دلائل الإعجاز ت الأيوبي

الجرجاني، عبد القاهر

القسم الأول

القسم الأول مقدمة الكتاب: محطات الكتابة ومعطيات البحث: بقلم الدكتور ياسين الأيوبي أَنْ تُقْدم على تناول كتابٍ تراثي: قراءةً، وتشكيلاً، ودراسةً، وتَحْشيةً، أَمرٌ لا يخلو من الصعوبة والمكابدة. فكيف إذا كان الكتاب في صميم التراث البلاغي، ولوِاحدٍ من أعيانه، كتاب اتَّسم بكثير من العمق والرسوخ في علْمٍ هو الأَصعبُ، والأَصلُ في تأسيس الكلام ورصْفه وتنضيده، للارتقاء به إلى رتبة الخَلْق والإبداع؟ عَنيتُ: سيدَ الفكر البلاغي، وسادِنَ كعبته، الشيخ عبد القاهر الجرجاني، وكتابه الفرد: دلائل الإعجاز. فأنتَ إذن أمام عقبتين أُخريين، عليك اجتيازهما بما يشبه المغامرة، لصعوبة مسلكهما، ووعورة الآفاق التي تشكل الإطار العريض لهما. ولولا أَنني مَشُوقٌ إلى هذا التراث، منذ نعومة أظفاري، ومَعْنيٌّ به ومُعْنًى مُذْ توليتُ تدريس البلاغة والعروض في أروقة الجامعة، نحواً من ربع القرن، وإقدامي على وضع ثلاثة كتب في البلاغة وحرفة الكتابة، وعددٍ من البحوث والمقالات المنشورة في عدد من الدوريات المختصة .. لاستحال عليَّ ركوبُ هذه الموجة الصاخبة، تعصف حولها الرياح من كل حَدَبٍ وصوب. ومما ينبغي ذكره في هذا الصدد، التهيُّبُ المتجدد في كل مرة أُقبل فيها على وضع كتاب، أو كتابةِ بحثٍ في الميدان البلاغي، لأمرٍ يجب الاعتراف به، ألا وهو: صعوبة الإضافة إلى ما كتبه القدماء، ووثَّقوا به شروحهم ونظرياتهم، ولا سيما الشواهد الأدبية واللغوية الدالَّة. وها أنذا في الحال نفسها وأنا أسطر هذه المقدمة - الدراسة، لكتاب الجرجاني، الذي يحارُ المرءُ في المسائل التي ينبغي طرحها، والنقاط التي تستحق التوضيح والإنارة. - هل أَسْلكُ، في التقديم، سلوكَ معظم من قام بصنيع مماثل، من ذكر الدواعي، والظروف، والغايات التي اقتضت الكتابة والتعليق ... ؟ - أم أَقفُ وقفة الدارس المسؤول أمام الكتاب، أَعْرض لأهمْ مسائله وموضوعاته، وأُولي المنهج والأسلوب ما يليق بهما من التأمل، وأحاول تقديم ما توصل إليه المؤلّف؟

لم تطل حيرتي، بل وجدتُني أختار المنحى الثاني. ذاك أن مقدّمة لا تأخذ بنظر الاعتبار، التطرق إلى لُبّ الموضوع والطواف في جنباته، تبقى قاصرةً أمام عظمة العطاء ودويِّه لكلا الكتاب ومؤلفه ... وإذا بي أمام عناوين ومحطاتٍ من الكتابة، لا بد منها للعبور إلى الضفَّة الأخرى، لعلي أَرشفُ بعضَ قطرات السموِّ والمشاركة، ولو في حدود الملامسة واعتمار العَتَبات!! أنا والكتاب صدر كتاب دلائل الإعجاز في غير طبعة وغير شرح. لكنَّ أفضل الطبعات والشروح هي تلك التي صدرت في مصر سنة 1321 هـ ثم أعيد طبعها ونشرها سنة 1331 هـ / 1912م مصحَّحةً على التوالي من الإمام الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية، والمحدِّث الشيخ محمد محمود التركزي الشنقيطي، ثم من الشيخ محمد رشيد رضا الذي علَّق حواشي الكتاب وصحح طبعته. وقد اعتمدتُ هذه الطبعة على شيء من المقابلة والمراجعة مع طبعة أخرى صدرت في دمشق سنة 1983 بتحقيق الدكتورين الشقيقين: محمد رضوان الداية وفايز الداية ... عُنِيت الطبعةُ المصرية بدقة النقل وأمانته وتصحيح الكتاب بعد مقابلة النسخ التي كانت بحوزة الإمام محمد عبده الذي استحضر نسختين له من المدينة المنورة ومن بغداد؛ وذُيِّلتْ صفحاته بما تحصَّل للإمام من حواشٍ وشروح أثناء تدريسه الكتاب على طلبة جامعة الأزهر. وبذلك يكون قد تحقق لهذا الكتاب القدرُ الأوفر لصحَّة مادته، المتوفرة "بعلاَّمتي المعقول والمنقول" الشيخين عبده والشنقيطي، ثم التدريس الذي يمثل السبيل الأفضل للتصحيح والتصويب والتنقيح، يضاف إلى ذلك جهود الشيخ رضا الذي سهر على الكتاب وأسهم كل الإسهام في إخراجه على الصورة التي وصلتنا. إلاَّ أنَّ هذا الجهد وذلكما العناية والإشراف، حفلت بكثير من النقص الذي اعتور معظم الكتب الصادرة في تلك المرحلة، والمتمثل بما يلي: - خلوُّ النص من التشكيل الإعرابي إلاَّ فيما ندر، ما عدا قسم يسير من الآيات القرآنية والأبيات الشعرية، الأمر الذي يربك القارئ ويعيق إفادته.

- اقتصار الحواشي على بعض الشروح اللغوية والإعرابية، وتسمية أصحاب الشواهد الشعرية بنسبة ضئيلة، لا تغني عن المتابعة والاستقصاء المؤدِّيَيْن إلى معرفة المصدر الشعري والقصيدة والمناسبة. الخ ... - خلوّ الكتاب من كل الفهارس على أنواعها، والاكتفاء بفهرس الموضوعات. - خلو المقدمات التي كتبها الشيخ رشيد رضا، وناشر الطبعة الثانية من تناول الكتاب وإخضاعه لشيء من الدراسة والتأمل، باستثناء فقرة كتبها الشيخ رضا في "مكانة الكتاب" التي حدَّد فيها الخطوط العريضة لأهمية الكتاب ودور مؤلفه في التصدي لعلماء عصره، في سطور قليلة لا تروي غليلاً. - خلوّ حرف الياء من التنقيط، أنَّى وُجدت، فيما عدا التي تَرد في وسط الكلمة. وغير ذلك من أمور، جهدتُ في تلافيها جميعاً، وسدِّ كل ثغرة وإخراج الكتاب بما يليق به وبصاحبه، فعمدتُ إلى ما يلي: * ضبط النص ضبطاً كاملاً حتى الذي كان موضع تردد وإشكال، مفضِّلاً خطأً محتملاً على قولِ: بجهل القراءة. إذ لا قيمة لتحقيق أي أثر تراثي إنْ لم يقترن بتشكيلٍ دقيقٍ، لأنَّ من شأن ذلك، الوقوفَ على دقائق الأفكار ومسارها الإعرابي الصحيح، بحيث لو وُضِعتْ ضمَّةٌ مكان فتحةٍ، أو حركةٌ ما مكان تنوينٍ، أو أهملت علاماتُ الوقف - وهي من مقتضيات التشكيل - تغيَّر المعنى، وضاعت الفائدة. من هنا كانت العناية الشديدة، والجهد الكبير لوضع العلامات، وحركات الإعراب، مع الاعتراف بأن ما قمتُ به يظل بحاجة إلى مراجعةٍ وتدقيق. فقد يعتورني الخطأ في جانبٍ أو آخر، لصعوبة المنحى التأليفي الذي اختطه الجرجاني، ولإطالة الجمل والعبارات، وتداخُل أغراضٍ شتى داخل الغرض الرئيسي الذي يصاغ الكلام لأجله. * تخريج الآيات القرآنية، وربط الجزء بالكل وشرح ما ينبغي شرحه.

فقد عُنيتُ بهذا الجانب، لأن الكتاب قائم في الأصل، وفي عمق التصور وكتابة النظرية البلاغية، على النظم القرآني. الأمر الذي اقتضى وضع الشاهد أو المقبوس القرآني في سياق الآية أو السورة، ليفهم القارئ موقع هذا الشاهد، ويدرك حقيقة الإعجاز البلاغي في النص القرآني. إذ لا يكفي أن نعيِّن موقع الشاهد من الآية أو السورة - فقد اضطلع الكومبيوتر عنَّا بكل ذلك - بل لا بد من استجلاء ما هو أبعد وأعملُ، لتحقيق الفائدة البلاغية والفكرية التاريخية المرجوة. * تخريج الشواهد الشعرية، وربطها بمصادرها في القصيدة والديوان أو في الكتب الأمهات، لفسح المجال أمام القارئ بمتابعة القراءة والاستمتاع والبحث والإفادة، وهي مهمة عسيرة ولا سيما مع الأبيات غير المنسوبة التي وُضعتْ لأجلها كتب جامعة، وفي مقدمها "معجم شواهد العربية" الذي أعده المحقق العلامة عبد السلام محمد هارون. ولكنه لم يحط بكل الأبيات الشاردة في بطون الكتب والمصنفات القديمة ... فكان عليَّ البحث في مصادر أخرى، والحصيلة هزيلة في الغالب ... وفي تخريج الأبيات، والشطور الشعرية، لم أَسْعَ إلى حَشْد كل المصادر أو المصنفات التي عنيتْ بإثبات الشاهد أو استخدامه، بل اكتفيتُ بالقليل منها، لأنها تُرشد إلى بعضها البعض. كذلك فعلتُ في ترجمة الشعراء والكتَّاب، مكتفياً بواحد أو أكثر من كتب التراجم المعروفة، ومعظمها يضع في الحاشية قائمة بيبليوغرافية لترجمة العلم المدروس، وكان كتابي "معجم الشعراء في لسان العرب" أحد المراجع الحديثة التي اعتمدتها لهذا الغرض. * وضع الفهارس الفنيَّة على اختلافها، استكمالاً للفائدة وحرصاً على تبويب كل شيء في خانته ... وهو جهد بالغ وحجم كبير من الكلام يكاد يضاهي الجهود الأخرى. وما أحوجنا إلى مثل هذه الفهارس في الكتب والإصدارات التي تُخرجها لنا المطابع ودور النشر التي تبخل على الكتاب وقارئه بالفهارس اللازمة، بحجة الكلفة المادية! أما النَّسق الذي اتَّبعتُه في إعداد هذا الكتاب فقد راعيتُ فيه الأمور الآتية:

1 - أَبقيتُ على حواشي الطبعة المصرية سواءٌ ما كان منها للإمام محمد عبده أم للشارح المصحّح الشيخ رشيد رضا، حفاظاً على أمانة السلف الذين سبقونا إلى درس هذا الكتاب وتناوله، وتوضيح ما أَشكل عليهم، ولإتاحة الفرصة أمام القارئ، الاطلاعَ على النَّسق والمستوى اللذين كان عليهما علماؤنا، والقدر الذي أسهموا فيه لتقديم تراثنا ونشره لأجيال عصرهم ... وليُعْرَف من بعدُ، ما قمتُ به من شروح وتوضيحات، وما أضفْتُه من تخريج وتعريف، ناهيك بالضبط التام لنص المتن، ولحواشي الشارحين، التي نادراً ما ضُبط الكلامُ فيها. وقد أغفلتُ بعض الحواشي التي لم أجد لها فائدة تذكر، كالاختلاف في الرواية، أو في ورود المفردات والشروح اللغوية. وكنتُ أضيف إليها بعض التوضيحات والشروح، واضعاً الزيادات بين معقوفتين. 2 - استحدثتُ بعض العناوين الداخلية، وجَعلْتُها فقراتٍ مستقلَّة لأهميتها. 3 - كما أنزلتُ جميع العناوين الموضوعة في أعلى الصفحات، إلى مواضعها داخل الصفحات، لترتيب الكلام وفقاً لأغراضه التي حدَّدها الجرجاني. 4 - ميَّزتُ بين حواشي الشارحَيْن وحواشيَّ؛ فجعلتُ "النجوم" للأولى، و "الأرقام" للثانية. 5 - سمَّيتُ بحور الأبيات الشعرية، وجعلتها في مطلع كل واحد منها. 6 - أما نَسق الفهارس، فسوف نبيِّنُه في رأس كل فهرس على حدة. وأما الطبعة الدمشقية التي عُني بها محققان جليلان، فكنتُ أعود إليها من حين لآخر في بعض حالات الإشكال الإعرابي، وربما للاهتداء إلى مَنْ عزَّتْ عليَّ المصادر في معرفة صاحب الشاهد الشعري؛ فإذا بها لم تُعنَ بتشكيل النص إلاَّ في حدودٍ ضيقة، قلَّما أفدتُ منها في هذا الجانب ... وإذا المصادر وأصحاب الشواهد الشعرية هي ذاتها التي عيَّنها عبد السلام محمد هارون في سِفره النفيس "معجم شواهد العربية" إلا فيما ندر، باستثناء ما وُفِّقتْ إليه من دواوين ومجاميع شعرية لم تتوافر لديَّ. ومع ذلك فلم أعتمد هذه الدواوين احتراماً لجهدها وتحصيلها، وللتثبُّت الشخصي من صحتها؛ فكنتُ أحيل إلى المصادر والمصنفات العامة ... حتى إذا لم أجد ضالتي أوضحتُ ذلك في موضعه ...

ذلك هو دأبي ومنهجي: احترام جهود الآخرين ونَسْبها إليهم، واحترام الأمانة العلمية واعتماد الجرأة في قول الحقيقة. فإنَّ "لا أدري" لَمِنَ العلم. بقيتْ كلمة يجب أن تقال في هذه الطبعة، ألا وهي أنْ ليس فيها من التحقيق زيادةً عمَّا فعلتُه إلاَّ بعضُ التوضيحات الهامشيَّة (نسبة إلى الهوامش) لفروق طفيفة بين هذه النسخة وتلك، ولكنها، لم تَحِد عن نص طبعة الشيخَيْن قيد أنملة، في حدود ملاحظتي ومتابعتي، فيما لا يكاد يُلحظ. إلاَّ إذا كانتِ النّسخ التي بحوزة المحققين الكريمين هي عينها التي اعتمدها الإمام محمد عبده. حتى الخطأ القرآني الذي وقعت فيه طبعة الشيخين، في استخدام الآية القرآنية (130) من سورة الشعراء الواردة في (الدلائل) ص 411، قد اعتمدته الطبعة الدمشقية بحرفيته (ص 359) - والخطأ القرآني هو: {وإذ بطَشْتُم بَطَشْتُم جبَّارين} [الشعراء: 130] والصحيح: {وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: 130] الكتاب وجهود الشارحَيْن أوضح الشيخ رشيد رضا، في مستهل تقديمه للكتاب، حدود صنيعة وطبيعتَه بالمقارنة والمقابلة مع صنيع الإمام محمد عبده، فأكد أنه - عند هجرته إلى مصر لإنشاء مجلة "المنار" - وجد الإمام عبده مشتغلاً بتصحيح كتاب دلائل الإعجاز، وقد أشرك معه في ذلك، إمامَ اللغة في عصره الشيخ محمد الشنقيطي ... وأنّ دوره اقتصر على "تصحيح الكتاب المطبوع وتفسير بعض الكلمات الغريبة فيه وفي شواهده بالاختصار" (ص: ح). وقد وفى الشيخ رضا بما رسمه لنفسه وطُلب إليه؛ فقام بالتصحيح، وحافظَ على حواشي الإمام بأمانة شديدة ... ولكنه لم يتردد في تسجيل بعض الملاحظات على حواشي الإمام كلما وجد ذلك مناسباً وضرورياً. لكنَّ هذه الملاحظات كانت تالية لحواشي الإمام. وكانت له حصة يسيرة من النقد والتعليق الذي يصل حد المخالفة والتصويب لما أبداه الإمام في حواشي نسخته، علماً بأنه لم يصرِّح بذلك ولم يقصد إليه، بل لم ير فيه إلاَّ الاستدراك أو التوضيح لِمَا يحتاج إليه القارئ:

"ثم إِنَّنا زدْنا على ضوابط الأستاذ وهوامشه ما خطر لنا في أثناء تصحيح الطبع أنَّ القارئ يحتاج إليه، وقليل من ذلك يدخل في باب الاستدارك على شيخنا رحمه الله تعالى أو التوضيح لما كتبه". وترجع حواشي الإمام بمعظمها إلى معاجم اللغة وشروح القصائد في الدواوين والأمهات ولا سيما معجما "القاموس المحيط" و "لسان العرب"، كما بيَّنتُ غير مرة في شروحي وتعليقاتي. وما تبقى فهو آراء ولفتات نحوية أو ذاتية، لشرح هذا الاستعمال، أو هذه النكتة، أو تلك المفردة الغريبة. بينما جادتْ حواشي السيد رضا واتَّسعت لتشمل شرح الشواهد الشعرية، وتُتِمَّ بعضها، ولا سيما في القسم الأخير من الكتاب. "وجُملة الأمر" - كما يقول شيخنا الجرجاني في كثير من خلاصاته - أنَّ ما طُرِّز به الكتاب من حواشٍ لكلا العلاَّمتين، يُكمل بعضه بعضاً، ويشكل إضافة عضوية يصعب تجزئتها، لئن تفاوتتْ فيما بينها في المنهجية والتوضيح، أو في الإعراب النحوي والبياني واللغوي، فقد اتَّسقتْ وائتلفتْ، لتضيء الكثير من العتمات وتفْتح الكثير من المغالق، التي اكتنفت الكتاب.

موضوعات الكتاب

موضوعات الكتاب الناظر في موضوعات "دلائل الإعجاز" التي ضمَّها فهرستُه المنشور في الصفحات الأولى منه، ينتابه شعور بأنَّ صاحب الكتاب، تفجرتْ عنده ينابيع المعرفة، فسلكتْ به شتى الدرس البلاغي الذي راح يلقيه على قرَّاء زمانه، من طلبة وعلماء تفاوتتْ مداركُهم وقدراتهم بين المتقبل المتذوق، والدّعيِّ الغبيِّ، فأفرغَ جُلَّ ما توصل إليه من حقائق ومعلومات صاغها بمنطق المحاضر الموسوعي، لا يسعه الانضواء في موضوع واحد، بل يلتفت إلى هذا الجانب وذاك، وإلى هذا الباب، وهذا الميدان، من أبواب الفكر البلاغي وميادينه المترامية الأطراف. فعلى الرغم من كون الكتاب قد وضع لتأسيس علم المعاني، وما يقتضيه من مسائل محددة توافق عليها العلماء والدارسون، فإننا أمام سلسلة أو خليط من الموضوعات التي تداخلت وتفرعتْ، أو اتَّسقتْ وافترقت - ولا نقول: ائتلفتْ واختلفت - لأنها في تَضامِّها، تؤلِّف الأفق البلاغي الواسع لما سمَّاه: علم المعاني، مفتوحاً على علمي البيان والبديع اللذين لم يستقلاَّ عن العلم الأول، إلاَّ في نطاق الاصطلاح والتحديد المتأخرين مع السكاكيِّ أو القزويني، ومَنْ تبعهما وعاصرهما من علماء البلاغة. وإن أردتُ محاسبة المؤلف بالمنظور العلمي المختص، وقعتُ على نسبة ملحوظةٍ من الخروج على الموضوع بسبب عدد غير يسير من الموضوعات التي طرحها وعالجها داخل موضوعات الأبواب والفصول المختصة، وأعني بها تلك التي ترتبط مباشرة بعلم المعاني، كما يتبيَّن لمن تابع معي أهم موضوعات الكتاب وفقاً لتسلسلها، وهي على التوالي: * الكلام في الشعر: روايته وحفظه وذمُّ علمه. * الكلام في النحو. * كلام تمهيدي في الفصاحة والبلاغة. * كلام في المجاز وفروعه ووجوهه. * نظم الكلام وعلاقته بالنحو والبلاغة، وما يستلزم من معرفة التقديم والتأخير والإسناد والاستفهام والخبر والنكرة. * موضوعة الحذف: مواضعة وأنواعه، بلاغته. * كلام ثانٍ في الخبر بين التعريف والتنكير، والإثبات والنفي. * كلام في الحال ودور واو الحال. * الفصل والوصل * باب اللفظ والنظم، متداخل فيه: المجازُ الحُكْمي، والكناية والتعريض. * القصر والاختصاص: إنما، ما وإلاَّ. * فصول أخرى في اللفظ والنظم، متداخل فيه: الحقيقة والمجاز. * القول المبسَّط والموسَّع في الإعجاز والفصاحة والبلاغة. * حقيقة الإعجاز ومعالمه ووجوهه. متداخل فيه: غريب الكلام، وفساد الذوق، الفصاحة والنحو، الاستعارة: وجوهها وأنواعها وسمُّو المعنى فيها. * الاحتذاء والأخذ والسرقة في الشعر. * الموازنة بين المعنى المتحدِ في اللفظِ المتعدد (في شعر البلغاء). * السجع والتجنيس المتكلَّفان وذمُّهما. * متعلَّقات الفعل ومتغيرات معاني الجمل. * إدراك البلاغة وتحقيقها في الذوق والإحساس الروحاني.

كانت هذه أبرز موضوعات الكتاب، صغتُها بكثير من الجمع والتلخيص، إن دلَّت على شيء، فعلى المنحى الدوراني المتشعب حول نقطة مركزية هي إعجاز النظم وما يتعلق به أو يؤدي إليه من دروب وقنواتٍ، كل واحدة منها تمثل مشروع دائرة شبه مستقلة، وما ذاك إلاّ لغنى العناصر التي يتكون منها الإعجاز البلاغي الذي يحيط بالنظم القرآني وكلِّ نظم آخر يقتدي به أو يقتبس منه، ويسعى لبلوغ ما بلغه من مراتب السمو في الإبداع الفني ... ولا يسعني ههنا إلاَّ تأكيد ما قلْتُه من قبل بموسوعية الطرح والمعالجة، وبالنظرة شبه الشمولية التي يتطلبها الدرس البلاغي، ويُفْضي إليها؛ وبخاصة علم المعاني الذي يفترض الإلمام بإحكام، بمختلف علوم اللغة وقواعدها. ذاك أنه الأصل والقاعدة وما سمِّي بمقتضى الحال. يؤكد ذلك تعريف السكاكي له بما يشبه إحاطة السِّوار بالمعصم، قائلاً: "هو تتبعُ خواص تراكيب الكلام في الإفادة، وما يتصل بها من الاستحسان وغيره، ليُحترزَ بالوقوف عليها عن الخطأ في تطبيق الكلام على ما يَقتضي الحال ذكره". ولو تأملنا معاني المفردات التي يتألف منها هذا التعريف، لظهر لنا المدى البعيد الذي يبلغه هذا العلم والمراحل التي ينبغي اجتيازها لتحقيق مضمونه ... وأكتفي بالشطر الأول من التعريف: "تتبُّع خواص تراكيب الكلام في الإفادة" وأترك القارئ يُنعم النظر وراء كل مفردة على حدة، فيدرك السُّبل التي عليه سلوكها أو الإحاطة بها، ولا سيما (تراكيب الكلام) التي لو فتحنا نافذة للتعرف إلى مضمونها وشرائحها التي تتناول الجمل والمفردات وأسس تشكيلها وتركيبها وتأليفها لتصبح نسيجاً دارئاً ما دونه من معان ومقاصد ... لأطَلْنا وأفَضْنا. وقِسْ على ذلكِ، كلآ من الإفادة، والاستحسان والاحتراز من الخطأ، ومقتضى الحال .. أفلا يتطلب منا ذلك: الطوافَ المتأني حول مجمل عناصر الكلام ووجوهه وسُننه وسبل تحسينه، وإضفاء البهجة والحياة فيمن حوله؟ ... المنهج والطريقة

تندرج كتابة عبد القاهر الجرجاني البلاغية بعامة، وكتاب دلائل الإعجاز بخاصة، تحت عارضة العقل والمنطق، لأن كل شيء عنده قائم على إبداء الرأي وبسطة والتمثيل له، أو العكس، معتمداً القياس والاستنتاج، محكِّماً عقله وتفكيره، معتمداً المبادئ المعرفية التي يحكم بها البلغاء الحقيقيون، وما يحصله من عيون الشواهد الأدبية، يسبقها أو يواكبها الشاهد القرآني المعجز. فكان أحياناً مستقرئاً، يبحث في التفاصيل والجزئيات وصولا إلى خلاصة الرأي وزبدة النظرية ... وأحياناً مستنتجاً، يطرح الرأي، وينصب ميزان الحكم ثم يعرض مفاهيمه وشروحه في بوتقة العقلي المستمد من ثقافته الفكرية التأملية ومقاربته الأشياء، فضلاً عن المنطق اليوناني الأرسطي الذي تشرَّبتْ به طائفة كبيرة من علماء عصره؛ ولكنه خفَّف من جفاء المنطق ورصانة العقل بما اكتسبه من لطافة الذوق ورهافة الإحساس. لنقرأْ له دفاعه عن نظريته في أن الفصاحة لا تكون للفظ إلاَّ باعتبار معناه: "إن القارئ إذا قرأ قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيَبْاً} [مريم: 4] فإنه لا يَجد الفصاحة التي تجدها إلاَّ من بعد أن ينتهي الكلام إلى آخره؛ فلو كانت الفصاحة صفةً للفظ "اشتعل" لكان ينبغي أن يُحسَّها القارئ فيه حال نطقه به، فمحالٌ أن تكون للشيء صفةٌ، ثم لا يصح العلمُ بتلك الصفة إلاَّ من بعد عدَمِه. ومن ذا رأى صفةً يَعْرى موصوفُها عنها في حال وجوده، حتى إذا عُدِمَ صارت موجودةٌ فيه؟ وهل سمع السامعون في قديم الدهر وحديثه، بصفةٍ شرطُ حصولها لموصوفها أَنْ يُعدَم الموصوفُ؟ " لا أغالي إذا قلت إِنَّ كل رأي صدر عن الجرجاني، وكل نظرية طرحها أو توصَّل إليها، إنما سلكَ في سبيلهما هذا المسلكَ القياسي الاستدلالي الاستقرائي،، في إطار من التحليل المنطقي والتفكير العقلاني ... بغض النظر عما يَؤُول إليه أو يستنتجه أو يؤسِّس عليه. ذاك مجال آخر يمكن فيه مناقشتُه وإخضاع ما يقول لميزان القناعة أو الرفض. إقرأ معي - إنْ شئتَ - مثالاً آخر؛ تحليله لبيت العباس ابن الأحنف، في بثَّ شجونه ومعاناته في إثر الحبيب: سأَطلبُ بُعْد الدارِ عنكُمْ لِتَقْربوا ... وتَسْكُبُ عينايَ الدموعَ لِتَجْمُدا

وافقَ الجرجانيُّ الشاعرَ في الشطر الأول، بوجوب سَكْب الدمع مع الفراق، لكنه غالطه في مسألة الجمود قائلاً: "إذا قال "لتجمدا" فكأنه قال: أحزنُ اليوم لئلاَّ أحزنَ غداً، وتبكي عيناي جهدهما لئلاَّ تبكيا أبداً؛ وغلط فيما ظنَّ؛ وذاك أنَّ الجمود هو أن لا تبكي العينُ، مع أنَّ الحال حالُ بكاء، ومع أنَّ العين يراد منها أن تبكي ويُشتكى من أن لا تبكي، ولذلك لا نرى أحداً يذكر عينه بالجمود إلاَّ وهو يشكوها ويذمُّها وينسبها إلى البخل، ويعدُّ امتناعها من البكاء تَرْكاَ لمعونة صاحبها على ما به من الهم .. ( ... ) وجملة الأمر أَنَّا لا نعلم أحداً جعل جمودَ العين دليلَ سرور وأمارةَ غبطة، وكنايةً عن أنَّ الحال حال فرح. فهذا مثالٌ فيما هو بالضدِّ مما شرَطوا من أن لا يكون لفظُه أسبقَ إلى سمعك، من معناه إلى قلبك، لأنك ترى اللفظ يصل إلى سمعك وتحتاج إلى أنْ تَخُبَّ وتُوضِعَ في طلب المعنى". ربما لا أوافق شيخ البلغاء على نظرته التحليلية لجمود العينين ههنا - ذاكَ أن حالة الجمود والصورة التي رسمها ابن الأحنف، كامنتان في وجدان الشاعر ومخيِّلته، إذ قد يكون قصد إقامة معادلة متوازية بين البعد والقرب من جهة، والانسكاب والجمود من جهة ثانية، وأن الجمود حالة شخوصٍ واشتدادِ نظر تسمَّرَ إلى الأفق البعيد، حيث طيفُ الحبيب، أو إلى ما حوله ... لكنَّ أحداً لا يسعه الجدالُ في المنطق التحليلي الاستنتاجي الآسر الذي بسطه الشيخ عبد القاهر بكثير من دقة المُعَاينة وإحكام المُسَاءلة ... إنَّ العقل عنده سيد الرقابة والتوجيه والحكم في العلاقات والاختيار والتنسيق، وترتيب المعاني وما يناسبها من الألفاظ. كيفما التفتَّ إلى سياق نظريته البلاغية وصياغة أصولها، وجدتَ العقلَ رأساً في ذلك، لا يتحول عن مساره أو يَخْبو له ضوءٌ لدى أية مناقشة أو محاجَّة. فهو لا يفتأ يذكر العقلاء في كل خلاصة أو استنتاج يعتمدهما في طرح آرائه، وبسط الأدلة والشواهد: حتى الفصاحةُ، عنده، لا تُدرك إلاَّ بالعقل:

"هذا فنّ من الاستدلال لطيف على بطلان أن تكون الفصاحة صفةً للّفظ من حيث هو لفظ: لا تخلو الفصاحة من أن تكون صفة في اللفظ محسوسة تُدرك بالسمع، أو تكون صفة فيه معقولةً تُعرف بالقلب. فمحال أن تكون صفةً في اللفظ محسوسة؛ لأنها لو كانت كذلك، لكان ينبغي أن يستوي السامعون للفظ الفصيح في العلم بكونه فصيحاً. وإذا بطلَ أن تكون محسوسةً، وجبَ الحكْمُ ضرورةً بأنها صفة معقولة، وإذا وجبَ الحكم بكونها صفةً معقولة، فإنّا لا نعرف صفةً يكون طريقُ معرفتها العقلَ دون الحِسّ، إلاَّ دلالته على معناه؛ وإذا كان كذلك، لزم منه العلمُ بأنَّ وصْفَنا اللفظ بالفصاحة وصفٌ له، من جهة معناه، لا من جهة نفسه. وهذا ما يبقى لعاقلٍ معه عذرٌ في الشك، واللهُ الموفق للصواب". أرأيتَ إلى هذا المنهج العقلاني الدقيق المطَّرد، وقد اعتمد الاستنتاجَ فيْه عندما انطلق من مقولته - في السطر الأول - "بطلان أن تكون الفصاحة صفةً للفظ كلفظٍ"، ثم راح يبسط نظرته ويعرض لاحتمالٍ ثم يستنتج، بصورة تتابعية موضوعيةٍ لا خلل فيها ولا التواء، حتى انتهى إلى ما انتهى إليه وقد استراح قلقُه وابتردت طاقاتُه في البحث والتدليل، كما استراح معه القارئ واستشعر القناعة اللازمة. أثبت الجرجاني، أنه، في معظم ما شرح وأوضح، وبرهن ودلَّل وعلَّل ... كان في وضع الباحث المنهجي، والمحاضر الممتاز يقدِّم معارفَه لطلبته بكل صبر ورويَّة، متوخياً على الدوام الإِقناعَ والإفادة، "متخوفاً" أو قل: متوجِّساً من أن يكون كلُّ ما جهد في سبيله، عرضَةً للضياع في مهب الريح، حتى وصل به الأمر في مطلع أحد الفصول، في باب اللفظ والنظم، إلى تكرار التنبيه ومعاودة وصاياه المتتابعة، في مطلع كل فصل ونهاية كل فقرة، كأنما هو في وادٍ والقارئ في وادٍ ... فكانت هذه الكلمات التي تزخر باليقظة والإلحاف والتأكيد على كل ما يملك من مشاعر الحرص على سلامة المعارف التي يطرحها قائلاً:

"واعلمْ أني على طول ما أعدتُ وأبدأتُ، وقلت شرحتُ في هذا الذي قام في أوهام الناس من حديث اللفظ، لربما ظننتَ أني لم أصنع شيئاً ( ... ) وهذا والذي بيِّنَّاه وأوضحناه، كأنك ترى أبداً حجاباً بينهم وبين أن يعرفوه، وكأنك تُسمعُهم منه شيئاً تَلفِظُه أسماعُهم، وتُنكره نفوسهم، وحتى كأنه كلما كان الأمرُ أَبْينَ كانوا عن العلم به أبعد، وفي توهم خلافه أَقعد؛ وذاك لأن الاعتقاد الأول قد نشب في قلوبهم وتأشَّب فيها، ودخل بعروقه في نواحيها، وصار كالنبات السوءِ الذي كلما قلعتهُ نبتَ". لكأنه دائماً في حوار جدلي كلامي مع قارئ يتمثله، فيخاطبه ويحاجُّه في مثل حلقات المتكلمين المسلمين في مطالع عهدهم. ومن الصعب على القارئ مخالفته، لأنه يمسك بأطراف القناعة والبرهان، فيدلي، ويطرح، ويبسط بكل تؤدة وحسْن مراجعة. ولا يفوتنا الطريقة التي لا تختلف في شيء عن الدرس الصفّي الذي يقتضي التمهيد والرأي الجزل والمثال العلمي البلاغي، الذي يتناوله من غير جانب، حتى إذا أعوزه الإقناع الكلّي، عمد إلى التفسير الإعرابي النحوي المُفضي إلى حسْن فهم الكلام، وربط أجزائه بعضها ببعض. ومن الإعراب النحوي، إلى الإعراب الإسناديّ الذي يجعله مستوطن البغية التعبيرية؛ وإلاَّ اختلَّ السياقُ؛ ومثله الإعراب البياني الذي اعتمد - في حيز كبير منه على تحليل لغوي يصل حد الوقوف الدقيق عند بعض الحروف ... وبوسع القارئ الاهتداء إلى مختلف وجوه الإعراب لدى مطالعته لأي فصل، فسيجد ما هو أكثر من ذلك وأبعد، كالإعراب المعنوي (أي تقليب المعاني واستبدال بعض الكلمات، لتبيان ما يذهب إليه) والإعراب النفسي وبخاصة في الصفحات الأخيرة بحيث ينتهي إلى (الفروق والإحساس الروحاني) بما لم يسبق إليه ... الأساليب تناولت الفقرة السابقةُ مسألةَ المنهج والطريقة من غير فصل بينهما، لشدة ترابطهما وتداخلهما في نسيج يسمح لي بالقول: إنه نسيجُ وحده. وها أنذا أُوضح ما هو أدقُّ وأقرب إلى الشرح التطبيقي لما تضمنته الفقرة السابقة، ولما قلتُ: "إنه نسيج وحده".

في معرض كلامه على الاحتذاء عند الشعراء تعريفاً وتطبيقاً، عرَّف الجرجاني الأسلوب بوجازة متناهية فقال: "والأسلوبُ الضربُ من النظم والطريقة فيه". أمام هذا التعريف المكثف والمقتضب في آن، أتساءل بنسبة عالية من التفكير والتأمل: هل بالإمكان التحقق من تطبيق هذا التعريف على نص الجرجاني و "دلائله"؟ أيْ: هل يمكن اعتبار الكتاب: نظْماً آخر على غرار ما أَوردَ من نصوصٍ وأحكام وخلاصات؟ والجواب: ليس هناك ما يمنع، إذا قمتُ بسبْرِ أغوار نسيجه اللغوي المحْكم، والنظر إليه بنفس المقياس الذي استخدمه مع عدد كبير من الآيات القرآنية والشواهد الشعرية ... ولعلي أقترب من الجواب أكثر، إذا استطعتُ التعامل مع النص بشيء من التحليل المرتكز على تسليط الضوء على خيوط هذا النسيج وتنوع وجوه الحبكة فيه ومقتضيات الصنعة فيه، أعرض ذلك كله وفقاً للعناوين والفقرات الآتية: * الحبْك المتشابك وتداخل الجمل تميز أسلوب الجرجاني بما أُسمّيه الحبك المتشابك المطَّرد، في جمل متتابعة وأغراض متداخلة، الأمر الذي يورث القلق في المتابعة، والالتباس في القصد. فتجتهدُ لمعرفة طبيعة الفعل: أهو للمجهول أم للمعلوم، وفي إلحاق الضمير بهذا الاسم أم بغيره ... فتقف حائراً مفكْراً في ضبط الكلام وإعرابه وتأويله - لأنَّ كلَّ ما يُفهم من السياق، إنما يرتبط بصورة مباشرة بحسْن إعرابنا الكلامَ، وربطِ جُمله وعباراته. ولولا تدخل الإمام عبده والمصحح رضا في تنوير القارئ ببعض الحواشي الموضحة، لبقي كثير من النصوص شبه مُقْفلٍ، بسبب تعذر تشكيل بعض المفردات، وغياب علامات الترقيم التي تكمِّل التشكيل وتُزيل الالتباس، كأنما بعضُ العلامات، حركات إعرابية نيّرة. من ذلك وقوفُه شبهُ المستهجن أمام رأي الناس في جعل الاستعارة هي وحدها التي تميَّزتْ بالشرف المستمد من الآية الكريمة: {وَاشْتَعَلَ الرَّأسُ شَيَبْاً} [مريم: 4] وجوابه:

"وليس الأمرُ على ذلك - ولا هذا الشرف العظيم ولا هذه المزية الجليلة وهذه الروعة التي تدخلُ على النفوس عند هذا الكلام لمجرد الاستعارة، ولكن لأن يُسلك بالكلام طريقُ ما يسند الفعل فيه إلى الشيء وهو لما هو من سببه، فيرفع به ما يُسند إليه ويُؤتى بالذي الفعلُ له في المعنى منصوباً بعده مبيناً أن ذلك الإسناد وتلك النسبة إلى ذلك الأول إنما كان من أجل هذا الثاني ولما بينه وبينه من الاتصال والملابسة". لن أشكو من الصعوبة التي اعتورَتْني وأنا أقرأ هذا المقطع. فالشكوى غير مقبولة من دارسٍ متصدِّ لنص كنصِّ الجرجاني - إنما كان عليَّ القراءة المرة تلو المرة لتشكيل حروفها ووضع علامات الوقف بين الجمل والعبارات ... وقد شئتُ أن أنقل هذا المقطع من دون ضبط ليدرك القارئ نمط الكتابة لدى الجرجاني وأسلوبه المتشابك الذي، ولو شُكِل كما يجب، بقي على قدر من الإشكال والتداخل وبخاصة لقرَّاءٍ: من الدرجة الدنيا حتى درجة جيدة - أي لا بد من نسبة عالية من المعرفة النحوية والتمرس بقراءة نصوصٍ كالتي واجهتني في هذا الكتاب الذي أزعم أن ضبطه وحده، من دون أي عمل آخر، كفيل بتحقيق الفائدة المرجوة وإن متواضعة. فمن يقرأ جيداً يفهم جيداً، فيما خلا بعض المفردات أو المصطلحات التي تكفلت المعاجمُ وكتب التفسير بشرحها. وما كان من إضافة الحاشية في سياق المقطع، ونقلها كما جاءت في هامش الصفحة المطبوعة في الطبعة المصرية، إلاَّ إلحاقُ الإشكال بالإشكال، بسبب غياب التشكيل والترقيم حتى في الحواشي، كالذي يدور على نفسه ولا يتقدم خطوة إلى الأمام. * تعقيد التركيب اللغوي بسبب دخول (كان) على (كان) غير المحدود في الكتاب

في كتاب "فقه اللغة وأسرار العربية" الذي صدر عن المكتبة العصرية مطلع عام 1999 بعنايتي، دوَّنتُ ملاحظة لغوية لافتة هي: إدخال الثعالبي فعل (كان) الناقص على (كان)، مباشرة، وقلتُ معلقاً على جملة وردت في الكتاب، وهي "وإذا كانت تكون في وسطهنَّ فهي دَفُون" "لعلها المرة الأولى التي دخل فيها فعل "كان" (بالمضارع) على نفسه بالماضي. وإذا بي أفاجأ بأن هناك عدداً كبيراً من المرات، دخلت فيها (كان) على (كان) حتى أصبحتْ من صلب أسلوب الجرجاني، مع قناعتي بأن هذه الصيغة غير مستساغة، لأنه بالإمكان وضع فعل آخر مكان فعل الكينونة الثاني الذي غالباً ما يعني: وُجدَ، حَدَث، حصل الخ ... كقوله، في باب "الفصل والوصل": "وإنْ لم يكونوا كذلك، لكان لا يكونُ عليهم مؤاخذةٌ فيما قالوه من حيث كانت المؤاخذة تكون". وقوله في فقرة: (الكناية أبلغ من التصريح): "وذكرتُ أن السبب في أنْ كان يكون للإثبات، إذا كان من طريق الكناية، مزيَّة لا تكون إذا كان من طريق التصريح". أفلا يمكن أن يقال، مثلاً (وذكرتُ أن السبب في أن كان يحصل للإثبات، إذا كان من طريق الكناية، مزية لا تحصل، إذا كان من طريق التصريح) ... وقوله، مطلع الكلام على الفصل الخاص "بكشف الشبهة للقائلين بأن الفصاحة للألفاظ": "إنْ كان اللفظ إنما يَشْرف من أجل معناه فإنَّ لفظ المفسِّر يأتي على المعنى ويؤديه لا محالة. إذ لو كان لا يؤديه، لكان لا يكون تفسيراً له". أليس قولنا: (لو كان لا يؤديه لما كان تفسراً له) أسوغَ وأعلقَ، فنتخلَّصَ من دخول (لام الجواب) في "لـ كان" على مضارع منفيِّ؟ ... وهكذا في عشرات الصيغ التي تشيع في الكتاب من أقصاه إلى أقصاه. *أسلوب التطويل والتكرار في صيغ الشرح

تكرار الكلام والجمل المفسِّرة الموضِحة، سمةٌ غالبة في أسلوب عبد القاهر الذي اختطَّ لنفسه هذا المنحى انطلاقاً من فكرة الفلسفي الذي يسعى دائماً إلى كشفِ الحقيقة. فما باله وقد نَدَب نفسه لتثقيف أبناء عصره، وتفتيح كوى الأذهان نحو علم لم يكن له وجود نظاميِّ من قبل ... ألا وهو علم المعاني الذي نبتَ على جذوع علم النحو نباتَ إخصابٍ وإثمار، لا نباتاً طفيلياً، فإذا به يستقل عن أصله وجوهر وجوده، ليلتحق بعلوم البلاغة ويتصدر هذه العلوم، بعد أن انصرف النحو بأكبر قدرٍ من عنايته، إلى قضايا الإعراب. الأمر الذي حدا بعبد القاهر إلى إعادة العلاقة إلى أصلها وطبيعتها؛ وحسَناً فعلَ لأنه ما انفكَّ في مختلف فصول الكتاب يربط بإحكام بين "المعاني" والنحو ربطاً لا نكاد نشعر باستقلال الواحد عن الآخر، فنَسوغُ النحوَ، من جهة، ونفهم علم المعاني، من جهة ثانية. وبمعنى آخر أضفى الجرجاني على الخطاب البلاغي مسحة من الأصولية العربية التي تعبِّر أفضل تعبير عن غنى القدماء وإقبالهم على كل ما يؤدي إلى الينابيع، واعتبار علوم العربية وحدةٌ متكاملة يؤدي بعضُها إلى بعض ويكمل بعضُها بعضاً: فلا بلاغة من غير "معان"، ولا "معاني" من غير نحو، ومن النحو إلى الصرف، ومنه إلى فقه اللغة، انتهاءً بلغة العرب المشروحة في المعاجم والموسوعات اللغوية: حلقةٌ أو قل: سلسلةٌ مترابطة منتظمة في عِقْدٍ، إن فُقدت منه حبة أو جوهرة، انفَرَط العقد، واختلَّ المسار. ولم يكتف علاَّمتنا بهذا الإنجاز التاريخي، بل تفوق على نفسه، فوق تفوقه على علماء زمانه، فأوجد ما سمِّي النقد الذوقي الجمالي الذي جمعه إلى قواعد النحو وأساسيات البلاغة بمختلف علومها وتفرعاتها، من غير فصل أو مفاضلة ... فكان من الفطرة السليمة والطبع النقي والذوق النادر ما جعله يستنكف عن جفاء الصنعة الكلامية وأسلوبها الفلسفي الذي ساد عصره.

وأرى أنَّ هذه الصفحة المشرقة والمدماك الشامخ في صرح العربية قد حاز من الإجلال والإعجاز ما يدفع القارئ إلى تسجيل أية إشارة غير منسَجمة مع نسِيجه البليغ وفكره السديد، كالتطويل في الجمل من جهة وتكرار صيغ الشرح من جهة أخرى. ومن هذا القبيل قوله في فقرة (عَود إلى مباحث إنما) في باب القصر والاختصاص" " ... وذلك أنك ترى أنك لو قلت: ما جاءني زيد وإنَّ عمراً جاءني: لم يُعقل منه أنك أردتَ أن الجائي عمرو لا زيد". وكان بإمكانه القول: (لأنك لو قلتَ) مُستغْنياً عن الجملة التي سبقت، ومتخلِّصاً من تكرار "أنك" المتتابعة مرتين. ومثله تعليقه على "إنما" في الآية {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا في الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُون} [البقرة: 11] "دخلتْ (إنما) لتدل على أنهم حيث ادَّعوا لأنفسهم أنهم مصلحون أَظهروا أنهم يدَّعون من ذكر أمراً ظاهراً معلوماً". هذا التكرار المتقارب لـ "أنهم" يورث الثقل في التركيب - وأُفضِّل لو نوَّعَ فاستخدم المصدر المؤوَّل بعدها. مثال: (حيْن ادَّعوا لأنفسهم الإصلاح). ومن التكرار الواضح الذي نُطالعه بكثرة وبخاصة في المثال النحوي "الشهير": "ضربَ زيد عمراً" الذي لو أحصينا عدد المرات التي ورد فيه كلٌّ من [ضرب] و [زيدٌ] و [عمرو] لعَيينا عن ذلك ... ولا أرى ضرورة لضرب مثال على ذلك ... ولكني أورد مثالاً لتكرار الفكرة مع لفظها في الصفحة الواحدة، بل في المقطع الواحد؛ وعندما أقول بالتكرار، إنما أقصد إلى هذا المدى الضيق؛ ففي كلامه على (الفرق بين معنى المفسَّر ومعنى التفسير) نقرأ له: " ... كان للمفسَّر فيما نحن الفضلُ والمزية على التفسير، من حيث كانت دلالة في المفسَّر دلالةَ معنى على معنى، وفي التفسير دلالة لفظ على معنى". ثم يقول، بعد أربعة سطور، من التعقيب: "ولا يكون هذا الذي ذكرتُ أنه سبب فضل المفسَّر على التفسير من كون الدلالة في المفسَّر دلالة معنى على معنى، وفي التفسير دلالةَ لفظ على معنى، حتى يكون للفظ المفسَّر معنى معلوم يعرفة السامع ... "

ومن صيغة التي يستخدمها باستمرار، في الفصل الواحد، وفي الفقرة الواحدة، مفردات وجمل نادراً ما يتخلَّى عنها أو يبدِّل فيها، وقد حاولتُ تعدادها فبلغت نحو ثلاثين صيغة بعضها للبدايات كـ "إِعْلَمْ" و "معلومٌ أنه" و "لا شُبْهَة في أنَّ" ... وبعضها للخواتيم والخلاصات كـ "وجملةُ الأمر" و "فاعرف ذلك" أو فاعرفْه" وهي الأكثر شيوعاً. وبعضها في الشرح والتحليل الداخلي وهي الغالبة في الاستعمال، مثال: "أفلا ترى"، و"إذا كان الأمر كذلك فينبغي"، "مما لا يَخْفَى فسادُه" و "إذْ قد عرفت ذلك" - وهي لا تكاد تخلو منها صفحة واحدة - "المحال"، "الفضل والمزيَّة"، "وإذا كان ذلك كذلك" و "لو أنهم"، "ولو فعلوا"، "لا يخفى على عاقل"، "وإن قال قائلِ .. قيل .. " "كما بيَّنَّا"، "يُتصور" - التي لا حصر لاستعمالها لديه - "البتَّة"، "عمدَ عامدٌ"، "مِن أجل ذلك"، "معلوم أنه"، "وأنا أُفسِّر لك ذلك"، "ولا شبهة في أن"، "وههنا كلام ينبغي أن تعلمه" الخ ... هذا الكم المذهل من الصيغ الواردة أعلاه، يشكل لبنةَ العبارة الجرجانية ومفاتيحها ومغاليقها، ما إن تقرأ وتتابع القراءة حتى تشعر أنك مع كاتب تراثي من طراز خاص، عني بأفكاره ومقاصده عناية خاصة جعلته أمام هذه الصيغة وتلك، كالملوِّح بالمشاعل في مغربيَّةٍ - والدنيا خافتة الضوء والرؤية - كي يتضح كلُّ شيء على خير ما يرام، ويُوضعَ كلُّ شيء في موضعه الصحيح. وإن فاتنا شيء في هذا الصدد، فلن يفوتَنا تكرار تعريف النظم وقواعده بقوله: (ليس النظم شيئاً غير توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم). * انشغاف المؤلف بصيغة المجهول

هناك عدة صيغ أو أبنيةٌ للمجهول، أشهرها ما هو في بناء الفعل، وما هو في صيغة أو زِنة [مفعول]؛ وقد يكون بصورة غير مباشرة عندما يكون الخطاب أو الكلام موجهاً إلى كائن غائب غير محدَّد الهويَّة، كقولنا: (ومن الناس من يفضِّل كذا أو يفعل كذا). أو يكون زنة [تفعَّل] كـ: (تَبيَّنَ) وزِنة [انفعل] كقولنا: (ينسحب هذا الرأي على غيره) وغير ذلك من صيغ النحو المتعددة التي تجري على ألسنة الكتاب، فيبتعدون عن التصريح بالفاعل، ويجنحون إلى التعميم والتكنية، لِسَعة الأفق والتناول، في جانب التعميم، وضيق المدى المنشود، في جانب التصريح .. وقد استخدم علاَّمتُنا في كتابه، مختلف الصيغ المعروفة في تراكيب الكلام، مصرِّحاً أو مكنِّياً مُعمِّماً. إلاَّ أن نسبة البناء للمجهول قد تجاوزت عنده الحد المألوف في كتابات القدماء وطبعت كتابته بما يشبه الهاجس من الظهور بمظهر المخاطِب (بالكسر) المتسائل، الناقِد، الرائي، المستغرب، الملخِّص، المستنتج (بالكسر) .. أي يتحاشى أن يكون هو مصدرَ هذه الفِعال والقائم بها مباشرة .. فينسبها إلى آخر غائب غير معيَّن ولا معروف، مفرداً كان أم جماعة، كقوله في تناوله الأول لموضوعه النحو، واصفاً مُخْبراً، تارة، أو مخاطباً تارة أخرى: "فإنْ قالوا: إنَّا لم نَأْبَ صحة هذا العلم، ولم نُنكر مكان الحاجة إليه في معرفة كتاب الله تعالى، وإنما أنكرنا أشياء كثَّرْتُموهُ بها، وفضولَ قولِ تكلَّفتموها .. ( ... ) قلنا لهم أمَّا هذا الجنس فلسنا نعيبكم إن لم تنظروا فيه ولم تُعنوا به، وليس يهمنا أمره .. " وقوله، في الكلام على (الاستدلال بالاستعارة والكناية والتمثيل) جامعاً معظم الصيغ والضمائر المجهولة: "يَعلمُ كلُّ عاقل أنه لا يُكنَّى باللفظ عن اللفظ، وإنما يكنى بالمعنى عن المعنى - وكذلك يعلم أنه لا يُستعار اللفظُ مجرداً عن المعنى، ولكنْ يُستعار المعنى ثم اللفظُ يكون تبْعَ المعنى ( ... ) وكذلك الأمرُ في التمثيل لأن تفسيره أن نذكر المتمثَّلَ له". وقوله في فقرة الكلام على (الفرق بين معنى المفسَّر ومعنى التفسير) مستغرقاً في صيغتْي المضارع والماضي للمجهول:

وكان من المركوز في الطباع والراسخ في غرائز العقول، أنه متى أُريد الدلالة على معْنى، فتُرك أن يُصرَّحَ به ويُذْكَر باللفظ الذي هو له في اللغة، وعُمد إلى معنى آخر فأُشير به إليه، وجُعل دليلاً عليه، كان للكلام بذلك حسْنٌ ومزية لا يكونان إذا لم يُصنَع ذلك وذُكر بلفظه صريحاً". وإذا كان ما قدَّمتُ من شواهد الانشغاف بالمجهول وصيغه، مسألة جارية في نثر القدماء ومخاطباتهم، فإنني أرى له انشغافاً حقيقياً باستخدام الفعل المضارع للمجهول "يُتصوَّر" بصورة لافتة تومئ بانشداد خاص لها، لا يكاد يفتر لسانه عن استعمالها مراراً أو تكراراً في الفصل الواحد، والفقرة الواحدة، والصفحة الواحدة. وما على القارئ إلاَّ القراءة والمتابعة ... ومما انتقيتُه من الأمثلة الساطعة، كلامُه في: (الإسناد وتحقيق معنى الخبر) في فضْل (التفاضل في نظم الكلام) وكذلك في (الخبر والمُخْبَر به) من الفصل نفسه، ما لا يسع القارئ إلاَّ الحيرة والذهول من كثرة ما ردَّدَ وأسرف في استعمال الصيغة المذكورة، حيث بلغ تعداد هذا الاستعمال، في صفحتين متتاليتين: عشر مرات، ما عدا الصيغة التي تؤدي مؤداها "يُعْقَل" و "يُعْرف" "ويقدَّر". * استخدام (أنْ) المصدرية و (إنَّ وأَنَّ وكأَنَّ) بصورة غالبة بقدر ما شاعتْ عنده صيغ البناء للمجهول، وبخاصة صيغة المضارع "يُتصوَّر"، شاع أيضاً ورُود الحروف المذكورة في عنوان الفقرة، وبنسبة تفوق سابقتها أحياناً كثيرة، تجعل القارئ يتساءل بنفس الحيرة والذهول: لماذا هذا الاحتفاء بـ (أنْ) الناصبة و (إنَّ وأنَّ وكأنَّ) وما هي إلاَّ حروفُ وصْل ووسائطُ تعبير يؤتى بها لضرورات بلاغية شبه محدَّدة، ووفقاً لأحوال ومقتضياتٍ دقيقة؟؟ قد يُفهم خطأً أنني ألْفِتُ إلى غلَط لغوي وقع فيه الجرجاني أو إلى هشاشة شابتْ أسلوبه. حاشاه من ذلك، وحاشاي أن أقوم بهذه اللفتة أو المحاسبة!

إنه من محصلة القراءة والتأمل في طبيعة النص وخصوصية التعبير فيه، سواء أكان مُريحاً أم مُتْعباً. وفي اعتقادي، أنَّ السبب في الاحتفاء يعود إلى حرص المؤلف على تخليص خطابه من أي أثر أو عائق يُعيق توصيلَ النظرية إلى قراء جيلة ومن يليهم من الأجيال، ليس بنقل هذه النظرية بأوضح ما يكون من اللغة والأداء فحسْب، بل بجعل اللغة التي تتولَّى النقل والترجمة، نموذجاً فنياً بلاغياً يُحتذى؛ كونُ هذه اللغة قد راعت الأصول ونهلتْ من قبس القرآن، الكثير من سحره البياني ووضوح الأفكار وتتابُعها العقلاني. ومع ذلك فقد بالغ الجرجاني في استعمال هذه الحروف، وبخاصة (أنْ) الناصبة المؤولة، حتى لنجدُه يحشدها حشداً في الصفحة الواحدة، وأحياناً في الجملة الواحدة، كقوله في مطلع فصل (القول في التقديم والتأخير): "ولا تزال ترى شِعراً يروقك مسْمَعُه، ويلطف لديك موقعه، ثم تنظر فتجد سبب أَنْ راقكَ ولطفَ عندك أن قُدِّم فيه شيءٌ وحُوِّل اللفظ عن مكان إلى مكان". ألم يكن أخفَّ لفظاً وأسوغ تعبيراً، لو قال: (فتجدُ سببَ إعجابك به ولطفه عندك، تقديم شيء فيه وتحويل اللفظ)؟ وقوله، في الفصل نفسه، في معرض اهتمام الناس بالمُهمِّ والأهم، فيقدِّمونه في الكلام، كهذا المثال المعبِّر: "قَتَلَ الخارجيَّ زيدٌ" ولا يقول: (قتلَ زيدٌ الخارجيَّ) لأنه يعلم أنْ ليس للناس في أنْ يعملوا أنَّ القاتل له زيدٌ، جدوى وفائدة .. " لاحظ تتابع حرفَيْ النصب والمشبه بالفعل في جملة واحدة لها سياق معنوي واحد هو: (يهمُّ الناس معرفة مقتل الخارجي لكثرة فساده. ولا يهمهم من قتله وكيف) كما يمكن صياغة الجملة على الوجه الآتي تفادياً لثقل تكرار (أَنْ) مرتين و (يعلم) مرتين: (لأنه يَعْلم أنْ ليس للناس فائدة من معرفة القاتل) .. لكنه الأسلوب الجرجاني لا مناصَ من قبوله والنسج على منواله في كثير من المواضع والحالات التي تتطلب دقة في القصد ونصوعاً في أداء الفكرة. وقوله، وفي نهاية هذا القول هيئةُ التباسٍ لتداخل أغراض الكلام بين الجمل، ما جاء في فصل: (تقديم النكرة على الفعل وعكسه):

"واعلم أنْ لم نُرِدْ بما قلناه من أنه إنَّما حَسُنَ الابتداء بالنكرة في قولهم: "شَرٌّ أهرَّ ذا ناب"، لأنه أُريد به الجنس أَنَّ معنى شرٌّ والشرُّ سواءٌ، وإنما أردنا أنَّ الغرض من الكلام أن تبيِّن أنَّ الذي أهرَّ ذا الناب، هو جنس الشر لا جنس الخير". تسعُ حروف "أنْ" و "أَنَّ " و "إِنَّ" بقدر ما عملتُ على توضيح المراد في قلب الكاتب، أوقعتِ القارئ في وطأة البحث عن ترابط المعنى واستيعابه بيُسْر .. ويمتاز أسلوب الجرجاني في هذا الصدد، بنمط آخر شاع في آثار القدامى، وندَرَ حديثاً، ألا وهو مَيْله إلى ما سمَّيتُه "الجواب المستدير أو المداوِر" فيعبّر عن المعنى من فوق المعنى أو من حوله، كقوله أثناء شرحه وتحليله لقول الناس: الشجاع موقَّى والجبانُ مُلقَّى": " ... ليس القصدُ أن تأتي إلى شجاعات كثيرة ( ... ) بل المعنى على أنك تقول: كنَّا قد عقَلْنا الشجاعة وعرفنا حقيقتها ( ... ) ولو كان المعنى على أنه استغرق الشجاعات ... كما قالوا إنه بمعنى الكامل في الشجاعة، لأنَّ الكمال هو أن تكون الصِّفة على ما ينبغي أن تكون عليه .. ". يقتضي التعبيرُ المباشر أن يقال: ( ... بل المعنى أن تقول: كنا قد عقلنا .. ولو كان المعنى استغراق الشجاعات، لما قالوا ... )، فلم يرقْ ذلك لأبي بكر الجرجاني، بل رسمَ لمقصده الفكري دائرةً عرَّج بها على المعنى، أو قفَز من فوقه بوساطة حرفِ الجر "على" تاركاً في فضاء المدى تموُّجاتِ سؤال حائرٍ عن البعد البلاغي لمثل هذه الصيغة اللغوية المستعلية على ذاتها الباحثة عن غور حقيقةٍ تستقر فيه!!

وأخلصُ إلى القول: إن أسلوب الجرجاني جدول ماء يتدفق في نغمية متنوعة وحركة متفاوتة السرعة بحسب الحالات والمراحل التي يقطعها والأوقات والفصول التي تصاحبه، فهو هادئ مبسَّط، كالشروح الصفِّية عندما يتعلق الأمر بالكشف والتوضيح والجري فوق هضاب فسيحة الأرجاء، وضيئة الجنبات. ومكثفٌ متداخل إلى حدود المعاظلة، عند التوقف أمام المسائل الجوهرية التي اختلف فيها مع عامة المتعاملين بالشأن اللغوي البلاغي، فصرف لأجلهم كل طاقاته وحنكته وبراعته في العرض والدفاع ودحض الحجج القوية الراسخة بفعل البلادة الذهنية وسيادة التقليد. ومثله النهر الصاخب المزبد الذي يرتطم بالصخور والنتوءات وهو يَنْصبُّ من علوِّ شاهق، فيصطفق موجه، وتبيضُّ مياهه، لتعودَ إلى صفاءٍ ورواء فوق السهوب والمنفسحات السَّفحية. كقوله فيما يشبه العزْفَ على شبَّابة أو ربابٍ مختلجة الخفق: "إنَّا قد علمنا علْمَ ضرورةٍ أنَّا لو بَقينا الدهرَ الأطول، نصعِّدُ ونُصوِّبُ، ونبحثُ وننقّب، نبْتغي كلمةً قد اتصلتْ بصاحبةٍ لها، ولفظةٍ قد انتظمت مع أختها، من غير أن نتوخى فيما بينهما معنىً من معاني النحو، طَلبْنا مُمْتَنِعا، وثَنيننَا مَطايا الفكر ظُلَّعا". ملاحظ نقدية بين الإعجاب والإغراب

إنَّ ما سطره القلم حتى الآن، في هذه المقدمة، لا يخرج عن كونه نظرةً أفقية على شيء من التغوُّر، عرضتُ فيها العناصر التي تكوَّن منها الكتاب والجهود التي بذلتُها، وكذلك المبذولة من الشارحَيْن الإمام عبده والشيخ رضا، معرِّجاً على المنهج المتَّبع والأساليب المسلوكة .. ولم أقم بتقويم الكتاب ووضعه في ميزان النقد المنهجي الأكاديمي ... ولا أظنني فاعلا شيئاً من هذا القبيل، في السطور الآتية، لأن ما أودعه عبد القاهر الجرجاني في هذا السِّفر النفيس، لا يليق به سطورٌ أو صفحات لتقويمه واستخراج لآلية وفرز الزبد الطافي على السطح. الأحرى أن تُدبج لذلك، الكتب والبحوث المعمَّقة .. جلُّ ما أبتغيه ههنا عَرْضةٌ نقدية متواضعة أعدِّد فيها بعض سمات الفضل والمزيد التي تتهادى بها أعطاف الكتاب، فتتمايل ذات اليمين وذات الشمال، وما على العابر إلى تخومه إلاَّ اعتلاء بضع درجات ليصبح القطف على ملمس يديه ومرمى نظره. وما قصدتُه في العنوان لا تورية فيه ولا إيحاء أو تكثيف. إنها ملاحظ: أي نظرات شبه تأملية في جوانب الحسْن والإجادة التي تصل بالقارئ حدَّ الإعجاب، ومثلُها في جوانب أخرى شحَّتْ فيها قنوات التجلِّي المبدع وجنحْت إلى تعمُّلِ في القول وتعسُّف في الشرح وتقرير الحكم، ستسعى هذه الفقرة إلى تبيانها بالقدر المتاح من غير عنت أو مبالغة.

أولا: جوانب الإعجاب

أولاً: جوانب الإعجاب * إسهامه المعجب الأول: النظم: نظريةً وطبيعةً النظم في اللغة، التأليف، وأصله: جمعُ الخَرز بعضِه إلى بعض في سِلْكٍ واحد. ويدعى النظام. وكل شيء قرنْتَه بآخر أو ضممتَ بعضَه إلى بعض، فقد نظمتَه. ومنه نظمُ الشعر وتنظيمُه. النظم إذن، تأليف، أو جمعٌ وإضافة بمثل الاقتران، في نمط أو نسَقٍ معين يبعث على الرضى والارتياح، كنظم اللؤلؤ، والخرز، والكلام ومنه الشعر. ذاك هو منطلق الجرجاني ومرتكزه: تأليفٌ بطريقة محكمة العرى، متناسقة الشَّكل. لكنه أضاف مادة نظمية أخرى، هي آي القرآن الكريم التي رأى فيها النموذج المثالي لأي نظم لغوي، دفعه، كما دفع كل المشتغلين ببلاغة التعبير العربي، إلى عجز الإنسان العربي، بله الأعجمي عن مجاراة هذا النظم أو جزء يسير منه. أمَّا وقد اقتنع الجميع بذلك، فقد عمدوا لا إلى الاقتداء والمحاكاة أو المجاوزة .. بل إلى درس الحقيقة التي تكتنفه والطبيعة التي تؤلفه .. فكان لنا إرث لغوي فنِّي جمٌّ. منبعه ومصبُّه: القرآن المحكم، ووجوهُه: علومُ العربية المختلفة، بينها البلاغة بفروعها، وأفانينها اللامحدودة. واحد من البلغاء الأجلاَّء هو عبد القاهر الجرجاني أُعطي من القدرة والعبقرية ما جعله ينكبُّ على تراث العربية ونتاج شعرائها فيستخرج منه البنى اللفظية والمعنوية والتصويرية التي جرى بها اللسان وفقاً لأصول وأساليب مرسومة ومبتدعة، ويضعها في مقابل النتاج اللغوي الإلهي، فيرى عبقرية العربية التي وُضع فيها أجمل الصنائع، وأنَّ ذلك ناشئ عن قانون قديم تفجَّر بين حرور الرمال المحرقة، وظلال النخيل والواحات الوارفة؛ جعلهم يُبدعون قصائد شعرية لا نزال حتى اليوم عاجزين عن الإتيان بمثلها، وأُنزل القرآن بهذه اللغة وقانونها فزاد الألَقُ ورقيَ بهم النسقُ التعبيري إلى المرتبة التي اقتضتْ وضْعَ ما سمَّاه الجرجاني: "النظم" استناداً إلى الأصل اللغوي، وإلى القسمات الفنية المتسقة المتقنة التي استجلاها من قرائح الشعراء وعلماء النحو والبلاغة، ووشَّجها بالمثال القرآني المعْجز، وهذه حقيقته التي شرحها غير مرة في كتابه الخالد قائلاً: "إعلم أن ليس النظمُ إلا أن تضعَ كلامكَ الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعملَ على قوانينه وأصوله، وتعرفَ مناهجَه التي نُهِجتْ فلا تزيغَ عنها، وتحفظ الرسوم التي رُسمتْ لكَ فلا تُخلَّ بشىء منها. ( ... ) فلا ترى كلاماً قد وُصف بصحة نظم أو فساده، أو وُصف بمزيةٍ وفضل فيه، إلاَّ وأنت تجد مرجع تلك الصحة، وذلك الفساد وتلك المزية وذلك الفضل، إلى معاني النحو وأحكامه". ثم يختم كلامه بما أصبح لازمة ومنطلقاً لكل شرح وتحليل، ومحطَّ رحالٍ لدى كل جولة وكل محاضرة: "وإذا ثبتَ جميع ذلك، ثبتَ أن ليس [النظم] شيئاً غير توخِّي معاني هذا العلم [النحو] وأحكامه فيما بين الكَلِم".

ولدينا في كتاب "الدلائل" نوعان من "النظم"، الأول إبداعي إنشائي مصدرُهُ الشواهد القرآنية والشعرية، والثاني، وصفي نقدي، مصدره الخطاب الأدبي البليغ الذي يصدر عن صاحبه صدورَ الشهد عن النحل، ولنا الكتاب كلُّه مثالاً غير محدود. ولكنني أقتطف مثالين صغيرين سريعين، مُحيلاً إلى فِقَرٍ لاحقة في هذه المقدمة، موقوفة على مقتطفات من صنيعه الجميل. المثال الأول: "وأمَّا زهدُهم في النحو، واحتقارهم له، وإصغارهم أمره، وتهاونُهم به: فصنيعُهم في ذلك أشنعُ من صَنيعهم في الذي تقدم ( ... ) إذْ كان قد عُلم أنَّ الألفاظ مغلقةٌ على معانيها، حتى يكون الإعرابُ هو الذي يَفتحها، وأنَّ الأغراضَ كامنة فيها حتى يكونَ هو المستخرِجَ لها، وأنه المعيارُ الذي لا يتبيَّن نقصانُ كلام ورجحانُه حتى يعرضَ عليه، والمقياس الذي لا يُعرفُ صحيحٌ من سَقيمٍ حتى يُرجع إليه". المثال الثاني: يتعلق بشرح شاهد قرآني، يعتمده لتأكيد علاقة اللفظ بالنظم: "وشبيهٌ بتنكير الحياة في هذه الآية، تنكيرها في قوله عزَّ وجلَّ: {وَلَكُمْ فِى القِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وذلك أنَّ السبب في حسن التنكير وأنْ لم يَحْسُن التعريفُ، أنْ ليس المعنى على الحياة نفسها، ولكنْ على أنه لمَّا كان الإنسانُ إذا عَلمَ أنه إذا قتلَ قُتِل، ارتدعَ بذلك عن القتل فسلم صاحبُه، صارتْ حياةُ هذا المهموم بقتله، في مستأنفِ الوقت، مستفادةً بالقصاص، وصار كأنه قد حَييَ في باقي عُمره، أي بالقصاص". نعْمَ الشرحُ والتحليل، ونعْمَ العقلُ النَّيرُ الذي مدَّ صاحبَه بهذه الحَزْمة الضوئية نفذَتْ ببصره إلى ما وراء الألفاظ والمعاني، فأطْلع لنا حكمة الآية المحكمة، وجعلتْنا نقرأ في (القصاص) حياة على الرغم من كونه قد يكون قتلاً آخر .. ونُدهش من جديد، وهو يستقصي الحكمة من ورود كلمة "حياة" منكَّرة، ليقرِّر مسألة دقيقة لا يلحظها إلاَّ العارف المتأمل، وهي وقْفُ (الحياة) على مرتكب القتل الذي اقتُصَّ منه، وليس على أي إنسان:

"لا يكون ارتداعٌ حتى يكونَ همٌّ وإرادةٌ، وليس بواجبٍ أن لا يكون إنسانٌ في الدنيا إلاَّ وله عَدوٌّ يَهمُّ بقتله ثم يردَعُه خوفُ القصاص، وإذا لم يجب ذلك، فمن لم يَهُمَّ بقتله فكُفيَ ذلك الهَمَّ لخوفِ القصاص، فليس هو ممن حَيَّ بالقصاص". من خلال هذه الأمثلة، لا بد من الاعتراف بأن النص المحكم الذي يستخدمه المؤلف هو "نظم" من النسق الرفيع، له جمالُ وقعه ونكهة تتبُّعه وتحسس مجرى المعاني في سرِّه وإظهار ذلك للعيان بطريقة أو بأخرى. ومن شروط النظم وطبيعته، قيامه على الكلمات، لا الحروف، باعتبار مكانها، وحسْن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها، وفضل مؤانستها لأخَواتها. وهذا يعني أن تكون الكلمة فصيحة لا بحُروفها ولكن بما ينجم عنها وعن موقعها من أسباب الجمال والتأثير، بحيث لو حدثَ لها أي خلل مهما صغر، انعكس ذلك سلباً على واقع النص. "وهل تجد أحداً يقول: هذه اللفظة فصيحة، إلاَّ وهو يعتبر مكانها من النظم، وحسْنَ ملاءمة معناها لمعنى جاراتها وفضل مؤانستها لجاراتها؟ وهل قالوا: لفظةٌ متمكنة ومقبولة، وفي خلافه؛ قلقلة ونابية، ومستكرهة، إلا وغرَضُهم أن يعبِّروا بالتمكن عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناها، وبالقلق والنبوِّ عن سوء التلاؤم، وأنَّ الأولى لم تَلِقْ بالثانية في معناها، وأن السابقة لم تصلح أن تكون لِفْقاً للتالية في مؤدَّاها". ولم يكتف المؤلف بهذا التوضيح الدقيق، بل عمد إلى التفريق بين "الحروف المنظومة" و "الكلم المنظومة" فقال: "إنَّ نظم الحروف هو تواليها في النطق فقط، وليس نظمها بمقتضىً عن معنى .. ( ... ) فلو أن واضع اللغة كان قد قال: (ربض) مكان (ضرب) لما كان في ذلك ما يؤدي إلى فَسَاد. وأما نظم الكَلِم فليس الأمر فيه كذلك، لأنك تقتضي في نظمها آثار المعاني وتُرتِّبها على حسب ترتيب المعاني في النفس، فهو إذن نظمٌ يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعضٍ، وليس هو النظم الذي معناه ضمُّ الشيء إلى الشيء كيف جاء واتفق".

إنَّ الذين يذهبون إلى جعل الحروف متلائمة في تعادلها مع المعاني، يقعون في صعوبة تحقيق التلاؤم المعنوي مع الألفاظ، فإنَّ المعنى لا يُدرَك بسبب اللفظ، وإنما بسبب التوفيق بين معاني تلك الألفاظ المسجَّعة، وبين معاني الفصول التي جُعلتْ أردافاً لها. ولم يتحقق ذلك إلاَّ بعد أن دخلت في ضروب من المجاز والاتساع والتلطُّف. * الإبداع الشعري بمعزل عن علوم النحو حرص أبو بكر الجرجاني في أثناء تأسيسه لموضوعة النظم ونظريته - القائمة على توخِّي معاني النحو وأحكامه بين الكلمات - أن لا يجعل النحو وقواعده أساساً جوهرياً للإبداع الفني، فأظهر تسامحاً في هذا الجانب، ووافق منتقديه على عدم الخوض فيه، اقتناعاً منه بأن طريق الإبداع لا تبدأ بصرف اللغة ونحوها وقواعدها، بل بما هو أعمق وأبعد؛ وهو البعد النفسي الذهني المتكون من عناصر شتى لا تدخل في حصر أو إحاطة .. وقد سبقه إلى ذلك مُواطنُه القاضي الجرجاني (ت 392هـ) الذي اقتفى بدوره خط سلَفه قدامة بن جعفر (ت 337هـ) وكانا قد رأيا أن جمال الصورة الفنية ليس وليد الصناعة الشعرية الحسنة التقسيم، المتكاملة الأوصاف، المتمِّمة لشروط الحسن، بقدر ما هو في القَبول النفسي والتجاوب الروحى، أو ما سمَّيتُه غير مرة بالارتياح الغامض والقبول العفوي الذاتي. وَرَدَ رأيُ عبد القاهر المعنيُّ هنا، في معرض ردِّه على المتذمرين من التكثُّر والتكلف في البحث ومراعاة مسائل التصريف الموضوعة للرياضة وتمكين المقاييس، وتتبُّعهم [في ذلك] الألفاظ الوحشية، وأن ذلك لا يُجدي إلاَّ كدَّ الفكر وإضاعة الوقت ... قائلاً: "أمَّا هذا الجنسُ فلسنا نعيبُكم إنْ تنظروا فيه ولم تُعنوا به، وليس يهمُّنا أمره، فقولوا فيه ما شئتم، وضعوه حيث أردتم .. " ويعرض لمختلف العلل النحوية المشْكُوِّ منها: كالمعتلِّ، وحروف العلة، والإبدال والحذف والإسكان والتثنية وجمع السلامة وإعرابهما والنصب بالجر .. الخ .. فيقول بكثير من المسامحة والتقبل: إنَّا نسكتُ عنكم في هذا الضرب أيضاً، ونَعْذركم فيه ونسامحكم، على علم منَّا بأنْ قد أسأتم الاختيار، ومنعْتُم أنفسكم ما فيه الحظ لكم، ومنَعتموها الاطلاع على مدارج الحكمة ... ".

وقد يستغرق الجرجاني، للقبض على هنيهة إبداع ورشفة حُسْن، فيقضي لصاحبها "بالحِذق والأستاذية وسعة الذَّرع وشدَّة المنَّة". "حتى تعرف من البيت الواحد، مكان الرجل من الفضل، وموضعه من الحذق، وحتى تشهد له بفضل المنَّة وطول الباع ... ثم إنك تحتاج إلى أن تستقريَ عدَّة قصائد، بل أن تَفْليَ ديواناً من الشعر حتى تجمع منه عدة أبيات .. ". ويعرض بضعة شواهد، بينها شاهد لعبد الله بن الدمينة، من ثلاثة أبيات هي: أبِيني، أفي يُمْنَى يَديْكِ جَعلْتِني ... فأفرحَ، أم صيَّزتنِي في شِمالِكِ أبيتُ كأني بينَ شِقَّيْنِ من عَصَا ... حِذارَ الردى أو خيفة من زيالِكِ تَعَالَلْتِ كي أشْجى وما بكِ علَّةٌ ... تُريدينَ قتلي، قد ظفْرتِ بذلكِ انظر إلى الفصْل والاستئناف في قوله: "تُريدين قتلي قد ظفرتِ بذلك". وأرقى أنواع النظم البديع لدى أبي بكر، ما اتحدتْ فيه الأجزاء حتى وُضعتْ وضعاً واحداً. ويسوق بضعة أبيات شعرية دالَّة، لعدد من الشعراء بينهم بشار بن برد وزياد الأعجم، ويتوقف ملياً عند بيتٍ لأحد الأعراب، وجد فيه المثال الذي يجمع بين طياته براعة استخدام النحو ولطف التقاط الصورة الشعرية من غسَق المعنى إلى صبح البيان المتشقق بهاءً وخُيَلاء:: الليل داجٍ كَنَفا جِلْبابِهِ ... والبَيْنُ مَحْجورٌ على غرابه علَّقَ المؤلف على البيت بقوله: "ليس كلُّ ما ترى من الملاحة لأن جعلَ لِلَّيل جلباباً، وحَجَر على الغراب، ولكنْ في أن وضعَ الكلام الذي ترى: فَجعلَ "الليلَ" مبتدأ، وجعل "داج" خبراً له وفعلاً لما بعده، وهو (الكنفانُ)، وأضاف (الجلباب) إلى ضمير الليل، ولأن جعلَ كذلك "البين" مبتدأ، وأجرى "محْجوراً" خبراً عنه، وأن أخرج اللفظَ على مفعول". * معاناة المؤلف من غباء أهل عصره من علماء البلاغة، وجدالُه الطويل معهم

من أهم ما توصل إليه القارئ، وهو يتابع الجرجاني أن هذا الأخير، قد عانى من الجهل المنتشر في بيئته وعصره، بجمال العربية وبلاغة أفانين القول فيها. فرأيناه دائماً يخاطب قارئاً مجهولاً ويحثه على العلم والمعرفة والدراية والتأمل .. حتى إذا أحس بدوام الغباء والجهل، وكمَّ كبير من سوقيَّة الذوقِ وغفلةٍ مترامية الأطراف، اعتراه الشعور الشديد بالحزن والنقمة، وصل حدَّ التقريع والتألم. فهو منذ الصفحات الأولى من كتابه الخارق، الذي وُضع لغاية كبرى هي تبيان عظمة النظم القرآني، قد استهلَّ الكتاب بتصدير الفضل والشرف للعلم بعامة، ثم لعلم البيان بخاصة، كما لو أراد أن يدخل في معالجة موضوعه، من أجمل الأبواب وأشرفها. علماً بأن البيان قد استخدمه بدلالته العامة التي حضَّ عليها وشرحها القرآنُ المجيد لا بمدلوله الاصطلاحي. ونبدأ معه قراءة سفْر المعاناة، من هذه التوطئة فنجده، في الصفحة الأولى قد شكا من الإهمال الشديد الذي لقيه هذا العلْم، والحيْفِ والضيم اللذين مُنيَ بهما؛ أضف إلى ذلك (الاعتقادات الفاسدة، والظنون الرديئة، والجهل العظيم المتفشِّي والخطأ الفاحش المرتكب)، من جراء اقتصار الناس منه على حفظ المبادئ العامة والمعلومات العريضة وبعض القواعد الصرفية والنحوية الإعرابية التي تحفظ اللسان من اللحن .. غير عابئين بما هو خَلْقٌ وإبداع منظَّم، يتخطى العلوم النظرية المرسومة في الكتب والمعاجم، إلى "دقائق وأسرارٍ طريقُ العلم بها الرؤيَّةُ والفكرُ، ولطائفَ مستقاها العلمُ، وخصائصِ معانِ ينفردُ بها قومٌ قد هُدُوا إليها، ودُلُّوا عليها، وكُشِف لهم عنها، ورفعت الحُجُب بينهم وبينها، وأنها السبب في أن عرضت المزية في الكلام، ووجبَ أن يفضُلَ بعضه بعضاً، وأن يبعدَ الشأوُ في ذلك، وتمتدَّ الغاية، ويعلو المرتقى ويعزَّ المطلبُ. حتى ينتهي الأمرُ إلى الإعجاز، وإلى أن يخرج من طوق البشر".

ولئن ابتدأ بعلم البيان، فلأنه محطة رئيسة للارتقاء إلى بديع البدائع ورائعة الروائع: عنيت: النظم القرآني، الذي تنوعت السُّبلُ الموصلةُ إليه وشُحذت الذائقةُ الأدبية في استجلاء منارات الإبداع الشعري ومحارات لطائف العربية، حيث أمكن الغوص إليها والتقاطها، حتى في أبسط الأمثلة النحوية المبثوثة في أعطاف هذا الكتاب. ومن علم البيان وتخبُّطِ الناس، إلى ما سمَّاه القرآن "عمى القلوب" وقد اعتمده الجرجاني في ذمِّ الناس الذين يفهمون الكلام على ظاهره ولا ينفذون إلى ما وراء ذلك، ولا سيما أصحاب التفسير الذين وقفوا أمام بعض الألفاظ والجمل وقوف من لا يفقه بقلبه ويرى ببصيرته؛ كأن ليس لهم قلب ولا بصر ولا عقل يتدبرون به ويتفكرون في حقيقة الأشياء، فاستحقوا وصفه لهم "بأهل الحشْو ومن لا يعرف مخارج الكلام". لقد تمادى بعض المفسِّرين في غيِّهم وجهالتهم، فوقفوا عند حدود المعنى الظاهرِ لكلِم الآي الحكيم، فوقعوا وأوقعوا قراءهم بمفاهيم بدائية تخطتها الأديان السماوية بأشواط بعيدة، فأفسدوا المعنى، وأبطلوا الغرض الذي من أجله نزل الوحي الإلهي. فكان له معهم هذه الوقفة الزاجرة: "ومن عادة قومٍ ممن يتعاطى التفسير بغير علم، أن توهموا أبداً في الألفاظ الموضوّعة على المجاز والتمثيل أنها على ظواهرها، فُيُفسدوا المعنى بذلك، ويُبطلوا الغرض، ويمنعوا أنفسَهم والسامعَ منهم العلمَ بموضع البلاغة وبمكان الشرف. وناهيكَ بهم إذا هم أخذوا في ذكر الوجوه، وجعلوا يكثرون في غير طائل! هناكَ تَرى ما شئتَ من باب جهلٍ قد فتحوه، وزنْدِ ضلالةٍ قد قدحوا به".

وبعد أن يُطوِّف مع القارئ عشرات الشواهد الشعرية التي تعبق بأريحية الوجدان ونجيع الإحساس المتوهج، لعله يفتح ثُقْبةً ينفذُ منها نَظَرُ من ضلَّتْ به باصرتُه، فينحسرُ الديجور وتنقشع الغيوم السوداء، يقف عند مفترق طرق، هو إلى اليأس أقربُ منه إلى الأمل، لأن أبناء جيله وجمهرة العلماء المعاصرين، لا يمتلكون الأداة التي تمكنهم من تصور "أمور خفيَّة ومعانٍ روحانية" كما أنهم لا يمتلكون الطبيعة القابلة والذوق والقريحة التي تتيح لهم الإحساس بالفروق الطفيفة بين معاني الألفاظ ومسار الجمل المتشابهة. "إنَّ هذا الإحساس قليل في الناس، حتى إنه ليكون أن يقع للرجل الشيءُ من هذه الفروق والوجوه في شعر يقوله أو رسالة يكتُبها، الموقعَ الحسَن؛ ثم لا يعلم أنه قد أَحْسنَ - أما الجهل بمكان الإساءة فلا تعدمه. فلستَ تملكُ إذاً من أمرِكَ شيئاً حتى تظفر بمن له طبعٌ إذا قدحْتَه ورى، وقلبٌ إذا أرْيتَهُ رأى. فأمَّا وصاحبُك من لا يرى ما تُريه، ولا يهتدي للذي تهديه، فأنتَ رامٍ معه في غير مرمىً، مُعَنِّ نفسَك في غير جدوى. وكما لا تقيم الشعرَ في نفس مَن لا ذوق له. كذلك لا تُفهِمُ هذا الشأنَ مَنْ لم يؤْتَ الآلة التي بها يفهم؛ إلاَّ أنه إنما يكون البلاءُ، إذا ظنَّ العادِمُ لها أنه أُوتيَها، وأنه ممن يكملُ للحكْم، ويصح منه القضاء، فجعَل يقول القولَ: لو علِمَ غيَّة لاستَحْيى منه. فأما الذي يحسُّ بالنقص من نفسه، ويعلم أنه قد علِمَ علماً قد أُوتيَهُ مِنْ سِواه، فأنت منه في راحة، وهو رجل عاقل قد حماه عقلُه أن يعْدُو طورَه، أن يتكلَّف ما ليس بأهلٍ له". ومن جميل ما وقع لي، وأنا أطالع كتاب الأغاني، أنِ "اصْطحَبَ شيخٌ وشبابٌ في سفينة من الكوفة، فقال بعض الشباب للشيخ: إنَّ معنا قَيْنةً لنا، ونحن نُجِلُّك ونُحِبُّ أن نَسْمع غناءها. قال: الله المستعان؛ فأنا أَرْقَى على الأطلال وشأنكم، فغنَّتْ: حتى إذا الصبحُ بدا ضوؤهُ ... وغارتِ الجوزاءُ والمِرزمُ أقبلْتُ والوطْءُ خفيٌّ كما ... يَنْسابُ من مكمنه الأرْقَمُ

قال: فألقى الشيخ بنفسه في الفرات، وجعل يخبط بيديه ويقول: أنا الأرقَم! أنا الأرقم! فأدركوه وقد كاد يغرق؛ فقالوا: ما صنعتَ بنفسك؟ فقال: إني واللهِ أعلمُ من معاني الشعر ما لا تعملون". إلى هذا النوع من الإحساس الخفيّ قد قصد الجرجاني، يأْنَقُ لها القارئ أو السامع، وتأخذهما الأريحية والانسلاخ من واقع قلق مضطرب إلى حيث الخفقان الملائكي. لا أظن أن هذا الواقع، خاص بعصر الجرجاني، وذيَّاك الإحساس الفردوسيَّ قد اعترى المؤلف وحده، فقد عانتْ منه مختلف العصور والأزمان، وشكا منه عباقرةُ الأدب واللغة، فعبَّروا عن ذلك بكثير من المرارة .. ألم يشِعْ مثل ذلك في زمن أبي نؤاس، فقال بيته الشهير: فقلْ لمن يدْعي في العِلْمِ فلسفةً ... حفِظْت شيئاً وغابتْ عنكَ أشياء وقال الجاحظ خطبته الشهيرة مفتتحاً بها كتابه النفيس "الحيوان" مخاطباً قارئاً جاهلاً أدار عليه أفكاره وآراءه في مقدمة أدبيه فكرية من أغنى ما كتب في موضوعها ... وكذلك فعل أبو الطيب المتنبي الذي اضطرمت فيه نار الغربة في موطنه بسبب شيوع داء الجهل والغباء مع الادِّعاء الباغي فقال، من جملة أشعار كثيرة معبِّرة: أَذُمُّ إلى هذا الزمانِ أُهيْلَه ... فأعلمُهُمْ فَدْمٌ وأحْزَمُهم وَغْدُ وأكرمُهم كلبٌ وأبصرُهُمْ عَمٍ ... وأسهَدُهمْ فَهْدٌ وأشجعهُمْ قِرْدُ وستبقى الحال على ما هي، وما كانت عليه، في كل زمان ومكان، لأن هناك دائماً أفراداً أُوتوا من قوة الفهم والذكاء وبعد النظر واستشراف الآفاق واختراق الحجب، ما يجعلهم يثورون على واقعهم ويدعون إلى تغيير المفاهيم السائدة بما يوافق تطلعاتهم ودعواتهم، فتستجيب فئة ويُحجم الباقي، وهكذا إلى ما لا نهاية.

ثانيا: جوانب الإغراب

ثانياً: جوانب الإغراب ولا نقصد به الغموض الذي يتحول فيه الكلام إلى التورية والتعقيد، وما يشبه الأساليب الملتوية التي شاعت لدى فريق كبير من شعراء زمانه وكتّابه .. إنما هو استغراب لأشياء لم تجد لديَّ القبول التام والرضى الكلِّي، شأنه في ذلك شأن كل من ترك أثراً كبير الأهمية لا يسلم من النقد والتجريح أو التبخيس أحياناً ممن لم يصادف هوىً في نفوسهم وذوائقهم. ولا أرى سبيلاً لنقد أو تجريح، فدلائل الإعجاز صرْح شامخ في تاريخ الكتابة والعربية. إن هي إلاَّ نظرات تقديرية تبحث عن مستقرٍّ لها فلا تجد، وهي التي امتلأتْ برغد الطمأنينة والاستقرار، في طول الكتاب وعرضه، من كثرة ما واجهها من بديع الصنع وجليل التصور .. وإليك ما دوَّنه القلم في هذا الجانب .. * التطرق إلى كل عناصر الكلام لإثبات حكم أو رد حكم. يسلك الجرجاني في كثير من الأحيان، نحو عرض كل العناصر والأجزاء لإقرار جمال النظم وإثباته فيتطرق إلى كل ما في الشاهد الشعري أو القرآني، من ألفاظ، وتقديم وتأخير، ووجوه إعرابية مختلفة لدرجة يصبح كلُّ ما في البيت أو الآية - بلا استثناء - مدار كلام وإعجاب .. وهذا نوع من لزوم ما يلزم. فهو بغنى عن ذلك كله، وباستطاعته التخير والانتقاء وترك التفاصيل الصغيرة المتعلقة بتقنية التركيب والأداء، وأكتفي بمثال واحد: وقوفُه عند بيت ابن المعتز، لتأكيده مزيَّة الحسن في النظم لا اللفظ. "مثال ذلك أن تنظر إلى قول ابن المعتز: وإني على إشفاق عيني من العِدى ... لتَجْمحُ مني نظرةٌ ثمَّ أُطْرقُ فترى أن هذه الطلاوة وهذا الظَّرْفَ - إنما هو لأنْ جعل النظرَ يجمحُ، وليس هو لذلك، بل لأن قال في أول البيت "وإنِّي" حتى دخل (اللام) في قوله "لتجمحُ"، ثم قوله "مني"، ثم لأن قال: "نظرة" ولم يقل (النظر) مثلاً، ثم لمكان "ثم" في قوله: "ثم أُطرق" وللطيفةِ أخرى نصرتْ هذه اللطائف وهي اعتراضه بين اسم (إنَّ) وخبرها، بقوله: "على إشفاق عيني من العدي" .. ".

وهكذا في عرض شامل لجميع ما في البيتِ من ألفاظ وتقديم وتأخير واعتراض وانتقاء كلام مكان كلام .. ولا أراه ملْزماً بعرض كل ما عرض، وأن يجد سبباً لجمال النظم في هذا البيت في التفاتات أخرى، كلفتتِه الأولى عند (جموح النظر) وشَبيهه، لأننا سنجد هذا النسق من التحليل والمراجعة في أي بيت آخر له عناصره وجمله وصوره. ورويُّه وأشياء أخرى لا يمكن حصرها. وقد تكرر هذا النمط كثيراً ولا سيما في تقليبات الوجوه الإعرابية ولبعض الآيات القرآنية التي أغدق عليها من المراجعة والتصور المتعدد الوجوه، بما يشبه التبذُّل، وهو الخبير بمواضع الجمال وبلاغة القول. * صعوبة تشكيل النص بسبب التطويل وتشعيب الجمل والمعاني سبقت الإشارة إلى هذا الأمر، في معرض الكلام على أساليب المؤلف، وأعود إليها الآن لإبداء قلقٍ في ضبط النص الذي خلا من التشكيل وتنقيط الياء، وكثير من علامات الترقيم، وليس ذلك وقفاً على نصِّ الجرجاني .. كل النصوص القديمة كذلك، ولكن المشكلة هي في طول الجمل والعبارات التي تبدأ بفعل، وتطوي سطوراً عديدة لتعثر على مفعوله، أو مبتدأ، فصل عن خبره بجمل معترضة واستدراكات وتحوُّلات كلام، حتى صارت الإعادة والمراجعة واجبة لمعرفة الجواب أو الخبر، وغير ذلك، فيلتبس إعراب الكلام ويصعب الضبط الدقيق. وكثيراً ما كان يتدخل الشارح الشيخُ رضا ويعيِّن فاعلاً أو خبراً أو جواب شرط أو عطفاً. والأمثلة كثيرة يسهل الوقوف عليها، ولا سيما توضيحات الشارحين وإضاءاتهم. * إطناب في القول يشبه الحشو الإطناب في اللغة: المبالغة في مدح أوْ ذمِّ والإكثار فيه، وهذا ما نقصد إليه هاهنا، لا الإطناب البلاغي الذي يتداخل مع التطويل والإسهاب والتكرير والإيغال والتكميل وغيره مما شرحته في بحث خاص. وأكثر مظاهر هذا الإطناب تتبدَّى في (إنَّ وإنَّما وعلى أن ... الخ) حروف يستخدمها المؤلف لا يكاد يتخلى عنها في معظم جمله وتراكيبه، كقوله متحدثاً عن الاستعارة: "إنَّا إذا نظرنا إلى الاستعارة وجدناها إنما كانت أبلغ من أجل أنها تدل على قوة الشَّبه". والأسلوب الذي أفضله في هذا المضمار قوله:

(إنَّا إذا نظرنا إلى الاستعارة وجدناها أبلغ، لأنها تدل على قوة الشبه، أو لدلالتها على قوة الشبه). فتتخلَّص من "إنما كانت" و "من أجْل". وقوله في كلام على شرف الاستعارة والمجاز: "ثم إنَّ ههنا معنىً شريفاً قد كان ينبغي أن نكون قد ذكرناه في أثناء ما مضى من كلامنا ... ". لو كتبه طالب جامعي عندي، لأشرتُ بالأحمر: (حشْو، ومن نافل القول) لأنني أفضل لو قال: (إن هاهنا معنى شريفاً كان ينبغي ذكره في كلامنا السابق .. ) فأتخلص من حرف "قد" المتكرر مرتين ومن "أن نكون" و "أثناء ما مضى". كل هذه الأمور من زيادات التأكيد والدقة التي لا يسوغها القارئ الحديث ولا ينسخ على منوالها. وقد اعتدنا أو تنكَّبْنا عن لغة التطويل إلى ما يدخل في المفيد، ما لم يكن الموضوع وصفيَّاً تأمّلياً. أو خطابياً منبرياً تكثر فيه المترادفات والأوصاف المتشابهة.

مقتطفات من محكم صنعته وأدائه البليغ

مقتطفات من محكم صنعته وأدائه البليغ أردت من هذه الفقرة منح القارئ فسحه تأمل سريع في صنعة الجرجاني المحكمة ونسيجه الأدبي الجزل الذي لم تشُبْه البحث العلمي الرصين، ولا كُلفة البديعي المتهالك على محسِّن صوتي خاوٍ .. لئن قدَّمتُ شيئاً منها في طيَّات هذه المقدمة، فللاستشهاد وتبيان المعالم الدالَّة. وقد حرصتُ أن يكون الاختيار خالصاً من تغضُّنات التقليب والتأويل، وكثرة السؤال التي تسود كثيراً من الفصول والصفحات، بدافع التعليم والنفي والإثبات لما يطرح من أفكار ومفاهيم. 1 - تفصيل لمزايا إعجاز القرآن قال مجيباً عن تساؤل العارف الجاهل حول مزايا القرآن: "أعجزَتْهم مزايا ظهرت لهم في نظمه، وخصائصُ صادفوها في سياق لفظه، وبدائع راعتْهُم من مبادي آية ومقاطعها، ومجاري ألفاظها ومواقعها، وفي مضرب كل مثل، ومساق كل خبر، وصورة كل عظة وتنبيه وإعلام، وتذكير وترهيب، ومع كل حجة وبرهان، وصفةٍ وتبيان؛ وبهرهم أنهم تأمَّلوه سُورةً سورةً، وعَشْراً عَشراً، وآية آية، فلم يجدوا في الجميع كلمة يَنْبو بها مكانها، ولفظةً يُنكرُ شانُها، أو يُرى أنَّ غيرها أصلحُ هناك أو أشْبَه، أو أحرى وأخْلَق، بل وجدوا اتِّساقاً بهر العقول، وأعجز الجمهور. ونظاماً والتئاماً، وإتقاناً وإحكاماً، لم يَدعْ في نفس بليغ منهم - ولو حكَّ بيافوخه السماء - موضع طمع، حتى خرست الألسن عن أنْ تَدَّعي وتقول، وخلدتِ القُروم، فلم تملَك أن تصول" .. (دلائل الإعجاز/ ص 32) و "خلدت" بمعنى: أخلدتْ. والقروم: الفُحول. وهي هنا مجاز .. 2 - النظم: حقيقته وضرورته ليس النظم شيئاً إلاَّ توخِّي معاني النحو وأحكامه ووجوهه وفروقه فيما بين الكلم، وأنك قد تبيَّنت أنه إذا رُفعَ معاني النحو وأحكامُه مما بين الكَلم حتى لا تراد فيها في جملة ولا تفصيل، خرجتِ الكلمُ المنطوقُ ببعضها في أثر ببعضٍ في البيت من الشعر والفصل من النثر، عن أن يكون لكونها في مواضعها التي وُضعتْ فيها موجِبٌ ومقتضى، وعن أن يُتصوَّر أن يقال في كلمة منها إنها مرتبطة بصاحبةٍ لها، ومتعلِّقةٍ بها، وكائنة بسببٍ منها، وإنْ حَسُنَ تصوُّرك لذلك، ثبَّتَ فيه قدَمك، وملأ من نفسك، وباعَدَك من أن تَحنَّ إلى الذي كنتَ عليه، وأن يَجُرَّك الإلفُ والاعتياد إليه، وأنك جعلتَ ما قلناه: نَقْشاً في صدرك، وأثبتَّه في سويداء قلبك، وصادقتَ بينه وبين نفسك". (دلائل الإعجاز/ ص 403 - 404). ويتابع في السياق نفسه:

"ثبتَ من ذلك أن طالب دليل الإعجاز من نظم القرآن، إذا هو لم يطلبْهُ في معاني النحو وأحكامه ووجوهه وفروقه، ولم يعلم أنها مَعْدنِه ومَعانُه، وموضعه ومكانُه، وأنه لا مستنبط له سواها، وأن لا وجْهَ لطلبه فيما عداها، غارٌّ نفْسَه بالكاذِب من الطمع، ومسلِّمٌ إلى الخِدَع، وأنه إنْ أبى يكون فيها، كان قد أبى أن يكون القرآن معجزاً بنظمه، ولزمه أن يُثبت شيئاً آخر يكون معجزاً به، وأن يلحق بأصحاب الصرفة، فيدفع الإعجاز من أصله .. " (نفسه / ص 404. والمعان: المباءةُ والمنزل). 3 - نموذج تطبيقي لشرح حقيقة الاستعارة وتحليلها - من خلال بيت الحماسة، لتأبط شرّاً - إذا هزَّهُ في عظْم قرنٍ تهلَّلتْ ... نواجذُ أفواهِ المنايا الضَّواحكِ "فأنت الآن لا تَستطيع أن تزعم في بيت الحماسة أنه استعار لفظَ "النواجذ" ولفظ "الأفواه" لأن ذلك يُوجب المحال، وهو أن يكون في المنايا شيء قد شبَّهة بالنواجذ، وشيء قد شبَّهه بالأفواه، فليس إلاَّ أن تقول، إنه لمَّا ادَّعى أن المنايا تُسَرُّ وتَسْتبشر إذا هو هزَّ السيفَ، وجعلها لسرورها بذلك تضحك، أراد أن يبالغ في الأمر، فجعلها في صورة من يضحك، حتى تبدوَ نواجذُه من شدَّة السرور. ( ... ) فقد تبيَّن من غير وجهٍ، أنَّ الاستعارة إنما هي ادَّعاءُ معنى الاسم للشيء. لا نقلُ الاسم عن الشيء. وإذا ثبتَ أنها ادِّعاءُ معنى الاسم للشيء، علمتَ أن الذي قالوه من أنها تعليقٌ للعبارة على غير ما وُضعت له في اللغة، ونقلٌ لها عمَّا وضعتْ له، كلامٌ قد تسامحوا فيه، لأنه إذا كانت الاستعارةُ ادعاءَ معنى الاسم، لم يكن الاسمُ مُزالاً عمَّا وُضع له، بل مُقَرّاً عليه". (نفسه/ ص 335). والقِرنُ: الكفؤ - وتهلَّلتْ: لاحت وظهرتْ من البِشْر والسرور. 4 - حقيقة الخبر في بلاغة القول "إنَّ الخبر وجميع الكلام، معانٍ ينشئها الإنسان في نفسه، ويُصرِّفها في فكره، ويناجي بها قلبه، ويراجع فيها عقله، وتوصف بأنها مقاصدُ وأغراضٌ وأعظمها شأناً الخَبرُ. فهو الذي يُتصوَّر بالصور الكثيرة، وتقع فيه الصناعات العجيبة، وفيه يكون في الأمر الأعم، المزايا التي بها يقع التفاضلُ في الفصاحة". (دلائل الإعجاز/ ص 406).

5 - نموذج من أسلوبه الأدبي الآسر * مقدمة فصل (الكناية والتعريض): "هذا فنٌّ من القول دقيق المسلك، لطيف المأخذ. وهو أَنَّا نراهم كما يصنعون في نفس الصفة بأن يذهبوا بها مذهب الكناية والتعريض، كذلك يذهبون في إثبات الصفة هذا المذهب، وإذا فعلوا ذلك، بدتْ هناك محاسنُ تملأ الطرْفَ، ودقائق تُعْجز الوصف، ورأيت هناك شعراً شاعراً، وسحْراً ساحراً، وبلاغةً لا يكمل لها إلا الشاعرُ المُفْلِق، والخطيبُ المِصْقَع، وكما أنَّ الصفة إذا لم تأتِكَ مُصرَّحاً بذِكْرها، مكشوفاً عن وجهها، ولكن مدلولاً عليها بغيرها، كان ذلك أفْخَمَ لشأنها، وألطف لمكانها - كذلك إثباتك الصفة للشيء تُثْبتها له إذا لم تُلْقِه إلى السامع صريحاً، وجئتَ إليه من جانب التعريض والكناية، والرمز والإشارة، كان له من الفضل والمزيَّة، ومن الحسْن والرونق، ما لا يقلُّ قليلُه، ولا يجهلُ موضعُ الفضيلة فيه". (دلائل الإعجاز/ ص 237).

فصل مقتضب خاص في كشف الفضل الذي قدمه للقارئ ونضح له في الخوض الدائم في معترك النظم

فصل مقتضب خاص في كشف الفضل الذي قدَّمه للقارئ ونُضْحٌ له في الخوض الدائم في معترك النظم " قد بلغنا في مداواة الناس من دائهم، وعلاج الفساد الذي عرضَ في آرائهم، كلَّ مبلغ، وانتهينا إلى كل غاية، وأخذنا بهم عن المجاهل التي كانوا يتعسَّفون فيها إلى السَّنن اللاَّحِب، ونقلناهم عن الآجن المطروق، إلى النَّمير الذي يشفي غليلَ الشارب، ولم ندعْ لباطلهم عِرْقاً ينبضُ إلاَّ كويناهُ ولا للخلاف لساناً ينطقُ إلاَّ أخرَسْناه، ولم نتركْ غطاءً على بَصَر ذي عقلٍ إلاَّ حَسرْناهُ. في أيها السامعُ لِمَا قلناهُ، والناظرُ فيما كتبناهُ، والمتصفِّحُ لما دوَّنَّاهُ: إنْ كنتَ سمعتَ سماعَ صادقِ الرغبةِ، في أن تكون في أمرك على بصيرة، ونظرتَ نظَرَ تامِّ العنايةِ في أن يُورِدَ ويَصْدُرَ عن معرفة، وتصفَّحْتَ تصفُّحَ مَن إذا مارس باباً من العلم، لم يقنعْه إلا أن يكون على ذروة السَّنام، ويضْرب بالمُعَلَّى من السَّهام؛ فقد هُديتَ لضالَّتك، وفتح لك الطريقُ إلى بُغْيتك، وهُيِّئ لك الأداةُ التي تبلغ بها، وأُوتيت الآلة التي معها تصل؛ فخذْ لنفسكَ بالتي هي أمْلأُ ليدَيْك، وأعْوَدُ بالحظِّ عليكَ، ووازنْ بين حالِك الآن - وقد تنبَّهْتَ من رَقْدتك، وأفقْتَ من غفْلتك، وصرت تعلم، إذا أنتَ خضت في أمر اللفظ والنظم، معنى ما تذكر، وتعلم كيف تُورِدُ وتصْدر - وبينها وأنتَ من أمرها في عمياءَ، وخابطٌ خَبْطَ عشواءَ، قُصاراكَ أن تكرر ألفاظاً لا تعرف لشيء منها تفسيراً، وضروبَ كلامٍ للبلغاء إنْ سُئلْتَ عن أغراضهم فيها، لم تستطع لها تَبْيينا. فإنكَ تراكَ تُطيل التعجب من غفلتك، وتكثر الاعتذار إلى عقلك، من الذي كنتَ عليه طول مدتها. ونسألُ الله تعالى أن يجعل كل ما نأتيه، ونقصدُه ونَنْتَحيه، لوجهه خالصاً، وإلى رضاه عزَّ وجَلَّ مؤدِّياً، ولثوابه مُقْتضياً، وللزلفى مُوجِباً، بمنِّه وفضله ورحمته". (دلائل الإعجاز/ ص 366 - 376). والسَّنَن اللاحب: الطريق الواضح. والآجن: المتغير الطعم، المطروق: الذي خوَّضته الإبل وبوَّلت فيه: والنمير: الزاكي الرقراق.

ذاك هو نثر الجرجاني الذي يمتاح من ينابيع العربية التي رعرعتها البيداءُ وحنادسُها، وصحاصح فجرها الفردوسيِّ، ووهبها القرآن من وسيع مجازاته ورفيع توقيعاته ومستدق استداراته، وانسلال معانيه من فروج الكلمات انخطافاً وإيماءً وإيحاءً، ما جعله يمتهد صهوة الكلام فارساً لا يُشق له غبار، وساحراً مِفَنَاً يخلب السمع والأبصار .. لا أقول ذلك هوى طاغياً، فقد أشرت غير مرة إلى تعقيداته وملتبساته وجنوحه إلى التكرار والقصْر المربك .. بل هو أدبه الرفيع، ونثره الأصيل الذي لا مطعن فيه ولا مناص من النظر إليه بتقدير وإعجاب لهذه الدقة المتناهية، وتلك المقدرة المذهلة على التعبير عن دقائق الأفكار، بلغة محبوكة حبكاً يجمع بين السهولة والامتناع، والجزالة والسلاسة، وقوة الدلالة وبُعْد المرام، فيما يشبه المقامة الساخرة حيناً، والرسالة المنضَّدة باحرف من بصيرة نافذة، وعقل نيِّر يرصد مواقع الجمال والقبح، حيناً آخر، والدرس الصفِّي المنهجي المتناهي الوضوح والنتائج، حيناً وحيناً، ويُختم كلام الفصول وأنت شاخصٌ إلى المزيد .. فلا تجد مناصاً من معاودة القراءة واستئناف رحلة التمتع والاستفادة.

عبد القاهر الجرجاني في سيرته الذاتية والعلمية

عبد القاهر الجرجاني في سيرته الذاتية والعلمية هو أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني، نسبة إلى جرجان، المدينة الفارسية العريقة التي تقع بين طبرستان وخراسان. ينتسب إليها عدد وافر من رجال العلم والأدب والفقه والحديث، عدَّ منهم عمر رضا كحالة خمسة وثلاثين، منهم الفقيه والقاضي والشاعر المحدِّث والمؤرخ .. وتمتاز هذه المدينة بشدة بردها وحرِّها، لكن أهلها موصوفون بالوقار والمروءة واليسار والتأني والأخلاق المحمودة. وصفها ياقوت فقال: هي مدينة حسنة على واد عظيم في ثغور بلدان السهل والجبل والبر والبحر، بها الزيتون والنخل والجوز والرمان وقصب السكر و "الأترجُّ". ومع ذلك فقد ذمَّها الصاحب ابن عبَّاد قائلاً: نحنُ والله من هوائكِ ياجر ... جانُ في خطةٍ وكَرْبٍ شديد حَرُّها يُنضِجُ الجلودَ فإن هبَّـ ... ـتْ شمالاً تكَّدرتْ برُكودِ كحبيب منافقٍ كلَّما هـ ... ـمَّ بوصْلٍ أحالَهُ بالصدودِ لم يذكر المؤرخون شيئاً عن طفولته وأسرته ونشأته، وكثير من أمور حياته، حتى نَسبُهُ توقَّف لديهم، عند جدِّه (محمد). ولم يتوغلوا قيد أنملة فوق ذلك ضاربين صفحاً عن كل ما يمت إلى علَم مثله، من إحاطةٍ ببيئته وأسرته، وتعلُّمه وتنقله، وأساتذته وتلاميذه، وشؤونٍ كثيرة تتعلق به من قريب أو بعيد. ويتلخص ما جاء في مصادر ترجمته أنه: أشعري، شافعي، نحوي، بيانيٌّ متكلِّمٌ فقيه، مفسِّر، شاعر وزاد بعضُهم: "كان .. ذا نُسُكٍ ودين، قال السِّلفي: (أحمد بن محمد السِّلفي، الحافظ المحدّث المتوفى سنة 576 هـ/ 1180م) كان ورعاً قانعاً. دخل عليه لصٌّ وهو يُصلِّي، فأخذ ما وجد، وهو ينظرُ، وهو في الصلاة فما قطعها، وكان آيةً في النحو". ويعدُ كتاب "دمية القصر وعصْرة أهل العصر" لأبي الحسن علي بن الحسن الباخزري المتوفي سنة 467 هـ أقرب ما يكون لعصره وحياته وبيئته .. ومع ذلك لم يزد في ترجمته له على خمس صفحاتٍ، عدد السطور التي خصَّه فيها بتعريف وتكريم: تسعة سطور، والباقي منتخبات من شعره الذي لا يزال مخطوطاًً .. ومما جاء فيه: "اتَّفقتْ على إمامته الألسنةُ، وتجمَّلتْ بمكانه وزمانه الأمكنة والأزمنة، وأثنى عليه طيبُ العناصر، وثُنيتْ به عقودُ الخناصر، فهو فرْدٌ في علمه الغزير، لا بل هو العلَمُ والفردُ في الأئمة المشاهير". هذا جلٌّ ما جاء في مصادر ترجمته، ومعظمها يقتفي أثر الآخر، ولا تكاد تحظى بكلمة واحدة تضيء ظلمة حياته الغابرة. وأما عن تاريخ مولده، فهو مستنتج استنتاجاً ولم يعيِّنْه أحد إلاَّ على سبيل الترجيح، لكنهم اتفقوا أن وفاته كانت سنة 471 هـ / 1078م وقيل سنة 474 هـ. ورُجِّح أن يكون مولده سنة 400 هـ / 1010م.

وفي كتابه: "عبد القاهر الجرجاني وجهوده في البلاغة العربية" يعمد الدكتور أحمد بدوي، إلى شعره لاستخلاص بعض مزاياه وخصالة ونضاله، ولولا هذا الشعر، لكانت حياة الجرجاني، غائبة كلِّياً عن قارئ اليوم الذي تعوَّد أن يطَّلع على سير أعلامه بوفرة ويُسْر، ولكن الأيام لها تصاريفها، فتُعتِّم على بعض النوابغ الأفذاذ، وتفيض بما لا حصر له على كثير من رجال السلطان والنفوذ، وقليلٍ من العظماء الذي تحدُّوا التاريخ فحفروا سيرهم على صفحاته حَفْراً لم تستطع قوى الظلام طمسها أو تشويهها .. هذا الكتاب الذي يبلغ 428 صفحة من الحجم الوسط لم نقرأ فيه شيئاً عن حياة الجرجاني، فيما خلا الإشارات الخاطفة التي لخصها كتَّاب التراجم، والومضات الشعرية التي عكست أصداءً غير مدوية لواقعه النفسي .. حتى أساتذته، لم يزيدوا على اثنين لقيهما أبو بكر وأخذ عنهما، الأول: أبو الحسين محمد بن الحسن بن عبد الوارث الفارسي النحوي، ابن أخت العالم الشهير أبي علي الفارسي .. والثاني أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني، المعروف بالقاضي الجرجاني المتوفى سنة 392هـ/ 1002م، الأمر الذي يدعو إلى الغرابة، في إمكان لقاء أبي بكر به والتمكن من الأخذ عنه؛ وهو الذي لم يعرف عنه الحياة الطويلة .. والأرجح أن يكون عبد القاهر قد اطَّلع عن كَثَب على كتابه "الوساطة بين المتنبي وخصومه" وفيه يُغلِّب القاضي دَفَّةَ المتنبي على أبي تمام وغيره من الشعراء والمنتقدين، فلقي ذلك هوىً في نفسه لأنه من هذا الفريق. أما تلاميذه فالحديث عنهم لا يروي غليلاً، إذ ذكر له تلميذان فقط، هما علي بن زيد الفصيحي، وأبو نصر أحمد بن محمد الشجري، الذي أخذ عنه كتاب المقتصد" في النحْو. ومن الثابت أن عبد القاهر لم يغادر جرجان إلى بلد آخر، من المهد إلى اللحد، وكان الطلاب والوافدون إليه، يقصدونه من بلاد بعيدة ويقيمون بقربه للاستمتاع إليه والأخذ عنه. وأما خصاله وطبائعه النفسية، فلم يُشر أحد إليها إلاَّ عرضاً وبكلمات خاطفة، كقول تاج الدين السّبْكي: "صار الإمامَ المشهور المقصود من جميع الجهات مع الدين المتين والورَع والسُّكون".

وقد عرضَ الدكتور أحمد بدوي لبعض ما تراءى له من شعره الذي رسم شيئاً من أحواله وعلاقاته ومواقفه غير المعلنة، وألخصها بما يلي: * سخطه على عصره وعلى الأيام التي تضع من قدر العلماء وترفع من شأن الجهلاء من خلال قولته الشعرية الصادمة: كبِّرْ على العِلْم، لا تَرْمْهُ ... ومِلْ إلى الجَهْل مَيْلَ هائِمْ وعشْ حماراً تعشْ سعيداً ... فالسعد في طالع البهائم أو قوله، على سخطٍ وأَنفةٍ مؤلمة: هذا زمانٌ ليس فيه ... سوى النَّذالةِ والجَهالَهْ لم يَرْق فيه صاعِدٌ ... إلاَّ وسُلَّمه النذالة بَرَمُه بالناس وبنفسه وشعور بما يشبه حبسة اللسان. ولم يتوافق ذلك مع ورعه وسكونيَّته وطولِ باعه في الكلام المرسل المحكم المتدفق .. * صمت المؤرخين على وضعه الأسروي، زوجةً وولداً، وأمًّا وأَباً وأشَّقاء ... والأرجح أن يكون والداً وزوجاً، لكنَّ تفرغه للعلم والدين، ولقاصديه من أهل العلم والمعرفة، شغلَ الناسَ عن أمور أسرته، وحصَرها بجهاده العلمي المنوع بين نحو وتفسير وأدب وشعر وثقافة فكرية متعددة الينابيع ما بين يونانية وفارسية وهندية، فضلاً عن ثقافته العربية القرآنية الواسعة؛ فتنوعت كتاباته ومصنفاته بين نحو وبلاغة وتفسير وفقهٍ وأدب، لذلك وجدنا تراجم له في تراجم الطبقات الشافعية، وطبقات المفسِّرين، وطبقات النحاة، وطبقات الأدباء والبلغاء. آثاره لم يترك الجرجاني آثاراً عديدة، ولكنه نوَّع فيما ترك، وذاع صيت بعض آثاره بما يغني عن التعداد والكثرة. وسأعرض لها تباعاً بحسب انتمائها العلمي. أ - في النحو 1 - المغْني، كتاب كبير وضعَه في ثلاثين مجلَّدة، كناية عن شرح مبسط لكتاب: "الايضاح في النحو" لأبي علي الفارسي المتوفي سنة 377هـ/ 987م وهو كتاب مقسَّم بين النحو والصرف، أثار من إعجاب الجرجاني أن وضع لأَجله أربعة كتب، أولها "المغني" ... 2 - "المقتصد" ثلاث مجلدات، أو أقسام، وهو ملخص "للمغني" وقد أَتمّه الجرجاني بخط يده في رمضان سنة454 هـ.

3 - "التكملة" أو - التتمَّة، قيل إن الجرجاني قد أضاف إلى كتاب "الإيضاح" بعض المسائل النحوية - وذكره بروكلمان. فقال: "كتاب التتمة، في الجملة" وأشار إلى رقم مخطوطه في كل من المتحف البريطاني والمكتب الهندي. 4 - "الإيجاز" وهو مختصر لكتاب "الإيضاح". ويذكر حاجي خليفة عدداً كبيراً من الشروح التي عُنيت بكتاب "الإيضاح" تتجاوز العشرات. 5 - "الجُمل" وسمِّي: الجرجانية"، مختصر لعلم النحو، وضعَه في خمسة فصول، فصَّلها حاجي خليفة كما يلي: 1 - في المقدمات. 2 - في عوامل الأفعَال. 3 - في عوامل الحروف. 4 - في عوامل الأسماء. 5 - في أشياء منفردة. وذكر له عدداً كبيراً من الشروح لكثير من علماء العصور اللاحقة، وصولاً حتى منتصفِ القرن الثامن الهجري. وذكر بروكلمان، أنه منظومة نحوية، شُرحت كثيراً، وقد عدَّد شُرَّاحَها وأسماء شروحهم. 6 - التلخيص" وهو شرح الكتاب "الجمل". 7 - العوامل المائة في النحو" أو: كتاب العوامل المائة، أو مائة عامل. أقبل عليه القرَّاء والعلماء، فشرحوه وبسَّطوه، علَّقوا عليه وذكر منهم حاجي خليفة، ما بين شارح ومترجم وناظم ومُعْرِب ومعلِّق ومختصِر: اثني عشر عالماً، آخرهم صوفي الأدرنوي المتوفي سنة 1024 هـ/. أما بروكلمان فقد عيَّن ورقَّم له عشرات المخطوطات في عدد كبير من المكتبات العربية والأجنبية، وذكر له ستة وثلاثين شرحاً، وتسع منظومات مخطوطة ومطبوعة. 8 - "العمدة" في التصريف (أشار إليه "كشف الظنون" دون تعريف). 9 - كتاب في العروض (أشار إليه "فوات الوفيات" دون تعريف). ب - في الشرح والتفسير القرآني 10 - "كتاب المفتاح وشرح الفاتحة" في مجلد واحد. 11 - المعتضد، شرح كبير لكتاب "إعجاز القرآن" لأبي عبد الله محمد بن زيد الواسطي المتوفي سنة 306 هـ. 12 - شرح "الإعجاز" الصغير، ذكره حاجي خليفة كما ذكر شرحه الأول المعتضد. وهناك شروح أخرى لإعجاز القرآن، قام بها علماء أجلاَّء بينهم فخر الدين الرازي والباقلاَّني.

13 - الرسالة الشافية كتاب خاص في (بيان عجز العرب عن معارضة القرآن، وإذعانهم وعلمهم أن الذي سمعوه من آي الذكر الحكيم فائتٌ للقوى البشرية ومتجاوزٌ للذي يتَّسع له ذَرْعُ المخلوقين) هكذا قدَّم لها الجرجاني. وقد نشرت هذه الرسالة مع رسالتين أُخْرَيين، واحدة للرمَّاني، والثانية للخطَّابي، في كتاب واحد، حققه كل من محمد خلف الله ود. محمد زغلول سلام، وصدر عن دار المعارف بمصر سنة 1968 (طبعة ثانية) وعدد صفحات "الرسالة الشافية" تسعون صفحة من الكتاب. 14 - درج الدرر، في تفسير القرآن ذكره بروكلمان، وأشار إلى مخطوطين له في كل من الأسكوريال والقاهرة. كما ذكره حاجي خليفة على وجه الظنّ. ج - في علوم البلاغة 15 - دلائل الإعجاز، العلامة الفارقة في نتاج الرجل وعصره، والأثر الأنفس بين كتب ومصنفات البلاغة، من قبل ومن بعد. فهو لم يضع أسس علم ركْنٍ من علوم البلاغة العربية، بل وضع مصطلحاً علمياً فنياً أدبياً، قائماً على نظرية متكاملة لم يزد عليها العلماء من بعد إلاَّ التبسيط والتنوير ... عَنيتُ مصطلح "النظم" ونظريته ... 16 - أسرار البلاغة، العلامة الثانية، والمَعْلَم الثاني في نتاج الرجل والعصر، وهو خاص بعلمي: البيان بخاصة، والبديع بعامة. وقد صدر الكتاب في غير طبعة، أهمها طبعة المنار، التي أشرف عليها الشيخ رشيد رضا، ونشرتها دار المعرفة مصورة عنها، في بيروت سنة 1978. وكان قد صدر محققاً من المستشرق هـ. ريتر، ثم أُعيد نشره مصوَّراً، في دار المسيرة طبعة ثالثة بيروت سنة 1983. ونَسَقهُ في الموضوعات والمعالجة والتبويب، شبهٌ بنسقية "دلائل الإعجاز" أي تداخل الموضوعات بعضها ببعض، وتكرار المعالجة للمسألة الواحدة، من زوايا أخرى، والتعويل باستمرار على الشواهد الشعرية التي بلغت في "أسرار البلاغة" نسبةً عالية، كذلك الشواهد القرآنية التي لم تكن بنفس النسبة التي كانت في "دلائل الإعجاز".

17 - التذكرة، وهو كتاب منوع الموضوعات، لكنها تتصل بمعظمها بما طرح في كتاب "دلائل الإعجاز" مما لم يستوف القول فيها هناك. ومما يوحي لنا بذلك، أن عبد القاهر الجرجاني لم يَخْتم كتابه "الدلائل" بما بدأ به من حمد الله وامتنانه، وهكذا معظم كتبه. د - في الشعر ترك عبد القاهر في هذا الجانب مصنفاً واحداً هو: 18 - المختار من دواوين المتنبي والبحتري وأبي تمام: اعتنى بنسخه وتصحيحه ومعارضته بالأصول وشرَحَه: عبد العزيز الميمني، عليكرة - الهند، وصدر ضمن كتاب بعنوان: "الطرائف الأدبية" الذي وضعه الميمني على قسمين، الأول: لدواوين كل من الأَفوه الأودي والشنفرى، وتسع قصائد نادرة، والثاني: للمختارات. صدر الكتاب عن دار الكتب العلمية في بيروت مصوَّراً عن طبعة صدرت في القاهرة سنة 1937؛ وقد وقع الميمني على نسخة من المخطوطة في إحدى قرى الهند في مملكة حيدر آباد .. أخذ الميمني على الجرجاني إغفال قصيدةٍ حكمية للمتنبي - لم يثبتها في المختارات مع أنَّ هذه الأخيرة، قد عدَّها الجرجاني من بين عيون الشعر الحكمي للشعراء الثلاثة - وهذه القصيدة نونيَّة، مطلعها: صَحِبَ الناسُ قبلنا ذا الزمانا ... وعَناهُم من شأنه ما عنانا ومما جاء في مقدمة "المختارات". "هذا اختيارٌ من دواوين المتنبي والبحتري وأبي تمام عمدنا فيه لأشرف أجناس الشعر، وأحقها بأن يُحفظ ويُروى ويوكّل به الهِمَمُ، ويُفَرَّغ له البالُ، وتُصرف إليه العناية، ويقدَّم في الدراية، وتُعْمَر به الصدور، ويستودعَ القلوب، ويعدَّ للمذاكرة، ويُحصَّل للمحاضرة. وذلك ما كان مثلاً سائراً، ومعنًى نادراً، وحكمةً وأدباً، وقولاً فضْلاً، ومنطقاً جزلاً .. " ويقع كتاب "المختارات" من كتاب "الطرائف" في مائة وخمس صفحات، نصيبُ المختار من شعر البحتري، وحده: في حدود النصف، يليه المتنبي فأبو تمام، مع العلم بأن الجرجاني من المعجبين جداً بشعر المتنبي على سائر الشعراء. وتقديري هو أنَّ نسبة الشعر الكبرى - للبحتري - هاهنا، لا تعود إلى عامل آخر، غير كبر حجم ديوان البحتري الذي يقارب الضعفين لديوان المتنبي.

- بقي أثر آخر من آثار الجرجاني - هو شعره، الذي ذكَره بعضُ كتب التراجم،. ولم يُشر أحد إلى عنوانٍ واحد له. والمراجح أنه لم يترك ديواناً مجموعاً على غرار سائر كتبه ومصنفاته، ربما لأنه لم يكن لديه ما يوجب جمعه وحفظه في كتاب مستقل. وما وصل إلينا من هذا الشعر، يقع بعامة في خانة الشعر الحكمي التعليمي الذي يصلح لنظم القواعد والمعارف المبوَّبة المفرَّعة. هكذا رأيناه في "هائيته" التي ختم بها "مدخله" إلى كتابه "دلائل الإعجاز" وهي في ثلاثة وعشرين بيتاً، ضمَّها حقيقة "النظم" التي عرضها بإسهاب في كتابه، وربطها كليّاً بمعاني النحو وأحكامه ووجوهه، كقوله: وقد علمْنا بأنَّ النظْمَ ليس سوى ... حُكْم من النحو نَمْضي في توخِّيهِ لو نقَّب الأَرْض باغٍ غير ذاكَ لهُ ... معنًى وصعَّدَ يَعْلو في تَرقِّيه ما عاد إلاَّ بخُسْرٍ في تطلُّبه ... ولا رأى غير غَيِّ في تَبَغِّيهِ ولو تأملنا المقاطع الشعرية التي أثبتها له كتَّابُ التراجم، ولا سيما "دمية القصر" للباخرزي خرجنا بانطباع خاص، أن هذا الشعر، لا يشكل نتاجاً أدبياً قائماً بذاته. إن هو إلاَّ نفثات قصيرة النفس لما يحتدم في داخله، عوضاً من أن يصوغها نثراً في رسائل ومقامات، نظمها شعراً، أحكم فيه العقل وموازنة الأشياء، وغلب عليه التمثُّل بعِبَر الحياة بالقَدْر الذي أتيح له استشفافها واعتصارها، كقوله: أيُّ وقتٍ هذا الذي نحنُ فيهِ ... قد دَجا بالقياس والتشبيهِ كلَّما سارتِ العقولُ لكي تَقْـ ... ـطَعَ تيهاً، تغوَّلتْ في تيهِ وقوله، وقد فاته الابتكار الفكري - على حد وصف الباخرزي لبعض أشعاره - مستعيضاً عنه بالصَّنعة البديعية التي تمثل الاتجاه الشعري العام لكثير من شعراء عصره، والعصور اللاحقة. والقول هنا، من قصيدة في اليأس من الناس: ليس بالإقبال ما نِيـ ... ـلَ بتقبيل الكلابِ إنَّ باغي الربحِ والخُسْـ ... ـرانِ في بابٍ وبابِ تلكم هي الآثار التي أمكن الوقوفُ عندها، ورصْدُ ما فيها من جوانب علمية وفنية، إنْ فاتني فيها العمق والشمول، فلم تفُتْني الإحاطة ولو بأطرها العريضة.

وبهذه الفقرة من التعريف بآثار الجرجاني، أختم الكلام في هذه المقدمة التي أعتبرها مدخلاً عاماً لدراسة الجهد البلاغي المتخصص الذي قدمه عبد القاهر الجرجاني، أكثر منه لكتابه "دلائل الإعجاز"؛ جهدتُ فيه أن أضع الأمور في نصابها، وأسلِّط الأضواء على أعمال أربعة، الأول منها هو الأصل والمرتكز، عنيتُ كتاب "دلائل الإعجاز" والعملانِ الثاني والثالث، لكل من الشارحين العلاَّمتين: الإمام محمد عبده، والشيخ محمد رشيد رضا .. أما العمل الرابع فهو لصاحب هذه المقدمة الذي يبتهل إلى الله العليِّ القدير، أن يُبوِّئه شرف المنزلة التي يستحقها إلى جانب المقامات العلمية الثلاثة ... إنه لا يُضيعُ أجْرَ العاملين المحسنين!! طرابلس - لبنان - جمادى الأولى سنة 1420 هـ لموافق الثامن من أيلول ياسين الأيوبي

التعريف بكتاب دلائل الإعجاز بقلم الشارح: محمد رشيد رضا

التعريف بكتاب دلائل الإعجاز بقلم الشارح: محمد رشيد رضا حمداً لمن علَّم بالقلم، فلولا القلمُ لما وصلَ علمُ الأولين إلى الآخِرين، ثم حمداً لمن علَّم الإنسانَ من صناعة الطبع ما لم يكن يَعْلم؛ ولولا الطباعةُ لما سهلَ انتشارُ العلوم في العالَمينَ، وصلاةً وسلاماًَ على مَنْ أرشدَ جميعَ الأُمم إلى الاختراع والابتداع في أمور الدنيا، والاتِّباع في أمر الدين، بقوله: "مَنْ سَنَّ سُنةً حسنةً فله أَجْرُها وأَجر مَنْ عمِلَ بها إلى يوم الدين" وقوله: "عليكُم بِسُنَّتي وسنةِ الخلفاء الراشدين". وبعد، فيقول ناشرُ هذا الكتاب ومصححُه (محمد رشيد رضا بن السيد علي رضا الحسيني الحسني) منشئ مجلة "المنار" الإسلامي بمصر القاهرة: إنَّ كتاب "دلائل الإعجاز" الذي ننشره اليوم، هو صنْو كتاب "أسرار البلاغة" الذي نشرناه في أول العام الماضي (عام 1320 هـ). وقد صدَّرتُ ذلك الكتابَ، بمقدمة بيَّنْتُ فيها حقيقةَ معنى اللغة ومعنى "البيان" فيها، ومكانةَ ذلِك الكتابِ من البيان وعِلْمه، ومِنْ سائر كتبه، مع الإلمام بشيء من تاريخ البلاغة أثبتُّ فيه أن الإمام الشيخ عبد القاهر الجرجاني هو مؤسسُ علمَيْ البلاغة، ومقيم ركْنَيْها "المعاني والبيان" بكتابيه أسرار البلاغة، ودلائلِ الإعجاز. وأنَّ السكاكيَّ ومَنْ دونه مِن علماء هذا الشأن عِيالٌ عليه؛ وذكرتُ ثمةً أنني لمَّا هاجرتُ إلى مصر لإنشاء مجلة "المنار" الإِسلامي في سنة 1315هـ، وجدت الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، رئيسَ جمعية إِحياء العلوم العربية، ومفتي الديار المصرية، مشتغلاً بتصحيح كتاب "دلائل الإعجاز" وقد استحضرَ نُسخةً من المدينة المنوَّرة، ومن بغدادَ، ليقابلها على النسخة التي عنده. وأَزيدُ الآن: أنه قد عُنِيَ بتصحيحه أتَمَّ عنايةٍ وأَشركَ معه فيها إمامَ اللغة وآدابها في هذا العصر (الشيخَ محمد محمود التركزي الشنقيطي)؛ وناهيك بكتاب اجتمع على تصحيح أصله علاَّمتا المعقول والمنقول. وبعد أن أتمَّ الأستاذُ الإمامُ تدريسَ كتاب "أسرار البلاغة" في الجامع الأزهر، عهِدَ إليَّ بأن أطبع كتاب "دلائل الإعجاز" ليقرأه بعده. فشرعتُ في الطبع وشرع هو في التدريس. وقد بذلت الجهد في تصحيحه، وفسرت بعض الكلمات الغريبة فيه وفي شواهده بالاختصار، وأشرت إلى اختلاف النسخ، أَخْذاً مما كتبه الأستاذ على هامش النسخة التي طبعنا عنها وقد بدأنا طبع الكتاب في مطبعة الموسوعات، ثم أنشأنا لمجلة "المنار" مطبعة خاصة فأتممنا طبعه فيها.

تم طبع الكتاب، ولمَّا يُتِمَّ الأستاذُ الإمامُ تدريسه، وقد علمنا منه أنه يَظهر له فيه أحياناً، قليلٌ من الغلط. فعزَمْنا على طبع جدول لتصحيح الخطأ الذي يُحصيه الإمامُ في نسخة التدريس، بعد إتمام الكتاب وإعطائه لمن يطلبه من الذين يبتاعونه، بغير ثمن ليصححوا نُسَخهم عليه. وبذلك يصحِ لنا أن نحكم أن هذا الكتاب، من أصح الكتب العربية المطبوعة، إن لم نقل أصحها؛ إذ لا طريق إلى كمال التصحيح مثلُ قراءة الكتاب درساً، لا سيما إذا كان المدرِّسُ مثْلَ الأستاذ الإمام في سَعة العِلم، وصحة الحُكْم، وحُسن التقرير، والحرص على الإفهام، والمعرفة بصناعة الطبع. ولا شك أن من يقرأ الشيء وحده، ويحاول تصحيحه، يكون عرضة للسهو والذهول عن بعض الكلم، ولا سيما إذا كان معنى الكلام الذي يقرأه واضحاً جلياً كجلاء كلام الشيخ عبد القاهر رحمه الله تعالى.

مكانة الكتاب بقلم الشارح: محمد رشيد رضا

مكانة الكتاب بقلم الشارح: محمد رشيد رضا أما الكتاب، فيعرف مكانَتَه مَنْ يَعرف معنى البلاغة، وسرَّ تسمية هذا الفن "بالمعاني". وأما من يجهل هذا السر، ويحسب أنَّ البلاغة صناعة لفظية محضة، قِوامها انتقاءُ الألفاظ الرقيقة أو الكلمات الضخمة الغريبة، فمثل هذا يعالَج بهذا الكتاب. فإن اهتدى به إلى كون البلاغة ملكة روحية وأريحية نفسية رُجيَ أن يبرأ من علَّته، ويقف على مكانة الكتاب ورتبته؛ وإن بقيَ على ضلاله القديمه وجَهْلِه المقيم، فاحْكُمْ بإعضال دائه، وتعذُّر شفائه. إنما وُضعَ الكلامُ لإفادة المعاني. والبلاغةُ فيه هي أن تَبلغ به ما تُريد من نَفْس المخاطَب، من إقناع وترغيب وترهيب، وتشويق، وتعجيب، أو إدخال سرور أو حزن أو غير ذلك وكلُّ هذه المقاصد أمور روحانية، يُتَوصل إليها بالكلام. فمعرفة قوانين النحو والمعاني والبيان شَرْطٌ فيها، ولكنها غير كافية للوصول إليها، بل لا بدّ من الهداية إلى أسباب كون الكلام مؤثِّراً، وإيراد الشواهد والأمثلة الكثيرة في المعنى الواحد، والموازنة بين الكلامين يتفقان في المعنى، ويختلفان في التأثير، كقول المُعبِّر الأول لذلك الملكِ الذي رأى في نومه أنه فقدَ جميع أسنانه، أَنَّ جميعِ أهلِكَ وذوي قرباك يَهلِكون؛ وقولِ المعبِّر الثاني له: الملك يكون أَطولَ أهلهِ عُمراً. وهذا المذهب هو الذي ذهبَ إليه الإمام عبد القاهر في كتابيه (دلائل الإعجاز) و (أسرار البلاغة). وقد خلَفَ من بعده خلَفٌ جعلوا البلاغة صناعةً لفظية محْضة، فقالوا: الُمسْنَد يُعرَّف لكذا وكذا، ويُنكَّر لكذا وكذا الخ. ولم يُبَيِّنوا السرَّ في ذلك، ولم يوازنوا بين مسند منكرٍ عرفتْهُ البلاغة، وآخرُ أنكرتُه وهو مثله، ويبينوا السبب في ذلك؛ ولم يُعْنوا بإيراد الشواهد والأمثلة والبحث في الفروق. وقد اختار أهل هذه الأزمنة الأخيرة، هذه الكتب المجْدِبة القاحلة، على مِثْل كتب عبد القاهر الخصبة الحافلة، لكثرة الحدود والرسوم والقواعد والمشاغبات في كتب المتأخرين؛ فكان أثرها فيهم أن حُرِموا من البلاغة والفصاحة، حتى إنَّ أعلَمَهم بهذه الكتب، وأكثرَهُم اشتغالاً بها، هم أعياهم وأعجزُهم عن الإتيان بالكلام البليغ (بل والصحيح) قولاً وكتابة. ولا غرو، فقد قال أحد كبار مؤلفي هذه الكتب المشهورة: إن بعض فحول هذا الفن (البلاغة) ليسوا بلغاء!! ففَصلَ بين البلاغة وعِلْمها، وجعله غير مؤدِّ إليها؛ فلم يبق إلا أنه ابتُدعِ لِيُتَعبَّدَ به. ولولا أَنْ قيَّض اللهُ للعربية، في هذا العصر، أبلغ البلغاء وأفصح الفصحاء الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، فطفقَ يُحْيى كتبَ السلف النافعة، وعلومهم، لَكُنَّا في يأس من حياة هذه اللغة الشريفة، بعدما قضى عليها حَفَظَتُها وأُساتها. نسأل الله تعالى أنْ يمدَّ في أيامه، ويُكثر من أنصاره وأعْوانه. آمين.

القسم الثاني

القسم الثاني مدخل لكتاب دلائل الإعجاز توكلت على الله وحده قال الشيخ الإمام مَجْدُ الإسلام، أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني، رحمه الله تعالى: الحمدُ لله ربِّ العالمين حمدَ الشاكرين، وصلَواتُه على محمدٍ سيد المرسلين، وعلى آله أجمعين؛ هذا كلامٌ وجيزٌ يطِّلِعُ به الناظرُ على أصول النحو جملة، وكلِّ ما به يكون النظمُ دفعةً، ويَنْظر منه في مرآةٍ تُريه الأشياءَ المتباعدةَ الأمكنةِ قد التقتْ له، حتى رآها في مكان واحد، ويرى بها مُشئماً قد ضُمَّ إلى مُعْرقِ، ومُغرِّباً قد أخذَ بيد مُشَرِّق، وقد دخلَتْ بأخِرَةٍ في كلامٍ، مَنْ أصغى إليه وتَدبَّره تدبُّرَ ذي دين وفتوة، دعاه إلى النظر في الكتاب الذي وضعناه، وبعَثَه على طلبِ ما دوَّنَّاه. واللهُ تعالى الموفِّق للصواب، والمُلْهِم لِمَا يؤدي إلى الرشاد، بمنِّه وفضْله. قال رضي الله تعالى عنه: معلوم أَنْ ليس النَّظْمُ سوى تعليق الكلم بعضها ببعض، وجَعْلِ بعضها بسبب من بعض. والكَلِمُ ثلاثٌ: اسم، وفعل، وحرف. وللتعلق فيما بينها طرق معلومة، وهو لا يعدو ثلاثة أقسام - تعلُّقُ اسم باسمٍ، وتعلق اسمٍ بفعل، وتعلق حرف بهما.

فالاسم يتعلق بالاسم: بأن يكون خبراً عنه أو حالاً منه، أو تابعاً له صفةً أو تأكيداً، أو عطفَ بيانٍ أو بدَلا، أو عطفاً بحرف. أو بأن يكون الأولُ مضافاً إلى الثاني، أو بأن يكون الأولُ يعَملُ في الثاني عملَ الفعل، ويكونَ الثاني في حكم الفاعل له أو المفعول، وذلك في اسم الفاعل، كقولنا: (زيدٌ ضارِبٌ أبوه عَمراً)، وكقوله تعالى: {أَخْرِجْنَا مِنْ هاذه القرية الظالم أَهْلُهَا} [النساء: 75]، وقوله تعالى: {وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء: 1 - 2]، واسم المفعول كقولنا: (زيدٌ مضروبٌ غِلْمانُه) وكقوله تعالى: {ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس} [هود: 103] والصفة المشبهةِ كقولنا: (زيد حَسَنٌ وجْههُ، وكريمٌ أصلُه، وشديدٌ ساعدُه)، والمصدر كقولنا: (عجبتُ من ضَرْب زيدٍ عمراً) وكقوله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً} [البلد: 14 - 15]، أو بأن يكونَ تمييزاً قد جَلاَه منتصِباً عن تمام الاسم. ومعنى تمامِ الاسمِ أن يكونَ فيه ما يَمنعُ من الإضافة، وذلك بأن يكون فيه "نون" تثنية كقولنا: (قفيزان بُرًّا). أو "نون" جمع كقولنا: (عشرون درهماً)، أو تنوينٌ، كقولنا: (راقودٌ خَلاَّ، وما في السماء قَدْرُ راحةٍ سحابا)، أو تقديرُ تنوين كقولنا: (خمسةَ عشرَ رجلا). أو يكونَ قد أُضيف إلى شيء فلا يمكن إضافتُه مرة أخرى، كقولنا: (لي ملؤُه عَسلاً). وكقوله تعالى: {مِّلْءُ الأرض ذَهَباً} [آل عمران: 91].

وأما تعلُّق الاسم بالفعل: فبأنْ يكونَ فاعلاً له أو مفعُولاً، فيكونَ مَصْدراً قد انتَصَب به، كقولك: (ضربتُ ضرْباً). ويقال له المفعول المطلق. أو مفعولاً به كقولك: (ضربتُ زيداً). أو ظرفاً مفعولاً فيه: زماناً أو مكاناً، كقولك: (خرجتُ يومَ الجمعة ووقفتُ أمامك)، أو مفعولاً معه كقولنا: (جاء البردُ والطيالسةَ، ولو تركتُ الناقةَ وفصيلَها لرَضعها). أو مفعولاً له كقولنا: (جئتُكَ إكراماً لك، وفعلتُ ذلك إرادةَ الخيرِ بك). وكقوله تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك ابتغآء مَرْضَاتِ الله} [النساء: 114] أو بأن يكون مُنْزلاً من الفعل منزلةَ المفعول، وذلك في خبرِ كان وأخواتها، والحال، والتمييز المنتصِب عن تمام الكلام مثلُ: (طاب زيدٌ نَفْساً وحَسُنَ وجهاً وكَرُمَ أصلاً). ومثلُه الاسمُ المنتصِبُ على الاستثناء كقولك: (جاءني القومُ إلا زيداً)، لأنه من قَبيل ما يَنتصِبُ عن تمام الكلام. وأمَّا تعلُّقِ الحرفِ بهما فعلى ثلاثة أضرب. أحدُها: أَن يتوسَّط بين الفعل والاسم، فيكونَ ذلك في حروف الجر التي من شأنها أن تُعَدِّيَ الأفعالَ إلى ما لا تتعدى إليه بأَنفُسها من الأسماء، مثلُ أَنك تقول (مررتُ): فلا يصل إلى نحو زيدٍ وعمرو. فإذا قلتَ: (مررتُ بزيدٍ أو على زيد)، وجدتَه قد وصل بـ (الباء) أو (على). وكذلك سبيلُ (الواو) الكائنةِ بمعنى "مع" في قولنا: (لو تُركَتِ الناقةُ وفصيلَها لرضعها)؛ بمنزلة حرف الجر في التوسط بين الفعلِ والاسم وإيصاله إليه، إلاَّ أن الفرق: أَنها لا تعمل بنفسها شيئاً، لكنها تُعين الفعلَ على عمله النَّصْب. وكذلك حُكْم "إلاَّ" في الاستثناء، فإنها عندَهم بمنزلة هذه "الواو" الكائنة بمعنى "مع" في التوسط، وعملُ النصب المستثنى للفعل ولكن بوساطتها وعونٍ منها. والضرب الثاني من تعلق الحرف بما يتعلق به: العطفُ. وهو أن يَدخل الثاني في عمل العامل في الأول، كقولنا: (جاءني زيدٌ وعمرو، ورأيتُ زيداً وعمراً، ومررت بزيدٍ وعمرو).

والضرب الثالث: تعلُّقٌ بمجموع الجملة، كتعلق حرف النفي والاستفهام والشرط والجزاء، بما يدخل عليه. وذلك أنَّ مِن شأن هذه المعاني: أن تتناول ما تتناولُه بالتقييد، وبعد أن يُسنَد إلى شيء. معنى ذلك: أنك إذا قلت: (ما خرَج زيدٌ وما زيدٌ خارجٌ)، ولم يكن النفيُ الواقعُ بها متناوِلاً الخروج على الاطلاق، بل الخروجَ واقعاً من زيد ومُسنَداً إليه. ولا يغرَّنَّكَ قولُنا في نحو (لا رجل في الدار) أنها لنفي الجنس، فإن المعنى في ذلك أنها لنفي الكينونة في الدار عن الجنس. ولو كان يُتصَّور تعلُّقُ النفي بالاسم المفرد، لكان الذي قالوه في كلمة التوحيد مِنْ أنَّ التقدير فيها "لا إله لَنا، أو: في الوجود إلا الله" فضلاً من القول وتقديراً لما لا يُحتاج إليه، وكذلك الحُكْم أبداً. وإذا قلتَ: (هل خرجَ زيد؟) لم تكن قد استفهمتَ عن الخروج مطلقاً، ولكن عنه واقعاً مِن زيد. وإذا قلتَ: (إنْ يأتني زيد أُكْرمْه)، لم تكن جعلتَ الإتيانَ شرطاً بل الإتيانَ مِن زيد، وكذا لم تَجعل الإكرامَ على الإطلاق جزاءً للإتيان، بل الإكرام وَاقعاً منك. كيف، وذلك يؤدي إلى أشنع ما يكون من المحال؟ وهو أن يكون هاهنا إتيانٌ من غير آتٍ وإكرامٌ من غير مُكْرَم. ثم يكون هذا شرطاً وذلك جزاء. ومختصر كل الأمر: أنه لا يكون كلامٌ من جزء واحد، وأنه لا بدّ من مسند ومسند إليه، وكذلك السبيل في كل حرف رأيتَه يَدخلُ على جملة، كإنَّ وأخواتها، ألا ترى أنك إذا قلت "كأنَّ" يَقتضي مشبَّهاً به، كقولك: (كأنَّ زيداً الأسدُ). وكذلك إذا قلت "لو" و "لولا" وَجدْتَهما يقتضيان جملتين، تكون الثانية جواباً للأولى. وجملة الأمر: أنه لا يكون كلامٌ من حرف وفعل أصلاً، ولا من حرف واسم إلا في النداء نحو: (يا عبدَ الله). وذلك أيضاً إذا حقَّقَ الأمرَ كان كلاماً بتقدير الفعل المضمر الذي هو: أعني، وأريد، وأدعو؛ و "يا" دليل عليه وعلى قيام معناه في النفس. فهذه هي الطرُقُ والوجوه في تعلق الكَلِم بعضِها ببعض. وهي كما تراها معاني النحو وأحكامُه.

وكذلك السبيلُ في كل شيء كان له مدخلٌ في صحة تعلقِ الكلم بعضِها ببعض، لا ترى شيئاً من ذلك يعدو أن يكون حُكْماً من أحكام النحو ومعنًى من معانيه. ثم إنَّا نَرى هذه كلَّها موجودةً في كلام العرب، ونرى العلْمَ بها مشتركاً بينهم. وإذا كان ذلك كذلك، فما جوابُنا لخصم يقول لنا: إذا كانت هذه الأمورُ وهذه الوجوهُ من التعلُّق، التي هي محصولُ النظم، موجودةً على حقائقها، وعلى الصحة، وكما ينبغي في منثور كلام العرب ومنظومه، ورأيناهم قد استعملوها وتصرفوا فيها وكَملُو بمعرفتها، وكانت حقائقَ لا تتبدَّلُ ولا يختلف بها الحال، إذْ لا يكون للاسم بكونه خبراً لمبتدأ أو صفةً لموصوف، أو حالاً لذي حال، أو فاعلاً أو مفعولاً لفعل في كلام، حقيقةٌ هي خلاف حقيقته في كلام آخر، فما هذا الذي تجدَّد بالقرآن من عظيم المزيَّة، وباهر الفَضْل، والعجيب من الوصف، حتى أَعجزَ الخلقَ قاطبة، وحتى قهرَ من البلغاء والفصحاء القُوَى والقُدر، وقيَّد الخواطرَ والفِكَر، حتى خَرستِ الشقاشقُ، وعُدِمَ نطقُ الناطق، وحتى لم يَجر لسانٌ، ولم يُبنْ بيانٌ، ولم يساعِد إمكانٌ، ولم ينقدح لأحد منهم زَندٌ، ولم يمض له حدٌّ، وحتى أسالَ الوادي عليهم عجزاً، وأخذ منافذ القول عليهم أَخْذاً؛ أيلزمنا أن نُجيبَ هذا الخصمَ عن سؤاله، ونردَّه عن ضلاله، وأن نَطِبَّ لدائه، ونُزيل الفسادَ عن رائه؟ فإن كان ذلك يَلْزمُنا، فينبغي لكل ذي دين وعقل، أن ينظر في الكتاب الذي وضعناه، ويستقصي التأملَ لِمَا أودعناه؛ فإنْ عَلِمَ أنه الطريق إلى البيان، والكشفُ عن الحُجَّة والبرهان، تبعَ الحق وأخذَ به، وإنْ رأى أنَّ له طريقاً غيرَه أوْمأَ لنا إليه، ودلَّنا عليه، وهيهاتَ ذلك، وهذه أبياتٌ في مثل ذلك [من البسيط]: إنِّي أقولُ مقالاً، لستُ أُخفيهِ ... ولستُ أرهبُ خَصْماً إنْ بدا فيهِ ما مِنْ سبيلٍ إلى إثباتِ مُعجزةٍ ... في النظم إلا بما أصبحتُ أُبديهِ فما لِنظمِ كلامٍ أنت ناظمُهُ ... معنىً سوى حُكْمِ إعراب تُزجِّيهِ إسمٌ يُرى، وهو أصَلّ للكلام فما ... يَتمُّ من دونه قَصْدٌ لِمٌنشيهِ وآخرٌ هوَ يعطيكَ الزيادةَ في ... ما أنتَ تُثْبتُهُ، أو أنتَ تَنْفيهِ

تفسيرُ ذلك: أنَّ الأصلَ مبتدأٌ ... تَلْقى له خبراً مِنْ بَعدُ تُثنيهِ هذان أصلانِ، لا تأتيك فائدة ... من منطقٍ لم يكونا من مَبانيهِ وما يَزيدكُ من بَعْدِ التمام. فما ... سلَّطْتَ فِعلاً عليه في تعدِّيهِ هذي قوانينُ، يُلْفي مَنْ تَتبَّعها ... ما يُشْبِهُ البحرَ فيضاً مِن نَواحيهِ فلستَ تأتي إلى باب لِتَعْلمَهُ ... إلاَّ انصرفْتَ بعَجْزٍ عن تَقَصِّيهِ هذا كذاك وإن كان الذينَ تَرى ... يَروْنَ أنَّ المدى دانٍ لباغيهِ ثُمَّ الذي هو قصدي: أن يُقال لهمْ ... بما يُجيبُ الفتى خَصْماً يُمَاريهِ يقولُ: من أينَ أنْ لا نَظْمَ يُشبهه؟ ... وليس من منطقٍ في ذاك يَحْكيه وقد عَلِمْنَا بأنَّ النظم ليس سِوى ... حُكْم من النحو نَمضي في توخِّيهِ لو نقَّبَ الأرضَ باغٍ غيرَ ذاك لهُ ... معنىً وصَعَّدَ يَعْلو في تَرقِّيهِ ما عادَ إلا بخُسْرٍ في تَطلُّبِهِ ... ولا رأى غيرَ غيِّ في تَبغِّيهِ ونحن ما إن بَثَثَنا الفكْرَ نَنظرُ في ... أَحكامه ونُروّي في معانيهِ كانت حقائقَ يُلفى العلمُ مشترَكاً ... بها، وكلاَّ تَراهُ نافذاً فيهِ فليس معرفةٌ مِنْ دون معرفةٍ ... في كل ما أنتَ من باب تُسمّيهِ تَرى تَصرّفَهم في الكل مطَّرِداً ... يُجْرونه باقتدارِ في مَجاريهِ فما الذي زاد في هذا الذي عَرَفوا ... حتى غدا العجزُ يَهْمي سيلُ واديهِ قُولُوا وإلاَّ فأَصْغُوا لِلبَيان تَرَوْا ... كالصبح مُنْبلجاً في عينِ رائيهِ

فاتحة المصنف في مكانة العلم

فاتحة المصنف في مكانة العلم الحمد لله رب العالمين، حمْدَ الشاكرين، نَحمدُه على عظيم نَعْمائه، وجميل بَلائه، ونستكفيه نوائبَ الزمان، ونوازلَ الحدَثان، ونَرغبُ إليه في التوفيق والعِصْمة، ونَبْرأ إليه من الحَوْل والقوَّة، ونسألهُ يقيناً يملأُ الصدرَ، ويَعْمر القلبَ، ويَستولي على النفس، حتى يكُفَّها إذا نزَعتْ وَيرُدَّها إذا تطلَّعتْ، وثقةً بأنه عزَّ وجل الوَزَرُ، والكالئ والرَّاعي والحافظ، وأنَّ الخير والشرَّ بيده، وأنَّ النِّعَم كلَّها من عنده، وأنْ لا سلطانَ لأحدٍ مع سلطانه؛ نُوجِّه رغباتِنا إليه، ونُخْلص نيَّاتِنا في التوكل عليه؛ وأن يجعلنا ممن هَمُّه الصدقُ، وبُغْيَتُه الحقُّ، وغرَضُه الصَّواب، وما تُصححه العقولُ وتَقْبله الألبابُ؛ ونعوذُ به من أنْ ندَّعيَ العلمَ بشيء لا نَعلمه، وأَنْ نُسَدِّيَ قولاً لا نُلْحمه، وأنْ نكون ممن يَغُرُّه الكاذبُ من الثناء، ويَنْخدعَ للمتجوِّز في الإطراء، وأن يكون سبيلُنا سبيلَ مَنْ يُعْجبه أن يُجادل بالباطل، ويُموِّه على السامع، ولا يبالي إذا راج عنه القولُ أن يكون قد خلَط فيه، ولم يسدَّه مع معانيه، ونَستأنفُ الرغبةَ إليه عزَّ وجل في الصلاة على خَيْر خَلْقه، والمصطفى مِن بَريَّته، محمد سيد المرسلين، وعلى أصحابه الخلفاء الراشدين، وعلى آلهِ الأخيار من بعدهم أجمعين.

وبعد. فإنَّا إذا تصفَّحْنا الفضائلَ لنَعرفَ منازلَها في الشَّرف، ونتبيَّنَ مواقعها مِن العِظَم، ونَعلم: أيٌّ أحقٌّ منها بالتقديم، وأسبقُ في استيجاب التعظيم، وجَدْنا العلمَ أولاها بذلك، أَولاها بذلك، وأوَّلُها هنالك؛ إذ لا شَرفَ إلاَّ وهو السبيل إليه، ولا خيرَ إلاَّ وهو الدليل عليه، ولا مَنْقَبةَ إلاَّ وهو ذُروتها وسَنامها، ولا مفخرةً إلاَّ وبه صحَّتُها وتمَامُها، ولا حسنةَ إلاَّ وهو مفتاحها، ولا مَحْمَدةَ إلاَّ ومنه يَتقدُ مصباحُها. هو الوفيُّ إذا خان كلُّ صاحب؛ والثقةُ إذا لم يُوثَق بناصح؛ لولاه لَما بان الإنسانُ من سائر الحيوان إلاَّ بتخطيط صورته، وهيأة جسمه وبُنيته؛ لا ولا وجَدَ إلى اكتساب الفضل طريقاً، ولا وجَد بشيء من المحاسن خليقاً؛ ذاك لأنَّا وإنْ كنَّا لا نصل إلى اكتساب فضيلة إِلا بالفعل، وكان لا يكونُ فعْلٌ إلاَّ بالقدرة، فإنَّا لم نر فعلاً، زانَ فاعِلَه، وأوجبَ الفضلَ له، حتى يكونَ عن العلم صَدرُهُ، وحتى يتبيَّن مِيسمه عليه وأَثَره؛ ولم نر قدرةً قطُّ كَسبتْ صاحبها مَجْداً، وأفادتْه حَمْداً، دون أن يكون العلمُ رائدَها فيما تَطْلُب، وقائدَها حيث تَؤمُّ وتَذْهب، ويكُونَ المُصرِّفَ لعِنَانها، والمقلِّبَ لها في ميدانها، فهي إذن مفتقِرة في أن تكون فضيلةً إليه، وعيالٌ في استحقاق هذا الاسم عليه. وإذا هي خلت من العلم أو أبَتْ أن تمتثل أمْرَه، وتقتفي رسْمَه، آلتْ ولا شيءَ أحْشدُ للذم على صاحبها منها ولا شيءَ أَشْينُ من إعماله لها.

فهذا في فضل العلم، لا تَجد عاقلاً يُخالفك فيه، ولا ترى أحداً يدَفعُه أو ينفيه؛ فأمَّا المفاضلةُ بين بعضه وبعضٍ، وتقديمُ فنٍّ منه على فنّ، فإنَّك تَرى الناسَ فيه على آراءٍ مختلفة، وأهواء مُتعادية؛ تَرى كلاً منهم لِحُبِّه نفسَه وإيثاره أن يَدْفعَ النقصَ عنها، يُقدِّم ما يُحْسِن من أنواع العلم على ما لا يُحْسِن، ويحاول الزِّرايةَ على الذي لم يَحْظَ به، والطعنَ على أهله، والغَضَّ منهم. ثم تتفاوتُ أحوالهُم في ذلك؛ فمِن مغمورٍ قد استهلكه هواه، وبَعُدَ في الجَوْر مَداه، ومِنْ مُترجِّح فيه بين الإنصاف والظلم، يجور تارة ويَعْدل أخرى في الحُكْم؛ فأمَّا من يَخلُص في هذا المعنى من الحَيْف حتى لا يقضيَ إلاّ بالعدل، وحتى يَصْدُر في كل أمره عن العقل، فكالشيء الممتنع وجودُه؛ ولم يكن ذلك كذلك، إلاَّ لِشَرفِ العلم وجليل محلِّه، وأنَّ محبته مركوزةٌ في الطِّباع، ومُرَكَّبة في النفوس، وأن الغَيْرة عليه لازمةٌ للجِبِلَّة، وموضوعه في الفِطرة، وأنه لا عيب أعيْبُ عند الجميع من عَدَمه، ولا ضَعةَ أوْضعُ من الخلُوِّ عنه؛ فلم يُعادَ إذن إلا من فرط المحبة، ولم يُسمح به إلاَّ لشدة الضنِّ.

ثم إنك لا تَرى عِلْماً هو أرسَخُ أصلاً، وأَبْسَق فرعاً، وأحلى جَنىً، وأَعذبُ ورْداً، وأكرمُ نِتاجاً، وأنْورُ سراجاً، من عِلْم البَيان الذي لولاه لم تر لساناً يَحُوك الوشيَ، ويصَوغ الحَلْيَ، وَيلفِظ الدرَّ، وينفثُ السِّحرَ ويَقْري الشَّهْدَ ويُريكَ بدائعَ من الزهْر، ويُجْنيك الحلوَ اليانعَ من الثمر، والذي لولا تَحفِّيه بالعلوم، وعنايتهِ بها، وتصويره إياها، لبقيتْ كامنةً مستورة، ولمَا استبنْتَ لها يدَ الدهرِ صورةً ولاستمرَّ السِّرارُ بأهلَّتها، واستولى الخَفَاءُ على جملتها، إلى فوائد لا يُدركها الإحصاءُ، ومحاسنَ لا يَحْصرُها الاستقصاءُ؛ إلاَّ أنك لن ترى على ذلك نوعاً من العلم قد لقِيَ من الضَّيْم مالقيَه، ومُنيَ مِنَ الحَيْف بما مُنِيَ به، ودَخلَ على الناس من الغلَط في معناه ما دخَلَ عليهم فيه؛ فقد سبقتْ إلى نفوسهم اعتقاداتٌ فاسدة، وظنونٌ ردية، ورَكبهُم فيه جهلٌ عظيم، وخطأٌ فاحش: تَرى كثيراً منهم لا يَرى له معنىً أكثرَ مما يرَى للإشارة بالرأس والعين، وما يَجدُه لِلخط والعَقْد يقول: إنما هو خبر واستخبار، وأمْر ونهيٌ، ولكلِّ من ذلك لفظٌ قد وُضع له، وجُعل دليلاً عليه؛ فكلُّ من عَرفَ أوضاعَ لغةٍ من اللغات، عربيةً كانت أو فارسية، وعرَفَ المغزى من كل لفظة، ثم ساعدَه اللسانُ على النطق بها، وعلى تأدية أجراسها وحروفها، فهو بَيِّنٌ في تلك اللغة، كاملُ الأداة، بالغٌ من البيان المبلغَ الذي لا مزيد عليه، مُنْتهٍ إلى الغاية التي لا مذهبَ بعدها، يَسمع الفصاحة والبلاغة والبراعة فلا يَعرف لها معنىً سوى الإطناب في القول، وأنْ يكون المتكلمُ في ذلك جهيرَ الصوت، جاريَ اللسان، لا تَعترضه لُكْنه، ولا تقف به حُبْسة وأن يَستعمل اللفظَ الغريب والكلمة الوحشية؛ فإن استظهر للأَمر، وبالغ في النظر، فأَنْ لا يُلْحِنَ فيرفع في موضع النصب، أو يُخطئَ فيَجيء باللفظة على غير ما هي عليه في الوضع اللغوي، وعلى خلاف ما ثَبتتْ به الروايةُ عن العرب.

وجملة الأمر: أنه لا يَرى النقصَ يَدْخلُ على صاحبه في ذلك، إلا من جهة نقصه في علم اللغة، لا يعلم أنَّ هاهنا دقائقَ وأسراراً، طريقُ العلم بها الرويَّةُ والفِكْر، ولطائفَ مستقاها العقل، وخصائصَ مَعانٍ ينفرد بها قومٌ قد هُدُوا إليها، ودُلُّوا عليها، وكُشِفَ لهم عنها ورُفعت الحُجُب بينهم وبينها، وأنها السبب في أن عُرضت المزيةُ في الكلام، ووَجبَ أن يَفْضُلَ بعضُه بعضاً، وأن يَبعُدَ الشأوُ في ذلك، وتمتدَّ الغاية، ويعلُوَ المرتَقى ويَعزَّ المطلبُ، حتى ينتهيَ الأمر إلى الإعجاز وإلى أن يَخْرجَ من طوق البشر. ولمَّا لم تعرفْ هذه الطائفةُ هذه الدقائقَ وهذه الخواصَّ واللطائفَ، لم تَتعرضْ لها ولم تَطلبها. ثم عَنَّ لها بسوء الاتفاقِ رأيٌ صار حجازاً بينها وبين العلم بها، وسَدّاً دون أن تصل إليها؛ وهو أَنْ ساء اعتقادُها في الشعر الذي هو مَعْدنها، وعليه المعوَّلُ فيها، وفي علم الإعراب الذي هو لها كالناسب الذي يَنْميها إلى أصولها، ويُبَيِّنُ فاضلَها من مفضولها، فجعَلتْ تُظهر الزهدَ في كل واحد من النوعين، وتَطْرحُ من الصنفين، وترى التشاغلَ عنهما، أولى من الاشتغال بهما، والإعراضَ عن تدبرهما، أصوبَ من الإقبال على تعلمهما. أما الشعرُ فخيل إليها أنه ليس فيه كثيرُ طائل! وأنْ ليس إلا مُلْحةً أو فكاهة أو بكاءَ منزلٍ، أو وصْفَ طلَلٍ، أو نعْتَ ناقةٍ أو جَمل، أو إسرافَ قول في مدح أو هجاء، وأنه ليس بشيء تَمسُّ الحاجةُ إليه في صلاح دين أو دنيا. وأما النحو فَظَّنتْه ضرْباً من التكلف، وباباً من التعسف، وشيئاً لا يَستند إلى أصل، ولا يُعتَمَد فيه على عقل، وأنَّ ما زاد منه على معرفة الرفع والنصب، وما يتصل بذلك مما تجده في المبادئ، فهو فضل لا يُجْدي نفعاً، ولا تَحصل منه على فائدة، وضربوا له المثَل بالملح كما عرفت - إلى أشباهٍ لهذه الظنون في القَبِيلَيْن، وآراءٍ لو علموا مَغبَّتَها وما تقود إليه، لتعوَّذوا بالله منها، ولأَنَفِوا لأنفسهم من الرِّضا بها؛ ذاك لأنهم بإيثارهم الجهلَ بذلك على العلم: في معنى الصادِّ عن سبيل الله، والمُبتغي إطفاءَ نور الله تعالى.

وذاك: أنَّا إذا كنَّا نَعلم أن الجهة التي منها قامت الحجةُ بالقرآن وظهرتْ، وبانت وبَهرت، هي أنْ كان على حَدٍّ من الفصاحة تقصرُ عنه قوى البشر، ومُنْتهياً إلى غاية الا يُطمَح إليها بالفكر، وكان محالاً أن يَعرف كونَه كذلك إلا مَنْ عَرفَ الشعرَ الذي هو ديوانُ العرب، وعنوانُ الأدب، والذي لا يُشك أنه كان ميدان القوم إذا تجارَوْا في الفصاحة والبيان، وتنازعوا فيهما قَصَبَ الرهان، ثم بَحث عن العلل التي بها كان التباينُ في الفَضْل، وزادَ بعضُ الشعر على بعض؛ كان الصادُّ عن ذلك صادَّاً عن أَن تُعرَف حجةُ الله تعالى. وكان مَثلُه مَثلَ من يتصدى للناس فيمنعهم عن أن يحفظوا كتاب الله تعالى ويقوموا به، ويتلوه ويقرأوه، ويصنع في الجملة صنيعاً يؤدِّي إلى أَنْ يَقلَّ حفَّاظُه، والقائمون به والمقرئون له؛ ذاك لأنَّا لم نتعبَّدْ بتلاوته وحِفْظه، والقيام بأَداء لفظه، على النحو الذي أُنزل عليه، وحراسته من أن يُغَيَّر ويُبدَّل، إلاَّ لتكونَ الحِجةُ به قائمةً على وجه الدهر، تُعرَف في كل زمان، ويتوصَّلُ إليها في كل أَوان، ويكونُ سبيلُها سبيل سائر العلوم التي يَرويها الخلَفُ عن السلف، ويأَثُرُها الثاني عن الأول؛ فمَنْ حال بيننا وبين ما له كان حفْظُنا إياه، واجتهادُنا في أن نؤدِّيَه ونَرعاه؛ كان كمن رام أن يُنْسيناه جملةً، ويُذْهبه من قلوبنا دَفعةً. فسواءٌ مَنْ منَعكَ الشيءَ الذي يُنْتَزعُ منه الشاهدُ والدليل، ومَنْ منعَكَ السبيلَ إلى انتزاع تلك الدلالة، والاطلاع على تلك الشهادة؛ ولا فرق بين من أعدمك الدواءَ الذي تَسْشفي به من دائَك، وتَسْتبقي به حشاشةَ نَفْسك، وبين من أعدمك العلْمَ بأنَّ فيه شفاءً؛ وأنَّ لك فيه استبقاءً.

فإن قال منهم قائلٌ: إنك قد أغْفلتَ فيما رتَّبْت، فإنَّ لنا طريقاً إلى إعجاز القرآن غيرَ ما قلتَ، وهو عِلْمُنا بعَجْز العرب عن أن يأتوا بمثله، وتَرْكِهم أن يعارضوه مع تكرار التحدي عليهم، وطولِ التقريع لهم بالعجز عنه؛ ولأن الأمر كذلك، ما قامت به الحجةُ على العجم قيامَها على العرب واستوى الناسُ قاطبة، فلم يَخْرج الجاهلُ بلسان العرب من أن يكون محجوجا بالقرآن؛ قيل له: خبِّرنا عما اتفق عليه المسلمون من اختصاص نبينا عليه السلام، بأنْ كانت معجزتُه باقيةً على وجه الدهر، أتعرفُ له معنى: غير أنْ لا يزال البرهانُ منه لائحاً، مُعرَّضاً لكل من أراد العلم به، وطلبَ الوصولَ إليه، والحجةُ فيه وبه ظاهرةً لمن أرادها، والعلمُ بها ممكناً لمن التمسه؟ فإذا كنتَ لا تشك في أَنْ لا معنى لبقاء المُعجزة بالقرآن إلاَّ أنَّ الوصف الذي له كان معجزاً قائمٌ فيه أبداً، وأنَّ الطريقَ إلى العلم به موجودٌ، والوصولَ إليه ممكن، فانظر أيَّ رجلٍ تكون إذا أنت زهدْتَ في أن تعرفَ حجة الله تعالى وآثرتَ فيه الجهل على العلم، وعدم الاستبانة على وجودها. وكان التقليد فيها أحبَّ إليك، والتعويل على علم غيرك آثرَ لديك؛ ونحِّ الهوى عنك، وراجعْ عقلك، واصدُقْ نفسك، يَبِنْ لك فُحشُ الغلط فيما رأيتَ، وقبْحُ الخطأ في الذي توهَّمتَ، وهل رأيتَ رأياً أعجز، واختياراً أقبح: من كَرِهَ أَن تُعرفَ حجةُ الله تعالى من الجهة التي إذا عُرفتْ كانت أنْورَ وأبهر، وأقوى وأقهر، وآثرَ أَنْ لا يقوى سلطانُها على الشرك كلَّ القوّة، ولا تَعْلو على الكفر كلَّ العلو؟ والله المستعان.

فصل في الكلام على من زهد في رواية الشعر وحفظه

فصل في الكلام على من زهد في رواية الشعر وحفظه في الكلام على من زَهِد في رواية الشعر وحفظه، وذمَّ الاشتغال بعلمه وتتبعه لا يخلو مَن كان هذا رأيَهُ من أمور: أحدها أنْ يكون رفضُه له وذَمُّه إياه، من أجل ما يَجده فيه من هَزْلٍ أو سُخْف، وهجاءٍ وسَبٍّ وكَذِبٍ وباطلٍ على الجملة. والثاني: أنَ يذمَّه لأنه موزون مُقفَّى. ويرى هذا بمجرده، عيباً يقتضي الزهدَ فيه والتنزه عنه. والثالث أن يتعلق بأحوال الشعراء، وأنها غير جميلة في الأكثر ويقول: قد ذُمُّوا في التنزيل. وأيٌّ كان من هذا رأياً له، فهو في ذلك على خطأ ظاهر، وغَلَط فاحش، وعلى خلاف ما يُوجِبه القياسُ والنظر، وبالضدِّ مما جاء به الأَثرُ، وصَحَّ به الخبر. أما من زعم أنَّ ذمَّه له من أجْل ما يَجدُ فيه من هزل وسُخف وكذب وباطل، فينبغي أن يذمَّ الكلامَ كلَّه، وأن يُفَضِّل الخرَسَ على النطق، والعيَّ على البيان فمنثور كلام الناس على كل حال، أكثر من منظومه. والذي زعمَ أنه ذمَّ الشعرَ بسببه، وعاداه بنسبته إليه، أكثرَ، لأن الشعراء في كل عصر وزمانٍ، معدودون، والعامَّة ومَنْ لا يقول الشعرَ من الخاصة عديدُ الرمل؛ ونحن نَعْلم أنْ لو كان منثورُ الكلام يُجْمَع المنظومُ، ثم عمدَ عامدٌ فجمعَ ما قيل من جنْس الهَزْل والسخف نثراً في عصرٍ واحد، لأَرْبى على جميع ما قاله الشعراءُ نَظْماً في الأزمان الكثيرة، ولغَمره حتى لا يظهر فيه. ثم إنك لو لم تَرْو من هذا الضرب شيئاً قطُّ، ولم تَحْفَظْ إلاَّ الجِدَّ المحضَ، وإلاَّ ما لا مَعابَ عليك في روايته، وفي المحاضرة به، وفي نَسْخه وتدوينه، لَكانَ في ذلك غِنًى ومندوحةٌ؛ ولوَجدْتَ طِلْبتَك ونِلْتَ مُرادك، وحصَل لك ما نحن ندعوك إليه من علم الفصاحة، فاخترْ لنفسكَ ودَعْ ما تَكْره إلى ما تُحب. هذا وراوي الشعر حاكٍ، وليس على الحاكي عيب، ولا عليه تَبعةٌ، إذا هو لم يقصد بحكايته أن يَنْصر باطلاً، أو يَسُوء مسْلِماً. وقد حكى اللهُ تعالى كلامَ الكفار؛ فانظر إلى الغرض الذي له رُويَ الشعرُ، ومِن أَجْلهِ أُريد، وله دُوِّن، تَعلمْ أنك قد زُغْت عن المنهج، وأنك مُسيءٌ في هذه العَداوة. وهي العصبية منك على الشعر. وقد استشهد العلماءُ لغريب القرآن وإعرابه، بالأبيات فيها الفحشُ وفيها ذكْرُ الفعل القبيح، ثم لم يَعِبْهم ذلك إذ كانوا لم يَقصدوا إلى ذلك الفحش، ولم يُريدوه ولم يَرْوُوا الشعرَ من أجله. قالوا: وكان الحسن البصري رحمه الله، يتمثل في مواعظه بالأبيات من الشعر، وكان من أوجعها عنده [من الكامل]: اليومَ عندك دَلُّها وحديثُها ... وغداً لِغيرك كَفُّها والمِعْصمُ

وفي الحديث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه - ذكره المرزباني في كتابه، بإسناد عن عبد الملك بن عمير - أنه قال: "أُتي عمرُ، رضوانُ الله عليه، بحُلَلٍ من اليمن، فأتاه محمد بن جعفر بن أبي طالب، ومحمد بن أبي بكر الصديق، ومحمد بن طلحة بن عبيد الله، ومحمد بن حاطب، فدخل عليه زيد بن ثابت رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين، هؤلاء المحمَّدون بالباب يطلبون الكُسْوة. فقال: ائْذِنْ لهم يا غلام! فدَعا بحُللٍ، فأخذ زيدٌ أجودَها، هذه لمحمد بن حاطب، وكانت أمه عنده، وهو من بني لؤي؛ فقال عمر رضي الله عنه: أيهات أيهات وتمثل بشعر عمارة بن الوليد [من الطويل]: أَسرَّكِ لما صُرِّع القومُ نشوةً ... خروجيَ منها سالماً غير غارم بريئاً كأني قبلُ لم أكُ منهمُ ... وليس الخداعُ مرتضىً في التنادم رُدَّها. ثم قال: ائْتني بثوبٍ، فألقِهِ على هذه الحُلل. وقال: أدخلْ يدَكَ فخُذْ حُلَّة، وأنتَ لا تراها فأَعْطِهمْ. قال عبد الملك: "فلم أر قسمةً أعدلَ منها". وعُمارة هذا: هو عمارةُ بن الوليد بن المغيرة، خطبَ امرأةً من قومه، فقالت: لا أتزوجُك أو تترك الشرابَ، فأبى، ثم اشتد وَجْدُه بها، فحلَفَ لها أنْ لا يشَرْبَ؛ ثم مرَّ بخمَّارٍ عنده شَرْبٌ يشربون، فدعَوْه فدخَلَ عليهم، وقد أنْفَدوا ما عندهم، فنَحَر لهم ناقتَه، وسَقاهم بِبُرْدَيْه، ومكَثوا أَياماً، ثم خرجَ، فأتى أَهْلَه، فلمَّا رأتْه امرأتُه قالت: أَلم تَحْلِفْ أَنْ لا تَشْرب؟ فقال: ولسنا بشَرْب أمَّ عمرو إذا انْتَشَوْا ... ثيابُ الندامى عِنْدَهُمْ كالغنائم ولكننا يا أمَّ عمروٍ نَديمُنا ... بمنزلةٍ الريَّانِ ليس بعائم أَسَّرك - البيتين. فإذنْ: رُبَّ هَزْلٍ صار أَداةً في جِدّ، وكلام جَرى في باطل، ثم استُعينَ به على حَقّ؛ كما أنه رُبَّ شيءٍ خَسيس، تُوصِّلَ به إلى شريف، بأنْ ضُرِبَ مَثلاً فيه، وجُعل مثالاً له: كما قال أبو تمام [من الكامل]: واللهُ قد ضَربَ الأَقلَّ لنورِه ... مَثَلاً من المِشْكاة والنبراسِ

وعلى العكس: فربَّ كلمةِ حَقٍّ أُريدَ بها باطلٌ فاسْتُحِقَّ عليها الذمُّ، كما عرفتَ من خبر الخارجي مع علي رضوانُ الله عليه. ورُبَّ قولٍ حَسَنٍ لم يَحْسُنْ من قائله، حين تَسبَّبَ به إلى قبيح، كالذي حكى الجاحظُ قال: رجعَ طاووس يوماً عن مجلس محمد بن يوسف - وهو يومئذ والي اليمن - فقال: ما ظَننتُ أنَّ قولَ "سبحانَ الله" يكونُ معصيةً لله حتى كان اليومُ؛ سمعتُ رجلاً أَبلغَ ابنَ يوسف عن رجلٍ كلاماً، فقال رجلٌ من أهل المجلس: سبحانَ الله! كالمستعظمِ لذلك الكلام، ليُغضِبَ ابنَ يوسف. فبهذا ونحوه فاعتبرْ، واجْعلْهُ حُكْماً بينك وبين الشعر. (وبعد) فكيف وَضعَ من الشعر عندك، وكسبَهُ المقتَ منك: أنَّك وجدتَ فيه الباطلَ والكذب، وبعضَ ما لا يَحْسنُ، ولم يرفعه في نفسك ولم يُوجِب له المحبة من قلبك: أنْ كان فيه الحقُّ والصدقُ والحكمةُ وفصْلُ الخطاب؟ وأنْ كان مَجْنى ثمرِ العقول والألباب، ومجتمَعَ فِرَقِ الآداب، والذي قيَّد على الناس المعاني الشريفةَ، وأفادهم الفوائد الجليلة، وترسَّل بين الماضي والغابر، يَنقل مكارمَ الأخلاق إلى الولد عن الوالد، ويؤدِّي ودائعَ الشرف عن الغائب إلى الشاهد، حتى تَرى به آثارَ الماضين، مخلَّدةً في الباقين، وعقول الأَوَّلين، مردودةً في الآخرين، وتَرى لكل مَن رام الأدبَ وابتغى الشرفَ، وطلبَ محاسنَ القولِ والفعل، مناراً مرفوعاً، وعِلْماً منصوباً، وهادياً مُرْشداً، ومُعلماً مسدِّداً، وتجد فيه للنائي عن طلب المآثر، والزاهد في اكتساب المَحامد، داعياً ومُحرِّضاً، وباعثاً ومُخصِّصاً، ومذكِّراً ومعرِّفاً، وواعظاً ومثقَّفاً؟ فلو كنتَ ممن يُنْصِف كان في بعض ذلك ما يُغيِّرُ هذا الرأيَ منك، وما يَحْدوكَ على رواية الشعر وطَلََبه، ويَمنعُكَ أن تَعيبَه أو تَعيبَ به. ولكنك أَبَيْتَ إلاَّ ظناً سبَقَ إليك، وإلا بادىءَ رأي عُنَّ لك، فأقفلْتَ عليه قلْبَكَ، وسدَدْتَ عما سواه سَمْعَك، فَعيَّ الناصحُ بك، وعَسُرَ على الصديق الخليطِ تَنْبيهُك.

نعم، وكَيف رَويْتَ "لأَنْ يمتلئَ جوفُ أَحدِكم قيحاً فيَرِيَهُ، خيرٌ له من أَن يمتلئ شِعْراً" ولهجتَ به، وترِكتَ قولَه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ مِن الشعر لَحِكْمةً، وإنَّ مِن البيان لَسِحْرا"، وكيف نَسِيتَ أَمرَه صلى الله عليه وسلم بقول الشعر، ووَعْدَه عليه الجنَّةَ؟ وقوله لحسَّان: "قُلْ وروحُ القُدُس معك" وسماعَه له، واستنشادَهُ إياه، وعِلْمهُ صلى الله عليه وسلم به، واستحسانَه له، وارتياحَه عند سماعه؟ أما أَمرُهُ به فمن المعلوم ضرورةً، وكذلك سَماعُه إياه؛ فقد كان حسان وعبد الله بن رواحة وكعب بن زهير يمدحونه، ويَسْمعُ منهم، ويُصغي إليهم، ويأمرهم بالردِّ على المشركين، فيقولون في ذلك ويَعْرِضون عليه؛ وكان عليه السلامُ يَذكرُ لهم بعضَ ذلك، كالذي رُوي من أنه صلى الله عليه وسلم قال لكعب: "ما نَسِيَ ربُّك، وما كان ربُّكَ نَسِيّاً، شعراً قلْتَه". قال وما هو يا رسول الله؟ قال: "أَنْشِدْه يا أبا بكر"، فأنشدَ أبو بكر رضوانُ الله عليه [من الكامل]: زعَمتْ سَخينةُ أنْ سَتَغلِبُ رَبَّها ... ولَيُغْلَبَنَّ مُغَالِبُ الغَلاَّبِ (وأما) استنشاده إياه فكثير. من ذلك: الخبر المعروف في استنشاده حين استسقى فسقى، قولَ أبي طالب [من الطويل]: وأبيضَ يُسْتَسْقى الغمامَ بوجههِ ... ثِمَالُ اليتامى عصمةٌ للأراملِ يُطِيفُ به الهُلاَّكُ مِن آل هاشمٍ ... فهمْ عندَهُ في نعمةٍ وفواضلِ الأبيات. وعن الشعبي رضي الله عنه، عن مسروق، عن عبد الله، قال: "لمَّا نظرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، إلى القَتْلى يومَ بَدْر مصرَّعين، قال صلى الله عليه وسلم، لأَبي بَكْر رضيَ الله عنه: "لو أَنَّ طالبٍ حَيٌّ لَعِلمَ أنَّ أَسْيافَنا قد أخذتْ بالأنامل". قال: وذلك لِقولِ أبي طالب [من الطويل]: كَذَبتُمْ، وبيتِ الله إِنْ جَدَّ ما أَرى ... لَتَلتبسَنْ أَسيافُنا بالأنامل ويَنهضُ قومٌ في الدروعِ إِليهمُ ... نُهوضَ الرَّوايا في طريق حُلاحِل

ومن المحفوظ في ذلك حديث محمد بن مسلمة الأنصاريّ: جمعَهُ وابنَ أبي حَدْرد الأسلميّ، الطريقُ. قال: فتذاكَرْنا الشكرَ والمعروفَ: قال، فقال محمد: كنَّا يوماً عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال لحسَّان بن ثابت: "أَنْشِدْني قصيدةً من شعر الجاهلية، فإِنَّ الله تعالى قد وَضعَ عنَا آثَامها في شعرها وروايته"! فأنْشدَه قصيدةً للأعشى، هجا بها علقمةَ بْنَ عُلاثَة [من السريع]: عَلْقَمَ، ما أنتَ إلى عامر ... الناقضِ الأوتارَ والواترِ فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلم: "يا حسان لا تَعُدْ تُنْشِدني هذه القصيدةَ بعد مجلسك هذا"! فقال: يا رسول الله تَنْهاني عن رَجُلٍ مُشْركٍ مقيم عند قيصر؟ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "يا حسان أَشْكَرُ الناسِ للناسِ، أَشكَرُهم للهِ تعالى وإن قيصر سأل أبا سفيانَ بن حرب عنّي، فتناول مني. - وفي خبر آخر فشَعَثَ منّي - وأنه سأل هذا عني فأَحْسَنَ القولَ"؛ فشَكرَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، على ذلك. ورُويَ مِنْ وجهٍ آخر: أَنَّ حسان قال: يا رسول الله! من نالَتْكَ يَدُه وَجَبَ علينا شُكْرُه. ومِن المعروف في ذلك خَبرُ عائشة، رضوانُ الله عليها، أَنَّها قالت: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، كثيراً ما يقول: "أبياتَك" فأقول [من الكامل]: إِرفعْ ضعيفك لا يَحُر بكَ ضَعْفُهُ ... يوماً، فتُدرِكَه العواقبُ قد نَمى يَجْزيك أو يُثْني عليكَ، وإنَّ مَنْ ... أثّنى عليكَ بما فَعلْتَ، فقد جَزى قالت، فيقول عليه السلام: "يقول الله تَبارَكَ وتعالى، لعَبْدٍ من عبيده: صنَعَ إليك عَبْدي معروفاً، فهل شَكرْتَه عليه؟ فيقول: يا ربِّ عَلمتُ أنه منكَ فشكرتُكَ عليه. قال: فيقول الله عزَّ وجلَّ: لَمْ تَشْكرْني إذْ لم تَشكرْ من أَجْرَيْتُه على يَدهِ". وأمَّا عِلْمُه، عليه السلام، بالشعر، فكَما رُويَ أن سَوْدة أَنشدتْ: عديٌّ وتيمٌ تبتغي مَن تحالف

فظنَّتْ عائشةُ وحَفْصةُ رضي الله عنهما، أنها عرَّضَتْ بهما. وجَرى بينهنَّ كلامٌ في هذا المعنى، فأُخبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فدخلَ عليهنَّ وقال: "يا وَيْلَكنَّ! ليس في عَدِيِّكنَّ ولا َتَيْمِكنَّ قيلَ هذا. وإنَّما قيل هذا في عديِّ تميم وتَيْمِ وتَميم"! وتمامُ هذا الشعر [من الطويل]: فحالِفْ ولا واللهِ تَهْبِطُ تَلْعةَ ... من الأرض إلاَّ أَنتَ للِذلِّ عارِفُ ألاَ منْ رأى العَبْدًَين أوْ ذُكِرا لهُ ... عدَيٌّ وتَيمٌ تَبْتَغي مَنْ تُحالِفُ وروَى الزبيرُ بن بكار قال: "مرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ومعه أبو بكر رضي الله عنه، برجلٍ يقول في بعضِ أزقَّة مكة [من الكامل]: يا أيها الرجلُ المُحوِّلُ رَحْلَهُ ... هلاّ نزلْتَ بآلِ عبد الدارِ؟ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر هكذا قال الشاعر؟ قال: لا يا رسول الله، ولكنه قال: يا أيها الرجلُ المحوِّلُ رَحلَهُ * هلاَّ سألْتَ عن آلِ عَبْد منافِ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هكذا كُنَّا نَسْمعها". وأمَّا ارتياحُه صلى الله عليه وسلم، للشعر واستحسانُه له، فقد جاء فيه الخبرُ من وجوهٍ، من ذلك: حديثُ النابغة الجَعْديِّ قال: أَنشدتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قولي [من الطويل]: بلَغْنا السماءَ مَجْدُنَا وجدودُنا ... وإنَّا لنَرجو فوقَ ذلك مَظْهَرا فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَينَ المظهرُ يا أبا ليلى؟ "، فقلتُ: الجنةُ، يا رسولَ الله! قال: "أَجَلْ إن شاء الله". ثم قال: "أَنْشِدْني"! فأنْشَدْتُه من قولي: ولا خيرَ في حِلْم إذا لم تَكنْ له * بَوادِرُ تَحْمي صفْوَه أنْ يُكَدَّرا ولا خيرَ في جَهلٍ إذا لم يَكنْ له * حَليمٌ إذا ما أَوْردَ الأمرَ أَصْدَرا فقال صلى الله عليه وسلم: "أَجَدْتَ، لا يَفْضُضِ اللهُ فاكَ"! قال الراوي: فنظَرتُ إليه فكأَنَّ فاهُ الْبَرَدُ المُنْهَلُّ، ما سقطت له سن ولا انفلَّتْ تَرِفُّ غَروبُه.

ومِنْ ذلك حديثُ كعب بن زهير: رُويَ أنَّ كعباً وأخاه بُجيراً خرجا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى بلَغَا أَبْرَقَ العزَّاف، فقال كعب لبجير: إلْقَ هذا الرجلَ، وأنا مقيمٌ هاهنا، فانظرْ ما يقول! وقَدم بجير على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرَضَ عليه الإسلامَ، فأَسْلمَ وبلغ ذلك كعباً، فقالَ في ذلك شعراً، فأهْدَر النبيُّ صلى الله عليه وسلم دمه، فكتبَ إليه بُجير يأمرُه أن يُسْلمِ ويُقْبلَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: إنَّ مَنْ شَهِدَ أَنْ لا إله إلاَّ اللهُ وأَنَّ محمداً رسولُ الله، قَبِلَ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسْقَطَ ما كان قَبْل ذلك. فقَدِمَ كعبٌ وأنشد النبيَّ صلى الله عليه وسلم قصيدته المعروفة: بانتْ سُعادُ فقلبي اليومَ مَتْبولُ ... مُتَيَّمٌ إثْرَها لم يُفْدَ مغلولُ وما سُعادُ غَداةَ البينِ إذْ رحَلَتْ ... إلاَّ أغَنُّ غَضيضُ الطرف مَكْحولُ تَجْلُو عوارضَ ذي ظَلْمٍ إذا ابْتَسمَتْ ... كأنَّه مُنْهلٌ بالراح مغلولُ سحَّ السقاةُ عليها ماءَ مَحْنيةٍ ... من ماءِ أبطحَ أضحى وهو مَشْمولُ أَكْرِمْ بها خُلَّةً لو أنها صدقَتْ ... موعودَها أوْ لَوَانَّ النضحَ مقبولُ حتى أتى على آخِرِها فلمَّا بلغَ مديحَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ الرسولَ لَسيفٌ يُستَضاءُ به ... مهنَّدٌ مِن سيوف اللهِ مَسْلولُ في فتيةٍ مِنْ قُريشِ قال قائلُهم ... بِبَطْنِ مكَّةَ لمَّا، أسْلموا: زُولوا زالوا فما زال أنكاسٌ ولا كُشفٌ ... عند اللقاء ولا مِيلٌ مَعازيلُ لا يَقَعُ الطعنُ إلاَّ في نُحورِهمُ ... وما بِهمْ عن حِياضِ الموتِ تَهليلُ شُمُّ العرانينِ أبطالٌ، لَبُوسُهُمُ ... من نَسْجِ داودَ في الهَيجا سَرابِيلُ أشارَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، إلى الخَلْق أَنِ اسْمعوا! قال: وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، يكون من أصحابه مكانَ المائدة من القوم، يتحلقون حلْقةً دون حلقةٍ، فيلتفِتُ إلى هؤلاء وإلى هؤلاء. والأخبارُ فيما يُشبه هذا كثيرةٌ، والأثَرُ به مُسْتَفيض.

وإنْ زَعمَ أنه ذَمَّ الشعرَ من حيث هو موزونٌ مقفَّى، حتى كان الوزنُ عيباً، وحتى كان الكلامُ إذا نُظمَ نَظْمَ الشعرِ، اتَّضَعَ في نفسه وتَغيَّرتْ حالُه، فقد أبعد وقال قولاً لا يُعرفُ له مَعنى، وخالف العلماءَ في قولهم: "إنما الشعرُ كلامٌ فحَسَنُه حَسَنٌ وقبيحُه قبيح"، وقد رُوي ذلك عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مرفوعاً. فإنْ زعمَ أنه إنما كَرِهَ الوزنَ لأنه سبَبٌ لأَنْ يُغنَّى في الشعر ويُتَلهَّى به، فإنَّا إذا كُنَّا لم نَدْعُه إلى الشعر من أجل ذلك، وإنما دَعوناه إلى اللفظ الجَزْل، والقولِ الفَصْل، والمنطق الحسَن، والكلام البيِّن، وإلى حُسْنِ التمثيل والاستعارة، وإلى التلويح والإشارة، وإلى صَنعةٍ تَعْمَدُ إلى المعنى الخسيس فتُشَرِّفُه، وإلى الضئيل فَتُفخِّمُه، وإلى النازل فترفَعُه، وإلى الخامل فَتُنوِّه به، وإلى العاطلِ فتُحَلِّيه، وإلى المشكل فتُحْليه، فلا مُتَعلَّقَ له علينا بما ذَكَر، ولا ضررَ علينا فيما أَنْكَر، فليَقُلْ في الوزنِ ما شاء، ولْيَضَعْه حيث أراد، فليس يعنينا أمره، ولا هو مُرادُنا من هذا الذي راجَعْنا القولَ فيه. وهذا هو الجواب لمتُعلِّقٍ إنْ تَعَلَّق بقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا يَنبَغِي لَهُ} [يس: 69]، وأراد أن يَجْعله حُجةً في المنع مِن الشعر ومِنْ حِفْظه وروايته؛ وذاك أنَّا نَعْلم أنَّه صلى الله عليه وسلم، لم يَمْنع الشعرَ من أجل أنْ كان قولاً فصلاً، وكلاماً جَزْلا، ومنطقاً حَسناً، وبَياناً بيِّناً؛ كيفَ وذلك يقتضي أن يكون اللهُ تعالى قد مَنَعه البيانَ والبلاغةَ، وحماهُ الفصاحةَ والبراعةَ، وجَعلَه لا يَبْلُغ مَبْلغَ الشعراء في حُسْنِ العبارة وشَرَف اللفظ؟ وهذا جهلٌ عظيم، وخِلافٌ لما عَرفهُ العلماءُ، وأَجمعوا عليه من أنه صلى الله عليه وسلم، كان أفصحَ العَرب؛ وإذا بطَلَ أن يكون المَنْعُ، من أجل هذه المعاني، وكنَّا قد أعلمناه أنَّا نَدْعو إلى الشعر من أجلها، ونَحْذُو بطلبه على طلبها، كان الاعتراض بالآية مُحالاً، والتعلُّق بها خَطلاً من الرأي وانحلالاً.

فإنْ قال: إذا قال اللهُ تعالى: {وَمَا عَلَّمَنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنَبغِى لَهُ} [يس: 69] فقد كَرِهَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم الشعرَ، ونَزَّهَه عنه بلا شُبْهة، وهذه الكراهةُ وإنْ كانت لا تَتوجَّهُ إليه مِنْ حيثُ هو كلامٌ ومن حيثُ إنه بليغٌ بَيِّنٌ، وفصيحٌ حَسَنٌ، ونحو ذلك، فإنها تتوجَّه إلى أمر لا بدَّ لك من التَّلَبُّس به في طَلبِ ما ذكرْتَ أنه مرادُك من الشعر؛ وذاك أنه لا سبيلَ لك إلى أن تَميزَ كونَه كلاماً عن كونه شعراً، حتى إذا روَيْتَه التبَسْتَ به من حيث هو كلام ولم تَلْتبِسْ به من حيث هو شعر. هذا محال، وإذا كان لا بُدَّ لك من مُلاَبسة موضع الكراهةِ، فقد لَزِمَ العيبُ برواية الشعر وإعمال اللسان فيه. قيل له: هذا منك كلامٌ لا يتحصَّل. وذلك أنه لو كان الكلام، إذا وُزِنَ حطَّ ذلك من قدره وأَزْرى به، وجلَبَ على المُفْرِغ له في ذلك القالَب إثْماً، وكَسبه ذمَّا، لكان من حق العيب فيه أن يكون على واضع الشعر أو مَنْ يريده لمكانِ الوزن خصوصاً، دون مَنْ يريده لأمرٍ خارج عنه، ويطلبه لشيءٍ سواه. فأما قولك: إنك لا تستطيع أن تَطْلُبَ من الشعر ما لا يُكْرَه حتى تَلْتبِسَ بما يُكرَه، فإني إذن لَمْ أَقصدْه من أجل ذلك المكروه، ولم أُرِدْه له، وأردْتُه لأَعرف به مكان بلاغةٍ، وأجعلَه مِثالاً في براعةٍ، أو أَحْتَجَّ به في تفسير كتابٍ وسُنَّة، وأَنظرَ إلى نَظْمه ونَظْم القرآن، فأرى موضع الإعجاز، وأقفَ على الجهة التي منها كان، وأتبين الفصْلَ والفرقان. فحقُّ هذا التلبسِ أن لا يُعتدَّ عليَّ ذنباً، وأَنْ لا أُؤَاخَذَ به؛ إذْ لا تكون مؤاخذةٌ حتى يكون عَمْدٌ إلى أن تُواقِعَ المكروه، وقَصْدٌ إليه. وقد تَتَّبعَ العلماءُ الشعوذةَ والسِّحْر، وعُنُوا بالتوقف على حِيَل المُموِّهين، ليَعْرفوا فَرْقَ ما بين المعجزة والحِيلة. فكان ذلك منهم مِنْ أعظم البِرِّ، إذْ كان الغرض كريماً والقَصْد شريفاً.

"هذا" وإذا نحن رجَعْنا إلى ما قدمناه من الأخبار، وما صحَّ من الآثار، وجَدْنا الأمرَ على خلاف ما ظَنَّ هذا السائل، ورأَيْنا السبيلَ في منع النبي صلى الله عليه وسلم، الوزنَ، وأنْ يَنْطلق لسانُه بالكلام الموزون، غيرَ ما ذهبوا إليه، وذاك أنه لو كان مَنْعَ تنزيهٍ وكراهةٍ، لكان يَنبغي أن يُكْرَه له سماعُ الكلام موزوناً، وأن يُنَزَّه سمْعهُ عنه كما يُنزَّه لسانُه، ولكان صلى الله عليه وسلم، لا يأمر به ولا يَحثُّ عليه، وكان الشاعر لا يُعانُ على وزن الكلام وصياغته شعراً، ولا يُؤيَّد فيه بروح القُدُس. وإذا كان هذا كذلك، فينبغي أن يَعْلم أَنْ ليس المَنْعُ في ذلك منْعَ تنزيهٍ وكراهة، بل سبيلُ الوزن في منعه عليه السلام إياه، سبيلُ الخَطِّ، حين جُعل عليه السلامُ لا يقرأُ ولا يَكُتب، في أَنْ لم يكن المَنْعُ منِ أجْل كراهةٍ كانت في الخَطِّ، بل لأَن تَكونَ الحُجةُ أَبهِرَ وأقهرَ، والدلالةُ أقوى وأظهر، ولتكون أَكْعَمَ للجاحد وأَقْمَعَ للمُعَانِد، وأَرَدَّ لِطالب الشُّبهة، وأَمْنَعَ في ارتفاع الرِّيبة.

وأما التعلُّق بأحوال الشعراء: بأنهم قد ذُمُّوا في كتاب الله تعالى، فما أرى عاقلاً يَرْضى به أنْ يَجْعله حُجةً في ذَمِّ الشعر وتَهْجينه، والمَنْع مِن حِفْظه وروايته، والعِلْم بما فيه مِن بلاغة، وما يُختصُّ به من أَدب وحِكْمه. ذاك لأَنه يَلْزمُ على قَوَد هذا القولِ، أَن يَعيب العلماءَ في استشهادهم بشِعْر امْرئ القيسِ، وأَشعار أهل الجاهلية في تفسير القرآن، وفي غَريبهِ وغَريبِ الحديث؛ وكذلك يَلْزمه أنْ يَدْفع سائرَ ما تقدَّم ذكرُه من أَمْر النبي، صلى الله عليه وسلم، بالشعر وإصغائه إليه واستحسانه له. هذا ولو كان يَسُوغُ ذَمُّ القولِ من أَجْل قائله، وأنْ يُحْمَل ذَمُّ الشاعر على الشعر، لكان يَنبغي أن يُخَصَّ ولا يُعَمَّ وأن يُسْتثنى. فقد قال الله عز وجل: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً} [الشعراء: 227]. ولولا أَنَّ القولَ يَجُرَّ بَعْضُهُ بَعضاً، وأنَّ الشيءَ يُذكَرُ لدخوله في القِسْمة لكان حقُّ هذا ونحوِهِ، أَنْ لا يُتَشاغَلَ به، وأن لا يُعادَ ويُبْدأَ في ذكره.

الكلام في النحو

الكلام في النحو وأَمَّا زُهْدُهم في النحو، واحتقارُهم له، وإصغارُهم أَمْرَه وتَهاوُنُهم به: فَصنيعُهُم في ذلك، أَشْنَعُ من صَنيعهم في الذي تَقدَّم، وأَشْبَهُ بأن يكون صَدّاً عن كتاب الله، وعن معرفة معانيه. ذاكَ لأَنهم لا يَجدِون بُدًّا من أن يَعترفوا بالحاجة إليه فيه. إذْ كان قد عُلم أنَّ الألفاظَ مُغْلقةٌ على معانيها، حتى يكونَ الإعرابُ هو الذي يَفْتحُها، وأن الأَغراضَ كامنةٌ فيها، حتى يكونَ هو المستخرجَ لها، وأنه المِعيارُ الذي لا يَتَبيَّنُ نقصانُ كلامٍ ورجحانه، حتى يُعْرَضَ عليه، والمقياسُ الذي يُعْرف صحيحٌ من سقيمٍ حتى يَرْجِعَ إليه، ولا يُنكِرُ ذلك إلاَّ من يُنكِر حِسَّه، وإلاَّ مَنْ غالطَ في الحقائق نَفْسَه. وإذا كان الأَمرُ كذلك، فليتَ شِعري، ما عُذْرُ مَن تَهاونَ به وزَهِدَ فيه، ولم يَرَ أنْ يستَسْقيَهُ مِنْ مَصبِّه، ويأَخذَه من مَعْدِنه، ورضيَ لنفسه بالنقص، والكمالُ لها معرضٌ، وآثرَ الغَبينةَ وهو يَجد إلى الربح سَبيلاً؟ فإن قالوا: إنَّا لم نَأْبَ صحَّةَ هذا العلم، ولم نُنْكِر مكانَ الحاجة إليه، في معرفة كتاب الله تعالى، وإنما أَنْكَرنا أَشياءَ كَثَّرْتُمُوه بها، وفُضولَ قولٍ تكلَّفْتموها، ومسائلَ عويصةٌ تجشَّمْتُم الفِكْرَ فيها، ثم لم تَحْصلوا على شيء أكثرَ مِنْ أن تُغْرِبوا على السامعين، وتُعَايُوْا بها الحاضرين، قيلَ لهم: خَبِّرونا عَمَّا زَعْمتم أنَّه فُضُولُ قولٍ وعَوِيصٌ لا يَعود بطائلٍ، ما هو؟ فإنْ بدأوا فذَكروا مسائلَ التصريف التي يَضَعُها النحويون للرياضة، ولِضَرْبٍ مِنْ تَمْكينِ المَقاييس في النفوس، كقولهم: كيف تَبْنِي مِنْ كذا، كذا؟ وكقولهم: ما وَزْنُ كذا؟ وتَتَبُّعهم في ذلك الألفاظَ الوحشية، كقولهم: ما وَزْنُ عِزْوِيت، وما وَزْن أَرْوَنَان؟ وكقولهم في باب ما لا ينصرف: لو سمَّيْتَ رَجلاً بكذا، كيف يكون الحكم؟ وأشباه ذلك. وقالوا: أَتَشُكُّون أنَّ ذلك لا يُجْدِي إلاَّ كَدَّ الفكرِ وإضاعةَ الوقتِ؟

قلنا لهمِ: أمَّا هذا الجنسُ، فلَسْنا نعيبُكم إن لم تَنْظروا فيه، ولم تُعْنوا به. وليس يهَمُّنا أمرُه؛ فقُولوا فيه ما شِئْتم، وضَعُوه حيث أَرَدْتُم. فإنْ تَرَكوا ذلك وتجاوزوه إلى الكلام على أَغراض واضعِ اللغة، وعلى وَجْه الحكمةِ في الأوضاع، وتقرير المقاييس التي اطَّردَتْ عليها، وذكْرِ العِلل التي اقْتَضَتْ أن تجري على ما أُجريت عليه، كالقول في المعتلِّ، وفيما يَلْحَقُ الحروفَ الثلاثة التي هي: (الواوُ والياءُ والألفُ) مِن التغيير بالإبدال والحَذْف والإسكان. أو ككَلامِنا مَثلاً على التَّثْنِية وجَمْع السلامة: لِمَ كان إعرابُهما على خلاف إعراب الواحد؟ ولم تَبعَ النصبُ فيهما الجَرَّ؟. وفي (النون): إنَّه عِوَضٌ عن الحركة والتنوين في حال، وعن الحركة وحدها في حال؟ والكلامِ على ما يَنْصرفُ وما لا يَنْصرف، ولم كان مَنْعُ الصَّرف؟ وبيانِ العلَّةِ فيه، والقولِ على الأسباب التسعة، وأَنها كلَّها ثَوانٍ لأُصول؟ وأَنه إذا حصَلَ منها اثنانِ في اسم، أو تكرَّرَ سَبَبٌ، صار بذلك ثانياً من جهتين، وإذا صار كذلك، أَشْبَهَ الفعل، لأنَّ الفعل ثانٍ للاسم، والاسمِ المقدَّم والأَوَّل، وكلِّ ما جرى هذا المجرى!

قلنا: إنا نَسْكت عنكم في هذا الضرب أيضاً، ونَعْذُركم فيه ونُسامِحكم، على عِلْم منَّا بأنْ قد أَسأتُم الاختيار، ومنَعْتم أنْفسَكم ما فيه الحظُّ لكم، ومنعتموها الاطِّلاعَ على مدارج الحِكْمة، وعلى العلوم الجمَّة. فدَعُوا ذلك، وانظروا في الذي اعترفْتُم بصحَّته وبالحاجة إليه: هل حَصَّلْتموه على وجهه؟ وهل أَحَطْتم بحقائقه؟ وهل وَفَيْتُم كلَّ بابٍ منه حقه، وأَحْكَمتوه إحكاماً يؤمِّنُكم الخطأَ فيه، إذا أنتم خُضْتم في التفسير، وتعاطَيْتم عِلْم التأويل، ووازَنْتم بين بَعْضِ الأقوال وبَعْض، وأردتم أن تَعرفوا الصحيحَ من السقيم؛ وعُدْتُم في ذلك وبدأتم، وزِدْتم ونَقَصْتم؟ وهل رأيتم إِذْ قد عرَفْتُم صورة المبتدأ والخبر، وأنَّ إعرابَهما الرفعُ، أن تتجاوزوا ذلك إلى أن تَنْظروا في أَقسام خبره، فتَعْلموا أنه يكون مُفْرداً وجُملةً، وأَنَّ المفرد يَنْقسم إلى ما يَحْتمِل ضميراً له، وإلى ما لا يَحْتمل الضميرَ؛ وأَنَّ الجملة على أربعة أَضْربٍ، وأنه لا بد لكلِّ جُملةٍ وَقَعتْ خبراً لمبتدأ، من أن يكون فيها ذِكْرٌ يَعودُ إلى المبتدأ، وأن هذا الذكْرَ، ربما حُذِفَ لفظاً وأريدَ معنىً، وأنَّ ذلك لا يكونُ حتى في الحال دليلٌ عليه؟ إلى سائرِ ما يتَّصل بباب الابتداءِ، من المسائل اللطيفة والفوائد الجليلة التي لا بد منها؟ وإذا نظَرْتم في الصفة مثلاً، فعَرَفْتم أنها تَتْبع الموصوفَ، وأَنَّ مِثالها قولُك: (جاءنِي رجلٌ ظريفٌ، ومررتُ بزيدٍ الظريف). هل ظَننتُم أنَّ وراءَ ذلك أمراً، وأنَّ هاهنا صِفةً تُخصِّص وصفةً تُوضح وتُبين، وأن فائدةَ التخصيص غيرُ فائدةِ التوضيح؛ كما أن فائدة الشِّياع، غيرُ فائدة الإبهام، وأنَّ مِنَ الصفة صفةً لا يكون فيها تخيصيصٌ ولا توضيحٌ، ولكنْ يُؤْتى بها مؤكَّدةً، كقولهم (أَمسِ الدابرُ)، وكقوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [الحاقة: 13]، وصفةً يُراد بها المدحُ والثناءُ، كالصفات الجارية على اسْم الله تعالى جَدَّه؟.

وهل عَرَفتم الفَرْقَ بين الصفة والخبر، وبين كلِّ واحدٍ منها وبين الحال؟ وهل عرَفْتم أَنَّ هذه الثلاثة تَتَّفْقُ في أنَّ كافَّتَها لثُبوتِ المعنى لِلشيء، ثم تَخْتلفٌ في كيفية ذلك الثبوتِ؟ وهكذا ينبغي أن تُعْرَض عليهم الأبوابُ كلُّها: واحداً واحداً، ويُسْألوا عنها باباً باباً، ثم يُقال: ليس إلاَّ أَحدَ أمرين: إمَّا أن تَقْتحموا التي لا يَرْضاها العاقلُ، فتُنْكِروا أن يكون بكم حاجةٌ في كتاب الله، وفي خبرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي معرفة الكلام جملةً إلى شيء من ذلك، وتَزْعموا أنكم إذا عَرفْتُم مَثلاً، أنَّ الفاعل رَفْعٌ، لم يَبْقَ عليكم في باب الفاعل، ما تحتاجون إلى مَعْرفته. وإذا نظرتم إلى قولنا: (زَيْدُ مُنْطلقٌ)، لم تُحْتاجوا مِنْ بَعده إلى شيء تَعْلمونه في الابتداء والخبر. وحتى تَزْعموا مثَلاً، أنكم لا تحتاجون في أَنْ تَعرفوا وَجْهَ الرفع في {والصابئون} [المائدة: 69] من سورة المائدة، إلى ما قاله العلماء فيه، وإلى استشهادهم بقول الشاعر: وإلاَّ فاعْلَموا أَنَّا وأنتمْ ... بُغَاةٌ ما بَقينا في شِقاقِ وحتى كان المُشْكِلُ على الجميع غيرَ مُشكلٍ عندكم، وحتى كأَنَّكم قد أُوتيتُمْ أَنْ تَسْتنبطوا مِن المسألة الواحدة مِن كل باب، مسائِلَهُ كلَّها، فتخرجوا إلى فَنِّ من التجاهل لا يَبْقى معه كلامٌ. وإمَّا أَنْ تَعْلموا أنكم قد أَخطأتم، حينَ أَصْغَرْتم أمرَ هذا العلمِ، وظَننتُم ما ظَننتُمْ فيه، فتَرْجِعوا إلى الحق وتُسَلِّموا الفضلَ لأهله، وتدعوا الذي يُزري بكم، ويَفْتَحُ بابَ العيبِ عليكم، ويَطيلُ لسانَ القادحِ فيكم. وبالله التوفيق.

هذا - ولو أنَّ هؤلاءِ القوم، إذْ تَرَكوا هذا الشأْنَ، تركوه جُملة؛ وإذْ زَعَموا أنَّ قَدْرَ المْفْتَقَر إلِيه القليلُ منه، اقْتَصروا على ذلك القليل، فلم يأخذوا أنفُسَهم بالتقوِّي فيه، والتصرُّف فيما لم يتعلموا منه، ولم يَخُوضوا في التفسير ولم يتعاطَوْا التأويلَ - لكان البلاءُ واحداً، ولكانوا إذا لم يَبْنُوا، لم يَهْدِموا، وإذا لم يصْلِحوا لمْ يَكونوا سَبباً للفساد، ولكنهم لم يفعلوا؛ فجَلبُوا مِن الداء ما أَعيى الطبيبَ، وحَيَّر اللبيبَ، وانتهى التخليطُ بما أَتَوْه فيه، إلى حدٍّ يُئسَ مِن تَلافيه، فلم يَبْق للعارف الذي يَكْره الشَّغَب إلا التعجبُ والسكوتُ. وما الآفةُ العُظمى إلا واحدةٌ، وهي أنْ يَجيءَ من الإنسان أنْ يَجْريَ في لفظه، ويَْمشي له، أن يُكْثِر في غير تحصيل؛ وأن يُحسِّن البناءَ على غير أساسٍ، وأن يقول الشيء لم يَقْتُلْه علماً. ونَسْأل اللهَ الهدايةَ، ونرغَبُ إليه في العِصْمة. ثم إنا وإِنْ كنا في زمانٍ، هو على ما هو عليه مِنْ إحالة الأُمور عن جِهَاتها، وتَحْويلِ الأشياءِ عن حالاتِها، ونَقْلِ النفوسِ عن طِبَاعها، وقَلْبِ الخَلائقِ المحمودةِ إلى أضدادها، ودهر ليس للفضل وأهلهِ لديه، إلا الشرُّ صِرْفاً والغَيْظُ بَحْتاً، وإلاَّ ما يُدهِشُ عقولَهم، ويسْلُبُهم مَعْقولَهم، حتى صار أَعجزُ الناس رأياً عند الجميع، مَنْ كانت له هِمَّةٌ في أن يَسْتَفِيدَ عِلْماً، أو يَزْدادَ فَهْماً، أو يَكْتَسب فَضْلاً، أو يَجْعلَ له ذلك بحالٍ شُغْلاً، فإنَّ الإلْفَ من طِباع الكريم؛ وإذا كان مِنْ حَقِّ الصديقِ عليكَ، ولا سيَّما إذا تقادمَتْ صُحْبتُه، وصحَّتْ صداقَتُه - أن لا تَجْفُوَه بأن تَنْكُبَكَ الأيامُ وتُضْجِرَكَ النوائبُ، وتُحْرِجَك مِحَنُ الزمان، فتتناساهُ جملةً، وتَطْويَه طَيَّا؛ فالعِلْمُ الذي هو صديقٌ لا يَحُول عن العَهد، ولا يَدْغِلُ في الوُدِّ، وصاحِبٌ لا يَصِحُّ عليه النكْثُ والغَدْر، ولا يُظَنُّ به الخيانةُ والمَكْر، أَولى منه بذلك وأَجْدَرُ، وحَقُّه عليك أَكْبَرُ. تمهيد للكلام في الفصاحة والبلاغة

ثم إِنَّ التَّوقَ إلى أَن تقَرَّ الأُمورُ قَرارَها، وتُوضَعَ الأشياءُ مَواضِعَها، والنزاعَ إلى بَيانِ ما يُشْكل، وحلِّ ما يَنْعَقِد، والكَشْفِ عمَّا يَخْفَى، وتلخيصَ الصفةِ حتى يزدادَ السامعُ ثقةً بالحُجة، واستظهاراً على الشُّبْهة، واسْتِبانةً للدليل، وتَبْييناً للسبيل، شيءٌ في سُوس العقل، وفي طباع النفس إذا كانت نَفْساً. ولم أزل منذ خَدمْتُ العلم، أنظرُ فيما قاله العلماءُ في معنى الفصاحة والبلاغةِ، والبيانِ والبَراعة، وفي بيان المَغْزى من هذه العبارات، وتفسير المرادِ بها، فأَجِدُ بعضَ ذلك كالرمز والإيماءِ، والإشارة في خفاءٍ، وبعضَه كالتنبيه على مكان الخَبيء لِيُطْلَبَ، ومَوْضعِ الدفينِ ليُبحَثَ عنه فيُخْرَج، وكما يُفتَحُ لكَ الطريقُ إِلى المطلوب لتَسْلُكَه، وتُوضَعَ لك القاعدةُ لتَبْنيَ عليها؛ ووجدتُ المعوَّلَ عَلى أنَّ هاهنا نَظْماً وترتيباً، وتأليفاً وتركيباً، وصياغةً وتصويراً، ونَسْجاً وتَحْبيراً، وأنَّ سبيل هذه المعاني في الكلام الذي هو مَجازٌ فيه، سَبيلُها في الأشياء التي هي حقيقةٌ فيها. وأنه كما يَفْضُلُ هناك النظْمُ النظمَ، والتأليفُ التأليفَ، والنسجُ النسجَ، والصياغةُ الصياغةَ، ثم يَعْظُمُ الفضلُ، وتَكثُر المَزِيَّةُ، حتى يَفوقَ الشيءُ نظيرَه، والمجانِسَ له، درجاتٍ كثيرة، وحتى تَتفاوتَ القِيمُ التَّفاوُتَ الشديدَ، كذلك يَفْضُلُ بَعْضُ الكلام بَعضاً، ويتَقدَّمُ منه الشيءُ الشيءَ؛ ثم يَزدادُ مِن فضله ذلك، ويَترقَّى منزلةً فوق مَنزلةٍ، ويَعْلو مَرْقباً بعد مَرْقبٍ، ويَسْتأنِفُ له غايةً بعد غاية، حتى يَنتهيَ إلى حيث تَنْقطِعُ الأطماعُ، وتُحْسَرُ الظنونُ. وتَسقُطُ القِوى، وتستوي الأقدام في العجز.

وهذه جملةٌ، قد يُرى في أول الأمر وبادئ الظنِّ: أنها تَكْفي وتُغْني. حتى إذا نظَرْنا فيها، وعُدْنا وبدَأْنا، وجَدْنا الأمرَ على خِلاف ما حَسِبْناه، وصادَفْنَا الحالَ على غير ما توهَّمْناه، وعلِمْنا أنهم لِئنْ أَقْصَروا اللفظ، لقد أطالوا المعنى، وإنْ لم يُغرقوا في النزع. لقد أَبْعدوا على ذاك في المَرْمى. وذاك، لأنه يقال لنا: ما زِدْتم على أن قِسْتُم قِياساً، فقُلْتم: نَظْمٌ ونَظْمٌ، وترتيبٌ وترتيب، ونَسْجٌ ونَسْج. ثم بنَيْتم عليه، أنه ينبغي أن تظهر المزيةُ في هذه المعاني هاهنا، حسَب ظهورها هناك، وأنْ يَعظُمَ الأمرُ في ذلك كما عَظُمَ ثَمَّ؛ وهذا صحيحٌ كما قلْتم. ولكنْ بقيَ أنْ تُعْلِمونا مكانَ المزية في الكلام، وتَصفوها لنا، وتذكروها ذِكْراً كما يُنَصُّ الشيءُ ويُعَيَّنُ، ويُكْشَفُ عن وجهه ويُبَيَّنُ. ولا يكفي أن تقولوا: إنَّه خُصوصيةٌ في كيفية النَّظْم، وطريقةٌ مَخْصوصةٌ في نَسَق الكَلِم بَعْضِها على بعض، حتى تَصِفوا تلك الخصوصيةَ وتُبَيِّنوها، وتَذْكُروا لها أمثلةً وتقولوا: مثْلَ كيتٍ وكَيْتٍ، كما يذْكُر لكَ مَنْ تَسْتوصِفُه عَمَلَ الديباج المنقَّش، ما تَعْلَم به وجْهَ دِقَّةِ الصنعة، أَوْ يَعْمَلهُ بين يديكَ، حتى تَرى عِياناً كيف تَذْهبُ تلك الخيوطُ وتَجيءُ، وماذا يَذْهَبُ منها طُولاً، وماذا يَذهب منها عَرْضاً؛ وبِم يَبْدَأ وبم يُثَنِّي وبم يُثَلِّثُ. وتُبْصِرُ من الحِسَابِ الدقيق، ومِنْ عَجيب تَصَرُّفِ اليَدِ ما تَعلمُ منه مكانَ الحِذْقِ ومَوضِعَ الأُستاذيَّة. ولو كان قولُ القائل لك، في تَفْسير الفصاحة: إنها خصوصيةٌ في نَظْم الكَلِم وضَمِّ بَعْضِها إلى بعضٍ، على طريقٍ مخصوصة، أو على وُجوهٍ تَظْهَرُ بها الفائدةُ، أو ما أشبَهَ ذلكَ من القول المُجْمَل، كافياً في مَعْرفتها ومُغْنياً في العِلْم بها، لكفى مِثْلُه في معرِفة الصناعات كلِّها. فكان يَكْفي في معرفة نَسْج الديباج الكثيرِ التَّصاويرِ، أَنْ تَعْلم أنه تَرتيبٌ للغَزْل على وَجْهٍ مخصوص، وضَمٌّ لطاقاتِ الإبريسم بعضِها إلى بعضٍ، على طُرُقٍ شتى؛ وذلك ما لا يَقولُه عاقلٌ.

وجملةُ الأمر: أنك لن تَعْلَم في شيءٍ من الصناعات عِلْماً تُمِرُّ فيه وتُحلْي، حتى تَكونَ ممن يَعْرفُ الخطأَ فيها مِن الصواب، ويَفْصِلُ بين الإساءة والإِحسان؛ بل حتى تُفاضِلَ بين الإحسان والإحسان، وتَعْرِفَ طبقاتِ المُحْسنين. وإذا كان هذا هكذا، علمْتَ أنه لا يكفي في علمٍ الفصاحة أن تَنْصُبَ لها قياساً ما، وأن تَصِفها وصْفاً مُجْملاً، وتقولَ فيها قولاً مُرْسَلاً؛ بل لا تكونُ مِن مَعرفتها في شَيءٍ حتى تُفصِّل القولَ وتُحصِّلَ، وتضعَ اليدَ على الخصائص التي تَعْرِضُ في نَظْم الكَلِم، وتَعُدُّها واحدةً واحدة، وتُسمّيها شيئاً شيئاً. وتكونُ مَعْرفتُك معرفة الصَّنَع الحاذق الذي يَعْلم عِلمَ كلِّ خيطٍ من الإبرسيم الذي في الديباج، وكلَّ قطعةٍ من القِطَع المَنْجورة في الباب المُقَطَّع، وكلَّ آجرَّةِ من الآجرِّ الذي في البناء البديع. وإذا نظرت إلى الفصاحة هذا النظرَ، وطلَبْتَها هذا الطلبَ، احتجْتَ إلى صبرٍ على التأمُّل، ومواظَبةٍ على التدبُّر، وإِلى هِمَّة تَأْبى لكَ أن تَقْنَع إلاَّ بالتمام، وأنْ تَرْبَعَ إلاَّ بَعْد بلوغ الغاية. ومتى جَشَّمْتَ ذلك، وأَبيْتَ إِلاَّ أن تكونَ هنالك، فقد أَمَمْتَ إلى غرض كَريم، وتعرَّضْتَ لأمرٍ جَسيم، وآثَرْتَ التي هي أتَمُّ لدِينِكَ وفَضْلِك، وأَنْبَلُ عند ذوي العقول الراجحة لك؛ وذلك أنْ تَعرِفَ حُجَّة الله تعالى من الوَجْه الذي هو أَضْوَأُ لها وأَنْوَهُ لها، وأَخْلَقُ بأن يَزْدادَ نُورُها سطوعاً، وكوكبُها طُلوعاً؛ وأن تَسْلُكَ إليها الطريقَ الذي هو آمَنُ لكَ من الشكِّ، وأَبعَدُ مِن الرَّيْبِ، وأَصَحُّ لليقينِ، وأَحْرى بأن يُبْلِغَكَ قاصِيَة التبيينِ. الكلام في إعجاز القرآن من التمهيد

واعْلَمْ أَنه لا سبيل إِلى أنْ تَعرِفَ صحَّةَ هذه الجملةِ، حتى يَبْلُغَ القولُ غايتَه، ويَنْتهيَ إلى آخر ما أَردْتَ جَمْعَه لك، وتَصويرَه في نفسك، وتَقْريرَه عندك. إِلا أنَّ هاهنا نُكْتةً إنْ أنتَ تأمَّلْتَها، تأَمُّلَ المُتَثَبِّتِ، ونظَرْتَ فيها نَظَر المتأنِّي، رجَوْتَ أنْ يَحْسُنَ ظَنُّك، وأنْ تَنْشَطَ للإِصغاء إلى ما أُورِدَه عليك، وهي: إنَّا إذا سُقْنا دليلَ الإعجاز فقُلْنا: لولا أَنهم حينَ سمعوا القرآنَ، وحينَ تُحدُّوا إِلى مُعَارضته، سَمِعوا كلاماً لم يَسْمعوا قطُّ مثْلَه، وأنهم قد رازوا أنْفُسَهم فأَحَسُّوا بالعَجْز على أنْ يأتوا بما يُوازيه أو يُدانيه، أو يقَعُ قريباً منه، لكان مُحالاً أن يَدَعُوا معارَضَتَه، وقد تُحُدُّوا إليه، وقُرِّعوا فيه، وطُولبوا به، وأن يتعرضوا لِشَبا الأَسِنَّة، وَيْقتحموا مواردَ الموتِ.

فقيل لنا: قد سَمِعْنا ما قلْتُم، فخَبِّرونا عنهم، عَمَّاذا عَجِزوا؟ أَعَنْ مَعانٍ في دقة مَعانيه وحُسْنهِا وصحتها في العقول؟ أمْ عن ألفاظٍ مِثْلِ ألفاظه؟ فإِنْ قلْتُم: عن الألفاظ. فماذا أَعْجَزَهم من اللفظ؟ أمْ ما بَهَرَهُم منه؟ فقلنا: أَعْجَزَتْهم مزايا ظَهَرَتْ لهم في نَظْمه، وخصائصُ صادَفُوها في سِياق لفظه، وبدائعُ راعَتْهم من مبادئ آيهِ ومَقَاطعها، ومَجاري ألفاظها ومَواقِعها، وفي مَضْرَبِ كلِّ مَثَلٍ، ومَساقِ كلِّ خبر، وصُورةِ كلِّ عِظَةٍ وتنبيهٍ وإعلام، وتَذكيرٍ وترغيبٍ وترهيبٍ، ومع كلِّ حُجَّةٍ وبرهانٍ، وصفةٍ وتِبْيان؛ وبَهَرهم أنهم تَأَمَّلوه سورةً سورةً، وعَشْراً عشْراً، وآيةً آية، فلم يَجدوا في الجميع كلمةً يَنْبُوا بها مكانُها، ولفظةً يُنْكَرُ شأنُها، أو يُرى أنَّ غيرَها أَصلحُ هناك أو أشْبَهُ، أو أَحْرى وأخْلَقُ؛ بل وَجدوا اتِّساعاً بَهَرَ العقولَ، وأَعْجَز الجُمهورَ، ونظاماً والتئاماً، وإتْقاناً وإحكاماً، لم يَدَعْ في نَفْسِ بليغٍ منهم - ولو حَكَّ بيافوخه السماء - مَوْضِعَ طمع، حتى خَرسَت الألسْنُ عن أنْ تدّعي وتقول، وخَلَدَتِ القُرومُ، فلم تَمْلِك أنْ تَصُولَ. نَعَمْ، فإذا كان هذا هو الذي يُذكَرُ في جواب السائل، فبنا أن نَنْظُر أيٌّ أَشْبَهُ بالفتى في عَقْله ودِينه، وأَزْيَدُ له في عِلْمه ويَقينه: أأنْ يُقَلِّدَ في ذلك، ويَحْفَظَ مَتْنَ الدليلِ وظاهرَ لفظِه، ولا يَبْحثَ عن تفسير المَزايا والخصائصِ، ما هي ومِنْ أيْنَ كَثُرَت الكثرةَ العظيمةَ، واتَّسَعتِ الاتِّساعَ المُجَاوِزَ لِوُسْعِ الخَلْق وطاقة البشر؟ وكيف يكونُ أنْ تَظْهَرَ في ألفاظٍ محصورة، وكَلِمٍ معدودةٍ معلومة، بأنْ يُؤتى ببعضها في إِثْْر بَعْضٍ، لطائفُ لا يَحْصُرها العدَدُ، ولا ينتهي بها الأمَدُ؟ أَمْ أن يَبْحَث عن ذلك كلِّه، ويَسْتقصيَ النظرَ في جَميعِهِ، ويَتَّبعه شيئاً فشيئاً، ويَسْتَقصِيَهُ باباً فباباً، حتى يَعْرِف كلاَ منه بشاهِدِهِ ودليله، ويَعْلَمَهُ بتفسيره وتأويله، ويُوثقَ بتصوره وتمثيله، ولا يكونَ كمن قيلَ فيه [من الطويل]:

يقولون أقوالاً، ولا يَعلْمونها ... ولو قيل: هاتُوا حقِّقوا لم يُحَقِّقوا قد قطعتُ عذْرَ المتهاونِ ودَلَلَتْ على ما أضاعَ من حَظّه، وهَدَيْتُه لرشده؛ وصحَّ أنْ لا غنى بالعاقل، عن معرفة هذه الأمور، والوقوف عليها والإحاطة بها؛ وأنَّ الجهة التي منها يقف، والسببَّ الذي به يَعْرفُ استقراءَ كلامِ العرب، وتتبُّعَ أشعارهم والنظر فيها، وإذْ قد ثَبتَ ذلك، فينبغي لنا أنْ نبتدئ في بيان ما أرَدْنا بيانه ونأخذَ في شرحه والكشف عنه.

وجملة ما أردت أن أبينه لك الكلام في إعجاز القرآن أنه لا بد لكل كلام تستحسنه، ولفظٍ تستجيده، من أن يكون لاستحسانك ذلك جهةٌ معلومة، وعلَّةٌ معقوله، وأن يكون لنا إِلى العبارة عن ذاك سبيلٌ، وعلى صحة ما أدِّعيناه من ذلك دليل، وهو باب من العلم، إذا أنت فتحتَه اطَّلعْتَ منه على فوائد جليلة، ومعانٍ شريفة، ورأيتَ له أثراً في الدين عظيماً، وفائدة جسيمة، ووجدْتَهُ سبباً إلى حَسْم كثيرٍ من الفساد فِيما يَعودُ إِلى التنزيِل، وإصلاح أنواعٍ من الخَلل فيما يتعلق بالتأويل؛ وأَنه ليؤمنك مِن أَنْ تُغَالَطَ في دعواك، وتدافَع عن مَغْزاك، ويرْبأ بك عن أن تستبين هُدًى ثم لا تهتدي إليه، وتُدِلَّ بعرفانٍ ثم لا تستطيع أن تَدُلَّ عليه، وأن تكون عالِماً في ظاهر مُقَلِّدٍ، ومُستبيناً في صورةِ شاكٍّ، وأن يسألك السائلُ عن حُجة يَلْقى بها الخصمَ في آيةٍ مِنْ كتاب الله تعالى أو غير ذلك، فلا ينصرفُ عنك بِمقْنَع، وأن يكون غايةُ ما لصاحبك منك أن تُحيله على نفْسِه، وتقول: قد نظرتُ فرأيتُ فضلاً ومزية، وصادفتُ لذلك أَريحيَّة، فانظرْ لتعرِفَ كما عرفتُ، وراجعْ نفْسَك، واسْبُرْ وذُقْ، لتجدَ مثل الذي وجدْتُ، فإنْ عَرفَ فذاك، وإلاَّ فبينكما التَّناكُر، تَنْسب إلى سوء التأمُّل، ويُنْسِبكَ إلى فساد في التَّخيُّل، وإنَّه على الجملة بحيث يَنْتقي لك من علم الإعراب خالصَه ولُبَّه، وَيأخُذ لك منه أَناسي العيونِ، وحبَّاتِ القلوب، وما لا يدَفْع الفضلُ فيه دافعٌ، ولا يُنْكِر رجحانَه في موازين العقول مُنْكِرٌ، وليس يَتأتَّى لي أن أُعْلِمَك مِنْ أول الأمر في ذلك آخِرَه، وأَنْ أسمِّي لك الفُصُولَ التي في نيَّتي أن أُحرِّرها بمشيئة الله عزَّ وجلَّ، حتى تكون على علم بها قبل موردها عليك، فاعملْ على أنَّ هاهنا فصولاً يَجيء بعضُها في إثر بعضٍ. وهذا أَوَّلها:

فصل: تحقيق القول في البلاغة والفصاحة

فصل: تحقيق القول في البلاغة والفصاحة في تحقيق القول على البلاغة والفصاحة، والبيان والبراعة، وكلِّ ما شاكلَ ذلك، مما يُعبَّر به عن فضل بعض القائلين على بعض، من حيث نَطقوا وتكلموا، وأَخبروا السامعين عن الأغراض والمقاصد، وراموا أن يُعْلِمُوهم ما في نفوسهم، ويَكشفوا لهم عن ضمائر قلوبهم ومن المعلوم أن لا معنى لهذه العبارات وسائر ما يَجْري مجراها مما يُفرد فيه اللفظُ بالنعت والصفة، وينسبُ فيه الفضلُ والمزيةُ إليه دونَ المعنى: غيرُ وصْفِ الكلام بِحُسْنِ الدلالة، وتمامِها فيما له كانت دلالة، ثم تَبرُّجهِا في صورةٍ هي أبهى وأزْيَنُ، وآنَقُ وأَعْجَبُ، وأَحقُّ بأن تستوليَ على هوى النفس، وتنالَ الحظَّ الأوفرَ من مَيْل القلوب، وأولى بأن تُطْلِقَ لسانَ الحامد، وتُطِيلَ رغْمَ الحاسد. ولا جهة لاستعمال هذه الخصال: غيرُ أنْ يُؤتى المعنى من الجهة التي هي أَصحُّ لتأديته، ويُخْتارَ له اللفظُ الذي هو أَخصُّ به، وأَكْشَفُ عنه وأَتمُّ له، وأحرى بأن يَكسبه نُبلاً، ويُظهِرَ فيه مزية.

وإذا كان هذا كذلك، فينبغي أن يُنظَر إلى الكلمة قبل دخولها في التأليف، وقبل أن تصير إلى الصورة التي بها يكونُ الكَلِمُ: إخباراً وأمْراً ونَهياً واستخباراً وتعجباً، وتؤدِّيَ في الجملة معنًى من المعاني التي لا سبيل إلى إفادتها إلاَّ بضَمِّ كلمة إلى كلمة، وبناء لفظة على لفظة - هل يُتَصوَّر أن يكون بين اللفظتين تَفاضُلٌ في الدلالة، حتى تكون هذه أدلَّ على معناها الذي وُضعتْ له من صاحبتها، على ما هي موسومة به، حتى يقال إنَّ "رجلاً" أدلُّ على معناه من "فرس" على ما سُمِّي به؟ ...

وحتى يُتَصوَّر في الاسمين الموضوعين لشيء واحد، أن يكون هذا أحْسَنَ نبأ عنه، وأَبْيَن كَشْفاً عن صورته من الآخر؟ فيكونُ "الليثُ" مثلاً أدلَّ على السَّبُع المعلوم من "الأسد"، وحتى إنَّا لو أردنا الموازنةَ بين لغتين، كالعربية والفارسية، ساغ لنا أن نَجْعل لفظة "رجل" أَدلَّ على الآدميّ الذكَر من نظيره في الفارسية؟ وهل يقع في وَهْم - وإنْ جُهِد - أن تتفاضلَ الكلمتان المفردتان، من غير أن يُنظَر إلى مكانٍ تقعان فيه، من التأليف والنظم، بأكثرَ من أن تكون هذهِ مألوفةً مستعملةً، وتلك غريبةً وحشية؟ أو أن تكون حروفُ هذهِ أَخَفَّ، وامتزاجُها أَحسنَ؟ ومما يَكُدُّ اللسانَ أَبْعَدَ؟ وهل تَجد أحداً يقول: هذه اللفظةُ فصيحةٌ، إلاَّ وهو يَعتبرُ مكانَها من النظم، وحُسْنَ مُلاءمة معناها لمعاني جاراتها، وفضْلَ مؤانستهَا لأَخَواتها؟ وهل قالوا: لفظةٌ متمكنةٌ ومقبولة، وفي خلافه: قلقةٌ ونابيةٌ، ومُسْتكرَهة، إلاَّ وغَرضُهم أن يُعَبِّروا بالتمكن عن حُسْنِ الاتفاق بين هذه وتلك مِن جهة معناهما، وبالقَلَقِ والنُّبوِّ عن سوء التَلاؤم، وأن الأُولى لَم تَلِقْ بالثانية في معناها، وأن السابقةَ لم تَصْلُحْ أن تكون لِفْقاً للتالية في مؤدَّاها؟ وهل تشكُّ، إذا فكَّرْت في قوله تعالى: {وَقِيلَ ياأرض ابلعي مَآءَكِ وياسمآء أَقْلِعِي وَغِيضَ المآء وَقُضِيَ الأمر واستوت عَلَى الجودي وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين} [هود: 44]، فتَجلَّى لك منها الإعجازُ، وبَهَركَ الذي تَرى وتَسْمَعُ، أَنك لم تَجد ما وَجَدْتَ من المزية الظاهرة والفضيلة القاهرة، إلاَّ لأمرٍ يَرجعُ إلى ارتباط هذه الكَلِم بعضها ببعض، وأن لم يَعرِضْ لها الحُسْنُ والشرفُ، إلاَّ من حيث لاقَتْ الأُولى بالثانية والثالثة بالرابعة؟ وهكذا، إلى أن تستقريَها إلى آخِرها، وأن الفضل تَناتَجَ ما بينها، وحصَل من مجموعها.

إن شكَكْتَ فتأمل! هل ترى لفظة منها، بحيث لو أُخِذَتْ من بين أَخواتها وأُفردتْ، لأَدَّت من الفصاحة ما تُؤدِّيه وهي في مكانها من الآية؟ قل" إبلَعي" واعتبرْها وحْدَها، من غير أن تَنْظُرَ إلى ما قَبْلَها وإلى ما بعدها، وكذلك فاعتبرْ سائرَ ما يليها! وكيف بالشك في ذلك، ومعلوم أن مبْدَأ العظمةِ في أن نُوديت الأرضُ، ثم أُمرَتْ، ثم في أن كان النداءُ بـ "يا" أيّ نحو: يا أيتها الأرضُ، ثم إضافةِ الماء إلى (الكاف) دون أن يقال: ابلعي الماء، ثم أن اتبع نداءُ الأرض وأمرُها بما هو شأنها، نداءَ السماء وأمرَها كذلك بما يَخصُّها، ثم أنْ قيل: "وغِيضَ الماءُ"، فجاء الفعلُ على صيغة "فُعِل" الدالَّةِ على أنَّه لم يَغِضْ إلاَّ بأَمر آمرٍ، وقُدرةِ قادرٍ، ثم تأكيدُ ذلك وتقريرُه بقوله تعالى: "وقُضيَ الأَمُر"، ثم ذكرُ ما هو فائدةُ هذه الأمور وهو: "استوتْ عَلَى الجُوديِّ". ثم إضمارُ "السفينة" قَبْل الذكْر، كما هو شرطُ الفخامةِ والدلالةِ على عِظَم الشأن، ثم مقابلة "قيل" في الخاتمة "بقيل" في الفاتحة. أفترى لِشيءٍ من هذه الخصائص التي تملؤك بالإعجاز روعةً، وتحضُرُكَ عند تصورها هيبةً، تُحيطُ بالنفس من أقطارها تعلُّقاً باللفظ من حيث هو صوتٌ مسموعٌ، وحروفٌ تتوالى في النطق؟ أم كل ذلك، لما بين معاني الألفاظِ مِنَ الاتِّساقِ العجيب؟ فقد اتَّضحَ إذن، اتضاحاً لا يَدَعُ لِلشكِ مجالاً، أنَّ الألفاظ لا تتفاضَلُ من حيث هي ألفاظٌ مجرَّدة، ولا من حيث هي كَلِمٌ مفردة، وأن الألفاظ تَثْبُتُ لها الفضيلة وخِلافُها، في ملاءمةِ معنى اللفظةِ لمعنى التي تليها، أو ما أشبهَ ذلك مما لا تَعلُّقَ له بصريحِ اللفظِ. ومما يَشهد لذلك أَنَّك ترى الكلمةَ تروقُك وتُؤنسك في موضع، ثم تراها بعينها تَثْقُلُ عليك، وتُوحِشُك في موضع آخر، كلفظ "الأَخدع" في بيت الحماسة [من الطويل]: تلفَّتُّ نَحْو الحيّ حتى وجدْتُني ... وجِعْتُ من الإصغاءِ ليتاً وأخدعا وبيت البحتريّ [من الطويل]: وإنِّي وإنْ بلَّغْتَني شرَفَ الغِنى ... وأَعتقْتَ مِنْ رِقِّ المَطامع أَخْدَعي

فإنَّ لها في هذين المكانين ما لا يَخْفى مِن الحُسْن. ثم أنك تتأَمُّلها في بيت أبي تمام [من البسيط]: يا دَهْرُ قوِّمْ مِن اخْدَعَيْكَ فقد ... أضْجَجْتَ هذا الأنامَ من خَرُقكْ فتَجدُ لها، مِنَ الثِّقَلِ على النفس ومن التنغيصِ والتكْدير، أضعافَ ما وجدتَ هناك من الروْح والخِفَّة، والإيناسِ والبهجة. ومِنْ أَعجبِ ذلك، لفظةُ "الشيء": فإنكَ تراها مقبولة حسنةً في موضع، وضعيفةً مستكْرَهة في موضع. وإن أردْتَ أن تَعْرف ذلك، فانظرْ إلى قول عمرَ بن أبي ربيعة المخزومي: ومِنْ مالىءِ عينيه مِنْ شيء غيرِهِ ... إذا راحَ نحو الجمرة البِيضُ كالدُّمى وإلى قول أَبي حَيَّة [من الطويل]: إذا ما تقاضى المرءَ يومٌ وليلةً ... تقاضاه شيءٌ لا يَملُّ التقاضيا فإنك تَعرف حُسْنَها ومكانَها من القَبول. ثم انظر إليها في بيت المتنبي [من الطويل]: لَو الفَلَكُ الدوَّارُ أبغضْتَ سَعْيَهُ ... لعوَّقَهُ شيءٌ عن الدورانِ فإنَّك تراها تَقِلُّ وتَضْؤل، بحَسب نُبْلها وحُسْنها فيما تقَدَّم. وهذا باب واسع، فإنك تَجدُ متى شئْتَ الرجلَيْن قد استعملا كَلِماً بأَعيانها، ثم تَرى هذا قد فَرعَ السِّماكَ، وتَرى ذاكَ قد لَصِقَ بالحضيض؛ فلو كانت الكلمةُ إذا حَسُنتْ حَسُنتْ من حيث هي لفظٌ، وإذا اسْتَحقَّت المزيةَ والشرفَ، استحقَّتْ ذلك في ذاتها وعلى انفرادِها، دون أن يكونَ السببَ في ذلك، حالٌ لها مع أَخَواتها المجاورة لها في النَّظْم، لما اخْتَلَف بها الحالُ، ولكانت: إمَّا أنْ تَحْسُنَ أبداً، أَوْ لا تَحْسن أبداً. ولم تَر قولاً يضطرب عَلَى قائله حتى لا يَدْري كيف يُعبِّر، وكيف يُورد ويُصْدر، كهذا القول. بل إنْ أردتَ الحق، فإنَّه من جنس الشيء يُجْري به الرجلُ لسانَه، ويُطْلِقُه؛ فإذا فتَّش نفْسَه وجدها تَعْلَم بُطْلانَه، وتنطوي عَلَى خِلافه، ذاك لأنه مما لا يقوم بالحقيقة في اعتقاد، ولا يكونُ له صورةٌ في فؤاد.

فصل: تحقيق القول في البلاغة والفصاحة: نظم الكلام بحسب المعاني

فصل: تحقيق القول في البلاغة والفصاحة: نظم الكلام بحسب المعاني ومما يجب إحكامه، بِعَقب هذا الفصل، الفَرْقُ بين قولنا: حروفٌ منظومةٌ، وكَلِمٌ منظومة. وذلك أنَّ نظْمَ الحروفِ، هو تَواليها في النطق فقط، وليس نظمُها بمتقضى عن معنى، ولا الناظمُ لها بمُقْتَفٍ في ذلك رَسْماً من العقل، اقتضى أَنْ يَتَحرَّى في نظمه لها ما تَحرَّاه. فلو أَنَّ واضعَ اللغةِ، كان قد قال "ربَضَ" مكان "ضَرَب" لما كان في ذلك ما يؤدِّي إلى فساد. وأمَّا نَظْمُ الكَلِم، فليس الأَمرُ فيه كذلك، لأنك تَقْتفي في نظمها آثار المعاني، وتُرتِّبُها على حَسَب ترتيبِ المعاني في النفس؛ فهو إذن نَظْمٌ يُعْتَبر فيه حالُ المنظوم بعضِه مع بعضٍ، وليس هو النظم الذي مَعْناه ضَمُّ الشيء إلى الشيء، كيف جاء واتَّفَقَ. وكذلك كان عندهم: نظيراً للنَّسْج والتأليف والصياغة والبناء والوشي والتحبير، وما أَشبَه ذلك، مما يُوجب اعتبارَ الأجزاءِ بَعْضِها مع بعض، حتى يكون لوضع كلِّ حيث وُضع، علةٌ تَقْتَضي كونَه هناك؛ وحتى لو وُضِع في مكان غيرهِ، لم يَصْلُحْ.

والفائدة في معرفة هذا الفرق، أَنكَ إذا عرَفْتَه عرفْتَ أنْ ليس الغَرضُ بنَظْم الكَلِم أَنْ توالَتْ ألفاظُها في النطق، بل أَنْ تناسَقَتْ دلالتُها، وتَلاقَتْ معانيها على الوجه الذين اقتضاه العقل. وكيف يُتَصَّور أنْ يُقصَد به إلى توالي الألفاظ في النطق، بعد أن ثَبَتَ أنه نظْمٌ يُعْتَبر فيه حالُ المنظوم بعضِه مع بعض، وأنه نَظيرُ الصياغة والتحبير والتفويف والنقش، وكلِّ ما يُقصَد به التصوير: وبعْدَ أن كنَّا لا نَشكُّ في أنْ لا حال لِلفظةٍ مع صاحبتها تُعْتَبر، إذا أنتَ عزلْتَ دلالَتَهما جانباً؟ وأَيُّ مساغٍ للشك في أنَّ الأَلفاظَ لا تستحق من حيث هي ألفاظٌ، أن تُنْظَم على وجهٍ دون وجهٍ؟ ولو فرَضْنا أنْ تَنْخلِعَ مِن هذه الألفاظ، التي هي لغاتٌ، دلالَتُها، لَمَا كان شيءٌ منها أَحَقَّ بالتقديم من شيءٍ، ولا يُتَصَوَّر أن يَجِبَ فيها تَرتيبٌ ونَظْمٌ. ولو حفَّظْتَ صبياً شطْرَ "كتابِ العين" أو "الجمهرة"، مِنْ غير أن تُفَسِّر له شيئاً منه، وأخذْتَه بأن يَضْبِطَ صُوَرَ الألفاظِ وهيأَتَها، ويؤدِّيها كما يؤدِّي أصنافَ أصواتِ الطيور، لرأيتَهُ ولا يَخْطرُ له ببالٍ، أَنَّ مِن شأنه أنْ يؤخِّر لفظاً ويقدِّم آخرَ. بل كان حالُه حالَ مَنْ يَرمي الحَصى ويعدُّ الجوزَ، اللهمَّ إلاَّ أن تَسُومَه أنتَ أَنْ يأتيَ بها على حروف المعجم، ليحفظ نَسَقَ الكتابِ. تحقيق القول في البلاغة أنها تتعلق بالمعنى لا اللفظ ودليل آخر، وهو أنه، لو كان القصْدُ بالنظم، إلى اللفظ نَفْسِه، دون أن يكون الغرضُ ترتيبَ المعاني في النفس، ثم النطقَ بالألفاظ على حَذْوها، لَكانَ يَنْبغي أن لا يَخْتلف حال اثنين في العِلْم، بحُسْن النظُم أو غيرِ الحُسْنِ فيه، لأنهما يُحِسَّان بِتَوالي الألفاظِ في النطق إحساساً واحداً ولا يَعْرِفُ أحدُهما في ذلك شيئاً يَجْهلُهُ الآخرُ.

وأوْضحُ من هذا كلِّه، وهو أنَّ هذا النظْمَ الذي يتواصَفُه البلغاءُ وتَتَفاضَلُ مراتِبُ البلاغةِ من أجله، صَنْعةٌ يُستعانُ عليها بالفكرة لا مَحالة؛ وإذا كانت مما يُستعانُ عليها بالفكرة، ويُسْتخرَجُ بالرَّويَّة، فينبغي أن يُنْظَر في الفِكَر: بماذا تُلبَّسُ: أبالمعاني. أم بالأَلفاظ؟ فأَيُّ شيء وجدْتَه الذي تلبِّس به فِكَركَ من بين المعاني والألفاظ، فهو الذي تَحَدثُ فيه صَنْعتُك، وتَقع فيه صياغتُك ونَظْمُك وتصويرُك. فمحالٌ أن تفكِّر في شيء، وأَنت لا تَصنَعُ فيه شيئاً وإنما تَصْنع في غيره. لو جاز ذلك لجاز أن يُفكِّر البنَّاءُ في الغَزْل ليَجْعل فكْرَه فيه وصلةً إلى أن يُصنع في الآجرّ، وهو من الإحالة المُفْرطة.

فإن قيل: النظْمُ موجودٌ في الألفاظ على كل حال، ولا سبيل إلى أن يُعْقَل الترتيبُ الذي تزعمه في المعاني، ما لم تَنْظم الألفاظَ ولم ترتِّبْها على الوجه الخاص، قيل: إن هذا هو الذي يُعيد هذه الشبْهة جَذعة أبداً، والذي يَحلُّها أن تَنْظر: أتتصوَّرُ أن تكُون معْتَبِراً مفكِّراً في حالِ اللفظ مع اللفظ، حتى تضَعَه بجنبه أو قبله، وأن تقول: هذه اللفظةُ إنما صلحَتْ هاهنا لكونها على صفة كذا؟ أم لا يُعقل إلاَّ أن تقولَ: صلحَتْ هاهنا لأن معناها كذا، ولدلالتها على كذا، ولأن معنى الكلام، والغَرض في يُوجب كذا، ولأن معنى ما قبلها يَقْتضي معناها؟ فإن تصورت الأول، فقل ما شئْتَ واعلمْ أنَّ كل ما ذكرناه باطلٌ، وإن لم تتصورْ إلا الثاني، فلا تخْدَعنَّ نفْسَك بالأضاليل، ودَعْ النظرَ إلى ظواهر الأمور، واعلمْ أنَّ ما ترى، أنه لا بدَّ منه من ترتيب الألفاظ وتواليها على النظْم الخاص، ليس هو الذي طلبْتَه بالفكر، ولكنه شيء يقع بسبب الأول ضرورةً من حيث إِنَّ الألفاظ، إذا كانت أوعيةً للمعاني، فإنها لا محالة تَتَبْع المعاني في مواقعها، فإذا وجَبَ لِمعنًى أن يكون أولاً في النفس، وجَب للفظ الدالِّ عليه أن يكون مثْلَه أوَّلاً في النطق؛ فأمَّا أَن تتصورَ في الألفاظ، أن تكون المقصودةَ قبل المعاني بالنظم والترتيب، وأن يكون الفكْرُ في النظم الذي يتواصفُه البلغاءُ فكْراً في نظْم الألفاظ، أو أن تحتاج بَعْد ترتيبِ المعاني إلى فكْرٍ تستأنفه لأن تجيءَ بالألفاظ على نَسَقها، فباطلٌ من الظن ووهْمٌ يُتخيَّل إلى مَنْ لا يوفي النظرَ حقَّه. وكيف تكونُ مفكِّراً في نظم الألفاظ وأنت لا تعقل لها أوْصافاً وأحوالاً إذا عرفْتَها أنَّ حقها أَن تُنْظَم على وجه كذا؟

ومما يلبِّس على الناظر في هذا الموضع ويُغلِّطه، أنه يَستَبْعد أن يُقال: هذا كلام قد نُظِمتْ معانيهِ. فالعُرْفُ كأنه لم يَجْرِ بذلك. إلاَّ أَنهم وإنْ كانوا لم يسَتعملوا النظْمَ في المعاني، قد استعملوا فيها ما هو بمعناه ونَظيرٌ له؛ وذلك قولُهم: إنَّه يُرتِّبُ المعانيَ في نفسه، ويُنْزِلها ويَبْني بعضَها على بعض. كما يقولون: يُرتِّب الفروعَ على الأصول، ويُتْبع المعنَى المعنى، ويُلْحِق النظِير، بالنظير، وإذا كنْتَ تعلم أنهم استعاروا النَّسْجَ والوشيَ والنقشَ والصياغَةَ، لنفس ما استعاروا له النظْم، وكان لا يُشَكُّ في أنَّ ذلك كله تشبيهٌ وتمثيلٌ يَرجع إلى أمورٍ وأوصاف تتعلق بالمعاني دون الألفاظ، فمن حَقِّك أنْ تَعلم أنَّ سبيلَ النظمِ، ذلك السبيلُ. واعلمْ أنَّ مِنْ سبيلك، أن تَعتمِدَ هذا الفصْلَ حدّاً، وتَجْعل النُّكَتَ التي ذكرتُها فيه، على ذُكْرٍ منك أبداً؛ فإنها عَمَدٌ وأُصولٌ في هذا الباب، إذا أنت مكَّنْتَها في نَفْسك، وجدْتَ الشُّبَه تنزاحُ عنك، والشكوكَ تَنْتفي عن قلبك؛ ولا سيما ما ذكرتُ من أنه لا يُتَصوَّر أنْ تَعرِفَ للفظ موضعاً، من غير أن تَعْرف معناه، ولا أن تَتوخَّى في الألفاظ، من حيث هي ألفاظٌ، ترتيباً ونظماً، وأنَّك تَتوخَّى الترتيبَ في المعاني وتُعْمِل الفكْرَ هناك؛ فإذا تَمَّ لك ذلك أتْبَعْتَها الألفاظَ وقَفَوْتَ بها آثارها، وأَنَّك إِذا فرَغْتَ من ترتيب المعاني في نفسك، لم تحتج إلى أن تستأنف فكْراً في ترتيب الألفاظ، بل تَجدُها تَترتَّب لك بحُكْم أنها خَدَمٌ للمعاني، وتابعةٌ لها ولاحِقةٌ بها، وأن العِلْم بمواقع المعاني في النفس، علمٌ بمواقع الألفاظ الدالَّة عليها في النطق.

فصل: تحقيق القول في البلاغة والفصاحة وأنها للمعنى لا للفظ

فصل: تحقيق القول في البلاغة والفصاحة وأنها للمعنى لا للفظ واعلمْ أَنك إِذا رجعتَ إلى نفسك، علمتَ علْماً لا يعترضُه الشكُّ، أنْ لا نَظْمَ في الكَلِم ولا ترتيبَ، حتى يُعلَّقَ بعضُها ببعض وَيْبني بعضُها على بعض، وتُجعلَ هذه بسبب من تلك. هذا ما لا يَجهلُه عاقلٌ، ولا يخْفَى على أحد من الناس. وإذا كان كذلك، فبِنا أَنْ نَنْظر إلى التعليق فيها والبناء، وجعْلِ الواحدةِ منها، بسبب من صاحبتها، ما معناه وما مَحْصولُه، وإذا نَظَرْنا في ذلك، عَلمْنا أنْ لا محصولَ لها غيرُ أنْ تَعْمدَ إلى اسم، فتَجْعلَه فاعلاً لفعلٍ، أو مفعولاً، أو تَعْمَدَ إلى اسمَيْن، فتَجْعلَ أحدَهما خبراً عن الآخر، أو تُتْبعَ الاسمَ اسماً، على أن يكونَ الثاني صفةً للأول، أو تأكيداً له، أو بدلاً منه، أو تَجِيءَ باسم بَعْد تمامِ كلامكَ، على أن يكون الثاني صفةً، أو حالاً أو تمييزاً، أوْ تتوخَّى في كلام هو لإثبات معنى، أن يصَير نفْياً أو استفهاماً أو تمنياً، فتُدخِلَ عليه الحروفَ الموضوعة لذلك، أَوْ تُريد في فعلين أن تَجعل أحدَهما شَرْطاً في الآخر فتجيءَ بهما، بعد الحرف الموضوع لهذا المعنى، أو بَعْد اسمٍ من الأسماء التي ضَمِنَتْ معنى ذلكَ - الحرفِ وعلى هذا القياس. وإذا كان لا يكونُ في الكِلِم نَظْمٌ ولا ترتيبٌ، إلاَّ بأن يُصْنَع بها هذا الصنيعُ ونحوه، وكان ذلك كلُّه مما لا يَرْجِعُ منه إلى اللفظ شيءٌ، ومما لا يُتَصوَّر أن يكون فيه ومِنْ صفته - بَانَ بذلك أنَّ الأَمرَ على ما قلناه، مِنْ أنَّ اللفظ تِبْعٌ للمعنى في النظْم، وأنَّ الكلم تَترتَّب في النطق، بسببِ تَرتُّبِ معانيها في النفس، وأنها لَوْ خَلَتْ من مَعانيها حتى تَتجرَّد أصواتاً وأصداءَ حروفٍ، لما وقعَ في ضميرٍ ولا هَجَس في خاطر أن يَجب فيها ترتيبٌ ونَظْم، وأن يُجْعَل لها أمكنةٌ ومنازِلُ، وأن يجب النطقُ بهذه قَبْل النطقِ بتلك، واللهُ الموفقُ للصواب.

فصل تحقيق القول في البلاغة والفصاحة في المعنى واللفظ

فصل تحقيق القول في البلاغة والفصاحة في المعنى واللفظ وهذه شُبْهة أُخرى ضعيفةٌ، عسى أن مُتعلِّقَ بها مُتعلِّقٌ ممن يُقْدم على القول من غير روية؛ وهي أنْ يَدَّعي أنْ لا معنى للفصاحة سوى التلاؤمِ اللفظي، وتعديلِ مِزَاجِ الحروف، حتى لا يتلاقى في النطق حروفٌ تَثْقلُ على اللسَان، كالذي أنَشْدَه الجاحظ من قول الشاعر [من الزجر]: وقَبْرَ حَرْبٍ بمكانٍ قَفْرِ ... وليس قُرْبَ قبرِ حَرْبٍ قَبْرُ وقولِ ابن يسير [من الخفيف]: لا أُذِيل الآمالَ بَعدك إنِّي ... بَعْدَها بالآمالِ جِدُّ بَخيلِ كم لها موقفٌ ببابِ صديقٍ ... رجَعتْ مِنْ نَداه بالتعطيلِ لم يَضِرْها والحمدُ لله شيءٌ ... وانثنتْ نحو عَزْفِ نَفْسٍ ذَهُول قال الجاحظ: فَتَفَقّدِ النِّصْفَ الأخيرَ من هذا البيت، فإنك ستجدُ بعضَ ألفاظه تَتبرَّأ من بعض. ويُزعمُ أن الكلامَ في ذلك على طبقات: فمنه المتناهي في الثِّقَل المفرط فيه، كالذي مَضَى، ومنه ما هو أَخَفُّ منه كقول أبي تمام [من الطويل]: كريمٌ متى أمدحْه أمدَحْهُ والوَرى ... معي، وإذا ما لُمْتُهُ وَحْدي ومنه ما يكون فيه بعضُ الكُلْفة على اللسان، إلاَّ أَنه لا يَبلغُ أن يُعابَ به صاحبُه، ويُشْهرَ أمرُه في ذلك، ويُحْفَظَ عليه. ويزعمُ أن الكلامَ إذا سَلمَ من ذلك، وصفَا من شَوْبِه كان الفصيح المشادَ به والمُشارَ إليه. وأنَّ الصفاءَ أيضاً يكون على مراتبَ يعلو بعضُها بعْضاً، وأنَّ له غايةً إذا انتهى إليها، كان الإعجاز.

والذي يُبْطل هذه الشبهةَ - إن ذَهب إليها ذاهبٌ - أنَّا، إنْ قَصرْنا صِفةَ الفصاحةِ على كَوْن اللفظِ كذلك، وجَعلْناه المرادَ بها، لَزِمَنَا أنْ نُخرج الفصاحةَ من حيِّز البلاغة ومِنْ أنْ تكون نَظيرةً لها. وإذا فَعلْنا ذلك، لم نَخْلُ من أَحد أَمْرين: إمَا أن نَجْعَله العُمْدةَ في المفاضلة بين العبارتين، ولا نُعرِّجَ على غيره، وإما أن نَجعلَه أَحدَ ما نُفاضل به، ووَجْهاً من الوجوه التي تَقْتضي تقديمَ كلامٍ على كلام؛ فإنْ أَخَذْنا بالأول، لزِمَنا أنْ نُقْصِر الفَضيلةَ عليه، حتى لا يكون الإعجازُ إلاَّ به. وفي ذلك ما لا يَخْفى من الشَّناعةِ، لأنه يُؤدِّي إلى أنْ لا يكونَ للمعاني التي ذكروها في حدود البلاغة، مِنْ وُضوح الدلالة، وصوابِ الإشارةِ وتَصحيحِ الأقسام، وحُسْن الترتيبِ والنظامِ، والإبداع فِي طريقةَ التشبيهِ والتمثيل، والإِجْمال ثم التفصيلِ، ووَضْعِ الفَصْل، والوَصْل موضِعَهُما، وتَوْفيةِ الحَذْفِ والتأكيد، والتقديمِ والتأخير، شُروطَهما - مدخلٌ فيما له كان القرآنُ مُعْجزاً حتى نَدَّعي أنه لم يكن مُعْجزاً مِن حيثُ هو بليغ، ولا من حيثُ هو قولٌ فصْلٌ، وكلامٌ شريفُ النظم بديعُ التأليف، وذلك أنه لا تَعلُّقَ لشيءٍ من هذه المعاني بتلاؤم الحروف. وإن أخذنا بالثاني، وهو أن يكون تلاؤمُ الحروف وَجْهاً من وجوه الفضيلة، وداخِلاً في عِداد ما يُفاضَلُ به بين كلامٍ وكلامٍ على الجملة، لم يكن لهذا الخلاف ضَررٌ علينا، لأنه ليس بأكثرَ من أن يعمدَ إلى الفصاحة فيًخرجَها من حيز البلاغة والبيان، وأن تكونَ نظيرةً لهما، وفي عِدادِ ما هو شَبَهُهُما من البراعة والجزالة، وأشباه ذلك ما يُنبئ عنْ شرفِ النظْمِ، وعن المزايا التي شرحتُ لك أَمْرَها، وأعلَمْتُك جِنْسَها، أو يَجْعلها اسماً مشتركاً، يقَعُ تارة لِمَا تَقعُ له تلك، وأخرى لِما يَرْجع إلى سلامة، اللفظ، مما يُثْقِل على اللسان. وليس واحدٌ من الأمرين بقادحٍ فيما نحْنُ بصدده.

وإنْ تعَسَّفَ متعسفٌ في تلاؤم الحروف، فبَلغَ به أن يكون الأصلَ في الإعجاز، وأَخرجَ سائر مَا ذكروه في أقسام البلاغة من أن يكون له مَدْخلٌ أو تأثيرٌ فيما له كان القرآنُ معجزاً، كان الوجهُ أن يقال له: إنَّه يَلزمُكَ، على قياس قولِكَ، أن تُجوِّزَ أنْ يكون هاهنا نظمٌ للألفاظ وترتيبٌ، لا على نَسَقِ المعاني، ولا على وجْهٍ يُقْصَد به الفائدةُ، ثم يكونَ مع ذلك مُعْجزاً، وكَفى به فساداً. فإنْ قال قائلٌ: إني لا أجعلُ تلاؤمَ الحروفِ مُعْجزاً، حتى يكونَ اللفظُ مع ذلك دالاً؛ وذاك أَنه إنما يُصْعبُ مراعاةُ التعادلِ بين الحروفِ، إذا احتيجَ مع ذلك إلى مراعاة المعاني؛ كما أنه إنَّما يَصْعب مراعاةُ السجعِ والوزنِ؛ ويصعبُ كذلك التجنيسُ والترصيعُ، إذا رُوعي معه المَعْنى. قيلَ له: فأنتَ الآن إنْ عقَلْتَ ما تَقولُ، قد خرجْتَ من مَسْأَلتك، وتركْتَ أن يَسْتحِقَّ اللفظُ المزيةَ من حيثُ هو لفظٌ، وجئْتَ تَطْلبُ لِصعوبةِ النظْمِ فيما بين المعاني طريقاً، وتَضَعُ له علَّةً غيرَ ما يعرفُه الناسُ، وتدَّعي أنَّ ترتَيبَ المعاني سهْل، وأنَّ تفاضُلَ الناس في ذلك إلى حَدِّ، وأَنَّ الفضيلةَ تَزْداد وتَقْوى، إذا تُوَخِّي في حروف الألفاظِ التعادلُ والتلاؤمُ؛ وهذا منك وَهُمٌ؛ وذلكَ أنَّا لا نَعلمُ لِتَعادُلِ الحروف معنًى، سوى أنْ تَسْلَم من نَحْوِ ما تَجدُهُ في بيت أبي تمام [من الرمل]: كريمٌ متى أَمْدَحْه أمدَحْه والوَرى وبيتِ ابن يسير [من الرمل]: وانثنتْ نحو عَزْفِ نفسٍ ذهولِ

وليس اللفظ السليمُ من ذلك بِمُعْوِزٍ، ولا بعزيزِ الوجود، ولا بالشيء لا يَستطيعُه إلاَّ الشاعرُ المُفْلِق والخطيبُ البليغ، فيستقيمَ قياسُه على السجعِ والتجنيس ونحو ذلك، مما إذا رامَه المتكلمُ، صَعُبَ عليه تصحيحُ المعاني وتأدية الأغراض. فقولُنا: أطالَ اللهُ بقاءك، وأدامَ عزَّك، وأَتمَّ نِعمتَهُ عليك، وزاد في إحسانه عندَكَ: لفْظٌ سليم مما يَكُدُّ اللسانَ، وليس في حروفه استكراهُ. وهكذا حالُ كلام الناس في كُتُبهم ومحاوراتهم، لا تكادُ تَجد فيه هذا الاستكراهَ، لأنه إنما هو شيء يَعْرِضُ للشاعر إذا تكلَّف وتَعمَّل. فأمَّا المُرْسِلُ نفْسَه على سجيتها فلا يَعْرض له ذلكَ. وهذا - والمتعلِّلُ بمثل ما ذكرتُ، من أَنه يكون تلاؤمُ الحروف مُعْجزاً، بعد أن يكون اللفظ دالاً، لأن مراعاةَ التعادل إنما تَصْعبُ إذا احتيجَ مع مراعاة المعاني - إذا تأملَت - يَذْهب إلى شيء ظريفٍ، وهو أن يُصْعُبَ مَرامُ اللفظِ بسببِ المعنى، وذلك محال؛ لأن الذي يَعْرفُه العقلاءُ عكْسُ ذلك، وهو أَن يصْعُبَ مرامُ المعنى بسبب اللفظ؛ فصعوبةُ ما صَعُبَ من السجع، هي صعوبةٌ عرضَتْ في المعاني من أجل الألفاظ؛ وذاك أنه صعُبَ عليك أن تُوفِّقَ بين معاني تلك الأَلفاظِ المسجَّعةِ، وبين معاني الفُصول التي جُعِلَتْ أردافاً لها، فلم تَسْتطعْ ذلك إلاَّ بعد أن عَدلْتَ عن أسلوبٍ إلى أسلوبٍ، أوْ دخلْتَ في ضرْبٍ من المجاز، أو أخذْتَ في نوعٍ من الاتِّساع، وبعد أن تَلطَّفْتَ على الجملة ضَرباً من التلطف. وكيف يُتَصوَّرُ أن يَصعُبَ مرامُ اللفظِ بسببِ المعنى، وأنتَ إن أردْتَ الحقَّ، لا تَطْلبُ اللفظَ بحالٍ وإنما تَطْلبُ المعنى؛ وإذا ظفِرْتَ بالمعنى فاللفظُ معك وإزاءَ ناظرِك؟ وإنما كان يُتَصوَّرُ أن يصْعُبَ مَرامُ اللفظِ من أجل المعنى، أنْ لو كنتَ إذا طلبْتَ المعنى فحصَّلْتَه، احتجْتَ إلى أن تَطْلبَ اللفظَ على حِدَة، وذلك محال.

هذا - وإذا توهَّمَ متوهِّمٌ، أَنَّا نحتاجُ إلى أن نَطْلبَ اللفظَ، وأنَّ مِن شأْن الطلبِ، أن يكون هناك، فإنَّ الذي يتَوَّهم أنَّهُ يَحتاج إلى طَلَبه، هو ترتيبُ الألفاظ في النطق لا مَحالة؛ وإذا كان كذلك، فينبغي لنا أن نَرْجِع إلى نفوسنا فنَنْظر: هل يُتَصوَّر أن نُرتِّب مَعاني أسماءٍ وأفعالٍ وحروفٍ في النفس، ثم يَخْفى علينا مواقِعُها في النطق، حتى يُحْتاجَ في ذلك إلى فكْرٍ وروية؟ وذلك ما لا يَشكُّ فيه عاقلٌ إِذا هو رَجَعَ إِلى نفسه. وإِذا بطَلَ أن يكون ترتيب اللفظ مطلوباً بحالٍ، ولم يكن المطلوبُ أبداً إلا ترتيبُ المعاني، وكان معوَّلُ هذا المخالف على ذلك، فقد اضمحلَّ كلامُه، وبانَ أنه ليس لِمنْ حام في حديثِ المزيةِ والإعجازِ حَوْل اللفظِ، ورامَ أنْ يجعلَه السببَ، في هذه الفضيلةِ، إِلا التسكُّعُ في الحيرة، والخروجُ عن فاسدٍ من القول إلى مثله، واللهُ الموفِّق للصواب. فإنْ قيل: إذا كان اللفظُ بمَعْزِلٍ عن المزية التي تنازَعْنا فيها، وكان مقصورةً على المعنى، فكيف كانت الفصاحةُ من صفاتِ اللفظِ البتَّةَ؟ وكيف امْتَنَع أن يَوصفَ بها المعنى، فيقالُ: معنًى فَصِيحٌ وكلامٌ فصيحُ المعنى؟ قيل: إنما اختُصَّت الفصاحةُ باللفظِ، وكانت مِنْ صِفته من حيث كانت عبارةً عن كونِ اللفظِ على وَصْفٍ، إذا كان عليه، دلَّ على المزية التي نحن في حديثها! وإِذا كانت لِكَوْن اللفظ دالآ، استحال أنْ يُوصفَ بها المعنى، كما يَسْتحيلُ أن يوصَف المعنى بأنه دالٌّ مَثلاً، فاعرِفْ.

فإنْ قيل: فماذا دَعا القدماءَ إلى أن قَسَموا الفضيلةَ بين المعنى واللفظِ فقالوا: معنى لطيفٌ ولفظ شريفٌ وفَخَّموا شأنَ اللفظ وعظَّموه، حتى تَبِعَهم في ذلك مَن بَعْدَهم، وحتى قال أهلُ النظر: إنَّ المعاني لا تَتزايد، وإِنما تتزايدُ الألفاظُ، فأَطلقوا كما ترى، كلاماً يُوهِمُ كلَّ مَنْ يَسمعهُ أنَّ المزيَّةَ في حاق اللفظ؟ قيلَ له: لمَّا كان المعاني إنما تَتبيَّنُ بالألفاظِ، وكان لا سبيلَ للمرتِّب لها، والجامعِ شَمْلَها، إلى أن يُعْلمكَ ما صنَعَ في ترتيبها بفِكْره، إلا بترتيب الألفاظِ في نُطْقه، تجوَّزوا فكنُّوا عن ترتيب المعاني بترتيب الألفاظ، ثم بالأَلفاظ بحذْفِ الترتيب، ثم أَتْبَعوا ذلك من الوصفِ والنعْت ما أبانَ الغرضَ، وكشفَ عن المراد، كقولهم: "لفظٌ متمكّن"، يُريدون أنه بموافقة معناهُ لمعنى ما يليهِ، كالشيء الحاصلِ في مكانٍ صالح يطمئنُّ فيه، "ولفظٌ قلِقٌ نابٍ"، يُريدون أنه مِنْ أجْل أنَّ معناهُ غيرُ موافقٍ لِما يَليه، كالحاصل في مكانٍ لا يَصْلُح له، فهو لا يستطيعُ الطمأنينةَ فيه - إلى سائر ما يَجيء صفةً في صفة اللفظ، مما يُعْلَم أنه مستعارٌ له مِنْ معناه، وأنهم نَحَلوه إياه بسبب مضمونهِ ومؤدَّاه، هذا - ومَنْ تَعلَّق بهذا وَشَبهِه، واعترضَهُ الشكُّ فيه بعد الذي مضَى من الحِجَج، فهو رجلٌ قد أَنِسَ بالتقليد، فهو يَدْعو الشبهةَ إلى نفسه مِنْ هاهنا وثَمَّ؛ ومَنْ كان هذا سبيلَه، فليس له دواءٌ سوى السكوتِ عنه، وتَرْكِهِ وما يَختارُه لنفسه من سوء النظر وقِلَّةِ التدبُّرْ. قد فرَغْنا الآن من الكلام على جنسِ المزية، وأنها من حيِّز المعاني دون الألفاظ، وأنها ليستْ لك حيثُ تَسْمعُ بأُذَنك، بل حيث تَنْظرُ بقلبك، وتَستعينُ بفكرك، وتُعْمل رَوِيَّتَك وتَراجع عقْلَك، وتَسْتنجِدُ في الجملة فَهْمَك، وبلغَ القولُ في ذلك أقصاه، وانتهى إلى مَدَاه.

وينبغي أن نأخذَ الآنَ في تفصيل أمرِ المزية، وبيانِ الجهات التي منها تَعْرِض؛ وإنَّه لَمَرامٌ صعْبٌ ومطْلَبٌ عسير؛ ولولا أَنه على ذلك، لما وجَدْت الناسَ بين مُنْكِرٍ له من أَصْله، ومُتخيِّلٍ له على غيرِ وَجْههِ، ومعتقِدٍ أَنه بابٌ لا تَقْوى عليه دَونَه مغْلقٌ، وأنَّ معانيَك فيه، مَعانٍ تَأبى أن تَبْرُز مِن الضمير، وأنْ تَدِينَ للتبيينِ والتصوير، وأن تُرى سافرةً لا نِقابَ عليها، وناديةً لا حِجابَ دونها، وأن ليس للواصِفِ لها، إلاَّ أن يُلَوِّح ويُشيرَ، أَوْ يَضربَ مثَلاً يُنْبئُ عن حُسْنٍ قد عرَفَه على الجملة، وفضيلةٍ قد أَحسَّها من غير أن يُتْبعَ ذلك بياناً، ويُقيمَ عليه برهاناً، ويَذكُرَ له علةً، ويُورِدَ فيه حَجَّة، وأنا أُنْزِلُ لك القولَ في ذلك وأُدرِّجه شيئاً فشيئاً، واستعينُ بالله تعالى عليه، وأَسألُه التوفيقَ.

فصل: الكناية والاستعارة والتمثيل بالاستعارة

فصل: الكناية والاستعارة والتمثيل بالاستعارة اعْلَم أنَّ لهذا الضرْبِ اتِّساعاً وتفنناً، لا إلى غاية إلاَّ أنَّه على اتِّساعه يَدورُ في الأَمْر الأعمِّ عَلى شيئين: الكناية والمجاز. والمرادُ بالكناية هاهنا: أن يُريد المتكلمُ إثباتَ معنًى من المعاني، فلا يذكُرُه باللفظ الموضوع له في اللغة، ولكنْ يَجيءُ إلى معنى هو تاليه ورِدْفُه في الوجود، فيومئ به إليه، ويجَعلُه دلياً عليه؛ مثال ذلك قولهم: "هو طويل النجاد"، يريدونَ: طويلَ القامة. "وكثيرُ رمادِ القِدْر"، يَعْنون: كثيرَ القِرى، وفي المرأة: "نَؤومُ الضحى"، والمرادُ أنها مُتْرفةٌ مخَدْومة، لها مَنْ يكفيها أمْرَها، فقد أرادوا في هذا كله كما ترى، معنًى، ثمَّ لم يَذْكُروه بلفظه الخاصِّ به، ولكنهم تَوصَّلوا إِليه بِذِكْر معنًى آخر، مِنْ شأنِه أن يَرْدُفَه في الوجود، وأنْ يكونَ، إذا كان. أَفلا تَرى أنَّ القامةَ إذا طالتْ، طالَ النجادُ؟ وإذا كثُرَ القِرى، كثُرَ رَمادُ القِدْر؟ وإذا كانت المرأةُ مُتْرفةً، لها مَنْ يَكفيها أَمْرَها، رَدِف ذلك أَنْ تنام إلى الضحى؟ وأمَّا الَمجاز، فقد عوَّل الناسُ في حدِّه على حديث النَّقْل، وأنَّ كلَّ لفظٍ نُقِلَ عن موضوعه فهو مَجاز. والكلامُ في ذلك يَطولُ. وقد ذكرتُ ما هو الصحيحُ من ذلك في موضعٍ آخر. وأنَا أَقْتصرُ هاهنا، على ذِكْر ما هو أشهرُ منه وأظهَرُ، والاسمُ والشهرةُ فيه لشيئين: الاستعارةُ والتمثيلُ، وإنما يكونُ التمثيلُ مَجازاً إذا جاء على حَدِّ الاستعارة. فالاستعارة: أن تُريدَ تشبيهَ الشيءِ بالشيء، فَتَدعَ أنْ تُفْصحَ بالتشبيهِ وتُظْهرَه، وتجيءَ إلى اسم المشبَّه بهِ، فتعُيِرَه المِشبَّةَ، وتُجْرِيَه عليه. تريد أن تَقول: رأيتُ رجلاً هو كالأسد في شجاعته وقوة بطشه سواء، فتَدَعُ ذلك، وتقول: (رأيتُ أسداً) وضَرْبٌ آخرُ من الاستعارة، وهو ما كان نحو قوله [من الكامل]: إذْ أَصْبَحتْ بيد الشَّمال زِمامُها هذا الضربُ وإِن كان الناس يَضمُّونه إِلى الأَوَّل، حيث يذكرون الاستعارة، فليسا سَواءً؛ وذاك أنكَ في الأول، تجعلُ الشيءَ، الشيءَ ليس به، وفي الثاني تجعل للشيء، الشيءَ له. تفسيرُ هذا أنك إذا قلت: (رأيتُ أسداً)، فقد ادَّعيت في إنسانٍ أنه أسدٌ وجعْلته إياه، ولا يكون الإِنسان أَسَداً. وإذا قلتَ: إذ أصبحَتْ بيد الشمال زمامها فقد ادَّعيْتَ أن لِلشَّمال يداً؛ ومَعْلومٌ أنه لا يكون للريحِ يَدٌ. وهاهنا أَصْلٌ يجبُ ضَبْطُه، وهو أَنَّ جعلَ المشبَّهة، المشبَّهَ به على ضرِبين: أَحدُهما أنْ تُنْزِلَه مَنزلةَ الشيءِ تَذكُرُه بأَمرٍ قد ثبتَ له، فأنتَ لا تحتاج إلى أَنْ تَعْمل في إثباته وتزجيته، وذلك حيث تُسْقِط ذكرَ المشبَّه من الشيئين، ولا تَذْكُرُه بوجهٍ من الوجوه. كقولك: رأيتُ أسداً.

والثاني أن تَجعلَ ذلكَ كالأمرِ الذي يَحتاجُ إلى أن تَعْمل في إثباته وتزجيته. وذلك حيث تُجْري اسْمَ المشبَّهِ به صراحةً على المشبَّه، فتقول: (زيدٌ أسَدٌ وزيدٌ هو الأسدُ)؛ أو تجيءُ به على وجهٍ يَرجعُ إلى هذا، كقولك: (إنْ لقيتَه لقيتَ به أسداً، وإنْ لقيتَه لَيَلْقيَنَّكَ منهُ الأسدُ)؛ فأنتَ في هذا كلِّه، تَعملُ في إثبات كونهِ أَسداً أو الأَسَدَ، وتَضعُ كلامَك له. وأمَّا في الأول، فتُخرِجُه مَخرجَ ما لا يَحْتاجُ فيه إلى إثبات وتقرير. والقياسُ يقتضي أنْ يُقال في هذا الضرب، أَعْني ما أنتَ تَعْملُ في إِثباتِه وتَزْجِيتهِ، أنَّه تَشبيهٌ على حد المبالغة؛ ويقتصرُ على هذا القدرِ ولا يُسمَّى استعارة. وأمَّا التمثيل الذي يكون مجازاً، لمجيئك به على حَدِّ الاستعارة، فمِثالُه قولُك للرجل، يَتردَّدُ في الشيء بين فِعْله وتَرْكهِ: أَراكَ تقدِّمُ رِجْلاً وتُؤخِّر أُخرى؛ فالأصْل في هذا: أَراكَ في تَردُّدِك، كَمَنْ يُقَدِّمُ رجْلاً ويؤخِّر أخرى؛ ثم اخْتُصِرَ الكلام، وجُعِل كأنه يُقدِّم الرِّجْلَ ويُؤخِّرها على الحقيقة، كما كان الأصْلُ في قولك: رأيتُ أَسَداً: "رأَيتُ رجلاً كالأسد"، ثم جُعِل كأنه الأَسَدُ على الحقيقة. وكذلك تقولُ للرجل: يَعْمَل غيرَ مَعْمَل: أَراك تَنفُخُ في غير فحمٍ، وتَخُطُّ على الماء، فَتجْعلُه في ظاهر الأمر، كأنه يَنفخُ ويَخطُّ؛ والمعنىعلى أنك في فِعْلِك كمن يَفْعل ذلك. وتقولُ للرجل يُعمِلُ الحيلةَ حتى يُميلَ صاحبَه إلى الشيء، وقد كان يأباه ويَمْتنعُ منه: (ما زال يَفْتِل في الذِّروة والغارب، حتى بَلغَ منه ما أَراد) فتَجْعلُه بظاهر اللفظ، كأنه كان منه فَتْلٌ في ذِرْوَةٍ وغاربٍ، والمعنى على أنه لم يَزَلْ يَرْفِقُ بصاحبهِ رِفْقاً يُشبهُ حالُه فيه حالَ الرجل يَجيء إلى البعير الصَّعْب فيَحكُّه ويفتل الشعر في ذروته وغاربه حتى يَسْكنَ ويَسْتأنسَ. وهو في المعنى، نَظيرُ قولهم: (فلان يُقَرِّدُ فلاناً). يَعني به: أنه يتلطَّف له، فعلَ الرجل يَنْزَعُ القراد من البعير لِيَلَذَّ ذلك، فيَسْكُن ويَثْبتُ في مكانه، حتى يتمكن من أَخْذه. وهكذا كل كلام رأيتَهم قد نَحَوْا فيه التمثيلَ، لم يُفْصحوا بذلك، وأَخرجوا اللفظ مخرَجَه، إذا لم يريدوا تمثيلاً.

ترجح الكناية والاستعارة والتمثيل على الحقيقة

ترجُّح الكناية والاستعارة والتمثيل على الحقيقة قد أَجمعَ الجميعُ على أن الكناية أَبْلَغُ من الإفصاحِ، والتعريضَ أَوْقَعُ من التصريح. وأنَّ للاستعارة مزيةً وفضلاً وأنَّ المجازَ أَبداً أبلَغُ من الحقيقة. إلا أَنَّ ذلك، وإن كان معلوماً على الجملة، فإنه لا تَطمئنُّ نفْسُ العاقلِ في كل ما يُطْلَبُ العلمُ به، حتى يَبْلُغَ فيه غايتَه، وحتى يُغْلِغِلَ الفكْرَ إلى زواياه، وحتى لا يَبْقى عليه مَوضعُ شبهةٍ ومكانُ مسألة. فنحن، وإنْ كنَّا نَعْلم أَنك إذا قلْتَ: (هو طويلُ النِّجاد، وهو جَمُّ الرماد). كان أَبْهى لِمَعْناك، وأَنْبلَ مِن أَن تَدَعَ الكنايةَ، وتُصرِّح بالذي تريد؛ وكَذا إذا قلتَ: (رأيتُ أسداً) كان لِكلامِكَ مزيةٌ لا تكونُ إذا قلتَ: رأيتُ رجلاً هو والأسدُ سواءٌ، في معنى الشجاعةِ، وفي قوةِ القلب، وشدة البطش وأشباه ذلك. وإذا قلتَ: بَلَغني أنك تُقَدِّمُ رِجْلاً وتُؤخِّر أخرى. كان أَوْقَعَ من صَريحه الذي هو قولُك: بلغني أنك تَتردَّد في أَمرك، وأنك في ذلك كمَن يقول: أَخرجُ ولا أخرج، فيُقدِّم رِجْلاً ويؤُخِّر أخرى. ونَقْطعُ على ذلك حتى لا يُخالجُنا شكٌّ فيه. فإنَّما تَسْكُنُ أَنفُسُنا تمامَ السكونِ إذا عرَفْنا السببَ في ذلك والعلَّةَ، ولِمَ كان كذلك، وهيأْنا له عبارةً تُفْهمُ عنا من نُريد إفهامَه، وهذا هو القول في ذلك.

إعْلَمْ أنَّ سبيلك أَولاً، أَنْ تَعْلَم أنْ ليستِ المزيةُ التي تُثْبتها لهذه الأجناس عَلَى الكلام المتروكِ على ظاهره، والمبالغةُ التي تدَّعى لها في أنفس المعاني التي يَقْصِدُ المتكلمُ إليها بخَبَره، ولكنها في طريق إثباتهِ لها وتقريره إياها. تفسيرُ هذا، أنْ ليس المعنى إذا قلنا: "إن الكناية أبْلغُ من التصريح" أَنك لمَّا كنَّيْتَ عن المعنى زدْتَ في ذاته، بل المعنى أَنك زِدْتَ في إثباته، فجَعلْتَه أبلغَ وآكَدَ وأَشَدَّ. فليستِ المزيةُ في قولهم: "جَمُّ الرماد"، أنه دلَّ على قرىً أكثرَ، بل إنك أَثبتَ له القِرى الكثيرَ من وجهٍ هو أَبلغُ، وأوجَبْتَه إيجاباً هو أَشدُّ، وادَّعيْتَه دَعْوى أنتَ بها أَنْطَقُ، وبِصِحَّتها أَوْثَقُ. وكذلك ليستِ المزيةُ التي تَراها لقولك: "رأيتُ أسداً" على قولك "رأيتُ رجلاً لا يتميزُ عن الأَسد في شجاعته وجرأته"، أنك قد أَفدْتَ بالأَوَّل زيادةً في مُسَاواتِه الأَسَدَ، بل أنَّكَ أَفَدْتَ تأكيداً وتشديداً وقوةً في إثباتك له هذه المساواةَ، وفي تقريرِكَ لها. فليس تأثيرُ الاستعارةِ إذن في ذاتِ المعنى وحَقيقَتِه، بل في إيجابه والحُكْم به. وهكذا قياس التمثيل: تَرى المزيةَ أبداً في ذلك تَقعُ في طريق إثباتِ المعنى دون المعنى نَفْسِه. فإذا سمعْتَهُم يقولون: إنَّ مِنْ شأن هذه الأجناسِ، أنْ تُكسِبَ المعاني نُبلاً وفَضلاً، وتُوجِبَ لها شَرَفاً، وأن تُفخِّمها في نفوس السامعين، وتَرْفَع أَقْدارَها عند المخاطَبِين، فإنهم لا يريدون الشجاعة والقِرى وأشباهَ ذلك، مِنْ مَعاني الكَلِم المُفْردةِ، وإنما يَعْنون إثباتَ معاني هذه الكلم لِمن تَثْبتُ له ويُخَبَّرُ بها عنه. مزية الاستعارة والكناية على الحقيقة

هذا ما ينبغي للعاقل أن يَجْعلَه على ذُكْرٍ منه أَبداً، وأَنْ يعلم أَنْ ليس لنا، إذا نحن تَكلِّمْنَا في البلاغةِ والفصاحةِ معَ معاني الكلم المفردةِ، شغلٌ ولا هي منَّا بسبيل، وإنما نَعْمَد إلى الأحكام التي تَحْدُثُ بالتأليف والتركيب. وإذْ قد عرَفْتَ مكانَ هذه المزيةِ، والمبالغةَ التي لا تزال تَسْمع بها، وأَنها في الإثباتِ دون المُثْبَتِ، فإنَّ لها في كل واحدٍ من هذه الأجناس سبباً وعلَّة. أما الكنايةُ فإنَّ السببَ في أنْ كان للإثباتِ بها مزيةٌ، لا تكونُ للتصريح، أنَّ كلَّ عاقلٍ يَعْلمُ - إذا رجعَ إلى نفسه - أَنَّ إثباتَ الصفةِ بإثباتِ دَليلِها، وإيجابها بما هُو شاهِدٌ في وجودها، آكَد وأَبْلَغُ في الدعوة من أن تَجيءَ إليها فَتُثْبتهَا هكذا ساذَجاً غُفْلاً .. وذلك أنَّكَ لا تدَّعي شاهدَ الصفةِ ودليلهَا، إلاَّ والأَمرُ ظاهرٌ معروفٌ، وبحيث لا يُشَكُّ فيه، ولاَ يُظَنُّ بالمُخْبر التجوُّزُ والغَلَطُ. وأما الاستعارة، فسبَبُ ما تَرى لها من المزية والفخامةِ أَنَّك إذا قُلْتَ: "رأيتُ أسداً" كنتَ قد تلطَّفْتَ لما أَردْتَ إثباتَه له من فَرْط الشجاعة، حتى جعلْتَها كالشيء الذي يَجبُ له الثبوتُ والحصولُ، وكالأمرُ الذي نُصِبَ له دليلٌ يَقطع بوجوده. وذلك أَنه إذا كان أَسداً، فواجبٌ أن تكون له تلك الشجاعةُ العظيمة، وكالمستحيل أو الممتنع أن يَعْرى عنها، وإذا صرَّحتَ بالتشبيه فقلتَ: "رأيت رجلاً كالأسد"، كنتَ قد أَثبتَّها إثباتَ الشيء يترجَّحُ بين أن يكونَ، وبين أن لا يكونَ، ولم يكن مِنْ حديث الوجوب في شيء. وحكْمُ التمثيلِ حكْمُ الاستعارة، سواء. فإنَّك إذا قلتَ: "أَراكَ تُقدِّم رِجْلاً وتؤخر أخرى"، فأَوجَبْتَ له الصورةَ التي يُقْطَعُ معها بالتحيُّر والتردُّدِ، كان أبلغَ لا محالةَ، من أن تجريَ على الظاهر، فتقول: قد جَعْلتَ تتردَّدُ في أمرِك؛ فأنتَ كمَنْ يقول: أَخْرجُ ولا أخرج، فيُقدِّم رجْلاً ويؤُخِّر أخرى.

فصل: مزية الكناية والاستعارة والتمثيل على الحقيقة وتفاوتها

فصل: مزية الكناية والاستعارة والتمثيل على الحقيقة وتفاوتها إِعْلم أنَّ مِنْ شأن هذه الأجناس، أنْ تَجْريَ فيها الفضيلةُ، وأن تَتفاوَتَ التفاوتَ الشديدَ. أفَلا تَرى في الاستعارة العاميَّ المبتذَلَ، كقولنا: "رأيت أسداً"، ووَرَدْتُ بَحْراً، ولَقِيت بَدْراً؟ تفاوت الاستعارة والخاصيّ النادر منها والخاصيُّ: النادرُ الذي لا تَجِدُه إلاَّ في كلام الفحول، ولا يَقْوى عليه إلا افرادُ الرجال، كقوله: وسالتْ بأَعناقِ المَطِيِّ الأَباطِحُ أراد أنها سارتْ سَيْراً حثيثاً في غاية السرعة، وكانت سرعةً في لِينٍ وسَلاسَةٍ كأنها كانت سُيُولاً وقعَتْ في تلك الأباطح، فَجَرتْ بها. ومثلُ الاستعارة في الحُسْن واللطفِ وعُلوِّ الطبقة في هذه اللفظة بعينها، قولُ الآخر: سالتْ عليه شِعابُ الحيِّ حينَ دَعا ... أَنْصَارَهُ بوجُوهٍ كالدنانيرِ أراد أنه مُطاعٌ في الحيِّ، وأنهم يُسْرعون إلى نُصْرته، وأنه لا يَدْعوهم لِحَرْبٍ، أو نازلِ خَطْب، إلا أَتَوْه وكَثرُوا عليه، وازْدَحموا حوالَيْه، حتى تَجِدَهم كالسيول تَجيءُ مِنْ هاهنا وهاهنا، وتَنْصبُّ من هذا وذاك، حتى يغَصَّ بها الوادي ويطفح منها. بديعُ الاستعارة ووجه حسْنه ومِن بديع الاستعارة نادِرِها - إلا أن جهةَ الغرابةِ فيهِ، غيرُ جهتِها في هذا - قولُ يزيدَ بن مَسلمة بن عبد الملكِ يصف فرساً له، وأَنَّه مُؤدَّبٌ، وأنه إذا نزَلَ عنه وألقى عِنانَه في قَرَبوس سَرْجه، وقفَ مكانَه إلى أن يعودَ إليه [من الكامل]: عوَّدْتُهُ فيما أَزورُ حَبَائبي ... إهمالَه، وكذاكَ كلَّ مَخاطِر وإذا احْتَبى قَرَبوسُهُ بعِنانِهِ ... عَلَك الشَّكيمَ إلى انصرافِ الزائرِ فالغرابة هاهنا، في الشَّبَه نَفْسِه وفي أَنْ اسْتَدركَ أَنَّ هيئةَ العِنان في موقعه من قَربوس السِّرِج، كالهيئة في مَوْقع الثوب مِنْ رُكْبة المُحْتبي، وليست الغرابة في قوله: وسالتْ بأعناقِ المطيّ بالأباطحُ

على هذه الجملة، وذلك أنه لم يُغْرِبْ لأَنْ جعلَ المطيَّ، في سرعة سيرها، وسهولته كالماء يجري في الأَبْطُحِ، فإنَّ هذا شَبَهٌ معروفٌ ظاهر، ولكنَّ الدِّقةَ واللطفَ في خصوصيةٍ أفادَها، بأنْ جعَلَ "سال" فعلاً "للأباطح"، ثم عدَّاه (بالباء) ثم بأَن أدخلَ الأعناقَ في البيت، فقال: "بأعناقِ المطيِّ"، ولم يَقُلْ: بالمطيِّ؛ ولو قال: سالتِ المطيُّ في الأَباطح، لم يَكُنْ شيئاً. وكذلك الغرابة في البيت الآخر: ليس في مُطْلق معنى (سال) ولكنْ في تَعْديته "بعلى" و "الباء"، وبأن جعَلَه فِعْلاً لقوله: "شعابُ الحَيِّ". ولولا هذه الأمورُ كلُّها، لم يكن هذا الحُسْنُ. وهذا مَوضعٌ يَدِقُّ الكلامُ فيه. وهذه أشياءُ من هذا الفن [من البسيط]: اليومُ يومانِ مُذْ غَيِّبْتَ عن بَصَري ... نفْسي فداؤك ما ذَنْبي فأَعْتَذِرُ أُمسي وأُصِبحُ لا ألقاكَ، وَاحَزَنَاً ... لقد تأَنَّق في مكرُوهِيَ القَدَر سَوَّارُ بن المضَرَّب، وهو لطيف جداً [من الوافر]: بِعَرْض تَنُوفةٍ للريحِ فيها ... نَسيمٌ لا يرُوعُ التُّرْبَ وانِ بعضُ الأعراب [من الكامل]: ولَرُبَّ خصمٍ جاهدين ذَوي شَذاً ... تَقْذي عُيونهُمُ بهترٍ هاتر لُدِّ ظأَرْتُهُم على ما ساءَهُمْ ... وَخسَأْتُ باطِلَهم بحَقِّ ظاهرِ ابنُ المعتز [من السريع]: حتى إذا ما عَرف الصيدَ أنْصَارْ ... وأَذِن الصبح لنا في الإبصارْ المعنى: حتى إذا تهيأ لنا أن نُبصر شيئاً. لمَّا كان تعذُّرُ الإبصار مَنْعاً من الليل، جَعَل إمكانه عند ظُهور الصبح إذْناً من الصبح. وله [من مجزوء الوافر]: بخيلٌ قد بُليتُ به ... يَكُدُّ الوعدَ بالحجج وله [من الطويل]: يُنَاجينيَ: الإخلافَ مِنْ تحتِ مَطْلهِ ... فتَخصمُ الآمال واليأسُ في صدري ومما هو في غاية الحسن وهو من الفن الأول قول الشاعر أنشده الجاحظ [من الطويل]: لقد كنتَ في قوم عليك أشحَّةٍ ... بنَفْسِكَ إلا أنَّ ما طاحَ طائحُ يَوَدُّونَ لو خاطوا عليكَ جلودَهُمْ ... ولا تَدفعُ الموت النفوسُ الشحائحُ قال: وإليه ذهب بشار في قوله [من الزجر]: وصاحبِ كالدُّمَّلِ الْمُمِدِّ ... حملْتُهُ في رُقعةٍ من جلدي

تفاوت الاستعارة في اللفظ الواحد وتعددها للتناسب ومن سرِّ هذا الباب، أنك تَرى اللفظة المستعارة قد استُعيرتْ في عدَّةِ مواضعَ، ثم تَرى لها في بعض ذلك، مَلاحةً لا تَجِدُها في الباقي. مثال ذلك أنك تَنْظر إلى لفظة "الجسر" في قول أبي تمام [من البسيط]: لا يَطْمعُ المرءُ أن يجْتابَ لُجَّتَهُ ... بالقولِ ما لم يَكُنْ جِسْراً له العَمَلُ وقوله [من البسيط]: بَصْرْتَ بالرَّاحةِ العُظمى فلم تَرَها ... تُنَال إلا عَلَى جسرٍ من التعَبِ فترى لها في الثاني حُسْناً، لا تَراه في الأَول؛ ثم تنظر إليها في قول ربيعة الرَّقِّي [من البسيط]: قولي: "نعم"! و "نعم" إن قُلْتِ، واجبةٌ ... قالت: "عسى"! و "عسى" جِسْرٌ إلى نَعَمِ فتَرى لها لُطْفاً وخَلابةً وحُسْناً، ليس الفَضْلُ فيه بقليل. ومما هو أَصْلٌ في شرَف الاستعارة، أن تَرى الشاعرَ قد جمعَ بين عدةِ استعاراتٍ قَصْداً، إلى أَنْ يُلحقَ الشكلَ بالشكل وأن يُتِمَّ المعنى والشَّبهَ فيما يريد. مثالُه قولُ امرئ القيس [من الطويل]: فقلتُ له لما تَمطَّى بصُلْبه ... وأَرْدَف أَعجازاً وناءَ بكَلْكَلِ لمَّا جعلَ لِلَّيل صُلْباً قد تمطَّى به، ثَنَّى ذلك فجعَلَ له أَعجازاً قد اردف بها الصُّلْبَ، وثلََّثَ فجعَل له كَلْكَلاً قد ناءَ به، فاسْتَوفى له جملةُ أركانِ الشَّخصِ، وراعى ما يرَاه الناظرُ من سَواده، إذا نظرَ قُدَّامه، وإذا نَظَر إلى خَلْفِه، وإذا رفَعَ البصرَ ومدَّه في عُرْض الجَوِّ. شرح معنى النظم الذي يظهر فيه سر البلاغة

واعْلَمْ أنَّ هاهنا أسراراً ودقائق، لا يمكن بَيانُها إلاَّ بَعْد أَن نُعِدَّ جملةً من القول في النظم، وفي تفسيره والمُراد منه، وأيِّ شيءٍ هو، وما محصولُه ومحصولُ الفضيلةِ فيه! فينبغي لنا أن نأْخُذَ في ذِكْرِه، وبَيان أَمره، وبيانِ المزية التي تُدَّعى له مِنْ أين تَأْتيه، وكيف تَعْرِضُ فيه، وما أَسبابُ ذلك وعِلَلُه، وما المُوجِبُ له؟ وقد عَلمْتَ إطباقَ العلماء على تعظيم شأن النظْم وتَفْخيم قَدْره، والتنويهِ بذكره، وإجماعَهم أنْ لا فضْلَ مع عَدَمِه، ولا قَدْر لكلام إذا هو لم يَستقمْ له، ولو بلغَ في غرابة معناه ما بَلغَ. وبَتَّهُمُ الحُكْمَ بأنه الذي لا تمام دونه، ولا قِوام إلاَّ به، وأَنه القطُبُ الذي عليه المَدارُ، والعَمودُ الذي به الاستقلالُ. وما كان المَوْضعَ من المزية، وبالغاً هذا المبلغ من الفضيلة، كان حَرىّ بأن توقَظَ له الهِمَمُ، وتُوكَلَ به النفوسُ، وتُحرَّكَ له الأفكارُ، وتُستخدَمَ فيه الخواطرُ؛ وكان العاقَلُ جديراً أَن لا يَرْضى من نَفْسه، بأن يَجد فيه سبيلاً إلى مزيَّة عِلْم، وفَضْلِ استبانةٍ وتلخيصٍ حُجَّةٍ، وتحريرِ دليل، ثم يَعْرضُ عن ذلك صَفْحاً، ويَطْوي دونه كَشْحاً، وأن يَرْبأ بنفسه، وتَدْخلَ عليه الأَنفَةُ، من أن يكون في سبيل المُقلِّدِ الذي لا يَبُتُّ حكْماً، ولا يَقْتُل الشيءَ عِلْماً، ولا يجد ما يُبْرئُ من الشبهة، ويَشفي غليلَ الشاكِّ، وهو يستطيع أن يَرْتفعَ عن هذه المنزلة، ويُباينَ مَنْ بهذه الصفة؛ فإنَ ذلك دليلُ ضَعْفِ الرأي، وقِصَرِ الهِمَّةِ ممن يَختارُه ويَعْملُ عليه. القول في نظم الكلام ومكان النحو منه

واعلم أن ليس النظْمُ إلا أن تَضعَ كلامَك الوَضْعَ الذي يَقْتضيهِ علمُ النحْو، وتَعْملَ على قوانينه وأُصوله، وتَعْرفَ مناهجَه التي نُهجَتْ، فلا تَزيغَ عنها، وتَحفظَ الرسومَ التي رُسمِيتْ لك فلا تُخِلَّ بشيءٍ منها؛ وذلك أنَّا لا نَعلم شيئاً يبتغيهِ الناظمُ بنَظْمه، غيرَ أنَ ينظرَ في وُجوهِ كل بابٍ وفُروقهِ، فينظرَ في الخبر، إلى الوجوه التي تَراها في قولك: "زيدٌ منطلقٌ" و "زيدٌ يَنطلِقُ" و "ينطلِقُ زيد" و "منطلِقٌ زيد" و "زيد المُنطلِقُ" و "المنطلِقُ زيدٌ" و "زيدٌ هو المطلِقُ" و "زيدٌ هو منطلِقٌ"؛ وفي الشرط والجزاء، إلى الوجوه التي تَراها في قولك: "إنْ تَخْرُجْ أَخرجْ" و "إنْ خرجْتَ خرجْتُ" و "إن تخرجْ فأنا خارجٌ"، و "أنا خارجٌ إن خرجتَ" و "أنا إنْ خرجْتَ خارجٌ". وفي الحال إلى الوجوه التي تراها في قولك: "جاءَني زيدٌ مُسْرعاً" و "جاءني يُسرعُ" و "جاءني وهو مُسْرعٌ أوْ هو يُسرع" و "جاءني قد أَسرَع" و "جاءني وقد أَسْرعَ"؛ فيَعرفُ لكلِّ من ذلك موضِعَه، ويجيءُ به حيث ينبغي له. وينظرَ في الحروف التي تَشْتركُ في معنىً، ثم يَنفردُ كلُّ واحدٍ منها بخصوصيةٍ في ذلك المعنى، فيضع كلاًّ من ذلك في خاصِّ معناه، نحْوَ أن يجيء بـ "ما" في نَفْي الحال، وبـ "لا" إذا أراد نَفْي الاستقبالِ، وبـ "إنْ" فيما يترجَّحُ بين أن يكونَ وأنْ لا يكون، وبـ "إذا" فيما علم أنه كائن. وينظرَ في الجمل التي تُسْرَدُ فيعرفَ موْضعَ الفصلِ فيها من موضع الوَصْل، ثم يعرفَ فيما حقُّه الوصْلُ، موضعَ "الواو" من موْضعِ "الفاء"، وموضعَ "الفاء" من موضعِ "ثُمَّ"، وموضعَ "أو" من موضع "أم"، وموضَعَ "لكن" من موضع "بل". ويتصرَّفَ في التعريف والتنكير، والتقديم والتأخير في الكلام كلِّه، وفي الحذْف والتكرار، والإضمار والإظهار، فيضعَ كلاَّ من ذلك مكانَه، ويستعملَه على الصِّحة وعَلَى ما ينبغي له. بيان مزية النظم في مراعاة النحو

هذا هو السبيل، فلستَ بواجدٍ شيئاً يَرجِعُ صوابهُ إن كان صواباً وخَطؤهُ إن كان خطأ، إلى النَّظْم، ويَدخلُ تحت هذا الاسم، إلاَّ وهو معنىً من معاني النحو قد أُصيب به موضِعُه، وَوُضِعَ في حقه، أو عُومِلَ بخلافِ هذه المعاملة فأُزيلَ عن موضعه، أوْ وُصِفَ بمزيةٍ وفضلٍ فيه، إلا وأنتَ تجدُ مرجِعَ تلك الصحةِ، وذلكَ الفسادِ، وتلك المزيةِ، وذلك الفضلِ، إلى معاني النحو وأَحكامه، ووَجْدتَه يَدْخل في أصلٍ من أُصوله، ويتَّصلُ ببابٍ من أبوابه. هذه جملةٌ لا تَزْدادُ فيها نظَراً، إلا ازددْتَ لها تَصوُّراً، وازدادتْ عندَ صحةً وازدَدْتَ بها ثقةً؛ وليس من أَحدٍ تُحرِّكُه، لأَنْ يقولَ في أمر النظمِ شيئاً، إلا وجدْتَهُ قد اعترفَ لك بها أو ببعضها، ووافقَ فيها: دَرى ذلك أو لم يَدْرَ. ويكفيكَ أنهم قد كشَفوا عن وَجْه ما أَردناه حيثُ ذكَروا فسادَ النظمِ؛ فليس من أَحدٍ يُخالِفُ في نحو قولِ الفرزدق [من الطويل]: وما مثلُه في الناسِ إلا مُملَّكاً ... أبو أُمِّهِ حيٌّ أبوهُ يقاربُهْ وقول المتنبي [من الكامل]: ولذا اسْمُ أغطيةِ العيون جفونُها ... من أنها عملَ السيوفِ عواملُ وقوله [من الكامل]: الطيبُ أنتَ إذا أصابَكَ طِيبُه ... والماءَ أنتَ إذا اغتسْلتَ الغاسلُ وقوله [من الطويل]: وفَاؤكُما كالرَّبعِ أَشْجَاهُ طاسِمُهْ ... بأن تُسعِدا والدمعُ أَشفاهُ ساجِمُهْ وقولُ أبي تمام [من الكامل]: ثانيهِ في كبدِ السماءِ ولم يكُنْ ... كاثْنَيْنِ ثانٍ إذْ هُما في الغارِ وقولهُ [من البسيط]: يَدي لِمَنْ شَاءَ رَهْنٌ لم يَذُقُ جُرَعاً ... مِنْ راحَتيْكَ دَرى ما الصَّابُ والعَسَلُ

وفي نظائر ذلك، مما وَصفوه بفَساد النظْم، وعابوه من جهة سوء التأليف، أَنَّ الفسادَ والخللَ كانا مِن أنْ تعاطى الشاعرُ ما تَعاطاهُ من هذا الشأن على غير الصواب، وصنَعَ في تقديم أو تأخيرٍ أو حذفٍ وإِضمارٍ أو غير ذلك ما ليس له أن يَصْنعَه، وما لا يَسوغُ ولا يَصِحُّ على أصول هذا العلم. إذا ثبَتَ أنَّ سببَ فسادِ النظام واختلاله، أنْ لا يعمل بقوانين هذا الشأنِ، ثبَتَ أنَّ سبب صحته أنْ يَعملَ عليها؛ ثم إِذا ثبَتَ أنَّ مستَنْبَطَ صحته وفساده من هذا العلمِ، ثبَتَ أنَّ الحكْم كذلك في مزيته والفضيلة التي تعرضُ فيه. وإذا ثبتَ جميعُ ذلك، ثبتَ أنْ ليس هو شيئاً، غيرَ تَوخِّي معاني هذا العِلْمِ وأحكامِه فيما بين الكَلِم، والله الموفق للصواب. وإذْ قد عرفْتَ ذلك، فاعمَدْ إلى ما تَواصَفُوه بالحُسْن، وتَشاهَدوا له بالفضْل، ثم جعلوه كذلك، من أجل النظْم خصوصاً دون غيره، مما يُستحسَنُ له الشعرُ أو غيرُ الشعر من معنى لطيفٍ أو حكمةٍ أو ادبٍ أو استعارةٍ أو تجنيسٍ أو غيرِ ذلك، مما لا يَدخلُ في النظم، وتأَمَّلهْ؛ فإذا رأيتَكَ قد ارتحْتَ واهتززْتَ واستحسنْتَ، فانظرْ إلى حرَكات الأريحيَّةِ ممَّ كانتْ وعندَ ماذا ظهرَتْ؟ فإنك تَرى عِياناً أَنَّ الذي قلتُ لك كما قلتُ. إعْمِدْ إلى قول البحتري [من المتقارب]: بَلَوْنا ضَرائبَ مَنْ قد نَرى ... فما إنْ رأَينا "لِفتح" ضَريبا هو المرءُ أَبْدتْ له الحادِثا ... تُ عَزْما وَشِيكا ورأيا صَليبا تنقَّلَ في خْلُقَيْ سُؤددٍ ... سَماحاً مُزَجَّى وبأساً مَهيبا فكالسيف إنْ جئتَه صارخاً ... وكالبَحْر إن جئتَه مُسْتثيباً

فإذا رأيتَها قد راقَتْك وكثرتْ عندك، ووَجدْتَ لها اهتزازاً في نفسك، فعُدْ فانظرْ في السبب، واستقْصِ في النظر، فإنك تَعلمُ ضرورةً أنْ ليس إلاَّ أَنه قدَّم وأخَّر، وعرَّف ونَكَّر، وحذفَ وأضمرَ، وأعادَ وكرَّر، وتوخَّى على الجملة وجْهاً من الوُجوهِ التي يَقْتضيها علْمُ النحو، فأصاب في ذلك كلِّه، ثم لَطُفَ مَوضعُ صَوابه، وأتى مأتًى يُوجِبُ الفضيلةَ. أفلا ترى أنَّ أولَ شيءٍ يَروقُكَ منها قوله "هو المرءُ أبدت له الحادثاتُ" ثم قوله: "تنقلح في خُلْقَيْ سؤددِ"، بتنكير "السؤدد" وإضافة "الخُلُقين" إليه، ثم قولُه "فكالسيف" وعطفُه (بالفاء) مع حذفه المبتدأ، لأنَّ المعنى لا محالة فهو كالسيف. ثم تكريرُهُ (الكاف) في قوله "وكالبحر"؛ ثم أنْ قرَنَ إلى كل واحدٍ من التشبيهين شرطاً جوابُه فيه؛ ثم أَنْ أخرجَ من كل واحدٍ من الشرطين، حالاً على مثال ما أخرَجَ مِن الآخرِ، وذلك قوله "صارخاً" هناك، "ومستثيباً" هاهنا. لا نرى حُسْناً تَنسِبُه إلى النظم ليس سَببُهَ ما عددتُ، أو ما هو في حُكْم ما عددتُ، فاعْرفْ ذلك! وإن أردتَ أَظْهرَ أمراً في هذا المعنى، فانظرْ إلى قول إبراهيم بن العباس [من الطويل]: فلَوْ إذْ نَبَا دَهرٌ وأَنْكَرَ صاحبٌ ... وسُلِّطَ أعداءٌ وغابَ نَصيرُ تكونُ عن الأهوازِ داري بنَجْوةٍ ... ولكنْ مَقَاديرٌ جَرَتْ وأُمورُ وإني لأَرْجو بَعْدَ هذا محمداً ... لأِفضَلِ ما يُرجى أخٌ ووَزيرُ

فإنك ترى ما ترى من الرَّوْنَقِ والطلاوةِ، ومن الحُسْن والحلاوة، ثمَّ تتفَّقدُ السببَ في ذلك، فتَجدُه إنما كان من أَجْل تقديمهِ الظَّرْفَ الذي هو "إذْ نَبَا" على عامله الذي هو "تكون"، وأَنْ لم يَقُلْ: (فلو تكون عن الأهواز داري بنجوةِ إذ نبا دهرٌ). ثم أَنْ قال "تكونُ" ولم يقُلْ "كان"؛ ثم أَنْ نكَّر "الدهر" ولم يِقُلْ "لو إذ نبا الدهر"؛ ثمَّ أنْ ساقَ هذا التنكيرَ في جميع ما أَتى به من بَعْد؛ ثم أَنْ قال "وأَنْكَرَ صاحبٌ"، ولم يقُلْ: (وأنكرتُ صاحبا)؛ لا نَرى في البيتين الأَولين شيئاً غيرَ الذي عدَدْتُه لك تجعلُه حَسْناً في النظم، وكلُّه من معاني النحو، كما ترى. وهكذا السبيلُ أبداً في كل حُسْنٍ ومَزيَّة رأيتَهما قد نُسبا إلى النظم، وفَضْلٍ وشَرفٍ أُحِيلَ فيهما عليه.

فصل: مزايا النظم بحسب المعاني والأغراض

فصل: مزايا النظم بحسب المعاني والأغراض (في أن هذه المزايا في النظم بحسب المعاني والأغراض التي تؤمُّ) وإذ قد عرفْتَ أنَّ مدارَ أمرِ النظْم، على معاني النحو، وعلى الوجوه والفُروق التي من شأْنها أَنْ تكونَ فيه، فاعلمْ أنَّ الفروقَ، والوجوهَ كثيرةٌ، ليس لها غايةٌ تقفُ عندها، ونهايةٌ لا تجد لها ازدياداً بَعْدها، ثم اعْلَمْ أنْ ليستِ المزيةُ بواجبةٍ لها في أنفسها، ومِنْ حيثُ هي على الإطلاق، ولكنْ تعرضُ بسبب المعاني والأغراضِ التي يُوضعُ لها الكلامُ، ثم بحَسَبِ موقعِ بعضِها من بعضٍ، واستعمال بعضِها مع بعضٍ. تفسيرُ هذا أنَّه ليس إذا راقَكَ التنكيرُ في "سؤددٍ" من قوله "تنقَّلَ في خلقَيْ سؤددِ" وفي "دهرٌ" من قوله "فلو إذْ نَبا دهرٌ"، فإنه يَجبُ أنْ يروقَكَ أبداً وفي كل شيء. ولا إذا استحسنْتَ لفظَ ما لم يُسمَّ فاعلُه، في قوله "وأنكرَ صاحبٌ"؛ فإنه ينبغي أَن لا تراه في مكانٍ إلاَّ أَعطيتَه مثْلَ استحسانِكَ هاهنا. بل ليس مِنْ فضلٍ ومزيةٍ إلاَّ بحسَبِ الموضع، وبحَسبِ المعنى الذي تريد والغرض الذي تؤُمُّ؛ وإنما سبيلُ هذه المعاني سبيلُ الأَصباغِ التي تُعملُ منها الصورُ والنقوشُ. فكما أَنك ترَى الرجلَ قد تَهدَّى في الأصباغ التي عَمِلَ منها الصورةَ والنقش في ثوبه الذي نسجَ، إلى ضرب من التخيُّر والتدبُّر في أَنفس الأَصباغِ وفي مواقعها ومقاديرها، وكيفية مَزْجه لها، وتَرتيبه إياها، إلى ما لم يتَهدَّ إليه صاحبُه، فجاء نَقشُه من أجْل ذلك أَعجَبَ، وصورتُه أغرَبَ؛ كذلك حالُ الشاعرِ والشاعرِ في توخِّيهما معاني النحو، ووجوهِه التي علمتَ أنها محصولُ النظْم.

واعلمْ أنَّ مِن الكلام، ما أنتَ تَرى المزيَّةَ في نَظْمه والحُسْنَ، كالأجزاء من الصِّبْغ تَتلاَحقُ، وينْضَمُّ بعضُها إلى بعض حتى تَكْثُرَ في العين؛ فأنتَ لذلك لا تُكْبِرُ شأْنَ صاحبهِ، ولا تَقْضِي له بالحِذْق والاستاذيَّة وسَعَةِ الذَّرْع وشدَّةِ المُنَّة، حتى تَستوفي القطعةَ وتأتيَ على عدة أبياتٍ؛ وذلك ما كان مِن الشعر في طبقة ما أنشدْتُكَ من أبياتِ البحتري. ومنْهُ ما أَنْتَ تَرى الحُسْنَ يَهجُمُ عليك منه دفعةً، ويأتيك منه ما يملأُ العينَ غرابةً، حتى تَعرفَ مِنَ البيتِ يَهجُمُ الواحد، مكانَ الرجُلِ من الفضْل، وموضعَه من الحذْق، وتشْهَدَ له بفضلِ المُنَّة وطولِ الباع، وحتى تَعْلَم - إنْ لم تَعْلَم القائلَ - أنَّه مِنْ قِبَل شاعرٍ فحلٍ، وأنه خرجَ من تحتِ يَدٍ صَنَاعٍ؛ وذلك ما إذَا أنشدْتَه، وصنعْتَ فيه اليدَ على شيء فقلتَ: هذا هذا! وما كان كذلك، فهو الشعرُ الشاعرُ، والكلامُ الفاخر، والنمطُ العالي الشريفُ، والذي لا تَجده إلاَّ في شعْر الفحولِ البُزْلِ، ثُمَّ المطبوعين الذين يُلْهَمون القولَ إلهاماً؛ ثم إنك تحتاجُ إلى أن تستقرئ عدةَ قصائد، بل أن تَفْلي ديواناً من الشعر، حتى تَجْمعَ منه عدَّةَ أبياتٍ؛ وذلك ما كان مثْلَ قولِ الأول، وتَمثَّل به أبو بكر الصديق، رضوانُ اللهِ عليه، حين أَتاه كتابُ خالد بالفتح في هزيمة الأَعاجم [من الوافر]: تَمنَّانا ليَلْقانا بقومٍ ... تخالُ بياضَ لأُمِهِمُ السَّرايا فقد لاقيْتَنا فرأيْتَ حَرْباً ... عَواناً تمنع الشيخَ الشرابا أُنظرْ إلى موضع (الفاء) في قوله: فقد لاقيتَنا فرأيت حرباً ومثل قولِ العباس بن الأحنف [من البسيط]: قالوا خراسانُ أَقصى ما يُرادُ بنا ... ثُمَّ القفولُ فقد جئْنا خراسانا أنظرْ إلى موضع (الفاء) و "ثم" قبلها. ومثل قول ابن الدُّمَينةَ [من الطويل]: أَبِيني أَفْي يُمْنَى يَدَيْكَ جَعْلتِني ... فأفرحَ أمْ صَيِّرْتِني في شِمالِكِ أَبِيتُ كأني بين شِقَّيْن مِنْ عَصا ... حِذارَ الردى أو خيفةً مِنْ زِيالِكِ تعالَلْتِ كَيْ أَشْجى وما بكِ علَّةٌ ... تُريدينَ قَتْلي، قد ظَفِرْتِ بذلِكِ إنظر إلى الفصل والاستئناف في قوله:

تريدين قتلي قد ظفرت بذلك ومثل قول أبي حَفْصٍ الشطرنجي، وقاله على لسان عُلَيَّةَ أخت الرشيد، وقد كان الرشيدُ عتَبَ عليها [من البسيط]: لو كانَ يمنَعُ حسْنُ الفعْلِ صاحبَهُ ... مِنْ أن يكونَ له ذنبٌ إلى أَحَدِ كانتْ عُليةُ أَبْرى الناسِ كلِّهِمِ ... من أنْ تُكَافَا بسوءٍ آخِرَ الأَبدِ ما أَعْجبَ الشيءَ تَرجُوهُ فَتُحْرَمُهُ ... قد كنتُ أَحْسبُ أَنِّي قد مَلأَتُ يدي أنظر إلى قوله: "قد كنتُ أحسب". وإلى مكان هذا الاستئناف. ومثل قولِ أبي دُواد [من الخفيف]: ولقد أَغْتَدي يُدافِعُ رُكْني ... أخوذِيٌّ ذو مَيْعةٍ إضْريجُ سَلهبٌ شَرْجبٌ كأنَّ رِماحاً ... حَمَلتْهُ وفي السَّراةِ دُموجُ أنظر إلى التنكير في قوله "كأن رماحا". ومثل قولِ ابْن البوَّاب [من مجزوء الوافر]: أَتيتُكَ عائذاً بكَ مِنْـ ... ـكَ لمَّا ضاقَتِ الحِيَلُ وصَيَّرني هواكَ وبي ... لَحَيْني يُضْرَبُ المَثَلُ فإنْ سَلِمتْ لكُمْ نَفْسي ... فَما لاقَيْتُهُ جَلَلُ وإنْ قَتل الهوى رجلاً ... فإِني ذلك الرَّجُلُ أُنُظرْ إلى الإشارة والتعريف في قوله: "فإنّي ذلك الرَّجُل". ومثل قول عبد الصمد [من السريع]: مكْتَئِبٌ ذو كَبدٍ حَرَّى ... تَبْكي عليهِ مُقلَةٌ عَبْرى يَرْفعُ يُمنْاهُ إلى رَبِّه ... يَدْعو وفوقَ الكَبدِ اليُسْرى أُنظرْ إلى لفظ "يدعو" وإلى مَوقعها! ومثل قولِ جرير [من الكامل]: لمن الديار ببُرقة الروحان ... إذ لا نَبيعُ زمانَنا بزمانِ صَدعَ الغواني إذ رَمَيْنَ، فؤادَهُ ... صدْعَ الزجاجةِ ما لِذاكَ تَدانِ أُنظرْ إلى قوله "ما لذاك تدان" وتأَمَّلْ حالَ هذا الاستئناف!. ليس من بصير عارفٍ بجوهر الكلام، حسَّاس مُتفهِّم لسرِّ هذا الشأن يُنْشِدُ أو يَقرأ هذه الأبياتَ إلاَّ لم يلبث أَنْ يضَعَ يدَه في كل بيتٍ منها، على الموضِع الذي أشرتُ إليه يَعْجَبُ ويُعَجِّب، ويُكْبِر شأنَ المزيةِ فيه والفضْلَ.

فصل: في النظم يتحد في الوضع ويدق فيه الصنع

فصل: في النظم يتحد في الوضع ويدق فيه الصنع واعلمْ أنَّ مما هو أَصلٌ في أنَ يدِقَّ النظرُ، ويَغْمُضَ المَسْلكُ في توخِّي المعاني التي عرفت، أنْ تتَّحِدَ أجزاءُ الكلام، ويَدخلَ بعضُها في بعض، ويشتدَّ ارتباطُ ثانٍ منها بأَوَّل، وأن يُحتاجَ في الجِملة إلى أن تضَعَها في النفس وَضْعاً واحداً، وأن يكون حالُكَ فيها، حالَ الباني يَضعُ بيمينه هاهنا، في حالِ ما يَضَعُ بيَسارِه هناك. نعم وفي حالِ ما يُبْصر مكانَ ثالثٍ ورابعٍ يَضعُهما بَعْدَ الأَوَّلَيْن. وليس لما شأْنهُ أن يجيءَ على هذا الوصف، حَدٌّ يَحْصرُه وقانونٌ يُحيطُ به، فإنه يجيء على وجوهٍ شتى وأنحاءَ مختلفة. فمن ذلك أن تُزاوِجَ بين معنيينِ في الشرط والجزاء معاً، كقول البحتري [من الطويل]: إذا ما نَهى الناهي فلجَّ بي الهوى ... أصاختْ إلى الواشي فلجَّ بها الهجرُ وقوله [من الطويل]: إذا حتربتْ يوماً ففاضتْ دماؤُها ... تذكَّرتِ القُرْبى ففاضتْ دموعُها فهذا نوع. ونوع منه آخر قول سليمانَ بنِ داودَ القضاعي [من الوافر]: فبينا المرءُ في علياءَ أَهْوى ... ومُنْحطِّ أُتيحَ له اعتلاءُ وبيْنَا نِعْمةٌ إذ حال بُؤسٌ ... وبؤُسٌ إذْ تَعقَّبَه ثَراءُ ونوع ثالث وهو ما كان، كقول كُثيِّر [من الطويل]: وإني وتهيامي بعَزَّةَ بَعْدَ ما ... تخلَّيْتُ مما بيننا وتخلَّتِ لَكالْمُرْتَجي ظلَّ الغمامةِ كلمَّا ... تَبَوَّأَ منها لِلْمَقيلِ اضْمَحلَّتِ وكقول البحتري [من الطويل]: لعَمرُكَ إنَّا والزمانُ كما جَنَتْ ... على الأَضْعفِ الموهون عاديةُ الأَقْوى ومنه التقسيمُ وخصوصاً إذا قسمتَ ثم جمْعتَ، كقول حسَّان [من البسيط]: قَومٌ إذا حارَبوا ضَرُّوا عَدُوَّهُمُ ... أوْ حاوَلوا النفْعَ في أَشياعِهمْ نَفْعوا سَجِيَّةٌ تلك منهمْ غيرُ مُحْدَثةٍ ... إنَّ الخلائقَ فاعْلمْ: شرُّها البِدَعُ ومن ذلك، وهو شيءٌ في غايةِ الحُسْن، قولُ القائل [من البسيط]: لو أنَّ ما أنتمُ فيهِ يدَومُ لكُمْ ... ظنَنْتُ ما أنا فيهِ دائماً أَبدا لكنْ رأيتُ الليالي غيرَ تاركةٍ ... ما سَرَّ مِنْ حادثٍ أوْ ساءَ مُطَّرِدا فقد سكَنْتُ إلى أَنِّي وأَنَّكُمُ ... سَنَسْتَجِدُ خِلافُ الحالتين غَدا

قوله "سنستجد خلاف الحالتين غدا" جمعٌ فيما قسَمَ، لطيفٌ. وقد ازدادَ لطفاً بحُسنِ ما بَناه عليه، ولُطْفِ ما توصَّل به إليه، من قوله "فقد سكنتُ إلى أني وأنكم". وإذْ قد عرفتَ هذا النمطَ من الكلام، وهو ما تتَّحِدُ أَجزاؤه حتى يُوضَعَ وَضْعاً واحداً، فاعلمْ أَنه النمطُ العالي، والبابُ الأَعْظم والذي لا تَرى سلطان المزيةِ يَعْظُم في شيء، كَعِظَمه فيه. ومما نَدرَ منه، ولطُفَ مأْخذُه، ودقَّ نظرُ واضعِه، وجلَّى لكَ عن شأوٍ قد تحسر دونه العِتاقُ، وغايةٍ يَعْيى مِنْ قَبْلها المذاكي القُرَّح، الأبياتُ المشهورة في تشبيه شيئين بشيئين - بيتُ أمرئ القيس [من الطويل]: كأنَّ قُلوبَ الطيرِ رَطْباً ويابساً ... لدى وَكْرِها العُنَّابُ والحَشفُ البالي وبيتُ الفرزدق [من الكامل]: والشيبُ يَنْهضُ في الشباب كأنَّهُ ... ليَلٌ يَصِيحُ بجانبَيْهِ نَهارُ وبيتُ بشار [من الطويل]: كأنَّ مُثارَ النقعِ فَوقَ رؤوسِنا ... وأسيافنَا، لَيْلٌ تَهَاوى كواكِبُهْ ومما أَتى في هذا الباب، مأْتىً أَعْجَبَ مما مضى كله، قولُ زياد الأعجم [من الطويل]: وإنَّما ما نُلْقي لنا إنْ هجَوْتَنا ... لَكالبحر مَهْما يُلْقَ في البحر يَغْرقِ وإنما كان أعجبَ لأن عمله أدقُّ، وطريقه أغمض، ووجه المشابهة فيه أغربُ. واعلمْ أنَّ مِن الكلام، ما أنتَ تَعلمُ إذا تدبَّرْتَهُ، أنْ لم يحتجْ واضعُه إلى فكْرٍ وروية حتى انتظَمَ، بل ترى سبيلَه في ضمِّ بعضِه إلى بعض، سبيلَ مَنْ عمدَ إلى لآلٍ، فخرَطَها في سلكٍ لا يبغي أكثرَ من أنْ يَمْنعَها التفرُّقَ. وكمَنْ نَضَدَ أشياءَ بعضُها على بعضٍ، لا يُريد في نَضَده ذلك، أن تجيءَ له منه هيئةٌ أو صورةٌ، بل ليس إلاَّ أنْ تكون مجموعةً في رأْي العينِ. وذلك إذا كان مَعْناكَ معنىً لا يَحتاجُ أن تَصْنَعَ فيه شيئاً، غيرَ أنْ تَعْطِفَ لفَظاً عَلَى مثله.

كقولِ الجاحظ: "جنّبَكَ اللهُ الشبهةَ، وعصَمَكَ من الحَيْرة، وجعَلَ بينكَ وبينَ المعرفةِ نَسَباً، وبينَ الصِّدْق سَبَباً، وحبَّبَ إليك التثبُّتَ، وزَيَّن في عينكَ الإنصافَ، وأذاقَكَ حلاوةَ التقوى، وأشْعَرَ قلبَكَ عزَّ الحقِ، وأوْدَعَ صدْرَكَ برْد اليقينِ، وطردَ عنك ذُلَّ اليأسِ، وعرَّفَكَ ما في الباطلِ من الذَّلَّة، وما في الجهل من القِلَّة". وكقول بعضهم: "للهِ دَرُّ خطيبٍ قامَ عندك يا أميرَ المؤمنين! ما أفصحَ لسانَه، وأحسَنَ بيانَه، وأَمضى جَنانَه، وأَبلَّ ريقَه، وأسهل طريقَة! " ومثل قول النابغة في الثناء المسجوع: "أيفاخِرُك الملكُ اللخميُّ؟ فواللهِ لقَفاكَ خيرٌ من وجَهْهِ، ولَشِمالُكَ خيرٌ من يَمينه، ولأَخْمَصُكَ خيرٌ من رأْسه، ولَخَطَؤكَ خير من صَوابه، ولَعِيُّك خير من كلامه ولَخَدَمُكَ خير من قَوْمه! " وكقول بعض البلغاء في وصف اللسان. "اللسان أداةٌ يظَهر بها حُسْنُ البيان، وظاهرٌ يُخْبِر عن الضمير، وشاهدٌ يُنبئكَ عن غائب، وحاكِم يُفْصَل به الخِطابُ، وواعظٌ يَنْهى عن القبيح، ومُزَيِّنٌ يَدعو إلى الحُسْن، وزارعٌ يَحْرثُ المودَّة، وحاصدٌ يحصِدُ الضَّغينة، ومُلْهٍ يُونِق الأسماع". فما كانَ من هذا وشَبَهه، لم يَجِبْ به فضْلٌ إذا وجَبَ، إلاَّ بمعناه أو بمُتون أَلفاظِه، دون نَظْمه وتأليفه؛ وذلك لأنه لا فضيلةَ حتى تَرى في الأمر مَصْنعاً، وحتى تَجدَ إلى التخيُّر سبيلاً، وحتى تكونَ قد استدركْتَ صَواباً.

فإن قلْتَ: أفلَيْسَ هو كلاماً قد اطَّرد على الصواب، وسَلِم من العَيْب؟ أَفَما يكونُ في كثرة الصوابِ فضيلةٌ؟ قيل: أَمّا والصوابُ كما ترى، فَلاَ! لأنَّا لَسْنا في ذكْر تقويم الِلسان، والتحرُّز من اللَّحْن، وزَيْغ الإعراب، فنَعْتدَّ بمثل هذا الصواب، وإنما نحن في أمورٍ تُدرَك بالفِكَر اللطيفة، ودقائقَ يُوصلُ إليها بثاقِب الفَهْم؛ فليس دَركُ صوابٍ دَركاً فيما نحن فيه حتى يَشْرُفَ موضعُه، ويَصعُبَ الوصولُ إليه؛ وكذلك لا يكونُ تَرْكُ خطأٍ تَرْكاً، حتى يُحتاجَ في التحفظ منه إلى لُطْف نظَرٍ، وفَضْل رويةٍ، وقوة ذهن، وشدةِ تيقظٍ. وهذا باب يَنبغي أن تُراعِيَه، وأن تُعْنى به، حتى إذا وازنْتَ بين كلام وكلام، دريتْ كيف تَصْنعُ؛ فضمَمْتَ إلى كل شَكْلٍ شكْلَه، وقابلْته بما هو نظيرٌ له، وميَّزْتَ ما الصنعةُ منه في لفظه، مما هي منه في نظمه. واعلمْ أنَّ هذا - أعني الفرق بين أن تكونَ المزيةُ في اللفظ، وبين أن تكون في النظم - بابٌ يَكْثُر فيه الغَلطُ؛ فلا تزَالُ تَرى مُستحسِناً قد أخطأَ بالاستحسانِ موضعَه، فينَحَلُ اللفظَ ما ليس له، ولا تزالُ تَرى الشُّبهةَ قد دخلتْ عليك في الكلام، قد حَسُنَ من لفظه ونظمه، فظننْتَ أنَّ حُسْنه ذلك كلَّه، لِلَّفظِ منه دون النظْم. مثال ذلك أن تَنْظُر إلى قول ابن المعتز [من الطويل]: وإنِّي على إشفاقِ عَيْني مِن العِدى ... لَتَجْمَح مني نَظرةٌ ثم أُطْرِقُ فترَى أنَّ هذه الطَّلاوةَ وهذا الظَّرْفَ، إنما هو لأَنْ جعَلَ النظرَ يَجْمحُ، وليس هو لذلك، بل لأَنْ قال، في أول البيت "وإني"، حتى دخل اللام في قوله "لتجمح"، ثم قوله "مني"؛ ثم لأَنْ قال "نظرة" ولم يقل (النظر) مثلاً، ثُمَّ لمكان "ثُم" في قوله: "ثم أُطرِق"، ولِلطيفةٍ أُخرى نَصَرتْ هذه اللطائفَ، وهي اعتراضُه بين اسم إنَّ وخبرها، بقوله "على إشفاق عيني من العدى". وإن أردتَ أعجبَ من ذلك، فيما ذكرتُ لك، فانظرْ إلى قوله: - وقد تقدم إنشاده قَبْلُ -[من البسيط]: سالتْ عليه شِعابُ الحيِّ حين دَعا ... أنصارَه بوجوهٍ كالدنانيرِ

فإنَّكَ تَرى هذه الاستعارة، على لُطْفها وغَرابتها، إنما تَمَّ لها الحسْنُ وانتهى إلى حيثُ انتهى، بما تُوخِّيَ في وضْع الكلام من التقديم والتأخير، وتَجدُها قد مَلُحَتْ ولَطُفتْ بمعاونةِ ذلك ومؤازرتِه لها. وإن شكَكْتَ، فاعمدْ إلى الجارَّيْن والظَّرْف، فأَزِلْ كلآ منها عن مكانه الذي وضَعَه الشاعرُ فيه، فقل: (سالت شعابُ الحيّ بوجوهٍ كالدنانير عليه حين دعا أنصاره). ثم انظرْ كيف يكونُ الحالُ، وكيف يَذهبُ الحسْنُ والحلاوةُ، وكيف تَعْدَم أرْيَحِيَّتَكَ التي كانت، وكيف تَذْهب النشوةُ التي كُنتَ تَجِدُها. وجملةُ الأمر أنَّ هاهنا كلاماً حُسْنُه لِلَّفظ دونَ النظمِ، وآخرَ حُسْنُه للنظْم دونَ اللفظِ، وثالثاً قرَى الحُسْنَ من الجهتين، ووجبَتْ له المزيةُ بكلا الأمرين؛ والإشكال في هذا الثالث وهو الذي لا تَزالُ تَرى الغلَطَ قد عارضَك فيه، وتَراكَ قد حِفْتَ فيه على النظم فتركْتَه، وطمحْتَ ببصرِكَ إلى اللفظ وقدَّرْتَ في حُسْنٍ كان به، وباللفظ أنه لِلَّفظِ خاصة. وهذا هو الذي أردتُ حين قلتُ لك: إنَّ في الاستعارة، ما لا يُمكنُ بَيانُه إلاَّ مِنْ بَعد العلم بالنظْم، والوقوف على حقيقته.

ومن دقيق ذلك وخَفِيِّه، أنكَ ترى الناسَ، إذا ذَكَروا قولَه تعالى: {واشتعل الرأس شَيْباً} [مريم: 4] لم يَزيدوا فيه على ذكر الاستعارة، ولم يَنْسبوا الشَّرَفَ إلاَّ إليها، ولم يروا لِلمزيَّة مُوجِباً سواها؛ هكذا تَرى الأمر في ظاهر كلامِهمْ؛ وليس الأَمرُ على ذلك. ولا هذا الشرفُ العظيمُ، ولا هذه المزيةُ الجليلة، وهذه الروعةُ التي تَدخلُ على النفوس، عند هذا الكلام لمجرد الاستعارة، ولكنْ لأَنْ يُسلَك بالكلام طريقُ ما يُسْنَدُ الفعلُ فيه إلى الشيء، وهو لما هو، من سببه؛ فيُرفَعُ به ما يُسْنَد إليه، ويُؤتى بالذي الفعلُ له في المعنى، منصوباً بعده، مبيناً أَنًَّ ذلك الإسنادَ وتلك النسبةَ إلى ذلك الأولِ، إنما كان من أَجْل هذا الثاني ولما بينه وبينه من الاتصال والملابسةِ كقولهم: (طابَ زيدٌ نفساً، وقَرَّ عَمرو عَيْناً، وتصبَّب عَرقاً، وكرُم أَصْلاً، وحَسُنَ وجْهاً). وأشباهِ ذلك مما تَجِد الفعل فيه منقولاً عن الشيء إلى ما ذلك الشيءُ من سببه. وذلك أَنَّا نَعلم أَنَّ "اشتعل" للشيبِ في المعنى، وإنْ كان هو للرأس في اللفظ، كما أنَّ "طاب" للنفس، و "قرَّ" للعين، و "تصبَّبَ" للعرق وإنْ أُسِند إلى ما أُسنِد إليه، يُبَيِّنُ أن الشرَفَ كان، لأَن سُلِكَ فيه هذا المسلكُ، وتُؤخِّيَ به هذا المذهبُ، أن تَدَع هذا الطريق فيه وتأخذَ اللفظَ فتُسنِده إلى الشيب صريحاً فتقول: (اشتعلَ شيبُ الرأسِ، والشيْبُ في الرأسِ)، ثم تنظر: هل تَجدُ ذلك الحُسْنَ وتلك الفخامة؟ وهل تَرى الروعةَ التي كنتَ تَراها؟ فإن قلْتَ: فما السببُ في أَنْ كان "اشتعل" إذا استُعيرَ للشيب، على هذا الوجه، كان له الفضْلُ، ولمَ بانَ بالمزيَّةِ منَ الوجهِ الآخرِ هذ البَيْنُونَة؟ فإنَّ السببَ أَنَّه يُفيدُ، معَ لمَعانِ الشيبِ في الرأس، الذي هو أَصْلُ المعنى: الشُّمولَ؛ وأَنَّه قد شاعَ فيه، وأَخذَه من نَواحيه، وأَنَّه قد استقَرَّ به، وعمَّ جُمْلَتَه، حتى لم يَبْقَ من السَّوادِ شيءٌ، أوْ لم يبْقَ منه إلاَّ ما لا يُعْتَدُّ به؛ وهذا ما لا يكون إذا قيل: (اشتعلَ شَيبُ الرأس، أو الشيب في الرأس).

بل لا يُوجِبُ اللفظُ حينئذٍ أكثرَ مِنْ ظهورهِ فيه على الجملة. وَوِزانُ هذا أنك تقول: (اشتعلَ البيْتُ ناراً) فيكونُ المعنى، أنَّ النارَ قد وقَعَتْ فيه وُقوع الشُّمولِ، وأنَّها قد استولَتْ عليه وأخذَتْ في طرفَيْه ووَسَطِه. وتقول: (اشتعلتِ النارُ في البيت) فلا يُفيد ذلك، بل لا يُقْتضَى أكثرُ من وقوعها فيه، وإصابتها جانباً منه. فأمَّا الشُّمول، وأنْ تكونَ قد استولتَ على البيت وابتزَّتْه، فلا يُعقلُ من اللفظ البتَّةَ. ونَظيرُ هذا في التنزيل قولُه عزَّ وجل: {وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً} [القمر: 12] التفجيرُ للعيون في المعنى، وأَوْقَعُ على الأرض في اللفظ، كما أُسنِد هناك، الاشتعالُ إلى الرأس. وقد حصَلَ بذلك منْ معنى الشمولِ هاهنا، مثْلُ الذي حصلَ هناك. وذلك أَنَّه قد أَفادَ أنَّ الأرضَ قد كانت صارتْ عُيوناً كلُّها، وأنَّ الماءَ قد كان يَفُور مِنْ كل مكانٍ منها. ولو أُجريَ اللفظُ على ظاهرهِ فقيل: (وفجَّرْنا عيونَ الأرضِ، أو العيونَ في الأرض)، لم يُفِد ذلك، ولم يَدُلَّ عليه، ولَكانَ المفهومُ منه، أنَّ الماء قد كان فارَ من عيونٍ متفرقةٍ في الأرض، وَتَبجَّس مِن أماكنَ منها. واعلمْ أَنَّ في الآيةِ الأُولى، شيئاً آخرَ من جنْس النظّم، وهو تَعريفُ الرأسِ (بالأَلِف واللاَّم) وإفادةُ معنى الإضافةِ من غَيْر إضافةٍ، وهو أَحدُ ما أَوْجَبَ المزيةَ. ولو قيل: (واشتعلَ رأس) فَصُرِّح بالإضافة، لذَهَب بعضُ الحُسْنِ؛ فاعرِفْهُ! وأنا أكتبُ لك شيئاً مما سَبيلُ الاستعارة فِيه هذا السبيلُ، ليَستحْكِمَ هذا البابُ في نفسِك، ولِتأْنَسَ به. فمِن عجيب ذلك قولُ بعضِ الأعراب [من الرجز]: الليلُ داجٍ كَنَفَا جِلْبَابِهْ ... والبَيْنُ مَحجورٌ على غُرَابهْ

ليس كلُّ ما تَرى من الملاحَةِ، لأَنْ جعَلَ لِلَّيلِ جلْباباً، وحَجَر على الغراب، ولكنْ في أَنْ وضَعَ الكلامَ الذي تَرى؛ فجعَلَ "الليل" مبتدأً، وجعل "داجٍ" خبراً له، وفعلاً لما بَعْدَه وهو الكنَفانُ، وأضافَ (الجَلْبابَ) إلى ضمير "الليل" ولأَنْ جَعلَ كذلك "البين" مبتدأً وأَجْرى "محجوراً" خبراً عنه، وأنْ أَخرَجَ اللفظَ عَلَى مفعول. يُبيِّنُ ذلك، أَنَّكَ لو قلْتَ: (وغرابُ البينِ محجورٌ عليه أو: قد حُجرَ على غراب البين)، لم تَجِدْ له هذه المَلاحة. وكذلك لو قلت: (قد دَجا كَنَفَا جلبابِ الليل) لم يكن شيئاً. ومن النادر فيه قول المتنبي [من الخفيف]: غَصَبَ الدهرَ والملوكَ عليها ... فَبنَاها في وَجْنة الدهر خالا قد تَرى في أَول الأمرِ أنَّ حُسْنه أَجْمَع، في أنْ جَعلَ للدهر وَجْنةً، وجعل البُنيَّة خالاً في الوجنة؛ وليسَ الأَمرُ على ذلك. فإنَّ مَوْضعَ الأُعجوبةِ في أنْ أَخْرج الكلام مخْرجَهُ الذي تَرى، وأَنْ أَتَى بالخال منصوباً على الحال، من قوله "فَبنَاها". أفَلاَ ترى أَنك لو قُلْتَ: (وهي خالٌ في وَجْنة الدهر)، لوجدْتَ الصورة غيرَ ما تَرى؟ وشبيهٌ بذلك أنَّ ابنَ المعتز قال [من المجتث]: يا مِسْكةَ العطَّارِ ... وخالَ وَجْهِ النهارِ وكانت المَلاحَةُ في الإضافة بعد الإضافة، لا في استعارة لفظة "الخال". إذْ معلومٌ أَنه لو قال: (يا خالا في وجه النهار) أو: (يا مَنْ هو خالٌ في وجْه النهار)، لم يكن شيئاً. ومِنْ شأنِ هذا الضربِ أن يَدْخلَه الاستكراهُ. قال الصاحب: إياكَ والإضافاتِ المتداخلة، فإنَّ ذلك لا يَحْسُن! وذكَر أنه يُستعملُ في الهجاء كقول القائل [من الخفيف]: يا عليُّ بنُ حمزةَ بنِ عمارَةْ ... أنتَ واللهِ ثلجةٌ في خِيارَهْ ولا شُبْهَة في ثِقَل ذلك في الأَكثر؛ ولكنه إذا سَلِمَ من الاستكراه، لطُفَ ومْلحَ. ومما حَسُنَ فيه، قول ابن المعتز أيضاً [من الطويل]: وظَلَّتْ تُديرُ الراحَ أَيْدي جآذرٍ ... عتاقِ دنانير الوجوهِ مِلاحِ ومما جاء منه حَسَناً جميلاً، قولُ الخالديِّ في صفة غلام له [من المنسرح]: ويَعرِفُ الشِّعْرَ مثْلَ معرفتي ... وهْو عَلَى أنْ يَزيد مجتهدُ

وصيْرفيُّ القريضِ وَزَّانُ دِينا ... رِ المعاني الدقاقِ مُنْتقِدُ ومنه قولُ أبي تمام [من الكامل]: خُذْها ابْنَةَ الفكْرِ المهذَّب في الدجى ... والليلُ أَسْودُ رقعةِ الجلبابِ ومما كثُرَ الحُسْنُ فيه بسبب النظْم، قولُ المتنبي [من الطويل]: وقَيَّدتُ نَفْسي في ذَرَاك مَحَبةً ... ومَنْ وَجَدَ الإحسان قَيْداً تَقيَّدا الاستعارة في أصْلها مُبْتذلة معروفة، فإنَّك ترَى العاميَّ يقول للرجل، يَكْثُر إحسانُه إليه وَبرُّهُ له، حتى يألَفَه ويختارَ المقامَ عنده: (قد قيَّدني بكثرة إحسانه إليَّ، وجميلِ فِعْله معي، حتى صارتْ نفسي لا تُطاوِعُني على الخروج من عنده). وإنما كان ما ترى من الحُسْن بالمَسْلك الذي سلَكَ في النظم والتأليف.

فصل: القول في التقديم والتأخير

فصل: القول في التقديم والتأخير هو باب كثير الفوائد، جَمُّ المَحاسن، واسعُ التصرف، بعيدُ الغاية، لا يَزالُ يَفْتَرُّ لك عن بديعة، ويُفْضي بك إلى لَطيفة؛ ولا تَزال تَرى شعراً يَروقُك مَسْمَعُه، ويَلْطُف لديكَ مَوقِعُه، ثم تنظرُ فتجدُ سبَبَ أَنّ راقَكَ ولطُفَ عندك، أنْ قُدِّمَ فيه شيءٌ وحُوِّل اللفظ عن مكان إلى مكان. واعلمْ أَنَّ تقديم الشيء على وجهين - تقديمٌ يُقال إِنه على نيَّةِ التأخير، وذلك في كل شيء أًَقرَرْتَه مع التقديم على حُكْمِه الذي كان عليه، وفي جنسه الذي كان فيه، كخبر المبتدأ إذا قدَّمْتَه على المبتدأ، والمفعولِ إذا قدَّمتَه على الفاعل، كقولك: (مُنْطَلِقٌ زيد، وضربَ عَمراً زيدٌ). معلوم أن "مُنْطلقٌ" "وعمراً" لم يَخْرجا بالتقديم، عما كانا عليه، من كون هذا خبرَ مبتدأ ومرفوعاً بذلك، وكونَ ذلك مفعولاً ومنْصوباً من أجله، كما يكون إذا أَخَّرْتَ. وتقديمٌ، لا على نية التأخير، ولكنْ على أنْ تَنقُلَ الشيءَ عن حُكْمٍ إلى حُكْمٍ وتجعلَه بابا غيرَ بابه، وإعراباً غيرَ إعرابه، وذلك أَن تَجيءَ إلى اسمينِ يُحتملُ كلُّ واحدٍ منهما أَنْ يكون مبتدأً، ويكون الآخرُ خبراً له، فتُقَدِّمُ تارةً هذا على ذاك، وأخرى ذاكَ على هذا. ومثالُه ما تَصْنعه (بزيد والمنطلق) حيث تقولُ مرة: (زيدٌ المنطلقُ)، وأُخرى: (المنطلقُ زيدٌ). فأنتَ في هذا لم تُقدِّمْ (المنطلق) على أن يكونَ متروكاً على حُكْمه الذي كان عليه مع التأخير، فيكونَ خبرَ مبتدأ كما كان، بل على أَنْ تَنْقلَه عن كَونه خبراً إلى كونه مبتدأً. وكذلك لم تؤخِّر (زيداً) على أن يكون مبتدأً كما كان، بل على أن تُخرجَه عن كونه مبتدأً إلى كونِه خبراً. وأَظهرُ من هذا قولُنا: (ضَربتُ زيداً، وزيدٌ ضربتُه)؛ لم تُقدِّم (زيداً) على أن يكون مفعولاً منصوباً بالفعل كما كان، ولكن على أن تَرْفَعه بالابتداء، وتشغلَ الفعلَ بضميره، وتجعلَه في موضعِ الخبر له. وإذْ قد عرفتَ هذا التقسيم فإني أُتبعه بجملة من الشرح. واعلمْ أَنَّا لم نَجدْهُم اعتمدوا فيه شيئاً يَجري مجرى الأَصْل غيرَ العنايةِ والاهتمامِ.

قال صاحب الكتاب، وهو يَذكُر الفاعلَ والمفعولَ: كأنهم يُقدِّمون الذي بَيانُه أَهمُّ لهم، وهُم بشأنه أَعْنى، وإن كانا جميعاً يُهمَّانِهم ويَعْنيانِهم. ولم يَذْكر في ذلك مثالاً. وقال النحويون: إنَّ معنى ذلك أَنه قد يكونُ من أغراض الناس في فعلٍ ما، أنْ يَقَع بإنسانٍ بعينه، ولا يُبالون مَنْ أَوْقَعَه؛ كَمِثل ما يُعلمُ مِنْ حالهم، في حال الخارجي يَخْرُج فيعيثُ ويُفْسِد ويَكْثُرُ به الأذى، أَنهم يُريدون قَتْلَه ولا يُبالون مَنْ كانَ القتلُ منه، ولا يَعْنيهم منه شيءٌ. فإذا قُتل وأرادَ مُريدٌ (قتلَ زيدٌ الخارجيَّ) لأنه يعلم أنْ ليس للناس، في أن يعلموا أنَّ القاتلَ له زيدٌ، جَدْوى وفائدةٌ، فيَعْنيهم ذكْرُه ويهمُّهُمْ ويتَّصلُ بمسرتهم. ويَعْلم من حالهم أَنَّ الذي هم متوقِّعون له ومُتَطلّعون إليه، متى يكونُ، وقوعُ القتل بِالخارجي المُفْسِد، وأنهم قد كفُّوا شرَّه، وتخلَّصوا منه. ثم قالوا: فإن كان رجلٌ ليس له بأس، ولا يقَدَّرُ فيه أنه يَقتُلُ فقَتلَ رجلاً، وأَرادَ المُخْبِرُ أن يُخْبر بذلك، فإنه يُقدِّم ذكرَ القاتلِ فيقول: (قتلَ زيدٌ رجلاً): ذاك لأَنَّ الذي يَعْنيه، ويَعْني الناسَ من شأن هذا القتل، طرافَتُه وموضعُ الندْرةِ فيه. وبُعدُه كان من الظنِّ. ومعلومٌ أَنه لم يكن نادراً وبعيداً من حيثُ كان واقعاً بالذي وَقَع به، ولكنْ من حيثُ كان واقعاً مِنَ الذي وقعَ منه. فهذا جيِّد بالغٌ؛ إلاَّ الشأنَ في أَنه يَنبغي أن يُعرَفَ في كل شيءٍ قُدِّمَ في موضع من الكلام، مثلُ هذا المعنى، ويُفسَّر وجهُ العنايةِ فيه هذا التفسير. مواضع التقديم والتأخير وقد وَقعَ في ظنون الناس أَنَّه يكفي أنْ يقال إنه قُدِّم للعناية، ولأنَّ ذكْرَه أَهمُّ، مِنْ غير أن يُذْكَر مِنْ أين كانت تلك العنايةُ، ولمَ كانَ أهمَّ. ولِتخيُّلهِم ذلك، قد صَغُر أمرُ التقديم والتأخير في نفوسهم، وهَوَّنوا الخَطْبَ فيه، حتى إنك لتَرى أكثرَهم يَرى تَتبُّعَه والنظرَ فيه، ضرباً من التكلف؛ ولم ترَ ظنّاً أزْرى على صاحبه من هذا وشَبهه.

وكذلك صَنعوا في سائر الأبواب؛ فجعلوا لا يَنْظرونَ في الحَذْف والتكرار، والإظهار والإضمار، والفصْل والوصل، ولا في نوع من أنواع الفُروق والوجوه، إلا نَظَرُك فيما غيرُه أهمُّ لك، بل فيما إن لم تعلَمْه لم يَضُرَّك. لا جَرَمَ أَنَّ ذلك قد ذَهَبَ بهم عن معرفة البلاغة، ومنَعَهم أن يَعرفوا مقاديرها، وصدَّ أوْجُهَهُمْ عن الجهة التي هي فيها، والشِّقِّ الذي يَحْويها. والمَداخِلُ التي تَدخُلُ منها الآفةُ على الناس في شأن العلم، ويَبْلُغ الشيطانُ مُرادهَ منهم، في الصدِّ عن طَلبهِ وإحراز فضيلته، كثيرةٌ.

وهذه مِنْ أَعْجبها - إن وجَدْتَ متعجِّباً - وليتَ شعري إن كانت هذه أموراً هيِّنة، وكان المدى فيها قريباً، والجَدى يسيراً، من أينَ كانَ نَظْمٌ أشرَفَ من نَظمٍ، وبِمَ عَظُمَ التفاوتُ، واشتدَّ التباينُ، وتَرقَّى الأمرُ إلى الإعجاز، وإلى أن يَقْهر أعناقَ الجبابرة؟ أَوَ هاهنا أمورٌ أُخَرٌ نُحيلُ في المزية عليها، ونَجْعلُ الإعجازُ كان بها، فتكونَ تلكَ الحوالةُ لنا عذْراً في ترك النظر في هذه التي معنا، والإعراضِ عنها وقلَّة المبالاةِ بها؟ أَوَ ليس هذا التهاونُ - إنْ نَظَر العاقلُ - خيانةً منه لِعقله ودينهِ، ودخُولاً فيما يُزري بذي الخَطَر، ويغضُّ من قَدْر ذَوي القَدر؟ وهل يكون أضعفُ رأياً وأبعدُ من حُسْن التدبر منكَ، إذا هَمَّك أنْ تعرفَ الوجوهَ في {أَأَنذَرْتَهُمْ} [يس: 10] والإمالةَ في {رَأَى القمر} [الأنعام: 77] وتعرفَ "الصراط" و "الزراط" وأشباهَ ذلك، مما لا يَعْدُو عِلْمُك فيه اللفظَ وجَرْسَ الصوت، ولا يَمنعُكَ إنْ لم تَعلمْه بلاغةً، ولا يَدْفعُكَ عن بيانٍ، ولا يُدخِلُ عليك شَكّاً، ولا يُغْلق دونَكَ بابَ معرفةٍ، ولا يُفْضى بك إلى تحريفٍ وتبديلٍ، وإلى الخطإ في تأويلٍ، وإلى ما يَعظُمُ فيه المَعابُ عليكَ، ويُطيلُ لسانَ القادحِ فيك، ولا يَعْنيكَ ولا يَهُمُّك أنْ تَعرف ما إذا جهلْتَه، عرَّضْتَ نفسَك لكل ذلك، وحصلْتَ فيما هنالك، وكان أكثرُ كلامِك في التفسير، وحيثُ تخوض في التأويل، كلامَ مَنْ لا يَبْني الشيءَ على أصله، ولا يأخذُهُ من مَأْخذه، ومَنْ ربما وَقَعَ في الفاحش من الخطإ الذي يَبقى عارُه، وتَشنُع آثارُه. ونَسأل اللهَ العِصْمةَ من الزلَلِ، والتوفيقَ لما هو أقربُ إلى رضاه، من القول والعمل.

واعلمْ أَنَّ مِن الخطإ أَنْ يُقْسَم الأَمرُ، في تقديم الشيء وتأخيرهِ قسميْن، فيُجْعَلَ مفيداً في بعض الكلام، وغيرَ مفيدٍ في بعضٍ؛ وأَنْ يُعلَّل تَارةً بالعناية، وأخرى بأنه تَوْسِعةٌ على الشاعر والكاتب، حتى تَطَّردَ لهذا قَوافيهِ ولِذاكَ سجعُهُ. ذاك لأنَّ من البعيد أَنْ يكون في جملة النظْم ما يدلُّ تارةً ولا يَدلُّ أُخْرى. فمتى ثبتَ في تقديم المفعولِ مَثلاً على الفعل، في كثيرٍ من الكلام، أَنَّه قد اخْتُصَّ بفائدةٍ لا تكونُ تلك الفائدةُ سمع التأخُّر، فقد وَجَب أن تكونَ تلك قضيةً في كل شيءٍ وكلِّ حالٍ. ومِنْ سبيلِ مَنْ يَجْعلُ التقديمَ وترْكَ التقديم سواءً، أنْ يدَّعي أنه كذلك في عموم الأحوال. فأمَّا أَن يَجْعله بَيْنَ بينَ، فيزعُمُ أنه للفائدة في بعضها، وللتصرف في اللفظ مِنْ غيرِ معنًى في بعض، فما ينبغي أن يَرْغَبَ عن القول به. وهذه مسائلُ لا يَستطِيع أحدٌ أن يَمتنِعَ من التفرقة بين تقديمِ ما قُدِّمَ فيها وتَرْكِ تقديمه.

ومِنْ أَبْيَن شيءٍ في ذلك: الاستفهامُ بالهمزة. فإنَّ موضعَ الكلام على أَنك إذا قلتَ: (أَفَعلْتَ؟) فبدأتَ بالفعل، كان الشكُّ في الفعل نَفْسِه وكان غَرضُكَ مِن استفهامك، أنْ تَعْلم وُجودَه. وإِذا قلتَ: (أأَنْتَ فعلتَ؟)، فبدأْتَ بالاسم، كان الشكُّ في الفاعل، مَنْ هوَ، وكان التردُّدُ فيه. ومثالُ ذلك أَنَّك تقولُ: (أَبَنَيْتَ الدارَ التي كنتَ على أنْ تَبْنِيهَا؟ أَقُلْتَ الشِّعرَ الذي كان في نفسكَ أن تقولَهُ؟ أفَرَغْتَ من الكتابِ الذي كنتَ تَكتُبُه؟). تبدأ في هذا ونحْوهِ بالفعل، لأنَّ السؤالَ: عنِ الفعلِ نفْسهِ، والشكَّ فيه، لأنَّك في جميع ذلك، متردِّدٌّ في وجود الفعل وانتفائه، مُجوِّزٌ أَنْ يكونَ قد كانَ، وأنْ يكونَ لم يَكُنْ. وتقول: (أأَنْتَ بَنَيْتَ هذهِ الدارَ؟ أأنْتَ قلتَ هذا الشعرَ؟ أأَنتَ كتبْتَ هذا الكتاب؟) فتَبْدأ في ذلك كله بالاسم. ذلك لأنك لم تَشُكَّ في الفعل أنه كانَ. كيفَ، وقد أشرْتَ إلى الدار مَبْنية، والشِّعر مَقُولاً والكتابِ مكتوباً؟ وإنما شكَكْتَ في الفاعل مَنْ هو. فهذا من الفَرْق لا يَدْفعُه دافعٌ، ولا يَشكُّ فيه شاكٌّ، ولا يَخْفى فسادُ أحدِهما في موضع الآخر. فلو قلتَ: (أأَنْتَ بَنيتَ الدارَ التي كنتَ على أنْ تبنيها؟ أَأَنْتَ قلتَ الشعرَ الذي كان في نفسك أن تَقولَه؟ أأَنْتَ فرغْتَ من الكِتاب الذي كنتَ تكْتُبه؟) خرَجْتَ من كلام الناس. وكذلك لو قلْتَ: (أبَنَيْتَ هذه الدارَ؟ أَقلت هذا الشعرَ؟ أَكتبتَ هذا الكتابَ؟) قلْتَ ما ليس بقولِ ذاك، لِفَساد أنْ تقولَ في الشيء المُشَاهَدِ الذي هو نُصْبُ عينيكَ: أَموجودٌ أم لا؟

ومما يُعلَمُ به ضرورةً، أنه لا تكونُ البدايةُ بالفعل كالبداية بِالاسم، أَنك تقول: (أقلتَ شعراً قط؟ أرأيتَ اليومَ إنساناً؟) فيكونُ كلاماً مستقيماً. ولَو قلتَ: (أأَنْتَ شعراً قط؟ أأنت رأيتَ إنساناً) أخطأتَ. وذاك أَنه لا مَعْنى للسؤال عن الفاعلِ مَنْ هو، في مثل هذا؛ لأنَّ ذلك إنما يُتَصوَّر إذا كانت الإشارةُ إلى فعلٍ مخصوصٍ. نَحْوَ أَنْ تقول: (مَنْ قال هذا الشعرَ؟ ومَنْ بَنى هذه الدارَ؟ ومَنْ أتاك اليومَ؟ ومن أَذِنَ لك في الذي فعلتَ؟)، وما أشبه ذلك مما يُمكنُ أن يُنَصَّ فيه على مُعَيَّنٍ. فأمَّا قيلُ شعرٍ على الجملة، ورؤيةُ إنسانٍ على الإطلاق، فمُحَالٌ ذلك فيه. لأَنه ليس مما يُخْتصُّ بهذا دون ذاكَ حتى يُسْأَلَ عن عين فاعلهِ. ولو كان تقديمُ الاسم لا يُوجب ما ذكَرْنا، من أنْ يكونَ السؤالُ عن الفاعل مَنْ هو، وكان يَصِحُّ أن يكون سؤالاً عن الفعل: أكانَ أمْ لم يكُنْ، لكانَ ينبغي أَنْ يَستقيمَ ذلك. تقديم المسند إليه مع الاستفهام التقريري والإنكاري

واعلمْ أَنَّ هذا الذي ذكرتُ لك في الهمزة "وهي للاستفهام" قائمٌ فيها، إِذا هيَ كانت للتقرير. فإذا قلتَ: (أَأَنْتَ فعلتَ ذاك)، كان غرَضُكَ أنْ تُقَرِّرَهُ بأنه الفاعلُ؛ يُبَيِّنُ ذلكَ قولُه تعالى، حكايةً عن قَوْل نمروذ {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هاذا بِآلِهَتِنَا ياإبراهيم} [الأنبياء: 62] لا شبْهةَ في أنهم لم يقولوا ذلك له عليه السلامُ، وهم يُريدون أنْ يُقِرَّ لهم بأَنَّ كَسْرَ الأصنام قد كان، ولكنْ أَنْ يُقِرَّ بأنه منهُ كان؛ وقد أشاروا له إلى الفعل في قولهم. "أأَنْتَ فعلْتَ هذا"؟ وقال هو عليه السلام في الجواب: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هاذا} [الأنبياء: 63]. ولو كان التقريرُ بالفعل، لَكانَ الجوابُ: فَعلْتُ، أوْ: لم أَفْعَل! فإن قلتَ: أوَ ليس إذا قال: "أَفَعَلْتَ"، فهو يريد أيضاً أن يُقرِّره بأَنَّ الفعلَ كان منه، لا بأنه كان على الجملة؟ فأيُّ فَرْقٍ بينَ الحالَيْنِ؟ فإنه إذا قال: "أَفَعَلْتَ" فهو يقرره بالفعل مِنْ غير أن يُردِّدَه بينَه وبينَ غيرهِ، وكان كلامُه كلامَ مَنْ يُوهِمُ أنه لا يَدْري أنَّ ذلك الفعلَ كان على الحقيقة. وإذا قال: (أأنت فعلت؟) كان قد ردَّدَ الفعلَ بينه وبين غيره، ولم يكُنْ منه في نَفْس الفعلِ تردُّدٌ، ولم يكن كلامُه كلامَ مَنْ يُوهم أنه لا يَدْري أَكانَ الفعلُ أمْ لم يَكُنْ. بدلالةِ أَنك تَقولُ ذلك، والفعلُ ظاهرٌ موجودٌ مشار إليه، كما رأيْتَ في الآية. واعلمْ أنَّ الهمزةَ فيما ذكرنا، تَقريرٌ بفعلٍ قد كان، وإنكارٌ له لِمَ كان، وتوبيخٌ لفاعِلِه عليه.

ولها مذهبٌ آخر وهو أن يكونَ لإنكار أَنْ يكونَ الفعلُ قد كانَ مِنْ أَصْله. ومثاله قوله تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بالبنين واتخذ مِنَ الملائكة إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً} [الإسراء: 40]. وقولُه عزَّ وجلَّ: {أَصْطَفَى البنات على البنين (*) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات: 153 - 154]. فهذا رَدٌّ على المشركينَ وتكذيبٌ لهم في قولهم ما يُؤَدِّي إلى هذا الجهل العظيم. وإذا قُدِّم الاسمُ في هذا، صارَ الإنكارُ في الفاعل، ومثالُه، قولُكَ للرجل قد انْتَحلَ شِعراً: (أأَنْتَ قلتَ هذا الشعر؟ كذبتَ لسْتَ ممنْ يُحْسِن مِثلَه)، أَنْكَرْتَ أنْ يكونَ القائلَ ولم تُنكِرِ الشِّعرَ. وقد تكونُ إذْ يُرادُ إنكارُ الفعل من أَصْله ثم يُخرَجُ اللفظُ مخرجَه، إذا كان الإنكار في الفاعل. مثالُ ذلك قولُه تعالى: {قُلْءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} [يونس: 59]. الإذْنُ راجعٌ إلى قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً} [يونس: 59]. ومعلومٌ أَنَّ المعنى على إنكار أن يكون قد كان من الله تعالى إذْنٌ فيما قالوه، من غير أن يكونَ هذا الإذْنُ قد كان من غير الله، فأضافوه إلى الله. إلاَّ أَنَّ اللفظَ أُخرجَ مخرَجَهُ إذا كان الأمر كذلك، لأنْ يُجعَلوا في صورة مَنْ غَلِطَ، فأضاف إلى الله تعالى إذْناً، كان من غير الله؛ فإِذا حقّقَ عليه ارتدع. ومثالُ ذلك قولُكَ للرجلِ يَدَّعي أنَّ قولاً كان ممَّن تَعْلَم أنه لا يقولُه: (أهو قال ذاك بالحقيقة أم أنتَ تَغْلَطُ؟) تضَعُ الكلامَ وضْعهَ إذا كنتَ علمتَ أنَّ ذلك القولَ، قد كان مِنْ قائلٍ لينصرِفَ الإنكارُ إلى الفاعل، فيكونَ أَشَدَّ لنفيِ ذلك وإبطاله.

ونظيرُ هذا قولُه تعالى: {قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين} [الأنعام: 143]، أُخرجَ اللفظُ مَخْرجَه، إذا كان قد ثبتَ تحريمٌ في أحدِ أشياء، ثم أُريدَ معرفةُ عين المحرَّم، مع أنَّ المراد إنكارُ التحريم مِنْ أصله ونَفْيُ أن يكونَ قد حُرِّمَ كأنه قد كان؛ ثم يُقال لهم: أَخْبِرونا عن هذا التحريم الذي زعمتُمْ، فيمَ هو؟ أفي هذا، أم ذاك، أم في الثالث؟ ليتبيَّنَ بُطْلانُ قولِهمْ ويَظْهَرَ مكانُ الفِرْية مِنهم على الله تعالى. ومثل ذلك قولُكَ للرجلِ يدَّعي أمراً وأنتَ تُنْكِره: (متى كان هذا، أفي ليل أم نهاراً؟) تضَعُ الكلامَ وضْعَ مَنْ سَلَّم أنَّ ذلك قد كان، ثم تُطالِبُه ببيان وقْتهِ يَتَبيَّنَ كذبَهُ إذا لم يَقْدر أن يَذكُرَ له وقتاً ويُفتضَح. ومثلُهُ قولُكَ: (مَنْ أَمرَكَ بهذا مِنَّا، وأَيُّنا أَذِنَ لكَ فيه؟) وأنتَ لا تَعني أنَّ أَمْراً قد كان بذلك مِنْ واحدٍ منكم، إلا أنَّكَ تَضَعُ الكلامَ هذا الوضْعَ لكي تُضيِّقَ عليه ولِيَظْهَر كَذِبُه حينَ لا يَستطيعُ أن يقولُ: فلانٌ، وأَنْ يُحيلَ على واحد. التقديم والتأخير في الاسم والمضارع مع الاستفهام وإذ قد بينَّا الفَرْقَ بين تقديم الفعلِ وتقديم الاسم والفعلُ ماضٍ، فينبغي أن يُنظَر فيه والفعلُ مضارعٌ. والقول في ذلك أَنك إِذا قلت: (أَتفَعلُ)، و (أَأَنْتَ تَفعل؟) لم يَخْلُ من أن تُريدَ الحالَ أو الاستقبالَ. فإن أردتَ الحالَ، كان المعنى شبيهاً بما مَضى في الماضي. فإذا قلتَ: (أتفعل؟) كان المعنى على أنكَ أردتَ أن تُقرِّره بفعل هو يفعلُه، وكنتَ كمَن يُوهِمِ أنه لا يَعلمُ بالحقيقة أنَّ الفعلَ كائنٌ. وإذا قلتَ: (أأَنتَ تَفْعل؟) كان المعنى على أنك تريد أن تُقرِّره بأنه الفاعل، وكانَ أمْرُ الفعلِ في وجوده ظاهراً، وبحيثُ لا يُحتاج إلى الإقرار بأنه كائن. وإن أردتَ بـ "تَفْعلُ" المستقبلَ، كان المعنى، إذا بدأْتَ بالفعل، على أنك تَعْمد بالإنكار، إلى الفعل نفسه، وتَزعم أنه لا يكونُ أو أنه لا ينبغي أن يكون. فمثال الأول [من الطويل]: أَيقتُلُني والمَشْرَفيُّ مُضَاجِعي ... وَمَسْنونةٌ زُرْقٌ كأَنيابِ أغوالِ

فهذا تكذيبٌ منه لإنسانٍ تهَدَّدَهُ بالقتل، وإنكارٌ أن يَقْدر على ذلك ويَستطيعَه. ومثْلُه أن يَطمعَ طامعٌ في أمرٍ لا يكونُ مثْلَهُ فتُجهِّلَه في طمعه فتقولَ: (أيرضى عنك فلانٌ وأنتَ مقيمٌ على ما يَكرهُ؟) (أتَجِدُ عنده ما تُحبُّ وقد فَعلتَ وصنَعْت؟) وعلى ذلك قولُه تعالى: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود: 28]. ومثالُ الثاني، قولُك للرجل يركَب الخطرَ: (أتَخرجُ في هذا الوقت؟ أتذْهَبُ في غير الطريق؟ أَتُغرِّر بنفسك؟) وقولُك للرجل يُضيعُ الحقَّ: (أَتنسى قديمَ إحسانِ فلانٍ؟) أتترْكُ صُحبتَه وتَتغيرُ عن حالك معه، لأنْ تغيَّر الزمانُ؟) كما قال [من الطويل]: أأتركُ أنْ قلَّتْ دراهمُ خالدٍ ... زيارتَه؟ إني إذاَ لَلئِيمُ وجملةُ الأمر، أَنك تَنْحو بالإنكار نَحْوَ الفعلِ، فإنْ بدأت بالاسم فقلتَ: (أأنتَ تَفعلِ؟) أو قلتَ: (أهو يفعل؟) كنتَ وجَّهْتَ الإنكارَ إلى نفس المذكور وأبيْتَ أن تكون بموضع أَنْ يجيءَ منه الفعلُ وممن يجيءُ منه، وأن يكونَ بتلك المَثَابة. تفسيرُ ذلك أنكَ إذا قلتَ: (أأنتَ تمنعني؟ أأنتَ تأخذ على يدي؟) صرتَ كأنك قلتَ: إنَّ غيرَك الذي يستطيع منْعي والأخْذَ على يدي، ولستَ بذاك، ولقد وضعتَ نفسَك في غير موضعك. هذا إذا جعلْتَه لا يكونُ منه الفعلُ للعَجْز، ولأنه ليس في وُسْعه. وقد يكونُ أن تجعلَه لا يجيءُ منه، لأنه لا يَختارُه ولا يَرْتضيه، وأنَّ نفْسَه نفسٌ تَأْبى مثلَه وتَكْرَهُه. ومثالُهُ أن تَقول: (أَهو يسأَل فلاناً؟) هو أَرفعُ همَّةً من ذلك. (أَهو يمَنعُ الناسَ حقوقَهم؟) هو أكرمُ من ذاك. وقد يكون أن تَجعله لا يَفْعله لصِغَر قدْره وقِصَر همَّته، وأَنَّ نفْسَه نَفسٌ لا تَسمو. وذلك قولُك: (أهو يَسْمح بمثل هذا؟) (أهو يَرتاحُ للجميل؟) هو أَقصرُ همةً من ذلك، وأَقلُّ رغبةً في الخير مما تظنُّ.

وجملةُ الأمر أنَ تقديَم الاسمِ يَقْتضي أنك عَمَدتَ بالإنكار إلى ذاتِ مَنْ قيل: إنه يَفْعل، أو قال هو: إني أفعلُ. وأردتَ ما تُريدُه إذا قلتَ: ليس هو بالذي يفعل، وليس مثلُه يَفعل. ولا يكونُ هذا المعنى إذا بدأتَ بالفعل فقلتَ: أَتفعل؟ ألا تَرى أنَّ المحال أن تَزعم أنَّ المعنى في قول الرجلِ لصاحبه: (أتَخْرجُ في هذا الوقت؟ أتغرِّرُ بنفسكَ؟ أتمضي في غير الطريق؟) أنَّه أَنكَرَ أنْ يكونَ بمثابةِ من يفعلُ ذلك وبموْضعِ من يَجيءُ منه ذاك. ذاكَ لأنَّ العِلمَ مُحيطٌ بأنَّ الناسَ لا يُريدونه، وأنَّه لا يَليقُ بالحال التي يُستعملُ فيها هذا الكلامُ. وكذلك مُحالٌ أن يكونَ المعنى في قوله جلَّ وعلاَ: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود: 28] أنَّا لسْنا بمثابةِ مَنْ يجيءُ منه هذا الإلزامُ، وأَنَّ غيرَنا مَنْ يَفعله - جلَّ الله تعالى - وقد يَتوهَّمُ المتوهمُ في الشيء مِن ذلك أنه يحتمل؛ فإذا نَظَر لم يَحْتمل. فمِنْ ذلك قولُه: أيقتلني والمشرفيُّ مضاجعي؟ وقد يَظنُّ الظانُّ أنه يَجوز أن يكونَ في معنى أنه ليس بالذي يَجيء منه أن يَقْتلَ مثْلي، ويَتعلَّق بأنه قال قبْلُ [من الطويل]: يَغِطُّ غطيط البَكر شُدَّ خِنَاقُهُ ... ليقتلني والمرءُ ليس بقتَّالِ ولكنهُ إذا نظَر عَلِمَ أنه لا يَجوز؛ وذاكَ لأنه قال "والمشرفيُّ مضاجِعي"، فذكَرَ ما يكون مَنْعاً من الفعل. ومحالٌ أن يقول: هو ممَّنْ لا يَجيءُ منه الفعلُ، ثم يقول: إني أَمنعُهُ؛ لأنَّ المَنْعَ يُتَصَوَّر فيمن يَجيءُ منه الفعلُ ومَع مَنْ يَصِحُّ منه، لا مَنْ هو منه مُحالٌ، ومَنْ هو نَفْسُه عنه عاجزٌ، فاعرفْه!

واعلمْ أَنَّا، وإن كنَّا نُفَسِّر الاستفهامَ في مثل هذا، بالإِنكار، فإنَّ الذي هو مَحْضُ المعنى، أَنه لِيَتَنَبَّه السامعُ حتى يَرجعَ إلى نفسه، فيَخْجل ويرتَدِعَ ويَعْيَا بالجواب، إمَّا لأنه قد ادَّعَى القدرةَ عَلَى فِعْلٍ لا يَقدرُ عليه، فإذا ثبتَ على دَعْواه قيل له: "فافْعَلْ"، فيَفْضحُه ذلك؛ وإمَّا لأَنه همَّ بأنْ يفعلَ ما لا يَسْتصوِبُ فِعْلَه، فإذا رُوجع فيه، تنبَّه وعرَفَ الخطأَ؛ وإما لأَنه جوَّزَ وجود أمرٍ لا يُوجَدُ مثلُه، فإذا ثَبَتَ على تَجْويزه وُبِّخَ على تَعَنُّتِهِ وقيل له: فأَرِناهُ، في موضعٍ، وفي حال، وأقِمْ شاهداً على أنه كان في وقْت. ولو كان يكونُ للإِنكار وكان المعنى فيه مِنْ بَدْء الأمر، لكان يَنْبغي أَنْ لا يَجيءَ فيما لا يَقولُ عاقلٌ إنه يكونُ حتى يُنْكَرَ عليه، كَقَولهم: (أَتصعدُ إلى السماء؟ أتستطيعُ أن تَنْقلَ الجبالَ؟ أإلى رَدِّ ما مَضى سَبيلٌ؟) الاستفهام على سبيل التشبيه والتمثيل وإذْ قد عرفْتَ ذلك، فإنه لا يُقرِّر بالمحال، وبما لا يقول أَحدٌ، إنه يكون، إلاَّ على سبيل التمثيلِ، وعلى أنْ يُقالَ له: إنَّكَ في دَعْواك ما ادَّعَيْتَ، بمنزلةِ مَنْ يَدَّعي هذا المُحال، وإنكَ في طَمَعك في الذي طمعْتَ فيه، بمنزلة مَنْ يَطْمعُ في المُمْتَنعِ. وإذْ قد عرفْتَ هذا، فما هو مِنْ هذا الضربِ، قولُه تعالى: {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم أَوْ تَهْدِي العمي} [الزخرف: 40] ليس إسماعُ الصُّم مما يدَّعيه أَحدٌ، فيكون ذلك للإنكار؛ وإنما المعنى فيه التمثيلُ والتشبيه، وأَنْ يُنْزَّل الذي يُظَنُّ بهم أنهم يَسْمعون، أو أنه لا يستطيع إسماعِهم، مَنْزلةَ مَنْ يَرى أنه يُسْمِعُ الصمَّ ويهدي العُمْيَ. ثم المعنى في تَقديم الاسم، وأَنْ لم يُقَلْ "أَتُسمع الصمَّ"، هو أن يُقال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: (أأَنْتَ خُصوصاً قد أُوتيتَ أن تُسمِعَ الصمَّ؟) وأن يُجْعَل في ظنه أنه يستطيع إسماعهم، بمثابة مَنْ يَظُنُّ أنه قد أُوتيَ قدرةً على إسماع الصم. ومن لطيف ذلك، قولُ ابنِ أبي عيينة [من الكامل]:

فدَع الوعيدَ فما وعيدُكَ ضائري ... أَطنِينُ أجنحةِ الذباب يَضيرُ؟ جعلَه كَأنه قد ظَنَّ أنَّ طنين أجنحةِ الذبابِ بمثابةِ ما يَضيرُ، حتى ظَنَّ أنَّ وعيدَه يَضيرْ. تقديم المفعول على الفعل على الاستفهام واعلمْ أنَّ حالَ المفعولِ فيما ذكرنا، كحال الفاعل. أَعني: تقديمُ الاسم المفعول يَقتضي أنْ يكون الإنكارُ في طريق الإحالة والمنعِ مِنْ أن يكون بمثابة أَنَّ يُوقَع به مثلُ ذلك الفعلُ. فإذا قلْتَ: (أزيداً تضرب؟) كنتَ قد أَنكرْتَ أن يكون زيدٌ بمثابة أن يُضرَبَ أَو بموضع أن يُجْترأَ عليه ويُسْتَجازَ ذلك فيه. ومِن أَجْل ذلك قُدِّمَ (غير) في قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً} [الأنعام: 14]، وقوله عزَّ وجل: {قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ} [الأنعام: 40]. وكان له من الحُسْن والمزية والفخامة، ما تَعلمُ أنه لا يكون، لو أُخِّرَ، فقيل: (قلْ أَأتخِذُ غيرَ الله ولياً وأَتَدعون غيرَ الله؟) وذلك لأنه قد حصَل بالتقديم معنى قولك: (أيكون غير الله) بمثابة أن (يتخذ ولياً؟) وأَيرْضى عاقلٌ مِنْ نفسه أنْ يفعل ذلك؟ وأيكونُ جهلٌ أجهلَ وعمّى أعمى من ذلك؟ ولا يكون شيء من ذلك إذا قيلَ: (أأتَّخِذُ غيرَ الله ولياً). وذلك لأنه حينئذٍ يَتَناولُ الفعلَ أن يكونَ فقط، ولا يَزيد على ذلك فاعرفْه! وكذلك الحكْمُ في قوله تعالى: {فقالوا أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ} [القمر: 24]، وذلك لأنهم بَنَوْا كُفْرَهم على أَنَّ مَنْ كان مثْلَهم بَشَراً، لم يكن بمثابةِ أنْ يُتَّبع ويُطاع ويُنْتَهَى إلى ما يَأْمر، ويُصدَّقَ أَنه مبعوثٌ من الله تعالى، وأنهم مأمورون بطاعته، كما جاء في الأخرى: {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا} [إبراهيم: 10] وكقوله عزَّ وجلَّ: {فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذلك فأولائك هُمُ العادون} [المؤمنون: 7]. فهذا هو القولُ في الضرب الأَول، وهو أن يكون يَفْعلُ بَعد الهمزة لِفعلٍ لم يَكُنْ. وأما الضربُ الثاني وهو أن يكون يَفْعَل لفعلٍ موجود، فإنَّ تقديم الاسم يَقتضي شَبَهاً بما اقتضاهُ في الماضي من الأخذ بأن يُقرَّ أنه الفاعلُ، أو الإنكار أنَ يكون الفاعلَ. فمثال الأول، قولك للرجل يَبْغي ويَظْلِمُ: (أَأنت تجيءُ إلى الضعيف فتغْصِبَ ما لَه؟ أأنتَ تَزْعُم أنَّ الأمرَ كَيْتَ وكيت؟) وعلى ذلك قولُه تعالى: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]. ومثال الثاني: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف: 32].

فصل: التقديم والتأخير مع النفي

فصل: التقديم والتأخير مع النفي وإذْ قد عرَفْتَ هذه المسائلَ في الاستفهام. فهذه مسائل في النفي: إذا قلْتَ: (ما فعلتُ). كنْتَ نَفَيْتَ عنك فِعْلاً لم يَثْبتْ أَنه مفعولٌ. وإذا قلتَ: (ما أنا فعلْتُ). كنتَ نفَيْتَ عنك فِعْلاً ثَبَت أَنه مفْعُولٌ. تفسيرُ ذلك أَنك إذا قلتَ: (ما قلتُ هذا): كنتَ نَفيتَ أن تكونَ قد قلْتَ ذاك، وكنتَ نُوظرْتَ في شيءٍ لم يَثْبُتْ أنه مَقُولٌ. وإِذا قلتَ: (ما أنا قلتُ هذا): كنتَ نفَيْتَ أن تكون القائلَ له، وكانتِ المناظرةُ في شيءٍ ثَبَتَ أنه مقُولٌ. وكذلك إذا قلت: (ما ضربتُ زيداً). كنتَ نفيتَ عنكَ ضَرْبَه ولم يَجِبْ أن يكون قد ضُرِبَ، بل يَجوزُ أن يكونَ قد ضَرَبَه غَيرُك، وأنْ لا يكونَ قد ضُرِبَ أصْلاً. وإذا قلتَ: (ما أنا ضربْتُ زيداً) لم تَقلْه إلاَّ وزَيدٌ مضروبٌ، وكان القصْدُ أن تَنْفي أن تكون أنتَ الضاربَ. ومن أَجْل ذلك، صَلُحَ في الوجه الأولِ أن يكون المَنْفيُّ عامّاً كقولك: (ما قلتُ شعراً قطُّ، وما أكلتُ اليومَ شيئاً، وما رأيتُ أحداً من الناس): ولم يَصْلُحْ في الوجه الثاني. فكان خَلْقاًَ أن تقولَ: (ما أنا قلتُ شِعراً قطُّ، وما أنا أكَلتُ اليومَ شيئاً، وما أنا رأيتُ أحداً من الناس): وذلك لأنه يقتضي المُحَال، وهو أن يكونَ هاهنا إنسانٌ قد قال كلَّ شعرٍ في الدنيا، وأكَل شيءٍ يؤكلُ، ورأى كلَّ أحدٍ من الناس، فنفيتَ أن تَكُونَه ومما هو مثالٌ بيِّن في أنَّ تقديمَ الاسمِ يَقْتضي وجودَ الفعل قولُه [من المتقارب]: وما أنا أَسقَمْتُ جِسْمي بهِ ... ولا أنا أَضرمتُ في القلبِ ناراً

المَعنى، كما لا يَخْفى، على أنَّ القسْمَ ثابتٌ موجود، وليس القصدُ بالنفي إليه، ولكنْ إلى أن يكونَ هو الجالبَ له، ويكونَ قد جرَّه إلى نفسه. ومثله في الوضوح قوله [من الطويل]: وما أنا وَحدي قلتُ ذا الشعرَ كلَّهُ الشعرُ مَقولٌ على القَطْع والنفي، لأن يكونَ هوَ وحْدَه القائلَ له. مواضع التقديم والتأخير - النفي وهاهنا أَمران يَرتفعُ معهما الشكُّ في وجوب هذا الفَرْق، ويَصيرُ العِلمُ به كالضرورة. (أحَدُهما) أنه يَصِحُّ لكَ أن تقول: (ما قلتُ هذا، ولا قاله أحدٌ من الناس)، (وما ضربتُ زيداً ولا ضَرَبَه أحدٌ سوِاي): ولا يصحُّ ذلك في الوجه الآخر. فلو قلتَ: (ما أنا قلتُ هذا، ولا قاله أحدٌ من الناس، وما أنا ضَربتُ زيداً ولا ضرَبَهُ أَحدٌ سواي)، كان خَلْفاً من القول، وكان في التناقض بمنزلة أن تقول: (لستُ الضاربَ زيداً أمسِ): فتُثْبِتَ أنه قد ضُربَ؛ ثم تقولَ مِنْ بَعدهِ: (وما ضَرَبَه أحدٌ مِن الناس): ولستَ القائلَ ذلك: فتُثبِتَ أنه قد قيل، ثم تجيءَ فتقولَ. وما قاله أَحدٌ من الناس. والثاني من الأمرين أَنك تقول: (ما ضربتُ إلاَّ زيداً): فيكونُ كلاماً مسْتقيماً، ولو قلت: (ما أنا ضربتُ إلاَّ زيداً): كان لَغُواً من القول، وذلك لأن نَقْضَ النفي "بإلاَّ"، يَقْتضي أن تكونَ ضربْتَ زيداً؛ وتقديمُكَ ضميرَك وإيِلاؤه حَرْفَ النفْي، يقتضي نَفْي أن تكون ضَرَبْتَه، فهما يتدافعان، فاعرفْه! المفعول المنفيّ ويجيء لك هذا الفرقُ على وَجْهه في تقديمِ المفعول وتأخيره؛ فإذا قلت: (ما ضربتُ زيداً): فقدَّمْتَ الفعلَ، كان المعنى أَنك قد نَفيْتَ أن يكونَ قد وقَع ضَرْبٌ منك على زيدٍ، ولم تَعرِضْ في أَمرٍ غَيرهِ لنفيٍ ولا إثبات، وتركْتَه مُبْهَماً محتمَلاً. وإذا قلتَ: (ما زيداً ضربتُ): فقدَّمْتَ المفعول، كان المعنى على أنَّ ضرْباً وقعَ منكَ على إنسانٍ، وظُنَّ أنَّ ذلك الإنسانَ زيدٌ، فنفيتَ أَن يكون إياه. فلك أن تقول في الوجه الأول: (ما ضربتُ زيداً ولا أحداً من الناس) وليس لك في الوجه الثاني. فإنْ قلتَ: (ما زيداً ضربتُ ولا أحداً من الناس)، كان فاسداً على ما مضى في الفاعل.

ومما ينبغي أن تَعلمه، أنه يَصحُّ لك أن تقول: (ما ضربت زيداً ولكني أكْرمتُه)، فُتعْقِبَ الفعلَ المنفيَّ بإثباتِ فعلٍ هو ضدُّه. ولا يصحُّ أن تقول: (ما زيداً ضربتُ ولكني أكرمتُه)؛ وذاك أنكَ لم تُرِد أن تقولَ: لم يكن الفعلُ هذا ولكنْ ذاك. ولكنك أردتَ أنه لم يكن المفعولُ هذا ولكنْ ذاك؛ فالواجب إذن أن تقول: (ما زيداً ضربتُ ولكن عمراً). وحكْمُ الجارِّ مع المجرور في جميع ما ذكرنا، حكْم المنصوبِ. فإذا قلتَ: (ما أمَرْتُك بهذا)، كان المعنى على نفْيِ أن تكونَ قد أمرتَه بذلك، ولم يَجبْ أن تكونَ قد أمرتَه بذلك، ولم يَجبْ أن تكونَ قد أمرتَه بشيءٍ آخر، وإذا قلتَ: (ما بهذا أمرْتُك)، كنتَ قد أمرْتَهُ بشيءٍ غيرهِ. واعلمْ أَن هذا الذي بان لك في الاستفهام، والنفي من المعنى، في التقديم، قائمٌ مثْلُه في الخبر المُثْبَت. فإذا عمدْتَ إلى الذي أردتَ أن تُحدِّثَ عنه بفعلٍ، فقدَّمْتَ ذِكرَه، ثم بنيتَ الفعلَ عليه، فقلت: (زيدٌ قد فَعل، وأنا فعلتُ، وأنتَ فعلْتَ)، اقتضى ذلك أن يكون القصدُ إلى الفاعل؛ إلاَّ أنَّ المعنى في هذا القصد ينقسم قسمين: أَحدُهما جليٌّ لا يُشْكِلُ، وهو أن يكون الفعلُ فِعْلاً قد أردتَ أن تَنُصَّ فيه على واحدٍ، فتجعلَه له وتزعم أنه فاعلُه دون واحدٍ آخرَ أو دون كلِّ أحدٍ. ومثال ذلك أن تقولَ: (أنا كتبتُ في معنى فلانٍ، وأنا شفعتُ في بابه)، تُريد أن تَدَّعِيَ الانفرادَ بذلك، والاستبدادَ به، وتُزيلَ الاشتباهَ فيه وتردَّ على من زَعم أنَّ ذلك كان مِنْ غيرك، أو أَنَّ غيرَكَ قد كتَب فيه كما كتبتَ. ومن البيِّن في ذلك قولُهم في المثَل: "أَتُعْلِمُنِي بِضَبٍّ أنا حَرَشتُهُ؟ "

والقسم الثاني أن لا يكون القصْدُ إلى الفاعل، على هذا المعنى، ولكن على أنك أردتَ أن تُحقِّق على السامع أَنه قد فعَلَ، وتمنَعَه من الشك؛ فأنتَ لذلك تبدأ بذِكْره، وتَوَقُّعِه أوّلاً، ومِنْ قَبْلِ أن تَذكر الفعلَ في نفسه، لكي تُباعِدَه بذلك من الشهبة وتَمْنعَه من الإنكار، أَوْ مِنْ أن يُظَنَّ بك الغَلطُ أو التزيُّدُ. ومثالُه قولُك: (هو يُعطي الجزيلَ وهو يُحبُّ الثناء) لا تُريد أن تَزعم أنه ليس هاهنا مَنْ يُعطي الجزيلَ ويُحِبُّ الثناءَ غيرَهُ، ولا أن تُعرِّض بإنسانٍ وتحطَّه عنه، وتجعلَه لا يعطي كما يُعْطي ولا يَرْغَبُ كما يَرغب، ولكنكَ تريد أن تُحقِّق على السامع، أنَّ إعطاءَ الجزيل وحُبَّ الثناءِ دأْبُهُ، وأن تُمكِّن ذلك في نفسه. ومثالُه في الشعر [من الطويل]: همُ يفْرِشُونَ اللِّبدَ كلَّ طمِرَّةٍ ... وأَجْردَ سَبَّاحٍ يَبُذُّ المُغَالِبَا لم يُرِدْ أنْ يدَّعي لهم هذه الصفةَ، دَعْوى مَنْ يُفرِدُهم بها ويَنصُّ عليهم فيها، حتى كأنهُ يَعرِّضُ بقومٍ آخرين، فينْفي أن يكونوا أصحابَها. هذا مُحال! وإنما أراد أن يصِفَهم بأنهم فرسانٌ يَمتهِدون صَهَواتِ الخيلِ، وأنهم يَقْتعدون الجِيادَ منها وأنَّ ذلك دأبُهُم، من غير أن يَعْرض لِنفْيه عن غَيرهم؛ إلاَّ أنه بدأَ بذكرهم لِيُنبِّه السامعَ لهم، ويُعْلِمَ بَدِيّاً قصْدَه إليهم، بما في نَفْسه من الصفة، ليمنعه بذلك من الشك، ومِنْ توهُّم أن يكون قد وصفَهم بصفةٍ ليستْ هي لهم، أو أن يكون قد أراد غيرَهم فغَلِط إليهم. التقديم والتأخير - الخبر وعلى ذلك قول الآخر [من الطويل]: هُمُ يضْربون الكَبْشَ بَبْرُق بَيْضُه ... على وَجْهِهِ من الدِّماءِ سَبَائِبُ لم يُرد أن يدَّعيَ لهم الانفرادَ ويَجْعلَ هذا الضربَ لا يكونُ إلاَّ منهم، ولكنْ أراد الذي ذكرتُ لك، مِنْ تنبيه السامع لِقَصْدهم بالحديث، من قَبْل ذِكْر الحديث، ليُحقِّق الأَمرَ ويؤكِّدَه. ومن البَيِّنِ فيه قولُ عروةَ بنِ أُذَينَةَ [من مجزوء الوافر]: سُليْمَى أَزمَعَتْ بَيْنا ... فأينَ تقُولُها أَينا

وذلك أنه ظاهرٌ معلومٌ أَنه لم يُرد أن يجعلَ هذا الإزْماعَ لها خاصة، ويجعلَها من جماعةٍ لم يُزْمِع البينَ منهم أحدٌ سواها، هذا محال. ولكنه أراد أن يُحقِّق الأمرَ ويؤكدَه فأَوقَعَ ذِكرَها في سمع الذي كلّم ابتداءً ومِن أَول الأمر، ليعلَم قَبْل هذا الحديث أنه أرادها بالحديث، فيكون ذلك أبعدَ له من الشك. ومثلهُ في الوضوح قولُه [من الطويل]: هُمَا يلْبسان المجْدَ أَحْسَن لِبْسةٍ ... شَحيحانِ ما اسْطاعا عليهِ كلاهُما لا شُبْهة في أنه لم يُرد أن يَقْصُر هذه الصفةَ عليهما، ولكن نَبَّه لهما قبْلَ الحديثِ عنهما. وأَبْيَنُ من الجميع قولُه تعالى: {واتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الفرقان: 3] وقوله عز وجل: {وَإِذَا جَآءُوكُمْ قالوا آمَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ} [المائدة: 61]. وهذا الذي قد ذكرتُ من أنَّ تقديمَ ذكرِ المحدِّث عنه، يفيد التنبيهَ له، قد ذكَرَه صاحبُ "الكتاب" في المفعول، إذا قُدِّم فرُفِع بالابتداء وبُنيَ الفعلُ الناصبُ، كان له عليه، وعُدِّيَ إلى ضميره فشُغِلَ به، كقولنا في "ضربتُ عبدَ الله": (عبدُ الله، ضَرَبتُه)، فقال: وإنما قلتُ (عبدُ الله) فنبَّهْتُه له، ثم بَنيتُ عليه الفعلَ ورفعْتُه بالابتداء. فإن قلتَ: فمِن أينَ وجَبَ أن يكون تقديمُ ذِكْر المحدِّثِ عنه بالفعل، آكَدَ، لإثبات ذلك الفعلِ له، وأن يكون قولُه "هما يلبسان المجْدَ" أبلغَ في جعلهما يلبسانه، من أين يقال: يلبسان المجد؟ فإنِّ ذلك من أَجْل أنه لا يُؤتى بالاسم مُعَرَّى من العوامل، إلاَّ لحديثٍ قد نُويَ إسنادُه إليه. وإذا كان كذلك، فإذا قلتَ "عبد الله"، فقد أشعرْتَ قلْبَه بذلك أنك قد أردتَ الحديثَ عنه. فإذا جئتَ بالحديث، فقلت مثلاً: قام، أو قلتَ: خرجَ، أو قلتَ: قَدِمَ، فقد عُلم ما جئتَ به، وقد وطَّأْتَ له وقدَّمتَ الإعلام فيه، فدخلَ على القلب دُخولَ المأنوسِ به، وقَبِله قَبولَ المتهيِّئ له المطمئنِ إليه؛ وذلك لا محالةَ، أَشدُّ لِثبُوته وأَنفْى للشبهة، وأَمنعُ للشك، وأَدْخَلُ في التحقيق.

تقديم ذكر المحدَّث عنه بالفعل يفيد تأكيد الخبر وجملةُ الأمر أنه ليس إعلامُك الشيءَ بغتةً، مثْلَ إعلامك له بعْدَ التنبيهِ عليه والتقدمةِ له، لأن ذلك يَجْري مَجْرى تكريرِ الإعلام، في التأكيد الإحكام. ومِنْ هاهنا قالوا: إن الشيء إذا أُضْمِر ثم فُسِّر، كان ذلك أفخمَ له مِنْ أن يُذكَر، مِنْ غَير تقدُّم إضمار. ويَدلُّ على صحة ما قالوه، أنَّا نعلم ضرورةً في قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار} [الحج: 46] فخامةً وشرفاً وروعةً، لا نَجد منها شيئاً في قولنا: (فإن الأبصارَ لا تَعْمى). وكذلك السبيلُ أبداً في كل كلام كان فيه ضميرُ قصة. فقوله تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون} [المؤمنون: 117] يُفيد من القوةً في نفي الفلاح عن الكافرين، ما لو قيل: (إنَّ الكافرين لا يفلحون)، لم يُفِدْ ذلك. ولم يكن ذلك كذلك إلاَّ لأنك تُعلمه إياه مِنْ بعد تقدمةٍ وتنبيهٍ أنتَ به في حكْم مَنْ بدأَ وأعادَ ووطَّد، ثم بيَّنَ ولوَّح ثم صرَّح. ولا يَخفى مكانُ المزيةِ فيما طَريقُه هذا الطريقُ.

ويَشْهد لما قلنا، مِنْ أنَّ تقديمَ المحدَّثِ عنه يَقْتضي تأكيدَ الخبر وتحقيقَه له، أنَّا إذا تأَملْنا وجَدْنا هذا الضَّرْبَ من الكلام، يجيءُ فيما سبقَ فيه إنكارٌ من مُنْكِرٍ، نحو أنْ يقول الرجلُ: (ليس لي علمٌ بالذي تقول). فتقولُ له: (أنتَ تَعْلم أنَّ الأمرَ على ما أَقولُ ولكنك تَميل إلى خصمي). وكقول الناس: هو يَعلمُ ذاك وإنْ أَنْكَرَ، وهو يَعلمُ الكَذِبَ فيما قالَ، وإن حلفَ عليه. وكقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 75]. فهذا من أَبْيَنِ شيءٍ؛ وذاكَ أنَّ الكاذبَ لا سيَّما في الدِّين، لا يَعْترف بأنه كاذبٌ، وإذا لم يعترفْ بأنه كاذبٌ، كان أبْعَدَ مِن ذلك أنْ يعترِفَ بالعِلْم بأنه كاذبٌ. أوْ يَجيء فيما اعترضَ فيه شكٌّ، نحو أَنْ يقول الرجلُ: (كأنَّك لا تعلم ما صَنعَ فلانٌ ولم يُبْلِغْك): فيقول: (أنا أعلمُ ولكني أُداريه). أوْ في تكذيبِ مُدَّعٍ، كقوله عزَّ وجلَّ: {وَإِذَا جَآءُوكُمْ قالوا آمَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ} [المائدة: 61]. وذلك أنَّ قولَهم "آمنَّا": دعْوى منهم أَنَّهم لم يَخْرجوا بالكُفْر كما دخلوا به؛ فالمَوضعُ موضعُ تكذيب. أو فيما القياسُ في مِثْله أنْ لا يكونَ، كقوله تعالى: {واتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الفرقان: 3] وذلك أنَّ عبادتَهم لها، تَقْتضي أنْ لا تكون مَخْلوقةً، وذلك في كل شيءٍ كان خبَراً على خلاف العادة، وعما يُسْتَغرب من الأمر، نحو أن نقول: (ألا تَعْجَبُ من فلان يَدَّعي العظيمَ، وهو يَعْيى باليسير، ويَزْعمُ أنه شُجاعٌ، وهو يَفْزَع من أدنى شيء؟). إفادة تقديم المسند إليه التأكيد والقوة

ومما يَحْسنُ ذلك فيه ويَكْثُر: الوعدُ والضمانُ، كقول الرجل: (أنا أُعطيك، أنا أَكفيك، أنا أَقومُ بهذا الأمر). وذلك أنَّ مِن شأنِ مَنْ تَعِدُهُ وتَضْمَنُ له أن يَعْترضَه الشكُّ: في تمام الوعدِ وفي الوفاء به. فهو مِنْ أَحْوج شيءٍ إلى التأكيد. وكذلك يَكْثُر في المدح، كقولك: (أنت تُعطي الجزيلَ، أنتَ تَقْري في المَحْلِ، أنتَ تَجودُ حين لا يَجودُ أَحدٌ). وكما قال [من الكامل]: ولأَنْتَ تَفْري ما خلَقْتَ وبَعْـ ... ـضُ القَومِ يَخْلُقُ ثُمَّ لا يفْري وكقول الآخر: نحْنُ في المَشتاة تَدْعو الجفَلى

وذلك أنَّ مِن شأنِ المادِح، أنْ يَمْنعَ السامعين من الشك فيما يَمدح به يُباعِدُهم مِن الشُّبهة، وكذلك المفتخِرُ: ويَزيدُكَ بَياناً أَنه، إذا كان الفعلُ مما لا شَكٌّ فيه ولا يُنْكَر بحالٍ، لم يَكَدْ يجيءُ على هذا الوجه، ولكنْ يُؤتى به غيرَ مبنيٍّ على اسمٍ. فإذا أَخبرْتَ بالخروج مثلاً، عن رَجلٍ من عادته أَنْ يَخْرج في كل غداة قلتَ: (قد خرجَ). ولم تَحتَجْ إلى أن تقول: هو قد خرَجَ، ذاك لأنه ليس بشيء يَشُكُّ فيه السامعُ فتحتاجُ أن تُحقِّقه، وإلى أن تُقدِّم فيه ذكْرَ المحدَّثِ عنه. وكذلك إذا علمَ السامعُ من حالِ رجلٍ، أنه على نيَّة الركوبِ والمضيِّ إلى موضع، ولم يكن شَكٌّ وتردُّدٌ أنه يَرْكَب أو لا يَركَبُ، كان خَبَّركَ فيه أن تقول: (قد رَكِبَ). ولا تقول: هو قد ركبَ. فإن جئتَ بمثل هذا في صلة كلامٍ ووضعْتَه بَعْدَ (واو الحال) حسُنَ حينئذٍ. وذلك قولُك: (جئتُه وهو قد ركبَ). وذاك أنَّ الحكْم يتغيرُ إذا صارتِ الجملةُ في مثْل هذا المَوْضع، ويصيرُ الأمرُ بمعرضِ الشكِّ، وذاك أنه إنما يَقولُ هذا، مَنْ ظَنَّ أنه يصادِفُه في منزله، وأن يَصل إليه مِنْ قَبْل أنْ يَرْكَب. فإن قُلْتَ، فإنكَ قد تقولُ: (جئتُه وقد رَكبَ)، بهذا المعنى ومع هذا الشكِّ، فإنَّ الشكَّ لا يَقْوى حينئذٍ قوَّتَه في الوجه الأول. أَفلا تَرى أَنكَ إذا استبطأْتَ إنساناً فقلْتَ: (أتانا والشمسُ قد طلعَتْ)، كان ذلك أبلغَ، في استبطائكَ له، من أن تقول: (أتانا وقد طلعتِ الشمسُ). وعكسُ هذا أَنكَ إذا قلتَ: (أتَى والشمسُ لم تَطْلعْ). كان أقوى، في وصفك له بالعَجَلة والمَجيء، قَبْل الوقتِ الذي ظُنَّ أنه يَجيءُ فيه، من أن تقول: (أَتى ولم تَطْلع الشمسُ بعدُ). هذا وهو كلامٌ لا يكاد يَجيءُ إلاَّ نابياً؛ وإنما الكلامُ البليغُ هو أن تبدأ بالاسم وتَبْنيَ الفعلَ عليه، كقوله: قد أعْتدي والطيرُ لم تَكَلَّمِ فإذا كان الفعلُ، فيما بعْدَ هذهِ "الواوِ" التي يُراد بها الحالُ مضارِعاً، لم يَصْلحُ إلا مبنياً على اسم، كقولك: (رأيتُه وهو يكْتُبُ)، و (دخلْتُ عليه وهو يُمْلي الحديثَ)، وكقوله [من الطويل]:

تمزّزْتُهَا والديكْ يدعو صَبَاحَهُ ... إذا ما بَنُو نَعْشٍ دَنَوْا تصَوَّبوا ليس يَصلحُ شيء من ذلك إلاَّ على ما تَراه، لو قلتَ: (رأيتُه ويكتب، ودخلتُ عليه ويُملي الحديث، وتمزَّزْتها ويدْعو الديكُ صباحه)، لم يكن شيئاً. ومما هو بهذه المنزلة في أنك تَجِدُ المعنى لا يستقيم، إلاَّ على ما جاء عليه من بناء الفعلِ على الاسم، قولُه تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ الله الذي نَزَّلَ الكتاب وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين} [الأعراف: 196] وقولُه تعالى: {وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان: 5] وقولُه تعالى: {وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجن والإنس والطير فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل: 17]. فإنه لا يَخْفى على مَنْ له ذوقٌ، أَنه لو جيءَ في ذلك بالفعل غيْرَ مَبْنيِّ على الاسم، فقيل: (إن وَلِيِّيَ اللهُ الذي نزَّلَ الكتابَ ويَتَولَّى الصالحينَ، واكْتَتَبها فتُمْلى عليه وحشَر لسليمانَ جُنودَه من الجنِّ والإنسِ والطيرِ فَيُوزعونَ)، لوَجِدَ اللفظُ قد نَبَا عن المعنى، والمعنى قد زالَ عن صورته والحال التي ينبغي أن يكون عليها. واعلمْ أَنَّ هذا الصنيعَ يقتضي في الفعل المنفيِّ، ما اقتضاهُ في المُثْبَت. فإذا قلت: أنتَ لا تُحْسِن هذا: كان أشَدَّ لنَفْي إحسانِ ذلك عنه، من أن تقول: لا تُحْسِنُ هذا: ويكونُ الكلامُ في الأول مع مَن هو أَشدُّ إعجاباً بنفسه وأَعرَضُ دَعْوى في أنه يُحْسنُ، حتى إنك لو أتيتَ بـ "أنْتَ" فيما بعد "تُحسِن" فقلتَ: (لا تُحسِنُ أنتَ)، لم يكن له تلك القوة. وكذلك قولُه تعالى: {والذين هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ} [المؤمنون: 59]، يُفيدُ من التأكيد من نَفْي الإشراك عنهم، ما لو قيل: (والذين لا يُشْركون بربهم أو بربهم لا يشركون)، لم يُفِدْ ذلك. وكذا قولُه تعالى: {لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ} [يس: 7]. وقولُه تعالى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنبآء يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ} [القصص: 66] و {إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنفال: 55].

نكتة تقديم "مثل" و "غير" مسند إليهما ومما يُرى تقديمُ الاسم فيه كاللازم (مثْل) و (غيْر) في نَحْوِ قَولِهِ [من السريع]: مِثْلُكَ يَثْني الْمُزْنَ عن صَوْبِه ... ويَسْتَرِدُّ الدَّمعَ عَنْ غَرْبِهِ وقول الناس: (مِثْلُكَ رَعى الحقَّ والحُرْمَةَ. وكقول الذي قال له الحَجَّاجُ: (لأَحْمِلَنَّكَ على الأَدْهمِ). يريد القَيْد، فقال على سبيل المغالَطةِ: (ومِثْلُ الأميرِ يَحْمِلُ على الأَدهم والأشْهب)، وما أشبه ذلك، مما لا يُقْصَدُ فيه بـ "مثْل" إلى إنسانٍ سِوَى الذي أُضيفَ إليه، ولكنهم يَعْنون أَنَّ كلَّ مَنْ كان مِثْلَه في الحال والصفةِ، كان مِن مُقْتَضى القياس ومُوجِب العُرْفِ والعادة؛ أنْ يَفْعلَ ما ذكر أوْ أن لا يفعلَ. ومن أجْل أَنَّ المعنى كذلك، قال [من السريع]: ولم أَقُلْ "مثْلُكَ" أَعني به ... سِوَاك يا فرداً بلا مُشْبِهِ وكذلك حكم (غَيْر) إذا سُلِكَ به هذا المسْلَكَ فقيل: (غَيْري يفعل ذاك)، على معنى أني لا أفعلُه، لا أن يومئَ "بغير" إلى إنسانٍ فيُخبر عنه بأن يفعل، كما قال [من البسيط]: غيري بأَكْثَرِ هذا الناسِ يَنْخَدِعُ وذاك أنه معلومٌ أنه لم يُرد أن يُعرِّضَ بواحدٍ كان هناك، فيستنقصُه ويصفه بأنه مَضعوفٌ يُغَرُّ ويُخْدَع، بل لم يُردْ إلاَّ أن يقول: إني لَستُ ممن يَنْخَدِعُ وَيَغْتَرُّ. وكذلك لم يُرِد أبو تمام بقوله [من الوافر]: وغيري يَأكُلُ المعروف سُحْتاً ... وتَشْحُبُ عنده بِيضُ الأَيادي أَنْ يُعَرِّضَ مثلاً، بشاعرٍ سِواه، فَيزعُم أنَّ الذي قرِفَ به عند الممدوح، من أنه هجاه، كان من ذلك الشاعر لا منه، هذا محال؛ بل ليس إلاَّ أَنه نَفى عن نفسه أن يكونَ ممن يَكْفُر النعمةَ ويَلْؤمُ.

واستعمال "مثل" و "غير" على هذا السبيل، شيءٌ مركوزٌ في الطباع، وهو جارٍ في عادة كلِّ قوم؛ فأنتَ الآن إذا تصفَّحْتَ الكلامَ، وجدْتَ هذين الاسمين يُقدِّمان أبداً على الفعل، إذا نُحِيَ بهما هذا النحوُ الذي ذكرتُ لك، وترى هذا المعنى لا يَسْتقيم فيهما إذا لم يُقدَّما. أفلا تَرى أَنك لو قُلْتَ "يَثْني المزنَ عن صَوْبه مثلُك، ورعَى الحقَّ والحُرْمَة، مثْلُكَ، ويَحْمِلُ على الأدهم والأَشْهب مثْلُ الأميرِ، وينخدع غَيْري بأكثر هذا الناس، ويأكل غيري المعروف سُحْتاً"، رأيتَ كلاماً مقلوباً عن جهته، ومُغيَّراً عن صورته، ورأيتَ اللفظَ قد نَبَا عن معناه، ورأيتَ الطبْعَ يأبى أن يرضاه. التقديم والتأخير في الخبر والاستفهام سواء واعلمْ أنَّ معَكَ دستوراً لك فيه، إنْ تأمَّلْتَ غِنًى عن كلِّ ما سِواهُ؛ وهو أَنه لا يَجوز أن يكون لِنَظْم الكلام وتَرتيبِ أَجزائه في الاستفهام معنًى، لا يكونُ له ذلكَ المعنى في الخبر؛ وذاكَ أنَّ الاستفهامَ استخبارٌ، والاستخبارَ هوُ طَلبٌ من المُخاطَب أن يُخْبرك؛ فإذا كان كذلك، كان مُحالاً أن يَفْترِقَ الحالُ بين تقديمِ الاسمِ وتأخيره في الاستفهام. فيكونُ المعنى إذا قلتَ: (أزيد قام)، غيرَهُ إذا قلتَ: (أقام زيد؟) ثم لا يكون هذا الافتراقُ في الخَبر ويكونُ قولُك "زيدٌ قام" و "قامَ زيدٌ" سواءً؛ ذاكَ لأنه يؤدِّي إلى أَنْ تَسْتعلِمَهُ أمراً لا سبيل فيه إلى جوابٍ، وأن تَسْتَثْبِتَه المعنى على وجهٍ، ليس عنده عبارةٌ يُثْبِتُهُ لكَ بها على ذلك الوجه. وجملةُ الأَمر أنَّ المعنى في إدخالِكَ حرْفَ الاستفهام على الجملة من الكلام، هو أنك تَطْلُبُ أن يَقِفَكَ في معنى تلك الجملة ومؤداها على إثباتِ أو نَفْي. فإذا قلت: (أزيد منطلق)؟ فأنتَ تطلب أن يقول لك: (نَعمْ هو مُنطلِقٌ). أو يقول: (لا ما هو مُنْطَلِقٌ). وإذا كان ذلك كذلك، كان محالاً أن تكون الجملة إذا دخلَتْها همزةُ الاستفهام استخباراً عن المعنى، على وجهٍ لا تكون هي، إذا نُزِعَتْ منها الهمزةُ إخباراً به على ذلك الوجه، فاعرفْه!.

فصل: تقديم النكرة على الفعل وعكسه

فصل: تقديم النكرة على الفعل وعكسه هذا كلام في النَّكِرة، إذا قُدِّمتْ على الفعل أو قُدِّم الفعلُ عليها. إذا قلتَ: (أجاءك رجل؟) فأنتَ تُريد أن تَسأَله: هل كان مجيٌ مِنْ أَحدٍ من الرجالِ إليه؟ فإنْ قدّمتَ الاسمَ، فقلتَ: (أرجلٌ جاءك؟) فأنتَ تسألُه عن جنسِ مَنْ جاءه: أرجلٌ هو أم امرأةٌ؟ ويكون هذا منكَ إذا كنتَ عَلمتَ أنه قد أتاه آتٍ، ولكنَّكَ لم تعلمْ جنْسَ ذلك الآتي. فسَبيلُكَ في ذلك: سَبيلُك إذا أردتَ أن تَعْرفَ عينَ الآتي، فقلتَ: أزيدٌ جاءك أم عمرو؟ ولا يجوز تقديمُ الاسم فِي المسألة الأولى، لأنَّ تقديمَ الاسمِ يكون إذا كان السؤال عن الفاعل، والسؤالُ عن الفاعل يكونُ: إمَّا عن عَيْنه أو عَن جِنْسه ولا ثالثَ؛ وإذا كان كذلك، كان مُحالاً أن تُقَدِّم الاسمَ النكرةَ وأنتَ لا تُريد السؤالَ عن الجنس، لأنه لا يكونُ لسؤالك حينئذٍ مُتَعلَّقٌ من حيثُ لا يَبقى بَعْد الجنسِ إلا العَيْنُ. والنكرةُ لا تدلُّ على عين شيءٍ فيُسْأَل بها عنه. فإنْ قلتَ: (أَرجلٌ طويلٌ جاءك أم قصيرٌ)؟ كان السؤالُ عن أن الجائي مِنْ جنس طِوالِ الرجالِ أم قِصارِهم؟ فإن وصفْتَ النكرةَ بالجملة، فقلتَ: (أرجلٌ كنتَ عرفتَه من قَبْلُ، أعطاك هذا، أم رجلٌ لم تَعرفْه)؟ كان السؤال عن المُعْطي: أكان ممن عرَفَه قبلُ، أم كان إنساناً لم تتقدَّمْ منه معرفةٌ.

وإذْ قد عرفتَ الحكْم في الابتداء بالنكرة في الاستفهام، فابْنِ الخَبرَ عليه. فإذا قلتَ: (رجلٌ جاءني)، لم يَصْلُح حتى تُريدَ أن تُعلِمَه أنَّ الذي جاءك: رجلٌ لا امرأة؛ ويكونُ كلامُكَ مع مَنْ عَرَف أنْ قد أتاكَ آتٍ. فإن لم تُرد ذاك، كان الواجبُ أن تقول: (جاءَني رجلٌ) فَتقَدِّمَ الفعلَ. وكذلك إن قلتَ: (رجلٌ طويلٌ جاءَني)، لم يستقم حتى يكونَ السامعُ قد ظَنَّ أنه قد أتاك قَصيرٌ، أن نزَّلْتَه منزلةَ منَ ظَنَّ ذلك. وقولُهم: (شرٌّ أهرَّ ذا نابٍ)، إنما قُدِّمَ فيه (شرٌّ) لأن المراد أن يُعلم أنَّ الذي أَهرَّ ذا النابِ، هو مِن جنس الشرِّ لا جنس الخير، فجَرى مَجرْى أن يقول: (رجل جاءَني) تُريد أن رجلٌ لا امرأة. وقولُ العلماءِ إنه إنما يَصْلُح، لأنه معنى "ما أهَرَّ ذا ناب إلا شرٌّ"، بَيانٌ لذلك. ألا تَرى أنك لا تَقول: (ما أتاني إلا رجل) إلا حيثُ يَتَوهَّمُ السامعُ أَن قد أتتْكَ امرأةٌ. ذاك لأن الخَبر بنَقْض النفي، يكونُ حيث يُراد أن يُقْصَر الفعلُ على شيءٍ ويُنْفى عمَّا عدَاهُ. فإذا قلتَ: (ما جاءني إلاَّ زيد) كان المعنى أنكَ قد قَصَرْتَ المجيءَ على زيدٍ، ونفَيْتَه عن كُلِّ مَنْ عَدَاهُ وإنما يُتَصَّورُ قَصْرُ الفعلِ على معلومِ. ومتى لم يُرَدْ بالنكرةِ الجنسُ، لم يَقفْ منها السامعُ على معلومٍ حتى يزعم أَنِّي أقصُر له الفعل عليه، وأُخبِرُه أنه كان منه دونَ غيرهِ.

واعلمْ أنَّا لم نُرد بما قلناه. مِن أَنه إنما حسُنَ الابتداءُ بالنكرةِ في قولهم "شرٌّ أهرَّ ذا ناب"، لأنه أُريدَ به الجنسُ أنَّ معنى "شرٌّ" و "الشرُّ" سواءٌ، وإنما أردنا أَنَّ الغرض من الكلام، أن نُبيِّنَ أنَّ الذي أَهرَّ ذا النابِ هو مِن جنسِ الشرِّ لا جنسِ الخير؛ كما أنَّا إذا قلنا في قولهم: (أرجل أتاك أم امرأة)، إنَّ السؤالَ عن الجنس، لم نُرد بذلك أنه بمنزلةِ أنْ يقال: (الرجلُ أم المرأةُ أتاك)، ولكنَّا نعني أنَّ المعنى عَلَى أنك سألْتَ عن الآتي: أهو مِنْ جنس الرجال أم جنس النساء؟ فالنكرةُ إذنْ على أصلها مِنْ كَونها لواحدٍ من الجنسِ، إلاَّ أنَّ القصْدَ منكَ لم يقعْ إلى كونه واحداً، وإنما وقعَ إلى كونه من جنسِ الرجالِ. وعكْسُ هذا أنك إذا قلتَ: (أرَجلُ أتاك أم رجلان)، كان القصدُ منك إلى كونه واحداً، دونَ كونه رجلاً؛ فاعرِفْ ذلك أصْلاً: وهو أنه قد يكونُ في اللفظ دليلٌ على أمرين، ثم يَقعُ القصْدُ إلى أَحدِهما دُون الآخرِ، فيصيرُ ذلك الآخَرُ بأنْ لم يَدْخلْ في القصد، كأنه لم يَدْخُل في دلالة اللفظ. وإذا اعتبرتَ ما قدَّمتُهُ من قول صاحب الكتاب: إنَّكَ قلتَ "عبدُ الله" فنبهْتَه له، ثم بَنيْتَ عليه الفعل، وجدْتَه يطابق هذا. وذاكَ أَنَّ التنبيه لا يكون إلاَّ على معلوم، كما أنَّ قَصْرَ الفعل لا يكونُ إلاَّ على معلوم. فإذا بدأتَ بالنكرة فقلتَ: رجلٌ، وأنت لا تقَصدُ بها الجنسَ، وأن تُعْلم السامعَ أنَّ الذي أردتَ بالحديث: رَجلٌ، لا امرأة، كان مُحالاً أن تقول: إني قدَّمتُه لأُنَبِّهَ المخاطَبَ له: لأنه يَخرجُ بك إلى أن تقول: إني أردتُ أن أُنبه السامع لِشيءٍ لا يَعْلمه في جملةٍ ولا تفصيلٍ: وذلك ما لا يُشَكُّ في استحالته، فاعرفْه!

باب الحذف ونكته

باب الحذف ونكته فصل: القول في الحذف - المبتدأ هو باب دقيقُ المَسْلك، لطيفُ المأخذ، عجيبُ الأَمر، شبيهٌ بالسِّحْر؛ فإنكَ ترى به تَرْكَ الذكر، أَفْصَحَ من الذكْرِ، والصمتَ عن الإفادةِ، أَزْيَدَ للإفادة؛ وتَجدُكَ أَنْطَقَ ما تكونُ إذا لم تَنْطِقْ، وأَتمَّ ما تكونُ بياناً إذا لم تُبِنْ؛ وهذه جملةٌ قد تُنْكِرُها حتى تَخْبُرَ، وتَدْفعهُا حتى تَنْظُرَ. وأنا أَكتبُ لك بَديئاً أمثلةً مما عَرَضَ فيه الحذفُ، ثم أُنبهُكَ على صحة ما أشرتُ إليه، وأُقيمُ الحجَّةَ من ذلك عليه، صاحب الكتاب [من البسيط]: اعتاد قلبَكَ مِنْ لَيلى عَوائدُه ... وهاجَ أهواءَكَ المكنونةَ الطَّللُ رَبْعٌ قَواءٌ أذاعَ المُعْصِراتُ به ... وكلُّ حيرانَ سارٍ ماؤهُ خَضِلُ قال: أراد: ذاكَ رَبْعُ قَواء، أو هو رَبْعٌ: قال، ومثْلُه قولُ الآخر [من البسيط]: هل تَعرفُ اليومَ رسْمَ الدارِ والطَّلَلا ... كما عرَفْتَ بجَفْن الصَّنيقَلِ الخِلَلاِ دارٌ لِمَرْوةَ إذْ أهلي وأَهلُهُمُ ... بالكانسيةِ نرْعى اللَّهْو والغَزَلا كأنه قال: تلك دارٌ: قال شيخُنا رحمه الله: ولم يَحمل البيتُ الأولُ على أنَّ (الربع) بَدَلٌ من (الطلل) لأنَّ الرَّبْع أكثرُ من الطلل؛ والشيء يُبدَلُ مما هو مِثلُه أو أكثرُ منه، فأما الشيء مِنْ أَقلَّ منه، ففاسدٌ لا يُتَصور. وهذه طريقةٌ مستمرة لهم، إذا ذكَروا الديارَ والمنازل. وكما يُضْمِرون المبتدأَ فيرفعون، فقد يُضْمرون الفِعْل، فيَنْصبونَ، كبيت الكتاب أيضاً [من البسيط]: ديارَ ميَّة إذْ ميٌّ تُسَاعِفُنَا ... ولا يَرى مثْلَها عُجْمٌ ولا عَرَبُ أَنْشَدهُ بنَصْبِ "ديار" على إضمار فعل، كأنه قال: أذكرُ ديارَ مية. ومن المواضع التي يَطَّردُ فيه حذفُ المبتدإ: القطعُ والاستئنافُ؛ يبدأون بذكْرِ الرَّجل ويُقدِّمون بعضَ أَمْره، ثم يدَعون الكلامَ الأولَ ويَستأنفون كلاماً آخر. وإذا فعَلوا ذلك أتوْا في أكثر الأمر، بخبَرٍ من غَير مبتدإ. مثال ذلك قوله [من مجزوء الكامل]: وعلمتُ أني يوم ذا ... كَ مُنازلٌ كعباً ونهدا قَومٌ إذا لبسوا الحديـ ... ـدَ تَنمَّرُوا حَلَقاً وقِدَّا وقوله من [الوافر]: همُ حَلُّوا من الشَّرفِ المُعَلَّى ... ومِنْ حَسَب العَشيرةِ حيث شاؤوا

بُناةُ مكارمٍ وأُسَاةُ كلْمٍ ... دماؤهُمُ من الكَلَبِ الشِّفاءُ وقوله [من الطويل]: رآني على ما بي عُمَيْلةُ فاشْتكى ... إلى مالِهِ حالي أسرَّ كما جَهَرْ غلامٌ رماه اللهُ بالخير مُقْبِلاً ... لهُ سيمياءٌ لا تَشُقُّ على البَصَرْ وقوله [من الطويل]: إذا ذُكِرَ ابْنا العَنْبريَّةِ لم تَضِقْ ... ذراعي وألقَى باسْتهِ مَنْ أُفاخِرُ هلالان حمّالانِ في كلِّ شَتْوةٍ ... من الثِّقْلِ ما لا تَسْتطيعُ الأباعِرُ حمالان: خبر ثان وليس بصفة كما يكون لو قلت مثلاً: رجلان حمالان: ومما اعتيد فيه أن يجيء خبراً قد بُني على مبتدأ محذوف، قولُهم بعد أن يذكروا الرجل: فتى من صفته كذا، وأغرُّ من صفته كيت وكيت كقوله [من الطويل]: ألا لا فتىً بعْدَ ابنِ ناشرةَ الفتى ... ولا عرْف إلا قد تولّى وأدبرا فتى حنظليٌّ ما تزال ركابُه ... تجودُ بمعروفٍ وتُنْكِرُ منْكَرا وقوله [من الطويل]: سأَشْكُرُ عَمْراً إنْ تراخَتْ منيَّتي ... أياديَ لم تُمْنَنْ وإنْ هي جلَّتِ فتىً غيرُ محجوبِ الغِنى عن صديقِهِ ... ولا مُظْهِرُ الشكوى إذا النعل زَلَّتِ ومن ذلك قولُ جميل [من البسيط]: وهل بثينةُ ياللناس قاضِيَتي ... دَيْني وفاعِلةٌ خَيْراً فأَجزِيها تَرْنُو بعينيْ مهاةٍ أَقْصَدتْ بهما ... قلْبي عشيةَ تَرْميني وأَرْميها هيفاءُ مُقْبِلةً عجزاءُ مُدِبرةً ... رَيَّ العظامِ بِلينِ العَيْش غاذيها وقوله [من الكامل]: إني، عشيةَ رحْتُ وهي حزينةٌ ... تشكو إليَّ صبابةً، لَصَبُورُ وتقولُ بتْ عندي - فديتُكَ - ليلةً ... أَشْكو إليكَ فإنَّ ذاكَ يسيرُ غرَّاءُ مبْسَامٌ كأنَّ حديثَها ... دُرٍّ تحدَّرَ نَظْمهُ مَنْثُورُ محطوطَةُ المتْنينِ مُضْمَرةُ الحَشا ... ريَّ الرَّوادِفِ خَلْقُها ممكُورُ وقول الأُقيْشر في ابْنِ عَمِّ له موسرٍ، سألَهُ فمنعَه وقال: (كم أعطيكَ مالي وأَنت تُنْفقه فيما لا يَعْنيك واللهِ لا أُعْطِيكَ!) فتركَه حتى اجتمعَ القومُ في ناديهم وهو فيهم، فشَكاهُ إلى القوم وذمَّه، فوثب إليه ابنُ عمه، فلَطَمَه. فأنشأ يقول [من الطويل]: سَريعٌ إلى ابْنِ العَمِّ يلْطِمُ وَجهَهُ ... وليسَ إلى داعي النَّدى بِسَريعِ

حَريصٌ على الدنيا مُضِيعٌ لدِينِهِ ... وليس لِمَا في بيته بمُضِيعِ فتأمَّل الآنَ هذه الأبياتَ كلها، واسْتَقْرِها واحداً واحداً، وانظرْ إلى موقعها في نفسك، وإلى ما تَجدُه من اللطفِ والظَّرْفِ، إذا أنتَ مررْتَ بموضع الحَذْفِ منها، ثم قلَبْتَ النفسَ عما تَجدُ وأَلْطفْتَ النظَرَ فيما تُحِسُّ به. ثُمَّ تَكلَّفْ أَن تَرُدَّ ما حذَفَ الشاعرُ، وأن تُخرجَه إلى لفظك، وتُوقِعَه في سمعكَ، فإنك تَعلمُ أنَّ الذي قلتُ كما قلتُ، وأنْ رُبَّ حَذْفٍ هو قِلادَةُ الجِيد، وقاعدةُ التجويد؛ وإنْ أردتَ ما هو أَصْدقُ في ذلك شهادةً، وأدلُّ دلالةً، فانظرْ إلى قول عبد الله بن الزبير يذكُر غريماً له قد أَلَحَّ عليه [من الطويل]: عرَضْتُ على زيدٍ ليأخذَ بعضَ ما ... يُحاوِلُه قَبْلَ اعتراضِ الشَّواغِلِ فدَبَّ دبيبَ البغْلِ يأْلَمُ ظَهْرُهُ ... وقال تَعلَّمْ أَنني غيرُ فاعلِ تثاءَبَ حتى قلْتُ: داسِعُ نفْسِه ... وأَخْرَجَ أنياباً له كالمَعَاوِلِ الأَصلُ: حتى قلتُ: هو داسِعُ نفْسِه) أي حسبْتُه من شدة التثاؤب، وممَّا به من الجهْدِ، يقذف نفْسَه من جوفه، ويُخرجُها من صدره، كما يدْسَعُ البعيرُ جِرَّته. ثم إنك تَرى نصْبةَ الكلام وهيئتَه، تَرومُ منك أن تَنْسى هذا المبتدأ، أو تُباعِدَه عن وَهْمك، وتَجتهدُ أن لا يدورَ في خَلَدِكَ، ولا يَعْرِضَ لخاطرك؛ وتَراكَ كأنك تَتوقَّاه تَوقِّيَ الشيءِ يُكْرَهُ مكانُه، والثقيلِ يُخشَى هجُومُه. ومن لطيف الحَذْف، قولُ بكْر بن النَّطَّاح [من السريع]: العَينُ تُبْدي الحبَّ والبُغْضا ... وتُظْهِرُ الإبرامَ والنَّقْضا دُرَّةُ ما أَنصفْتِنِي في الهوى ... ولا رَحِمْتَ الجَسَدَ المُنْضَى غَضْبَى ولا واللهِ يا أَهلَها ... لا أَطْعمُ البارِدَ أو تَرْضى يقول في جاريةٍ كان يُحبُّها وسُعِيَ به إلى أهلها، فمنعوها منه. والمقصود قوله (غضبى)، وذلك أن التقدير "هي غضبى" أو "غضبى هي" لا محالة. إلاَّ أَنك ترى النفسَ كيف تتفادى من إظهار هذا المحذوفِ، وكيف تأنَسُ إلى إضماره، وتَرى الملاحةَ كيف تَذهبُ إن أنتَ رُمْتَ التكلم به.

ومن جيِّد الأمثلة في هذا الباب، قولُ الآخر يخاطبُ امرأتَه وقد لامَتْه على الجود [من الكامل]: قالت سُمَيَّةُ قد غَوَيْتَ بأنْ رأَتْ ... حقاً تناوَبَ ما لَنا ووُفودا غَيٌّ لعَمْرِكِ لا أزالُ أَعودُه ... ما دامَ مالٌ عندَنا موجودا المعنى "ذاك غيٌّ لا أزال أعودُ إليه فدَعي عنكِ لَوْمي". وإذْ قد عرفْتَ هذه الجملةَ من حالِ الحذْفِ في المبتدأ، فاعلمْ أنَّ ذلك سبيلُه في كل شيء؛ فما مِن اسْمٍ أو فعلٍ تَجدُه قد حُذِفَ، ثم أُصيبَ به موضعُه، وحُذِفَ في الحال ينبغي أن يُحذَفَ فيها، إلا وأنت تَجدُ حذْفَه هناك أَحْسَنَ من ذكره، وترى إضمارَهُ في النفس أَوْلى وآنسَ من النُّطْقِ به. القول في الحذف - المفعول به

وإذْ قد بدأْنا في الحذف، بذكر المبتدأ، وهو حذف اسم - إذْ لا يَكونُ المبتدأُ إلاَّ اسماً - فإنِّي أُتْبعُ ذلكَ ذكْرَ المفعولِ بهِ إذا حُذِفَ خُصوصاً؛ فإن الحاجة إليه أمسُّ، وهو بما نحنُ بصدده أَخصُّ، واللطائفُ كأنها فيه أَكثرُ، وما يَظْهر بسببه من الحُسْن والرونق أَعجبُ وأَظْهَرُ. وهاهنا أصْلٌ يَجبُ ضبطُه: وهو أَنَّ حالَ الفعلِ مع المفعولِ الذي يَتعدَّى إليه، حالُهُ مع الفاعل. وكما أَنك إذا قلتَ: (ضربَ زيدٌ)، فأَسندْتَ الفعل إلى الفاعل، كان غرَضُكَ من ذلك أن تُثْبتَ الضرْبَ فعْلاً له، لا أن تُفيدَ وجودَ الضرب في نفسه، وعلى الإطلاق. كذلك إذا عدَّيْتَ الفعلَ إلى المفعول، فقلتَ: (ضربَ زيدٌ عَمرا)، كان غرَضُكَ أن تُفيد التباسَ الضربِ الواقعِ من الأول بالثاني ووقوعَه عليه؛ فقد اجتمع الفاعلُ والمفعولُ، في أنَّ عمَلَ الفعلَ فيهما إنما كان مِنْ أَجْل أن يُعْلَم التباسُ المعنى الذي اشتُقَّ منه بهما. فعَمِلَ الرفعُ في الفاعل، ليُعلَم التباسُ الضربِ به من جهة وقوعه منه، والنصْبُ في المفعول، ليُعْلَم التباسُه به من جهة وقوعه عليه؛ ولم يكن ذلك ليُعلم وقوعُ الضربِ في نفسه؛ بل إذا أُريد الإخبارُ بوقوعِ الضرْبِ ووجودِه في الجملة، من غير أن يُنْسَب إلى فاعلٍ أو مفعولٍ، أو يتعرَّضَ لبيان ذلك، فالعبارةُ فيه أن يقال: (كان ضربٌ، أو وَقَع ضربٌ أو وُجد ضرب)، وما شاكل ذلك من ألفاظ تُفيد الوجودَ المجرَّد في الشيء.

وإذْ قد عرفتَ هذه الجملةَ، فاعلمْ أَنَّ أغراضَ الناس تختلف في ذكْر الأفعال المتعدية. فهم يذكرونها تارةً ومرادُهم أن يَقْتصِروا على إثبات المعاني التي اشتُقَّتْ منها للفاعلين، من غير أنْ يتعرَّضوا لذكْر المفعولين؛ فإذا كان الأمرُ كذلك، كان الفعل المتعدي كغَير المتعدي، مثلاً في أنك لا تَرى له مفعولاً لا لفظاً ولا تقديراً. ومثالُ ذلك قولُ الناس: (فلان يحُلُّ ويَعْقِدُ، ويأمرُ وَينهى، ويَضُرُّ ويَنْفع)، وكقولهم: (هو يُعْطي ويُجْزِلُ، ويَقْري ويُضيفُ)؛ المعنى في جميع ذلك، على إثبات المعنى في نفسه للشيء على الإطلاقِ وعلى الجملة، من غير أن يتعرَّضَ لحديثِ المفعولِ، حتى كأنك قلتَ: صار إليه الحَلُّ والعَقْدُ، وصار بحيثُ يكون منه: حَلٌّ وعقْدٌ وأمرٌ ونَهْيٌ وضَرٌّ ونَفْعٌ، وعلى هذا القياس؛ وعلى ذلك قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]. المعنى: هل يستوي مَنْ له عِلْم ومَنْ لا علمَ له، من غير أن يقصدَ النصُ على معلوم. وكذلك قولُه تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} [النجم: 43 - 44] وقوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أغنى وأقنى} [النجم: 48]. المعنى: هو الذي منه الإحياءُ والإِماتةُ، والإِغناءُ والإقناءُ. وهكذا كلُّ موضعٍ كان القصدُ فيه أن يُثْبتَ المعنى في نفسه فعلاً للشيء، وأن يُخْبر بأنَّ مِن شأنه أن يكون منه، أو لا يكونُ إلاَّ منه، أو لا يكون منه. فإنَّ الفعلَ لا يُعدَّى هناك، لأن تعديته تَنْقُضُ الغرضَ وتُغيِّر المعنى. ألا ترى أنكَ إذا قلتَ: (هو يعطي الدنانير)، كان المعنى على أنك قصدْتَ أن تُعْلمَ السامعَ أنَّ الدنانير تَدْخلُ في عطائه، أو أنه يُعْطيها خصوصاً دونَ غيرها، وكان غرَضُك على الجملة، بيانَ جنسِ ما تناولَه الإعطاءُ، لا الإعطاءُ في نفسه، ولم يكن كلامُك معَ مَنْ نَفَى أن يكون كان منه إعطاءٌ بوجهٍ من الوجوه، بل مع من أَثْبَتَ له إعطاءً إلا أنه لم يُثبت إعطاءَ الدنانير؛ فاعرفْ ذلك! فإنه أصْلٌ كبير عظيمُ النفع. فهذا قسمٌ من خُلوِّ الفعلِ عن المفعول، وهو أن لا يكون له مفعولٌ يُمكن النصُّ عليه.

وقسم ثان، وهو أن يكون له مفعولٌ مقْصودٌ قَصْدُه معلومٌ، إلا أنه يُحْذَفُ من اللفظ لدليل الحال عليه؛ وينقسم إلى جَليِّ صنعةَ فيه، وخَفِيٍّ تَدخلُه الصنعةُ. فمثال الجليِّ قولهم: (أصغَيْتُ إليه). وهم يُريدون: أذني، و: (أغضبتُ عليه)، والمعنى: جَفْني. وأما الخَفيُّ الذي تدخلُه الصنعةُ، فيتفنَّنُ ويتنوَّعُ. فنوع منه، أنْ تَذكُر الفعلَ، وفي نفسِك له مفعولٌ مخصوصٌ قد عُلمَ مكانُه إما لِجَزْي ذكْر أو دليل حالٍ، إلاَّ أنك تُنْسيه نفْسَكَ وتُخْفيهِ، وتُوهِمُ أنك لم تَذْكُر ذلكَ الفعلَ، إلاَّ لأن تُثْبِتَ نفْسَ معناه، مِنْ غير أن تُعدِّيَهُ إلى شيء، أو تَعْرضَ فيه لمفعولٍ. ومثاله قول البحتري [من الخفيف]: شَجْوُ حسَّادِهِ وغَيْظُ عِداهُ ... أن يَرى مُبْصِرٌ ويسْمَعَ واعِ المعنى، لا محالة، أن يَرى مُبصرٌ مَحاسِنَه ويَسْمعَ واع أخبارَه وأوصافَه؛ ولكنك تَعْلُم على ذلك، أنه كان يَسْرِقُ علْمَ ذلك مِنْ نفْسِه، ويدْفَع صورتَه عن وَهْمه، ليَحْصُل له معنى شريفٌ وغرَضٌ خاصٌّ؛ وقال إنَّه يَمْدح خليفةً هو المعتزُّ، ويُعرِّضُ بخليفةٍ وهو المستعين، فأرادَ أن يقول: (إنَّ محاسنَ المعتزِّ وفضائلَه المحاسنُ والفضائلُ، يَكفي فيها أنْ يَقع عليها بَصرٌ ويَعيَها سمْعٌ، حتى يَعْلَم أنه المُستحِقُّ للخلافة، والفردُ الوحيدُ الذي ليس لأحدٍ أن يُنازِعَه مَرْتبتَها، فأنتَ ترَى حسَّادَه وليس شيءٌ أشْجى لهم وأغْيَظُ من عِلْمهم بأنَّ هاهنا مُبْصراً يرَى وسامعاً يَعي، حتى لَيتَمنَّوْنَ أنْ لا يكونَ في الدنيا مَنْ له عينٌ يُبصر بها، وأُذُنٌ يَعي معها، كي يَخْفى مكنُ استحقاقِه لِشَرف الإمامةِ، فيجدوا بذلك سَبيلاً إلى منازعَتهِ إياها. (وهذا نوعٌ آخر منه) وهو أن يكون معك مفعولٌ معلومٌ مقصودٌ، قَصْدُهُ قد عُلِمَ أنه ليس للفعل الذي ذكرتَ مفعولٌ سواه، بدَليلِ الحالِ، أو ما سَبَق من الكلام، إلاَّ أنك تَطْرحُه وتَتَناساهُ، وتدَعُه يَلزَمُ ضميرَ النفسِ لِغَرضٍ غير الذي مَضى، وذلك الغرضُ أن تتوفرَ العنايةُ على إثبات الفعلِ للفاعلِ وتخلصَ له وتَنصرف بجملتها وكما هي إليه. ومثاله قول عمرو بن معدي كرب [من الطويل]:

فلو أنَّ قومي أَنطَقَتْني رماحُهُمْ ... نَطَقْتُ ولكنَ الرماحَ أَجرَّتِ "أَجرَّتْ" فعلٌ مُتَعدِّ، ومعلومٌ أنه لو عدَّاه لَمَا عدَّاهُ إلاَّ إلى ضمير المتكلم، نحو "ولكن الرماح أجرتني" وأنه لا يُتَصوَّر أنْ يكون هاهنا شيءٌ آخرُ يَتعدَّى إليه، لاستحالة أن يقول: (فلو أن قومي أنطقتني رماحُهم، ثم يقول: ولكنَّ الرماح أجرَّتْ غيري). إلا أنك تَجدُ المعنى يُلزمُك أنْ لا تنطقَ بهذا المفعول، ولا تُخرِجَه إلى لفظك؛ والسببُ في ذلك أَنَّ تَعْديتَكَ له، تُوهِمُ ما هو خِلافُ الغَرَضِ؛ وذلك أنَّ الغرَضَ هو أن يثْبتَ أنه كان من الرماح إجْرارٌ وحبْسُ الألسنِ عن النطق، وأن يصحَّح وجودُ ذلك. ولو قال: "أجرَّتْني" جاز أن يُتوهَّم أنه لم يَعْن بأن يُثبِتَ للرماح إجراراً، بل الذي عناه أنْ يتَبيَّن أنها أجرَّتْه؛ فقد يُذَكرُ الفعلُ كثيراً والغرَضُ منه ذكْرُ المفعول. مثالُه أنك تقول: (أضَربْتَ زيداً؟) وأنتَ لا تُنكِرُ أن يكون كان من المخاطب ضَرْبٌ، وإنما تُنكِرُ أن يكونَ وقع الضربُ منه على زيد، وأن يستجيزَ ذلك أو يستطيعَه. فلما كان في تعديةِ "أجرَّت" ما يُوهِمُ ذلك، وقَفَ، فلم يُعدِّ البتَّةَ، ولم يَنْطِق بالمفعول، لتَخْلُصَ العنايةُ لإثبات الإجرار للرماح، ويصحَّح أنه كان منها، وتَسْلَم بكلِّيتها لذلك. ومثله قول جرير [من الوافر]: أمنَّيْتِ المُنى وخَلَبْتِ حتى ... تركْتِ ضميرَ قلبي مُسْتهاما الغرضُ أن يُثبت أنه كان منها تَمْنِيَةٌ وخَلاَبة، وأن يقول لها: أهكذا تَصْنعين وهذه حيلتُك في فتنة الناس؟ ومِنْ بارعِ ذلك ونادِرِه، ما تجدُه في هذه الأبيات: روَى المرزُباني في "كتاب الشعر" بإسنادٍ قال: لما تشاغَلَ أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه، بأهل الرِّدَّةِ، استبطأتْه الأَنصارُ، فقال: إما كلَّفْتموني أخلاقَ رسول الله صلى الله عليه سلم. فوَاللهِ ما ذاكَ عندي ولا عِنْد أحدٍ من الناس. ولكنِّي واللهِ ما أُوتيِ مِنْ مودَّةٍ لكُمْ ولا حسْنِ رأْي فيكم؛ وكيف لا نُحِبُّكم! فواللهِ ما وجدْتُ مثَلاً لنا ولَكُم إلا ما قال طفيل الغنوي لبني جعفر بن كلاب [من الطويل]:

جزى الله عنا جعفراً حين أُزِلقَتْ ... بنا نَعْلُنا في الواطئين فزَلَّتِ أَبَوْا أن يَمَلُّونا ولَوْ أن أُمَّنا ... تُلاقي الذي لاَقوْهُ منَّا لَمَلَّتِ همُ خَلَطونا بالنفوسِ وألْجَأُوا ... إلى حُجُراتِ أدْفأَتْ وأَظَلَّتِ فيها حَذْفُ مفعولٍ مقصودٍ قصْدُه في أربعة مواضع قولُه [لملَّتِ وألجأُوا وأدفأَتْ وأظلَّتْ)، لأن الأصل "لَملَّتْنا وألْجأُونا إلى حجرات أدفأَتْنا وأظلَّتْنا" إلاَّ أنَّ الحالَ على ما ذكرتُ لكَ من أَنه في حَدِّ المتناهي، حتى كأَنْ لا قَصْدَ إلى مفعولٍ، وكأَنَّ الفعل قد أُبهِمَ أَمرُه، فلم يُقْصَدْ به قصْدُ شيءٍ يقع عليه، كما يكونُ إذا قلت: (قد ملَّ فلانٌ)، تريد أن تقول: قد دَخَلَهُ المَلالُ: من غير أن تَخُصَّ شيئاً، بل لا تَزيد على أن تَجْعلَ المَلالَ مِنْ صفتهِ. وكما تقول: (هذا بيتٌ يُدفئ ويظلُّ). تُريد أنه بهذه الصفة.

واعلمْ أنَّ لكَ في قوله: (أَجرَّت وَلَمَلَّتْ): فائدةً أُخرى زائدةً على ما ذكْرتُ، من توفير العناية على إثبات الفعل، وهي أن تقول: كان مِن سُوءِ بَلاءِ القوم ومِنْ تَكْذيبهم عن القتالِ، ما يُجِرُّ مثْلَه، وما القضيةُ فيه أنه لا يُتَّفَق على قوم إلا خَرَس شاعرُهم فلم يستطع نطْقاً: وتَعْديتُك الفعلَ تَمنُع مِن هذا المعنى، لأنكَ إذا قلتَ: (ولكنَّ الرماحَ أَجرَّتْني): لم يُمكن أن يتأَوَّل، على معنى أَنه كان منها ما شأنُ مِثْلِه أن يُجِرَّ قضيةً مستمرةً في كل شاعرِ قومٍ؛ بل قد يجوزُ أن يُوجَدَ مثلُه في قومٍ آخرين فلا يُجَرُّ شاعرُهم. ونظيرُهُ أنك تقولُ: (قد كان منكَ ما يُؤلم): تُريد ما الشرْطُ في مثله أن يُؤلم كلَّ أحدٍ وكلَّ إنسانٍ. ولو قلت: (ما يؤلمني):، لم يُفد ذلك، لأنه قد يجوز أن يؤلمكَ الشيءُ لا يؤلِمُ غيرَكَ وهكذا قوله: (ولو أن أُمَّنا تُلاقي الذي لاقَوْهُ منَّا لَمَلَّتِ: يتضمن أَنَّ مَنْ حُكمَ مثلُه في كل أُمِّ أنْ تملَّ وتسْأَمَ، وأنَّ المشقةَ في ذلك إلى حدٍ يُعلم أنَّ الأُمَّ تملُّ له الابْنَ، وتتَبرَّمُ به، مع ما في طباع الأمهاتِ من الصبرِ على المكارهٍِ في مَصالح الأولادِ؛ وذلك أنه وإن قال (أمُّنا) فإن المعنى على أنَّ ذلك حُكْمُ كلِّ أمّ مع أولادها. ولو قلتَ (لَمَلَّتْنا) لم يحتملْ ذلك، لأنه يجري مجْرى أن تقولُ: (لو لَقيتْ أُمُّنا ذلك، لَدَخلَها ما يُملُّها منَّا). وإذا قلتَ: (ما يُمِلُّها منَّا؟) فقيَّدْتَ، لم يَصْلح لأَن يُرادَ به معنى العموم، وأنه بحيثُ يَمَلُّ كلَّ أم من كل ابن. وكذلك قوله: (إلى حُجُراتٍ أدفأتْ وأظلتِ): لأنَّ فيه معنى قولِك "حُجُراتٍ" من شأنِ مثْلها أن تُدَفئَ وتُظِلَّ؛ أي هي بالصفة التي إذا كان البيتُ عليها أَدْفأَ وأَظَلَّ؛ ولا يجَيءُ هذا المعنى مع إظهار المفعول.

إذْ لا تقول: (حجراتٍ من شَأْنِ مِثْلِها أن تُدفئنا وتُظلَّنا): هذا لَغُوٌ من الكلام، وفاعْرِفْ هذه النكْتَةَ، فإنك تَجدُها في كثير من هذا الفن، مضمومةً إلى المعنى الآخر الذي هو توفيرُ العناية على إثباتِ الفعلِ والدلالةِ على أنَّ القصْدَ من ذكْر الفعلِ، أن تُثْبتَه لفاعلهِ، لا أن تُعلِمَ التباسَهُ بمفعوله. وإن أردتَ أنْ تزدادَ تَبييناً لهذا الأصل، أعني وُجوبَ أنْ تُسْقِط المفعولَ لتتوفَّر العنايةُ على إثبات الفعل لفاعله، ولا يَدخلَها شَوْبٌ، فانظرْ إلى قوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امرأتين تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعآء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فسقى لَهُمَا ثُمَّ تولى إِلَى الظل} [القصص: 23 - 24] ففيها حَذْفُ مفعولٍ في أربعةِ مواضعَ: إذ المعنى: وجدَ عليه أمةً من الناس يَسْقون أغنامَهم، أو مواشيَهم، وامرأتينِ تَذُودان غَنَمهما، وقالتا لا نَسْقِي غنمَنَا، فسقى لهما غنمَهَما. ثم إنَّه لا يَخْفى على ذي بَصَرٍ، أنه ليس في ذلك كلِّه إلاَّ أن يُتْرَكَ ذِكْرُه ويُؤْتى بالفعل مطْلقاً، وما ذاك إلاَّ أنَّ الغرضَ في أن يُعلَم أنه كان من الناس في تلك الحال سَقْيٌ ومن المرأتينِ ذَوْدٌ وأنهما قالتا: لا يكونُ منَّا سقْيٌ حتى يُصْدِرَ الرعاءُ؛ وأنه كان مِنْ موسى عليه السلام، مِنْ بَعْدِ ذلك سَقْي. فأمَّا ما كان المَسْقيُّ أغَنماً أم إبلاً أم غيرَ ذلك، فخارجٌ عن الغرَض ومُوْهِمٌ خِلافَه؛ وذاكَ أنه لو قيل: وجَد مِنْ دونِهمْ امرأتينِ تَذُودانِ غنَمَهما: جاز أن يكونَ لم يُنْكر الذودَ من حيث هو ذَوْدٌ بل مِنْ حيثُ هو ذَوْدُ غَنم، حتى لو كان مكانَ الغنمِ إبلٌ لم يُنكر الذودَ؛ كما أنك إذا قلتَ: مالكَ تمنعُ أخاك؟ كُنْتَ مُنْكِراً المنعَ لا من حيثُ هو مَنعٌ بل مِنْ حيثُ هو منعُ أخٍ، فاعرْفه تَعْلمْ أَنكَ لم تَجِدْ لِحَذْف المفعولِ في هذا النحو مِن الرَّوعة والحُسْن ما وجَدْتَ، إلاَّ لأنَّ في حَذْفه وتَرْكِ ذِكْرِه فائدةً جليلةً، وأن الغرَضَ لا يصِحُّ إلا على تَرْكهِ.

ومما هو كأنه نَوعٌ آخرُ غيرُ ما مضى، قول البحتري [من الطويل]: إذا بَعُدَتْ أَبلَتْ وإن قَرُبَتْ شَفَتْ ... فهِجْرانُها يُبْلي ولُقيانُها يَشْفي قد عُلِمَ أنَّ المعنى "إذا بَعُدَتْ عني أَبْلَتني وإن قَرُبَتْ مني شفَتْني" إلاَّ أَنك تَجِدُ الشعرَ يأبى ذِكْرَ ذلك ويُوجِبُ أطِّراحَه، وذاك لأَنَّه أرادَ أن يَجْعلَ البِلى كأنه واجِبٌ في بِعادها أن يُوجِبَه ويَجْلبه وكأنه كالطبيعة فِيه، وكذلك حالُ الشفاءِ مع القُرب حتى كأنه قال: أتدري ما بِعادُها؟ هو الداءُ المُضْني. وما قُرْبُها؟ هو الشفاءُ والبُرْءُ مِنْ كل داءٍ. ولا سبيلَ لك إلى هذه اللطيفةِ وهذه النكْتة إلا بحذْف المفعول البتةَ، فاعْرِفْهُ! وليس لِنَتائجِ هذا الحذفِ، أعني حَذْفَ المفعولِ، نهايةٌ. فإنه طريقٌ إلى ضروبٍ من الصَّنْعة وإلى لطائفَ لا تُحْصى. (وهذا نوع منه آخر). إعْلمْ أنَّ هاهنا باباً من الإضمار والحذف، يُسمَّى: الإضمار على شريطة التفسير وذلك مثْلُ قولهم: (أكْرَمني وأَكْرَمْتُ عبدَ اللهِ)، أردتُ "أكرمني عبدُ الله وأكرمتُ عبدَ الله" ثم تركتُ ذِكْرَه في الأولِ استغناءً بذِكْرهِ في الثاني. فهذا طريقٌ معروفٌ ومذْهَبٌ ظاهر وشيءٌ لا يُعْبَأُ به ويُظَنُّ أنه ليس فيه أَكثرُ مما تُريكَ الأمثلةُ المذكورةُ منه. وفيه إذا أنتَ طلبتَ الشيءَ من مَعْدِنِه، منْ دقَيقِ الصنعةِ ومن جَليلِ الفائدةِ، ما لا تَجدُه إلاَّ في كلام الفحول. فمن لطيف ذلك ونادرِهِ، قول البحتري [من الكامل]: لوْ شِئْتَ لم تُفْسِدْ سَماحَة "حاتِمٍ" ... كَرَماً، ولم تَهْدِمْ مآثِرَ "خالدِ"

الأصلُ، لا محالة، لو شئْتَ أن لا تُفْسِدَ سماحةَ حاتم لم تُفْسِدْها، ثم حُذِفَ ذلك من الأول استغناءً بدلالته في الثاني عليه؛ ثم هو على ما تراهُ وتَعلَمُه من الحُسْن والغَرابة. وهو على ما ذكرتُ لك من أنَّ الواجبَ في حُكْم البلاغة، أن لا يُنْطَقَ بالمحذوف ولا يَظَهَرَ إلى اللفظ؛ فليس يَخفى أنك لو رَجَعْتَ فيه إلى ما هو أصْلُه فقلت: (لو شئتَ أن لا تُفسِدَ سماحةَ حاتم لم تُفْسِدْها)، صِرْتَ إلى كلامٍ غَثٍّ وإلى شيء يَمجُّهُ السمْعُ وتَعافُهُ النفْسُ، وذلك أنَّ في البيانِ إذا ورَدَ بعد الإبهام وبعد التحريك له أبداً، لطفاً ونبلاً لا يكونُ إذا لم يتقدَّمْ ما يُحرِّكُ، وأنتَ إذا قلت: "لو شئتَ": علمَ السامعُ أنكَ قد علَّقْتَ هذه المشيئةَ في المعنى بشيء. فهو يَضَعُ في نفسه أنَّ هاهنا شيئاً تَقْتضي مَشيئتُه له أن يكونَ أو أن لا يكونَ؛ فإذا قلتَ: "لم تُفسِد سماحةَ حاتم"، عرَفَ ذلك الشيءَ. ومَجيءُ المشيئةِ بعد "لو" وبعْدَ حروفِ الجزاءِ هكذا، موقوفةٌ غيرُ مُعدَّاةٍ إلى شيءٍ كثير شائع، كقوله تعالى: {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى} [الأنعام: 35] {وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل: 9] والتقديرُ في ذلك كلِّه على ما ذكرتُ. فالأَصْلُ: "لو شاء اللهُ أنْ يَجمعهم على الهدى لجمَعَهم" "ولو شاء أنْ يَهدِيَكم أجمعينَ لهَداكم". إلا أَنَّ البلاغةَ في أن يُجاءَ به كذلك محذوفاً. وقد يتَّفقُ في بعضه، أن يكون إظهارُ المفعولِ هو الأَحْسَنَ، وذلك نَحْو قولِ الشاعر [من الطويل]: ولو شِئتُ أَنْ أبكي دماً لبَكَيْتُهُ ... عليهِ ولكنْ ساحةُ الصبرِ أوْسَعُ فقياس هذا، لو كان على حدِّ "ولو شاءَ اللهُ لَجمعهم على الهُدى"، أن يقول: (لو شئتُ بكيتُ دماً)، ولكنه كأنه تركَ تلك الطريقةَ، وعدَلَ إلى هذه لأنها أحْسَنُ في هذا الكلام خصوصاً. وسببُ حسْنِه أنه كأنهُ بِدْعٌ عجيبٌ أنْ يشاءَ الإِنسانُ أن يَبْكي دماً؛ فلما كان كذلك، كان الأَوْلى أن يُصرِّحَ بذِكْره ليقرِّرَهُ في نفسِ السامع ويُؤنِسَه به.

وإذا استقرَيْتَ وجدْتَ الأمرَ كذلك أبدا؛ متى كان مفعولُ المشيئةِ أمراً عظيماً أو بديعاً غريباً، كان الأَحْسَنَ أنْ يُذكَرَ ولا يُضْمَر. يقول الرجلُ يُخْبِرُ عن عِزَّة نفسِه: (لو شئتُ أن أَردَّ على الأمير ردَدْتُ، ولو شئتُ أن أَلْقى الخليفَةَ كلَّ يومٍ لَقِيتُ). فإذا لم يكن مما يُكْبِرُهُ السامعُ، فالحذفُ. كقولك: لو شئتُ خرجتُ، ولو شئتُ قمتُ، ولو شئتُ أنصفتُ، ولو شئتُ لقلت. وفي التنزيل {لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هاذا} [الأنفال: 31]. وكذا تقول: لو شئتُ كنتُ كزيد، قال [من البسيط]: لو شئتُ كنتُ كَكُرْزٍ في عبادتِه ... أو كَابْنِ طارِفَ حولَ البيتِ والحَرَمِ وكذا الحكُمُ في غيره من حروف المُجَازاة أن تقول: إن شئتُ قلتُ، وإن أَردتُ دفعتُ. قال الله تعالى: {فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ} [الشورى: 24] وقال عزَّ اسْمُه {مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39]. ونظائر ذلك من الآي ترَى الحذْفَ فيها المستمرَّ. وممَّا يُعْلَمُ أَنْ ليس فيه لغيرِ الحذْفِ وجهٌ، قولُ طرفة [من الطويل]: وإنْ شئتُ لم تُرْقِلْ وإنْ شئتُ أرْقَلَتْ ... مخافَةَ مَلْوِيٍّ مِنْ القِدِّ مُحْصَدِ وقولُ حميد [من الطويل]: إذا شئتُ غنَتْني بأجزاعِ بِيشَةٍ ... أو الزُّرْقِ من تَثليثَ أَوْ بيَلَمْلما مُطَوَّقةٌ ورقاءُ تَسْجَعُ كَلَّما ... دَنا الصيفُ وانجابَ الربيعُ فأَنجَما وقولُ البحتري [من الطويل]: إذا شاءَ غادى صِرمةً أو غدا على ... عقائلِ سِرْبٍ أو تَقَنَّصَ رَبْرَبا وقولُه [من الكامل]: لو شئتَ عُدْتَ بلادَ نَجْدٍ عَوْدةً ... فحَللْتَ بين عقيقهِ وزَرْودِهِ معلوم أنكَ لو قلْتَ: (وإن شئتَ أن لا تُرْقِلَ لم تُرْقل. أو قلتَ: إذا شئتُ أن تُغنِّيني بأجزاع بيشة غنَّتْني، وإذا شاء أن يُغادي صرمةً غادى، ولو شئتَ أن تَعودَ بلادَ نجدٍ عودةً عُدْتَها): أذْهَبْتَ الماءَ والرونقَ، وخرجْتَ إلى كلامٍ غَثٍّ، ولفظٍ رَثٍّ، وأما قولُ الجوهري [من الطويل]: فلم يُبْقِ منِّي الشوقُ غيرَ تَفكُّري ... فلو شئتُ أن أبكي بكَيْتُ تَفَكُّرا

فقد نَحَا به نَحْو قولهِ: ولو شئتُ أن أبكي دماً لبكيتُه، فأظْهَر مفعولَ "شئتُ" ولم يَقُلْ: (فلو شئتُ بكيتُ تفكراً) لأجل أَنَّ له غرَضاً لا يَتمُّ إلاَّ بذكر المفعول؛ وذلك أنه لم يُردِ أَن يقول: (ولو شئتُ أن أبكي تفكُّراً، بكيتُ كذلك)، ولكنه أراد أن يقول: قد أفناني النحولُ، فلم يَبْقَ مني وفيَّ غيرُ خواطرَ تَجول، وعصَرْت عيني، ليسيلَ منها دمعٌ لم أَجدْه، ويَخرُجَ بدلَ الدمع التفكُّرُ. فالبكاءُ الذي أراد إيقاعَ المشيئة عليه، مُطْلَقٌ مُبْهم غيرُ مُعَدَّى إلى التفكر البتةَ، والبكاءُ الثاني مقيَّد معدَّى إلى التفكر. وإذا كان الأمر كذلك، صار الثاني كأنه شيء غيرُ الأول، وجرَى مجرى أن تقول: لوشئتَ أن تُعطي درهماً أعطيتَ درهَمين، في أنَّ الثاني لا يَصْلح أن يكون تفسيراً للأول. واعلمْ أنَّ هذا الذي ذكَرْنا ليس بصريح "أكرمتُ وأكرمني عبدُ الله" ولكنه شبيه به في أنه إنما حُذِفَ الذي حُذِفَ من مفعول المشيئة والإرادة، لأنَّ الذي يأتي في جوابِ (لو) وأخَواتها، يدلُّ عليه. وإذا أردتَ ما هو صريحٌ في ذلك، ثم هو نادرٌ لطيف، يَنْطوي على معنى دقيقٍ وفائدةٍ جليلة، فانظر إلى بيت البحتري [من الخفيف]: قد طَلَبْنا فلم نَجدْ لكَ في السُّؤْ ... دُدِ والمَجْد والمَكَارِم مِثْلا المعنى قد طَلَبْنا لك (مِثْلاً) ثم حذَفَ، لأنَّ ذكْرَه في الثاني يدلُّ عليه. ثم إنَّ في المجيء به كذلك، مِن الحُسْن والمَزيَّة والروعة ما لا يَخْفى، ولو أنه قال: (طلَبْنا لك في السؤدد والمجد والمكارم مَثَلاً فلم نَجِدْه، لم تَرَ من هذا الحُسْن الذي تَراه شيئاً. وسببُ ذلك أَنَّ الذي هو الأصْلُ في المدح والغرض بالحقيقة، هو نَفْي الوجودِ عن المثل، فأَمَّا الطلبُ فكالشيء يُذكر ليُبنى عليه الغَرَضُ ويُؤَكَّد به أَمْرُه. وإذا كان هذا كذلك، فلو أنه قال: قد طلبَنْا لك في السؤدد والمجد والمكارم مِثْلاً، فلم نَجدْه، لكان يكونُ قد تركَ أن يُوقِعَ نفْيَ الوجود على صريح لفظ "المثل"، وأوْقَعَه على ضميره. ولن تَبلُغَ الكنايةُ مبْلَغَ الصريح أَبداً.

ويُبيِّن هذا كلامٌ ذكَرَه أبو عثمانَ الجاحظُ في كتاب البيان والتبيين وأنا أكتبُ لك الفصلَ حتى يستبينَ الذي هو المُرادُ. قال: "والسنَّةُ في خطبة النِّكاحِ أنْ يُطيلَ الخاطِبُ ويُقصِّرَ المجِيبُ، ألا تَرى أنَّ قيْسَ بْنَ خارجةَ لمَّا ضرَبَ بسيفه مُؤخَّرةَ راحلةِ الحاملَين في شأن حَمالةِ داحس، وقال: ما لي فيها أيها العَشَمتَانِ، قالا: بل ما عندَك؟ قال: عندي قِرى كلِّ نازلٍ، ورضِى كلِّ ساخِطٍ، وخُطبةٌ مِنْ لَدُنْ تطْلُعُ الشمسُ إلى أن تَغْرُبَ، آمرُ فيها بالتواصل، وأَنْهى فيها عن التقاطع. قالوا: فخطَبَ يوماً إلى الليل، فما أعاد كلمةً ولا معْنى. فقيل لأبي يعقوب: هلاَّ اكْتَفى بالأمر بالتواصلِ، عن النَّهْي عن التقاطع؟ أو ليس الأمرُ بالصلةِ هو النهْيُ عن القطيعة؟ قال: أو ما علمْتَ أنَّ الكنايةَ والتعريضَ، لا يَعْملان في العقولِ عَمَلَ الإِيضاح والتكشيف"؟ انتهى الفصْلُ الذي أَردتُ أن أَكْتبَه؛ فقد بصَّرك هذا أنْ لن يكونَ إيقاعُ نَفْي الوجودِ على صَريحِ لفظِ "المثل" كإيقاعه على ضميره. وإذْ قد عرَفْتَ هذا، فإنَّ هذا المعنى بعينه، قد أَوْجَبَ في بيتِ ذي الرمة، أنْ يَضعَ اللفظَ على عكس، ما وضَعه البحتريُّ، فيُعملَ الأوَّلَ من الفعلين، وذلك قوله [من الوافر]: ولم أَمدَحْ لأرضيهِ بشعري ... لئيماً أَنْ يكونَ أصابَ مالا

أعْمَلَ "لم أمدح" الذي هو الأول في صريح لفظ اللئيم، و "أرْضى" الذي هو الثاني في ضميره، وذلك لأنَّ إيقاعَ نَفْي المدحِ على اللئيم صريحاً، والمجيءَ به مكشوفاً ظاهراً، هو الواجب من حيثُ كان أصْلُ الغرضِ، وكان الإرضاءُ تعليلاً له. ولو أنه قال: ولم أمدح لأُرْضِيَ بشعري لئيماً، لكان يكونُ قد أَبْهمَ الأمرَ فيما هو الأصْلُ وأبانَهُ فيما ليس بالأَصْل، فاعرفْه ولهذا الذي ذكَرْنا من أنَّ للتصريح عَمَلاً لا يكون مثلُ ذلك العملِ للكناية، كان لإعادة اللفظ في مِثْلِ قولهِ تعالى: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ} [الإسراء: 105] وقولهِ تعالى: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ * الله الصمد} [الإخلاص: 1 - 2] من الحُسْنِ والبَهْجة، ومن الفَخَامة والنُّبل، ما لا يَخْفى موضِعُه على بصيرٍ، وكان لو تُرِكَ فيه الإظهارُ إلى الإضمار، فقيل: (وبالحقِّ أنزلناه وبه نزل). و (قلْ هُوَ الله أَحدٌ هو الصَّمَدُ) لعدمتَ الذي أنتَ واجِدُه الآن.

فصل: القول في الحذف - نتيجة

فصل: القول في الحذف - نتيجة قد بانَ الآنَ واتَّضحَ لِمَنْ نَظَر نظَرَ المتثبِّتِ الحصيفِ الراغبِ في اقتداحِ زِنادِ العَقْل، والازْديادِ من الفضْلِ، وَمْن شأْنُه التوقُ إلى أن يَعْرفَ الأشياءَ على حقائقها، ويَتغلغَلَ إلى دقائقها، ويرْبأَ بِنفْسِهِ عن مرْتَبةِ المُقَلِّد الذي يَجْري مع الظاهر، ولا يَعْدُوا الذي يَقَعُ في أول الخاطرِ، أَنَّ الذي قلتُ في شأن الحَذْف، وفي تفخيم أمره، والتنويه بذِكْره، وأنَّ مأْخَذَه مَأْخذٌ يُشْبِهُ السِّحْر، ويَبْهَرُ الفِكْر، كالذي قلتُ: وهذا فَنٌّ آخرُ من معانيه عجيب وأنا ذاكرٌ لك: أعَنْ سَفَهٍ يومَ الأُبَيْرَقِ أم حِلْمِ وهو يذكر مُحاماةَ الممدوحِ عليه وصيانَتَه له ودفْعهَ نوائبَ الزمانِ عنه [من الطويل]: وكَمْ ذُدْتَ عني مِنْ تَحامُل حادِثٍ ... وسَوْرةِ أَيام حَزَزْنَ إلى العَظْم الأَصْلُ، لا محالةَ، (حززْنَ اللَّحْمَ إلى العظم)، إلاَّ أن في مجيئه به محذوفاً، وإسقاطِه له من النُّطْق، وتَرْكهِ في الضميرِ، مزَّيةً عجيبةً وفائدةً جليلةً، وذاك أنَّ مِنْ حِذْق الشاعرِ أَنْ يُوقِعَ المعنى في نَفْس السامعِ إيقاعاً يَمنعُه به مِنْ أنْ يتوَهَّم في بدءِ الأمر شيئاً غيرَ المرادِ، ثم ينصرفُ إلى المرادِ؛ ومعلومٌ أنه لو أظْهَر المفعول فقال: وسَوْرة أيامٍ حززن اللَّحَم إلى العظم)، لجاز أن يقعَ في وَهْم السامع، إلى أن يجيء إلى قوله: "إلى العظم"، أنَّ هذا الحزَّ كان في بعض اللحم دُونَ كلِّه، وأنه قطَعَ ما يلي الجِلْدَ ولم يَنْتَهِ إلى ما يلي العظم،؛ فلمَّا كان كذلك، ترَكَ ذِكْر اللحم وأَسْقَطَه من اللفظ ليُبْرِئَ السامعَ مِنْ هذا، ويَجعلَهُ بحيث يَقعُ المعنى منه في أَنْفِ الفَهْمِ، ويَتصوَّرُ في نفسه من أول الأمْر، أنَّ الحزَّ مضى في اللحم حتى لم يَردَّه إلاَّ العْظمُ. أفيكونُ دليلٌ أوضحَ من هذا، وأَبْيَنَ وأجْلى في صحة ما ذكرتُ لك، مِنْ أنك قد تَرى تَرْكَ الذكْرِ أفْصَحَ من الذكْرِ، والامتناعَ من أن يَبْرزَ اللفظُ من الضمير، أحْسَنَ للتصوير؟

فصل: القول على فروق في الخبر

فصل: القول على فروق في الخبر أَولُ ما ينبغي أن يُعْلَم منه أنه يُقْسم إلى خَبرٍ هو جزءٌ من الجملة لا تَتمُّ الفائدةُ دونه، وخَبرٍ ليس بجزءٍ من الجملة، ولكنه زيادةٌ في خَبرٍ آخرَ سابقٍ له. فالأولُ خبرُ المبتدأ: (كمُنْطَلِقٌ) في قولك: (زيدٌ مُنْطلقٌ)، والفعلُ كقولك: (خرجَ زيدٌ). فكلُّ واحدٍ من هذين جزءٌ من الجملة، وهو الأَصْل في الفائدة. والثاني هو الحال. كقولك: (جاءني زيدٌ راكباً). وذاكَ لأنَّ الحالَ خبرٌ في الحقيقة، مِنْ حيثُ إنك تُثْبتُ بها المعنى لذي الحال، كما تُثْبِتُهُ بخبر المبتدأ للمبتدأ، وبالفِعْل للفاعل. ألاَ تَراكَ قد أَثبتَّ الركوبَ، في قولك: "جاءني زيد راكباً" لزيد، إلاَّ أن الفَرْقَ أنك جئْتَ به لتزيد معنًى في إخباركَ عنه بالمجيء، وهو أن تَجْعلَه بهذه الهيئة في مجيئه؛ ولم تُجرِّدْ إثباتَكَ للركوب، ولم تُباشِرْه به، بل ابتدأَتَ فأَثبتَّ المجيءَ، ثم وصلْتَ به الركوبَ، فالتبسَ به الإثباتُ على سبيل التَّبَع للمجيء، وبشَرْط أن يكون في صِلَته. وأمَّا في الخبر المطلق، نحو "زيدٌ منطلقٌ وخرَجَ عمرو" فإنك مُثْبِتٌ للمعنى إثباتاً جرَّدْتَه له، وجعلْتَه يُباشِرُه من غير واسطة، ومن غير أَن يتسبَّبَ بغيره إليه، فاعرفْهُ! الاسم والفعل في الإثبات وإذْ قد عرَفْتَ هذا الفرْقَ، فالذي يَليه من فُروق الخَبَر هو الفرْقُ بين الإثبات إذا كان بالاسم، وبيْنَه إذا كان بالفعل؛ وهو فرقٌ لطيفٌ تَمسُّ الحاجةُ في علم البلاغة إليه. وبيانُه أنَّ موضوعَ الاسم، على أن يُثْبَتَ به المعنى للشيء، من غير أن يقتضي تجدُّده شيئاً بعْدَ شيء. وأما الفعلُ فموضوعُه، على أنه يقتضي تَجدُّدَ المعنى المُثْبَت به شيئاً بعْدَ شيء، فإذا قلتَ: (زيدٌ منطلقٌ)، فقد أَثبتَّ الانطلاقَ فعْلاً له، من غير أن تجعله يَتجدَّد ويَحْدُثُ منه شيئاً فشيئاً، بل يكونُ المعنى فيه كالمعنى في قولك: (زيدٌ طويلٌ وعمرو قصيرٌ). فكما لا يُقصَد ههنا إلى أن تَجعل الطولَ أو القِصَر يتجدَّد ويَحدثُ، بل تَوجِبُهما وتُثْبِتُهما فقط، وتَقْضي بوجودهما على الإطلاق، كذلك لا تتعرَّضُ في قولك: (زيدٌ منطلق)، لأكْثَرَ مِن إثباته لِزَيد.

وأمَّا الفعل، فإنهُ يقصد فيه إلى ذلك. فإذا قلت: (زيدٌ ها هو ذا يَنْطلقُ)، فقد زَعمْتَ أنَّ الانطلاقَ يقعُ منه جُزءاً فجزءاً، وجعلْتَهُ يُزاوله ويُزَجِّيه. وإنْ شئت أن تُحِسَّ الفرْقَ بينهما، مِنْ حيثُ يَلْطُفُ، فتأملْ هذا البيت [من البسيط]: لا يأْلَفُ الدِّرْهمُ المَضروبُ صُرَّتَنَا ... لكنْ يَمرُّ عليها وهُو مُنْطَلِقُ هذا هو الحُسْنُ اللائقُ بالمعنى، ولو قلتَه بالفعل: (لكنْ يمر عليها وهو ينطلق)، لم يَحْسُنْ. وإذا أردتَ أن تعتبره بحيثُ لا يَخْفى أَنَّ أحدَهما لا يَصْلُح في موضع صاحبه فانظرْ إلى قوله تعالى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد} [الكهف: 18] فإن أَحداً لا يَشكُّ في امتناع الفعل ههنا؛ وأنَّ قولَنا: (كلبهم يبسط ذراعيه)، لا يؤدي الغرضَ. وليس ذلك إلاَ لأن الفعل يقتضي مزاولةَ وتجدُّدَ الصفةِ في الوقت، ويَقْتضي الاسمُ ثُبوتَ الصفةِ وحُصولها، من غير أن يكون هناك مُزاولةٌ وتَزْجيةُ فعلٍ ومعنىً يَحْدُث شيئاً فشيئاً. ولا فرْقَ بين "وكلبهم باسِطٌ" وبينَ أن يقول: (وكلْبُهم واحد). مثلاً في أنك لا تُثْبِتُ مُزاولةً ولا تَجعل الكَلْبَ يفعل شيئاً، بل تُثْبتِهُ بصفةٍ هو عليها. فالغرضُ إذن تَأديةُ هيئةِ الكلبِ. ومتى اعتبرْتَ الحالَ في الصفات المشبَّهةِ وجَدْتَ الفرْقَ ظاهراً بيِّناً، ولم يَعترضْك الشكُّ في أنَّ أحدَهما لا يَصْلُح في موضعِ صاحبه. فإذا قلتَ: (زيدٌ طويلٌ وعمرو قصيرٌ). لم يصْلُحْ مكانَه: يَطولُ ويَقْصُرُ، وإنما تقول: (يطول ويَقْصُر) إذا كان الحديث عن شيء يَزيد ويَنمو، كالشجر والنبات والصبيِّ ونحْوِ ذلك مما يتجدد فيه الطولُ أو يَحْدثُ فيه القِصَر. فأمَّا وأنتَ تُحدِّثُ عن هيئةٍ ثابتةٍ وعن شيءٍ قد استقرَّ طولُه، ولم يكن ثمَّ تَزايدٌ وتجدُّدٌ، فلا يَصْلُح فيه إلاَّ الاسْمُ.

وإذا ثبتَ الفرقُ بين الشيئين في مواضعَ كثيرةٍ، وظهرَ الأمرُ بأَنْ تَرى أحدَهما لا يصْلُح في موضعِ صاحبهِ، وجَبَ أن تقضيَ بثُبوتِ الفرقِ، حيثُ تَرى أَحدَهما قد صلُحَ في مكان الآخَرِ، وتَعْلَم أنَّ المعنى مع أحدهما، غَيرُهُ مع الآخر، كما هو العبرةُ في حَمْل الخَفيِّ على الجليِّ؛ وينعكس لك هذا الحكم. أَعني أنك كما وجدْتَ الاسمَ يقَعُ حيثُ لا يَصلُح الفعلُ مكانه، كذلك تَجدُ الفِعْلَ يقع ثُم لا يَصلُحُ الاسمُ مكانَه، ولا يؤدي ما كان يؤديه. فمن البَيِّنِ في ذلك قولُ الأعشَى [من الطويل]: لعَمْري لقد لاحتْ عيونٌ كثيرةٌ ... إلى ضوءِ نارٍ في يَفاع تَحَرَّقُ تُشَبُّ لِمَقْرورَين يَصْطَليانِها ... وباتَ على النارِ النَّدى والمُحَلَّقُ مَعْلومٌ أنه لو قيل: (إلى ضوء نارٍ مُتَحَرِّقة) لَنَبا عنه الطبْعُ وأنكرَتْه النفسُ، ثم لا يكونُ ذاك النبوُّ وذاك الإنكارُ من أجل القافية، وأنها تُفْسَد به، بل من جهةِ أنه لا يُشْبِهُ الغرَضَ ولا يليقُ بالحال. وكذلك قولُه [من الكامل]: أوَ كلما وَرَدَتْ عُكاظَ قبيلةُ ... بَعثُوا إلىَّ عَريفَهُم يَتَوَسَّمَ وذاك لأنَّ المعنى في بيت الأعشى على أن هناك مُوقِداً يتجدَّدُ منه الإلهابُ والإشعالُ حالاً فحالاً. وإذا قيل (متحرِّقة) كان المعنى أنَّ هناك ناراً قد ثَبُتتْ لها، وفيها هذه الصفة، وجرَى مَجْرى أن يقال: (إلى ضوءِ نارٍ عظيمة)، في أنه لا يفيد فعلاً يفعل. وكذلك الحال في قوله: (بَعثوا إليَّ عريفهم يتوسَّمُ). وذلك لأن المعنى على توسُّم وتأملٍ ونظرٍ يتجدَّد من العَريف هناك، حالاً فحالاً، وتصفُّحٌ منه للوجوه واحداً بعدً واحدٍ. ولو قيل: (بَعثوا إليَّ عريفَهم متوسِّماً)، لم يُفد ذلك حقَّ الإفادة، ومن ذلك قولُه تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السمآء والأرض} [فاطر: 3] لو قيل: (هل من خالقٍ غيرُ اللهِ رازقٌ لكم). لكان المعنى غيرَ ما أُريدَ.

ولا ينبغي أن يَغُرَّكَ أنَّا إذْ تكلَّمْنا في مسائل المبتدأ والخبر، قدَّرْنا الفعلَ في هذا النحو تقديرَ الاسمِ كما نقول، في: "زيدٌ يقومُ": إنه في موضع "زيدٌ قائم"؛ فإنَّ ذلك لا يَقْتضي أن يستويَ المعنى فيها استواءً لا يكون من بَعْدِهِ افتراقٌ. فإنهما لو استويا هذا الاستواءَ لم يكن أحدهما فِعْلاً والآخرُ اسماً، بل كان ينبغي أن يكونا جميعاً فعلَيْن أو يكونا اسْمَيْن. التعريف والتنكير في الإثبات ومن فروق الإثبات أنك تقول: (زيد منْطَلِقٌ، وزيدٌ المنطلقُ، والمنطَلِقُ زيدٌ). فيكون لك في كل واحدٍ من هذه الأَحْوال، غَرضٌ خاصٌّ وفائدةٌ لا تكون في الباقي. وأَنا أفسر لك ذلك. إعلمْ أنك إذا قلت: (زيدٌ منطلقٌ)، كان كلامك مع مَنْ لم يعلَمْ أنَّ انطلاقاً كان، لا مِنْ زَيْد ولا مِنْ عَمْرو. فأنتَ تُفيدُه ذلك ابتداءً. وإذا قلتَ: (زيدٌ المنطلقُ)، كان كلامُك مع مَنْ عَرَفَ أنَّ انطلاقاً كان، إمَّا من زَيْد، وإمّا من عَمرو؛ فأنتَ تُعْلِمه أنه كان من زيدٍ دون غيره، والنُكتةُ أنك تُثْبِتُ في الأول الذي هو قولك: (زيدٌ منطلقٌ)، فِعْلاً لم يَعْلم السامعُ من أصْله أنه كان، وتُثبتُ في الثاني الذي هو (زيدٌ المنطلقُ) فعْلاً قد عَلِمَ السامعُ أنه كان، لكنهُ لم يَعْلَمهُ لِزَيْدٍ، فأَفَدْتَهُ ذلك؛ فقد وافقَ الأول في المعنى الذي له كان الخبر خبراً، وهو إثبات المعنى للشيء، وليس يَقْدَح في ذلك أنك كنْتَ قد علمْتَ أنَّ انطلاقاً كان من أحَدِ الرجلين، لأنك إذا لم تَصِلْ إلى القَطْع على أنه كان من زيدٍ دون عمروٍ، كان حالُك في الحاجة إلى مَنْ كان يُثْبته لزيدٍ، كحالك إذا لم تَعْلم أنه كان من أَصْله. وتمامُ التحقيق أنَّ هذا كلامٌ يكون معك إذا كنت قد بُلِّغْتَ أنه كان مِن إنسانٍ انطلاقٌ مِنْ موضع كذا في وَقْتِ كذا لغرضِ كذا، فجوَّزْتَ أن يكون ذلك كان مِنْ زيد. فإذا قيل لك: (زيدٌ المنطلق): صار الذي كان معلوماً على جهة الجواز معلوماً على جهة الوجوب. ثم إنهم إذا أرادوا تأكيدَ هذا الوجوبِ، أدْخلوا الضميرَ المسمَّى فصْلاً بين الجزءين فقالو: (زيدٌ هو المنطلقُ).

ومن الفرق بين المسألتين - وهو مما تَمسُّ الحاجةُ إلى معرفتهِ - أنك إذا نكَّرْتَ الخبرَ، جاز أن تأتيَ بمبتدأ ثانٍ على أنْ تُشركه بحرفِ العطفِ في المعنى الذي أخبرْتَ به عن الأول. وإذا عرَّفتَ، لم يَجُزْ ذلك. تفسير هذا أنك تقول: (زيد منطلق وعمرو). تريد: "وعمرو منطلق أيضاً" ولا تقول: (زيد المنطلق وعمرو). ذلك، لأن المعنى مع التعريف على أنك أردْتَ أن تُثبت انطلاقاً مخصوصاً، قد كان من واحدٍ. فإذا أَثْبتَّه لزيدٍ لم يَصِحَّ إثباتُه لعمرو، ثم إن كان قد كان ذلك الانطلاقُ من اثنينٍ، فإنه ينبغي أن تَجْمَع بينهما في الخبر فتقول: (زيد وعمرو هما المنطلقان). لا أن تُفرِّق فتُثْبِتَه أولاً لزيد، ثم تجيء فتُثْبتَه لعمرو. ومن الواضح في تمثيل هذا النحو قولُنا: هو القائلُ بيتَ كذا: كقولك: جريرٌ هو القائل [من الطويل]: وليس لسيفي في العظام بقيّةٌ فأنتَ لو حاولتَ أن تُشْرك في هذا الخبر غيرَه فتقول: جريرٌ هو القائلُ هذا البيتَ وفلان: حاولتَ مُحالاً، لأنه قولُهُ بعينه. فلا يُتصوَّر أن يُشرَكَ جريراً فيه غيرُه. القصر في التعريف واعلمْ أنك تَجد الأَلف واللام في الخبر على معنى الجنس، ثم تَرى له في ذلك وجوها: (أحدها) أن تَقْصُرَ جنْسَ المعنى على المُخْبَر عنه لقَصْدِك المبالغةَ، وذلك قولُك: (زيدٌ هو الجوادُ وعَمرو هو الشجاع) تريد أنه الكاملُ، إلاَّ أنكَ تُخْرجُ الكلامَ في صورة تُوهم أنَّ الجود أو الشجاعةَ لم تُوجَدْ إلا فيه. وذلك لأنك لم تَعْتَدَّ بما كان مِنْ غَيْره لقُصوره عن أن يَبْلغَ الكمالَ؛ فهذا كالأول في امتناع العَطْف عليه للإشراك. فلو قلت: (زيد هو الجواد وعمرو): كان خَلْفاً من القول.

(والوجه الثاني) أن تَقْصُرَ جِنسَ المعنى الذي تُفيدُه بالخبر، على المُخْبرَ عنه، لا على معنى المبالغة وتَرْك الاعتداد بوجوده في غير المخْبَر عنه، بل على دعوى أنه لا يُوجَدُ إلا منه؛ ولا يكون ذلك إلاَّ إذا قيَّدت المعنى بشيءٍ يُخصِّصُه ويجعله في حكم نوع برأسه، وذلك كنحو أن يُقيَّد بالحال والوقْتِ، كقولك: (هو الوَفِيُّ حينَ لا تَظُنَّ نفسٌ بنفسٍ خيراً): وهكذا إذا كان الخبرُ بمعنًى يتعدَّى، ثم اشترطْتَ له مفعولاً مخصوصاً، كقول الأعشى [من المتقارب]: هو الواهبُ المائةَ المُصْطَفا ... ةَ إمَّا مِخاضاً وإما عِشَاراً فأنتَ تَجْعلُ الوفاءَ في الوقت الذي لا يَفي فيهِ أحَدٌ نوعاً خاصاً من الوفاء؛ وكذلك تجعلُ هِبَة المائةِ من الإبل نوعاً خاصاً وكذا الباقي. ثم إنك تَجعلُ كلَّ هذا خبراً على معنى الاختصاص، وأنَّه للمذكور دون مَن عَداهُ. ألا تَرى أنَّ المعنى في بيت الأعشى أنه لا يَهَبُ هذه الهبةَ إلا الممدوحُ! وربما ظنَّ الظانُّ أنَّ (اللام) في "هو الواهبُ المائةَ المصطفاة" بمنزلتها في نحو: زيدٌ هو المنطلق" من حيث كان القصد إلى هبةٍ مخصوصةٍ، كما كان القصدُ إلى انطلاقٍ مخصوصٍ، وليس الأمر بذلك. لأنَّ القصدَ ههنا إلى جنس من الهبة مخصوصٍ، لا إلى هبةٍ مخصوصةٍ بعينها. يَدُلُّكَ على ذلك أن المعنى على أنه يتكرَّر منه وعلى أنه يَجعلُه يَهبُ المائةَ مرةً بعد أُخرى. وأما المعنى في قولك: "زيد هو المنطلق": فعلى القصد إلى انطلاقٍ كان مرة واحدة لا إلى جنسٍ من الانطلاق، فالتكرُّر هناك غيرُ مُتصوَّر، كيف وأنتَ تقول: جريرٌ هو القائل [من الطويل]: وليس لسيفي في العظام بقيةٌ تُريد أن تُثبتَ له قِيلَ هذا البيت وتأليفَه. فأفْصِلْ بين أن تقْصِد إلى نوع فعلٍ بين أن تقصدَ إلى فعلٍ واحدٍ متعيَّنٍ، حالهُ في المعاني حالُ زَيْد في الرجال، في أنه ذاتٌ بعينها. (والوجه الثالث) أن لا يَقصد قصْرَ المعنى في جنسه على المذكور لا كما كان في "زيدٌ هو الشجاع" تُريد أن لا تعتدَّ بشجاعة غيره، ولا كما ترى في قوله: (هو الواهب المائة المصطفاة) لكن على وجهٍ ثالثٍ وهو الذي عليه قول الخنساء [من الوافر]:

إذا قَبُحَ البكاءُ على قتيلٍ ... رأَيْتُ بكاءَكَ الحسَنَ الجَميلا لم تُرِدْ أنَّ ما عدا البكاءَ عليه فليس بحَسَنٍ ولا جَميل، ولم تقيد الحَسَن بشيءٍ فيتُصوَّر أن يُقْصَرَ على البكاء كما قَصَرَ الأعشى هبةَ المائةِ على الممدوح، ولكنها أرادات أن تُقِره في جنسِ ما حُسْنُهُ الحُسْنُ الظاهرُ الذي لا يُنْكرهُ أحدٌ ولا يَشكُّ فيه شاكٌّ. ومثله قوله حسان [من الطويل]: وإنَّ سَنام المَجْدِ من آلِ هاشمٍ ... بَنُو بنْتِ مَخْزومٍ ووالدُك العَبْدُ أراد أن يُثْبِتَ العبوديةَ ثم يجعلَه ظاهرَ الأمرِ فيها ومعروفاً بها. ولو قال: (ووالدُك عبدُ)، لم يكنْ قد جعلَ حالَه في العبودية حالةً ظاهرة متعارَفَة. وعلى ذلك قول الآخر [من الطويل]: أُسُودٌ إذا ما أبدتِ الحربُ نابها ... وفي سائر الدهر الغيوثُ المواطرُ نكت أخرى واعلمْ أنَّ للخبر المعُرَّف (بالألف واللام) معنًى غيرَ ما ذكرتُ لك، ولهُ مَسْلكٌ ثَمَّ دقيق ولَمَحَةٌ كالخَلْسِ يكون المتأمِّلُ عنده كما يقال، يُعرَّف وينكَّر ذلك قولك: (هو البطَلُ المحامي وهو المُتَّقى المرتَجَى). وأنتَ لا تقصدُ شيئاً مما تقَدَّم. فلستَ تشيرُ إلى معنى قد عَلمَ المخاطَبُ أنه كان، ولم يَعْلَمْ أنه ممَّن كان، كما مضى في قولك: (زيد هو المنطلقُ). ولا تريد أن تقصُرَ معنى عليه، على معنى أنه لم يَحصُلْ لغيره على الكَمال، كما كان في قولك: (زيد هو الشجاعُ)، ولا أن تقول إنه ظاهر بهذهِ الصفة كما كان في قوله: (ووالدُكَ العبْدُ)، ولكنك تُريد أن تقول لصاحبك: (هل سمعتَ بالبَطل المحامي؟ وهل حصَّلْتَ معنى هذه الصفةِ؟ وكيفَ ينبغي أن يكون الرجلُ حتى يَستحِقَّ أن يُقالَ ذلك له وفيه؟) فإن كنتَ قلتَهُ عِلماً وتصوَّرْتَه حقَّ تصوّره، فعليكَ صاحبَك واشدُدْ به يدَك، فهو ضالَّتُكَ وعندَه بُغْيتُكَ، وطريقُه كطريقِ قولكِ: هل سمعتَ بالأَسَد، وهل تعرفُ ما هو؟ فإِن كنتَ تَعرفُه فَزيدٌ هو هو بعينه. نكت أخرى في التعريف * ويزداد هذا المعنى ظهوراً بأن تكون الصفةُ التي تريدُ الإخبار بها عن المبتدأ، مُجْراةً على موصوفٍ كقول ابن الرومي [من الطويل]:

هو الرجُلُ المَشْرُوكُ في جُلِّ مالِهِ ... ولكنَّه بالمَجْد والحَمْد مُفْرَدُ تقديرُه، كأنه يقول للسامع: فكِّرْ في رجلِ لا يتميزُ عفاتُه وجيرانُه ومعارِفُه عنه في ماله وأَخْذ ما شاؤوا منه، فإذا حصَلتْ صورتُه في نفسك، فاعلمْ أنه ذلكَ الرجلُ. وهذا فنٌّ عجيبُ الشأنِ وله مكانٌ من الفخامة والنُبْل، وهو من سِحْر البيان الذي تَقْصُرُ العبارةُ عن تأدية حقِّه، والمُعَوَّلُ فيه على مراجعة النفس واستقصاءِ التأمُّلِ؛ فإذا علمتَ أنه لا يريد بقوله: "الرجلُ المشروكُ في جل ماله"، أن يقول: هو الذي بَلَغَكَ حديثهُ وعرفْتَ مِنْ حالهِ وقصَّته أنه يُشرَكُ في جُلِّ ماله، على حد قولِكَ: هو الرجلُ الذي بلغَكَ أنه أنفقَ كذا والذي وهَبَ المائة المصطفاة من الإبل، ولا أن يقول: إنه على معنى "هو الكاملُ في هذه الصفةِ حتى كأنَّ ههنا أقواماً يُشركون في جلِّ أمواله إلا أنه في ذلك أكملُ وأتَمُّ" لأنَّ ذلك لا يُتَصوَّر. وذاك أنَّ كوْنَ الرجل بحيثُ يُشْرَك في جُلِّ ماله، ليسَ معنىً يَقعُ فيه تَفاضُلٌ، كما أن بَذْلَ الرجلِ كَلَّ ما يَملكُ كذلك؛ ولو قيل: الذي يُشْرَكُ في ماله، جاز أن يَتفاوَتَ. وإذا كان كذلك علمت أنه معنًى ثالث وليس إلا ما أشرْتَ إليه من أنه يقولُ للمخاطب: ضَعْ في نفسك معنى قولِك "رجلٌ مشروكٌ في جُلِّ مالهِ" ثم تأمل فلاناً فإنك تستملي هذه الصورةَ منه وتَجدهُ يؤدِّيها لك نَصّاً ويأتيكَ بها كَمَلاً. وإن أردْتَ أن تسمع في هذا المعنى ما تَسْكُن النفسُ إليه سكونَ الصادي إلى بَرْد الماء، فاسمعْ قوله [من الطويل]: أنا الرجلُ المدعوُّ عاشِقَ فقرِهِ ... إذا لَمْ تُكارِمْني صروفُ زماني وإن أردت أعجب من ذلك فقوله [من الكامل]: أهدى إليَّ أبو الحُسين يداً ... أَرْجو الثوابَ بها لَدَيْهِ غَدا وكَذَاك عاداتُ الكَريم إذا ... أولى يداً حُسِبَتْ عليه يدا إن كان يحْسدُ نفْسَه أحَدٌ ... فلأَزْعُمنَّكَ ذلكَ الأَحدا

فهذا كلُّه على معنى الوْهم والتقدير، وأن يُصَوِّر في خاطره شيئاً لم يَره ولم يَعْلمه، ثم يُجْريه مجرى ما عَهِد وعَلِم. وليس شيءٌ أغلبَ على هذا الضرْبِ المَوْهوم من "الذي"، فإنه يجيء كثيراً على أنك تُقدِّر شيئاً في وَهْمك ثم تُعبِّر عنه "بالذي". ومثال ذلك قولُه [من الطويل]: أخُوكَ الذي إنْ تَدْعُه لِمُلِمَّةِ ... يُجبْكَ وإن تَغْضَبْ إلى السيفِ يَغْضَبِ وقولُ الآخر [من الطويل]: أخُوكَ الذي إنْ رِبْتَهُ قال إِنَّما ... أرَبْتُ وإنْ عاتبْتَهُ لان جانِبُهْ فهذا ونحْوُه على أنك قدَّرْتَ إنساناً هذه صفتُه وهذا شأْنُه، وأَحلْتَ السامعَ على من يَتعيَّنُ في الوهم، دون أن يكون قد عرفَ رجلاً بهذه الصفة، فأعلمتَه أن المستحِقَّ لاسم الأُخوَّة هو الذي عرفه، حتى كأنك قلتَ: (أخوك زيدٌ الذي عرفتَ أنك إن تدْعُه لِمُلمَّة يُجِبْك). ولكَوْن هذا الجنس معهوداً من طريق الوهم والتخيل، جرى على ما يُوصفُ بالاستحالة، كقولكَ للرجل وقد تَمنَّى: (هذا هو الذي لا يكونُ وهذا ما لا يَدْخُل في الوجود). وقولُه [من الكامل]: ما لا يَكونُ فلاَ يَكونُ بحيلَةٍ ... أبداً وما هُوَ كائنٌ سَيُكُونُ ومن لطيف هذا الباب قولُه [من الطويل]: وإنِّي لمشتاقٌ إلى ظلِّ صاحبِ ... يَروقُ ويَصْفو إنْ كَدِرْتُ عليهِ قد قدَّر كما تَرى ما لم يعلمْه موجوداً، ولذلك قال المأمون: خذْ منِّي الخِلافةَ وأعطني هذا الصاحب: فهذا التعريف الذي تَراه في الصاحب، لا يَعْرِضُ شكٌّ أنه موهوم.

وأمَّا قولُنا: (المنطلقُ زيدٌ) والفرْقُ بينه وبين "زيدٌ المنطلق"، فالقولُ في ذلك أنك، وإنْ كنتَ تَرى في الظاهر أنهما سواءٌ من حيثُ كونُ الغرضِ في الحالين إثباتَ انطلاقٍ قد سبق العلمُ به لزيدٍ، فليسَ الأمرُ كذلك؛ بل بين الكلامَيْن فصْلٌ ظاهرٌ؛ وبيانُه أنك إذا قلت: (زيدٌ المنطلقِ)، فأنتَ في حديث انطلاقٍ قد كان، وعرَفَ السامعُ كونَه (إلاَّ أنه لم يَعْلم أَمِنْ زيدٍ كان أمْ مِن عَمرو؟ فإذا قلت: (زيدٌ المنطلقُ)، أزلتَ عنه الشكَّ وجعلْتَه يَقْطعُ بأنه كان مِنْ زيدٍ بعد أن كان يَرى ذلك على سَبيل الجَواز. وليس كذلك إذا قدمت "المنطلقُ"، فقلت: (المنطلقُ زيدٌ). بل يكونُ المعنى حينئذٍ على أنك رأَيْتَ إنساناً ينطلق بالبُعْد منك، فلم يَثْبتْ ولم تعلَمْ أزيدٌ هو أمْ عمروٌ، فقال لك صاحبُك: المنطلقُ زيد. أي هذا الشخصُ الذي تراه من بُعْد هو زيد. وقد تَرى الرجلَ قائِماً بين يديك وعليه ثوبُ ديباجٍ، والرجلُ ممن عرفْتَه قديماً، ثم بَعُدَ عَهْدُك به، فتناسَيْتَه، فيقالُ لك: اللابسُ الديباج صاحبُك الذي كان يكونُ عندك في وقتِ كذا، أمَا تعرِفُه؟ لَشَدَّ ما نَسِيتَ! ولا يكونُ الغَرضُ أن يُثْبَتَ له لبسُ الديباج لاستحالة ذلك من حيثُ إنَّ رؤيتَك الديباجَ عليه تُغْنيك عن إخبار مُخْبر وإثبات مُثْبتٍ لُبسَه له؛ فمتى رأيتَ اسمَ فاعلٍ أو صفةً من الصفات قد بُدئ به فجُعل مبتدأً وجُعل الذي هو صاحبُ الصفة في المعنى، خبراً، فاعلَمْ أن الغرضَ هناك غيرُ الغرض إذا كان اسمُ الفاعل أو الصفة خبراً كقولك: (زيدٌ المنطلقُ).

واعلمْ أنه ربما اشتَبهتْ الصورةُ في بعض المسائل من هذا الباب، حتى يُظنَّ أنَّ المعرفتين إذا وقعتا مبتدأ وخبراً، يختلف المعنى فيهما بتقديم وتأخير؛ ومما يُوهم ذلك قولُ النحويين في (باب كان): إذا اجتمعَ معرفتانِ، كنتَ بالخِيار في جعْلِ أيهما شئتَ اسماً والآخر خَبراً، كقولك: (كان زيدٌ أخاك وكان أخوك زيداً) فيُظَنُّ مِنْ ههنا أنَّ تكافؤَ الاسمينِ في التعريف، يقتضي أن لا يَختلِف المعنى بأن تَبدأَ بهذا وتُثَنِّي بذاك، وحتى كان الترتيبُ الذي يُدَّعى بين المبتدأ والخبر وما يُوضع لهما من المنزلة في التقدم والتأخر، يسقط ويرتفع إذا كان الجزآن معاً معرفتين. ومما يُوهم ذلك أنك تقول: (الأميرُ زيد وجئتُك والخليفةُ عبدُ الملك). فيكون المعنى على إثبات الإمارة لزيدٍ، والخلافةِ لعبد الملك، كما يكون إذا قلت: (زيدٌ الأميرُ وعبدُ الملك الخليفة). وتَقولُه لمن يُشَاهِدُ ومَنْ غائبٌ عن حضرة الإمارة ومعْدِن الخلافة. وهكذا مَنْ يتوهَّمُ في نحو قوله [من الطويل]: أبوك حُبابٌ سارقُ الضيف بُرْدَهُ ... وجَدِّيَ يا حَجَّاجُ فارسُ شَمَّرا أنه لا فَصْلَ بينه وبين أن يقال: (حبابٌ أبوك وفارس شمَّر جَدِّي). وهو موضع غامض. والذي يُبيِّن وجهَ الصواب ويدلُّ على وجوب الفرق بين المسألتين، أنك إذا تأملْتَ الكلام وجدْتَ ما لا يَحْتَمِلُ التسوية وما تجدُ الفرْقَ قائماً فيه قياماً لا سبيل إلى دَفْعه، هو الأَعَمَّ الأكثر. وإن أردتَ أَنْ تعرف ذلك، فانظرْ إلى ما قدَّمتُ لك من قولك: (اللابسُ الديباجَ زيدُ)؛ وأنتَ تُشير له إلى رجلٍ بين يديه؛ ثم انظرْ إلى قول العَرب: (ليسَ الطِّيبُ إلا المِسْك). وقول جرير [من الوافر]: ألستُمْ خيرَ مَنْ رَكبَ المطايا ونحو قول المتنبي [من الوافر]: ألستَ ابنَ الأولى سَعِدوا وسادوا وأشباهِ ذلك مما لا يُحصى ولا يُعَدُّ. وأرِدِ المعنى على أن يسلم لك مع قلب طَرَفَيْ الجملة وقل: (ليس المسكُ إلا الطيبَ): و: "أليس خيرُ مَنْ ركب المطايا إياكم) و: (أليس ابنُ الأولى سعِدوا وسادوا إياك؟) تعلمْ أنَّ الأمر على ما عرَّفْتُك من وجوبِ اختلاف المعنى، بحسب التقديم والتأخير.

* وههنا نكتة يجب القطع معها بوجوب هذا الفرق أبداً، وهي أنَّ المبتدأَ لم يكُنْ مبتدأً لأنه منطوق به أولا، ولا كان الخبرُ خَبراً لأنه مذكورٌ بَعْد المبتدأ، بل كان المبتدأُ مبتدأً لأنه مُسْندٌ إليه، ومُثْبَتٌ له المعنى، والخبَرُ خبراً لأنه مسنَدٌ ومثْبَتٌ به المعنى. تفْسير ذلك أنك إذا قلت: (زيدٌ منطلقٌ) فقد أثبتَّ الانطلاقَ لزيد وأَسندْتَه إليه. (فَزَيدٌ) مثبَتٌ له، و (منطلقٌ) مثْبَتٌ به. وأمَّا تقديمُ المبتدأ على الخبر لفظاً، فحكْمٌ واجبٌ من هذه الجهة، أي من جهة أنْ كان المبتدأ هو الذي يُثْبَتُ له المعنى ويسند إليه، والخبَرُ هو الذي يُثْبَتُ به المعنى ويُسنَد. ولو كان المبتدأ مبتدأً لأنه في اللفظ مقدَّمٌ مبدوءٌ به، لكان ينبغي أن يَخْرج عن كونه مبتدأ بأن يقال: (منطلقٌ زيد). ولوجَبَ أن يكون قولهم: إن الخبر مقدم في اللفظ والنيَّةُ به التأخيرُ: محالاً. وإذا كان هذا كذلك ثم جئتَ بمعرفَتَيْن، فجعلْتَهما مبتدأً وخبراً، فقد وجَبَ وجوباً أن تكون مثبِتاً بالثاني معنًى للأَول، فإذا قلتَ: (زيدٌ أخوك): كنتَ قد أثبتَّ "بأخوك" معنى لزيدٍ، وإذا قدَّمتَ وأخَّرتَ فقلتَ: (أخوك زيد): وجَب أن تكون مُثْبتاً بزيدٍ معنًى لـ "أخوك"، وإلاَّ كان تسميتُكَ له الآن مبتدأً وإذ ذاك، خبراً، تغييراً للاسم عليه مِنْ غيرِ معنًى، ولأَدَّى إلى أن لا يكونَ لقولهم "المبتدأُ والخبر" فائدةٌ غير أن يتقدم اسمٌ في اللفظ على اسمٍ من غير أن ينفرد كلُّ واحدٍ منهما بحكْمٍ لا يكون لصاحبه، وذلك مما لا يُشكُّ في سقوطه.

ومما يدلُّ دلالةً واضحةً على اختلاف المعنى - إذا جئتَ بمعرفتَيْن ثم جعلتَ هذا مبتدأً وذاك خبراً تارةً، وتارةً العكس - قولُهم: (الحبيبُ أنتَ وأنتَ الحبيبُ). وذاك أن معنى "الحبيبُ أنتَ" أنه لا فصْل بينك وبين مَنْ تُحبُّه إذا صدَقَت المحبةُ، وأنَّ مثَل المتحابَّيْنِ مثَلُ نفْسٍ يقتسمها شخصان، كما جاء عن بعض الحكماءِ أنه قال: (الحبيبُ أنتَ إلا أنه غيرُكَ). فهذا كما ترى فَرْقٌ لطيف ونكتةٌ شريفةٌ. ولو حاولتَ أن تُفيدها بقولك: (أنت الحبيب): حاولتَ ما لا يَصِحُّ، لأن الذي يُعْقَل من قولك: أنتَ الحبيب، هو ما عناه المتنبي في قوله [من البسيط]: أنتَ الحبيبُ ولكنِّي أعوذُ به ... مِنْ أنْ اكونَ مُحِبّاً غيرَ مَحْبوبِ ولا يَخفى بُعْدُ ما بين الغرضَيْن. فالمعنى في قولك: "أنتَ الحبيبُ" أنَّكَ الذي أخْتَصُّه بالمحبة من بين الناس. وإذا كان كذلك، عرفتَ أنَّ الفرْقَ واجبٌ أبداً، وأنه لا يجوز أن يَكون "أخوك زيدٌ" و "زيدٌ أخوك" بمعنى واحدٍ. *وههنا شيءٌ يجب النظرُ فيه، وهو أنَّ قولك: (أنتَ الحبيبُ): كقولنا: (أنتَ الشجاعُ) تُريد أنه الذي كملتْ فيه الشجاعةُ. أو كقولنا: (زيدٌ المنطلقُ)، تريد أنه الذي كان منه الانطلاق الذي سمِعَ المخاطَبُ به. وإذا نظرْنا وجدناه لا يَحْتمِل أن يكون كقولنا: أنتَ الشجاع، لأنه يقتضي أن يكون المعنى أنَّه لا مَحبَّة في الدنيا إلا ما هو بهِ حبيبٌ، كما أنَّ المعنى في "هو الشجاعُ" أنه لا شجاعة في الدنيا إلاَّ ما تَجِِدُه عنده، وما هو شجاع به. وذلك مُحال.

* وأمرٌ آخر، وهو أنَّ "الحبيب" (فعيل) بمعنى (مفعول). فالمحبةُ إذْن ليستْ هي له بالحقيقة، وإِنما هي صفةٌ لغيرِه، قد لابَسَتْه وتعلَّقَتْ به تعلُّقَ الفعل بالمفعول. والصفةُ إذا وُصِفَتْ بكمالٍ، وُصِفتْ به على أَنْ يَرجِعَ ذلك الكمالُ إلى مَنْ هي صفةٌ له دون مَن تُلابِسُه ملابسةَ المفعول. وإذا كان كذلك، بَعُدَ أن تَقولَ: (أنتَ المحبوبُ) على معنى: أنتَ الكامل في كونك محبوباً، كما أنَّ بعيداً أن يقال: (هو المضروبُ) على معنى أنه الكامل في كونه مضروباً؛ وإنْ جاء شيءٌ من ذلك، جاء على تعسُّفٍ فيهِ وتأويلٍ لا يُتصوَّر ههنا، وذلك أنْ يقال مثلاً: (زيدٌ هو المظلوم) على معنى أنه لم يُصِبْ أحداً ظلمٌ يَبلغُ في الشدة والشناعة، والظلْمَ الذي لَحِقَه. فصار كلُّ ظلم سِواهُ عَدْلاً في جَنْبهِ؛ ولا يجيءُ هذا التأويل في قولنا: (أنتَ الحبيبُ) لأنَّا نَعْلم أنهم لا يريدون بهذا الكلام أن يقولوا: إن أحداً لم يُحِبَّ أحداً محبَّتي لكَ، وإنَّ ذلك قد أَبْطَلَ المحبَّاتِ كلَّها، حتى صِرْتَ الذي لا يُعْقَلُ للمحبة معنًى إلاَّ فيه. وإنما الذي يريدون: أَنَّ المحبةَ معنى بجملتها، مقصورةٌ عليكَ، وأنه ليس لأحدٍ غيرَكَ حظٌّ في محبةٍ منِّي. وإذا كان كذلك، بانَ أَنه لا يكونُ بمنزلةِ "أنت الشجاع"، تريد الذي تكاملَ الوصفُ فيه. إلا أنه ينبغي من بَعْدُ أن تعْلم أَنَّ بينَ "أنتَ الحبيبُ" وبينَ "زيدٌ المنطلقٌ" فرقاً، وهو أنَّ لكَ في المحبة التي أَثْبَتَّها، طرفاً من الجنسية من حيث كان المعنى أنَّ المحبة مني بجملتها مقصورةٌ عليك، ولم تَعمدْ إلى محبةٍ واحدةٍ من مَحَبَّاتك. ألا تَرى أنك قد أَعطَيْتَ بقولك: "أنتَ الحبيبُ" أنك لا تُحِبُّ غيرَه وأن لا محبةَ لأحدٍ سواه عندَك؛ ولا يُتَصوَّر هذا في "زيدٌ المنطلق"، لأنه لا وجْهَ هناك للجنسية، إذْ ليس ثَمَّ إلا انطلاقٌ واحدٌ قد عَرفَ المخاطبُ أنه كان، واحتاج أن يُعيَّن له الذي كان منه ويُنَصَّ له عليه، فإن قلتَ: زيدٌ المنطلقُ في حاجتك، تريد الذي من شأنه أن يَسْعى في حاجتك، عرَضَ فيه معنى الجنسيةِ حينئذٍ على حدها في "أنتَ الحبيب".

وههنا أصْلٌ يجب أن تُحْكِمَهُ، وهو أنَّ من شأن أسماءِ الأجناسِ كلِّها، إذا وُصِفَتْ، أن تَتنوَّعَ بالصفة، فيصيرَ الرجلُ الذي هو جنسٌ واحدٌ إذا وصفْتَه فقلتَ "رجلٌ ظريفٌ ورجل طويلٌ ورجلٌ قصيرٌ ورجل شاعرٌ ورجل كاتبٌ"، أنواعاً مختلفةً يُعَدُّ كلُّ نوعٍ منها شيئاً على حِدَة، ويُسْتأْنَف في اسم الرجل بكل صفةٍ تَقْرِنها إليه جنسية. وهكذا القولُ في المصادر تقول: (العلمُ والجهلُ والضربُ والقتلُ والسيرُ والقيامُ والقعودُ)، فتجدُ كلَ واحدٍ من هذه المعاني جنساً، كالرجل والفرس والحمار؛ فإذا وصفتَ فقلت: "عِلمُ كذا وعلمُ كذا، كقولك: علمٌ ضروريٌّ، وعلْمٌ مكتَسَبٌ، وعلمٌ جليٌّ، وعلمٌ خَفيٌّ، وضرْبٌ شديدٌ، وضربٌ خفيفٌ، وسَيرٌ سريعٌ، وسيرٌ بطيءٌ" وما شاكَلَ ذلك، انقسم الجِنْسُ منها أقساماً، وصار أنواعاً وكان مَثَلُها مثَلَ الشيءِ المجموعِ المؤلفِ تَفْرُقُه فِرَقاً وتَشْعَبُه شُعبَا. وهذا مذهبٌ معروف عندهم وأصْلٌ متعارف في كل جيل وأُمَّة. * ثم إن ههنا أصلاً، هو كالمتفرِّع على هذا الأصل، أو كالنظيرِ له، وهو أن من شأن المصدر أن يفرَّقَ بالصَّلات، كما يُفرَّقُ بالصِّفات. ومعنى هذا الكلام أنَّك تقولُ: "الضربُ"، فتراه جنساً واحداً؛ فإذا قلتَ: "الضربُ بالسيف" صار تعْدِيتُكَ له إلى السيف نوعاً مخصوصاً. ألا تراكَ تَقولُ: (الضربُ بالسيف غيرُ الضربِ بالعصا). تُريدُ أنهما نوعانِ مختلفانِ، وأنَّ اجتماعَهما في اسم الضَّرْب، لا يُوجب اتفاقَهما، لأن الصلة قد فصلَتْ بينهما وفرَّقَتْهما. ومن المثالَ البيِّن في ذلك قولُ المتنبي [من الكامل]: وتوهَّمُوا اللعِبَ الوَغى والطعنُ في الـ ... ـهيجاءِ غيرُ الطَّعْنِ في الْمَيْدَانِ

لولا أنَّ اختلافَ صلةِ المصدرِ تَقْتضي اختلافه في نفسِه، وأن يَحْدُثَ فيه انقسامٌ وتَنوُّعٌ، لَمَا كان لهذا الكلامِ معنًى، ولَكانَ في الاستحالة، كقولكِ: "والطعنُ غير الطعن": فقد بان إذْن أنه إنما كان كلُّ واحدٍ من الطَّعْنَيْن جِنْساً بَرأْسِهِ غيرَ الآخَر، بأَنْ كان هذا في الهيجاء وذاك في الميدانِ. وهكذا الحُكْم في كل شيء تعدَّى إليه المصْدَرُ وتعلَّقَ به. فاختلاف مفعولَيْ المصدر يقتضي اختلافَه، وأن يكونَ المتعدِّي إلى هذا المفعولِ غيرَ المتعدِّي إلى ذاك. وعلى ذلك تقولُ: (ليسَ إعطاؤكَ مُعْسِراً كإعطائك مُوسِراً). و (ليس بذْلُكَ وأنتَ مُقِلٌّ كبَذْلِكَ وأنتَ مُكْثِرٌ). وإذْ قد عرفْتَ هذا مِن حُكْم المصدر فاعتبرْ به حكْمَ الاسمِ المشتقِّ منه. وإذا اعتبرْت ذلك، علمْتَ أَنَّ قولك: (هو الوفيُّ حين لا يَفي أحدٌ وهو الواهبُ المائةَ المصطفاة) وقوله [من الخفيف]: وَهُوَ الضارِبُ الكتيبةَ والطَّعْـ ... ـنَةُ تَغْلُو والضَّرْبُ أَغْلى وأَعْلى وأشباه ذلك، كلُّها أخبارٌ فيها معنى الجنسية وأنها في نوعها الخاصِّ بمنزلة الجنس المُطْلَق إذا جعلْتَه خبَراً فقلتَ: (أنت الشجاع). وكما أنكَ لا تَقْصِد بقولك: (أنتَ الشجاعُ) إلى شجاعةٍ بعينها قد كانتْ وعُرِفَتْ من إنسانٍ وأَردْتَ أن تَعرفَ ممَّنْ كانت، بل تُريد أن تَقْصُرَ جنْسَ الشجاعةِ عليه، ولا تَجعلُ لأحدٍ غيرهِ فيه حظَّاً، كذلك لا تَقصدُ بقولك: "أنتَ الوفيُّ حين لا يَفي أحدٌ" إلى وفاءٍ واحد، كيفَ وأنتَ تقول "حين لا يفي أحد" وهكذا مُحالٌ أن يَقصِدَ في قوله: "هو الواهبُ المائة المصطفاةَ" إلى هبةٍ واحدةٍ، لأنه يقتضي أَن يقصِدَ إلى المائة من الإبل قد وَهَبها مرةً ثم لم يَعُدْ لِمِثْلها، ومعلومٌ أنه خلافُ الغرضِ، لأنَّ المعنى أنه الذي مِنْ شأنه أن يَهَبَ المائةَ أبداً والذي يبلغ عَطاؤه هذا المبلغَ كما تقول: هو الذي يعطي مادِحَه الألفَ والألْفَين، وكقوله [من الزجر]: وحاتمُ الطائيُّ وهَّابُ المِئي وذلك أوضَحُ من أنْ يَخْفى.

* (وأصْلٌ آخر) وهو أن مِنْ حَقِّنا أن نعْلم أنَّ مَذْهَب الجنسية في الاسم، وهو خَبرٌ، غيرُ مذهبها وهو مُبتدأ. تفسير هذا أنَّا وإن قلْنا: إنَّ (اللام) في قولك: "أنت الشجاع" للجنس، هو له في قولهم: "الشجاعُ موقَّى والجبان مُلقَّى". فإنَّ الفرق بينهما عظيم. وذلك أنَّ المعنى في قولك: الشجاعُ مُوَقَّى، أنك تُثْبِتُ الوقايةَ لكلِّ ذاتٍ مِنْ صفتها الشجاعةُ؛ فهو في معنى قولك: الشجعانُ كلُّهم مُوَقَّوْنَ. ولستُ أقولُ إن (الشجاع) كالشجعان على الإطلاق، وإنْ كان ذلك ظنَّ كثيرٍ من الناس، ولكني أريد أنك تَجعلُ الوقايةَ تستغرِقُ الجنْسَ وتَشْمَلهُ وتَشِيعُ فيه. وأمَّا في قولك: (أنت الشجاعُ)، فلا مَعنى فيهِ للاستغراقِ؛ إذ لسْتَ تُريد أن تَقولَ: (أنتَ الشجعانُ كلُّهم) حتى كأنكَ تَذْهَبُ به مذْهَب قولِهِمْ: (أنتَ الخَلْقُ كلُّهم، وأنتَ العالَمُ) كما قال [من السريع]: ليسَ على الله بِمُسْتَنْكَرٍ ... أنْ يَجْمَع العالَمَ في واحدِ

ولكنَّ لِحَديث الجنسيةِ ههنا مَأْخذاً آخرَ غيرَ ذلك، وهو أنك تَعْمدُ بها إلى المصدر المشتقِّ منه الصفةُ، وتُوجِّهُها إليه لا إلى نفس الصِّفَة، ثُم لكَ في تَوْجيهها إليه مَسْلَكٌ دقيقٌ؛ وذلك أنه ليس القصْدُ أَنْ تأتيَ إلى شَجاعاتٍ كثيرةٍ فَتجمَعَها له وتُوجِدَها فيه، ولا أنْ تَقول: إنَّ الشجاعاتِ التي يُتوهَّمُ وجودُها في الموصوفين بالشجاعة، هي موجودةٌ فيه لا فيهم، هذا كلُّه محالٌ. بل المعنى على أنك تقول: كنَّا قد عقَلْنا الشجاعةَ وعرَفْنا حقِيقَتَها، وما هي، وكيف يَنبغي أن يكون الإنسانُ في إقدامه وبَطْشه، حتى يَعلم أَنه شجاعٌ على الكمال، واستَقْرَيْنا الناسَ، فلم نجد في واحدٍ منهم حقيقةَ ما عرَفْناه، حتى إِذا صِرْنا إلى المخاطَبِ وَجدْناه قد استكمَلَ هذه الصفةَ واستجمعَ شرائِطَها، وأخلصَ جوهرَهَا ورسَخَ فيهِ سِنخُها. ويُبيِّن لك أنَّ الأمرَ كذلك: اتفاقُ الجميعِ على تفسيرهم له بمعنى الكامل، ولو كان المعنى على أنهُ اسْتغْرق الشجاعاتِ التي يُتوهَّمُ كونُها في الموصوفين بالشجاعة، لَمَا قالوا إنه بمعنى الكامل في الشجاعة، لأن الكمالَ هو أن تكون الصفةُ على ما ينبغي أَن تكون عليه، وأنْ لا يخالِطَها ما يَقْدحُ فيها؛ وليس الكمالُ أن تجتمع آحادُ الجنس وينضمَّ بعضُها إلى بعضٍ؛ فالغَرضُ إِذن بقولنا: (أنتَ الشجاع) هو الغرَضُ بقولهم: هذه هي الشجاعةُ على الحقيقة، وما عَداها جُبْنٌ، وهكذا يكونُ العِلْمُ وما عَداه تَخُّيلٌ، وهذا هو الشعرُ وما سواه فليس بشيء. وذلك أَظَهرُ من أَنْ يَخفى.

* (وضربٌ آخر) من الاستدلال في إبطال أن يكون: (أنت الشجاع): بمعنى أنكَ كأنكَ جميعُ الشجعان على حد "أنتَ الخلْقُ كلُّهم" وهو أنك في قولك: (أنتَ الخلقُ، وأنتَ الناسُ كلُّهم، وقد جُمِعَ العالَم منك في واحدٍ): تدَّعي له جميعَ المعاني الشريفةِ المتفرقةِ في الناسِ، من غير أن تُبْطِل تلك المعاني وتَنْفيها عن الناس، بل على أن تَدَّعي له أمْثالَها، ألا ترى أنك إذا قلتَ في الرجل: إنه مَعْدودٌ بألف رجل، فلستَ تَعْني أنه معدودٌ بألف رجلٍ لا مَعْنى فيهم ولا فضيلةَ لهم بوجْهٍ! بل تُريد أن تُعطِيَه من معاني الشجاعةِ أو العِلْمِ أو كذا أو كذا، مجموعاً مَّا لا تَجِدُ مقدارَه مفرَّقاً إلا في ألفِ رجل. وأمَّا في نحو "أنتَ الشجاعُ" فإنك تدَّعي له أنه قد انفردَ بحقيقةِ الشجاعةِ، وأنه قد أُوتي فيها مزيَّةً وخاصيَّةً لم يُؤْتَها أَحدٌ، حتى صار الذي كان يَعدُّه الناسُ شجاعةً غير شجاعة، وحتى كأَنَّ كلَّ إقدام إحجامٌ، وكلَّ قوةٍ عُرِفَتْ في الحرب ضَعْفٌ، وعلى ذلك قالوا: (جادَ حتى بَخَلَ كلَّ جواد، وحتى منَعَ أن يَسْتحِقَّ اسمَ الجوادِ أحَدٌ). كما قال [من الوافر]: وإنَّكَ لا تَجود عَلَى جوادٍ ... هِباتُكَ أنْ يُلَقَّبَ بالجوادِ وكما يقال: جادَ حتى كأن لم يُعْرَف لأحدٍ جودٌ وحتى كأن قد كَذَّبَ الواصفون الغيثَ بالجود. كما قال [من البسيط]: أعطيتَ حتى تَركْتَ الريحَ حاسِرةً ... وَجُدْتَ حتى كأنَّ الغَيْثَ لم يَجُدِ

فصل: في الذي خصوصا

فصل: في الذي خصوصاً إعْلَمْ أنَّ لك في "الذي" عِلماً كثيراً وأسراراً جمة وخفايا، إذا بحثْتَ عنها وتصوَّرْتَها، أطَّلَعْتَ على فوائدَ تُؤنِسُ النفسَ، وتُثلِجُ الصدرَ، بما يُفْضي بكَ إليه من اليقين، ويُؤدِّيه إليك من حُسْن التبيين؛ والوجْهُ في ذلك أن نتأمل عباراتٍ لهمْ فيه: لِمَ وُضِعَ، ولأيِّ غرَضٍ اجْتُلِبَ، وأشياءَ وصَفُوه بها. فمن ذلك قولهم: إن "الذي"، اجْتُلِبَ ليكون وصْلَةً إلى وصْفِ المعارف بالجُمل، كما اجتُلِب "ذو" ليُتَوصَّل به إلى الوصْف بأسماء الأجناس: يعنون بذلك أنك تقول: (مررتُ بزيد الذي أبوه منطلقٌ، وبالرجل الذي كان عندنا أمسِ). فتَجُدك قد توصَّلْتَ بالذي إلى أن أَبَنْتَ زيداً مِنْ غَيره بالجملة التي هي قولك "أبوه منطلق" ولولا "الذي" لم تَصِلْ إلى ذلك. كما أنك تقول: (مررتُ برجل ذي مالٍ: فَيتَوصلُ بـ "ذي"، إلى أن يُبَيَّن الرجلُ من غيره بالمال. ولولا "ذو" لم يتأتَّ لك ذلك، إذ لا تستطيع أن تقول: (برجلٍ مالٍ) فهذه جملة مفهومة إلا أنَّ تحتها خبايا تحتاج إلى الكشف عنها؛ فمِنْ ذلك أنْ تَعلم من أين امتنَعَ أن توصَفَ المعرفةُ بالجلمة، ولِمَ لمْ يكُن حالُها في ذلك حالَ النكرة التي تصفها بها في قولك: (مررتُ برجل أبوه مُنطلِقٌ ورأيت إنساناً تُقادُ الجنائبُ بينَ يديه). وقالوا: إن السببَ في امتناع ذلكَ، أنَّ الجمل نكراتٌ كلُّها بدَلالةِ أنها تُستفادُ، وإنما يستفاد المجهولُ دون المعلوم. (قالوا)، فلما كانت كذلك كانت وَفقاً للنكرة، فجاز وصْفُها بها ولم يَجُزْ أن توصَفَ بها المعرفةُ إذ لم تكن وَفْقاً لها.

والقول المبينُ في ذلك أن يقال: إنه إنما اجتُلِبَ حتى إذا كان قد عُرِفَ رَجلٌ بقصةٍ وأمْرٍ جرى له، فتخصَّص بتلك القصة وبذلك الأمر عند السامع، ثم أُريدَ القصْدُ إليه، ذُكِرَ "الذي". تفسيرُ هذا أنك لا تَصِلُ "الذي" إلا بجملةٍ من الكلام قد سَبق مِن السامع عِلمٌ بها وأَمرٌ قد عرَفَه له، نحْوَ أن تَرى عنده رجلاً يُنشِدُه شعراً، فتقول له من غَدٍ: (ما فعلَ الرجلُ الذي كان عندَك بالأمسِ يُنْشِدُك الشعر؟) هذا حُكْم الجملة بعد "الذي" إذا أنتَ وصفْتَ به شيئاً؛ فكان معنى قولهم: إنه اجتُلب ليتوَصَّل به إلى وصْف المعارف بالجمل: أنه جيء به لِيَفْصل بين أن يُراد ذِكْرُ الشيء بجملةٍ قد عرَفها السامعُ له، وبين أن لا يكون الأمرُ كذلك. فإن قلت: قد يؤتى بعد "الذي" بالجملة غير المعلولة للسامع، وذلك حيث يكون "الذي" خبراً كقولك "هذا الذي كان عندَك بالأَمس، وهذا الذي قَدِمَ رسولاً من الحضرة" أنتَ في هذا وشَبَهه تُعْلِم المخاطَبَ أمراً لم يَسْبق له به علمٌ، وتُفِيده من المشار إليه شيئاً لم يكن عنده، ولو لم يكن كذلك، لم يكن "الذي" خبراً، إذْ كان لا يكون الشيءُ خبراً ح تى يُفاد به. فالقول في ذلك إنَّ الجملةَ في هذا النحو، وإن كان المخاطَبُ لا يَعْلَمها لعينِ مَنْ أشرتَ إليه، فإنه لا بدَّ مِن أن يكون قد عَلِمها على الجملة، وحُدِّثَ بها، فإنك على كل حال لا تقول: (هذا الذي قدِمَ رسولاً)، لمن لم يَعْلم أن رسولاً قَدِم، ولم يبلغه ذلك في جملة ولا تفصيل. وكذا لا تقول: (هذا الذين كان عند أمسِ)، لمن قد نسيَ أنه كان عنده إنسانٌ وذهَبَ عن وَهْمه، وإِنما تَقولُه لمن ذاك على ذكرٍ منه، إلاَّ أنه رأى رجلاً يُقْبل مِن بعيد، فلا يعلم أنه ذاكَ، ويظنُّه إنساناً غيَرهُ.

وعلى الجملة فكلُّ عاقلٍ يَعلم بَوْنَ ما بين الخبرِ بالجملة مع "الذي"، وبينَها مع غيرِ "الذي". فليس مِنْ أَحَدٍ به طِرْقٌ إلاَّ وهو لا يَشكُّ أنْ ليس المعنى في قولك: (هذا الذي قَدِمَ رسولاً من الحَضْرة) كالمعنى إذا قلتَ: (هذا قدِمَ رسولا مِن الحَضْرة)؛ ولا: (هذا الذي يَسْكُن في محلَّةِ كذا). كقولك: (هذا يَسكنُ محلةَ كذا)، وليس ذاك، إلاَّ أنك في قولك "هذا قدم رسولاً من الحضرة" مبتدىءٌ خبَراً بأَمرٍ لم يَبْلْغِ السامعَ ولم يبلَّغْهُ، ولم يَعلَمْه أصلاً، وفي قولك: (هذا الذي قدِم رسولا) مُعْلِمٌ في أمرٍ قد بلَغَه أنَّ هذا صاحبُه، فلَم يَخْلُ إذن من الذي بدأنا به في أمْر الجملة مع "الذي"، مِنْ ينبغي أن تكون جملةً قد سبَقَ مِن السامع عِلْمٌ بها، فاعرْفه! فإِنَّه من المسائل التي مَن جَهلهَا، جَهِلَ كثيراً من المعاني ودخلَ عليه الغَلَظْ في كثيرٍ من الأمور، والله الموفِّق للصواب.

فروق في الحال لها فضل تعلق بالبلاغة

فروق في الحال لها فضل تعلّقٍ بالبلاغة الجملة الحالية بالواو وغيره إِعْلَمْ أنَّ أوَّل فرْقٍ في الحال، أنها تَجيءُ مفرداً وجملةً، والقصْدُ ههنا إلى الجملة، وأوَّلُ ما ينبغي أن يُضْبَطَ مِن أمرها أنها تجيء تارةً مع (الواو) وأُخْرى بغير (الواو). فمثالُ مَجيئها مع (الواو) قولك: (أتاني وعليهِ ثوبٌ ديباجٍ، ورأيتُه وعلى كَتِفهِ سيفٌ، ولقيِتُ الأميرَ والجُنْدُ حوالَيْه، وجاءني زيدٌ وهو متقلِّدٌ سيفَه). ومثالُ مَجيئها بغير (واو) "جاءني زيدٌ يَسعى غلامُه بين يَدَيْه، وأتاني عمرو يَقودُ فرسه". وفي تمييز ما يقتضي "الواو" ممَّا لا يقتضيه، صعوبةٌ، والقولُ في ذلك: إن الجملة إذا كانت من مُبتدإ وخبَرٍ، فالغالب عليها أن تَجيءَ مع "الواو" كقولك: (جاءني زيدٌ وعمرو أَمامه، وأتاني وسيفُه على كتفه)؛ فإن كان المبتدأ من الجملة ضميرَ ذي الحال، لم يَصْلح بغير "الواو" البتة، وذلك كقولك: (جاءني زيدٌ وهو راكبٌ، ورأيتُ زيداً وهو جالسٌ، ودخلتُ عليه وهو يُمْلِي الحديثَ، وانتهيتُ إلى الأمير وهو يُعَبِّىءُ الجيشَ). فلو تركتَ (الواو) في شيء من ذلك لم يصْلُح؛ فلو قلتَ: (جاءني زيدٌ هو راكبٌ، ودخلتُ عليه هو يُملي الحديثَ)، لم يكن كلاماً. فإنْ كان الخبرُ في الجملة من المبتدإ والخبر، ظرفاً، ثم كان قد قُدِّم على المبتدإ كقولنا: (عليه سيفٌ، وفي يده سَوْطٌ)، كثير فيها أن تجيء بغير (واو). فمِمَّا جاء منه كذلك قول بشار [من الطويل]: إذا أنْكَرَتْني بَلدةٌ أو نَكِرْتُها ... خرجْتُ مع البازي عليَّ سَوادُ يعني عليَّ بقيةٌ من الليل. وقول أُميَّة [من البسيط]: فاشْرَبْ هنيئاً عليكَ التاجُ مُرْتَفِقاً ... في رأس غُمْدانَ داراً منكَ مِخلالا وقول الآخر [من الطويل]: لَقَدْ صَبَرَتْ لِلذُّلِّ أعوادُ مِنْبَرٍ ... تقوُم عليها في يديكَ قضيبُ كل ذلك في موضع الحال وليس فيه "واو" كما ترى، ولا هو محتمِل لها إذا نظرتَ. وقد يجيءُ تَرْك (الواو) فيما ليس الخبرُ فيه كذلك، ولكنه لا يَكثُر. فمن ذلك قولهم: (كلَّمتُهُ فُوهُ إلى فيَّ، ورجَعَ عَوْدُهُ على بَدْئهِ)، في قول من رفع، ومنه بيت الإصلاح [من الكامل]: نَصَفَ النهارُ الماءُ غامِرُهُ ... ورَفيقُه بالغَيْبِ لا يَدْري ومن ذلك ما أنشده الشيخ أبو علي في الإغفال [من الطويل]: ولولا جَنَانُ الليلِ ما آبَ عامرٌ ... إلى جَعْفرٍ سِرْبالُه لم يُمَزَّقِ ومما ظاهرُه أنه منه قوله [من البسيط]: إذا أتيت أبا مروان تسأله ... وجَدْتَه حاضِراهُ الجودُ والكَرمُ

فقوله: "حاضِراهُ الجودُ". جملةٌ من المبتدأ والخبر كما ترى، وليس فيها "واو" والمَوضِعُ موضعُ حال؛ ألا تراك تقول (أتيتُه فوجدتُه جالساً) فيكون "جالساً" حالاً، ذاك لأن "وجدتُ" في مثل هذا مِن الكلام، لا تكون المتعدية إلى المفعولين، ولكن المتعديةَ إلى مفعولٍ واحدٍ، كقولك: (وجدْتُ الضالَّة). إلاَّ أنه ينبغي أن تَعْلم أنَّ لتقديمه الخبرَ الذي هو "حاضراه" تأثيراً في معنى الغِنى عن (الواو) وأنه لو قال: (وجدتُه الجودُ والكرَمُ حاضراه)، لم يَحسُنْ حسْنَه الآن، وكان السبب في حسْنه مع التقديم أنَّه يَقْرُبُ في المعنى من قولك: وجدته حاضرُه الجودُ والكرمُ، أو حاضراً عنده الجوُد والكرمُ. وإن كانت الجملةُ من فعل وفاعل، والفعلُ مضارعٌ مُثْبَتٌ غيرُ منفيِّ، لم يكد يَجيء (بالواو) بل تَرى الكلامَ على مجيئها عاريةً من "الواو" كقولك: (جاءني زيدٌ يَسْعى غلامُه بين يديه). وكقوله [من البسيط]: وقد علوتُ قُتودَ الرَّحْل يَسْفَعُني ... يومٌ قُدَ يْدِيمةَ الجوزاءِ مَسْمومُ وقوله [من الخفيف]: ولقد أغتدي يُدافِعُ رُكْني ... أَحْوَذِيٌّ ذو مَيْعَةٍ إضريجُ وكذلك قولك: (جاءني زيدٌ يُسْرعُ). لا فصل بين أن يكون الفعلُ لذي الحال، وبين أن يكون لمن هو مِنْ سَبَبِه؛ فإنَّ ذلك كلَّه يستمرُّ على الغنى عن "الواو" وعليه التنزيلُ والكلامُ. ومثاله في التنزيل قولُه عزَّ وجلَّ: {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6]. وقوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى * الذى يُؤْتِي مَالَهُ يتزكى} [الليل: 17ـ18] وكقوله عزَّ اسمه: {وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأعراف: 186]. فأما قولُ ابنِ همَّام السَّلوليّ [من المتقارب]: فلمَّا خَشِيتُ أَظافِرَهُمْ ... نجوتُ وأَرْهنُهُمْ مالِكا وفي روايةِ مَنْ روى "وأرهنهم" وما شبَّهوه به من قولهم: (قمتُ وأَصُكُّ وجْهَهُ). فليست "الواو" فيها للحال. وليس المعنى (نجوتُ راهناً مالِكاً وقمتُ صاكَّا وجْهَه) ولكن (أرهَنُ وأصكُّ) حكايةُ حالٍ مثلُ قولهِ [من الكامل]: ولقد أَمرُّ عَلَى اللئيمِ يَسُبُّني ... فَمضَيْتُ ثُمَّتَ قلْتُ لا يَعْنيني

فكما أن "أمُرُّ" ههنا في معنى "مررتُ"، كذلك يكون "أَرْهَنُ وأصُكُّ" هناك، في معنى "رهنتُ وصكَكْتُ". ويُبيِّن ذلك أنك ترَى (الفاء) تَجيء مكان (الواو) في مثل هذا، وذلك كنَحْو ما في الخَبرَ في حديث عبد الله بنِ عَتيك حين دخَلَ على أبي رافع اليهودي حصنَه قال: "فانتهيتُ إليه فإذا هو بيت مُظْلم لا أدري أنَّى هو من البيت، فقلتُ: أبا رافع. فقال: منْ هذا؟ فأهويتُ نحو الصوت فأضربُه بالسيف وأنا دَهِشٌ" فكما أن "أَضرِبُه" مضارع قد عطَفه (بالفاء) على ماضٍ، لأنه في المعنى ماضٍ، كذلك يكون "أرهنُهم" معطوفاً على الماضي قبله. وكما لا يُشَكُّ في أنَّ المعنى في الخبر "فأهويتُ فضربْتُ" كذلك يكونُ المعنى في البيت "نجوتُ ورهَنْتُ". إلا أنَّ الغرض في إخراجه على لفظِ الحال أن يحكي الحالَ في أحد الخبرَيْن ويدَعَ الآخر على ظاهره، كما كان ذلك في: "ولقد أمرُّ عَلَى اللئيم يَسبُّني فمضيتُ"، إلا أن الماضي في هذا البيت مؤخَّر معطوفٌ، وفي بيت ابن همَّام، وما ذكرناه معه، مقدَّمٌ معطوف عليه، فاعرفْه! فإنْ دخَلَ حرفُ نَفْي على المضارع، تغيَّر الحكْمُ فجاء (بالواو) وبِتَرْكِها كثيراً، وذلك مثلُ قولهم: (كنتُ ولا أُخَشَّى بالذئبِ). وقولِ مسكين الدارمي [من الرمل]: أكْسَبَتْه الوَرِقُ البيضُ أباً ... ولقدْ كان ولا يُدعَى لأَِبْ وقولِ مالك بن رفيع وكان جنى جنايةً فطلَبَه مُصْعَبُ بنُ الزبير [من الوافر]: أتاني مُصعَبٌ وبنوا أبيهِ ... فأَينَ أَحِيدُ عنهمْ لا أَحيدُ أقادُوا مِنْ دَمِي وتَوَعَّدوني ... وكنتُ وما يُنَهْنِهُنِي الوعيدُ "كان" في هذا كلِّهِ تامةٌ، والجملة الداخل عليها (الواو) في موضع الحالِ؛ ألا ترى أن المعنى: "وُجدْتُ غير خاشٍ للذئب. ولقد وُجِد غَيرَ مدعوٍّ لأبٍ. وَوُجدتُ غيرَ منَهْنَه بالوعيد وغير مبالٍ به". ولا معنى لجعلها ناقصة وجعل (الواو) مزيدة. وليس مجيءُ الفعل المضارعِ حالاً على هذا الوجه، بعزيز في الكلام؛ ألا تَراك تقولُ: (جعلتُ أَمشي وما أَدري أين أَضعُ رجلي، وجعَل يقول ولا يَدري)؟ وقال أبو الأسود "يصيب وما يدري" وهو شائع كثير.

فأما مجيءُ المضارع مَنْفياً حالاً مِنْ غَير (الواو) فيَكْثُر أيضاً ويَحْسُن. فمن ذلك قوله: [من الطويل]: مضَوْا لا يُريدون الرواحَ وغالَهُمْ ... من الدهر أسبابٌ جَرَيْنَ عَلَى قَدْرٍ وقال أَرْطأةُ ابن سُهَيّة وهو لطيف جداً [من البسيط]: إنْ تَلقَني لا تَرى غَيري بناظِرةٍ ... تنْسَ السِّلاحَ وتعْرِفْ جَبْهةَ الأَسدِ فقوله: "لا ترى". في موضع حالٍ. ومثلُه في اللطف والحُسْن، قولُ أعشى هَمْدان، وصَحِبَ عبَّاد بنَ ورقاءَ إلى أصبهان فلم يَحْمَدْه، فقال [من الوافر]: أتَيْنَا أصبهانَ فهزَّلَتْنا ... وكنَّا قَبْل ذلك في نَعيم وكان سَفاهةً منِّي وَجهلاً ... مَسِيري لا أَسِيرُ إلى حَميمِ قوله: (لا أسيرُ إلى حميم) حالٌ من ضمير المتكلمِ الذي هو (الياء) في "مسيري" وهو فاعلٌ في المعنى، فكأنه قال: (وكان سفاهةً مني وجهلاً أَنْ سرتُ غيرَ سائرٍ إلى حميم، وأنْ ذهبتُ غير متوجِّهٍ إلى قَريب). وقال خالد بن يزيد بن معاوية [من الكامل]: لو أَنَّ قوماً لاِرتفاعِ قَبيلةٍ ... دَخَلُوا السماءَ دخلتُهَا لا أُحْجَبُ وهو كثيرٌ إلا أنه لا يَهْتَدي إلى وضعه بالموضع المَرْضِيِّ إلاَّ مَنْ كان صحيحَ الطبعِ. ومما يجيء (بالواو) وغير (الواو) الماضي، وهو لا يقع حالاً إلا مع "قد" مُظْهَرةً أو مقدَّرَةً؛ أما مجيئها (بالواو) فالكثيرُ الشائع كقولك: (أتاني وقد جَهِدَهُ السيرُ). وأما بغير (الواو) فكقوله [من البسيط]: متى أَرى الصبْحَ قد لاحَتْ مَخَايلُه ... والليلَ قد مُزِقَتْ عنهُ السَّرابيلُ وقول الآخر [من الوافر]: فآبُوا بالرماحِ مُكَسَّراتٍ ... وأُبْنَا بالسيوفِ قد انحنينا وقال آخر وهو لطيف جداً [من الكامل]: يمْشُون قدْ كَسَروا الجُفُونَ إلى الوغَى ... مُتَبَسِّمينَ وفيهمِ اسْتِبْشارُ ومما يجيء (بالواو) في الأكثر الأَشْيع، ثم يأتي في مواضع بغير (الواو)، فَيْلطُفُ مكانُه ويَدلُّ على البلاغة: الجملةُ قد دَخلَها "ليس"؛ تقول: (أتاني وليس عليه ثوبٌ ورأيتُه وليس معه غيره). فهذا هو المعروف المُسْتعمَل. ثم قد جاء بغير (الواو) فكان من الحُسْن على ما ترى، وهو قول الأعرابي [من الزاجر]:

لنا فتى وحبَّذَا الافْتَاءُ ... تَعْرِفُهُ الأَرسانُ، والدِّلاءُ إذا جرى في كفِّه الرِّشاءُ ... خُلَّى القَلِيبَ ليس فيهِ ماءً ومما ينبغي أنْ يُراعِى في هذا الباب أنك ترَى الجملةَ قد جاءت حالاً بغير (واو) ويَحْسُن ذلك، ثم تَنظرُ فترَى ذلك، إنما حَسُنَ من أجْلِ حرفٍ دخلَ عليها مثالُه قول الفرزدق [من الطويل]: فَقُلْتُ عَسى أنْ تُبْصريني كأنما ... بنِيَّ حَواليَّ الأسودُ الْحَوَارِدُ قوله "كأنما بَنيَّ" إلى آخره، في موضع الحال، من غير شُبْهة. ولو أنك تركت "كأن" فقلت: (عسى أن تُبصريني بَنِيَّ حَواليَّ كالأسود)، رأيْتَهُ لا يَحْسُنُ حُسْنَه الأولَ، ورأيتَ الكلام يقتضي (الواو) كقولك: (عسى أن تُبْصريني وبنيَّ حواليَّ كالأسود الحوارِد). وشَبيهٌ بهذا أنك تَرى الجملةَ قد جاءت حالاً بِعَقِب مفردٍ فلَطُفَ مكانُها. ولو أنك أَردْتَ أن تَجْعلها حالاً من غير أنْ يَتقدَّمها ذلك المفردُ، لم يحْسُن. مثال ذلك قولُ ابن الرومي [من السريع]: والله يُبْقيكَ لنا سالماً ... بُرْدَاكَ تَبْجِيلٌ وتعظيمُ فقولُه: (بُراد تبجبل) في موضع حال ثانية. ولوْ أَنك أسقَطْتَ "سالماً" من البيت فقلت: (والله يبقيك بُرْداك تبجيل) لم يكن شيئاً. وإذْ قد رأيتَ الجملَ الواقعةَ حالاً قد اختلفَ بها الحالُ هذا الاختلافَ الظاهرَ، فلا بدّ من أن يكون ذلك إنما كان مِن أجْل عِلَل تُوجِبهُ وأسبابٍ تقْتضيه. فمُحالٌ أن يكون؛ ههنا جملةٌ لا تَصْلحُ إلا مع (الواو) وأخرى لا تَصْلحُ فيها (الواو) وثالثةٌ تصلح أن تجيء فيهأ (بالواو) وأنْ تَدَعَها فلا تجيء بها، ثم لا يكونُ لذلك سبَبٌ وعلَّة. وفي الوقوف على العلَّة في ذلك إشكالٌ وغُموضٌ، ذاك لأنَّ الطريقَ إليه غيرُ مسْلوكٍ والجهةَ التي منها تُعْرفُ غيرُ مَعْروفة. وأنا أكتبُ لك أصْلاً في الخبر إذا عرَفْتَه انْفَتَح لك وَجْهُ العلَّةِ في ذلك.

واعلمْ أنَّ الخبرَ يَنقسمُ إلى خَبرٍ هو جُزءٌ من الجملة لا تَتمُّ الفائدةُ دونه، وخَبرٍ ليس بجُزءٍ من الجملة، ولكنَّه زيادة في خَبرٍ آخر سابقٍ له. فالأولُ خبرُ المبتدأ "كمنطلِقٌ" في قولك: (زيدٌ منطلِقٌ) والفعلُ: كقولك خرجَ زيدٌ)، وكلُّ واحدٍ من هذين جزءٌ من الجملة وهو الأَصْلُ في الفائدة. والثاني هو الحال، كقولك: (جاءني زيدٌ راكباً). وذاك لأنَّ الحال خَبرٌ في الحقيقة مِنْ حيثُ إِنك تُثْبِتُ بها المعنى لذي الحال كما تُثْبِتُه بالخبر للمبتدأ، وبالفعلِ للفاعل؛ ألا تَراك قد أَثْبتَّ الركوبَ في قولك: (جاءني زيد راكباً)، لزيدٍ، إلاَّ أنَّ الفرْقَ أنك جئتَ به لِتَزيدَ معنىً في إخبارك عنه بالمجيء، وهو أنْ تَجْعله بهذه الهيئةِ في مجيئة، ولم تُجرِّد إثباتَك للركوب ولم تُبْاشِرْه به ابتداءً، بل بدأْتَ فأَثبتَّ المجيءَ، ثم وَصلْت به الركوب، فالتبسَ به الإثباتُ على سَبيل التَّبَعِ لغيره، وبِشَرْط أنْ يكونَ في صلته، وأمَّا في الخبر المُطْلقِ نحو "زيدٌ منطلقٌ وخرَجَ عمرو" فإنك أثبتَّ المعنى إثباتاً جرَّدْتَه له، وجَعْلتَه مباشرةً من غَيْرِ واسطةٍ ومن غير أن تَتسبَّب بغيره إليه. وإذْ قد عَرفْتَ هذا، فاعلمْ أنَّ كلَّ جملة وقعَتْ حالاً، ثم امتنعَتْ من (الواو) فذاك لأَجْل أنك عمَدْتَ إلى الفعل الواقع في صدرها، فضَمَمْتَه إلى الفعلِ الأول في إثباتٍ واحدٍ، وكلُّ جملةٍ جاءتْ حالاً ثم اقتضتْ (الواو) فذاكَ لأنك مستأنِفٌ بها خَبَراً وغيرُ قاصدٍ إلى أنْ تَضُمَّها إلى الفعل الأولِ في الإثبات. تفسيرُ هذا أنك إذا قلْتَ: (جاءني زيدٌ يُسْرعُ) كان بمنزلة قَوْلِك: (جاءني زيدٌ مُسرعاً)، في أنك تُثْبِتُ مجيئاً في إسْراعٌ، وتَصِلُ أَحَد المعنَييْنِ بالآخر، وتجعلُ الكلامَ خبراً واحداً، وتريد أن تقول: جاءني كذلك، وجاءني بهذه الهيئة. وهكذا قوله [من البسيط]: وقد علوت قُتُودَ الرحْل يَسْفَعُني ... يومٌ قُدَيَدِيمَة الجوزاءِ مسْمُومُ كأنه قال: وقد عَلَوْتُ قُتُودَ الرحل بارزاً لِلشمسِ ضاحياً. وكذلك قوله [من البسيط]: متى أَرى الصبحَ قد لاحَتْ مَخايِلهُ

لأنه في معنى "مَتى أَرى الصبحَ بادياً لائحاً بيِّناً متجلياً"! وعلى هذا القياس أبداً. وإذا قلتَ: (جاءني وغلامُه يَسْعى بين يديه، ورأيتُ زيداً وسَيفُه على كتفه)، كان المعنى على أنك بدأَتَ فأثبتَّ المجيءَ والرؤْيةَ، ثم استأنَفْتَ خبراً وابتدأْتَ إثباتاً ثانياً لِسَعْي بِين يديه، ولكونِ السيفِ على كَتِفه. ولمَّا كان المعنى على استئناف الإثباتِ، احْتِيجَ إلى ما يَربِطُ الجملة الثانيةَ بالأولى، فجيءَ (بالواو) كما جيء بها في قولك: (زيدٌ منطلقٌ وعَمرو ذاهبٌ والعْلمُ حَسَنٌ والجهلُ قَبيحٌ). وتَسْميتُنا لها "واو حال" لا يُخْرجها عن أن تكون مجْتَلَبةً لِضَمِّ جملةٍ إلى جملةٍ. ونَظيرُها في هذا، (الفاءُ) في جواب الشرط نحو "إنْ تأتِني فأَنْتَ مُكْرَمٌ" فإنها وإن لم تكون عاطفةً، فإِن ذلك لا يُخْرجُها من أن تكونَ بمنزلة العاطفةِ في أنها جاءت لتَرْبِطَ جملةً ليس من شأْنها أن تُرْبَطَ بنفسها، فاعرفْ ذلك، ونزَّل الجملة في نحو "جاءني زيدٌ يُسرع، وقد علَوتُ قُتُودَ الرحلِ يسفعني يومٌ" مَنْزِلةَ الجزاء الذي يَسْتغني عن (الفاء) لأن مِن شأنه أن يرتبط بالشرط مِن غير رابطٍ وهو قولك: (إن تُعْطِني أَشكُرْك) ونزَّل الجملة في "جاءني زيدٌ وهو راكبٌ" منزلةَ الجزاءِ الذي ليس من شأنه أنْ يَرتَبطَ بنفسه، ويحتاجُ إلى (الفاء) كالجملة في نحو "إن تأتني فأنتَ مُكْرَمٌ" قياساً سويّاً وموازنة صحيحةً.

فإنْ قلتَ: قد عَلِمْنا أنَّ علَّة دخولِ (الواو) على الجملة أن تَسْتأنِفَ الإثباتَ ولا تَصلَ المعنى الثاني بالأول في إثباتٍ واحدٍ، ولا تُنَزِّلَ الجملةَ منزلةَ المفردِ. ولكنْ بقي أن تعلَمَ لِمَ كان بعضُ الجمل، بأنْ يكون تَقديرُها تقديرَ المفرد في أن لا يُستأْنَفَ بها الإثبات، أوْلى مِنْ بعض؟ وما الذي منَعَ في قولكَ: (جاءني زيدٌ وهو يسرع أو وهو مسرع)، أن يَدخُلَ الإسراعُ في صلةِ المجيء ويُضَامَّه في الإثبات، كما كان ذلك حين قلتَ: (جاءني زيد يُسرع)؟ فالجوابُ أن السببَ في ذلك أَنَّ المعنى في قولك: (جاءني زيدٌ وهو يُسرعُ) على استئناف إثباتٍ للسرعة ولم يكن ذلك في "جاءني زيد يسرع"، وذلك أنكَ إذا أَعدْتَ ذكْر زَيدٍ، فجئْتَ بضميرِه المنفصل المرفوع، كان بمنزلة أنْ تُعيدَ اسْمَه صريحاً فتقول "جاءني زيدٌ وزَيدٌ يسرع" في أنك لا تَجد سبيلاً إلى أن تُدخِلَ "يسرعُ في صلة المَجيء وتَضُمَّه إليه في الإثبات، وذلك أن إعادتك ذكْرَ زيدٍ لا يكون، حتى تَقْصدَ استئنافَ الخبر عنه، بأنه يُسرعُ، وحتى تَبتدئَ إثباتاً للسرعة، لأنك إن لم تفعل ذلك تركْتَ المبتدأ الذي هو ضميرُ زيدٍ أو اسْمُه الظاهرُ بمَضِيعةٍ وجعَلْتَه لَغُواً في البَيْن، وجرى مجْرى أن تقول: (جاءني زيدٌ وعمرو يُسرع أمامه) ثم تزعُمُ أنك لم تستأنِفْ كلاماً ولم تبتدئ للسرعة إثباتاً وأنَّ حالَ "يُسْرعُ" ههنا حالُه إذا قلتَ: (جاءني زيد يسرع). فجعلْتَ السرعة له ولم تذكُرْ عَمراً، وذلك مُحال.

فإن قلتَ إنما استحال في قولك: (جاءني زيدٌ وعمرو يُسرعُ أمامَه)، أن تَرُدَّ "يُسرع" إلى زيد وتُنْزِله منزلةَ قولك: (جاءني زيدٌ يُسرع) من حيث كان في "يُسرع" ضميرٌ لعمرو، وَتَضَمُّنُهُ ضميرَ "عمرو" يَمْنع أن يكون لزيدٍ وأن يقدَّرَ حالاً له؛ وليس كذلك "جاءني زيد وهو يسرع" لأنَّ السرعة هناك لزيدٍ لا محالة؛ فكيف ساغ أن تَقيس إحدى المسألتين على الأخرى؟ قيل: ليس المانعُ أن يكون "يُسرع" في قولك: (جاءني زيد وعمرو يسرع أمامه). حالاً من زيد أنه فعل لعمرو، فإنك لو أخَّرْتَ عمراً فرفَعْتَه (بيُسرع) وأولَيْتَ "يُسرع" زيداً فقلتَ: (جاءني زيدٌ يُسرع عمروا أَمامَه) وجدتَه قد صلُح حالاً لزيدٍ مع أنه فعْلٌ لعمرو، وإنما المانعُ ما عرَّفْتُكَ مِنْ أنك تدَعُ عَمراً بمَضِيعةٍ، وتجيءُ به مبتدأً ثم لا تُعطيه خبراً. ومما يدل على فساد ذلك أنه يؤدِّي إلى أن يكون "يُسرع" قد اجتمعَ في موضعه النصْبُ والرفعُ، وذلك أنَّ جعْلَه حالاً من زيد، يَقتضي أن يكون في موضع نَصْبٍ، وجَعْلَه خبراً عن عمروٍ المرفوعِ بالابتداء، يقتضي أن يكون في موضع رفعٍ، وذلك بيِّنُ التدافعِ؛ ولا يجب هذا التدافعُ إذا أخَّرْتَ عمراً فقلْتَ: (جاءني زيدٌ يسرعُ عمرو أمامَه). لأنك ترفعُه بـ "يسرع" على أنه فاعل له، وإذا ارتفع به لم يوجب في موضعه إعراباً؛ فيقى مُفْرَغاً لأن يُقدَّرَ فيه النصْبُ على أنه حالٌ من زيدٍ، وجرى مجْرى أن تقول: (جاءني زيدٌ مسْرِعاً عمروٌ أَمامَه).

فإن قلتَ: فقد يَنبغي على هذا الأصل ألاَّ تجيءَ جملةٌ مِن مبتدأٍ وخبرٍ حالاً إلاَّ مع (الواو)، وقد ذكرتُ قبْلُ أنَّ ذلك قد جاء في مواضعَ من كلامهم، فالجواب: أنَّ القياسَ والأصْلَ أن لا تَجيءَ جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ حالاً إلاَّ مع (الواو) وأمَّا الذي جاء في ذلك فَسَبيلهُ سبيلُ الشيء يَخرجُ عن أَصْله وقياسِه والظاهرِ فيه بضربٍ من التأويل ونوعٍ من التشبيه. فقَولُهم "كلَّمتُهُ فوهُ إلى فيَّ" إنما حَسُن بغير (واو) من أجْل أنَّ المعنى: كلَّمْتُهُ مشافِهاً له. وكذلك قولهم "رجعَ عَوْدُه على بَدْئه" إنما جاء الرفعُ فيه والابتداءُ من غير (واو) لأن المعنى رجَعَ ذاهباً في طريقه الذي جاء فيه. وأما قوله: وجدتُه حاضراهُ الجودُ والكرمُ فلأن تقديم الخَبر الذي هو "حاضراهُ" يَجعلُه كأنه قال: وجدته حاضراً عندَهُ الجودُ والكرمُ. وليس الحَمْلُ على المعنى وتَنزيلُ الشيء منزلةَ غيرِه، بعَزيزٍ في كلامهم، وقد قالوا: (زيدٌ أضرِبْه). فأجازوا أن يكون مثالُ الأمر، في موضع الخَبر، لأنَّ المعنى على النصب، نحو "اضربْ زيداً" ووضَعوا الجملةَ من المبتدأ والخبر موضعِ الفعل والفاعل، في نحو قوله تعالى: {أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} [الأعراف: 93]. لأنَّ الأصْلَ في المعادلة أن تكون الثانية كالأُولى نحو "أدعَوْتموهم أم صَمَتُّمْ". ويدل على أن ليس مجيءُ الجملة من المبتدإ والخبر حالاً بغير (الواو) أصلاً قلَّتُهُ، وأنه لا يَجيءُ إلاَّ في الشيءِ بعد الشيءِ. هذا ويجوز أن يكونَ ما جاء مِن ذلك إنما جاء على إرادة (الواو) كما جاء الماضي على إرادة "قد". واعلمْ أنَّ الوجْهَ فيما كان مثلَ قولِ بشار: خرجْتُ مع البازي عَلَيَّ سوادُ

أنْ يُؤخذَ فيه بمذهبِ أبي الحَسنِ الأَخْفش فيُرفَعَ "سوادُ" بالظرف دون الابتداءِ، ويجري الظرفُ ههنا مجرْاه إذا جرَتِ الجملةُ صفةً على النكرة نحو "مررت برجل معه صقر صائداً به غداً"، وذلك أن صاحب الكتاب يُوافق أبا الحسن في هذا الموضع فيرفع "صقر" بما في "معه" من معنى الفعل، فلذلك يجوز أن يُجْرِيَ الحالَ مَجْرى الصفةِ فيَرفعَ الظاهرَ بالظْرف، إذا هو جاء حالاً، فيكونَ ارتفاع "سَوادُ" بما في "عَلَيَّ" من معنى الفعل، لا بالإبتداءِ؛ ثم ينبغي أن يُقدَّر ههنا خصوصاً أن الظرفَ في تقدير اسم فاعلٍ، لا فعل، أعني أن يكونَ المعنى "خرجتُ كائناً عَلَيَّ سوادٌ وباقياً عَلَيَّ سواد" ولا يقدَّر: "يكونُ عَلَيَّ سوادٌ ويبقى عَلَيَّ سَوادُ"، اللهم إلا أنْ تُقدِّر فيه فعْلاً ماضياً مع "قد" كقولك: (خرجتُ مع البازي قدْ بقيَ عَلَيَّ سوادُ). والأولُ أظهر. وإذا تأملتَ الكلامَ وجدتَ الظرفَ وقَدْ وقَعَ مواقِعَ لا يستقيم فيها إلا أن يُقدَّر تقديرَ اسم فاعل؛ ولذلك قال أبو بكر بنُ السرَّاج في قولنا: (زيدٌ في الدار). إنك مُخيَّرٌ بَيْنَ أن تُقدِّرَ فيه فعلاً فتقولَ: (استقرَّ في الدار) وبين أَن تقدِّرَ اسمَ فاعلٍ فتقولَ: (مستقرٌّ في الدار). وإذا عاد الأمر إلى هذا، كان الحال في ترك (الواو) ظاهرةً وكان "سوادُ" في قوله: (خرجتُ مع البازي عَلَيَّ سوادُ)، بمنزلة ضاء الله في قوله [من الطويل]: سأَغْسِلُ عني العارَ بالسيفِ جالباً ... عَلَيَّ قضاءَ الله ما كان جالبا في كونِهِ اسماً ظاهراً قد ارتفع باسم فاعلٍ قد اعتمَدَ على ذي حالٍ، فعَمِلَ عَملَ الفِعْل. ويدلُّكَ على أن التقدير فيه ما ذكرتُ، وأنه من أجْل ذلك حَسُنَ، أنَّكَ تَقول: (جاءني زيد والسيف على كتفه وخرجَ والتاجُ عليه). فتَجِدُه لا يَحْسُن إلا (بالواو). وتعَلم أنَّكَ لو قلتَ: (جاءني زيدٌ السيفُ على كَتفه، وخرجَ التاجُ عليه). كان كلاماً نافراً لا يكاد يقع في الاستعمال، وذلك لأنه بمنزلةِ قولِك: (جاءني وهو مُتقلِّدٌ سيفَه، وخرجَ وهو لابسٌ التاجَ، في أن المعنى على أنك استأنفْتَ كلاماً وابتدأْتَ إثباتاً، وأنك لم تُرِدْ: (جاءني كذلك)، ولكن "جاءني وهو كذلك" فاعرْفه!

القول في الفصل والوصل

القول في الفصل والوصل فصل: الجمل في العطف وعدمه: ثلاثة وإذْ قد عَرْفت هذه الأصولَ والقوانينَ في شأن فَصْل الجمل ووَصْلها، فاعلمْ أنَّا قد حصَلْنا من ذلك على أنَّ الجُمَل على ثلاثة أضرب: 1 - جملةٌ حالُها مع التي قبلَها، حالُ الصفةِ مع الموصوفِ، والتأكيدِ مع المؤكَّدِ، فلا يكون فيها العطفُ البتَّةَ، لِشبْهِ العَطْفِ فيها لو عُطِفَتْ، بعَطْفِ الشيء على نَفْسِه. 2 - وجملة حالها مع التي قبْلها، حالُ الاسم يكونُ غيرَ الذي قَبْله، إلاَّ أَنه يُشارِكُهُ في حكْم، ويدخلُ معه في معنًى مثْلَ أن يكون كلا الاسْمَيْن فاعلاً أو مفعولاً أو مضافاً إليه، فيكون حقُّها العطفَ. 3 - وجملةٌ ليستْ في شيء من الحالين، بل سبيلها مع التي قبْلَها سبيلُ الاسم مع الاسم لا يكون منه في شيء، فلا يكونُ إيَّاه ولا مشارِكاً له في معنى بل هو شيءٌ إِنْ ذُكِرَ لم يُذْكَر إلا بأمرٍ يَنفردُ به، ويكونُ ذكْرُ الذي قبلَه وتَرْكُ الذكْر سواءً في حاله، لعدم التعلُّق بينَهُ وبينَهُ رأساً. وحقُّ هذا تَرْكُ العطفِ البتة، فَتْركُ العطفِ يكونُ إمَّا للاتصالِ إلى الغاية، أو الانفصال إلى الغاية؛ والعطفُ لما هو واسطةٌ بين الأمرينِ، وكان له حالٌ بين حاليَنْ، فاعرفْه!

فصل: عطف الجملة على قبل ما يليها

فصل: عطف الجملة على قبل ما يليها هذا فنٌّ من القَول خاصُّ دقيقٌ. إعلَمْ أنَّ مما يَقِلُّ نظَرُ الناس فيه من أَمْر العطفِ، أنَّه قد يُؤْتى بالجملة فلا تُعْطَف على ما يَليها، ولكنْ تُعْطَفُ على جملةٍ، بينها وبين هذه التي تُعْطفُ جملةٌ أو جملتان؛ مثال ذلك قولُ المتنبي [من الوافر]: تَولَّوْ بغْتَةً فكأَنَّ بيْناً ... تَهَيَّبني فَفاجَأَني اغْتيالا فكانَ مَسِيرُ عِيسِهِمُ ذَميلاً ... وسيرُ الدمعِ إثْرَهُمُ انهمالا قولُه "فكان مَسيرُ عيسهِم" معطوفٌ على "تولوا بغتة" دون ما يليه من قوله: (ففاجأني)، لأنَّا إن عطفناه على هذا الذي يليه، أفسَدْنا المعنى من حيثُ إنه يدخل في معنى (كأَنَّ) وذلك يؤدي إلى أن لا يكون مسيرُ عيسهِم حقيقةً، ويكون مُتَوهَّماً كما كان تهيُّبُ البينِ كذلك؛ وهذا أصْلٌ كبير؛ والسبب في ذلك أن الجملة المتوسطة بين هذه المعطوفةِ أخيراً وبين المعطوف عليها الأولى، تَرتبطُ في معناها بتلك الأولى، كالذي ترى أنَّ قوله "فكأَنَّ بيناً تهيَّبني" مرتبط بقوله "تولوا بغتة"، وذلك أن الثانية مسبَّبٌ والأولى سبَبٌ؛ ألا ترَى أنَّ المعنى "تولوا بغتة فتوهمتُ أنَّ بيناً تهيبني؟ " ولا شك أنَّ هذا التوهُّم، كان بسببِ أن كان التوالِّي بغتةً. وإذا كان كذلك، كانت مع الأولى كالشيء الواحد، وكان منزلتُها منها منزِلةَ المفعول والظرف وسائر ما يجيء بعد تمام الجملة، من معمولات الفعل، مما لا يمكن إفرادُه على الجملة وأن يُتعدَّ كلاماً على حِدَته.

وههنا شيءٌ آخرُ دقيق، وهو أنَّك إذا نظرْتَ إلى قوله: (فكان مسير عيسهم ذميلا)، وجدْتَه لم يُعْطَف هو وحدَه على ما عُطِفَ عليه، ولكن تجدُ العطْفَ قد تناولَ جملة البيتِ مربوطاً آخرُه بأَوَّلِهِ. ألا تَرى أن الغرضَ من هذا الكلام، أن يَجْعل تولِّيهم بغتةً، وعلى الوجه الذي توهَّم من أجله أنَّ البينَ تهيَّبه مُسْتدعياً بكاءه وموجباً أنْ يَنْهملَ دمعُه؛ فلم يَعْنهِ أنْ يَذكُرَ ذَمَلانَ العيسِ إلا ليذكر هَمَلانَ الدمعِ، وأن يوفِّق بينهما. وكذلك الحكْمُ في الأول. فنحن وإن كنَّا قلْنا: إنَّ العطْفَ على "تولوا بغتة" فإنَّا لا نعني أن العطُفَ عليه وحده مقطوعاً عما بَعْدَه، بل العطفُ عليه مضموماً إليه ما بَعْدَه إلى آخره، وإِنما أردْنا بقولنا: "إِنَّ العطفَ عليه أن نُعْلِمكَ أنه الأصْلُ والقاعدة، وأن نَصْرفَك عن أن تَطْرَحَه، وتَجْعلَ العطْفَ على ما يلي هذا الذي تَعْطِفُه، فتزعم أنَّ قولَه: (فكان سيرُ عيسهم)، معطوفٌ على (فاجأني) فتَقعُ في الخطإ كالذي أرَيْناك. فأَمْرُ العطفِ إِذن موضوعٌ على أنك تَعْطِفُ تارةً جملةً على جملة وتَعْمِد، أخرى، إلى جملتين أو جملٍ فتعطفُ بعضاً على بعضٍ، ثم تعْطفُ مجموعَ هذي على مجموعِ تلكَ.

وينبغي أنْ يُجْعَل ما يُصْنَعُ في الشرط والجزاء من هذا المعنى، أصلاً يُعْتَبرُ به. وذلك أَنَّك تَرى متى شئتَ جملتين قد عُطِفتْ إحداهما على الأخرى، ثم جَعلْنا مجموعَهما شرْطاً؛ ومثال ذلك قوله تعالى: {وَمَن يَكْسِبْ خطيائة أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احتمل بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} [النساء: 112]. الشرطُ كما لا يخفى: في مجموع الجملتين لا في كل واحدة منهما على الانفراد، ولا في واحدة دون الأخرى، لأنَّا إنْ قلنا: إنه في كل واحدة منهما على الانفراد جعلناهما شَرْطين، وإذا جعلناهما شرطين اقتضَتا جَزَاءَيْن وليس معنا إلى جزاءٌ أحدٌ. وإِنْ قلْنا إنه في واحدة منهما دون الأُخرى، لزمَ منه إشراكُ ما ليس بشرطٍ في الجزم، بالشرط، وذلك ما لا يخفى فسَادُه. ثم إنَّا نعلم مِنْ طَريق المعنى، أنَّ الجزاء الذي هو احتمالُ البهتانِ والإِثمِ المبينِ، أمرٌ يتعلَّقُ إيجابُه لمجموع ما حصل من الجملتين؛ فليس هو لاكتساب الخطيئةِ على الانفرادِ، ولا لِرَمْي البريء بالخطيئة أو الإثم على الإطلاق، بل لِرمْي الإنسان البريء بخطيئة أو إثم كان مِنَ الرامي، وكذلك الحكْمُ أبداً. فقوله تعالى: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله} [النساء: 100] لم يُعلَّقِ الحكْمُ فيه بالهجرة على الانفراد، بل بها مقروناً إليها أنْ يُدرِكَهُ الموتُ عليها. واعلمْ أنَّ سبيلَ الجملتين في هذا وجعْلَهما بمجموعهما، بمنزلةِ الجملةِ الواحدةِ، سبيلُ الجزءين تُعْقَدُ منهما الجملةُ، ثم تجعلُ المجموعَ خبراً، أو صفةً، أو حالاً، كقولك: (زيدٌ قام غلامُه، وزيدٌ أبوه كريمٌ، ومررْتُ برجلٍ أبوهُ كريمٌ، وجاءني زيدٌ يعدو به فرسُه). فكما يكون الخبرُ والصفةُ والحالُ، لا محالةَ في مجموع الجزْءَيْنِ لا في أحَدهما، كذلك يكون الشرْطُ في مجموع الجملتين لا في إحداهما. وإذا علمت ذلك في الشرط فاحْتذِه في العطف، فإنك تجده مثله سواءً.

ومما لا يكون العطْفُ فيه إلا على هذا الحَدِّ قولُه تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين * وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ العمر وَمَا كُنتَ ثَاوِياً في أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [القصص: 54ـ55]. لو جرَيْتَ على الظاهرِ فجعَلْتَ كلَّ جملةٍ معطوفةً على ما يَليها منعَ منه المعنى، وذلك أنه يلزَمُ منهُ أن يكون قولُه "وما كنتَ ثاوياً في أهلِ مَدْين" معطوفاً على قوله "فتَطاولَ عليهم العمرُ"، وذلك يقْتَضي دخوله في معنى "لكنَّ"، ويصير كأنه قيل: (ولكنَّك ما كنتَ ثاوياً)، وذلك ما لا يَخْفى فسادُه. وإذا كان كذلك، بانَ منه أنه ينبغي أن يكون قد عُطِفَ مجموعُ "وما كنتَ ثاوياً في أهل مدين" إلى "مرسلين" على مجموع قوله: "وما كنتَ بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر" إلى قوله: "العُمُر". فإن قلت: فهَلاَّ قدَّرْتَ أن يكون "وما كنتَ ثاوياً في أهل مدين" معطوفاً على "وما كنتَ من الشاهدين" دون أن تزعم أنه معطوفٌ عليه مضموماً إليه ما بعدَهُ إلى قوله "العمر"؟ قيل: لأنَّا إنْ قدَّرْنا ذلك وجبَ أن يُنوى به التقديمُ على قوله: (ولكنا أنشأْنا قروناً)، وأن يكون الترتيبُ (وما كنتَ بجانب الغربي إذْ قضَيْنا إلى موسى الأَمر، وما كنتَ من الشاهدين، وما كنتَ ثاوياً في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا، ولكنا أنشأْنا قروناً فتطاول عليهم العمر، ولكنَّا كنا مرسلين): وفي ذلك إزالة (لكنَّ) عن موضعها الذي ينبغي أن تكون فيه؛ ذاك لأنَّ سبيلَ (لكنَّ) سبيلُ (إلاَّ). فكَما لا يجوز أن تقولَ: (جاءني القومُ وخرَجَ أصحابُكَ إلا زيداً وإلا عمراً)، بِجَعْل "إلاَّ زيداً" استثناءً من (جاءني القوم) و "إلا عمراً" من (خرج أصحابُك)، كذلك لا يجوز أن تصنع مثلَ ذلك بـ (لكنَّ) فتقول: (ما جاءني زيد وما خرج عمرو ولكنَّ بكراً حاضرٌ ولكنَّ أخاك خارج)، فإذا لم يَجُزْ ذلك وكان تقديُركَ الذي زعمتَ يؤدِّي إليه، وجَبَ أن تَحْكُم بامتناعه، فاعرفْه! هذا وإنما تَجوزُ نيَّةُ التأخير في شيءٍ، يَقْتضي له ذلكَ التأخيرَ مثلَ أَنَّ كونَ الاسم مفعولاً، يقتضي له أن يكون بعْدَ الفاعل؛ فإذا قُدِّمَ على الفاعل، نُويَ به التأخَيرُ. ومعنى (لكنَّ) في الآية، يقتضي أن تكون في موضعها الذي هي فيه. فكيفَ يجوز أن يُنْوى بها التأخيرُ عنه إلى موضع آخر؟

باب اللفظ والنظم

باب اللفظ والنظم فصل وغلَطُ الناسِ في هذا الباب كثيرٌ، فمِنْ ذلك أَنك تَجدُ كثيراً ممَّن يتكلَّمُ في شأن البلاغة، إذا ذكَر أنَّ للعربِ الفضلَ والمزيةَ في حسْنِ النظم والتأليف، وأنَّ لها في ذلك شأْواً لا يبلُغُه الدخلاءُ في كلامهم والمولَّدونَ، جعَلَ يُعلِّل ذلك بأن يقول: لا غرْوَ، فإنَّ اللغة لها بالطبع، ولنا بالتكلف؛ ولن يبلُغَ الدخيلُ في اللغاتِ والألسنةِ مبْلَغَ مَنْ نشأَ عليها، وبُدئ مِن أول خَلْقهِ بها، وأشباهِ هذا مما يُوهِمُ أنَّ المزية أَتتْها من جانب العِلْم باللغة؛ وهو خَطأٌ عظيمٌ وغلَطٌ منْكَرٌ يُفْضِي بقائله إلى رفْع الإعجازِ مِنْ حيثُ لا يَعْلَم. وذلك أنه لا يَثْبتُ إعجازٌ حتى تَثْبُتَ مزايا تَفُوقُ علومَ البشرِ وتَقْصُرُ قِوى نَظَرِهم عنها، ومعلوماتٌ ليس في مُنَنِ أفكارهم وخَواطرهم أَنْ تُفضَي بهم إليها، وأنْ تُطْلِعهَم عليها؛ وذلك محالٌ فيما كان علْماً باللغة؛ لأنه يؤدي إلى أن يحدُثَ في دلائل اللغة ما لم يتواضَعْ عليه أهلُ اللغةِ، وذلك ما لا يَخْفى امتناعُه على عاقلٍ.

واعلمْ أَنَّا لم نُوجِبْ المزيَّةَ من أجلِ العِلْم بأَنفُس الفُروق والوجوهِ فنَسْتنِدَ إلى اللغة، ولكنَّا أوجبْناها للعلم بمواضعها وما يَنْبغي أن يُصْنَع فيها؛ فليس الفضْلُ للعلم بأنَّ (الواو) للجمع و (الفاء) للتعقيب بغير تَراخٍ و "ثم" له بشرط التراخي و "إنْ" لكذا و "إذا" لكذا؛ ولكنْ لأَنْ يتأتَّى لكَ، إذاً نظَمْتَ وألَّفْتَ رسالةً، أنْ تُحْسِنَ التخيُّرَ وأن تَعْرِفَ لكلٍّ مِنْ ذلك مَوضِعَه، وأمرٌ آخرُ إذا تأمَّلهُ إنسانٌ أَنِفَ من حِكايةِ هذا القولِ، فضْلاً عن اعتقاده، وهو أنَّ المزية لو كانت تَجبُ من أجْلِ اللغة والعِلْم بأوضاعها وما أرادَهُ الواضعُ فيها، لكان يَنَبْغي أنْ لا تَجِبَ إلا بِمْثل الفرْقِ بين (الفاء) و (ثم) و (إنْ) و (إذا) وما أشبَهَ ذلك، مما يعبِّرُ عنه وضعٌ لغوي؛ فكانت لا تَجِبُ بالفصْل، وتَرْك العْطفِ، وبالحذْفِ والتكرارِ والتقديمِ والتأخيرِ وسائر ما هو هيئةٌ يُحْدِثُها لك التأليفُ، ويَقْتضيها الغَرضُ الذي تَؤُم والمعنى الذي تَقْصِد، وكان ينبغي أن لا تَجب المزيةُ بما يَبْتدِئه الشاعرُ والخطيبُ في كلامه من استعارة اللفظ للشيء لم يُسْتَعَر له، وأنْ لا تكون الفضيلةُ إلاَّ في استعارةٍ قد تُعورِفَتْ في كلام العربِ وكفى بذلك جَهْلاً. ولم يكنْ هذا الاشتباهُ وهذا الغَلطُ، إلاّ لأنَّه ليس في جملة الخفايا والمُشْكِلات أغربُ مَذْهباً في الغموض، ولا أَعْجَبُ شأناً من هذه التي نحنُ بصَدَدِها، ولا أَكثرُ تفلُّتاًَ من الفَهْم، وانسلالاً منها؛ وإنَّ الذي قاله العلماءُ والبلغاءُ في صفتها والإخبار عنها، رموزٌ لا يَفْهمُها إلاَّ مَنْ هو في مثْلِ حالِهمْ مِنْ لُطْفِ الطَّبْع، ومَنْ هو مُهَيَّأٌ لِفَهْم تلكَ الإشاراتِ، حتى كأنَّ تلك الطباعَ اللطيفةَ وتلكَ القرائحَ والأذهانَ، قد تواضعَتْ فيما بينها على ما سَبيلُه سبيلُ الترجمةِ يِتَواطأُ عليها قومٌ، فلا تَعْدوهُمْ ولا يعَرفُها مَنْ ليس منهم.

وليت شعري مِنْ أينَ، لِمَنْ لم يتْعَبْ في هذا الشأن، ولم يمارسْه ولم يوفرْ عنايَتَه عليه، أنْ يَنْظُرَ إلى قولِ الجاحظ وهو يَذْكُر إعجازَ القرآن: "وَلو أَنَّ رجلاً قرأَ على رَجُلٍ من خُطبائهم وبُلَغائهم، سورةً قصيرةً أو طويلةً، لَتبيَّنَ له في نظامها ومَخْرجها من لفظها وطابَعها، أنه عاجزٌ عن مِثْلها ولو تَحدَّى بها أبلَغَ العربِ، لأَظْهَر عجْزَه عنها"؛ وقولِه وهو يَذكُر رواةَ الأَخبار "ورأيتَ عامتَهم؛ فقد طالَتْ مشاهدتي لهم وهُم لا يقفون إلاَّ على الألفاظ المتخيَّرةِ، والمعاني المنتخَبة، والمخَارِج السهلةِ، والديباجة الكريمةِ، وعلى الطبع المتمكِّن، وعلى السَّبْك الجيِّد وعلى كل كلامٍ له ماءٌ ورَونَقٌ" وقولهِ في بَيْت الحُطَيئة [من الطويل]: متَى تَأَتِهِ تَعْشُو إِلى ضَوْءِ نارِهِ ... تَجدْ خيرَ نارٍ عندَها خيرُ مَوْقِدِ "وما كان ينبغي أن يُمدَح بهذا البيتِ إلاَّ مَنْ هو خيرُ أهل الأرضِ. على أَني لم أُعْجَب بمعناه أكثرَ من عَجَبي بلفظهِ وطَبْعه ونَحْته وسَبْكه" فيَفْهَمُ منه شيئاً أو يقفُ للطابَع والنظامِ والنحْتِ والسَّبْكِ والمَخَارجِ السَّهْلةِ على معنى، أو يَحْلى منه بشيءٍ، وكيف بأنْ يَعْرفه، ولربما خفيَ على كثيرٍ من أَهْله.

واعلمْ أنَّ الداءَ الدَّويَّ والذي أعيى أمرُهُ في هذا الباب، غَلطُ منْ قدَّمَ الشعرَ بمعناه، وأقلَّ الاحتفالَ باللفظ، وجعَلَ لا يُعطيهِ مِنَ المزيَّةِ - إنْ هو أَعطى - إلاَّ ما فَضَل عن المعنى، يقول: (ما في اللفظ لولا المعنى، وهل الكلامُ إلا بمعناه)؟ فأنتَ تراه لا يُقدِّم شعراً حتى يكونَ قد أَوْدَعَ حكمةً وأَدباً، واشتمل على تشبيهٍ غريبٍ ومعنى نادر؛ فإنْ مالَ إلى اللفظ شيئاً ورأى أن ينحلَه بعضَ الفضيلةِ لم يَعِرفْ غيرَ الاستعارةِ، ثم لا يَنْظُر في حال تلك الاستعارةِ: أَحَسُنَتْ بمجرَّدِ كونِها استعارةً، أَمْ مِن أجْل فَرْقٍ ووَجْهٍ، أم للأمرَيْن؟ لا يحفلُ بهذا وشبهه. قد قَنَعَ بظواهر الأمورِ وبالجُمَل، وبأن يكون كَمَنْ يَجْلُبُ المتاعَ للبيع؛ إِنما همُّه أن يروج عنه. يرى أنه إذا تكلم في الأخذ والسرقة وأحْسَنَ أن يقول: أخذَهُ من فلان، وألمَّ فيه بقولِ كذا، قد استكمل الفضْلَ وبلغَ أقصى ما يرادُ.

واعلمْ أنَّا وإنْ كنَّا إذا اتَّبَعْنا العُرفَ والعادةَ، وما يَهْجسُ في الضمير، وما عليه العامَّةُ، أرانا ذلكَ أنَّ الصوابَ معهم، وأنَّ التعويلَ ينبغي أن يكون على المعنى، وأنَّه الذي لا يَسوغُ القولَ بخلافه، فإنَّ الأمرَ بالضدِّ إذا جئْنا إلى الحقائقِ وإلى ما عليه المحصِّلون، لأنَّا لا نَرى متقدِّماً في علم البلاغة، مبرِّزاً في شأوها، إلاَّ وهو يُنْكِرُ هذا الرأي وَيعيبُه ويُزْري على القائل به، وَيَغْضُّ منه. ومن ذلك ما رُويَ عن البحتري. رُويَ أن عُبَيْدَ الله بنَ عبدِ الله بن طاهرٍ سألَه عن مُسْلم وأبي نُوَاس، أيُّهما أشعر؟ فقال: أبو نُوَاس! فقال إنَّ أبا العباس ثعلباً لا يوافقك على هذا، فقال: ليس هذا من شأنَ ثَعْلَب وذويه مِن المتعاطين لعلم الشعر دُون عَمله، إنما يَعْلَمُ ذلك مَنْ دُفِع في سَلْكِ طريقِ الشعر إلى مُضَايِقه وانتهى إلى ضَروراته. وعن بعضِهم أنه قال: رآني البحتري ومعي دفتر شعر، فقال ما هذا؟ فقلتُ شعرَ الشنفرى، فقال: وإلى أينَ تَمْضي؟ فقلتُ: إلى أبي العباس أقرأه عليه، فقال: قد رأيتُ أَبا عبَّاسِكم هذا منذ أيامٍ، عند ابن ثَوَابة فما رأيتُه ناقداً للشعر، ولا مميزاً للألفاظ، ورأيتُه يَستجيد شيئاً ويُنشِدُه، وما هو بأَفضَلِ الشعر، فقلت له: أمَّا نَقْدُه وتَمييزُه فهذه صناعة أخرى، ولكنَّه أعرفُ الناس بإعرابه وغَريبهِ فما كان يُنشد؟ قال: قولَ الحارثِ بن وَعْلَة [من الكامل]: قَومي هُمُ قَتلُوا، أُمَيمَ، أَخي ... فإذا رَمَيْتُ يُصِيبني سَهْمي فلِئنْ عفَوْتُ لأَعْفُوَنْ جَلَلاً ... ولئنْ سَطَوْتُ لأُوهِيَنْ عَظْمي فقلتُ: واللهِ ما أَنْشَد إلاَّ أحْسَن شَعرٍ في أحسنِ معنًى ولفظٍ: فقال: أَين الشعرُ الذي فيهِ عُروقُ الذهب؟ فقلتُ: مثْلُ ماذا؟ فقال: مثلُ قولِ أبي ذؤَاب [من الكامل]: إنْ يَقْتلوكَ فقد ثَلَلْثَ عُروشَهُمْ ... بِعُتَيْبَةَ بنِ الحارثِ بِنِ شِهاب بأَشَدِّهم كَلَباً على أَعدائهم ... وأعَزِّهِمْ فَقْداً على الأَصْحابِ وفي مثل هذا قال الشاعر [من الطويل]: زوامل للأشعار لا عِلْمَ عندهُمْ ... بجيِّدها إلاَّ كَعِلْم الأَباعِرِ

لعمرُكَ ما يدري البعَيرُ إذا غَدَا ... بأَوْسَاقِه أَوْ راحَ ما في الغرائرِ وقال الآخر [من الخفيف]: يا أبا جعفر تَحَكَّمُ في الشعْـ ... ـرِ وما فيكَ ألةُ الحُكَّامِ إنَّ نَقْدَ الدينارِ إلاَّ على الصَّيْـ ... ـرَف صَعْبٌ فكَيْفَ نَقْدُ الكلام قد رأيناكَ لسْتَ تَفْرُق في الأشْـ ... ـعارِ بَيْنَ الأَرْواحِ والأَجْسَامِ واعلْمْ أَنَّهم لم يَعيبوا تقديمَ الكلام بمعناه، من حيثُ جَهِلوا أنَّ المعنى إذا كان أدباً وحكْمةً وكان غَريباً نادراً، فهو أَشَرَفُ مما ليس كذلك، بل عابوه مِن حيثُ كان مِنْ حُكْمِ مَنْ قَضى في جنسٍ من الأجناس بفَضْلٍ أو نقصٍ أنْ لا يَعْتبرَ في قَضِيَّتِهِ تلك، إلاَّ الأوصافَ التي تَخصُّ ذلك الجنسَ، وتَرْجعُ إلى حقيقته، وأن لا يَنْظَرَ فيها إلى جنسٍ آخر، وإنْ كان من الأوَّل بسبيلٍ أو متصلاً به اتصالَ ما لا ينفك منه. ومعلومٌ أنَّ سبيلَ الكلام سبيلُ التصوير والصياغةِ، وأنَّ سبيلَ المعنى الذي يُعَبَّرُ عنه، سبيلُ الشيء الذي يقعُ التصويرُ والصَّوْغُ فيه، كالفضة والذهب يُصاغ منهما خاتَمٌ أو سوارٌ. فكما أنَّ مُحالاً إِذا أنتَ أردْتَ النظرَ في صَوْغَ الخاتَم وفي جودةِ العملُ ورداءتهِ، أن تَنْظُرَ إلى الفضة الحاملةِ لتلكَ الصورة، أو الذهبِ الَذي وقعَ فيه العملُ وتلكَ الصنعةُ - كذلك مُحالٌ إذا أردتَ أن تَعرف مكانَ الفضلِ والمزيةِ في الكلام، أن تَنظُرَ في مجرَّد معناه. وكما أنَّا لو فضَّلْنا خاتَماً على خاتمٍ بأن تكونَ فضةُ هذا أجودَ، أو فَصُّه أنفسَ، لم يكن ذلك تفضيلاً له من حيثُ هو خاتمَ، كذلك ينبغي إذا فضَّلنا بيتاً على بيتٍ من أجل معناه أن لا يكون تفضيلاً له من حيث هو شِعرٌ وكلامِ، وهذا قاطعٌ فاعرفْه!.

واعلمْ أَنك لستَ تنظرُ في كتابٍ صُنِّفَ في شأنِ البلاغةِ، وكلام جاء عن القدماء، إلاَّ وجدْتَه يَدلُّ على فساد هذا المذهب، ورأيتَهُمْ يَتشدَّدُون في إنكاره وَعْيبه والعَيْبِ به. وإذا نظرتَ في كتب الجاحظَ وجدتَه يبلغ في ذلك كلَّ مبلغ ويتشدَّد غايةَ التشدُّد، وقد انتهى في ذلك إلى أن جعل العِلْم بالمعاني مشتركاً وسوَّى فيه بين الخاصَّة والعامَّة فقال: "ورأيتُ ناساً يُبَهرِجونَ أشعارَ المولَّدينَ ويَستَسْقطون مَنْ رَواها، ولم أرَ ذلكَ قطُّ إلاَّ في روايةِ غير بَصيرٍ بجوهَر ما يُرْوَى، ولو كان له بَصرٌ لَعَرف موضِعَ الجيِّد ممَّن كان وفي أيِّ زمان كان. وأنا سمعتُ أبا عمرو الشيباني، وقد بلغَ من استجادته لهذين البيتينِ، ونحنُ في المسجد الجامع يومَ الجمعة، أن كلَّفَ رجلاً حتى أَحضرَهُ قرطاساً ودواةً حتى كتَبَهما. قال الجاحظ: وأنا أَزعمُ أن صاحبَ هذين البيتين لا يقول شعراً أبداً، ولولا أنْ أَدخَلَ في الحكومةِ بعضَ الغَيْبِ، لزعمتُ أنَّ ابنَه لا يقول الشعر أيضاً، وهما قوله [من السريع]: لا تحسبنَّ الموتَ موْتَ البلى ... وإنَّما الموتُ سؤالُ الرجالْ كلاهما موتٌ ولكنَّ ذا ... أَشَدُّ من ذاكَ على كُلِّ حالْ" ثم قال: "وذهبَ الشيخُ إلى استحسانِ المعاني والمعاني مطروحةٌ في الطريق، يَعْرفُها العجميُّ والعربيُّ، والقرويُّ والبدويُّ، وإنما الشأنُ في إقامة الوزنِ، وتَخيّر اللفظِ، وسهولَة المَخْرج، وصحَّةِ الطَّبْعِ، وكَثْرةِ الماءِ، وجودةِ السَّبْك، وإنما الشِّعرُ صياغةٌ وضربٌ من التصوير". فقد تَراهُ كيفَ أَسْقَطَ أمرَ المعاني وأبَى أن يَجِبَ لها فضْلٌ فقال: (وهي مطروحة في الطريق) ثم قال: (وأنا أزعمُ أنَّ صاحبَ هذين البيتين لا يقول شعراً أبداً)، فأعْلَمَكَ أنَّ فَضْلَ الشعر بلفظِه، لا بمعناهُ، وأنه إذا عَدِمَ الحُسْنَ في لفظه ونَظْمه، لم يستحقَّ هذا الاسمَ بالحقيقة. وأعاد طَرَفاً من هذا الحديث في (البيان) فقال:

"ولقد رأيتُ أبا عمر والشيبانيَّ يكتبُ أشعاراً من أفواه جلسائه، ليُدخِلَها في باب التحفُّظ والتذكُّر، وربما خيِّل إليَّ أنَّ أبناء أولئك الشعراءِ لا يستطيعون أبداً أن يقولوا شعراً جيداً لمكان أعراقهم من أولئك الآباء: (ثم قال) ولولا أنْ أكونَ عيَّاباً ثُمَّ للعلماء خاصة، لصورتُ لك بعضَ ما سمعتُ من أبي عبيدة. ومَن هو أبعدُ في وهْمك من أبي عبيدة؟ " واعلمْ أَنهم لم يَبْلغوا في إنكار هذا المذهبِ ما بلَغوه إلاَّ لأنَّ الخطأَ فيه عظيمٌ وأنه يُفْضي بصاحبه إلى أن يُنْكِر الإعجازَ ويُبْطِلَ التحدِّي من حيثُ لا يَشعر، وذلك أنه إنْ كان العملُ على ما يَذهبون إليه من أنْ لا يَجِبَ فضلٌ ومزيةٌ إلاَّ من جانب المعنى، وحتى يكونَ قد قال حكمةً أو أدباً، واستخرجَ معنًى غريباً أو شبيهاً نادراً، فقد وَجَب اطِّراحُ جميعِ ما قالَه الناسُ في الفصاحة والبلاغة، وفي شأنِ النظم والتأليف، وبَطَلَ أنْ يجِبَ بالنظم فضْلٌ وأن تَدْخُلَه المزيةُ وأن تتفاوتَ فيه المنازلُ. وإذا بطَلَ ذلك، فقد بطَل أن يكَون في الكلام مُعْجِزٌ وصار الأمرُ إلى ما يقولُه اليهودُ، ومَنْ قال بمثْلِ مقَالِهم في هذا الباب ودخلَ في مثل تلك الجَهالات، ونَعُوذ بالله من العَمَى بعْدَ الإبصار!

فصل منه

فصل منه لا يكونُ لإحدى العبارتين مزيةٌ عَلَى الأخرى، حتى يكون لها في المعنى تأثيرٌ لا يكونُ لصاحبتها، فإن قلتَ: فإذا أفادتْ هذه ما لا تُفيدُ تلكَ، فليسَتا عبارتَيْنِ عن معنى واحدٍ، بل هما عبارتان عن معنَيَيْن اثنينِ، قيل لكَ: إنَّ قولَنا "المعنى" في مثل هذا، يُرادُ به الغرضُ. والذي أرادَ المتكلمُ أن يُثْبته أو يَنْفِيَه نَحْو أن تَقْصد تشبيه الرجل بالأسد، فتقولَ: (زيدٌ كالأسد). ثم تريدُ هذا المعنى بعينهِ فتقولُ: (كأن زيداً الأسدُ). فتُفيدُ تشبيهَهُ أيضاً بالأَسد، إلاَّ أنك تَزيدُ في معنى تشبيهِهِ به، زيادةً لم تَكُنْ في الأول، وهي أنْ تَجعله من فَرْط شَجاعته وقوةِ قَلْبه، وأنه لا يَرُوعُه شيءٌ بحيث لا يتَميَّزُ عن الأسد، ولا يُقَصِّر عنه، حتى يتوَّهم أنه أسدٌ في صورة آدميٍّ. وإذا كان هذا كذلك، فانظرْ هل كانت هذه الزيادةُ وهذا الفرقُ إلاَّ بما تُوَخِّيَ في نظم اللفظِ وترتيبهِ حيثَ قُدِّم (الكافُ) إلى صدرِ الكلام ورُكِّبتْ مع "أنَّ". وإذا لم يكنْ إلى الشكِّ سبيلٌ أنَّ ذلكَ كان بالنظم، فاجعلْه العِبْرَة في الكلام كلِّه وَرُضْ نَفْسَك على تفهُّم ذلك وتَتبُّعه، واجعلْ فيها أنك تُزالُ منه أمْراً عظيماً لاَ يُقادَرُ قَدْرُه، وتَدخُلُ في بحرٍ عميق لا يُدْرَك قعرُه!

فصل: هو فن آخر يرجع إلى هذا الكلام

فصل: هو فن آخر يرجع إلى هذا الكلام قد عُلِمَ أنَّ المُعارِضَ للكلام، معارِضٌ له مِنَ الجهة التي منها يوصفُ بأنه فَصيحٌ وبَليغٌ، ومتخيَّر اللفظُ، جيدُ السبْكِ ونحوُ ذلك من الأوصافِ التي نَسَبُوها إلى اللفظ. وإذا كان هذا هكذا، فبِنا أنْ نَنْظرَ، فيما إذا أُتيَ به كان معارضاً، ما هو؟ أهو أنْ يجيءَ بلفظٍ فيضعَه مكانَ لفظٍ آخرَ، نحو أنْ يقولَ: بدلَ "أسد" "ليث" وبدل "بَعُدَ" "نأى" ومكان "قرُبَ" "دنا"، أمْ ذلك ما لا يذهبُ إليه عاقلٌ ولا يقولُه مَنْ به طَرْقٌ؟ كيفَ، ولَوْ كان ذلك معارَضةً لكان الناسُ لا يَفصلِون بين الترجمةِ والمعارَضَة، ولكان كلُّ مَنْ فَسَّرَ كلاماً، معارِضاً له؟ وإذا بطَل أن يكون جهةً للمعارَضَة وأن يكون الواضِعُ نفسُه في هذه المنزلة معارضاً على وجهٍ من الوجوهِ، علمتَ أنَّ الفصاحةَ والبلاغةَ وسائرَ ما يجري في طريقهما، أوصافٌ راجعةٌ إلى المعاني وإلى ما يُدَلُّ عليه بالألفاظ دون الألفاظ أنفُسِها، لأنه إذا لم يكن في القسمة إلا المعاني والألفاظُ، وكان لا يُعْقَل تعارضٌ في الألفاظ المجرَّدة إلا ما ذكرتُ، لم يَبْقَ إلا أنْ تكونَ المعارضةُ معارضةً من جهةٍ تَرجعُ إلى معاني الكلام المعقولة دون ألفاظه المسموعة. وإذا عادت المعارضةُ إلى جهة المعنى وكان الكلامُ يعارَض من حيث هو فَصيحٌ وبليغٌ ومُتخيَّرُ اللفظِ، حصَلَ من ذلك أنَّ الفصاحةَ والبلاغةَ وتخيرَ اللفظ، عبارةٌ عن خصائصَ ووجوهٍ تكون معاني الكلام عليها، وعن زياداتٍ تَحْدثُ في أصول المعاني كالذي أريتُكَ فيما بين "زيدً كالأسد" و "كأنَّ زيداً الأسدُ" وأنْ لا نَصيبَ للألفاظِ من حيث هي ألفاظٌ فيها بوجهٍ من الوُجوه.

واعلمْ أنك لا تَشْفي العلَّةَ ولا تنْتهي إلى ثلجِ اليقين، حتى تتجاوزَ حدَّ العلم بالشيء مجْملاً إلى العِلْم به مفصَّلاً، وحتى لا يُقْنِعَك إلا النظرُ في زواياه والتغلغل في مكامنه، وحتى تكون كمَنْ تتَبَّع الماءَ حتى عرَفَ منْبَعهَ وانتهى في البحث عن جوهرِ العُود الذي يُصْنَع فيه، إلى أنْ يعْرِفَ منْبِتَه ومجرى عُروقِ الشجر الذي هو منه. وإنَّا لنراهم يقيسونَ الكلام في معنى المعارَضة، على الأعمالِ الصناعيةِ كنَسْج الديباجِ وصَوْغِ الشَّنْفِ والسِّوَار وأنواعِ ما يُصاغُ، وكلِّ ما هو صَنْعةٌ وعملُ يَدٍِ بعد أن يَبلُغَ مبلغاًً يقعُ التفاضُلُ فيه، ثم يَعظُم حتى يَزيدَ فيه الصانعُ على الصانِع زيادةً يكون له بها صيتٌ ويدخُلُ في حدِّ ما يَعْجَزُ عنه الأكثرونَ.

وهذا القياسُ وإن كان قياساً ظاهراً معلوماً، وكالشيءِ المركوز في الطباع، حتى ترَى العامَّةَ فيه كالخاصَّة، فإنَّ فيه أمراً يجبُ العلمُ به، وهو أنه يُتصوَّر أن يَبْدأ هذا فيَعْمل ديباجاً، ويُبْدِعَ في نقشِه وتصويره، فيجيءُ آخرُ ويَعْمل ديباجاً آخر مثْلَه في نقْشهِ وهيئتِه وجملةِ صفته، حتى لا يَفْصِلَ الرائي بينهما، ولا يقَعَ لمن لم يَعْرِفْ القصةَ ولم يَخْبُر الحالَ، إلا أنهما صنعةُ رجلٍ واحد وخارجان من تحت يدٍ واحدة؛ وهكذا الحكْم في سائر المصنوعاتِ كالسِّوار يَصوغُه هذا، ويجيءُ ذاكَ فيَعْملُ سواراً مثله ويؤدِّي صنْعَتَه كما هي، حتى لا يُغادِرَ منها شيئاً البتَّةَ؛ وليس يُتَصوَّر مثلُ ذلك في الكلام، لأنه لا سبيلَ إلى أن تجيء إلى معنى بيتٍ من الشعرٍ أو فْصِلٍ من النثرِ فتؤدِّيَهُ بعينهِ وعلى خاصِّيَّتهِ وصَنْعَتهِ، بعبارة أخرى، حتى يكونَ المفهومُ مِن هذه هو المفهومُ مِن تلك، لا يُخالِفُه في صِفَةٍ ولا وَجْهٍ ولا أمرٍ من الأُمور، ولا يَغُرَّنَّكَ قولُ الناس: (قد أتى بالمعنى بعينِه وأخَذَ معنى كلامِهِ فأَدَّاهُ على وجههِ)؛ فإنه تَسَامحٌ منهم؛ والمرادُ أنه أدَّى الغرَضَ فأمَّا أن يؤدِّيَ المعنى بعينهِ على الوجْه الذي يكونُ عليه في كلام الأول، حتى لا تَعْقِلَ ههنا إلا ما عقَلْتَه هناك، وحتى يكونَ حالُهما في نفْسِك حال الصورَتَيْنِ المشتبهتَيْنِ في عينك، كالسوارَيْن والشَّنْفَيْن، ففي غاية الإحالة، وظنٌّ يُفضي بصاحبه إلى جهالةٍ عظيمةٍ وهي أن تكون الألفاظُ مختلفةَ المعاني إذا فُرِّقتْ، ومتَّفِقَتهَا إذا جُمِعَتْ وأُلِّفَ منها كلامٌ؛ وذلك أنْ ليسَ كلامُنا فيما يُفْهَمُ من لفظتينِ مفردَتْين نحو "قعدَ وجلَسَ" ولكن فيما فُهم من مجموع كلامٍ، ومجموعِ كلامٍ آخرَ. نحو أن تنظر في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وقولِ الناس: (قتلُ البعضِ إحياءٌ للجميع): فإنه وإنْ كان قد جرَتْ عادةُ الناسِ بأن يقولوا في مثل هذا إنهما عبارتان معبَّرُهما واحدٌ، فليس هذا القولُ قولاً يمكنُ الأخذُ بظاهرِهِ أوْ يَقَعُ لعاقلٍ شكٌّ أنْ ليس المفهومُ مِن أحدِ الكلامين المفهوم من الآخر.

فصل

فصل الكلامُ على ضَرْبين: ضربٌ أنتَ تَصِلُ منه إلى الغَرضِ بدلالةِ اللفظِ وحدَه، وذلك إذا قصَدْتَ أن تُخْبِر عن زيد مثلاً "بالخروج" على الحقيقة، فقلتَ: (خرج زيدٌ): و "بالانطلاقِ" عن عمرو، فقلتَ: (عمروٌ منطلِقٌ)؛ وعلى هذا القياسِ. وضربٌ آخر أنتَ لا تصِلُ منه إلى الغرضِ بدلالة اللفظِ وحدَه، ولكنْ يدلُّكَ اللفظُ على معناه الذي يَقْتضيه موضوعُهُ في اللغة، ثم تَجدُ لذلك المعنى دلالةً ثانيةً تَصِلُ بها إلى الغَرَض، ومَدارُ هذا الأمر على الكناية والاستعارة والتمثيل. وقد مضتِ الأمثلةُ فيها مشروحة مستقصاة؛ أوَ لا تَرى أنكَ إذا قلْتَ: (هو كثيرُ رمادِ القِدْر)، أو قلتَ: (طويلُ النجاد)، أو قلتَ في المرأةِ: (نَؤُومُ الضحى) فإنَّكَ في جميع ذلك لا تُفيدُ غرضَك الذي تعني مِنْ مجردِ اللفظ، ولكنْ يَدلُّ اللفظُ على معناه الذي يُوجِبُهُ ظاهرهُ، ثم يَعْقِلُ السامعُ من ذلك المعنى، على سبيلِ الاستدلالِ، معنًى ثانياً هو غَرَضُك، كمعرفتِكَ مِنْ (كثير رماد القدر) أنه مضيافٌ، ومن (طويل النِّجاد) أنه طويلُ القامة، ومن (نؤوم الضحى) في المرأة، أنها مُتْرفَةٌ مخدومةٌ لها - مَنْ يكفيها أَمْرَها. وكذا إذا قال: (رأيتُ أسداً) - ودلَّكَ الحالُ على أنه لم يُرِدِ السبعَ - علمتَ أنه أرادَ التشبيهَ، إِلا أنَّه بالغَ فجعل الذي رآه بحيث لا يتميِّزُ عن الأسَد في شجاعته. وكذلك تعلم من قوله: (بَلَغَني أنك تُقَدِّمُ رِجْلاً وترخِّر أَخرى)، أنَّه أراد التردُّدَ في أمر البَيْعة واختلاف العَزْم في الفعل وتَرْكِه، على ما مضى الشرحُ فيه. وإذْ قد عرفْتَ هذه الجملة، فهاهنا عبارةٌ مختصرةٌ وهي: أن تَقولَ المعنى ومعنى المعنى. تَعنى بـ "المعنى" المفهومَ من ظاهر اللفظ، والذي تَصِلُ إليه بغير واسطةٍ. وبـ "معنى المعنى" أن تَعْقِل من اللفظ معنًى ثم يُفضي بكَ ذلك المعنى إلى معنى آخر كالذي فسَّرْتُ لك.

وإذْ قد عرفتَ ذلك، فإذا رأيتَهم يجعلونَ الألفاظَ زينةً للمعاني وحِلْيةً عليها، ويجعلون المعاني كالجواري، والألفاظَ كالمعارض لها وكالوشي المحبَّر واللباس الفاخرِ، والكُسْوة الرائقة، إلى أشباه ذلك مما يُفخِّمون به أمرَ اللفظِ ويجعلون المعنى ينْبُلُ ويِشْرُفُ، فاعلمْ أنهم يَضَعونَ كلاماً قد يُفخِّمون به أمرَ اللفظِ ويجعلون المعنى، أعطاكَ المتكلمُ أغراضَه فيهِ مِنْ طريقِ "معنى المعنى"، فكنَّى، وعرَّضَ، ومثَّل، واستعار، ثم أحْسَنَ، في ذلك كلِّه، وأصابَ ووضعَ كلَّ شيءٍ منه في موضعِهِ، وأصابَ به شاكلته؛ وعمَد فيما كنَّى به، وشبَّهَ ومثَّلَ لما حسُنَ مأخذُه ودَقَّ مسلَكُه ولطُفَتْ إشارتُه، وأن المِعْرَضَ وما في معناه، ليس هو اللَفْظَ المنطوقَ به، ولكنْ معنى اللفظِ الذي دَلَلْتَ به على المعنى الثاني كمعنى قوله [من الوافر]: ... ... ... ... ... ... ... فإني ... جبانُ الكَلْبِ مهزولُ الفصيلِ الذي هو دليلٌ على أنه مِضْيافٌ؛ فالمعاني الأُوَلُ المفهومه من أنْفُس الألفاظ، هي المَعارِضُ والوشْيُ والحَلْيُ وأشباهُ ذلك. والمعاني الثواني التي يُومَأُ إليها بتلك المعاني، هي التي تُكْسَى تلك المعارضَ وتزيَّن بذلك الوشي والحلي. وكذلك إذا جُعِلَ المعنى يُتَصَوَّرُ من أجلِ اللفظِ بصورةٍ، ويبدو في هيئةٍ ويتشكَّل بشكلٍ يُرجِع المعنى في ذلك كلِّه إلى الدلالاتِ المعنوية، ولا يصلُح شيء منه حيثُ الكلامُ على ظاهرهِ، وحيثُ لا يكونُ كنايةٌ وتمثيلٌ به، ولا استعارةٌ ولا استعانةٌ في الجملة بمعنىً على معنًى، وتكونُ الدلالةُ على الغَرض مِنْ مجرَّد اللفظِ. فلو أَنَّ قائلاً قال: (رأيتُ الأسَدَ). وقال آخرُ: (لَقِيتُ الليثَ)، لم يَجُزْ أن يقالَ في الثاني إنه صوَّرَ المعنى في غير صورتِهِ الأُولى، ولا أنْ يُقال أبرزَهُ في معرضٍ سوى معرضِه، ولا شيئاً من هذا الجنس. وجملةُ الأمر أنَّ صُوَرَ المعاني، لا تتغير بِنَقْلها من لفظٍ إلى لفظٍ حتى يكون هناك اتساعٌ ومجازٌ، وحتى لا يُرادَ من الألفاظ ظواهرُ ما وُضِعَتْ له في اللغة، ولكنْ يُشارُ بمعانيها إلى معانٍ أُخَرَ.

واعلمْ أن هذا كذلك ما دام النظْمُ واحداً، فأمَّا إذا تغيَّر النظْمُ فلا بدَّ حينئذٍ من أن يتغيَّر المعنى على ما مضى من البيان في مسائل التقديم والتأخير، وعلى ما رأيتَ في المسألة التي مضَت الآنَ، أعني قولَك: (إنَّ زيداً كالأسدِ، وكأنَّ زيداً الأسدُ)، ذاك لأنه لم يتغيَّر من اللفظ شيءٌ وإنما تغيَّر النظْمُ فقط، أما فتْحُكَ "أَنْ" عند تقديم (الكاف) وكانت مكسورةً، فلا اعتدادَ بها، لأن معنى الكَسْرِ باقٍ بحاله. واعلمْ أنَّ السببَ في أَنْ أَحالوا في أشباهِ هذه المحاسنِ التي ذكرْتُها لكَ على اللفظ، أنها ليستْ بأنفُس المعاني، بل هي زياداتٌ فيها وخصائصُ، ألا ترى أنْ ليست المزيةُ التي تجدُهَا لِقولك: (كأنَّ زيداً الأسدُ)، على قولك: (زيدٌ كالأسد)، شيئاً خارجاً عن التشبيه الذي هو أصْل المعنى، وإنما هو زيادةٌ فيه وفي حُكْم الخصوصية في الشكل، نحْو أن يُصاغَ خاتمٌ على وجهٍ وآخرُ على وجهٍ آخر، تَجمعُهما صورةُ الخاتم، ويفترقان بخاصة، وشيءٌ يُعْلَم إلاَّ أنه لا يُعْلَم منفرداً. ولمَّا كان الأمرُ كذلك، لم يُمكِنْهم أنْ يُطلِقوا اسمَ المعاني على هذه الخصائص، إذْ كان لا يَفترِقُ الحالُ حينئذٍ بين أصْلِ المعنى، وبين ما هو زيادةٌ في المعنى وكيفيةٌ له، وخصوصيةٌ فيه. فلمَّا امتنعَ ذلكَ، تَوصَّلوا إلى الدلالة عليها بأنْ وَصفوا اللفْظَ في ذلك بأوصافٍ يُعْلمُ أنها لا تكونُ أوصافاً له من حيثُ هو لفظٌ كنحْوِ وصْفِهم له بأنه لفظٌ شريفٌ، وأنه قد زانَ المعنى، وأنَّ له ديباجةً، وأنَّ عليه طلاوةً، وأنَّ المعنى منه في مثل الوشْي، وأنه عليه كالحَلْي، إلى أشباه ذلك مما يُعْلَم ضرورةً أنه لا يُعنَى بمثلِه الصوتُ والحرف. ثمَّ إنه لمَّا جرَت به العادة واستمرَّ عليه العُرفُ وصار الناسُ يقولون اللفظَ، واللفظُ لزَّ ذلك بأنفُسِ أقوامٍ باباً من الفساد وخامرهم منهُ شيءٌ لستُ أُحْسِنُ وصْفَهُ.

فصل

فصل ومن الصفاتِ التي تجدهُم يُجْرُونها على اللفظ، ثمَّ لا تَعترضِكُ شُبهةٌ ولا يكونُ منكَ توقُّفٌ في أنها ليستْ له ولكنْ لمعناه، قولُهم: لا يكونُ الكلام يستحقُّ اسمَ البلاغةِ حتى يُسابِقَ معناهُ لفظَهُ ولفظه معناه، ولا يكون لفظُه أسْبَقَ إلى سمعك مِنْ معناهُ إلى قلبك. وقولُهم: يدخلُ في الأُذن بلا إذْن، فهذا مما لا يَشُكُّ العاقلُ في أنه يَرجِعُ إلى دلالة المعنى على المعنى، وأنه لا يُتصوَّر أنْ يُرادَ به دلالةُ اللفظِ على معناه الذي وُضِع له في اللغة؛ ذاك لأنه لا يَخلو السامِعُ من أن يكونَ عالِماً باللغة وبمعاني الألفاظِ التي يَسمعُها، أو يكونَ جاهلاً بذلك؛ فإن كان عالِماً لم يُتَصوَّرْ أنْ يَتفاوتَ حالُ الألفاظِ معه فيكونَ معنى لفظٍ أسرعَ إلى قلبه من معنى لفظٍ آخرَ؛ وإنْ كان جاهلاً كان ذلك في وصفهِ أبْعدَ. وجملةُ الأمرِ أنَّه إنما يُتصوَّر أن يكون لمعنى أسرعَ فهماً منه لِمعنىً آخر، إذا كان ذلك مما يدرَكُ بالفكْر، وإذا كان مما يتجدَّد له العلمُ به عند سمعه للكلام، وذلك مُحالٌ في دلالاتِ الألفاظ اللغوية، لأن طريقَ معرفتها التوقيفُ، والتقدُّمُ بالتعريف. وإذا كان ذلك كذلك، عُلِمَ عِلْمَ الضرورة أنَّ مصْرِفَ ذلك إلى دلالات المعاني على المعاني، وأنهم أرادوا أنَّ مِن شَرْط البلاغةِ أن يكونَ المعنى الأولُ الذي تجعلُه دليلاً على المعنى الثاني ووَسيطاً بينَكَ وبينَه، متمكِّناً في دلالته، مستقلاً بوسّاطَتهِ، يَسْفُرُ بينك وبينه أحْسَنَ سفارة، ويُشيرُ لك إليهِ أبْيَنَ إشارة، حتى يخيَّلَ إليك أنَّك فهِمْتَه من حاقِّ اللفظ، وذلك لقِلَّة الكلفة فيه عليكَ، وسرعةِ وصولهِ إليك، فكان من الكناية، مثلَ قوله [من المنسرح]: لا أُمتِعُ العُوذَ بالفِصَالِ ولا ... أبتاعُ إلا قريبةَ الأجَلِ ومن الاستعارة مثلَ قوله [من الطويل]: وصدر أراحَ الليلُ عازِبَ هَمِّهِ ... تضاعَفَ فيه الحُزْنُ مِنْ كُلِّ جانِبِ ومن التمثيل، مثلَ قوله [من المديد]: لا أَذُودُ الطيرَ عَنْ شَجَرٍ ... قد بلَوْتُ المُرَّ مِنْ ثَمَرِهْ

وإن أردتَ أنْ تعرِفَ مالَه بالضِّدِّ من هذا فكان منقوصَ القوَّة في تأدية ما أُريد منه، لأنه يتعرِضُه ما يَمنعه، أن يَقْضيَ حقَّ السِّفارةِ فيما بينكَ وبين معناكَ، ويُوضحَ تمامَ الإيضاحِ عن مَغْزاك، فانظرْ إلى قول العباس بن الأحنف [من الطويل]: سأطلُبُ بُعْدَ الدارِ عنْكُمْ لِتَقْرَبوا ... وتَسْكُبُ عينايَ الدموعَ لِتَجْمُدا بدأَ فدلَّ بسَكْبِ الدموعِ على ما يُوجِبه الفِرَاقُ من الحُزْن والكَمَد، فأحْسَنَ وأصابَ، لأنَّ مِن شأنِ البكاءِ أبداً أن يكون أمارةً للحُزنِ، وأنْ يُجْعَلَ دلالةً عليه وكنايةً عنه، كقولهم: أبكاني وأضْحكَني، على معنى: "ساءني وسرَّني". وكما قال [من السريع]: أبكانيَ الدهرُ ويا رُبّما ... أضْحَكني الدهْرُ بما يُرْضي ثم ساقَ هذا القياسَ إلى نقيضِه، فالتمس أن يَدُلَّ على ما يُوجبهُ دوامُ التلاقي من السرور، بقوله "لتجمدا" وظنَّ أنَّ الجمودَ يَبْلغُ له في إفادةِ المسرَّة والسلامةِ من الحُزْن، ما بَلَغَ سكْبُ الدمع في الدلالةِ على الكآبةِ والوقوعِ في الحزن. ونظرَ إلى أن الجمودَ خُلُوُّ العينِ من البَكاء، وانتفاءُ الدموعِ عنها، وأنه إذا قالَ "لتجمدا" فكأنَّه قال: أحْزنُ اليومَ لئلا أحزنَ غداً، وتبكي عينايَ جُهْدَهما لئلا تبكِيا أبدا؛ وغَلِطَ فيما ظنَّ وذاك، أنَّ الجمودَ هو أنْ لا تبكي العينُ، مع أنَّ الحالَ حالُ بكاء، ومع أن العينَ يرادُ منها أن تبكي ويُشْتكى مِنْ أنْ لا تَبْكي، ولذلك لا ترَى أحداً يذكُرُ عينَه بالجمودِ، إلا وهو يَشْكُوها ويذُمُّها وينسبها إلى البُخْل، ويَعُدُّ امتناعَها من البكاءِ تَرْكاً لمعونةِ صاحبِها على ما بهِ من الهَمِّ، ألا ترى إلى قولهِ [من الطويل]: ألاَ إنّ عَيناً لم تَجُدْ يومَ واسِطٍ ... عليكَ بِجارِي دَمْعِها لَجَمُودُ

فأتَى بالجمودِ تأكيداً لنفي الجُودِ؛ ومُحالٌ أن يَجْعَلها لا تَجودُ بالبكاءِ وليس هناك التماسُ بكاءٍ، لأنَّ الجودَ والبُخْل يَقْتضيانِ مطلوباً يُبْذَلُ أو يُمْنَعُ. ولو كان الجمودُ يَصْلُح لأن يُرادَ به السلامةُ من البكاء، ويصِحَّ أن يُدَلَّ به على أنَّ الحال حالُ مَسَّرةٍ وحُبورٍ، لجازَ أن يُدْعى به للرجلِ فيقال: (لا زالتْ عينُك جامدةً) كما يقال: (لا أبكى الله عينَكَ)، وذاك مما لا يُشَكُّ في بُطْلانه. وعلى ذلك قولُ أهل اللغة: عينٌ جَمُودٌ - لا ماءَ فيها، وسنةٌ جمادٌ، لا مطرَ فيها، وناقةٌ جمادٌ - لا لَبَن فيها. وكما لا تُجْعَلُ السنةُ والناقةُ جماداً إلاَّ على مَعْنى أنَّ السنةَ بخيلةٌ بالقَطْر، والناقةُ لا تَسْخُو بالدُّرِّ، كذلك حُكْمُ العينِ لا تُجْعَل جَمُوداً إلا وهناك ما يَقْتضي إرادةَ البكاء منها، وما يَجْعَلُها إذا بكَتْ، مُحْسِنةً موصوفةً بأنْ قد جادَتْ وسخَتْ، وإذا لم تَبْكِ، مسِيئةً موصوفةً بأنْ قد ضنَّتْ وبَخِلَتْ. فإنْ قيلَ إنه أراد أن يقول: (إني اليوم أَتجرَّعُ غُصَصَ الفِراقِ، وأحْمِلُ نَفْسي على مُرِّهِ، واحْتمِلُ ما يُؤدِّيني إليه من حُزْنٍ يُفيضُ الدموعَ مِنْ عَيني ويَسْكُبُها لكي أتسبَّب بذلك إلى وصْلٍ يدومُ ومسَرَّةٍ تتَّصِلُ حتى لا أعرِفَ بعد ذلك الحزنَ أصْلاً ولا تعرِفَ عيني البكاءَ، وتصيرَ في أنْ لا تُرى باكيةُ أبداً كالجَمودِ التي لا يَكُونُ لها دَمْعٌ)؛ فإنَّ ذلك لا يَستقيمُ ويستتِبُّ، لأنه يُوقِعُه في التناقضِ ويَجْعَلُه كأنه قال: (احْتَمِل البكاءَ لهذا الفراقِ عاجلاً لأصيرَ في الآجِل بدَوَام الوصْلِ واتِّصالِ السُّرورِ في صُورةِ مَنْ يُريد مِنْ عَينِه أنْ تَبكي ثم لا تَبْكي، لأنها خُلِقَتْ جامدةٌ لا ماء فيها). وذلك مِن التهافُتِ والاضطرابِ، بحيثُ لا تَنْجعُ الحيلةُ فيه.

وجملةُ الأمر أنَّا لا نعلم أحَداً جعَلَ جُمودَ العينِ دليلَ سرورٍ وأمارةِ غِبْطةٍ، وكنايةً عن أنَّ الحالَ حالُ فرِح. فهذا مثالٌ فيما هو بالضدِّ ممَّا شرَطوا مِنْ أنْ لا يكونَ لفظُهُ اسْبَقَ إلى سمعِكَ، من معناه إلى قلْبِك، لأنكَ تَرى اللفظَ يصِلُ إلى سمعِكَ وتحتاجُ إلى أن تُخُبَّ وتُوضِعَ في طلب المعنى. ويَجْري لكَ هذا الشرحُ والتفسيرُ في النظْمِ كما جرى في اللفظ، لأنه إذا كان النظْمُ سَويّاً والتأليفُ مستقيماً، كان وُصولَ المعنى إلى قلبك، تِلوَ وصولِ اللفظِ إلى سَمْعك؛ وإذا كان على خلافِ ما ينبغي، وصَلَ اللفظُ إلى السمع وبَقيتَ في المعنى تَطلُبُه وتَتْعَبُ فيه؛ وإذا أفرطَ الأمرُ في ذلك صار إلى التعقيد الذي قالوا إنه يسْتَهِلكُ المعنى. واعلمْ أنْ لمْ تَضِقِ العبارةُ، ولم يُقَصِّرِ اللفظُ، ولم يَنْغَلقِ الكلامُ في هذا الباب، إلاَّ لأنَّه قد تناهى في الغُموض والخَفَاء إلى أقصى الغايات؛ إنك لا ترى أغْربَ مَذْهباً، وأعجَبَ طريقاً، وأحْرى بأن تَضْطرِبَ فيه الأراءُ، منه. وما قولُك في شيءٍ قد بلَغ مِنْ أمرِه أن يُدَّعَى على كبار العلماءِ بأنهم لم يَعْلَموه ولم يَفْطِنوا له؟ فقد ترى أن البحتريَّ قال حين سُئِلَ عن مسلم وأبي نواس، أيُّهما أشعرُ؟ فقال: أبو نواس. فقيل: فإنَّ أبا العباس ثعلباً لا يوافقك على هذا، فقال: ليس هذا مِنْ شأنِ ثَعْلَب وذويهِ من المتعاطين لِعلْم الشّعْر دون عَمَلِه، إنما يعلم ذلك من دُفع في مَسْلك طريقِ الشعر إلى مضايقِه وانتهى إلى ضروراته.

ثم لم ينفَكَّ العالِمونَ به والذين هُمْ مِنْ أهله، من دُخولِ الشُّبهة فيه عليهم، ومن اعتراض السَّهْو والغلط لهم؛ رُويَ عن الأصمعي أنه قال: كنتُ أسيرُ مع أبي عمرو بن العلاء وخلفٍ الأحمر وكانا يأتيان بشاراً فيُسلِّمانِ عليه بغاية الإعظامِ ثم يقولون؛ (يا أبا مُعاذٍ ما أحدثْتَ؟) فيُخْبِرُهما ويُنْشِدُهما، ويَسْألانِه ويكتبان عنه متواضِعَيْن له حتى يأتيَ وقتُ الزوالِ ثم ينصرفان. وأتيَاه يوماً فقالا: ما هذه القصيدةُ التي أحدثْتَها في سَلمِ بن قُتَيْبَةَ؟ قالَ هي التي بلَغَتْكُم. قالوا: بلَغَنا أنك أكْثَرتَ فيها من الغَريب. قال: نعم، بلغني أن سَلْم بْنَ قتيبة، يَتباصَرُ بالغريب، فأحببْتُ أن أوردَ عليه ما لا يَعْرَفُ. قالوا: فانْشِدْناها يا أبا مُعاذ! فأنشدهما [من الخفيف]: بكِّرا صاحبيَّ قَبْلَ الهجيرِ ... إنَّ ذاكَ النجاحَ في التَّبْكيرِ حتى فرَغ منها، فقال له خلف: لو قلت يا أبا معاذ مكانَ: " إن ذاك النجاحَ في التبكيرِ" بكِّرا فالنجاح في التبكير كان أحسَنَ. فقال بشار: إنما بنَيْتُها أعرابية وَحْشيَّة، فقلتُ: إنَّ ذاكَ النجاحَ في التبكير، كما تقولُ الأعرابُ البدويون. ولو قلتُ: "بكِّرا فالنجاحُ" كان هذا من كلام المولَّدينَ ولا يُشْبِهُ ذاكَ الكلامَ ولا يَدْخُل في معنَى القصيدة. قال: فقام خلَفُ فقبَّلَ بين عينيه. فهل كان هذا القولُ من خَلَف، والنقدُ عَلَى بشار، إلاَّ لِلُطْفِ المعنى في ذلك وخَفَائِه؟ واعلمْ أنَّ مِنْ شأن "إنَّ" إذا جاءت على هذا الوجه، أن تُغْني غَناء (الفاءِ) العاطِفةِ مثلاً، وأنْ تُفيدَ من رَبْط الجملةِ بما قبلها، أمراً عجيباً، فأنتَ تَرى الكلامَ بها مستأْنَفاً، غيرَ مستأنفٍ، مقطوعٍ موصولاً معاً. أفلا تَرى أنك لو أَسْقَطْتَ "إنَّ" من قوله: "إنَّ ذاك النجاح في التكير" لم تَر الكلامَ يَلتئمُ، ولو رأيتَ الجملةَ الثانيةَ لا تتَّصل بالأولى ولا تكونُ منها بسبيلٍ حتى تجيء (بالفاء) فتقولُ: بكِّرا صاحبيَّ قبلَ الهجيرِ ... فذاكَ النجاحُ في التكبيرِ ومثلُه قولُ بعضِ العرب [من الرجز]: فغنِّها وهيَ لكَ الفداءُ ... إنَّ غناء الإِبلِ الحُداءُ

فانظرْ إلى قوله: (إنَّ غِناءَ الإبلِ الحداءُ). وإلى ملاءمته الكلامَ قبلَه، وحسْنِ تشبثِه به، وإلى حُسْن تعطُّفِ الكلامِ الأول عليه! ثم انظرْ إذا تركتَ "إنَّ" فقلتَ: (فغنِّها وهي لك الفداءُ، غناء الإبل الحداءُ) كيف تكونُ الصورةُ وكيفَ يَنْبو أحَدُ الكلامَيْن عن الآخر، وكيف يُشئِم هذا ويُعْرِق ذاك، حتى لا تَجدَ حيلةً في ائتلافهما. حتى تَجْتَلِبَ لهما (الفاءَ) فتقول: (فغنِّها وهي لكَ الفداءُ فغناءُ الإبلِ الحُداء)؛ ثم تعلَّمْ أنْ ليستِ الأُلفةُ بينهما مِنْ جنسِ ما كان، وأنْ قد ذَهبتِ الأنَسَة التي كنتَ تَجِدُ، والحُسْنُ الذي كنتَ ترى. ورويَ عن عنبسة أنه قال: قدِمَ ذو الرمة الكوفةَ، فوقفَ يُنشِدُ الناسَ بالكناسة قصيدته الحائية التي منها [من الطويل]: هِيَ البُزءُ والأسقامُ والهمُّ والمُنى ... وموتُ الهوى في القلب مني المبرِّحُ وكان الهوى بالنأْي يُمْحَى فيمَّحي ... وحُبُّكِ عندي يَستجِدُّ ويَرْبَحُ إذا غيَّرَ النّّأيُ المحبِّينَ لم يَكَدْ ... رسَيسُ الهوى مِنْ حُبِّ ميَّةَ يَبْرَحُ قال: فلما انتهى إلى هذا البيت، ناداه ابنُ شُبْرُمَة: يا غيلانُ! أراه قد بَرِحَ قال: فشنَق ناقته وجعَل يتأَخَّر بها ويتفكَّرُ، ثم قال: إذا غيَّر النأيُ المحبينَ لم أَجِدْ ... رسَيسَ الهوى مِن حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ قال: فلما انصرفتُ، حدثتُ أبي. قال: أخطأَ ابنُ شُبْرُمة حين أنكَرَ على ذي الرمة، وأخطأ ذو الرمة حين غيَّر شِعْرَه لقول ابن شبرمة، إنما هذا كقولِ اللهِ تعالى: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40]. وإنما ولم يَرَها ولم يكد.

واعلمْ أنَّ سبَبَ الشُّبهةِ في ذلك، أنه قد جرى في العُرفِ أن يقال: (ما كادَ يَفعلُ ولم يكد يفعل)، في فعل قد فُعِلَ، على معنى: أنه لم يَفْعل إلاَّ بعْدَ الجهدِ وبعْدَ أن كان بَعيداً في الظنِّ أن يَفْعَله. كقوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71]. فلمَّا كان مجيءُ النفي في (كاد) على هذا السبيل، توهَّم ابنُ شُبْرُمةَ أنه إذا قال: (لم يكَدْ رسيسُ الهوى مِن حبِّ مية يبرحُ) فقد زَعم أنَّ الهَوى قد بَرِح؛ ووقعَ لذي الرُّمة مثلُ هذا الظنِّ. وليس الأمرُ كالذي ظنَّاهُ. فإنَّ الذي يقتضيهِ اللفظُ إذا قيل: (لم يكَدْ يَفعل وما كاد يَفعل) أن يكونَ المرادُ أنَّ الفعلَ لم يكنْ من أصْله، ولا قارَبَ أن يكونَ، ولا ظُنَّ أنه يكونُ وكيفَ بالشكِّ في ذلك، وقد عَلِمْنا أنَّ "كادَ" موضوعٌ لأنْ يَدُلَّ على شدة قُرْب الفِعلِ من الوقوع، وعلى أنه قد شارَفَ الوجودَ؟ وإذا كان كذلك، كان مُحالا أن يوجِبَ نَفْيُه وجودَ الفعل، لأنه يؤدِّي إلى أن يوجِبَ نفيُ مقاربةِ الفعلِ الوجودَ وجودَه، وأن يكون قولُك: (ما قاربَ أنْ يَفْعل)، مقْتضِياً على البتَّ أنَّه قد فَعَل. وإذْ قد ثبتَ ذلك، فمن سبيلكَ أن تَنْظُر. فمتى لم يكنِ المعنى على أنه قد كان هناك صورةٌ تقتضي أن لا يكون الفعلُ، وحالٌ يَبعُدُ معها أن يكونَ، ثُمَّ تغيَّرَ الأمرُ كالذي تراه في قوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] فليس إلاَّ أن تُلزِمَ الظاهرَ وتجعلَ المعنى على أنك تَزْعمُ أنَّ الفعلَ لم يقارِبْ أن يكونَ، فضلاً عن أن يكون؛ فالمعنى إذن في بيتِ ذي الرّمة، على أنَّ الهوى مِنْ رسوخه في القلب وثُبوته فيه وغلَبَته على طِباعِه، بحيثُ لا يُتوَهَّم عليه البِراحُ، وأنَّ ذلك لا يقارِبُ أن يكون فضلاً عن أن يكونَ؛ كما تقول: إذا سَلاَ المُحِبُّونَ وفَتَروا في محبتهم، لم يقَعْ لي وَهمٌ ولم يَجْرِ مني على بالٍ أنه يجوز عَلَيَّ ما يُشْبِه السَّلوةَ وما يعدُّ فترةً، فضلاً عن أن يُوجَدَ ذلك مني وأصيرَ إليه. وينبغي أن تعلم أنهم إنما قالوا في التفسير: (لم يَرها ولم يكد).

فبدأُوا فنَفَوْا الرؤيةَ، ثم عطَفُوا "لم يكد" عليه، ليُعْلموك أنْ ليس سبيلُ "لم يكد" ههنا سبيلَ "ما كادوا" في قوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] في أنه نَفْيٌ معقِّبٌ على إثباتٍ، وأنْ ليس المعنى على أنَّ رؤيةً كانت مِنْ بعْدِ أن كادت لا تكون، ولكن المعنى أن رؤيتَها لا تُقارِب أن تكونَ، فضلاً عن انْ تكونَ. ولو كان "لَم يكَدْ" يُوجِب وجودَ الفعل، لكان هذا الكلامُ منهم مُحالاً جارياً مَجْرى أن تقول: "لم يَرَها، ورآها؛ فاعرفْه! وههنا نكتةٌ وهي أنَّ "لم يكد" في الآية والبيت، واقعٌ في جوابِ (إذا). والماضي إذا وقَعَ في جواب الشرط، على هذا السبيل، كان مستقبَلاً في المعنى؛ فإذا قلتَ: (إذا خرجْتَ لمْ أخرُجْ) كنتَ قد نفَيْتَ خُروجاً فيما يُسْتَقْبَل. وإذا كان الأمر كذلك، استحالَ أن يكون المعنى في البيتِ أو الآيةِ على أنَّ الفعلَ قد كان، لأنه يُؤدِّي إلى نْ يجيءَ (لمْ أفعلْ) ماضياً صريحاً في جواب الشرط، فتقول: (إذا خرجتَ لم أخرجْ أمسِ)، وذلك محالٌ. ومما يتَّضِحُ فيه هذا المعنى، قولُ الشاعر [من المتقارب]: ديارٌ لجهمَةَ بالمُنْحَنى ... سَقاهُنَّ مرتجزٌ باكرُ وراحَ عليهنَّ ذو هَيْدَبِ ... ضعيفُ القُوى ماؤهُ زاخِرُ إذا رامَ نَهْضاً بها لم يَكَدْ ... كذِي الساقِ أَخْطأَها الجابِرُ - وأعود إلى الغرض - فإذا بلغَ من دقة هذه المعاني أنْ يَشْتَبهِ الأمرُ فيها على مثْل خلف الأحمر وابن شبرمة، وحتى يشْتبهِ على ذي الرّمة في صوابٍ قالَه فيَرَى أنه غيرُ صوابِ، فما ظَنُّكَ بغيرهم، وما تَعجُّبُك مِن أنْ يَكْثُر التخليط فيه؟ ومن العَجَب في هذا المعنى قولُ أبي النجم [من الرجز]: قدْ أصبَحَتْ أُمُّ الخيارِ تدَّعي ... عليَّ ذَنْباً كُلُّه لم أصْنَعِ

قد حمَلَهُ الجميعُ على أنه أَدْخَلَ نَفْسَه من رفع "كلُّ" في شيء إنما يجوزُ عند الضرورة مِنْ غير أنْ كانت به ضرورةٌ. قالوا لأنه ليس في نصب "كلّ" ما يَكْسِرُ له وَزْناً أو يمنعه من معنى أراده. وإذا تأمَّلتَ وجدْتَه لم يَرتكِبْه ولم يَحْمِل نفسَه عليه إلاَّ لحاجةٍ له إلى ذلك، وإلاَّ لأنه رأى النَّصْبَ يَمنعُه ما يريد، وذاك أنه أراد أنها تدَّعي عليه ذَنباً لم يَصْنع منه شيئاً البتَّةَ لا قليلاً ولا كثيراً، ولا بَعضاً ولا كُلاًّ. والنصْب يَمنعُ من هذا المعنى، ويَقْتضي أن يكون قد أتى من الذنبِ الذي ادَّعته، بعْضَه، وذلك أنَّا إذا تأملْنا وجَدْنا إعمال الفِعلِ في "كل"، والفعلُ منفيٌّ لا يَصْلُحُ أن يكونَ إلاَّ حيثُ يُراد أنَّ "بَعْضاً" كان و "بعضاً" لم يكن. نقولُ: (لم ألْقَ كلَّ القومِ ولم آخذْ كلَّ الدراهم)، فيكونُ المعنى أنك لقِيتَ بعضاً من القوم. ولم تَلْقَ الجميعَ، وأخذْتَ بعضَاً من الدراهم وتركْتَ الباقي، ولا يكون أَنْ تريد أنك لم تَلْقَ واحداً من القوم ولم تأخذْ شيئاً من الدراهم. وتعرف ذلك بأن تَنْظرَ إلى "كل" في الإثبات وتتعرفَ فائدتَه فيه.

وإذا نظرتَ وجدتَهُ قد اجْتُلِبَ لأنْ يُفيدَ الشُّمولَ في الفعل الذي تُسْنِدُه إلى الجملة أو تُوقِعُه بها. تفسيرُ أنكَ إنما قلْتَ: (جاءني القومُ كلُّهم)، لأنكَ لو قُلْتَ: (جاءَني القومُ) وسكَتَّ، لكانَ يَجوزُ أن يَتوهَّم السامعُ أنه قد تخلَّفَ عنكَ بَعضُهم، إلاَّ أنكَ لم تعتدَّ بهم، أو أنَّكَ جَعَلْتَ الفعلَ إذا وقَعَ مِن بَعْضِ القوم، فكأنما وَقَعَ من الجميع لِكَوْنهم في حُكْمِ الشخصِ الواحد كما يقال للقبيلة: (فعلْتُم وصنعْتُم)، يُرادُ فِعْل قد كان مِنْ بَعْضِهم أوْ واحدٍ منهم؛ وهكذا الحُكْم أبداً. فإذا قلتَ: (رأيتُ القومَ كلَّهم، ومررتُ بالقومِ كلِّهم) كُنْتَ قد جئت (بكلّ) لئلاَّ يُتَوهَّمَ أنه قد بَقِيَ عليك مَنْ لم تَرَهُ ولم تَمُرَّ به. وينبغي أن يُعْلَم أنَّا لا نَعْني بقولنا "يفيدُ الشمول" أنَّ سبيلَه في ذلك سبيلُ الشيء يُوجِبُ المعنى من أصْله وأنه لولا مكانُ "كلّ" لَمَا عُقِلَ "الشُّمولُ"، ولم يكنْ فيما سَبَق مِن اللفظ دليلٌ عليه. كيف، ولو كان كذلك، لم يكنْ يُسمَّى تأكيداً؛ فالمعنى أنه يمنع أن يكون اللفظُ المقتضِي الشُّمولَ مستعمَلاً على خَلافٍ ظاهر، ومتجوَّزاً فيه.

وإذْ قد عرفتَ ذلك، فهاهنا أصْلٌ وهو أنه مِن حُكْم النفي، إذا دَخل على كلام ثُمَّ كان في ذلك الكلام تقييدٌ على وجهٍ من الوجوه، أن يتوجَّه إلى ذلك، التقييدُ وأن يقعَ له خصوصاً. تفسيرُ ذلك أنك إذا قلتَ: (أتاني القومُ مجتمِعينَ)، فقال قائل: لم يأْتكِ القومُ مجتمعين، كان نَفْيُه ذلك متوجهاً إلى الاجتماع الذي هو تقييدٌ في الإتيان دون الإتيان نفْسِه، حتى إنَّه إنْ أرادَ ينفي الإتيان مِنْ أصله، كان مِنْ سَبيله أن يقولَ: إنَّهم لم يأْتوكَ أصْلاً، فما مَعْنى قولِكَ "مجتمعين"؟. هذا مما لا يَشُكُّ فيه عاقلٌ. وإذا كان هذا حكْمُ النفي إذا دَخَلَ على كلام فيه تقييدٌ، فإنَّ التأكيدَ ضربٌ من التقييدِ. فمتى نَفَيْتَ كلاماً فيهِ تأكيدٌ، فإنَّ نَفْيكَ ذلكَ يتوجَّه إلى التأكيد خصوصاً ويَقَعُ له. فإذا قلت: (لم أرَ القومَ كلَّهم، أوْ لَمْ يأتني القومُ كلُّهم، أوْ لم يأتني كلُّ القوم، أو لَمْ أَرَ كلَّ القوم): كنتَ عمدْتَ بنَفْيِكَ إلى معنى "كل" خاصة، وكان حكْمُه حُكْمَ "مجتمعين" في قولك: (لم يأتني القومُ مجتمعين). وإذا كان النفيُ يَقَعُ (لكلِّ) خصوصاً، فواجبٌ إذا قلتَ: (لم يأتني القومُ كلُّهم، أو لم يأتني كلُّ القوم) أن يكونَ قد أتاكَ بعضُهم؛ كما يجبُ إذا قلتَ: (لم يأتني القومُ مجتمعين): أنْ يكونوا قد أَتَوْك أَشْتاتاً. وكما يَستحيلُ أن يقولَ: (لم يأتني القومُ مجتمعينَ): وأنتَ تُريد أنهم لم يأتوك أصْلاً لا مجتمعين ولا منفردين؛ كذلك مُحالٌ أنْ تقول: (لم يأتني القومُ كلُّهُمْ): وأنت تريد أنهم لم يأتوك أصْلاً. فاعرفْه! واعلمْ أنك إذا نظرْتَ، وجَدْتَ الإثباتَ كالنفي فيما ذكرتُ لكَ، ووجدتَ النفي قد احتذاهُ فيه وتَبِعَه، وذلك أنك إذا قلت: (جاءني القومُ كلُّهم)، كان "كل" فائدةَ خبرِكَ هذا والذي يتوجَّه إليك إثباتُك، بدلالةِ أنَّ المعنى على أنَّ الشكَّ لم يقَعْ في نفس المجيء أنه كان من القوم على الجملةِ وإنما وَقعَ في شُموله "الكل" وذلك الذي عناكَ أمرُه مِن كلامِكَ.

وجملةُ الأمر أنه ما مِنْ كلام كان فيه أمرٌ زائد على مجرَّدِ إثباتِ المعنى للشيء، إلاَّ كان الغرضَ الخاصَّ من الكلام، والذي يُقْصَد إليه ويزْجى القول فيه فإذا قلتَ: (جاءني زيدٌ راكباً وما جاءني زيدٌ راكباً)، كنتَ قد وضعْتَ كلامَكَ لأن تُثبتَ مجيئَه راكباً أو تنفي ذلك، لا لأن تُثْبِتَ المجيءَ وتنْفِيَه مطلقاً. هذا ما لا سبيلَ إلى الشَّكَّ فيه. واعلمْ أنَّه يَلزَمُ من شكَّ في هذا، فتوهَّمَ أنَّه يجوزُ أن تقولَ: (لم أر القومَ كلَّهم)، على معنى أنك لم تَرَ واحداً منهم، أن يُجْريَ النهيَ هذا المجرى فتقولَ: (لا تَضْرب القومَ كلَّهم): على معنى: لا تضْربَ واحداً منهم، وأن تقولَ: (لا تَضْربِ الرجلَيْن كليهما). على معنى: لا تَضْرِبْ واحداً منهما. فإذا قال ذلك، لَزِمَه أن يختل قولَ الناس: لا تَضْرِبْهما معاً ولكنِ اضْرِبْ أحدَهما، ولا تأخُذْهما جميعاً ولكنْ واحداً منهما. وكفى بذلك فساداً. وإذْ قد بانَ لك من حالِ النَّصْب أنه يقتضي أن يكونَ المعنى، على أنه قد صنَعَ من الذنب بعْضاً، وترك بعضاً؛ فاعلمْ أنَّ الرفعَ على خلاف ذلك، وأنه يقتضي نفْيَ أن يكونَ قد صَنَع منه شيئاً وأتى منه قليلاً أو كثيراً، وأنك إذا قلت: (كلُهم لا يأتيك)، و (كلُّ ذلك لا يكونُ) و (كلُّ هذا لا يَحْسُن)، كنتَ نَفَيْتَ أن يأتِيَه واحدٌ منهم، وأبيْتَ أن يكون، أو يَحْسُنَ شيءٌ مما أشرتَ إليه. ومما يشهدُ لك بذلك من الشّعرِ، قولُه [من الطويل]: فكيفَ وكلٌّ ليسَ يَعْدُو حِمَامَه ... ولا لامرئٍ عمَّا قَضى اللهُ مَزْحَلُ المعنى عَلَى نفْي أن يَعْدُوَ أحدٌ من الناس حِمَامَه بلا شُبْهة. ولو قلتَ: (فكيفَ وليس يعدو كلُّ حِمامَه). فأَخَّرْتَ (كلاّ) لأفسدتَ المعنى وصرْتَ كأنكَ تقولُ: (إنَّ من الناس من يَسْلَمُ من الحِمام ويبقى خالداً لا يموت). ومثله قول دِعبل [من الطويل]: فواللهِ ما أَدري بأيّ سِهامِهَا ... رَمَتني، وكلٌّ عندَنا ليسَ بالمُكْدِي أَبِالجِيدِ أمْ مَجْرى الوِشاحِ وإنني ... لأُنْهِمُ عَينَيها مع الفاحِِمِ الجَعْدِ

المَعْنى على نَفْي أن يكونَ في سِهامها مُكْدٍ على وجهٍ من الوجوه. ومن البَيِّنِ في ذلك ما جاء في حديث ذي اليدين قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: "أقَصُرَتِ الصلاةُ أم نَسِيْتَ يا رسولَ الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "كلُّ ذلك لم يَكُنْ" فقال ذو اليدين: "بَعْضُ ذلك قد كان". المعنى لا محالةَ على نَفْي الأمرين جميعاً، وعلى أنه عليه السلامُ أرادَ أنه لم يكنْ واحدٌ منهما: لا القِصَرُ ولا النِّسْيانُ. ولو قيل: (لم يكنْ كلُّ ذلك) لكان المعنى أنه قد كان بعضُه. واعلمْ أنه، لمَّا كان المعنى مع إعمال الفعلِ المِنفيِّ في "كل" نحو: (لمْ يأتني القومُ كلُّهم، ولم أرَ القومَ كلَّهم)، على أنَّ الفعلَ قد كان مِن البعض ووَقَع على البعض، قلتَ: (لم يأتني القوم كلُّهم ولكنْ أتاني بعضُهم، ولم أرَ القومَ كلَّهم ولكنْ رأيتُ بعضَهم)، فأثبتَّ بعد ما نَفَيْتَ، ولا يكونُ ذلك مع رَفْع "كلّ" بالابتداء. فلو قلتَ: (كلُّهم لم يأتني ولكنْ أتاني بعضهم، وكلُّ ذلك لم يكُنْ ولكنْ كان بعضُ ذلك)، لم يَجُزْ لأنه يؤدِّي إلى التناقض، وهو أن تقول: (لم يأتني واحدٌ منهم ولكنْ أتاني بعضُهم). واعْلمْ أنَّه ليس التأثيرُ لما ذكَرْنا من إعمال الفعل، وتَرْك إعماله على الحقيقة، وإنما التأثيرُ لأمر آخَر وهو دخول "كل" في حيِّز النفي وأن لا يَدْخُل فيه، وإنما علَّقْنا الحكْم في البيت وسائر ما مَضى، بإعمال الفعل وترك إعماله من حيثُ كان إعمالُه فيه يقتضي دخولَه في حيِّز النفي، وتَرْكُ إعمالهِ يُوجبُ خروجَه منه من حيث كان الحرفُ النافي في البيت حرْفاً لا ينفصل على الفعل وهو "لم"، لا أنَّ كَوْنَهُ مَعْمولاً للفعل وغيرَ معمول يقتضي ما رأيتَ من الفَرْق. أفَلاَ تَرى أنك لو جئتَ بحرْفِ نَفي يُتَصوَّر انفصالُه عن الفعل، لرأيتَ المعنى في "كل" مع تَرْكِ إعمال الفعل مِثْلَه مع إعمالِه؟ ومثال ذلك قولُه [من البسيط]: ما كلُّ ما يتمنَّى المرءُ يُدرِكُه وقولُ الآخر [من البسيط]: ما كلُّ رَأْي الفتى يَدْعو إلى رَشَد

"كلّ" كما ترى، غيرُ مُعْمَلٍ فيه الفعلُ ومرفوعٌ إمّا بالابتداء وإما بأنه اسم "ما". ثم إن المعنى ذلك على ما يكون عليه، إذا أعملْتَ فيه الفعلَ فقلتَ: (ما يُدرِكُ المرءُ كلَّ ما يتمنَّاه، وما يدعو كلُّ رأي الفتى إلى رَشَد)، وذلك أن التأثير، لوقوعه في حيِّز النفي؛ وذلك حاصلٌ في الحالين. ولو قدَّمْتَ "كلاّ" في هذا فقلت: (كلُّ ما يتمنى المرءُ لا يُدركُه، وكلُّ رأي الفتى لا يدعو إلى رَشَد)، لتغيَّرَ المعنى، ولصارَ بمنزلةِ أنْ يقال: إنَّ المرءَ لا يدرِكُ شيئاً مما يتمناه، ولا يكون في رأي الفتى ما يدعو إلى رَشَدٍ بوجْهٍ من الوجوه. واعلمْ أنك إذا أدخلْتَ "كلاّ" في حيِّز النفي، وذلك بأن تُقدِّم النفيَ عليه لفظاً أو تقديراً، فالمعنى على نفي الشُّمول دون نفي الفِعْل والوصفِ نَفْسِه. وإذا أخرجتَ "كلاّ" من حيِّز النفي ولمْ تُدْخِلْه فيه، لا لفظاً ولا تقديراً، كان المعنى على أنك تتبَّعْتَ الجملة فنَفَيْتَ الفعلَ والوصفَ عنها واحداً واحداً. والعلة في أنْ كان ذلك كذلك، أنكَ إذا بدأتَ "بكلّ" كنتَ قد بنَيْتَ النفيَ عليه، وسلَّطْتَ (الكلِّية) على النفْي وأعملْتَها فيه؛ وإعمالُ معنى الكُلِّيةِ في النفي، يَقْتضي أن لا يَشُذَّ شيءٌ عن النفي، فاعرفْه! واعلمْ أنَّ مِن شأن الوجوهِ والفُروقِ، أن لا يزال يَحْدثُ بسببها وعلى حَسبِ الأغراض والمعاني التي تقع فيها، دقائقُ وخفايا إلى حدٍّ ونهايةٍ، وأنها خفايا تكْتُم أنفُسَها جَهدَها حتى لا يُنْتَبَه لأكثرها، ولا يُعلَمُ أنها هي، وحتى لا تَزالُ تَرى العالِمَ يَعرِضُ له السهوُ فيه، وحتى إنه ليقصِدُ إلى الصواب فيقعُ في أثناء كلامه ما يُوهِم الخطأ؛ وكلًّ ذلك لِشدَّة الخفاءِ وفَرْض الغُموضِ.

فصل

فصل واعلمْ أنه إذا كان بيِّناً في الشيء، أنه لا يَحتمِلُ إلا الوجْهَ الذي هو عليه، حتى لا يُشْكِلَ وحتى لا يُحْتاج في العلم بأن ذلك حقُّه، وأنه الصوابُ إلى فكْرِ ورويةٍ، فلا مَزِيَّةَ؛ وإنما تكون المزيةُ ويجِبُ الفضلُ إذا احتمَلَ في ظاهر الحال غيرَ الوجه الذي جاء عليه وجهاً آخر، ثم رأيتَ النفسَ تَنْبو عن ذلك الوجهِ الآخر، ورأيتَ للذي جاء عليه، حُسْناً وقبولاً يعدَمُهما إذا أنتَ تركْتَه إلى الثاني. ومثالُ ذلك قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن} [الأَنعام: 100]، ليس بخاف أن لتقديم "الشركاء" حُسْناً وروعةً ومأخذاً من القلوب، أنتَ لا تجد شيئاً منه إن أنتَ أخَّرْتَ، فقلتَ: (وجعَلوا الجنَّ شركاءَ لله). وأنك ترى حالَك حالَ مَنْ نُقِلَ عن الصورة المُبْهجة، والمَنْظر الرائقِ، والحُسْنِ الباهر، إلى الشيء الغُفْل الذي لا تحلى منهُ بكثيرِ طائلٍ، ولا تصيرُ النفسُ به إلى حاصلٍ، والسببُ في أن كان ذلك كذلك هو أن للتقديم فائدة شريفة ومعنى جليلاً لا سبيلَ إليه مع التأخير. بيانه أنَّا، وإنْ كنَّا نرى جملةَ المعنى ومحصوله، أنهم جعلوا الجنَّ شركاءَ وعبدوهُمْ مع الله تعالى، وكان هذا المعنى يَحصُلَ مع التأخيرِ، حصولَه مع التقديمِ، فإن تقديم "الشركاء" يفيد هذا المعنى ويفيد معه معنى آخر، وهو أنه ما كان يَنبغي أن يكون لله شريكٌ لا مِن الجنِّ ولا غيرِ الجِنِّ. وإذا أخَّر فقيل: (جَعلوا الجنَّ شركاء لله). لم يُفِدْ ذلك، ولم يكن فيه شيءٌ أكثرُ من الإخبار عنهم، بأنهم عبَدوا الجنَّ مع اللهِ تعالى؛ فأما إنكارُ أنْ يُعْبَد مع الله غيرُه، وأنْ يكونَ له شريكٌ من الجنِّ وغير الجن، فلا يكونُ في اللفظ، مع تأخير "الشركاء"، دليلٌ عليه. وذلك أنَّ التقدير يكونُ مع التقديم أن "شركاء" مفعولٌ أول لَجَعل، و "لِلَّهِ" في موضعِ المفعول الثاني، ويكونُ "الجنّ" على كلام ثانٍ وعلى تقديرِ أنه كأنه قيل: (فمن جَعلوا شركاءَ لله تعالى؟) فقيل: الجنَّ.

وإذن كان التقدير في "شركَاء" أنه مفعول أول، و"الله" في موضع المفعول الثاني، وقع الإنكار على كون شركاء الله تعالى على الإطلاق من غير اختصاص شيءٍ دون شيءٍ، وحصَلَ مِن ذلك أنَّ اتخاذَ الشريكِ من غير الجنِّ، قد دخَلَ في الإنكار دخولَ اتخاذه من الجنِّ، لأن الصفةَ إذا ذُكرت مُجَرَّدة غيرَ مُجْراة على شيء، كان الذي يَعْلَق بها من النفي عامَّا في كل ما يجوز أن تكون له الصفةُ. فإذا قلتَ: (ما في الدار كريمٌ)، كنتَ نفَيْتَ الكينونة في الدار عن كلِّ مَنْ يكون الكرَمُ صفةً له. وحكْمُ الإنكار أبداً حكْمُ النفي. وإذا أُخِّر فقيل: (وجعَلوا الجنَّ شركاءَ لله)، كان "الجنَّ" مفعولاً أول والشركاء مفعولاً ثانياً. وإذا كان كذلك كان الشركَاء مخصوصاً غير مُطْلَق من حيثُ كان مُحالاً أن يَجْريَ خبراً على الجنِّ، ثم يكون عامّاً فيهم وفي غيرهم. وإذا كان كذلك، احْتَمَلَ أن يكون القصدُ بالإنكار إلى الجنِّ خصوصاً، أن يكونوا شركاء دون غيرهم، جل اللهُ وتعالى عن أن يكون له شريك وشبيهٌ، بحال. فانظرْ الآن إلى شرَفِ ما حصَل من المعنى بأن قُدِّم "الشركاء"، واعتبرْهُ؛ فإنهُ يَنبِّهك لكثيرٍ من الأمور ويدُلُّك على عِظَمِ شأن النظم، وتعلمُ به كيف يكونُ الإيجازُ به، وما صُورَتُه، وكيفَ يزاد في المعنى من غير أن يُزاد في اللفظ، إذ قد ترَى أنْ ليس إلا تقديمٌ وتأخيرٌ وأنه قد حصَل لك بذلك من زيادة المعنى، ما إن حاولْتَه مع تَرْكِهِ لم يحصل لك، واحتجْت إلى أن تَسْتَأْنِفَ له كلاماً نحو أن تقول: (وجعلوا الجِنَّ شُركَاء للهِ وما يَنْبغي أن يكون للهِ شريكٌ لا مِنَ الجن ولا مِنْ غَيْرهم): ثم لا يكونُ له إذا عَقَلَ من كلامَيْن من الشَّرَف والفخامةِ ومِن كَرَمِ الموقعِ في النفس، ما تَجِدُه له الآن وقد عَقلَ من هذا الكلام الواحدِ.

ومما يُنظرُ إلى مثل ذلك قولُه تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ} [البقرة: 96]. وإذا أنتَ راجعتَ نفسَك وأذكيتَ حسَّك، وجدتَ لهذا التنكير، وأنْ قيل "على حياةٍ" ولم يُقَلْ: (على الحياة)، حُسْناً وروعةً ولطفَ موقعٍ لا يُقَادَرُ قدرُه. وتَجِدُكَ تَعْدَمُ ذلكَ مع التعريف، وتخرجُ عن الأريحيةِ والأُنْس إلى خلافِهما. والسببُ في ذلك أنَّ المعنى على الازدِياد من الحياة، لا الحياةِ مِنْ أصْلها، وذلك لا يَحْرِصُ عليه إلا الحيُّ، فأمَّا العادِمُ للحياة، فلا يصحُّ منه الحرْصُ على الحياة ولا غيرها. وإذا كان كذلك، صار كأنه قيل: (ولتجدنَّهُمْ أحْرَصَ الناس ولو عاشوا ما عاشوا على أن يزدادوا إلى حياتهم في ماضي الوقت وراهِنِه، حياةً في الذي يَستقْبِل). فكما أنك لا تقول ههنا أن يزدادا إلى حياتهم الحياة (بالتعريف)، وإنما تقولُ حياةً، إذ كان التعريفُ يَصْلحُ حيثُ تُراد الحياةُ على الإطلاق كقولنا: (كلُّ أحد يُحب الحياة ويَكرهُ الموتَ)، كذلك الحكْمُ في الآية. والذي ينبغي أن يراعى، أن المعنى الذي يُوصفُ الإنسانُ بالحرصِ عليه، إذا كان موجوداً حالَ وصفِك له بالحرص عليه، لم يُتصوَّر أن تجعله حريصاً عليه من أصله. كيف ولا يُحْرَصُ على الراهن ولا الماضي. وإنما يكون الحرصُ على ما لم يُوجَد بعدُ.

وشبيهٌ بتنكير (الحياة) في هذه الآية، تنكيرها في قوله عزَّ وجلَّ: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ} [البقرة: 179]. وذلك أنَّ السببَ في حُسْن التنكيرِ وأنْ لم يَحْسُنِ التعريفُ، أنْ ليس المعنى على الحياةِ نفسِها، ولكنْ على أنَّه لمَّا كان الإنسانُ إذا عَلِمَ أنه إذا قَتَلَ قُتِلَ، ارتدَعَ بذلك عن القتل، فسلِمَ صاحبُه، صارتِ حياةُ هذا المهموم بِقَتْلِه في مستأَنْفِ الوقتِ، مستفادَةً بالقِصَاص، وصار كأنه قد حَييَ في باقي عُمره به، أي بالقِصاص. وإذا كان المعنى على حياةٍ في بعض أوقاتِه وجَبَ التنكيرُ، وامتنع التعريفُ من حيث كان التعريف يَقْتضي أن تكون الحياةُ قد كانت بالقِصاص من أصْلها، وأن يكون القِصاص قد كان سبباً في كونها في كافة الأوقات، وذلك خلافُ المعنى وغيرُ ما هو المقصودُ. ويُبَيِّنُ ذلك أنك تقول: (لكَ في هذا غِنًى)، فتنكِّرُ إذا أردتَ أن تَجْعل ذلك من بعضِ ما يُسْتَغْنى به. فإن قلت: (لكَ فيه الغِنى) كان الظاهرُ أنك جعلتَ كلَّ غِناه به. وأمرٌ آخرُ، وهو أنه لا يكون ارتداعٌ حتى يكونَ هَمٌّ وإرادةٌ. وليس بواجبٍ أن لا يكونَ إنسانٌ في الدنيا إلاَّ وله عدوٌّ يَهُمَّ بقتلِه، ثم يرْدَعُه خوفُ القِصاص؛ وإذا لم يَجِبْ ذلك فمَنْ لم يهُمَّ بقتْلِهِ فكُفِيَ ذلك الهمَّ لخوفِ القِصاص، فليس هو ممَّن حَيَّ بالقصاص. وإذا دخَلَ الخصوصُ فقد وَجَبَ أن يقال (حياةٌ) ولا يقال (الحياة)، كما وَجَبَ أن يقال (شفاءٌ) ولا يقالُ (الشفاءُ) في قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69]، حيث لم يكن شفاءٌ للجميع. واعلمْ أنه لا يُتصوَّر أنْ يكون الذي هَمَّ بالقتلِ، فلم يقْتُلْ خوفَ القِصاص داخلاً في الجملة، وأن يكون القِصاصُ أفادَهُ حياةً كما أفادَ المقصودَ قتلُه. وذلك أنَّ هذه الحياةَ إنما هي لمن كان يَقْتُل لولا القِصاصُ، وذلك محالٌ في صفة القاصد للقتل، فإنما يَصِحُّ في وصفه ما هو كالضدِّ لهذا، وهو أن يقال: (إنه كان لا يُخافُ عليه القَتلُ لولا القصاصُ، وإذا كان هذا كذلك، كان وجهاً ثالثاً في وُجوبِ التنكير).

فصل: اشتراط الذوق فيه

فصل: اشتراط الذوق فيه واعلمْ أنه لا يصادِفُ القولَ في هذا الباب موقعاً من السامع، ولا يَجدُ لديه قَبولاً، حتى يكونَ من أهلِ الذوقِ والمعرفة، وحتى يكونَ ممن تُحدِّثهُ نفسُه بأنَّ لِمَا يُومئُ إليه من الحُسْن واللطْف أصْلاً، وحتى يختلف الحالُ عليه عند تأمُّلِ الكلامِ، فيجَدَ الأريحيَّة تارةً ويعْرى منها أخرى، وحتى إذا عجَّبْتَه عَجِبَ، وإذا نَبَّهْتَه لَموضع المزيةِ انْتَبَه، فأمَّا من كانت الحالانِ والوجهانِ عنده أبداً على سَواء، وكان لا يَتَفَقَّدُ من أمر النظم إلا الصحَّةَ المطلقة، وإلاَّ إعراباً ظاهراً، فما أقَلَّ ما يُجدي الكلامُ معه! فَلْيَكُنْ مَنْ هذه صِفتُهُ عندكَ، بمنزلةِ مَنْ عَدِمَ الإحساسَ بوزِن الشِّعر والذوقِ الذي يُقيمه به، والطبع الذي يُميٍّزُ صحيحَه من مكسوره، ومَزاحِفه من سالِمِه، وما خرجَ مِن البحر ممَا لم يَخْرُجُ منه، في أنك لا تتصدَّى له، ولا تتكلَّفُ تعريفَه لِعلْمِكَ أنه قد عَدِمَ الأداةَ التي معها تَعرفُ، والحاسَّةَ التي بِها تَجِدُ، فليكُنْ قَدْحُكَ في زنَدٍ وارٍ، والحكُّ في عُودٍ أنت تطمعُ منه في نار. واعلمْ أنّ هؤلاء، وإنْ كانوا همُ الآفةَ العظمى في هذا الباب، فإنَّ مِن الآفة أيضاً مَنْ زَعم أنه لا سبيلَ إلى معرفة العلَّةِ في قليلِ ما تُعْرَفُ المزيةُ فيه وكثيرِه؛ وأنْ ليس إلاَّ أنْ تَعلمَ أنَّ هذا التقديمَ وهذا التنكيرَ، أو هذا العطْفَ أو هذا الفصْلَ حسَنٌ، وأنَّ له موقعاً من النفس وحظَّا من القَبول. فأمَّا أنْ تَعلم: لمَ كان كذلك وما السَّبَبُ؟ فَمِمَّا لا سبيلَ إليه، ولا مطمعَ في الاطلاع عليه؛ فهو بتوانِيهِ والكَسل فيه في حُكْم مَنْ قال ذلك.

واعلمْ أنه ليس إذا لَمْ يُمكنْ معرفةُ الكلِّ وجَبَ تركُ النظر في الكلِّ؛ وأنْ تعرفَ العلَّةَ والسببَ فيما يُمْكِنك معرفةُ ذلك فيه، وإن قلَّ فتجعلَه شاهداً فيما لم تَعْرِفْ، أحْرَى مِن أنْ تَسُدَّ بابَ المعرفة، على نفسك، وتأْخذَها عن الفهم والتفهم، وتعوِّدَها الكسَل والْهُوَيْنا. قال الجاحظ: وكلامٌ كثير قد جَرى على ألسنة الناس وله مضرة شديدة وثمرةٌ مُرَّةٌ. فمِنْ أَضَرَّ ذلك قولُهم: لم يَدَع الأولُ للآخِرِ شَيئاً. (قال): فلو أنَّ علماءَ كلِّ عصرٍ مذ جرَتْ هذه الكلمةُ في أسمْاعهم، ترَكُوا الاستنباط لِمَا لَمْ يَنتهِ إليهم عَمَّن قَبْلَهم، لرأيتَ العِلم مختلاًّ. واعلمْ أنَّ العلمَ إنما هو معدِنٌ، فكما أنه لا يَمنعُكَ أن ترى ألفَ وِقْرِ قد أُخرجَتْ من معدن تبْرٍ أنْ تطلُبَ فيه وأن تأخُذَ ما تَجد، ولو كَقَدْرِ تُومةٍ، كذلك ينبغي أن يكون رأيْكَ في طلب العلم، ومن الله تعالى نَسألُ التوفيق!

فصل: في المجاز الحكمي

فصل: في المجاز الحكمي في المجاز الحُكْمي هذا فن من المجاز لم نذكره فيما تقدم إِعلم أنَّ طريقَ المجازِ والاتساع في الذي ذكَرْناه قبلُ، أنَّكَ ذكرتَ الكلمةَ وأنتَ لا تُريد معناها، ولكنْ تُريد معنىً ما هو رِدْفٌ له أو شبيهٌ، فتجوَّزْتَ بذلك في ذاتِ الكلمةِ وفي اللفظ نفسِه. وإذْ عرفْتَ ذلكَ، فاعلمْ أنَّ في الكلام مجازاً على غير هذا السبيلِ، وهو أن يكونَ التجوُّزُ في حُكْم يَجْري على الكلمة فقط، وتكون الكلمةُ متروكةً على ظاهرِها، ويكونُ معناها مقصوداً في نفسه ومراداً، مِنْ غَير توريةٍ ولا تَعْريض. والمثالُ في قولهم: (نهارُك صائمٌ وليلُك قائم، ونام ليلي وتجلّى همي). وقولُه تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16] وقولُ الفرزدق [من الطويل]: سقاها خُروقٌ في المَسامِع لم تَكُنْ ... عِلاطاً ولا مخبوطةَ في المَلاغِمِ أنتَ ترمي مجازاً في هذا كلِّه، ولكنْ لا في ذوات الكَلِم وأنْفُس الألفاظِ ولكنْ في أحكامٍ أُجْرِيَتْ عليها. أفلاَ تَرى أنك لم تتجوَّز في قولك: (نهارُكَ صائم وليلُك قائم)، في نفس (صائم وقائم) لكنْ في أنْ أجْرَيْتَهما خَبَرَيْنِ على النهار والليل. وكذلك ليس المجازُ في الآية في لفظة "ربحت" نفسِها، ولكن في إسنادها إلى التجارة. وهكذا الحكْم في قوله: (سقاها خُروق): ليس التجوُّزُ في نَفْس "سقاها" ولكنْ في أن أسْنَدَها إلى (الخُروق). أفلا ترى أنك لا تَرى شيئاً منها إلاَّ وقد أريدَ به معناه الذي وُضِع له على وجهِه وحقيقتِه؟ فلم يُرِدْ (بصائم) غيرَ الصَّوْمِ، ولا (بقائم) غيرَ القيام، ولا بـ (ـربحتْ) غيرَ الربح ولا بـ (ـسَقَتْ) غيرَ السقي، كما أُريدَ بِ (سالَتْ) في قوله [من الطويل]: وسالت بأعناق المطيِّ الأباطِحُ غيرَ السَّيْلِ. واعلمْ أنَّ الذي ذكرتُ لك في المجاز هناك، من أنَّ مِنْ شأنِه أنْ يفْخُمَ عليه المعنى، وتحدُثَ فيه النباهةُ، قائمٌ لك مثلُه ههنا. فليس يَشْتَبِه عَلى عاقلٍ أنْ ليس حالُ المعنى وموقعُه في قوله [من الرجز]: فنامَ ليلي وتجلَّى همِّي كحالِه وموقِعِه، إذا أنتَ تركْتَ المجاز وقلتَ: (فنمتُ في ليل وتجلَّى همِّي) كما لم يكنِ الحالُ في قولكُ: (رأيتُ أسداً): كالحالِ في "رأيتُ رجلاً كالأسدِ". ومَنْ الذي يَخْفى عليه مكانُ العُلُوِّ وموضِعُ المزية وصورةُ الفرقان بين قولِه تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16] وبين أنْ يُقال: (فما رَبحوا في تجارتهم)؟ وإنْ أردْتَ أن تزْدادَ للأمر تبييناً، فانظرْ إلى بيت الفرزْدق [من الكامل]: يَحْمي، إذا اختُرِطَ السيوفُ نِساءَنا ... ضَرْبٌ تطيرُ له السواعدُ أرعَلُ

وإلى رونقه ومائِه وإلى ما عليه من الطَّلاوة، ثم ارْجِع إلى الذي هو الحقيقةُ وقل: (نحمي، إذا اخْتُرِطَ السيوفُ، نساءنا، بضرب تطيرُ له السواعدُ أرعلِ)؛ ثم اسْبرْ حالَكَ، هل ترَى مما كنتَ تراه شيئاً؟ وهذا الضربُ من المجاز على حدَّته كنزٌ من كنوز البلاغةِ، ومادَّةُ الشاعرِ المُفْلِق والكاتب البليغِ في الإبداع والإحسانِ، والاتِّساع في طرقِ البيان؛ وأنْ يجيءَ بالكلام مطبوعاً مصنوعاً، وأن يضَعه بَعيدَ المرامِ، قريباً من الأفهامِ؛ ولا يَغُرَّنَّكَ مِنْ أمره أنَّك تَرى الرجُلَ يقول: (أتى بي الشوقُ إلى لقائكَ، وسار بي الحنينُ إلى رؤيتك، وأقدَمني بلدَك حقٌّ لي على إنسان)، وأشباهُ ذلك مما تَجدُه لِسَعَته وشُهْرته، يَجْري مَجْرى الحقيقةِ التي لا يُشْكِلُ أمرُها؛ فليس هو كذلك أبداً؛ بل يَدِقُّ ويَلْطُفُ حتى يَمْتِنعَ مثْلُه إلاَّ على الشاعرِ المُفْلِقِ، والكاتبِ البليغِ، وحتى يأتيَك بالبِدْعة لم تَعْرفها، والنادرةِ تأنَقُ لَها. وجملةُ الأمرِ أنَّ سبيلَه سبيلُ الضرْبِ الأولِ الذي هو مجازٌ في نفسِ اللفظِ ذاتِ الكلمة؛ فكما أنَّ من الاستعارة والتمثيل، عاميَّا مثلَ: (رأيتُ أسداً، وَوَرَدْتُ بحراً، وشاهدْتُ بَدْراً، وسَلَّ مِن رأْيه سيفاً) وخاصّياً لا يَكْملُ له كلُّ أحدٍ، مثلَ قوله: وسالتْ بأعناق المطيِّ الأباطحُ كذلك الأمرُ في هذا المجاز الحُكْميِّ. واعلمْ أنه ليس بواجبٍ في هذا أن يكونَ للفعل فاعلٌ في التقدير، إذا أنتَ نَقَلْتَ الفعلَ إليه عدْتَ به إلى الحقيقة، مثلَ أنَّكَ تقول في "ربحتْ تجارتُهم": رَبحوا في تجارتهم، وفي: "يحمي نساءَنا ضَرْبٌ" نحمي نساءنا بضرب، فإن ذلك لا يتأتَّى في كل شيء. ألا تَرَى أنه لا يُمكِنُكَ أن تُثْبِتَ للفعل في قولك: (أقدَمني بلدَك حقٌّ لي على إنسان)، فاعلاً سوى "الحقّ"؛ وكذلك لا تستطيع في قوله [من مجزوء الوافر]: وصيَّرني هواك وبي ... لِحَيني يُضْرَبُ المَثَلُ وقوله [من مجزوء الوافر]: يزيدُكَ وجْهُهُ حُسْناً ... إذا ما زِدْتَه نَظَرا

أنْ تَزعُم أنَّ لـ (صيَّرَني) فاعلاً قد نُقِلَ عنه الفعلُ فجُعِلَ للهوى، كما فُعِلَ ذلك في "ربحتْ تجارتُهم، ويحمي نساءنا ضرْبُ". ولا تستطيعُ كذلك أن تُقدِّر لـ (يزيدُ) في قوله: (يزيدُك وجهه): فاعلاً غيرَ الوجهِ. فالاعتبار إذنْ، بأنْ يكون المعنى الذي يرجِعُ إليه الفعلُ، موجوداً في الكلام على حقيقته. معنى ذلك أن القُدوم في قولك: (أقدَمني بلدَك حقٌّ لي على إنسان)، موجودٌ على الحقيقة، وكذلك الصيرورةُ في قوله: (وصيَّرني هواك). والزيادة في قوله: (يزيدُك وجهه): موجودتان على الحقيقة. وإذا كان معنى اللفظِ موجوداً على الحقيقة، لم يكُنِ المجازُ فيه نَفْسَه؛ وإذا لم يكن المجازُ في نفسِ اللفظِ، كان لا مَحالة في الحُكْم؛ فاعرفْ هذه الجملة وأَحْسِنْ ضبْطَها حتى تكونَ على بصيرةٍ من الأمر! ومن اللطيف في ذلك قول حاجز بن عوف [من الوافر]: أبي عَبَرَ الفوارسَ يومَ دَاجٍ ... وعمِّي مالكٌ وضَعَ السِّهاما فلو صاحَبْتِنا لرَضيتِ عَنَّا ... إذا لم تَغْبُقِ المائةُ الغلاما يُريد إذا كان العامُ عامَ جَدْب، وجفَّت ضروعُ الإبل، وانقطع الدَّرُّ، حتى إن حلَبَ منها مائةً، لم يَحْصل من لبنها ما يكون غَبُوقَ غلامٍ واحدٍ. فالفعل الذي هو [غبَق] مستعملٌ في نفسه على حقيقته، غيرُ مُخْرَجٍ عن معناهُ وأصْلِه إلى معنى شيءٍ آخر، فيكون قد دخلَه مجازٌ في نفسه، وإنما المجازُ في أن أُسنِد إلى الإبل وجُعِل فِعْلاً لها. وإسنادُ الفعلِ إلى الشيء حُكْم في الفعل، وليس هو نفسَ معنى الفعلِ، فاعرفه! واعلمْ أنَّ مِن سبَب اللطفِ في ذلك أنه ليس كلُّ شيء يَصْلُح لأن يُتعاطى فيه هذا المجازُ الحُكْمي بسهولة، بل تَجدُك في كثيرٍ من الأمر وأنتَ تحتاجُ إلى أن تُهيِّئَ الشيءَ وتصلِحَه لذلك بشيءٍ تتوخاه في النظْم. وإنْ أرَدْت مثالاً في ذلك فانظرْ إلى قوله [من الطويل]: تناسَ طِلابَ العامريةِ إذْ نأتْ ... بأسجَحَ مِرْ قال الضحى قَلقِ الضَّفْرِ إذا ما أحسَّتْهُ الأفاعي تحيَّزتْ ... شواةُ الأفاعي مِنْ مُثَلَّمةٍ سُمْرِ تجوبُ له الظَّلْماءَ عينٌ كأنَّها ... زجاجةُ شَرْبٍ غيرُ ملأى ولا صِفْرِ

يَصفُ جملاً ويُريد أن يهتديَ بنورِ عينِه في الظلْماءِ، ويُمكنه بها أن يَخْرُقَها ويمضيَ فيها. ولولاها لكانتِ الظلماءُ كالسَّدِّ والحاجزِ الذي لا يجد شيئاً يُفرِّجُه به ويَجْعلُ لنفسِه فيه سَبيلا. فأنتَ الآن تعلَمُ أنه لولا أنه قال: (تجوبُ له). فعلَّق "له" (بتَجُوب) لَمَا صلحَتْ العَينُ لأن يُسْنَد "تجوب" إليها، ولكان لا تَتَبَيَّنُ جهةَ التجوُّز في جعْل "تجوب" فعلاً للعين كما ينبغي. وكذلك تَعْلم أنه لو قال مثلاً: (تجوبُ له الظلماءَ عينُه): لم يكنْ له هذا الموقعُ، ولاضطْرَبَ عليه معناهُ وانقَطَع السِّلْكُ من حيثُ كان يَعيبه حينئذٍ أن يَصِفَ العينَ بما وصفَها به الآنَ. فتأملْ هذا واعتَبِرْهُ! فهذه التهيئةُ وهذا الاستعدادُ في هذا المجاز الحُكْمي، نظيرُ أنك تَراك في الاستعارة التي هي مجازٌ في نفس الكلمةِ وأنتَ تحتاج في الأمر الأكثرِ إلى أنْ تُمهِّد لها وتُقدِّم أو تؤخِّر ما يُعْلَمُ به أَنكَ مستعيرٌ ومُشبِّهٌ؛ ويُفتَحُ طريقُ المجاز إلى الكلمة. ألا ترى إلى قوله [من الطويل]: وصاعقةٍ من نَصْلِه يَنْكفي بها ... على أَرْؤُسِ الأقرانِ خمسُ سحائبِ عنَى (بخمس السحائب) أنامله؛ ولكنه لم يأت بهذه الاستعارة دفعةَ، ولم يَرْمها إليك بغْتةً، بل ذكر ما يُنْبئ عنها، ويُسْتَدلُّ به عليها، فذكَر أن هناكَ صاعقةً وقال: (مِنْ نصلِه)، فبيَّن أنَّ تلك الصاعقةَ مِنْ نَصْلِ سيفِه، ثم قال: (أرؤس الأقران)، ثم قال: (خمس) فذكر الخمس التي هي عدَدُ أناملِ اليد، فبانَ مِن مجموعِ هذه الأمور غرَضُهُ. وأنشدوا لبعض العرب [من الرجز]: فإنْ تعافُوا العدلَ والإيْمانا ... فإنَّ في أيْمَاننا نِيرانا يُريد: (في أيماننا سيوفاً نَضْربكُم بها)، ولولا قولُه أوَّلاً: (فإن تعافوا العدلَ والإيمانَ): وأنَّ في ذلك دلالةً على أنَّ جوابَه أنَّهم يُحَارَبُون ويُقْسَرُون على الطاعة بالسيف، ثم قولُه: (فإنَّ في أيماننا): لما عُقِلَ مرادُه، ولما جازَ له أن يَستعيرَ النيرانَ للسيوفِ، لأنه كان لا يَعْقِل الذي يُريد، لأنَّا وإنْ كنَّا نقول: (في أيديهم سيوفٌ تَلمعُ كأنها شُعَل النَّيران)، كما قال [من الكامل]:

ناهضتَهُمْ والبارقاتُ كأنَّها ... شُعَلٌ على أيديهِمُ تَتَلهَّبُ فإنَّ هذا التشبيه لا يبلُغُ مَبْلَغَ ما يُعْرَفُ مَعَ الإطلاق كمعرفتنا إذا قال: (رأيتُ أسداً): أنهُ يُريد الشجاعة. وإذا قال: (لقيتُ شسماً وبدراً): أنه يُريدُ الحُسْنَ، ولا يقوى تلك القوَّة، فاعرفْه! " وممَّا طريقُ المَجاز فيه الحكْمُ قولُ الخنساء [من البسيط]: تَرْتَعُ ما رتعَتْ حتى إذا ادَّكَرَتْ ... فإنَّما هي إقْبالٌ وإِدبارُ وذاك أنها لم تُرِدْ بـ (الإقبال والإدبار) غيرَ معناهما، فتكونَ قد تجوَّزت في نفسِ الكلمةِ، وإنما تجوَّزَتْ في أَنْ جعلَتْها لكثرة ما تُقبِلُ وتُدْبِرُ ولِغَلَبة ذاكَ عليها واتصالِه بها، وأنه لم يَكْن لها حالٌ غيرَهما، أنها قد تجسَّمتْ من الإقبال والإدبار. وإِنما كان يكون المجازُ في نفْس الكلمةِ لو أنها كانت قد استعارت الإقبالَ والإدبارَ لمعنىً غير معناهما الذي وُضعا له في اللغة، ومعلوم أن ليس الاستعارة مما أرادته في شيء. واعلمْ أنْ ليس بالوجه، أنْ يُعَدَّ هذا على الإطلاق، مَعدَّ ما حُذِفَ منه المضاف، وقيم المضاف إليه مُقامه، مثلَ قولِه عزَّ وجل: {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82]. ومثلَ قولِ النابغة الجعديّ [من المتقارب]: وكيفَ تُواصِلُ مَنْ أصْبَحَتْ ... خُلاَلَتُهُ كأبي مَرْحَبِ وقولِ الأعرابي [من الوافر]: حَسِبْتَ بُغَام راحلتي عنَاقا ... وما هي وَيْبَ غَيْرِك بالعَنَاقِ وإنْ كنَّا نراهم يذكرونَه حيثُ يذكرونَ حذْفَ المضافِ ويقولون إنه في تقدير "فإنما هي ذات إقبال وإدبار" ذاك لأنَّ المضافَ المحذوفَ مِن نحو الآية والبيتينِ، في سبيل ما يُحْذفُ من اللفظ ويراد في المعنى، كمثل أن يُحْذَفَ خبرُ المبتدأ أَو المبتدأُ، إذا دَلَّ الدليلُ عليه، إلى سائر ما إذا حُذِفَ كان في حكْم المنطوق به؛ وليس الأمرُ كذلك في بيت الخنساء، لأنَّا إذا جعلْنا المعنى فيه الآن، كالمعنى إذا نحنُ قلنا: (فإنما هي ذاتُ إقبال وإدبار)، أفسَدْنا الشِّعرَ على أنفسِنا وخرَجْنا إلى شيء مغسول، وإلى كلامٍ عامِّيٍّ مرذولٍ، وكان سبيلنا سبيلَ مَنْ يَزْعُم مثلاً في بيتِ المتنبي [من الوافر]:

بدَتْ قَمراً ومالتْ خُوطَ بانٍ ... وفاحَتْ عنبراً ورنَتْ غَزالا أَنه في تقدير محذوفٍ وأنَّ معناه الآن كالمعنى إذا قلت: (بدتْ مثلَ قمر ومالتْ مثلَ خوطِ بانٍ وفاحَتْ مثلَ عنبرٍ ورَنَتْ مثلَ غَزالٍ)، في أنَّا نَخْرجُ إلى الغثاثة وإلى شيء يَعْزِلُ البلاغةَ عن سلطانها، ويخْفِضُ من شأنها، ويَصُدُّ أوجُهَنا عن مَحاسِنها، ويَسُدُّ باب المعرفة بها وبلطائفها علينا. فالوجْهُ أن يكون تقديرُ المضافِ في هذا، على معنى أنه، لو كان الكلامُ قد جيءَ بهِ على ظاهره، ولم يُقْصَد إلى الذي ذكَرْناه من المبالغة والاتِّساع، وأنْ تُجْعَلَ الناقةُ كأَنها قد صارتْ بجملتها إقبالاً وإدباراً، حتى كأنها قد تجسَّمَتْ منهما، لَكانَ حقُّه حينئذٍ أن يُجاء فيه بلفظِ الذاتِ فيُقال: (إنما هي ذاتُ إقبالٍ وإدبار). فأَمَّا أن يكون الشعرُ الآن موضوعاً على إرادة ذلك، وعلى تنزيله منزلةَ المنطوقِ به حتى يكونَ الحالُ فيه كالحال في: حسبتَ بُغَامَ راحِلتي عناقا حينَ كان المعنى والقصْدُ أن يقول: (حسبتَ بغامَ راحلتي بغامَ عناق)، فما لا مساغَ له عندَ مَنْ كان صحيحَ الذوقِ، صحيحَ المعرفةِ، نسَّابة للمعاني.

فصل

فصل هذه مسألةٌ قد كنتُ عمِلْتُها قديماً، وقد كتبتُها ههنا لأنَّ لها اتصالاً بهذا الذي صارَ بنا القولُ إليه، قولُه تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37]، أي لِمَنْ كان أعْمَلَ قلْبَه فيما خُلِق القلبُ لهُ مِنَ التدبُّر والتفكُّر والنظرِ فيما ينبغي أن يُنْظَرَ فيه. فهذا على أن يُجْعلَ الذي لا يعي ولا يسَمعُ ولا يَنْظرُ ولا يتفكَّرُ، كأنه قد عَدِمَ القلبَ من حيثُ عَدِمَ الانتفاع به، وفاتَه الذي هو فائدةُ القلبِ والمطلوبُ منه، كما جُعِلَ الذي لا يَنْتفِعُ بِبصرِهِ وسَمْعه، ولا يُفكِّر فيما يؤديان إليه، ولا يَحْصُل من رؤية ما يُرَى وسَماعِ ما يُسْمَعُ على فائدة بمنزلةِ مَنْ لا سَمْعَ له ولا بَصَرَ. فأمَّا تفسيرُ مَنْ يُفَسِّرهُ على أنه بمعنى "من كان له عقل" فإنه إنما يَصحُّ على أن يكون قد أرادَ الدلالةَ على الغرضِ على الجملة. فأمَّا أن يؤخذَ به على هذا الظاهر حتى كأنَّ القلبَ اسمٌ للعقل كما يَتوهَّمُه أهلُ الحَشْوِ ومَنْ لا يَعرِفُ مخارِجَ الكلامِ، فمحالٌ باطلٌ لأنه يؤدي إلى إبطال الغرَضِ من الآيةِ وإلى تَحْريفِ الكلامِ عن صورتِه، وإزالةِ المعنى عن جهته. وذاك أن المرادَ به الحثُّ على النظرِ، والتقريعُ على تَرْكه وذمُّ مَنْ يُخِلُّ به وَيغْفِل عنه. ولا يَحْصُل ذلك إلا بالطريقِ الذي قدَّمْتُه، وإلاَّ بأنْ يكونَ قد جُعِل من لا يَفْقَه بقلبهِ ولا يَنْظُر ولا يَتفكَّر، كأنه ليس بذي قلب، كما يُجْعَل كأنه جمادٌ وكأنه ميْتٌ لا يَشْعر ولا يُحِسّ. وليس سبيلُ مَنْ فسَّر القلبَ ههنا على العقل، إلا سبيلَ من فَسَّر عليه العينَ والسَّمعَ في قول الناس: (هذا بَيِّنٌ لمن كانت له عَينٌ ولِمَنْ كان له سَمْع)، وفسَّرَ العمى والصمَم والموتَ في صفة من يُوصَفُ بالجهالة، على مُجرَّد الجهل، وأجْرى جميعَ ذلك على الظاهر، فاعرفْه! ومِنْ عادةِ قومٍ ممَّن يَتعاطى التفسيرَ بغَيْرِ علم أن تَوهَّمُوا أبداً في الألفاظ الموضوعةِ على المجاز والتمثيل، أنها على ظواهرها؛ فيُفْسِدوا المعنى بذلك، ويُبْطِلوا الغرضَ ويَمْنَعوا أنفسَهم والسامعَ منهم، العِلْمَ بموضعِ البلاغةِ وبمكانِ الشرفِ. وناهيك بهم إذا هُم أخذوا في ذكْر الوجوه وجَعَلوا يُكْثِرون في غير طائل! هناك ترى ما شئتَ من بابِ جَهْلٍ قد فتَحُوه، وزَنْدِ ضَلالةٍ قد قَدَحُوا به، ونسألُ اللهَ تعالى العصمةَ والتوفيقَ.

فصل: في الكناية والتعريض

فصل: في الكناية والتعريض هذا فنٌّ مِن القول دقيقُ المسلكِ، لطيفُ المأخذِ، وهو أَنَّا نَراهُمْ كما يَصنعون في نفس الصفة بأن يَذْهَبوا بها مذْهَبَ الكناية والتعريض، كذلك يَذْهبون في إثباتِ الصفة هذا المذْهَبَ. وإذا فعلوا ذلك بدَتْ هناك محاسِنُ تَملأُ الطرْفَ، ودقائقُ تُعْجِزُ الوصفَ، ورأيتَ هناك شِعْراً شاعراً، وسِحْراً ساحراً، وبلاغةً لا يَكْملُ لها إلا الشاعرُ المُفْلِقُ، والخَطيبُ المِصْقَعُ. وكما أنَّ الصفةَ، إذا لم تأتِكَ مُصَرَّحاً بذِكْرِها، مكْشوفاً عن وجهها، ولكنْ مدلولاً عليها بغيرها، كان ذلك أفخم لشأنها، وألْطَفَ لمكانها؛ كذلك إثباتُك الصفةَ للشيء تُثْبِتُها له إِذا لم تُلْقِهِ إلى السامع صَريحاً، وجئتَ إليه مِنْ جانبِ التعريضِ والكناية، والرمز والإشارة، كان له مِن الفَضْل والمزيةِ، ومن الحُسْنِ والرونقِ، ما لا يَقلُّ قليلُه، ولا يُجْهَلُ موضِعُ الفضيلةِ فيه. وتفسيرُ هذه الجملة وشرْحُها، أنَّهم يَرمون وصْفَ الرجل ومدْحَه، وإثباتَ معنًى من المعاني الشريفةِ له، فيَدَعونَ التصْريحَ بذلك، ويُكَنُّونَ عن جَعْلها فيه بِجَعْلها في شيء يَشْتمِلُ عليه وَيتَلبَّس به، ويتوصلون في الجملة إلى ما أَرادوا من الإِثباتِ، لا من الجهة الظاهرةِ المعروفةِ، بل من طريقٍ يَخْفى، ومَسْلكٍ يَدِقُّ. ومثاله قول زياد الأعجم [من الكامل]: إنَّ السَّماحةَ والمروءَ والندى ... في قُبَّةِ ضُرِبَتْ على ابْنِ الحَشْرجِ

أراد كما لا يخفى، أنْ يُثْبِتَ هذه المعانيَ والأوصافَ خلالاً للممدوحِ وضرائبَ فيه، فتركَ أن يُصرَّحَ فيقولَ: إنَّ السماحةَ والمروءةَ والندى لمجموعةٌ في ابن الحَشْرج، أو مقصورةٌ عليه، أو مختصَّة به، وما شاكَلَ ذلك مما هو صريحٌ في إثباتِ الأوصافِ للمذكورين بها، وعدَلَ إلى ما ترى من الكناية والتلويح، فجعل كونَها في القُبَّة المضروبةِ عليه، عبارةً عن كونها فيه، وإشارةً إليه؛ فخرَجَ كلامُه بذلك إلى ما خَرَجَ إليه من الجَزالةِ، وظهرَ فيه ما أنت تَرى من الفخَامة. ولو أنه أَسْقَط هذه الواسِطَة من البَيْن لما كان إلا كلاماً غُفْلاً، وحديثاً ساذجاً. فهذه الصنعةُ في طريقِ الإثباتِ هي نظيرُ الصنعةِ في المعاني، إذا جاءتْ كناياتٍ عن معانٍ آخَر نحو قوله [من الوافر]: وما يَكُ فيِّ مِنْ عَيبٍ فإنِّي ... جبانُ الكلبِ مهزولُ الفَصيل فكما أَنَّه إنما كان مِنْ فاخرِ الشِّعر وممَّا يقَعُ في الاختيار لأجْل أَنْ أَرادَ أنْ يذْكُرَ نفسَه بالقرى والضيافةِ، فكنَّى عن ذلك بجُبْنِ الكَلْب وهُزالِ الفصيل وتَرَكَ أن يُصرِّحَ فيقولَ: (قد عُرِفَ أنَّ جَنابِي مألوفٌ وكلبي مؤدَّبٌ لا يَهِرُّ في وجوهِ مَنْ يَغْشاني من الأضيافِ؛ وإني أَنْحَرُ المَتَالِى من إبلي وأَدَعُ فِصالَها هَزْلى). كذلك إنما راقَكَ بيتُ زياد لأنه كنَّى عن إثباتِه السماحة والمروءةَ والندى، كائنةً في الممدوح، بجعلها كائنةً في القبةِ المضروبةِ عليه. هذا - وكما أنَّ مِنْ شأنِ الكنايةِ الواقعةِ في نفسِ الصفةِ أن تجيءَ على صورٍ مختلفةٍ، كذلك مِنْ شأنها إذا وقعَتْ في طريقِ إثباتِ الصفةِ أنْ تجيءَ على هذا الحدِّ، ثم يكونُ في ذلك ما يتناسَبُ كما كان ذلك في الكناية عن الصفةِ نفسِها. تفسيرُ هذا أنك تَنظُرُ إلى قولِ يزيد بن الحَكَم يمدح به يزيدَ بن الُهَلَّبِ وهو في حبْس الحجَّاج [من المنسرح]: أصْبَحَ في قَيْدِكَ السَّماحة والمَجْـ ... ـدُ وفضلُ والصلاحِ والحسَبُ فتراه نظيراً لبيتِ زياد، وتَعْلم أنَّ مكان "القيد" ههنا هو مكانُ "القبة" هناك، كما أنَّك تَنْظُر إلى قوله: (جبانُ الكلب)، فتعْلَم أنَّه نَظيرٌ لقوله [من الطويل]:

زجرتُ كلابي أن يهِرَّ عَقُورها مِنْ حَيثُ لم يكُنْ ذلك الجبنُ إلاَّ لأَنْ دامَ منهُ الزجْرُ واستمرَّ حتى أخرجَ الكَلْبَ بذلك عمَّا هو عادتُه، من الهَريرِ والنَّبْح في وجْه مَنْ يَدْنو مِنْ دارٍ هو مُرْصَدٌ لأن يَعُسَّ دونها. وتنظر إلى قوله: (مهزول الفصيل)، فتعلم أنه نظير قول ابن هَرْمَةَ. لا أُمْتِع العُوذَ بالفصال وتنظر إلى قول نُصَيْبٍ [من المتقارب]: لِعَبْدِ العَزيزِ على قَوْمِهِ ... وغيرهمُ منَنٌ ظاهِرَهْ فبابُك أسْهَلُ أبوابِهِمْ ... ودارُكَ مأَهُولَةٌ عَامِرَهْ وكلْبُكَ آنسُ بالزائرينَ ... مِنَ الأُمّ بالإبْنَةِ الزائرَهْ فَتَعلمُ أنه من قول الآخر [من الطويل]: يكادُ إذا ما أبصرَ الضيفَ مَقْبلاً ... يَكلّمه من حُبِّهِ وهْوَ أَعْجَمُ وأنَّ بينهما قرابةً شديدةً ونسباً لاصقاً، وأنَّ صورتَهما في فَرْط التناسبِ، صورةُ بيتَيْ زياد ويزيد. ومما هو إثباتٌ للصفة على طريقِ الكنايةِ والتعريضِ قولُهم: (المجْدُ بين ثَوْبَيْه، والكَرَمُ في بُرْدَيْه): وذلك أن قائل هذا يتَوصَّلُ إلى إثباتِ المجدِ والكَرَم للممدوح، بأن يَجعلَهما في ثوبه الذي يلْبَسُه، كما توصل زياد إلى إثباتِ السماحةِ والمروءة والندى لابن الحَشْرج، بأنْ جَعَلَها في القُبَّة التي هو جالسٌ فيها. ومن ذلك قوله [من البسيط]: وحيثما بكَ أَمرٌ صالحٌ تكُنِ وما جاء في معناه من قوله [من المتقارب]: يَصيرُ أَبانٌ قرينَ السَّما ... حِ والمَكْرُماتِ معاً حيثُ صارا وقولُ أبي نُواسَ [من الطويل]: فما جازَهُ جُوْدٌ ولا حلَّ دُونَه ... ولكنْ يَصيرُ الجُودُ حَيْثُ يَصيرُ كلُّ ذلك تَوصُّلٌ لإثباتِ الصفة في الممدوح، بإثباتها في المكان الذي يكونُ فيه، وإلى لُزومها له، بلُزومها الموضِعَ الذي يَحُلُّه. وهكذا إن اعتبرْتَ قولَ الشَّنفَرى، يصفُ امرأة بالعفة [من الطويل]: يبيتُ بمنجاةٍ مِنَ اللَّوْم بيْتُها ... إِذا ما بُيوتٌ بالملامَةِ حُلَّتِ

وجدْتَهُ يَدْخُل في معنى بيتِ زياد، وذلك أنه توصَّلَ إلى نفي اللَّوْم عنها، وإبعادها عنه، بأن نَفَاه عن بيتها وباعَدَ بينَهُ وبَيْنَهُ، وكان مَذْهبُه في ذلك مذْهَبَ زياد في التوصل إلى جَعْلِ السماحةِ والمروءةِ والندى في ابنِ الحَشْرَجِ بأن جعَلَها في القبة المضروبةِ عليه. وإنما الفرقُ أنَ هذا يَنْفي وذاك يُثْبِتُ؛ وذلك فَرْقٌ لا في موضِعِ الجمعِ، فهو لا يَمْنَعُ أن يكونا مِنْ نِصَابٍ واحدٍ. ومما هو في حُكْم المناسِب لبيتِ زياد وأمثالهِ التي ذكَرْتُ وإنْ كان قد أُخْرِجَ في صورةٍ أغربَ وأَبدَعَ، قولُ حسَّان رضي الله عنه [من الطويل]: بَنَى الْمَجْدَ بَيْتاً فَاسْتَقَرَّتْ عِمَادُه ... عَليْنا فأعْيى الناسَ أنْ يَتَحوَّلا وقولُ البحتري [من الكامل]: أَوَ ما رأيتَ المجدَ ألقى رحْلَه ... في آلِ طلحةَ ثم لم يَتحوَّلِ ذاكَ لأنَّ مدَارَ الأمرِ على أنَّه جَعَلَ المجْدَ والممدوحَ في مكانٍ، وجعَلَه يكونُ حيثُ يكونُ. واعلمْ أنه ليس كلُّ ما جاء كنايةً في إثباتِ الصفةِ، يَصْلحُ أَنْ يُحْكَمَ عليه بالتناسُبِ. معنى هذا أنَّ جعْلَهمُ الجُودَ والكَرَمَ والمجْدَ، يَمْرضُ بِمَرضِ الممدوحِ، كما قال البحتري [من الطويل]: ظَلِلْنا نَعودُ الجودَ من وَعْكِكَ الذي ... وجَدْتَ وقلْنا اعتَلَّ عضوٌ من المَجْدِ وإنْ كان يَكونُ القصْدُ منه إثباتَ الجودِ والمجدِ للممدوح، فإنه لا يَصِحُّ أنْ يقال إِنه نظيرٌ لبيتَ زياد، كما قلنا ذاك في بيت أبي نواس [من الطويل]: ولكنْ يصَيرُ الجودُ حيثُ يصَيرُ وغيرِه مما ذكَرْنا أنه نظيرٌ له؛ كما أنه لا يجوز أن يُجْعَل قَولُه: وكلبُكَ أرافُ بالزائرينَ

مثلاً، نظيراً لقوله: (مهزول الفصيل): وإنْ كان الغَرضُ منهما جميعاً الوصفَ بالقِرى والضيافةِ، وكانا جميعاً كنايتين عن معنى واحد، لأنَّ تعاقُبَ الكناياتِ على المعنى الواحدِ، لا يُوجِبُ تَناسُبَها، لأنه في عَرُوض أنْ تَتَّفِقَ الأشعارُ الكثيرة في كونها مَدْحاً، بالشجاعة مَثَلاً، أو بالجودِ أو ما أشْبَه ذلك. وقد يَجْتمِعُ في البيت الواحدِ كنَايتانِ، المغْزى منهما شيءٌ واحدٌ؛ ثم لا تكونُ إِحداهما في حكْم النظيرِ للأخرى. مثالُ ذلك أنه لا يكونُ قوله: (جبان الكلب): نظيراً لقوله: (مهزول الفصيل). بل كلُّ واحدةٍ من هاتينِ الكنايَتْينِ أَصْلٌ بنفسِه وجنسٌ على حدة. وكذلك قولُ ابن هَرْمَة [من المنسرح]: لا أُمْتِعُ العُوذَ بالفصالِ ولا ... أَبْتاعُ إلا قريبةَ الأَجَلِ ليس إحدى كنايتَيْه في حُكْمِ النظيرِ للأخرى، وإن كان المُكنَّى بهما عنه واحداً، فاعرفْه! وليس لِشُعَبِ هذا الأصْلِ وفروعه، وأمثلتِه، وصُورهِ وطُرُقِهِ ومسالِكِه، حدٌّ ونهاية. ومن لطيفِ ذلك ونادرِه قولُ أبي تمام [من الوافر]: أَبَيْنَ فما يَزُرْنَ سِوى كَريم ... وحسْبُكَ أَن يَزُرْنَ أبا سَعيدِ ومثلُه وإنْ لم يَبلُغْ مبلَغَه، قولُ الآخرِ [من الوافر]: متى تَخْلُو تَميمٌ مِنْ كَريمٍ ... ومَسْلمَةُ بْنُ عَمْروٍ مِنْ تميمِ وكذلك قولُ بعضِ العربِ [من المتقارب]: إذا اللهُ لم يَسْقِ إلاَّ الكِرامَ ... فسقَى وجوهَ بني حنْبل وسَقَّى ديارَهُمْ باكِرٌ ... من الغيثِ في الزمنِ المُمْحِلِ وفنٌّ منه غريبٌ قَولُ بعضِهم في البرامكة [من الطويل]: سألتُ النَّدَى والجَودَ ما لي أَراكُما ... تَبَدَّلْتُما ذُلاً بعزِّ مُؤبَّدِ وما بالُ ركْنِ المجْدِ أمسى مُهَدَّما ... فقالا أُصِبْنا بابنِ يَحيى مُحمَّدِ فقلتُ فهلاَّ مُتَّمَا عند موتهِ ... فقد كُنْتُما عبْدَيْه في كل مشْهِدِ فقالا أَقَمنا كيْ نُعزَّى بفَقْدِه ... مسافةَ يومٍ ثم نَتْلُوه في غَدِ

فصل: في إن ومواقعها

فصل: في إنّ ومواقعها واعلمْ أَنّ مما أَغمضَ الطريقَ إلى معرفة ما نحنُ بصدده، أَنَّ ههنا فروقاً خفيَّةً تَجهلُها العامَّةُ وكثيرٌ من الخاصة، ليس أَنَّهم يَجْهلونَها في موضعٍ ويَعْرفونها في آخرَ، بل لا يَدْرون أَنها هي، ولا يَعْلمونها في جملةٍ ولا تفْصيل. رُويَ عن ابن الأنباريِّ أَنه قال: ركبَ الكنْديُّ المتفلسِف إلى أبي العبّاس وقال له: إني لأَجِدُ في كلام العَرب حَشْواً، فقال له أبو العباس: في أيِّ موضع وجَدْتَ ذلك؟ فقال: أَجدُ العربَ يقولون: (عبدُ الله قائم)، ثم يقولون: (إنَّ عبدَ الله قائم)، ثم يقولون: (إنَّ عبدَ الله لقائمٌ): فالألفاظُ متكررةٌ والمعنى واحد، فقال أبو العباس: بل المعاني مختلفةٌ لاختلافِ الألفاظِ؛ فقولُهم: (عبدُ الله قائمٌ): إخبارٌ عن قيامه؛ وقولُهم: (إنَّ عبدَ الله قائمٌ): جوابٌ عن سؤالِ سائلٍ؛ وقولُهم: (إنَّ عبدَ اللهِ لقائمٌ): جوابٌ عن إنكار مُنْكِرٍ قيامَهُ. فقد تَكرَرَّت الألفاظُ لتكرُّرِ المعاني. قال فما حارَ المتفلسِفُ جواباً. وإِذا كان الكنديُّ يذَهْبُ هذا عليهِ حتى يَرْكَبَ فيه ركُوبَ مستفهِمٍ أو معْترِضٍ، فما ظنُّكَ بالعامَّة ومَنْ هو في عداد العامَّة ممَّنْ لا يَخْطُرُ شبْهُ هذا بِبالِهِ. واعلمْ أنَّ ههنا دقائقَ لو أنَّ الكنديَّ استقرى وتصفَّحَ وتَتَبَّع مواقِعَ "إنَّ"، ثم ألْطَفَ النظرَ وأكثرَ التدبُّرَ، لعَلِمَ عِلْمَ ضرورةٍ أنْ ليس سواءً دخولُها وأن لا تَدْخُلَ. فأوَّلُ ذلك وأعْجَبُه ما قدَّمتُ لك ذكْرَه في بيت بشار: بكِّرا صاحبيَّ قبلَ الهَجيرِ ... إنَّ ذاكَ النَّجاحَ في التبكيرِ وما أنشدتُه معه من قول بعضِ العرب: فغَنِّهَا وهْي لكَ الفِداءُ ... إنَّ غناءَ الإِبِلِ الحُداءُ

وذلك أنه هل شيءٌ أَبْينُ في الفائدةِ وأَدلّ على أنْ ليس سواءً دخولُها وأنْ لا تَدْخُلَ، مِنْ أنكَ ترى الجملةَ إذا هي دخلَتْ تَرتبِطُ بما قبْلَها وتأتلف معه، وتَتَّحدُ به، حتى كأنَّ الكلامَيْنِ قد أُفرِغا إفراغاً واحداً، وكأَن أحدَهُما قد سُبِكَ في الآخر؟ هذه هي الصورةُ، حتى إذا جئتَ إلى "إنَّ" فأسقطتَها، رأيتَ الثاني منهما قد نَبَا عن الأولِ وتجافى معناه عن معناه، ورأيْتَه لا يتَّصلُ به؛ ولا يكونُ منه بسبيلٍ حتى تجيءَ بـ (الفاء) فتقولَ: (بكِّرا صاحبيَّ قبل الهجيرِ فذاكَ النجاحُ في التبكير). و: (غنِّها وهي لك الفداءُ فغناء الإبل الحُداءُ). ثم لا ترَى (الفاء) تُعيد الجملتين إلى ما كانتا عليه من الألْفة وتَردُّ عليك الذي كنتَ تجِدُ بـ (إنَّ) من المعنى. وهذا الضربُ كثيرٌ في التنزيل جداً. من ذلك قوله تعالى: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1]. وقولُه عزَّ اسْمُه: {يابني أَقِمِ الصلاة وَأْمُرْ بالمعروف وانه عَنِ المنكر واصبر على مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور} [لقمان: 17]. وقوله سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صلاوتك سَكَنٌ لَّهُمْ والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103] ومن أبْيَن ذلك قولُه تعالى: {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} [هود: 37] وقد يتكرَّرَ في الآية الواحدة، كقوله عزَّ اسمُه: {وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [يوسف: 53]. وهي عَلَى الجملة من الكَثْرة بحيثُ لا يُدركها الإحصاءُ.

ومِنْ خصائصها أَنك تَرى لِضميرِ الأمرِ والشأنِ معها، من الحُسْنِ واللطفِ، ما لا تَراه إذا هي لم تَدْخُل عليه، بل تراه لا يَصْلُحُ حيثُ يصْلُح إلاَّ بها، وذلك في مثل قوله تعالى: {أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [التوبة: 63]، وقول: {أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سواءا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ} [الأَنعام: 54]، وقوله: {لاَ يُفْلِحُ الكافرون} [المؤمنون: 117] ومن ذلك قوله: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار} [الحج: 46]. وأجاز أبو الحسن فيها وجْهاً آخرَ، وهو أنْ يكون الضميرُ في "إنها" (للأَبصار) أُضْمِرَتْ قبْلَ الذكْرِ على شَريطة التفسير. والحاجةُ في هذا الوجْه أيضاً إلى "أنَّ" قائمةٌ كما كانت في الوجه الأولِ. فإنه لا يُقال: (هي لا تَعْمى الأَبصار)، كما لا يقال: (هو مَنْ يَتَّقِ ويَصْبِرُ فإنَّ الله لا يُضيع). فإن قلتَ: أوَ ليسَ قد جاء ضميرُ الأمرِ مبتدأً به مُعرًّى مِن العوامل في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]؟ قيل: "هو" وإنْ جاء ههنا، فإنه لا يكاد يُوجَدُ مع الجملة من الشَّرْط والجزاء، بل تَراه لا يجيءُ إلاَّ بـ (إنَّ). على أنهم قد أَجازوا في {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] أنْ لا يكونَ الضميرُ للأَمر. ومن لطيفِ ما جاء في هذا الباب ونادرِهِ، ما تَجدهُ في آخر هذه الأبياتِ التي أنْشدَها الجاحظُ لبعض الحجازيين [من الطويل]: إذا طَمَعْ يوماً عرَاني قَرَيْتُهُ ... كتائبَ يأسٍ كرَّها وطِرادَها أَكُدُّ ثِمَادي والمياهُ كثيرةٌ ... أُعالِجُ منها حفْرَها واكْتِدادَها وأَرْضى بها من بحرِ آخرَ إنَّه ... هو الرّيُّ أن تَرْضَى النفوسُ ثِمادَها المقصودُ قوله: إنه هو الرّيُّ؛ وذلك أن (الهاء) في (إنه) تحتمل أمرَيْن:

أحدُهما أن تكونَ ضميرَ الأَمْرِ ويكونَ قولُه "هو" ضميرُ "أن ترضى" وقد أُضمِر قبل الذكْر على شريطة التفسير. الأصل: إنَّ الأمرَ أن ترضى النفوسُ ثِمادَها، الرِّيُّ. ثم أُضمِر قبل الذكْرِ كما أُضمرِت "الأبصارُ" في "فإنها لا تَعْمَى الأبصار" على مذهب أبي الحسن، ثم أُتيَ بالمُفْسَّر مصرَّحاً به في آخر الكلام فعُلِمَ بذلك أن الضميرَ السابق له وأنَّه المراد به. والثاني أن تكون (الهاء) في "إنه" ضميرَ "أن تَرْضى" قبل الذكْرِ، ويكون "هو" فَصْلاً ويكونُ أصْلُ الكلام: (إنَّ أنْ تَرضى النفوسُ ثِمادها هو الرِّيُّ)، ثُم أُضمِر على شريطةِ التفسير. وأَيَّ الأمَرْينِ كان، فإنه لا بدَّ فيه من "إِنَّ" ولا سبيل إلى إِسقاطها لأنَّكَ إنْ أسقطْتَها، أَفْضَى ذلكَ بكَ إلى شيءٍ شنيعٍ وهو أن تقولَ: (وأَرْضى بها من بحرِ آخرَ هو هو الريُّ أن تَرْضى النفوسُ ثِمَادَها). هذا وفي "إنَّ" هذه شيءٌ آخرُ يُوجِبُ الحاجةَ إليها، وهو أَنها تَتولَّى من ربط الجملةِ بما قبْلَها نحواً مما ذكرتُ لك في بيت بشار. ألا ترى أَنك لو أَسقطْتَ "إنَّ" والضميرَيْنِ معاً، واقتصَرْتَ على ذكر ما يَبْقى من الكلام لم تَقلْهُ إلا (بالفاء) كقولك: (وأرضى بها من بحرِ آخرَ فالريُّ أن ترضَى النفوس ثِمادها)، فلو أنَّ الفيلسوفَ قد كان تَتَبَّع هذه المواضعَ لما ظن الذي ظنَّ. هذا، وإذا كان خلَفُ الأحمرُ، وهو القدوةُ ومَنْ يُؤخذُ عنه، ومَن هُو بحيثُ يَقول الشعرَ فيَنْحَلُه الفحولَ الجاهليينَ، فيخَفْى ذلك له، يجوزُ أَنْ يَشْتبه ما نحن فيه عليه، حتى يقَعَ له أن يَنْتَقِد على بشَّار، فلا غرو أن تَدْخُلَ الشُّبهةُ في ذلك على الكندي. ومما تَصنعُه "إنَّ" في الكلام، أنَّك تَراها تُهيِّيء النكِرةَ وتُصْلِحُها لأن يكونَ لها حكْمُ المبتدأ، أعنى أن تكونَ محدَّثاً عنها بحديثٍ من بعدها. ومثال ذلك قوله [من مخلَّع البسيط]: إنَّ شِواءَ ونَشْوَةً ... وخَبَب البازلِ الأمُونِ

قد ترى حُسْنَا وصحَّةَ المعنى معها، ثم إنَّك إنْ جئتَ بها من غير "إنَّ" فقلت: (شواءٌ ونشوةٌ وخبَبُ البازلِ الأمونِ)، لم يكنْ كلاماً. فإنْ كانت النكرةُ موصوفةً وكانت لذلك تَصْلحُ أن يُبْتَدأ بها، فإِنك تراها مع "إِنَّ" أحْسَنَ، وترى المعنى حينئذٍ أَوْلى بالصحة وأمْكَنَ؛ أفلاَ تَرى إلى قوله [من الخفيف]: إنًَّ دهْر يلفُّ شَملي بسُعدى ... لَزَمانٌ يَهُمُّ بالإحسانِ ليس بخفيٍّ - وإنْ كان يستقيم أنْ تقول: (دهرٌ يلف شملي بسُعدى دهرٌ صالح) - أنْ ليسَ الحالانِ على سواء. وكذلك ليس بِخَفيِّ أَنَّك لو عمدت إِلى قولِه [من مجزوء الرمل]: إِنَّ أمراً فادِحاً ... عن جَوابي شَغَلَكْ فأسقطتَ منه "إِن"، لَعدِمْتَ منه الحسْنَ والطلاوةَ والتمكُّنَ الذي أنتَ واجِدُهُ الآنَ، ووجَدْتَ ضعفاً وفتوراً. ومن تأثير "إنَّ" في الجملة، أنها تُغْني إذا كانت فيها، عن الخَبر في بعض الكلامِ؛ ووَضَعَ صاحبُ "الكتاب" في ذلك باباً فقال: هذا بابُ ما يَحْسُنُ عليه السكوتُ في الأحرُفِ الخمسة لإضمارِكَ ما يكونُ مستقرًّا لها وموضعاً لو أَظهرتَه. وليس هذا المُضْمَرُ بنفسِ المُظْهَر، وذلك "إنَّ مالاً وإنَّ ولداً وإنَّ عدداً" أي: إنَّ لَهُمْ مالاً؛ فالذي أضمرتَ هو: "لهم" ويقولُ الرجلُ للرَّجل: هلْ لكُم أَحدٌ، إنَّ الناسَ ألْبٌ عليكم؟ فتقول: إنَّ زيداً وإِنَّ عَمراً: أَي لنا. وقال [من المنسرح]: إنَّ مَحَلاًّ وإنَّ مُرْتَحلاً ... وإنَّ في النفس إِنْ مَضَوْا مَهَلا ويقول: (إنَّ غيرَها إبلاً وشاءً)، كأنه قال: (إنَّ لنا أو عندَنا غيرَها). (قال) وانتصبَ (الإبلُ والشاءُ) كانتصاب الفارسِ إذا قلتَ: ما في الناس مثلَه فارساً. و (قال) ومثلُ ذلك قوله [من الرجز]: يا ليت أيَّام الصِّبَا رواجعا (قال) فهذا كقولهم: أَلاَ ماءً بارداً: كأنه قال: ألا ماءً لنا بارداً! وكأنه قال: "يا ليتَ أيام الصِّبا أقبلَتْ رَواجعا".

فقد أراك في هذا كلِّه أنَّ الخبرَ محذوف؛ وقد تَرى حُسْنَ الكلامِ وصحَّتَه مع حذفِه وترْكِ النطقِ به؛ ثم إنَّك إِنْ عمَدْتَ إلى "إِنَّ" فأسقطتَها وجدْتَ الذي كان حسُنَ من حذف الخبرِ، لا يَحْسُنُ أو لا يَسوغُ. فلو قلتَ: (مالٌ وعددٌ ومحلٌّ ومرتحلٌ وغيرُها إبلاً وشاءً): لم يكنْ شيئاً. وذلك أنَّ "إِنَّ" كانت السَّببَ في أنْ حَسُنَ حذفُ الذي حُذِفَ من الخَبر، وأنها حاضِنتُهُ والمترجِمُ عنه والمتكفِّلُ بشأنه. واعلمْ أنَّ الذي قلنا في "إنَّ" من أنها تدخلُ على الجملة، من شأنها إذا هي أُسقطتْ منها أن يُحتاجَ فيها إلى (الفاء)، لا يَطِّردُ في كلِّ شيءٍ وكلِّ موضعٍ، بل يكونُ في موضعٍ دونَ موضعٍ، وفي حالٍ دون حالٍ، فإنك قد تَراها قد دَخَلتْ على الجملة ليستْ هي مما يقتضي (الفاء)، وذلك فيما لا يُحصى، كقوله تعالى: {إِنَّ المتقين فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الدخان: 51ـ52] وذاك أنَّ قبلَه: {إِنَّ هاذا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} [الدخان: 50] ومعلومٌ أنَّك لو قلتَ: (إنَّ هذا ما كنتُم به تمترون، فالمتَّقون في جناتٍ وعيون) لم يكنْ كلاماً. وكذلك قوله: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولائك عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأَنبياء: 101] لأنَّك لو قلتَ: (لهمْ فيها زَفِيرٌ وهم فيها لا يسمعون، فالذين سبقت لهم من الحسنى): لم تَجِدْ لإدخالك (الفاء) فيه وجهاً. وكذا قولُه: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة} [الحج: 17] جملة في موضع الخبر، ودخولُ (الفاء) فيها محالٌ، لأنَّ الخبر لا يُعطَف على المبتدأ. ومثلُه سواءٌ {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف: 30].

فإذنْ إنما يكونُ الذي ذكَرْنا في الجملة، من حديث اقتضاءِ (الفاء) إذا كان مصدرُها مصدرَ الكلام يُصحَّحُ به ما قبلَه ويُحْتَجُ له ويُبَيَّنُ وجهُ الفائدة فيه. ألاَ ترى أنَّ الغرضَ من قوله: (إنَّ ذاك النجاح في التبكير): جُلُّه أن يُبيِّن المعنى في قوله لصاحبيه "بَكِّرا" وأن يحْتجَّ لنفسه الأمر بالتكبير ويُبيَّنَ وَجْهَ الفائدة فيه. وكذلك الحكْم في الآي التي تَلَوْناها. فقولُه: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1] بيانٌ للمعنى في قوله تعالى: {يا أيُّها النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ} [الحج: 1] ولِمَ أُمروا بأن يتقوا؛ وكذلك قولُه: {إِنَّ صَلَواتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} [التوبة: 103] بيانٌ للمعنى في أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة، أي بالدعاء لهم. وهذا سبيلُ كلِّ ما أنتَ تَرى فيه الجملةَ يُحتاجُ فيها إلى (الفاء). فاعرفْ ذلك!

فأمَّا الذي ذُكر عن أبي العباس مِنْ جَعْله لها جوابَ سائلٍ، إذا كانتْ وحدَها، وجوابَ مُنْكِر إذا كان معها (اللام)، فالذي يدلُّ على أنَّ لها أصْلاً في الجواب، أنَّا رأيناهُمْ قد ألزمُوها الجملةَ من المبتدأ والخبر، إذا كانت جواباً للقَسَم نحو (والله إِنَّ زيداً مُنْطلِقٌ) وامتنعوا مِنْ أن يقولوا: (والله زيدٌ منطلق) ثم إنَّا إذا استقرَيْنا الكلامَ وجَدْنا الأمرَ بيِّناً في الكثير من مواقِعها أنه يُقصَدُ بها إلى الجواب، كقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض} [الكهف: 83ـ84] وكقوله عزَّ وجَلَّ في أول السورة {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بالحق إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ} [الكهف: 13] وكقوله تعالى: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء: 216] وقولِه تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} [الأَنعام: 56] وقوله: {وَقُلْ إني أَنَا النذير المبين} [الحجر: 89] وأشباهِ ذلك مما يُعْلَم به أنَّه كلامٌ أُمِرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بأن يُجيبَ به الكفارَ في بعض ما جادَلوا وناظَروا فيه، وعلى ذلك قولُه تعالى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فقولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين} [الشعراء: 16] وذاك أنه يَعْلم أنَّ المعنى: فأتياهُ، فإذا قال لكما: ما شأْنُكُما وما جاءَ بكُما وما تقولانِ؟ فقُولا: إنَّا رسولُ رَبِّ العالمين. وكذا قولُه: {وَقَالَ موسى يافرعون إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين} [الأعراف: 104]، هذا سبيلُهُ. ومن البيِّن في ذلك قولُه تعالى في قصة السَّحَرة {قالوا إِنَّآ إلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} [الأعراف: 125]. وذلك لأنه عِيَانٌ أنه جوابُ فرعونَ عن قولِه {آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ} [الأعراف: 123]. فهذا هو وجْهُ القول في نُصْرة هذه الحكايةِ.

ثم إنَّ الأصْلَ الذي ينبغي أنْ يكونَ عليه البناءُ، هو الذي دُوِّن في الكتبِ من أنها للتأكيد، وإذا كان قد ثَبَت ذلكَ، فإذا كان الخبرُ بأمْرٍ ليس للمخاطَبِ ظنٌّ في خلافه البتَّةَ، ولا يكونُ قد عقَدَ في نفسه أنَّ الذي تزعُم أَنه كائن، غيرُ كائنٍ، وأنَّ الذي تزعُم أنه لم يكن، كائنٌ، فأنتَ لا تحتاج هناك إلى "إنَّ" وإنما تحتاج إليها إذا كان له ظَنُّ في الخلاف، وعقْدُ قلبٍ على نَفْى ما تُثْبِتُ أو إثباتِ ما تَنْفي. ولذلك تَراها تزدادُ حُسْناً إذا كان الخبرُ بأمر يَبْعُدُ مثْلُه في الظنِّ وبشيءٍ قد جرتْ عادةُ الناسِ بخلافِهِ، كقول أبي نُوَاس [من الرجز]: ... عليكَ باليأسِ منَ الناسِ ... إنَّ غِنى نَفْسِك في الياسِ فقد تَرى حُسْنَ موقعِها، وكيف قبولُ النفس لها؛ وليس ذلك إلاَّ لأنَّ الغالِبَ على الناس أنهم لا يَحمِلون أنفسَهم على اليأس، ولا يدَعُونَ الرجاءَ والطمَعَ، ولا يعترفُ كلُّ أحدٍ ولا يُسلِّمُ أنَّ الغِنى في اليأس. فلمَّا كان كذلك، كان الموضعُ مَوْضعَ فقرٍ إلى التأكيدِ، فلذلك كان من حُسْنها ما تَرى. ومثلُه سواءٌ قولُ محمد بن وهيب [من الطويل]: أجارَتَنا إنَّ التعفُّفَ بالياسِ ... وصَبْرٌ على استذرارِ دُنْيا بإبْساسِ حَرِيَّانِ أنْ لا يَقْذِفا بمذلَّةٍ ... كريماً وأن لا يُخوجاه إلى الناسِ أجارَتنا إنَّ القِداحَ كواذبٌ ... وأكْثرُ أسبابِ النجاحِ مع الياسِ هو كما لا يخفى كلامٌ معَ مَنْ لا يَرى أنَ الأمْرَ كما قال، بل يُنْكِرهُ ويَعْتقد خلافَه. ومعلومٌ أنه لم يقلْه إلا والمرأةُ تَحْدوهُ وتبعثُه على التعرُّضِ للناس وعلى الطَّلبِ. ومن لطيفِ مواقعِها، أنْ يُدَّعى على المخاطَب ظَنَّ لم يظنَّه، ولكنْ يُرادُ التهكُّم به وأنْ يقال: إنَ حالَكَ والذي صنَعْتَ، يَقْتضي أن تكون قد ظننْتَ ذلك ومثالُ ذلك قولُ الأول [من السريع]: جاءَ شقيقٌ عارضاً رُمْحَه ... إنَّ بَني عَمِّكَ فيهمْ رِماحْ

يقول: إنَّ مجيئَه هكذا مُدِلاً بنَفْسِه وبشجاعَتِهِ، قد وضعَ رمْحَه عرضاً، دليلٌ على إعجابٍ شديدٍ، وعلى اعتقاد منه أنَّه لا يقومُ له أحدٌ، حتى كأنْ ليس مع أحدٍ منَّا رمحٌ يدفَعَهُ به، وكأنَّا كلَّنا عُزْلٌ. وإذا كان كذلك وَجَبَ إذا قيل إنها جوابُ سائلٍ، أنْ يُشْتَرَطَ فيه أنْ يكونَ للسائل ظنٌّ في المسؤولِ عنه، على خلاف ما أنتَ تُجيبُهُ به. فأمَّا أَنْ يُجْعل مجرَّدُ الجوابِ أصْلاً فيه فلا، لأنه يؤدي أن لا يَسْتقيم لنا إذا قال الرجل: (كيف زيد؟) أنْ تقولَ: (صالح). وإذا قال: (أين هو؟ أن تقول: في الدار). وأنْ لا يصحَّ حتى تقولَ: إنه صالحٌ وإنه في الدار. وذلك ما لا يقولُه أحَد. وأمَّا جعْلُها إذا جُمِعَ بينها وبين (اللام) نحو: (إنَّ عبدَ الله لقائم): الكلام مع المنكَّر، فجيِّدٌ، لأنه إذا كان الكلام مع المُنَكَّر، كانت الحاجةُ إلى التأكيد أشدَّ. وذلك أنَّك أحوجُ ما تكون إلى الزيادة في تثبيت خَبَرِك إذا كان هناك مَنْ يَدْفعُه ويُنْكِر صحَّتَه. إلاَّ أنه يَنبغي أن يُعْلَم أنه، كما يكونُ للإنكارِ قد كان مِن السامعِ، فإنه يكونُ للإنكارِ يُعلمُ أو يُرَى أنه يَكونُ مِن السامعين. وجملةُ الأمر أنك لا تقول: (إنه لكذلك)، حتى تُريدَ أن تَضَعَ كلامَكَ وضْعَ مَنْ يزَعُ فيه عن الإنكار.

واعْلَمْ أنها قد تَدْخلُ للدلالة على أنَّ الظنَّ قد كان منكَ أيها المتكلِّمُ في الذي كان، أنَّه لا يكون. وذلك قولُكَ لِلشيءِ، هو بمرأى من المُخاطَبِ ومَسْمع: (إنه كان من الأمْر ما تَرى وكان منِّي إلى فلانٍ إحسانٌ ومعروفٌ، ثم إنه جَعلً جَزائي ما رأيْت)، فتجعلُكَ كأنك تَردُّ على نفْسِك ظَنَّكَ الذي ظنَنْتَ، وتُبيِّنُ الخطأ الذي توهَّمْتَ؛ وعلى ذلك، واللهُ أعلمُ، قولُه تعالى حكايةً عن أُمِّ مريمَ رضيَ الله عنها {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران: 36]. وكذلك قولُه عزَّ وجَلَّ، حكايةً عن نوحٍ عليه السلام {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} [الشعراء: 117]. وليس الذي يَعْرِضُ بسببِ هذا الحرفِ من الدقائق والأُمور الخفيَّةِ بالشيء يُدْرَك بالهوينا. ونحن نَقْتصِر الآن على ما ذكَرْنا، ونأخذُ في القول عليها إذا اتصلت بها (ما).

باب القصر والاختصاص

باب القصر والاختصاص فصل: في مسائل إنما قال الشيخ أبو علي في الشيرازيَّات: يقولُ ناسٌ من النحويين في نحْو قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33]، إنَّ المعنى: ما حَرَّمَ ربِّي إلاَّ الفواحش. (قال): وأصبتُ ما يدلُّ على صحة قولهم في هذا وهو قولُ الفرزدق [من الطويل]: أنا الذائدُ الحامي الذِّمارَ وإنَّما ... يُدافِعُ عن أحسابِهِم أنا أوْ مِثْلِي فليس يَخْلو هذا الكلامُ مِنْ أن يكونَ موجِباً أو مَنْفيّاً. فلو كان المرادُ به الإيجاب لم يَسْتقمْ. ألاَ ترى أنَّك لا تقول: (يُدافعُ أنا ولا يُقاتلُ أنا)، وإنما تقول: (أدافعُ وأُقاتل) إلاَّ أنَّ المعنى لمَّا كان: ما يُدافِعُ إلا أنا، فصَلْتَ الضميرَ كما تفصله مع النَّفي إذا ألحقتَ معه "إلاَّ" حَمْلاً على المعنى. وقال أبو إسحاق الزجاج في قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم} [البقرة: 173]: النصْبُ في "الميتة" هو القراءةُ. ويجوزُ: (إنما حُرِّمَ عليكم). قال أبو إسحاق: والذي اختارُه أن تكونَ (ما) هي التي تمنعُ "إنَّ" مِنَ العمل، ويكونُ المعنى: "ما حُرِّمَ عليكُم إلاَّ الميتةُ" لأنَّ (إنما) تأتي إثباتاً لما يُذْكَرُ بعدها ونَفْياً لِمَا سواه، وقول الشاعر: وإنما يُدافع عن أحسابهم أنا أوْ مِثلي المعنى: ما يُدافِع عن أحسابهم، إلا أنا أو مثلي. انتهى كلام أبي عليّ.

إعلمْ أنهم، وإنْ كان قد قالوا هذا الذي كتبتُه لك، فإنهم لم يَعْنُوا بذلك أنَّ المعنى في هذا هو المعنى في ذلك بعينه، وأنَّ سبيلَهما سبيلُ اللفظَيْن يُوضَعان لمعنى واحد. وفرقٌ بينَ أنْ يكونَ في الشيء معنى الشيء، وبين أنْ يكونَ الشيءُ الشيءَ عَلَى الإطلاق. يُبيِّنُ لكَ أنهما لا يكونان سواءً أنه ليس كلُّ كلام يصلُحُ فيه (ما) و (إلاَّ) يصلح فيه (إنما). ألاَ تَرى أنها لا تَصْلُح في مثل قوله تعالى: {وَمَا مِنْ إلاه إِلاَّ الله} [آل عمران: 62]. ولا في نحو قولنا: (ما أحدٌ إلاَّ وهُو يقول ذاك). إذْ لوْ قلتَ: (إنما مِنْ إلهٍ الله، وإنما أحد وهو يقول ذاك): قلتَ ما لا يكون له معنى. فإن قلتَ: إن سبَب ذلك أنَّ (أحداً) لا يقع إلاَّ في النفي، وما يجري مجرى النفي من النهي والاستفهام، وأنَّ (مِنْ) المزيدة في (ما مِنْ إلهٍ إلا الله)، كذلك لا تكونُ إلاَّ في النفي، قيل: ففي هذا كفايةٌ؛ فإنه اعتراف بأنْ ليسا سواءً لأنهما لو كانا سواءً لكان ينبغي أن يكونَ في (إنما) مِنَ النفي مثلُ ما يكون في (ما) و (إلاَّ). وكما وجدتَ (إنما) لا تصلح فيما ذكرْنا تجدُ (ما وإلاَّ) لا تصْلُح في ضَرْبٍ من الكلام قد صلحتْ فيه (إنما)؛ وذلك في مثل قولك: (إنما هو دِرهمٌ لا دينارٌ). لو قلتَ: (ما هو إلاَّ درهمٌ لا دينارٌ): لم يكنْ شيئاً. وإذْ قد بانَ بهذه الجملة أنهم حينَ جعلوا (إنما) في معنى (ما وإلاَّ) لم يَعْنوا أنَّ المعنى فيهما واحدٌ على الإطلاق، وأن يُسْقطوا الفرْقَ، فإني أُبَيِّن لكَ أمرَهُما وما هو أصْلٌ في كل واحد منهما، بعَوْنِ اللهِ وتوفيقهِ! إِعْلم أنَّ موضوعَ (إنما) على أن تجيءَ لخَبرٍ لا يَجهلُهُ المخاطَبُ، ولا يَدفعُ صِحَّتَه أو لِمَا يُنزَّلُ هذه المنزلةَ. تفسير ذلك أَنكَ تقولُ للرجل: (إنما هو هو أخوك وإنما هو صاحبك القديم)، لا تقولُه لِمَنْ يَجْهلُ ذلك ويدفَعُ صحَّتَه، ولكنْ لِمَن يَعْلَمُه ويُقِرُّ به. إلاَّ أنك تُريد أن تُنَبِّهَهُ للذي يجب عليه من حقِّ الأخ وحُرْمةِ الصاحبِ. ومثلُه قول الآخر [من الخفيف]: إنما أنتَ والدٌ والأبُ القا ... طِعُ أحْنى مِنْ واصلِ الأولادِ

لم يُرد أن يُعْلِمَ كافوراً أنَّ والدٌ، ولا ذاكَ مما يحتاجُ كافورٌ فيه إلى الإعلام، ولكنه أراد أنْ يُذكِّرَهُ منه بالأمر المعلوم لينْبَني عليه استدعاءُ ما يُوجِبهُ، كونُهُ بمنزلةِ الوالدِ. ومثلُ ذلك قولُهم: (إنَّما يَعْجَلُ مَنْ يَخْشَى الفَوْتَ) وذلكَ أنَّ مِن المعلوم الثابتِ في النفوس أنَّ مَنْ لم يَخْشَ الفوتَ، لَمْ يَعْجَل. ومِثالُه مِنَ التنزيلِ قولُه تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ} [الأَنعام: 36]. وقولُه تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر وَخشِيَ الرحمان بالغيب} [يس: 11] وقولُه تعالى: {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} [النازعات: 3] كلُّ ذلك تذكيرٌ بأمرٍ ثابتٍ معلومٍ. وذلك أنَّ كلَّ عاقلٍ يَعْلَم أنَّه لا تكونُ استجابةٌ إلاَّ ممَّنْ يَسْمَعُ ويَعقلُ ما يقال له ويُدْعى إليه؛ وأن مَنْ لم يَسْمعْ ولم يعقِلْ، لم يَسْتجبْ؛ وكذلك معلومٌ أنَّ الإنذارَ إنما يكون إنذاراً، ويكون له تأثيرٌ إذا كان مع مَنْ يؤمِنُ بالله ويَخْشاهُ ويُصدِّقُ بالبعثِ والساعةِ. فأمَّا الكافرُ الجاهلُ فالإنذارُ وتَرْكُ الإنذار معه، واحدٌ. فهذا مثالُ ما الخبرُ فيهِ خبرٌ بأمر يعلمُه المخاطَبُ ولا يُنْكِرُه بحالٍ، وأمَّا مثالٌ ما يُنَزَّل هذه المنزلةَ، فكقوله [من الخفيف]: إنَّما مُصْعَبٌ شِهابٌ مِنَ اللَّـ ... ـهِ تجلَّتْ عن وجْهِهِ الظلْماءُ ادَّعى في كونِ الممدوح بهذه الصفة أنَّه أمرٌ ظاهرٌ معلومٌ للجميع، على عادة الشعراء، إذا مدحوا أنْ يدَّعوا في الأوصاف التي يَذْكُرون بها الممدوحينَ أنها ثابتةٌ لهم، وأنهم قد شُهروا بها، وأنهم لم يَصِفوا إلاَّ بالمعلوم الظاهرِ الذي لا يَدْفعُه أحدٌ، كما قال [من الطويل]: وتَعْذُلني أفناءُ سَعْدٍ عليهمُ ... وما قلْتُ إلاَّ بالذي علِمَتْ سَعْدُ وكما قال البحتريُّ [من الكامل]: لا أدَّعي لأبي العلاءِ فضيلةً ... حتَّى يُسَلِّمَها إليه عِدَاه ومثلُه قولُهم: (إنما هو أسَدٌ وإنما هو نارٌ وإنما هو سيفٌ صارمٌ)، إذا أدخلوا (إنما) جعلوا ذلك في حُكْم الظاهر المعلومِ الذي لا يُنْكَر ولا يُدْفَع ولا يَخْفى.

فصل في النفي والإثبات

فصل في النفي والإثبات وأما الخبرُ بالنّفْي والإثباتِ نحو "ما هذا إلاَّ كذا وإنْ هو إلاَّ كذا"، فيكونُ للأمرِ يُنْكِرهُ المخاطَبُ ويَشُكُّ فيه. فإذا قلتَ: (ما هو إلاَّ مُصيبٌ، أو: ما هو إلا مُخْطَئ): قُلْتَه لِمَنْ يَدْفَع أنْ يكنَ الأمرُ على ما قلتَه. وإذا رأيتَ شخصاً مِنْ بعيدٍ فقلتَ: (ما هو إلا زيدٌ): لم تَقُلْه إلاَّ وصاحِبُك يَتوهَّم أنه ليس زيداً وأنه إنسانٌ آخر، ويجدُّ في الإنكارِ أن يكونَ زيداً. وإذا كان الأمرُ ظاهراً كالذي مضَى، لم تَقُلْه كذلك. فلا تقولُ للرجل تُرقِّقُه على أخيهِ وتُنَبِّهُهُ للذي يَجب عليه من صِلة الرَّحِم ومن حُسْن التحابِّ: (ما هو إلاَّ أخوك). وكذلك لا يَصْلُح في "إنما أنتَ والد": ما أنتَ إلاَّ والد. فأما نحو: "إنما مصعبٌ شهابٌ" فيَصلُحُ فيه أن تقول: (ما مصعبٌ إلاَّ شهابٌ)؛ لأنه ليس من المعلومِ على الصحَّة، وإنما ادَّعى الشاعرُ فيه أنَّه كذلك. وإذا كان هذا هكذا، جاز أنْ تقولَه بالني والإثبات. إلاَّ أنك تُخْرِجُ المدحَ حينئذٍ عن أن يكونَ على حَدِّ المبالغة، من حيث لا يكونُ قد ادَّعَيْتَ فيه أنه معلومٌ وأنه، بحيثُ لا يُنْكِره مُنْكِرٌ ولا يُخَالِفُ فيه مُخالِفٌ. قوله تعالى: {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا} [إبراهيم: 10] إنما جاء - واللهُ أعلمُ - بـ (إنْ) و (إلاَّ) دون (إنما). فلم يَقُلْ: (إنما أنتُم بشرٌ مثلُنا)، لأنهم جعلوا الرسلَ كأنهم بادِّعائهم النبوَّة، قد أخرجوا أنفُسَهم عن أن يكونوا بَشَراً مثلَهم، وادَّعوا أمْراً لا يجوز أن يكَون لِمَنْ هو بشر.

ولمَّا كان الأمرُ كذلك، أُخرجَ اللفظُ مُخرَجَهُ حيثُ يراد إثباتُ أمرٍ يدفَعُه المخاطَبُ ويدَّعي خلافَه، ثم جاء الجوابُ من "الرسُل" الذي هو قولُه تعالى: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} [إبراهيم: 11]. كذلك بـ (إنْ وإلاَّ) دون (إنما)، لأنَّ مِنْ حُكْمِ مَنْ ادَّعى عليه خصْمُه الخلافَ في أمرٍ هو لا يُخالِفُ فيه، أن يُعيد، كلامَ الخصْمِ على وجهه، ويجيءَ به على هيئته ويَحْكيه كما هو. فإذا قلت للرجل: (أنتَ مِنْ شأنِكَ كيتَ وكيتَ)، قال نعم: (أنا مَنْ شأني كيتَ وكيتَ ولكنْ لا ضَيْرَ عَلَيَّ ولا يلزَمُني مِنْ أجْلِ ذلك ما ظنَنْتُ أنه يلزَمُ)؛ فالرُّسُلُ صلوات اللهُ عليهم كأنهم قالوا، إنَّ ما قُلْتُم مِنْ أَنَّا بشرٌ مثلُكم كما قلتم، لَسْنا نُنْكِر ذلك، ولا نَجْهَلُه ولكنَّ ذلك لا يَمْنعُنا مِنْ أن يكون الله تعالى قد منَّ علينا وأكْرَمنا بالرسالة. وأمَّا قولُه تعالى: {قُلّ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110] فجاءنا بـ (إنما) لأنه ابتداءُ كلام قد أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأن يُبلِّغه إيَّاهُم، ويقولَه معَهم، وليس هو جواباً لكلام سابقٍ قد قيل فيه: إنْ أنْتَ إلاَّ بشرٌ مثلُنا: فيجبُ أنْ يُؤْتى به على وفْقِ ذلك الكلامِ، ويراعى فيه حَذْوُه كما كان ذلك في الآية الأولى.

وجملةُ الأمرِ أنك متى رأيتَ شيئاً هو مِن المَعْلوم الذي لا يُشَكُّ فيه قد جاء بالنفي، فذلك لتقديرِ معنًى صارَ به في حُكْم المشكوكِ فيه. فمِنْ ذلك قولُه تعالى: {وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القبور * إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ} [فاطر: 22ـ23]. إنما جاء - واللهُ أعلم - بالنفي والإثبات لأنه لمَّا قال تعالى: {وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القبور} [فاطر: 22] وكان المعنى في ذلك أن يقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك لن تستطيعَ أن تُحوِّل قلوبهم عما هي عليه من الإباء، لا تملك أن تُوقِعَ الإيمانَ في نفوسهم، مع إصرارهم على كُفرهم، واستمرارِهم على جَهْلِهم، وصدِّهم بأسماعهم عما تقولُه لهم وتَتْلُوه عليهم، كان اللائقُ بهذا أن يُجعَل حالُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، حالَ مَنْ قد ظَنَّ أنه يملكُ ذلك ومَنْ لا يَعْلَمُ يقيناً أنه ليس في وُسْعه شيءٌ أكثرُ من أن يُنْذِر ويُحَذِّر؛ فأخْرَجَ اللفظَ مُخْرَجَه إذا كان الخطابُ مع مَنْ يَشُكُّ فقيل: {إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ} [فاطر: 3]. ويُبيِّنُ ذلك أنَّك تقولُ للرجل، يُطِيلُ مُناظَرةَ الجاهلِ ومقاولَتَهُ: (إنَّك لا تَستطيعُ أنْ تُسْمِعَ الميِّتَ وأنْ تُفْهِمَ الجمادَ وأن تحوِّلَ الأعمى بصيراً؛ وليس بيدِكَ إلاَّ أن تُبَيِّنَ وتحتجَّ، ولستَ تملكُ أكثرَ من ذلك). لا تقول ههنا: فإنما الذي بيدِك أنْ تُبَيِّنَ وتحتجَّ، ذلك لأنك لم تَقُلْ له: إنك لا تستطيع أنْ تُسْمِعَ الميتَ حتى جعلْتَه بمثابة مَنْ يَظُنُّ أنه يملك وراءَ الاحتجاجِ والبيانِ، شيئاً؛ وهذا واضحٌ فاعرفْه! ومثلُ هذا، في أنَّ الذي تقدَّم من الكلام، اقتضى أن يكونَ اللفظُ كالذي تَراه من كَوْنه (بإنْ وإلاَّ)، قولُه تعالى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَآءَ الله وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير وَمَا مَسَّنِيَ السواء إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188].

فصل: هذا بيان آخر في إنما

فصل: هذا بيان آخر في إنما اعْلَمْ أنها تفيد في الكلام بَعْدَها، إيجابَ الفعلِ لشيءٍ ونَفْيَه عن غيرِه. فإذا قلْتَ: (إنما جاءني زيدٌ)، عُقِلَ منه أنكَ أرَدْتَ أن تنفيَ أن يكونَ الجائي غيرَه. فمعنى الكلام معَها شبيهٌ بالمعنى في قولك: (جاءني زيدٌ لا عمرو)؛ إلا أنَّ لها مزيَّةً وهي أنَّك تَعْقِلُ معها إيجابَ الفعلِ لشيء ونفْيَه عن غيره دفعةً واحدةً وفي حالٍ واحدةٍ، وليس كذلك الأمرُ في: (جاءني زيد لا عمرو)؛ فإنك تَعْقلُهما في حالين. ومزيةً ثانية وهي أنها تَجْعلُ الأمرَ ظاهراً في أنَّ الجائي زيدٌ، ولا يكونُ هذا الظهورُ إذا جعلتَ الكلامَ بـ (لا) فقلْتَ: (جاءني زيدٌ لا عمرو). "لا" العاطفة و "إنما" ثم اعلمْ أنَّ قولَنا في (لا) العاطفةِ: إنها تنفي عن الثاني ما وَجَب للأولِ، ليس المرادُ به أنها تنفي عن الثاني أن يكون قد شاركَ الأوَّلَ في الفعل، بل أنها تنفي أن يكونَ الفعلُ الذي قلتَ إنه كان من الأول، قد كان مِن الثاني دون الأولِ، ألا تَرى أنْ ليس المعنى في قولك: (جاءني زيدٌ ولا عمرو)، أنه لم يكُنْ مِن عمرو مجيءٌ إليك مثلُ ما كان من زيدٍ، حتى كأنه عكسُ قولك: (جاءني زيدٌ وعمرو)؛ بل المعنى أنَّ الجائي هو زيدٌ لا عمرو. فهو كلامٌ تقولُه مع مَن يَغْلط في الفعل، قد كان من هذا، فيتوَهَّم أنه كان من ذلك. والنكتةُ أنه لا شُبْهةَ في أنْ ليس ههنا جائيان، وأنه ليس إلا جاءٍ واحدٌ. وإنما الشبهةُ في أنَّ ذلك الجائي زيدٌ أم عمرو، فأنتَ تُحقِّقُ على المخاطب بقولك: (جاءني زيد لا عمرو)، أنه زيدٌ وليس بعمروٍ. ونكتةٌ أخرى وهي أنك لا تقول: (جاءني زيدٌ لا عمرو)، حتى يكونَ قد بلغَ المخاطَبَ أنه كان مجيءٌ إليك من جاءٍ، إلاَّ أنه ظنَّ أنه كان مِنْ عمروٍ فأعلَمْتَه أنه لم يكْن مِنْ عمروٍ ولكنْ مِن زيدٍ.

وإذْ قد عرفْتَ هذه المعاني في الكلام بـ (لا) العاطفةِ، فاعلمْ أنها بجُملتها، قائمةٌ لك في الكلام بـ (إنما). فإذا قلتَ: (إنما جاءني زيدٌ)، لم يكن غرَضُك أنْ تنفيَ أن يكون قد جاءَ مع زيد غيرُه، ولكنْ أن تنفيَ أن يكونَ المجيءُ الذي قلتَ إنه كان منه، كان من عمرو، وكذلك تكون الشبهةُ مرتفعةً في أنْ ليس ههنا جائيان، وأنْ ليس إلا جاءٍ واحد، وإنما تكون الشبهةُ في أنَّ ذلك الجائي زيدٌ أم عمرو. فإذا قلتَ: (إنما جاءني زيدٌ) حقَّقْتَ الأمرَ في أنه زيد. وكذلك لا تقول: (إنما جاءني زيد)، حتى يكونَ قد بلَغَ المخاطَب أنْ قد جاءك جاءٍ، ولكنَّه ظنَّ أنه عمرو مثلاً، فأعلَمْتَه أنه زيدٌ. فإن قلتَ: فإنه قد يصحُّ أنْ تقول: (إنما جاءني مِنْ بين القوم زيدٌ وحدَه وإنما أتاني مِنْ جملتهم عمروٌ فقط: فإنَّ ذلك شيءٌ كالتكلف، والكلامُ هو الأولُ. ثم الاعتبارُ به إذا أُطْلِقَ فَلَمْ يقيَّد بـ (وحده) وما في معناه. ومعلومٌ أنكَ إذا قلتَ: (إنما جاءني زيدٌ)، ولم تَزدِ عَلَى ذلك، أنَّه لا يَسبقُ إلى القلب مِن المعنى إلاَّ ما قدَّمْنا شرْحَه مِنْ أنك أردْتَ النصَّ على زيد أنه الجائي وأن تُبْطِلَ ظنَّ المخاطَبِ أنَّ المجيء لم يكن منه، ولكنْ كان مِن عمرو، حَسَبَ ما يكونُ إذا قلت: جاءني زيدٌ لا عمرو: فاعرفْه. النفي والإثبات بما وإلا وإذْ قد عرفْتَ هذه الجملة، فإنَّا نَذْكُر جملةً من القولِ في (ما) و (إلاَّ) وما يكونُ مِنْ حُكْمهما. إِعلمْ أنك إذا قلتَ: (ما جاءني إلاَّ زيد). احتمل أمرين: أحدُهما أنْ تُريدَ اختصاصَ زيدٍ بالمجيء وأن تَنْفِيَه عمَّنْ عداه. وأنْ يكونَ كلاماً تقوله لا لأنَّ بالمخاطَب حاجةً إلى أن يعْلمَ أنَّ زيداً قد جاءك ولكنْ، لأنَّ به حاجةً إلى أن يَعْلم أنه لم يَجِئْ إليكَ غيرُه.

والثاني أن تُريد الذي ذكَرْناه في (إنما) ويكون كلاماً تقولُه ليُعْلَم أنَّ الجائي زيدٌ لا غيره. فمن ذلك قولُكَ للرجل يَدَّعي أنك قلت قولاً ثم قلتَ خلافَهُ: (ما قلتُ اليوم إلاَّ ما قلتُه أمسِ بعينه). ويقولُ: لم تَر زيداً وإنما رأيتَ فلاناً: فتقول: (بلْ لم أرَ إلا زيداً). وعلى ذلك قولُه تعالى: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعبدوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 117]؛ لأنه ليس المعنى أني لم أزد على ما أمَرْتني به، شيئاً، ولكنَّ المعنى أني لم أدَّع ما أمَرْتَني به أن أقولَه لهم، وقلتُ خِلافَه، ومثالُ ما جاءَ في الشعر، مِنْ ذلك قوله [من السريع]: قد عَلِمَتْ سَلْمى وجاراتُها ... ما قطَّر الفارسَ إلاَّ أنا المعنى: أنا الذي قَطَّر الفارسَ، وليس المعنى على أنه يُريد أن يَزْعُم أنه انفردَ بأن قطَّره، وأنَّهُ لم يُشْركْهُ فيه غيرُه. وههنا كلامٌ ينبغي أنْ تعلَمه، إلاَّ أنِّي أكتُبُ لكَ من قبلِه مسألةً لأنّ فيها عوناً عليه. قولُه تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} [فاطر: 28]. في تقديم اسم الله عزَّ وجلَّ معنى، خلافُ ما يكونُ لو أُخِّرَ؛ وإنما يَبِينُ لك ذلك إذا اعتبرتَ الحُكْم في (ما وإلاَّ) وحصلْتَ الفرْقَ بين أن تقول: (ما ضَرَبَ زيداً إلاَّ عمرو)، وبينَ قولِك: (ما ضرَبَ عمروٌ إلا زيداً). والفرقُ بينهما أنك إذا قلتَ: (ما ضرَبَ زيداً إلا عمرو) فقدَّمْتَ المنصوبَ، كان الغرَضُ بيانَ الضاربِ: مَنْ هُو، والإخبارُ بأنه عمرو خاصةً دون غيره. وإذا قلتَ: (ما ضرَب عمرو إلاَّ زيداً)، فقدَّمتَ المرفوعَ، كان الغرضُ بيانَ المضروبِ: مَنْ هو والإخبار بأنه زيدٌ خاصَّةً دونَ غيرِه.

وإذْ قد عرفْتَ ذلك فاعتبرْ به الآية؛ وإذا اعتبرْتَها بهِ، علمتَ أنَّ تقديمَ اسم الله تعالى إنما كان لأجْلِ أنَّ الغرضَ أن يبيَّن الخاشونَ مَنْ هُمْ، ويُخْبَر بأنهم العلماءُ خاصةً دون غيرهم؛ ولو أُخِّر ذكْرُ اسم الله، وقُدِّم العلماءُ فقيل: (إنما يخشَى العلماءُ الله)، لصارَ المعنى على ضدِّ ما هو عليه الآن، ولصار الغرَضُ بيانَ المَخْشيِّ مَنْ هو والإخبارُ بأنه الله تعالى دون غيرِه، ولم يَجِبْ حينئذٍ أن تكونَ الخَشْيَةُ مِنَ الله تعالى مقصورةً على العلماء، وأن يكونوا مَخْصوصين بها، كما هو الغرضُ في الآية، بل كان يكونُ المعنى أنَّ غيرَ العلماء يَخشَوْن الله تعالى أيضاً، إلاَّ أَنَّهم مع خَشْيتهم الله تعالى، يخشَوْنَ معه غيرَه. والعلماءُ لا يَخْشَونَ غيرَ الله تعالى. وهذا المعنى وإنْ كان قد جاءَ في التنزيل في غيرِ هذه الآية، كقوله تعالى: {وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ الله} [الأحزاب: 39]، فليس هو الغرضَ في الآية، ولا اللفظُ بمُحْتملِ له البتَّة. ومن أجازَ حَمْلَها عليه كان قد أبطَلَ فائدةَ التقديمِ، وسوَّى بين قولِه تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} [فاطر: 28] وبينَ أنْ يُقالَ: (إنما يخشَى العلماءُ الله). وإذا سوَّى بينهما لَزمَه أن يسوِّيَ بين قولِنا: (ما ضَرَبَ زيداً إلا عمرو). وبينَ: (ما ضرَب عمرو إلاَّ زيداً). وذلك ما لا شُبْهةَ في امتناعه. فهذه هي المسألةُ. وإذْ قد عرفْتَها فالأمر فيها بيِّنٌ أَنَّ الكلامَ بـ (ـما وإلاَّ) قد يكونُ في معنى الكلام بـ (إنما)؛ ألا تَرى إلى وضوح الصورة في قولك: (ما ضربَ زيداً إلا عمرو، وما ضرب عمرو إلا زيداً)، أنه في الأول: لِبَيانِ مَن الضاربُ، وفي الثاني: لَبيانَ منْ المضروبُ، وأنْ كان تكلُّفاً أن تَحْمِله على نفْي الشركةِ فتريدُ: بـ (ما ضرَب زيداً إلاَّ عمرو) أَنه لم يضرِبْهُ اثنانِ وبـ (ـما ضرَب عمرو إلاَّ زيداً) أنه لم يَضْرِب اثنين؟

ثم اعلمْ أنَّ السببَ في أنْ لم يكنْ تقديمُ المفعولِ في هذا كتأخيرِه، ولم يكنْ (ما ضَربَ زيداً إلاَّ عمروٌ وما ضرَبَ عمرو إلا زيداً) سواءً في المعنى، أنَّ الاختصاصَ يَقعُ في واحدٍ من الفاعلِ والمفعولِ، ولا يقعُ فيهما جميعاً؛ ثم أنه يقعُ في الذي يكون بعد "إلاَّ" منهما، دون الذي قبلَها، لاستحالةِ أن يحدُثَ معنى الحرفِ في الكلمة قبْلَ أن يَجيء الحرفُ. وإذا كان الأمر كذلك، وجَبَ أن يَفْترقَ الحالُ بين أَن تُقدِّم المفعولَ على (إلاَّ) فتقولَ: (ما ضرَب زيداً إلاَّ عمرو) وبين أن تقدِّم الفاعلَ فتقولَ: (ما ضربَ عمرو إلاَّ زيداً)؛ لأنَّا إنْ زعَمْنا أنَّ الحالَ لا يَفترِقُ، جعَلْنا المتقدِّمَ كالمتأخِّرِ في جواز حدوثه فيه، وذلك يقتضي المحالَ الذي هو أن يَحْدُثَ معنى (إلاَّ) في الاسم مِنْ قَبْل أن تجيءَ بها، فاعرفْه! وإذْ قد عَرفْتَ أنَّ الاختصاص مع (إلاَّ) يقعُ في الذي تؤخِّرُهُ من الفاعل والمفعولِ، فكذلك يَقعُ مع (إنما) في المؤخَّر منهما دون المقدَّمِ. فإذا قلت: (إنما ضرَب زيداً عمرو)، كان الاختصاص في الضاربِ. وإذا قلتَ: (إنما ضربَ عمرو زيداً)، كان الاختصاصُ في المضروب. وكما لا يَجوزُ أنْ يستويَ الحالُ بين التقديم والتأخيرِ مع (إلاَّ) كذلك لا يجوزُ مع (إنما). وإذا استبَنْتَ هذهِ الجملةَ عرفْتَ منها أنَّ الذي صنعهُ الفرزدقُ في قوله: وإنما يُدافعُ عن أَحسابهم أنا أو مِثْلي شيءٌ لو لم يصنَعْه لم يصِحَّ له المعنى. ذاك لأنَّ غرضَه أن يَخُصَّ المُدافِعَ، لا المدافَعَ عنه؛ وأنَّه لا يَزعمُ أنَّ المدافعةَ منه تكونُ عن أحسابهم لا عَن أحسابِ غيرِهم، كما يكون إذا قال: (وما أُدافِعُ إلاَّ عن أحسابهم). وليس ذلك معناه. إنما معناه أنْ يَزعُمَ أنَّ المُدافِعَ هُوَ، لا غيرُه، فاعرِفْ ذلك! فإنَّ الغلَطَ - كما أظَنُّ - يدْخُلُ على كثيرٍ ممَّن تَسمعُهم يقولون: إنه فَصلَ الضميرَ للحَمْل على المعنى فيَرى أنه لو لم يَفْصِلْه لكان يكونُ معناه مثْلَه الآن. هذا، ولا يجوز أن يُنْسَب فيه إلى الضرورةِ فيُجْعَلَ مثَلاً نظيرَ قول الآخر [من الهزج]:

كَأنَّا يومَ قُرَّى إنَّـ ... ـما نَقْتُل إيَّانا لأنه ليس به ضرورةٌ إلى ذلك، من حيث إنَّ (أدافِعُ ويُدافِعُ) واحد في الوزن، فاعرفْ هذا أيضاً! وجملةُ الأمر أنَّ الواجبَ، أنْ يكونَ اللفظُ على وجهٍ يَجعلُ الاختصاصَ فيه للفرزدق، وذلك لا يكونُ إلاَّ بأنْ يُقدِّم (الأحسابَ) على ضميرِه. وهو لو قال: وإنما أُدافِع عن أَحسابهم)، استكنَّ ضميرُه في الفعل. فلم يتصوَّر تقديم (الأحسابِ) عليه ولم يقع (الأحساب) إلاَّ مؤخَّراً عن ضَمير الفرزدق. وإذا تأخرتْ انصرفَ الاختصاصُ إليها لا مَحالة. فإنْ قلتَ: إنه كان عليه أنْ يقول "وإنما أُدافِعُ عن أحسابهم أَنا" فيُقدِّم (الأحسابَ) على (أنا)، قيل: إنه إذا قال: "أُدافِع": كان الفاعلُ الضميرَ المستكنَّ في الفعل، وكان (أنا) الظاهرُ تأكيداً له، أعني لِلمستكنِّ، والحكْمُ يتعلق بالمؤكَّد دون التأكيد، لأنَّ التأكيدَ كالتكرير، فهو يجيءُ من بَعْد نفوذِ الحكْم ولا يكون تقديمُ الجارِّ مع المَجْرور، الذي هو قولُه (عن أحسابهم) على الضمير الذي هو تأكيدٌ، تقديماً له على الفاعل، لأنَّ تقديمَ المفعول على الفاعلِ إنما يَكونُ إذا ذكرتَ المفعولَ قبل أن تذْكُر الفاعلَ؛ ولا يكونُ لك إذا قلتَ: (وإنما أُدافعُ عن أحسابهم): سبيلٌ إلى أن تَذْكُر المفعولَ قبل أن تذكُرَ الفاعل، لأنَّ ذكْرَ الفاعلِ ههنا هو ذكْرُ الفعل من حيثُ إنَّ الفاعلَ مستكِنَّ في الفعل، فكيف يُتَصوَّرُ تقديمُ شيءٍ عليه؟ فاعرفْه!

واعلمْ أَنك إنْ عمَدْت إلى الفاعل والمفعول، فأخَّرْتَهما جميعاً إلى ما بَعْد (إلاَّ) فإنَّ الاختصاصَ يقَعُ حينئذٍ في الذي يلي "إلا" منهما. فإذا قلتَ: (ما ضرَبَ إلاَّ عمرو زيداً): كان الاختصاصُ في الفاعل، وكان المعنى أنك قلت: إنَّ الضاربَ عمرو لا غيرُه؛ وإن قلْتَ: (ما ضرب إلا زيداً عمرو)، كان الاختصاصُ في المفعول، وكان المعنى أنك قلتَ: إن المضروبَ زيدٌ لا مَنْ سواه. وحُكْم المفعولين حكْمُ الفاعلِ والمفعولِ فيما ذكرتُ لك. تقول: (لم يكْسُ إلاَّ زيداً جُبَّةً). فيكونُ المعنى أنه خَصَّ زِيداً من بين الناس بكُسوةِ الجُبَّة. فإن قلْتَ: (لم يَكْسُ إلا جبَّةً زيداً): كان المعنى أنه خَصَّ الجبَّةَ من أصناف الكُسْوة. وكذلك الحكُم حيثُ يكونُ بدلَ أحدِ المفعولين جارٌّ ومجرور، كقول السيد الحميري [من السريع]: لو خُيِّر المِنْبرُ فرْسانَه ... ما اختار إلاَّ منكُمُ فارساً الاختصاص في "منكم" دون "فارساً"، ولو قلتَ: (ما اختارَ إلاَّ فارساً منكم": صار الاختصاصُ في "فارسا".

واعلم أَنَّ الأمرَ في المبتدأ والخَبر إنْ كانا بعد "إنما" عَلَى العبرةِ التي ذكرتُ لكَ في الفاعل والمفعول إِذا أنتَ قدَّمْتَ أَحدَهما على الآخر، معنى ذلك أنك إنْ تركتَ الخبرَ في موضِعهِ فلَمْ تُقدِّمه على المبتدأ، كان الاختصاصُ فيه، وإن قدَّمْتَه على المبتدأ صار الاختصاصُ الذي كان فيه، في المبتدأ تفسيرُ هذا أَنك تقولُ: (إنما هذا لك): فيكون الاختصاصُ في "لك" بدلالةِ أَنك تقولُ: (إنما هذا لك لا لِغيرك): وتقول: (إنما لكَ هذا)، فيكونُ الاختصاصُ في "هذا" بدلالةِ أنك تقول: (إنما لكَ هذا لا ذاك)، والاختصاصُ يكون أبداً في الذي إذا جئتَ بـ (ـلا) العاطفة كان العطفُ عليه. وإنْ أردْتَ أن يزدادَ ذلك عندَكَ وضوحاً، فانظرْ إلى قوله تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب} [الرعد: 40] وقوله عزَّ وعَلاَ: {إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ} [التوبة: 93] فإنَّك تَرَى الأمرَ ظاهراً أنَّ الاختصاصَ في الآية الأولى، في المبتدأ الذي هو البلاغُ والحسابُ دون الخبرِ الذي هو عليك وعلينا، وأنَّه في الآية الثانيةِ في الخَبر الذي هو "عَلَى الذين" دون المبتدأ الذي هو "السبيلُ". واعلمْ أَنه إذا كان الكلامُ بـ (ما وإلاَّ) كان الذي ذكرتُه مِنْ أنَّ الاختصاصَ يكونُ في الخبر إنْ لم تقدِّمْه وفي المبتدأ إن قدَّمْتَ الخبرَ، أوضحَ وأَبْيَنَ: تقول: (ما زيدٌ إلاَّ قائم)، فيكون المعنى أنَّكَ اختَصَصْتَ القيامَ من بينِ الأوصافِ التي يُتوهَّم كونُ زيدٍ عليها بجَعْله صفةً له. وتقول: (ما قائم إلا زيد)، فيكون المعنى أَنك اختصصْتَ زيداً بكونه موصوفاً بالقايم، فقد قصَرْتَ في الأول الموصوفَ على الصفةِ، وفي الثاني الصفةَ على الموصوفِ.

واعلمْ أَنَّ قولَنا في الخبر إذا أُخِّر نحو "ما زيدٌ إلاَّ قائم": أَنك اختصصْتَ القيامَ من بين الأوصاف التي يُتوهَّمُ كونُ زيدٍ عليها، ونفَيْتَ ما عدا القيام عنه، فإنما نعني أنك نفَيْتَ عنه الأوصافَ التي تُنَافي القيامَ نحو أنْ يكونَ جالساً أو مضطجعاً أو متكئاً أو ما شاكَلَ ذلك، ولم نُردْ أنك نفَيْتَ ما ليس مِنَ القيامِ بسبيلٍ؛ إذْ لسنا نَنْفي عنه بقَوْلِنا: (ما هو إلاّ قائم): أن يكونَ أسودَ أو أبيضَ أو طويلاً أو قصيراً أو عالِماً أو جاهِلاً. كما أنَّا إذا قلْنا: (ما قائمٌ إلاّ زيد): لم نُرِد أنه ليس في الدنيا قائمٌ سواه، وإنما نَعْني: ما قائمٌ حيثُ نحن وَبِحَضْرَتِنا، وما أشبَهَ ذلك.

واعلمْ أنَّ الأمرَ بيِّنٌ في قولنا: (ما زيدٌ إلاَّ قائم)، أنْ ليس المعنى على نفْي الشركةِ، ولكنْ على نفْي أنْ لا يكونَ المذكورُ، ويكونَ بدَلَهُ شيءٌ آخر. أَلا ترى أنْ ليس المعنى أنه ليس له مع القيام صفةٌ أخرى، بل المعنى أَنْ ليس له بدَلَ القيام صفةٌ ليستْ بالقيام، وأن ليس القيامُ منفياً عنه وكائناً مكانه فيه القعودُ أو الاضطجاعُ أو نحوُهما. فإن قلت: فَصُورَةُ المعنى إذن صُورَتُه، إذا وضعتَ الكلامَ بـ (إنما) فقلت: (إنما هو قائم)، ونحنُ نَرى أنه يجوز في هذا أن تَعْطِفَ بـ (لا) فتقول: (إنما هو قائم لا قاعدٌ)، ولا نرى ذلك جائزاً مع (ما وإلاَّ) إذْ ليس من كلام الناس أَن يقولوا: (ما زيدٌ إلاّ قائم لا قاعد)؛ فإنَّ ذلك إنما لم يَجُزْ مِن حيثُ إنَّكَ إذا قلتَ: (ما زيدٌ إلا قائم)، فقد نفيتَ عنه كلَّ صفةٍ تُنَافي القيامَ، وصرتَ كأنك قلتَ: "ليس هو بقاعدٍ ولا مضطجِعٍ ولا متكئٍ". وهكذا حتى لا تدَعَ صفةً يخرجُ بها من القيام. فإذا قلتَ مِن بَعْد ذلك "لا قاعد" كنتَ قد نفيْت بـ (لا) العاطفةِ شيئاً قد بدأْتَ فنفَيْتَه، وهي موضوعة لأن تنفيَ بها ما بدأْتَ فأَوجبْتَه، لا لأَن تُفيدَ بها النفيَ في شيءٍ قد نَفيتَه. ومن ثَمَّ لم يَجُزْ أنْ تقول: (ما جاءني أحدٌ لا زيد) على أن تعْمَد إلى بعض ما دَخل في النفي بعموم (أحد) فتنفيَه على الخُصوص، بل كان الواجِبُ إذا أردتَ ذلك، أنْ تقول: (ما جاءني أحد ولا زيدٌ)، فتجيء بـ (الواو) مِن قَبْل (لا) حتى تَخْرجَ بذلك عن أن تكونَ عاطفةً، فاعرفْ ذلك!

وإذْ قد عرفْتَ فسادَ أن تقول: (ما زيدٌ إلاَّ قائمٌ لا قاعد): فإنك تَعْرِفُ بذلك امتناعَ أن تقول: ما جاءني إلا زيدٌ لا عمرو)، و (ما ضربتُ إلا زيداً لا عمراً) وما شاكَلَ ذلك. وذلك أَنك إذا قلْتَ: (ما جاءني إلاَّ زيدٌ): فقد نفَيْتَ أن يكون قد جاءك أَحدٌ غيرُه. فإذا قلت: لا عمرو: كنتَ قد طلبتَ أن تنفي بـ (لا) العاطفةِ شيئاً قد تقدَّمْتَ فنفيتَه؛ وذلك - كما عرَّفْتُكَ - خروجٌ بها عن المعنى الذي وُضِعَتْ له، إلى خلافه. فإن قيل: فإنك إذا قلتَ (إنما جاءني زيد): فقد نفَيْتَ فيه أيضاً أن يكون المجيءُ قد كان من غيره. فكان ينبغي أن لا يجوز فيه أيضاً أن تعطف بـ (لا) فتقول: (إنما جاءني زيد لا عمرو). قيل: إنَّ الذي قلْتَه من أنك إذا قلتَ "إنما جاءني زيد" فقد نَفيْتَ فيه أيضاً المجيءَ عن غيره، غيرُ مُسلَّمٍ لك على حقيقته؛ وذلك أنه ليس معكَ إلاَّ قولُكَ: (جاءني زيد). وهو كلام كما تَراه مُثْبَتٌ ليس فيه نَفْيٌ البتةَ، كما كان في قولك: (ما جاءني إلاَّ زيد) وإنما فيه أنك وضعْتَ يدَك عَلَى (زيد) فجعلته الجائي، وذلك وإن أوجبَ انتفاءَ المجيء عن غيرِه، فليس يُوجِبُه مِن أجْل أن كان ذلك إعمالَ نفْي في شيءٍ، وإنما أوجبَه من حيثُ كان المجيءُ الذي أخبرْتَ بهِ مجيئاً مخصوصاً، إذا كان لزيد لم يكن لغيره، والذي أَبَيْناهُ أن تنفيَ بـ (لا) العاطفةِ الفعلَ عن شيءٍ وقد نفَيْتَه عنه لفظاً. النفي والإثبات بـ "ما" و "غير" ونظيرُ هذا أنَّا نعْقِل من قولنا: (زيدٌ هو الجائي)، أنَّ هذا المجيءَ لم يَكنْ مِن غيرهِ، ثم لا يمنع ذلك مِن أن تجيءَ فيه بـ (لا) العاطفة فتقولَ: (زيدٌ هو الجائي لا عمرو). لأنَّا لم نَعْقِل ما عقَلْنا من انتفاءِ المجيء عن غيرِه بنَفْي أوقعناهُ على شيءٍ، ولكنْ بأنه لما كان المجيءُ المقصودُ مجيئاً واحداً، كان النصُّ على زيدٍ بأَنه فاعلُه وإثباتُه له، نَفْياً له عن غيره، ولكنْ مِن طريقِ المعقولِ لا من طريقِ أَنْ كان في الكلام نَفيٌ كما كان ثَمَّ، فاعرفْه!

فإن قيل: فإنك إذا قلتَ: (ما جاءني إلا زيدٌ)، ولم يكن غرَضُك أن تنفيَ أَنْ يكونَ قد جاء معهُ واحدٌ آخرُ، كان المجيءُ أيضاً مجيئاً واحداً، قيل إنه وإنْ كان واحداً فإنَّك إنما بَيَّنْتَ أنَّ زيداً الفاعلُ له بأنْ نَفَيْتَ المجيءَ عن كلِّ مَنْ سِوى زيدٍ، كما تصنعُ إذا أردتَ أن تنفيَ أن يكون قد جاء معه جاءٍ آخرُ. وإذا كان كذلك، كان ما قلناه مِن أَنك إنْ جئتَ بـ (لا) العاطفة فقلتَ: (ما جاءني إلاَّ زيدٌ لا عمرو)، كنتَ قد نفَيْتَ الفعلَ عن شيء قد نَفيتَه عنه مرةً، صحيحاً ثابتاً كما قلْنا فاعرفْه! واعلمْ أنَّ حكْم (غير) في جميع ما ذكرْنا حُكْمُ (إلاَّ). فإذا قلتَ: (ما جاءني غيرُ زيد)، احتملَ أنْ تريدَ نفيَ أنْ يكونَ قد جاء معه إنسانٌ آخرُ، وأنْ تُريدَ نفيَ أنْ لا يكونَ قد جاء، وجاءَ مكانَه واحدٌ آخر ولا يصحُّ أن تقول: ما جاءني غيرُ زيدٍ لا عمروٌ. كما لم يَجُزْ: ما جاءني إلا زيدٌ لا عمرو.

فصل: في نكة تتصل بالكلام الذي تضعه "ما" و "إلا"

فصل: في نكة تتصل بالكلام الذي تضعه "ما" و "إلا" إعلمْ أنَّ الذي ذكَرْناه من أنَّك تقولُ: (ما ضرَبَ إلا عمروٌ زيداً)، فتُوقِعُ الفاعلَ والمفعولَ جميعاً بعْد (إلا) ليس بأكثر الكلام، وإنما الأكثرُ أنْ تُقدِّم المفعولَ على (إلا) نحو: (ما ضرَبَ زيداً إلاَّ عمرو). حتى إنَّهم ذهَبوا فيه، أعني في قولك: (ما ضرَبَ إلاّ عمرو زيداً)، إلى أنه على كلامَيْن، وأنَّ زيداً منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ، حتى كأن المتكلِّم بذلكَ أَبْهَمَ في أول أمرِهِ فقال: (ما ضرَبَ إلاَّ عمروٌ) ثم قيل له: (مَنْ ضَرَبَ؟) فقال: (ضرَبَ زيداً). وههنا - إذا تأملْتَ - معنىً لطيفٌ يُوجِبُ ذلك؛ وهو أَنَّك إذا قلتَ: (ما ضَرَبَ زيداً إلا عمرو)، كان غرضُك أن تَخْتصَّ عَمْراً بـ (ـضَرَبَ زيدٌ) لا بالضَّربِ على الإطلاق. وإذا كان كذلك وجَبَ أَن تُعَدِّيَ الفعلَ إلى المفعولِ مِن قَبْل أنْ تذكُر عَمراً الذي هو الفاعلُ، لأن السامعَ لا يَعْقِلُ عنك أَنَّكَ اختصصْتَه بالفعل معدًّى حتى تكون قد بدأت فعدَّيْتَه؛ أعني لا يَفهم عنكَ أنك أردتَ أَنْ تختصَّ عَمراً بِضربِ زيدٍ حتى تذْكُرَ له معدًّى إلى زيد. فأمَّا إذا ذكَرْتَه غيرَ معدًّى فقلتَ: (ما ضَرَبَ إلا عمروٌ)، فإنَّ الذي يَقعُ في نفسِه أنَّك أردتَ أنْ تزعُمَ أنه لم يكن مِن أحدٍ غيرِ عمروٍ وضَرْبٌ، وأنه ليس ههنا مضْروبٌ إلاَّ وضارِبُه عمرو. فاعرفْه أصْلاً في شأنَ التقديمِ والتأخيرِ.

فصل: عود على مباحث "إنما"

فصل: عودٌ على مباحث "إنما" إنْ قيل: مَضيْتَ في كلامك كلِّه على أنَّ "إنما" للخبر لا يجهلُه المخاطَبُ، ولا يكونُ ذكْرُك له لأن تُفيدَه إياهُ، وإنَّا لنراها في كثيرٍ من الكلام والقصد بالخبر بعْدَها أن تُعْلم السامعَ أمراً قد غلِطَ فيه بالحقيقة، واحتاج إلى معرفته، كمِثْلِ ما ذكرتَ في أول الفصل الثاني من قولك: (إنما جاءني زيدٌ لا عمروٌ). وتراها كذلك تَدورُ في الكتب للكَشْف عن معانٍ غيرِ معلومةٍ ودلالةِ المتعلِّمِ منها عَلَى ما لا يَعْلم. قيل: أمَّا ما يجيءُ من الكلام مِنْ نحْوِ: (إنما جاء زيدٌ لا عمرو)، فإنه وإنْ كان يكونُ إعلاماً لأمرٍ لا يَعْلمهُ السامعُ، فإنه لا بدَّ معَ ذلك، مِنْ أنْ يُدَّعى هناك فضْلُ انكشافٍ وظهورٍ في أنَّ الأمَر كالذي ذكَرَ. وقد قسمتُ في أولِ ما افتتحتُ القولَ فيها، فقلتُ إِنها تجيءُ للخبر لا يَجهلُه السامعُ ولا يُنْكِر صحَّتَه، أوْ لما تَنَزَّلَ هذه المنزلةَ. وأمَّا ما ذكرتُ مِنْ أَنَّها تَجيء في الكتبِ لدلالةِ المتعلِّم على ما لم يَعلمْه، فإنَّك إذا تأملْتَ مواقعَها وجدْتَها في الأمر الأَكْثرِ، قد جاءتْ لأمرٍ قد وقَعَ العلمُ بموجبِه وشيءٍ يَدلُّ عليه. مثالُ ذلك أنَّ صاحب "الكتاب" قال، في باب كان: "إذا قلتَ: كان زيدٌ، فقد ابتدأَتَ بما هو معروفٌ عندَه مِثْلَه عندَكَ، وإنما يَنتظرُ الخَبَر. فإذا قلتَ: (حليماً)، فقد أَعْلمتَه ما علِمْتَ. وإذا قلتَ: (كان حليماً)، فإنما يَنتظِرُ أنْ تعرِّفَه صاحِبَ الصفة". وذاكَ أنه إِذا كان معْلوماً أنه لا يكونُ مبتدأٌ من غير خبرٍ، ولا خَبرٌ مِن غيرِ مبتدإٍ، كان معلوماً أنك إذا قلتَ: (كان زيدٌ): فالمخاطَبُ يَنتظِرُ الخبرَ؛ وإذا قلتَ: (كان حليماً) أنه يَنتظِرُ الاسْمَ، فلم يقع إذن بعْد "إنما" إلاَّ شيءٌ كان معلوماً للسامع مِن قَبْل أنْ ينتهيَ إليه.

وممَّا الأمرُ فيه بيِّنٌ، قولُه في باب "ظننْتُ": وإنما تَحْكي بعْد "قلتُ" ما كان كلاماً، لا قولا. وذلك أنَّه معلومٌ أنكَ لا تحكي بعد "قلتُ" إذا كنتَ تَنْحوِ نحْوَ المعنى، إلاَّ ما كان جملةً مفيدةً. فلا تقولُ: قال فلان: "زيدٌ"، وتَسْكتُ. أَللهمَّ إلاَّ أنْ تُريدَ أَنَّه نطَقَ بالاسمِ على هذه الهيئةِ، كأنَّكَ تُريد أَنه ذكَرَهُ مرفوعاً. ومثلُ ذلك قولُهم: إنما يحذف الشيءُ إذا كان في الكلام دليلٌ عليه. إلى أشباه ذلك مما لا يُحصى. فإن رأيتَها قد دخلتْ على كلامٍ هو ابتداءُ إعلامٍ بشيءٍ لم يَعلَمْهُ السامعُ، فلأَن الدليلَ عليه حاضِرٌ معه والشيءَ بحيثُ يَقعُ العِلمُ به عن كَثَبٍ. واعلمْ أنه ليس يكادُ يَنتهي ما يُعَرض بسبب هذا الحرفِ من الدقائِق. ومما يَجبُ أن يُعْلَم أنه، إذا كان الفعلُ بَعْدها فعلاً لا يصِحُّ إلاَّ مِن المذكورِ ولا يكونُ مِنْ غيره كالتذكُّر الذي يُعْلَم أنه لا يكونُ إلا مِن أُولي الألبابِ، لم يَحْسن العطفُ بـ (لا) فيه، كما يَحْسنُ فيما لا يُختصُّ بالمذكور، ويَصحُّ مِن غَيره. تفسيرُ هذا أنه لا يَحْسنُ أن تقولَ: (إنما يتذكَّرُ أُولو الألبابِ لا الجهالُ). كما يَحْسن أن تقول: (إنما يجيء زيدٌ لا عمروٌ). ثُمَّ إنَّ النفيَ فيما يجيء فيه النفيُ، يتقدَّم تارةً وَيتأخَّرُ أخرى. فمثالُ التأخير ما تَراه في قولك: (إنما يجيءُ زيدٌ لا عمرو). وكقَولِهِ تعالى: {إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 21ـ22] وكقول لبيد [من الرمل]: إنما يَجْزي الفتى ليس الجَمَلْ ومثالُ التقديم قولُك: (ما جاءني زيد وإنما جاءني عمرو). وهذا مما أنتَ تعلم به مكانَ الفائدة فيها، وذلكَ أنك تَعَلمُ ضرورةَ أَنَّك لو لم تُدْخِلْها وقلتَ: (ما جاءني زيدٌ وجاءني عمرو)، لكان الكلامُ مع مَنْ ظنَّ أنهما جاآك جميعاً، وأنَّ المعنى الآن مع دخولها، أَنَّ الكلامَ مع مَن غَلِطَ في عين الجائي فظنَّ أنه كان زيداً لا عَمراً.

وأمرٌ آخرُ وهو ليس ببعيد، أنْ يَظُنَّ الظَّانُّ أنه ليس في انضمام "ما" إلى "إنَّ" فائدةٌ أكثرُ مِنْ تُبْطِل عملَها حتى تَرى النحويِّينَ لا يَزيدون في أكثر كلامهم على أنها كافَّة. ومكانُها ههنا يُزيل هذا الظنَّ ويُبْطِلُه، وذلك أنك تَرى أنك لو قلتَ: (ما جاءني زيدٌ وإنَّ عَمْراً جاءني)، لم يُعْقَل منه أنك أردتَ أنَّ الجائي عمروٌ لا زيدٌ، بل يكونُ دخول (إنَّ) كالشيء الذي لا يُحتاجُ إليه ووجدتَ المعنى يَنْبو عنه. ثم اعلمْ أَنك إذا استقريْتَ، وجدْتَها أقوى ما تكونُ وأعْلَقَ ما ترى بالقلب، إذا كان لا يُراد بالكلام بعدَها نفْسُ معناه، ولكنَّ التعريضَ بأمرٍ هو مُقْتضاه، نحو أنَّا نعلم أَنْ ليس الغَرضُ مِن قوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب} [الرعد: 19] أنْ يَعلَم السامعون ظاهرَ معناه، ولكنْ أن يُذَمَّ الكفَّارُ وأن يُقالَ إنهم مِنْ فرط العِنادِ ومِنْ غلبةِ الهوى عليهم، في حُكْم مَنْ ليس بذي عقْلٍ، وإنكم إنْ طمِعْتُم منهم في أنْ يَنْظروا ويَتذكَّروا، كنتُم كمَنْ طمِعَ في ذلك مِنْ غير (أُولي الألباب). وكذلك قولُه: {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} [النازعات: 45]. وقولُه عَزَّ اسْمُه: {إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب} [فاطر: 18]. المعنى على أنَّ مَن لم تكن له هذه الخَشْيةُ، فهو كأنهُ ليس له أُذُنٌ تَسمَعُ وقلْبٌ يَعْقِلُ. فالإنذارُ معه كَلاَ إنذارٍ. ومثال ذلك من الشعر قوله [من المديد]: أَنا لم أُرْزَقْ محبَّتَها ... إنما لِلْعبدِ ما رُزقا الغرضُ أن يُفْهِمَك مِن طريقِ التعريضِ، أنه قد صار يَنْصَحُ نفسَه ويَعلَمُ أنه يَنْبغي له أن يقْطَع الطمَعَ من وصلها، ويَيْأَسَ من أن يكونَ منها إسعافٌ. ومن ذلك قوله [من البسيط]: وإنما يَعْذِرُ العشَّاقَ مَنْ عَشِقا يقولُ إنه ليس ينبغي للعاشقِ أن يلومَ من يَلُومُهُ في عِشْقه، وأنه ينبغي أنْ لا يُنْكَر ذلك منه، فإنه لا يعلم كنْهَ البلوَى في العشق. ولو كان ابْتُليَ به لعرَفَ ما هو فيه، فَعَذَرَه. وقوله [من الكامل]: ما أنتَ بالسَّبَبِ الضعيفِ وإنَّما ... نُجْحُ الأُمورِ بقوَّةِ الأَسْبابِ

فاليوم حاجتُنا إليكَ وإِنما ... يُدْعى الطبيبُ لساعةِ الأوَصابِ يقول في البيت الأول: إنه ينبغي أن أَنجحَ في أمري حين جعلْتُكَ السببَ إِليه. ويقولُ في الثاني: إنَّا قد وضَعْنا الشيءَ في موضعه، وطلَبْنا الأمرَ من جهته حين استعنَّا بك فيما عَرضَ من الحاجةِ وعوَّلْنا على فضْلِكَ. كما أَنَّ من عوَّل عَلَى الطبيبِ فيما يَعْرِضُ له من السُّقْم، كان قد أصابَ بالتعويلِ مَوْضِعَه وطلَبَ الشيءَ مِنْ معدنِه. ثم إنَّ العجَبَ في أنَّ التعريضَ الذي ذكرتُ لكَ، لا يَحصُلُ من دون "إنما" فلو قلتَ: (يتذكَّرُ أُولو الألباب) لم يَدُلَّ على ما دَلَّ عليه في الآية، وإنْ كان الكلامُ لم يتغيرْ في نفسه، وليس إلاَّ أنه ليس فيه "إنما". والسببُ في ذلك، أنَّ هذا التعريضَ إنما وقعَ بأنْ كان مِنْ شأنِ (إنما) أنْ تُضَمِّنَ الكلامَ معنى النفْي مِنْ بَعْد الإثباتِ والتصريح، بامتناع التذكُّر ممَّن لا يَعْقِل. وإذا أُسِقطتْ من الكلام فقيلَ: (يتذكَّرُ أولو الألباب)، كان مجرَّدَ وصفٍ لأُولي الألبابِ بأنهم يتذكَّرونَ، ولم يكن فيه معنى نفْي للتذكُّر عمَّنْ ليس منهم. ومُحالٌ أن يقَعَ تعريضٌ لشيءٍ ليس له في الكلام ذِكْرٌ ولا فيه دليلٌ عليه. فالتعريضُ بمثل هذا، أعني بأن يقولَ: (يتذكَّر أولو الألباب) بإسقاط "إنما"، يقع إذنْ، إنْ وَقَعَ، بمَدْح إنسانٍ بالتيقظ، وبأنه فعلَ ما فعلَ وتنبَّه لِمَا تنبَّه له، لعَقْله ولِحُسْن تمييزه، كما يقال: كذلكَ يَفعلُ العاقلُ وهكذا يَفعلُ الكريمُ. وهذا موضعٌ فيه دقةً وغموضٌ، وهو ممَّا لا يكاد يقَعُ في نفسِ أحدٍ أنه ينبغي أنْ يَتعرَّفَ سبَبَه ويَبْحثَ عن حقيقة الأمرِ فيه. وممَّا يجبُ لك أن تَجعلَه على ذكْرٍ منكَ مِنْ معاني "إنما" ما عرَّفْتُكَ أولاً مِنْ أنها قد تَدْخُلُ في الشيء على أنْ يُخَيِّلَ فيه المتكلمُ أَنه معلومٌ ويدَّعي أَنَّه مِن الصحَّة بحيثُ لا يَدْفَعُهُ دافعٌ، كقوله: إنما مُصْعَبٌ شِهابٌ مِن الله ومن اللطيف في ذلك قول قس بن حِصْن [من الطويل]: ألاَ أيُّها الناهي فَزارَةَ بعْدَما ... أَجَدَّتْ لغزوٍ، إنما أنتَ حالِمُ ومن ذلك قولُه (تعالى) حكايةً عن اليهود {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض قالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11]، دخلتْ (إنما) لِتَدُلَّ على أَنهم حين ادَّعَوْا لأنفسهم أنَّهمْ مُصْلِحون، أظهروا أنهم يدَّعون مِن ذلك أمراً ظاهراً معلوماً. ولذلك أكَّد الأمرَ في تكذيبهم والردِّ عليهم، فجمع بين "أَلاَ" الذي هو للتنبيه وبين "إنَّ" الذي هو للتأكيد، فقيل: {ألا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون ولاكن لاَّ يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12].

فصل: فصل من باب اللفظ والنظم في الحكاية

فصل: فصل من باب اللفظ والنظم في الحكاية إعْلم أَنه لا يصْلُح تقديرُ الحكايةِ في النظم والترتيب. بل لن تعدُوَ الحكايةُ الألفاظَ وأجراس الحروفِ. وذلك أنَّ الحاكي هو مَنْ يأتي بمثْلِ ما أتى به المْحكيُّ عنهُ؛ ولا بد من أن تكون حكايتُه فعلاً له، وأَنْ يكون بها عاملاً عمَلاً مثل عملِ المحكيِّ عنهُ، نحو أَن يصوغَ إنسانٌ خاتماً، فيُبْدعَ فيه صنْعةً ويأتيَ في صناعته بخاصَّة تُسْتَغْربُ، فيعمدَ واحدٌ آخرُ فيَعْمَلَ خاتماً على تلك الصورة والهيئة، ويجيءَ بمِثْلِ صنْعَتهِ فيه ويؤديها كما هي، فيقال عند ذلك: إنه قد حكى عملَ فلانٍ وصنعةَ فلانٍ. والنظْمُ والترتيبُ في الكلامِ، كما بيَّنَّا، عَملٌ يَعْمَلُه مؤلفُ الكلامِ في معاني الكَلِم لا في ألفاظها، وهو بما يَصْنعُ، في سبيل مَنْ يأخذُ الأصباغَ المختلفةَ فيتوخَّى فيها ترتيباً يَحْدثُ عنه ضروبٌ من النفشِ والوَشْي. وإذا كان الأمرُ كذلك فإنَّا، إنْ تعدَّينا بالحكايةِ الألفاظَ إلى النظمْ والترتيبِ، أدَّى ذلك إلى المُحال، وهو أنْ يكونَ المُنْشِدُ شعرَ أمرئ القيس قد عَمِلَ في المعاني وترتيبها واستخراج النتائجِ والفوائدِ، مثْلَ عملِ امرئ القيس، وأنْ يكونَ حالُه، إذا أَنشدَ قولَه [من الطويل]: فقلتُ لهُ لمَّا تَمطَّى بِصُلْبِهِ ... وأَرْدَفَ أعجازاً وناءَ بِكَلْكَلِ

حالَ الصائغِ يَنْظُر إلى صورةٍ قد عَمِلها صائغٌ مِنْ ذهبٍ لهُ أو فضةٍ، فيجيء بمثْلِها من ذهبهِ وفضَّتهِ، وذلك يخْرجُ بمُرتكِبٍ إنْ ارْتَكَبَه، إلى أنْ يكون الراوي مستحقاً لأنْ يُوصَفَ بأنه استعار وشبَّهَ وأن يُجْعَل كالشاعر في كل ما يكون به ناظماً، فيُقال: إنه جعَلَ هذا فاعلاً وذاك مفعولاً، وهذا مبتدأ وذاك خبراً، وجعل هذا حالاً وذاك صفةً؛ وأنْ يُقالَ نَفَى كذا وأثْبَتَ كذا، وأَبْدَلَ كَذا مِنْ كذا، وأضافَ كذا إلى كذا - وعلى هذا السبيلِ، كما يقال ذاك في الشاعر. وإذا قيل ذاكَ، لَزِمَ منه أنْ يُقال فيه: صدَقَ وكَذَبَ كما يقال في المحْكيِّ عنه وكفى بهذا بُعْداً وإحالةً. ويجمعُ هذا كلُّه أنه يَلزَمُ منه أن يقال إنه قال شعراً، كما يقال فيمَنْ حكَى صنعةَ الصانعِ مِن خاتَمٍ قد عَمِلَه. إنه قد صاغ خاتماً. وجملةُ الحديثِ، أنَّا نَعْلَمُ ضرورةً أنه لا يتأتَّى لنا أن ننْظِمَ كلاماً من غير رَويَّةٍ وفكْرٍ، فإن كان راوي الشعرِ ومُنْشِدُه يَحْكي نَظْم الشاعرِ على حقيقته، فَيْنبغي أنْ لا يتأتَّى له روايةُ شعرِهِ إلا برويَّةٍ وإلاَّ بأنْ يَنْظُرَ في جميع ما نَظَرَ فيه الشاعرُ مِنْ أمر النظْم، وهذا ما لا يَبقى معه موضعُ عذرٍ للشَّاكِّ.

هذا، وسبَبُ دخولِ الشُّبهةِ على ما دَخَلَتْ عليه أنه، لمَّا رأى المعانيَ لا تَتَجلَّى للسامع إلاَّ من الألفاظِ، وكان لا يوقَفُ على الأمور التي، بِتَوخِّيها، يكونُ النظْمُ، إلاَّ بأنْ يَنْظُر إلى الألفاظ مرتَّبةً على الأنحاء التي يُوجبُها ترتيبُ المعاني في النفس؛ وجرتِ العادةُ بأن تكون المعاملةُ مع الألفاظِ فيقالُ: قد نَظَم ألفاظاً فأحْسَنَ نظْمَها، وألَّفَ كَلِماً، فأجادَ تأليفَها - جعل الألفاظ الأصل في النظم، وجعله يُتوخَّى فيها أنفُسُها، وتَركَ أنْ يُفكَّر في الذي بيَّنَّاهُ، من أنَّ النظْمَ هو توخي معاني النحوِ في معاني الكلم وأنَّ توخِّيها في متون الألفاظ مُحال. فلما جعلَ هذا في نفسه ونشِبَ هذا الاعتقادُ به، خَرَجَ له من ذلك، أنَّ الحاكي إذا أدَّى ألفاظَ الشعرِ على النسق الذي سَمِعَها عليه، كان قد حكَى نظْمَ الشاعرِ كما حكَى لفظَه؛ وهذه شُبْهةٌ قد مَلَكَتْ قلوبَ الناس، وعشَّشَتْ في صدورهم، وتَشَرَّبَتْها نفوسُهم، حتى إنك لَتَرى كثيراً منهم، وهي مِنْ حُلُولها عندَهم محلَّ العلمِ الضروري، بحيث إنْ أو مأْتَ له إلى شيء مما ذَكَرْناه أشمازَّ لك، وسَكَّ سَمْعَهُ دَونك، وأظهرَ التعجُّبَ منك، وتلك جريرة تَرْكِ النظرِ، وأخْذِ الشيءِ من غير مَعْدِنه، ومِنَ الله التوفيقُ.

فصل: فصل من باب اللفظ والنظم في إضافة القول إلى قائله

فصل: فصل من باب اللفظ والنظم في إضافة القول إلى قائله إعْلَمْ أنَّا إذا أضفْنَا الشعرَ أو غيرَ الشعرِ، من ضروب الكلام، إلى قائلِهِ لم تكنْ إضافتُنا له من حيثُ هو كَلِمٌ وأوضاعُ لغةٍ، ولكنْ من حيثُ تُوُخِّيَ فيها النظمُ الذي بيَّنا أنه عبارةٌ عن تَوخِّي معاني النحوِ في معاني الكلِم؛ وذاك أنَّ مِنْ شأنِ الإضافةِ الاختصاصَ. فهي تتناول الشيءَ من الجهةِ التي تُختصُّ منها بالمضافِ إليه. فإذا قلتَ: (غلامُ زيدٍ). تناولتِ الإضافةُ الغلامَ من الجهة التي يُختصُّ منها بزيدٍ، وهو كونُه مملوكاً. وإذا كان الأمرُ كذلك، فينبغي لنا أن نَنْظرَ في الجهة التي يختصُّ منها الشعرُ بقائلهِ، وإذا نَظَرْنا، وجَدْناه يختصُّ به من جهة تَوخِّيه في معاني الكَلمِ التي ألَّفه منها ما توخَّاه من معاني النحو، ورأيْنا أنفُسَ الكلمِ بمعزَلٍ عن الاختصاص، ورأيْنا حالَها معه حالَ الإبريسَم مع الذي يَنسِجُ منه الديَباجَ، وحال الفضةِ والذهب معَ مَنْ يصوغُ منهما الحُليَّ. فكما لا يشْتبِهُ الأمرُ في أنَّ الديباجَ لا يُخْتَصُّ بناسجهِ من حيثُ الإبريسم، والحليَّ بصائِغها من حيثُ الفضةُ والذهبُ، ولكنْ من جهة العمَل والصَّنْعة، كذلك يَنْبغي أنْ لا يَشْتَبِهَ أنَّ الشعرَ لا يُختصُّ بقائله من جهةِ أنْفسِ الكَلِم وأوضاع اللغة. ويزدادُ تبيُّناً لذلك بأن يُنظر في القائل إذا أضفْتَه إلى الشعر فقلت: امرؤُ القيس قائلُ هذا الشعر. مِنْ أينَ جعلْتَه قائلاً له؟ أمِنْ حيثُ نَطَق بالكَلِم، وسمعْتَ ألفاظَها مِن فيهِ، أمْ من حيثُ صنَعَ في معانيها ما صنَعَ، وتوخَّى فيها ما توخَّى؟ فإنْ زعمتَ أنكَ جعلْتَه قائلاً له من حيثُ إنه نَطَقَ بالكَلِم وسمعْتَ ألفاظَها مِنْ فيهِ على النسق المخصوص، فاجعلْ راويَ الشعرِ قائلاً له فإنه يَنطِقُ بها ويُخْرِجُها مِنْ فيه على الهيئة والصورة التي نطقَ بها الشاعرُ؛ وذلك ما لا سبيلَ لك إليه. فإن قلتَ: إنَّ الراويَ وإنْ كان قد نطقَ بألفاظِ الشعرِ، على الهيئةِ والصورةِ التي نطق بها الشاعرُ فإنَّه هو لم يبتدئْ فيها النَّسَقَ والترتيبَ، وإنما ذلك شيءٌ ابتدأَهُ الشاعرُ.

فلذلك جعلْتَه القائلَ له دون الراوي: قيل لكَ: خَبِّرْنا عنك، أترى أنه يُتصوَّرُ أن يجبَ في ألفاظ الكَلمِ التي تَراها في قوله [من الطويل]: قِفا نَبْك مِنْ ذكرى حَبيبٍ ومَنْزِل هذا الترتيبُ من غيرِ أنْ يتوخَّى في معانيها ما تَعْلم أنَّ امرأ القيس توخَّاه مِنْ كون "نَبْكِ" جواباً للأمرِ وكونِ "مِنْ" مُعدِّيةً له إلى "ذكرى" وكونِ "ذكرى" مضافةً إلى "حبيبٍ" وكونِ "منزلِ" معطوفاً على "حبيبٍ"، أم ذلك محالٌ؟ فإن شكَكْتَ في استحالتِه لم تُكلَّم. وإن قلتَ: نعَمْ هو محالٌ، قيل لك: فإذا كان مُحالاً أن يَجِبَ في الألفاظ ترتِيبٌ مِنْ غيرِ أنْ يتوخَّى في معانيها معانيَ النحو، كان قولُكَ "إنْ الشاعرَ ابتدأ فيها ترتيباً" قولاً بما لا يتَحَصَّلُ. وجملةُ الأمرِ أنَّه لا يكونُ ترتيبٌ في شيء حتى يكونَ هناكَ قصْدٌ إلى صورةٍ وصنْعةٍ إنْ لم يُقدَّم فيه ما قُدِّم ولم يُؤخَّر ما أُخِّر، وبُدئَ بالذي ثُنيَ به أو ثني بالذي ثُلِّث به، لم تَحْصُل لك تلك الصورةُ وتلك الصنعةُ. وإذا كان كذلك، فينبغي أن يُنْظَر إلى الذي يَقْصِدُ واضعُ الكلامِ أنْ يحصُلَ له من الصورةِ والصَّنعةِ: أفي الألفاظِ يَحصُلُ له ذلكَ أَم من معاني الألفاظِ؟ وليس في الإمكان أنْ يَشُكَّ عاقلٌ إذا نظر أنْ ليس ذلك في الألفاظ، وإنما الذي يُتصوَّرُ أنْ يكونَ مقصوداً في الألفاظ، هو الوزنُ وليس هو مِنْ كلامِنا في شيءٍ، لأنَّا نحنُ فيما لا يكونُ الكلامُ كلاماً إلاَّ به، وليس لِلْوزنِ مدْخَلٌ في ذلك.

فصل: فصل من باب اللفظ والنظم في فساد ملكة الفهم بالتقليد

فصل: فصل من باب اللفظ والنظم في فساد ملكة الفهم بالتقليد واعلمْ أني على طُولِ ما أعَدْتُ وأَبْدَأْتُ، وقلتُ وشرحتُ في هذا الذي قام في أوهام الناس مِنْ حديث اللفظِ، لربما ظننْتَ أني لم أصْنَع شيئاً. وذاك أنكَ ترى الناسَ كأنه قد قُضِيَ عليهم أنْ يكونوا في هذا الذي نحنُ بصَدَدِه على التقليدِ البحْت وعلى التوهُّم والتخيُّلِ. وإطلاقُ اللفظِ منْ غير معرفةٍ بالمعنى، قد صار ذاكَ الدأبَ، والدَّيْدَنَ، واستحْكَمَ الداءُ منهُ الاستحكامَ الشديدَ. وهذا الذي بيِّناه وأوْضحْناه كأنك ترى أبداً حِجاباً بَيْنَهم وبينَ أنْ يَعرفوه، وكأنكَ تُسْمِعُهم منه شيئاً تَلْفِظُه أسماعُهُمْ، وتُنْكِرُه نُفُوسُهم؛ وحتى كأنه كلَّما كان الأمرُ أَبْيَنَ كانوا عن العلم به أبْعَدَ، وفي توَهُّمِ خلافِهِ أقْعَدَ؛ وذاكَ لأنَّ الاعتقادُ الأوَّل قد نَشِبَ في قلوبهم وتأشَّب فيها، ودخل بعُروقِهِ في نواحيها، وصار كالنباتِ السُّوءِ الذي كلَّما قلعْتَه عاد فنبَتَ.

والذي له صاروا كذلك، أنهم حين رأوْهُمُ يُفْرِدون اللفظَ عن المعنى، ويَجْعلون له حُسْناً على حدة، ورأوْهم قد قَسَموا الشِّعرَ فقالوا إنَّ منه ما حَسُنَ لفظُه ومعناه، ومنه ما حَسُن لفظُه دونَ معناهُ، ومنه ما حَسُن معناهُ دونَ لفظِه؛ ورأوهم يَصِفون اللفظَ بأوصافٍ لا يَصِفونَ بها المعنى، ظَنُّوا أنَّ اللَّفظ مِنْ حيثُ هو لفظٌ، حُسْناً ومزيَّةً ونُبْلاً وشَرَفاً، وأنَّ الأوصاف التي نَحلُوه إياها هي أوصافهُ على الصحَّة، وذهَبوا عمَّا قدَّمْنا شرْحَه مِنْ أنَّ لهم في ذلك رأياً وتدبيراً، وهو أنْ يَفْصِلوا بينَ المعنى الذي هو الغرضُ، وبين الصورةِ التي يَخْرجُ فيها، فنَسَبوا ما كان من الحُسْن والمزيَّةِ في صورة المعنى إلى اللفظ، ووصفوه في ذلك بأوصافٍ هي تُخْبِرُ عن أنفُسها أنَّها ليستْ له، كقولهم إنه حَلْيُ المعنى، وإنه كالوشيْ عليه، وإنه قد كَسَب المعنى دلاً وشَكْلاً، وإنه رشيقٌ أنيقٌ، وإنه متمكِّنٌ، وإنَّه على قَدْرِ المعنى لا فاضلٌ ولا مقصِّرٌ - إلى أشباهِ ذلك ممَّا لا يُشَكُّ أنه لا يَكونُ وصْفاً له من حيثُ هو لفظٌ وصَدَى صوتٍ، إلاَّ أنهم كأنَّهم رأوْا بَسْلا حراماً أنْ يكونَ لهم في ذلك فِكْرٌ ورويةٌ وأن يميزوا فيه قَبيلاً من دَبيرٍ. غلطهم في معنى الحقيقة والمجاز

وممَّا الصفةُ فيه للمعنى، وإنْ جرى في ظاهر المعاملة على اللفظِ، إلاَّ أنه يَبْعُد عند الناس كلَّ البعدِ أن يكون الأمرُ فيه كذلك، وأنْ لا يكونَ من صفةِ اللفظِ بالصحةِ والحقيقةِ وصْفُنا اللفظَ بأنه مجاز. وذاك أنَّ العادة قد جرتْ بأنْ يُقال في الفَرْق بين الحقيقة والمجاز: إنَّ الحقيقةَ أَنْ يُقَرَّ اللفظُ على أصله في اللغة، والمجازَ أنْ يُزالَ عن موضعِه، ويُسْتعملَ في غير ما وُضِع له، فيقالُ (أسدٌ) ويراد (شُجاع) و (بحرٌ) ويرادُ (جوادٌ). وهو وإن كان شيئاً قد استَحْكمَ في النفوس حتى إنك تَرى الخاصَّةَ فيه كالعامَّة، فإنَّ الأمرَ بعد فيه على خلافه. وذاك أنَّا إذا حقَّقْنا لم نجد لفظَ (أسد) قد استُعمِل على القطْع والبتِّ في غير ما وُضِع له. ذاك لأنه لم يُجْعَل في معنى (شجاعٍ) على الإطلاق، ولكنْ جُعِل الرجلُ بشجاعته: أسداً. فالتجوُّزُ: في أنِ ادَّعَيْتَ للرجل أنه في معنى الأسدِ وأنه كأنَّه هو في قوة قَلْبه وشدَّةِ بطْشِه وفي أنَّ الخوفَ لا يخامِرُهُ والذُّعْرَ لا يَعْرِضُ له، وهذا - إن أنتَ حصَّلْتَ - تجوُّزٌ منك في معنى اللفظِ لا اللفظِ، وإنما يكون اللفظُ مُزالاً بالحقيقةِ عن موضِعِهِ ومنقولاً عما وُضِعَ له، أنْ لو كنتَ تَجد عاقلاً يقول (هو أسَد): وهو لا يُضمِر في نفسِه تشبيهاً له بالأسد، ولا يُريد إلاَّ ما يريدُه إذا قال: هو شجاعٌ. وذلك ما لا يُشَكُّ في بطْلانِه. كون المجاز أبلغ من الحقيقة

وليس العجبُ إلاَّ أنهم لا يَذْكُرون شيئاً من المجاز إلاَّ قالوا: إنه أبلغُ من الحقيقة. فليتَ شعري إن كان لفظُ "أسد" قد نُقِل عما وُضِعَ له في اللغة وأزيلَ عنه، وجُعِل يرادُ به (الشجاعُ) هكذا غُفْلاً ساذجاً، فمن أين يجب أن يكونَ قولُنا "أسد" أبلغ من قولنا "شجاع"؟ وهكذا الحُكْم في الاستعارة. هي وإنْ كانت في ظاهر المعاملة من صفةِ اللفظِ وكنَّا نقول: هذه لفظةٌ مستعارةٌ، وقد استُعِيرَ له اسمُ الأسد: فإنَّ مآلَ الأمرِ إلى أنَّ القصْدَ بها إلى المعنى. يدلُّكَ على ذلك أنَّا نقول: (جعَله أسداً وجعَله بدْرا وجعله بحْرا). فلو لم يكنِ القصْد بها إلى المعنى، لم يكنْ لهذا الكلام وَجْهٌ لأنَّ "جعَل" لا تصْلح إلاَّ حيثُ يُراد إثباتُ صفةٍ للشيء كقولِنا: (جعلْتُه أميراً وجعلتُه واحدَ دهره): تُريد: أثْبَتُّ لك ذلك! وحكْمُ "جعَل" إذا تعدَّى إلى مفعولين حكْمُ "صَيَّر". فكما لا تقول: (صيَّرْته أميراً)، إلا على معنى أنك أثبَتَّ له صفة الإمارة، كذلك لا يَصِحُّ أن تقول: (جعلته أسداً) إلا على معنى أنك جعلتَه في معنى الأسد. ولا يقال: (جعلتُه زيداً) بمعنى: سمَّيْتُه زيداً، ولا يقال للرجل: (إجْعَل ابنَك زيداً)، بمعنى: سمِّه زَيْدا، و (وُلِدَ لفلانٍ ابنٌ فَجَعله زيداً). وإنما يَدخُل الغَلطُ في ذلك على من لا يُحصِّل.

فأما قولُه تعالى: {وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمان إِنَاثاً} [الزخرف: 19]، فإنما جاء على الحقيقة التي وصفْتُها، وذاك أنَّ المعنى على أنهم أثْبَتوا للملائكة صفةَ الإناث، واعتقدوا وُجودَها فيهم، وعن هذا الاعتقادِ صدر عنهم ما صدَر من الاسْم، أعني إطلاق اسْمِ البنات؛ وليس المعنى أنهم وضعوا لها لفظَ الإناثِ أو لفظَ البناتِ اسْماً من غير اعتقادِ معنًى وإثباتِ صفةٍ. هذا مُحال لا يقُوله عاقلٌ. أما تَسْمَعُ قولَ الله تعالى: {أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف: 19]. فإنْ كانوا لم يزيدوا على أنْ أجرَوْا الاسْم على الملائكةِ، ولم يَعْتقدوا إثباتَ صفةٍ ومعنىً بإجرائه عليهم، فأيُّ معنىً لأنْ يقال: (أشْهدوا خَلْقَهم)؟ هذا ولو كان لم يَقْصِدوا إثباتَ صفةٍ، ولمْ يزيدوا على أنْ وضَعوا اسْماً، لما استحقُّوا إلاَّ اليسيرَ من الذَّم، ولما كان هذا القولُ منهم كفْراً، والأمرُ في ذلك أظْهَرُ مِنْ أن يَخْفى. وجملةُ الأمر أنه إن قيل: إنَّه ليس في الدنيا عِلْمٌ قد عرَضَ للناس فيه مِن فُحْشٍ الغَلطِ، ومن قَبيل التورُّطِ، ومِنَ الذهاب مع الظنونِ الفاسدةِ، ما عرَضَ لهم في هذا الشأن، ظننْتَ أنْ لا يُخْشَى على من يقوله الكَذِبُ. وهل عجَبٌ أعْجَبُ من قوم عُقَلاء يتْلون قولَ الله تعالى: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هاذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإِسراء: 88]؟ ويؤمنون به ويدينون بأن القرآن معجزٌ، ثُمَّ يَصدُّون بأوجُهِهم عن برهانِ الإعجاز ودليله، وَيَسْلكونَ غيرَ سبيلِه، ولقَدْ جَنوْا لو دَرَوْا ذاك عظيماً.

فصل: كون النظم يتوخى معاني النحو

فصل: كون النظم يتوخَى معاني النحو واعلمْ أنه، وإنْ كانت الصورةُ في الذي أعَدْنا وأبْدأْنا فيه، من أنَّه لا معنى للنظم غيرُ توخِّي معاني النحوِ فيما بين الكَلم، قد بلغَتْ في الوضوح والظهورِ والانكشافِ إلى أقصى الغايةِ، وإلى أنْ تكونَ الزيادَةُ عليه كالتكلُّف لِمَا لا يُحْتاجُ إليه، فإن النفْسَ تنازعُ إلى تتبُّعِ كلِّ ضربٍ من الشبْهَةِ يُرَى أنه يعرضُ للمُسلمِ نفسِه عند اعتراض الشكِّ؛ وإنَّا لنرَى أنَّ في الناس مَنْ إذا رأى أنَّه يجري في القياس وضرب المثل أن تشبّه الكلم في ضمِّ بعضِها إلى بعض بضَمِّ غَزَل الإبْرَيْسم بعضِه إلى بعضٍ، ورأى أنَّ الذي يَنْسِجُ الديباجَ ويَعمَلُ النقْشَ والوشْيَ لا يَصْنَعُ بالإبريسم الذي يَنْسِجُ منه شيئاً غيرَ أنْ يَضُمَّ بعضَه إلى بعضٍ ويتخيَّر للأصباغ المختلفةِ، المواقعَ التي يعلمُ أنه إذا أوْقَعَها فيها، حدثَ له في نَسْجه ما يُريد من النَقْش والصورةِ - جرى في ظنَّه أنَّ حالَ الكلمِ في ضَمِّ بعضِها إلى بعضٍ وفي تخيُّر المواقع لها، حالُ خيوطِ الإبريسم سواءٌ، ورأيَتَ كلامَه كلامَ مَنْ لا يعَلم أنه لا يَكونُ الضمُّ فيها ضمّاً، ولا المَوْقِعُ مَوْقعاً حتى يكونَ قد توخَّى فيها معانيَ النحوِ، وأنك إنْ عمَدْتَ إلى ألفاظ فجعلتَ تُتْبعُ بعضَها بعضاً من غيرْ أنْ تتوخَّى فيها معانيَ النحوِ، لم تكن صنَعْتَ شيئاً تُدْعى به مؤلِّفاً، وتُشَبَّهُ معه بِمَنْ عَمِلَ نَسْجاً أو صنَعَ على الجملةِ صَنيعاً، ولم يُتصوَّر أنْ تكون قد تخيَّرتَ لها المواقعَ. وفسادُ هذا وشَبيهُه من الظنِّ، وإنْ كان معلوماً ظاهراً، فإنَّ ههنا استدلالاً لطيفاً تكثُر بسببه الفائدةُ، أنه يُتصَوَّر أنْ يعمَدَ عامِدٌ إلى نظْم كلامٍ بعينه، فيُزيلَه عن الصورةِ التي أرادَها الناظمُ له، ويُفْسِدَها عليه، من غير أن يُحَوِّلَ منه لفظاً عن موضِعه أو يُبَدِّلَه بغيره، أو يُغيِّر شيئاً من ظاهر أمره على حالٍ، مثالُ ذلك أنَّكَ إنْ قدَّرْتَ في بيت أبي تمام [من الطويل]: لُعَابُ الأفاعي القاتلاتِ، لُعَابُه ... وأَرْيُ الجَنى اشتارَتْه أيْدٍ عواسِلُ

أن "لعابَ الأفاعي" مبتدأٌ و "لعابُه" خبر، كما يُوهِمُه الظاهر، أفسدْتَ عليه كلامَه وأبطلْتَ الصورةَ التي أرادها فيه؛ وذلك أنَّ الغرضَ أنْ يُشَبِّه مِدادَهُ بأرْي الجنى على معنى أنه إذا كتَبَ في العطايا والصِلاتِ، أوصَلَ به إلى النفوس ما تَحْلو مذاقَتُه عندها، وأدْخَل السرور واللذة عليها؛ وهذا المعنى إنما يكونُ إذا كان (لعابُه) مبتدأ و (لعابُ الأفاعي) خبراً. فأمَّا تقديرُك أن يكون "لعابُ الأفاعي" مبتدأ و "لعابُه" خبراً، فيُبْطِل ذلك ويَمْنَع منه البتة، ويَخْرجُ بالكلام إلى ما لا يجوز أن يكونَ مُراداً في مثل غَرَض أبي تمام، وهو أنْ يكون أرادَ أن يُشَبِّه لعابَ الأفاعي بالمِداد، ويشبِّه كذلك الأرْيَ به. فلو كان حالُ الكلم في ضمِّ بعضها إلى بعضٍ، كحالِ غَزْل الإبرَيْسَم، لكانَ ينْبغي أن لا تتغيَّر الصورةُ الحاصلةُ من نَظْمِ كلمٍ حتى تُزالَ عن مواقِعها؛ كما لا تتغير الصورةُ الحادِثةُ عن ضَمِّ غزْلِ الإبريسم بعضِه إلى بعضٍ حتى تُزال الخيوطُ عن مواضِعها. واعلمْ أنَّه لا يَجوزُ أن يكونَ سبيلُ قوله: (لعابُ الأفاعي القاتلاتِ لعابُه). سبيلَ قولِهم: (عتابك السيفُ)؛ وذلك أن المعنى في بيت أبي تمام على أنك تُشَبِّهُ شيئاً بشيء، لِجامعٍ بينهما في وصفٍ وليس المعنى في: (عتابُكَ السيفُ): على أنك تُشَبِّه عتابَه بالسيف، ولكنْ على أنْ تَزْعُم أنه يَجْعَلُ السيفَ بدلاً من العتاب. أفلا تَرَى أنه يصحُّ أنْ تقولَ: (مدادُ قلمِه قاتلٌ كسمِّ الأفاعي)، ولا يَصِحُّ أن تقولَ: (عتابك كالسيف)، اللَّهمَّ إلاَّ أنْ تَخْرجَ إلى بابٍ آخرَ، وشيءٍ ليس هو غرضَهم بهذا الكلام، فتُريد أنه قد عاتَب عتاباً خَشِناً مؤلماً. ثم إنك إنْ قلتَ: (السيفُ عتابُك): خرجْتَ به إلى معنى ثالثٍ وهو أن تزْعُم أنَّ عتابَه قد بلغَ في إيلامه وشدةِ تأثيرهِ مبلغاً صارَ له السيفُ كأنه ليس بسيفٍ.

واعلمْ أنه إنْ نظَر ناظرٌ في شأن المعاني والألفاظ إلى حالِ السامع، فإذا رأي المعانيَ تقع في نفْسِه من بَعْد وقوعِ الألفاظِ في سَمْعِه، ظنَّ لذلك أنَّ المعانيَ تِبْعٌ للألفاظِ في ترتيبها. فإنَّ هذا الذي بيَّنَّاهُ يُريه فسادَ هذا الظنِّ. وذلك أنه لو كانتْ المعاني تكونُ تِبْعاً للألفاظ في ترتيبها، لكان مُحالاً أن تتغيَّر المعاني والألفاظُ بحالها لم تَزُلْ عن تَرْتيبها. فلمَّا رأينا المعانيَ قد جازَ فيها التغيُّر مِن غَيْر أنْ تتغيَّرَ الألفاظُ وتزولَ عن أماكِنِها، عَلِمْنا أنَّ الألفاظَ هي التابعةُ والمعاني هي المتبوعةُ. واعلمْ أنه ليس مِن كلام يعمد واضِعُه فيه إلى معرِفَتَيْنِ فيجعلُهما مبتدأً وخبراً، ثم يقدِّمُ الذي هو الخبرُ، إلاَّ أشكلَ الأمرُ عليكَ فيه، فلَمْ تَعْلَمْ أنَّ المقدَّمَ خبرٌ، حتى ترجِعَ إلى المعنى وتُحْسِن التدبُّرَ. أنشد الشيخ أبو علي في التذكرة [من الخفيف]: نَمْ وإن لم أنَمْ كرايَ كَراكا ثم قال: ينبغي أن يكون "كرايَ" خبراً مقدَّماً، ويكون الأصْلُ "كراكَ كرايَ" أي: نَمْ لم أَنَمْ فنومُكَ نومي، كما تقول: (قُمْ، وإنْ جلسَتَ فقيامُكَ قيامي). هذا هو عُرْفُ الاستعمال في نحوه. (ثم قال) وإذا كان كذلك فقد قُدِّم الخبرُ وهو معرفةٌ وهو يُنْوى به التأخيرُ من حيث كان خَبَراً، (قال) فهو كبيتِ الحماسة [من الطويل]: بَنُونا بَنُو أبنائِنا وبَنَاتُنا ... بَنوهُنَّ أبناءُ الرجالِ الأَباعدِ فقدَّمَ خبرَ المبتدأ وهو معرفةٌ. وإنما دلَّ على أنه ينوي التأخير، المعنى. ولولا ذلك لكانتِ المعرفةُ إذا قُدّمتْ، هي المبتدأ - لتقدُّمها، فافهم ذلك: - هذا كلُّه لفظُه.

واعلمْ أنَّ الفائدةَ تَعْظُم في هذا الضربِ من الكلامِ، إذا أنتَ أحسنْتَ النظَرَ فيما ذكرتُ لك من أنكَ تستَطيعُ أنْ تَنقُلَ الكلامَ في معناه عن صورةٍ إلى صورةٍ، مِنْ غيْر أنْ تُغيِّر من لفظِه شيئاً، وتُحوِّل كلمةً عن مكانها إلى مكانٍ آخر وهو الذي وَسَّعَ مجالَ التأويلِ والتفسيرِ، حتى صاروا يتأوَّلونَ في الكلام الواحدِ تأويلَيْنِ أوْ أكثر، ويُفَسِّرون البيتَ الواحدَ عدَّةَ تفاسيرَ. وهو على ذاك الطريقُ المزلَّةُ الذي ورَّط كثيراً من الناس في الهَلَكة؛ وهو مما يَعْلم به العاقلُ شدَّةَ الحاجةِ إلى هذا العِلْم وينْكشِفُ معه عُوَارُ الجاهل به، ويُفتضَحُ عنده المُظْهِرُ الغِنى عنه. ذاك لأنه قد يَدْفع إلى الشيء لا يَصحُّ إلاَّ بتقدير غَير ما يُريه الظاهرُ، ثم لا يكونُ له سبيلٌ إلى معرفةِ ذلك التقديرِ إذا كان جاهلاً بهذا العلم، فيتسكَّع عند ذلك في العمى، ويقع في الضلال. مثالُ ذلك أنَّ مَنْ نظَر إلى قوله تعالى: {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمان أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى} [الإِسراء: 110]؛ ثم لم يَعْلمْ أنْ ليسَ المعنى في (ادعوا) الدعاءَ، ولكن الذكْرَ بالاسمِ، كقولك: (هو يُدْعَى زيداً ويدعى الأمير): وأنَّ في الكلام محذوفاً، وأنَّ التقدير: (قل ادعوهُ الله أو ادعوهُ الرحمن أيَّاً ما تدْعوا فلهُ الأسماءُ الحسنى)، كان بعُرْضِ أنْ يقعَ في الشركِ من حيثُ إنه إنْ جرى في خاطره أنَّ الكلامَ على ظاهره، خرجَ ذلك به، والعياذُ باللهِ تعالى، إلى إثبات مَدْعُوَّيْنَ، تعالى اللهُ عن أنْ يكونَ له شريكٌ. وذلك مِن حيثُ كان مُحالاً أن تَعْمِدَ إلى اسمَيْن كلاهما اسمُ شيءٍ واحدٍ فتعطِفَ أحدَهما على الآخَر فتقولَ مثلاً: (اُدْعُ لي زيداً أو الأمير) - والأميرُ هو زيدٌ - وكذلك محالٌ أنْ تقول: "أيّاً ما تَدْعو"، وليس هناك إلاَّ مَدْعوٌّ واحدٌ لأن مِنْ شأن (أي) أنْ تكونَ أبداً واحداً من اثنين أو جماعةٍ ومِن ثَمَّ لم يكن له بدٌّ من الإضافةِ إما لفظاً وإما تقديراً.

وهناك بابٌ واسعٌ ومِن المُشْكِلِ فيه قراءةُ مَن قرأ {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله} [التوبة: 30] (بغير تنوينٍ) وذلك أنهم قد حملوها على وجْهَين: أحدُهما أنْ يكون القارئ له أرادَ التنوينَ ثم حذفَه لالْتقاءِ الساكنَيْن ولم يحرِّكْهُ كقراءةِ مَنْ قرأ {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ * الله الصمد} [الإخلاص: 1ـ2] (بترك التنوين) مِنْ (أحَد). وكما حُكيَ عن عمارةَ بن عَقيل أنه قرأ {وَلاَ الليل سَابِقُ النهار} [يس: 40] (بالنْصب) فقيل له: ما تُريد؟ فقال: أريد: سابقٌ النهارَ: قيل: فهلاَّ قلْتَه؟ فقال: فلو قلْتُه لكان أوزن. وكما جاء في الشعر من قوله [من المتقارب]: فأَلْفَيْتُهُ غيرَ مستعتِبٍ ... ولاَ ذاكِرَ اللهَ إلاَّ قليلا إلى نظائرِ ذلك. فيكونُ المعنى في هذه القراءةِ مثْلَه في القراءة الأُخرى سواء. والوجهُ الثاني أنْ يكونَ الابنُ صفةً، ويكونَ التنوينُ قد سقَط على حدِّ سقوطِهِ في قولنا: (جاءَني زيدُ بنُ عمروٍ)، ويكون في الكلام محذوفٌ ثم اختَلَفوا في المحذوف. فمنهم من جعله مبتدأً فقدَّرَ "وقالتِ اليهودُ هو عُزَيرُ ابنُ الله" ومنهم من جَعَلَه خبراً فقدَّر "وقالتِ اليهودُ عزيرُ ابنُ اللهِ معبودُنا". وفي هذا أمرٌ عظيم، وذلك أنك إذا حكَيْتَ عن قائلٍ كلاماً أنتَ تُريد أن تُكَذِّبه فيه، فإنَّ التكذيبَ ينصرفُ إلى ما كان فيه خبراً دون ما كان صفةً. تفسيرُ هذا أَنَّك إذا حكيتَ عن إنسانٍ أنه قال: (زيدُ بنُ عمروٍ سيِّدٌ)، ثم كذَّبْتَه فيه، لم تكُنْ قد أنكرْتَ بذلك أن يكون زيدَ بْنَ عمروٍ، ولكنْ أنْ يكون سيِّداً. وكذلك إذا قال: (زيد الفقيهُ قد قَدِم) فقلتَ له: كَذَبْتَ أو غَلِطْتَ، لم تَكُن قد أنكرْتَ أن يكونَ زيدٌ فقيهاً، ولكنْ أن يكون قد قَدِم، هذا ما لا شُبهةَ فيه. وذلك أنك إذا كذَّبْتَ قائلاًَ في كلامٍ أو صدَّقْته، فإنما يَنْصرِف التكذيبُ منك والتصديق، إلى إثباته ونَفْيه.

والإثباتُ والنفيُ يتناولان الخبرَ دون الصفةِ. يدلُّكَ على ذلك أنَّكَ تَجِدُ الصفة ثابتةً في حالِ النفي كثُبوتها في حالِ الإثبات. فإذا قلتَ: (ما جاءني زيدٌ الظريفُ): كانَ الظَّرْفُ ثابتاً لزيدٍ كثبوته إذا قلتَ: (جاءني زيدٌ الظريفُ): وذلك أنْ ليس ثُبوتُ الصفةِ لِلذي هي صفةٌ له بالمتكلِّم وبإثباته لها فتنتفي بنَفْيه، وإنما ثُبوتُها بنفسها. ويتقرَّرُ الوجودُ فيها عند المخاطَب مثلَه عند المتكلِّم، لأنه إذا وقعتِ الحاجةُ في العلم إلى الصفةِ، كان الاحتياجُ إليها من أجْل خِيفةِ اللَّبْس على المخاطَبِ. تفسير ذلك أنكَ إذا قلتَ (جاءني زيدٌ الظريفُ) فإنك إنما تحتاج إلى أنْ تصِفَه بالظريف، إذا كان فيمن يجيء إليكَ واحدٌ آخرُ يُسمَّى زيداً. فأنتَ تخشى إن قلْتَ: (جاءني زيدٌ) ولم تَقُل (الظريفُ) أن يَلْتَبِس على المخاطَبِ فلا يَدْرِي: أهذا عنيتَ أم ذاك؟ وإذا كان الغرضُ من ذكْرِ الصفة إزالةَ اللَّبس والتبيين، كان مُحالاً أن تكونَ غيرَ معلومةٍ عند المخاطَب، وغيرَ ثابتةٍ، لأنه يؤدي إلى أن تَرُومَ تبيينَاً لشيء للمخاطَب، بوصفٍ هو لا يَعلَمُه في ذلك الشيء. وذلكَ ما لا غايةَ وراءه في الفساد. وإذا كان الأمرُ كذلك، كان جعْلُ الابنِ صفةً في الآية مؤدياً إلى الأمْرِ العظيم، وهو إخراجه عن موضعِ النفي والإنكارِ، إلى موضع الثبوت والاستقرار، جلَّ الله وتعالى عن شَبَهِ المخلوقين، وعن جَميع ما يقولُ الظالمونَ، علوّاً كبيراً.

فإن قيل: إنَّ هذه قراءةٌ معروفةٌ، والقولُ بجواز الوصفيَّةِ في (الابن) كذلك معروفٌ ومدوَّنٌ في الكتب؛ وذلك يَقْتضي أن يكونوا قد عرَفوا في الآية تأويلاً يَدخُل به (الابْن) في الإنكار مع تقدير الوصفيَّة فيه، قيل: إنَّ القراءةَ كما ذكرتُ، معروفةٌ، والقولُ بجَواز أن يكون (الابْنُ) صفةً، مثْبَتٌ مسطورٌ في الكتب كما قلتُ: ولكنَّ الأصلَ الذي قدَّمناه منْ أنَّ الإنكار إذا لَحِقَ، لَحِقَ الخبرَ دون الصفة، ليس بالشيءِ الذي يَعْترضُ فيه شكٌّ أو تتسلَّطُ فيه شبْهَةٌ. فليس يَتَّجه أن يكون (الابنُ) صفةً، ثم يَلْحقُهُ الإنكارُ مع ذلك، إلاَّ على تأويلٍ غامضٍ، وهو أن يقال: إن الغرضَ: الدلالةُ على أنَّ اليهودَ قد كان بلغَ من جَهْلهم ورُسوخِهم في هذا الشِّرْكِ، أنهم كانوا يَذْكُرون عُزيراً هذا الذكْرَ، كما تقول في قوم، تريد أن تصفَهم بأنهم قد استُهلِكوا في أمرِ صاحبِهم، وغَلَوْا في تعظيمه: (إني أراهُمْ قد اعتقَدوا أمْراً عظيماً). فهم يقولون أبداً، زيدٌ الأميرُ. تريد أنه كذلك يكون ذكْرُهُم إذا ذكَروهُ، إلاَّ أنَّه إنما يستقيمُ هذا التأويلُ فيه إذ أنتَ لم تقدِّر له خبَراً معيناً ولكنْ تريدُ أنهم كانوا لا يُخْبرون عنه بِخبرٍ إلاَّ كانَ ذكْرُهُمْ له هكذا.

ومما هو من هذا الذي نحنُ فيه، قولُه تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتهوا خَيْراً لَّكُمْ} [النساء: 171]. وذلك أنهم قد ذَهبوا في رفْع "ثلاثة" إلى أنها خبرُ مبتدأ محذوفٍ. وقالوا: إنَّ التقديرَ "ولا تقولوا آلهتُنا ثلاثةٌ". وليس ذلك بمستقيمٍ، وذلك أنَّا إذا قلْنا: (ولا تقولوا آلهتُنا ثلاثة): كان ذلك، والعياذُ بالله شبْهَ الإثباتِ أنَّ ههنا آلهةً من حيثُ إنَّكَ إذا نفيْتَ، فإنما تَنفي المعنى المستفادَ من الخَبر عن المبتدأ، ولا تنفي معنى المبتدأ. فإذا قلتَ: (ما زيدٌ منطلقاً)، كنتَ نفيْتَ الانطلاقَ الذي هو معنى الخبرِ عن زيد، ولم تَنْفِ معنى (زيد) ولم تُوجِبْ عدَمَه. وإذا كان ذلك، فإذا قُلْنَا (ولا تقولوا آلهتُنا ثلاثةٌ) كنَّا قد نفَيْنا أن تكونَ عِدَّةُ الآلهة ثلاثةً ولم نَنْفِ أن تكونَ آلهةً - جلَّ الله تعالى عن الشريكِ والنظيرِ - كما أنك إذا قلتَ: (ليس أُمراؤنا ثلاثةً): كنتَ قد نفَيْتَ أن تكون عِدَّةُ الأمراءِ ثلاثةً، ولم تَنْفِ أن يكون لكُمْ أمراءُ؛ هذا ما لا شبْهةَ فيه. وإذا أدَّى هذا التقديرُ إلى هذا الفسادِ، وَجَبَ أنْ يَعْدِل عنه إلى غيره. والوجهُ - واللهُ أعلمُ - أن تكون (ثلاثة) صفةَ مبتدإٍ ويكونَ التقديرُ: (ولا تقولوا لنا آلهة ثلاثة أو في الوجود آلهة ثلاثة) ثم حُذِفَ الخبرُ الذي هو لنا أو في الوجود، كما حُذِفَ من (لا إله إلاَّ الله) و (ما مِنْ إله إلاَّ اللهُ) فبقي: (ولا تقولوا: آلهةٌ ثلاثةٌ) ثم حُذِف الموصوفُ الذي هو "آلهة" فبقي (ولا تقولوا ثلاثةٌ). وليس في حذْف ما قدَّرْنا حذْفَه ما يتوقّفُ في صحَّته. أما حذفُ الخبر الذي قلْنا إنه (لنا) أو (في الوجود) فمطَّردٌ في كل ما معناه التوحيدُ، ونفيّ أن يكون معَ الله - تعالى عن ذلك - إلهٌ.

وأما حذْفُ الموصوفِ بالعدد، فكذلك شائعٌ، وذلك أَنه كما يَسوغُ أن تقول: (عندي ثلاثة)، وأنتَ تريد: ثلاثةَ أثوابٍ، ثم تَحذفُ لعِلْمكَ أنَّ السامعَ يَعْلمُ ما تُريد، كذلك يسَوغُ أنْ تَقولَ: (عندي ثلاثةٌ)؛ وأنت تُريد (أثوابٌ ثلاثة) لأنه لا فَصْلَ بين أن تَجْعَل المقصودَ بالعددِ مميَّزاً، وبين أنْ تَجعلَهُ موصوفاً بالعدد، في أَنه يَحْسُنُ حذْفُه إِذا عُلِمَ المرادُ. ويُبيِّنُ ذلك أنكَ تَرى المقصودَ بالعددِ قد تُرِكَ ذكرُهُ، ثم لا تستطيعُ أن تُقدِّرَه إِلا موصوفاً، وذلك في قولك: (عندي اثنان وعندي واحد). يكونُ المحذوفُ ههنا موصوفاً لا محالةَ، نحو: (عندي رجلانِ اثنانِ وعندي درهمٌ واحد). ولا يكونُ مميَّزاً البتةَ من حيث كانوا قدْ رَفضوا إضافةَ الواحدِ والاثنينِ إلى الجِنْس، فتركوا أن يقولوا: (واحدُ رجالٍ واثنانِ رجال) على حدِّ "ثلاثةُ رجالٍ" ولذلك كان قولُ الشاعر: ظَرْفُ عجوزٍ فيه ثِنْتَا حَنْظَلِ شاذّاً. هذا ولا يَمتنِعُ أنْ تَجْعلَ المحذوفَ من الآية في موضع التمييز، دون موضعِ الموصوفِ، فتجعلَ التقديرَ "ولا تقولوا ثلاثة آلهة"، ثم يكونُ الحكْمُ في الخبر على ما مضى، ويكون المعنى، واللهُ أَعلمُ "ولا تقولوا لنا أو في الوجود ثلاثةُ آلهة".

فإنْ قلتَ: فلِمَ صار لا يَلْزمُ على هذا التقديرِ ما لَزِمَ عَلَى قولِ مَنْ قدَّر "ولا تَقولوا آلهتنا ثلاثةٌ"؟ فذاكَ لأنَّا إذا جعَلْنا التقديرَ: ولا تقولوا لنا أو في الوجود آلهةٌ ثلاثةٌ أو ثلاثةُ آلهةٍ، كنَّا قد نَفَيْنا الوجودَ عن الآلهةِ كما نفَيْناه في "لا إله إلا الله، وما مِنْ اله إلاَّ الله". وإذا زعَموا أنَّ التقديرَ "ولا تقولوا آلهتُنا ثلاثةٌ" كانوا قد نَفَوْا أَنْ تكونَ عِدَّةُ الآلهةِ ثلاثةً، ولم يَنْفُوا وُجودَ الآلهة. فإنْ قيل: فإنَّه يَلزَمُ على تقديركَ الفسادُ من وجْهٍ آخرَ، وذاكَ أنه يَجوزُ إذا قلتَ "ليس لنا أمراءُ ثلاثةٌ" أنْ يكونَ المعنى: (ليس لنا أمراءُ ثلاثةٌ ولكنْ لنا أميرانِ اثنانِ) وإذا كان كذلكَ، كان تقديرُكَ وتقديرُهُمْ جميعاً، خطأً. قيل إنَّ ههنا أمراً قد أغْفَلْتَه، وهو أنَّ قولَهم: آلهتُنا: يُوجِبُ ثُبوتَ آلهةٍ، جلَّ اللهُ وتعالى عَمَّا يقولُ الظالمونَ عُلوًّا كبيراً. وقولُنا: (ليس لنا آلهةٌ ثلاثةٌ)، لا يُوجبُ ثبوتَ اثنينِ البتةَ. فإنْ قلتَ: إن كان لا يُوجبُه، فإنَّه لا يَنْفِيه، قيل: يَنْفيهِ ما بَعْدَهُ مِنْ قولِه تعالى: {إِنَّمَا الله إلاه وَاحِدٌ} [النساء: 171].

فإنْ قيلَ: فإنَّه كما يَنْفي الإلهَيْن، كذلك ينفي الآلهةَ؛ وإذا كان كذلك وجَبَ أنْ يكونَ تقديرُهم صحيحاً، كتقديركَ: قيل هو كما قلتَ: ينفي الآلهةَ. ولكنَّهم إذا زَعموا أنَّ التقديرَ "ولا تقولوا آلهتُنا ثلاثةٌ" وكان ذلك، والعياذُ باللهِ من الشِّرْك، يَقْتضي إثباتَ آلهةٍ كانوا قد دفَعوا هذا النفيَ وخالفُوه وأَخْرجُوه إلى المناقَضَة. فإذا كان كذلك، كان مُحالاً أن يكونَ للصحة سبيلٌ إلى ما قالوه، وليس كذلك الحالُ فيما قدَّرْناه، لأنَّا لم نُقَدِّرْ شيئاً يقتضي إثباتَ إلهيَنْ - تعالَى اللهُ - حتى يكونَ حالُنا حالَ مَنْ يَدفَعُ ما يُوجِبُه هذا الكلامُ من نَفْيهِما. يُبيِّنُ لك ذلِكَ أَنه يَصِحُّ لنا أَنْ نَتَّبعَ ما قدَّرناه نفْي الاثنينِ ولا يَصِحُّ لهم. تفسيرُ ذلك أنَّه يصِحُّ أن تقولَ: (ولا تَقولوا لنا آلهةٌ ثلاثةٌ ولا إلهان)؛ لأنَّ ذلك يَجْري مَجرْى أَنْ تقولَ: (ليس لنا آلهةٌ ثلاثةٌ ولا إلهان). هذا صحيح. ولا يصِحُّ لهم أَنْ يقولوا: (ولا تقولوا آلهتُنا ثلاثةٌ ولا إلهانِ)، لأنَّ ذلك يجري مجرى أنّ يقولوا: (ولا تقولوا آلهتُنا إلهَانِ): وذلك فاسدٌ فاعرفْه وأَحْسِنْ تأمُّلَهُ! ثم إنَّ ههنا طريقاً آخَرَ وهو أَنْ تُقَدِّر: (ولا تقولوا اللهُ والمسيحُ وأُمُّه ثلاثةٌ) أي نَعْبدُهما كما نَعبدُ اللهَ. يُبيِّنُ ذلك قولُه تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} [المائدة: 74]. وقد استقرَّ في العُرْفِ أنَّهم إذا أرادوا إلحاقَ اثنينِ بواحدٍ في وصفٍ منَ الأوصافِ، وأنْ يَجْعلوهُما شَبيهَيْن له، قالوا: هُمْ ثلاثةٌ: كما يقولونَ، إذا أرادوا إلحاقَ واحدٍ بآخرَ وجَعْلَه في معناه: هما اثنانِ. وعلى هذا السبيل كأنَّهم يقولون: هُم يُعَدُّونَ معَداً واحداً ويُوجِبُ لهم التساويَ والتشارُكَ في الصفةِ والرتبةِ وما شاكَل ذلكَ.

واعلمْ أنه لا معنى لأن يقالَ: إنَّ القولَ حكايةٌ وإنَّه إذا كان حكايةً، لم يلزَمْ منه إثبات الآلهةِ، لأنه يَجْري مَجْرى أنْ تقولَ: (إنَّ مِنْ دين الكفَّارِ أنْ يقولوا: الآلهةُ ثلاثةٌ): وذلك لأنَّ الخطابَ في الآية للنصارى أَنفسِهم. أَلا تَرى إلى قوله تعالى {ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتهوا خَيْراً لَّكُمْ} [النساء: 171]. وإذا كان الخطابُ للنصارى، كان تقديرُ الحكايةِ مُحالاً. فـ (لا تَقولوا) إذنْ، في معنى: (لا تعْتَقِدوا). وإذا كان في معنى الاعتقادِ، لَزِمَ إذا قدَّرَ (ولا تقولوا آلهتُنا ثلاثةٌ) ما قُلْنا إنَّه يَلْزمُ مِن إثباتِ الآلهةِ، وذلك لأن الاعتقادَ يَتعلَّق بالخبر لا بالمُخْبَرِ عَنْه. فإذا قلتَ: لا تعتقدْ أنَّ الأمراءَ ثلاثةٌ: كنتَ نهَيْتَه عن أنْ يعتقدَ كونَ الأُمراءِ على هذه العِدَّة، لا عنْ أَنْ يَعْتَقِدَ أنَّ ههنا أُمراءَ، هذا ما لا يَشُكُّ فيه عاقلٌ؛ وإنما يكونُ النهْيُ عن ذلك إذا قلتَ: لا تَعْتقِدْ أَنَّ ههنا أُمراءَ. لأنَّك حينئذٍ تَصيرُ كأنَّك قلَْتَ: لا تعتقِدْ وجودَ أمراءَ. هذا ولو كان الخطابُ مع المؤمنينَ، لكانَ تَقديرُ الحكايةِ لا يَصِحُّ أيضاً. ذاكَ لأنه لا يجوزُ أنْ يُقالَ: إنَّ المؤمنينَ نُهُوا عن أنْ يَحْكُوا عن النصارى مقالَتَهم ويُخْبروا عنْهم بأنهم يقولون: كَيْتَ وكيْتَ: كيفَ وقد قال اللهُ تعالى: {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله} [التوبة: 30]. ومِنْ أين يَصِحُّ النهْيُ عن حكايةِ قولِ المُبْطِل، وفي تَرْك حكايتهِ تركٌ له وكفره وامتناعٌ من النعْي عليه والإنكارِ لِقَوْلِه والاحتجاج عليه، وإقامةِ الدليل على بُطْلانه، لأنه لا سبيلَ إلى شيءٍ من ذلك إلاَّ مِنْ بَعْدِ حكايةِ القولِ والإفصاح به، فاعرفْهُ!

تحرير القول في الإعجاز والفصاحة والبلاغة

تحرير القول في الإعجاز والفصاحة والبلاغة الإعجاز بنظم الكلام لا بالكلم المفردة ثم إنَّ هذا الوصفَ ينبغي أنْ يكونَ وصْفاً قد تجدَّد بالقرآن، وأمراً لم يُوجَدْ في غيره ولم يُعْرف قبل نزولِه. وإذا كان كذلك، فقد وَجَب أنْ يُعْلَم أَنه لا يجوزُ أن يكونَ في الكَلم المفردةِ، لأَن تقديرَ كونِه فيها يؤدِّي إلى المُحال، وهو أن تكونَ الألفاظُ المفردةُ، التي هي أوضاعُ اللغة، وقد حدثَ في حذاقة حروفِها وأصدائها، أوصافٌ لم تكُنْ لتكونَ تلك الأوصافُ فيها قبلَ نزولِ القرآن، وتكونَ قد اختُصَّتْ في أَنفُسها بهيئاتٍ وصفاتٍ يَسمعُها السامعون عليها إذا كانت متلوَّة في القرآن، لا يَجدونَ لها تلكَ الهيئاتِ والصفاتِ خارِجَ القرآنِ؛ ولا يجوزُ أن تكونَ في معاني الكَلمِ المفردةِ التي هي لها بوَضْع اللغة، لأنه يؤدي إلى أن يكونَ قد تَجدَّد في معنى الحَمْدِ، والرَّبِّ، ومعنى العالَمين، والمُلْك، واليومِ، والدِّين، وهكذا؛ وصْفُ لم يكُنْ قَبْل نزولِ القرآن. وهذا ما لَوْ كان ههنا شيءٌ أَبَعدُ من المُحال وأشنَعُ، لكان إيَّاهُ.

ونعود إلى النَّسَق، فنقول: فإذا بطَلَ أن يكون الوصفُ الذي أَعجزَهُم من القرآن شيء ممَّا عددناه، لم يَبْقَ إلاَّ أن يكونَ الاستعارة. ولا يمكنُ أنْ تُجْعَلَ الاستعارةُ، الأَصْلَ في الإعجاز وأن يُقْصَدَ إليها، لأنَّ ذلك يؤدي إلى أَن يكونَ الإعجاز في آي معدودةٍ، في مواضعَ مِن السورِ الطِّوالِ مخصوصةٍ. وإذا امتنعَ ذلكَ فيها، لم يبْقَ إلاَّ أَن يكونَ في النظْمِ والتأليفِ، لأنه ليس مِنْ بَعْدِ ما أَبطَلْنا أن يكون فيه إلاَّ النظْمُ. وإذا ثبتَ أنَّه في النظَمِ والتأليفِ، وكنَّا قد عَلِمْنا أنْ ليسَ النظمُ شيئاً غير توخِّي معاني النحو وأحكامه فيمَا بين الكَلِم، وأَنَّا إنْ بَقِينا الدهرَ نَجْهدُ أفكارَنا حتى نَعْلَم للكلِمِ المفردةِ سِلْكاً يَنْظِمُها، وجامعاً يَجْمعُ شمْلَها، ويؤلِّفها ويَجْعل بعضَها بسبَبٍ مِنْ بعض، غيرَ توخِّي معاني النحو وأحكامهِ فيها - طَلَبنا ما كلُّ مُحالٍ دُونَه. فقد بان وظهَرَ أنَّ المتعاطيَ القَوْلَ في النظم، والزاعمَ أَن يحاول بيانَ المزيةِ فيه، وهو لا يَعْرِض فيما يُعيدُه ويُبديهِ للقوانين والأصول التي قدَّمْنا ذِكْرَها، ولا يَسْلك إليه المَسالِكَ التي نَهَجْناها، في عمياء من أمره، وفي غرورٍ من نفسه، وفي خِداعٍ من الأماني والأضاليلِ. ذاك لأنَّه إذا كان لا يكونُ النظمُ شيئاً غيرَ توخِّي معاني النحو وأَحكامهِ فيما بَيْن الكَلِمِ، كان مِن أَعجْب العَجَبِ أَنْ يزَعُمَ زاعمٌ أَنه يَطْلبُ المزيَّةَ في النَّظْم ثم لا يَطْلبُها في معاني النحو وأحكامه التي النظْمُ عبارةٌ عن توخِّيها فيما بَيْن الكَلِم.

فإنْ قيل: قولُكَ (إلاَّ النظم)، يقتضي إخراجَ ما في القرآن مِن الاستعارةِ وضروبِ المجازِ من جملة ما هو به مُعْجِزٌ، وذلك ما لا مَساغَ له: قيلَ: ليس الأمرُ كما ظننْتَ، بل ذلك يقتضي دُخولَ الاستعارةِ ونَظائرِها فيما هو بهِ مُعْجزٌ؛ وذلك لأنَّ هذه المعانيَ التي هي الاستعارةُ، والكنايةُ، والتمثيلُ، وسائرُ ضُروبِ المجاز مِن بَعْدِها، من مُقْتَضياتِ النظْم، وعنها يَحْدُثُ وبها يكونُ، لأنه لا يُتصوَّر أن يَدخُلَ شيء منها في الكَلِم، وهي أفرادٌ لم يُتَوخَّ فيما بينَها حكْمٌ من أحكام النحو. فلا يُتَصَّورُ أن يكونَ ههنا فعلٌ أو اسمٌ قد دَخلَتْهُ الاستعارةُ مِن دون أنْ يكونَ قد أُلِّفَ مع غيره. أفلا تَرى أَنه إن قدَّر في (اشتعلَ) من قوله تعالى: {واشتعل الرأس شَيْباً} [مريم: 4]، أن لا يكون (الرأسُ) فاعلاً له، ويكونَ (شيباً) منصوباً عنه عَلَى التمييز، لم يُتصوَّرْ أن يكونَ مستعاراً وهكذا السبيلُ في نظائرِ الاستعارةِ فاعرفْ ذلك!

واعلمْ أَن السببَ في أنْ لم يَقعِ النظَرُ منهم مَوْقِعَه، أَنهم حينَ قالوا (نطْلب المزية) ظَنّوا أَنَّ مواضعَها اللفظُ، بناءً على أنَّ النظْمَ نظْمُ الألفاظِ، وأنه يَلْحقُها دونَ المعاني. وحين ظَنُّوا أنَّ موضِعَها ذلك، واعتقدُوه، وقَفوا على اللفظِ وجعَلوا لا يَرْمون بأَوهامِهم إلى شيءٍ سِواهُ. إلاَّ أَنهمْ على ذاكَ. لم يَسْتطيعوا أن ينطِقوا في تصحيح هذا الذي ظَنّوه بحَرْف، بل لم يتكلَّموا بشيءٍ إلاَّ كان ذلك نَقْضاً وإبِطالاً لأنْ يكونَ اللفظُ مِنْ حيَثُ هو لفظٌ، مَوْضعاً للمزيَّةِ؛ وإلا رأيتَهم قد اعتَرفُوا من حيثُ لم يَدرُوا، بِأنْ ليس لِلْمزيةِ التي طلَبوها موضِعٌ ومكانٌ تكونُ فيه، إلاَّ معاني النحوِ وأحكامِه. وذلك أنهم قالوا: إن الفصاحةَ لا تَظْهرُ في أفرادِ الكلماتِ، وإنما تَظْهرُ بالضمِّ على طريقةٍ مخصوصةٍ. فقولُهم (بالضم) لا يَصِحُّ أن يُرادَ به النطقُ باللفظةِ بعْدَ اللفظةِ، مِنْ غيرِ اتصالٍ يكونُ بين معْنَيَيْهِما، لأنه لو جازَ أنْ يكونَ لِمجرَّدِ ضَم اللفظِ إلى اللفظِ تأثيرٌ في الفصاحة، لكان يَنبغي إذا قيل "ضَحِكَ خَرَجَ"، أنْ يَحْدُثَ مِن ضَمِّ (خرجَ) إلى (ضحكَ) فصاحةٌ؛ وإذا بطَل ذلك، لم يَبْقَ إلا أنْ يكونَ المعنى في ضمِّ الكلمةِ إلى الكلمةِ توَخِّيَ معنًى من معاني النحو فيما بينَهُما. وقولُهم: (على طريقة مخصوصة): يُوجِبُ ذلك أيضاً؛ وذلك أَنه لا يكونُ للطريقة - إذا أنتَ أردْتَ مجرَّدَ اللفظِ - معنى. وهذا سبيلُ كلِّ ما قالوه إذا أنتَ تأمَّلتَهُ، تَراهُمْ في الجميع، قد دفَعوا إلى جَعْل المزية في معاني النحو وأحكامه، مِنْ حيثُ لم يَشْعروا؛ ذلك لأنه أَمرٌ ضروريٌّ لا يُمكِنُ الخروجُ منه.

التحدي بالقرآن ليس بكلمة ولا قواطعه وفواصله

التحدي بالقرآن ليس بكلمة ولا قواطعه وفواصله ولا يجوزُ أَن يكون هَذا الوصفُ في تركيب الحَركاتِ والسَّكَناتِ. حتى كأَنهم تُحُدُّوا إلى أن يأتوا بكلاَمٍ تَكونُ كلماتُه على توَاليها في زِنَةِ كلماتِ القرآنِ، وحتى كأنَّ الذي بانَ به القرآنُ مِن الوَصْف، في سبيلِ بَيْنُونَة بِحُور الشِّعْر بعضِها مِنْ بَعضٍ، لأنه يَخْرجُ إلى ما تعاطاهُ مُسَيْلمة من الحمامة في: (إنا أعطيناكَ الجماهر، فَصَل لِربِّك وجاهِرْ، - والطاحنات طحناً ... ). وكذلك الحكْمُ إنْ زَعم زِاعمٌ أنَّ الوصْفَ الذي تُحُدُّوا إليه، هو أَن يَأْتوا بكلامٍ يَجعلونَ له مَقاطعَ وفواصلَ، كالذي تَراهُ في القرآن. لأنه أيضاً ليس بأكثرَ مِن التعويل على مراعاة وزْنٍ، وإنَّما الفواصلُ في الآي كالقوافي في الشِّعر. وقد عَلِمْنا اقتدارَهم على القوافي كيف هو. فلَوْ لم يكنِ التحدِّي إلا إلى فُصولٍ من الكلامِ يكونُ لها أواخرُ أشباهِ القوافي، لم يُعْوِزْهُم ذلك ولم يتعذَّرْ عليهم. وقد خُيِّل إلى بَعْضهم - إنْ كانت الحكايةُ صحيحةً - شيءٌ من هذا؛ حتى وَضعَ - على ما زَعموا - فصولَ الكلام: أواخرُها كأواخرِ الآي مثْلَ "يعلمون" و "يؤمنون" وأشباهِ ذلك. ولا يَجوزُ أَن يكونَ الإعجاز بأن لم يُلْتَقَ في حُروفه ما يَثْقُلُ على اللسانِ.

وجملةُ الأمرِ أَنه لَن يَعرِضَ هذا وشَبهُهُ من الظنونِ لِمَنْ يَعرِضُ لهُ، إلاَّ مِن سوءِ المعرفةِ بهذا الشأنِ، أوْ للخذلانِ أو لِشهوةِ الإِغرابِ في القولِ. ومَنْ هذا الذي يَرْضى مِنْ نَفْسه أنْ يَزعمَ أنَّ البرهانَ الذي بانَ لهم، والأمرَ الذي بهَرَهُم، والهيئةَ التي ملأتْ صدُورَهم، والروعةَ التي دخلتْ عليهم فأزعَجَتْهم، حتى قالوا "إنَّ له لحلاوةً، وإنَّ عليه لطلاوةً، وإنَّ أسفَلَه لَمُغْدِقٌ، وإنَّ أعلاه لَمْثْمِرٌ"، إنما كان لِشيءٍ راعَهُم من مَواقعِ حركاتِه، ومِن تَرتيبٍ بيْنَها وبَيْنَ سكَنَاتِه، أو لِفَواصلَ في أواخر آياته؟ مِنْ أَيْنَ تَليقُ هذه الصفةُ وهذا التشبيهُ بذلك؟ أم ترَى أنَّ ابنَ مَسْعود حين قال في صفة القرآن: لا يَتْفَه ولا يَتَشَانُّ: وقال: إذا وقعتُ في آل حم وقعتُ في روضاتٍ دَمِثاتٍ أتأنَّق فيهنَّ: - أي أَتتبَّع محاسنَهنَّ - قال ذلك من أجْل أوزانِ الكلماتِ، ومن أجْل الفواصِلِ في أواخر الآيات؟ أم تَرى أنَّهم لذلك قالوا لا تَفْنى عجائِبُه، ولا يَخْلُقُ على كثرة الرد؟ أم تَرى الجاحظ، حينَ قال في كتاب النبوة: ولو أَنَّ رجلاً قرأَ على رجُل مِن خطبائهم وبُلغائهم سورةً واحدةً، لتبيَّن له في نظامها ومَخْرجها من لَفْظها وطابَعها، أَنه عاجزٌ عن مثلها. ولو تُحدِّيَ بها أبلغُ العَربِ لأَظْهَر عجْزَهُ عنها لغاً ولفظاً، نظرَ إلى مثْلِ ذلك؛ فليسَ كلامُه هذا مما ذهَبوا إليه في شيء. وَينبغي أن تكونَ موازَنَتُهم بيْنَ بعضِ الآي وبيْنَ ما قاله الناسُ في معناها، كموازنَتِهِمْ بيْن {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وبَيْن: (قَتْلُ البعضِ إحياءٌ للجميع): خطأً منهم، لأنَّا لا نَعْلم لحديثِ التحريكِ والتسْكينِ، وحديث الفاصِلةِ مذهباً في هذه الموازنة، ولن نَعْلمهُم أرادوا غيرَ ما يُريده الناسُ إذا وازَنُوا بين كلامٍ وكلامٍ في الفصاحة والبلاغة، ودقة النظمِ وزيادةِ الفائدة.

ولولا أَنَّ الشيطان قد استحوذَ على كثيرٍ من الناس في هذه الشأنَ، وأنهم بِتَرْك النظرِ وإهمالِ التدبُّر وَضعفِ النيَّةِ وقِصَر الهِمَّة، قد طرَّقوا له حتى جعَل يُلْقي في نفوسهم كلَّ محالٍ وكلَّ باطلٍ، وجَعَلوا هُمْ يعطون الذي يُلْقيه حَظَّا الذي يُلْقيه حَظَّا من قَبولهم، ويُبَوئونَه مكاناً مِن قلوبهم، لمَا بلغَ من قَدْر هذه الأقوالِ الفاسدةِ أنْ تدخُلَ في تصنيفٍ، ويعادَ ويُبْدأَ في تبيينٍ لوجهِ الفسادِ فيها، وتعريف. ثُم إنَّ هذه الشناعاتِ التي تقدَّمَ ذِكْرُها تَلزَمُ أصحابَ الصَّرْفة أيضاً. وذاكَ أَنه لو لم يكنْ عجْزُهم عن مُعَارضةِ القرآن، وعن أنْ يأتوا بمثلِه لأنه مُعْجِزٌ في نفسه، لكنْ لأن أُدخِلَ عليهمُ العَجزُ عنه، وصُرفَتْ هِمَمهُمُ وخَواطرُهم عن تأليف كلامٍ مثْلهِ، وكان حالُهم على الجملة حالَ مَن أُعْدِمَ العلمَ بشيءٍ قد كان يَعلَمُه، وحيل بينَه وبينَ أمرٍ قد كان يَتَّسِعُ له، لكانَ ينبغي أنْ لا يتعاظَمَهُمْ: ولا يكون منهم ما يَدلُّ على إكبارهم أمرَه وتعجُّبهم منه، وعلى أَنه قد بَهَرَهُم، وعظُمَ كلَّ العِظَم عندَهم؛ ولَكانَ التعجُّبُ، للذي دَخَلَ من العجزِ عليهم، ولِمَا رأَوْه مِن تَغيُّرِ حالِهم، ومِنْ أَن حِيلَ بينَهم وبينَ شيء قد كان عليهِمْ سَهْلاً، وأن سُدَّ دونَه بابٌ كان لهُم مفتوحا. أرأيتَ لو أنَّ نبياً قال لقومه: "إنَّ آيتي أنْ أَضعَ يدي على رأسي هذه الساعةَ وتُمْنَعون كلُّكُم من أَن تستطيعوا وَضْعَ أَيديكُمْ على رُؤوسِكُم"، وكان الأمرُ كما قال - مِمَّ يكونُ تعجُّبُ القومِ؟ أَمِنْ وضعِه يدَه على رأسهِ، أمْ مِنْ عَجْزِهم أن يضَعَوا أيديَهم على رؤُوسهم؟

الإعجاز بنظم الكلام لا بالكلم

الإعجاز بنظم الكلام لا بالكلم ومما تَجِدُهم يَعْتمِدونَه ويرجعِونَ إليه قولُهم: إنَّ المعاني لا تتزايدُ وإنما تَتزايدُ الألفاظُ: وهذا كلامٌ إذا تأملْتَه، لم تَجِدْ له معنًى يَصِحُّ عليه غيرَ أنْ تَجْعلَ تزايُدَ الألفاظِ عبارةً عن المزايا التي تَحْدُثُ مِن توخِّي معاني النحوِ وأَحكامهِ فيما بين الكلم، لأنَّ التزايُدَ في الألفاظ من حيثُ هي ألفاظٌ ونُطْقُ لسانٍ، مُحالٌ. ثم إنَّا نَعْلمُ أَنَّ المزيةَ المطلوبةَ في هذا البابِ، مزيةٌ فيما طريقُهُ الفكْرُ والنظَرُ مِن غَيرِ شُبْهة؛ ومحالٌ أَنْ يكونَ اللفظُ له صفةٌ تُسْتَنْبَطُ بالفِكْرِ، ويُسْتعانُ عليها بالرويَّة، أللهمَّ إلاَّ أنْ تُريد تأليفَ النغَمِ؛ وليس ذلك ممَّا نحنُ فيه بسبيلٍ. ومِنْ ههنا لم يَجُزْ إذا عُدَّ الوجوهُ التي تَظهر بها المزيةُ أنْ يُعَدَّ فيها الإعرابُ، وذلك أنَّ العِلْم بالإِعرابِ مشترَكٌ بين العَربِ كلِّهم، وليس هو مما يُسْتنبَط بالفكْرِ ويُسْتعانُ عليه بالرويَّة، فليس أحدُهم، بأنَّ إعرابَ الفاعل الرفعُ، أو المفعولِ النصبُ، والمضاف إليه الجرُّ، بأعْلَم مِن غَيره، ولا ذاك المفعولُ به مما يَحتاجون فيه إلى حِدَّةِ ذهنٍ وقوةِ خاطر. إنما الذي تقَعُ الحاجةُ فيه، إلى ذلك العلم بما يُوجِبُ الفاعليةَ للشيء إذا كان إيجابُها من طريقِ المجازِ كقوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16] وكقوله الفرزْدق: سقْتها خروقٌ في المسامِعِ

وأشباهِ ذلِكَ مما يَجعلُ الشيءَ فيه فاعلاً على تأويلٍ يَدقُّ، ومن طريقٍ تَلْطُفُ؛ وليس يكون هذا علماً بالإعراب، ولكن بالوصْفِ الموجبِ للإعراب. ومن ثَمَّ لا يجوزُ لنا أنْ نَعْتدَّ في شأنِنا هذا، بأنْ يكون المتكلِّمُ قد اسْتَعملَ من اللغتين في الشيءِ ما يقال إنه أفصَحُهما، وبأنْ يكونَ قد تَحفَّظ مما تخطئ فيه العامَّة، ولا بأن يكونَ قد استعْمَلَ الغريبَ، لأنَّ العِلْم بجميعِ ذلكَ لا يَعْدوا أن يكونَ عِلْماً باللغةِ وبأَنْفُس الكَلِمِ المفردة، وبما طريقُهُ طريقُ الحِفْظِ، دون ما يُستَعانُ عليه بالنظَرِ، ويُوصَلُ إليه بإعمالِ الفِكْر. ولئن كانتِ العامَّةُ وأشباهُ العامَّةِ لا يكادونَ يعرِفونَ الفصاحةَ غيرَ ذلك، فإنَّ مِن ضَعْف النحيزة إِخطارَ مثْلِه في الفكْرِ، وإجراءَه في الذكْرِ، وأنتَ تزعمُ أَنكَ ناظرٌ في دلائل الإعجازِ؛ أترَى أنَّ العَرب تُحُدُّوا أن يَختاروا الفَتْحَ في (الميم) من "الشمَع" و (الهاء) من "النهْر" على الإسْكان، وأنْ يتحفَّظوا مِن تخليطِ العامَّة في مثْلِ "هذا يَسْوَى أَلفا"، أو إلى أنْ يأْتوا بالغريبِ الوحشيِّ في الكلام يعارِضون به القرآنَ؟ كيفَ وأنتَ تقرَأُ السورةَ من السُّوَرِ الطِّوالِ، فلا تَجِدُ فيها مِن الغريب شَيئاً؟ وتأَمَّلْ ما جَمَعهُ العلماءُ في غَريب القرآن، فترى الغريبَ منه، إلا في القليل، إنما كان غريباً من أَجْل استعارةٍ هي فيه، كمِثْل {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل} [البقرة: 93]، ومثْل {خَلَصُوا نَجِيّاً} [يوسف: 80]، ومثْلِ {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94]، دون أن تكون اللفظةُ غريبةً في نفسها؛ إنما ترى ذلك في كلماتٍ معدودةٍ كَمِثلِ {عَجِلّ لَّنَا قِطَّنَا} [ص: 16]، {ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر: 13]، و {جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} [مريم: 24].

ثم إنَّه لو كان أَكْثَرُ ألفاظِ القرآنِ غريباً، لكانَ محالاً أن يَدْخُلَ ذلك في الإعجاز وأنْ يَصِحَّ التحدي به. ذاك لأنه لا يَخْلو إذا وقَعَ التحدي به، من أن يُتحدَّى مَنْ له علْمٌ بأمثالهِ من الغريبِ، أو مَنْ لا عِلْمَ له بذلك؛ فلو تُحدِّي بهِ من يَعْلَمُ أمثالَه، لم يتَعذَّر عليه أن يعارِضَه بمثله. ألا تَرى أنه لا يتعذَّرُ عليكَ إذا أنتَ عرفْتَ ما جاء من الغريبِ في معنى (الطويل) أن تعارِض مَنْ يقول (الشوقَبُ) بأن تقولَ (أنتَ الشوذَبُ) وإذا قال "الأمَقُّ" أن تقول "الأَشقُّ"، وعلى هذا السبيل. ولو تُحُدِّي به مَنْ لا عِلْمَ له بأمثال ما فيه من الغريب، كان ذلك بمنزلةِ أن يُتَحدَّى العربُ، إلى أن يتكلموا بلسانِ التركِ هذا - وكيف بأنْ يدْخلَ الغريبُ في باب الفضيلة، وقد ثَبتَ عنهم أَنهم كانوا يَروْنَ الفضيلةَ في تَرْك استعمالِه وتجنُّبهِ؟ أفلاَ تَرى إلى قول عُمرَ رضي اللهُ عنه في زهير: إنه كان لا يُعاظِل بين القَوْل ولا يَتَتَبَّعُ حُوشيِّ الكلام: فقرنَ تَتَبُّعَ الحُوشيِّ، وهو الغريب مِنْ غيرِ شُبْهة، إلى المُعاظلةِ التي هي التعقيد. وقال الجاحظ في كتاب البيان والتبيين: ورأيتُ الناسَ يَتداولونَ رسالةَ يحيى بْنِ يَعْمُرَ عن لسانِ يزيدَ بنِ المهلَّب، إلى الحجَّاج: "إنَّا لَقِينا العدوَّ فقتَلْنا طائفةً بعراعر الأَودية وأهضام الغيطان، وبتْنا بعُرْعُرَةِ الجبلِ وبات العدوُّ بحضيضه". فقال الحجَّاج: ما يَزيدُ بأبي عذْرِ هذا الكلامِ: فحُمل إليه فقال: أين ولدت في كتبهم أنَّ امرأةً خاصمتْ زوجَها إلى يحيى بن يَعْمر، فانْتَهَرها مراراً، فقال له يحيى: إنْ سألتُكَ ثَمَنَ شَكْرها وشَبْرِك أنشأتَ تَطُلُّها وتَضْهَلُها: ثم قال: إن كانوا قد روَوْا هذا الكلامَ لكي يَدلَّ على فصاحةٍ وبلاغةٍ، فقد باعدَه اللهُ من صفةِ البلاغة.

فساد الذوق والكلام ممن ظنوا أن الفصاحة والبلاغة للألفاظ

فساد الذوق والكلام ممن ظنوا أنّ الفصاحة والبلاغة للألفاظ واعلم أنك كلَّما نظرتَ وجدْتَ سببَ الفسادِ واحداً، وهو ظنُّهم الذي ظنُّوه في اللفظِ، وجعْلُهم الأوصافَ التي تجري عليه كلَّها، أوصافاً له في نفسه، ومن حيثُ هو لفظٌ، وترْكُهم أن يُميِّزوا بينَ ما كان وصْفاً لهُ في نفسِه، وبيْنَ ما كانوا قد أكْسَبوه إياه من أجْلِ أمرٍ عَرَضَ في معناه. ولمَّا كان هذا دأْبَهم، ثم رأَوْا الناسَ، وأظهرُ شيءٍ عندَهم في معنى الفصاحةِ تقويمُ الإعراب والتحفظُ من اللَّحْن، لم يَشُكُّوا أنه ينبغي أن يُعتَدَّ به في جملةِ المزايا التي يفاضَلُ بها بين كلامٍ وكلامٍ في الفصاحةِ، وذهبَ عنهم أنْ ليس هُو من الفصاحة التي يَعْنينا أمرُها في شيء، وأنَّ كلاَمنا في فصاحةٍ تجبُ للَّفظِ لا من أجْلِ شيء يدْخُلُ في النطقِ؛ ولكنْ من أجْل لطائفَ تُدْرَكُ بالفَهم؛ وإنا نعْتبرُ في شأننا هذا فضيلةً تَجبُ لأَحَدِ الكلامَيْنِ على الآخَر مِن بَعْد أن يكونا قد برِئا من اللَّحْن، وسَلِمَا في ألفاظِهما من الخَطَأ. ومن العَجَب أنَّا إذا نظَرْنا في الإعرابِ، وجَدْنَا التفاضُل فيه مُحالاً، لأنه لا يُتَصَوَّرُ أن يكونَ للرَّفْع والنصْبِ في كلامٍ مزيةٌ عليهما في كلام آخَر، وإنما الذي يُتَصَوَّرُ أنْ يكون ههنا كلامانِ قد وقع في إعرابهما خللٌ، ثم كان أحَدُهما أكْثَر صواباً من الآخر، وكلامانِ قد استمرَّ أحدُهما على الصَّوابِ ولم يَسْتمرَّ الآخَرُ؛ ولا يكون هذا تفاضُلاً في الإعراب ولكنْ ترْكاً في شيءٍ واستعمالاً له في آخَرَ، فاعرفْ ذلك! وجملةُ الأمرِ أنك لا تَرى ظنَّاً هو أَنْأَى بصاحبِه عن أن يصِحَّ له كلامٌ، أو يستمِرَّ له نظامٌ، أو تَثْبُتَ له قدَمٌ، أو يَنْطِقَ منه إلاَّ بالمُحال فمٌ، مِنْ ظَنِّهم هذا الذي حامَ بهم حَوْلَ اللفظِ وجعلهم لا يعُدُّونَه، ولا يرَوْنَ للمزيةِ مكاناً دُونه.

واعلمْ أنه قد يجري في العبارة منَّا شيءٌ هو يُعيدُ الشبهة جَذَعة عليهم وهو أنه يقَعُ في كلامِنا أن الفصاحةَ تكونُ في المعنى دون اللفظ، فإذا سَمِعوا ذلك قالوا: كيف يكونُ هذا ونَحْنُ نَراها لا تَصْلُح صفةً إلاَّ لِلَّفظِ، ونراها لا تَدخلُ في صفة المعنى البتَّةَ؛ لأنَّا نرى الناسَ قاطبةً يقولون "هذا لفظٌ فصيحٌ وهذه ألفاظٌ فصيحةٌ: ولا نَرى عاقِلاً يقولُ: هذا معنى فصيحٌ وهذهِ معانٍ فِصاحٌ. ولو كانت الفصاحة تكونُ في المعنى، لكانَ ينبغي أن يقال ذاك. كما أنه لمَّا كان الحُسْنُ يكون فيهِ قيل "هذا معنى حَسَنٌ وهذه معانٍ حَسَنَةٌ"، وهذا شيء يَأخُذُ من الغِرِّ مأخذاً. والجوابُ عنه أنْ يُقالَ إنَّ غَرَضَنا مِن قولنا إنَّ الفصاحةَ تكونُ في المعنى، أنَّ المزيَّةَ التي مِنْ أجْلِها استَحَقَّ اللفظُ الوصفَ بأنه فصيحٌ، عائدةٌ في الحقيقةِ إلى معناه. ولو قيل إنها تكونُ فيه، دونَ معناهُ لكان ينبغي إذا قلنا في اللفظة إنها فصيحةٌ أن تكونَ تلك الفصاحةُ واجبةً لها بكلِّ حالٍ. ومعلومٌ أن الأمْرَ بخلافِ ذلك؛ فإنَّا نَرى اللفظةَ تكونُ في غاية الفصاحةِ في موضعٍ ونَراها بِعَيْنِها، فيما لا يُحْصى من المواضِع، وليس فيه مِن الفصاحةِ قليلٌ ولا كثيرٌ، وإنما كان كذلك، لأن المزيَّةَ التي مِنْ أجْلها نَصِفُ اللفظَ في شأننا هذا بأنه فصيحٌ، مزيةٌ تَحْدثُ مِن بعْدِ أنْ لا تكونَ، وتظهرُ في الكَلِم من بَعْدِ أنْ يَدخُلَها النظْمُ؛ وهذا شيءٌ إن أنتَ طلَبْتَه فيها وقد جئْتَ بها أفراداً، لم تَرُمْ فيها نَظْماً، ولم تُحْدِث لها تأليفاً، طلبْتَ مُحالاً!

وإذا كان كذلك، وَجَبَ أن تعْلَمَ قَطْعاً وضرورةً، أنَّ تلك المزيةَ، في المعنى دونَ اللفظِ. وعبارةٌ أُخرى في هذا بعينِه وهي أن يُقال: قد علِمْنا عِلْماً لا تَعْترِضُ معَه شُبْهةٌ: أنَّ الفصاحةَ فيما نحنُ فيه، عبارةٌ عن مزيَّةٍ هي بالمتكلِّم دون واضِع اللغةِ. وإذا كان كذلك، فينبغي لنا أنْ ننظُرَ إلى المتكلم: هل يستطيعُ أن يَزيد مِنْ عنْدِ نفْسِه في اللفظ شيئاً، ليس هو له في اللغة، حتى يَجعَلَ ذلك من صَنيعِه مزيةً يُعبَّر عنها بالفصاحة؟ وإذا نظَرْنا وجَدْناه لا يستطيعُ أن يصْنَعَ باللفظِ شيئاً أصْلاً، ولا أنْ يُحْدِثَ فيه وصْفاً. وكيفَ وهو إن فَعَلَ ذلك أفسَدَ على نفسِه وأبطلَ أن يكونَ متكلِّماً، لأنه لا يكون متكلِّماً حتى يَسْتَعمِل أوضاعَ لغةٍ على ما وُضِعتْ هي عليه. وإذا ثبتَ من حالِه أنه لا يستطيعُ أن يَصْنع بالألفاظِ شيئاً ليس هو لها في اللغة، وكنَّا قد اجتمعْنا على أنَّ الفصاحةَ فيما نحن فيه عبارةٌ عن مزيةٍ هي بالمتكلِّم البتَّةَ، وجَبَ أن نَعْلَم قطْعاً وضرورةً، أنهم وإن كانوا قد جَعَلوا الفصاحةَ في ظاهرِ الاستعمالِ مِنْ صفةِ اللفظِ، فإنهم لم يَجْعلوها وصْفاً له في نفسه، ومِن حيثُ هو صدى صوتٍ ونطقُ لسانٍ؛ ولكنهم جَعلُوها عبارةً عن مزيةٍ أفادَها المتكلِّمُ، ولمَّا لم تَزِدْ إفادتُه في اللفظِ شيئاً، لم يَبْقَ إلاّ أنْ تَكونَ عبارةً عن مزيةٍ في المعنى. وجملةُ الأمر أنَّا لا نُوجِبُ الفصاحَة لِلْفَظةٍ مقطوعةٍ مرفوعةٍ من الكلام الذي هي فيه، ولكنَّا نُوجِبُها لها موصولةً بغيرها، ومعلَّقاً معناها بمعنى ما يَليها، فإذا قلنا في لفظه "اشتعل" مِنْ قولِه تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأسُ شَيَبْاً} [مريم: 4]: إنها في أعلى المرتبةِ من الفصاحة، لم نُوجِبْ تلك الفصاحةَ لها وحَدْها، ولكِنْ موصولاً بها "الرأس" معرَّفاً (بالألف واللام) ومَقْروناً إليهما (الشيبُ) منكَّراً منصوباً.

هذا وإنما يقعُ ذلك في الوهم لِمَنْ يَقَعُ له - أعني أن تُوجَبَ الفصاحةُ للَّفظةِ وحدها - فيما كان استعارةً. فأمَّا ما خَلاَ من الاستعارةِ من الكلامِ الفصيح البليغ، فلا يَعْرِض توهُّمُ ذلك فيه لعاقلٍ أصْلاً. أفلا تَرَى أنه لا يقَعُ في نفس من يَعْقِلُ أدنى شيء إذا هو نظَرَ إلى قوله عزَّ وجلَّ {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العدو فاحذرهم} [المنافقون: 4]، وإلى إكبار الناس شأنَ هذه الآيةِ في الفصاحة أن يضَعَ يدَهُ على كلمةٍ كلمةٍ منها، فيقولَ إنها فصيحة؟ كيفَ وسبَبُ الفصاحةِ فيها أمورٌ لا يَشُكُّ عاقلٌ في أنها معنويَّةٌ: (أوَّلُها) أنْ كانت "على" فيها متعلقةً بمحذوفٍ في موضِع المفعول الثاني. (والثاني) أنْ كانت الجملةُ التي هي "هُم العدوُّ" بعْدَها عاريةً من حرفِ عطفٍ. (والثالث) التعريفُ في (العدوِّ) وأنْ لم يقل: هُمْ عدوٌّ. ولو أنك علَّقْتَ "على" بظاهرٍ، وأدخلْتَ على الجملة التي هي "هم العدوُّ" حرفَ عطْفٍ، وأسقطْتَ (الألف واللام) من "العدو"، فَقُلْتَ: (يحسَبُون كلَّ صيحةٍ واقعةً عليه، وهُمْ عدوٌّ): لرأيتَ الفصاحةَ قد ذهبَتْ عنها بأسْرها. ولو أنك أخْطَرْتَ ببالِكَ أنْ يكونَ "عليهم" متعلِّقاً بنَفْس الصيحة، ويكونَ حالُه معها كحالِه إذا قلت: (صحْتُ عليه): لأخرجْتَه عن أنْ يكون كلاماً، فضْلاً عن أن يكونَ فصيحاً. وهذا هو الفَيْصَلُ لِمَنْ عَقَلَ. ومِنَ العجيب في هذا ما رُويَ: عن أمير المؤمنين عليِّ رضوانُ اللهُ عليه أنه قال (ما سَمِعتُ كلمةً عربيةً مِن العَربِ إلاَّ وسمعْتُها من رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، وسمِعْتُه يقول "مات حتْفَ أنفِهِ". وما سمعتها من عَربيٍّ قبله. لا شُبْهَةَ في أنَّ وصْفَ اللفظِ بالعربيّ في مثْلِ هذا، يكون في معنى الوصْف بأنه فصيحٌ. وإذا كانَ الأمرُ كذلك، فانظُرْ: هل يَقَعُ في وهْم مُتوهِّم أنْ يكونَ رضيَ اللهُ عنه قد جعَلَها عربيةً مِنْ أجْل ألفاظِها؟ وإذا نظرْتَ لم تَشُكَّ في ذلك.

واعلمْ أنكَ تَجِدُ هؤلاء الذين يَشكُّون فيما قلْناهُ، تَجْري على ألسنتِهِمْ ألفاظٌ عباراتٌ لا يَصِحُّ لها معنى سِوى توخِّي معاني النحو وأحكامه فيما بَيْن معاني الكَلِم، ثم تَراهُمْ لا يَعْلَمون ذلك. فمِن ذلك ما يقولُه الناسُ قاطبةً من أنَّ العاقلَ يُرتِّبُ في نفسِه ما يُريد أن يَتكلَّم به. وإذا رجَعْنا إلى أنفُسِنا لم نَجِدْ لذلك معنىً سوى أنه يَقْصِدُ إلى قولِكَ (ضَرَبَ) فيجعله خبراً عن "زيدٍ" ويجعلُ الضرْبَ الذي أخْبَرَ بوقوعِه منه، واقعاً على (عمروٍ) ويجعلُ (يومَ الجمعةِ) زمانَه الذي وقَعَ فيه، ويجعَلُ (التأديب) غرَضَه الذي فعَل الضَرْبَ من أجْله، فيقولُ: (ضَرَبَ زيدٌ عَمراً يومَ الجمعةِ تأديباً له). وهذا كما تَرى هُو تَوخِّي معاني النحو فيما بين معاني هذه الكَلِم. ولو أنك فرضْتَ أنْ لا تتوخَّى في (ضرَب) أن تَجْعَلَه خبراً عن (زيد)، وفي (عمرو) أن تجعله مفعولاً به لـ ـ (ضَرَبَ)، وفي (يوم الجمعة) أن تَجْعله زماناً لهذا الضرْب، وفي التأديبِ أنْ تَجعله غَرَض (زيدٍ) من فعلٍ الضرب، ما تصوِّرَ في عقلٍ ولا وَقَع في وهم أن تكونَ مرتِّباً لهذه الكَلِم. وإذْ قد عرفْتَ ذلك، فهو العِبْرةُ في الكلام كلِّه؛ فمَنْ ظَنَّ ظناً يؤدي إلى خِلافِه، ظَنَّ، ما يخرُج به عن المعقول. ومِنْ ذلك إثباتُهم التعلُّقَ والاتِّصالَ فيما بين الكَلِم وصواحبها تارةً، ونَفْيُهم لها أُخْرى. ومعلومٌ علْمَ الضرورةِ أنْ لن يُتصوَّرَ أن يكون لِلَّفظِةِ تعلُّقٌ بلفظةٍ أُخرى، من غَيْر أنْ تُعتَبَرَ حالُ معنى هذِهِ معنى تِلكَ، ويُراعى هناك أمرٌ يصل إحداهما بالأُخرى، كمراعاةِ كون "نَبْكِ" جواباً للأمر في قوله: (قِفَا نَبْكِ). وكيفَ بالشكِّ في ذلك؟ ولو كانت الألفاظُ يتَعلَّقُ بعضُها ببعضٍ من حيثُ هي ألفاظٌ ومع اطِّراح النظرِ في معانيها، لأدَّى ذلك أنْ يكون الناسُ حينَ ضَحِكوا مَّما يصنَعُه المُجَّانُ من قُرَّاءِ أنصافِ الكتب ضحكوا عن جهالة، وأن يكون أبو تمام قد أخطأ حين قال] من الكامل]: عذلاً شَبيهاً بالجنونِ كأنما ... قرأتْ به الوَرْهاءُ شَطْرَ كتابِ لأنهم لم يَضْحكوا إلاَّ من عَدمِ التعلُّقِ، ولم يجعلْهُ أبو تمام جنوناً إلاَّ لذلك، فانظرْ إلى ما يلزَمُ هؤلاءِ القومَ مِن طرائفِ الأمورِ!

فصل: بيان أن الفصاحة تدرك بالعقل لا بالسمع

فصل: بيان أنّ الفصاحة تدرك بالعقل لا بالسمع وهذا فنٌّ من الاستدْلال لطيفٌ، على بُطْلانِ أنْ تكونَ الفصاحةُ صفةً لِلَّفظِ من حيثُ هو لفظٌ: لا تخلو الفصاحةُ من أنْ تَكون صفةً في اللفظ محسوسةً تُدركُ بالسمعِ، أو تكونَ صفةً فيه معقولةً تُعرَفُ بالقلبِ، فمحالٌ أن تكون صفةً في اللَّفظِ محسوسةً، لأنها لو كانت كذلكَ، لكان يَنبغي أن يستويَ السامعونَ لِلَّفظِ الفصيحِ في العلم بِكَوْنِه فَصيحاً؛ وإذا بَطل أنْ تكونَ محسوسةً، وجَبَ الحُكْمُ ضرورةً بأنها صفةٌ معقولةٌ، وإذا وجَبَ الحكْمُ بكَوْنها صفةً معقولةً. فإنَّا لا نَعرِفُ لِلَّفْظِ صفةً يكونُ طريقُ معرفَتِها العقلَ دون الحسِّ، إلاَّ دلالَتُه على معناه؛ وإذا كان كذلك، لَزِمَ منه العِلْمُ بأنَّ وصْفَنا اللَّفظ بالفصاحةِ وَصْفٌ له مِن جهة معناه لا من جهة نفسه. وهذا ما لا يَبْقى لِعاقلٍ معه عُذْرٌ في الشَّكِّ. واللهُ الموفِّقُ لِلصَّواب!

فصل: إثبات الفصاحة للفظ باعتبار معناه

فصل: إثبات الفصاحة للفظ باعتبار معناه وبيانٌ آخرُ، وهو أنَّ القارئ إذا قرأ قولَه تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيَبْاً} [مريم: 4] فإنَّه لا يَجِدُ الفصاحة التي يَجِدُها إلاَّ مِنْ بَعْد أن ينتهي الكلامُ إلى آخِرِه. فلو كانت الفصاحَةُ صِفَةً لِلَفْظِ "اشْتَعَلَ" لكانَ ينبغي أنْ يُحِسَّها القارئُ فيه، حالَ نُطْقِه به؛ فمُحالٌ أن تكون للشيءِ صفةٌ ثمَّ لا يَصِحُّ العِلْمُ بتلك الصفة إلاَّ مِنْ بَعْد عَدَمِهِ. ومَنْ ذا رأى صفةً يَعْرى موصوفُها عنها في حال وجودهِ، حتى إذا عُدِمَ صارتْ موجودة فيه؟ وهل سمِعَ السامعون في قديم الدهرِ وحديثهِ، بصفةٍ شرْطُ حصولِها لمَوْصوفِها، أن يُعْدَمَ الموصوف؟ فإنْ قالوا إنَّ الفصاحةَ التي ادَّعينا لِلَفْظِ "اشتعَل" تكونُ فيه في حالِ نُطْقنا به إلاَّ أنَّا لا نَعْلم في تلك الحال أنَّها فيه، فإذا بلَغْنا آخِرَ الكلام علِمْنا حينئذٍ أنها كانت فيه حين نُطْقِنا: قيل: هذا فنٌّ آخر من العَجَب وهو أن تكون ههنا صفةٌ "موجودة" في شيءٍ ثمَّ لا يكون في الإمكانِ ولا يَسَعُ في الجوازِ أنْ نَعْلَم وجودَ تلكَ الصفةِ في ذلك الشيءِ إلاَّ بعْدَ أن يُعْدَم ويكونَ العلمُ بها وبكوْنِها فيه محجوباً عنَّا حتى يُعْدَم، فإذا عُدِم عَلِمْنا حينئذٍ أنها كانتْ فيهِ حينَ كان.

ثم إنه لا شُبْهةَ في أنَّ هذه الفصاحةَ التي يَدَّعونها لِلَّفْظِ هي مُدَّعاةٌ لمجموعِ الكلمةِ دون آحادِ حروفِها، إذْ ليس يَبْلغُ بهم تهافُتُ الرأي إلى أَن يَدَّعوا لِكلِّ واحدٍ من حروفِ (اشتعلَ) فَصَاحةً، فَيَجْعَلُوا (الشِّين) على حِدَتهِ فَصيحاً، وكذلك (التاءُ والعينُ واللام)، وإذا كانت الفصاحةُ مدَّعاةً لِمَجموعِ الكلمةِ لم يُتصوَّرْ حصولُها لها إلاَّ من بعْدِ أن تُعْدَم كلُّها ويَنْقضي أمرُ النطْق بها. ذلك لأنه لا يُتصوَّر أن تدخُلَ الحروفُ بجملتها في النطقِ دفعةً واحدةً، حتى تُجعلَ الفصاحةُ موجودةً فيها في حال وجودها. وما بعْد هذا إلاَّ أن نسألَ الله تَعالى العصمةَ والتوفيق؛ فقد بلغَ الأمرُ في الشناعةِ إلى حدٍّ إذا انتَبَه العاقلُ لَفَّ رأسَهُ حياءً من العقلِ حين يراه قد قال قولاً هذا مؤدَّاه، وسلك مسْلكاً إلى هذا مُفْضاه. وما مَثَلُ مَنْ يَزعُمُ أنَّ الفصاحة صفةٌ لِلَّفْظِ من حيثُ هو لفظٌ، ونطْقُ لسانٍ يَزْعُم أنَّه يَدِّعيها لمجموعِ حُروفِه دونَ آحادِها، إلاَّ مثَلُ مَنْ يزعُمُ أنَّ ههنا غَزْلاً إذا نُسِجَ منه ثوبٌ كان أحْمَر وإذا فُرِّقَ ونُظر إليه خَيْطاً خيطاً لم تكنْ فيه حُمْرةٌ أصْلاً. ومن طريف أمْرهِم، أنَّك تَرى كافَّتَهم لا يُنكِرون أنَّ اللفظَ المستعارَ، إذا كان فصيحاً، كانتْ فصاحتُه تلك، من أجْل استعارتهِ ومن أجْل لطفٍ وغرابةٍ كانا فيها؛ وتَراهم مع ذلك لا يَشُكُّون في أن الاستعارةَ لا تُحْدِثُ في حروف اللفظِ صفةً ولا تُغيِّرُ أجْراسَها عمَّا تكونُ عليه، إذا لم يكن مستعاراً وكان متروكاً على حقيقته، وأنَّ التأثيرَ من الاستعارةِ إنَّما يكونُ في المعنى. كيفَ وهُمْ يعتَقِدونَ أنَّ اللفظَ إذا استُعيرَ لِشيءٍ، نُقِلَ عن معناه الذي وُضع له بالكُلِّية، وإذا كان الأمرُ كذلك، فلولا إهمالُهُمْ أنفُسَهم وتركُهُم النظَرَ، لقد كان يكون في هذا ما يُوقِظُهم من غَفْلتِهم، ويَكْشِف الغِطاء عن أعينِهم.

فصل: عدم تعلق الفكر بمعاني الكلم مجردة من معاني النحو

فصل: عدم تعلق الفكر بمعاني الكلم مجردة من معاني النحو ومما ينبغي أنْ يَعْلَمهُ الإنسان ويجعلَه على ذكرٍ، أنه لا يُتصوَّرُ أنْ يتعلَّقَ الفكْرُ بمعاني الكَلِم أفراداً ومجرَّدةً من معاني النحو؛ فلا يقومُ في وهْمٍ ولا يصِحُّ في عقْلٍ أنْ يتَفَكَّرَ مُتفكِّرٌ في معنى فعلٍ مِنْ غيرِ أن يُريدَ إعمالَه في اسْمٍ، ولا أن يتفكَّر في معنى اسْم من غَيْرِ أنْ يُريدَ إعمال فعلٍ فيه وجَعْلَه فاعلاً له أو مفَعولاً، أو يُريد منه حكْماً سوى ذلك من الأحكام، مثْلَ أن يُريدَ جَعْلَه مبتدأً أو خبراً أو صفةً أو حالاً أو ما شَاكَلَ ذلك. وإنْ أردْتَ أن تَرى ذلك عياناً، فاعْمَدْ إلى أيِّ كلامٍ شئْتَ وأزِلْ أجزاءَهُ عن مواضِعها، وضَعْها وضْعاً يَمْتَنِعُ معه دخولُ شيءٍ من معاني النحو فيها. فقل في: قِفَا نَبْك مِنْ ذِكرى حبيبٍ ومَنْزِلِ (مِنْ نَبْك قِفَا حبيبٍ ذكرى منزِلِ) ثم انظر هل يتعلَّقُ منكَ فكْرٌ، بمعنى كلمةٍ منها؟ واعلمْ أني لستُ أقول إن الفكْرَ لا يتعلَّق بمعاني الكَلِمِ المفردَةِ أصْلاً، ولكني أقولُ إنه لا يتعلَّقُ بها مجرَّدَةً من معاني النحْو ومنْطوقاً بها على وجهٍ لا يتأتَّى معه تقديرُ معاني النحو وتوخِّيها فيها، كالذي أرَيْتُكَ؛ وإلاًَّ فإنَّكَ إذا فكَّرْتَ في الفعلَيْنِ أو الاسْمَيْن تُريد أنْ تُخْبِرَ بأحَدِهما عن الشيء، أيُّهما أوْلى أن تُخْبَر به عنه، وأشْبَهُ بغَرَضِك، مثلَ أن تَنْظُر أيُّهما أَمدَحُ وأذَمُّ؟ وفكَّرْتَ في الشيئينِ تُريد أن تُشَبِّه الشيءَ بأحَدِهما: أيُّهما أشْبَهُ به؟ كنتَ قد فكَّرْت في معاني أَنفُسِ الكَلِم، إلاَّ أنَّ فكْرَكَ ذلك لم يكنْ إلا مِن بَعْد أنْ توخَّيْتَ فيها معنىً من معاني النحوِ، وهو إن أردْتَ جَعْلَ الاسمِ الذي فكَّرْتَ فيه خبراً عن شيءٍ أردتَ فيه مَدْحاً أو ذمّاً أو تشبيهاً أو غيرَ ذلك منَ الأغراض، ولم تَجِئ إلى فعلٍ أو اسم ففَكَّرْتَ فيه فرْداً ومِنْ غَيْر أنْ كان لكَ قَصْدٌ أن تَجْعلَه خبراً أو غيرَ خَبَرٍ، فاعرِفِ ذلَك! وإنْ أردْتَ مثالاً فخُذْ بيتَ بشار [من الطويل]: كأنّ مُثارَ النَّقْع فوْقَ رُؤُوسِنا ... وأسيافَنا ليلٌ تَهاوى كَواكِبُهْ

وانظُرْ هلْ يُتصوَّرُ أنْ يكونَ بشَّار قد أخْطَرَ معاني هذهِ الكَلمِ ببالِه أفرادا عاريةً من معاني النحوِ التي تراها فيها، وأن يكونَ قد وقَع "كأنَّ" في نَفْسه مِنْ غَير أن يكونَ قصَد إيقاعَ التشبيهِ منه على شيءٍ، وأنْ يَكون فكَّرَ في "مُثار النقعِ" مِنْ غَيْر أنْ يكونَ أرادَ إضافةَ الأول إلى الثاني، وفكَّرَ في "فوق رؤوسِنا" مِن غَيْر أنْ يكونَ قد أراد أن يُضيفَ "فوقَ" إلى الرؤوس، وفي (الأسيافِ) من دونِ أنْ يكونَ أرادَ عطْفَها بـ (الواو) على "مُثار" وفي (الواو) من دون أن يكون أرادَ العطْفَ بها، وأن يكون كذلك فكَّرَ في "الليل" من دون أن يكون أرادَ أنْ يَجعلَهُ خبراً لكأن، وفي "تَهاوى كَواكِبُه" من دونِ أن يكون أرادَ أن يَجْعَلَ "تهاوى" فعلاً للكواكبِ، ثم يَجْعَلَ الجملةَ صفةً لِلَّيلِ لِيَتِمَّ الذي أراد من التشبيه؟ أمْ لمْ تَخْطُر هذه الأشياءُ ببالِه إلاَّ مُراداً فيها هذهِ الأحكامُ والمعاني التي تَراها فيها؟ وليت شِعْري، كيفَ يُتصوَّر وُقوعُ قصدٍ منكَ إلى معنى كلمةٍ مِنْ دون أن تريد تَعْليقها بمعنى كلمة أخرى. ومعْنى القَصدِ إلى معاني الكَلِم أنْ تُعْلِمَ السامِعَ بها شيئاً لا يَعْلَمُه؟ ومعلومٌ أنَّكَ أيها المتكلمُ لستَ تقصد أن تُعْلِمَ السامعَ معاني الكَلِم المفردة التي تكلُمُه بها، فلا تقولُ: (خرج زيد): لِتُعْلِمَه معنى [خرَج] في اللغةَ ومعنى [زيدٌ]، كيف ومُحالٌ أن تُكَلِّمَه بألفاظٍ لا يعرف هو معانيها كما تعرف؟ لهذا لم يكنْ الفِعْلُ وحدَهُ مِن دون الاسم ولا الاسمُ وحدَه من دون اسم آخَرَ أوفعلٍ كلاماً، وكنتَ لو قلت "خرَج" ولم تأتِ باسمٍ ولا قدَّرْتَ فيه ضميرَ الشيء، أو قلْتَ: (زيد) ولم تَأْتِ بفعلٍ ولا اسْمٍ آخَرَ، ولم تُضْمِرْهُ في نفسك - كان ذلك، وصوتاً تصُوته سواءٌ، فاعرْفه!

واعلمْ أنَّ مَثلَ واضِعِ الكلام مثَلُ مَنْ يأخذُ قِطَعا من الذهبِ أو الفضةِ، فيُذيبُ بعضَها في بعضٍ حتى تَصير قطعةً واحدةً. وذلك أنك إذا قلتَ: (ضربَ زيدٌ عمراً يومَ الجمعةِ ضَرْباً شديداً تأديباً له)، فإنكَ تَحصُل من مجموعِ هذهِ الكَلِم كلِّها على مفهوم هو معنًى واحدٌ لا عدَّةُ معانٍ كما يتوهَّمُه الناس، وذلَك لأنك لم تَأْتِ بهذه الكَلِمِ لِتُفيدَهُ أنْفُسَ معانيها وإنما جئتَ بها لتُفيدَه وجوهَ التعلُّق التي بين الفعلِ الذي هو (ضرَب) وبين ما عُمِلَ فيه والأحكام التي هي محصولُ التعلُق. وإذا كان الأمرُ كذلك فيَنبغي لنا أن ننظرَ في المفعولية من (عَمروٍ) وكونٍ (يوم الجمعة) زماناً للضرب وكونِ الضرْب (ضرْباً شديداً) وكونِ (التأديبِ) علَّة للضرْب. أيُتصوَّر فيها أن تُفرَدَ عن المعنى الأول الذي هو أصل الفائدة، وهو إسنادُ (ضرَب) إلى (زيد) وإثباتُ الضرْب به له، حتى يُعْقَل كونُ عمروٍ مفعولاً به وكونُ يومِ الجمعةِ مفعولاً فيه، وكونُ "ضرْباً شديداً" مصدراً وكونُ (التأديب) مفعولاً له، من غير أن يَخْطُرَ ببالِكَ كونُ (زيدٍ) فاعلاً للضَّرْبِ؟ وإذا نَظَرْنا وجَدْنا ذلك لا يُتصوَّر، لأنَّ عَمْراً مفعولٌ لـ (ضَرَب) وقعَ مِن (زيد) عليه و (يومَ الجمعة) زمانٌ لضرْبٍ وقَع من (زيد) و "ضرباً شديداً" بيانٌ لذلك الضرْبِ. كيف هُو وما صِفتُه والتأديبُ علّةُ وبيانُ أنه كان الغرَضُ منه. وإذا كان ذلك كذلك، بانَ منه وثَبَتَ أنَّ المفهومَ من مجموع الكَلِم معنىً واحدٌ لا عِدَّةُ معانٍ، وهو إثباتُك زيداً فاعلاً ضَرْباً لعمروٍ في وقتِ كذا، وعلَى صِفَةِ كذا، ولغرضِ كذا؛ ولهذا المعنى تَقولُ إنه كلامٌ واحدٌ.

وإذْ قد عرَفْتَ هذا فهو العِبْرَةُ أبداً؛ فبيتُ بشار إذا تأَملْتَه، وجدْتَهُ كالحلقة المفْرَغَةِ التي لا تَقْبَلُ التقسيمَ، ورأيتَه قد صنع في الكَلِم التي فيه ما يَصْنَعُه الصانعُ حين يأخُذُ كِسَراً من الذَّهب فيُذِيبُها، ثمَّ يَصبُّها في قالبٍ ويُخرِجُها لكَ سِواراً أو خلْخالاً. وإنْ أنتَ حاوَلْتَ قَطْعَ بعضِ ألفاظِ البيتِ عن بعضٍ، كنْتَ كمَنْ يَكْسِرُ الحَلْقة ويَفْصِمُ السِّوارَ؛ وذلك أنه لم يُرِدْ أن يُشَبِّهَ النقْعَ بالليلِ على حِدَة، والأسيافَ بالكَواكِب عَلى حدَة، ولكنهُ أرادَ أن يُشَبِّه النقْعَ والأسيافُ تَجُولُ فيه، بالليل في حالِ ما تَنْكَدِرُ الكواكِبُ وتتهاوى فيه. فالمفهومُ من الجميع مفهومٌ واحد. والبيتُ مِن أوله إلى آخرِه، كلامٌ واحدٌ. فانظُرِ الآنَ ما تقولُ في اتحاد هذه الكَلِم التي هي أجزاءُ البيتِ: أتقولُ إنَّ ألفاظَها اتَّحدتْ فصارت لفظةً واحدةً، أمْ تقولُ إنَّ معانيَها اتَّحَدتْ فصارتْ الألفاظُ مِن أجْل ذلك، كأنَّها لفظةٌ واحدةٌ؟ فإن كنتَ لا تَشُكُّ أنَّ الاتحادَ الذي تَراه هو في المعاني، إذْ كان مِن فسادِ العقلِ ومِن الذَّهابِ في الخَبَل أنْ يتوهَّمَ مُتَوهِّمٌ أنَّ الألفاظَ يَندمِجُ بعضُها في بعضٍ حتى تصيرَ لفظةً واحدةً، فقد أراك ذلك إن لم تُكابِرْ عقْلَكَ - أَنَّ النظْمَ يكون في معاني الكَلِم دونَ ألفاظِها، وأنَّ نظْمَها هو تَوخِّي معاني النحوِ فيها. وذلك أنه إذا ثَبَتَ الاتحادُ وثَبَت أنَّهُ في المعاني، فَيَنْبغي أن تَنْظُرَ إلى الذي به اتَّحَدَتْ المعاني في بيت بشار؛ وإذا نظَرْنا لم نجدها اتَّحَدَتْ إلاَّ بأنْ جُعِلَ (مثارُ النقعِ) اسمَ كأَنَّ، وجُعلَ الظرفُ الذي هو "فوقَ رؤوسِنا" معمولاً لـ (مثار) ومعلَّقاً به، وأشرَكَ الأسيافَ في (كأنّ) بعطفه لها على "مثارِ"، ثم بأن قال: "ليلٌ تهاوى كواكِبُهْ": فأتى بالليلِ نكرةً وجعل جملة قوله: (تَهاوَى كواكِبُه): له صفةً. ثم جعل مجموع: (ليلٌ تهاوى كواكبُه) خبراً لكان.

فانظرْ هلْ ترى شيئاً كان الاتحادُ به غيرَ ما عدَّدْناه؟ وهل تَعرِفُ له مُوجِباً سواه؟ فلولا الإخلاد إلى الهُوَيْنا وتركُ النظرِ وغطاءٌ أُلقي على عيونِ أقوامٍ، لكانَ يَنبغي أنْ يكونَ في هذا وحدَهُ الكفايةَ وما فوق الكفايةِ، ونسألُ الله تعالى التوفيق!. واعلمْ أنَّ الذي هو آفة هؤلاءِ الذين لَهَجُوا بالأباطيل في أمرِ اللفظِ، أنهم قومٌ قد أسلموا أنفُسَهم إلى التخيُّل، وألقوا مقادَتَهم إلى الأوْهام، حتى عدلتْ بِهم عن الصوابِ كلَّ معدلٍ، ودخلَتْ بِهم مِنْ فُحْشِ الغلَطِ في كل مدْخَلٍ، وتعسَّفَتْ بهم في كل مَجْهلٍ، وجعلَتْهم يرتَكِبونَ في نُصْرةِ رأيهم الفاسد القول بكل محال، ويقتحمون في كل جهالة، حتى إنك لو قلتَ لهم: إنه لا يتأتَّى للناظم نَظْمُه إلا بالفكر والروية، فإذا جعلتم النظْمَ في الألفاظ لَزِمَكُمْ من ذلك أن تجعلوا فكْرَ الإنسان إذا هو فكر في نظم الكلام فكْرا في الألفاظ التي يُريد أنْ يَنطِقَ بها دُونَ المعاني: لم يُبالوا أن يَرتَكِبوا ذلك وأن يتعلقوا فيه بما في العادة ومجرى الجِبِلَّة، منْ أنَّ الإنسان يُخيل إليه إذا هُو فكَّر أنه يسمعُها سماعَه لها حين يُخرِجُها مِنْ فيه، وحين يَجري بها اللسانُ. وهذا تجاهلٌ لأنَّ سبيلَ ذلك سبيلُ إنسانٍ يتخيَّل دائماً في الشيء قد رآه وشاهدَهُ، أنَّه كان يرَاه وينظُرُ إليه، وأنَّ مِثالَهُ نُصْبُ عَيْنه، فكَما لا يوجِبُ هذا أنْ يكونَ رائياً له، وأنْ يكُون الشيءُ موجوداً في نفسه، كذلك لا يكونُ تخيُّلُه أنه كان يَنْطِقُ بالألفاظِ مُوجِباً أنْ يكونَ ناطقاً بها، وأنْ تكونَ موجودةً في نفسه حتى يَجْعلَ ذلك سبباً إلى جعل الفِكْرِ فيها.

ثم إنا نَعْمل على أنه يَنْطِق بالألفاظ في نفْسِه، وأنه يَجِدُها فيها على الحقيقة. فَمِنْ أين لنا أنه إذا فكَّر، كان الفكْرُ منه فيها؟ أمْ ماذا يَرومُ - ليتَ شِعْري - بذلك الفِكْرِ، ومعْلومٌ أنَّ الفِكْرَ من الإنسانِ، يكونُ في أنْ يُخْبِرَ عن شيءٍ بشيء، أو يَصِفَ شيئاً بشيءٍ، أو يُضيف شيئاً إلى شيءٍ، أو يُشْرِكَ شيئاً في حكْم شيءٍ، أو يُخْرِجَ شيئاً من حكْمٍ قد سبَق منه لشيء أو يَجْعلَ وجُودَ شيءٍ شرطاً في وجود شيء، وعَلَى هذا السبيل؟ وهذا كلُّه فِكْرٌ في أمورٍ معلومة معقولة زائدة على اللفظ. وإذْ كان هذا كذلكَ، لم يَخْلُ هذا الذي يُحْمَلُ في الألفاظَ فكْراً مِنْ أحَدِ أمرَيْن: إمَّا أن يُخرجَ هذهِ المعانيَ مِنْ أنْ يكونَ لواضعِ الكلامِ فيها فكْرٌ، ويجعلَ الفِكْرَ كلَّه في الألفاظِ. وإمَّا أن يَجعلَ له فكْرا في اللفظِ مفرداً عن الفكرْة في هذه المعاني، فإنْ ذَهب إلى الأوَّل لم يَكْلم، وإنْ ذهبَ إلى الثاني لزِمَه أن يُجوِّزَ وقوعَ فكْرٍ من الأعجميِّ الذي لا يعرِفُ معانيَ ألفاظِ العربية أصْلاً في الألفاظ؛ وذلك مما لا يَخْفى مكانُ الشنعةِ والفضيحةِ فيه. وشبيهٌ بهذا التوهُّم منهم، إنك قد تَرى أحدَهم يَعْتَبِر حالَ السامع: فإذا رأى المعانيَ لا تترتَّبُ في نفسه إلاَّ بترتُّب الألفاظِ في سمعه، ظنَّ عندَ ذلك أنَّ المعاني تِبْعٌ للألفاظ، وأنَّ الترتُّبَ فيها مكتَسبٌ مِن الألفاظِ ومن ترتُّبها في نُطْق المتكلِّم. وهذا ظنٌّ فاسدٌ ممَّنْ يظنُّه، فإنَّ الاعتبارَ يَنبغي أن يكونَ بحالِ الواضعِ للكلامِ والمؤلِّف له؛ والواجِبُ أن يُنظرَ إلى حالِ المعاني معه لا مَعَ السامِع؛ وإذا نظَرْنا، عَلمْنا ضرورةَ أنه محالٌ أنْ يكونَ الترتُّبُ فيها تِبعاً لترتُّب الألفاظِ ومكُتَسباً عنه، لأنَّ ذلك يقتضي أنْ تكونَ الألفاظُ سابقةً للمعاني، وأن تَقَع في نفْسِ الإنسان أولاً، ثمَّ تقعُ المعاني مِنْ بَعْدها، وتاليةً لها بالعكْسِ ممَّا يَعْلَمُه كلُّ عاقلٍ إذا هو لم يُؤخذ عن نَفْسه، ولم يُضْرَبْ حِجابٌ بينه وبين عَقْلِه.

وليتَ شعري، هل كانت الألفاظُ إلاَّ مِن أجْل المعاني؟ وهل هي إلاَّ خَدمٌ لها، ومُصرَّفَةٌ على حكمها؟ أوَ ليستْ هي سماتٍ لها، وأوضاعاً قد وُضِعَتْ لِتَدُلَّ عليها؟ فكيف يُتصوَّرُ أن تَسْبِقَ المعانيَ وأن تتقَدَّمَها في تَصَوُّرِ النفسِ؟ إنْ جازَ ذلك، جازَ أن تكون أسامي الأشياءِ قد وُضِعَتْ قبْل أن عُرِفَتِ الأشياءُ وقَبْل أنْ كانتْ، وما أدري ما أقولُ في شيء يجرُّ الذاهبينَ إليه إلى أشباه هذا مِن فنونِ المُحال، ورديءِ الأحوال! شبهة على كون النظم بحسب معاني النحو

وهذا سؤالٌ لهم من جنس آخر في النظْم - قالوا: لو كان النظْمُ يكونُ في معاني النحو، لكانَ البدويُّ الذي لم يسمع بالنحو قطُّ، ولم يَعرفِ المبتدأَ والخبرَ وشيئاً مما يذكُرونه، لا يتأتَّى له نظْمُ كلامٍ. وإنَّا لَنرَاه يأتي في كلامِهِ بِنَظْمٍ لا يُحْسنه المتقدِّمُ في علْم النحو: قيلَ: هذه شبهةٌ من جنس ما عرَضَ للذين عابوا المتكلِّمين فقالوا: إِنَّا نعْلم الصحابة رضيَ الله عنهم، والعلماءَ في الصدْرِ الأول، لم يكونوا يَعرفون الجوهَر والعرَضَ وصفةَ النفْس وصفةَ المعنى، وسائرَ العباراتِ التي وضعْتُموها؛ فإنْ كان لا تَتِمُّ الدلالةُ على حدوثِ العالَم والعِلْمِ بوحدانيَّة اللهِ إلا بمعرفَةِ هذه الأشياء التي ابتدأتُموها، فينَبغي لكم أن تدَّعوا أَنكم قد علِمتُم في ذلك ما لم يعْلَموه، وأنَّ منزلَتَكم في العِلْم أعلى من منازِلِهم. وجوابُنا هو مثْلُ جوابِ المتكلِّمينَ. وهو أَنّ الاعتبارَ: بمعرفةِ مدْلولِ العباراتِ لا بمعرفة العباراتِ: فإذا عرَفَ البدويُّ الفرْقَ بين أنْ يقولَ: (جاءني زيدٌ راكباً)، وبين قوله: (جاءني زيدٌ الراكبُ)، لم يَضُرَّهُ أنْ لا يعرفَ أَنه إذا قال: "راكباً" كانتْ عبارةُ النحويينَ فيهِ أن يقولوا في "راكب" إنَّه حالٌ؛ وإذا قال "الراكبُ" إنه صفةٌ جاريةٌ على (زيد). وإذا عرَف في قوله: (زيدٌ منطلقٌ): أَنَّ "زيداً" مُخْبَرٌ عنه، و "منطلق" خَبرٌ، لم يضرَّهُ أنْ لا يعلَمَ أنَّا نُسَمِّي "زيداً" مبتدأ. وإذا عرَفَ في قولنا: (ضربْتُه تأديباً له): أنَّ المعنى في (التأديب) أَنه غرَضُه من الضرب، وأن (ضرْبَه) ليتأدَّبَ، لم يضرَّه أنْ لا يَعْلَم أنَّا نسُمِّي (التأديبَ) مفعولاً له. ولو كان عدَمُ العِلْم بهذه العباراتِ يَمِنعهُ العلمَ بما وضعْناها له وأردناه بها، لكانَ يَنبغي أن لا يكونَ له سبيلٌ إلى بيانِ أَغراضِه، وأنْ لا يَفْصِلَ فيما يَتكلَّم به بين نفي وإثباتٍ، وبين "ما" إذا كان استفهاماً، وبينَه إذا كان بمعنى الذي، وإذا كان بمعنى المجازاة، لأنه لم يسْمَع عباراتِنا في الفرق بين هذه المعاني.

أَترى الأعرابيَّ حين سمِعَ المؤذِّن يقولُ: (أَشْهدُ أنَّ محمداً رسولَ اللهِ): (بالنصْب) فأنْكَر وقال: صنَعَ ماذا؟ أَنْكَر عن غَيْر علم أَنَّ (النصْب) يُخْرجه عن أن يكون خَبَراً ويجعلُه والأوَّلَ في حكْم اسم واحد، وأنه إذا صارَ والأوَّلَ في حكْم اسمٍ واحد احتيجَ إلى اسْمٍ آخر، أو فعْلٍ حتى يكون كلاماً، وحتى يكونَ قد ذكَر ماله فائدةٌ؟ إنْ كان لم يَعلَمْ ذلك، فلماذا قال: صنَعَ ماذا؟ فطلب ما يَجْعلُه خبَراً. ويكفيك أَنه يَلزمُ على ما قالوه أنْ يكونَ امرؤ القيس حين قال: قِفَا نَبْكِ من ذكرى حبيبٍ وَمنزلٍ قاله وهو لا يَعْلم ما نعنيه بقولنا: إنَّ "قفا" أمُرٌ و "نَبكِ" جوابُ الأمر و "ذكرى" مضافٌ إلى "حبيب" "ومنزلِ" معطوفٌ على الحبيب، وأنْ تكونَ هذه الألفاظُ قد رُتِّبتْ له من غيرِ قَصْدٍ منه إلى هذه المعاني، وذلكَ يُوجِبُ أن يكونَ قال: (نبك) بالجزم، من غيرِ أن يكونَ عرَفَ معنىً يوجِبُ الجزمَ، وأتى به مؤخراً عن (قفا) من غير أن عرَف لتأخيره موجباً سوى طلب الوزنِ. ومَنْ أفْضَتْ به الحالُ إلى أمثالِ هذه الشناعاتِ ثم لم يَرْتدِعْ ولم يتبيَّنْ أنه على خَطأٍ، فليس إلا ترْكُهُ والإعراضُ عنه. ولولا أنَّا نُحِبُّ أنْ لا يَنْبِسَ أَحدٌ في معنى السؤالِ والاعتراض بحَرْفٍ، إلاَّ أَريناه الذي استَهْواه، لكان تَرْكُ التشاغل بإيرادِ هذا وشبَههِ أَوْلى؛ ذاك لأنَّا قد علِمْنا علْمَ ضرورةٍ أنَّا لو بَقِينا الدهرَ الأَطْوَلَ نُصَعِّدُ ونصوِّبُ ونَبْحثُ ونُنقِّبُ، نبتغي كلمةً قد اتصلتْ بصاحبةٍ لها، ولفظةً قد انتظَمَتْ معَ أختها، من غير أَنْ نتوخَّى فيما بينهما معنىً من معاني النحو، طلَبْنَا ممتنِعاً، وثَنيْنا مَطايا الفكْرِ ظُلَّعاً. فإن كان ههنا مَنْ يَشُكُّ في ذلك ويزعُم أنه قد علِمَ لاتصال الكَلِم بعضها ببعض، وانتظامِ الألفاظِ بعضِها مع بعضٍ، معانيَ غيرَ معاني النحو، فإنَّا نقولُ: هاتِ فبَيِّنْ لنا تلكَ المعاني وأَرِنا مكانَها واهْدِنا لَها، فلعلَّكَ قد أُوتيتَ عِلْماً قد حُجِبَ عنَّا، وفُتِحَ لك بابٌ قد أُغلقَ دُوننا [من الوافر]: وذاكَ له إذا العنقاءُ صارتْ ... مُرَبَّبَةً وَشَبَّ ابْنُ الْخِصِيِّ

فصل: كشف شبهة أخرى للقائلين بأن الفصاحة للألفاظ

فصل: كشف شبهة أخرى للقائلين بأنّ الفصاحة للألفاظ قد أردتُ أن أُعيدَ القولَ في شيءٍ هو أصْل الفَسادِ، ومُعْظمُ الآفةِ، والذي صار حجازاً بين القوم وبَيْنَ التأمل، وأخذَ بهم عن طريق النَّظَرِ، حال بينهُم وبينَ أنْ يُصْغُوا إلى ما يقاَلُ لهم، وأنْ يفتحوا للذي تُبيَّنُ أعينُهم؛ وذلك قولهُم: إنَّ العقلاء قدِ اتَّفقوا على أنَّه يصِحُّ أنْ يُعبَّر عن المعنى الواحدِ بلفظَينْ، ثم يكونُ أحدُهما فصيحاً والآخرُ غيرَ فصيحٍ: وذلك - قالوا - يقتضي أن يكونَ لِلَّفظِ نصيبٌ في المزيَّة، لأنها لو كانت مقصورةً على المعنى لَكان مُحالاً أَنْ يُجعَلَ لأحدِ اللفظَيْنِ فضْلٌ على الآخَر، مع أَنَّ المعبَّرَ عنه واحد. وهذا شيءٌ تَراهُم يُعْجَبون به ويُكثرون تَرْدادَه، مع أَنهم يؤكَّدونه فيقولون: لولا أَنَّ الأمرَ كذلك، لكانَ يَنْبغي أنْ لا يكون للبيتِ من الشِّعْر فَضْلٌ على تفسير المفسِّر له، لأنه إن كان اللفظُ إنما يَشْرُفُ مِن أجْل معناه، فإنَّ لفظ المفسِّر يأتي على المعنى ويُؤدِّيه لا محالةَ؛ إِذْ لو كان لا يُؤدِّيه لكان لا يكونُ تفسيراً له - ثم يقولون - وإذا لزِمَ ذلكَ في تفسيرِ البيتِ من الشِّعْر، لَزمَ مثْلُه في الآيةِ مِنَ القرآنِ: وهُم إذا انتَهَوْا في الحِجَاج إلى هذا الموضِع، ظَنُّوا أنهم قد أَتَوْا بما لا يجوزُ أن يُسْمَعَ عليهم معَه لِعِلَّةِ كلامٍ، وأَنه نَقْضٌ ليس بعْدَه إبرامٌ؛ وربما أَخْرجَهُمُ الإعجابُ به إلى الضَّحكِ والتعجُّبِ ممَّنْ يَرى أَنَّ إِلى الكلام عليه سبيلاً، وأنْ يَسْتطيعَ أنْ يُقيمَ على بُطْلانِ ما قالوه دليلاً. والجوابُ وبالله التوفيق، أنْ يُقالَ للمحتجِّ بذلك: قولُك: إنه يَصِحُّ أنْ يُعبَّر عن المعنى الواحدِ بلفظَيْن، يَحْتمِلُ أمرَيْن: أحدهما أَن تُريدَ باللفظَيْن كَلِمتَيْنِ مَعْناهُما واحِدٌ في اللغة، مثْلُ (الليث والأَسد) ومثْلُ (شحَطَ وبَعُد) وأشباهٍ ذلك ممَّا وُضِع اللفظان فيه لِمعْنى.

والثاني أن تُريد كلامَيْن. فإنْ أردْتَ الأَوَّلَ، خرجْتَ من المسأَلة، لأنَّ كلامَنا نحْنُ في فصاحة تَحْدُثُ مِن بَعْد التأليفِ دون الفصاحة التي تُوصَفُ بها اللفظةُ مفردةً ومن غير أن يُعْتَبر حالُها مع غيرها؛ وإنْ أردْتَ الثاني، ولا بدَّ لك مِنْ أَنْ تُريده، فإنَّ ههنا أصْلاً: مَنْ عَرَفَهُ عَرَف سقوطَ هذا الاعتراض، وهو أنْ يَعْلَم أنَّ سبيلَ المعاني سَبيلُ أَشكالِ الحُليِّ: كالخاتَم والشَّنْفِ والسِّوار؛ فكما أَنَّ مِنْ شأْنِ هذه الأشكالِ أن يكون الواحدُ منها غُفْلاً ساذَجاً لم يَعْملأ صانِعُه فيه شيئاً أكثرَ من أنْ يأتيَ بما يَقْعُ عليه اسْمُ الخاتَمِ إن كان خاتماً، والشَّنْفِ إن كان شَنْفاً، وأن يكونَ مصنوعاً بديعاً قد أَغْرَب صانعُه فيه، كذلك سبيلُ المعاني أن تَرى الواحدَ منها غُفْلاً ساذجاً عامياً موجوداً في كلام الناس كُلِّهمِ ثم تَراه نفْسَه وقد عَمَد إليه البَصيرُ بشأنِ البلاغةِ وإحداث الصُّوَرِ في المعاني، فيَصْنَعُ فيه ما يَصْنَع الصَّنَعُ الحاذقُ، حتى يُغْرِبَ في الصنعةِ ويُدِقَّ في العمل ويُبْدِعَ في الصياغَة؛ وشواهدُ ذلك حاضِرةٌ لك كيفَ شئْتَ؛ وأَمْثلتُه نُصْبُ عينيك من أينَ نظَرْتَ، تنظر إلى قول الناس: الطبْعُ لا يتَغيَّرُ ولسْتَ تَسْتطيعُ أَنّ تُخْرِجَ الإنسانَ عمَّا جُبِلَ عليه؛ فترَى معنى غُفَلاً عامياً معروفاً في كل جيل وأمه، ثم تنظر إليه في قول المتنبي [من المتقارب]: يُرادُ مِنَ القلبِ نِسْيانُكُمْ ... وتأبى الطباعُ على الناقِلِ فتَجدُه قد خَرجَ في أحْسَنِ صورة، وترَاه قد تَحوَّلَ جوهرةً بعد أنْ كانَ خَرْزةً، وصار أعجبَ شيء بعد أنْ لم يكُنْ شيئاً. وإذْ قد عرَفْتَ ذلك، فإن العقلاء إلى هذا قصَدُوا حين قالوا: إنه يَصِحُّ أنْ يُعبَّر عن المعنى الواحد بلفظَيْن، ثم يكونَ أحدُهُما فصيحاً والآخرُ غيرَ فَصيح: كأنهم قالوا إنه يصِحُّ أَنْ تكون هاهنا عبارتان أَصْلُ المعنى فيهما واحدٌ ثم يكونُ لإِحداهما في تحسين ذلكَ المعنى وتَزْيينهِ وإِحداثِ خصوصيةٍ فيه، تأثيرٌ لا يكونُ للأُِخْرى.

واعلمْ أَن المخالِفَ لا يَخْلو مِنْ أنْ يُنْكِر أنْ يكونَ لِلمعنى في إحدى العبارتَيْن حسْنٌ ومزيةٌ لا يكونان له في الأخرى. وأنْ تَحْدُثَ فيه على الجملةِ صورةٌ لم تكُن أو يُعْرف ذلك. فإنْ أَنكرَ، لم يُكلم، لأنه يؤديه إلى أن لا يَجْعَل لِلمعنى في قوله: وتأبى الطباعُ على الناقل مزيةٌ على الذي يُعقَل من قولهم: الطبعُ لا يتغيَّر ولا يَستطيعُ أنْ يُخرجَ الإنسانَ عما جُبِل عليه: وأنْ لا يُرى لِقولِ أبي نواس: [من السريع]: ليسَ على الله بمستنكَرٍ ... أَنْ يَجْمعَ العالَم في واحدِ مزيةٌ على أن يُقال: غيرُ بديع في قدرةِ اللهِ تَعالى أن يَجْمعَ فضائِلَ الخَلْقِ كلَّهم في رجُلٍ واحدٍ. ومَن أَدَّاهُ قولٌ يقولُه إلى مثْلِ هذا، وكان الكلامُ معه مُحالاً؛ وكنتَ إِذا كلَّفْتَه أَنْ يَعْرِفَ، كَمَنْ يُكَلَّفُ أن يُميِّز بحوَر الشعرِ بعضِها من بعضٍ، فيَعْرفَ المديدَ من الطويلِ والبسيطَ من السريع مَنْ ليس له ذوقٌ يُقيمُ به الشِّعْرَ مِن أَصْلِه؛ وإِنْ اعترفَ بأَنَّ ذلك يكون، قلنا له: أَخْبِرْنا عنكَ أَتقولُ في قوله: وتأبى الطباعُ على الناقلِ إنَّهُ غايةٌ في الفصاحة؟ فإذا قال: نعم! قيلَ له: أفكانَ كذلك عندكَ من أجْلِ حروفِه، أمْ من أجْلِ حُسْنٍ ومزيةٍ حَصَلا في المعنى؟ فإن قال: مِنْ أَجْل حُروفه: دخلَ في الهذيان، وإن قال: من أجل حُسْنٍ ومزيّةٍ حصَلا في المعنى: قيل له: فذاكَ ما أَردْناكَ عليه، حين قلْنا إن اللفظ يكون فَصيحاً من أجْل مزيةٍ تقع في معناه، لا مِنْ أجْل جَرْسِه وصَداه. دلالة مراتب التشبيه على أن الفصاحة والبلاغة للمعاني

واعلمْ أنه ليس شيءٌ أبْيَن وأوْضَحَ وأَحْرى أن يَكْشِفَ الشبهةَ عن متأمِّلهِ في صحَّةِ ما قلناه مِن التشبيهِ. فإنكَ تقولُ: (زيدٌ كالأسَدِ أو مثلَ الأسدِ أَوْ شبيهٌ بالأسدِ): فتجدُ ذلكَ كلَّه تشبيهاً غُفْلاً ساذَجاً. ثم تقولُ: (كأنَّ زيداً الأَسَدُ): فيكونُ تشبيهاً أيضاً، إلاَّ أَنك تَرى بَيْنَه وبينَ الأولِ بَوْناً بعيداً، لأنك تَرى له صورةً خاصةً، وتَجِدُكَ قد فخَّمْتَ المعنى وزدْتَ فيه، بإنْ أفدْتَ أَنه مِن الشجاعةِ وشدةِ البطْشِ وأَنَّ قلْبَه قلبٌ لا يُخامِرُه الذعْرُ ولا يَدخلُه الروْعُ بحيثُ يتوهَّم أَنه الأَسَدُ بعينه. ثم تقول: لَئنْ لقِيتَهُ لَيَلْقَينَّكَ منه الأَسَدُ؛ فتَجدُه قد أفادَ هذه المبالغةَ لكنْ في صورةٍ أحْسَنَ وصِفَةٍ أخَصَّ؛ وذلك أَنك تَجْعَلهُ في "كأن" يتوهَّم أَنه الأسَدُ، وتَجعلُه هاهنا، يُرى منه الأسدُ على القطع، فيَخرُجُ الأَمرُ عن حدِّ التوهُّم إِلى حدِ اليقينِ. ثم إن نظرْتَ إلى قوله [من الطويل]: أَإِن أُرعِشَتْ كفَّا أبيكَ وأصْبَحَتْ ... يداكَ يدَيْ لَيْثٍ فإنَّكَ غالِبُهْ وجدَتهُ قد بَدا لكَ في صورةٍ أنقَ وأحْسَنَ. ثم إن نظرْتَ إلى قولِ أرطاة بن سُهَيَّة [من البسيط]: إنْ تَلْقَني لا تَرى غيري بِنَاظرةٍ ... تنسَ السِّلاحَ وتعْرِفْ جبهةَ الأَسدِ وجدْتَه قد فضَلَ الجميعَ، ورأيتَه قد أُخْرِجَ في صورةٍ غيرِ تلكَ الصورِ كلِّها.

واعلمْ أَنَّ من الباطلِ والمُحالِ، ما يَعْلمُ الإنسانُ بُطلانَه واستحالتَه بالرجوعِ إلى النفْس حتى لا يَشُكّ؛ ثم إنه إذا أرادَ بيانَ ما يجِدُ في نفْسِه والدلالةِ عليه، رأَى المَسْلكَ إليه يَغْمُضُ ويَدِقُّ. وهذه الشبهةُ - أعني قولهم: إنه لو كان يجُوزُ أنْ يكونَ الأمرُ على خلاف ما قالوه مِن أَنَّ الفصاحةَ وصْفٌ لِلَّفظِ مِنْ حيثُ هو لفظٌ، لكان يَنبغي أَنْ لا يكونَ للبيت من الشعر فضْلٌ على تَفسير المفسِّر إلى آخره - من ذاك، وقد علقتْ لذلك بالنفوس وقَويتْ فيها حتى إنَّكَ لا تلقى إلى أَحدٍ من المتعلِّقين بأمرِ اللفظ كلمةً مما نحنُ فيه إلاَّ كان هذا أوَّلَ كلامهِ، وإِلاَّ عَجِبَ وقال: إن التفسيرَ بيانٌ للمفسَّر فلا يجوز أن يبَقى مِنْ معنى المفسَّر شيءٌ لا يؤديه التفسيرُ ولا يأتي عليه، لأن في تجويز ذلك القولِ بالمُحالِ وهو أن لا يزال يَبْقى مِن معنى المفسَّرِ شيءٌ لا يَكونُ إلى العلم به سبيلٌ. وإذا كان الأمرُ كذلك، ثبَتَ أنَّ الصحيحَ ما قلْناه من أنه لا يجوزُ أن يكونَ لِلَّفظِ المفسَّر فضْلٌ من حيث المعنى على لفظِ التفسيرِ، وإذا لم يَجُزْ أنْ يكونَ الفضلُ من حيثُ المعنى، لم يَبْقَ إلاَّ أنْ يكون من حيثُ اللفَظُ نفسُه: فهذا جملةُ ما يمكِنهُم أنْ يقولوه في نُصْرة هذه الشبهةِ قد استقصيْتُه لكَ؛ وإذ قد عرفْتَه فاسمَعِ الجوابَ، وإلى اللهِ تعالى الرغبةُ في التوفيق للصواب! رد شبهتهم لو كانت الفصاحة للمعاني لكان التفسير كالمفسَّر إعلمْ أنَّ قولهم: إنَّ التفسيرَ يجبُ أنْ يكون كالمفسَّر: دعوى لا تَصِحُّ لَهم إلاَّ مِن بعْدِ أنْ يُنْكِروا الذي بيَّناه مِنْ أَنَّ مِن شأْن المعاني أنْ تختلفَ بها الصورُ، ويَدْفعوه أصلاً حتى يدَّعوا أنه لا فرْقَ بين الكنايةِ والتصريح، وأنَّ حالَ المعنى مع الاستعارةِ كحاله مع تَرْك الاستعارة، وحتى يُبْطلوا ما أَطْبَقَ عليه العقلاءُ مِن أنَّ المجازَ يكونُ أبداً أبلغَ من الحقيقة، فَيْزعموا أنَّ قولنا: (طويلُ النِّجادِ وطويلُ القامةِ): واحد، وأنَّ حال المعنى في بيت ابْنِ هَرْمَة [من المنسرح]: ولا أبتاعُ إلا قريبةَ الأجَلِ

كحالهِ في قولك: (أنا مضياف). وأَنَّك إذا قلتَ: (رأيتُ أسداً): لم يكنِ الأمرُ أقوى من أَنْ تقولَ: (رأيتُ رجلاً هو من الشجاعة بحيثُ لا ينقصُ عن الأَسد). ولم تكنْ قدَّرتَ في المعنى بأنِ ادَّعيتَ له أنَّه أسَدٌ بالحقيقة ولا بالغْت فيه؛ وحتى يَزْعمُوا أنه لا فضلَ ولا مزيةَ لقولهم: (أَلقيتُ حَبْلَه على غارِبِه): على قولك في تفسيره: (خلَّيتُهُ وما يريدُ وتركْتُه يفَعلُ ما يشاءُ). وحتى لا يَجعلوا لِلمعنى في قوله تعالى: {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل} [البقرة: 93] مزيةً على أن يقال: (اشتدَّتْ محبتُهم للعجْلِ وغلَبَتْ على قلوبهم)، وأن تكونَ صورةُ المعنى في قوله عزَّ وجل {واشتعل الرأس شَيْباً} [مريم: 4] صورتَه في قول من يقول: (وشابَ رأسي كلُّه وأبيضَّ رأْسي كلُّه)، وحتى لا يَرَوْا فرْقاً بين قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16] وبين: (فما رَبِحوا في تجارَتِهم)، وحتى يَرْتكبوا جميعَ ما أرَيْناك الشَّناعةَ فيه، من أنْ لا يكونَ فرْقٌ بين قول المتنبي: وتأبى الطباعُ على الناقلِ وبين قولهم: (إنك لا تَقدِرُ أن تغيِّر طبَاعَ الإنسان)، ويَجْعلوا حالَ المعنى في قول أبي نواس [من السريع]: ليسَ على اللهِ بمستنكَرٍ ... أنْ يَجْمَع العالَمَ في واحدِ

كحالهِ في قولِنا: (إنه ليس ببديع في قُدْرة اللهِ أن يَجْمع فضائلَ الخَلْقِ كلِّهم في واحد)، ويرتكبوا ذلك في الكلام كلِّه حتى يَزْعموا أنَّا إذا قلْنا، في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ} [البقرة: 179]: إنَّ المعنى فيها أنه لمَّا كان الإنسانُ إذا هَمَّ بقَتْلِ آخَر لِشيءٍ غاظَهُ منه، فذَكَر أَنَّه إنْ قَتَله قُتِلَ، ارتَدَعَ، صار المهمومُ بِقَتْله، كأنه قد استفادَ حياةً فيما يَسْتَقبِلُ بالقِصاص، كنا قد أَدَّينا في تفسيرنا هذا على صورته التي هو عليها في الآية، حتى لا نَعرفَ فضْلاً، وحتى يكونَ حالُ الآية والتفسيرِ حالَ اللفظتين: إحداهما غريبةٌ والأخرى مشهورة، فتُفَسَّر الغريبةُ المشهورة، مثْلَ أن تقولَ مثَلاً في "الشوقب" إنه: الطويلُ، وفي "القطَّ" إنه: الكِتاب، وفي "الدُسُّرِ" إنه المَسامير. ومَنْ صارَ الأمرُ به إلى هذا، كان الكلامُ معه مُحالاً. واعلمْ أَنه ليسَ عَجيبٌ أعجبَ مِن حالِ مَن يَرى كلامَيْن، أجزاءُ أحَدِهما مخالِفةٌ في معانيها لأجزاءِ الآخَر، ثم يَرى أنه يَسَعُ في العقْلِ أن يكونَ معنى أحَدِ الكلامَيْن مثْلَ معنى الآخر سواءٌ، حتى يَتصدَّى فيقولُ: إنه لو كان يكونُ الكلامُ فَصيحاً مِن أجْل مزيَّةٍ تكونُ في معناه، لكانَ يَنبغي أَن تُوجَد تلكَ المزيةُ في تفسيره. ومثْلُه في العَجَب أنه يَنظُرُ إلى قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16] فيرَى إعرابَ الاسْم الذي هو "التجارة" قد تغيَّر، فصارَ مرفوعاً بعد أن كان مجروراً، ويرَى أنه قد حُذِفَ من اللفظ بعضُ ما كان فيهِ وهو "الواو" في "ربحوا" و"في" من قولنا: (في تجارتهم). ثم لا نَعلم أنَّ ذلك يَقْتضي أن يكونَ المعنى قد تَغيَّر كما تغيَّر اللفظُ. واعلمْ أَنه ليسَ للحِجَجِ والدلائل في صحَّةِ ما نحن عليه، حَدٍّ ونهايةٌ. وكلَّما انتهى منه بابٌ انفتَحَ فيه بابٌ آخر. وقد أردتُ أن آخذ في نوعٍ آخر من الحِجَاج ومن البَسْط والشرح، فتأملْ ما أكْتبُه لك!. بيان الفصاحة في اللفظ والفصاحة في النظم

إعلمْ أَنَّ الكلامَ الفصيحَ ينقسمُ قسمين: قسمٌ تُعزى المزيةُ والحسْنُ فيه إلى اللفظِ، وقسمٌ يُعْزَى ذلكَ فيه إلى النظْم. فالقسم الأول: الكناية والاستعارة والتمثيل الكائن على حَدِّ الاستعارة، وكلُّ ما كان فيه على الجملةِ مَجازٌ واتساعٌ وعُدُولٌ باللفظ عن الظاهر. فما مِنْ ضَرْبٍ من هذه الضُّروب إلاَّ وهو إذا وقَعَ على الصواب وعلى ما يَنْبغي، أوْجَبَ الفضْلَ والمزيَّةَ. فإذا قلتَ: (هو كثيرُ رمادِ القدْر)، كان له موقِعٌ وحظٌّ من القَبول، لا يكون إذا قلتَ: (هو كثير القِرى والضِّيافة). وكذا إذا قلتَ: (هو طويل النِّجاد)، كان له تأثيرٌ في النفس لا يكون إذا قلتَ: (هو طويلُ القامة). وكذا إذا قلتَ: (رأيتُ أسداً)، كان له مزيةٌ لا تكونُ إذا قلتَ: (رأيتُ رجلاً يُشبهُ الأسدَ ويُساويه في الشجاعة). وكذلك إذا قلتَ: (أراك تُقَدِّمُ رِجْلاً وتؤخِّرُ أخرى). كان له موقعٌ لا يكون إذا قلتَ: أراكَ تتردَّدُ في الذي دعوتُكَ إليه، كمَنْ يقولُ: أخرُجُ ولا أخرج فيُقدِّم رجْلاً ويؤخِّر أُخرى). وكذلك إِذا قلتَ: (أَلقى حبْلَه على غاربه)، كان له مأخَذٌ من القَلْب لا يكونُ إذا قلتَ: (هو كالبعير الذي يُلْقَى حَبْلُه على غاربة، حتى يَرْعى كيْفَ يشاءُ ويذهَبَ حيثُ يُريد). لا يَجْهَلُ المزيةَ فيه إلاَّ عديمُ الحِسِّ، ميِّتُ النَّفْس، وإلاَّ مَنْ لا يكلَم، لأنه مِن مَبادىء المعرفةِ التي مَن عَدِمَها لم يَكنْ للكلام معه معنى. فصاحة الكناية عقلية أو معنوية لا لفظية

وإذْ قد عرفْتَ هذه الجملةَ، فينبغي أنْ تَنْظرَ إلى هذه المعاني واحداً، وتعْرِفَ مَحْصولَها وحقائقَها، وأن تَنظُرَ أولاً إِلى الكناية. وإذا نظرْتَ إليها وجدْتَ حقيقتهَا ومحْصولَ أمرِها أَنها إثباتٌ لِمعنىً أنتَ تَعْرِفُ ذلك المعنى مِنْ طريق المعقولِ دون طَريق اللفظ. ألاَ ترى أَنكَ لَمَّا نظرْتَ إلى قولهم: (هو كثيرُ رَمادِ القِدْر)، وعرفْتَ منه إنهم أرادوا أَنه كثيرُ القِرى والضيافة، لم تعرِفْ ذلك مِنَ اللفظِ، ولكنَّك عرفْتَه بأن رجَعْتَ إلى نَفْسك فقلتَ: إنه كلامٌ قد جاء عنهم في المدح، ولا معنى للمدح بكَثرْة الرماد على أَنه تُنْصَبُ له القدورُ الكثيرةُ ويُطْبخ فيها للقِرى والضيافةِ، وذلك لأَنه إذا كَثُرَ الطبخُ في القدورِ كثُرَ إحراقُ الحطَبِ تحتها، وإِذا كثُرَ إحراق الحطَبِ كَثُرَ الرمادُ لا محالة. وهكذا السبيلُ في كل ما كانَ كنايةً. فليسَ مِنْ لَفْظِ الشعر. عرفْتَ أنَّ ابْنَ هَرْمة أرادَ بقوله: ولا أبتاعُ إلا قريبةَ الأجَلِ التمدُّحَ بأنه مضيافٌ، ولكنك عرفْتَه بالنَّظرِ اللطيفِ وبأنْ علِمْتَ أنه لا معنى للتمدُّح بِظاهرِ ما يَدُلُّ عليه اللفظُ من قُرْبِ أجَلِ ما يَشْتريهِ، فطلبْتَ له تأويلاً، فعلمْتَ أَنه أرادَ أنه يَشْتري ما يَشْتريهِ للأضياف، فإذا أشترى شاةً أو بعيراً كان قد اشترى ما قد دَنا أَجَلُه لأنه يُذْبَحُ ويُنْحَر عن قَريبٍ. الفصاحة في الاستعارة عقلية أو معنوية لا لفظية

وإذْ قد عرفْتَ هذا في الكناية، فالاستعارةُ في هذه القضية. وذاكَ أنَّ موضوعَها، على أنك تُثْبِتُ بها معنى لا يَعْرِفُ السامعُ ذلكَ المعنى من اللفظِ، ولكنَّه يَعرفُه من معنى اللفظِ. بَيانُ هذا أَنَّا نَعْلم أَنَّك لا تقولُ: (رأيتُ أسداً)، إلا وغَرضُكَ أَن تُثْبِتَ للرجُل أَنه مساوٍ للأَسد في شجاعته، وجُرْأته، وشدَّة بطْشه، وإقدامه، وفي أنَّ الذعْرَ لا يُخامرُه، والخوفَ لا يَعرِضُ له. ثم تَعْلم أَنَّ السامعَ إذا عَقَل هذا المعنى، لم يَعقِلْه من لفظِ "أسَد" ولكنَّه يَعقِلُه من معناه، وهو أنه يَعْلم أَنه لا معنى لجعله "أسداً" مع العلم بأنه رجُل، إلاَّ أنك أردْتَ أنه بلغَ من شدة مُشابَهتِه للأَسد ومساواتِه مبْلغاً يُتَوهَّم معه أَنه أَسدٌ بالحقيقة، فاعرفْ هذه الجملةَ وأحْسِنْ تأمُّلَها! واعلمْ أَنكَ تَرى الناسَ وكأنهم يرَوْن أَنك إذا قلتَ: (رأيت أسداً)، وأنتَ تُريد التشبيهَ كنتَ نقلْتَ لفْظَ "أسد" عما وُضع له في اللغة، واستعملْتَه في معنى غيرِ معناه، حتى كأنْ ليس الاستعارةُ إلاَّ أن تَعْمدَ إلى اسْم الشيءِ فتجعلَه اسماً لشبيهه، وحتى كأنّْ لا فصْلَ بين الاستعارةِ وبينَ تسميةِ المطرِ سماءً، والنبتِ غيثاً، والمزادةِ رواية، وأشباهِ ذلك ممَّا يوقَع فيه اسمُ الشيءِ على ما هو منه بسبَبٍ. ويَذْهبون عمَّا هو مركوزٌ في الطباع من أنَّ المعنى فيها المبالَغةُ، وأَنْ يُدَّعى في الرجُل أَنه ليسَ برجُل ولكنه أَسدٌ بالحقيقة، وأَنه إنما يُعار اللفظُ مِنْ بعد أنْ يعارَ المعنى، وأَنه لا يُشْرَكُ في اسم الأسدِ إلاَّ من بَعْد أن يُدْخَل في جنس الأَسدِ. لا تَرى أحداً يَعْقِل إِلاَّ وهُو يَعْرفِ ذَلك إذا رجَعَ إلى نفسه أدنى رُجوعٍ. تحقيق معنى الاستعارة وكونها أبلغ من الحقيقة

ومِن أجْل أَنْ كانَ الأمرُ كذلك، رأيت العقلاء كلَّهم يُثْبِتون القولَ بأنَّ مِن شأْنِ الاستعارةِ أن تكونَ أبداً أَبلغَ من الحقيقة، وإلاَّ فإن كان ليس هاهنا إِلا نقْلُ اسْم من شيءٍ إلى شيءٍ، فمِنْ أينَ يَجبُ - ليت شعري - أَن تكونَ الاستعارةُ أبلغَ من الحقيقة؟ ويكونَ لِقَوْلنا: (رأيتُ أَسداً): مزيةٌ على قولنا: (رأيت شبيهاً بالأسد؟)، وقد علِمْنا أنه محالٌ أن يتَغيَّر الشيءُ في نفسِه بأن يُنْقَل إليه اسْمٌ قد وُضِع لِغيره من بَعْد أنْ لا يُرادَ مِن معنى ذلك الاسْم فيه شيءٌ بوجْهٍ من الوجوهِ، بل يُجعلَ كأنه لم يُوضَعْ لذلك المعنى الأصليِّ أصْلاً، وفي أي عَقْلٍ يُتَصوَّر أَنْ يتغيرَ معنى "شبيهاً بالأسد" بأن يُوضَع لفظُ "أسد" عليه ويُنْقَلَ إليه؟ واعلمْ أنَّ العقلاء بَنَوْا كلامَهم إذْ قاسُوا وشبَّهوا على أنَّ الأشياءَ تستحِقُّ الأَسامي لِخَواصِّ معانٍ هي فيها دونَ ما عَداها؛ فإذا أَثْبتوا خاصَّةَ شيءٍ لشيءٍ أَثْبتوا له اسْمَه؛ فإذا جعَلوا الرجُلَ بحيثُ لا تَنقصُ شجاعتُه عن شجاعِ الأَسد ولا يَعدمُ منها شيئاً قالوا: (هو أَسد). وإذا وصَفوه بالتناهي في الخير والخصالِ الشريفة، أو بالحُسْن الذي يَبْهَرُ قالوا: (هو مَلَكٌ). وإذا وصَفُوا الشيءَ بغاية الطِّيبِ قالوا: (هو مِسْك). وكذلك الحُكْم أبداً. ثم إنَّهم إذا استقْصَوْا في ذلك نفَوْا عن المشبَّه اسْمَ جنسِه فقالوا: ليس هو بإنسانٍ وإنما هو أَسدٌ، وليس هو آدميّاً وإنما هو مَلكٌ: كما قال اللهُ تعالى: {مَا هاذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31]. ثم إنْ لم يُريدوا أَنْ يُخرجُوه عن جنسِه جملةً، قالوا: هو أسَدٌ في صورةِ إنسانٍ، وهُو ملَكٌ في صورةِ آدميٍّ). وقد خرَجَ هذا للمتنبي في أحْسَنِ عبارةٍ، وذلك في قوله [من الخفيف]: نحن ركبٌ مِلْجِنّ في زِيّ ناسٍ ... فَوْقَ طيرٍ لها سخوصُ الجِمالِ غلط العلماء في تفسير الاستعارة وجعلها من المنقول

ففي هذه الجملةِ بيانٌ لِمَنْ عقَل ليستِ الاستعارةُ نْقْلَ اسْم عن شيءٍ إلى شيء، ولكنَّها ادِّعاءُ معنى الاسْمِ لشيءٍ. إذ لو كانتْ نَقْلَ اسْمٍ وكان قولُنا (رأيتُ أسداً) بمعنى: رأيتُ شبيهاً بالأسد، ولم يكن ادِّعاءَ أَنه أسدّ بالحقيقة، لكانَ مُحالاً أن يُقال: ليس هو بإنسانٍ ولكنَّه أسدٌ أو هو أسدّ في صورةِ إنسان: كما أنه محالٌ أن يقال: ليس هو بإنسانٍ ولكنَّه شبيهٌ بأَسد: أو يقال: هو شَبيهٌ بأسَدٍ في صورة إنسان. وعلمْ أَنه قد كثُرَ في كلام الناسِ استعمالُ لفظِ النقل في الاستعارة. فمِنْ ذلك قولُهم: إنَّ الاستعارةَ تعْليقُ العبارةِ على غير ما وُضِعَت له في أصْل اللغةِ على سبيل النَّقْل: وقال القاضي أبو الحسن: الاستعارةُ ما اكتُفيَ فيه بالاسْمِ المُستعار عن الأصليِّ ونُقِلت العابرةُ فجعُلِتْ في مكانِ غيرِها، ومن شأْنِ ماَ غَمُضَ من المعاني ولَطُف، أن يصْعُبَ تصويرُه على الوجْه الذي هو عليه لعامة الناس، فيقَعَ لِذلكَ، في العبارات التي يُعبَّر بها عنه، ما يُوهمُ الخطَأ، وإطلاقُهم، في الاستعارة أنها نقلٌ للعبارَةِ عمَّا وُضِعت له، من ذلك. فلا يَصِحُّ الأَخذُ به. وذلك أَنك إذا كنتَ لا تُطْلِقُ اسْمَ الأَسد على الرجُلِ، إلاَّ مِنْ بَعْد أن تُدْخِلَه في جنس الأُسود، من الجهة التي بيَّنَّا، لم تَكنْ نقلْتَ الاسمَ عما وُضِعَ له بالحقيقةِ، لأنك إنما تكونُ ناقِلاً إذا أنْتَ أَخرجْتَ معناهُ الأَصْليَّ من أنْ يكونَ مقصودَكَ ونفَضْتَ به يدَك؛ فأَمَّا أنْ تكونَ ناقِلاً له عن معناه مع إرادةِ معناهُ فمحالٌ متناقِضٌ. الاستعارة المكنية لا يظهر فيها النقل واعلمْ أنَّ في الاستعارةِ ما لا يُتصوْر تقديرُ النقلِ فيه البتَّةَ. وذلك مثلُ قول لبيد [من الكامل]: وغداةٍ ريحٍ قد كَشَفْتُ وقِرَّةٍ ... إذْ أصبَحَتْ بِيَدِ الشَّمالِ زِمامُها

لا خلافَ في أَنَّ (اليد) استعارة؛ ثم إنَّك لا تستطيعُ أن تزعُمَ أنَّ لفظَ (اليد) قد نُقِلِ عن شيء إلى شيءٍ، وذلك أَنه ليس المعنى على أَنَّه شبَّه شيئاً باليد، فيمُكِنُكَ أن تزعُمَ أنه نقَل اليدِ إليه، وإنَّما المعنى على أَنه أَراد أنْ يُثْبتَ (للشَّمال) في تصريفِها (الغداةَ) على طبيعتِها، شَبَهَ الإنسان قد أَخذَ الشيءَ بيدِهِ يُقَلِّبهُ ويُصرِّفُه كيف يُريد؛ فلما أَثبتَ لها مثْلَ فعلِ الإنسانِ باليدِ، استعارَ لها اليدَ. وكما لا يُمكِنُكَ تقديرُ النقلِ في لفظِ اليَدِ، كذلك لا يمكنْكَ أنْ تَجْعل الاستعارة فيه من صفةِ اللفظِ. ألا تَرى أَنه محالٌ أن تقول: إنه استعارَ لفظَ "اليد" للشَّمال؟ وكذلك سبيلُ نَظائرِه مما تَجدُهم قد أَثبتُوا فيه للشيءِ عُضْواً مِن أعضاءِ الإنسان من أجْل إثباتهم له المعنى الذي يكونُ في ذلك العضو من الإنسان كبيت الحماسة [من الطويل]: إذا هزَّهُ في عَظْمِ، قِرنٍ تَهلَّلَتْ ... نواجِذُ أفواهِ المنَايا الضواحِكِ فإنَّه لمَّا جعَل المنايا تضحَكُ، جعَل لها الأَفواهَ والنواجِذَ التي يكونُ الضّحِكُ فيها. وكبيتِ المتنبي [من الطويل]: خَميسٌ بِشَرْقِ الأرضِ والغَرْبِ زَحْفُهُ ... وفي أُذُنِ الجَوْزاءِ منه زَمَازِمُ لمَّا جعَل الجوزاءَ تَسْمعُ على عادتهم، في جعْل النجوم تَعْقِلُ، ووصْفِهم لها بما يُوصَف بها الأناسيُّ أثْبَتَ لها الأُذُنَ التي بها يكونُ السَّمْعُ مِن الأناسيِّ؛ فأنتَ الآن لا تسطيعُ أنْ تزعُمَ في بيتِ الحماسةِ، أنه استعارَ لفظَ "النواجذِ" ولفظَ "الأفواه" لأنَّ ذلك يُوجِب المُحالَ، وهو أنْ يكونَ في المنايا شيءٌ قد شبَّهَه بالنواجذِ وشيءٌ قد شبَّهه بالأفواه؛ فليس إلاَّ أَنْ تقول إنه لمَّا ادَّعى أنَّ المنايا تُسَرُّ وتَسْتَبْشِرُ إذا هو هَزَّ السيفَ، وجعَلَها لِسرورها بذلك، تَضْحَكُ، أراد أنْ يُبالِغَ في الأمر، فجعَلَها في صورة مَنْ يَضْحَكُ حتى تَبدوَ نواجذُهُ من شدَّة السرورِ. وكذلك لا تستيطعُ أنْ تَزعُمَ أَنَّ المتنبي قد استعار لفظَ (الأُذُن) لأنه يُوجبُ أن يكون في الجوزاء شيءٌ قد أرادَ تشبيهَهُ بالأذن، وذلك من شَنعِ المُحال.

تعريف الاستعارة مطلقاً فقد تبيَّن مِن غيرِ وجْهٍ أنَّ الاستعارةَ إنما هي ادِّعاءُ معنى الاسَمِ للشيء، لا نَقْلُ الاسم عن الشيء؛ وإذا ثبتَ أنها ادِّعاءُ معنى الاسْمِ للشيء، علمْتَ أنَّ الذي قالوه من أنها تعليقٌ للعبارةِ على غَيْرِ ما وُضِعَتْ له في اللغة ونَقْلٌ لها عمَّا وُضِعتْ له، كلامٌ قد تَسامَحوا فيه، لأنه إذا كانت الاستعارةُ ادِّعاءَ معْنى الاسْمِ لم يكُنِ الاسْمُ مُزالاً عمَّا وُضِع له، مُقَّرًّا عليه. الفرق بين معنيَيْ الجَعْل والتسمية واعلمْ أنك تراهُمْ لا يمتنعونَ، إذا تكلَّموا في الاستعارةِ من أنْ يَقولوا: إنه أراد المبالغةَ فجعلَه أسداً، بل هُمْ يلجأون إلى القول به. وذلك صريحٌ في أنَّ الأصْل فيها المعنى، وأنه المستعارُ في الحقيقة، وأن قولنا: استعير له اسمُ الأسَدَ، إشارةٌ لى أنه استُعير له معْناه، وأنه جُعِل إياهُ؛ وذلك لو لم نَقْلْ ذلك لم يَكُنْ (لجُعِلَ) ههانا معنى، لأنَّ (جعل) لا يَصْلُحُ إلاَّ حيثُ يُراد إثباتُ صفةٍ للشيء، كقولنا: (جَعَلْتُه أميراً وجعلْتُه لِصّاً) تريد أنَّك أثبَتَّ له الإِمارة ونسبْتَه إلى اللصوصيَّة وادَّعَيْتَها عليه ورمَيْتَه بها، وحكْمُ "جعَل" إذا تعدَّى إلى مفعولين، حكْمُ (صيَّرَ). فكَما لا تقول: (صيَّرْتُه أميراً) إلاَّ على معنى أنَّك أثبتَّ له صِفة الإمارة، كذلك لا يصِحُّ أنْ تقول: (جعلْتُه أسداً) إلاَّ على معنى أنك أثبتَ له معانيَ الأسد. وأمَّا ما تَجدُه في بعضِ كلامِهم مِن أنَّ "جعَل" يكون بمعنى "سمَّى" فما تسامحوا فيه أيضاً، لأنَّ المعنى معلومٌ، وهو مثْلُ أن تَجِدَ الرجُلَ يقول: (أنا لا أُسمِّيه إنساناً). وعرَضُه أن يقولَ إني لا أُثْبِتُ له المعانيَ التي بها كان الإِنسانُ إنساناً. ألاَ تَرى أنك لا تَجِدُ عاقِلاً يقول: (جعلْتُه زيداً). بمعنى: سمَّيتُه زيدا، ولا يقال للرجل: (اجْعَلْ ابنَكَ زيداً) بمعنى: سمِّهِ زَيدا، و (وُلِدَ لفلانٍ ابنٌ فجعَلَه عبدَ الله) أي: سمَّاه عبدَ الله.

هذا مَا لا يَشُكُّ فيه ذو عقلٍ إذا نَظَر. وأكثَرُ ما يكون منهم هذا التسامحُ، أعني قولهم إنَّ "جعَل" يكون بمعنى "سمَّى" في قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمان إِنَاثاً} [الزخرف: 19]. فقد تَرى في التفسيرِ أنَّ (جعلَ) يكون بمعنى (سمى) وعلى ذلك فلا شبْهةَ في أن ليس المعنى على مجرَّدِ التسمية، ولكنْ على الحقيقة التي وصفْتُها لكَ؛ وذاكَ أنَّهم اثْبَتوا للملائكةِ صفةَ الإناثِ، واعتقدوا وُجودَها فيهم؛ وعن هذا الاعتقادِ صَدَرَ عنهم ما صَدَر من الاسْمِ، أعني إطلاقَ اسْمِ البَنَات، وليس المعنى أنهم وضَعوا لها لفظَ الإناثِ ولفظَ البناتِ من غير اعتقاد معنىً وإثباتِ صفةٍ. هذا محالٌ. أوَ لا تَرى إلى قوله تعالى: {أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف: 19]؟ فلو كانوا لم يَزيدوا على إجراء الاسْمِ على الملائكة، ولم يَعتِقدوا إثباتَ صفةٍ لما قال الله تعالى: {أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ}. وهذا ولو كانوا لم يَقْصِدوا إثباتَ صفةٍ ولم يكُنْ غيرَ وَضَعوا اسْماً لا يُريدونَ به معنىً، لَمَا استحقُّوا إلاَّ اليسيرَ مِن الذَّمِّ، ولَمَا كان هذا القولُ منهم كُفْراً. والتفسيرُ الصحيحُ والعبارةُ المستقيمةُ: ما قاله أبو إسحاقٍ الزجَّاج رحمه الله فإنه قال: إن الجَعْل هاهنا في معنى القَوْلِ والحُكْمِ على الشيء. تقول: "قد جَعَلْتُ زيداً أعلم الناس" أي وصفْتَه بذلك وحكمْتَ به. فصاحة التمثيل عقلية أو معنوية لا لفظية ونَرجع إلى الغرَض فنقول: فإذا ثَبَتَ أنْ ليستِ الاستعارةُ نَقْلَ الاسْمِ ولكنْ ادعاءَ معنى الاسْم، وكنَّا إذا عقَلْنا من قول الرجُلِ "رأيتُ أسداً" أنه أرادَ به المبالَغَةَ في وصْفِه بالشجاعة، وأنْ يقولَ إنَّه مِنْ قُوَّةِ القلب، ومن فَرْط البَسالةِ وشدَّة البطْشِ، وفي أنَّ الخوْفَ لا يُخامِرُه، والذعْرَ لا يَعرضُ له بحيثُ لا يَنْقصُ عن الأسَد، لم نعقل ذلك من لَفْظِ (أسد) ولكنْ مِنَ ادّعائه معنَى الأسد الذي رآه - ثبت بذلك أنَّ الاستعارة كالكِنَاية في أنَّك تَعْرِفُ المعنى فيها مِن طريقِ المعقول، دونَ طريقِ اللفظِ.

وإِذْ قد عرَفْتَ أنَّ طريقَ العِلْم بالمعنى، في الاستعارة والكناية معاً: المعقولُ، فاعلمْ أنَّ حكْمَ التمثيل في ذلك حكمُها، بل الأمرُ في التمثيل أظْهَرُ. وذلك أنه ليس مِن عاقلٍ يَشُكُّ إذا نظَر في كتاب يزيدَ بنِ الوليد إلى مروان بن محمد حيث بلغه أنه يتلكَّأ في بَيْعَته: أما بَعْدُ، فإني أرادَ تقدِّم رجْلاً وتؤخر أخرى، فإذا أتاكَ كتابِي هذا فاعْتمِدْ على أَيَّتِهما شئْتَ والسلامُ، يعلم أنَّ المعنى أنه يقول له: بلَغني أنك في أمْرِ البيعة بين رأْيَيْن مختلفين: تَرى تارةً أن تُبايعَ وأخرى أنْ تَمْتنع من البيعة؛ فإذا أتاك كتابي هذا فاعْمَلْ في أيِّ الرأيين شئْتَ: وإنه لم يَعْرف ذلك من لفْظِ (التقديم والتأخير) أو من لفظ (الرِّجل)، ولكنْ بأنْ علمَ أنه لا معنى لتقديم الرِّجل وتأخيرها، في رَجُلٍ يُدْعى إلى البيعة، وإنَّ المعنى على أنه أرادَ أن يقولَ إنَّ مثَلَكَ في تردُّدكَ بين أنْ تُبَايع وبين أن تَمْتنعَ، مثَلُ رَجُلٍ قائمٍ ليذهَبَ في أمرٍ، فجَعَلَتْ نَفسُه تُريهِ تارةً أنَّ الصوابَ في أنْ يذْهَبَ وأُخرى أنه في أنْ لا يَذْهَبَ؛ فجعلَ يُقدّم رِجْلاً تارةً ويُؤخِّر أُخْرى.

وهكذا كلُّ كلامٍ كان ضرْبَ مثَلٍ، لا يَخْفى على مَنْ له أدنى تمييزٍ أنَّ الأغراضَ التي تكونُ للناس في ذلك، لا تُعْرَف من الألفاظِ ولكنْ تكونُ المعاني الحاصلةٌ من مجموع الكلام أدلَّةً على الأغراضِ والمقاصدِ؛ ولو كان الذي يكونُ غَرَضَ المتكلم يُعْلَم من اللفظِ، ما كان لِقولهم: (ضَرَبَ كذا مثلاً لكذا)، معنى، فما اللفظُ يُضْرَبُ مَثَلاً ولكنْ المعنى. فإذا قلْنا في قول النبيّ عليه السلام "إيَّاكم وخضراءَ الدِّمن" إنَّه ضَرَبَ، عليه السلامُ، (خضراء الدِّمن) مثلاً للمرأة الحَسّناء في مَنْبت السوء، لم يكن المعنى أنه صلى الله عليه وسلم، ضرَب لَفْظَ (خضراءِ الدِّمن) مثلاً لها. هذا ما لا يَظُنُّه مَنْ بهِ مَسٌّ، فضلاً عن العاقل. فقد زالَ الشكُّ وارتفعَ في أنَّ طريقَ العلْمِ بما يُراد إثباتُه والخُبر به في هذه الأجناس الثلاثةِ التي هي الكنايةُ والاستعارةُ والتمثيلُ: المعقولُ دونَ اللفظِ من حيثُ يكونُ القصْدُ بالإثباتِ فيها إلى معنىً ليس هو معنى اللفظِ، ولكنَّه معنىَ يُستَدلُّ بمعنى اللفظِ عليه، ويُسْتنبَطُ منه؛ كنحْوِ ما تَرى من أنَّ القصْد في قولهم: (هو كثيرُ رمادِ القِدْر) إلى كَثْرة القِرى، وأنتَ لا تعرف ذلكَ من هذا اللفظِ الذي تَسْمَعُهُ، ولكنَّك تعرِفُه بأنْ تَسْتَدِلَّ عليه بمعناه على ما مَضَى الشرحُ فيه. وجه الاستدلال بالاستعارة والكناية والتمثيل في الباب

وإذْ قد عرفتَ ذلك، فنيبغي أن يقالَ لهؤلاء الذين اعترضوا علينا، في قولنا إنَّ الفصاحة وصْفٌ تَجِبُ للكلام من أجل مزيةٍ تكونُ في معناه، وأنها لا تكون وصْفاً له من حيثُ اللفظُ مجرداً عن المعنى؛ واحتجُّوا بأن قالوا: إنه لو كان الكلامُ إذا وُصِف بأنه فصيحُ كان ذلك من أجل مزيةٍ تَكونُ في معناه، لوجَب أن يكونَ تفسيرُه فصيحاً مثْلَه: - أخْبِرونا عنكم: أتَرَرَوْنَ أنَّ مِن شأنِ هذه الأجناسِ، إذا كانت في الكلام، أن تكونَ له بها مزيةُ تُوجبُ له الفصاحةَ أم لا ترون ذلك؟ فإن قالوا: لا نَرى ذلك، لم يكلموا. وإن قالوا: نَرى للكلام إذا كانتْ فيه مزيةٌ تُوجِبُ له الفصاحةَ، قيل لهم: فأخبرونا عن تلك الزمية! أتكونُ في اللفظ أم في المعنى؟ فإن قالوا: في اللفظِ، دخَلُوا في الجهالة من حيث يَلْزَمُ من ذلك أن تكونَ الكنايةُ والاستعارةُ والتمثيلُ، أوصافاً لِلَّفظ لأنه لا يُتصوَّر أن تكون مزيتُها في اللفظِ حتى تكونَ أوصافاً له، وذلك مُحالٌ من حيثُ يَعْلَمُ كلُّ عاقل أنه لا يُكَنَّى باللفظِ عن اللفظ، وأنه إنما يُكَنَّى بالمعنى عن المعنى. وكذلَك يَعْلم أنه لا يُستعارُ اللفظُ مجرداً عن المعنى، ولكن يستعارُ المعنى ثم اللفظُ يكونُ تِبْعَ المعنى على ما قدَّمْنا الشرحَ فيه. ويَعلمُ كذلك أنه محالٌ أنْ يُضرَبَ المثَلُ باللفظ، وأنْ يكونَ قد ضُرِبَ لفظُ "أراك تُقدِّم رِجْلاً وتؤخْر أخرى" مَثَلاً لتردُّده في أمر البَيْعة. وإن قالوا: هي في المعنى، قيل لهم: فهو ما أردْناكُم عليه؛ فدَعُوا الشكَّ عنك، وانتبهوا من رقْدَتِكُمْ، فإنه علْمٌ ضروريٍّ قد أدَّى التقسيمُ إليه، وكلُّ علْم كان كذلك، فإنه يَجِبُ القَطْعُ على كل سؤالٍ يُسْألُ فيه، بأنه خطأ، وأن السائلُ ملّبوسٌ عليه.

ثم إنَّ الذي يَعرف به وجْهَ دخولِ الغلطِ عليهم في قولهم: إنه لو كان الكلامُ يكونُ فصيحاً من أجْل مزيةٍ تكونُ في معناه، لوَجَب أن يكون تفسيرُه فصيحاً مثْلَه: هو أنك إذا نظرتَ إلى كلامهم هذا، وجدْتَهم كأنهم قالوا: إنه لو كانَ الكلامُ إذا كان فيه كنايةٌ أو استعارةٌ أو تمثيلٌ، كان ذلك فصيحاً، لوَجَب أن يكون إذا لم توجَدْ فيه هذه المعاني، فصيحاً أيضاً، ذلك لأنَّ تفسيرَ الكنايةِ أن نَتْرُكَها ونصرِّحَ بالمُكنَّى عنه، فنقولَ إنَّ المعنى في قولهم: (هو كثيرُ رمادِ القِدْر)، أنه كثيرُ القِرى. وكذلك الحكْمُ في الاستعارة. فإن تفسيرها أن نَتْركَها ونصرِّحَ بالتشبيه، فنقولَ في "رأيتُ أسداً": إنَّ المعنى: رأيتُ رجلاً يُساوي الأسدَ في الشجاعة. وكذلك الأمرُ في التمثيل، لأنَّ تفسيرَه أنْ نَذْكر المتمثَّل له، فنقول في قوله: "أراكَ تقدِّم رجْلاً وتؤخِّر أُخرى" إن المعنى أنه قال: "أراكَ تتردَّد في أمر البَيْعة، فتقولُ: تارةً أفعلُ وتارةً لا أفعلُ، كمن يُريدُ الذهابَ في وجْهٍ فَتُرِيهِ نفسُه تارةً أنَّ الصوابَ في أن يَذْهَب وأُخرى أنه في أن لا يذهب، فيقدِّم رِجْلاً ويوخِّر أُخرى. وهذا خروجٌ عن المعقول، لأنه بمنزلةِ أنْ تقولَ لرجلٍ قد نصَب لوصْفِه علَّةً: إنْ كان هذا الوصفُ يَجب لهذه العلةِ، فنبغي أن يجَب مع عَدِمها. الفرق بين معنى المفسَّر ومعنى التفسير

ثم إنَّ استهواهم هو أنهم نظَروا إلى تفسيرِ ألفاظِ اللغةِ بعضها ببعضٍ، فلمَّا رأوا اللفظَ، فُسِّرَ بلفظٍ مثْلِ أن يقال في "الشرجب" إنه الطويلُ، لم يَجُزْ أن يكون في المفسَّر من حيثُ المعنى مزيةٌ لا تكونُ في التفسير، ظَنَّوا أنَّ سبيلَ ما نحن فيه ذلكَ السبيلُ؛ وذلك غَلَطٌ منهم، لأنه إنما كان المفسَّر فيما نحن فيه الفضلُ والمزيَّةُ على التفسير من حيث كانت الدلالةُ في المفسَّر دلالةَ معنى على معنى، وفي التفسير دلالةَ لفظٍ على معنى، وكان من المركوز في الطباع والراسخ في غرائز العقول، أنه متى أُريد الدلالةُ على معنىً فتُرِكَ أن يُصَرَّحَ به ويُذْكَرَ باللفظِ الذي هو له في اللغة، وعُمِدَ إلى معنىً آخَر فأشيرَ به إليه، وجُعِل دليلاً عليه، كان لِلكلامِ بذلك حسْنٌ ومزيةٌ لا يكُونانِ إذا لم يُصْنَعْ ذلك وذُكِرَ بلفظه صريحاً، ولا يكونَ هذا الذي ذكرتُ أنه سببُ فضل المفسَّر على التفسير من كونِ الدلالةِ في المفسَّر دلالةَ معنى على معنى وفي التفسير دلالةَ لفظٍ على معنى حتى يكون لِلَّفظِ المفسَّر معنىً معلومٌ يَعرِفُه السامعُ، وهو غيرُ معنى لفظِ التفسير في نفسِه وحقيقتِه، كما تَرى من أنَّ الذي هو معنى اللفظ في قولهم (هو كثيرُ رمادِ القدر) غيرُ الذي هو معنى اللفظ في قولهم: (هو كثير القرى) ولو لم يكن كذلك، لم يُتَصوَّر أن يكون هاهنا دلالةُ معنى على معنى.

وإذ قد عرَفْتَ هذه الجملة فقد حصَل لنا منها أنَّ المفسَّر يكون له دلالتانِ دلالةُ اللفظِ على المعنى، ودلالةُ المعنى الذي دلَّ اللفظُ عليه على معنى لَفْظٍ آخَرَ، ولا يكونُ للتفسيرِ إلاَّ دلالةٌ واحدةٌ وهي دلالةُ اللفظِ؛ وهذا الفرقُ هو سببُ أنْ كان للمفسَّر الفضلُ والمزيةُ على التفسير، ومحالٌ أن يكونَ هذا قضيةَ المفسَّر والتفسير في ألفاظ اللغة. ذاك لأنَّ معنى المفسَّر يكونُ مجهولاً عند السامع، ومحالٌ أن يكونَ للمجهول دلالةٌ. ثم إن معنى المفسَّر يكون هو معنى التفسيرِ بعينه، ومحالٌ إذا كان المعنى واحداً أن يكون للمفسَّر فضلٌ على التفسيرِ لأن الفضْلَ كان في مسألتنا بأنْ دلَّ لفظُ المفسَّر على معنىً، ثم دلَّ معناهُ على معنى آخر. وذلك لا يكون مع كون المعنى واحداً ولا يُتصوَّر. التقليد سبب غلط القائلين بأن الفصاحة للفظ بيانُ هذا أنه محالٌ أنْ يقال إنَّ معنى "الشرجب" الذي هو المفسَّر، يكون دليلاً على معنى تفسيره الذي هو الطويل، على وِزَان قولِنا إنَّ معنى "كثيرُ رمادِ القِدْرِ" يدلُّ على معنى تفسيره الذي هو "كثيرُ القرى"، لأمرَيْن: أحدُهما أنك لا تفسِّر (الشرجَب) حتى يكونَ معناه مجهولاً عند السامع. ومجالٌ أن يكونَ للمجهول دلالةٌ. والثاني أن المعنى في تفسيرنا (الشرجب) بالطويلِ، أنْ نُعْلم السامعَ أن معناه هو معنى الطويلِ بعينه. وإذا كان كذلك، كان محالاً أن يُقال أنَّ معناه يدلُّ على معنى الطويل، والذي يُعقَل أنْ يقال إنَّ معناه هو معنى الطويلِ. فاعرفْ ذلك، وانظُرْ إلى لَعِب الغَفْلة بالقوم، وإلى ما رأوا في مَنامهم من الأحلامِ الكاذبة؛ ولو أنهم ترَكُوا الاستنامةَ إلى التقليد، والأخذ بالهوينا وترْكِ النظر، وأشعروا قلوبهم أنَّ ههنا كلاماً ينبغي أن يُصْغى إليه، لَعلِموا ولَعادَ إعجابُهم بأنفسِهم في سؤالهم هذا وفي سائر أقوالهم، عَجباً منها ومن تَطْويح الظنونِ بها. سبب كون الكناية أبلغ من التصريح

وإذْ قد بَانَ سقوطُ ما اعتَرَضَ به القوم، وفُحْشُ غلَطِهم، فينبغي أن تَعلَم أنْ ليستِ المزايا لتي تَجدها لهذهِ الأجناسِ على الكلامِ المتروكِ على ظاهرِهِ، والمبالغةُ التي تُحِسُّها: في أنفُس المعاني التي يَقصِدُ المتكلِّم بخَبره إليها، ولكنها في طريق إثباتِه لها، وتقريرِه إياها، وأنَّك إذا سمعتَهم يقولونَ: إنَّ مِن شأنِ هذهِ الأجناسِ أن تُكْسِبَ المعانيَ مزيةً وفضلاً، وتوجِبَ لها شرفاً ونُبلاً، وأنْ تُفَخِّمها في نفوس السامعين، فإنهم لا يَعْنون أنفُسَ المعاني التي يَقصِد المتكلِّمُ بخَبره إليها، كالقِرى والشجاعةِ والتردُّدِ في الرأي، وإنما يَعْنون إثْباتَها لما تُثْبَتُ له ويُخْبَر بها عنه؛ فإذا جعلوا للكنايةِ مزيةً على التصريح، لم يَجْعلوا تلكَ المزيةَ في المعنى المكنَّى عنه، ولكن في إثباته للذي ثبَتَ له. وذلك أنَّا نَعْلَم أنَّ المعاني التي يُقْصَدُ الخَبرُ بها لا تتَغيَّر في أنفسِها بأن يُكنَّى عنها بمعانٍ سواها، ويُتْرَك أن تُذْكَرَ الألفاظُ التي هي لها في اللغة.

ومَنْ هذا الذي يَشُكُّ أنَّ معنى طولِ القامة، وكثرةِ القِرى، لا يتغيران بأن يُكنَّى عنهما (بطولِ النجاد وكثرةِ رمادِ القدْر)، وتقديرُ التغييرِ فيها يُؤدي إلى أن لا تكون الكنايةُ عنهما ولكنْ عن غيرهما. وقد ذكرتُ هذا في صدْرِ الكتاب، وذكرتُ أنَّ السببَ في أنْ كان يكونُ للإثبات، إذا كان من طريقِ الكنايةِ مزيةٌ لا تكونُ إذا كان من طريق التصريح، أنك إذا كنَّيْتَ عن كثرة القِرى بكثرة رماد القدر، كنتَ قد أثبتَّ كثرةَ القِرى بإثبات شاهدِها ودليلها، وما هو علَمٌ على وُجودِها، وذلك لا مَحالةَ يكون أبلغَ من إثباتها بنفسِها، وذلك لأن يكونُ سبيلُها حنيئذٍ سبيلَ الدعوى تكونْ مع شاهدٍ؛ وذكرتُ أنَّ السببَ في أَنْ كانت الاستعارةُ أبلغَ من الحقيقةِ، أنك إذا ادَّعيْتَ للرجُل أنه أسدٌ بالحقيقة، كان ذلك أبلغَ وأشدَّ في تسويته بالأسد في الشجاعة. ذاك لأنه مُحالٌ أن يكونَ في الأُسود، ثم لا تكون له شجاعةُ الأُسودِ. وكذلك الحكْمُ في التمثيل: فإذا قلتَ: (أراكَ تُقدَّم رجْلاً وتؤخِّر أخرى) كان أبلغَ في إثباتِ الترددِ له من أن تقول: (أنتَ كمَنْ يقدِّم رجْلاً ويؤخِّر أُخرى). رأي في سبب بلاغة الاستعارة وردّه

واعلمْ أنه قد يَهْجُسُ في نفسِ الإنسان شيءٌ يظنُّ مِن أجْله، أنه يَنبغي أنْ يكونَ الحُكْمُ في المزية التي تحدُثُ بالاستعارةِ، أنها تَحْدُثُ في المُثْبَت دون الإثباتِ، وذلك أن تقول: "إنَّا إذا نظَرْنا إلى الاستعارةِ وجدناها إنما كانت أبلغَ مِن أجْلِ أنها تدلُّ على قوة الشَّبه وأنه قد تناهى إلى أنْ صار المشبَّه لا يتميز عن المشبَّهِ بهِ في المعنى الذي من أجله شُبِّهَ به؛ وإذا كان كذلكَ، كانت المزيةُ الحادِثةُ بها حادثةً في الشَّبه، وإذا كانت حادثةً في الشبه كانت في المُثْبَت دون الإثباتِ: والجوابُ عن ذلك أنْ يقال إن الاستعارةَ، لعَمْري، تقْتضي قوَّةَ الشَبهِ وكونَه بحيثُ لا يَتميزُ المشبَّهُ عن المشبَّه به؛ ولكن ليس ذاك سببَ المزيةِ، وذلك لأنه لو كان ذاك سببَ المزيةِ، لكان ينبغي، إذا جئتَ به صريحاً فقلتَ: رأيت رجُلاً مساوياً للأسد في الشجاعة، وبحيثُ لولا صورتُه لظنْنتَ أنكَ رأيتَ أسداً، وما شاكلَ ذلك من ضروبِ المبالغة، أنْ تَجِد لكلامِكَ المزيةَ التي تَجدُها لقولك: (رأيتُ أسداً). وليس يَخْفى على عاقلٍ أنَّ ذلكَ لا يكونُ. فإنْ قال قائلٌ: إن المزيَّة من أجْلِ أَنَّ المساواةَ تُعْلَم في "رأيتُ أسداً" من طريق المعنى وفي "رأيت رجلاً مساوياً للأسد" من طريقِ اللفظِ: قيلَ قد قلنا فيما تَقدَّم: إنه محالٌ أن يتغيَّر حالُ المعنى في نفسه بأنْ يكَنَّى عنه بمعنىً آخر، وأنه لا يُتصوَّر أنْ يتغيَّر معنى طولِ القامةِ بأن يُكنَّى عنه بـ (طولِ النجاد)، ومعنى كثرةِ القِرى بأن يكنَّى عنه بـ (كثرة الرماد). وكما أنَّ ذلك لا يُتصوَّر، فكذلكَ لا يُتصوَّر أن يتغيَّر معنى مساواةٍ الرجلِ الأسدَ في الشجاعةِ، بأن يُكنَّى عن ذلك ويُدَلَّ عليه بأن تَجْعَله أسداً، فأنتَ الآن إذا نظرتَ إلى قوله [من البسيط]: فأَسْبَلتْ لؤلؤاً من نرجس وسَقَتْ ... وَرْداً وعضَّتْ على العُنَّابِ بالبَرَدِ

فرأيته قد أفادَكَ أنَّ الدمعَ كان لا يُحْرَم من شَبهِ اللؤلؤ، والعينَ من شبَه النرجس شيئاً - فلا تَحْسَبنَّ أنَّ سببَ الحسْنِ الذي تَراه والأريحيةَ التي تجدُها عنده أنه أفادكَ ذلك فحسْبُ، وذاك أنك تستطيعُ أنْ تجيءَ به صريحاً فتقول: (فأسبَلَت دمعاً كأنه اللؤلُؤ بعينه من عينِ كأنها النرجسُ حقيقة) ثم لا تَرى من ذلك الحسْن شيئاً. ولكن اعلمْ أنَّ سبَب أن راقَك وأَدْخَلَ الأريحيةَ عليك، أنه أفادكَ في إثبات شدَّة الشبةِ مزيةً وأوْجَدَك فيه خاصةً قد غُرِزَ في طبْع الإنسانِ أن يَرتاحَ لها، ويَجِدَ في نفسه هِزَّةً عندها، وهكذا حكْم نظائره، كقولِ أبي نواس [من السريع]: تَبْكي فتُذري الدرَّ عن نرجسٍ ... وتَلْطِمْ الوردَ بعُنَّابِ وقول المتنبي [من الوافر]: بدَتْ قمراً ومالَتْ خُوطَ بانٍ ... وفاحتْ عَنْبراً ورَنَتْ غَزالا واعلمْ أنَّ مِن شأن الاستعارةِ، أنك كلما زدْتَ إرادتَكَ التشبيهَ إخفاءَ، ازدادتِ الاستعارةُ حُسْناً، حتى إنَّك تَراها أغْرَبَ ما تكونُ، إذا كان الكلامُ قد أُلِّف تأليفاً إن أردتَ أن تُفْصح فيه بالتشبيه خرجْتَ إلى شيءٍ تعافُهُ النفسُ، ويلفِظُهُ السمْعُ. ومثالُ ذلك قولُ ابن المعتز [من العديد]: أثمرتْ أغصانُ راحَتِهِ ... بجِنانِ الحُسْنِ عُنَّبا حسن الاستعارة على قدر إخفاء التشبيه ألا تَرى أنك لو حملتَ نفسَك على أن تُظهرَ التشبيهَ وتُفصِحَ به، احتجَتْ إلى أن تقول: (أثمرتْ أصابعُ يدِه التي هي كالأغصانِ لطالبي الحُسْن شبيهَ العُنَّاب من أطرافها المخضوبة)، وهذا ما لا تَخْفى غثاثَتُه. مِنْ أجْل ذلك، كان موقِعُ (العنَّاب) في هذا البيتِ أحسَنَ منه في قوله: وعضَّتْ على العُنابِ بالبَرَد وذاك لأنَّ إظهارَ التشبيهِ فيه، لا يَقْبُحُ هذا القَبْحَ، المفرِطَ لأنك لو قلْتَ: (وعضَّتْ على أطرافِ أصابعَ كالعنابِ بثغرٍ كالبَرَد)، كان شيئاً يُتكلَّم بمثلِه وإنْ كانَ مَرْذولاً. وهذا موضعٌ لا يَتبيَّنُ سِرَّه إلاَّ مَن كان ملتهِبَ الطبعِ حاداَّ القريحةِ. وفي الاستعارةِ علْمٌ كثيرٌ ولطائِفُ معانٍ ودقائقُ فروقٍ، وسنقولُ فيها إن شاء الله في وضعٍ آخَر.

واعلمْ أنَّا حينَ أخذْنا في الجواب عن قولهم: نه لو كان الكلامُ يكونُ فصيحاً من أجْل مزيةِ تكون في معناهُ، لكان ينبغي أن يكونَ تفسيرُه فصيحاً مثلَه؛ قلْنا: إنَّ الكلامَ الفصيحَ ينقسم قِسْمين - قسم تُعْزى المزيةُ فيه إلى اللفظِ، وقسمٌ تُعْزى فيه إلى النظْم. قد ذكَرْنا في القسم الأول من الحِجَج ما لا يَبْقى معه لعاقلٍ إذا هو تأمَّلَها شَكٌّ في بُطْلانِ ما تعَلَّقوا به مِنْ أنه يَلْزَمُنا في قولنا "إن الكلام يكون فصيحاً من أجل مزيةٍ تكون في معناه أن يكون تفسيرُ الكلامِ الفصيحِ فصيحاً مثلَه، وأنَّه تَهُّوسٌ منهم وتَقحُّمٌ في المجالات. وأما القسم الذي تُعزى فيه المزيةُ إلى النظْم، فإنهم إنْ ظنُّوا أنَّ سؤالَهم الذي اغترُّوا به يتجهُ لهم فيه، كان أمرُهم أعجَبَ، وكان جهلُهم في ذلك أغْرَبَ، وذلك أنَّ النظْمَ كما بيَّنا هو توخّي معاني النحو وأحكامِه وفروقِه ووُجوهه، والعملُ بقوانينه وأُصولِه، وليستْ معاني النحو معانيَ الألفاظِ فيتُصوَّر أنْ يكون لها تفسيرٌ. مثال كون الفصاحة في النظم معنوية "بالفاتحة"

وجملة الأمر أن النظْمَ إنما هو أنَّ (الحمْدَ) مِنْ قوله تعالى: {بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ * الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [الفاتحة: 1 - 2] مبتدأٌ و (للهِ) خبرٌ و (ربِّ) صفةٌ لاسم الله تعالى، ومضافٌ إلى (العالمين) و (العالمينِ) مضافٌ إليه؛ و (الرحْمنِ الرحَيم) صفتانِ كالرَّبِ؛ و (مالكِ) من قوله {مالك يَوْمِ الدين} [الفاتحة: 4] صفةٌ أيضاً، ومضافً إلى (يوم) و (يوم) مضافٌ إلى (الدين)، و (إياك) ضميرُ اسم اللهِ تعالى مما هو ضميرٌ يقَعُ موقِعَ الاسم إذا كان الاسمُ منصوباً. معنى ذلك أنكَ لو ذكَرْت اسْمَ اللهِ مكانَه لقلتَ: (اللهَ نَعْبدُ). ثم إنَّ (نعْبدُ) هو المقتضي معنى النصْبِ فيه؛ وكذلك حكْمُ {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]. ثم إنَّ جملةَ {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] معطوفٌ بـ (الواو) على جملة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] و (الصراط) مفعولٌ، و (المستقيمَ) صفةٌ (للصِراط)، و {صِرَاطَ الذين} [الفاتحة: 7] بدلٌ من (الصِّراط المستقيم)، {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] صلةٌ (الذين)، و {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم} [الفاتحة: 7] صفةٌ (الذين)، و {وَلاَ الضآلين} [الفاتحة: 7] معطوف على {المغضوب عليهم} [الفاتحة: 7]. فانظر الآنَ هَلْ يتصوَّر في شيءٍ مِن هذه المعاني، أن يكونَ معنى اللفظِ؟ وهل يكونُ كونُ "الحمدُ" مبتدأ معنى لفظِ (الحمد)؟ أم يكون (ربِّ) صفة وكونُه مضافاً إلى (العالمين) معنى لفظ الرب؟

فإن قيل: إنه إنْ لم تكنْ هذه المعاني، معانيَ أنفُسِ الألفاظِ، فإنها تُعْلَمُ على كل حال، من ترتيبِ الألفاظِ ومِنَ الإعراب؛ فبالرَّفع في (الدال) من "الحمد" يُعْلَم أنه مبتدأٌ، و (بالجر) في (الباء) من "ربِ" يُعْلَم أنه صفة، و (بالياء) في "العالمين" يُعْلم أنه مضافٌ إليه. وعلى هذا قياسُ الكُلِّ؛ قيل: ترتيبُ اللفظ لا يكونُ لفظاً، والإعرابُ وإنْ كان يَكونُ لفْظاً فإنه لا يُتصوَّر أن يكونَ ههنا لفظانِ كلاهما علامةُ إعرابٍ، ثم يكون أحدُهُما تفسيراً للآخر. وزيادةُ القول في هذا، من خطَل الرأي. فإنَّه مما يَعْلَمُه العاقِلُ ببَديهةِ النظرِ، ومَنْ لم يتنبَّهْ له في أوَّل ما يَسْمَع، لم يَكُنْ أهلاً لأن يكلَّم. ونعودُ إلى رأس الحديث فنقول: وضوح كون النظم هو توخي معاني النحو قد بطَلَ الآنَ من كل وجهٍ وكلِّ طريقٍ، أنْ تكونَ الفصاحةُ وصْفاً لِلَّفظ من حيثُ هو لفظٌ ونطقُ لسانٍ. وإذا كان هذا صورةَ الحالِ وجملةَ الأمرِ، ثم لم تَرَ القومَ تفكَّروا في شيء ممَّا شرحْناه بحالٍ، ولا أخطَرُوه لهم ببالٍ، بانَ وظهَر أنهم لَمْ يأتوا لأمْرَ مِن بابِه، ولم يَطْلبُوه من مَعْدِنه، ولم يسلُكُوا إليه طريقَه، وأنهمْ لم يزيدوا على أنْ أوْهَموا أنفُسَهم وهماً كاذباً، أنَّهم قد أبانوا الوجْه الذي به كان القرآن معجِزاً؛ والوصفَ الذي به بانَ مِن كلام المخلوقينَ، مِنْ غير أنْ يكونوا قد قالوا فيه قولاً يَشْفي من شَاكٍّ غليلاً، ويكونُ علَى عِلْمٍ دليلاً، وإلى معرفة ما قَصدوا إليه سبيلاً. واعلمْ أنه إذا نظرَ العاقِلُ إلى هذه الأدلَّةِ فرأَى ظهورَها، استبعدَ أنْ يكون قد ظنَّ ظانٌّ في الفصاحة أنها مِن صفة اللفظِ صريحاً. ولعمري إنَّه كذلك ينبغي؛ إلاَّ أنَّا إنَّما ننظرُ إلى جِدِّهم وتَشدُّدِهم وبتِّهمُ الحُكْمَ بأنَّ المعانيَ لا تتزايدُ وإنما تتزايدُ الألفاظُ، فلئِنْ كانوا قد قالوا: الألفاظُ، وهم لا يُريدونها أنفُسَها وإنما يريدون لطائفَ معانٍ تُفْهم منها، لقد كان ينبغي أنْ يتَّبعوا ذلك مِن قولهم ما يُنبىءُ عن غَرَضِهم، وأنْ يذْكُروا أنهم عَنَوا بالألفاظ ضرْباً من المعنى، وأن غرَضَهم مفهومٌ خاصٌّ.

هذا وأمرُ النظم في أنه ليس شيئاً غيرَ توخي معاني النحو فيما بين الكَلِم وأنَّك تُرتِّبُ المعاني أولاً في نفْسِك، ثم تَحْذُوا على ترتيبها الألفاظَ في نُطْقك، وأنَّا لو فرضْنا أنْ تَخْلوَ الألفاُظُ منَ المعاني، لم يُتصوَّر أنْ يَجبَ فيها نَظْمٌ وترتيب، في غاية القوة والظهور. وثم ترَى الذين لَهَجُوا بأمرِ اللفظِ قد أبَوْا إلاَّ أنْ يجعلوا النظْم في الألفاظ، فترى الرجُلَ منهم يَرى ويَعْلم أنَّ الإنسانَ لا يسَتطيعُ أن يجيءَ بالألفاظ مرتَّبةً إلاَّ من بعد أن يفكِّرَ في المعاني، ويرتِّبها في نفسه على ما أعلَمْناكَ، ثم تُفتِّشه فتَراهُ لا يَعرِفُ الأمرَ بحقيقتِه، وتَراه يَنظُر إلى حال السامعِ، فإذا رأى المعانيَ لا تقَعُ مرتَّبةً في نفسِه، إلاَّ من بعْدِ أن تقَعَ الألفاظُ مرتَّبة في سَمعِه، نسيَ حالَ نفسِه واعتَبَر حالَ مَنْ يَسمَعُ منه. وسبَبُ ذلك قِصَرُ الهمةِ، وضَعْفُ العنايةِ، وتَرْكُ النظر والأُنس بالتلقيد. وما يغنى وضوحُ الدلالة مَعَ مَنْ لا يَنظُر فيها، وإنَّ الصُّبْحَ ليملأُ الأُفقَ لا يَراه النائمُ ومَنْ قد أطْبَقَ جفْنَه؟ إفساد التقليل للذوق والفهم في الفصاحة واعلمْ أنك لا تَرى في الدنيا عِلْماً قد جرى الأمرُ فيه بَديئاً وأخيراً، على ما جرى عليه في علمٍ الفصاحةِ والبيانِ. أمَّا البديءُ فهو أنك لا تَرى نوعاً من أنواع العلوم إلاَّ وإذا تأملْتَ كلامَ الأوَّلينَ الذين عَلَّموا الناسَ وجدْتَ العبارةَ فيه أكثرَ من الإشارَة، والتصريحَ أغلبَ من التلويح؛ والأمرُ في علم الفصاحةِ بالضِّدِّ مِن هذا. فإنك إذا قرأت ما قالَه العلماءُ فيه وجدْتَ جُلَّه أو كُلَّهَ رمزاً ووَحْياً وكنايةً وتعريضاً، وإيماءً إلى الغرض من وجْهٍ لا يَفْطِنُ له إلاَّ مَنْ غلغَلَ الفكْرَ وأدَّقَ النظَرَ، ومَنْ يَرجعُ من طَبْعه إلى ألْمَعيَّةِ يَقْوى معها على الغامِض، ويصلُ بها إلى الخفيِّ حتى كان بَسْلاً حَراماً أن تتجلَّى معانيهم سافرةَ الأوجُهِ لا نِقابَ لها، وبادية الصفحةِ لا حِجابَ ذُونها، وحتى كأنَّ الإفصاحَ بها حَرامٌ، وذكرَها إلاَّ على سبيل الكناية والتعريض، غيرُ سائغٍ.

الخطأ في علم الفصاحة وكلام الأولين في اللفظ وأمَّا الأَخيرُ فهو أَنَّا لم نَرَ العقلاء قد رضُوْا، مِن أَنفُسِهم في شيءٍ من العلوم، أنْ يحفَظوا كلاماً للأَوَّلينَ ويتدارَسُوه ويُكلِّمَ به بعضُهم بعضاً، مِنْ غَير أن يعرفوا له معنى، ويقفوا منه على غرَضٍ صحيح، ويكونَ عندهم، إن يسألون عنه، بيانٌ له وتفسيرٌ، إلاَّ علمَ الفصاحةِ. فإِنك تَرى طبقاتٍ منَ الناس يتداولونَ فيما بينهم أَلفاظاً للقدماء وعباراتِ مِنْ غَير أنْ يعرِفوا لها معنًى أَصْلا، أَوْ يستطيعوا إن يُسأَلوا عنها، أنْ يَذْكُروا لها تفسيراً يَصِحُّ.

فمِنْ أقْرَبِ ذلك أَنك تَراهم يقولون، إذا هُمْ تكلَّموا في مزيَّةِ كلامٍ على كلامٍ: إنَّ ذلك يكونُ بجزالةِ اللفظِ. وإذا تكلَّموا في زيادةِ نظمٍ على نظمٍ، إنَّ ذلك يكونُ لوقُوعِهِ على طريقةٍ مخصوصةٍ وعلى وجهٍ دون وجهٍ، ثمّ لا تَجدُهَم يُفسِّرون الجزالَةَ بشيءٍ ويقولون في المُراد بالطريقةِ والوجْهِ ما يَحْلَى منه السامِعُ بطائلٍ؛ ويقرأون في كُتب البلغاءِ ضُروبَ كلامٍ قد وَصفُوا اللفظَ فيها بأوصافٍ تَعلَمُ ضرورةً أَنها لا تَرْجعُ إليه من حيثُ هو لفظٌ ونُطْقٌ لسانٍ وصدى حرفٍ كقولهم: لفظٌ متمكِّنٌ غيرُ قَلقٍ ولا نابٍ به مَوْضِعُه، وأَنَّه جيِّدُ السبْكِ صحيحُ الطابع، وأنَّه ليس فيه فضْلٌ عن معناهُ وكقولهم: إنَّ مِنْ حقِّ اللفظِ أنْ يكونَ طِبْقاً للمعنى لا يَزيد عليه ولا يَنقُصُ عنه. وكقول بعْضِ مَنْ وصَفَ رجُلاً مِن البُلغاء: (كانت أَلفاظُه قوالبَ لِمعانيه)، هذا إذا مدَحوه - وقَولِهم إذا ذَمُّوه: (هو لفظٌ معقَّدٌ، وإنَّه بتعقيده، قد استَهْلكَ المعنى؛ وأشباهٌ لهذا). ثم لا يَخْطرُ ببالِهمْ أَنه يَجبُ أنْ يُطْلَب لِمَا قالوه معنًى وتُعْلَمَ له فائدةٌ ويَجْشَمَ فيه فكْرٌ، وأن يُعتقدَ على الجملة، أقلُّ ما في الباب أَنه كلامٌ لا يصِحُّ حَمْلُه على ظاهِره، وأن يكونَ المرادُ باللفظِ فيه نطْقَ اللسانِ. فالوصف بالتمكُّن والقَلَق من اللفظ محالٌ، فإنما يتمكَّنُ الشيءُ ويقْلَقُ إذا كان شيئاً يَثْبُتُ في مكان؛ والأَلفاظ حروفٌ لا يوجَدُ منها حرفٌ حتى يعدَمَ الذي كان قبلَه. وقولُهم (متمكِّنٌ أو قَلِقٌ) وصْفٌ للكلمةِ بأَسرها، لا حرْفٍ منها. ثم إنه لو كان يَصِحُّ في حروف الكلمةِ أن تكون باقيةً بمجموعها، لكانَ ذلك فيها مُحالاً أيضاً من حيثُ إنَّ الشيءَ إنما يتمكَّنُ وَيقْلقُ في مكانه الذي يُوجَد فيه، ومكانُ الحروفِ إنما هو الحَلْقُ والفمُ واللسانُ والشفتانِ؛ فلو كان يَصِحُّ عليها أنْ تُوصَف بأنها تتمكَّن وتقْلَقُ، لكانَ يكونُ ذلك التمكُّنُ وذلك القَلَقُ منها في أَماكنها مِنْ الحَلْق والفَم واللسانِ والشفتين.

وكذلك قولُهم: لفظٌ ليس فيه فضْلٌ عن معناه: حالٌ أنْ يكونَ المرادُ به اللفظَ، لأنه ليس هاهنا اسمٌ أو فعلٌ أو حرفٌ يَزيد على معناه أو ينقُصُ عنه. كيف وليس بالذَّرْع وُضِعَت الألفاظُ على المعاني. وإن اعتبْرنا المعانيَ المستفادةَ من الجمل، فكذلك؛ وذلك أَنه ليس هاهنا جملةً، مِنْ مبتدإ وخَبرٍ أو فِعْل وفاعلٍ يَحْصُل به الإثباتُ أو النفيُ، أَتمُّ أو أَنْقَصُ مما يحصُل بأُخْرى، وإنما فضْلُ اللفظِ عن المعنى أَن تُريدَ الدلالة بمعنى على معنى فتُدْخِلَ في أثناءِ ذلك شيئاً لا حاجةَ بالمعنى المدلولِ عليه، إِليه. وكذلك السبيلُ في السَّبْكِ والطابع وأَشباهِهما لا يحُتَملُ شيءٌ من ذلك أن يكونَ المُرادُ به اللفظَ من حيثُ هو لفظٌ. جهل القائلين بفصاحة اللفظ وكشف شبهتهم فإن أردتَ الصدقَ، فإنك لا تَرى في الدنيا شأناً أَعْجبَ من شأنِ الناسِ مع اللفظ، ولا فسادَ رأيٍ مازَجَ النفوسَ وخامرَها، واستحكَمَ فيها وصارَ كإحدى طبائعِها، أَغْرَبَ من فسادِ رأيهم في اللفظ؛ فقد بلَغَ من مَلَكتهِ لهم وقُوَّتهِ عليهم، أنْ تَرَكهم وكأنَّهم إذا نُوظِروا فيه أخذَوا عن أنفُسِهم، وغيَّبوا عن عقولهم، وحِيلَ بينَهم وبينَ أنْ يكونَ لهم فيما يَسْمعونَه نَظَرٌ، ويُرى لهم إيرادُ في الإصغاء وصَدَرُ، فلستَ تَرَى إلاَّ نفوساً قد جَعلَتْ تَرْكَ النظرِ دأْبَها، ووَصَلَتْ بالهوينا أَسبابَها؛ فهي تَغْتَرُّ بالأضاليلِ، وتَتباعَدُ عن التحصيلِ، وتُلْقي بأيديها إلى الشَّبَه، وتُسْرعُ إلى القولِ المُمَوَّهِ. معنى فصاحة الكَلم في "فصيح ثعلب وأمثاله

ولقد بلغَ مِن قلة نظَرِهم أنَّ قوماً منهم لمَّا رَأَوْا الكُتُبَ المصنَّفةَ في اللغة قد شاعَ فيها أنْ تُوصفَ الألفاظُ المفردةُ بالفصاحةِ، ورأوا أبا العباس ثعلباً قد سمَّى كتابه (الفَصيح) مع أنه لم يَذكُرْ فيه إلا اللُّغةَ والألفاظَ المفردةَ، وكان مُحالاً إذا قيلَ: إنَّ "الشمَع" (بفتح الميم) أفصحُ من "الشمْع" بـ (إسكانه)، أن يكونَ ذلك من أجْل المعنى. إِذْ ليس تُفيد (الفتحةُ) في (الميم) شيئاً في الذي سُمِّي به - سبَقَ إلى قلوبهم أنَّ حُكْمَ الوصفِ بالفَصَاحة أَينما كان، وفي أي شيءٍ كان، أن لا يكونَ له مرجِعٌ إلى المعنى البتةَ، وأَن يكونَ وصْفاً لِلفَّظِ في نفسه ومِن حيثُ هو لفظٌ ونطقُ لسانٍ، ولم يعلموا أنَّ المعنى في وصْف الألفاظِ المفردةِ بالفصاحة، أنها في اللغة أثْبَتُ، وفي استعمال الفصحاء أَكْثَر، أوْ أنها أَجْرى على مقاييس اللغةِ والقوانينِ التي وَضعوها، وانَّ الذي هو معنى الفصاحةِ في أصْل اللغةِ هو الإبانةُ عن المعنى بدلالة قولهم: فصيحٌ وأَعْجَمُ، وقولِهم: أفصحَ الأعجميُّ، وفَصُحَ اللحَّانُ، وأَفْصَحَ الرجُلُ بكذا: إذا صرَّحَ به، وأَنه لو كانَ وصْفُهم الكلماتِ المفدرةَ بالفصاحةِ، من أجْل وصْفٍ هُوَ لَها من حيثُ هي ألفاظٌ ونُطْقٌ لسانٍ، لوَجبَ، إذْ وُجِدتْ كلمةٌ يقال إنها كلمةٌ فصيحةٌ على صفةٍ في اللفظِ، أن لا تُوجَد كلمةٌ على تلك الصفةِ إلا وَجَبَ لها أن تكونَ فصيحةً، وحتى يَجِبَ إذا كان (نقِهتُ الحديثَ) (بالكسر) أفصحَ منه (بالفتح)، أن يكون سبيلُ كلَّ فعلٍ مثْلِه في الزِّنَةِ أن يكون (الكَسرُ) فيه أفْصَحَ من (الفتح). ثم إنَّ فيما أودَعهُ ثعلبُ كتابَه ما هو أفصَحُ مِن أجْل أنْ لم يكُنْ فيه حرفٌ كان فيما جعلَهُ أفصَحَ منه. مثْلُ إنَّ "وقفْتُ" أفصحُ من "أَوْقَفْتُ". أفتَرى أَنه حدَث في (الواو) و (القاف) و (الفاء) بأنْ لم يكن معها الهمزةُ، فضيلةٌ وجَبَ لها أن تكون أفصَحَ؟ وكفى برأيٍ هذا مؤدَّاهُ تَهافتاً وخَطلاً. دلالة الاستعارة ولا سيما المكنية على الفصاحة للمعاني

وجملةُ الأمر أَنه لا بدَّ لقولِنا "الفصاحةُ" مِنْ معنًى يُعْرَفُ. فإنْ كان ذلك المعنى وصْفاً في ألفاظٍِ الكلمات المفردةِ، فينبغي أنْ يُشارَ لنا إليه، وتُوضَعَ اليدُ عليه، من أَبْيَن ما يَدلُّ على قلةِ نَظَرِهم أَنه لا شبْهةَ على مَن نَظَر في كتابٍ تُذْكَر فيه الفصاحةُ، أنَّ الاستعارة عنوانُ ما يُجعلُ به اللفظُ فَصيحاً، وأنَّ المجارَ جُمْلتُه، والإِيجازُ مِن مُعْظم ما يُوجِبُ لِلََّفظِ الفصاحةَ. وأنتَ تَراهم يَذْكُرون ذلك ويَعتمِدونَه، ثم يَذْهَبُ عنهم أنَّ إيجابهم الفصاحةَ لِلَّفْظِ بهذه المعاني، اعترافٌ بصحةِ ما نحن نَدْعوهم إلى القول به، من أَنه يكونَ فصيحاً لمعناه. أمَّا الاستعارةُ فإنهم، إن أَغْفَلوا فيها الذي قُلْناه، من أَنَّ المستعارَ بالحقيقةِ يكونُ معنى اللفظِ واللفظُ تِبْعٌ من حيثُ إنَّا لا نَقول: (رأيتُ أَسداً) ونحنُ نَعْني رَجُلاً، إلاَّ على أنَّا ندَّعي أَنَّا رأينا أَسداً بالحقيقة، من حيثُ نَجْعلُه لا يتميزُ عن الأَسد في بأسهِ وبطْشِه وجَراءةِ قلْبه، فإنهم على كل حال، لا يستطيعون أنْ يَجعلوا الاستعارةَ وصْفاً لِلَّفظِ مِن حيثُ هو لفظٌ، مع أَّنَّ اعتقادَهم أَنك إذا قلتَ: (رأيتُ أسداً): كنتَ نقلْتَ اسْمَ الأسدِ إلى الرجُلِ، أوْ جعلْتَه هكذا غُفْلاً ساذَجاً في معنى شجاعٍ؛ افتَرى أنَّ لفظَ "الأسد" لمَّا نُقِل عن السَّبُع إلى الرجُلِ المشبَّه به، أحدثَ هذا النقلُ في أجراس حروفهِ ومذاقَتِها وصْفاً صار بذلك الوصْفِ فصيحاً؟ ثم إنَّ من الاستعارَة قبيلاً لا يَصِحُّ أن يكونَ المستعارُ فيه اللفظَ البتَّةَ، ولا يصِحُّ أن تَقعَ الاستعارةُ فيه إلاَّ على المعنى، وذلك ما كان مثْلَ "اليد" في قول لبيد [من الكامل]: وغداةِ ريحٍ قد كشفتُ وقرَّةٍ ... إذْ أصبَحَتْ بيَدِ الشَّمالِ زمامُها

ذاك أنه ليس هاهنا شيءٌ يَزْعمُ أنه شبَّهَهُ باليد، حتى يكونَ لفظُ "اليد" مستعاراً له، وكذلك ليس فيه شيءٌ يُتَوهَّمُ أن يكون قد شبَّهه بالزمام، وإنما المعنى على أنه شبَّه الشَّمالَ في تصريفها الغداة، على طبيعتها، بالإنسانِ يكون زمامُ البعيرِ في يده. فهو يُصَرِّفُه على إرادته. ولمَّا أرادَ ذلك، جَعَل للشَّمالِ يداً وعلى الغداة زماماً وقد شرحْتُ هذا قبْلُ شرْحاً شافياً. تفضيل الاستعار بالكناية على غيرها في الفصاحة وليس هذا الضربُ من الاستعارة بدُون الضربِ الأولِ في إيجابِ وصْفِ الفصاحةِ للكلام، لا بل هو أَقوى منه فيِ اقتضائها؛ والمَحاسِنُ التي تَظهرُ به، والصورُ التي تَحْدثُ للمعاني بسببه، آنقُ وأعجبُ. وإنْ أردتَ أن تزداد عِلماً بالذي ذكرتُ لكَ من أمرِهِ، فانظرْ إلى قوله [من الرجز]: سقَتْه كفُّ الليل أَكْؤسَ الكَرى وذلك أنَه ليس يَخْفى على عاقلٍ أنه لم يُرد أن يُشبِّه شيئاً بالكف، ولا أراد ذلك في الأكوس، ولكنْ لمَّا كان يقال: سُكْر الكرى وسكْرُ النومِ: استعار لِلكَرى الأَكْؤسَ، كما استعار الآخَرُ الكأْسَ في قوله: وقد سَقَى القومَ كأسَ النعسةِ السَّهَرُ ثم إنه لمَّا كان الكَرى يكونُ في الليل، جعلَ الليلَ ساقياً. ولمَّا جَعلَه ساقياً، جعلَ له كَفّاً، إذْ كان الساقي يُناولُ الكأسَ بالكَفِّ. ومن اللطيفِ النادر في ذلك، ما تراه في آخر هذه الأبيات وهي للحَكَم بْنِ قَنْبر [من الطويل]: ولَوْلا اعتصامي بالمنى كلَّما بَدا ... ليَ اليأسُ منها لم يَقُمْ بالهوى صَبْري ولولا انتظاري كلَّ يومٍ جَدَى غدٍ ... لراحَ ينعشي الدافنونَ إلى قبري وقد رابَني وَهْنُ المُنى وانِقباضُها ... وبَسْطُ جديدِ اليأسِ كَفَّيْهِ في صدْري

ليس المعنى على أَنه استعارَ لفظَ الكفينِ لشيءٍ، ولكنْ على أنه أرادَ أنْ يَصِفَ اليأسَ بأنه قد غلَب على نفسِه، وتمكَّن في صدْرِه؛ ولمَّا أرادَ ذلك، وصفَه بما يصفون به الرجُلَ بِفَضْل القدرةِ على الشيء وبأنه متمكِّنٌ منه، وأَنه يَفْعلُ فيه كلَّ ما يريدُ، كقولهم: قد بَسطَ يديهِ في المال يُنفِقُه ويصنَعُ فيه ما يشاء، وقد بَسطَ العامِلُ يدَه في الناحية وفي ظُلْم الناس. فليس لك إلاّ أنْ تقولَ إنَّه لمَّا أرادَ ذلك، جعلَ لليأسِ كفَّيْنِ واستعارَهما له. فأَمَّا أَنْ تُوقِعَ الاستعارةَ فيه على اللفظ، فما لا تخفى استحالتهُ على عاقلٍ. والقولُ في المجاز هو القول في الاستعارة، لأنه ليس هو بشيءٍ غيرها، وإنما الفَرْقُ أَنَّ المجازَ أعمُّ من حيثُ إنَّ كلَّ استعارةِ مجازٌ، وليس كلُّ مجازٍ استعارةً. وإذا نظرْنا مِن المجاز فيما لا يُطْلَق عليه أنه استعارة، إزدادَ خطأُ القومِ قُبحاً وشناعةً؛ وذلك أنه يَلزَمُ على قياس قولهم، أنْ يكونَ إنما كان قولُه تعالى: و {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً} [يونس: 67] أَفصَحَ مِن أَصْله الذي هو قَوْلُنا: (والنهار لِتُبْصِروا أنتُمْ فيه أو مبصراً أنتم فيه) من أجْلِ أنه حدَثَ في حروفِ (مبصر) - بأن جعل الفِعْل للنهار على سعة الكلامِ - وصفٌ لم يكن. وكذلك يَلزمُ أن يكونَ السببُ في أنْ كان قول الشاعر [من الرجزَ]: فنام ليلي وتجلَّى همِّي أفصحَ من قولنا: (فنمتُ في ليلي)، أنْ كسبَ هذا المجازُ لفظَ "نام" ولفظ "الليل" مذاقةً لم تكن لهما. وهذا مما ينبغي للعاقل أنْ يستَحيَ منه، وأن يأنفَ مِن أن يُهْمِلَ النظرَ إهمالاً يؤدِّه إلى مثله، ونسأل اللهَ تعالى العِصْمةَ والتوفيق. دلالة المجاز والإيجاز على أن الفصاحة للمعاني

وإذْ قد عرفْتَ ما لَزِمَهم في الاستعارةِ والمجازِ، فالذي يَلزَمُهم في الإيجاز أَعجبُ، وذلكَ أنه يلزَمُهم إنْ كانَ اللفظُ فصيحاً لأَمرٍ يَرْجِعُ إليه نفسه دون معناه، أنْ يكونَ كذلك موجَزاً لأمرٍ يرجِع إلى نفْسِه، وذلك من المُحَال الذي يُضْحَك منه؛ لأنه لا معنى للإيجاز إلاَّ أنْ يَدُلَّ بالقليل من اللفظِ على الكَثير من المعنى؛ وإذا لم تَجعلْهُ وصْفاً لِلَّفظِ من أجْلِ معناه، أبطَلْتَ معناهُ. أعني أبطلْتَ معنى الإيجاز. ثم إنَّ هاهنا معنًى شريفاً قد كان يَنْبغي أن نكونَ قد ذكَرْناه في أثناء ما مَضَى من كلامِنا، وهو أَنَّ العاقلَ إذا نَظرَ على علْم ضرورةً أنه لا سبيلَ له إلى أنْ يُكثِرَ معانيَ الألفاظِ أو يُقلِّلَها، لأن المعاني المُودَعةً في الألفاظِ لا تتغيَّر على الجملة عما أرادَهُ واضعُ اللغةِ، وإذا ثبَتَ ذلك، ظَهَر منه أَنه لا معنى لقولِنا: كثرةُ المعنى مع قِلَّة اللفظِ: غيرَ أنَّ المتكلَّم يتَوصَّل بدلالةِ المعنى على المعنى، إلى فوائدَ لو أَنه أرادَ الدلالةَ عليها باللفظ، لا حتاجَ إلى لفظٍ كثيرٍ. سبب تقليد العلماء في خطإِهم والغرور بهم

واعلمْ أَن القولَ الفاسِدَ والرأيَ المدخولَ، إذا كان صُدورُه عن قوم لهم نَباهةٌ وصيتٌ وعلوٌّ منزلةٍ في أنواع من العلوم، غيرِ العِلْم الذي قالوا ذلك القولَ فيه، ثم وقع في الأَلْسُن فتداولتْه ونَشرَتْه، وفشَا وظَهَر وكَثُرَ الناقلون له والمُشِيدُون بِذكْره، صار تَرْكُ النَّظرِ فيه سنَّةً والتقليدُ ديناً، ورأيتَ الذين همْ أهلُ ذلك العِلْم وخاصَّتُه والممارِسون له والذينَ هُمْ خُلَقاءُ أنْ يَعرِفوا وجْهَ الغلطِ والخطأ فيه - لو أنهم نظَروا فيه - كالأجانب الذين ليسوا من أهله في قبوله، والعمل بهِ والركونِ إليه، ووجدتَهم قد أعطَوه مقادَتهم، وأَلاَنوا له جانِبَهم، وأَوْهَمَهمْ النظَرُ إلى مُنْتَماه ومنْتَسَبهِ، ثم اشتهارِه وانتشارِه وإطباقِ الجمع بعد الجمع عليه، أَنَّ الضنَّ به أصوبُ، والمحاماةَ عليه أَوْلى. ولربما بل كلما طنوا أنه لم يشِعْ ولم يتَّسِغُ، ولم يرَوْه خَلَفٌ عن سلَف، وآخرُ عن أَوّلٍ، وإلاَّ لأنَّ له أصْلاً صحيحاً، وأنه أُخذَ من معْدِن صدقٍ، واشتُقَّ من نَبْعةٍ كريمةٍ، وأَنه لو كان مَدْخولاً لظَهَر الدَّخَلُ الذي فيه على تَقادُم الزمانِ وكُرورِ الأيامِ، وكم خَطإٍ ظاهرٍ ورأْيٍ فاسدٍ، حظيَ بهذا السبَبِ عند الناس، حتى بَوَّأُوه في أَخَصِّ موضعٍ في قلوبهم، ومنَحوه المحبَّةَ الصادقةَ من نفوسهم، وعطَفُوه عليه عطْفَ الأُمِّ على واحدِها. وكم من داءٍ دَويٍّ قد استحْكَم بهذه العِلَّة حتى أعْيَا علاجُه، وحتى بَعِلَ به الطبيبُ. ولَوْلاَ سلطانُ هذا الذي وصفتُ على الناس وأَنَّ له أُخْذَةً تَمنَعُ القلوبَ عن التدبُّر، وتَقطعُ عنها دواعيَ التفكُّر، لمَا كان لهذا الذي ذَهَب إليه القومُ في أمرِ اللفظ هذا التمكُّنُ وهذه القوَّةُ، ولا كان يَرْسُخُ في النفوسِ هذا الرسوخَ، وتَتَشعَّب عروقُه هذا التشعُّبَ، مع الذي بان مِن تهافُتهِ وسقُوطهِ، وفُحْشِ الغَلَطِ فيه، وأنَّكَ لا تَرى في أَديمهِ، مِنْ أَين نظَرْتَ وكيفَ صرَّفْتَ وقلَّبْتَ، مَصَحّاً، ولا تَراه باطِلاً في شَوْبٌ من الحقِّ، وزَيْفاً فيه شيءٌ من الفِضَّة، ولكنْ تَرى الغِشَّ بَحْتاً، والغلَطَ صِرْفاً، ونسألُ اللهَ التوفيق.

وكيف لا يكونُ في إسار الأُخْذَةِ ومَحُولاً بينه وبين الفِكْرة، مَنْ يُسلِّمُ أنَّ الفصاحةَ لا تَكونُ في أفراد الكلماتِ وأنها إنما تَكُونُ فيها إذا ضُمَّ بعضُها إلى بعْضٍ، ثم لا يَعْلَم أنَّ ذلك يَقْتضي أنْ تكونَ وصْفاً لها مِن أجْلِ معانيها، لا مِنْ أَجْل أَنفُسِها، ومِنْ حَيثُ هي ألفاظٌ ونُطْقُ لسانٍ؟ ذاكَ لأنه ليس من عاقلٍ يَفْتَح عينَ قلبهِ إلاَّ وهو يَعْلَمُ ضرورةً أنَّ المعنى في ضَمِّ بعضِها إلى بعْضٍ، تعليقُ بعضِها ببعضٍ، وجَعْلُ بعْضِها بسَببٍ من بعض، لا أن يَنْطِقَ ببعضها في أَثر بعضٍ مِنْ غير أنْ يكونَ فيما بينهما تَعلُّقٌ، ويعْلمُ كذلك ضرورةً - إذا فكرَّ - أن التعلُّق يكون فيما بين معانيها، لا فيما بينها أَنفُسِها. ألا تَرى أَنَّا لوْ جَهِدْنا كلَّ الجَهْدِ أَنْ نَتصَّورَ تعلُّقاً فيما بين لفظينِ لا معنى تحْتَهما، لَمْ نَتصوَّرْ؟ ائتلاف الكلم بالنظم وتنافرها ومن أَجْلِ ذلك انقسَمتْ الكَلِمُ قسمين: مؤتلفٌ وهو الاسْمُ مع الاسْم والفعلُ مع الاسْمِ. وغيرُ مؤتلف وهو ما عدا ذَلك، كالفِعْل مع الفْعلِ، والحَرْفِ مع الحرفِ. ولو كان التعلُّقُ يكونُ بين الأَلفاظِ، لكانَ ينبغي أن يَختلِفَ حالُها في الائتلاف، وأنْ لا يكونَ في الدنيا كلمتان إلاَّ ويصِحُّ أنْ يأْتلِفا، لأنه لا تنافيَ بينَهما من حيثُ هي ألفاظٌ؛ وإذا كان كلُّ واحدٍ منهم قد أعطى يدَه بأنَّ الفصاحةَ لا تكون في الكَلِم أَفراداً، وأنها إنما تكونُ إذا ضُمَّ بعضُها إلى بعضٍ، وكان يكون المرادُ بضَمِّ بعضِها إلى بعض تعليقَ معانيها بعضِها ببعضٍ، لا كَوْنَ بعضِها في النطق على أثر بعضٍ، وكان واجباً إذا عُلِم ذلكَ أن يُعْلَم أنَّ الفصاحة تَجِبُ لها من أجْل معانيها لا من أجْل أنْفُسها، لأنه محالٌ أن يكونَ سبَبُ ظهورِ الفصاحةِ فيها تعلُّقُ معانيها بعضِها ببعضٍ، ثم تكون الفصاحةُ وصْفاً يَجب لها لأنْفُسها لا لِمعَانيها. وإذا كان العلمُ بهذا ضرورةً، ثم رأيتَهم لا يَعْلمونَه فليس إلاَّ أنَّ اعتزامَهم على التقيد، قد حال بينهم وبين الفكرة، وعرض لهم منه شبهُ الأخْذة. الاحتذاء في الشعر وأخذ الشعراء بعضهم من بعض

وأعلمْ أنك إذا نظرتَ وجدْتَ مَثلَهم مثَلَ مَنْ يرَى خيَالَ الشيءِ فَيحْسبُهُ الشيءَ، وذاك أَنهم قد اعتمدُوا في كلِّ أمرهم على النسق الذي يَرونه في الألفاظِ وجعَلوا لا يحَفِلون بغيره، ولا يُعَوِّلون في الفصاحة والبلاغةِ على شيءٍ سواه، حتى انتَهَوْا إلى أنْ زَعَموا أنَّ مَن عَمَد إلى شعرٍ فصيح فقرأه ونطقَ بألفاظهِ على النسَقِ الذي وضعَها الشاعرُ عليه، كان قد أتى بمثْلِ ما أتى به الشاعرُ في فصاحَته وبلاغَته. إلاَّ أَنهم زعَموا أنه يكونُ في إتْيانه بهِ مُحْتذياً لا مُبْتدئاً. ونحن إذا تأَملْنا وجَدْنا الذي يكونُ في الألفاظِ من تقديمِ شيءٍ منها على شيءٍ، إنما يقَعُ في النفس أَنَه نَسَقٌ إذا اعتبَرْنا ما تُوخِّي من معاني النحو في معانيها، فأمَّا مَع تَرْكِ اعتبارِ ذلك، فلا يَقَعُ ولا يُتصوَّرُ بحالٍ. أفلا تَرى أَنَّكَ لو فرَضْتَ في قوله: قِفَا نَبْكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ أنْ لا يكونَ "نبْكِ" جواباً للأمر، ولا يكونَ مُعدَّى بـ (مِن) إلى"ذِكْرى"، ولا يكونَ "ذكرى" مضافةً إلى "حبيب"، ولا يكونَ "منزلِ" معطوفاً بـ "الواو" على "حبيب"، لخَرَجَ ما تَرى فيه مِنَ التقديم والتأخيرِ عن أن يكون نَسَقاً؟ ذاك لأنه إنما يكونُ تقديمُ الشيءِ على الشيءِ نَسَقاً وتَرتيباً، إذا كان ذلكَ التقديمُ قد كان لِمُوجِبٍ أوْجَبَ أنْ يقدَّم هذا ويؤخَّر ذاك. فأَمَّا أنْ يكونَ مع عدم الموجِبِ نسَقاً فمحال، لأنه لو كان يكونُ تقديمُ اللفظِ على اللفظِ، مِنْ غَيْر أنْ يكونَ له مُوْجِبٌ نَسقاً، لكان يَنبغي أن يكونَ توالي الألفاظِ في النطق على أَيِّ وجْهٍ كان، نَسَقاً، حتى إنك لو قلْتَ: (نبْك قِفا حبيب ذكرى من): لم تَكنْ قد أعدَمْتَه النسَقَ والنظْم، وإنما أعدَمْتَه الوزْنَ فقط، وقد تقدَم هذا فيما مضى. ولكنَّا أعَدْناه هاهنا لأنَّ الذي أَخَذْنا فيه من إسلام القوم أَنفُسِهم إلى القليدِ، اقْتَضى إعادَتَه.

فصل: الاحتذاء والأخذ والسرقة الشعرية عند الشعراء

فصل: الاحتذاء والأخذ والسرقة الشعرية عند الشعراء واعلمْ أنَّ الاحتذاءَ عند الشعراءِ وأهلِ العلمِ بالشِّعر، وتقديرَه وتمييزَه، أَنْ يبتدِىءَ الشاعرُ في معنًى له وغرضٍ أسلوباً - والأسلوبُ الضْربُ من النْظم والطريقةُ فيه - فيعمَدَ شاعرٌ آخَر إلى ذلك الأسلوب، فجيءَ بهِ في شِعره، فيُشبَّه بمن يقْطَع من أَديمه نعْلاً على مثال نعْلٍ قد قطَعها صاحِبُها، فيقال قد احتذى علم مِثاله، وذلك مثلُ أن الفرزدقَ قال [من الطويل]: أَتَرجُو رُبَيْعُ أنْ تَجيءَ صِغارُها ... بِخَيرٍ وقد أَعْيَا رُبَيْعاً كِبارُها؟ واحتذاه البَعِيث فقال [من الطويل]: أَترجُو كُلَيْبٌ أنْ يَجيء حديثُها ... بَخير وقد أَعْيَا كُلَيْباً قَدِيمُها؟ وقالوا إنَّ الفرزدق لمَّا سمِعَ هذا البيت قال [من الوافر]: إذا ما قلتُ قافيةً شَروداً ... تَنَحَّلهَا ابنُ حمراءِ العِجَانِ ومثلُ ذلك أَنَّ البعيثَ قال في هذه القصيدة [من الطويل]: كليبٌ لئامٌ الناسِ قد يَعْلَمُونَهُ ... وأنتَ إذا عُدَّت كُلَيبٌ لَئيِمُها وقال البحتري [من الطويل]: بَنُو هاشمٍ في كلِّّ شرقٍ ومَغْربٍ ... كرامُ بني الدنيا وأنتَ كَريمُها وحكى العسكريُّ في صنعة الشَّعر أنَّ ابنَ الروميِّ قال: قال لي البحتريُ: قولُ أبي نواس [من الطويل]: ولم أَدْرِ مَنْ هُمْ غيرَ ما شهِدَتْ لَهُمْ ... بِشَرقِيِّ ساباطَ الديارُ البَسَابِسُ مأخوذٌ من قول أبي خراش (الهذلي) [من الطويل]: ولم أَدْرِ مَنْ أَلْقى عليه رداءه ... سِوى أَنه قد سُلَّ من ماجدٍ مَحْضِ قال: فقلتُ قد اختلفَ المعنى. فقال: أَمَا تَرى حَذْوَ الكلامِ حَذْواً واحداً؟. وهذا الذي كتبتُ من حَلِيٌ الأخْذِ في الحَذْو. ومما هو في حَدِّ الخفيِّ قول البحتري [من الطويل]: ولن يَنْقُلَ الحسَّادُ مجْدَكَ بعْدَما ... تمكَّنَ رَضوى واطمأَنَّ مُتَالِعُ وقولُ أبي تمام [من الكامل]: ولقد جَهَدتُمْ أَنْ تُزِيلوا عِزَّهُ ... فإذا أَبانٌ قد رَسَا وَيَلْمَمُ قد احتذى كلُّ واحدٍ منهما على قولِ الفرزدق [من الكامل]: فادْفَعْ بِكفْكَ إنْ أردُتَ بِناءَنا ... ثهلانَ ذا الهضَباتِ هَل يتحْلَحَلُ

وجملةُ الأمر أَنهم لا يَجْعلون الشاعرَ مُحْتذِياً إلاَّ بما يَجْعلونه بهِ آخِذاً ومسْتَرِقاً، قال ذو الرُّمَّة [من الوافر]: وشعرٍ قد أَرِقْتُ له غريبٍ ... أُجَنّبُهُ المُسانَد والمُحَالا فبتُّ أُقِيمُهُ وأَقَدُ مِنْهُ ... قوافي لا أُريد لها مِثَالا قال: يقول: لا أَحْذوها على شيءٍ سمِعْتُه "فأَمَّا أنْ يُجْعَل إنشادُ الشعرِ وقراءتُه احتذاءً فَما لا يعْلَمونَه؛ كيف وإذا عَمَد عامِدٌ إلى بيتِ شعرٍ فوضَعَ مكانَ كلِّ لفظةٍ لفْظاً في معناه، كمِثْلِ أنْ يقولَ في قولِه: دَعِ المَكارِمَ لا تَرْحَلْ لِبُغْيتهِا ... واقْعُدْ فإِنَّك أنتَ الطاعِمُ الكاسي ذَرِ المآثِرَ لا تَذْهَبْ لِمَطْلَبِها ... واجْلِسْ فإنكَ أنتَ الآكل الَّلابِسْ لم يَجْعلوا ذلكَ احذاءً ولم يُؤهِّلوا صاحِبَه لأن يُسَمُّوه مُحْتذِياً، ولكنْ يُسمُّونَ هذا الصنيعَ سَلْخاً ويُرَاذِّلونَه ويسخّفونَ المتعاطيَ له. فمِنْ أينَ يجوزُ لنا أن نقولَ في صبيٍّ يقرأ قصيدة امرىءِ القيس إنه احتذاهُ في قوله [من الطويل]: فقلت له لمَّا تمطَّى بصُلْبِه ... وأَردفَ أعجازاً وناء بكَلْكلِ الاحتجاج بالاحتذاء والتحدي على أن الفصاحة بحسب المعنى والعَجَبُ مِن أنهم لم يَنْظروا فيَعْلَموا أَنه لو كان مُنْشِد الشعرِ مُحْتذياً، لكانَ يكونُ قائلَ شعرٍ، كما أنَّ الذي يحَذُوا النْعلَ بالنعل يكون قاطِعَ نِعْلِ، وهذا تقريرٌ يَصْلُح لأن يُحفَظَ للمُناظَرَة - ينبغي أن يقالَ لمن يَزْعمُ أنَّ المنْشِدَ، إذا أَنشدَ شعرَ أمرىءِ القيس كان قد أتى بِمثْلهِ على سبيلِ الاحْتِذاء: أخبرنا عنكَ: لماذا زعَمْتَ أنَّ المنشِدَ قد أَتى بمثْلِ ما قالَه امرؤُ القيس؟ أَلأَنَّه نطَقَ بأَنفُسِ الألفاظ الت ينطق بها؟ أَمْ لأَنه راعى النَسَق الذي راعاه في النطقِ بها؟ فإن قلت: إنَّ ذلكَ لأَنه نطَق بأَنفُسِ الألفاظِ التي نطَقَ بها: أَحَلْتَ، لأنه إنما يَصِحُّ أن يقالَ في الثاني إنه أتى بِمثْلِ ما أتى به الأوَّلُ إذا كان الأوَّلُ قد سَبقَ إلى شيءٍ فأحْدَثهَ ابتداء، وذلك في الأَلفاظِ مُحال؛ إذْ ليس يُمكِنُ أنْ يُقال إنه لم يَنْطِقْ بهذه الألفاظِ التي هي في قوله،

قفا نبكِ من ذِكرى حبيب ومنزل قبْل امرىءِ القيس أَحد. وإن قلتَ: إنَّ ذلك لأنه قد راعى في نُطْقه بهذه الألفاظِ النسَقَ الذي راعاه امرؤُ القيس: قيل إنْ كنتَ لهذا قضَيْتَ في المُنْشِد أنه قد أَتَى بِمْثل شِعْره، فأخْبِرْنا عنكَ إذا قلتَ إن التحدِّيَ وقع في القرآن إلى أن يؤتى بمثله على جهةِ الابتداءِ، ما تَعْني به؟ أَتَعْني أَنه يأتي في ألفاظٍ غير أَلفاظ القرآن بمثل الترتيب والنَّسَقِ الذي تَراه في ألفاظ القرآنِ؟ فإن قال: ذلك أَعْني. قيل له: أَعلِمْتَ أَنه لا يكونُ الإتيانُ بالأشياءِ بَعْضِها في أَثرِ بعضٍ على التوالي نَسَقاً وتَرتيباً، حتى تكونَ الأشياءُ مختلفةً في أَنْفُسها، ثم يكون للذي يَجيءُ بها مضموماً بعضُها إلى بعضٍ، غرضٌ فيها ومقصودٌ لا يَتمُّ ذلك الغرَضُ وذاك المقصود، إلاَّ بأَنْ يتَخيَّر لَها مواضِعَ فيَجعلَ هذا أولاً، وذاك ثانياً؟ فإن هذا ما لا يشبهة فيه على عاقل. نفي كون إعجاز القرآن بأوزان نظمه وسلامة ألفاظه

وإذا كان الأمرُ كذلك لزِمَك أن تُبَيِّنَ الغرضَ الذي اقتضى أنْ تكونَ ألفاظُ القرآنِ منْسوقةً النَّسَقَ الذي تَراه. ولا مَخْلَصَ له من هذه المطالبة، لأنه إذا أبى أن يكونَ المُقْضى والموجِبُ للذي تَراه من النَّسق، المعانيَ، وجَعلَه قد وَجَب لأمر يَرجعُ إلى اللفظ، لم تَجد شيئاً يُحِيلُ الإعجازَ في وجوبه عليه البتةَ، اللهُمَّ إلاَّ أَنَّ يَجْعل الإعجازَ في الوزن ويَزْعُمَ أنَّ النَسقَ الذي تراه في ألفاظ القرآنِ إنما كان معْجِزاً من أجْل أنْ كان قد حَدث عنه ضرْبٌ من الوزن يَعْجَزُ الخَلْقُ ن أن يأْتوا بمثله؛ وإذا قال ذلك لم يُمْكِنْه أنْ يقولَ إن التحدِّيَ وقَع إلى أن يأْتوا بمثلِهِ، في فصاحَتِه وبلاغَتِه، لأن الوزْنَ ليس هو من الفصاحة والبلاغة في شيءٍ. إذْ لو كان له مَدْخَلٌ فيهما لكانَ يَجبُ في كل قصيدتَيْن أتَّفقَتا في الوزْن أنْ تَتَّفِقا في الفصاحة والبلاغةِ. فإن دعا بعضُ الناس طولَ الإِلْفِ لِمَا سَمعَ من أَنَّ الإعجازَ في اللفظ، إلا أَنْ يَجْعلَه في مجرَّدِ الوزْنِ، كان قد دَخَل في أمرٍ شنيعٍٍ، وهو أنَه يكونُ قد جَعلَ القرآن مُعجِزاً لا مِن حيثُ هو كلامٌ ولا بما به كان لِكَلامٍ فضْلٌ على كلامٍ؛ فليس بالوزْنِ ما كان الكَلامُ كلاماً ولا به كان كلامٌ خَيراً مِنْ كلامٍ. وهكذا السبيلُ إنْ زعَم زاعِمٌ أنَّ الوصفَ المعجزَ هو الجَرَيانُ والسهولَةُ، ثم يعني بذلك سلامَتَهُ من أن تلتقي فيه حروفٌ تَثْقُل على اللسان لأنه ليس بذلك كان الكلامُ كلاماً ولا هو بالذي يتناهى أَمرُه إنْ عُدَّ في الفضيلة إلى أن يكونَ الأَصْلَ وإلى أن يكونَ المعَّولَ عليه في المفاضَلةِ بين كلامٍ وكلامٍ. فما به كان الشاعرُ مفْلِقاً، والخَطيبُ مِصْقَعاً والكاتبُ بليغاً ... إعجاز القرآن وموافقة آية كلِّ نبيٍّ لحال عصره

ورأينا العقلاء حيثُ ذكَروا عجْزَ العربِ عن مُعارَضَةِ القرآن، قالوا إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم تحدَّاهم وفيهم الشعراءُ والخطباءُ والذين يُدِلُّونَ بفصاحةِ اللسان، والبراعةِ والبَيان، وقوةِ القرائحِ والأَذْهان، والذين أُوتوا الحِكْمةَ وفصْلَ الخِطابِ، ولم نَرهم قالوا إنَّ النبيَّ عليه السلام تَحدَّاهم وهم العارِفُون بما ينبغي أن يُصْنَع حتى يَسْلَم الكلامُ من أن تلتقيَ فيه حروفٌ تَثْقُل على اللسان. ولَمَّا ذكَروا معجزاتِ الأنبياءِ عليهم السلام، وقالوا: إنَّ اللهَ تعالى قد جَعَل معجزةَ كلِّ نَبيّ فيما كان أغْلَبَ على الذين بُعِثَ فيهم، وفيما كانوا يتباهَوْنَ به وكانت عوامَّهم تُعظِّمُ به خواصَّهم، قالوا: إنه لمَّا كان السِّحْرُ الغالِبَ على قوم فِرْعونَ ولم يكُنْ قد استَحكَم في زمانِ استحكامَه في زمانِه، جَعَل تعالى معجِزَةَ موسى عليه السلامُ في إبطاله وتَوْهينهِ. ولمَّا كان الغالِبُ على زمانِ عيسى عليه السلام الطِّبُ، جعلَ اللهُ تعالى معجزِتَه في إبْراءِ الأَكْمهِ والأَبْرصِ وإحياءِ الموتى. ولما انتَهَوْا إلى ذكْر نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، وذكْرِ ما كان الغالِبُ على زمانهِ لم يَذْكُروا إلا البلاغَة والبيانَ والتصرُّفَ في ضروب النظْم. وقد ذكرتُ في الذي تقدَّم عينَ ما ذكرتُه هاهنا مما يَدلُّ على سقوط هذا القولِ. وما دعاني إلى إعادة ذِكْره إلاَّ أنه ليس تهالُكُ الناسِ في حديث اللفظ والمحاماةُ على الاعتقاد الذي اعتقدوه فيه وظنُّ أَنفُسِهم به إلى حدٍّ، فأحْبَبْتُ لذلك أن لا أَدعَ شيئاً مما يجوزُ أن يَتعلَّق به متعلِّقٌ ويلجأَ إليه لاجىءٌ ويقع منه في نفْس سامعٍ شَكًّ، إلا استقصيْتُ في الكشْف عن بُطْلانِه.

وهاهنا أمرٌ عجيبٌ وهو أنه معلومٌ لكلٍّ مَنْ نَظَر أنَّ الألفاظَ من حيثُ هي أَلفظاٌ وكَلِمٌ ونُطْقُ لسانِ لا تخْتصُّ بواحدٍ دون آخر، وأنها إنما تختصُّ، إذا تُوُخَّي فيها النظْمُ. وإذا كان كذلك، كان مَنْ رفَعَ النظْمَ مِن البين، وجعَلَ الإعجازَ بجملته في سهولة الحُروف وجَرَيانها جاعلاً له فيما لا يصِحُّ إضافتُه إلى الله تعالى. وكفى بهذا دليلاً على عدم التوفيق، وشدَّةِ الضلالِ عن الطريق.

فصل بليغ: يصف به عمله في كشف شبهات مسألة اللفظ

فصل بليغ: يصف به عمله في كشف شبهات مسألة اللفظ قد بَلغْنا في مداواة الناس مِنْ دائهم، وعلاج الفسادِ الذي عَرَضَ في آرائهم، كلَّ مبْلغ، وانتهَيْنا إلى كلِّ غايةٍ، وأَخذْنا بهم عن المجَاهِل التي كانوا يتعسَّفون فيها إلى السَّنَنِ اللاحِب، ونقلْنَاهُم عن الآجِنِ المطروق إلى النمير الذي يَشْفي غليلَ الشارِب، ولم ندَعْ لباطلِهِم عِرْقاً ينبُضُ إلاَّ كَوَيْناهُ، ولا للخِلاف لِساناً ينطِقُ إلاَّ أخْرَسْنَاه، ولم نَتركْ غِطاءً كان على بصَرِ ذي عَقْلٍ إلا حَسرْناهُ؛ في أيها السامعِ لِمَا قُلْناه، والناظِرُ فيما كَتبْناه، والمتصفحُ لما دوَّنَّاهُ، إنْ كنتَ سمعتَ سماعَ صادقِ الرغبةِ في أن تكونَ أمرك على بَصيرة، ونظرْتَ نَظَرَ تامِّ العنايةِ في أن يُورِدَ ويَصْدُرَ عن معرفةٍ، وتصفَّحتَ تصفُّحَ مَنْ إذ مارَسَ باباً من العِلْم لم يُقْنِعْه إلاَّ أن يكونَ على ذورةِ السَّنام، ويضْرِبَ بالمعلَّى من السِّهام؛ فقد هُديتَ لِضالَّتكَ، وفُتِح لك الطريقُ إلى بُغْيتِكَ، وهُيِّءَ لكَ الأداءةُ التي تبلُغُ بها، وأُوتيتَ الآلةَ التي معَها تَصِلُ، فَخذْ لنفسكَ بالتي هي أَمْلأُ ليديكَ، وأعْوَدُ بالحظِّ عليكَ، ووازِنْ بين حالِكَ الآنَ، وقد تنبَّهْتَ مِن رقدَتِكَ، وأَفَقْتَ من غفلتِكَ، وصِرْتَ تَعلمُ - إذا أنتَ خُضْتَ في أمرِ اللفْظ والنّظْم - معنى ما تَذْكُر، وتَعْلمُ كيفَ تُورِدُ وتَصْدُرُ، وبينها وأنتَ من أمرها في عَمياءَ، وخابِطٌ خَبْط عَشْواءَ؛ قصاراك أن تُكِّررَ أَلفاظاً لا تَعرِفُ لشيءٍ منها تَفْسيراً، وضروبَ كلام للبلغاءِ إنْ سُئِلْتَ عن أغراضِهم فيها، لم تستطعْ لها تَبْييناً؛ فإنك تراكَ تُطِيلُ التعجُّبَ مِن غَفّّلتك، وتُكْثِرُ الاعتذارَ إلى عَقْلِك، من الذي كنتَ عليه طولَ مُدَّتك؛ ونسأَلُ اللهَ تعالى أنْ يَجْعل كلَّ ما نأتيه، ونقصِدُهُ ونَنْتحيه، لوجهِهِ خالصاً، وإلى رِضاه عزَّ وجَلَّ مؤدِّياً، ولِثَوابهِ مقْتَضِياً، وللزُّلْفى عنده مُوْجِبا، بمَّنه وفضلهِ ورحمتِه.

الفصل الأخير في كشف شبهة جعل الفصاحة للألفاظ

الفصل الأخير في كشف شبهة جعل الفصاحة للألفاظ بسم الله الرحمن الرحيم إعلمْ أَنه لمَّا كان الغلَطُ الذي دخَل على الناس ِ في حديثِ اللفظِ، كالداءِ الذي يَسْري في العروقِ، ويُفْسِد مِزاجَ البدنِ، وجَبَ أن يُتوخَّى دائباً فيهم ما يتَواخَّاه الطبيبُ في الناقة من تعهُّدهِ بما يزَيد في مُنَّته، ويُبَقِّيه على صحَّتِه، ويؤمّنُهُ النُّكْسَ في علَّتهِ؛ وقد علِمْنا أنَّ أصْل الفسادِ وسبَبَ الآفةِ هو ذَهابهُم عن أنَّ مِن شأنِ المعاني أن تَختلِفَ عليها الصورُ، وتَحدُثَ فيها خواصُّ ومَزايا بَعْد أنْ لا تكونَ؛ فإنك ترَى الشاعرَ قد عَمدَ إلى معنىً مبتذَلٍ، فصنَعَ فيه ما يَصْنَعُ الصانِعُ الحاذِقُ إذا هو أَغْرَبَ في صَنْعة خاتمٍ وعَمَلِ شَنْفٍ وغيرهما من أصناف الحِلى. فإنَّ جهْلَهم بذلك من حالِها هو الذي أَغواهُم واسْتَهواهم، وورَّطهم فيما توَرَّطوا فيه من الجهَالات، وأَدَّاهُم إلى التعلق بالمُحالات. وذلك أَنهم لمَّا جَهِلوا شأنَ الصورةِ وضَعُوا لأَنفُسِهم أساساً وبنَوْا على قاعدة؛ فقالوا إنه ليسَ إلا المعنى واللفظُ ولا ثالثَ، وإنه إذا كان كذلكَ وجَبَ إذا كان لأحدِ الكلامَيْنِ فضيلةٌ لا تَكون للآخَر، ثم كان الغرَضُ مِنْ أحدِهما هو الغَرَضَ من صاحبهِ أنَ يكونَ مَرْجِعُ تلك - زَعموا - يُؤدِّي إلى التناقض، وأنْ يكونَ معناهُما مُتَغايِراً وغيرَ متغايرٍ معاً. ولمَّا أَقَرُّوا هذا في نُفوسِهِم، حَمَلوا كلامَ العلماءِ في كل ما نَسَبوا فيه الفضيلةَ إلى اللفظِ على ظاهرِه وأَبَوْا أن ينظُروا في الأوصاف التي أَتْبعوها نسبتَهم الفضيلةَ إلى اللفظِ مثلَ قولهم: "لفظٌ متمكِّنٌ غيرُ قَلِقٍ ولا نابٍ به موضِعُه).

إلى سائر ما ذكرْناه قبْلُ، فيَعْلمَوا أَنهم لم يُوجِبوا لِلَّفظ ما أوجَبُوه من الفضيلةِ وهُمْ يَعْنُونَ نُطْقَ اللسانِ وأجراسَ الحرُوف، ولكنْ جعَلوا كالمواضَعَة فيما بينهم، أَنْ يقولوا وهُم يُريدون الصورةَ التي تَحْدُثُ في المعنى والخاصَّة التي حَدثَتْ فيه؛ ويَعْنونَ الذي عناه الجاحظُ حيث قال: وذهبَ الشيخُ إلى استحسانِ المعاني، والمعاني مطروحةٌ وسطَ الطريقِ يَعْرِفُها العربيُّ والعجميُّ والحضريُّ والبدويُّ، وإنما الشعرُ صياغةٌ وضرْبٌ من التصوير: وما يعَنونه إذا قالوا إنه يأخُذُ الحديثَ فيُشنِّفُه ويقرِّطُه، ويأْخذُ المعنى خرْزَةً فيردُّه جوهرةً، وعباءةً فيجعلُه ديباجة، ويأخذُه عاطِلاً فيردُّهُ حالياً، وليس كونُ هذا مرادَهم بحيثُ كان ينبغي أن يَخْفى هذا الخَفاءَ ويَشْتبِهَ هذا الاشتباهَ؛ ولكنْ إذا تعاطى الشيءَ غيرُ أهله، وتولَّى الأمرَ غيرُ البصير به، أَعْضَلَ الداءُ، واشتدَّ البلاءُ. ولو لم يكن مِنَ الدليلِ على أنهم لم يَنْحَلُوا اللفظَ الفضيلةَ وهم يُريدونه نَفْسَه، وعلى الحقيقة، إلا واحدٌ وهو وصْفُهم له بأنه يُزَيِّنُ المعنى، وأنه حُلى له، لكان فيه الكفايةُ، وذاك أنَّ الألفاظَ أدلَّةٌ على المعاني، وليس للدليل إلاَّ أنْ يُعْلِمَكَ الشيءَ على ما يكونُ عليه. فأَما أن يصيرَ الشيء بالدليل على صفةٍ لم يكُنْ عليها، فما لا يقوم في عقل، ولا يُتصوَّرُ في وَهْم. الشبهة بأخذ المعنى وسرقته على فصاحة الألفاظ

وممَّا إذا تفكَّرَ فيه العاقلُ، أطالَ التعجُّبَ من أمر الناس، ومن شدَّةِ غَفْلتهم، قولُ العلماءِ حيثُ ذكَروا الأَخذَ والسَّرِقة: إنَّ مَنْ أخذَ معنًى عارياً فكَساه لفظاً مِنْ عندِه كانَ أحقَّ به. وهو كلامٌ مشهورٌ متداولٌ يقرأُه الصبيانُ في أول كتاب عبد الرحمن ثم لا ترى أحداً من هؤلاء الذين لهَجُوا بجعل الفضيلةِ في اللفظ يفكِّرُ في ذلك فيقول: من أَين يُتصوَّر أن يكونَ هاهنا معنىً عارٍ من لفظٍ يَدلُّ عليه؟ ثم من أين يُعْقَلُ أن يجيءَ الواحدُ منا لِمعنىً من المعانيِ، بلفظٍ من عنده إنْ كان المرادُ باللفظ نُطْقَ اللسان؟ ثم هبْ أنه يصِحُّ له أن يَفْعلَ ذلك، فمن أَينَ يَجِبُ إذا وَضَع لفظاً على معنىً، أن يصيرَ أَحقَّ به من صاحبه الذي أخذه منه، إن كان هو لا يَصْنَع بالمعنى شيئاً، ولا يُحْدِثُ فيه صفةً، ولا يَكْسِبُه فضيلةً؟ وإذا كان كذلك، فهل يكونُ لكلامهِم هذا وجهٌ سِوى أنْ يكونَ اللفظُ في قولهم: (فكَساهُ لفظاً من عنده) عبارةً عن صورةٍ يُحْدِثها الشاعرُ أو غيرُ الشاعر للمعنى؟ فإن قالوا: (بلى يكونُ! وهو أن يستعيرَ لِلمعنى لفظاً)، قيل: الشأنُ في أنهم قالوا "إذا أَخذ معنىً عارياً فكَساه لفظاً من عِنده كان أحقَّ به" والاستعارةُ عندكم مقصورةٌ على مجرَّد اللفظِ ولا ترَوْنَ المستعيرَ يَصْنَع بالمعنى شيئاً، وتَرونَ أنه لا يحدثُ فيه مزيَّةٌ على وجهٍ من الوجوه؛ وإذا كان كذلك فمِنْ أَين - ليت شعري - يكون أحقَّ به؟ فاعرفه! ثُمَّ إنْ أردْتَ مثالاً في ذلك، فإنَّ مِن أَحسنِ شيءٍ فيه، ما صنَع أبو تمام في بيت أَبي نُخَيْلة، وذلك أن أَبا نخيلة قال في مسلمَةَ بنِ عبد الملك [من الطويل]: أَمَسْلَمَ إني يابْنَ كلِّ خَليفةٍ ... ويا جَبَل الدنيا ويا واحِدَ الأرضِ شكرتُكَ إنَّ الشكْرَ حبْلٌ من التُّقى ... وما كلُّ مَنْ أولَيْتَهُ صالحاً يَقْضي وأَنْبَهْتَ لي ذِكرى وما كان خاملاً ... ولكنَّ بعضَ الذكْرِ أَنبهُ من بَعْضِ فعمد أبو تمام إلى هذا البيت الأخير فقال [من الطويل]: لقد زِدْتَ أوْضاحي امتداداً ولم أَكُنْ ... بهيماً ولا أَرْضي مِنَ الأرض مَجهلا

ولكنْ أيادٍ صادفَتْني جِسَامُها ... أغرَّ فأَوفَتْ بي أغرَّ مُحجَّلا وفي كتاب "الشعر والشعراء" للمرزُباني فصلٌ في هذا المعنى حسَنٌ قال: "ومن الأَمثال القديمة قولهم "حَرًّا أخافُ على جاني كَمأَةٍ لا قُرّاً" يُضرَب مثلاً للذي يَخافُ مِن شيءٍ فيَسْلمُ منه، ويُصِيبهُ غيرهُ مما لم يَخَفْهُ، فأخذَ هذا المعنى بعضُ الشعراء فقال [من الكامل]: وحَذِرْتُ مِنْ أَمْرٍ فمرَّ بِجانبي ... لم يُنْكِني ولَقِيتُ ما لَمْ أَحْذَرِ وقال لبيد [من المنسرح]: أَخْشى على أَرْبَدَ الحتُوفَ ولا ... أرْهَبُ نَوْءَ السّماكِ والأَسدِ قال: وأخذَه البحتريُّ فأحسن، وطغى اقتداراً على العبارة واتِّساعاً في المعنى فقال [من الكامل]: لو أنني أُوفي التجاربَ حَقَّها ... فيما أرَتْ لَرجَوْتُ ما أَخْشاهُ وشبيهُ بهذا الفصْلِ فصلٌ آخر من هذا الكتاب أيضاً. أنشد لإبراهيم ابن المهدي [من السريع]: يا مَنْ لِقَلْبِ صِيغَ من صَخْرةٍ ... في جَسَدٍ من لؤلؤٍ رطْبِ جرحتُ خدَّيْه بلحْظي فَمَا ... بَرِحْتُ حتى اقتصَّ مِنْ قلبي ثم قال: قال علي بن هارون أخذه أحمد بن أبي فَنَن معنىً ولفظاً فقال [من الكامل]: أَدْمَيْتُ باللحظاتِ وجْنَتَهُ ... فاقتصَّ ناظرُهُ من القَلْبِ قال: ولكنه بنقاء عبارته وحُسْنِ مأخذه قد صار أَوْلى به: ففي هذا دليل لِمن عقَلَ أَنهم لا يَعْنونَ بحُسْنِ العبارة مجَّردَ اللفظِ ولكنْ صورةً وصِفةً وخصوصيةً في المعنى، وشيئاً طريقُ معرفتِه على الجملة، العقلُ دون السمْع؛ فإنه على كلِّ حالٍ لم يَقُلْ في البحتري إنه أحْسَن فطغى اقتداراً على العبارةِ من أَجْلِ حروف: لو أنني أوفي التجاربَ حقها وكذلك لم يصِفْ ابنَ أبي فَنن بنقاء العبارة من أجْل حروف: أَدْمَيْتُ باللحظاتِ وجْنَتَهُ غلط قياس الكلام على الكلم في الفصاحة

واعلمْ أَنَّكَ إذا سبرْتَ أَحوالَ هولاءِ الذين زَعَموا أنه إذا كان المعبَّرُ عَنهُ واحداً والعبارةُ اثنتَيْن، ثم كانت إحدى العبارتَيْن أَفْصَحَ من الأخرى وأحْسَنَ، فإنه يَنبغي أن يكونَ السببُ في كونها أَفْصَحَ وأحسَنَ، اللفظَ نفسَه، وجدتَهم قد قالوا ذلك من حيثُ قاسوا الكلامَيْن على الكلمتَيْن، فلما رأَوْا أَنه إذا قيل في الكلمتين إن معناهما واحدٌ، لم يكنْ بينهما تفاوتٌ ولم يكنْ للمعنى في أحدِهما حالٌ لا يكون له في الأخرى، ظَنُّوا أنَّ سبيلَ الكلامين في هذا السبيلُ. ولقد غَلِطوا فأَفْحَشوا، لأنه لا يُتصوَّرُ أنْ تكونَ صورةُ المعنى في أحد الكلامين أو البيتين، مثْلَ صورتِه في الآخَر البتَّةَ، اللَّهُمَّ إلاَّ أنْ يَعْمدَ عامِدٌ إلى بيتٍ فيضَعَ مكانَ كلِّ لفظةٍ من لفظةً في معناها، ولا يَعْرِضُ لنظْمهِ وتأليفه، كمِثلِ أن يقول في بيت الحُطَيْئَة [من البسيط]: دَعِ المكارِمَ لا تَرْحَلْ لبُغْيتها ... واقعُدْ فإنك أنتَ الطاعِمُ الكاسي ذَرِ المفَاخِرَ لاتذْهَبْ لِمَطْلبها ... واجلسْ فإنك أنتَ الآكِل اللابسُ وما كان هذا سبيلَه، كان بمعزلٍ من أنْ يكونَ به اعتدادٌ، وأنْ يَدخُلَ في قبيلِ ما يفاضَلُ فيه بين عبارتين؛ بل لا يصِحُّ أنْ يُجعلَ ذلك عبارةً ثانيةً، ولا أنْ يُجعلَ الذي يتعاطاه بِمَحَلِّ مَنْ يوصَف بأنه أخذَ معنىً. ذلك لأنه لا يكونُ بذلك صانعاً شيئاً يَستحقُّ أنْ يُدْعى من أجْلهِ واضعَ كلامٍ ومستأنِفَ عبارةٍ وقائلَ شعرٍ. ذاك لأنَّ بيتَ الحطيئةِ لم يكُن كلاماً وشعراً مِن أجْل معاني الألفاظ المفردة التي تراها فيه مجرَّدةً معرَّاةً من معاني النظْمِ والتأليفِ، بل منها مُتَوخىًّ فيها ما ترَى من كَوْن (المكارِم) مفعولاً لـ (دعْ) وكونِ قوله: (لا ترحل لبغيتها)؛ جملةً أكَّدتْ الجملةَ قبلَها، وكون "اقْعد" معطوفاً بـ (الواو) على مجموع ما مضى، وكون جملة: أنتَ الطاعمُ الكاسى: معطوفةً بـ (الفاء) على "اقعد"، فالذي يجيء، فلا يُغيِّر شيئاً من هذا الذي به كان كلاماً وشعراً، لا يكونُ قد أتى بكلامٍ ثانٍ وعبارةٍ ثانية، بل لا يكون قد قال من عندِ نفْسِه شيئاً البتةَ.

وجملة الأمر أَنه، كما لا تكونُ الفِضَّةُ خاتَما أو الذهَبُ خاتماً أو سواراً أوغيرهما، من أصناف الحِلَى بأنفُسِهما، ولكنْ بما يحدُثُ فيهما من الصورة، كذلك لا تكونُ الكَلِمُ المفردةُ التي هي أسماءٌ وأفعالٌ وحروفٌ، كلاماً وشعراً، من غير أن يحدُثَ فيها النظْمُ الذي حقيقَتُه توَخِّي معاني النحو وأَحكامِه. فإذنْ ليس لمن يتصدَّى لمَا ذكَرْنا مِن أَنْ يَعْمَد إلى بيتٍ فيضَعُ مكانَ كلِّ لفظةٍ منها لفظةً في معناها، إِلاَّ أن يُسْتَرَكَّ عقلُه ويُسْتَخفَّ، ويُعدَّ معدَّ الذي حُكي أنه قال: إني قلتُ بيتاً هو أَشعَرُ من بيتِ حسَّان، قال حسان [من الكامل]: يُغْشَوْن حتى ما تَهِرُّ كلابُهُمْ ... لا يَسْأَلون عَنِ السوادِ المُقْبِلِ وقلتُ: يُغْشَون حتى ما تَهِرُّ كلابهُم ... أبداً ولا يَسْألون من ذا المُقبِلُ فقيلَ هو بيتُ حسان، ولكنَّك قد أفسَدْتَه. واعلمْ أنه إنما أُتِيَ القومُ مِنْ قلة نظَرِهم في الكُتُبِ التي وضعَها العلماءُ في اختلاف العبارتَين على المعنى الواحد، وفي كلامهم في أَخْذ الشاعر من الشاعرِ، وفي أنْ يقول الشاعرانِ على الجملة في معنى واحدٍ وفي الأشعار التي دونوها في هذا المعنى، ولو أنهم كانوا أخَذُوا أنفُسَهم بالنظرِ في تلك الكتبِ وتدبَّروا ما فيها حقَّ التدَبُّر، لكان يكونُ ذلك قد أيقظَهم مِن غفْلَتهم، وكشفَ الغِطاء عَنْ أعينهم.

فصل: الموازنة بين المعنى المتحد واللفظ المتعدد

فصل: الموازنة بين المعنى المتحد واللفظ المتعدد وقد أردتُ أن أكتبَ جملةً من الشعر الذي أنتَ ترى الشاعرَيْن فيه قد قالا في معنىً واحدٍ، وهو ينقسم قسمين: قَسمٌ أنت ترَى أحدَ الشاعرَين فيه قد أتى بالمعنى غُفْلاً ساذَجاً، وترى الآخَرَ قد أخرجَه في صورةٍ تَروقُ وتُعْجِبُ. وقسمٌ أنتَ ترى كلَّ واحدٍ من الشاعرَين قد صَنعَ في المعنى وَصَوَّرَ. القسم الأول وأبدأُ بالقسم الأول الذي يكون المعنى في أحدِ البَيْتين غُفلاً وفي الآخَرِ مصوَّراً مَصْنوعاً، ويكونُ ذلك إمَّا لأنَّ متأَخِّراً قصَّر عن مُتقدِّم، وإمَّا لأن هُدى متأخرٍ لشيءٍ لم يَهْتدِ إليه المتقدِّمُ، ومثال ذلك قولُ المتنبي [من المنسرح]: بِئْسَ اللَّيالي سَهِرْتُ مِنْ طَرَبي ... شَوْقاً إِلى مَنْ يَبيتُ يَرْقُدُها مع قولِ البحتري [من الكامل]: لَيلٌ يُصَادِفُنِي ومَرْهَفَةَ الحَشَا ... ضِدَّيْنِ أَسْهَرُهُ لَهَا وَتَنامُه وقولُ البحتري [من البسيط]: وَلو ملَكتُ زَماعاً ظَلَّ يَجْذِبُني ... قَوْداً لَكَانَ نَدى كَفيَّكَ منْ عُقُلي مع قولِ المتنبي [من الطويل]: وَقَيَّدْتُ نفْسِي في ذُرَاكَ مَحَبَّةً ... وَمَنْ وَجَدَ الإِحْسانَ قَيْداً تَقَيَّدَا وقولُ المتنبي [من الطويل]: إذَا اعْتَلَّ سَيْفُ الدَّوْلَةِ اعْتَلَّتِ الأَرضُ ... وَمَنْ فَوْقَهَا وَالْبَأسُ وَالْكَرَمُ الْمَحْضُ مع قول البحتري [من الطويل]: ظَلِلْنَا نَعُودُ الْجُودَ منْ وَعْكِكَ الّذِي ... وَجَدْتَ وَقلْنَا اعْتَلَّ عُضْوٌ منَ الْمَجْدِ وقولُ المتنبي [من الكامل]: يُعْطِيكَ مُبْتَدِئاً فَإِنْ أَعْجَلْتَهُ ... أَعْطَاكَ مُعْتَذِراً كَمَنْ قَدْ أَجْرَما مع قول أبي تمام [من الطويل]: أخو عَزماتٍ فِعْلُهُ فِعلُ مُحْسِنٍ ... إلَيْنَا وَلكنْ عُذْرُهُ عُذْرُ مُذْنبِ وقولُ المتنبي [من الطويل]: كَرِيمٌ مَتَى اسْتُوهِبْتَ ما أَنتَ رَاكِبٌ ... وَقَدْ لقِحَتْ حَرْبٌ فإِنَّكَ نَازِلُ مع قول البحتري [من البسيط]: مَاضٍ عَلَى عَزْمِهِ في الْجُودِ لَوْ وَهَبَ الشـ ... ـبَابَ يَوْمَ لِقَاءِ الْبِيضِ مَا نَدِمَا وقولُ المتنبي [من الخفيف]: وَالَّذِي يَشْهَدُ الوَغَى سَاكِنُ الْقَلْـ ... ـبِ كَأَنَّ القِتَالَ فيها ذِمامُ مع قولِ البحتريِّ [من الطويل]: لَقَدْ كَانَ ذَاكَ الجَأْشُ جَأْشَ مُسَالمٍ ... عَلَى أَنَّ ذَاكَ الزّيَّ زِيُّ مُحَارِبِ وقولُ أبي تمام [من الكامل]: الصُّبْحُ مَشْهُورٌ بِغَيْرِ دَلاَئِلِ ... مِنْ غَيْرِهِ ابتْغِيَتْ وَلا أَعْلاَمِ مع قول المتنبي [من الوافر]: وَلَيْسَ يَصحُّ في الأَذْهَانِ شَيْءٌ ... إذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى دَلِيلِ وقولُ أبي تمام [من الوافر]: وَفِي شَرَفِ الْحَدِيثِ دَلِيلُ صِدْق ... لِمُخْتَبِرٍ عَلَى شَرَفِ الْقَدِيمِ مع قول المتنبي [من البسيط]:

أَفْعَالُه نَسَبٌ لوْ لمْ يقُلْ مَعَهَا ... جَدِّي الْخصِيبُ عَرَفْنَا الْعِرْقَ بالْغُصُنِ وقولُ البحتري [من الكامل]: وَأَحَبُّ آفاقِ البِلاَدِ إِلى فتًى ... أَرْضٌ يَنَالُ بِهَا كَرِيمَ المطْلَبِ مع قول المتنبي [من الطويل]: وَكلُّ امْرِىءٍ يُولِي الْجَمِيلَ مُحَبَّبٌ ... وَكلُّ مكَانٍ يُنْبِتُ العِزَّ طَيِّبُ وقولُ المتنبي [من الطويل]: يُقِرُّ لَهُ بالْفَضْلِ مَنْ لاَ يَوَدُّهُ ... وَيقْضِي لَهُ بِالسَّعْدِ مَنْ لاَ يُنَجِّمُ مع قولِ البحتريِّ [من الكامل]: لاَ أَدَّعِي لأَبِي العَلاَءِ فَضِيلَةً ... حَتَّى يُسَلِّمَهَا إِلْيهِ عِدَاهُ وقولُ خالدٍ الكاتبِ [من المتقارب]: رَقَدْتَ وَلَمْ تَرْثِ للِسَّاهِرِ ... وَلَيلُ الْمُحِبِّ بِلاَ آخِرِ مع قولِ بشار [من الطويل]: لِخديكَ مِنْ كَفَّيكَ فِي كُلِّ لَيلةٍ ... إلى أنْ تَرَى ضَوْءَ الصبَّاحِ وِسادُ تبِيتُ تُرَاعي اللَّيلَ تَرْجُو نفَادَهُ ... وَليْسَ لِلَيلِ العَاشِقينَ نفَادُ وقولُ أبي تمام [من الوافر]: ثَوَى بالمشرقَيْنِ لهُمْ ضَجَاجٌ ... أطارَ قُلوبَ أَهْلِ المَغْرِبَيْنِ وقولُ البحتري [من الطويل]: تَناذَرَ أهلُ الشرقِ منه وقائعاً ... أطاعاَ لها العاصُونَ في بلدِ الغَرْبِ مع قولِ مسلم [من البسيط]: لمَّا نزلتُ على أَدْنى ديارِهم ... أَلْقَى إليكَ الأَقاصي بالمقَاليدِ وقولُ محمد بن بشير [من البسيط]: أُفْرُغْ لحاجتنا ما دمتَ مشغولاً ... فلو فَرَغْتَ لكنت الدهرَ مبذولا مع قول أبي علي البصير [من الطويل]: فقل لسعيد أسعدَ الله جَدَّه ... لقد رَثَّ حتى كاد ينصرمُ الحبْلُ فلا تعتذر بالشغل عنا فإنما ... تُناطُ بك الآمالُ ما اتَّصل الشغْلُ وقولُ البحتري [من الكامل]: مِنْ غادةٍ مُنِعَتْ وتَمْنَعُ وَصْلَها ... فَلَوَ أنْها بُذِلَتْ لنا لم تَبْذُلِ مع قولِ ابنِ الرومي [من مجزوء الكامل]: ومن البلية أنني ... عُلّقتُ ممنوعاً منوعا وقولُ أبي تمام [من الطويل]: لئنْ كان ذنبي أنَّ أحْسَنَ مَطْلبي ... أساءَ ففي سُوءِ القضاءِ ليَ العُذْرُ مع قولِ البحتري [من البسيط]:

إذا محاسنيَ اللاتي أُدِلُّ بها ... كانت ذنوبي فقل لي: كيف أَعتذرُ؟ وقولُ أبي تمام [من البسيط]: قد يُقدِمُ الْعَيْرُ من ذُعر على الأسدِ مع قولِ البحتري [من الطويل]: فجاءَ مجيءَ العَيْرِ قادتْه حَيْرةٌ ... إلى أهْرَتِ الشِّدْقَينِ تَدْمَى أظافِرُهُ وقول معن بن أوس [من الطويل]: إذا انصرَفَتْ نفسي عن الشيءِ لم تَكَدْ ... إليه بوجهِ، آخِرَ الدهرِ، تُقْبِلُ مع قولِ العباسِ بْنِ الأَحنف [من البسيط]: نَقْلُ الجبالِ الرواسيِ مِنْ أَماكِنها ... أَخَفُّ من ردِّ قلبٍ حينَ يَنْصرِفُ وقولُ أمية بن أبي الصلت [من الطويل]: عطاؤُك زيْنٌ لامرىءٍ إنّ أصبتَهُ ... بخيرٍ وما كلُّ العطاءِ يزينُ مع قولِ أبي تمّام [من البسيط]: تُدْعى عطاياه وَفراً وهي إنْ شُهرتْ ... كانت فخاراً لمن يَعْفوه مؤْتَنِفا ما زلتُ منتظراً أعجوبة عَنَناً ... حتى رأيت سؤالاً يجتنى شرفا وقولُ جرير [من الطويل]: بعَثْنَ الهوى ثم ارتَمَيْنَ قلوبنَا ... بأَسْهُمِ أعداءِ وهنَّ صديقُ مع قولِ أبي نواس [من الطويل]: إذا امتَحَنَ الدنيا لبيبٌ تكَشَّفَتْ ... لهُ عنْ عَدُوٍّ في ثيابِ صَديقِ وقولُ كثيرٌ [من الطويل]: إذا ما أرَادتْ خُلَّةٌ أنْ تُزيلَنا ... أَبَيْنا وقُلْنا الحاجِبيَّةُ أَوَّلُ مع قولِ أبي تمام [من الكامل]: نَقّلْ فؤادَك حيثُ شِئْتَ مِنَ الهوى ... ما الحبُّ إلاَّ لِلْحَبيبِ الأَوّلِ وقولُ المتنبي [من الطويل]: وعندَ مَنِ اليومَ الوفاءُ لصاحبٍ ... شَبيبٌ وأَوْفى مَنْ تَرى أخَوانِ مع قولِ أبي تمام [من الطويل]: فلا تَحْسبَا هِنداً لها الغَدْرُ وحدَها ... سَجيَّةُ نفسٍ: كلُّ غانيةٍ هِندُ وقولُ البحتري [من الطويل]: ولم أَرَ في رَنْقِ الصَّرى ليَ مَوْرِداً ... فحاولتُ وِرْدَ النيلِ عندَ احتفالِهِ مع قولِ المتنبي [من الطويل]: قَواصِدُ كافورٍ تَوارِكُ غَيْرِهِ ... ومَنْ قَصَدَ البحرَ استقلَّ السَّواقيا وقولُ المتنبي [من المنسرح]: كأنمَّا يُولَدُ النَّدى مَعَهُمْ ... لا صِغَرٌ عاذِرٌ ولا هَرَمُ مع قولِ البحتري [من الطويل]:

عَرِيقونَ في الإفضالِ يؤْتَنَفُ النَّدى ... لِناشِئهِمْ مِنْ حيثُ يُؤْتنَفُ العُمْرُ وقولُ البحتري [من الطويل]: فلا تُغْلِيَنْ بالسيفِ كلَّ غَلائِهِ ... لِيمضي فإنَّ الكَفَّ لا السيفَ تقَطْعُ مع قولِ المتنبي [من الطويل]: إذا الهِندُ سَوَّتْ بينَ سَيْفيْ كَريهةٍ ... فسَيفُكَ في كَفِّ تُزيلُ التساوِيا وقولُ البحتري [من الطويل]: سامَوْكَ من حَسَدٍ فأفضلَ منهمُ ... غيرُ الجَوادِ وجادَ غيرُ المُفْضِلِ فبَذلتَ فينا ما بذَلْتَ سَماحةً ... وتَكَرُّماً وبذَلْتَ ما لم تَبْدُلِ مع قولِ أبي تمام [من الطويل]: أَرى الناسَ مِنهاجَ الندى بعدَ ما عَفَتْ ... مَهايِعُهُ المُثْلى ومحَّتْ لوَاحِبُهْ ففي كلِّ نَجَدِ في البلاد وغائرٍ ... مواهبُ ليسَتْ منهُ وهْيَ مَوَاهِبُهْ وقولُ المتنبي [من البسيط]: بيضاءُ تُطمِعُ فيما تَحْتَ حُلَّتِها ... وعزَّ ذلكَ مَطْلوباً إذا طُلِبا مع قولِ البحتري [من الكامل]: تبدو بعَطْفةِ مُطْمِعٍ حتى ... إذا شُغِلَ الخَلِيُّ ثنَتْ بصَدْفَةِ مُؤْيِسِ وقولُ المتنبي [من الكامل]: إذْكارُ مِثْلِكَ تَرْكُ إذكاري لهُ ... إذْ لا تُريدُ لِمَا أُريدُ مُتَرجِما مع قولِ أبي تمام [من الخفيف]: وإذا المَجْدُ كان عَوْني على المَرْ ... ءِ تَقَاضَيْتهُ بِتَرْكِ التقاضي وقولُ أبي تمام [من الكامل]: فنَعِمْتِ من شمسِ إذا حُجبت بَدتْ ... مِنْ خِدرِها فكأَنها لم تُحْجَبِ مع قولِ قيس بن الخطيم [من المنسرح]: قضى لها اللهُ حينَ صَوَّرها ... (م) الخَالِقُ ألاَّ تُكِنَّها سُدُفُ وقولُ المتنبي [من الخفيف]: رامياتٍ بأسْهُمِ ريشُها الهُدْ ... بُ تشُقُّ القُلوبَ قبلَ الجُلودِ مع قولِ كُثيرِّ [من الطويل]: رمتني بسهمٍ ريشُهُ الكُحْلُ لم يجُزْ ... ظواهرَ جلدي وهْوُ في القلبِ جارحُ وقولُ بعضِ شعراء الجاهلية ويعْزى إلى لبيد [من الكامل]: ودَعوتُ رَبي بالسلامةِ جاهِداً ... ليُصِحَّني فإذا السَّلامةُ داءُ مع قولِ أبي العتاهية [من الرجز]: أسرَع في نقصِ أمرىءٍ تمامُهُ ... تُدْبرُ في إقبالها أيامهُ وقولُه [من مجزوء الكامل]: أقلِلْ زيارتَك الجبيـ ... ـبَ تكونُ كالثوبِ استجدَّهْ

إنَّ الصديقَ يُمِلُّهُ ... أنْ لا يزالَ يَراكَ عندَهْ مع قولِ أبي تمام [من الطويل]: وطولُ مُقامِ المرءِ في الحيِّ مُخْلقٌ ... لديباجَتيْهِ فاغتربْ تَتَجدَّدِ وقولُ الخريمي [من الطويل]: زادَ مَعْروفَك عندي عِظَما ... أَنَّه عندَك محقورُ صَغيرُ تَتناساهُ كأَنْ لم تَأتِهِ ... وهُوَ عند الناسِ مشهورٌ كَبيرُ مع قولِ المتنبي [من المنسرح]: تَظْنُّ مِن فقْدِكَ اعتدادَهَمُ ... أَنَّهُم أَنْعَموا وما عَلِموا وقولُ البحتري [من الوافر]: ألم تَرَ للنوائبِ كيفَ تَسْمُو ... إلى أهْلِ النوافلِ والفُضولِ مع قولِ المتنبي [من البسيط]: أَفاضلُ الناسِ أَغراضٌ لِذا الزَّمنِ ... يخْلُو مِن الهَمِّ أَخْلاهُمْ من الفِطَنِ وقولُ المتنبي [من الطويل]: تَذَلَّلْ لها واخضَعْ على القربِ والنوى ... فما عاشِقٌ مَنْ لا يَذِلُّ ويَخْضَعُ مع قولِِ بعض المحدثين [من مجزوء الرمل]: كُنْ إذا أَخببتَ عَبْداً ... للذي تَهوى مُطِيعا لن تَنالَ الوصْلَ حتى ... تُلْزِمَ النفسَ الخُضوعا وقولُ مضرِّس بن رِبْعِيّ [من الطويل]: لَعمرُكَ إني بالخليلِ الذي لَهُ ... عليَّ دلالٌ واجبٌ لمُفَجَّعُ وإنيَ بالمولى الذي ليسَ نافعي ... ولا ضائري فُقدانُهُ لمُمَتَّعُ مع قول المتنبي [من الطويل]: أَمَا تَغْلَطُ الأَيامُ فيَّ بأَنْ أَرى ... بَغيضاً تُنائي أوْ حَبيباً تُقرِّبُ؟ وقولُ المتنبي [من البسيط]: مظلومةُ القَدّ في تشبيهِهِ غُصُناً ... مظلومةُ الريقِ في تشبيهِهِ ضَرَبا مع قولهِ [من الطويل]: إذ نحنُ شبَّهنْاكَ بالبدْرِ طالعاً ... بَخَسْناك حَظّاً أنتَ أَبْهى وأَجمَلُ ونَظْلِمُ إنْ قِسْناك بالليثِ في الوغى ... لأَِنكَ أحْمى للحريمِ وأَبسَلُ ... القسم الثاني ذكر ما أنتَ ترى فيه في كل واحدٍ من البيتين صنعةً وتصويراً واستاذيةً على الجملة. فمن ذلك وهو من النادر قول لبيد [من الرمل]: واكذِبِ النفسَ إذا حدَّثْتَها ... إنَّ صدْقَ النفسِ يُزري بالأَمَلْ مع قولِ نافع بنِ لَقيط [من الكامل]: وإذا صدقتَ النفسَ لم تَتركْ لها ... أَملاَ ويأمُلُ ما اشتهى المكذوبُ

وقولُ رجلٍ من الخوارج أُوتِيَ الحجاجَ في جماعة من أصحاب قَطَرِيٍّ فقلتهم، ومنَّ عليه لِيَدٍ كانت عنده؛ وعاد إلى قَطَرِيٍّ فقال له قطريٌ: عاودْ قتال عدوِّ الله الحجاج: فأبى وقال [من الكامل]: أَأُقاتِل الحجَّاجَ عَنْ سُلْطانه ... بِيدٍ تُقِرُّ بأَنها مَولاتُهُ ماذا أقولُ إذا وقفتُ إزاءَهُ ... في الصفِّ واحتجَّتْ له فَعَلاتُهُ وتحدَّثَ الأَقوامُ أنَّ صَنائعاً ... غُرِسَتْ لديّ فَحَنْظَلَتْ نَخلاتُهُ مع قول أبي تمام [من الطويل]: أُسَرْبِل هُجْرَ القولِ مَنْ لو هَجَوْتُهُ ... إذَنْ لَهجَاني عنه معروفُهُ عندي وقولُ النابغة [من الطويل]: إذا ما غَدَا بالجيشِ حلَّقَ فَوْقَهُ ... عَصائِبُ طيرٍ تَهْتَدي بعَصَائبِ جَوانحُ قد أَيْقَنَّ قَبِيلَهُ ... إذا ما التقى الصفَّانِ أولُ غالِبِ مع قولِ أبي نواس [من المديد]: وإذامجَّ القَنا عَلَقَا ... وتراءَى الموتُ في صُوَرِهُ راحَ في ثِنْيَيْ مُفاضَتِهِ ... أَسَدٌ يَدمى شَبا ظفُرهْ يتأبْى الطيرُ غُدْوَته ... ثِقةً بالشِبْع من جَزَرِهُ المقصود البيتُ الأخير. وحكى المرزباني، قال حدثني عمرو الورَّاقُ: رأيتُ أبا نواس يُنْشد قصيدتَه التي أولها: أيها المنتابُ من عُفُرِهُ فحسدْتُه. فلما بلغ إلى قوله: يتأَبى الطيرُ غدوتَهُ ... ثقةً بالشِّبْع من جَزَرِهُ

قلتُ له: ما تركتَ للنابغة شيئاً حيث يقولُ: "إذا ما غدَا بالجيش: البيتين - فقال: اسكُتْ! فلئن كان سَبَقَ فما أسأْتُ الاتِّباعَ". وهذا الكلامُ من أبي نواس دليلٌ بيِّنٌ في أنَّ المعنى يُنْقَل من صورة إلى صورة؛ ذاك لأنه لو كان لا يكونُ قد صنَعَ بالمعنى شيئاً، لكان قوله: "فما أسأتُ الاتِّباع": مُحالاً، لأنه على كل حالٍ لم يَتْبَعْه في اللفظ. ثم إنَّ الأَمر ظاهرٌ لِمَن نظَر في أنه قد نَقَل المعنى عن صورته التي هو عليها، في شعر النابغة، إلى صورة أُخرى، وذلك أنَّ هاهنا معنيَيْنِ أحدُهما أصْلٌ، وهو عِلْمُ الطير بأنَّ الممدوحَ إذا غزا عَدُوّاً كان الظفَرُ له وكان هو الغالبَ، والآخرُ فرْعٌ، وهو طمَعُ الطيرِ في أن تتَّسع عليها المطاعِمُ من لْحومِ القتلى. وقد عَمَد النابغةُ إلى الأَصْل الذي هو علْمُ الطير بِأنَّ الممدوحَ يكونُ الغالبَ، فذَكَره صريحاً وكشَفَ عنه وجهه، واعتمَدَ في الفرع الذي هو طمَعُها في لحوم القتلى، وأَنها لذلك تُحَلِّقُ فوقه، على دلالةِ الفَحْوى. وعكَسَ أبو نواس القصَّة، فذكَر الفرْعَ الذي هو طمَعُها في لحوم القتلى صريحاً، فقال كما ترى: ثقة بالشِّبْعِ من جزرهُ وعوَّلَ في الأَصْل الذي هو علْمُها بأن الظَّفرَ يكون للممدوح، على الفحوى؛ ودلالةُ الفحوى على عِلْمِها أن الظفر يكون للممدوح، هي في أَنْ قال "من جزره". وهي لا تثق بأنَّ شِبَعَها يكون من جَزَر الممدوح، حتى تعلم أَنَّ الظَّفر يكونُ له، أفيكونُ شيءٌ أظهرَ من هذا في النقل عن صورة إلى صورة؟ الموازنة بين الشعرين، الإجادة فيهما من الجانبين أرجِعُ إلى النَّسق. ومن ذلك قول أبي العتاهية [من الخفيف]: شِيمٌ فَتَّحَتْ من المدْحِ ما قَدْ ... كانَ مُسْتَغلَقاً على المُدَّاحِ مع قولِ أبي تمام [من الكامل]: نظمتْ له خرَز المديحِ مَواهِبٌ ... يَنْفُثْنَ في عُقد اللسانِ المفْحَمِ وقولُ أبي وجزة [من الوافر]: أتاكَ المَجْدُ منْ هَنَّا وهَنَّا ... وكنتَ له كمجتَمَعِ السُّيولِ مع قولِ منصور النمري [من البسيط]: إنَّ المكارِمَ والمعروفَ أَوديةٌ ... أَحلَّكَ اللهُ منها حيثُ تَجْتمِعُ وقولُ بشار [من البسيط]:

الشيب كُرْهٌ وكُرْهٌ أن يُفارِقَني ... أَعْجِبْ بشيءٍ على البغضاءِ مَوْدودِ مع قولِ البحتري [من الوافر]: تَعيبُ الغانياتُ عليَّ شَيْبي ... ومَنْ لي أَنْ أُمَتَّعَ المعِيبِ؟ وقولُ أبي تمام [من المنسرح]: يشتاقُهُ مِنْ كمَالِهِ غدُهُ ... ويُكْثِرُ الوَجْدَ نحوهُ الأمسُ مع قولِ ابن الرومي [من الطويل]: إمامٌ يَظَلُّ الأمسُ يُعمِلُ نَحْوهُ ... تَلَفُّتَ ملْهوفٍ ويَشْتاقُهُ الغَدُ لا تنظرْ إلى أنه قال: "يشتاقُه الغَدُ". فأعادَ لفظ أبي تمام، ولكن انْظُرْ إلى قوله: "يعمل نحوه تلفتَ ملهوفٍ". وقولُ أبي تمام [من الطويل]: لئنْ ذَمَّتِ الأعداءُ سوءَ صَباحِها ... فليس يؤدِّي شُكْرَها الذئبُ والنَّسرُ مع قول المتنبي [من المتقارب]: وأثْبَتَّ مِنْهُمْ ربيعَ السِّباعِ ... فأَثْنَتْ بإحسانِكَ الشاملِ وقولُ أبي تمام [من البسيط]: ورب نائي المغاني رُوحُهُ أبداً ... لَصِيقُ رُوحي وَدانٍ ليس بالداني مع قولِ المتنبي [من الوافر]: لنا ولأَهْلِهِ أبداً قُلوبٌ ... تلاَقى في جسومٍ ما تَلاقى وقولُ أبي هِفَّان [من الرمل]: أصبحَ الدهرُ مُسيئاً كلُّهُ ... مالَهُ إلاَّ ابنَ يَحْيى حَسنَهْ مع قولِ المتنبي [من الطويل]: أزالتْ بِكَ الأيامُ عَتْبي كأنما ... بَنُوها لَها ذَنْبٌ وأنتَ لها عذْرُ وقولُ علي بن جبلة [من الكامل]: وأَرى الليالي ما طوَتْ مِنْ قُوَّتي ... رَدَّته في عِظتي وفي أفهامي مع قولِ ابن المعتز [من المتقارب]: وما يُنتقَصْ من شَبابِ الرِّجال ... يَزِدْ في نُهاها وألبَابِها وقولُ بكر بن النطاح [من الطويل]: ولوْ لم يكنْ في كفّه غيرُ روحِهِ ... لجَاد بِها فلْيتَّقِ اللهَ سائِلُهْ مع قول المتنبي [من المنسرح]: إِنكَ مِنْ مَعْشَرٍ إذا وَهَبوا ... ما دُونَ أَعمارِهِمْ فَقد بَخِلُوا وقولُ البحتري [من الطويل]: وَمَنْ ذَا يَلُومُ البْحرَ إنْ باتَ زاخِراً ... بفيضِ وصوبَ المزْنِ إن راحَ يَهْطِلُ مع قولِ المتنبي [من البسيط]: وما ثَناكَ كلامُ الناسِ عَنْ كَرَمٍ ... ومَنْ يَسدُّ طريقَ العارضِ الهَطِلِ وقولُ الكندي [من الكامل]:

عَزُّوا وعَزَّ بِعزِّهمْ مَنْ جَاوَرُوا ... فهُمُ الذُّرى وجَماجِمُ الهاماتِ إنْ يَطلبُوا بِتِراتِهِمْ يُعطَوا بها ... أو يُطلَبوا لا يُدْرَكوا بتِراتِ مع قول المتنبي [من الطويل]: تُفيتُ الليالي كلَّ شيءٍ أخذْتَه ... وهنَّ لِمَا يأْخُذْنَ منِكَ غَوارِمُ وقولُ أبي تمام [من الطويل]: إذا سَيْفُه أضْحَى على الهامِ حاكِماً ... غدا العَفْوُ منهُ وهْوَ في السيفِ حاكِمُ مع قولِ المتنبي [من الطويل]: لهُ مِنْ كريم الطَّبْع في الحرْبِ مُنْتَضٍ ... ومِن عادةِ الإحسانِ والصَّفْحِ غامِدُ فانظرْ الآنَ مَنْ نَفَى الغفْلةَ عن نفسِه، فإنكَ ترَى عِياناً أنَّ لِلْمعنى في كلِّ واحدٍ من البيتين، من جميع ذلكَ، صورةً وصفةً غيرَ صورتِه وصِفَتِه في البيتِ الآخَر، وأنَّ العلماءَ لم يُريدوا حيثُ قالوا: إنَّ المعنى في هذا هو المعنى في ذاك: أنَّ الذي تَعقَّل مِنْ هذا، لا يُخالِف الذي تعقَّل مِن ذاك؛ وأنَّ المعنى عائدٌ عليكَ في البيت الثاني على هيئَتهِ وصِفَتهِ التي كان عليها في البيت الأول: وأنْ لا فرْقَ ولا فصْلَ ولا تبايُنَ بوجهٍ من الوجوه؛ وإنَّ حكْم البيتينِ مثَلاً حكْمُ الاسمينِ قد وُضِعا في اللغة لشيءٍ واحد، كالليثِ والأَسد. ولكنْ قالوا ذلك على حَسَبِ ما يقوله العُقَلاء في الشيئينِ يَجْمَعهما جنسٌ واحدٌ ثم يفترقانِ بخواصَّ ومَزايا وصفاتٍ كالخاتمَم والخاتَم، والشَّنْف والشَّنْف، والسِّوارِ والسوار، وسائرِ أصنافِ الحِلَى التي يَجْمعها جنسٌ واحدٌ، ثم يكونُ بينها الاختلافُ الشديدُ في الصَّنْعة والعَمَل. ومَنْ هذا الذي يَنظُر إلى بيتِ الخارجِي، وبيتِ أبي تمام، فلا يَعْلَمُ أنَّ صورةَ المعنى في ذلك، غيرُ صورتِه في هذا، كيفَ والخارجيُّ يقول: (واحتجَّتْ له فَعْلاتُه). ويقولُ أبو تمام: إذن لهجاني عنه معروفه عندي ومتى كان "احتج" و "هجا" واحداً في المعنى؟ وكذلك الحكْمُ في جميع ما ذكرْناه: فليس يُتَصوَّرُ في نفس عاقلِ أن يكونَ قولُ البحتري [من الكامل]: وأَحَبُّ آفاقِ البلادِ إلى الفتى ... أرضٌ يَنالُ بها كريمَ المطلبِ وقولُ المتنبي [من الطويل] وكلُّ مكانٍ يُنبِتُ العزَّ طيِّبُ سواءً.

واعلمْ أنَّ قولَنا (الصورةُ) إنما هو تمثيلٌ وقياسٌ لِمَا نَعْلمه بعقلونا على الذي نرَاه بأبصارنا؛ فلما رأَينْا البَيْنونة بين آحاد الأجناسِ تكونُ مِنْ جِهةَ الصورةِ، فكان بين إنسانٍ من أنسانٍ وفرَسٍ من فرسٍ بخصوصيةٍ تكونُ في صورةِ هذا لا تكون في صورة ذلك. وكذلك كانَ الأمرُ في المصنوعات: فكان بين خاتَمٍ من خاتمٍ، وسِوَارٍ من سِوَارٍ بذلك. ثم وجَدْنا بين المعنى في أحد البيتين وبينه في الآخر بينونةً في عقولِنا وفَرْقاً عَبَّرْنا عن ذلك الفرقِ وتلكَ البينونةِ بأَنْ قلْنا: لِلمعنى فيِ هذا صورةٌ غيرُ صورتهِ في ذلك: وليس العبارةُ عن ذلك بالصورةِ شيئاً نحن ابتدأناه، فيُنْكِرَهُ مُنْكِرٌ، بل هو مُستعمَلُ مشهورٌ في كلام العلماءِ، ويكفيك قولُ الجاحظ: وإنما الشعر صناعة وضرب من التصوير! واعلمْ أنه لو كان المعنى في أَحدِ البيتين يكونُ على هيئتِه وصِفَته في البيت الآخَر، وكان التالي من الشاعرين يَجيئُك به مُعَاداً على وجهه، لم يُحدِثْ فيه شيئاً ولم يُغيِّر له صِفةً، لكان قولُ العلماء في شاعر: إنه أَخَذَ المعنى من صاحبه فأحْسَنَ وأجاد: وفي آخَرَ: إنه أسَاءَ وقصَّر: لغوْاً من القولِ من حيثُ كان مُحالاً أن يُحْسِنَ أو يسيءَ في شيءٍ لا يَصْنع به شيئاً. وكذلك كان يكونُ جَعْلُهم البيتَ نظيراً للبيتِ ومناسِباً له، خطأً منهم، لأنه مُحال أن يُناسِبَ الشيءُ نفسَه وأن يكون نَظيراً لنفسه. وأمرٌ ثالث وهو أنهم يقولون في واحد: إنه أخَذ المعْنى فظَهَرَ أَخْذُه: وفي آخر: إنه أَخذَه فأخفى أخْذَه. ولو كان المعنى يكونُ مُعاداً على صورته وهيئته وكان الأَخْذ له من صاحِبه لا يَصْنع شيئاً غيرَ أن يُبدِّل لفظاً مكانِ لفظٍ، لكان الإخفاءُ فيه مُحالاً لأن اللفظ لا يُخْفى المعنى وإنما يُخْفيه إخراجُه في صورةٍ غيرِ التي كان عليها. مثالُ ذلك: إن القاضي أبا الحسن ذكَر فيما ذكرَ فيه تناسُبَ المعاني، بيتَ أب نواس [من المديد]، خُلِّيَتْ والحُسْنَ تَأخذُهُ ... تَنْتقي منهُ وتَنْتخِبُ وبيتَ عبدالله بنِ مُصعب [من الوافر]: كأنك جئت محتكماً عليهم ... تَخيَّرُ في الأبوَّةِ ما تشاءُ

وذكَر أنهما معاً مِن بيت بشار [من الطويل]: خُلِقتُ على ما فيَّ غيرَ مُخَيَّرٍ ... هوايَ ولو خُيِّرْتُ كنتُ المهذَّبا والأمرُ في تناسب هذه الثلاثةِ ظاهرٌ. ثم إنه ذكَرَ أنَّ أبا تمام قد تناولَه فأخفاه وقال [من الوافر]: فلو صوَّرْتَ نفسَك لم تَزِدْها ... على ما فيكَ من كَرمِ الطِّباعِ ومن العجَب في ذلك ما تراه إذا أنتَ تأملْتَ قولَ أبي العتاهية [من الكامل]: جُزِيَ البخيلُ عليَّ صالِحةً ... عنِّي لِخفَّتهِ على ظَهْري أعلى وأَكْرمَ عن يديه يدي ... فَعلَتْ ونزَّه قدْرُه قدْري وُرزِقتُ مِن جَدْواهُ عافيةً ... أنْ لا يَضيقَ بشكْرهِ صَدْري وغَنِيتُ خِلْواً من تَفضُّلِهِ ... أحْنُو عليه بأحْسَنِ العُذْرِ ما فاتَني خيرُ امرىءٍ وَضَعتْ ... عني يَداهُ مؤونةَ الشكْرِ ثم نظرتَ إلى قولِ الذي يقولُ [من المنسرح]: أعتقَني سوءُ ما صنعْتَ من الرِّ ... (م) قِّ فيابَرْدَها على كَبدي فصِرتُ عبْداً للسوء فيكِ وما ... أَحْسَنَ سُوءٌ قَبْلي إلى أَحَدِ ومما هو في غاية النُّدرة من هذا الباب، ما صنَعه الجاحظُ بقول نصَيبٍ [من الطويل]: ولو سكتوا أثنتْ عليكَ الحقائبُ حين نثرَه فقال وكتبَ به إلى ابن الزيات: نحنُ، أَعزك اللهُ، نَسْحَرُ بالبيان، ونُموِّه بالقول، والناسُ ينظرون إلى الحال، ويقْضُونَ بالعِيان، فأَثِّرْ في أَمرنا أَثراً ينطِقُ إذا سكَتْنا، فإنَّ المدَّعي بغير بيِّنةٍ متعرِّض للتكذيب. وصف الشعر والإدلال به وهذه جملة منْ وَصْفهم الشعرَ وعملِه وإدلالهِمْ بهِ. أبو حيَّة النّمَيْري [من الكامل]: إنَّ القصائدَ قد عَلِمْنَ بأنني ... صنَعُ اللسانِ بهن لا أَتَنحَّلُ وإذا ابتدأتُ عروضَ نسج ريِّضٍ ... جعلَتْ تَذِلُّ لِمَا أُريد وتَسْهُلُ حتى تُطاوِعَني ولو يَرْتاضُها ... غَيْري لحاوَلَ صَعْبةً لا تُقْبَلُ تميم بن مقبل [من الطويل]: إذا مُتُّ عن ذكْر القوافي فلن ترى ... لها قائلاً بَعْدي أَطبَّ وأشْعَرا وأكثرَ بيتاً سائراً ضُرِبَتْ له ... حُزونُ جبالِ الشعرِ حتى تَيَسَّرا أغرَّ غريباً يَمْسَحُ الناسُ وجْهَهُ ... كما تَمْسَحُ الأيدي الأَغَرَّ المُشَهَّرا عدي بن الرِّقاع [من الكامل]:

وقصيدةِ قد بِتُّ أجْمَعُ بَينها ... حتى أُقوِّمَ ميلَها وسِنادَها نظرَ المُثَقِّفُ في كعوبِ قنَاتِهِ ... حتى يُقيمَ ثِقَافهُ مُنْآدَها كعب بن زهير [من لطويل]: فَمَنْ للقوافي شَانَها مَن يَحُوكُها ... إذا ما تَوى كَعْبٌ وفوَّزَ جَرْوَلُ يُقَوِّمُها حتى تَلِينَ مُتُونُها ... فَيقْصُرُ عنها كلُّ ما يُتَمثَّلُ بشار [من الطويل]: عَمِيتُ جَنِيناً والذكاءُ مِنَ العَمَى ... فجئتُ عجيبَ الظَّنِّ لِلْعِلْم مَوئِلا وغاضَ ضياءُ العين لِِلْعِلْم رافداً ... لِقَلْبٍ إذا ما ضَيِّع الناسُ حَصِّلا وشعر كنَورِ الروْضِ لاءمْتُ بَيْنَهُ ... بقولٍ إذا ما أحزنَ الشعرُ أَسْهَلا وله [من المنسرح]: زَوْرُ ملوكٍ عليه أُبَّهةٌ ... يُغرَفُ مِن شِعْره ومن خُطَبِهُ للهِ ما راحَ في جوانحِهِ ... مِن لؤلؤٍ لا يُنَامُ عن طَلَبهْ يَخرجُ مِن فيهِ للنديِّ كما ... يَخْرجُ ضوءُ النهارِ من لَهَبِهْ أبو شريح العمير [من الوافر]: فإنْ أَهلِكْ فقد أَبقَيْتُ بَعْدي ... قوافيَ تُعْجِبُ المتمثِّلينا لَذِيذاتِ المَقَاطعِ محْكَماتٍ ... لوَ أنَّ الشِّعْرَ يُلبَسُ لارتُدِينا الفرزدق [من الوافر]: بَلغْنَ الشمسَ حين تكون شَرْقا ... ومسقَطَ قَرنِها من حيثُ غابا بِكلِّ ثنِيَّةٍ وبكلِّ ثَغرٍ ... غرائبهُنَّ تَنتَسِبُ انْتِسابا ابن ميادة [من الطويل]: فَجَرْنا ينابيعَ الكَلامِ وبَحْرَهُ ... فأصْبَحَ فيه ذو الروايةِ يَسْبَحُ وما الشعرُ إلا شعرُ قيسٍ وخِنْدِفٍ ... وشِعْرُ سواهُمْ كُلْفَةٌ وتَملُّحُ وقال عقالُ بن هشام القَيْنيّ يرَدُّ عليه [من الطويل]: ألاَ بلّغِ الرَّمَّاحَ نقضَ مقالةٍ ... بها خَطِل الرَّمَّاحُ أوكان يَمْزَحُ لقد خَرَّقَ الحيُّ اليمانون قَبْلَهم ... بُحورَ الكلام تُسْتقَى وهي طفَّحُ وهم عَلَّموا مَنْ بَعْدَهُمْ فتعلَّموا ... وهم أَعْرَبوا هذا الكَلامَ وأَوْضَحوا فلِلسَّابقينَ الفضْلُ لا تَجْحدونه ... وليس لِمَسْبوقٍ عليهمْ تَبَجُّحُ أبو تمام [من الطويل]: كَشَفْتُ قِناعَ الشّعرِ عن حُرِّ وجْهِهِ ... وطيَّرتُه عن وَكْرهِ وهو واقِعُ

بِغُرِّ يَراها مَن يَراها بَسمْعِه ... ويدنو إليها ذو الحِجى وهو شاسِعُ يَودُّ وداداً أنَّ أَعضاءَ جِسْمِهِ ... إذا أُنشِدَتْ شوقاً إليها مَسامِعُ وله [من الكامل]: حذّاءَ تَملأُ كلَّ أُذْنٍ حكْمةً ... وبَلاغةً وتُدِرُّ كلُّ وريدِ كالدرِّ والمرجانِ أُلّف نَظْمُهُ ... بالشَّذْر في عُنُقِ الفتاةِ الرُّود كَشقَيقةِ الُبْردِ الْمُنَمنمِ وَشْبُهُ ... في أرضِ مَهرةَ أو بلادِ تَزِيد يُعطَى بها البُشرى الكريمُ ويَرْتدي ... بردِائها في المحفِلِ المَشْهودِ بُشْرَى الغَنيِّ أَبي البَنَاتِ تتعابَعتْ ... بُشَرَاؤهُ بالفارسِ المولودِ وله [من الطويل]: جاءتْكَ من نَظْمِ اللسانِ قِلاَدَةٌ ... سِمْطانِ فيها اللؤلؤُ والمكنونُ أَخْذاكها صَنَعُ الضميرِ يَمُدُّهُ ... جَفْرٌ إذاك نَضَبَ الكلامُ مَعِين أخذ لفْظَ "الصَّنَع" من قولِ أَبي حية [من الكامل]: بأنني صنَعُ اللسانِ بهنَّ لا أتنحل ونقله إلى الضمير وقد جعل حسَّانُ أيضاً اللسانَ صنَعاً، وذلك في قوله [من البسيط]: أَهْدَى لهم مِدَحاً قَلبٌ مُؤازِرُهُ ... فيما أحبَّ لسَانٌ حائكٌ صنَعُ ولأبي تمام [من الطويل]: إليكَ أرَحْنا عازِبَ الشِّعرِ بَعْدَما ... تمهَّل في روضِ المعاني العجَائِبِ غرائبُ لاقتْ في فنائكَ أُنسَها ... مِن المَجْدِ فَهْيَ الآنَ غيرُ غَرائبِ ولو كان يفنَى الشعرُ أفناهُ ما قَرَتْ ... حياضُكَ منه في السنين الذواهب ولكنه صَوْبُ العقولِ إذا انْجَلَتْ ... سحائبُ منه أُعْقِبَتْ بِسَحَائِبِ البحتري [من الطويل]: ألستُ المُوالِي فيكَ نَظْمَ قصائدٍ ... هي الأنجُم اقْتَادَتْ مع الليلِ أَنْجُمَا ثناءٌ كأَنَّ الروضَ منهُ مُنوِّرا ... ضُحَى وكأَنَّ الوشْيَ منهُ منَمْنما وله [من البسيط]: أحْسِنْ "أَبا حَسَنٍ" بالشعرِ إذْ جَعلَتْ ... عليكَ أنجمُهُ بالمدحِ تنتشرُ فقد أتتكَ القوافي غِبَّ فائدةِ ... كما تَفَتَّحَ غِبَّ الوابلِ الزَّهرُ وله [من الطويل]: إليك القوافي نازعاتٌ قواصِدُ ... يُسَيَّرُ ضاحي وَشْيها ويُنَمْنَمُ ومُشْرِقَةٌ في النظْمِ غُرٍّ يَزِينُها ... بهاءً وحُسْنَا أنها لكَ تُنَظَمُ وله [من الطويل]:

بمنقوشةٍ نقْشَ الدنانيرِ يُنْتقى ... لها اللفظُ مختاراً كما يُنْتقى التِّبْرُ وله [من الطويل]: أيذهَبُ هذا الدهرُ لم يُرَ مَوْضِعي ... ولم يُدْرَ ما مِقدارُ حَلّي ولا عَقْدِي ويَكْسِدُ مثلي وهْوَ تاجرُ سؤددٍ ... يَبيعُ ثميناتِ المكارِمِ والمَجْدِ سوائرُ شِعرٍ جامعٍ بِدَدَ العُلى ... تعلَّقنَ من قَبلي وأتعبْنَ مَن بَعْدي يقدِّرُ فيها صانعٌ مُتعمِّلٌ ... لأحكامِها تقديرَ "داودَ" في السَّرْدِ وله [من الكامل]: للهِ يَسهرُ في مديحِكَ ليلَهُ ... مُتَمَلْمِلاً، وتَنامُ دونَ ثَوابِهِ يَقْظانَ يَنْتحِلُ الكلامَ كأنهُ ... جيشٌ لديهِ يُريدُ أَنْ يَلْقَى بِهِ فأتى بهِ كالسيفِ رَقَرَقَ صَيْقَلٌ ... ما بَيْنَ قائمٍ سِنْخِهِ وذُبابِهِ ومن نادر وصفه للبلاغة قوله [من الخفيف]: في نظامٍ من البلاغةِ ما شَكَّ ... (م) أمْرُؤٌ أنه نظامُ فَريدِ وبَديعٍ كأنه الزَّهَرُ الضاحكُ ... (م) في رَوْنَقِ الربيعِ الجَديدِ مُشْرِقٌ في جوانب السمع ما يُخْـ ... ـلِقُهُ عَوْدُهُ على المُسْتَعيدِ حُجَجٌ تُخْرِسُ الألدَّ بألفا ... ظِ فُرادى كالجوهرِ المعْدودِ ومَعانٍ لو فصَّلَتْها القوافي ... هجَّنَتْ شعر "جَروَلٍ" و"لَبيدِ" حُزْنَ مستعمَلَ الكلام اختياراً ... وتجَنَّيْنَ ظلمةَ التعقيدِ وركبن اللفظ القريبَ فأَدْرَكْـ ... ـنَ بهِ غايةَ المرادِ البَعيدِ كالعَذارَى غَدَوْنَ في الحُلَلِ الصُّفْـ ... ـرِ إِذا رُحْنَ في الخطوط السودِ

الغرضُ من كَتْبِ هذه الأبياتِ، الاستظهارُ حتى إنْ حَمَل حاملٌ نَفْسَه على الغَرَرِ والتقحُّم على غيرِ بصيرةٍ، فَزَعَمَ أنَّ الإعجازَ في مذاقةِ الحروف، وفي سلامَتِها مما يَثقُل على اللسان، علِمَ بالنظر فيها، فَسادَ ظنِّه وقبْحَ غَلَطِه، من حيثُ يَرى عياناً أنْ ليس كلامُهم كلامَ مَن خَطَرَ ذلك منهُ بِبالٍ، ولا صفاتُهم صفاتٍ تَصْلُحُ له على حالٍ، إذْ لا يَخْفَى على عاقلٍ أنْ لم يكُنْ ضربُ تميمٍ لحُزونِ جبالِ الشعر لأن تسْلَم ألفاظُه من حروفٍ تثقُل على اللسان، ولا كان تقويمُ عَدِيِّ لِشعرِه، ولا تشبيهُهُ نظرَه فيه بنَظَر المثقِّفِ في كُعوبِ قناتِهِ لذلك، وأنه مُحالٌ أنْ يكون له جعلَ بشار نورَ العينِ قد غاضَ فصار إلى قلبه، وأنْ يكون اللؤلؤُ الذي كان لا ينامُ عن طلبهِ، وأنْ ليس هو صَوْبَ العقولِ الذي إذا انجلَتْ سحائبُ منه أعقبتْ بسحائب، وأن ليس هو الدرَّ والمرجانَ مؤلَّفاً بالشذْرِ في العَقْد، ولا الذي له كان البحتريُّ مقدِّراً تقديرَ داودَ في السرد. كيف وهذه كلُّها عباراتٌ عما يدرَكُ بالعقل ويستنبطُ بالفكر، وليس الفكرُ الطريقَ إلى تمييزِ ما يَثْقُلُ على اللسان مما لا يَثْقُل، إنما الطريقُ إلى ذلك الحسُّ. ولولا أنَّ البلوى قد عظُمَتْ بهذا الرأي الفاسدِ وأنَّ الذين استهلكوا فيه قد صاروا من فرْطِ شغَفهم به يُصْغون إلى كلّ شيء يَسْمعونه، حتى لو أن إنساناً قال: (باقِلَّى حار): يُريهم أنه يُريد نُصرة مذهبهم، لأقْبلوا بأوجُههِم عليه، فأَلْقوا أسماعَهم إليه، لكان اطَّراحُه وترْكُ الاشتغالِ به أصْوبَ، لأنه قولٌ لا يتصلُ منه جانبٌ بالصواب البتة.

ذلك لأنه أولُ شيء يؤدِّي إلى أن يكون القرآنُ مُعْجِزاً، لا بما به كان قرآناً وكلامَ اللهِ عزَّ وجَلَّ، لأنه على كل حال إنما كان قرآناً وكلامَ اللهِ عزَّ وجلَّ: بالنظْمِ الذي هو عليه. ومعلومٌ أن ليس النظْمُ مِن مذاقة الحروفِ وسلامَتِها مما يَثْقلُ على اللسان في شيء. ثم إنه اتفاقٌ من العقلاء أنَّ الوصْفَ الذي به تناهى القرآن إلى حدٍّ عجزَ عنه المَخلُوقونَ هو الفصاحةُ والبلاغةُ. وما رأيْنا عاقلاً جعلَ القرآن فصيحاً أو بليغاً بأنْ لا يكونَ في حروفِه ما يَثْقُل على اللسان، لأنه لو كان يَصِحُّ ذلك، لكان يَجبُ أن يكونَ السوقيُّ الساقِطُ من الكلامِ والسَّفسَافُ الرديء من الشعر، فصيحاً إذا خفَّت حروفُه، وأعْجَبُ من هذا أَنه يَلْزمُ منه أنه لو عَمَد عامِدٌ إلى حرَكاتِ الإعراب فجعَل مكانَ كلِّ ضَمَّةٍ وكَسْرةٍ فتحةً فقال: الحمدَ للهَ (بفتح الدالِ واللام والهاءِ) وجرَى على هذا في القرآن كلِّه أنْ لا يَسْلُبَه ذلك الوصفَ الذي هو معْجِزٌ به بل كان يَنْبغي أن يزيد فيه لأنَّ الفتحة - كما لا يَخْفَى - أخفُّ من كل واحدةٍ من الضَّمةِ والكَسْرة، فإن قال إنَّ ذلك يُحيل المعنى، قيلَ له: إذا كان المعنى والعلةُ في كونهِ معجزاً، خفةَ اللفظِ وسهولَتَه، فينبغي أنْ يكونَ مع إحالةِ المعنى مُعْجِزاً، لأنه إذا كان معجزَ الوصف يخصُّ لفظَه دون معناهُ، كان مُحالاً أن يَخْرجَ عن كونه معجِزاً مع قيام ذلك الوصفِ فيه.

ودعْ هذا وهَبْ أنه لا يَلزَمُ شيءٌ منه؛ فإنه يكْفي في الدلالةِ على سقوطهِ وقلَّةِ تمييز القائل به، أنه يَقْتضي إسقاطُ الكنايةِ والاستعارةِ والتمثيلِ والمجازِ والإيجازِ جملةٌ، واطِّراحُ جميعها رأساً، مع أنها الأقطابُ التي تَدورُ البلاغةُ عليها، والأعضادُ التي تَسْتَنِدُ الفصاحةُ إليها، والطَّلِبةُ التي يتنازَعُها المُحْسِنونَ، والرِّهانُ الذي تُجرَّبُ فيه الجيادُ، والنضالُ الذي تُعْرَفُ به الأيدي الشِّدَادُ، وهي التي نَوَّهَ بذكْرِها البلغاءُ، ورفَعَ من أقدارِها العلماءُ وصنَّفوا فيها الكُتُبَ، ووكَّلوا بها الهِمَمَ، وصرَفوا إليها الخواطِرَ، حتى صارَ الكلامُ فيها نوعاً من العِلْم مفْرَداً، وصناعةً على حدة، ولم يَتَعاطَ أحَدٌ من الناس القولَ في الإعجازِ إلاَّ ذكَرَها وجعَلَها العُمُدَ والأركانَ فيما يُوجِبُ الفضْلَ والمزيَّةَ، وخصوصاً الاستعارةَ والإيجاز، فإنك تَراهُمْ يجعلونَهُما عنوانَ ما يَذكُرونَ وأولَ ما يُورِدون. وتَراهُم يَذْكرون من الاستعارةِ قولَه عز وجل: {واشتعل الرأس شَيْباً} [مريم: 4] وقولَه: {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل} [البقرة: 93] وقوله عزَّ وجَلَّ {وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} [يس: 37] وقوله عزَّ وجلَّ {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] وقولَه {فَلَمَّا استيأسوا مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً} [يوسف: 80] وقولَه تعالى: {حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] وقولَه {فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16]، ومن الإيجازِ قولَه تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ} [الأنفال: 58]، وقولَه تعالى: {وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14] وقوله: {فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57] تراهم على لسان واحدٍ في أنَّ المجازَ والإيجاز، من الأركان في أمْر الإعجاز.

وإذا كان الأمرُ كذلك عند كافَّةِ العلماءِ الذينَ تكلَّموا في المزايا التي للقرآن، فينبغي أن يُنْظَر في أمْر الذي يُسَلَّمُ نفسَه إلى الغرور فَيزعُم أنَّ الوصفَ الذي كان له القرآنُ معجزاً، وهو سلامةُ حروفِه مما يَثْقُلُ على اللسان. أيصِحُّ له القولُ بذلك إلاَّ من بَعْد أنْ يدَّعي الغَلطَ على العقلاء قاطبةً فيما قالوه، والخطأ فيما أجْمعوا عليه؟ وإذا نظَرْنا وجْدَناه لا يَصِحُّ له ذلك إلاَّ بأن يَقْتَحِمَ هذه الجهالةَ، اللهُمَّ إلاَّ أنْ يَخْرُجَ إلى الضُّكْحةِ فيَزعُمَ مَثلاً أنَّ من شأن الاستعارةِ والإيجازِ، إذا دَخلا الكَلامَ، أنْ يَحْدُثَ بهما في حروفه خِفَّةٌ، ويتجَّدَ فيها سهولةٌ، ونسألُ الله تعالى العِصْمَةَ والتوفيق!. واعلمْ أنَّا لا نأبى أن تكونَ مذاقةُ الحروفِ وسلامتُها مما يَثْقُل على اللسان، داخِلاً فيما يُوجِبُ الفضيلةَ، وأنْ تكونَ مما يُؤكِّدُ أمرَ الإعجاز، وإنما الذي تُنكِرُه ونُفَيِّلُ رأي مَنْ يَذْهَبُ إليه، أن يَجْعَلَه معجِزاً به وَحْدَه ويَجعلَه الأصْلَ والعُمْدةَ فيَخرجَ إلى ما ذكَرْنا من الشَّناعات.

ثم إنَّ العجَبَ كلَّ العجَبِ، ممَّنْ يَجعَلُ كلَّ الفضيلةِ في شيءٍ هو إذا انْفَرَد لم يَجِبْ به فضْلٌ البتَّةَ، ولم يَدْخُل في اعتدادٍ بحالٍ، وذلك أنه لا يَخْفى على عاقلٍ أنه لا يكونُ بسهولةِ الألفاظِ وسلامَتِها مما يثْقُل على اللسانِ، اعتدادٌ، حتى يكونَ قد أُلِّفَ منها كلامٌ، ثم كان ذلك الكلامُ صحيحاً في نَظْمه والغرضِ الذي أُريدَ به، وأنه لو عَمد عامدٌ إلى ألفاظٍ فجَمعها مِن غير أن يُراعيَ فيها معنىً ويُؤلِّف منها كلاماً، لم ترَ عاقلاً يعتدُّ السهولةَ فيما فضيلةً، لأنَّ الألفاظَ لا تُرادُ لأنفسها وإنما تُرادُ لتُجعَلَ أدلَّةَ على المعاني؛ فإذا عَدِمَتِ الذي لهُ تُرادُ أو اختَلَّ أمرُها فيه، لم يُعْتَدَّ بالأوصافِ التي تكون في أنفُسها عليها، وكانت السهولةُ وغيرُ السهولةِ فيها واحداً، ومن هاهنا رأيتَ العلماء يَذمُّون مضنْ يَحْمِلُه تَطَلُّبُ السجعِ والتجنيسِ على أن يَضُمَّ لهما المعنى ويُدخِلَ الخلَلَ عليه مِن أجْلِهما، وعلى أَنْ يتعسَّف في الاستعارة بسَبَبهما، ويَرْكَبَ الوعورةَ، ويسلُكُ المسالِكَ المجهولةَ، كالذي صنَع أبو تمام في قوله [من البسيط]: سيفُ الإمام الذي سمَّتْهُ هَيْبَتُهُ ... لمَّا تَخَرَّم أهلَ الأرضِ مخْترِما قَرَّت بِقُرَّانَ عينُ الدينِ وانشترَتْ ... بالأشْتَرَيْنِ عيونُ الشِّرْكِ فاصطُلما وقوله [من الكامل]: ذهبَتْ بمَذْهَبهِ السماحةُ والْتَوَتْ ... فيه الظنونُ أمَذهَبُ أم مُذْهَبُ ويَصْنعه المتكلفونَ في الأسجاعِ، وذلك أنه لا يُتصوَّر أن يَجِبَ بهما ومن حيثُ هما فضلٌ، ويقعَ بهما، مع الخُلوِّ من المعنى، اعتدادٌ. وإذا نظرتَ إلى تجنيس أبي تمام: (أمَذْهب أم مُذْهبَ) فاستضعتَه، وإلى تجنيس القائل [من الرجز]: حتى نجا من خوفه وما نجا وقول المحدث [من الخفيف]: ناظِراهُ فيما جَنى ناظِراهُ ... أَوْدَعاني أمُتْ بما أودعاني

فاستحسنْتَه، لم تَشُكَّ بحالِ أنَّ ذلك لم يَكُنْ لأمرٍ يرجعُ إلى اللفظِ، ولكنْ لأنَّكَ رأيتَ الفائدة ضعفَتْ في الأول وقويَتْ في الثاني، وذلك أنك رأيتَ أبا تمام ليم يَزِدْكَ (بمذهب ومذهب) على أنْ أسْمَعَكَ حُروفاً مكررةً لا تجد لها فائدةً - إن وُجدتْ - إلا متكلَّفة ممتحَّلة، ورأيتَ الآخَر قد أعادَ عليك اللفظةَ كأنه يَخدَعُكَ عن الفائدة وقد أعطاها، ويُوهِمُكَ أنه لم يَزِدْك وقد أحْسَن الزيادةَ ووفَّاها. ولهذه النكتة كان التجنيسُ، وخصوصاً المستوفى منه مثلَ "نَجا ونَجا" من حِلى الشعر. والقولُ فيما يَحْسنُ وفيما لا يَحْسُن من التجنس والسجع يَطولُ، ولم يكنْ غَرضُنا من ذكْرِهما شَرْحَ أمرهما، ولكن توكيدَ ما انتهى بنا القولُ إليه من استحالةِ أن يكونَ الإعجازُ في مجرَّد السهولةِ وسلامةِ الألفاظِ مما يَثقُلُ على اللسان. وجملةُ الأمرِ أنَّا ما رأينا في الدنيا عاقلاً اطَّرَحَ النظْمَ والمحاسِنَ التي هو السببُ فيها من الاستعارة والكنايةِ والتمثيلِ وضروبِ المَجاز والإيجازِ، وصدَّ بوجهه عنْ جَميعِها وجعلَ الفَضْلَ كلَّه والمزيةَ أجمَعها في سلامة الحروفِ مما يَثْقُلُ. كيف وهو يؤدي إلى السُّخْفِ والخُروجِ من العقْلِ كما بيَّنَّا؟ واعلمْ أنه قد آنَ لنا أن نعودَ إلى ما هو الأمْرُ الأعظَمُ والغَرضُ الأهَمُ والذي كأنه هو الطَّلِبة، وكلُّ ما عَداهُ ذرائعُ إليه، وهو المَرامُ وما سواهُ أسبابٌ للتسلُّق عليه، وهو بيانُ العِلل التي لها وَجَبَ أن يكونَ لِنظْمٍ مزيةٌ على نَظْم، وأنْ يعمَّ أمرُ التفاضُلِ فيه، وتناهى إلى الغايات البعيدة، ونحنُ نسألُ الله تعالى العونَ على ذلك والتوفيقَ له والهداية إليه.

باب على التفاضل بين النظم

باب على التفاضل بين النظم فصل: معنى الخبر غير معنى جزئيّة المخبر به والمخبَر عنه وإذا ثبَتَ أنَّ الجملةَ إذا بُنيَ عليها، حصَلَ منها ومِن الذي بُنِيَ عليها في الكثير، معنىً يَجب فيه أن يُنْسَب إلى واحدٍ مخصوصٍ، فإنَّ ذلك يقتضي لا محالَة، أن يكونَ الخبرُ في نفسه معنىً هو غيرُ المخبَر به والمخبَر عنه. ذاك لِعِلْمنا وباستحالة أنْ يكونَ لِلمعنى المخبَر به نسبةٌ إلى المخبِر، وأن يكون المستنبَط والمستخرَجَ والمستعانَ على تصويره بالفِكْر. فليس يَشُكُّ عاقلٌ أنه مُحالٌ أن يكونُ لِلْحَمْل في قوله. وما حمَلتْ أمُّ امرىءٍ في ضلوعها نسبةٌ إلى الفرزدق، وأن يكونَ الفكْرُ منه كان فيه نفْسَه، وأن يكونَ معناهُ الذي قيل إنَّه استَنْبَطه واستخْرَجه وغاصَ عليه. وهكذا السبيلُ أبداً، لا يُتصوَّر أن يكونَ للمعنى المخبَر بهِ نسبةٌ إلى الشاعر، أن يَبلُغَ من أمره أن يَصير خاصاً به، فاعرفْه! ومن الدليل القاطع فيه ما بيَّنَّاهُ في الكناية والاستعارة والتمثيل، وشرحناه من أَنْ من شأن هذه الأجناسِ أنْ تُجِب الحسْنَ والمزيَّةَ، وأنَّ المعاني تُتصوَّرُ مِنْ أجْلها بالصوَرِ المختلفة، وأن العلم بإيجابها ذلك، ثابتٌ في العقولِ، ومركوزٌ في غَرائز النفوس؛ وبيَّنَّا كذلك أنه محالٌ أن تكونَ المزايا التي تَحدُثُ بها حادثة، في المعنى المْخبَرِ به المثْبَت أو المَنْفيِّ، لِعلْمنا باستحالة أَنْ تكونَ المزيةُ التي تَجدُها لقولنا: (هو طيل النجاد)، على قولنا: (طويل القامة): في الطول، والتي تَجدها لقولنا: (هو كثيرُ رماد القدر) على قولنا: (هو كثير القِرى والضيافة): في كَثْرةِ القِرى. وإذا كان ذلك مُحالاً، ثبَتَ أنَّ المزيةَ والحسْنَ يكونان في إثبات ما يُراد أن يُوصفَ به المذكورُ، والإخبارِ به عنه. وإذا ثبَت ذلك، ثبَتَ أنَّ الإثبات معنىً لأنَّ حصولَ المزيةِ والحُسْن فيما ليس بمعنى، محالٌ.

فصل: أهمية الكلام وعلة وجوده بنظمه لا بألفاظه المفردة

فصل: أهمية الكلام وعلّة وجوده بنظمه لا بألفاظه المفردة بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي وعليه اعتمادي إعلمْ أنَّ هاهنا أصْلاً أنتَ ترى الناسَ فيه صورةِ مَنْ يَعرِفُ مِن جانبٍ ويُنْكِر مِن آخَر؛ وهو أَنَّ الألفاظَ المفردةَ التي هي أوضاعُ اللغةِ، لم تُوضَعْ لِتُعْرفَ معانيها في أنفسها، ولكن لأن يُضَمَّ بعضُها إلى بعض، فيُعرفَ فيما بينها فوائدُ. وهذا علِمٌ شريفٌ، وأَصْلٌ عظيم. والدليلُ على ذلك أنَّا إنْ زعمنا أنَّ الألفاظَ التي هي أوضاعُ اللغةِ إنما وُضِعتْ ليُعرَفَ بها معانيها في أَنفُسها، لأَدَّى ذلك إلى ما لا يَشُكَّ عاقِلٌ في استحالته، وهو أن يكونوا قد وضَعُوا لِلأجناسِ الأسماءَ التي وضَعُوها لها لتَعرِفَها بها، حتى كأنهم لو لم يكونوا قالوا: (رجلٌ وفرسٌ ودارٌ): لمَا كان يكونُ لنا عِلمٌ بمعانيها، وحتى لو لم يكونوا قالوا: فعَل ويَفْعل: لمَا كنَّا نَعْرِفُ الخبرَ في نفسه ومن أصلِه، ولو لم يكونوا قد قالوا: (إفْعَل): لمَا كنَّا نَعرِفُ الأمرَ مِنْ أَصْله ولا نَجده في نفوسِنا، وحتى لو لم يكونوا قد وَضَعوا الحروفَ لكنَّا نَجْهلُ معانيهَا فلا نعقلُ نَفْياً ولا نَهْياً ولا استفهاماً ولا استثناءً. وكيف والمواضَعةُ لا تكونُ ولا تُتصوَّرُ إلاَّ على مَعْلوم؟ فمحالٌ أن يُوضَع اسْمٌ أو غيرُ اسم لغيرِ مَعْلومٍ، ولأنَّ المواضَعةَ كالإِشارة. فكما أنكَ إذا قلتَ: (خذْ ذاك)، لم تكُنْ هذه الإشارةُ لتَعرِّفِ السامعَ المشارَ إليه في نفسه، ولكن ليعلمَ أنه المقصودُ من بين سائرِ الأشياء التي تراها وتُبْصرها؛ كذلك حكْمُ اللفظِ مع ما وُضِعَ له. ومَن هذا الذي يَشُكُّ أَنَّا لم نَعْرِف الرجلَ والفرسَ والضرْبَ والقتْلَ إلاَّ مِن أَساميها؟ لو كان لذلكَ مَساغٌ في العقل لكان ينبغي إذا قيل: (زيد): أن تَعْرِفَ المسمَّى بهذا الاسمِ من غَير أن تكونَ قد شاهدْتَه أو ذُكِرَ لك بصفةٍ.

وإذا قلْنا في العلمِ واللغات مِنْ مبتدأ الأَمرِ، إِنه كان إلهاماً، فإن الإِلهامَ في ذلك، إنما يكونُ بين شيئين يكونُ أَحدُهما مثْبَتاً والآخَرُ مثبَتاً له، أو يكونُ أحدُهما منْفِيّاً والآخَرُ منفيّاً عنه، وأنه لا يُتصوَّر مثُبَتٌ من غَيْر مُثبَتٍ له ومنفيٍّ من غير مَنْفيٍّ عنه. فلما كان الأمرُ كذلك أَوجَبَ ذلك أنْ لا يُعْقَلَ إلاَّ من مجموع جملةِ فعْلٍ واسم، كقولنا: (خرج زيد)، أو اسمٍ واسْمٍ، كقولنا: (زيد خارج). فما عقلْنا منه، وهو نسبةٌ الخُروج إلى زيد، لا يَرجِعُ إلى معاني اللغات، ولكنْ إلى كونِ ألفاظِ اللغات سماتٍ لذلكَ المعنى، وكونِها مُرادةً بها. أفلاَ ترى إلى قوله تعالى: {وَعَلَّمَءَادَمَ الأسمآء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الملائكة فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هاؤلاء إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 31]. أَفتَرى أَنَّه قيلَ لهم: (أنبئوني بأسماء هؤلاءِ) [البقرة: 31] وهم لا يَعْرِفونَ المشارَ إليهم بهؤلاء؟ ثم إِنَّا إذا نظَرْنا في المعاني التي يَصفُها العقلاءُ بأنها معانٍ مستنْبَطة، ولطائفْ مستخْرَجةٌ، ويجعلون لها اخْتِصاصاً بقائلٍ دون قائلٍ. كمِثْلِ قولهم في معانٍ من الشعر: إنه معنىً لم يُسْبَق إليه فلانٌ، وإنه الذي فطِنَ له واستخْرَجَه، وإنه الذي غاصَ عليه بفِكْرِهِ، وإنه أبو عُذْرِه: لم تَجدْ تلك المعانيَ في الأمر الأَعمِّ شيئاً غيرَ الخَبر الذي هو إثْباتُ المعنى للشيءِ ونفْيُه عنه. يَدلُّك على ذلك أَنَّا لا نَنْظر إلى شيءٍ من المعاني الغريبةِ التي تخْتَصُّ بقائلٍ دون قائل إلاَّ وجدت الأَصْل فيه والأَساسَ: الإثباتَ والنَّفْيَ، وإن أردْتَ في ذلك مثالاً فانظرْ إلى بيتِ الفرزدق: وما حملَتْ أُمُّ امرىءٍ في ضُلوعها ... أعقَّ من الجاني عليها هِجائيا

فإنَّك إذا نظَرْتَ، لم تَشُكَّ في أنَّ الأصْل والأساسَ هو قولُه: (وما حملتْ أُمُّ امرىءٍ): وأنَّ ما جاوزَ ذلك من الكلمات إلى آخِر البيت، مستَندٌ ومبنيٍّ عليه، وأنك إنْ رفعتَهُ لم تجِدْ لشيءٍ منها بياناً، ولا رأيتَ لذِكْرها مَعنى، بل تَرى ذِكْرك لها إن ذكَرْتَها هذياناً؛ والسبَبُ الذي مِنْ أجْله كان كذلك، أنَّ مِنْ حُكْم كل ما عدا جزْءَي الجملة - الفعلُ والفاعلُ والمبتدأُ والخَبر - أن يكونَ تحقيقاً للمعنى المثبَتِ والمَنْفيِّ. فقوله: "في ضلوعها"، يُفيدُ أولاً أنه لم يُرِدْ نفْيَ الحَمْلَ على الإطلاق، ولكنِ الحَمْلَ في الضلوع. وقوله: "أعقَّ"، يُفيد أنه لم يُرِد هذا الحَمْلَ الذي هو حَملٌ في الضلوع أيضاً على الإطلاق، ولكنْ "حمْلاً في الضلوع" محمولُه أَعَقُّ من الجاني عليها هجاؤهُ. وإذا كان ذلك كلُّه تخصيصاً للحَمْل، لم يُتصوَّر أن يُعْقَل من دون أن يُعْقَلَ نفْيُ الحَمْل، لأنه لا يُتصوَّرُ تخصيصُ شيءٍ لم يدخل في نفيٍ ولا إثبات، ولا ما كان في سبيلهما من الأمر به والنهي عنه والاستخبار عنه. وإذْ قد ثبَتَ أَن الخَبر وسائرَ معاني الكلام معانٍ يُنْشئُها الإنسانُ في نفسه، ويُصرِّفُها في فِكْره، ويُناجي بها قَلْبَه، وَيرْجعُ فيها إليه، فاعلمْ أَنَّ الفائدةَ في العلم بها واقعةٌ من المُنْشِىءِ لها، صادرةٌ عن القاصِدِ إليها. وإذا قلتَ في الفعل إنه موضوعٌ للخَبَرِ، لم يكن المعنى فيه أنه موضوعٌ لأنَّ يُعْلَم به الخبَرُ في نفسه وجنسِه، ومن أَصْلهِ، وما هو. ولكنَّ المعنى أنه موضوعٌ، حتى إذا ضَممتَه إلى اسمٍ عُقِلَ منه، ومن الاسم، أنَّ الحكْمَ بالمعنى الذي اشْتُقَّ ذلك الفِعلُ منه على مسمّى ذلك الاسم، واقعٌ منكَ أيها المتكلم.

فصل: الذوق بيان أن العمدة في إدراك البلاغة الذوق والإحساس الروحاني

فصل: الذوق بيان أنّ العمدة في إدراك البلاغة الذوق والإحساس الروحاني بسم الله الرحمن الرحيم إعلمْ أَنكَ تَرى عجَباً أعْجبَ من الذي عليه الناسُ في أمر النَّظْم، وذلك أنه ما مِن أَحدٍ لهُ أدنى معرفةٍ إِلاَّ وهو يَعلمُ أن هاهنا نظْماً أحْسَنَ من نظْمٍ، ثم تراهُمْ إذا أنتَ أردْتَ أن تُبَصْرَهم ذلك تَسْدَرُ أعينُهُم، وتضلُّ عنهم أفهامُهم؛ وسببُ ذلك أنهم أولُ شيء عَدِموا العِلْمَ به نفسَه من حيث حَسِبوه شيئاً غيرَ تَوخِّي معاني النحو، وجلعوه يَكونُ في الألفاظ دون المعاني. فأنتَ تَلْقى الجَهْد حتى تُمِيلَهم عن رأيهم، لأنكَ تُعالِجُ مرَضاً مُزْمناً، وداءً متمكناً. ثم إذا أنتَ قُدْتَهم بالخزائم إلى الاعترافِ بأنْ لا معنى له غيرُ توخِّي معاني النحو، عَرَض لهم من بَعْد خاطِرَ يَدهَشُهُمْ، حتى يكادوا يعودون إلى رأسِ أمرهم، وذلك أنهم يَرَوْنَنا ندَّعي المزيةَ والحُسْن لِنَظْم كلامٍ، من غير أن يكون فيه من معاني النحو شيءٌ يُتَصوَّرُ أن يتفاضَلَ الناسُ في العلم به، ويرونَنا لا نَستطيعُ أن نضَع اليَدَ من معاني النحو ووُجوهِه على شيءٍ نَزْعُم أنَّ مِنْ شأنِ هذا أنْ يُوجِبَ المزيَّةَ لكل كلامٍ يكونُ فيه، بل يَرَوْننا ندَّعي المزيةَ لكل ما ندَّعيها له مِن معاني النحو ووُجوههِ وفُروقهِ في موضعٍ دون موضع، وفي كلام دون كلامٍ، وفي الأقلِّ دونَ الأَكثرِ، وفي الواحد من الأَلْف؛ فإذا رأَوْا الأمرَ كذلكَ دخلَتْهم الشُّبْهَةُ، وقالوا: كيف يصَيرُ المعروفُ مَجهولاً، ومِنْ أَين يُتصوَّر أن يكونَ للشيءِ في كلام مزيةٌ عليه في كلامٍ آخَر بعْدَ أن تكونَ حقيقتُه فيهما حقيقةً واحدة؟ فإذا رأَوا التنكيرَ، يكّونُ فيما لا يُحصى من المواضع ثم لا يَقْتضي فَضْلاً، ولا يُوجِبُ مزيةً، اتَّهمونا في دَعْوانا ما ادَّعيناه لتنكير الحياة في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ} [البقرة: 179] من أنَّ له حُسْناً ومزيةً، وأنَّ فيه بلاغةً عجيبةً، ظنُّوه وهْماً منَّا وتخيُّلاً، ولسنا نَستطيعُ في كشْفِ الشُبهة في هذا عنهم، وتصوير الذي هو الحقُّ عندهم، ما استطعناه في نَفْس النظْم، لأنَّا ملَكْنا في ذلك أن نَضْطرَّهم إلى أن يَعْلموا صحَّةَ ما نقول.

وليس الأمرُ في هذا كذلك، فليس الداءُ فيه بالهيِّن، ولا هو بحيثُ إذا رُمْتَ العلاجَ منه وجدتَ الإمكانَ فيه مع كل أحدٍ مُسْعِفاً، والسعيَ مُنْجِحاً، لأنَّ المزايا التي تحتاجُ أن تُعْلمهم مكانَها، وتصوِّر لهم شأنَها، أمورٌ خفية، ومعانٍ روحانيةً، أنتَ لا تستطيعُ أن تُنَبِّه السامِعَ لها، وتحْدِثَ له عِلْماً بها، حتى يكون مُهيَّأً لإدراكها، وتكونَ فيه طبيعةٌ قابلةٌ لها، ويكونَ له ذوقٌ وقريحةٌ يَجِدُ لهما في نفسه إحساساً بأنَّ مِن شأنِ هذه الوجوهِ والفُروق أن تَعرِضَ فيها المزيةُ على الجملة، وممن إذا تصفَّح الكلامَ وتدبَّر الشعرَ فرَّقَ بين موقع شيءٍ منها وشيءٍ، وممَّن إذا أنشدْتَه قولَه [من الكامل]: لي منْكَ ما للناس كلِّهِمُ ... نَظَرٌ وتَسليمٌ على الطُّرُقِ وقولَ البحتري [من الكامل]: وسَأَسْتَقِلُّ لك الدموعَ صبابَةً ... وَلَو أنَّ "دِجْلةَ" لي عليكَ دُموعُ وقولَه [من الطويل]: رأتْ مَكِنَاتِ الشَّيبِ فابتسمتْ لها ... وقالتْ نجومٌ لو طَلَعْنَ بأسْعُدِ وقولَ أبي نواس [من البسيط]: ركبٌ تَساقَوا على الأكْوارِ بَينَهُمُ ... كأسَ الكرَى فانتشى المَسْقيُّ والساقي كأنَّ أعناقَهُمْ والنومُ واضِعُها ... على المناكِبِ لم تُعْمَدْ بأعناقِ وقولَه [من الكامل]: يا صاحِبيَّ عَصَيْتُ مُصْطَبَحَا ... وغَدَوْتُ لِلَّذَّاتِ مُطَّرِحا فتزُّودوا منّي محادثةً ... حَذرُ العَصَا لم يُبقِ لي مَرَحا وقول إسماعيل بْنِ يَسار [من السريع]: حتى إذا الصبحُ بدا ضوؤُهُ ... وغابتِ الجوزاءُ والمِرْزمُ خرجتُ والوطءُ خفيٌّ كما ... يَنْسابُ مِنْ مكمَنِهِ الأرْقَمُ أنِقَ لها، وأخذَتْه الأرْيحيةُ عندها، وعرَفَ لطْفَ مَوقِعِ الحذْفِ والتنْكير في قوله: نظر وتسليم على الطرق وما في قول البحتري: "لي عليكَ دموعُ"، مِنْ شبْه السِّحر وأنَّ ذلك من أجْل تقديم "لي" على "عليك" ثم تنكيرِ (الدموع)، وعرَفَ كذلك شرَفَ قوله: وقالتْ نجومٌ لو طلعْن بأسعد

وعلُوَّ طبقتِه، ودقةَ صنعتِه، والبلاءَ والداءَ العياء. إنَّ هذا الإحساس، قليلٌ في الناس، حتى إنه ليكونُ أن يقَع للرجُل الشيءُ من هذهِ الفروقِ والوجوهِ في شعرٍ يقولهُ أو رسالةٍ يكْتُبها الموقعَ الحَسَن، ثم لا يَعْلَم أنه قد أحْسَنَ، فأمَّا الجهلُ بمكانِ الإساءة فلا تعَدمُهُ. فلسْتَ تملك إذاً من أمرِكَ شيئاً حتى تظْفَر بمَنْ له طبْعٌ إذا قدَحْتَه وَرَى، وقلبٌ إذا أرَيْتَهُ رأَى، فأمَّا وصاحِبُك مَنْ لا يَرى ما تُريه، ولا يَهتدي للذي تَهْديه، فأنتَ رام معه في غير مَرْمى، مُعنٍّ نفسَك في غير جدْوى. وكما لا تُقِيمُ الشعرَ في نفس من لا ذَوْقَ له، كذلك لا تُفْهمُ هذا الشأنَ مَن لم يُؤْتَ الآلةَ التي بها يَفْهم؛ إلاَّ أنه إنما يكونُ البلاءُ إذا ظنَّ العادِمُ لها أنه أُوتِيَها، وأنه ممَّنْ يكْمُلُ للحُكْم، ويَصِحُّ منه القضاءُ، فجعلَ يقولُ القولَ لوْ عَلِمَ غَيَّه لا ستحْيى منه. فأمَّا الذي يُحِسُّ بالنقص مِن نفْسِه، ويَعلَم أنه قد عَلِم علْماً قد أُوتيه مِن سواه، فأنتَ منه في راحةٍ، وهو رجلٌ عاقِلٌ قد حماهُ عقلُه أنْ يعدُوَ طورَهُ، وأن يتكلَّف ما ليس بأهلٍ لَهُ.

وإذا كانت العلومُ التي لها أصولُ معروفةٌ، وقوانينُ مضبوطةٌ، قد اشتركَ الناسُ في العلم بها، واتَّفقوا على أنَّ البناءَ عليها، إذا أخطأ فيه المخطىء، ثم أعجب برأيه لم يُسْتطَعْ رَدُّه عن هواه، وصَرْفُه عن الرأي الذي رآه، إلاَّ بعد الجهْدِ، وإلاَّ بعد أن يكونَ حصيفاً عاقِلاً ثَبْتاً إذا نُبِّهَ انْتَبَهَ، وإذا قيل إنَّ عليكَ بقيةً من النظر وقفَ وأصْغى، وخَشِيَ أن يكون قد غُرَّ فاحتاطَ باستماع ما يُقال له، وأنِفَ من أن يلجَّ من غير بيِّنة، ويستطيلَ بغير حُجَّة، وكان مَنْ هذا وصْفُه يَعزُّ ويقِلُّ، فكيف بأنْ تَرُدَّ الناسَ عن رأيهم في هذا الشأنِ، وأصْلُك الذي تردُّهم إليه، وتُعوِّل في محاجَّتهم عليه، استشهادُ القرائحِ وسَبْرُ النفوس وفلْيُها، ما يَعْرِض فيها من الأرْيحية عند ما تسمع. وكان ذلك الذي يَفتحُ لك سمعَهم، ويكشِفُ الغِطاءَ عن أعيُنهمْ، ويَصْرِفُ إليكَ أوجُهَهُم، وهم لا يَضعُون أنفُسَهم موضِعَ منَ يرى الرأيَ ويُفتي ويقضي إلاَّ وعندَهم أنهم ممَّن صفتْ قريحَتُه، وصحَّ ذوقُه وتمَّتْ أداتُه. فإذا قلتَ لهم: إنكم قد أُتيتُمْ مِن أنفْسِكم: رَدُّوا عليكَ مثلَه، وقالوا: "لا بل قرائِحُنا أصحُّ، ونظرُنا أصْدَقُ، وحِسُّنا أَذْكى، وإنما الآفةُ فيكُم لأنكم خيَّلْتُم إلى نَفْسِكم أُموراً لا حاصِل لها.

وأوهَمَكُم الهوى والميلُ أنْ تُوجِبوا لأحدِ النظْمَيْنِ المتساويَيْن فضْلاً على الآخَرِ مِن غير أن يكونَ ذلك الفضْلُ معقولاً، فتبقى في أيديهم حَسِيراً لا تَملكُ غيرَ التعجُّب، فليس الكلامُ إذن بمُغْنٍ عنك، ولا القولُ بنافعٍ، ولا الحُجَّةُ مسموعةً، حتى تجدَ مَنْ فيه عونٌ لكَ على نَفْسِه، ومن إذا أتى عليكَ، أبى ذَاك طبعُه فردَّه إليكَ، وفتَحَ سمعه لكَ، ورفَعَ الحِجابَ بينك وبينه، وأخذَ به إلى حيثُ أنتَ، وصرَفَ ناظِرَه إلى الجهة التي إليها أوْمأتَ، فاستبدَلَ بالنِّفار أُنْساً، وأراكَ من بَعْد الإباء قَبُولاً، ولم يكن الأمرُ على هذه الجملةِ إلاَّ لأنه ليس في أصنافِ العلوم الخفيَّةِ، والأُمور الغامضةِ الدقيقةِ، أعجبُ طريقاً في الخفاء من هذا، وإنَّكَ لَتُتْعِبُ في الشيء نفْسَك وتُكِدُّ فيه فكْرَك، وتَجْهَدُ فيه كلَّ جَهْدِك، حتى إذا قلتَ: قد قتَلْتُه عِلْماً، وأحكَمْتُه فَهْماً، كنتَ الذي لا يزالُ يتراءى لك فيه شُبْهةٌ، ويَعرِضُ فيه شكٌّ، كما قال أبو نواس [من الطويل]: أَلاَ لا أَرى مثْلَ امترائيَ في رسم ... تَغَصُّ به عَيْني ويلفِظُهُ وَهْمي أتَتْ صُوَرُ الأشياءِ بيني وبينَهُ ... فظَنِّي كَلاَ ظَنِّ وعلمي كَلاَ عِلْمِ وإنكَ لتنظرُ في البيت دهْراً طويلاً وتُفسِّره ولا ترى أنَّ فيه شيئاً لم تَعلَمْه، ثم يبدو لكَ فيه أمرٌ خفيٌّ لم تكنْ قد علِمْتَه، مثالُ ذلك بيتُ المتنبي [من الكامل]: عجباً له حِفْظُ العِنَانِ بأنْمُلٍ ... ما حِفْظُها الأشياءَ مِنْ عاداتِها

مضى الدهرُ الطويلُ ونحن نقرأه فلا نُنْكِرُ منه شيئاً ولا يَقَعُ لنا أنَّ فيه خطأَ، ثم بان بأَخِرةٍ أنه قد أخطأ، وذلك أنه كان ينبغي أن يقول: (ماحِفْظُ الأشياءِ من عاداتها)؛ فيضيفُ المصدرَ إلى المفعولِ فلا يَذكُر الفاعل، ذاك لأنَّ المعنى على أنه ينفي الحفْظَ عن أنامله جملةً، وأنه يزْعُم أنه لا يكون منها أصْلاً. وإضافَتُه (الحفظ) إلى ضميرِها في قوله: (ما حفظُها الأشياءَ) يقتضي أن يكون قد أثبْتَ لها حِفْظاً. ونظيرُ هذا أنك تقول: (ليس الخروجُ في مثلِ هذا الوقتِ من عادتي) ولا تقولُ: ليس خُروجي في مثلِ هذا الوقت من عادتي. وكذلك تقول: (ليس ذمُّ الناس مِنْ شأني) ولا تقول ليس ذمي الناسَ مِنْ شأني. لأن ذلك يُوجِبُ إثباتَ الذمِّ ووجودَه منك. ولا يصِحُّ قياسُ المصْدَرِ في هذا على الفعل، أعني: أنه لا ينبغي أن يُظَنَّ أنه كما يجوز أن يُقال: (ما مِن عادتها أن تَحْفظَ الأشياءَ) كذلك ينبغي أن يجوزَ "ما من عادتها حفظُها الأشياء" ذاكَ أنَّ إضافة المصدرِ إلى الفاعل يقتضي وجودَه وأنه قد كان منه. يُبيِّنُ ذلك أنك تقول: (أمرْتُ زيداً بأن يَخْرج غداً) ولا تقول: (أمرته بخروجه غداً). ومما فيه خطأ هو في غاية الخفاء قوله [من البسيط]: ولا تَشَكَّ إلى خَلْقٍ فتُشْمِتَهُ ... شكْوى الجريحِ إلى الغِربانٍ والرَّخَمِ وذلك أنك إذا قلت: (لا تضْجَرُ ضجَرَ زيدٍ) كنتَ قد جعلْتَ (زيداً) يضجرُ ضَرْباً من الضجر مثْلَ أن تجعله يُفرِّطُ فيه أو يُسْرعُ إليه. هذا هو مُوجِبُ العُرْفِ. ثم إنْ لم تعتبِرْ خصوصَ وصْفٍ، فلا أقلَّ من أن تَجعلَ الضجَرَ على الجملةِ من عادتِهِ، وأنْ تَجعلَه قد كان منه. وإذا كان كذلك اقتضى قولُه: شكوى الجريحِ إلى الغربانِ والرخَمِ أن يكونَ هاهنا جريحٌ قد عُرِف من حالِه أن يكونَ له شكوى إلى الغِربان والرخَم، وذلك مُحال. وإنما العبارةُ الصحيحةُ في هذا أن يقال: لا تَشَكَّ إلى خَلْقٍ فإنَّكَ إنْ فعلتَ، كان مثَلُ ذلك مثَلَ أنْ تُصوِّرَ في وهْمِك أنَّ بَعيراً دَبِراً كشَفَ عن جُرْحه ثم شَكَاهُ إلى الغربان والرخَم.

ومن ذلك أنك تَرى من العلماء مَن قد تأوَّلَ في الشيء تأويلاً، وقَضى فيه بأمرٍ، فتَعْتَقِدُه اتِّباعاً له ولا تَرتابُ أنه على ما قَضى وتأوَّلَ. وتَبْقى على ذلك الاعتقادِ الزمانَ الطويلَ. ثم يلوحُ لك ما تعلَم به أنَّ الأمر على خِلاف ما قَدَّرَ. ومثالُ ذلك أنَّ أبا القاسم الآمديَّ ذكَر بيتَ البحتريِّ [من البسيط]: فصاغَ ما صاغَ مِنْ تِبْرٍ ومِنْ وَرِقٍ ... وحاكَ ما حاكَ من وَشْي وديباجِ ثم قال "صَوْغُ الغيث وحَوكُه للنبات ليس باستعارةِ بل هو حقيقةٌ. وذلك لا يقال: هو صائغٌ ولا كأنه صائغ". وكذلك لا يقال: هو حائك وكأنه حائك. (قال) على أنَّ لفظ (حائك) في غاية الركاكة، إذا أُخرج على ما أخرجَهُ أبو تمام في قوله [من الطويل]: إذا الغيثُ غادى نَسْجَهُ خِلْتَ أنه ... خَلَتْ حُقُبٌ حَرْسٌ له وهو حائك قال وهذا قبيحٌ جداً. والذي قاله البحتري: (فحاك ما حاك) حَسَنٌ مُستعملٌ. والسببُ في هذا الذي قاله، أنه ذهَبَ إلى أنَّ غرضَ أبي تمام أن يَقْصِدَ (بخلت) إلى الحوك، وأنه أراد أن يقول: (خلتَ الغيثَ حائكا) وذلك سهوٌ منه لأنه لم يقصِد بـ (خلت) إلى ذلك. وإنما قصَد أنْ يقول: إنه يظهر في غداةِ يومٍ من حوْكِ الغيث ونَسْجِه بالذي تَرى العيونُ من بدائع الأنوار، وغرائبِ الأزهار، ما يُتوهَّم منه إنَّ الغيثَ كان في فِعْل ذلك وفي نَسجه وحَوْكهِ حِقَباً من الدهر. فالحيلولَةُ واقعةٌ على كون زمانِ الحَوْكِ حِقبا لا على كونِ ما فعله الغيثُ حَوْكاً، فاعرفْه! وممَّا يَدْخُل في ذلك ما حُكي عن الصاحب من أنه قال: كان الأستاذُ أبو الفَضْل يختار من شِعر ابن الرومي، ويُنَقِّط عليه. قال: فدفع إليَّ القصيدةَ التي أولها [من الطويل]: أتحْتَ ضلوعي جمرةٌ تتَوقدُ وقال: تأملْها! فتأمَّلْتُها، فكان قد ترَك خيرَ بيتٍ فيها وهُو [من الطويل]: بجَهْلٍ كَجَهْلِ السَّيْفِ والسيفُ مُنْتَضى ... وحِلْمٍ كَحِلْمِ السيفِ والسيفُ مُغْمَدُ

فقلتُ: لمَ ترَكَ الأستاذُ هذا البيتَ؟ فقال: لعلَّ القلمَ تجاوَزَهُ! (قال) ثم رآني من بَعْدُ، فاعتذر بعُذرٍ كان شَرّاً مِنْ تَرْكه. قال: (إنما تركْتُه لأنه أعادَ "السيفَ" أربعَ مرّاتٍ). قال الصاحِبُ "لَوْ لم يُعِدْه أربعَ مرات، فقال: بجهلٍ كجهل السيف وهو مُنْتَضى وحِلْمِ كحِلم السيفِ وهو مغمدُ. لفسَدَ البيْتُ". والأمرُ - كما قال الصاحبُ والسببُ في ذلك - أنك إذا حدَّثْتَ عن اسم مُضافٍ ثم أردْتَ أن تَذْكُر المضافَ إليهِ، فإن البلاغَة تقتضي أن تذكُرَه باسمِه الظاهرِ وَلا تُضْمِرَهُ. وتفسيرُ هذا أنَّ الذي هوَ الحسَنُ الجميل أن تقول: (جاءني غلامُ زيدٍ وزيدٌ) ويقبُحُ أن تقول: (جاءني غلامُ زيدٍ وهُو) ومن الشاهِد في ذلك، قولُ دِعْبِل [من البسيط]: أضيافُ عِمران في خِصْبٍ وفي سَعةٍ ... وفي حِبَاءِ وخَيرٍ غيرِ ممنوعِ وضيفُ عمرٍو وعمرٌو يَسْهرانِ معاً ... عمرو لبِطْنَتِه والضيفُ للجُوعِ وقولُ الآخر [من الطويل]: وإنْ طُرَّةٌ راقَتْكَ فانْظُرْ فرُبَّما ... أَمَرَّ مذاقُ العُودِ والعُودُ أَخْضَرُ وقولُ المتنبي [من الطويل]: بِمَنْ نَضْرِبُ الأمثالَ أم مَنْ نَقِيسُهُ ... إليكَ وأهْلُ الدهرِ دونكَ والدهرُ؟

ليس بخفيٍّ على مَنْ له ذوقٌ، أنه لو أتى موضعُ الظاهرِ في ذلك كله بالضمير فقيل: (وضيفُ عمروِ وهو يسهران معاً)، و (ربما أمرَّ مذاقُ العودِ وهو أخضر)، و (أهلُ الدهر دونك وهو) لعُدِمَ حُسْنٌ ومزيةٌ لا خفاءَ بأمرهما، ليس لأنَّ الشعرَ يَنكَسِرُ، ولكنْ تُنْكِره النفسُ. وقد يُرى في بادىء الرأي أنَّ ذلك من أجْل اللَّبْسِ، وأنكَ إذا قلتَ: (جاءني غلامُ زيدٍ وهو) كان الذي يقَعُ في نفس السامع أنَّ الضميرَ للغلام، وأنكَ على أن تجيء له بخَبر؛ إلا أنَّه لا يستمرُّ من حيثُ إنا نقول: (جاءني غلمانُ زيدٍ وهو)، فتَجِدُ الاستنكارَ ونبُوَّ النفسِ، مع أنْ لا لَبْسَ مثْلَ الذي وجدْناه. وإذا كان كذلك وجَب أن يكون السببُ غيرَ ذلك. والذي يوجُبِه التأمل أن يُردَّ إلى الأصْل الذي ذكره الجاحظ من أنَّ سائلاً سأل عن قولِ قيس بن خارجة "عندي قِرى كلِّ نازلٍ، ورضى كلِّ ساخطٍ، وخُطبةٌ مِنْ لدنْ تَطلعُ الشمسُ إلى أنْ تغرُبَ، آمرُ فيها بالتواصُل، وأنهى فيها عن التقاطع" فقال: أليس الأمرُ بالصِّلة هو النهيُ عن التقاطع؟ قال: فقال أبو يعقوب: أما علمتَ أنَّ الكنايةَ والتعريضَ، لا يَعملان في العقولِ عملَ الإفصاح والتكشيف؟ وذكرتُ هناك أنَّ لهذا الذي ذُكِر من أنَّ للتصريح عملاً لا يكون مثلَ ذلك العملِ للكناية كان لإعادة اللفظ في قوله: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ} [الإسراء: 105]، وقوله: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ * الله الصمد} [الإخلاص: 1 - 2] عملٌ لولاها لم يَكنْ. وإذا كان هذا ثابتاً معلوماً فهو حكْم مسألتنا. ومن البيِّنِ الجليِّ في هذا المعنى - وهو كبيت ابن الرومي سواءٌ لأنه تشبيهٌ مثْلُه - بيتُ الحماسة [من الهزج]: شَدَدْنا شَدَّةَ الليثِ ... غدا والليثُ غضبانُ ومن الباب قولُ النابغة [من الرجز]: نفْسُ عصامٍ سوَّدتْ عِصاما ... وعلَّمَتْهُ الكرَّ والإقداما لا يخفى على مَنْ له ذوقٌ حسَنٌ هذا الإظهارَ، وأنَّ له موقعاً في النفس وباعثاً للأرْيحية، لا يكون إذا قيل: (نفسُ عصامٍ سودته) شيء منه البتة.

§1/1