 602 - فصل، في فن آخر من السؤال وهو: من عادات الناس أن الواحد تواتيه العبارة في معنى، وتمتنع عليه في آخر، والقول فيمن غلب على معنى، فلم يبق لغيره مرام فيه 604 - ما جاء على هذا الوجه من الكلام المنثور 606 - إبطال الاحتجاج بمثل ذلك من إعجاز القرآن، وتفصيل القول في معنى "التحدي" 611 - فصل في الذي يلزم القائلين بالصرفة من المعتزلة في سياق آية التحدي ما يدل على فساد قولهم 623 - فصل، هو ختام الرسالة الشافية 625 - فصل، في قول من قال: "إنه يجوز أن يقدر الواحد من الناس بعد مضى وقت التحدي، على أن يأتي بما يشبه القرآن"، وهو قول أصحاب "الصرفة" 626 - فصل، هو ختام "الرسالة الشافية"، في أن نميز الكلام بعضه من بعض، لا تستطيع أن تفمه من شئت متى شئت - قال أبو فهر: تم الكتاب بحمد الله وتوفيقه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله عليه نبينا محمد وسلم تسليمًا كثيرًا.

§1/1