دعوة الرسل عليهم السلام

أحمد أحمد غلوش

مقدمات

مقدمات المقدمة ... بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ... وبعد،،، فإن أشرف الأعمال وأجلها هو الدعوة إلى الله تعالى, ففيها عظمة الموضوع، وسمو الوسيلة، ونبل العمل، ورقي الغاية، وذلك أمر أكده الله تعالى بقوله سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 1. وقد خص الله -سبحانه وتعالى- رسله الكرام ابتداء بهذا الشرف، وكلفهم به وبعثهم بوحي منه يبلغونه للناس، قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} 2. وقال سبحانه لكل منهم: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} 3. وعلى مدار التاريخ من لدن آدم -عليه السلام- إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- قام الرسل بواجبهم هذا، وحملوا أمانة الدعوة بكل صدق وإخلاص، وتركوا سيرة مثالية تعد أسوة لكل من يرجو الله واليوم الآخر، وكان محمد -صلى الله عليه وسلم- خاتم الرسل والأنبياء، ختم بدعوته سائر دعوات الله، فبلّغ الرسالة، وأدى الأمانة, ونصح الأمة، وكشف الغمة، وترك للبشر كل ما ينفعهم، وكل ما يحتاجون إليه، بالنسبة للدعوة وغيرها. عرف بوجوب القيام بالدعوة إلى الله تعالى، وألزم الأمة المسلمة به، حيث أخبرهم بقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 4.

_ 1 سورة فصلت آية: 33. 2 سورة النساء من آية: 165. 3 سورة المائدة آية: 67. 4 سورة آل عمران آية: 104.

وبقوله سبحانه: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} 1. وكما عرفهم بحكم تبليغ الدعوة، فصل لهم طريقة الدعوة, وأسلوبها، ومنهج إيصالها إلى عقول الناس وقلوبهم، وكيفية توجيه الخطاب ... ووضح لهم ذلك بطرق شتى، فمرة يوجههم نحو المنهج مباشرة، ويقرأ لهم قوله تعالى: - {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} 2، وبهذا يقوم منهج الدعوة على الإيجاز، والدقة، والرمز، وهو المراد بالحكمة، كما يقوم على التفصيل، والتحليل، والإثارة، وهو المقصود بالموعظة الحسنة، كما يراعي المنهج شخصية المدعوّ، فإن كان مجادلا، فليكن جداله بالتي هي أحسن. - {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} 3. - {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} 4. ومرة أخرى يوجههم نحو الأسلوب، بعرض قصص الأنبياء بما تشتمل عليه من حقائق عديدة، تتصل بموضوع الدعوة، وأسلوبها، ومنهجيتها الاتصالية، ومدى تقدير المسئولية عند من يتحمل أمانة الدعوة والتبليغ، وكيفية مواجهة المواقف الصعبة التي تحدث مع القيام بالبلاغ والدعوة. يبين القرآن الكريم هذا وهو يوضح الغاية من

_ 1 سورة التوبة آية: 122. 2 سورة النحل آية: 125. 3 سورة الأعلى آية: 9. 4 سورة الغاشية آية: 21، 22.

القصص القرآني، يقول الله تعالى: - {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} 1. ويقول سبحانه: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 2. وبقوله سبحانه: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 3. ومرة ثالثة يوجههم بتوضيح خواطر النفس، واتجاهات الهوى، وسبحات العقل والروح، وهو يحدثهم عن طبقات الناس من الملأ، والضعفاء، والمترفين، واليهود، والنصارى، والصابئة، والمجوس، والذين أشركوا، ومعهم، وقبلهم المؤمنون المخلصون. ... وهكذا يلتقي الدعاة مع منهج الدعوة الحكيم. إن قصص القرآن الكريم يُجلِّي حركة الدعوة، ويوضح تاريخها على الزمن كله، بصدق تام لا ريب فيه، ولا خيال، ويركز هذا القصص على الجوانب المفيدة النافعة، ذات التأثير في الخلق، والسلوك، والاعتقاد، ويقدم الدعوة، موضوعا، ومنهجا، وهي تتحرك مع الناس، في صورة عملية حية؛ لتأكيد ملاءمتها للفطرة، وتوافق التحرك بها في إطار المنهج الرباني.

_ 1 سورة هود آية: 120. 2 سورة يوسف آية: 111. 3 سورة الأعراف آية: 176.

إن واقع المسلمين المعاصر في أمسّ الحاجة إلى المدارسة الجادة لقصص الرسل، من أجل الوقوف على منهجهم في الدعوة، ومعرفة حقائق الناس، وخفاياهم، واكتشاف الوسائل المثلى للجدل، والخطاب، والإقناع، والإرشاد، ولم ينتقل رسول الله إلى ربه إلا بعد أن وضح المنهج، وعرفت الوسائل والأساليب ... وصارت مبادئها، وأساسياتها، مصورة في وقائع عملية، وأحداث تطبيقية، تشهد بحيويتها، وتأثيرها في الناس. وانطلاقا من الشعور بواجب الدعوة، ومحاولة لبذل جهد على قدر طاقتي، أكتب في تاريخ الدعوة، يحدوني الأمل في توفيق الله تعالى لأتغلب على الصعاب العديدة. إن الكتابة في هذا الموضوع جديدة، والجديد دائما يحتاج للجهد والعمل، ويتعرض للنقد والمعارضة، وبخاصة إذا قلت مراجعه، وندرت العقول التي تناولته بالتحليل والتوضيح ... وأين لي بوقت أستعين به في أداء المقصود على وجه سديد ... ولكنه الأمل في الله، إن الأمل في الله كبير وهو صاحب الفضل: {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} 1. ولقد ألف في قصص الأنبياء، وقصص القرآن عددٌ من العلماء أسهموا في إبراز هذا التراث العظيم، ووجّهوا أنظار المسلمين إلى ما فيها من عبر وفوائد. وأعانني الله تعالى فقرأتُ أغلب هذه المؤلفات، ورأيت ضرورة إبراز الجانب الدعوي في قصص الأنبياء؛ لإيماني بأن القرآن الكريم نزل للدعوة، وكل ما فيه من قصص، وأحكام، وتشريع هو توجيه للدعاة، بدءا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي أرسله الله للناس {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} ، واستمرارا مع كل الدعاة المخلصين إلى يوم القيامة. ولهذا استخرت الله تعالى في الكتابة عن الجانب الدعوي، من خلال تاريخ الأنبياء عليهم السلام؛ لأن الدعوة من خلال تاريخ الأنبياء وقصصهم تعد في الحقيقة

إظهارا عمليا لحركة الدعوة وسلوك الدعاة، وموقف المدعوين، وشبه المعارضين، وكشفا حقيقيا لتصرفات أعداء الدعوة إلى الله تعالى. ومن هنا كان توضيح تاريخ الرسل، من خلال القرآن الكريم, إحياء للماضي وتقوية للحاضر، ودستورا دائما للدعوة، يحدد المسار ويبين المنهج, ويشير إلى النتائج النهائية للمؤمنين، وللكافرين، على حد سواء. ومن أجل تحقيق الفائدة من هذه الدراسة، اتبعت منهجا واحدا مع تاريخ سائر الرسل، وبخاصة من فصل القرآن الكريم في دعوتهم، يعتمد الأسس التالية: أولا: التعريف ببيئة قوم الرسول؛ لمعرفة حضارتهم، والنعم التي تفضل الله بها عليهم، وأشهر الأصنام والأوثان التي عُبدت من دون الله تعالى. ثانيا: التعريف بقوم الرسول، والوقوف على أهم طبائعهم النفسية، والفكرية، ومدى تمسكهم بالضلال في العقيدة، والانحراف في الخُلُق والسلوك. ثالثا: التعريف بالرسول -عليه السلام- ونشأته، وأخلاقه، وملامح الصناعة الربانية فيه، ومناط الأُسْوة، والقدوة للدعاة، والمؤمنين. رابعا: التفصيل في بيان حركة الرسول بالدعوة في قومه، وتشمل الحركة المنهج والوسيلة، والأسلوب، كما تبين فطنة الرسول ودقته وهو يدعو إلى الله تعالى. خامسا: إبراز أهم ركائز الدعوة مع كل رسول؛ لتكون دعائم أساسية للدعاة في مجال التأسي والاعتبار. وبعد الانتهاء من دراسة تاريخ دعوة الرسل, قمت بدراسة مطولة حول أسس الدعوات الإلهية، ومدى تكريمها للإنسان، وتحديدها للغاية التي خلق من أجلها مع بيان شخصية مبلِّغ الدعوة، ومنهجية البلاغ من خلال دراسة هذه الأسس،

والأمل أن تقدم الدراسة التفصيلية لتاريخ الرسل، والتحليلية للمبادئ والأسس الطريقة المثلى للدعاة في العصر الحديث، وليعلم الجميع أنه لا جديد عن الدعوة من كافة نواحيها يختلف عما جاء في القرآن الكريم. إني أرجو من خلال كتابة تاريخ الدعوة ربط أحداث الماضي, بوقائع الزمن الحاضر، وإنارة طريق المستقبل؛ ليعيش الدعاة متخذين قدوتهم الرواد الأوائل الذين هداهم الله، وليكونوا لمن بعدهم المثل والأسوة، حتى تعود الأمة الإسلامية لعهدها الأول، وتصير بحق خير أمة في العالمين. والله من وراء القصد، وهو حسبي ونعم الوكيل. ا. د/ أحمد أحمد غلوش مدينة نصر في أول محرم سنة 1422هـ الموافق 15/ 3/ 2002م

_ 1 سورة الحديد آية: 29.

تاريخ الدعوة واقع ومنهج

تاريخ الدعوة واقع ومنهج: علم التاريخ من العلوم الهامة ذات الفائدة القصوى للإنسان؛ لأنه يتخذ الماضي موضوعا لدراسته، ويعيش مع الوقائع والأحداث وفق منهج وصفي، يعتمد الحياد والموضوعية، ويجمع الأحداث والوقائع من مصادرها الصحيحة، ويحللها بأمانة، وينسقها على أسس عقلية متكاملة؛ لتنطق بكافة جوانب الحدث، وتصوره أمام الناس، وبذلك يعرف التاريخ بواقعه، ويظهر الماضي بأشخاصه، وأعماله، وحيويته، ويتمكن الباحث من استخلاص الدروس والعبر، ويتحقق له الهدف المنشود. ويحتاج علم التاريخ بصورة عامة إلى عقلية عالمة، تبحث عن الحقائق، وتلتزم بالحق، بعيدا عن التحيز والتأثير، وتنأى بذاتها عن توجيه الأحداث لخدمة أهدافها الذاتية، وخصائصها الثقافية، أو الدينية، أو الجنسية ... وهكذا. وعلم التاريخ وفق هذا المنهج يساعد في إعطاء صورة صحيحة لتاريخ البشر، ويساهم في وضع منهج للحاضر، والتخطيط للمستقبل، ويؤدي إلى حياة طيبة للعمران البشري. وعلم "تاريخ الدعوة" فرع من علم التاريخ العام، يهتم برصد جانب معين من الأحداث والوقائع الماضية، وهو الجانب المتصل بالدين، وحركته، وحيويته في حياة الناس؛ ولذلك نراه يعايش دعوات الله تعالى على طول الزمن، فيحدد موضوعاتها التي بلغتها للناس، ويعرف وسائلها في البلاغ والدعوة، ويوضح ما دار حولها من نقاش ونزاع، ويبين موقف المدعوين منها سواء آمنوا بها، أو لم يؤمنوا. وعلم تاريخ الدعوة يعايش مدعويه جميعا، عامتهم، وخاصتهم, فهم جمهور الدعوة, وهم الأمة التي جاءت الدعوة لهم.

ومما يتصل بأحداث الدعوة، ووقائعها النفقات المبذولة في إنشاء المؤسسات الدينية كالمسجد، والمدرسة، والمستشفى، والأموال التي تصرف زكاة، أو صدقة، في أحد المصارف الشرعية المعروفة. إن أي نشاط ديني للفرق، والمذاهب، والجماعات المتنوعة، هو جزء من اهتمام تاريخ الدعوة، مهما كان أثرها وجدواها في تنمية المجتمع وتقدمه، أو تخلفه وتقهقره. ولعل التعريف بالرسل والدعاة على مدار التاريخ محل اهتمام رئيسي لعلم تاريخ الدعوة، فهم حَمَلَة الدعوة، ومبرزوها، ومبلغوها، والمدافعون عنها، وهديهم في التبليغ أساس لمن بعدهم. إن علم تاريخ الدعوة يبحث موضوعه في إطار منهج علم التاريخ العام, وبذلك يقدم فوائد جليلة للدعوة إلى الله تعالى في العصر الحديث؛ لأنه يقدم أحداث الماضي رصيدا للحاضر، وتوجيها للمستقبل، ويكفي الدعاة أن يعرفوا الحاضر صورة مكشوفة، ويحيطوا بالإنسان المدعو ظاهرا وباطنا؛ لأنهم بدراسة التاريخ يفهمون نفوس الناس، وأخلاقهم، وخواطرهم، واتجاهاتهم، ومواقفهم التي سيتخذونها إزاء الدعوة التي ستوجه إليهم. والدعاة حين يعلمون ذلك عن الناس يمكنهم اختيار ما يطلبونه من الناس، وطريقة الطلب، ووسيلة الخطاب، ومنهج الدعوة والبلاغ. يقول سيد قطب: "إن تاريخ الدعوة يصور طبيعة الكفر، وطبيعة الإيمان في نفوس البشر، ويعرض نموذجا مكررا للقلوب المستعدة للإيمان، ونموذجا مكررا للقلوب المستعدة للكفر أيضا"1.

_ 1 في ظلال القرآن ج13، ص202.

ويقول: "واجه الموكب الكريم من الرسل البشرية بدعوة واحدة، وعقيدة واحدة، وكذلك واجهت الجاهلية دعوة الرسل مواجهة واحدة، وكما أن دعوة الرسل لم تتبدل، فكذلك مواجهة الجاهلية لم تتبدل، إنها حقيقة تستوقف النظر ويجب الاستفادة بها"1. ومن عناية الله تعالى بالدعوة إلى دينه، أن أنزل قصص الرسل والأنبياء وحيا على رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- متميزة بخصائص القرآن الكريم الثابتة، وهي الصدق، والدقة، وقصد الهداية والخير، في استقامة خالية من العوج، والاضطراب. وبعد تمام الإسلام، وانقطاع الوحي، وانتقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى أخذ العلماء، والدعاة المسلمون، يواصلون رصد حركة انتشار الإسلام، ويسجلون عملية تبليغ الدعوة إلى الناس، في أرجاء العالم المختلفة، على قدر طاقتهم البشرية. وعلى هذا يمكننا -ونحن مطمئنون- أن نقسم دراسة تاريخ الدعوة إلى ثلاثة أقسام رئيسية، لكل منها خصائصه ومزاياه، وهي: القسم الأول: ويتضمن تاريخ الدعوة مع رسل الله قبل محمد -عليهم جميعا صلوات الله وسلامه- ومصدر هذا القسم هو القرآن الكريم بصورة رئيسية, فللقرآن الهيمنة على غيره، وكل ما عداه من مصادر أهل الكتاب، أو من الاكتشافات الأثرية، أو من الكتابات القديمة يجب أن تكون متفقة معه، غير متعارضة مع أصوله، وأساسياته، ويتميز هذا القسم بعدد من المزايا: أ- أخباره كلها صادقة، تلازم الحق والصواب, قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} 2.

_ 1 في ظلال القرآن ج13 ص141، 142 بتصرف. 2 سورة الكهف آية: 13.

وقال تعالى: {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ} 1. وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ} 2. والنبأ وهو الخبر المتعلق بأمر هام، موغل في القدم، مثير للوجدان، والعواطف، والحق هو الصدق الموافق لما وقع3، المطابق للحدث بلا ريب ولا شبهة. ب- ارتباط تاريخ الدعوة خلال هذا القسم بالوحي المنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث لا دخل لبشر في تصوير أحداثه، أو الإخبار بوقائعه من عند نفسه؛ لأنه غيب أمام البشر، ولولا القرآن الكريم لغاب تاريخ هذا القسم مع أهميته، قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} 4. وقال تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} 5. وقال تعالى: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ، أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ، مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} 6. إن قصص القرآن الكريم إخبار عن غيب الماضي، الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، أوحى الله به إلى رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- ليكون منهجا يتبع، وطريقا يسلكه الدعاة إلى الله. وفي الآيات إشارة إلى أن إدراك مضمون هذا القصص لا يكون إلا بوحي الله تعالى.

_ 1 سورة القصص آية: 3. 2 سورة المائدة آية: 27. 3 تفسير النسفي ج2، ص280. 4 سورة يوسف آية: 3. 5 سورة آل عمران آية: 44. 6 سورة ص الآيات: 67-69.

ج- واقعية الأحداث في هذا القسم, فليس منها ما لا يتصوره عقل، أو يتناقض مع الفطرة، وطبيعة الإنسان في تصوير هذا القسم دقيقة، واقعية، انظر إلى الإنسان تأتيه الدعوة، فيتنازع الشر والخير، وينتصر هذا أو ذاك ... أليس ذلك واقعا نقرؤه في سائر القصص؟! لقد قدم هذا القسم التصوير الصادق الواقعي عن إخوة يوسف، وعن ولدي آدم، وعن المؤمنين، وعن الكافرين.... وهكذا. ولو جئنا بقصة قرآنية، وعزلناها عن ذوات أصحابها، وأبعدناها عن زمانها؛ لخيل إلينا أنها قصة من الحاضر؛ لأن الإنسان هو الإنسان، فكأن واقعية الماضي تصوير لما وقع فعلا، وفهم الحاضر يفيد ترابط وقائع الماضي مع حوادث الحاضر، مع تصورات المستقبل، وذلك أكبر برهان على الواقعية لقصص القرآن الكريم، المتضمن للقسم الأول من تاريخ الدعوة. د- سموّ أهداف أحداث هذا القسم، حيث دعوته إلى الفضائل، والبعد عن الرذائل، فهو يدعو إلى التوحيد، وطاعة الله، والتخلق بالخلق الكريم, وحين يعرض لموقف فيه فحش, فإنه يعرضه بصورة مختصرة في شكل مقيت يكرهها من يقرؤها، قال تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} 1. ومن الآية نرى أنها تعرض الجنس في لحظة ضعف، لا لحظة بطولة, ولحظة تحتاج إلى أن يفيق الإنسان منها ليلتزم الواجب، والطهر والمحافظة على حق الله، وحق الناس. هـ- الاكتفاء بالقدر المفيد من الأحداث والوقائع؛ ولهذا نجد أن القصص القرآني لا يروي كل الجزئيات عن الماضي، ولا يورد ما يورده مرتبا مسلسلا، وإنما

_ 1 سورة يوسف آية: 23.

يتخير من الحدث ما يفيد، ويذكر من الوقائع ما فيه نفع الإنسان, فأحيانا يورد اسم المكان، أو يحدد الزمان، أو يوضح عدد الناس، إن كان ذلك يفيد، وأحيانا يترك ذلك كله، ويذكر سواه في حدود الفائدة المطلوبة، والنفع المقصود. ومن هنا فعلينا أن نأخذ الفائدة مما ذكره الله تعالى، ونسكت عما سكت عنه؛ لأنه لا حاجة إليه، وقد تتحدث مصادر أهل الكتاب، أو مصادر غيرهم عن تفصيلات القصة التي سكت القرآن الكريم عنها، وحينئذ تكون تكملة لما يحتاجه الباحث في تاريخ الدعوة، وأخذُها من هذه المصادر عملٌ يؤيده الإسلام ويدعو إليه ما دامت تكمل مسار الحدث، وتتوافق معه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" 1. و شخصيات الرسل، ووظيفتهم البلاغية، تمثل معلما رئيسيا في تاريخ الدعوة؛ لأن الرسول -أي رسول- صناعة ربانية، وصفاته بشرية، مثالية، واقعية؛ ولذلك فهم قدوة للدعاة، وأسوة لهم، على الزمن كله. وحينما يقدم تاريخ الدعوة صفات الرسل، ومزاياهم الخلقية التي تعاملوا بها مع الناس، ومنهجهم في الدعوة، ووعيهم بحقائق الحياة والأحياء، وصدقهم المخلص مع الله، ومع الرسالة، ومع الناس، حينما يفعل ذلك يقدم خدمات جليلة للدعوة في العصر الحديث، وفي كل العصور ... القسم الثاني: ويتضمن تاريخ الدعوة في عصر الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو أهم الأقسام، وأزهاها، بل هو أساس لكل جوانب الدعوة الإسلامية في جميع الأمكنة، وسائر الأزمنة إلى يوم القيامة، ومصادر هذا القسم عديدة على رأسها القرآن الكريم، والسنة النبوية، ومرويات الصحابة والتابعين، وكتب التاريخ.

_ 1 صحيح البخاري بشرح فتح الباري, كتاب التفسير ج6، ص329.

ويتميز هذا القسم بالعديد من المزايا, أهمها: أ- يشتمل على مزايا القسم السابق، فهو وحي منزل لا ريب فيه, يلائم الفطرة، وينحو نحو الكمال، والسمو، والرفعة، بل إنه يعد تاريخا تطبيقيا للدعوات السابقة، أخذ منها موضوعها وأهم قضاياها، وخبر من خلالها أسرار الحياة والأحياء، حتى إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يورد أحداث الماضي ليستفيد أتباعه منها، ومن ذلك ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل فيمن قبلكم كان ينشر لحمه عن عظمه بالمناشير, لا يصرفه ذلك عن دين الله تعالى" 1. ب- يستفيد هذا القسم من خصائص الإسلام، فبسبب كون الإسلام دينا عالميا، وخاتما لسائر الأديان، نجد الدعوة مصبوغة بصبغة العالمية، حيث تلتزم الأصول الدينية الثابتة، وتقدمها لطوائف الناس على تنوعهم، واختلافاتهم بأساليب متعددة تناسب الجميع، وحتى يستمر تناسبها مع الناس نجد القرآن الكريم يخاطب العالم على اختلاف مذاهبه, وأجناسه، وطبقاته ... فبرغم أن القرآن الكريم نزل في مدة محددة، وخاطب أهل مكة والمدينة إلا أن الله -سبحانه وتعالى- بقدرته وحكمته جعل هاتين المدينتين بوتقة جمعت كافة عناصر البشر، وجميع الطبقات، وسائر المذاهب والأديان، حتى إذا ما نزل الوحي يخاطب هؤلاء الناس، ويناقش عقائدهم، ويدعوهم، كل بما يناسبه، كان كمن يخاطب البشرية كلها في كل الأمكنة، وفي كل الأزمنة إلى يوم القيامة. لقد وجد في مكة والمدينة يومذاك اليهود، والنصارى، والمجوس، والدهريون، والذين أشركوا، وعبدة الكواكب، والأصنام، والملاحدة ... كما وجد فيهم الأغنياء والفقراء، والسادة والعبيد، والحكماء والحنفاء والعامة. وهكذا تميزت الدعوة بالعموم الشامل، والخلود المستمر إلى يوم القيامة ...

_ 1 البداية والنهاية ج2، ص59.

ج- تضمن هذا القسم كل شيء عن الإسلام والدعوة إليه، حيث يوجد ذلك بتفصيل في القرآن الكريم، والسنة النبوية، المحفوظينِ بحفظ الله تعالى. قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 1، وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 2, وقد جاء القرآن الكريم مصدقا للكتب السابقة ومهيمنا عليها، فأيد صادقها، وأتم ناقصها، وصحح ما حُرِّف منها، وكمل بما تحتاجه البشرية تبعا لتقدمها وتطورها، ووضع القواعد المساعدة لاحتواء كل جديد، وإعطائه الحكم الشرعي الصحيح، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} 3. وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} 4. ويعتبر هذا القسم هو الأساس للدعوة، فهو يحتوي أحداث القسم الأول ويستفيد منها، ويقدم الدستور الواضح والتشريع الدائم للعصور التالية بصورة محكمة، مفصلة. د- محمد -صلى الله عليه وسلم- رسول الدعوة، وإمام الدعاة، وقدوة المؤمنين، صورة بيضاء، واضحة، ناصعة، يسهل الوقوف على أي جانب من جوانب شخصيته العامة والخاصة مهما دق، حيث فصلت سيرته -صلى الله عليه وسلم- تفصيلا واسعا، واهتم بها كتّاب السير والشمائل حتى سجلوا كل شيء ووثقوه ...

_ 1 سورة الأنعام آية: 38. 2 سورة الحجر آية: 9. 3 سورة المائدة آية: 48. 4 سورة هود آية: 1.

ولقد صور القرآن الكريم حياته -صلى الله عليه وسلم- العملية، وسلوكه مع الناس، وتعبده لربه في السر والعلن، وخلقه، وعمله، فمن أراد أن يرى القرآن مصورا فلينظر إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أراد أن يقرأ محمدا -صلى الله عليه وسلم- مكتوبا فليقرأ القرآن الكريم؛ وذلك لشدة المطابقة بين العمل والتنزيل. ولهذا تعد السيرة النبوية تسجيلا عمليا للدعوة الإسلامية، أصولها، ومناهجها، ووسائلها، وتاريخها خلال هذه الفترة المهمة. هـ- أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- خير أجناد الأرض، وهم خير أمة أخرجت للناس، آمنوا بالإسلام إيمانا كاملا، وخلعوا من قلوبهم حب الدنيا، وملئوها بحب الله ورسوله؛ ولذلك حملوا أمانة الدعوة إلى الإسلام، وبلغوها للعالمين، بعد أن طبقوها على أنفسهم وحياتهم، وقدموا من صور الحب للإسلام، والتفاني في سبيله، ما يعد نشازا في نظر كثير من الناس. هؤلاء الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا جمهور الدعوة في عصرها الأول ... وكانوا عمليا حقل تجارب دقيقا لبيان مدى تجاوب الدعوة الربانية مع الفطرة البشرية، ومعرفة قيمة المنهج المتبع، والأسلوب المألوف ... وقد ثبتت سعادة الناس بالدعوة، وخيرية الدعوة للناس أجمعين. ومن قدر الله تعالى أن الرواة كانوا يتابعون كل شيء في حياة الصحابة اليومية؛ ولذلك نقلوا عن الجميع، وفي كل شئون الحياة، ونشاط الدنيا، فبقيت التجربة بأحداثها، ووقائعها، ونتائجها حية في حركتها، ووضوحها لتؤكد لكل ذي عقل أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، وأنه لن تصلح الأمة الإسلامية في أي عصر إلا بما صلح بها أولها. القسم الثالث: ويتضمن تاريخ الدعوة بعد وفاة رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- وسوف يبقى مستمرا إلى يوم القيامة.

وتدوين أحداث هذا القسم يقصد به ابتداء بيان تدين الناس، ومعرفة مدى قربهم أو بعدهم عن الله تعالى، وتوضيح حركة الدعوة وانتشار الإسلام، وما يتصل بذلك من أمور. ويتكون القسم الثالث من مراحل عديدة، حيث تتميز كل مرحلة بمزايا معينة، وتشغل فترة زمنية محددة تبدأ بعصر الخلفاء الراشدين، وتعيش مع الدول التي ظهرت في العالم الإسلامي بعد عصر الخلفاء إلى يومنا هذا. وعصر الخلفاء يعد امتدادا عمليا للقسم الثاني؛ لقرب أصحابه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعرفتهم بالإسلام الذي تركه الرسول أمانة في أعناقهم، يعيشونه إيمانا وعملا، ويحملونه إلى من وراءهم، ومن بعدهم من الناس. والاستفادة بأحداث هذا القسم مقصودة كذلك؛ لأن التاريخ كله مراحل متصلة يخدم بعضها بعضا، ويتأثر بعضها ببعض. ومن مميزات دراسة هذا القسم ما يلي: أ- في عصور هذا القسم دونت العلوم، وظهرت المذاهب الفقهية، وأصبح الإسلام مدونا في الكتب، مطبقا في الواقع. إن الوقوف على هذه الحقائق يمكن المسلمين في العصر الحاضر من تنقية الإسلام من أي دخيل في الفكر، أو في الأحداث، ويقفون على حقائقه كما نزلت من عند الله تعالى. ب- لم تبق البشرية على بداوتها الأولى، بل شملها التطور الواسع، ودخلت الفلسفات العقلية في سائر المذاهب والفرق، ووجد لكل أمر -مهما كان باطلا- دعاته وزبانيته، الأمر الذي يضاعف العبء على المسلمين ليتمكنوا من مواجهة عنف الباطل بقوة للحق تعادله، في كافة الجوانب، فكرية، أو عملية، أو سلوكية.

ج- تأكد أهل البغي في الأرض، وما أكثرهم، من خطورة الإسلام على وضعيتهم، وفسادهم؛ ولذلك أخذوا في إعداد العدة لهدمه، والقضاء عليه، ولكن الله غالب على أمره. يؤكد هذا حملات هولاكو، والتتار، والصليبيين، وحركات الاستشراق، والتبشير، والاستعمار، وعمليات اتخاذ عملاء من بين المسلمين، وتوجيههم نحو القضاء على الإسلام كلية، أو اكتفاء بعزله عن الحياة، ووضع أتباعه في وضع ذليل ومكانة مهينة، وما زالت أحداث هذه المرحلة تتحرك، وتأتي كل يوم بجديد. إن أحداث هذا القسم لم تحظ بما حظيت به أحداث المرحلتين السابقتين من عناية، ودقة، حيث انقطع نزول الوحي، وأخذ يؤرخ للأحداث عديد من الناس على اختلاف ميولهم، ومذاهبهم واتجاهاتهم. وأيضا أخذ التدوين طابع الأغراض الشخصية، والثقافة الذاتية، حتى يمكن القول: إن الذي كتب هو لقطات من أحد جوانب التاريخ العام، وإن كان يمكن الاستفادة به في تاريخ الدعوة. فبعض المؤرخين يكتب عن الولاة، والقادة، ويسجل توليتهم، والبيعة لهم، وأهم حروبهم، وأشهر أعمالهم، ووفاتهم، والعهد لمن بعدهم. نعم, يحتاج تاريخ الدعوة لمعرفة أخبار الولاة والأمراء، إلا أنه أيضا يحتاج لمعرفة أحداث جوانب أخرى عديدة، كأعمال الحسبة، ونظام الدعوة، وألوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأخبار العلماء، وقصص العامة والخاصة، وسير حركة الدعوة في نفوس الناس، ورصد المواقف العملية إزاء دين الله تعالى، وإظهار البدع والخرافات السائدة مع بيان أسبابها، وطرق التصدي لها، إلى غير ذلك من المعلومات التي توضح حركة التدين، وتبرز المنهج الأمثل للتوجيه والإرشاد. ومن المؤرخين من أخذ يتتبع أخبار الجواري، وأحداث القصور، وما يدور حولها من مبالغات تتصل باللهو والغناء ... منهم من يتتبع ذلك حتى يخيل

لقارئه أن حياة الأمة الإسلامية كانت هي هذه الحياة، مع أن الوقائع العملية للمسلمين كانت غير ذلك. إن حياة المسلمين امتلأت بالعبادة، والجهاد، والدعوة، وقد انتشر الإسلام في العالم كله بواسطتهم، مما يؤكد أن اللهو كان بعض الهنات التي وقع فيها بعض ضعاف الإيمان، وذلك لا يغير الصورة العامة للمجتمع الإسلامي. ومن المؤرخين من يبرز الجانب القتالي في حياة الأمة الإسلامية، بدون ربطه بروح الجهاد، ومشروعيته في الإسلام، الأمر الذي يوحي -للعامة- أن الإسلام انتشر بالسيف ... مع أن الأمر ليس كذلك. إن القوة المادية مع الكفر ضلال كبير، تجعل أصحابها يتصورون مقدرتهم على التحكم في كل الماديات، والمعنويات، بل ويظنون قدرتهم على تكوين العقول، وتوجيه كافة شئون الحياة، هكذا شأن الطغيان في كل زمان ومكان!! إن قوم هود واجهوا هودا بضلالهم هذا، واستمر هو في دعوتهم إلى العقيدة الصحيحة أساس الإيمان، ولم يتأثر بمعارضتهم، ولم يضعف أمام وعيدهم عليه السلام. وللمرء أن يتساءل عن السر في تركيز هود -عليه السلام- على التوحيد والتدليل عليه, ولم يبرز بقية أركان العقيدة كما ركز على التوحيد، وأدلته. والأمر سهل؛ لأن الدعوة الإلهية تركز على الإيمان بالله، وتقدمه على غيره؛ ولذلك ركز هود -عليه السلام- على دعوة التوحيد لشيوع الشرك والأصنام في الناس. وأيضا, فإن القوم لو آمنوا بالله وحده، وخصوه بالعبادة دون سواه، فإن بقية الأركان تأتي تبعا، وبصورة تلقائية. ومع ذلك, فإن هودا -عليه السلام- ذكرهم بالرسالة في قوله: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} , وذكرهم بالآخرة بقوله: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وعلى هذا, فالدعوة إلى التوحيد شاملة لكل أركان العقيدة ... الركيزة الثانية: المترفون هم أعداء الدعوة: أدى الترف بـ "عاد" إلى الكبر، والاستعلاء، وتصوروا أنفسهم فوق الناس أجمعين، وأبوا أن يكون هود -عليه السلام- رسولا إليهم. ووصل بهم الضلال إلى السخرية بهود ودعوته، واتهموا عقله وخلقه، وتمسكوا بما هم عليه من كفر، وأخذوا يجادلون في آلهتهم بلا دليل من العقل أو الشرع، معتمدين على قوتهم، وجاههم، وغناهم، وعلى ما لهم بين الناس من تقدير. إن الذين واجهوا هودا بالرفض، والجدل، هم الملأ، والمراد بهم علية القوم الذين امتلأت خزائنهم بالأموال، وملئوا المجالس حديثا، وريادة، وتوجيها، وملئوا عقول العامة بالضلال والفساد. إن تشريع الجهاد كان لرد الظلم، وإزالة الطاغوت، ومنع استبداد الجاهلين، وإخافة أعداء الله في الأرض، وذلك من أجل أن يعيش الناس -كل الناس- أحرارا، في تعبدهم، وتفكيرهم، وأعمالهم، وفي مختلف أنشطتهم. وكل مطلع على تشريع الجهاد، وتطبيقاته الإسلامية، يرى سمو الإسلام, وحرصه على الإنسان، وصيانته لكافة حقوقه بواسطة هذا الجهاد. إن أبناء البلاد المفتوحة لم يجبروا على اعتناق الإسلام، والجزية لا تمثل لهم إكراها، فهي مبلغ زهيد يؤخذ من مقاتليهم مقابل إعفائهم من الزكاة، والصدقات، والكفارات، التي يؤديها المسلمون، وأيضا في مقابل إعفائهم من كثير من الأعمال الشاقة كالحماية, والحراسة، والدفاع. وإن أداء الجزية يصون لدافعيها كافة الحقوق كالمسلمين تماما. إن أبناء البلاد المفتوحة لما رأوا الفاتحين يسيرون على مبادئ الحق والعدل، والإنصاف، وشاهدوا نظام الإسلام يعمل عمله في نشر الأمن، والرفاهية، والمحبة؛ لبوا دعوة الإسلام، ودخلوا في دين الله أفواجا، وحملوا بأنفسهم راية الجهاد

ورحلوا بها إلى الممالك النائية، كالأندلس, وجنوب أوروبا، ووسط إفريقيا، وغربها، وبلاد فارس، وشبه الجزيرة الهندية ... وغيرها. إن الحقائق تشير إلى أن الإسلام انتشر بمزاياه، وخصائصه، ولم تكن وسيلته إلا الإقناع بالحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، التي لا بد منها قبل البدء بالقتال. وهكذا اتخذ المؤرخون مناهج شتى، وعذرهم أن تدوين التاريخ لم يكن محدد المعالم، أو متخصص الاتجاهات، وإنما ترك لاجتهاد صاحبه ليدون ما يرى ويرغب. وقد اقتضت طبيعة التطور العلمي ظهور علوم التاريخ المتخصصة، بجوار علم التاريخ العام، وكان منها علم تاريخ الدعوة الذي ظهر مع بروز المؤسسات العلمية والعملية للدعوة. واحتاج هذا التطور إلى إعادة النظر في الأحداث المروية، وبخاصة ما لها صلة بالدعوة لتصديق ما صح منها، ورد ما عداه. ويجب مع هذا العمل أن يأخذ عالم الدعوة الحذر، حين يقرأ أحداث هذه المرحلة، ويسلك في حذره منهجا علميا يساعده على الحق، وتصحيح ما يحتاج إلى تصحيح. وسبب الحذر وجود دخلاء شوهوا كثيرا من أخبار المسلمين؛ ليفقدوا المسلمين الثقة في ماضيهم، ورجالاتهم. ومن أمثلة هذا التشويه نقل الخلاف بين علي ومعاوية -رضي الله عنهما- من غير تدقيق في صحة الأخبار، والسكوت عن المؤامرات الخفية التي لعبت دورها في إذكاء نار الفتنة وتوسعة دائرة الخلاف، وإغضاء النظر عن إظهار علة ما ذهب إليه كل واحد من الصحابيين الجليلين.

ومن أمثلة ذلك تصويرهم الحجاج بن يوسف الثقفي سفاحا يحب الدم، وينشر الإرهاب، مع أنه كان يعمل في إطار ما في عنقه من بيعة، لقد اجتهد في هذا الإطار وربما أخطأ, ودراسة كافة الأحداث وملابسات الوقائع ربما تنصفه. ومن أمثلة هذا التشويه ما رواه المؤرخون عن نكبة البرامكة التي أوقعها الخليفة العباسي هارون الرشيد بهم عام 187هـ، ويذكرون لها أسبابا لا يخجلون من سذاجتها وتفاهتها، ومع ذلك نراها تنتشر على ألسنة أكثر المؤرخين. يقولون: إن هارون الرشيد أدمن شرب الخمر مع أخته العباسة، ووزيره الأول جعفر بن يحيى البرمكي، وحتى يجعل اللقاء بين أخته وبين جعفر شرعيا عقد بينهما عقدا صوريا، واشترط على جعفر أن لا يطأها، لكن جعفر نقض شرط هارون، فدخل بالعباسة، وولدت له ولدا، سماه محمدا، أسكنه مكة، ورباه بها، فلما علم الرشيد بذلك غضب غضبا شديدا، ونكب البرامكة نظير ما فعله جعفر1. وهذه القصة تحمل في طياتها ما يكذبها: - فكيف يبحث هارون عن مشروعية الجلوس، مع إجازته شرب الخمر, وكلاهما حرام؟ - وكيف يعقل أن يتصور هارون الرشيد عقدا للزواج يفيد الجلوس دون سواه؟ ولم العقد؟! - وهل يصعب على الخليفة أن يضع أخته تحت رقابة من الجند والخدم, يحفظ له منها ما يريد؟ - وكيف يغيب عن الرشيد أمر المولود، ورحيله، وتربيته في مكة، وهي جزء من الدولة؟

_ 1 البداية والنهاية، ج10، ص189-191 بتصرف.

- وأيضا كيف نشأ الغلام؟ وكيف تربى؟ وما أهم أعماله؟ وما صلته بأخواله وأعمامه؟ ومتى مات؟ لم يرد لذلك ذكر مع أنها من الأمور التي لا تغيب، بل هي من القضايا التي تشتهر بين الناس. - ومع هذا, فإن كانت الجريمة من فعل جعفر، فلم معاقبة البرامكة جميعا، وقد كانوا أحظى الناس عند الرشيد، وبينه وبينهم علاقات عديدة، ومجالسات كثيرة طيبة, وخدماتهم للدولة لا تنكر؟ كل هذا يؤكد أن القصة غير صادقة, ووضعها تم لتشويه أصحابها لما لهم في تاريخ الإسلام والمسلمين من منزلة. فـ "العباسة" صاحبة فضل ودين، جدها الأعلى ترجمان القرآن "عبد الله بن عباس"، وهي بنت خليفة، وأخت خليفة قريبة عهد ببداوة العرب، وفطرة الدين، ولم تعرف البيئة يومذاك عوائد الترف، ومراتع الفواحش, ومتع الهوى. فأين يطلب الصون والعفاف إن ذهبا عنها؟ وأين توجد الطهارة والدين إن فقدا من بيتها؟ و"هارون الرشيد" الخليفة، قام في الناس بالعدل، وكان يجالس العلماء والفقهاء، ويؤم المصلين في المسجد الجامع، ويصلي كل يوم مائة ركعة نافلة ما لم يصب بعلة، وكان دائم الذكر، وقراءة القرآن، كان يغزو عاما ويحج عاما، فإذا حج أحج معه مائة من الفقهاء وأبنائهم، وإذا غزا أحج ثلاثمائة من ماله بالنفقة السابغة والكسوة التامة، وكان شديد الخوف من الله، يراقبه في كل أعماله وبخاصة في أموال المسلمين، طلب مرة أكل لحم جزور، ثم نسيه ... وذات يوم تناوله، فقال له جعفر: إن هذا اللحم تكلف أربعة آلاف درهم؛ لأنه كان يجهز يوميا ولا تأكله حتى بلغ جملة ما صرف هذا القدر ... فلما سمع ذلك بكى، وتألم كثيرا، وأمر برفع الطعام من

أمامه، وقال: هلكت يا هارون.. وظل على بكائه طوال نهاره لا يقطعه إلا الصلاة، وفي نهاية النهار دخل عليه قاضيه أبو يوسف، فلما علم بالمسألة سأله عن مصير اللحم الذي كان يطبخ, فلما علم أن الفقراء كانوا يأكلونه قال لهارون: أبشر يا أمير المؤمنين بثواب الله فيما صرفته من مال أكله الفقراء، وبما رزقك من خشية وخوف, فقد قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} 1. وكان الرشيد يحكم رعيته بشرع الله، في أمة واسعة لا تغيب الشمس عن ديارها، وهو الذي أمر بجلد أبي نواس، وحبسه لما ثبت انهماكه في الشراب2. فهل تصدق هذه القصة مع شخص كهذا؟ أين له الوقت بعد كل هذا ليقضيه في السهر والشراب؟ ولو تصورنا صدق القصة، هل كان المؤرخون يهملونها، ولا يذكرون شربه الخمر إلا في هذا المجال؟! وأين أعداؤه، وهم كثيرون ... ولِمَ صمتهم عنه في هذا الحدث الخطير؟ و"جعفر" سيد البرامكة، اشتهر بسداد الرأي والحكمة مع الخلفاء قبل الرشيد، ولم يذكر عنه ما يسيء، فكيف به يتحول إلى عربيد، مدمن للشراب، عاصٍ لله تعالى؟ 3.

_ 1 سورة الرحمن آية: 46. 2 البداية والنهاية لابن كثير ج10، ص213. 3 يرى ابن خلدون أن نكبة البرامكة سببها الخوف على الدولة منهم، فلقد تغلغلوا في كل جوانبها، وملكوا كل ما فيها، وذاع صيتهم، ودانت لهم الرعية حتى صار الدعاء لهم، والأمل فيهم، وصاروا يخصون ذويهم بوظائف الدولة جميعا، وقد وشى الواشون بهم إلى هارون، وخوفوه من طموحاتهم، وأقنعوه بقوتهم، وحرصهم على مناصبهم، وزينوا له ذلك فأوقع بهم جميعا في ضربة واحدة، وولى العرب مكانهم، حماية للدولة، وخوفا من ضياع الخلافة، يقول ابن كثير: "ومن العلماء من أنكر ما قيل عن البرامكة والعباسة وهو الحق" ج10 ص189, البداية والنهاية.

إن هذه القصة تندرج في إطار حملة التشويش التي يقوم بها أعداء الإسلام لابسين ثوب العلم، رافعين لواء البحث والحياد؛ لينجحوا في كيدهم ومكرهم، ويقطعوا أبناء الأمة الإسلامية المعاصرة عن ماضيهم الزاهر، ويحرموهم من الاستفادة بدروسه، وعبره. ولذا وجب الحذر ... ومع الحذر يجب اتباع منهج علمي سليم يساعد في فهم الحدث، وتحليله، والوقوف على مدى صحته، وبخاصة أن أحداث التاريخ لم ترو مسندة كرواية الحديث النبوي وقد باشر التدوين كل من أراد من المسلمين، أو من أصحاب المذاهب، أو من أعداء الإسلام، بلا أساس يذكر، أو مسئولية تحدد؛ ولذا ظهر الدس، وكثر الدخيل. ومن أساسيات منهج تتبع تاريخ الدعوة ما يلي: أولا: الاهتمام بالإسناد بقدر الإمكان، فبواسطة الإسناد نعرف قيمة الخبر، ومدى صحته. ولو التزم النقلة بالإسناد ابتداء ما تمكن أحد من الدس، ولخلا التاريخ الإسلامي من الإسرائيليات. ولو التزموا بالإسناد لسهل تمييز الأصيل من الدخيل. ونظرا لأن المؤرخين لم يهتموا بالإسناد فإن المطالبة به الآن أمر شاق؛ ولذلك نرى الاهتمام به في حدود الممكن، وفي القضايا الهامة التي لها أثرها وخطرها، مع إخضاع الوقائع التي لا يمكن إسنادها للتحليل، ومعرفة اتجاهات الراوي، وقياس مدى تناسق الرواية مع المجال التي سيقت فيه. ثانيا: الالتزام بالحياد، والموضوعية، والنظر للحدث ونقله كما حدث وروي؛ لأن تدخل المزاج الشخصي، والتأثر بالتكوين الثقافي، أو الديني، يوجه الحديث وجهة معينة تؤدي لنتائج مغايرة.

إن كتابة التاريخ أمانة، والحياد معه ضرورة، وتصوير الأحداث كواقعها التزام بالصدق، وأداء للواجب. ولنا في القرآن الكريم أسوة, يقول الله تعالى للمؤمنين يوم أحد: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} 1, وفي هذه الآية تصوير صادق لواقع المؤمنين المؤلم، وفي يوم حنين يقول الله للمؤمين: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} 2. بل إنه -سبحانه وتعالى- يقول للمؤمنين يوم بدر وهو يعلم خواطرهم وأمانيهم: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} 3. هكذا، وبكل صدق وصراحة، وبدون أدنى مجاملة يجب أن تكون رواية الأخبار والوقائع. ثالثا: إخضاع الأحداث المروية للحقائق الدينية الثابتة في القرآن الكريم، والسنة النبوية، وبخاصة إذا كان للحدث اتصال بهذه الحقائق. فحين يكون الخبر عن القرآن، أو عن السنة، أو عن الرسول، أو عن الصحابة, يجب رد الأحداث المروية إن خالفت ما وجب دينيا في هذا المجال، وذلك مثل ما ورد في حادثة الغرانيق، وقصة زواج النبي -صلى الله عليه وسلم- من زينب بنت جحش، وتصوير الصحابة بسوء، بناء على أحداث وقعت في عصرهم.

_ 1 سورة آل عمران آية: 152. 2 سورة التوبة آية: 25. 3 سورة الأنفال آية: 7.

فهذه الأحداث وأمثالها كثير، يجب ردها لأنها تخالف الحقائق الدينية، التي كان الرسول وأصحابه أحرص عليها، فهم مبلغوها، وأهلها. رابعا: عدم الاكتفاء بظاهر الحدث، والاهتمام بالكشف عن خلفيته وأسراره، فقد تصدق الواقعة إلا أن معرفة دوافعها، وظروفها، يجعلها ممكنة، ومثال ذلك ما جاء في قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى، أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى، وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى، وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى، كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} 1. فالآيات تعتب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبوسه وانصرافه عن ابن أم مكتوم -رضي الله عنه- الذي جاءه يسأله، في الوقت الذي كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه يتصدى لدعوة صناديد قريش المنصرفين عن الدعوة، وهم: عتبة، وشيبة ولدا ربيعة، وأبو جهل، والعباس، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة. هذا هو الحدث، لكن معرفة أسباب النزول يؤدي إلى فهم الواقع، وتلمس العذر لرسول الله، ويخفف أمر العتاب الموجه إليه. فرسول الله تصدى للقوم إخلاصا للدين، وأملا في انتصار الإسلام، وابن أم مكتوم لم يختر الوقت المناسب، وله عذره بسبب عماه، ونزول الآية عتاب رقيق للرسول، يؤسس معلما في حركة الدعوة {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} فالناس سواسية، والهدى هدى الله، ولكل إنسان فهم وواقع يجب مراعاته. وبهذا الفهم يسهل الأمر، ويتضح المراد ...

_ 1 سورة عبس الآيات: 1-12.

خامسا: ضرورة إخضاع الأحداث واتجاهاتها لسنن الله العامة في الحياة والأحياء، وسنن الله تعالى موجودة في القصص القرآني, حيث قص الله تعالى الأحداث وقدره معها، وذكر سبحانه ما أجراه فيها على وجه مطرد، ومن هذه السنن ما نراه في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} 1. {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} 2. {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} 3. {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} 4. {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} 5. {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} 6. {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} 7. وبتطبيق هذه السنن الإلهية وأمثالها يمكن فهم الأحداث, وتفسيرها وتصور وقوعها، وتميز الحق من الباطل فيها.

_ 1 سورة الأنعام آية: 112. 2 سورة فاطر آية: 43. 3 سورة الشورى آية: 20. 4 سورة النساء آية: 123. 5 سورة الأعراف آية: 128. 6 سورة الإسراء آية: 16. 7 سورة البقرة آية: 257.

سادسا: ضرورة قياس الأحداث التاريخية على واقع الناس، فما جاز تصور وقوعه جاز تصديقه، وما استحال حدوثه استحال تصور وقوعه تاريخيا. وفي ذلك نقرأ توجيه الله تعالى حيث يقول سبحانه: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} 1، وقد نزلت هذه الآية في إطار حادثة الإفك، وفيها توجيه بقياس ما يشاع على عامة المؤمنين، فإن تصوروا وقوع الحدث على أنفسهم، فلهم أن يصدقوا وقوعه من غيرهم, وإن لا فلا. يروي ابن إسحاق أن أبا أيوب الأنصاري قالت له امرأته: "يا أبا أيوب, أما تسمع ما يقول الناس في عائشة رضي الله عنها؟ ". قال: نعم، وذلك الكذب، أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت: والله ما كنت لأفعله. قال: "فعائشة والله خير منك"2. فنجده -رضي الله عنه- يرد الشائعة بعد أن قاسها على نفسه وبيته، فلما رآها تمتنع عليها حكم بامتناعها عمن هي أفضل منها، وعن مثلها في نفس الوقت. إن أخبار القسم الثالث من تاريخ الدعوة في أمس الحاجة إلى اتباع المنهج الصحيح في تنقيتها وتصحيحها. يقول الأستاذ محمد قطب: "كتابة التاريخ البشري من زاوية الرصد الإسلامي ضرورة لازمة للأمة الإسلامية، وليست نافلة يمكن إسقاطها، أو الاستغناء عنها، والعلماء المسلمون مدعوون للقيام بنصيبهم في هذا الجهد الشاق؛ ليبنوا للمستقبل الطريق الصحيح"3.

_ 1 سورة النور آية: 12. 2 السيرة النبوية ج3، ص224, ط دار التراث. 3 كيف نكتب التاريخ؟ ص32.

وإني هنا أبذل محاولة على قدر جهدي لأكتب في تاريخ الدعوة, سائلا المولى العون والتوفيق. وتاريخ الدعوة طويل يمتد من أول حياة البشرية إلى يوم القيامة؛ ولذلك فهو يحتاج لجهد مئات العلماء، يكتب كل منهم في مرحلة من مراحله، أو يختار جزئية في مرحلة ليساهم في البناء الكبير، ويا حبذا لو تواصى العلماء في كتاباتهم باتباع منهج موحد ليكمل بعضهم بعضا، وليرتفع البناء لبنة لبنة. وإني لأرجو أن أكون واحدا من البنائين العلماء ... والله ولي التوفيق،،،

القسم الأول: دعوات الرسل عليهم السلام

القسم الأول: دعوات الرسل عليهم السلام مدخل ... القسم الأول: دعوات الرسل "عليهم السلام" تمهيد: أكرم الله الناس وكلفهم بعبادته، وسخر لهم كل ما خلق، وتفضل عليهم برسالاته المتتابعة حتى لا يحرموا من توجيه الله، ويعيشوا سعداء بالوحي المنزل، الذي يعرفهم بالصراط المستقيم، ويربط لهم الدنيا بالآخرة. ومن عظيم كرم الله تعالى أن قدر للإنسان الأول أن يكون رسولا يوحى إليه، هو آدم "عليه السلام" أبو البشر والناس أجمعين، فمنه خرجت زوجته حواء، ومن آدم وحواء تناسل الناس وعمر الكون، وتكاثرت القبائل والشعوب، وتكونت الأوطان والأمم. ومن اللحظة الأولى لوجود آدم "رضي الله عنه" كان وحي الله، وكان دينه، وكانت ضخامة المسئولية التي تحملها الإنسان، والتي تلزمه بالتعامل مع العوالم العديدة التي خلقها الله تعالى. إن هذا التكريم يؤكد تهافت المذاهب الوضعية، التي تجعل الإنسان متطورا من غيره، وتلحقه بعالم الحشرات والحيوان. كما يؤكد ضلال المذهب النفسي الفرويدي، الذي يصور الإنسان كيانا غارقا في الجنس من بدء الحياة إلى نهايتها. ويؤكد كذلك على بعد المذاهب المادية الجدلية عن الحق؛ لأنها تهمل الإنسان، وتجعله كيانا خاضعا لتأثيرات المادة، وقوانينها الحتمية، بعيدا عن الإيمان بالحق، وتعاليم الله. وتستمر عناية الله بالناس, إذ يتفضل عليهم برسالة جديدة كلما احتاجوا إليها، بأن تختفي معالم الرسالة السابقة، أو يتقدم الإنسان فكريا، وعلميا، وحضاريا

إلى درجة تصير بعدها الرسالة السابقة قاصرة عن تحقيق غايات الدين ومراميه، أو تنقسم الأمة إلى جماعات فتحتاج كل جماعة إلى رسالة تناسبها. وهكذا تعددت الرسالات، وكلها تبين عناية الله بالناس، وتكريمه لهم على الزمن كله. والرسل -عليهم الصلاة والسلام- هم خير البشرية، وأصفاهم نفسا، وأزكاهم عقلا، وأسرعهم إيمانا، وأحسنهم طاعة واستقامة. اصطفاهم ربهم -سبحانه وتعالى- وهو: {أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} 1، وأمدّهم بعلم لا يعلمه سواهم، يقول تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} 2. وأحاطهم بالأمان والحفظ، قال تعالى: {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} 3. وأفاء عليهم بالنعم الوافرة، والهداية السابغة، واختارهم لرسالته التي هم بفضل الله أحق بها وأهلها، قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} 4. ويقول سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} 5. وجعلهم سبحانه وتعالى مصدر الهداية، ومناط الأسوة والقدوة، يقول تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} 6.

_ 1 سورة الأنعام آية: 124. 2 سورة الجن آية: 26، 27. 3 سورة الصافات آية: 181. 4 سورة مريم آية: 58. 5 سورة الأنعام آية: 89. 6 سورة الأنعام آية: 90.

وكلف الناس بطاعتهم والاستقامة على هديهم، وتوجيهاتهم، يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} 1. إن هذه الصفوة المختارة للرسالة أدت أمانة الدعوة بالبلاغ الواضح، والخطاب السهل، والحوار الهادئ، لم يتكلفوا، ولم يتحدثوا بكلام غير مفهوم، يوضح ذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم- مبينا حالته وأحوال إخوانه الرسل السابقين، فينطق بقول الله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ، وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} 2, هذه الكوكبة العظيمة من الرسل عانت كثيرا من العنت والمشاق، وواجهت عديدا من المعارضات والأعداء، وفي كل الحالات أدت ما كُلفت به؛ ولذلك كتب الله لرسله النصر دائما، يقول تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} 3. ومع إيماننا بأن الله أرسل عديدا من الرسل لا يحصيهم إلا هو سبحانه وتعالى، فإني سأكتفي بالبحث في الدعوات التي ذكرها القرآن الكريم، وأترك ما سكت عنه حتى لا نضرب في التيه، ونعيش وسط الأساطير والأوهام. وأول الأنبياء آدم -عليه السلام- أوحى إليه الله قبل أن يولد له؛ ولذا كان الوحي إليه تعليما لما يحتاجه وبنوه في معاشهم، وحياتهم على الأرض، واستمر أبناؤه يتعلمون منه، ويطيعونه، ولم يشذ منهم إلا قابيل على نحو ما سنذكره؛ ولذلك يرى العلماء أن آدم -عليه السلام- لم يكلف بالدعوة؛ لأن أبناءه كانوا على الإسلام، واستمروا عليه بعد أبيهم، حتى ظهرت الأصنام بعده بعشرة قرون تقريبا،

_ 1 سورة النساء آية: 64. 2 سورة ص آية: 86-88. 3 سورة الصافات الآيات: 171-173.

فبعث الله نوحا -عليه السلام- بدعوة الحق والهدى، فآدم أول الأنبياء، ونوح أول الرسل الدعاة. وسوف أتتبع الأحداث، مكتفيا بتاريخ الرسل الذين ذكر القرآن الكريم أسماءهم، وسأخص كلا منهم برقم يتسلسل حتى أصل إلى رقم "24" أربعة وعشرين. ومن المعلوم أن القرآن الكريم أورد أسماء خمسة وعشرين رسولا، جمعهم قول الناظم: في تلك حجتنا منهم ثمانية ... من بعد عشر ويبقى سبعة وهم إدريس، هود شعيب صالح وكذا ... ذو الكفل, آدم, بالمختار قد ختموا وسيكون حديثي عن تاريخ دعوة الرسل متضمنا الموضوع والأحداث والمواقف, مع التعليق عليها بما يفيد الدعوة، أو يقدم للدعاة منهجا وطريقا، أو يساعد في هداية وخير للناس. ولن أشير إلى الأحداث والوقائع التي لم يتكلم عنها القرآن الكريم، ولم تتناولها السنة النبوية إلا حين الحاجة إليها، وفي إطار الضوابط العلمية التي تجعلها مقبولة ونافعة. ولن أقدم تاريخ دعوة كل رسول مرتبة الأحداث حسب تتابع وقوعها؛ لأن ذلك أمر غير ممكن، فوق أنه يقدم أحداثا لا تفيد الدعاة في حركتهم بالإسلام. وحينما أحتاج لتفسير وبيان لنص قرآني، أو حديث نبوي، فسوف أرجع -بإذن الله تعالى- إلى المصادر الرئيسية المعتمدة؛ لأتجنب الإسرائيليات الدخيلة، والموضوعات الشاذة. وبعد انتهائي من الحديث عن قصص الأنبياء، سأجمل القول في الجوانب المشتركة في الدعوات الإلهية، سواء كانت في الأصول، أو في المناهج، أو في الوسائل، أو في الأساليب، أو في الأحداث، أو في الأشخاص، أو في غير ذلك لما فيها من فائدة للمسلمين. إن اشتراك الدعوات في مسألة واحدة دليل على تجذر هذه المسألة في حياة الناس، ولا بد أن يستفاد بها في مسار الدعوة الإسلامية. وأسأل الله تعالى البصيرة والتوفيق,,,,

آدم عليه السلام

آدم عليه السلام مدخل ... 1- آدم عليه السلام: آدم -عليه السلام- أبو البشر، خلقه الله تعالى أولا، ومنه خلق حواء ثانيا1، وبث منهما بعد ذلك رجالا كثيرا ونساء، فتناسل الناس، وكثرت الذرية، ووجدت القبائل والشعوب، وتعددت الأمم والأوطان. ولقد استخلف الله آدم في الأرض، وتوارث بنوه هذه الخلافة، وحملوا أمانة الدين، وصاروا عنها مسئولين إلى يوم القيامة. وهكذا بدأت الإنسانية موحدة مؤمنة، بوجود آدم -عليه السلام- حيث كلمه الله، وعلمه قبل أن يولد له، وسار أبناؤه بتوجيهاته مؤمنين، ولم يظهر الشرك في الناس إلا بعد آدم بعشرة قرون. وأغلب المؤرخين وكتاب السير يبدءون بتاريخ نوح -عليه السلام- لأنه حارب الشرك، ودعا إلى التوحيد وعبادة الله تعالى، ويرون أن آدم -عليه السلام- أرسل لأبنائه فقط، أما نوح -عليه السلام- فإنه أرسل إلى الناس2, وفيهم المشركون وعبدة الأوثان والأصنام. ولكني آثرت أن أبدأ الكتابة في تاريخ الدعوة بآدم -عليه السلام- تقديرا لأبوته للبشرية كلها، وحفاظا على شمولية البحث في تاريخ الأنبياء، وبيانا لبعض الحقائق التي صارت جزءا من حركة الحياة والأحياء، وليعلم الإنسان حقيقته، وواقعه، وعدوه، وصاحبه، ومصيره الأخير.

_ 1 سمي آدم باسمه هذا؛ لأنه تكون من أديم الأرض، وسميت حواء باسمها؛ لأنها خرجت من حي. 2 تسببت الأحداث في أن تكون رسالة نوح -عليه السلام- للناس جميعا؛ لأن معارضيه أغرقهم الطوفان ولم يبق إلا أتباعه فقط.

وشجعني على هذه البداية أن الإسلام يربط الأمة الإسلامية بأبيهم آدم كثيرا, حيث يعرفهم بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} 1. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} 2. ونادى الله الناس ببنوتهم لآدم، يقول تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} 3. {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} 4. بل إن الله -سبحانه وتعالى- ربط المسلمين عمليا بأبيهم آدم من خلال تخصيص يوم الجمعة للمسلمين، وتعيينه للخطبة والصلاة؛ لأنه يوم آدم عليه السلام، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أسكن الجنة، وفيه أهبط منها، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه" 5. فيوم الجمعة هو يوم آدم، وهو عيد للمسلمين، يعيشه الناس فيربطون البداية بالنهاية، ويستعدون بالعبادة والإخلاص لقيام الساعة، سائلين الله كل خير، عسى أن يكون دعاؤهم ساعة الإجابة. وسأجعل حديثي عن آدم في نقاط، بحيث تعطي كل نقطة فكرة محددة، على أن تقدم سائر النقاط متعاونة السيرة, متكاملة كما جاءت في القرآن الكريم، وإن لم تكن أحداثها متسلسلة، والله الموفق ...

_ 1 سورة النساء آية: 1. 2 سورة الحجرات آية: 13. 3 سورة الأعراف آية: 31. 4 سورة الأعراف آية: 27. 5 الفتح الرباني، باب فضل الجمعة ج6 ص3.

النقطة الأولى: خلق آدم عليه السلام

"النقطة الأولى": "خلق آدم عليه السلام" قضت إرادة الله أن يجعل في الأرض خليفة، يعمرها، ويسوسها، فأخبر ملائكته الذين خلقوا قبل آدم, قائلا لهم: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} 1. والخلافة في الأرض مقام كريم، يجعل الخليفة موصولا بمن استخلفه، وتتطلب خليفة كفؤا، يتحمل المسئولية، ويحافظ على الأمانة؛ ولذلك استشرفت الملائكة هذا المقام، ورجته لنفسها، وخافت أن يتولى الأمر من يفسد ويقتل؛ ولذلك قالوا لله تعالى: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} 2. ومصدر الخوف عند الملائكة ما رأوا من فساد الجن قبل ذلك، أو لأنهم علموا أن عنصر الطين في الإنسان ليتغلب فإنه يظلم ويدمر، أو علموا بإلهام الله لهم بعدما جرت مشيئته بذلك3. وقالت الملائكة ما قالوه في عبودية خاشعة، لا اعتراض فيه البتة؛ ولذلك طمأنهم الله، وقال لهم: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} 4. وهكذا أعلمهم الله بسبب اختياره آدم وذريته للخلافة، وكشف لهم حكمته في ذلك. يوضح ابن كثير هذا وهو يبين معنى الآية قال: "أي: أعلم المصلحة في خلق هذا الصنف ما لا تعلمون، فإني سأجعل فيهم الأنبياء، وأرسل فيهم الرسل، وأوجد فيهم الصديقين، والشهداء، والصالحين، والعباد، والزهاد، والأولياء، والدعاة

_ 1 سورة البقرة: 30. 2 سورة البقرة آية: 30. 3 انظر تفسير ابن كثير ج1، ص70، 71. 4 سورة البقرة آية: 30. Results النقطة الأولى: خلق آدم عليه السلام "النقطة الأولى": "خلق آدم عليه السلام" قضت إرادة الله أن يجعل في الأرض خليفة، يعمرها، ويسوسها، فأخبر ملائكته الذين خلقوا قبل آدم, قائلا لهم: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} 1. والخلافة في الأرض مقام كريم، يجعل الخليفة موصولا بمن استخلفه، وتتطلب خليفة كفؤا، يتحمل المسئولية، ويحافظ على الأمانة؛ ولذلك استشرفت الملائكة هذا المقام، ورجته لنفسها، وخافت أن يتولى الأمر من يفسد ويقتل؛ ولذلك قالوا لله تعالى: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} 2. ومصدر الخوف عند الملائكة ما رأوا من فساد الجن قبل ذلك، أو لأنهم علموا أن عنصر الطين في الإنسان ليتغلب فإنه يظلم ويدمر، أو علموا بإلهام الله لهم بعدما جرت مشيئته بذلك3. وقالت الملائكة ما قالوه في عبودية خاشعة، لا اعتراض فيه البتة؛ ولذلك طمأنهم الله، وقال لهم: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} 4. وهكذا أعلمهم الله بسبب اختياره آدم وذريته للخلافة، وكشف لهم حكمته في ذلك. يوضح ابن كثير هذا وهو يبين معنى الآية قال: "أي: أعلم المصلحة في خلق هذا الصنف ما لا تعلمون، فإني سأجعل فيهم الأنبياء، وأرسل فيهم الرسل، وأوجد فيهم الصديقين، والشهداء، والصالحين، والعباد، والزهاد، والأولياء، والدعاة

والأبرار، والمقربين، والعلماء العاملين، والمحبين لله ورسله، المتبعين لوحي الله تعالى"1. عرف الله تعالى ملائكته بهذا الخليفة، وهو يكونه أمامهم مرحلة، مرحلة. ففي المرحلة الأولى صنعه بشرا من طين وقال لهم: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} 2, فرأوا العنصر المادي، وشاهدوا الصورة البشرية لآدم، ثم عرفهم الله تعالى بالمرحلة الثانية، وأمرهم بتعظيمه، والترحيب به حينما يرون نفخة من روح الله تعالى تدب في هذا الجسد المادي، وقال لهم: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} 3. وهكذا تكاملت الإنسانية في آدم -عليه السلام- وبدأت البشرية مسيرتها في الأرض. وقد اتحد العنصران في آدم -عليه السلام- فلم تبق النفخة العلوية هائمة في عالمها السامي، ولم يستمر الطين جسدا جامدا لا يتحرك، وإنما كونا معا إنسانا ماديا ينمو، ويدرك، ويفكر، ويستفيد بكل ما سخر الله له. وقد أبقى الله تعالى هذا التمازج بين الجسد والروح، سرا من أسرار حكمته، بحيث لا يستطيع إنسان ما إدراك كيفية هذا التمازج، أو اكتشاف صور التفاعل فيه. ومن عجيب حكمة الله تعالى أن هذا التمازج يستمر ما دام لصاحبه في الدنيا حياة، فإذا جاء الأجل في لحظة لا يعلمها إلا الله يأمر سبحانه وتعالى بانفصال العنصرين؛ لترتفع الروح إلى بارئها، ويعود الجسد ترابا مرة أخرى. وبعد تمام خلق آدم أخرج الله له من ضلعه الأيسر زوجته حواء؛ ليكونا أول أسرة بشرية، يجمعها الترابط، وتتمتع بالمودة والرحمة، ويشعر كل طرف بدور

_ 1 تفسير ابن كثير ج1، ص69. 2 سورة ص آية: 71. 3 سورة الحجر آية: 29.

الآخر معه، فآدم -عليه السلام- يدرك دور حواء في مؤانسته، وهو -عليه السلام- الموحى إليه، ومهمته مواجهة الصعاب والمشاق؛ لتعمير الأرض بخلافة الله التي اختصه بها، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} 1. وعلى الإنسان أن يتذكر دائما أنه يرجع في وجوده وتكوينه، إلى أبويه "آدم وحواء"، يقول صلى الله عليه وسلم: "كلم لآدم, وآدم من تراب" 2، وقد خلقت حواء من ضلع آدم؛ ولذلك فطرت على التعلق بالرجل وخلق الرجل من الأرض, فجعل ميله إلى الأرض3، ولا غرابة في هذا، فالفطرة ترتبط بأصلها، وتسعد بالسكون إليه، ودائما تنمو الحياة بما يناسبها، ويغذيها. والإنسان على امتداد الزمان، والمكان، سلالة متولدة من آدم وحواء، وإن تغيرت صورة الإيجاد، يقول صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض؛ فجاء منهم الأحمر والأسود وبين ذلك، والسهل والحزن، والطيب والخبيث" 4. ويقول صلى الله عليه وسلم: "الناس معادن كمعادن الأرض" 5. وقد أكدت الاكتشافات العلمية الحديثة أن الإنسان في تكونه يشبه عناصر الأرض والطين، ويقول الدكتور علي مطاوع: "عدد عناصر الطبيعة اثنان وتسعون عنصرا, وهي موجودة في جسم الإنسان كذلك"6.

_ 1 سورة النساء آية: 1. 2 فيض القدير ج5 ص37. 3 تفسير الطبري ج7، ص515 ط دار المعارف. 4 رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح ج5 ص204. 5 أشار إليه السخاوي في المقاصد الحسنة وذكر وروده عن البيهقي، وروى البخاري نحوه في صحيحه بشرح فتح الباري ج8 ص147. 6 آدم ص20.

النقطة الثانية: آدم والملائكة

النقطة الثانية: "آدم والملائكة" خلق الله آدم -عليه السلام- وأمر الملائكة أن تسجد له بعد تمام خلقه مباشرة, فقال لهم: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} 1. والملائكة عباد مكرمون: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} 2, {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} 3، فأطاعوا أمر ربهم وسجدوا لآدم تكريما، واحتراما، وسلاما، ولم يتخلف أحد من الملائكة عن هذا التكريم الذي كلفوا به: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} 4. ومن هذه اللحظة تيقنت الملائكة قدر هذا المخلوق الجديد عند الله، وتبينت عظمة هذا التقدير بالمهام التي كلفوا بها مع الإنسان، فمنهم الحَفَظَة الكرام، ومنهم الكاتبون، وهم يتعاقبون في الناس بالليل وبالنهار، ومنهم المنزلون للمعونة والنصر، ومنهم حَمَلَة الوحي، إلى آخر المهام وهي كثيرة، وكلها لخدمة الإنسان، ولتحقيق أمانيه، وتسهيل الحياة له. ومن نفس اللحظة علم آدم قدره عند ربه، فهو مميز عن سائر المخلوقات، وكلها مسخرة له، تخدمه، وتكون في عونه، ومساعدته، وعليه أن يدرك أن الوحي ينزل عليه، يبلغه تعاليم الله تعالى ليعيش بمنهج ربه، وشريعة خالقه سبحانه وتعالى ... وقد مكن الله له باستطاعة التعامل مع الملأ الأعلى، ومع المخلوقات الأخرى من جن وملائكة وبشر، وبصّره بأساليب التعامل المختلفة.

_ 1 سورة الحجر آية: 29. 2 سورة التحريم آية: 6. 3 سورة الأنبياء آية: 27. 4 سورة الحجر آية: 30.

وسكن آدم وزوجته الجنة، وجاءه أول تكليف من ربه، حيث قال الله له: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} 1 وسعد آدم بهذا التكليف، وأخذ ينعم بحياته في الجنة، يتلقى الوحي، ويتعامل مع المخلوقات الموجودة معه.

_ 1 سورة البقرة آية: 35.

النقطة الثالثة: آدم عليه السلام وإبليس

"النقطة الثالثة": "آدم -عليه السلام- وإبليس" عاش آدم وزوجته في الجنة متمتعا بعطاء الله الواسع، يأكل من ثمرها، ويشرب من مائها، ويتلذذ بكل ما طاب له فيها، تاركا الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها، مطمئنا إلى وعد الله الحق الذي يضمن له أساسيات الحياة الطيبة، حيث يقول تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى، وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} 1، وهكذا بلا كلفة ولا مشقة، يصون ظاهره بالكساء والسكنى، ويصون باطنه بالشبع والري، وبتحقق هذه النواحي الأربع للإنسان تتحقق الكرامة، والأمان. لم يرتض إبليس أن يعلو آدم عنه، وتملكه الحقد والحسد، فلما أمره الله بالسجود لآدم {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} 2، نعم كان من الكافرين

_ 1 سورة طه الآيات: 118, 119. 2 سورة البقرة آية: 34.

برفضه أمر ربه، وأصابه الكبر والغرور، بتصوره أنه يتميز عن آدم، حيث تصور تميز النار التي خلق منها على الطين الذي خلق منه آدم، وقال ما حكاه الله عنه بقوله تعالى: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} 1، وتساءل منكرا متكبرا: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} 2. وتصور إبليس شرف النار على الطين باطل، فإن الطين يتميز بالرزانة، والثبات، والنمو، والأناة، أما النار ففيها الطيش، والخفة، والإحراق، والسرعة، وفي الطين استمرارية وخضوع، وفي النار فناء واستعلاء. ويكفي آدم شرفا على إبليس إن الله خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة بالسجود له، وهل مع النص اجتهاد؟؟؟ لم يرتض إبليس بمقام آدم, فأبى واستكبر، فأخرجه الله من الجنة قائلا له: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} 3. خرج إبليس من الجنة ذليلا، طريدا، يتملكه الحقد، وتقوده العداوة لآدم وذريته؛ ولذا طلب من ربه أن يؤجل عقوبته إلى يوم القيامة؛ ليعمل طاقته في الإضرار والإفساد حيث قال: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} 4. ولحكمة أرادها الله -سبحانه وتعالى- أجاب طلبه, وقال له: {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ، إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} 5.

_ 1 سورة الأعراف آية: 12. 2 سورة الإسراء آية: 61. 3 سورة الأعراف آية: 13. 4 سورة الحجر آية: 36. 5 سورة الحجر الآيات: 37, 38.

وقطعا لأعذار الآدميين, وضح الله تعالى الحقائق التالية: أ- عرف آدم بعداوة إبليس، وحدده له، حيث قال تعالى: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} 1. ب- حذر الآدميين عموما من ألاعيب إبليس وجنوده، يقول الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} 2، ويقول تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} 3. ج- وضح لآدم وبنيه وسائل إبليس في الإضلال, وهي عديدة منها: - التركيز على إبعاد الناس عن الحق والصواب, حيث قال: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} 4. - شمول إضلاله كل ما يحيط بالإنسان، يقول تعالى: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} 5. - بذل كامل طاقته في الإضلال، يقول تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} 6.

_ 1 سورة طه آية: 117. 2 سورة الأعراف آية: 27. 3 سورة فاطر آية: 6. 4 سورة الأعراف آية: 16. 5 سورة الأعراف آية: 17. 6 سورة الإسراء: 64.

- تلوين التوجه في الإضلال؛ فأحيانا يحسن القبيح، أو يقبح الحسن، وأحيانا يوقظ الغرائز المادية السيئة، وأحيانا يهمس إلى النفس الأمارة بالسوء، وأحيانا ييئسه من النجاح والخير ... وهكذا. د- حدد الهدف الرئيسي لإبليس وجنوده وهو إخراج آدم من الجنة، وحرمان ذريته من دخولها مرة أخرى؛ ولذلك حذر الله آدم وزوجه قائلا لهما: {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} 1. هـ- عرف الله آدم وذريته بأن إبليس وأبناءه مستمرون في مهمتهم، بلا كلل أو يأس، ولن ينتهوا إلا بقيام الساعة حيث أنظرهم الله تعالى، وقد أقسم إبليس على هذه الاستمرارية حيث قال لله: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ} ، و {لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} ، وهو في عمله يترصد للإنسان كما يترصد المحارب لعدوه رجاء أن يقضي عليه بالفساد، ومن أيمانه ما حكاه الله تعالى: {لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} أي: لأفسدنهم بالأماني والشهوات، ولأستولين عليهم وأحتوينهم، وأجعلهم في قبضتي، أصرف أمرهم وشئونهم. و عرف الله آدم وبنيه أنه لا سبيل لإبليس على العبد المخلص في إيمانه، المطيع لربه، يقول الله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} 2. وشأن المؤمن دائما أن يلجأ إلى الله، ويتوكل عليه؛ ولذلك ينقذه الله من

_ 1 سورة طه آية: 17. 2 سورة الحجر آية: 42.

دسائس إبليس، قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} 1، والآيات والأحاديث كثيرة توضح للمؤمنين منهج مقاومة إبليس, والتغلب عليه، والنجاة من دهائه، وحقده ... إنه عدو لئيم لآدم، وللإنسانية كلها.

_ 1 سورة الأعراف الآيات:200, 201.

النقطة الرابعة: خروج آدم من الجنة

"النقطة الرابعة": "خروج آدم من الجنة" أسكن الله آدم وحواء الجنة، وأباح لهما التمتع بخيراتها، وثمرها حيثما شاءا، وكيفما شاءا، وحدد لهما شجرة منعهما من الأكل منها بصورة قاطعة واضحة، قال الله تعالى: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} 1. فتعينت الشجرة بأل المفيدة للعهد، وباسم الإشارة منعا للجهالة، وقطعا للمعذرة عن الخطأ. ويلاحظ أن الله تعالى علق النهي بالقرب من الشجرة، مع أن المقصود هو النهي عن الأكل منها؛ ليعلم آدم أن القرب من الشجرة مقدمة للأكل منها، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، والبعيد عن العين بعيد عن القلب، والقرب من مصدر الخطأ ينسي الصواب، ويلهي القلب، والمؤمن الجادّ يبتعد دائما عن الخطأ ودواعيه. واستقر آدم وزوجته في الجنة، إلا أن عدوهما إبليس لم يرتض هذا الخير لهما،

_ 1 سورة الأعراف آية: 19.

فتحايل حتى دخل الجنة1، وأخذ في تنفيذ مهمته، وتحقيق غاياته، بوسائل خبيثة, فأكثر من لقائه بآدم حتى أنس إليه، وأكثر من التحدث معه حتى تصوره عاقلا أمينا، ثم أخذ يوسوس لهما بإلقاء حب الشجرة في قلوبهما، وتزيين الأكل منها بصورة مستترة مكررة، والوسوسة الإبليسية يدركها المسلم في حديث نفسه الخفي، وهي تأمره بمعصية، أو تنهاه عن طاعة، إنه حديث يتكرر، وكلما صرفه العقل عاد ... هذا الوسواس لجأ إليه إبليس مع آدم -أولا- لكن آدم لم يخضع له، ولم يستمع لوساوسه، واستمر في بعده عن الأكل من الشجرة. فلجأ -ثانيا- إلى إيقاظ شهوة النفس الكامنة في غريزة حب الخلود، وغريزة الملك، وقال: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} 2، {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} 3. فهم آدم وزوجه من كلام إبليس أن الآكل من الشجرة يجعلهم ملوكا خالدين, وبالرغم من رغبتهما في هذه الأماني إلا أنهما رفضا الأكل من الشجرة طاعة لله تعالى

_ 1 قيل: إن إبليس دخل الجنة متخفيا في بطن حية، وقيل: إنه لم يدخل, وإنما اتصل بآدم بواسطة قوته التي جعلها الله له، وقيل: حدثهما لقرب كل منهم من باب الجنة، وقيل: كانت الجنة بعض جنات الأرض، وهذه أقوال فصّلها الرازي في تفسيره، والله أعلم. 2 سورة طه آية: 120. 3 سورة الأعراف آية: 20.

فلجأ -ثالثا- إلى اليمين، قال تعالى: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} 1، وضمن يمينه بمؤكدات تبين صدقه في النصح، وأمانته في الحديث، قال قتادة: "حلف لهما بالله تعالى حتى خدعهما، فقال: إني خلقت قبلكما، وأنا أعلم منكما، فاتبعاني أرشدكما"2، وتصور آدم أن أحدا لا يقسم بالله كذبا فأطاعه، وأكل من الشجرة، وبذلك تمكن إبليس بخداعه من إنزالهما من طاعة الله إلى معصيته، ودلاهما بغرور حتى صارا في مرتبة العصاة الظالمين. وحينئذ كشف الله سترهما، وظهرت عورتهما، وأخذا يسترانها بورق شجر الجنة, قال تعالى: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 3، فغفر الله لهما وقبل توبتهما, قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} 4، وبعد ذلك أمر الله آدم وحواء أن يخرجا من الجنة، ويعيشا في الأرض حيث الكدح، والعمل، والمواجهة المستمرة مع إبليس وجنوده، مسيرة الحياة الدنيا بما فيها من خير وشر، وبما يتخللها من صراع ونزاع، وليحمل آدم -عليه السلام- مسئولية الخلافة في الأرض، وهي المسئولية التي خلق الله لها الإنسان، يتوارثها جيلا بعد جيل.

_ 1 سورة الأعراف آية: 21. 2 تفسير ابن كثير ج2، ص206. 3 سورة الأعراف آية: 23. 4 سورة البقرة آية: 37.

النقطة الخامسة: هابيل وقابيل

"النقطة الخامسة": "هابيل وقابيل" نزل آدم وحواء -عليهما السلام- الأرض ليبدأ العمران، ويبدأ تناسل البشر، وليعيش الجميع بشرع الله وهديه؛ ليسعدوا ويبتعدوا عن وساوس عدوهم إبليس، حتى لا يوقعهم في الغي والفساد، قال تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} 1، وقال تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} 2، والمراد بالخطاب في الآيات: آدم، وحواء، وإبليس، والعمدة في العداوة آدم وإبليس وذريتهما، والآية تحذر آدم من إبليس حتى لا يحرمه من دخول الجنة مرة أخرى، وتوضح أن طريق النجاة هو اتباع هدي الله، وشرعه، وطريق الخسران هو الإعراض عن ذكر الله، وطاعته. وشرع الله لآدم أن يزوج بناته من بنيه لضرورة الحال، وكان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى، فكان يزوج أنثى هذا البطن لذكر البطن الآخر ... وهكذا. وكانت توءمة هابيل دميمة، وتوءمة قابيل وضيئة، فأراد قابيل توءمته لنفسه معللا إرادته بحجج عقلية فهو الكبير، وهو وصي أبيه، وهو الأحق بأخته الأجمل، وأولى بالزواج منها من هابيل، وهذا اجتهاد منه يخالف ما شرع الله لهم؛ ولذلك لم يوافقه آدم على ما ذهب إليه، وطلب منه ومن أخيه أن يقدم كل منهم قربانا فأيهما يتقبل الله قربانه, فهو الأحق بالحسناء بشرع الله تعالى.

_ 1 سورة البقرة آية: 36. 2 سورة طه الآيات: 123, 124.

فقدم كل منهم قربانه، فقبل الله قربان هابيل، ولم يتقبل قربان قابيل، فقال قابيل لأخيه: {لَأَقْتُلَنَّكَ} . فرد هابيل عليه: {قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} 1. هذا الحوار يبين نفسية كل منهما، فقابيل يهدد بالقتل، ويؤكد تهديده به بعدما تمكن الحسد والحقد منه ... فيرد عليه هابيل بأسلوب هادئ متسامح، يوضح فيه ضرورة التقوى لقبول الأعمال، ومن أساسيات التقوى الخوف من معصية الله والتسامح، وعدم التعدي على الغير، وترك كل ما يؤدي إلى عذاب جهنم. وهنا يجد إبليس فرصته فيزين لقابيل قتل أخيه، ويعرفه بكيفية القتل، ويسهل له تنفيذ عملية القتل، فيقتله، وبذلك أصبح من الخاسرين، النادمين ... وتعلم قابيل من الغراب أيضا كيف يدفن أخاه في التراب فقام بدفنه2. ودون القرآن قصة ابني آدم؛ ليعلم الإنسان أن إبليس يترصد به وسوسة، وغواية، وإضلالا، وليعمل الإنسان على تقوى الله وطاعته، ويبتعد عن الحقد والحسد؛ لأن كل شيء بقدر الله، ولا يقع في ملكه إلا ما أراد. إن قوة الإيمان تضعف الشيطان، وتعجزه عن إيذاء المؤمنين بفضل الله تعالى.

_ 1 سورة المائدة الآيات: 27-29. 2 تفاصيل القصة موجودة في كتب التفسير والتاريخ.

النقطة السادسة: ركائز الدعوة في قصة آدم

"النقطة السادسة": ركائز الدعوة في قصة آدم عليه السلام إن قصة آدم -عليه السلام- تؤكد الركائز التالية: الركيزة الأولى: إيجاد الإنسان الأول وقصته يؤكدان مدى تكريم الله للإنسان، واتساع دوره في قيادة المخلوقات الأخرى، وخلافة الله في الأرض. لقد أعلن الله -سبحانه وتعالى- ميلاد الإنسان في حفل علوي، شهوده الملائكة، وبيانه الإنسان خليفة الله، والكون كله عون له. ولكن: ما سر تفضيل الإنسان على الملائكة؟ يرى الإمام القرطبي أنه لا سبيل إلى تفضيل جنس على جنس، أو شخص على شخص إلا بدليل وبرهان، وقد بين الله فضل آدم على الملائكة فثبت له1. ويذهب أهل السنة إلى تفصيل هذا التفضيل حيث يرون أن من البشر والملائكة خواص وعوام، ويقولون: إن خواص البشر وهم النبيون, والصديقون، أفضل من الملائكة، وخواص الملائكة وهم المذكورون في القرآن الكريم كمالك وجبريل، أفضل من عوام البشر؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث القدسي: "ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه" 2. وذكر أن الصالحين من عوام البشر أفضل من عوام الملائكة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع" 3. ويرى الإمام الغزالي أن الأفضلية تعود إلى المجاهدة، والتقوى، والاستقامة، فالملائكة مخلوقة من نور، لا شهوة لديهم، فديدنهم الطاعة، أما الإنسان فإنه مركَّب من عقل

_ 1 الجامع لأحكام القرآن ج1، ص289. 2 الأحاديث القدسية ص25. 3 رواه الطيالسي عن صفوان بن عسال, فيض القدير ج2، ص392.

وشهوة، فمن جاهد شهوته، وحكم عقله, وأطاع ربه، فهو أفضل من الملائكة بالمجاهدة، يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} 1، ومن غلبته شهوته فهو أدنى من البهائم، يقول تعالى: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} 2. ورأى الإمام الغزالي هو الأولى3؛ لمصاحبته الدليل، وبتحليل بقية الآراء فإنها ترجع إليه، وكلها تلتقي عند قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 4. الركيزة الثانية: هذا الإنسان الصغير في حجمه، كبير في رسالته، أعطاه الله القدرة على التعامل مع عالم الغيب، وعالم الشهادة، فهو يتعامل مع الله بلسانه، وبقلبه، وبجوارحه، ومع الملائكة يحفظونه ويعاونونه، ويكتبون أعماله جميعا، ومع الجن، ومع الناس، ومع سائر المخلوقات له تعاملات. إنه يحتاج إلى استعداد يمكنه من النجاح في تعاملاته ... لا بد أن يكون عبدا لله مخلصا، مهتديا بهدي ربه، ملتزما بشرعه ليتلاءم مع صفاء الملائكة، ويبتعد عن عبث الشيطان، ويحبه أهل الأرض. وعليه أن يكون مع الناس حليما، كريما، يحفظ لهم أقدارهم، ويتسامح عن أخطائهم، ويعاملهم بما يناسبهم، ويتعلم من الله تعالى أن يسمع ويجيب، فلقد استمع الله لاعتراض الملائكة، وهم يسألون: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} وأجابهم بما يقنعهم، وحاور إبليس بعد أن أبى واستكبر.

_ 1 سورة البينة آية: 7. 2 سورة الأعراف آية: 179. 3 مدرسة الأنبياء ص18، 19. 4 سورة الحجرات آية: 13.

إن هذا الإنسان قادر بعطاء الله أن يكون سيد الكون بحق لو التزم بشرع الله، واتبع هداه ... الركيزة الثالثة: الإنسان مكوَّن من مادة وروح، وكل عنصر يميل به إلى موطنه الأول، وتجذبه المادة إلى حب المال والملك, وإلى الدوام والخلود، ويأتيه الشيطان من هذا الجانب، وقد ينجح الشيطان أحيانا. وعلى الإنسان أن يقاوم جذب المادة بتقوية الروح، والاستعلاء على الشهوات، وإشباعها بما شرع الله تعالى، ولا يسمع لوساوس ونزغات إبليس. وإذا ضعف مرة, ونجح الشيطان في إغوائه, فعليه أن يبادر إلى التوبة والاستغفار, والله هو غافر الذنب, وقابل التوب, وهو الرحمن الرحيم. إن المعركة بين الإنسان والشيطان مستمرة، وعلى المسلم أن يعد للأمر عدته, وليعلم أن مع إبليس كثيرا من شياطين الإنس والجن ... أعاذنا الله منهم. الركيزة الرابعة: ما يزال فضل الله موصولا للإنسان، فكل الكون مسخر له، وجميع المخلوقات في خدمته، وقد كلفه لله بالإسلام يطبقه جميعا، وعليه أن يختار لنفسه إما أن يكون مسلما قانتا، مطيعا، وأولئك هم المفلحون، وهم خير البرية، وإما أن يخلد إلى الأرض، ويتبع الهوى، ويهمل طاعة الله، ويكون من من جنود إبليس، وحينئذ يكون ممن قال الله فيهم: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 1، وعلى العاقل أن يعي، ويتدبر، ويختار، والله لا يهدي القوم الظالمين ...

_ 1 سورة الأعراف الآية: 176.

إدريس عليه السلام

2- إدريس عليه السلام: يذكر المؤرخون، وكتاب التاريخ، أن الله أرسل رسولين في الفترة الزمنية بين آدم ونوح -عليهما السلام- هما: شيث وإدريس عليهما السلام. وكل ما ذكر عنهما يدور حول تحديد وقت رسالتهما، وثبوت الوحي إليهما، ومنزلتهما عند الله، أما قضايا الدعوة والمدعوين فلم يرد بيان عن ذلك، ولعله يرجع إلى أن ذرية آدم كانت على قرب بعهد أبيهم آدم -عليه السلام- فبعث الله إليهم الرسل ليذكروهم، وليأخذوهم على الذي تركهم عليه آدم عليه السلام. ولكن ما هي المدة بين آدم ونوح, عليهما السلام؟ يروي "ابن حبان" في صحيحه بسنده عن أبي أمامة أن رجلا قال: يا رسول الله, أنبي كان آدم؟ قال صلى الله عليه وسلم: "نعم, نبي مكلم". فقال الرجل: فكم كان بينه وبين نوح؟ قال: "عشرة قرون" 1. عن ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام2، ورواية ابن عباس تورد أنهم خلال هذه القرون العشرة كانوا مسلمين، وفي هذا إشارة إلى أن الفترة بين آدم ونوح كانت أكثر من ألف عام؛ لأننا لو اعتبرنا القرن مائة عام يكون الإسلام فيهم مدة ألف عام على الأقل، وبعدها عبدوا الأصنام والأوثان،

_ 1 صحيح ابن حبان, كتاب الأنبياء، وقد ذكره ابن حجر في فتح الباري ج6، ص372. 2 البداية والنهاية ج1، ص101.

حتى جاءهم نوح عليه السلام ... وإن اعتبرنا القرن جيلا كمعناه الوارد في قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} 1 تكون الفترة آلاف السنين وشيث -عليه السلام- أحد أبناء آدم، وشيث معناه هبة الله، عهد آدم إليه وولاه أمر أبنائه، وأحفاده، وهو نبي بنص حديث ابن حبان2, وأنزل الله عليه خمسين صحيفة, وقيل: هي المرادة من قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى} 3. و"إدريس" -عليه السلام- نبي الله، يقول الله تعالى عنه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا، وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} 4، فقد أثنى الله عليه، ووصفه بالنبوة والصديقية، وبين علو منزلته، وفي حديث الإسراء أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر عليه في السماء الرابعة5. والمكان العالي الذي تتحدث عنه الآية قيل: هو الجنة، وقيل: هو السماء الرابعة. والمرفوع قيل: عمله -عليه السلام- وقيل: ذاته, حيث رفع قبل موته ثم مات بعد رفعه، وقيل: بل رفع بعد موته. وكل هذه الأقوال معانٍ تحتملها الآية، فليس بعضها أولى من بعض. ومن المعلوم بالضرورة أن شيثا وإدريس -عليهما السلام- دَعَوَا إلى توحيد الله، وإلى عبادته، وإلى التمسك بهديه وسبحانه وتعالى6.

_ 1 سورة الإسراء آية: 17. 2 البداية والنهاية ج1، ص98. 3 سورة الأعلى آية: 18. 4 سورة مريم آية: 56, 57, وسمي عليه السلام بإدريس؛ لمدارسته العلم. 5 صحيح البخاري بشرح العيني, باب ذكر إدريس عليه السلام ج15، ص224. 6 اكتفيت في العنوان بـ "إدريس" عليه السلام؛ لأن القرآن الكريم تحدث عنه، ولم يتحدث عن شيث عليه السلام.

نوح عليه السلام

نوح عليه السلام مدخل ... 3- نوح عليه السلام: نوح -عليه السلام- هو أبو البشرية الثاني، وهو أول الرسل بعد آدم -عليه السلام- وقد اصطفاه الله للنبوة، وهداه للحق، وكلفه بالرسالة، وأثنى عليه بما هو أهله. وقد دعا نوح -عليه السلام- جميع من على ظهر الأرض في زمانه بعد أن غرق معارضوه بالطوفان، ومن هنا كانت دعوته عامة بسبب ما أُحيط بها من أحداث، وسمي عليه السلام بنوح لبكائه الكثير. ونوح -عليه السلام- أحد أولي العزم من الرسل، بل هو أولهم، وتعد دعوته -عليه السلام- مرتكزا رئيسيا للعلماء، والدعاة، ولكافة العاملين في مجال الدعوة إلى الله تعالى؛ لما فيها من الدروس والعبر. وقد فصل القرآن الكريم قصة نوح -عليه السلام- في أكثر من موضع، وخصّها بسورة كاملة؛ بيانا لأهميتها1. وسوف أتحدث عن دعوة نوح -عليه السلام- وقصته مع قومه في نقاط تجمع بين تسلسل الأحداث، وقضايا الدعوة، وأهم الفوائد والعبر ...

_ 1 جاءت قصة نوح -عليه السلام- في ثمان وعشرين سورة قرآنية.

النقطة الأولى: التعريف بقوم نوح

"النقطة الأولى": "التعريف بقوم نوح" طال الزمن بعد آدم، واستمر الناس على الحق عشرة قرون، وبعدها حدثت أمور أدت إلى أن يعبد الناس الأصنام المعروفة: ودا، وسواعا، ويغوث، ويعوق، ونسرا. "يروي البخاري بسنده عن ابن عباس أن هذه أسماء رجال صالحين بين آدم ونوح عليهما السلام"1، "وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتادون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم، ويسقون المطر بهم؛ فعبدوهم"2. وقد تفنن الناس في عبادتهم للأصنام، فصنعوا على صورتها الأوثان العديدة، وانقسموا إلى طوائف، وجماعات، حيث عبدت كل طائفة صنما معينا، واتخذت صورا عديدة لعبادته3. ووجد في قوم نوح الأغنياء، وهم الملأ الذين تمتعوا بمستوى فكري متقدم، مكنهم من الجدل والحوار، وجعلهم يتيهون به استعلاء وتكبرا، وتصوروا بسببه أنهم أعظم من الفقراء شأنا، ومقاما. كما كان في قومه -عليه السلام- الفقراء، ويبدو أنهم كانوا يعملون في خدمة الأغنياء في ضعف وهوان؛ ولذلك أسرع بعضهم إلى الإيمان برسالة نوح -عليه السلام- حين دعاهم إلى الإيمان، وهم الذين سماهم الملأ بـ "الأراذل".

_ 1 صحيح البخاري ج8، ص667, باب ود وسواع, ونصه: "كانت أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا ... ونسخ العلم عبدت". 2 تفسير فتح القدير ج5، ص300. 3 انظر تفسير الخازن ج3، ص229.

وكان للقوم حضارة؛ لأن الله جعل لهم الأرض بساطا، فسلكوا فيها طرقا، وعملوا بالزراعة وساروا بالتجارة، وصنعوا الأصنام، وأقاموا التماثيل واتخذوها آلهة، وعبدوها من دون الله تعالى.

النقطة الثانية: حركة نوح بالدعوة

"النقطة الثانية": "حركة نوح بالدعوة" أرسل الله نوحا إلى قومه، فدعاهم إلى التوحيد الخالص، والعبودية الكاملة لخالقهم سبحانه، قال تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} 1، ولكن القوم رفضوا الدعوة، ووقفوا منها موقفا سلبيا، وواجهوا نوحا بعدد من المواقف؛ فقد أنكروا الدعوة، واتهموه بالضلال، والجنون، والسفاهة، كما حكى الله عنهم: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} 2، وقال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} 3. واتهموا أتباعه -عليه السلام- بخفة العقل، وبالرذالة، وبالضعة، وبالكذب، يبين ذلك قول الله تعالى: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} 4. وطلبوا من نوح أن يطرد الضعفاء الذين اتبعوه؛ لأنه لا يليق بهم أن يكونوا مع الفقراء والمستضعفين في مسلك واحد، فرد عليهم نوح -عليه السلام- مفندا اتهامهم له

_ 1 سورة نوح الآيات: 2, 3. 2 سورة الأعراف آية: 60. 3 سورة القمر آية: 9. 4 سورة هود آية: 24.

ولأتباعه، ورافضا لما طلبوا، وموضحا أنه يدعوهم لما يصلحهم بلا أجر يأخذه منهم وبلا حاجة له فيهم، قال تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} 1. ويقول سبحانه: {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} 2. ويقول سبحانه: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} 3. ومع رده الهادئ عليهم، ومناقشته لمعارضاتهم، استمروا في الانصراف عنه، والكفر به وبدعوته، ولما رأوه مُصرّا على إيمانهم، ملحا في إقناعهم أغلقوا آذانهم وغطوا وجوههم، قال تعالى: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} 4، فكان إذا مر بهم لا يرونه، وإذا حدثهم لا يسمعون قوله، ومكث نوح في قومه مدة طويلة، لا يضعف, ولا يهدأ، ولا يمل، قال تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} 5. حذرهم نوح من عذاب الدنيا، وعذاب الآخرة، ورغّبهم في عطاء الله وفضله، وذكرهم بكافة الآيات لتي تحيط بهم من مال، وبنين، وزروع، وأنهار، وكلها تؤكد وحدانية الله، وضرورة عبادته وطاعته. ومع كل الجهد الذي بذله نوح معهم, تمسكوا بضلالهم، واستمروا في عبادة أصنامهم، وطلبوا منه أن يترك دعوتهم: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} 6.

_ 1 سورة الأعراف الآيات: 61, 62. 2 سورة هود آية: 29. 3 سورة الشعراء الآيات: 114, 115. 4 سورة نوح آية: 8. 5 سورة العنكبوت آية: 14. 6 سورة هود آية: 32.

تصوروا أن دعوة نوح لهم جدلا، لا يقصد بها الحق والصواب، وطلبوا منه التوقف عنها لكثرتها، ولعدم جدواها، وتحدّوه بأن يأتي لهم بما خوفهم به، ظنا منهم أنه كاذب، ولم يكتفوا بسبّ نوح وأتباعه، والسخرية بهم، بل كانوا يضربون نوحا حتى يسقط على الأرض جريحا فيلفّونه في لبد، ويرمونه في بيت خرب، يظنون أنه قد مات، فإذا به يلقاهم في اليوم التالي، يدعوهم إلى الله تعالى. "يحكي ابن إسحاق عن عبد الله بن عمير الليثي أنه بلغه أن قوم نوح كانوا يبسطون نوحا فيخنقونه حتى يُغشَى عليه، فإذا أفاق قال: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، حتى تمادوا في المعصية، واشتد عليه منهم البلاء، وهو ينتظر الجيل بعد الجيل، فلا يأتي قرن إلا كان أنحس من الذي قبله، ولقد كان يأتي القرن الآخر منهم فيقول: كان هذا الشيخ مع آبائنا، وأجدادنا هكذا مجنونا"1. شكى نوح -عليه السلام- حال قومه لربه, فعرفه سبحانه وتعالى بأنه لن يؤمن منهم أحد بعد ذلك, قال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} 2. ويعجب العاقل حين يعلم عدد الذين آمنوا بالله، وصدقوا نوحا في دعوته خلال هذه المدة الطويلة لقلة عددهم، وقد اختلفت الأقوال في عدد المؤمنين، فالمكثر يصل بالعدد إلى ثمانين، والمقل يصل بالعدد إلى سبعة فقط، وقد أشار الله إلى قلة عدد المؤمنين، فقال سبحانه: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} 3. لما علم نوح -عليه السلام- بأنه لن يؤمن أحد بدعوته بعد ذلك, طلب من

_ 1 تفسير الخازن ج3، ص229. 2 سورة هود آية: 36. 3 سورة هود من الآية: 40.

ربه أن يهلك الكافرين، قال تعالى: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} 1. وعلل عليه السلام طلب إهلاكهم بأنهم يعملون على إضلال العباد، ونشر الفساد في الأرض، وأيضا فإن كفرهم وعتوهم ينتقل بالوراثة إلى بنيهم، فلا يلدون إلا فاجرا كفارا. أمر الله نوحا بصنع سفينة، فأخذ في صناعتها، وترك دعوة القوم، فكان الناس يمرون عليه ويستهزئون به, ويقولون: هذا الذي كان يزعم أنه نبي صار نجارا، وينادونه بصنعته الجديدة، ويتعجبون منه وهو يصنع سفينة على اليابسة، ولم يأبه باستهزائهم وتعجبهم، واستمر في طاعة الله تعالى. يقول عكرمة والزهري: {التَّنُّورُ} : وجه الأرض؛ وذلك أنه قيل لنوح عليه السلام: إذا رأيت الماء قد فار على وجه الأرض، فاعلم أن مصير الكفار قد اقترب، وافعل ما تُؤمَر به، فتنجُ ومن آمن معك، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ، وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} 2. وأمر الله تعالى السماء بإنزال المطر، وأمر الأرض بتفجير العيون، فنَفَّذَا ما أُمرا به، قال تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ، وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} 3، وامتلأت الأرض بالماء، وعلا الطوفان حتى

_ 1 سورة نوح الآيات: 26, 27. 2 سورة هود الآيات: 40, 41. 3 سورة القمر الآيات: 11, 12.

أشبهت الأمواج في حجمها الجبال، يقول تعالى: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} 1، وعامت السفينة بركَّابها محوطة بعناية الله، قال تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} 2، وهلك الكفار بالغرق، ونجا نوح -عليه السلام- ومن كان معه في السفينة, قال تعالى: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} 3، وبعدها عادت الأمور إلى طبيعتها. قال العلماء: إن السفينة استمرت عائمة فوق الماء مدة ستة شهور4، وكان أمر الله للماء، كما قال تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 5. وهكذا كانت عاقبة الضالِّين، أما نوح -عليه السلام- ومن معه، فقد نجاهم الله كما قال تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} 6, وصدق وعد الله تعالى.

_ 1 سورة هود آية: 42. 2 سورة القمر آية: 14. 3 سورة الأنبياء آية: 77. 4 بصائر ذوي التمييز ج6، ص30. 5 سورة هود آية: 44. 6 سورة العنكبوت آية: 15.

النقطة الثالثة: ركائز الدعوة في قصة نوح عليه السلام

النقطة الثالثة: ركائز الدعوة في قصة نوح عليه السلام مدخل ... "النقطة الثالثة": "ركائز الدعوة في قصة نوح, عليه السلام" استغرقت دعوة نوح قومه زمانا طويلا، عاشته أجيال متعددة، وهذا يعطي الدعوة والدعاة فوائد عديدة؛ لأن التجربة إذا تكررت ثبتت، والنتيجة الواحدة لأعمال كثيرة برهان على أن هذه النتيجة نتاج طبيعي للأعمال ولمن يقومون بها، وإن فعلوها مرات ومرات.

عاصر نوح -عليه السلام- عددا من الأجيال، ونادى فيهم بدعوة الله، مستقيما على المنهج، صادقا في سعيه لهم، ومع ذلك كانوا جميعا على نمط واحد في العناد، والكبر، والعدوان، والكفر، وكأنهم تواصوا بذلك ... ومن هنا كانت الدروس نتائج ثابتة تحدد أسس الحركة بالدعوة على الزمن كله، وهي الركائز التي أحب أن أوضحها فيما يلي:

الركيزة الأولى: العقيدة أساس الدعوة

الركيزة الأولى: العقيدة أساس الدعوة قامت دعوة نوح -عليه السلام- على دعوة الناس إلى توحيد الله تعالى، وقصر العبادة له، وترك ما عدا ذلك، من شرك وضلال. يوضح الله تعالى هذه الحقيقة في آيات متعددة، يقول تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 1، ويقول تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} 2، والآيات كثيرة، وكلها تؤكد دعوة نوح للتوحيد الخالص ... دلل لهم على حقيقة التوحيد بالآيات الكونية التي يعيشونها، ويشاهدونها، قال لهم: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا، وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا، وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا، لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} 3، وفي هذه الآيات أدلة واضحة، تنطق بدقة الخلق، وغائية الوجود، وروعة الحسن والجمال. إنهم

_ 1 سورة الأعراف آية: 59. 2 سورة هود الآيات: 25, 26. 3 سورة نوح الآيات: 15-20.

يدركون هذه الآيات, ويرتبطون بها في معاشهم، ليلا ونهارا، ظلمة ونورا، سيرا وعملا، طعاما وشرابا، في دقة رائعة، وفي تتابع منسق، لا يبغي بعضها على بعض ... إن الخالق هو الله الواحد، ويجب أن يعبد وحده ... وتقوى الله هي البرهان على استقرار التوحيد في القلب، وهي القوة المحرِّكة ليعيش الإنسان عابدا لله، بالمنهج الذي جاء به نوح -عليه السلام- ولذلك قال لقومه: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} 1، يقول سيد قطب: "وعبادة الله وحده منهج كامل، يشمل تصور الإنسان لحقيقة الألوهية، وحقيقة العبودية.... وتقوى الله هي الضمانة الحقيقية للاستقامة على هذا المنهج وعدم التلفّت إلى غيره، بلا رياء، ولا تظاهر، ولا مماراة ... وطاعة الرسول هي الوسيلة للاستقامة على المنهج وتلقي الهدي من مصدره، واستمرار هذا الاتصال ما دامت الرسالة موجودة"2، ووجود الرسالة يدوم بوجود رسولها، أو بوجود مصادرها المنزلة. ومن الحقائق المسلمة أن الدعوة إلى التوحيد تتضمن بالضرورة الإيمان بالرسول, وبالملائكة، وبالكتاب ... لأن الملائكة هي حاملة الكتاب المنزل على الرسول، والرسول هو مبلِّغ الوحي للناس. ولذلك قال نوح عليه السلام: {وَأَطِيعُونِ} ؛ لأنه رسول الله إليهم, وبلاغه هو دين الله تعالى. والإيمان باليوم الآخر جزء من العقيدة، وقد عرفهم به نوح -عليه السلام- وهو ينذرهم به، قال تعالى: {أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} 3.

_ 1 سورة نوح آية: 3. 2 في ظلال القرآن ج8، ص298, الطبعة السابعة, دار التراث العربي. 3 سورة هود آية: 26.

فهم قوم نوح دعوته لأركان العقيدة، وسمعوا براهينه, وبدل مناقشته في الدعوة اتهموه بالكذب؛ ولذا ردوا عليه، وزعموا أن الرسالة لا تكون لبشر، وقالوا لنوح: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا} 1، {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} 2. وقالوا: إن جازت الرسالة لبشر فيجب أن يكون من عِلْيَة القوم ووجهائهم، وزعموا أن أتباع نوح من الفقراء الضعفاء الذين لا يفكرون في أمر، ولا يعقلون ما يريدون، ويتبعون الرأي عند ظهوره بلا تدبر فيه، وقالوا لنوح ما حكاه الله تعالى: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} 3. وقد رد نوح -عليه السلام- مزاعمهم، وبين لهم أن النبوة رحمة من الله، يصطفي لها من يشاء من عباده، وليس لهم أن يناقشوا في شخص الرسول، وعليهم أن ينظروا في معجزاته البينة، ومدى صدقه في دعوته، ولهم أن يسألوا أنفسهم عن غاية الرسول من كذبه على الله، وهو لا يأخذ منهم أجرا، والمؤمنون معه من الفقراء الذين لا جاه لهم ينتفع به، أو مالا يستولى عليه. فلماذا يكذب على الله إذًا!! ومع كل هذا لم يؤمن القوم بالله، وعاشوا حتى هلكوا على الكفر والضلال ... وقد يسأل إنسان: وأين الشريعة في دعوة نوح عليه السلام؟ وهو سؤال له وجاهته، والجواب عليه يجلي الحقيقة ... وإن الشريعة منهج عملي تنظيمي للحياة، يحتاجها أصحاب العقيدة ليلتزموا بها، فمن اعتقد بالله أطاع شرعه، والكافر لا يحتاج لشريعة؛ لأنه كافر بالله أصلا، وقوم نوح لم يؤمنوا؛ ولذلك لم يكلفهم نوح -عليه السلام- بشريعة ما، ولم يأمرهم بها.

_ 1 سورة هود آية: 27. 2 سورة "المؤمنون" آية: 24. 3 سورة هود آية: 27.

الركيزة الثانية: أساسيات الحركة بالدعوة

الركيزة الثانية: أساسيات الحركة بالدعوة الدعوة الدينية تعاليم إلهية منزلة، معقولة المعنى، تحتاج إلى شخص يتحرك بها ويوصلها للناس في إطار خطة سليمة، بوسائل قادرة على الوصول للمدعوِّين، وبأساليب تبين، وتحاول، وتؤثر، وتقنع، وبعد ذلك يكون الناس أحرارا، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر. وبتتبع الأحداث في تاريخ قوم نوح يظهر ذلك بجلاء، فنوح -عليه السلام- رسول صنعه الله تعالى للرسالة، وكلفه بها، واختاره لها، عن علم وحكمة، فهو -عليه السلام- جامع لكل صفات الكمال التي يحتاج إليها الرسول الداعية، يتضح ذلك من عميق توجيهاته, فهو يحدثهم عن الله حديث عارف به، يقول لهم: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1. ونوح -عليه السلام- مؤمن بما يدعو إليه، موقن بصدقه؛ ولذلك استمر يدعوهم هذه المدة الطويلة بلا كَلَل، ولا مَلَل، متصفا بكل كمال يحتاجه الدعاة، من عزيمة قوية، وصبر شديد، وسماحة وعفو، وأناة ورَوِيَّة، وتحمل للمشاق والمصاعب، ورغبة مستمرة في النصح ونصرة الحق، لا يرجو من ذلك إلا رضا الله وأداء الواجب عليه. وسار نوح -عليه السلام- في الدعوة على خطة منهجية واضحة, اعتمدت النقاط التالية: أ- بيان ما بينه وبين الناس من مودة وقربى؛ لما لهذا من تحقيق مشاركة وجدانية متبادلة مع الناس، تساعد على السمع والطاعة، فهو يبدأ حديثه معهم بهذا النداء:

_ 1 سورة نوح الآيات: 3، 4.

{يَا قَوْمِ} مذكرا بعلاقة القربى، ووَحْدَة النسب ليسمعوه، ويفكروا فيما يدعوهم إليه؛ لأن حب الإنسان لأهله وقومه أشد من حبه لغيرهم، وهو لا يكذب عليهم أبدا؛ ولذلك كان يناديهم بهذا النداء دائما، حتى وهو يردّ على شتائمهم، ولم يكتفِ بهذا النداء بل أخذ يبيِّن لهم إخلاصه لهم، ونصحه إياهم, قائلا لهم: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} 1. ب- عايش نوح -عليه السلام- واقع قومه وهو يدعوهم، ولعل ذلك أجلى في الشرح، وأدعى للفهم والإقناع. إن قوم نوح أصحاب زراعة، ورعي، وتجارة، يحتاجون للمطر يسقيهم، وللأنهار تروي زرعهم، وللسماء تظلّهم، وللشمس تدفئهم، وللقمر ينير لهم، وهم يقطعون سبل الأرض، وفجاج الصحراء، ومعهم الأموال والأولاد. تلك حياة القوم، وهذا هو واقعهم، فماذا قال لهم نوح -عليه السلام- وهو يدعوهم؟ لنقرأ الآيات؛ لندرك مدى معايشة نوح لواقع المدعوين، يقول الله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا، مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا، أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا، وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا، وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا، لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} 2. إن الآيات شاهد واضح على أن نوحا -عليه السلام- كان يعيش حياة قومه، ويقدم لهم الأدلة من الواقع الذي يتعاملون معه، وكلها آيات كونية وإنسانية، ناطقة بأن الله واحد، لا شريك له، ويجب أن يُعبَد وحده.

_ 1 سورة الأعراف آية: 62. 2 سورة نوح الآيات: 10-20.

ج- الاستمرار في الدعوة، والإلحاح في طلب الإيمان، من ضرورات الدعوة إلى الله تعالى؛ لأن غاية الدعوة إيجاد إنسان جديد، ينخلع تماما من حياته وضلاله ليتحول إلى عبد رباني، ينطوي باطنه على قَبَس من نور الله، وتمتلئ جوارحه بالتقوى، والطاعة، والاستقامة على منهج الله. إن هذا الأمر لا يحتاج إلى مجرد العرض، ولا يكفيه الطلب لمرة واحدة، ألا ترى الطبيب يداوم العلاج حتى يشفى مريضه، والتربية الجادّة تحتاج إلى مداومة، ومتابعة واستمرار مع مراحل العمركله. وليس هناك أسمى من الدعوة، وكل بذل لها هو في الطريق الصحيح. وقد طبق نوح -عليه السلام- هذه النقطة المنهجية تطبيقا كاملا، ويكفي الوقوف على مدة دعوته التي دامت ألف سنة إلا خمسين عاما، متحمِّلا كل مشقة، صابرا على كل عدوان، لم يترك فرصة للدعوة إلا قام بها، ملتزما بأخلاقه الكريمة، وكان يواصل الدعوة بصورة مستمرة، يبين ذلك بقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا} . د- الدعوة الإلهية تتصادم مع قُوى اجتماعية عديدة، فهي تتصادم مع الملأ ووجهاء القوم الذين يعيشون على استعباد الضعفاء، واستغلالهم.... كما تتصادم مع كل متأله من الناس، سواءكان تألهه بالتحليل والتحريم، وهو يشرع بعقله للناس، أو يحب أن يرفعه الناس إلى درجة الإله يخافونه، ويرجونه، ويعظمونه ... كما تتصادم مع كل ضال يعبد غير الله, سواء كان معبودا حسيا أو معنويا. هذه الصدامات تؤدي إلى مشاق ومصاعب في طريق الدعوة؛ ولذلك لا بد من ملازمة الداعية للتحمل، والصبر، ومقابلة السيئة بالحسنى كمنهج لا بد منه لنجاح الدعوة. ويعتبر نوح -عليه السلام- نموذجا عاليا في تطبيق هذه النقطة، فلقد كانوا يسخرون منه، ويشتمونه، ويصفونه بالكذب والجنون والسفه، ويؤذونه ويضربونه حتى

يشرف على الموت، ومع ذلك كان يدعو الله تعالى لهم قائلا: "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون". هـ- تحتاج الدعوة إلى ضرورة التوجه إلى الناس بلا تفرقة بينهم، بسبب لون, أو جنس، أو مال، أو جاه، وهذا ما فعله نوح -عليه السلام- حينما طلب منه الملأ من قومه أن يبعد عنه الفقراء، قال هم: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} . إن هذه النقاط المنهجية تمثل خطة ضرورية لنجاح الدعوة إلى الله تعالى ... و وكان لنوح -عليه السلام- وسائله وهو يدعو قومه إلى الله، ويراد بالوسائل الطرق التي تحمل الفكرة، وأسلوبها، سواء كانت بشرية، أو بآلات غير بشرية، كالرسالة المكتوبة، أو الصورة الهادفة ... وهكذا. وقد استفاد نوح -عليه السلام- بما أمكنه من وسائل ... فقد كان عليه السلام يواجههم مباشرة، ويكرر لهم الدعوة، وذلك مستفاد من فعلهم الذي قال الله عنه: {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} , فهم لضِيقهم برؤية نوح أمامهم كانوا يغطون وجوههم بأطراف ثيابهم، حتى لا تقع عيونهم على رؤيته حين اقترابه منهم. ونراه يستعمل وسائل الاتصال التي يتحدث عنها الإعلاميون المعاصرون، فيتصل بهم اتصالا شخصيا، ويواجههم فرادى، وهو المقصود من وقوله تعالى: {وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} لأن السرية المرادة هنا، هي مخاطبة الأفراد واحدا واحدا، بصورة علنية؛ لأن المفهوم العام للسرية لا يتفق مع مفهوم الدعوة والتبليغ. واتصل بهم عليه السلام اتصالا جماعيا، فهم قومه يعرفهم، وكان يأتيهم في تجمعاتهم، وفي أعيادهم، ومناسباتهم المختلفة، وهو المقصود من قوله تعالى: {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ} ودعاهم عليه السلام جماهيريا، وهو دعوة الجمع الغفير الذي

يمكنه التوجه إليهم، وهذا هو المقصود من قوله تعالى: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا} . وكانت مكارم أخلاقه -عليه السلام- وسيلة عملية تعرفهم بدين الله تعالى، وحسن تأثيره في الخلق والسلوك. ز- خاطبهم عليه السلام بأساليب متعددة ... فاستعمل معهم أسلوب الحكمة ويراد به القول الموجز الدال على معناه بعبارة قصيرة، دقيقة، ومنه الطلب المباشر المحدد ومثاله في قوله لهم: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} ، ومن الأساليب الحكيمة أسلوب عرض الآيات الكونية والإنسانية؛ لأنها تدل على مرادها بصورة دقيقة لا يمكن ردها، ومن علامات الحكمة في الآيات الكونية والإنسانية أنها وإن تضمنت المعاني الكثيرة, فإنها تأتي في كلمات قليلة, انظر قوله تعالى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} ، فإنها تشتمل على كلمات قليلة، وكل كلمة تشتمل على المعاني الكثيرة، فوجه السؤال وجعله خاصا بهم لقوله: {مَا لَكُمْ} ويحدد التهمة وشناعتها بقوله: {لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} ، وهي تهمة تتجلى في مفهومهم بصور عديدة. إنهم يصنعون الأصنام، ويعبدونها، ويتوجهون إليها، ويتركون الله تعالى ولا يوقرونه، مع أنه تعالى أكرمهم {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} أي: على مراحل عديدة، فمن نطفة، إلى علقة، إلى جنين، إلى مولود، إلى أن يموت، كل ذلك بقدر الله وعلمه، ومع ذلك لا يوقرونه. إن هذه الكلمات، والآيات، لا يمكن للقوم أن يردوا عليها لوضوحها، ولكنهم استمروا على الكفر معارضين لدين الله بلا حجة, أو بيان. ومن الأساليب التي توجه بها نوح -عليه السلام- إلى قومه الموعظة الحسنة، ويراد بها الأسلوب المشتمل على المعاني المثيرة، التي تخاطب العواطف، وتجذب النفس، وأساس هذا الأسلوب الترغيب والترهيب؛ لأن الترغيب يعمل على التزيين

والإغواء، وتحقيق التعاطف والمودة مع الدعوة، وذلك خطاب للروح والوجدان, وبخلاف الترغيب يكون الترهيب، فهو قائم على تخويف المستمع من خطأ يفعله ليبتعد عنه، والترغيب والترهيب واضح في أسلوب نوح عليه السلام. وتعد الأساليب البيانية من قبيل الموعظة؛ لأنها تركز الصور اللفظية العديدة حول معنى واحد لإقناع المستمع به. ومن الموعظة الحسنة الاستفهام، والحوار، وإبطال دليل المعارضين. وبتتبع قصة نوح -عليه السلام- في القرآن, نرى العديد من صور الخطاب والبيان ...

الركيزة الثالثة: أثر الإيمان

الركيزة الثالثة: أثر الإيمان الإيمان بالله تعالى، والاستجابة الصادقة لدعوة الرسول، من أهم عوامل تأليف القلوب، وتحقيق الوحدة بين المؤمنين؛ لأن هذا التآلف جزء من الإيمان نفسه، وحين يعجز المؤمن عن تحقيقه في ذاته، فعليه أن يتهم نفسه بضعف الإيمان؛ لأنه لو صدق في إيمانه لشعر بأخيه المؤمن جزءا متمما لإيمانه، فالمؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مَثَلُ الجسد الواحد, إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" 1. وفي قصة نوح -عليه السلام- ما يؤكد قوة الرابطة الإيمانية، وضرورتها للتآلف، وتحقيق التماسك بين المؤمنين؛ لأنها لو فُقدت فلا قيمة لأية رابطة، وبخاصة مع المؤمنين، يقول الله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2.

_ 1 صحيح مسلم بشرح النووي, باب تراحم المؤمنين ج5، ص447 ط دار الشعب. 2 سورة المجادلة آية: 22.

إن رابطة الإيمان تربط القلوب، وتوحِّد الأجساد، وتقوى بمعونة الله تعالى؛ ولذلك فهي دائمة مستمرة في الدنيا وفي الآخرة، وأصحابها هم المفلحون، وهم حزب الله، أما أعداء الله فهم منقطعون عن المؤمنين، لا مودة معهم، فهذا ابن نوح ظل على كفره ولم يدخل الإيمان قلبه, فأغرقه الله مع الكافرين، ولم يَقْبَل طلب نوح فيه، وقال له: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} 1؛ ذلك أن نوحا -عليه السلام- طلب من ربه أن ينجي له ولده, فعرفه الله بانقطاع الصلة به؛ بسبب عدم إيمانه، ولفظ الآية صريح في عدم جدوى رابطة النسب إذا انتفت رابطة الإيمان. وكما أغرق الله تعالى ابن نوح بسبب عدم إيمانه، أغرق كذلك زوجته بسبب عدم إيمانها هي الأخرى، وجعلها الله مثلا للكافرات، ولحكمة أرادها الله تعالى جعل زوجة نوح وولده من الكافرين؛ ليهلكا مع المغرقين، وليعلم كل إنسان بعدهما أن الإيمان هو طريق النجاة، وأنه صانع القرابة الحقيقية، فالزوجة الكافرة، والابن الكافر، ليسا من أهل الزوج المؤمن، والأب المؤمن؛ لأن الكفر يفرق بينهما، أما الإيمان فإنه العروة الوثقى بين المؤمنين، وهو الصلة القوية الدائمة بينهم. ولعل قوة الإيمان في التأثير ترجع إلى أنه يتم بناء على اقتناع ورضى، بينما غيره من العوامل يتم بطريقة عفوية لا دخل للإنسان فيه، وأيضا فإن الإيمان عامل يزداد بالإخلاص فيه، أما العوامل الأخرى فهي ثابتة لا تقبل الزيادة، يقول الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 2.

_ 1 سورة هود آية: 46. 2 سورة التوبة آية: 71.

ومن أثر الإيمان إقامة مجتمع نظيف المشاعر، نظيف التفكير، نظيف العمل والتعامل، ويكفي أن كل فرد فيه يؤدي واجبه، وينال حقه بصورة سهلة وتلقائية. إن أفراد المجتمع المؤمن يتعاونون على البر والتقوى، وتتكافأ دماؤهم, ويسعى بذمتهم أدناهم، لا فرق بين كبير وصغير إلا بالتقوى. إن أفراد المجتمع المؤمن يحافظ كل منهم على أخيه؛ ماله، وعرضه، ونفسه, وأماناته؛ طاعة لله تعالى. ومن أثر الإيمان تحقيق النصر في النهاية للمؤمنين، كما وعد الله تعالى وهو يقول: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} 1. وقد نصر الله تعالى نوحا -عليه السلام- وأتباعه، ونجاهم من الغرق وحقق للمؤمنين وعده، وحقق للكافرين وعيده. ولا يمكن لعقل أن يتصور الكيفية التي سينجو بها نوح -عليه السلام- وأتباعه قبل وقوعها لقلتهم وضعفهم، لكنها حدثت بقدرة الله تعالى، وبعدها قال الله لجنده: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 2. إن النصر الإلهي للمؤمنين حقيقة مؤكدة، وقد رأيناه مع نوح وقومه، ويستعجل بعض المؤمنين نصر الله تعالى، ويتصورونه بمجرد إيمانهم، ومع رجائنا سرعة إتيان النصر، إلا أننا نشير إلى أن النصر يأتي لقوم يستحقونه بعد اختبارهم بالبلاء، وامتحانهم بالمصائب، والخوف، والجوع, ونقص الأموال والثمرات، وإيقاع الأذى بهم من أعداء الله تعالى.

_ 1 سورة الروم آية: 47. 2 سورة هود آية: 44.

إن الابتلاء ضرورة حتمية، وللنصر وقته الذي حدده الله تعالى؛ ولذا قال لنوح عليه السلام: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} 1. ومن أثر الإيمان بقاء ذكر أصحابه في الدنيا، واستمرار الخير في ذريتهم، وهذا ما تحقق لنوح -عليه السلام- وأتباعه، يقول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ، وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} 2. وهذا أمر له أهميته في الحياة البشرية؛ لأن الإنسان يتعلق بذريته، ويتمنى الخير لهم من بعده، ولا يتحقق ذلك على وجه الحقيقة إلا بالإيمان والتقوى، يقول الله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} 3. ولعل من أعظم ثمرات الإيمان ما يناله المؤمن بعد لقائه ربه من روح، وريحان، وجنة نعيم، وفي كل ذلك ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

_ 1 سورة هود آية: 49. 2 سورة الصافات الآيات: 77-79. 3 سورة النساء آية: 9.

الركيزة الرابعة: حاجة الدعوة إلى المصير

الركيزة الرابعة: حاجة الدعوة إلى المصير ... الركيزة الرابعة: حاجة الدعوة إلى الصبر الدعوة إلى الله تعالى في أمسّ الحاجة إلى الصبر، والتحمل، وعدم اليأس؛ لأن أعداء الدعوة كثيرو العدد من الجِنة والناس، وأيضا فإن الدعوة للجديد تحتاج إلى التدرج، والتلقين المستمر، والرعاية الدائمة شأن تربية الطفل الصغير، فإنه يحتاج إلى مداومة الرعاية، وتنوعها، حتى يتأقلم مع الحياة. ونوح -عليه السلام- استمر يدعو هذه المدة الطويلة صابرا، محتسبا، عساه يزرع بذرة تنمو بعد سنوات، وما كان ييئسه أبدا، ما يراه من أعداء الله في الأرض.

هود عليه السلام

هود عليه السلام مدخل ... 4- هود عليه السلام: تكاثرت ذرية نوح -عليه السلام- وتوزعت في البلدان، وانقسمت إلى قبائل متعددة، وكوَّنت شعوبا كثيرة. ومع تباعد الزمان بعد نوح -عليه السلام- نسي الناس دعوته، وأغواهم إبليس وجنوده، فبعدوا عن الحق، واتخذوا من الأصنام والأوثان آلهة، عبدوها من دون الله تعالى. ومن هذه القبائل كانت "عاد" التي ظهر كفرها، وبان ضلالها، فأرسل الله إليهم أخاهم هودا -عليه السلام- يبلغهم دعوة الله، ويهديهم إلى الدين الحق، ويدلهم على صراط الله المستقيم1. وكان لهود -عليه السلام- مع قومه وقفات مشهودة، سجلها القرآن الكريم لتبقى تاريخا حيا على الزمن كله، يقدم الدروس والعِبَر لأصحاب العقول والأبصار. والكتابة عن هود -عليه السلام- وقومه في إطار تاريخ الدعوة, تحتاج إلى دراسة النقاط التالية:

_ 1 جاءت قصة هود -عليه السلام- في عشر سور قرآنية، منها سورة سميت باسمه.

النقطة الأولى: التعريف بقوم هود

"النقطة الأولى": "التعريف بقوم هود" قوم "هود" هم قبيلة "عاد" وهود -عليه السلام- واحد من القبيلة، فهو أخوهم، يعرف أحوالهم، ودينهم، والمشاكل التي يعايشونها، ويتكلم بلغتهم ولهجتهم، ويدرك واقعهم، وأمانيهم، وحاجاتهم. و"عاد" قبيلة عربية، من العرب العاربة، سكنت جنوب جزيرة العرب، في منطقة الأحقاف الواقعة بين عمان وحضرموت، أنعم الله على هذه القبيلة بطيب العيش، ورغد الحياة، فتمكنوا من إقامة حضارة راقية, مزدهرة، شاملة لصور عديدة من الرقي، والمدنية. ففي المجال الزراعي أمدّهم الله بالماء، فأسسوا البساتين، وحفروا الأنهار والعيون، وربوا الماشية والدواب، يذكرهم الله بذلك، وهو يدعوهم، يقول تعالى: {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ، أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ، وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} 1. وفي المجال الصناعي، شيدوا المصانع الضخمة، تمدهم بالقوة، وتسهل لهم الحياة. يوضح الله لهم هذه النعمة, فيقول سبحانه: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ، وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} 2. وكان لهم في مجال العمران باع طويل, لدرجة أنهم تفردوا بحضارتهم المعمارية, يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} 3.

_ 1 سورة الشعراء الآيات: 132-134. 2 سورة الشعراء الآيات: 128, 129. 3 سورة الفجر الآيات: 6-8.

وتميزوا بضخامة البدن، وقوة الجسم، وطول القامة، كما يدل عليه قوله تعالى: {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} 1. {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} 2. {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} 3. فهم لطولهم يشبهون النخلة الخالية من فروعها التي تقطع ورقها، وبدل أن تستفيد القبيلة بما أفاء الله عليها من نعم في أبدانهم ومدنيتهم, انتكست في أخلاقها ودينها. فلقد اتصفت القبيلة بالكبر، والغرور، والظلم، والعدوان، يقول الله تعالى عن أخلاقهم: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} 4. يذكرهم الله تعالى بعدوانهم، وطغيانهم، وظلمهم للضعفاء، فيقول تعالى: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} 5. وقد ضلوا ضلالا كبيرا في دينهم، فهم أول من اتخذ الأصنام بعد قوم نوح، صنعوها، وعبدوها من دون الله تعالى، وضيعوا حق الله، وأنكروا القيامة والبعث، وقالوا: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} 6، فنطقوا بمذهب الدهريين، الذين يقولون: ما هي إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، والأمر أنف، وليس في الأمر خالق قدير.

_ 1 سورة الأعراف آية: 69. 2 سورة الحاقة آية: 7. 3 سورة القمر آية: 20. 4 سورة فصلت آية: 15. 5 سورة الشعراء آية: 130. 6 سورة "المؤمنون" آية: 37.

إن التفوق المادي والحضاري الذي عاشته عاد, صاحبه سوء أخلاقهم وفساد دينهم، وتغلغلهم في الكفر والضلال. لقد تخيلت عاد أن تفوقهم سبيلهم إلى التحكم في الآخرين، وتوجيه الناس كما يريدون، وظنوا أن من حقهم السيطرة على الأفكار والعقول، وعملوا على أن تسود آلهتهم كل من يخالطهم بما فيهم أخوهم هود، ولكنه عليه السلام: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} 1، فتبرأ من آلهتهم وأشهد الله تعالى على هذه البراءة، كما أشهدهم أيضا؛ ليعلموا أنه ليس على دينهم، وضلالهم.

_ 1 سورة هود آية: 54.

النقطة الثانية: حركة هود بالدعوة

"النقطة الثانية": "حركة هود بالدعوة" اختار الله تعالى هودا من بين عاد، وأنزل عليه الوحي، وكلَّفه بتبليغ الرسالة لهم، فصدع بالأمر، قال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} 1. فربط العبادة بضرورة التوجه بها لله الواحد؛ لأن عبادة غيره شرك لا يصح أبدا. وبين لهم عليه السلام أنه واحد منهم مهتم بمصلحتهم، وسعادتهم، ووضح لهم أنه رسول الله إليهم، وأنه ناصح أمين يبلغهم رسالة الله ودينه، لا يأخذ منهم أجرا ولا نفعا، فأجره على الله، وهو سبحانه مبتغاه ومقصده، قال لهم: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} 2.

_ 1 سورة الأعراف آية: 65. 2 سورة الأعراف آية: 68.

وقال لهم: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} 1. وقدم لهم من الأدلة والبراهين التي تعرفهم بالله، وبصفاته، وتوضح لهم ضرورة التوجه بالعبادة لله تعالى، وتبين لهم أن الله هو خالقهم، والمنعم عليهم، وهو سبحانه الذي أعطاهم كافة ما هم فيه من قوة، وصحة، ومدنية، وحضارة, والواجب التسليم بذلك؛ لأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وكل شيء بيده سبحانه وتعالى, قال لهم عليه السلام: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} 2. قال تعالى: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 3، وقال تعالى: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 4، وقال تعالى: {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ، أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ، وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 5. دعاهم إلى الله بالحسنى، وعرفهم بالله الذي خلقهم, ورزقهم، وملأ الكون والحياة بالبراهين الدالة عليه سبحانه، وهم يرونها، ويتمتعون بخيراتها.

_ 1 سورة الشعراء آية: 127. 2 سورة هود آية: 52. 3 سورة هود آية: 56. 4 سورة الأعراف آية: 69. 5 سورة الشعراء الآيات: 132-135.

وكان عليه السلام رفيقا بهم، حليما في خطابهم، وهو يذكرهم بعذاب الله تعالى، فبيّن لهم أنه يخاف عليهم، وأنه يتمنى نجاتهم وفوزهم برضى الله تعالى، حتى لا تنزل بهم العقوبة إن لم يؤمنوا برسالته، ويتبعوا دعوته. تمسكت عاد بضلالها، وأخذوا يردون على هود في عتوّ، واستكبار، ولم يسلموا بوحدانية الله تعالى، وأعلنوا أن عبادة آبائهم للأصنام، وللآلهة المتعددة هي دينهم، ولن يحيدوا عنه أبدا, وقالوا له: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} 1. وزعموا في استعلاء الجاهل أنه لم يقدم لهم دليلا مقنعا يبعدهم عن الشرك، وقالوا له: {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} 2، ولم يتأثروا بدعوته، ولا بالآيات التي ذكرها. وأخذوا يسبّونه، ويشتمونه، ويتهمونه بخفة العقل والكذب، قال تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} 3، وصدقوا أنفسهم في أكاذيبهم، وتصوروا لأصنامهم قدرة تنفع وتضر, وقالوا له: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} 4، واستمروا في ضلالهم وكفرهم، فتبرأ هود -عليه السلام- منهم ومن آلهتهم، وكرر عليهم وعيد الله تعالى بعذابهم إن لم يؤمنوا.

_ 1 سورة الأعراف آية: 70. 2 سورة هود آية: 53. 3 سورة الأعراف آية: 66. ويلاحظ أنهم جعلوه واحدا من الكاذبين، فشتموا بذلك سائر الأنبياء والدعاة. 4 سورة هود آية: 54.

وأكدوا له أنهم لن يؤمنوا مهما دعاهم، وكرروا زعمهم بأنهم لن يعذبوا، وقالوا لـ "هود": {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ، إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ، وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} 1. فرد عليهم هود -عليه السلام- معلنا كلمة النهاية معهم, قال تعالى: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} 2، وتوقف هود عن دعوتهم ووعظهم، وتركهم حتى حاق بهم وعد الله تعالى ... يوضح القرآن الكريم ذلك العذاب الذي نزل بهم في قوله تعالى: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ، مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} 3، وقال تعالى: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ، سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ، فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} 4. ويقول المؤرخون: لما عتت عاد، وأصرت على كفرها وضلالها، واستهزأت برسول الله إليهم، أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين، فأرسلوا وفدا مكونا من سبعين رجلا على رأسهم "قيل بن عنز" إلى مكة ليستسقوا عند بيت الله الحرام، واستقبلهم بظاهر مكة معاوية بن بكر، الذي تربطهم به خئولة، ومصاهرة، ومودة ... وبعد

_ 1 سورة الشعراء الآيات: 136-138. 2 سورة الأعراف آية: 71. 3 سورة الذاريات الآيات: 41، 42. 4 سورة الحاقة الآيات: 6-8.

مقامهم عنده شهرا مضوا إلى الحرم1 فقال قيل: اللهم اسق عادا ما كنت تسقيهم، فأنشأ الله ثلاث سحابات بيضاء، وسوداء، ثم نادى منادٍ من السماء: أن يا قيل اختر سحابة منها لنفسك، ولقومك، فاختار السوداء، فنودي: أن اخترت رمادا أرمدا، لا يبقي من عاد أحدا، لا والدا ولا ولدا، إلا جعلته همدا، فخرجت السحابة على عاد في وادٍ يقال له: المغيث، قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ، تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} 2. وهكذا أهلكهم الله بالريح العقيم التي تقضي على كل شيء، وقد استمر هبوبها سبع ليال وثمانية أيام بشدتها، وقوتها بلا انقطاع، حتى أهلكت الكفار جميعا وأبقتهم صرعى جلوسا في أماكنهم كجذوع النخل, وقد تقطع ورقها ... 3. ونجى الله هودا ومن آمن به، وصدق وعد الله، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} 4.

_ 1 تشير هذه الرواية إلى أن مكة والحرم، وجدتا قبل إبراهيم عليه السلام، وهذا يعني أنهما اندثرتا في الزمن القديم قبل مجيء إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- فلما جاءا إلى مكة عرفهما الله مكانهما فأعادا بناءهما، وقد روي أن الكعبة بنتها الملائكة قبل آدم عليه السلام. 2 سورة الأحقاف آية: 24، 25. 3 البداية والنهاية ج1، ص126, 127. 4 سورة هود آية: 58.

النقطة الثالثة: ركائز الدعوة في قصة هود

النقطة الثالثة: ركائز الدعوة في قصة هود الركيزة الأولى: العقيدة أساس الدعوة ... "النقطة الثالثة": "ركائز الدعوة في قصة هود" بعث هود -عليه السلام- لقبيلة متحضرة، تعيش حياة الرقي والمدنية؛ ولذلك يمكن الاستفادة بمنهجيتها في التعامل مع المدنيات الأخرى، والدروس المستفادة منها تعد ركائز للدعوة الإلهية، في كل زمان ومكان. وسوف أتناول الحديث عن الركائز التالية: الركيزة الأولى: العقيدة أساس الدعوة دعا هود قومه، وطلب منهم تصحيح العقيدة، أساس الإيمان، وبين لهم أن العقيدة السليمة تحتاج إلى توحيد الله تعالى في ألوهيته وربوبيته، وهذا يقتضي منهم أن تكون عبادتهم، وتوجههم لله فقط، وترك عبادة الأصنام والأوثان؛ لأن عبادة غير الله صرف للعمل في غير وجهه، وإضاعة للوقت، والوقوع في الكفر والضلال، وذكّرهم بنعم الله فيهم، فهو سبحانه وتعالى زادهم في الخلق بسطة، وأمدهم بأنعام وبنين وجنات وعيون، وأعانهم على تشييد الأبنية ذات العماد التي لا نظير لها، وأعطاهم القوة التي تمكنهم من السيطرة والغَلَب. إن هذا كله من آلائه ونعمه التي تحتم عبادته؛ شكرا على العطاء، وطلبا للمزيد، وصرفا للنعمة فيما خلقت له, بمنهج الخالق المنعم. وركز لهم على أدلة الخلق، والإبداع، والدقة، وهو يدعوهم إلى عبادة الله وحده؛ لأنهم يعلمون أن الأصنام لا تضر, ولا تنفع؛ ليلزمهم بعبادة الضار، النافع، وهو الله سبحانه وتعالى، فله الأمر كله، وإليه يرجعون, فكان خطابه مفهوما، معقولا، يعيش مع حياتهم. ولكن متى كان للطغيان عقل!!!

إن القوة المادية مع الكفر ضلال كبير، تجعل أصحابها يتصورون مقدرتهم على التحكم في كل الماديات، والمعنويات، بل ويظنون قدرتهم على تكوين العقول، وتوجيه كافة شئون الحياة، هكذا شأن الطغيان في كل زمان ومكان!! إن قوم هود واجهوا هودا بضلالهم هذا، واستمر هو في دعوتهم إلى العقيدة الصحيحة أساس الإيمان، ولم يتأثر بمعارضتهم، ولم يضعف أمام وعيدهم عليه السلام. وللمرء أن يتساءل عن السر في تركيز هود -عليه السلام- على التوحيد والتدليل عليه, ولم يبرز بقية أركان العقيدة كما ركز على التوحيد، وأدلته. والأمر سهل؛ لأن الدعوة الإلهية تركز على الإيمان بالله، وتقدمه على غيره؛ ولذلك ركز هود -عليه السلام- على دعوة التوحيد لشيوع الشرك والأصنام في الناس. وأيضا, فإن القوم لو آمنوا بالله وحده، وخصوه بالعبادة دون سواه، فإن بقية الأركان تأتي تبعا، وبصورة تلقائية. ومع ذلك, فإن هودا -عليه السلام- ذكرهم بالرسالة في قوله: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} , وذكرهم بالآخرة بقوله: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وعلى هذا, فالدعوة إلى التوحيد شاملة لكل أركان العقيدة ...

الركيزة الثانية: المترفون هم أعداء الدعوة

الركيزة الثانية: المترفون هم أعداء الدعوة أدى الترف بـ "عاد" إلى الكبر، والاستعلاء، وتصوروا أنفسهم فوق الناس أجمعين، وأبوا أن يكون هود -عليه السلام- رسولا إليهم. ووصل بهم الضلال إلى السخرية بهود ودعوته، واتهموا عقله وخلقه، وتمسكوا بما هم عليه من كفر، وأخذوا يجادلون في آلهتهم بلا دليل من العقل أو الشرع، معتمدين على قوتهم، وجاههم، وغناهم، وعلى ما لهم بين الناس من تقدير. إن الذين واجهوا هودا بالرفض، والجدل، هم الملأ، والمراد بهم علية القوم الذين امتلأت خزائنهم بالأموال، وملئوا المجالس حديثا، وريادة، وتوجيها، وملئوا عقول العامة بالضلال والفساد.

الركيزة الثالثة: الرسول قدوة للدعاة

الركيزة الثالثة: الرسول قدوة للدعاة ... الركيزة الثانية: المترفون هم أعداء الدعوة: أدى الترف بـ "عاد" إلى الكبر، والاستعلاء، وتصوروا أنفسهم فوق الناس أجمعين، وأبوا أن يكون هود -عليه السلام- رسولا إليهم. ووصل بهم الضلال إلى السخرية بهود ودعوته، واتهموا عقله وخلقه، وتمسكوا بما هم عليه من كفر، وأخذوا يجادلون في آلهتهم بلا دليل من العقل أو الشرع، معتمدين على قوتهم، وجاههم، وغناهم، وعلى ما لهم بين الناس من تقدير. إن الذين واجهوا هودا بالرفض، والجدل، هم الملأ، والمراد بهم علية القوم الذين امتلأت خزائنهم بالأموال، وملئوا المجالس حديثا، وريادة، وتوجيها، وملئوا عقول العامة بالضلال والفساد.

وأوحى الله إليه بأن القوم لن يؤمن منهم أحد بعد ذلك ... ب- استمر مستمسكا بالخلق الكريم طوال دعوته، وكان يقابل السيئة بالحسنة، والعدوان بالعفو، والغضب بالحلم، وكان عليه السلام إذا رد شتائمهم يردها بأسلوب مهذب، وكلمات رقيقة، ينفي التهمة ولا يتهم ... فهم يتهمونه بالسفه، والجنون, والضلالة، فيرد عليهم قائلا: {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 1. ج- ركز خلال دعوته على قضيته، وفصل لهم في شأنها كل شيء، وناقشهم في معارضاتهم، وقدم لهم الأدلة والبراهين وفق مداركهم، وكان إذا تحدث معهم تحدث في معاشهم، ونشاطهم، ورقيهم، وحضارتهم، وربط ذلك بالخالق، الموجد، صاحب الفضل في ذلك كله، ومن أقواله لقومه ما حكاه الله عنه، قال تعالى: {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ، أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ} 2. وقال تعالى: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 3، وقال تعالى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} 4.

_ 1 سورة الأعراف آية: 67. 2 سورة الشعراء الآيات: 132-134. 3 سورة الأعراف آية: 69. 4 سورة هود آية: 52.

وهكذا استمر هود -عليه السلام- يدعو، ويبرهن عن صدق دعوته ... ونلاحظ أنه -عليه السلام- جعل براهينه حياة الناس، والنعم التي يرفلون فيها، ووضح كافة الجوانب في معاشهم، حتى يعتبروا، لكنهم لم يؤمنوا، واستمروا على كفرهم. د- لم يضعف، ولم ينهزم أمامهم، وظل يعمل واثقا بنصر الله له، وترجع شجاعته وهو يتحدى الجمع الغفير بقوة، رغم أنه فرد واحد، يرجع ذلك إلى ثقته في الله وتوكله عليه، وقد بين لهم سر قوته فيما حكاه الله عنه: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1, فهو سبحانه بيده الحكم، والأمر كله له، ومن يتوكل عليه فهو حسبه، وجدير بمن يتوكل على الله أن يتبدل خوفه أمنا، ويصير ضعفه قوة، ويشعر بعزة الله وجلاله، وعظمته وهو يواجه الأهوال والمصاعب. هـ- خوف القوم هودا بآلهتهم, فقال لهم: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} 2, وعرفهم بأنه لا يخاف كيدهم، وتآمرهم جميعا، فقال لهم: {مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} 3. و واجه هود قومه مواجهة مباشرة، وناقشهم في أفكارهم، واستفاد بكل الوسائل التي أمكنه الاستفادة بها وهو يدعوهم إلى الله تعالى.

_ 1 سورة هود آية: 56. 2 سورة هود آية: 54. 3 سورة هود آية: 55.

الركيزة الرابعة: ضرورة الدين للحضارة

الركيزة الرابعة: ضرورة الدين للحضارة: الحضارة المادية تحتاج إلى سيطرة منهج الله على مسارها ونظامها: لكي تحقق المأمول من ورائها، وبذلك تنمو، وتزدهر، وتحقق السعادة، وتنشر السلام؛ لأنها حينئذ حضارة طيبة في أساسها، وهيكلها، وامتدادها، تعيش بالحق، وتعمل له، وتهدف إليه.

إن الحضارة المادية إذا بعدت عن منهج الله، وتحكمت فيها الأهواء والأنانية والشهوة، فإنها تكون وبالا على أصحابها، وبرهانا على اضمحلالها وزوالها. وها هي حضارة " عاد" نمت وترعرعت في إطار الشهوات والأطماع, فأصابت أهلها بالكبر والغرور، وأخذوا يتيهون بها، قال تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} جحدوا في غمرة ضلالهم قدرة الله، وتصوروا أنفسهم الأشد قوة، وضلوا بذلك ضلالا بعيدا, وكان ضياع حضارة "عاد" وتدميرها، مع هلاكهم وإبادتهم ... إن هذه سنة إلهية لا تتغير، وعلى العاقل أن ينظر في كل الحضارات، ويبحث عن أسباب انهيارها، وسوف يجده بإذن الله تعالى في هجر دين الله تعالى، وترك منهجه الذي شرعه لعباده، وذلك درس للإنسان على الزمن كله.

الركيزة الخامسة: ضعف الإنسان وقدرة الله

الركيزة الخامسة: ضعف الإنسان وقدرة الله يحتاج الإنسان دائما إلى تذكر خالقه، والرجوع إليه، والتزام العبودية الخالصة مع الخضوع لكافة لوازمها. إن القيام بحق العبودية يؤدي إلى التذكر والمعرفة، ويحقق الخشوع والخضوع، ويوجد التوكل والتقوى، ويجعل العبد ربانيا، ومن الصالحين، قال الله تعالى: {الَّذِينَ

يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} 1. وبتحقق العبودية تتجلى قدرة الله تعالى في خاطر العبد بصورة دائمة، فلا يرى إلا الله، ولا يلمس إلا قدرته، وإذا تذكر ذاته شعر بالضعف التام أمام القدرة المطلقة للخالق العظيم. إن الإنسان العاقل يدرك ضعفه من واقعه. إنه في كل حياته محتاج، محتاج في طعامه وشرابه، في نومه وراحته، في عمله وسعيه، في بكائه وضحكه، في صحته ومرضه، في نفسه وزوجه وولده، هذا الضعف حقيقة بشرية، وهو مدخل الإنسان للإيمان بقدرة الواحد الأحد. والعاقل هو الذي يعلم ذلك، ويلتزم بحد الإيمان وطاعة الله، وحينئذ يهبه الله قوة تعينه على الخير، ويساعد بها المحتاجين، ويكون عامل بر وبركة للناس جميعا من حوله. إن عادا رُزقوا قوة فكفروا بها، وظلموا، فكان هلاكهم، وكانت نهايتهم.

_ 1 سورة آل عمران آية: 191.

صالح عليه السلام

صالح عليه السلام مدخل ... 5- صالح عليه السلام: اختار الله تعالى صالحا -عليه السلام- للرسالة، وبعثه إلى قومه "ثمود" يدعوهم إلى التوحيد، ويُبصرهم بمنهج الله تعالى؛ ليتركوا ما هم فيه من ضلال وكفر، ويَذَروا عبادة الأصنام التي عبدوها من دون الله تعالى. وصالح -عليه السلام- هو أول مَنْ تسمى بهذا الاسم، وكان من أشرف قومه نسبا، وأرومة، عرف بالصدق، والأمانة، والرشد، وحب الخير، لكن قومه انقلبوا عليه لما أخذ في دعوتهم إلى الله تعالى. عاش قوم صالح في منطقة "الحجر"، وهي منطقة مكونة من جبال ضخمة، إذا رآها الرائي ظنها متصلة، فإذا توسطها رأى كل قطعة منها جبلا مستقلا، قائما بنفسه، وهي جبال عالية لا يصعدها أحد إلا بمشقة شديدة، وهذه الجبال محاطة بالرمال المتحركة. والمنطقة قليلة الماء، وسُميت بثمود لذلك؛ لأن الثمد قلة الماء. في هذه المنطقة الشاقة، وجدت القبيلة، وعاشت بنعم الله تعالى، فلما دعاهم صالح تمسكوا بضلالهم، وعتوا عتوا كبيرا، ولم يتبعوا صالحا -عليه السلام- حتى حَلَّ بهم الهلاك والدمار. وفي النقاط التالية سنتحدث عن أهم القضايا التي يقصدها علم تاريخ الدعوة من قصة صالح عليه السلام.

النقطة الأولى: التعريف بقوم صالح

"النقطة الأولى": "التعريف بقوم صالح" قوم صالح -عليه السلام- هم قبيلة "ثمود" وهي قبيلة عربية، تشبه قبيلة "عاد" في نواحٍ عديدة، فهي من العرب العاربة، سكنت شمال جزيرة العرب في منطقة تعرف بـ "الحجر" الواقعة بين الحجاز والشام، واشتُهرت بحضارتها الزاهية، في جوانب الحياة المختلفة. فلهم حضارتهم الزراعية؛ حيث الجنات، والعيون، والزروع المختلفة والنخيل بثمره الوافر، وفوائده الكثيرة. وكانت لهم حضارتهم العمرانية، فقد أسسوا الأبنية الفارهة، حيث كانوا يسكنون في الصيف بيوتا أقاموها في أعالي الجبال، وفي الشتاء يسكنون في بيوت نحتوها في باطن الجبال. إن البيوت المنسقة المنحوتة تحتاج إلى رقي علمي، وتقدم صناعي تمكنت منه قبيلة ثمود. وكانوا يتمتعون بطاقة عقلية متقدمة, يقول الله عنها: {وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} 1 أي: يتمكنون من البصر، والنظر، والتدبر، إلا أن الشيطان زين لهم أعمالهم وألهاهم بالشهوات، وصدّهم عن الحق، فكفروا بأنعم الله، وعبدوا الأصنام من دون الله تعالى. وكان الأولى بهم أن يستفيدوا بقدراتهم العقلية, لكنهم وجهوها في الجدل العقيم، ومحاولة الرد على دعوة صالح -عليه السلام- بالمزاعم الباطلة، والشبهات الزائفة.

_ 1 سورة العنكبوت آية: 38.

ويبدو أن قبيلة ثمود تقدمت في مدنيتها عن عاد؛ لأنهم اتخذوا مجلسا مكونا من تسعة أشخاص، يقودهم سياسيا وينميهم، ويتقدم بهم للأمام، لكن هذا المجلس أفسد بدل أن يصلح، وأضل بدل أن يهدي، يقول الله تعالى عن ذلك: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} 1. وقد اتخذ فساد قبيلة ثمود صورا شتى ... فهم في الجانب الديني اتخذوا الأصنام آلهة، وعبدوها، وتعلقوا بها حبا، وإخلاصا، وقدموها على هداية الله، يقول تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 2. ومن الناحية الأخلاقية أسرفوا في البذخ، والفساد، وبنوا بيوتا فارهين، وأطاعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ... وتخلق الملأ منهم بالكبر والغرور حتى دفعهم كبرهم إلى الكفر بالدعوة الإلهية، والسخرية من صالح وأتباعه الضعفاء؛ ولذلك استمروا على الكفر حتى أهلكهم الله بالطاغية.

_ 1 سورة النمل آية: 48. 2 سورة فصلت آية: 17.

النقطة الثانية: حركة صالح بالدعوة

"النقطة الثانية": "حركة صالح بالدعوة" اختار الله صالحا للرسالة، وبعثه إلى قومه خاصة، يدعوهم إلى الحق، وإلى صراط الله المستقيم. فبدأ عليه السلام بدعوتهم إلى الركن الأساسي في الدعوات الإلهية جميعا, وهو الإيمان بالله، إلها معبودا، وربا رازقا معينا، وقال لهم ما حكاه الله سبحانه وتعالى

في القرآن الكريم: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 1، ومن هنا كانت بداية الدعوة، فهو أخوهم، وهم قومه، والرائد لا يكذب أهله، ودائما يكون بين الأهل صدق، ومناصحة، وقضيته التي يدعوهم إليها واضحة، وهي عبادة الله وحده ونبذ عبادة غيره، والتصديق بكل ما يتصل بهذا الأصل من أركان أخر؛ كالإيمان بالرسالة والملائكة والوحي المنزل واليوم الآخر بكل ما فيه من أحوال وأهوال، ومواقف.. دعاهم إلى ذلك، وقدم دليل الإيمان مركزا على النعم الإلهية التي يتمتعون بها، ويلمسونها، ويعايشونها، ومن أهمها ما قاله الله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} 2, وقال تعالى: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ، فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ، وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} 3. إنها نِعَم عظيمة، متعتهم بالحياة، ويسرت معاشهم، وكان عليهم أن يشكروا خالقها، وموجدها، ومبدعها، ويعبدوه وحده. كان عليهم أن يدركوا ذلك بعقولهم التي وهبها الله لهم، لكنهم بدل أن يؤمنوا كفروا, قال تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمَ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} 4، والآية تبين دور الشيطان في صدّهم عن الحق، فعارضوا

_ 1 سورة الأعراف آية: 73. 2 سورة الأعراف آية: 74. 3 سورة الشعراء الآيات: 146-150. 4 سورة العنكبوت آية: 38.

وأخذوا في رد دعوة صالح ومناقشته ... أعلنوا تمسكهم بعبادة الأصنام؛ لأنها عبادة آبائهم، يصنعونها بأيديهم، ويأخذونها في سفرهم، ثم يعبدونها متى شاءوا، وكيف شاءوا!! ولم يتصوروا رسالة لبشر منهم؛ ولذلك أنكروا دعوة صالح وقالوا: إن الرسالة لا تكون لبشر, قال تعالى: {فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} 1، وقالوا له: {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} 2. ولم يقفوا عند رد الرسالة وعدم الإيمان بها، بل أخذوا في سبه وإيذائه.. اتهموه بالسحر, وقالوا له: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} 3. ورموه بالكذب, وقالوا: {أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} 4. وذكروا له خيبة أملهم فيه, وقالوا: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} 5؛ لأنهم كانوا يرجون الاستفادة برشده، ويتمنونه كاهنا لأصنامهم؛ ولذا أنكروا كل ما دعاهم إليه عليه السلام. رد صالح -عليه السلام- آراءهم، وبيّن لهم أنه لا يسألهم أجرا، ولا يكلفهم شيئا، وأنه ناصح لهم أمين مخلص، وأعلن لهم ثقته برسالته، وأكد صدقه في دعوته، وسألهم سؤالا محددا، قال تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} 6؟ فلم يجبه أحد؟

_ 1 سورة القمر آية: 24. 2 سورة الشعراء آية: 154. 3 سورة الشعراء آية: 153. 4 سورة القمر آية: 25. 5 سورة هود آية: 62. 6 سورة هود آية: 63.

وطلبوا منه آية تثبت لهم صدقه، فأخذ عليهم الميثاق أن يؤمنوا بدعوته حين ظهور المعجزة المؤيدة له، لكنهم لم يلتزموا جميعا بما اتفقوا معه عليه، جاء في الكامل لابن الأثير أن ثمود قالوا لصالح: اخرج معنا في يوم عيد لهم فأرنا آية، تدعو إلهك لها، وندعو آلهتنا أن لا يستجاب لك، فإن أستجيب لك اتبعناك، وإن لم يستجب لك اتبعتنا ... فوافقهم على ذلك، ودعوا أصنامهم، وقالوا لصالح: ادع ربك يخرج لنا من هذه الصخرة "وعينوها" ناقة جوفاء عشراء، فإن خرجت صدقناك، فلما خرجت صدقه سيد قومه، وطائفة معه، ولم يؤمن الآخرون1. وقال لهم صالح: {وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} 2. إنها ليست مملوكة لأحد، فاتركوها في أي أرض لا مالك لها منكم تأكل منها، ولا تمسوها بأدنى سوء، والماء بينكم وبينها قسمة، قال تعالى: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} 3، وعرفهم أنهم إن مسوها بسوء, فسيحل عليهم عذاب قريب، يهلكهم بعد ثلاثة أيام من الإساءة إليها. وبظهور الناقة المعجزة انقسمت ثمود إلى فريقين؛ فريق آمن برسالة صالح، وصدق بالله، وأخذ يدافع عن إيمانه بالحجة والبرهان، وفريق استمر على ضلاله وكفره، وعناده، وأبى الكافرون أن تستمر الخصومة فكرا وجدلا، وإنما دفعهم الكبر إلى شتم صالح والمؤمنين معه, قال تعالى: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} 4.

_ 1 الكامل لابن الأثير ج1، ص89، 90. 2 سورة هود آية: 64. 3 سورة الشعراء آية: 155. 4 سورة النمل آية: 47.

وأخيرا أعلنوا إصرارهم على ما هم فيه: {وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} 1. فرد عليهم وعرفهم بأن الله تعالى مطلع على كل أعمالهم وأحوالهم، وهو سبحانه يفعل بهم ما يشاء، ويعاقبهم كما يريد، ومتى يريد، ثم سألهم سؤالا عساهم يفكرون في المصير الذي سيحل بهم، قال لهم: {قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 2. وهذا كلام يقصد به عليه السلام أن يثير في نفوسهم النظر، والتدبر؛ ليتفكروا في الدعوة ومصيرهم. لكن الضلال صدهم عن الحق، وأبعدهم عن الصواب, وأخذوا يدبرون لقتل صالح ومن معه، على أن يتم القتل سرا، لا يكشفه أحد. ووضع خطة القتل أولو الرأي منهم، وكانوا تسعة, وهم الرهط المذكورون في قوله تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} 2، والتسعة هم تسعة رجال، وقيل: بل هم تسع جماعات. أقسم هؤلاء التسعة على تنفيذ اتباعهم الخطة ليلا؛ لمباغتة صالح وقتله، ومباغتة المؤمنين معه وقتلهم كذلك، على ألا يخبروا بذلك أحدا، فإن سُئلوا عن القاتل يجيبون: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} 3، وبذلك يضيع دم القتلى هدرا، ويدعون الصدق لأنهم دبروا، ولم يشاهدوا، مع أن المدبر للجرم إثمه مضاعف؛ لأنه مدبر للجريمة، وراضٍ بها، ونفى علمهم بالقتل كذب في حد ذاته؛ لأن الشهادة تنبني على

_ 1 سورة النمل آية: 46. 2 سورة النمل آية: 48. 3 سورة النمل آية: 49.

العلم اليقيني، والمدبرون يتابعون كيدهم، ويعلمون بنتيجته على وجه اليقين, فقولهم: {مَا شَهِدْنَا} كذب واضح؛ لأنهم دبروا، وخططوا، وأخذوا يتابعون التنفيذ، ويوجهون من كلفوهم بالقتل. ولكن القدر الإلهي كان أسبق منهم، فلقد جاء أشقاهم وعقر الناقة، وقتلها فنزل وعيد الله فيهم بعد ثلاثة أيام، إذا جاءتهم صيحة عالية، ارتجت لها الأرض، فماتوا جميعا، وهم جاثمون على ركبهم، ونجى الله صالحا والمؤمنين معه، وأبقى بيوتهم خالية لتشهد عليهم، ولتكون عبرة للأجيال من بعدهم، يقول الله تعالى: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ، فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} 1، وبعد أن نجى الله صالحا -عليه السلام- والمؤمنين معه، شدوا رحالهم إلى بيت الله الحرام حاجين، فعن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: لما مر النبي -صلى الله عليه وسلم- بوادي عسفان حين حج قال: "يا أبا بكر، أي وادٍ هذا؟ " قال: وادي عسفان، قال: "لقد مر به هود، وصالح -عليهما السلام- على بكرات، خطمها الليف، وأزرهم العباء، وأرديتهم النمار، يلبون ويحجون البيت العتيق" 2. يقول ابن كثير: يقال: إن صالحا انتقل إلى حرم الله، فأقام به حتى مات، ودفن به، وقيل: بل عاش فترة في رملة فلسطين بالشام, حتى مات ودفن بها، والله أعلم ...

_ 1 سورة النمل الآيات: 51-53. 2 البداية والنهاية ج1، ص138، والبكرات: الفَتِيَّة من الإبل، والنمار: كساء مخطط.

النقطة الثالثة: ركائز الدعوة في قصة صالح

النقطة الثالثة: ركائز الدعوة في قصة صالح الركيزة الأولى: طبيعة التمدين ... "النقطة الثالثة": "ركائز الدعوة في قصة صالح" تتشابه ركائز الدعوة في قصة صالح -عليه السلام- مع ما استفيد من قصة هود مع قومه، ولعل ذلك راجع إلى تماثل القبيلتين أرومة، وموطنا، ورقيا، فكلتاهما من العرب العاربة، وسكنوا جزيرة العرب، وهناك تشابه بين حضارتيهما، في الزراعة، والصناعة، والعمران، والسعة. ولقد ركز صالح على العقيدة كسائر الرسل -عليهم السلام- وبدأ بها، وكان له منهج في الدعوة يشبه منهج هود إلى حد بعيد؛ ولهذا أكتفي بهذه الإشارة, وأورد بعض الركائز التي لم أتكلم عنها من قبل ... الركيزة الأولى: طبيعة التمدين المتحضرون من البشر أصحاب رقي عقلي، وبسبب هذا الرقي يتمكنون من تسخير بعض الآيات الكونية لما يريدون، وبسبب رغد العيش الذي يعيشون فيه يصابون بالترف، ويتفننون في ألوان المتع، ويبدعون في إشباع شهواتهم. والمتصور أن يفكر أصحاب الحضارة بعقولهم في ألوان حياتهم، وفي النعم التي يتمتعون بها، وينظروا إلى ذلك نظر تأمل وتدبر، ويبحثوا عن حقيقتها، وموجدها، وعن حق هذا الموجد القدير، لكن الواقع يبين أن أهل الحضارات غالبا تبطرهم النعم وتشغلهم ببريقها عن البحث والنظر، ويلعب الشيطان بعقولهم، ويصور لهم أن ما هم فيه بسبب علمهم، وعملهم، وقوتهم، فيسارعون إلى تصديقه، ويمتلئون كبرا وغرورا، ويعيثون في الأرض فسادا، وهذا ما حدث من قبيلة "ثمود". فكل حضارتهم من عطاء الله، فالماء ينزل عليهم مدرارا، والأرض تنبت الزرع جيدا، والأنعام تتوالد وتكثر، والخيرات حولهم متنوعة، ولم يسألوا أنفسهم: من الذي يقدر على هذا؟ وهل أصنامهم تقدر على شيء من ذلك؟

وهل يمكنهم خلق شيء من هذا؟ ولو أعملوا عقولهم، وسألوا أنفسهم: من أنشأنا؟ من مكننا من الأرض؟ من وجهنا لفعل ما عملنا؟ إنه رب العالمين. الأسئلة كثيرة تتصل بالنفس، وبالكون، وبسائر المخلوقات.... لو سألوها لأنفسهم، وتدبروا في الإجابة عنها لاقتربوا من الخير والإيمان, ولكن العقل حين يلعب به الهوى, وتسيطر عليه الشهوة، ويوجهه إبليس يصاب بالعمى، ويهنأ بالضلال، وهو نفس ما حدث مع ثمود، يقول الله تعالى: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمَ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} 1، كانوا مستبصرين يمكنهم النظر السليم، والتدبر الواعي، لكن الشيطان زين لهم وأغواهم، فكرههم في الحق، وأبعدهم عن الهداية، وتلك طبيعة أهل الرقي والمدنية، وأصحاب الحضارات، يتصورون أنفسهم الجديرين بقيادة العالم، وينظرون نظرة دونية إلى غيرهم. وها هي ثمود واحدة منهم: - تعودت الإسراف بلا عقل. - أحبوا الرفاهية، واللهو، والعبث بلا خجل. - تخلقوا بالكبر والغرور والإفساد. - تخيلوا أنفسهم فوق الناس. - وثقوا في فكرهم، وعقلهم. ولما جاءهم صالح لم يستفيدوا منه، وظلوا على ضلالهم وطغيانهم، ولم يستجيبوا للنصح والإرشاد. وهذه الطبيعة المتأصلة في أهل الحضارة يجب أن تكون معلومة للدعاة.

_ 1 سورة العنكبوت آية: 38.

إن الحضارة المادية المعاصرة في الشرق، أو في الغرب, تتصور نفسها الفريدة في الرقي والمدنية، وتتخيل غيرها من المؤمنين لا حضارة لهم؛ ولذلك يحاول أصحابها وضع أنظمة تحكم العالم بقيادتها، ليسير بمنهجهم، ونظمهم، والواقع يختلف عن ذلك تماما، فهي حضارة مادية، قائمة على إشباع الهوى، وإرضاء الشهوات، وهي تعادي الدين، وترفض منهج الله لعباده، وتتباهى بالوضعية الحسية، والسيادة المطلقة للعقل. إنها حضارة مغرورة ضيعت مزاياها بغرورها، وحولت مكاسبها الإنسانية إلى عوامل ضارة بالآخرين، وبنفسها.

الركيزة الثانية: دعوة أهل الحضارة

الركيزة الثانية: دعوة أهل الحضارة أشرنا إلى بعض الصفات التي يتميز بها أهل الحضر، والتي تدفعهم إلى اتخاذ مواقف متعارضة مع النصح والإرشاد. والسؤال هنا: هل لدعوتهم إلى الله طابع معين؟ ونبادر بإجابة مجملة تؤكد على ضرورة وجود طابع خاص لدعوة أهل الحضر، والملأ، والأغنياء، وذوي السلطان؛ لأنهم جميعا من قبيل واحد، ولا يصح التعامل معهم بأسلوب غيرهم. فلا بد من دراسة الواقع الذي يعيشونه، ومعرفة الحياة التي يحيونها، والوقوف على بعض مشاكلهم، واهتماماتهم. ولا بد من معرفة عقائدهم، ودياناتهم، ومستوى التزامهم الأخلاقي، والسلوكي، والمذهبي، ومنهج العلاقات السائدة في أوساطهم، وبذلك يمكن تحديد الإيجابيات والسلبيات الموجودة لديهم. وبذلك تبدأ الدعوة مستفيدة بالإيجابيات، تؤيدها، وتبين قيمتها، وضرورة التمسك بها, والبحث عن موجدها.

ومع الاستفادة بالإيجابيات يكون نقد السلبيات بهدوء؛ بالسؤال عنها، ومعرفة فوائدها، وضررها، ولِمَ التمسك بها؟ وبعد ذلك يكون النقد المباشر الصريح. ولا بد في دعوتهم من إبراز دورهم، وتقدير شخصياتهم، ووصفهم بالخصائص الطيبة فيهم؛ لإيجاد تعاطف متبادل معهم، يمكن الداعية من البلاغ ويدفعهم إلى الاستماع والتجاوب. ولا بد من الأدب في خطابهم وإن تشددوا، فهم يملكون البطش والقوة، والناس يعظمونهم، والداعية في نفس الوقت يمثل عمليا الدعوة التي ينادي بها، وعليه أن يتصور نفسه طبيبا يعالج المرضى. وعلى الداعية أن يأخذ براهينه من حياتهم ومعاشهم؛ لأن ذلك أقرب للفهم وأدعى للإجابة، كما أن إنكاره للواقع غير ممكن؛ لأنه مشاهد محسوس. وعلى الداعية أن يقدم القضايا المهمة في دعوته؛ لأنها أساس لغيرها، وغيرها لا يغني عنها. إن هذا ما فعله صالح -عليه السلام- ويجب أن تستفيد به الدعوة خلال مسيرتها بين الناس. إن فريقا من هؤلاء الناس، لهم عقول واعية، ونفوس طيبة، وكل ما يبعدهم عن الحق أخطاء رأوها من بعض الدعاة، أو صورها لهم أصحاب الغايات الخبيثة من المحيطين بهم، من الجنة والناس. إن الملأ من قوم صالح -عليه السلام- بعد الدعوة, انقسموا إلى فريقين: فريق منهم آمن بالدعوة واقتنع بها، وتحول بعد إيمانه إلى داعٍ يدعو لما آمن به، ويخاصم الآخرين حوله، ويدافع عن عقيدته، ويتبع صالحا فيما يبلغهم به عن الله تعالى.. وفريق آخر استمر في الكفر، والضلال.

هذا, والتاريخ يقدم صورا لأصحاب حضارات آمنوا بالدعوة الإلهية، ونصروها، وأسسوا لها أمما ودولا، ونشروا الدين في أماكن عديدة1. جاء في دعوة الأنبياء: "انظر كيف يذكر القرآن قوم هود بأنه جعلهم خلفاء من بعد قوم نوح، ويذكر قوم صالح بأنه جعلهم خلفاء من بعد عاد، ومكنهم في الأرض، وجعلهم أصحاب حضارة وقوة، وذلك أسلوب من أساليب التربية، وضرب من ضروب الدعوة والعظة، يبين فضل الله عليهم بأن عمهم بإحسانه، وجعلهم أجلاء عظماء في شئون الحياة، ووسائل العمران، ولا ينبغي لمن كرمهم الله هذا التكريم أن يلوثوا أنفسهم بالمعاصي، بل اللائق بهم أن يكرموا أنفسهم حيث أكرمهم الله تعالى". ويقول: "وكثيرا ما انتفع الناس بالدعوة من ناحية ما في نفوسهم من عظمة، تراهم يعفون عن المحرمات؛ لأنها لا تليق مع عظمتهم، ولا تتناسب مع منزلتهم في الحياة"2. وقد نجح بعض الدعاة باتباع هذه الطريقة التي تحتاج أولا إلى اكتشاف الاستعدادات النفسية، والظروف الاجتماعية، وكرم الأصل والآباء، وركزوا عليها، وقالوا للمسرف: لا يليق بك أن تجاري السفلة في معاصيهم، وكيف تكون سافلا, وأبواك لهما من المجد والخلق ما يعلمه الناس، لا بد أن ترفع اسم أبيك، وتلزم نفسك وأهلك، وانظر إلى المستقبل البعيد واعمل له.. إنه منهج سديد بعون الله تعالى ...

_ 1 من أمثلة ذلك التتار؛ فقد أسسوا الخلافة العثمانية بعد إسلامهم. 2 دعوة الرسل ص28.

إبراهيم عليه السلام

إبراهيم عليه السلام مدخل ... 6- إبراهيم عليه السلام: نشأ الإنسان راشدا، وبدأ مع آدم -عليه السلام- وذريته أمة، موحدة، مؤمنة، ومكن الله للناس في الأرض, فأسسوا الحضارات، وأقاموا المدنيات, وعاشوا حياة مليئة بالخيرات، وعمتهم نعم الله وآلاؤه، وظهرت النهضة المادية في مختلف نواحي الحياة. لكن تاريخ الإنسان بالنسبة لدين الله مؤسف، فهو دائما يرتدّ عن الحق، ويزين له إبليس الضلال. إن البشر لم يمكثوا طويلا بعد آدم -عليه السلام- حتى اخترعوا آلهة صنعوها بأيديهم، وعبدوها من دون الله تعالى. والعجب أن يصنع الإنسان جمادا بيده، أو يشكله بإرادته، ثم يتصوره إلها، يعبده ويدعوه، وينتظر منه جلب نفع أو دفع ضر، لكن هذا العجيب هو الذي حدث، فلقد عبد قوم نوح، وقوم عاد، وقوم صالح الأصنام، واتخذوها آلهة من دون الله تعالى. ويبدو أن الإنسانية خلال رقيها المادي كانت تتقدم ماديا، وتنتكس دينيا, وذلك واضح مع إبراهيم عليه السلام1. فلقد أقام إبراهيم -عليه السلام- في أماكن عديدة، وعاشر أقواما كثيرين، وشاهد تنوعا في الضلال والكفر، مما يؤكد على هذا التلازم العكسي بين الرقي المادي، والضلال الديني.

_ 1 قالوا: إن اسم إبراهيم مكون من كلمتين: إب بمعنى أب في السريانية، وراهيم بمعنى رحيم، فإبراهيم معناه: أب رحيم.

دعا إبراهيم -عليه السلام- قومه إلى الله؛ ليضع الدين في موضعه، وحاول أن يقود الناس إلى الله بمنهج الله؛ ليستقيم أمر الحياة، ويتحقق التوازن الطبيعي للأمور, في إخضاع المخلوق للخالق، وصرف النعمة في طلب المنعم، وليستمر العبد الضعيف في إمرة سيده العظيم، صاحب الفضل العميم. وكان ما كان مع إبراهيم -عليه السلام- وهو ما سنؤرخ له في النقاط التالية.

النقطة الأولى: التعريف بإبراهيم عليه السلام

"النقطة الأولى": "التعريف بإبراهيم عليه السلام" إبراهيم -عليه السلام- رسول الله، أحد أولي العزم، وُلد "بكوثى"1 التابعة لـ "بابل", ووالده هو "آزر" كان يعمل نجارا، يصنع الأصنام، وينحت التماثيل، يعبدها، ويتاجر فيها، وكان لقومه الكلدانيين حضارة ومدنية. عرفوا نظام الملك، وحكمهم ملك اشتهر بالظلم والجبروت، ادعى الألوهية، وقال للناس: أنا إلهكم أحيي وأميت، فأطاعه الناس، وألّهوه مع أصنامهم وأوثانهم، هذا الملك هو "النمرود بن كنعان". وقد رزق الله إبراهيم الرشد، والعقل السليم منذ بلوغه؛ ولذلك لم يشارك أباه وقومه في ضلالهم وإفكهم، وكان يناقشهم في أصنامهم، ويبين لهم أنها لا تضر, ولا تنفع، ولا تسمع، ولا تبصر ويتساءل معهم متعجبا: كيف تكون هذه آلهة تعبد؟ فلما بلغ أربعين سنة، وصار قادرا على المواجهة، متمكنا من الدعوة والإرشاد, كلفه الله بتبليغ الرسالة، ودعوة قومه إلى التوحيد، ونبذ الآلهة التي يعبدونها من دون الله.

_ 1 بالضم ثم بالسكون، ومثلثة، وألف مقصورة: موضع بسواد العراق من أرض بابل "معجم البلدان ج4، ص487".

دعا إبراهيم -عليه السلام- الأقرب إليه، والأهم للدعوة؛ ولذلك نراه يدعو أباه، و"النمرود بن كنعان" كما دعا عامة الناس، وكان لكل من هؤلاء معه أحداث وأحاديث. أخذ إبراهيم -عليه السلام- في تغيير وسائله في دعوة قومه، حتى وصل إلى تكسير أصنامهم قطعا صغيرة، وترك الصنم الكبير بعدما وضع المعول في رأسه، وسأله قومه، وحاكموه، وأصدروا حكما بتحريقه في النار، وأعدوا له عدة، ولكن الله أخزاهم بأن جعل النار عليه بردا وسلاما، ونجاه الله من التحريق. بعدما تيقن إبراهيم -عليه السلام- عدم إيمان قومه هاجر إلى حيث أمره الله تعالى، واصطحب معه زوجته سارة، وابن أخيه لوطا، وأباه تارح، وسار بركبه حتى نزل ببلاد الشام، وأقام بـ "حران" التابعة للكنعانيين، ونزل قحط ببلاد الشلام، فخرج إبراهيم منها ومعه سارة، وذهبوا إلى مصر، وحاول ملك مصر الاعتداء على سارة لحسنها وجمالها، إلا أن الله حفظها منه وجعله يهبها هاجر، ويروي البخاري بسنده عن أبي هريرة "أن إبراهيم -عليه السلام- لما نزل بمصر، وكان فيها جبار من الجبابرة، فقيل له: ههنا رجل معه امرأة من أحسن الناس, فأرسل إلى إبراهيم وسأله عنها وقال: من هي؟ قال إبراهيم: هي أختي, وأتى إبراهيم سارة، وقال لها: ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، وإن هذا سألني فأخبريه أنك أختي، فأرسل إليهما, فلما دخلت عليه، ذهب يتناولها بيده فأخذ، فقال: ادعي الله لي ولا أضرك، فدعت الله فأطلق, وتكرر منه ذلك، وفي الثالثة دعا بعض حجابه وقال له: إنك لم تأتني بإنسان وإنما أتيتني بشيطان، وأخدمها هاجر, فأتت إبراهيم وهو قائم يصلي ... فأومأ بيده: مهيم؟ قالت: رد الله كيد الكافر في نحره، قال أبو هريرة: تلك أمكم يا بني ماء السماء"1.

_ 1 صحيح البخاري بشرح فتح الباري ج6، ص388, كتاب الأنبياء، ومهيم معناها: ما الخبر؟

عاد إبراهيم بزوجته وجاريتها هاجر إلى الشام، ونزل قريبا من مكان بيت المقدس، وكانت سارة عقيما؛ ولذا وهبت جاريتها هاجر لإبراهيم لتلد له، فلما حملت وولدت إسماعيل تألمت سارة وغارت منها، وطلبت من إبراهيم أن يسكنها وولدها بعيدا عنها، فأخذ إبراهيم هاجر وولدها إسماعيل، وتركهما في مكان صحراوي لا شيء فيه، حدده الله له، وهو المكان الذي نشأت فيه مكة بعد ذلك. وإبراهيم -عليه السلام- يعرف بـ "أبي الأنبياء"؛ لأن الله تعالى جعل في ذريته النبوة والكتاب، إذ انحصر النور في ذريته، وانقسم إلى قسمين: قسم ذهب إلى هاجر فولدت ابنه إسماعيل -عليه السلام- ومنه تناسل العرب, ومن ولد إسماعيل جاء خاتم الرسل محمد -صلى الله عليه وسلم- وقد كان صلى الله عليه وسلم أشبه الخلق بجده إبراهيم -عليه السلام- يقول صلى الله عليه وسلم: "رأيت ليلة أُسري بي أبي إبراهيم, وأنا أشبه ولده به" 1. والقسم الثاني ذهب إلى سارة, فولدت إسحاق -عليه السلام- ومن إسحاق ولد يعقوب -عليه السلام- وهو "إسرائيل" وذريته هم بنو إسرائيل، ومنهم كان أنبياء بني إسرائيل جميعا. وهكذا انحصرت النبوة في ذرية إبراهيم, عليه السلام ... ونظرا لفضل إبراهيم -عليه السلام- ادعى كل قوم جاءوا بعده، أنهم على ملته، وأنهم أولى الناس به، يروي ابن عباس أنه: "اجتمع عند النبي -صلى الله عليه وسلم- وفد نصارى نجران وعدد من أحبار اليهود، فتنازعوا في إبراهيم، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديا، ونحن أولى الناس به، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيا، ونحن أولى الناس به، فأنزل الله قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} 2".

_ 1 صحيح البخاري بشرح فتح الباري ج6 ص428، باب: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} . 2 سورة آل عمران آية: 65.

وبذلك ينكر الله على اليهود والنصارى قولهم: إن إبراهيم منهم ولهم، وعرفهم أن رسولهم جاء بعده، وكتابهم نزل بعده، فمن أين لهم أن يجعلوه منهم؟! وبين لهم الحقيقة بوضوح, فقال سبحانه: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1. إن إبرهيم -عليه السلام- كان حنيفا مسلما، بريئا من الشرك والشركاء، وأولى الناس به الذين اتبعوه في دينه وإسلامه، وأولهم محمد -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنون معه، قال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} 2. والإسرائيليون الآن يدَّعون ملكية فلسطين، وبيت المقدس بدعوى أنهم ورثوها عن إبراهيم -عليه السلام- وهذه مزاعم مردودة، فإبراهيم -عليه السلام- جد للعرب، كما هو جد للإسرائيليين، وقد نزل في الشام ضيفا على العرب أصحاب هذه البلاد، فهم أولى بها. وقد اختبر الله إبراهيم -عليه السلام- ببعض التكاليف فقام بها، وأتمها، وظهرت جدارته بما اختصه الله به، وقد شهد له الحق سبحانه وتعالى وزكاه، وأثنى عليه في آيات كثيرة، قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} 3، وقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} 4، وقال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} 5، وقال تعالى: {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} 6.

_ 1 سورة آل عمران آية: 67. 2 سورة آل عمران آية: 68. 3 سورة الأنبياء آية: 51. 4 سورة مريم آية: 41. 5 سورة هود آية: 75. 6 سورة الصافات آية: 109.

وقال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} 1، وقال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 2. وإبراهيم -عليه السلام- أسوة حسنة في كل مجال، وبخاصة في الطاعة والانقياد؛ لأنه -عليه السلام- لما رُزق بإسماعيل من هاجر تعلق قلبه به فغارت سارة، وطلبت أن يسكن هاجر وولدها بعيدا عنها، فاستجاب لطلبها، وكلفه الله تعالى أن يضعهما في مكان صحراوي، حدده له، هو مكان البيت الحرام بمكة، فذهب بهما إليه راضيا بأمر الله وترك لهما بعض الماء والسقاء، وقفل راجعا من حيث أتى، فتعلقت هاجر بثيابه وقالت له: آلله أمرك بهذا؟ فقال لها: نعم ... فقالت: إذًا لا يضيعنا. ترك إبراهيم ولده البكر في مكان قفر، ورجع إلى الشام مطيعا لأمر الله، راضيا بقضائه فيه، يروي البخاري بسنده أن إبراهيم بعدما انطلق وقف عند الثنية حيث لا يرونه، واستقبل بوجهه البيت، ورفع يده وقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} 3. واستجاب الله دعاءه، إذ بعدما نفد الماء والطعام الذي تركه إبراهيم، جعل الغلام يتلوى، فانطلقت أمه تبحث عن الماء، أو عن منقذ لهما، وحتى لا ترى وليدها يتألم، صعدت على الصفا أقرب جبل إليها، ونظرت في الوادي خلفه فلم تجد شيئا، فجرت إلى المروة فلم تجد شيئا, فرجعت إلى الصفا ثم إلى المروة هكذا سبع مرات، ثم نظرت إلى وليدها, فإذا بالملك عنده يبحث بجناحه حتى ظهر ماء زمزم، فعادت إليه، وشربت، وسقت وليدها ... 4.

_ 1 سورة النجم آية: 37. 2 سورة النحل آية: 120. 3 سورة إبراهيم آية: 37. 4 البداية والنهاية ج1، ص155.

وأخذ الطير يتجمع فوق المكان، فعلم قوم من قبيلة جرهم العربية أن به ماء، فاستأذنوا من هاجر في الإقامة، فأذنت لهم، وأنست بهم، وبدأت الحياة تدب في المكان, وتزوج إسماعيل -عليه السلام- امرأة من الجراهمة، وتعلم العربية، ومنه تناسل العرب بعد ذلك, فهم العرب المستعربة1. وارتبطت قلوب الناس بمكة، ورغب الكثير في الإقامة بها، ورزق الله أهلها من كل الثمرات والخيرات. وطاعة إبراهيم -عليه السلام- لله واضحة؛ لأنه لما أمره الله بترك ولده الوحيد في صحراء جرداء لم يتردد، وأسرع بالطاعة والتسليم، واكتفى بالدعاء له، واثقا بالله تعالى. ومن صور الطاعة والانقياد عند إبراهيم -عليه السلام- أن ولده إسماعيل هذا لما شب {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} وصار قادرا على العمل في المعاش، وطلب الرزق، كلف الله إبراهيم بأمر جديد هو ذبح ولده إسماعيل، وهو وحيده الذي ليس له غيره، أجاب، وامتثل، وأطاع ربه، وعرض الأمر على إسماعيل تطييبا لقلبه، وتهوينا عليه، فوافقه إسماعيل محتسبا، صابرا ... يصور القرآن الكريم حوار إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- ويبين استسلامهما معا لأمر الله، قال تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} 2. قمة عالية من الإيمان، وطاعة مطلقة لله، ونكران للذات في مقام العبودية لله, أب يذبح ولده بيده، وولد يستسلم لأبيه؛ تنفيذا لأمر الله، إنها الطاعة والانقياد. ونجح إبراهيم -عليه السلام- في امتحان الله، وفدى الله تعالى إسماعيل بكبش عظيم

_ 1 الكامل ج1، ص103، 104. 2 سورة الصافات آية: 102.

يقول تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ، وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ، وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} 1. أي: عندما استسلم إسماعيل للذبح وتشهد، وكبر إبراهيم عند مرور السكين على رقبته، جاء أمر الله بنجاة إسماعيل. يقول السدي وغيره: أمر الله السكين أن لا تقطع شيئا, فصارت كالإسفنج يمر على البدن. ونادى الله إبراهيم أن قد حصل المقصود من اختبارك وطاعتك بصورة بينة ظاهرة، ورأى إبراهيم أمامه كبشا أبيض, أعين، أقرن، أرسله الله تعالى إليه مع ملائكته ليذبحه، ويفدي به ولده المطيع إسماعيل. ذبح إبراهيم -عليه السلام- الكبش, وضحى به تنفيذا لأمر الله تعالى، وافتدى بذلك ولده الوحيد، البكر "إسماعيل" الذي عُرف بـ "الذبيح"2.

_ 1 سورة الصافات الآيات: 103-107. 2 البداية والنهاية ج1، ص156، يذهب بنو إسرائيل إلى أن الذبيح هو إسحاق وليس إسماعيل، وهو رأي مردود؛ لأن الذبيح هو إسماعيل لما يلي: أ- بعد أن ذكر القرآن قصة الذبح, قال الله تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} ، فالتبشير بإسحاق كان بعد قصة ذبح إسماعيل. ب- في البشارة بإسحاق قال الله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} , فالتبشير بيعقوب ينفي أن يكون الذبيح إسحاق؛ لأنه سيكون أبا ليعقوب، وإلا فلا معنى للبشرى. ج- جاء في التوراة: أن الله أمر إبراهيم بذبح وحيده وبكره إسحاق, والوحيد والبكر هو إسماعيل, ووضع كلمة إسحاق من تحريف المحرفين, وهي متناقضة مع بداية الجملة.

وشاء الله تعالى أن يبنى مسجد في الأرض، على أساس المسجد الحرام الذي بنته الملائكة أول مرة، فعرف إبراهيم بمكانه، وأمره أن يشيده فيه، بمساعدة ولده إسماعيل، فذهب إبراهيم إلى مكان البيت الذي أظهره الله له فوق أكمة مرتفعة, بجوار زمزم وأخذ في البناء، يقول الله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} 1, وقال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} 2، وقال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 3. فكان إبراهيم -عليه السلام- يبني البيت، وإسماعيل يأتيه بالحجارة، ولما ارتفع البناء، وضع إسماعيل حجرا ليقف عليه إبراهيم -عليه السلام- فغاصت قدمه فيه، وكان هذا الحجر ملصقا بحائط الكعبة إلى عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فأخره رضي الله عنه عن البيت قليلا؛ لئلا يشغل الطائفون المصلين عنده، ووضعه حيث مكانه الآن. إن المسلمين الصادقين، أتباع محمد -صلى الله عليه وسلم- هم أولى الناس بإبراهيم؛ لأن محمدا -صلى الله عليه وسلم- دعا إلى ما دعا إليه إبراهيم, عليه السلام. وقد جعل الله تعالى الحج فريضة إسلامية؛ ليعيش المسلمون ذكريات إبراهيم, وإسماعيل، وهاجر، وهم يعبدون الله ليقتادوا بهم في الطاعة والانقياد. كما أن المسلمين في كل مكان يتجهون إلى البيت الحرام في صلواتهم كل يوم إيمانا بالله، وارتباطا بهذه الذكريات.

_ 1 سورة الحج آية: 26. 2 سورة البقرة آية: 125. 3 سورة البقرة آية: 127.

ولحكمة أرادها الله تعالى, أقام إبراهيم البيت على أسسه الأولى؛ ليكون للمسلمين بعد ذلك حرما آمنا، وبيتا يطيعون الله فيه، وكان من الممكن أن يكلف إبراهيم -عليه السلام- ببناء بيت المقدس أو ببناء غيره ... لكنها حكمة الله وإرادته. وقد عاش إبراهيم -عليه السلام- مع سارة في "حبرون", وهي مدينة الخليل الحالية, يذكر ياقوت الحموي أن إبراهيم -عليه السلام- لما ماتت زوجته "سارة" اشترى موضعا لقبرها، ودفنها فيه، فلما مات عليه السلام دفن في نفس القبر1. رحم الله أبا الأنبياء إبراهيم، ووفق المسلمين لحسن التأسي والاتباع.

_ 1 معجم البلدان ج2، ص212.

النقطة الثانية: الأماكن والأقوام التي التقى بهم إبراهيم عليه السلام

"النقطة الثانية": "الأماكن والأقوام التي التقى بهم إبراهيم عليه السلام" تنقل إبراهيم -عليه السلام- في أماكن عديدة، وعايش أقواما مختلفين، وشاهد مذاهب كثيرة. فلقد وُلد ونشأ في بلدة "كوثى" أو "أور" من أرض بابل، من أعمال الكلدانيين، وتزوج سارة ابنة عمه. عاش الكلدانيون في موطنهم بأرض بابل, وهي في مكان العراق الحالية، وكان لهم حضارة ومدنية، وعرفوا النظام الملكي، حيث ملكهم "النمرود بن كنعان". وقد اتخذ الكلدانيون آلهة متعددة؛ فعبدوا الأصنام، والأوثان، والنجوم، والأشخاص. وادعى "النمرود" الألوهية، وقال للناس: أنا أحيي وأميت, فصدقوه، واتخذوه إلها لهم مع الآلهة الأخرى. وكثرة آلهة القوم، واشتغالهم بصناعتها، والمتاجرة فيها دليل على توغلهم في الفساد، والضلال. دعا إبراهيم -عليه السلام- قومه إلى توحيد الله وعبادته، ونبذ الشرك والشركاء، لكنهم أبوا، وأصروا على ضلالهم، فتركهم إبراهيم وهاجر إلى مكان آخر, أمره الله به وعينه له. ترك إبراهيم موطنه وهاجر منه ومعه الذين آمنوا بدعوته، وهم: زوجته سارة، وابن أخيه لوط، ونزل بأرض الكنعانيين، وأقام بـ "حران" قريبا من دمشق الحالية. وكان الكنعانيون يعبدون الكواكب، ويضعون على كل باب لبيوتهم هيكلا لكوكب يعبدونه، وكانوا يتوجهون ليلا إلى القطب الشمالي.

وكان لآلهتهم أعياد، وطقوس، وقربات، يقومون بها لكسب نفع، أو دفع ضر. لقد أقام إبراهيم ومن معه بأرض الشام مدة من الزمن، حتى نزل ببلاد الشام قحط شديد أدى إلى أن يرحل إبراهيم ومعه سارة إلى مصر، ودخلا قرية يحكمها جبار من الجبابرة. وكان المصريون يعبدون الأشخاص، والأصنام، والأنعام، إلا أن إبراهيم -عليه السلام- لم يمكث مع المصريين طويلا، فرحل منها بعد أن نجى الله سارة من طغيان الجبار، ومحاولة اعتدائه عليها، وأهداها هاجر حين أخافه الله منها. ورجع إبراهيم إلى بلاد الشام مرة ثانية قريبا من بيت المقدس، وتنقل بين قراها, فسكن بلدة السبع وحفر بها بئرا، وبنى مسجدا، وسكن ببلدة بين الرملة وإيليا هي مدينة الخليل الحالية، وكانت تسمى "حبرون", وبينها وبين بيت المقدس مسيرة يوم. واستقر إبراهيم في بلاد الشام ومعه زوجته، وجاريتها هاجر، ومعهما لوط وزوجته، وعن هذه الإقامة يقول الله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} 1، وهذه الأرض هي أرض بيت المقدس؛ لقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 2. ولم يستمر لوط -عليه السلام- مع إبراهيم -عليه السلام- في منطقة بيت المقدس، بل تركها وذهب إلى "سدوم" التي تقع شرقي البحر الميت, حيث بلغ الناس دعوة الله، وكان قريبا من إبراهيم، عليه السلام.

_ 1 سورة الأنبياء آية: 71. 2 سورة الإسراء آية: 1.

وبعد عودة إبراهيم وزوجته من مصر، وهبت سارة جاريتها هاجر لإبراهيم لتلد له ولدا، فلما تزوجها حملت وولدت إسماعيل, فتعلق قلب إبراهيم بولده، فغارت سارة وتألمت، وطلبت من إبراهيم أن يسكنها وولدها بعيدا، فأمره الله بإسكانهما مكانا هو مكان مكة المكرمة الحالية. رحل إبراهيم -عليه السلام- إلى بلاد الحجاز، وأسكن هاجر وإسماعيل في مكان اختاره الله له، ثم عاد إلى الشام, وكان يزور ولده إسماعيل وأمه هاجر، حيث مقامهما في بلاد الحجاز، بين الحين والحين، كما كان يزور لوطا في قرية "سدوم", وهي إحدى قرى "غور زغر" وكان أهلها كفارا فجارا. وصار لإبراهيم -عليه السلام- جيش قوي ببيت المقدس, وتبعه ملوك بيت المقدس, واستقر بها صلوات الله وسلامه عليه. وحينما نعلم أن إبراهيم -عليه السلام- أرسل لقومه خاصة، فعلينا أن ندرك أن المراد بقوم النبي هم أهله الأقربون، والمقيمون معه، والمتكلمون بلغته، وبذلك يتضح أن قوم إبراهيم -عليه السلام- الذين دعاهم هم الكلدانيون، والكنعانيون، ومن عاش معهم وتكلم بلغتهم.

النقطة الثالثة: حركة إبراهيم عليه السلام بالدعوة

النقطة الثالثة: حركة إبراهيم عليه السلام بالدعوة مدخل ... "النقطة الثالثة": "حركة إبراهيم -عليه السلام- بالدعوة" تحرك إبراهيم -عليه السلام- بالدعوة في كل مكان ذهب إليه، وتصدى للضلال والكفر، وحاول مخلصا أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور، وينقذهم من الغواية إلى الهداية. دعا كل من اختلط بهم، دعا أباه وقومه في بابل، وملكهم النمرود، ولما رحل إلى الشام دعا عبدة الكواكب والأصنام، وكان له مع كل فريق مواقف خالدة ونظرا لتنوع المواقف، واختلاف المواجهة، وتعدد طرق الحوار ومناهج الدعوة في كل موقف، سأتحدث عنها موقفا موقفا.

حركة إبراهيم بالدعوة مع أبيه

1- حركة إبراهيم بالدعوة مع أبيه: آزر هو أبو إبراهيم -عليه السلام- واسمه في التوراة "تارح" وربما كان هذا لقبه. عمل آزر بصناعة التماثيل من الخشب، ونحتها من الحجارة، وكان يعطيها إبراهيم ليبيعها، يروي ابن الأثير أن إبراهيم -عليه السلام- كان يعرضها على الناس, ويقول: من يشتري من لا يضره، ولا ينفعه، فلا يشتريها أحد، وكان يأخذها وينطلق بها إلى النهر, فيصوب رءوسها فيه, ويقول: اشربي، اشربي, استهزاء بها1 ... لأن الله أعطاه الرشد، وسعة العقل قبل النبوة2، فأدرك ما في تأليه الأصنام وعبادتها من ضلال، فقال ما قاله، وفعل ما فعله بها، ومن دلالة رشده في تصرفه عند بيع الأصنام أنه لم يعص أباه، ولم يقل كذابا، ولم يغش أحدا، ولم يترك واجبا ... !! فلما بلغ مبلغ الرسالة، وكلفه الله بالتبليغ, بدأ بدعوة أبيه برا به؛ لأن من البر إرشاد الأب إلى ما فيه سعادته في الدنيا والآخرة، وقد أحسن الوالد لابنه بتربيته والإنفاق عليه, وواجب على الابن رد هذا الإحسان بدعوته إلى الحق، وجذبه إلى صراط الله المستقيم. وحتى يقطع اعتراض الناس إذا اعترضوا, وقالوا: لماذا لم تدع أباك إلى ما تدعونا إليه، ولو كانت دعوتك خيرا لبدأت بأبيك وأهلك؟!

_ 1 الكامل ج1، ص96، يتحدث المؤرخون عن آزر، ويقولون: إنه أبو إبراهيم، أو عمه، والأولى أخذ قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} على ظاهره, فهو أبوه. 2 أشار المفسرون إلى هذا الرشد, عند تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ} .

وحتى لا يتصور أحد أن الإنسان غير مسئول عن دعوة آبائه لمقامهم ومنزلتهم، بل هو بذلك يعد مسئولا إن ترك دعوتهم وإرشادهم. وقد تناول القرآن الكريم دعوة إبراهيم -عليه السلام- لأبيه في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا، إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا، يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا، يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا، يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} 1. هذه الآيات قد وضحت الكثير عن إبراهيم -عليه السلام- وعن دعوته؛ لأنها بينت: - أخلاقه, عليه السلام. - ومنهجيته في دعوة الأقربين. - ووسيلته وأسلوبه في دعوته أباه. أما أخلاقه -عليه السلام- فهي أخلاق الرسول الداعية، إنه محب لأبيه يمتلئ قلبه خوفا من أي أذى يلحقه، ولو كان مسا خفيفا رقيقا؛ ولذلك فهو ينصحه، ويحاول معه أن يثير دوافع التدبر، والتفكير بكل رفق، وهو -عليه السلام- يقدر أباه، وينزله منزلته، فيبدأ حديثه باللفظ المعبر عن التقدير والإخلاص، ومناداته بقوله: {يَا أَبَتِ} ، ويكرره إبرازا لأدبه وحسن خلقه، ومن المعلوم أن في النداء تعظيما، وفي لفظ الأب حنانا وقربى.

_ 1 سورة مريم الآيات: 41-45.

ومن خلقه -عليه السلام- مراعاة مقام الأبوة، ببيان أن التوجه بالدعوة ليس استعلاء، وإنما هو علم أتاه من الله، ورسالة تحمل مسئوليتها، ومنافع عديدة يتمنى لأبيه أن يظفر بها. وعن منهجيته في دعوة أبيه نلحظ من الآيات الوضوح التام، والبصيرة الكاملة لكافة جوانب الدعوة، فهو يدعو إلى عبادة الله، النافع، الضار، العليم، الخبير، ويعلم أن أباه يعبد الأصنام التي يصنعها بيده ولا فائدة من ورائها ... ويدرك أن الشيطان هو الذي يزين للناس الشرك وعبادة الأصنام، ويعمل جاهدا لتكوين حزبه الضال على أساس الولاية بين أفراده لتستمر طاعتهم له، ويصعب عليهم ترك أصحابهم وضلالهم، وبذلك يتمادون في الضلال والكفر. وقد واجه أباه مواجهة مباشرة بهذه الحقائق، وعلم رده وموقفه. ومن أساليبه في دعوة أبيه، استعمال أسلوب الاستفهام؛ لأنه يوقظ انتباه المستمع، ويدفعه إلى التفكير، ويشركه في اكتشاف الإجابة، فيخلص لها، ويلتزم بها لصدورها من قناعته. ويذكر له حقيقة ترضي الأب وهي اكتساب الابن للمعارف الجديدة، والوصول إلى علم مفيد، وإعجاب الأب بابنه يرضي، وحالة الرضا بداية الفهم والسماع. ويبين لأبيه أن الله هو الرحمن؛ ولذلك فطاعة الشيطان الداعي إلى الشرك عصيان لله، وقد تؤدي المعصية إلى عذاب من الله، وهو أمر يخافه إبراهيم على أبيه, ولو كان مسا خفيفا، ولذلك فهو ينصحه. وماذا كان موقف الأب من دعوة ابنه له؟ لم يؤمن آزر، ورد على إبراهيم بقسوة وشدة, وقال: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} 1. كبر في نفسه أن ينصرف إبراهيم عن عبادة الأصنام, وكان يتمناها له، صناعة، وتجارة، وعبادة، وهدده بالرجم بالحجارة وباللعن والسب، وأمره أن يهجره زمنا

_ 1 سورة مريم آية: 46.

طويلا، ينسيه ما سمعه منه، وأملا في أن يعود إبراهيم عن دعوته، وتركه إبراهيم -عليه السلام- أيضا مؤملا هو الآخر في إيمانه، وقال له: {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا، وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} 1. وترك إبراهيم أباه، وودعه في أمن وسلام، واستمر يدعو الله له، ويستغفره أملا في إيمانه، فلما تبين له أنه لن يؤمن تبرأ منه، ومن آلهته، واعتزله وابتعد عنه وعن آلهته؛ لأن ظهوره معهم يضعه في صورة الراضي عن دينهم، وأفعالهم، وهذا لا يجوز؛ لأن على المنكر مقاطعة صاحب المنكر ما دام لا يسمع لنصح أو إرشاد.

_ 1 سورة مريم آية: 47, 48.

حركة إبراهيم بالدعوة مع الملك

2- حركة إبراهيم بالدعوة مع الملك: ادعى النمرود الألوهية، وقال للناس: أنا أحيي وأميت، وتحكم في أرزاقهم وحياتهم، وعاث في الأرض فسادا، فلما جاءه إبراهيم -عليه السلام- بدعوة التوحيد، وتسليم الأمر لله رب العالمين، لم يرض بهذا، وأخذ يجادل في الدفاع عن ذاته إلها للناس. يصور القرآن الكريم دعوة إبراهيم للملك, وحواره معه في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 1.

_ 1 سورة البقرة آية: 258.

فقد أنعم الله على النمرود، وآتاه الملك في بابل، وكان عليه أن يسارع إلى توحيد الله وعبادته؛ شكرا لنعمه، وازديادا لفضل الله، لكنه كفر وتجبر، وأبى ترك مزاعمه وافتراءاته، قال لإبراهيم: من ربك؟ قال إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت. قال النمرود: وأنا أحيي وأميت! ومع اختلاف مراد كل منهما من الإحياء والإماتة؛ لأن النمرود يقصد أنه قد يأتي برجلين تحتم قتلهما، فإذا أمر بتنفيذ القتل في أحدهما فقد قتله، وإن أمر بالعفو عن الثاني فقد أحياه، كما يعني أنه إذا حبس رجلين بلا طعام ولا شراب، وأطعم أحدهما وسقاه فقد أحياه، وإن ترك الثاني بلا زاد ولا ماء حتى يموت فقد قتله. أما مراد إبراهيم -عليه السلام- فهو يعني التحكم في الروح التي بها الحياة في الإنسان يحيا بوجودها, ويموت بسلبها, ولا تحكم لإنسان ما في هذه الروح. كان يمكن لإبراهيم أن يجادل النمرود, ويبين أن مراده ممكن لأي إنسان، ولا يصح في مجال العقيدة أي تدليس وظن؛ لأنها تعتمد على اليقظة العقلية، والبيان القاطع. كان عليه السلام يمكنه ذلك، لكنه آثر قطع الجدل والمراء، وطلب منه أمرا آخر له صلة بالإماتة والإحياء، والإيجاد والإعدام. قال له: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} ، فعجز النمرود عن الرد، وسكت مضطرا؛ لأن الشمس تأتي وتغرب في فلكها منذ أن خلقها الله تعالى، ولا يمكن للنمرود أن يدعي لنفسه شيئا في حركتها؛ لأنها أسبق منه في الوجود والحركة. {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} ، وباء بغضب الله، {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .

يبين الرازي في التفسير أن النمرود بعد عجزه عن المواجهة لجأ إلى التهديد، وقال لإبراهيم: لئنك تزعم أن ربك يحيي الموتى, فاسأله أن يحيي لنا ميتا، وإلا قتلتك. فطلب إبراهيم من الله رؤية كيفية إحياء الموتى؛ ليطمئن قلبه من ناحية الملك الذي هدده بالقتل ... يقول الله عن هذا: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 1. فأخذ إبراهيم -عليه السلام- الطيور الأربعة، وقطع لحومها، وريشها، وخلطها، وقسمها أربعة أقسام، ووضعها على أربعة أجبل، ثم دعاها إليه، فجاءته الطيور الأربعة حية كما كانت، فأثبت إبراهيم عليه السلام أمام النمرود قدرة الله على الإحياء، وقطع عليه الجدل في هذه المسألة، فرضي إبراهيم، واطمأن. وهذا التفسير الذي ارتآه الفخر الرازي وغيره هو الأولى2 بالقبول؛ لأنه يدفع مقالة أعداء الحق، الذين زعموا أن طلب إبراهيم يدل على شكه، وأيضا فإن إبراهيم -عليه السلام- رسول الله الموصوف بالصلاح، والرشد، واليقين، والحلم، والإنابة, والصديقية، وكان أمة، وإماما، وشاكرا، وهو الذي وفى. إبراهيم هذا لا يحتاج إلى دليل لينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين ... ولِمَ يكون الدليل المطلوب إذا قلنا: إن إبراهيم طلبه لنفسه, في رؤية كيفية إحياء الموتى بالذات؟! والأدلة أمامه كثيرة ... كل هذا يرجح ما ذهب إليه الرازي.

_ 1 سورة البقرة آية: 260. 2 تفسير الرازي ج4، ص41.

وأيضا حين نتأمل في سؤال الرجل الذي مر على القرية وهي خاوية, قال: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} 1 ... فسؤاله بـ {أَنَّى} هو سؤال عن الكيفية، كما سأل إبراهيم بـ "كيف" ... إلا أن الله عاقبه لكونه كان شاكا في قدرة الله على إحياء الموتى وبعثه مرة أخرى، وقد عاقبه الله بأن أماته مائة عام ثم بعثه، وأراه حماره وقد عاد للحياة؛ ولذلك قال الرجل معلنا إيمانه بعد ذلك: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1، مصدرا قوله بالفعل المضارع {أَعْلَمُ} الدال على الحدوث والاستمرار2. أما إبراهيم -عليه السلام- فسؤاله كان لتحدي النمرود ومناظرته؛ ولذا لم تكن معه عقوبة، وختمت الآية بفعل الأمر {وَاعْلَمْ} ليوجه النمرود، آمرا إياه بالإيمان، وليعلم أن الله عزيز حكيم، فهو سبحانه غالب لا يغلب، يقدر لكل أمر ما يناسبه بدقة، يقول للشيء كن فيكون، ولن يقال: إن إبراهيم -عليه السلام- هلع من النمرود؛ ولذا طلب من ربه ما طلب بل هو خوف عادي، والخوف العادي طبيعة بشرية، وإبراهيم طلب من الله تعالى مستسلما لإرادته، مطمئنا بقدرته، راضيا بما يقضي له، وهو اليقين عينه، وهو الإيمان المطلوب. إن خوف إبراهيم حذر لا بد منه، وطلبه من الله نجاح للدعوة، ولو كان إبراهيم -عليه السلام- الذي يفزع، ويرتعد، ويجبن لخاف من النار يوم أن وضع فيها. المهم هنا ملاحظة انتقال إبراهيم -عليه السلام- بالدليل مع الملك، فترك ما فيه جدل ومراء إلى دليل مفحم، يحقق المطلوب بأسلوب موجز، وبطريق مستقيم.

_ 1 سورة البقرة آية: 259. 2 تفسير الرازي ج4، ص40.

حركة إبراهيم بالدعوة مع عبدة الأصنام

3- حركة إبراهيم بالدعوة مع عبدة الأصنام: كانت الأصنام من معبودات قوم إبراهيم، اتخذوها آلهة، ووضعوا لها طقوسها يتقربون بها، معتقدين أنها تضر وتنفع، وأقاموا لها المعابد والبيوت، وزينوا الأصنام والأوثان؛ ليقصدها الناس عابدين، راجين. وكانت الأصنام والأوثان صناعة رابحة، وتجارة مثمرة، وقد رأينا أن آزر كان يصنعها، ويتاجر فيها. وكما واجه إبراهيم أباه بالدعوة، وكما واجه الملك بالحجة، واجه قومه كذلك، فدعاهم إلى التوحيد، ونبذ عبادة الأصنام والبعد عن الضلال والكفر. وقد اتبع إبراهيم -عليه السلام- في دعوة عبدة الأصنام منهجا دقيقا، محكما ... بدأ عليه السلام بعرض أصول الدعوة، وإظهار المطلوب منهم بإيجاز، قال لهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1. وبذلك حدد قضيته معهم في كلمات قصيرة، وبين لهم أنها الخير لحياتهم ومستقبلهم، فخيرية التوحيد حقيقة بينة، لكل من له عقل ينظر به إلى المخلوقات بتدبر ونظر. ثم انتقل إلى استثارة عقولهم، وإيقاظ الجانب الإدراكي المعرفي لديهم، وذلك بالسؤال الذي يجعلهم يفكرون في إجابته ولو لأنفسهم، قال لهم: {مَاذَا تَعْبُدُونَ} ؟ 2, {مَا تَعْبُدُونَ} ؟ 3، {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} ؟ 4.

_ 1 سورة العنكبوت آية: 16. 2 سورة الصافات آية: 85. 3 سورة الشعراء آية: 70. 4 سورة الأنبياء آية: 52.

إن هذا السؤال يبحث عن معرفة حقيقة الآلهة، وقدرتها، ومدى صلاحيتها لأن تؤله وتعبد، لكن القوم هربوا من الإجابة، وردوا على إبراهيم بأنها مواريث الآباء، وأنهم مقلدون لهم، قالوا له: {وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} 1, {وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} 2. فانتقل بهم إلى أسئلة أخرى لكشف عجز الأصنام والأوثان، حتى يبعدهم عن تأليهها، وعبادتها، قال لهم: قال تعالى: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} ؟ 3، {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ، أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} ؟ 4, {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ} ؟ 5. وهذه الأسئلة تشير للإجابة البدهية التي تؤكد هوان معبوداتهم، وضلال معتقدهم, وخطأهم؛ لأن ما يصنعه الإنسان بيده حادث، ولا يجوز أن يكون الحادث المصنوع إلها أبدا. وكذلك فمن الأمور المسلمة لديهم أن الأصنام والأوثان، لا تسمع، ولا تبصر، ولا تشعر، إنها لا تضر، ولا تنفع، فهي جماد لا يتحرك، صماء لا تعقل، عاجزة عن فعل أي شيء مهما كان ضئيلا، فكيف بعد ذلك تعبد من دون الله تعالى؟ ومرة أخرى يحاولون صرف إبراهيم عن قضية رسالته، فيقولون له: {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} 6. والمقلدون في مقالتهم هذه يتصورون إبراهيم -عليه السلام- لاهيا، عابثا، يلعب معهم بمقالته لهم، وليس هو كذلك أبدا!!

_ 1 سورة الأنبياء آية: 53. 2 سورة الشعراء آية: 74. 3 سورة الصافات آية: 95. 4 سورة الشعراء الآيات: 72, 73. 5 سورة الأنبياء آية: 66. 6 سورة الأنبياء آية: 55.

يقول الزمخشري: "ما أقبح التقليد، وما أعظم كيد الشيطان حين يستدرج المقلدين إلى تقليد آبائهم في عبادة الأوثان، وهم يعتقدون أنهم على شيء، مجادلون لأهل الحق عن باطلهم"1. فانتقل عليه السلام بعد ذلك إلى التفصيل في بطلان عقيدتهم؛ لأن الإله المعبود يجب اتصافه بالحياة، والسمع، والبصر، والعلم، والإرادة، والقدرة، وبكافة صفات الكمال ليسمع الدعاء، ويجيب المضطر، ويرزق الناس، ويسير الكون كله بإرادته وقدرته، ويعلم كل شيء مهما كان خافيا، ويملك أمر الدنيا والآخرة؛ ليصرف الحياة، ويحاسب الناس، ويجازي المحسن بإحسانه خيرا، ويعاقب المسيء على إساءته عذابا وضرا. تؤكد البداهة العقلية ضرورة تميز الإله الحق بهذه الصفات؛ ولذا وضح إبراهيم لقومه أن أصنامهم لا تملك أية صفة من هذه الصفات، قال تعالى: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 2. فبين لهم عليه السلام بأن معبوداتهم مصنوعة بأيديهم، واتخاذها آلهة تعبد بأسماء معينة من اختراعاتهم وأكاذيبهم، وهي لا تملك عطاء، ولا تقدر عليه، وهي في وجودها محتاجة لغيرها. فكيف تعبد إذًا؟!! ولِمَ تخشى وتتقى إذًا؟!! إن الله -سبحانه وتعالى- هو الإله الحق، يدعوهم إبراهيم إلى عبادته وحده، ونبذ كافة الشركاء من دونه؛ لأنه سبحانه متصف بكل كمال يليق به، فهو سبحانه وتعالى

_ 1 تفسير الكشاف ج2، ص575. 2 سورة العنكبوت آية: 17.

- الخالق لكل موجود, فهو: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} 1، {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} 2. - وهو صاحب الفضل والإنعام على كل مخلوق، فهو: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} 3, {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 4. - وإليه المرجع والمآب، فهو سبحانه: {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ، وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ، رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ، وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ، وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ، وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} 5. - وهو الذي يستحق العبادة وحده؛ لتدوم النعم وتزيد: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 6. ومع كل هذا التوضيح والبيان، تمسك القوم بأصنامهم، وأصروا على ضلالهم، وتيقن إبراهيم -عليه السلام- أن القوم منصرفون عنه وعن دعوته، فترك

_ 1 سورة الشعراء آية: 77. 2 سورة الأنبياء آية: 56. 3 سورة الشعراء الآيات: 78-80. 4 سورة الصافات آية: 96. 5 سورة الشعراء الآيات: 81-89. 6 سورة العنكبوت آية: 17.

حوارهم، ومواجهتهم، ولجأ إلى إثبات عجز الأصنام عمليا عسى أن يكون العمل أجدى من مجرد الكلام لو كانوا يعقلون. وخطط لما أراد، يقول الله تعالى عن خطة إبراهيم تلك: {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ، مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ، فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} 1، وقال تعالى: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ، فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} 2. والآيات تبين ما فعله إبراهيم -عليه السلام- فقد أقسم للناس وأكد لهم أنه سيكيد للأصنام بعد رجوعهم إلى بيوتهم، فلما رجعوا إلى بيوتهم ذهب إبراهيم إلى بيت أصنامهم ووجد عندها طعاما تركه القوم للآلهة تأكل منه، وتباركه، فقربه إبراهيم للأصنام، مستهزئا، ساخرا وهو يناديهم: ألا تأكلون؟ ما لكم لا تنطقون؟ ثم أحضر فأسا وكسر بها أصنامهم، وقطعها جذاذا إلا كبيرهم، فقد تركه، وعلق الفأس برقبته؛ ليؤكد لهم عمليا فساد عقيدتهم، وهوان آلهتهم؛ لأنها لا تنفع ولا تضر, ولا تعقل ولا تنطق, ولا تدفع عن نفسها شيئا ... !! وفوجئ الناس بتكسير الآلهة، وعظم الفعل على جهالة الجبابرة، فعزموا على أن ينتقموا لأصنامهم من هذا الجاني الذي أهان دينهم، وكسر أصنامهم، ووضعهم في حال ضعف وضياع. وبدل أن يراجعوا أنفسهم، ويتركوا عبادة الأصنام؛ لأنها لو كانت آلهة حقيقية لحفظت نفسها, وهزمت هذا المعتدي، ولأخبرتهم بهذا الذي بيّت لها ولهم، بدل هذه المراجعة أخذتهم العزة بالإثم، واجتهدوا في كشف الفاعل ومعاقبته. ... وكانت محاكمة إبراهيم -عليه السلام- بواسطة سلطة الضلال ...

_ 1 سورة الصافات الآيات: 91-93. 2 سورة الأنبياء الآيات: 57, 58.

سألوا الناس عن فاعل هذه الجريمة؛ لمعاقبته على فعلته الشنيعة الظالمة، وطلبوا من الجمهور أن يبلغهم بالمجرم إذا علموا عنه شيئا، فأجاب الناس بأن شخصا يسمى إبراهيم يذكر هذه الأصنام بسوء، ولا يعترف بألوهيتها، ويدعو إلى نبذ عبادتها. فجمعوا الناس، وأحضروا إبراهيم أمامهم؛ لينال العقوبة على رءوس الأشهاد, وحتى يكون عبرة لهم جميعا. وبدأت المحاكمة: سألوا إبراهيم عليه السلام: {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} 1؟ أجاب عليه السلام وهو يشير للأصنام بالأصبع الأكبر بيده اليمنى، قال تعالى: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} 2. فتحيّر الملأ، وعجزوا عن الرد، وفقدوا الجواب أمام الجماهير المحتشدة، وتداولوا في الأمر، واعترفوا بهوان الأصنام، لكن إبليس دفعهم بالعزة الآثمة، وقوّى فيهم الضلال والهوى، فردوا على إبراهيم بإجابة تؤكد ما ينادي به، وتعترف بدليله، ومع ذلك لم يؤمنوا، قال تعالى: {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ، ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} 3. ووجد إبراهيم -عليه السلام- نفسه في موقف مفيد للدعوة حيث الجماهير تتابع، وتسمع، والملأ المعارض يعترف بأن الأصنام لا تنطق، وبالتالي فهي لا تسمع، ولا تنفع, ولا تضر.

_ 1 سورة الأنبياء آية: 62. 2 سورة الأنبياء آية: 63. 3 سورة الأنبياء آية: 64, 65.

هنا أخذ إبراهيم -عليه السلام- يعلن خطأهم، ويعلي دعوة الحق أمامهم, قال عليه السلام: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ، أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} 1. أسقط في أيديهم, ولما لم يتمكنوا من المواجهة لجئوا إلى الظلم والتحكم، شأن كل ظالم جبار يحمي سلطانه، وعزته، بقوة البطش والتخويف؛ لأن قوة العدل لا تسانده، وقوة الحق ليست معه، قال تعالى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} 2، وظنوا أنهم بهذا سيعلو شأنهم, وتحترم آلهتهم. وإنما اختاروا القتل بالتحريق ليساهم الجميع في القتل، ولأنه أكثر إيلاما من القتل بوسائل أخرى، وحتى يكون مشاهدا للقاصي والداني، وجندوا الرأي العام بمختلف وسائلهم ... وبنوا بناء ضخما, وجمعوا الحطب، وصبوا عليه الزيت, وأشعلوا النار، وأحضروا المنجنيق وقذفوا به إبراهيم بعد أن قيدوه، وربطوه. وهكذا أحكموا الكيد والتدبير ... يذكر الزمخشري في الكشاف أن القوم لما أرادوا إحراق إبراهيم حبسوه شهرا، وبنوا بيتا عاليا كالحظيرة، وجمعوا أصناف الخشب الصلاب، وملئوا الرأي العام بكراهية إبراهيم حتى إن المرأة لتمرض فتقول: إن عافاني الله لأجمعن حطبا لإبراهيم، وصار كل شخص يقول لأخيه: اقتلوه أو حرقوه، ثم أشعلوا نارا عظيمة كادت الطير تحترق في الجو من وهجها، ثم وضعوا إبراهيم في المنجنيق مقيدا، مغلولا، ورموه في النار3. لكن الله غالب على أمره، فرد كيدهم في نحورهم، وكشف عوراتهم قال تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} 4.

_ 1 سورة الأنبياء الآيات: 66, 67. 2 سورة الأنبياء آية: 86. 3 تفسير الكشاف ج2، ص578. 4 سورة الأنبياء آية: 69.

واستجابت النار لخالقها، فكانت سلاما على إبراهيم، ولم تحرق منه إلا القيد والرباط، ورأى الناس مكان النار وقد اخضر زرعه، وإبراهيم يتنزه، ويتنعم وسطه ... ونجا إبراهيم -عليه السلام- من كيد أعدائه ... وبقي الناس على ضلالهم وكفرهم؛ لأن إبراهيم لم يطلب من الله استئصالهم، ولأن حكمة الله قضت باستمرارية العمران، والبشرية، في الأرض تمهيدا لمجيء الرسالة الخاتمة التي تتجه إلى الناس في كل زمان ومكان يحملها إلى الخلق محمد -صلى الله عليه وسلم- وأتباعه من بعده إلى يوم القيامة.

حركة إبراهيم بالدعوة مع عبدة الكواكب

4- حركة إبراهيم بالدعوة مع عبدة الكواكب: بعد أن نجى الله إبراهيم -عليه السلام- من النار، وعدم تأثر قومه بهذه المعجزة, واجههم بما هم عليه، قال تعالى: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} 1، ووضح لهم سر تمسكهم بالضلال, وهو أنهم جعلوا الأوثان وسيلة تجمع عبادها في مودة وتعاون؛ ولذلك ارتبطت بعواطفهم، وأعمت عقولهم، وأبصارهم. ثم تركهم، ورحل من ديارهم، وقد أمره الله بالهجرة إلى بلاد الشام ومعه لوط وزوجته، يقول تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} 2. والأرض المقصودة هي بلاد الشام، ونزل إبراهيم -عليه السلام- في "حران" موطن العرب "الكنعانيين".

_ 1 سورة العنكبوت آية: 25. 2 سورة الأنبياء آية: 71.

كان الكنعانيون يعبدون الكواكب، ويصنعون الهياكل والتماثيل التي ترمز لها، وكانوا ينسبون الحوادث إليها، ويتصورونها تضر وتنفع؛ ولذلك رسموا رموزها على أبواب بيوتهم، وكان الواحد منهم يعبد عددا من الآلهة، بعضها في الليل، والآخر في النهار1 ... وهكذا عاش إبراهيم -عليه السلام- فترة بين الكنعانيين، تعلم لغتهم، وشاهد عاداتهم ودياناتهم، وعرف ما هم عليه في حياتهم نشاطهم، ولم يرض بشيء من فسادهم وضلالهم. إن إبراهيم -عليه السلام- صناعة ربانية، يقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} 2. إن الله -سبحانه وتعالى- عرف إبراهيم -عليه السلام- به، وأراه بالبصر والبصيرة، أنه -سبحانه- الرب المالك للسموات والأرض وما فيهما، من شمس وقمر ونجوم، وجبال وأشجار وسهول، وأن الكل مقهور تحت الملكوت الأعلى، مفتقر إلى الله في وجوده، واستمراره، وكافة شئونه، وبذلك كان إبراهيم -عليه السلام- من الموقنين باستحالة وجود إله غير الله تعالى3. لم يرتض إبراهيم -عليه السلام- أن يترك الناس على ضلالهم، ويستمر في عزلته، بل قام في أصحاب الكواكب يدعوهم إلى الله تعالى ... ولاحظ عليه السلام أن الكواكب تختلف عن الأصنام من عدة نواحٍ: فالكواكب تتحرك وتسير في فلك منتظم، بينما الأصنام لا حراك لها، وتبقى في الموضع والصورة التي وضعت فيها. - الكواكب تتخذ مدارا علويا سماويا, بينما الأصنام جماد في الأرض. - الكواكب تتكون من عناصر مجهولة, وهي لبعدها تجعل الإنسان يذهب في تحليلها كل مذهب، بينما الأصنام معلومة التكوين والتركيب.

_ 1 تفسير ابن كثير ج2، ص150. 2 سورة الأنعام آية: 75. 3 تفسير أبي السعود ج2، ص152.

- الكواكب تفيد الإنسان بالضوء والحرارة، وتساعده في السير والحركة، بينما الأصنام خالية من أية فائدة. - لا يمكن للإنسان أن يتحكم في الكواكب وهو مع الأصنام صانعها، وبائعها، والمتحكم فيها. هذه الفروق جعلت إبراهيم -عليه السلام- يبطل عبادة الكواكب بمنهج، وبأسلوب يختلف عن طريقته في إبطال عبادة الأصنام، يقول أبو السعود: إن إبراهيم -عليه السلام- سلك طريقة في بيان استحالة ربوبية الكواكب تختلف عن طريقته في بيان استحالة ربوبية الأصنام؛ لأن ربوبية الكواكب أخفى بطلانا واستحالة، فلو استعمل مع عبدتها طريقته مع عبدة الأصنام لتمادوا في المكابرة والعناد، وللجّوا في طغيانهم يعمهون1. يصور القرآن الكريم طريقة إبراهيم -عليه السلام- في إبطال عبادة الكواكب بقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ، فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ، فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 2. فهو عليه السلام لم يبدأ ببيان بطلان ألوهية الكواكب كما فعل مع عبدة الأصنام, وإنما أخذ يركز على غياب الكواكب وأفولها؛ ليعرفهم أن الإله لا يغيب ولا يفنى؛ لأن المغيب والفناء نقص لا يليق بمعبود.

_ 1 تفسير أبي السعود ج2، ص153 بتصرف. 2 سورة الأنعام الآيات: 74-79.

وكان يمكنه لو ركز على طلوع الكوكب إثبات بطلان ألوهيتها؛ لأن الطلوع دليل الحدوث، وفي الطلوع احتياج للفاعل الصانع، ولكنه -عليه السلام- تركه، وركز على الأُفُول؛ لأن الأفول يدل على الزوال والتغير، والزوال والتغير علامات نقص تخرج صاحبها عن حد الكمال, فلا يصح أن يكون الآفل ربا وإلها. واستدلال إبراهيم -عليه السلام- بالأفول مكنه من مجاراة القوم في معتقدهم، وإقبالهم على مناظرته، وقد تحيروا من أفول الآلهة، فأتاهم إبراهيم -عليه السلام- من حيث تحيرهم، واستدل عليهم بما اعترفوا بصحته وذلك أبلغ في الاحتجاج1. لما رأى إبراهيم الكوكب، قال معهم: هذا ربي، فلما أفل قال: لا أحب الآفلين؛ لأن الإله لا يتغير، ولا يفنى. فلما رأى القمر طالعا, قال معهم: هذا ربي، فلما أفل طلب الهداية من ربه الحق؛ لأن ألوهية القمر ضلال وضياع. فلما رأى الشمس طالعة جارى الناس وقال: هذا ربي هذا أكبر؛ لأن الناس كانوا يعتقدون أن الشمس ملك الفلك، ورب الأرباب، يقتبسون منه الأنوار، ويقبلون منه الآثار، فلما أفلت تبرأ من شركهم، وأعلن إيمانه بالله الواحد الأحد، خالق السموات والأرض. والمجاراة عند إبراهيم -عليه السلام- منهج تربوي، وقوله: {هَذَا رَبِّي} كان بلسانه فقط؛ لأن الله أراه منذ البداية ملكوت السموات والأرض، فلا رب له سواه، وكان يطلب منه الهداية خلال المجاراة. يقول الشهرستاني: "وطلب الهداية من الرب سبحانه وتعالى هي غاية التوحيد، ونهاية المعرفة، والواصل إلى الغاية والنهاية كيف يكون في مدارج البداية؟؟ "2.

_ 1 الملل والنحل ج1 ص55 بتصرف. 2 المرجع السابق ج1، ص56.

والمتبرئ من شرك القوم دليل على اقتناعه بعقيدته، فهو وإن جاراهم فلحاجة قصدها، وغاية عمل لها ... والتبرؤ من كفرهم, وعباداتهم في النهاية دليل قصده منذ البداية، وإن لا لاستغرق الأمر عنده كثيرا من العمل والأجل. ومن فطانة النبوة قوله لما رأى الشمس: {هَذَا أَكْبَرُ} ؛ لأن هذا التعبير يبطل تأليه الكواكب والقمر؛ لأنها أصغر تزول بوجود الأكبر، وأيضا ففي العبارة شهادة حق عندهم تجعلهم يثقون في رأيه، ويسلمون بعدله ونصفته، فإذا ما تبرأ منها بعد ذلك لزوالها صدقوه، وكانوا معه. لكن عبدة الكواكب استمروا على ضلالهم، ولم يأبهوا بدعوة إبراهيم, وأخذوا في مجادلته وحاولوا تخويفه من آلهتهم؛ ولذلك تركهم عليه السلام بعدما أدى واجبه، وقال لهم ما حكاه الله عنه، قال تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} 1.

_ 1 سورة الأنعام آية: 80.

النقطة الرابعة: ركائز الدعوة في قصة إبراهيم عليه السلام

النقطة الرابعة: ركائز الدعوة في قصة إبراهيم عليه السلام مدخل ... "النقطة الرابعة": "ركائز الدعوة في قصة إبراهيم عليه السلام" نظرا لتنوع البيئات والأقوام الذين دعاهم إبراهيم -عليه السلام- فقد كثرت الدروس والعبر التي تستفاد من قصته عليه السلام. ولأهمية إبراهيم في تاريخ الدعوة، قال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} 1، وإني أحاول مستعينا بالله تعالى أن أوضح بعض جوانب الأسوة في دعوة إبراهيم -عليه السلام- في إطار الركائز التالية، وذلك بإيجاز اعتمادا على سبق ورودها في القصة.

_ 1 سورة الممتحنة آية: 4.

الركيزة الأولى: شخصية مبلغ الدين

"الركيزة الأولى": "شخصية مبلغ الدين" يعتبر إبراهيم -عليه السلام- شخصية مثالية في مجال الدعوة إلى الله تعالى، فهو عليه السلام كمل إيمانه بالله تعالى، ووصل فيه إلى حد العلم الواضح, واليقين التام، وبذلك صار متمكنا من نقل الإيمان إلى غيره، ومن المعلوم أن فاقد الشيء لا يعطيه، ولا يتصور أن يكمل الناقص غيره أبدا، يقول الله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} يفسر العلماء هذه الآية, فيوضحون أن {إِذْ} ظرفية، ومعنى الآية: أرسلنا إبراهيم لقومه وقت أن صار قادرا على مخاطبة قومه، وتكميلهم بما أرسل به. والكمال الإيماني عند إبراهيم -عليه السلام- واضح في سيرته كلها، فقد واجه قومه في بابل، وعرفهم بالله، الواحد، الأحد، المتصف بكل كمال، المتحكم في كل أمر وإليه المرجع والمآب. يروى أنه لما ألقي به في النار, جاءه جبريل -عليه السلام- وسأله: ألك حاجة؟ فرد عليه: أما إليك فلا, وأما إلى الله فعلمه بحالي يغني عن سؤالي. ونجاه الله من النار، وأمره بالهجرة من موطنه، فأطاع ربه: {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} وحط رحله في المكان الذي حدده الله له. ولما رُزق بإسماعيل في شيخوخته تعلق بولده الوحيد البكر، وحينئذ أمره الله تعالى بإسكانه مكانا قفرا، خاليا من النبات، والماء، والناس, فأطاع ربه، وأسكن ولده وأمه هاجر في مكان مكة الحالية طاعة لله تعالى، وقفل راجعا إلى الشام حيث إقامته مع سارة زوجته الأولى، لقد تركهم بجسده وعايشهم بعقله وعواطفه، يروى أنه -عليه السلام- لما وصل عند

الثنية1، وقف في مكان يراهم منه ولا يرونه، ونظر إليهم ودعا الله لهم بما أورده القرآن الكريم. ولما شب إسماعيل، وصار قادرا على السعي والعمل, أمر الله إبراهيم -عليه السلام- بذبحه فأطاعه، وأخبر إسماعيل بأمر الله فأطاع إسماعيل أيضا، وأسلما الأمر لله، وأخذا في التنفيذ، إلا أن الله تعالى أنزل كبشا من الجنة؛ ليذبح فداء لإسماعيل. إن إبراهيم -عليه السلام- قدوة إيمانية عالية؛ ولذلك جعله الله للناس إماما، واختصه وبنيه بالنبوة والكتاب إلى يوم القيامة. وقد ربط الله تعالى أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- بإبراهيم -عليه السلام- فهم يتجهون في صلاتهم إلى الكعبة التي بناها إبراهيم، ويعيشون حياة هاجر وإسماعيل في فريضة الحج، وهم يطوفون بالبيت، ويسعون بين الصفا والمروة، ويتضلعون من ماء زمزم، ويضحون في عيدهم الكبير، يفعلون ذلك عساهم أن يستفيدوا بعظمة هذه الأسوة في قصة إبراهيم -عليه السلام- ويعملوا بها. إنه -عليه السلام- كان عارفا بكل من دعاهم إلى الله تعالى، فهو يعرف لغتهم، ومذاهبهم، وعاداتهم، ومكان تجمعهم؛ ولذلك خاطبهم بلسانهم، وفهم ردودهم، وحاورهم، وكان عليه السلام يخاطب كل فريق في تدينه, ومذهبه، أيا كان إلهه وضلاله, ومن هنا كانت دعوته لأبيه غير دعوته للملك، غير دعوته لعبدة الأصنام والكواكب وغيرهم؛ لأنه لو ابتعد بدعوته عن واقع القوم ما اهتم به أحد، ولعاش في واديه بعيدا عن الناس. لقد كان عليه السلام يستدل بالأدلة المفهومة، المتصلة بالناس، وأصنامهم وضلالهم؛ ولذلك لم يتمكنوا من الرد على تساؤلاته، وإنما كانوا يلجئون إلى التهديد والعدوان بعيدا عن موضوع الحوار.

_ 1 الثنية: مكان يشرف على الحجون, ومنها دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة في عمرة القضاء.

وقد أُوتي عليه السلام فطنة في الدعوة، وعبقرية في الجدل والحوار، وقد سبق عرض مواقفه مع أبيه ومع النمرود, وكيف جارى عبدة الكواكب حتى انتهى معهم إلى استحالة ألوهية النجوم والكواكب، وموقفه في تكسير الأصنام، وحديثه عن هوانها برهان فطنته التي جعلت الناس يقولون بما قاله في الأصنام، ونطقوا بكل وضوح: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} . ومن فطنته -عليه السلام- أنه تخلص من المواقف الصعبة، بإجابات صادقة، فهمها أعداؤه على وجه يرضيهم، من ذلك قوله لجبار مصر عن سارة: إنها أختي، فصدقه الجبار مع أنه -عليه السلام- كان يقصد أخته في الإيمان؛ لأنها زوجته. ولما كسر الأصنام وسأله الناس: {مَنْ فَعَلَ هَذَا} ؟ أشار بأصبعه الكبير نحو الصنم الكبير، وقال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} يقصد أصبعه، وفهم الناس أنه يقصد الصنم الكبير. وقوله لعبدة الكواكب: {هَذَا رَبِّي} على وجه المجاراة، مع أنه يعرف حدوثها وعدم صلاحيتها للربوبية، وقد ضمن كلامه ما يشير إلى صدق عقيدته من اللحظة الأولى.

الركيزة الثانية: منهجية الدعوة إلى الله

"الركيزة الثانية": "منهجية الدعوة إلى الله" بتتبع دعوة إبراهيم -عليه السلام- نستنبط خطة دقيقة، تصور منهجا كاملا في حركة الدعوة يعتمد المبادئ التالية: 1- التخلية قبل التحلية: يقصد العلماء بهذا المبدأ تطهير الإنسان ظاهرا وباطنا من صور الفساد، وألوان الضلال على اختلافها؛ ليتسنى له الانتقال إلى الصواب والهدى في أمن وهدوء؛ لأن الإنسان الواحد لا يجتمع فيه الأضداد حين تتحد جهاتها، فهو لا يكون كافرا ومؤمنا في وقت واحد، وبدين واحد. وحينما يجمع الإنسان المتعارضين يصاب بالقلق والاضطراب، ولا يكون مخلصا لواحد منهما؛ ولذلك كانت إزالة الكفر وهو ما يعرف بالتخلية أولا أمرا واجبا, وبعده يغرس الإيمان وهو ما يعرف بالتحلية ... إن الكوب الواحد لا يمتلئ بالنجاسة والطهارة معا في وقت واحد، وحتى نملأه بالماء الطاهر يجب أن ننظفه من الماء النجس أولا. هذا المبدأ منهج أساسي عند علماء التربية، والنفس, والاجتماع؛ لما فيه من فائدة وأثر. اتبع إبراهيم -عليه السلام- هذا المبدأ؛ ولذلك كان يبدأ مع من يدعوهم ببيان فساد ما هم عليه من دين، يقول الله تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} . ويبدأ مع عَبَدَة الكواكب بمجاراتهم في عبادتهم؛ لينتهي بهم إلى بيان فسادها ... وبعد ذلك يدعوهم إلى الإيمان بالإله الحق الذي أرسله لهم.

2- مراعاة أوليات لها أهميتها: تتضمن عملية الدعوة جوانب عديدة، تحتاج من القائم بالبلاغ إلى معرفتها، فهناك موضوع الدعوة، وأساسياته: العقيدة، والشريعة، والأخلاق، وفي موضوع الدعوة تظهر أمور تحتاج إلى التركيز، وتفرض نفسها لأهميتها ليبدأ بها حامل الرسالة ... وهناك المدعوّون، وهم طبقات وأفراد، وبعضهم أولى من غيره بدعوته أولا، وبعده يكون الآخرون. كما توجد الوسائل والأساليب، وهي متنوعة، عديدة، إلا أن بعضها أحق بالبدء به من غيره ... وهكذا. ولذلك صار معلوما أن للدعوة أوليات يجب ملاحظتها بالبدء بالأهم، ثم بالمهم ... وهكذا، وقد لاحظ إبراهيم -عليه السلام- هذه الأوليات فبدأ بها.... فلقد بدأ بدعوة الملك؛ لما له من مقام وتأثير في الناس، وخص أباه بالدعوة مع أنه واحد من عبدة الأصنام ... ثم كانت بعد ذلك دعوته إلى الناس. ومع موضوع الدعوة كان ينادي في الناس بالتوحيد الخالص؛ لأنه أول قضايا الدعوة وأهمها، ومن وحد أطاع واستسلم، ومن ناحية الوسيلة كان يبدأ بالمواجهة المباشرة، ثم يكون الاستفهام والجدل والمجاراة. وكان عليه السلام يفضل استخدام الأساليب العاطفية التي ترقِّق القلوب, وتصنع الألفة والمودة، فيناديهم بقوله: {يَا أَبَتِ} ، {يَا قَوْمِ} ، وكان إذا يئس من إيمانهم يتبرأ منهم ومن آلهتهم، ويعلن لهم ضيقه وسقمه، ويكيد لهم ولأصنامهم، ويكسرها، ويهينها. وحوادث القصة تشير إلى مراعاة الأوليات؛ لما لها من فائدة في الدعوة إلى الله تعالى.

3- التوافق مع الواقع: عاش إبراهيم -عليه السلام- مع الواقع وهو يدعو إلى دين الله تعالى, فهو عليه السلام يلاحظ ما للملك من مقام وسلطان، فلا يصطدم به ولا يماريه، وإنما يلجأ إلى دليل موجز مقنع لم يتمكن الملك من الرد عليه. كان يمكن لإبراهيم -عليه السلام- أن يبين للملك ضعفه وعجزه وحاجته إلى خالقه ... ومع ذلك تركه إلى ما ذكر من دليل مراعاة لوضعية الملك، وإرضاء لمنزلته ... مع التزام بالحق، وتوافق مع الواقع. وكان لإبراهيم -عليه السلام- مع أبيه نفس المسلك فلم يصرح بضلاله، ولم يصطدم مع مشاعره، وإنما وجه إليه عددا من الأسئلة في أسلوب رقيق، تبين مراده، وتحافظ على مقام البر بأبيه، وحتى حين أراد أن يواجهه بضلاله أشرك القوم معه, فقال: {إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} . إن التعامل مع الواقع فن يجب المحافظة عليه في كل وقت؛ لتتلاءم الدعوة مع كل زمان ومكان.

الركيزة الثالثة: وسائل دعوة إبراهيم

"الركيزة الثالثة": "وسائل دعوة إبراهيم" استعمل إبراهيم -عليه السلام- كافة الوسائل التي تمكنه من تبليغ دين الله للناس الذي أرسل إليهم به. فلقد استفاد بوسيلة الاتصال الشخصي, ويراد بها التوجه إلى أشخاص معروفين، ومخاطبتهم فردا فردا. وللاتصال الشخصي فائدة، وهو أن الداعي يطلع على أثر دعوته فيمن يخاطبه، ويمكنه مناقشته في الشبه التي يثيرها معه ... ومن فوائده أنه يدفع العقل إلى التفكير والنظر بعيدا عن الجماعة. استفاد إبراهيم -عليه السلام- بهذا الأسلوب فدعا أباه، ودعا الملك على ضوء ما فهمنا من القرآن الكريم. وتوجه إبراهيم -عليه السلام- إلى الناس بوسيلة الاتصال الجمعي، ويراد به مخاطبة جمهور من الناس بواسطة، أو بغيرها، سواء كان اجتماعهم وفق نظام وخطة, أو بصورة تلقائية دعا إبراهيم -عليه السلام- قومه وهم مجتمعون في يوم عيدهم، وبين لهم هوان آلهتهم وفسادها. ودعا إبراهيم -عليه السلام- بالوسيلة العملية بعد أن كسر الأصنام، ووضح لهم أنها آلهة لا تنفع نفسها، ولا ترد عدوانا يقع عليها، ودعاهم إلى ترك عبادتها، وعبادة الله وحده. ولما خاطب عبدة الكواكب, اتخذ من الكواكب نفسها وسيلة توضيحية تشرح عدم استحقاقها للعبادة أبدا. والمجاراة فن ناجح في الدعوة إلى الله تعالى، وهو أن يسلم الداعية للمخاطب ظاهرا بما يؤمن به، ويجعل نفسه شريكا له في معتقده، ثم يأخذ في التساؤل عن هذا المعتقد؛ ليظهر حقيقته، ويوضح مدى قربه أو بعده عن الحق. لقد اتبع الغزالي هذا المنهج حينما شك في كل المذاهب، وأخذ يناقش أصحاب كل مذهب بأسئلة يظهر بها فساد المذهب, حتى وصل إلى المذهب الحق، ووضع منهج الإنقاذ من الضلال. وهذا لون من المجاراة ... اتبع إبراهيم -عليه السلام- هذا المنهج مع من دعاهم إلى الله، وقد أورده القرآن الكريم للعبرة والفائدة.

الركيزة الرابعة: أساليب الدعوة

"الركيزة الرابعة": "أساليب الدعوة" بمراجعة آيات القرآن الكريم وهي تتحدث عن دعوة إبراهيم -عليه السلام- نرى استعمال إبراهيم -عليه السلام- لعدد من الأساليب، وأهمها أسلوب الاستفهام؛ فلقد استعمله في خطاب أبيه، ومناقشة عبدة الأصنام، واستعمله مع ابنه إسماعيل حين سأله عن الذبح وقال له: {مَاذَا تَرَى} ؟ إن الاستفهام يرد للإنكار، وللتقرير، وللتعجب، كما يرد للبحث عن الحقيقة، وهو في كل أحواله مفيد؛ لأنه يحرك عقل طرفي النقاش حول البحث عن غاية السؤال وإجابته، ويجعل كل طرف يبرز ما لديه من فكرة يراها صحيحة، وقد يقدم الاستفهام دليلا مقنعا؛ لأن المسئول إذا عجز عن الإجابة, فقد يسلم بما يريده السائل، ويرضى بفكرته. ولذلك فإنه أسلوب يحتاج إلى فطنة حامل الرسالة؛ ليختار من الأسئلة ما يحرك المشاعر، ويظهر الحق. ومن أمثلة فطنة إبراهيم -عليه السلام- مع استفهاماته قوله: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} ؟ {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} ؟ {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} ؟ فهذه أسئلة يعرفون إجابتها؛ لأنهم يصنعون الأصنام بأيديهم، وينحتونها في مصانعهم، ويبيعونها للناس، ويعبدونها معهم بعد أن يطلقوا عليها أسماء الآلهة من عند أنفسهم؛ ولذلك فإن السؤال حينئذ إنكار قوي لتأليه الأصنام، وضرورة إعمال العقل، وتوجيه السؤال في هذا المجال أسلوب حسن في الدعوة.

ومن الأساليب التي استعملها إبراهيم -عليه السلام- في الدعوة مجاراة الخصم، واستدراجه نحو الإيمان؛ لأن الاستدراج يوهم المشاركة في الاعتقاد، والتوحد في السلوك، وحينئذ يلتقي الداعي والمدعو في تفهم القضية، ويقبلان على اكتشاف حقيقتها. والإنسان عموما يحب من يشاركه في الدين، وينفتح قلبه له؛ لأنهما معا في مسار واحد، والمجاراة تحقق هذا لحامل الدعوة. جاء إبراهيم للناس، وعرفهم بأنه رسول الله، وطلب منهم أن يشتركوا معه في التوجه للإله، فلما رأى كوكبا ... أخبرهم أنه معهم في عبادته، وقال: {هَذَا رَبِّي} ... ثم تبرأ منه لأُفُوله وزواله؛ لأن الزائل لا يصلح للألوهية ... ثم انتقل من الكوكب إلى القمر، وإلى الشمس ... وأخيرا تبرأ من كل آلهتهم لهوانها وزوالها، وبذلك كانت الحجة معه عليهم. ومن أساليب إبراهيم -عليه السلام- في الدعوة أنه كان ينتقل في الموقف الواحد، من دليل لدليل آخر إذا رأى جدلا، ومماراة من القوم؛ لأنه يركز على قضيته، فكل ما يفيدها يأتي به. ولو نظر لنفسه لاعتز بمقالته، ودافع عنها, ولكنه -عليه السلام- عاش لرسالته، ووفى ما عليه، وآتاه الله أجره في الدنيا، قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} 1.

_ 1 سورة البقرة آية: 120.

لوط عليه السلام

لوط عليه السلام النقطة الأولى: التعريف بقوم لوط ... 7- لوط عليه السلام: لوط -عليه السلام- ابن أخي إبراهيم -عليه السلام- نشأ معه في بابل، واستمع له، وصدقه وآمن بدعوته، وهاجر معه إلى "حوران", ولما هاجر إبراهيم إلى مصر انتقل لوط إلى "سدوم" وهي قرية تقع شرق النهر في غور الأردن على البحر الميت، وهو بذلك كان قريبا من مقام إبراهيم -عليه السلام- بعد عودته من مصر. والحديث عن لوط ودعوته يحتاج إلى دراسة النقاط التالية: "النقطة الأولى": "التعريف بقوم لوط" قوم لوط هم أهل "سدوم"؛ لأنه عاش بينهم، وتكلم بلسانهم، واتخذ بلدهم سكنا له وموطنا1. عبد قوم لوط عددا من الآلهة، إلا أنهم استغرقوا في إشباع شهواتهم وملذاتهم، واخترعوا في الإشباع الجنسي ما لم يعرفه أحد قبلهم، فكان الرجل يأتي الرجل سعيدا بفعلته، مع أنه شذوذ معارض للفطرة. وقد أعطاهم الله تعالى كثيرا من نعمه وآلائه، فأخذوها ووضعوها في غير موضعها؛ ولذلك وصفهم الله تعالى فقال: {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} 2.

_ 1 سدوم: مجموعة من القرى متجاورة سكنها لوط, فصار أهلها قومه؛ لأنه سكن معهم، وتكلم بلغتهم "معجم البلدان ج3 ص200". 2 سورة الأنبياء آية: 74.

ولتجمع أهل القرية على فعل الخبائث, أسند الله الفعل إلى القرية؛ لبيان تمكن أهلها في السوء، مع أنه فاحشة، ينكرها العقل السليم، ويأباها الذوق والعفاف، لكنهم لسوئهم كانوا يفعلونها جهرة، وبلا حياء أو تحرج، حتى إنهم شيدوا الأندية لإتيان الفاحشة فيها بصورة جماعية، يقول الله تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} 1. وسيطرت هذه الفاحشة على نشاطهم وحياتهم، لدرجة أنهم كانوا يرصدون الطرق؛ أملا في العثور على رجل وافد يشبعون معه شهوتهم. استمروا على ما هم عليه حتى أتاهم لوط -عليه السلام- ودعاهم إلى التوحيد، وترك ما هم عليه من فاحشة، وعدوان. لم يهتموا بالدعوة، وكفروا بالله، واستمروا في غيهم حتى نزل بهم أمر الله؛ فأهلكهم ودمرهم. وكما غيروا الفطرة، وقلبوها على غير وجهها، قلب الله عليهم قريتهم وجعل عاليها سافلها، ونجى الله لوطا -عليه السلام- ومن آمن به.

_ 1 سورة العنكبوت آية: 29.

النقطة الثانية: التعريف بـ"لوط" عليه السلام

"النقطة الثانية": "التعريف بـ "لوط" عليه السلام" آمن لوط -عليه السلام- برسالة عمه إبراهيم، وهاجر معه إلى بلاد الشام، واستقر في "سدوم" بعد عودة إبراهيم -عليه السلام- من مصر. وتزوج من عرب "سدوم" وتكلم بلسانهم، فهم قومه الذي بعث فيهم. أرسله الله إلى "سدوم" وما حولها من القرى؛ ليدعوهم إلى التوحيد الخالص، ويبعدهم عن الفحشاء التي سيطرت عليهم ... وكان للوط ابنتان من زوجته، آمنتا بدعوته، واتبعتاه في الطاعة لله والانقياد لرب العالمين. أما زوجته فلم تؤمن بدعوته، وكانت مع قومها تنقل لهم أخباره -عليه السلام- وتعرفهم بمن ينزل عليه من الضيوف ليتمكنوا منهم، ويشبعوا شهواتهم؛ ولذا فقد هلكت مع الهالكين. واستمر الإيمان منحصرا في بيت لوط وحده، يقول الله تعالى: {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 1. وقد مدح الله لوطا، وبيَّن منزلته العالية وقدره السامي، فقال تعالى: {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} 2، وقال تعالى: {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} 3 وكان عليه السلام على رأس المؤمنين الذين نجوا من هلاك الظالمين.

_ 1 سورة الذاريات آية: 36. 2 سورة الأنبياء آية: 75. 3 سورة الأنبياء آية: 74.

النقطة الثالثة: حركة لوط عليه السلام بالدعوة

"النقطة الثالثة": "حركة لوط -عليه السلام- بالدعوة" لما بلغ لوط -عليه السلام- الأربعين, أرسله الله تعالى إلى قومه في "سدوم" ليصلح دينهم وحياتهم، فبدأ -عليه السلام- يبين لهم ما يدعوهم إليه، وهو توحيد الله تعالى وإخلاص العبادة له، ووضح لهم أنه أخ لهم أمين، مخلص في دعوتهم، يعمل على تحقيق الخير والسعادة لهم بلا أجر أو مقابل؛ لأنه سينال أجره من الله الذي أرسله، قال لهم ما حكاه القرآن الكريم، قال تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} 1. وهكذا دعاهم في هدوء ورفق، وبين لهم بصدق وأمانة، ولكنهم كذبوه وهددوه بالطرد، واتهموه بالعدوان على سلوكهم، وطلبوا منه أن يبتعد عن الناس، ومن أقوالهم له: {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} 2، {قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} 3, {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} 4. كذبوا دعوته، وهددوه بالطرد، وأمروه بالبعد عن الناس، وجعلوا التطهر تهمة يستحق فاعلها الطرد والإخراج من القرية، والنفي من البلاد. واستمر لوط -عليه السلام- في دعوة قومه، وأخذ في توضيح ضلالهم، وفساد ما هم عليه، وبين لهم أن انهماكهم في الفاحشة هو الذي أفسد عقولهم، وأضلهم عن الصواب. وأخذ في دعوته طريقة الاستفهام ليوقظ مشاعرهم، وينبه عقولهم إلى ما عساه قد غاب عنهم، قال لهم: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} 5.

_ 1 سورة الشعراء الآيات: 161-164. 2 سورة الشعراء آية: 167. 3 سورة الحجر آية: 70. 4 سورة النمل آية: 56. 5 سورة الشعراء آية: 165.

وهو سؤال بسيط، لكنه يبين بعدهم عن الفطرة السليمة، وشذوذهم المخالف لأسباب الوجود، فقد أوجد الله الحياة على أساس تزاوج الذكر والأنثى، وسار على ذلك أمر الناس إلى يومهم هذا، فما بالهم يشذون, ويأتي الذكر مثيله؟!! وبين لهم عليه السلام أن فعلهم عدوان وظلم, حيث قال: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} 1. وعرفهم أن ذلك إسراف وجهل، ومضاد للفطرة، وكله فحش وضياع، قال لهم: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} 2, قال تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} 3. ووضح لهم أن التمادي في هذه الفاحشة قطع للنسل، وعدوان على الرجال، وقتل للحياء ... وسوف يتحملون وزره، ووزر من يأتي به إلى يوم القيامة؛ لأنهم المخترعون له، ولم يسبقهم أحد إلى فعله، قال لهم عليه السلام: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ، أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} 4، بين لهم, ونصحهم، وخوفهم من عذاب الله ... في الدنيا، وفي الآخرة ... لكن ... القوم أعموا أبصارهم، وبصائرهم، واستهزءوا به، وردوا عليه: {ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} 5.

_ 1 سورة الشعراء آية: 166. 2 سورة الأعراف آية: 81. 3 سورة النمل آية: 55. 4 سورة العنكبوت الآيات: 28, 29. 5 سورة العنكبوت آية: 29.

وظنوه كاذبا ولم يأبهوا به وبدعوته، فاتجه لوط لربه قائلا: {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} 1. ضيوف لوط: أراد الله ابتلاء قوم لوط قبل إهلاكهم، فأرسل إلى لوط -عليه السلام- عددا من الملائكة، في صورة رجال حسان، أتوه سائرين على أرجلهم، بعد أن مروا على إبراهيم -عليه السلام- أولا، وبشروه وزوجته سارة بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب. ولما رأى لوط ضيوفه خاف عليهم، وتألم لعجزه عن صد قومه عنهم، وأسرعت زوجته إلى الناس تخبرهم بمجيء ضيوف لوط، وتصف لهم محاسنهم وجمالهم, فجاءه الرجال مسرعين لقضاء شهواتهم، ورغباتهم الشاذة. وعرض عليهم عليه السلام أن يتزوجوا بناته بطريقة شرعية, قال تعالى: {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} 2. ردوا عليه بكل استهتار وكبر، قال تعالى: {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} 3. فقال لهم عليه السلام: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} 4, فعرفهم لجوءه إلى الله، وأنه لو تمكن من ردهم بقوة الناس لفعل، لكنه يستسلم لله، ويعتمد عليه، وهنا طمأنته الملائكة، وعرفته أنهم رسل من الله جاءوا لإهلاك القوم الظالمين، قال تعالى: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا

_ 1 سورة العنكبوت آية: 30. 2 سورة هود آية: 78. 3 سورة هود آية: 79. 4 سورة هود آية: 80.

إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} 1. وسار لوط -عليه السلام- ومن آمن معه في جزء من الليل، وعند الصبح جاءتهم صيحة، ورفع الله القرية فجعل عاليها سافلها، ورماهم بحجارة من سجيل، فأهلكهم جميعا، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} 2، لقد أنزل الله عليهم الحجارة، معلمة من الله، على كل حجر اسم من سيقتله، وكانت العقوبة مساوية لجرمهم، في صيغتها وشدتها, فإنهم غيروا الفطرة، وقلبوا الحقائق، وعبدوا غير الله، وأتوا الذكران، وتفاخروا بالفسق، فكانت عقوبتهم انقلاب القرية عليهم، وإهلاكهم وهم جلوس بواسطة أحجار صغيرة تلقى على رءوسهم، وهي السجيل المنضود، وإبقاءهم عبرة لغيرهم. وما زالت قريتهم "سدوم" باقية حيث كانت، عند البحر الميت؛ للتذكر والاعتبار، قال تعالى: {وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 3. وهكذا ... أهلك الله قوم لوط بعقوبة تتناسب مع ضلالهم وفسادهم.

_ 1 سورة هود آية: 81. 2 سورة هود آية: 82. 3 سورة العنكبوت آية: 35.

النقطة الرابعة: ركائز الدعوة في قصة لوط

النقطة الرابعة: ركائز الدعوة في قصة لوط الركيزة الأولى: العلاقة بين الدعاة ... "النقطة الرابعة": "ركائز الدعوة في قصة لوط" تمدنا قصة لوط -عليه السلام- ودعوته لقومه بعدد من الدروس والعبر، نشير إلى أهمها في الركائز التالية: الركيزة الأولى: العلاقة بين الدعاة بعث لوط -عليه السلام- في "سدوم", وهي مجموعة قرى تقع في شرق النهر، وبعث إبراهيم في قومه عند بيت المقدس غرب النهر، وكانت المسافة بينهما قصيرة

قطعتها الملائكة مشيا حتى أتوا لوطا عليه السلام. فلوط وإبراهيم -عليهما السلام- بعثا في وقت واحد، وكان إبراهيم يتتبع أخبار لوط ويتمنى له النجاح والفوز؛ ولذا حينما أخبرته الملائكة بإهلاك أهل "سدوم" خاف على لوط، ونبه الملائكة إلى وجود لوط في القرية، فطمأنوه، وقالوا له ما حكاه الله تعالى في قوله سبحانه: {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} 1. هذا التواصل والتناصر يجب أن يكون أساس التعامل بين دعاة اليوم؛ ليستفيد كل بما عند أخيه من تجربة، وعلم، وخبرة؛ لأن نجاح الواحد نجاح للآخر. ولا يصح مطلقا أن يكون التنافس، والتضارب موجودا بين الدعاة ... إن جميع الدعاة يخدمون دينهم، ولن ينجحوا في أداء مهمتهم إلا بالحب والتعاون والموالاة.

_ 1 سورة العنكبوت آية: 32.

الركيزة الثانية: منطق أعداء الحق

الركيزة الثانية: منطق أعداء الحق: من دعوة لوط -عليه السلام- نرى أعداء الحق، وجرأتهم على الباطل، والتبجح به، وفقدانهم كل ألوان الحياء في الأقوال والأفعال، حيث نراهم يوجهون الاتهامات المخترعة للوط، ويصورون المزايا سوءا، ويقلبون العفة والطهر إلى خطأ وعدوان. قال تعالى: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} 1، فجعلوا الطهارة جريمة، ونظروا إلى العفة كأنها عامل من عوامل التخلف، والإضرار بالمجتمع؛ ولذلك حذروا لوطا من دعوته للطهارة والعفة، وإلا طردوه من "سدوم" وأخرجوه منها، قال تعالى: {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ

_ 1 سورة الأعراف آية: 82.

يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} 1، واتهموا لوطا -عليه السلام- بأنه يفسد الناس، وينشر بينهم السوء بدعوته، وتساءلوا منكرين: {قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} 2، أنكروا عليه اتصاله بالناس بعدما نهوه عن ذلك، مع أنه يتصل بهم داعيا إلى الخير، هاديا إلى الصراط المستقيم ... وبلغ من وقاحتهم وجرأتهم، أنهم كانوا يأتون المنكر علانية، بلا حياء، ولما علموا بقدوم ضيوف لوط، أتوه مسرعين؛ لينالوا بغيتهم، قائلين للوط بعدما عرض الزواج ببناته، قال تعالى: {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} 3، وكأن الشذوذ صار حقا معروفا لهم، وعليه أن يسلم به، ولا يعارضهم. إن أعداء الدعوة اتهموا لوطا -عليه السلام- سَفَها منهم، بما يلي: 1- ملازمته للطهر والعفة، ودعوته إلى التمسك بهما، جريمة منكرة. 2- دعوة لوط الناس إلى التوحيد وعبادة الله، دعوة إلى الفساد، والفرقة. 3- اتصال لوط بالناس، وتحريضهم على نبذ الأصنام، وترك المنكرات، يعد إساءة للنظام. هذا هو منطق أعداء الدعوة، يلبسون الباطل ثوب الحق، ويعتمدون على سلطانهم وبطشهم، وما دروا أن الله منفذ وعده وهو على كل شيء قدير. وعلى الدعاة أن يتمسكوا بقضيتهم، ويدعوا إليها، بخلق، ولين، ويتحملوا كل هذه السفاهات بصبر، وعزيمة، وقد واجه لوط -عليه السلام- تهديد قومه له وللمؤمنين، وبين لهم أن الباطل لن يكون حقا أبدا، والجريمة هي الجريمة, والشذوذ مرفوض بالشرع والعقل، ولذلك هو يرفضه، ويدعو قومه إلى البعد عنه، كما قال تعالى: {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ، رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} 4.

_ 1 سورة الشعراء آية: 176. 2 سورة الحجر آية: 70. 3 سورة هود آية: 79. 4 سورة الشعراء الآيات: 168, 169.

الركيزة الثالثة: الاهتمام بعلاج المرض وأسبابه

الركيزة الثالثة: الاهتمام بعلاج المرض وأسبابه دعا لوط -عليه السلام- قومه إلى التوحيد، لكنه رأى فيهم انصرافا إلى الشهوة، واستغراقا في الهوى، الأمر الذي حول نشاطهم إلى الفسق والشذوذ. وكانت لهم أصنامهم، لكنها كانت هامشية في حياتهم ونشاطهم؛ ولذلك ركز لوط -عليه السلام- على المرض المتفشي فيهم، وأخذ يبين لهم مساوئه عساهم أن يبتعدوا عنه، فهو سوء في نفسه، وسبب لبعدهم عن الله تعالى، وتركهم عبادة خالقهم سبحانه وتعالى. إن مسلك لوط -عليه السلام- هو ما يعرف بالتخلية أولا قبل التحلية، وهو منهج حسن في دعوة الناس إلى الله تعالى، ينتهي بهم إلى توحيد الله تعالى بصدق وإخلاص. ودعوة لوط -عليه السلام- إلى ترك ما هم فيه من شذوذ، ليس بعيدا عن دعوتهم إلى التوحيد؛ لأن الالتزام بالفطرة التي خلق الله الناس عليها يتصل تلقائيا بمقتضى الاعتقاد في الله وحكمته، ولطف تدبيره؛ ولذا كان الانحراف عن الفطرة متصلا بالانحراف عن العقيدة الصادقة، وبعدا عن منهج الله للناس.

الركيزة الرابعة: أساسيات في الدعوة

الركيزة الرابعة: أساسيات في الدعوة نلحظ في دعوة لوط -عليه السلام- بعض الأساسيات الاجتماعية التي توجد في حياة الناس, وفي مجال الدعوة، وأهمها: 1- ارتباط الشذوذ الخلقي بالانحراف الديني، والعكس بالعكس تماما، في كل مكان وزمان. فلقد أدى إهمال الدين في عصر النهضة الأوروبية إلى ظهور نظريات الانحراف الفكري والخلقي ممثلة في نظرية فرويد، ونظرية دارون، ونظرية ماركس.. لأن أصحابها وضعوا أنفسهم في موضع الله وأخذوا يشرعون، وينظمون للناس. 2- المعاندون لدين الله تعالى يعملون ابتداء على إفساد الأخلاق؛ ليتسنى لهم القضاء على الدين كله بعد ذلك، ومن وسائلهم اتهام الطهر والعفاف بالعدوانية والتخلف، كأن يجعلوا حجاب المرأة سببا لنشر الرذيلة، وينادوا بتحرير المرأة،

وهم أول من يعرف أن الاختلاط أدى إلى نشر الرذيلة والشذوذ، وسوء الخلق بين الرجال والنساء على حد سواء. 3- ضرورة استعلاء المؤمن بما هداه الله إليه، مع التيقن بأن الحق كله معه فيستمسك به؛ ليدوم مع الصواب والخير، قال تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1. 4- ضرورة تحديد الأمراض الاجتماعية، وإبراز أخطارها أمام الناس؛ ليبتعدوا عنها، وحتى لا يتمكن أعداء الحق من تزيينها، وزخرفتها أمام الجمهور. إن قوم لوط لم يتمكنوا من جريمتهم إلا بعد أن زيّنها الشيطان لهم؛ ولذلك ورثوها لأبنائهم، وكانوا يتسابقون إليها حبا، واعتزازا. 5- أهمية مواجهة الأمراض الاجتماعية بالعقوبة المناسبة؛ لأن القائمين بهذه الأمراض يبذلون جهدهم لإحيائها ونشرها، وإذا لم يرتدعوا فلن ينتهوا؛ ولذلك وجب القضاء عليهم بالعقوبة المناسبة. 6- الحاجة شديدة إلى تعاون أجهزة التوجيه، ومؤسسات تكوين الرأي العام للعمل معا في خطة موحدة؛ لصيانة المجتمع من الأمراض الضارة؛ لأن تفكك الأجهزة يضر ولا يفيد، ويعطي ذريعة لأهل الهوى ليستمروا في ضلالهم.

_ 1 سورة الحج آية: 54.

شعيب عليه السلام

شعيب عليه السلام مدخل ... 8- شعيب عليه السلام: واصل الموكب العظيم من رسل الله دعوة الأقوام إلى دين الله تعالى؛ ليبقى الخير في الأرض، وليستمر الناس على ذكر بالحق، وطريق الله المستقيم، ومن هؤلاء الرسل شعيب عليه السلام. ويبدو أن دعوة شعيب -عليه السلام- كانت بعد دعوة لوط بمدة وجيزة؛ لقوله تعالى: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} 1. فقوم لوط, وما حدث معهم قريب من قوم شعيب زمانا ومكانا. يرى بعض المؤرخين أن نسب شعيب ينتهي إلى الكلدانيين، يقول ابن عساكر: "أم شعيب بنت لوط, وكانت ممن آمن بإبراهيم وهاجر معه إلى الشام"2. وعلى هذا تكون دعوته بعد لوط مباشرة، وفي زمن معاصر لإسماعيل وإسحاق ولدي إبراهيم عليهم السلام. ويؤيد ذلك التصور الجغرافي للعالم العربي يومذاك، فإبراهيم -عليه السلام- في فلسطين، ولوط في "سدوم"، وشعيب في "معان"، وإسماعيل في الحجاز واليمن, وبذلك تكون دعوة الله شاملة للجزيرة العربية وبلاد الشام. والحديث عن شعيب -عليه السلام- ودعوته, يقتضي التحدث في النقاط التالية:

_ 1 سورة هود آية: 89. 2 البداية والنهاية ج1، ص185.

النقطة الأولى: التعريف بشعيب عليه السلام

"النقطة الأولى": "التعريف بشعيب عليه السلام" شعيب -عليه السلام- نبي عربي، بعثه الله تعالى لقومه من العرب العاربة، وقد تميز شعيب -عليه السلام- بالفصاحة والبلاغة، وحسن التوجيه والبلاغ، يقول عنه صلى الله عليه وسلم: "أربعة من العرب: هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر" 1. وكان بعض السلف يسمي شعيبا -عليه السلام- خطيب الأنبياء؛ لما اشتهر به من دقة وفصاحة، وبلاغة في دعوة قومه لدين الله تعالى، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا ذُكر شعيب قال: "ذاك خطيب الأنبياء" 2. وكانت بعثته إلى قومه قبل زمن موسى -عليه السلام- وهنا نلاحظ أن إسماعيل -عليه السلام- كان رسولا إلى عرب جنوب الجزيرة العربية, وتشمل الجراهمة وهم أهل مكة، والعماليق، وأهل اليمن، بينما شعيب كان رسولا إلى عرب شمال الجزيرة العربية، حيث كانت مدين تسكن المكان الذي يتوسط بين مكة وفلسطين قريبا من "تبوك" الحالية، منذ زمن بعيد، وذهب بعض المفسرين إلى أن شعيبا كُف بصره لقوله تعالى: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} 3, قالوا: إن ضعفه بسبب العمى، وقد رده الله إليه سبحانه وتعالى4. ولما أصر قومه على الكفر، رحل شعيب والمؤمنون معه إلى مكة، وأقاموا بها حتى جاءتهم منيتهم فدفنوا بمكة، يذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخه أن شعيبا ومن آمن به ماتوا ودفنوا بمكة، وقبورهم غربي الكعبة بين دار الندوة ودار بني سهم.

_ 1 يبدو أن عروبة شعيب -عليه السلام- المرادة في الحديث عروبة اللسان والإقامة؛ لأن نسبه يرجع إلى الكلدانيين. 2 البداية والنهاية ج1، ص184. 3 سورة هود آية: 91. 4 انظر الكامل في التاريخ ج1، ص157.

النقطة الثانية: التعريف بقوم شعيب

"النقطة الثانية": "التعريف بقوم شعيب" أرسل الله شعيبا -عليه السلام- إلى قومه مدين، وهي قبيلة عربية تسكن في "معان" الواقعة بين الشام والحجاز. وقد سكن بينهم شعيب بعد هجرته من أرض "بابل", وأتقن لغتهم؛ فصار واحدا منهم. وقد أنعم الله على "مدين" بنعم عديدة، أشار إليها قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} وهذه الكثرة بعد القلة شاملة لعددهم, ولمعاشهم، وكافة جوانب حياتهم. فلقد كانوا عددا قليلا فصاروا شعبا عريضا، وكانوا ضعفاء فصاروا قوة يقعدون للناس بكل طريق، وكانوا فقراء فصاروا أغنياء، يعملون ويتصرفون في نتاج بساتينهم بالبيع والشراء. وكان لهم في مجال التجارة سبق وتفوق، وكان موقع قراهم سببا لهذا التفوق حيث تروح القوافل, وتغدو محمَّلة بألوان التجارات صيفا وشتاء. ومع هذه النعم السابغة كفر القوم بالله، وأشركوا معه آلهة أخرى، وعبدوها من دونه سبحانه وتعالى. وشاع فيهم الفساد، وشمل معاملاتهم وأخلاقهم، ومن صور فسادهم: 1- التطفيف في الكيل والميزان، فكانوا إذا اشتروا مكيلا أو موزونا استوفوه، وإذا باعوه أنقصوه. 2- بخس الناس حقوقهم, والبخس أعم من التطفيف؛ لأنه يشمل المعدود، والغش، والحيل، وإنقاص ما للآخرين، والتعدي على كافة الحقوق المادية والمعنوية.

3- الظلم وأكل أموال الناس بالباطل، والبغي بغير الحق، والعدوان على الأنفس والأعراض، وإفساد الأخلاق بنشر الفواحش والآثام ما ظهر منها وما بطن، وهدم العمران بالجهل وعدم النظام، وإنقاص الحقوق، واللهو، والعبث، والعدوان. 4- صَدّ الناس عن الخير والاستقامة، ويروي ابن عباس: أن مدين كانوا يجلسون في كل طريق ليخبروا المارَّة بأن شعيبا كذاب، ويخوفونهم إن اتبعوه، وقد يراد بالصراط الذي اتخذوه وسيلة للصد عن الحق أي وسيلة تمكنهم من ذلك حسية أو معنوية، ولا مانع من إرادة المعنيين معا. 5- محاولة تشويه الحق، وتحويل الدين إلى منهج معوجّ وفق ما يشتهون ويريدون، وهو المراد من قوله تعالى: {وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} . ولهذا بعث الله لهم أخاهم شعيبا يدعوهم إلى التوحيد وحسن المعاملة ومكارم الأخلاق، فكان ما كان منهم. يشير القرآن الكريم إلى أن شعيبا -عليه السلام- أُرسل لقبيلة مدين الذي هو منهم، يقول الله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} , فهو أخوهم، كما يشير إلى أنه أُرسل لقبيلة أخرى عرفت بأصحاب الأيكة, كانت تجاور "مدين" وتشبهها في العروبة، والضلال، والفساد، يقول الله تعالى: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ} . يذهب قتادة وغيره من المفسرين إلى أن أصحاب الأيكة ليسوا هم مدين، مستدلين بدليلين: الأول: أن الله قال مع مدين: "أخوهم شعيب", ولم يذكر ذلك مع أصحاب الأيكة. الثاني: أن الله أهلك مدين بالصيحة، وأهلك أصحاب الأيكة بالظلة، فهما قبيلتان مختلفتان.

وقد رأى بعض العلماء أنهما قبيلة واحدة, وأن الأيكة شجرة عبدها مدين، واتخذوها إلها من دون الله تعالى، وأن الله تعالى لم يذكر مع أصحاب الأيكة الأخوة؛ لأنه لا يناسب ذكر الأخوة مع ذكر إلههم "الأيكة". والذي أراه -والله أعلم- أنهما قبيلتان عربيتان سكنتا شمال الجزيرة العربية, جاءهم شعيب -عليه السلام- بدعوة الله؛ لأن التطور البشري بدأ يظهر في تجمع الناس على فكر واحد، وبخاصة من تجاور منهم، وقد سبق شعيب -عليه السلام- بإرسال إسماعيل -عليه السلام- إلى الجراهمة، والعماليق، وأهل اليمن، وهم قبائل متعددة. دعا شعيب قومه مدين، وأصحاب الأيكة، ووضح لهم الطريق وحاورهم، وبين لهم، لكنهم استمروا على ضلالهم، فأهلكهم الله تعالى، ونجّى الله تعالى شعيبا والمؤمنين معه.

النقطة الثالثة: حركة شعيب عليه السلام بالدعوة

"النقطة الثالثة": "حركة شعيب -عليه السلام- بالدعوة" اختار الله شعيبا -عليه السلام- للرسالة، وكلفه بدعوة قومه، فأخذ في تنفيذ أمر الله له، ونادى في قومه بما كلف به. وبالنظر في حركة شعيب -عليه السلام- وهو يدعو قومه, نراه يسلك منهجا حكيما في توجهه للناس. فهو -أولا- يعرض قضيته الأساسية، ويدعو قومه إلى التوحيد وعبادة الله تعالى وحده, قائلا لهم ما حكاه الله عنه: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} 1.

_ 1 سورة العنكبوت آية: 36.

وقال لأصحاب الأيكة ما قاله لمدين، قال تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} 1. نراه عليه السلام يقرن بدعوة التوحيد الدعوة إلى الإيمان باليوم الآخر، من باب ترغيب الناس فيما ينتظرهم، ويذكرهم بالحساب ليستقيم سلوكهم. ثم أخذ -ثانيا- يقدم الأدلة المؤيدة للدعوة، الشاهدة على أحقية الله بالعبادة وحده، قال لهم ما حكاه الله تعالى: {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} 2. {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} 3. يبين لهم عليه السلام أن الله -سبحانه وتعالى- خلقهم، وخلق الأجيال السابقة جميعا، وقد بارك لهم في كل ما خلق، وزاده كثرة وبركة، وها هي آيات الله تبين لهم صدق دعوته لهم عليه السلام، وعليهم أن يتدبروا في عاقبة الأمم التي سبقتهم ليعتبروا، وحتى لا يحل بهم ما حل بالأمم السابقة. ثم ينتقل عليه السلام -ثالثا- إلى توجيههم نحو إصلاح معاملاتهم وأخلاقهم بعد فسادها وضلالها؛ ذلك لأن دين الله تعالى لا يفرق بين طهارة القلب، وطهارة السلوك، فلا بد لعباد الله المخلصين أن يطهروا قلوبهم بعقيدة التوحيد، وينظفوا جوارحهم وأخلاقهم بمنهج الله الواحد، وبذلك يستند الوجود كله إلى أصل ثابت هو الإيمان بالله تعالى، والصدق في عبادته، والتوجه إليه.

_ 1 سورة الشعراء آيات: 177-179. 2 سورة الشعراء آية: 184. 3 سورة الأعراف آية: 86.

دعاهم عليه السلام إلى إصلاح المعاملة والأخلاق, فقال لهم ما حكاه الله عنه: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ، وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ، بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} 1. وقد بين لهم عليه السلام ما في سلوكهم من عدوان؛ لخلوّ معاملاتهم من العدل، ولإنقاصهم حقوق الناس، ولنشرهم الفساد في الأرض، وصدهم الناس عن الإيمان، وقطع الطريق على المارَّة، وأمرهم أن يغيروا هذا المسلك السيئ، ويوفوا الناس حقوقهم، كيلا, ووزنا، وعدا، ولا يعتدوا على حقوق الآخرين، ويتركوا الفساد في الأرض، وليس من حقهم ولا يليق بهم أن يجلسوا في الطرقات؛ ليقطعوا سبيل المارة ويبعدوهم عن الحق، واتباع شعيب -عليه السلام- وقال لهم: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} 2. وقد نبههم عليه السلام أنهم في غنى عن فعل هذه المظالم، وأنهم لا يحتاجون مالا يأخذونه ظلما من الناس بلا حق، فقال لهم: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} 3، فهم أغنياء، وما أعطاهم الله يكفيهم وزيادة، وليس لهم حاجة

_ 1 سورة هود الآيات: 84-86. 2 سورة الأعراف آية: 86. 3 سورة هود آية: 84.

في أموال الناس؛ لأنهم لو آمنوا لسلكوا هذا المسلك الطيب من تلقاء أنفسهم، فما يعطيه الله كافٍ، وهو الخير كله. لكن القوم لم يسمعوا ولم يؤمنوا، واستمروا في جهالتهم وضلالهم, وقاموا بالرد على شعيب ومواجهته بعدة صور: فمرة يستميلونه بالمدح, قائلين له: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} 1، ظنا منهم أنه باحث عن مجد شخصي، وراغب في السلطان والتعظيم، لكنه -عليه السلام- ليس من هذا الطراز، فهو رسول الله؛ ولذلك لم يتأثر بمديحهم. وأخرى يتهمونه بالكذب في دعوى أنه رسول، وفي قوله: إن الله إله واحد، قائلين, ما حكاه الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} 2، فكذبوه في رسالته؛ لتصورهم أن الرسالة لا تكون لبشر؛ ولذلك عدوه واحدا من الكاذبين الذين يدعون الرسالة بين الحين والحين، فوضعوا أنفسهم في موطن الحكم على رسالة الرسول بلا بينة أو برهان، وذلك من ضلالهم، وعدوانهم. ومرة يتهمونه بأنه مسحور، قائلين له: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} 3، ولم يبينوا له من سحره؟ ولم يذكروا دلالة السحر في دعوته لهم, وهل المسحور يعرض قضية تتصل بالعقيدة والشريعة والأخلاق بهذه الصورة التي عرضها لهم؟ إن كل الدلائل تشير إلى كذب القوم, وضلالهم في هذه الدعوة. ومرة يتصورونه جاهلا يمنعهم من حرية التصرف, فيقولون متهكمين كما قال تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} 4، فهم بقولهم هذا يهزءون

_ 1 سورة هود آية: 87.

بالصلاة وكأنها هي التي أضلت شعيبا، فجعلته ينادي بمخالفة الآباء، ويمنع حرية التصرف الاقتصادي، ويهزءون بشعيب؛ لأنه يأخذ دينه وصلاته من خياله لا من ربه، ويزعمون أن دعوته ليست نابعة عن اقتناع منه لتميزه بالرشد والحلم، والحليم الرشيد لا يقول مثل قوله ... وهذا من ضلال القوم وجهلهم؛ لأن من مقتضيات العقيدة الصحيحة اتباع المنهج الإلهي الصحيح في الشريعة، والأخلاق، أما الزعم بانفصال العقيدة عن أمور الحياة، ونظام الوجود، وألوان الأخلاق فهو باطل في دين الله تعالى. وبعد كل هذه الاتهامات الضالة, انتقل القوم إلى التهديد، فلقد حكى الله عنهم ما قالوه له، قال الله تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} 1، وقال تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} 2. فهو عليه السلام في نظرهم ضعيف، أتباعه قليلون، ولولا عصبته وقرابته لرجموه، وها هم يعلنون له عزمهم على طرده من البلاد، وإبعاده عن إفساد العباد، هو ومن معه، إن لم ينته ويترك دعوته ويعد إلى ملتهم مكرها، لكنه -عليه السلام- وضح لهم أنه لن يعود أبدا إلى ملتهم وضلالهم، بعد أن أنقذه الله تعالى، وآتاه رحمة من عنده، ورزقه رزقا طيبا، كما وضح لهم أنه يدعوهم إلى الحق الذي يؤمن به، ويثق فيه، ولا يصح لأصحاب الحق أن يخالفوا ما يدعون إليه؛ لأن مخالفة الحق كذب وافتراء على الله، لا يرتكبه الرسل والدعاة أبدا؛ ولذلك قال لهم عليه السلام

_ 1 سورة هود آية: 91. 2 سورة الأعراف آية: 188.

ما حكاه الله تعالى: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} 1. يئس القوم من شعيب بعد تهديده؛ ولذلك لجئوا إلى قومه لإبعادهم عن شعيب، يقول الله تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} 2. قابلهم شعيب بأخلاق النبوة والدعوة، وبين لهم عدة أمور: 1- فهو عليه السلام رسول الله إليهم، يدعوهم إلى الحق، وينصحهم بكل ما يحقق لهم الخير، بلا أجر يأخذه منهم، فليس له حاجة ليكذب عليهم، وعلى الله، قال لهم: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} 3، وقال تعالى: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} 4. 2- وبين لهم أن الله عليم بأحوالهم وأقوالهم، وسيحاسبهم على انحرافهم هذا، قال لهم: {إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} 5، {وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} 6. 3- ونصحهم حتى لا تكون عداوتهم له سببا في عدم الإيمان، وترك التفكير، وإهمال النظر، وعليهم أن يفكروا في الدعوة من كل نواحيها؛ في حقيقتها، وفائدتها, ومصير من يخالفها، معتبرين في ذلك بالأمم التي سبقتهم، قال تعالى

_ 1 سورة الأعراف آية: 89. 2 سورة الأعراف آية: 90. 3 سورة الشعراء آية: 180. 4 سورة الشعراء آية: 178. 5 سورة هود آية: 92. 6 سورة الأعراف آية: 86.

{وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} 1، لكنهم لم يتأثروا بهذا التخويف، ولم يعتبروا بمصارع السابقين المعروفين لهم. 4- عاتبهم في استخفافهم بحق خالقهم، وخوَّفهم من عبادة غير الله تعالى، قال لهم ما حكاه الله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} 2. 5- أكد لهم عليه السلام تمسكه بالعبودية الخالصة لله، والإقرار المطلق بحقه سبحانه وتعالى؛ ولذلك فهو مستمر في دعوته, غير آبه بمعارضتهم، واثق بنصر الله وعونه، يسير بأمر الله ما دام في الحياة، قال لهم ما حكاه الله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} 3. وأخيرا كانت المفاصلة الواضحة، حيث ظهر المؤمنون بإيمانهم، وتمسك المعارضون بكفرهم، وانقسم القوم إلى فريقين؛ قال فريق: الكفر لشعيب، ما حكاه الله تعالى: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} 4. ورد عليهم شعيب -عليه السلام- بقوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي

_ 1 سورة هود آية: 89. 3 سورة هود آية: 92. 3 سورة هود آية: 88. 4 سورة الشعراء آية: 187.

عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} 1، قال تعالى: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} 2. لقد أعلن لهم أنه نصحهم بصدق وأمانة، لكنهم قابلوا الدعوة بالجحود، والكفر.. وعليهم أن يترقبوا مصيرهم حين ينزل بهم العذاب، ولن يتألم أو يتأسف على هلاكهم؛ لأن ما سينزل بهم هو قضاء الله العادل في الكافرين. وكانت النهاية مفجعة ... نجى الله شعيبا والذين آمنوا معه، يقول تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} 3. أما الضالون المكذبون, فقد نزل بهم العذاب في صور عديدة فأهلكهم جميعا، يقول تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} 4. وقال تعالى: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} 5. وقال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 6.

_ 1 سورة هود آية: 93. 2 سورة الأعراف آية: 93. 3 سورة هود آية: 94. 4 سورة الأعراف آية: 91. 5 سورة هود آية: 94. 6 سورة الشعراء آية: 189.

إنه عذاب واحد، وإن اختلفت مسمياته، ذلك أنه أصابهم حر شديد، وانقطع عنهم الهواء سبعة أيام، فكان لا ينفعهم مع ذلك ماء، ولا ظل، ولا دخولهم في الأسراب، فهربوا من محلتهم إلى البرية، فأظلتهم سحابة، فاجتمعوا تحتها ليستفيدوا بظلها, فلما اجتمعوا جميعا تحتها، جاءتهم من السماء صيحة عالية، ارتجّت لها الأرض رجا عنيفا، فأزهقت الأرواح، وخربت الأشباح، وماتوا جميعا وهم جاثمون على ركبهم، وبذلك اجتمع في مماتهم جنود الله تعالى، التي سلطها عليهم, وهي: الظلة، والصيحة، والرجفة، وهكذا تعددت أسباب موتهم كما تعددت مفاسدهم وضلالاتهم, والله على كل شيء قدير.

النقطة الرابعة: ركائز الدعوة في قصة شعيب عليه السلام

النقطة الرابعة: ركائز الدعوة في قصة شعيب عليه السلام الركيزة الأولى: المعرفة الشاملة بالمدعوين ... "النقطة الرابعة": "ركائز الدعوة في قصة شعيب عليه السلام" قصة شعيب مع دعوة الله غنية بالدروس، مليئة بالعبر والفوائد، وهي تمدنا بالركائز الدعوية التالية: الركيزة الأولى: المعرفة الشاملة بالمدعوّين من أساسيات دعوة شعيب -عليه السلام- التوجه إلى قوم يعرف عنهم كل شيء؛ عقيدتهم، ومعاملاتهم، وأخلاقهم؛ ولذلك نراه يعايش هذه الحقائق حين الدعوة، حيث يحدد لهم جوانب الضلال والفساد بدقة، ويبين أوجه الخطأ فيه، ويدعوهم إلى الحق بالدليل والبرهان. فلقد بين لهم عليه السلام أن الله الذي يدعوهم لعبادته وحده، مستحق لذلك، فهو خالقهم، ورازقهم، وأمرهم كله بيده، وليس هناك ما يدعوهم إلى الظلم في البيع والشراء، والتعدي على الناس، وسلب الحقوق، وصد العامة عن الإيمان، ومحاولة تشويش الحق بخلطه بالباطل، وكل هذه حقائق يقر بها الناس؛ ولذلك لم يردوا

عليه فيها، وإنما تركوها، وأخذوا يجادلون في مسائل جانبية من حيث قلة أنصاره، وتهديده بالطرد، والسخرية به، شأن المفسدين في كل وقت. إن المناقشة الموضوعية التي تقصد الحق تصل إليه بسهولة ... أما هؤلاء المفسدون فكانوا يسلكون مسلكا غوغائيا، لا يفيد في الحوار أبدا ... لكن شعيبا -عليه السلام- كان لهم بالمرصاد, فكلما شوَّشوا رد عليهم, وأخذهم إلى دعوته وقضيته.

الركيزة الثانية: تكامل المنهج الإلهي

الركيزة الثانية: تكامل المنهج الإلهي في دعوة لوط -عليه السلام- وجدناه ينادي بالتوحيد، ويركز بعده على ضرورة ترك ما هم فيه من شذوذ, والتخلق بأخلاق الله. ومع شعيب -عليه السلام- رأيناه ينادي بالتوحيد ويركز بعد ذلك على فساد القوم في معاملاتهم وأخلاقهم. وفي هذا بيان في ضرورة إيمان الناس بالمنهج الإلهي بصورة متكاملة، بلا فصل بين العقيدة والشريعة والأخلاق، فلقد أنزل الله لكل أمر قدره، وعرف البشر بالعقيدة الصحيحة، والشريعة الربانية، والخلق الكريم، وأنزله وحيا على لسان رسله ... ومن هنا فلا مجال لمؤمن أن يأخذ جانبا ويترك غيره؛ لأن ترك الثاني إهمال للأول في الحقيقة، يقول سيد قطب: "لا تستقيم عقيدة التوحيد في القلب ثم تترك شريعة الله في المعاملة والخلق، ولا يمكن أن يجتمع التوحيد والشرك في شخص واحد"1. وكيف يكون الإنسان موحدا في عقيدته, مشركا في عمله وسلوكه؟!! من هنا نعرف سر توجهات لوط وشعيب -عليهما السلام- في الدعوة, وتركيزهما على إصلاح العقيدة والشريعة والأخلاق. وفي ذلك درس لأولي الألباب ...

_ 1 في ظلال القرآن ج11، ص121, طبعة دار البيان العربي.

الركيزة الثالثة: منطلقات الدعوة

الركيزة الثالثة: منطلقات الدعوة نلحظ في دعوة شعيب -عليه السلام- دقة توجهه بالدعوة إلى الناس، فلقد اتبع منهجا مؤثرا, له قيمته في تحقيق الألفة، وكسب المودة. من ذلك أنه أخذ يناديهم بلفظ محبب معبر، قائلا لهم: {يَا قَوْمِ} ، ومن المعلوم أن الرائد لا يكذب أهله، وابن العشيرة يحميها، ويدافع عن مصالحها؛ ولذا فإظهار روح القومية عامل يقرب القلوب، ويحقق المودة، ويؤدي إلى الاستماع والفهم، ويجعل الحوار مثمرا مفيدا. ومن أمثال هذه الكلمات المفيدة في الخطاب: {يَا أَبَتِ} ، {يَا ابْنَ أُمَّ} , {يَا أُخْتَ هَارُونَ} ... {يَا بُنَيَّ} ؛ ولذلك كان من دقة شعيب أن ناداهم حين دعوتهم بهذا النداء المفيد. ومن ذلك التعامل بحسن الخلق، ولين الجانب، فهو برغم أن دعوته موجهة إلى بطلان عقيدتهم ومعاملاتهم، كان يبين لهم أنه ناصح أمين، يحب الخير لهم، ويدعوهم لما فيه الفوز والفلاح، وحينما كانوا يشتدون في الرد على دعوته قائلين، ما حكاه الله تعالى عنهم: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ، وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} ، كان يلاطفهم في الخطاب، ويقول لهم ما حكاه الله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} 1.

_ 1 سورة هود آية: 88.

ويقول لهم في لين ورفق، ما حكاه الله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} 1. ومن ذلك التعامل مع الناس بواقعية، فهو من الناس ولهم أخطاؤهم؛ ولذلك ترفق معهم في الخطاب، ودعاهم إلى التوبة ليغفر لهم, وحصر دعوته في الباطل الذي يعيشون فيه، وهو الشرك، وسوء المعاملة، وإفساد الناس. ومن حكمته أنه -عليه السلام- كان يعبر عن طلبه بصورة مباشرة، وموجزة، وواضحة؛ ولذلك نرى تصوير القرآن الكريم لدعوة شعيب يأتي في كلمات موجزة. وقد بين عليه السلام لهم الآثار المترتبة على موقفهم من الدعوة, حيث رغبهم في الطاعة، وخوفهم من المعصية بصورة مفصلة مركزة، ولكنهم استمروا على ضلالهم، ولم يتأثروا بما قيل لهم، وقالوا له: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} 2.... فأنزل الله بهم وعيده وأهلكهم جميعا.

_ 1 سورة هود آية: 90. 2 سورة الشعراء آية: 187.

إسماعيل عليه السلام

9- إسماعيل عليه السلام: بلغ إبراهيم -عليه السلام- من العمر ستا وثمانين سنة، ولم يرزق بولد، فدعا ربه: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} 1. فاستجاب الله دعاءه وبشره بالولد عقب دعائه، يقول تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} 2 ... وحتى يتحقق قدر الله، وتوجد هذه البشارة في أرض الواقع، وهبت سارة لإبراهيم أمتها "هاجر" المصرية فتزوجها، وحملت بـ "إسماعيل" وولدته في أرض الشام، بجوار بيت المقدس حيث مقام أبيه، في قرية "حبرون" وهي مدينة "الخليل" الحالية. لكن سارة رأت تعلق قلب إبراهيم بولده، فتألمت وغارت، وطلبت من إبراهيم أن يسكن هاجر وولدها بعيدا عنها، وأوحى الله لإبراهيم -عليه السلام- أن يحقق لسارة طلبها، وعرفه بالمكان الذي يسكن فيه هاجر وولدها. رحل إبراهيم -عليه السلام- بهاجر وإسماعيل صوب الجنوب، حتى وصل إلى وادٍ جاف، لا زرع فيه ولا ضرع، ولا ماء ولا نماء، ولا ثمر ولا شجر، وأنزلهما فيه، وترك لهما قليلا من الزاد والماء، وقفل راجعا من حيث أتى، فتعلقت هاجر به وهي تناديه: يا إبراهيم, أين تذهب وتتركنا؟ من يحمينا؟ من يسقينا؟ من يطعمنا؟ تناديه وتكرر النداء ... ثم قالت له: آلله أمرك بهذا؟!

_ 1 سورة الصافات آية: 100. 2 سورة الصافات آية: 101.

قال إبراهيم عليه السلام: نعم ... فأجابته هاجر -رضي الله عنها- وقالت: إذًا لا يضيعنا1. ورفع إبراهيم يده إلى السماء, وهو يقول: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} 2. واستجاب الله دعاء إبراهيم -عليه السلام- ونبعت زمزم، وجاءت أفواج من الجراهمة، وسكنوا المكان فتأسست مكة المكرمة. تعلم إسماعيل العربية، وصار رجلا يافعا، واختبره الله تعالى بأن أمر أباه إبراهيم -عليه السلام- بذبحه، فلما أخبره أبوه بذلك استسلم له، قال تعالى: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} 3. وأسلم نفسه لأبيه لينفذ ما أمره الله به، وقال له: يا أبت اشدد وثاقي، وحدّ الشفرة, وتلني للجبين، حتى لا تقع عينك على عيني، فتأخذك الرحمة والشفقة دون تنفيذ أمر الله, وخذ ثيابي، وأقرأ على أمي مني السلام ... خضع إسماعيل -عليه السلام- صابرا مخلصا، ففداه الله بذبح عظيم. وقد تزوج إسماعيل -عليه السلام- من الجراهمة زوجتين، طلق الأولى، وأمسك بالثانية؛ لأنه بعدما تزوج الأولى جاء إبراهيم -عليه السلام- من الشام ليتفقد أحواله وأمه، فوجد أن هاجر -رضي الله عنها- قد ماتت، وأن إسماعيل قد تزوج، فسأل عن بيته، حتى إذا جاءه لم يجد إلا زوجته، فسألها: أين إسماعيل؟ قالت: خرج يبتغي رزقا ...

_ 1 البداية والنهاية ج1، ص154. 2 سورة إبراهيم آية: 37. 3 سورة الصافات آية: 102.

فسألها: كيف عيشتكم؟ قالت: نحن بشر وسوء حال، فقال لها: إذا جاء إسماعيل فأقرئي عليه السلام، وقولي له: غير عتبة بابك، فلما رجع إسماعيل فكأنما شعر بشيء، فقال لها: هل زارنا أحد؟ قالت: نعم، وأخبرته بما جرى، فقال لها: ذاك أبي يأمرني بطلاقك، فطلّقها وألحقها بأهلها ... ثم تزوج بأخرى من الجراهمة أيضا، فجاء إبراهيم مرة أخرى فلما سألها عن عيشتها؟ قالت: نحن بخير وسعة، والحمد لله ... قال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم، قال: ما شرابكم؟ قالت: الماء، قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء ... ثم قال لها: إذا جاء زوجك فأقرئي عليه السلام، وقولي له: ثبت عتبة بيتك ... فلما رجع إسماعيل أخبرته زوجته بما جرى، فقال لها: ذاك أبي يأمرني بالإمساك بك1. وأمسك إسماعيل -عليه السلام- بزوجته الثانية، ورزق منها بالذرية، وبث الله منهما أمة العرب، ومن أمة العرب جاء محمد صلى الله عليه وسلم. فلئن كان إسحاق هو أبو الإسرائيليين، فإن إسماعيل هو أبو العرب. وقد ساهم إسماعيل مع إبراهيم في بناء الكعبة على القواعد التي وضعتها الملائكة ... وبعد أن أتما بناءها دعوا الله ربهما، قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 2. واستجاب الله الدعاء، فنشأت مكة قرية جديدة، سكنها أبناء إسماعيل الذين كونوا أمة جديدة هي أمة العرب، وجعل الله الكعبة البيت الحرام قبلة للعالم كله، تتعلق بها القلوب والعقول، ويقصدها الناس رجالا وركبانا من كل فج عميق.

_ 1 الكامل ج1، ص258, 259. 2 سورة البقرة الآيات: 127-129.

كان إسماعيل -عليه السلام- نبيا يدعو قومه الجراهمة، والعماليق، وأهل اليمن بدين الله تعالى، مخلصا لربه، حليما صابرا في خلقه، ملتزما بكل ما أوحى الله به إليه، صادقا في كل ما دعا به رضي الله عنه وأرضاه, يقول الله تعالى عن إسماعيل عليه السلام: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا، وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} 1. ويلاحظ هنا أن إسحاق -عليه السلام- وُلد ونشأ في بلاد الشام، قريبا من بيت المقدس، وهي مسكونة بأهلها الكنعانيين، وتناسل منه يعقوب عليه السلام، ومن يعقوب جاء يوسف -عليه السلام- وإخوته، وقد انتقلوا جميعا إلى مصر، وعاشوا بها إلى زمن موسى عليه السلام. أما إسماعيل فقد نشأ في أرض صحراوية غير مملوكة لأحد، أحياها هو وبنوه بماء زمزم، وصاروا ملاكها، وأصحابها. وكانت العظمة في أبناء إسماعيل أن اختار الله منهم خاتم الأنبياء، محمدا -صلى الله عليه وسلم- رسولا إلى العالم كله، بدين الإسلام الناسخ لكل الأديان، الصالح بإذن الله إلى يوم القيامة، يقول تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 2 ... فإسماعيل -عليه السلام- هو جد نبينا صلى الله عليه وسلم. يروي مسلم بسنده عن وائلة بن الأسقع -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم" 3.

_ 1 سورة مريم الآيات: 54, 55. 2 سورة آل عمران آية: 85. 3 صحيح مسلم ج15، ص36.

وعاش إسماعيل عمره في مكة، ولما جاءته المنية دفن صلى الله عليه وسلم بها1. يذكر المؤرخون أن إسماعيل -عليه السلام- دفن مع هاجر في حجر إسماعيل بمكة، لكن ذلك لم يثبت بحديث مرفوع، ولو كان كلام المؤرخين صحيحا لاشتهر الخبر لما له من صلة بالإسلام، فالمسلمون يحجون إلى مكة، ويتخذون حجر إسماعيل مصلى تستحب الصلاة فيه، وهذا لا يجوز إن كان قبرا، لإسماعيل عليه السلام.

_ 1 البداية والنهاية ج1، ص193.

إسحاق عليه السلام

إسحاق عليه السلام مدخل ... أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام: انحصرت النبوة بعد إبراهيم -عليه السلام- في ذريته، يقول تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} 1، ويقول سبحانه: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} 2، وانشطرت النبوة بولديه إسماعيل وإسحاق -عليهما السلام- إلى شطرين، وجاء الشطر الأول من إسماعيل حيث نشأ العرب، وخُتمت النبوات بمحمد -صلى الله عليه وسلم- النبي العربي الأمي. وجاء الشطر الثاني من إسحاق, إذ ولد له يعقوب المعروف بإسرائيل ومن ذرية إسرائيل "يعقوب" جاء أنبياء بني إسرائيل، وهم: يوسف، وأيوب، وذو الكفل, ويونس، وموسى، وهارون، وإلياس، واليسع، وداود، وسليمان، وزكريا، ويحيى، وعيسى، عليهم جميعا سلام الله وبركاته. ومن أنبياء بني إسرائيل من أرسل لغير الإسرائيليين كـ "يونس" -عليه السلام- الذي أرسل إلى أهل "نينوى" وهم ليسوا من أبناء يعقوب, إلا أن أغلب الأنبياء بعد يوسف -عليه السلام- بعثوا إلى بني إسرائيل. ويبدو أن أنبياء بني إسرائيل كان يكمل بعضهم بعضا, فليس أحدهم ناسخا لمن سبقه، وإنما كان يأتي بجديد يتمم رسالة الله لقومه، يحيي ما نسي، ويصحح ما حرف، ويشرع لما جد.

_ 1 سورة العنكبوت آية: 27. 2 سورة الأنعام الآيات: 84-86.

ولعل ما تميز به الإسرائيليون من حب للمادة، وميل للسيطرة والاستعلاء، ورغبة في الخلود والدوام كان ينسيهم تعاليم الله، ويدفعهم إلى الاختراع والتحريف، ويبعدهم عن الروحانيات السامية، والأخلاق الفاضلة. ولذلك اقتضت حكمة الله تعالى بتتابع الرسل فيهم؛ لإيقاظهم، وإبراز الدعوة الإلهية بينهم بصفائها، وصدقها، وأخلاقها، يقول الرازي: وقد دام الخلق على دين أولاد إسحاق أكثر من أربعة آلاف سنة1. إن القرآن الكريم لم يعرض مع أنبياء بني إسرائيل جوانب الدعوة جميعا، وإنما أبرز مع كل نبي جانبا معينا يفيد المجتمع والناس، حتى إذا عشنا مع سائر الأنبياء نرى صورة متكاملة للدعوة من ناحية الحركة بالدعوة، والركائز المفيدة فيها. وقد درج المؤلفون في دعوات الله وهم يكتبون عن أنبياء بني إسرائيل الاكتفاء بأهمهم, كيوسف وموسى وعيسى -عليهم السلام- لتوسع الجوانب التي أوردها القرآن الكريم عنهم، ووضوح دعوتهم إلى قومهم. ولكني أوثر هنا وأنا أكتب في تاريخ الدعوة أن أتناول بالكتابة كل أنبياء بني إسرائيل ما دام قد ذكرهم القرآن الكريم؛ أطيل الكتابة عن من ورد ذكرهم مطولا، وأختصر مع من ذكروا باختصار، وبذلك أتناول سائر جوانب الدعوة في بني إسرائيل وفي غيرهم، وأستنبط من سير أنبيائهم الدروس والعبر. وإنه لمهم أن أعيش مع أصول الإسرائيليين، وأتعرف على طبائعهم، وأخلاقهم، وعاداتهم، وأديانهم عسى أن تتضح أمامنا طبائع اليهود المعاصرين، الذين يعيشون بيننا في مواجهة تحتم ضرورة التعامل معهم بوعي، وفهم، وحذر، وإني لأرجو من الله التوفيق والسداد ...

_ 1 تفسير الرازي ج13، ص58.

التعريف بإسحاق عليه السلام

10- إسحاق عليه السلام: التعريف بإسحاق عليه السلام: تزوج إبراهيم -عليه السلام- من ابنة عمه سارة، واستقرا بجوار "بيت المقدس" بعد ترحال من بلدهما "كوثى" إلى "حوران" إلى مصر، وقد بلغ سن إبراهيم مائة وعشرين عاما، وبلغت سارة التسعين، ولم تنجب بعد لعقمها، وفجأة جاءت الملائكة لإبراهيم تبشره بولد تلده "سارة"، وعن هذه البشارة يقول الله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} 1 ... كانت سارة تقوم بخدمة ضيوف زوجها، وتسمع حديثهم من وراء ستر، فضحكت تعجبا من هؤلاء الضيوف الذين لا يأكلون، ولا يمدون أيديهم للطعام، وقيل: ضحكت سرورا بالبشرى التي حملتها الملائكة لها؛ لأنها علمت أنها ستنجب "إسحاق", وستعيش حتى ترى ولده "يعقوب"، وقيل: ضحكت بمعنى حاضت. ولقد اصطفى الله تعالى إسحاق، وكلفه بالرسالة، واختاره ليسير على خطا أبيه إبراهيم -عليه السلام- يقول الله تعالى: {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ، وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ، وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} 2.

_ 1 سورة هود آية: 71. 2 سورة الصافات الآيات: 109-113.

فإسحاق -عليه السلام- نبي، ومن الصالحين، هداه الله إلى الدين المستقيم، واختاره لنفسه، وجعله إماما للناس يدعوهم إلى الخير، ويهديهم بأمر الله إلى الدين الحق، ووفقه لإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والمحافظة على كافة جوانب العبادة الصحيحة، التي تسعده في الدنيا، وتذكره بالآخرة، وتجعله من الأخيار الذين اصطفاهم الله تعالى، يقول الله تعالى: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1. ويقول سبحانه: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ، وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} 2. يصف النبي -صلى الله عليه وسلم- إسحاق -عليه السلام- في الحديث الذي رواه عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق" 3. وقد رُزق إسحاق -عليه السلام- بولدين هما يعقوب وعيصو، و"يعقوب" هو المعروف بـ "إسرائيل" ومنه تناسل الإسرائيليون جميعا، أنبياء وشعبا، إلا أنهم لم يستمروا في بلاد الشام، فلقد ألفوا حياة البادية والتنقل، إلى أن ولي يوسف -عليه السلام- أمر الخزائن والمال في مصر، وجاء إخوته فعرفهم, وقال لهم: {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} 4، و {وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} 5.

_ 1 سورة الأنعام آية: 87. 2 سورة الأنبياء الآيات: 72, 73. 3 صحيح البخاري بشرح فتح الباري ج8، ص361. 4 سورة يوسف آية: 92. 5 سورة يوسف آية: 99.

وهكذا ترك الإسرائيليون الشام لأصحابها، ونزلوا بمصر متمتعين بسلطان يوسف ومكانته، واستمروا على ذلك حتى هربوا منها مع موسى عليه السلام. إلا أن إسحاق ظل مقيما طوال حياته في أرض الشام بقرية "حبرون"1 التي هي من أرض كنعان، ولقي عليه السلام ربه عن عمر يبلغ مائة وثمانين سنة2، ودفن مع أبيه إبراهيم -عليه السلام- في المغارة التي دفن بها من قبل.

_ 1 حبرون بالفتح، ثم السكون، وضم الراء: اسم القرية التي دفن فيها إبراهيم، وسارة، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف -عليهم السلام- وهي مدينة الخليل الحالية. "انظر: معجم البلدان ج2، ص212". 2 البداية والنهاية ج1، ص19.

يعقوب عليه السلام

11- يعقوب عليه السلام: يعقوب -عليه السلام- هو بشرى الله لإبراهيم حين جاءته الملائكة، وبشرته بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب. وقد اشتهر بمسمى "إسرائيل" ومعناها في العربية "عبد الله", وعن زواج يعقوب وأولاده يروي ابن كثير أن يعقوب -عليه السلام- اختلف مع أخيه عيصو، فاشتكى إلى أمه وأبيه، فنصحاه أن يذهب إلى خاله بـ "حران" ويبقى عندهم مدة، ويتزوج إحدى بناته، فلما قدم على خاله بـ "حران"، وجد له ابنتين، فخطب الصغرى لجمالها، واشترط خاله أن يمهرها برعي الغنم سبع سنين، فلما أتمها أنكحه خاله الكبرى؛ لأن من عادتهم أن لا تتزوج الصغرى قبل الكبرى، وقال له: إن أردت الصغرى فاخدمني سبع سنوات أخرى لتتزوجها أيضا، وكان الجمع بين الأختين سائغا في ملتهم، فلما انتهت المدة الثانية تزوج الصغرى، ووهب خال يعقوب لكل من بنتيه جارية، فدخل يعقوب بالبنتين والجاريتين, ورزقه الله منهم اثني عشر ولدا1، منهم يوسف الذي عاش عمره في مصر، بعد أن ألقاه إخوته في الجب، وقد عاد يعقوب بزوجاته إلى ديار أبيه عند الكنعانيين. وكلف الله يعقوب بالرسالة وبعثه إلى قومه، وكان يوصي أبناءه بدين الله تعالى، يقول سبحانه: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 2 ...

_ 1 البداية والنهاية ج1، ص194, 195 بتصرف. 2 سورة البقرة آية: 132.

وقد تميز يعقوب -عليه السلام- بالحلم، والصبر، والاعتماد المطلق على الله تعالى، فهو عليه السلام قابل غياب يوسف وأخيه بقوله: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} 1. وكان يوجه أبناءه برفق وناة، ويتعامل مع أخطائهم بمنهج النبوة، فهو يعلم ما بنفوسهم وطبائعهم؛ ولذلك نراه يقول ليوسف حينما أخبره برؤياه: {قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} 2. ويقول لأبنائه حينما جاءوه بقميص يوسف ملوثا بالدم: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} 3. ولما غاب عنه ابنه الثاني, قال لإخوته: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} 4. ولما تجلت الحقائق, وجاءه أبناؤه قائلين له: {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} 5. رد عليهم بقوله: {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 6.

_ 1 سورة يوسف آية: 18. 2 سورة يوسف آية: 5. 3 سورة يوسف آية: 18. 4 سورة يوسف آية: 87. 5 سورة يوسف آية: 97. 6 سورة يوسف آية: 98.

وكان آخر وصاياه لأولاده حين حضرته الوفاة أن يتمسكوا بعبادة الله تعالى، يقول سبحانه: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} 1 ... ولقي ربه راضيا مرضيا، ومات بأرض مصر عند ابنه يوسف، ثم نقل جسده بعد ذلك، ودفن مع إسحاق وإبراهيم عليه السلام. وقد ذكروا أنه لما مات يعقوب -عليه السلام- بكى عليه أهل مصر سبعين يوما، وأمر يوسف الأطباء فطيبوه، ثم ذهب به إلى أهله في فلسطين، ودفنوه في المغارة الكائنة بـ "حبرون" مع أبيه وجده, عليهم الصلاة والسلام2.

_ 1 سورة البقرة آية: 133. 2 البداية والنهاية ج1، ص220.

يوسف عليه السلام

يوسف عليه السلام مدخل ... 12- يوسف عليه السلام: يوسف -عليه السلام- من رسل الله وأنبيائه إلى بني إسرائيل, وهو ابن يعقوب -عليه السلام- تميز بكرم المحتد، وكرم الخلق، وكرم السلوك، روى البخاري بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل: من أكرم الناس؟ قال: "أتقاهم لله". قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: "أكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله". قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: "فعن معادن العرب تسألونني. الناس معادن, خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا" 1. ويوسف كلمة عربية، يرجع أصلها إلى الحزن والأسف، وهو اسم يتناسب مع حياة يوسف -عليه السلام- المليئة بالمحن والمشاق. وقد جاءت قصته مفصلة في سورة واحدة سميت باسمه هي سورة "يوسف", ومن قراءتنا للسورة نلحظ أنها تنحو بالقصة منحى متفردا، فهي تتحدث عن يوسف، ومولده، ونشأته، وحياته، وأخلاقه، وموقفه من إخوته، وهكذا حتى تنتهي به عزيزا في مصر، وواليا على خزائنها، ومعه قومه إلى أن يموت.

_ 1 صحيح البخاري بشرح فتح الباري ج8، ص362، كتاب التفسير, باب يوسف عليه السلام.

إنها تشبه السيرة الذاتية المعاصرة، وهي تطبيق لمنهج القرآن في إيراد قصص أنبياء بني إسرائيل حيث يختص كل نبي بلون معين، وجانب خاص؛ لأنهم جميعا كانوا يدعون لدين الله الواحد، يكمل بعضهم بعضا، ويتممه. والحديث عن يوسف, يحتاج إلى عدة نقاط:

النقطة الأولى: التعريف بالمجتمع التي عاش فيه يوسف عليه السلام

النقطة الأولى: التعريف بالمجتمع التي عاش فيه يوسف عليه السلام ... "النقطة الأولى": "التعريف بالمجتمع الذي عاش فيه يوسف عليه السلام" لما تزوج يعقوب -عليه السلام- ببنتي خاله وجاريتيهما، رزقه الله عددا من الأبناء، ومنهم كان يوسف من زوجته "راحيل" التي وافتها المنية بعد ولادة يوسف بمدة وجيزة ... وتطورت الأحداث مع يوسف، فألقاه إخوته في الجب، إلى أن أخرجته إحدى القوافل التجارية من الجب، وباعته لعزيز مصر، وقضى حياته في مصر إلى أن لقي ربه. وكانت مصر في هذا الوقت تحت حكم "الرعاة"1, الذين عاصروا إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب -عليهم السلام- وعلموا شيئا عن دينهم. والرعاة هم الهكسوس، وكانت مدة حكمهم في مصر أكثر من قرن ونصف, ومن حديث القرآن عنهم خلال ذكره لقصة يوسف -عليه السلام- نلمح بعض خصائص المجتمع المصري. - فهو مجتمع غير موحِّد، لا يعرف الله على وجه الحقيقة؛ ولذلك لم يكن يوسف -عليه السلام- على دينهم، وذلك مفهوم من قول يوسف -عليه السلام- لأصحابه في السجن: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ، وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} 2.

_ 1 كان الرعاة يسمون حاكمهم بـ "الملك" أو "العزيز", وكان المصريون يسمونه بـ "فرعون". 2 سورة يوسف آية: 37, 38.

- وهو مجتمع يعرف شيئا عن دين الله الذي نقل إليهم من جيرانهم، وبخاصة أن الحكام لم يكونوا من الفراعنة، مدعي الألوهية؛ ولذلك تركوا الديانة المصرية القديمة، وبحثوا عن دين آخر، فأخذوا من جيرانهم بعض ما عندهم، وهو قدر لا يكفي في دين الله تعالى. ندرك هذه اللمحات الدينية من قوله تعالى حكاية عن النسوة: {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} 1 ... فهن يعرفن الله، ويعرفن الملائكة. ومن حكاية قول العزيز لامرأته: {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} 2، فهو يعرف الاستغفار والتوبة. ومن حكاية قول امرأة العزيز: {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} 3، فهي تعرف أن الهادي هو الله، وأن كيد الخائن إلى بوار، بأمر الله تعالى. وقد ساعدت هذه اللمحات يوسف -عليه السلام- في نشر دعوة الله، حينما ولي الأمر في مصر بعد ذلك، ومكن لقومه بني إسرائيل. - تميز المجتمع المصري بنظام سياسي متقدم، ففي الوقت الذي عاش جيرانهم في بداوة نجدهم يعرفون نظام الملك، وولاية العهد، والوزارات، والدواوين العديدة، وقد تولى يوسف -عليه السلام- بعد خروجه من السجن ولاية الأموال والأقوات يوزِّعها على المصريين، وعلى أهل البقاع المجاورة، وقد رأينا إخوة يوسف يأتون إلى مصر من أرض كنعان للحصول على القوت.

_ 1 سورة يوسف آية: 31. 2 سورة يوسف آية: 29. 3 سورة يوسف آية: 52.

- تميز المجتمع المصري بالسبق العلمي, وبخاصة في مجال العلم بتعبير الرؤى، ولأمر أراده الله تعالى نجد في سورة يوسف عددا من الرؤى وتعبيراتها؛ نجد رؤيا يوسف، ورؤيا أصحابه في السجن، ورؤيا الملك، وقد تحققت دلالاتها، واستفيد عمليا بما دلت عليه. ومن دلالة السبق العلمي ما يُستفاد من الآيات الآتية التي اشتملت عليها سورة يوسف: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} 1، {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} 2. {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي} 3، {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} 4، {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} 5, {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} 6. - تميز المجتمع المصري بمدنية راقية, حيث كان للنسوة اجتماعاتهن، وآراؤهن ... وكان لهن سلوك مدني متقدم في الطعام والشراب، كما هو مفهوم من لقاء النسوة بامرأة العزيز، وإعداد المائدة العامرة، وتقديم السكاكين ليأكلن بها، وعاش يوسف في هذا العصر، واستفاد بإيجابياته، ونجاه الله تعالى من سلبياته ... فتربى في بيت الملك، وتعلم، وعرف، فلما بدأت سلبيات الترف تظهر أمامه، قضى الله عليه بدخول السجن، فبقي فيه يدعو الناس لعبادة الله وحده، ولم يخرج من السجن إلا بعد إعلان براءته.

_ 1 سورة يوسف آية: 21. 2 سورة يوسف آية: 22. 3 سورة يوسف آية: 37. 4 سورة يوسف آية: 55. 5 سورة يوسف آية: 68. 6 سورة يوسف آية: 101.

ويبدو أن الملك لما أدخل يوسف السجن كان يتابع أخباره إعجابا به وبأخلاقه، وبالضرورة سمع عن دعوته حيث أعجب بها، بلا إعلان حتى لا يغضب كهنة الأصنام، وعبدة الأوثان وغيرهم؛ ولذلك كان شديد الترحيب بيوسف حين جاءه من السجن وقال له: {قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} . وهكذا مكن الله ليوسف، فتولى أمر خزائن الأرض، وصار حاكما في مصر، ولعل هذا الوضع ساعده على نشر دعوة التوحيد بين الناس. ولما جاء بنو إسرائيل إلى مصر تعاونوا مع الهكسوس، ولم يندمجوا في المجتمع المصري، وكانوا للرعاة عونا على المصريين؛ ولذلك لما استردّ الفراعنة زمام الأمور مرة أخرى في الأسرة الثامنة عشرة أخذوا في مقاومة الإسرائيليين، وديانتهم، وتمكنوا من طردهم من مصر في زمن موسى -عليه السلام-1, ذلكم هو المجتمع الذي عاش فيه يوسف -عليه السلام- حتى لقي ربه.

_ 1 في ظلال القرآن 12 ص181-183 بتصرف، ويرى صاحب الظلال أن مقاومة المصريين للإسرائيليين لم تكن دينية، وإنما كانت سياسية، ونفسية غالبا.

النقطة الثانية: التعريف بيوسف عليه السلام

النقطة الثانية: التعريف بيوسف عليه السلام مدخل ... "النقطة الثانية": "التعريف بيوسف عليه السلام" وهب الله يعقوب -عليه السلام- اثني عشر ولدا، أحدهم يوسف -عليه السلام- وقد تزوج يعقوب -عليه السلام- عددا من النسوة، ورُزق من راحيل بولدين، فليوسف أخ شقيق، والباقون إخوة لأب، وأخو يوسف الشقيق هو "بنيامين"، وترتيب يوسف بينهم الثاني عشر، وقد تميز منذ صغره بسعة العقل، وسلامة الخلق، وكان محل حب أبيه لنجابته، وصغره، ويتمه بموت أمه، وزاد من حب أبيه له الرؤيا التي رآها،

وقصها له، وعنها يقول الله تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} 1 ... وقد فهم يعقوب -عليه السلام- من هذه الرؤيا البشارة بنبوة يوسف -عليه السلام- وعلم أن أمر الرسالة سينتقل من بعده له، فنصحه بعدم إخبار إخوته بهذه الرؤيا منعا للكيد، ومحافظة على المودة والألفة. وإخوة يوسف الأحد عشر هم الأسباط، وعنهم عبرت الرؤيا بالكواكب، أما القمر فهو أبوه، وأما الشمس فهي أمه، أو خالته. وقد راعت أقدار الله يوسف -عليه السلام- وأحاطته العناية الإلهية، فنشأ متمتعا بجمال فائق، عبر عنه النسوة بقولهن: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} 2, وصار يضرب به المثل في الجمال. يذكر السهيلي أنه كان على النصف من حسن آدم؛ لأن آدم بلغ نهاية الحسن3 ... وجاء في بعض الروايات أن أهل مصر أصابهم الجفاف في عصر يوسف، فكانوا ينسون جوعهم بالنظر إلى يوسف تلذذا بجماله وحسنه4، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "رأيت يوسف ليلة أسري بي في السماء الرابعة" فقيل: كيف رأيته؟ قال: "كالقمر ليلة البدر" 5. وتميز يوسف -عليه السلام- بالرشد والفهم، يقول الله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} 6. واشتهر بصدق المعاملة، والإخلاص في عبادة الله، والاعتراف بالمعروف يسدى إليه، يدل على ذلك قوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} 7.

_ 1 سورة يوسف آية: 4. 2 سورة يوسف آية: 31. 3 البداية والنهاية ج1، ص205. 4 مدرسة الأنبياء ص122. 5 بصائر ذوي التمييز ج6، ص47. 6 سورة يوسف آية: 22. 7 سورة يوسف آية: 24.

{قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} 1. وعرف بالعدل، والإنصاف، والصبر، والتحمل، وعفة اللسان، ونبل الأخلاق، فكان هو هو بخلقه وشخصيته في كل أحواله، رغم تقلبها الواضح، وتنوع انقلابها وتحولها، فتارة هو في الجب، وأخرى في بيت العزيز ... ومرة في السجن، وأخرى واليا لخزائن أرض مصر. وقد عاش عليه السلام حتى تحققت رؤياه، ومات بأرض مصر ودفن بها، ثم نقل جثمانه إلى فلسطين في زمن موسى عليه السلام، يدل على ذلك ما رواه أحمد في مسنده عن أبي موسى الأشعري أن بعض الصحابة سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن عجوز بني إسرائيل. فقال عليه السلام: "إن موسى -عليه السلام- حين أراد أن يسير ببني إسرائيل ضل عنه الطريق، فقال لبني إسرائيل: ما هذا؟ قال له علماؤهم: إن يوسف -عليه السلام- حين حضره الموت أخذ علينا موثقا من الله أن لا نخرج من أرض مصر حتى ننقل عظامه معنا، فقال موسى: أيكم يدري أين قبر يوسف؟ قالوا: ما علم أحد قبره إلا عجوز بني إسرائيل, فأرسلوا إليها، وأتوا بها, وسألوها عن قبر يوسف ... فانطلقت بهم إلى بحيرة فيها ماء، فأمرتهم أن يجففوا ماءها، فلما جففوها حفروا بها واستخرجوا منها عظام يوسف، فلما أقلوه معهم من أرض مصر، إذا الطريق مثل ضوء النهار" 2. وتحتاج الإحاطة التفصيلية بنشأة يوسف -عليه السلام- ومعرفة أطوار حياته إلى دراسة موضوعات رئيسية في قصته، وأهمها:

_ 1 سورة يوسف آية: 23. 2 مسند الإمام أحمد، والحديث صحيح صححه الهيثمي والألباني، والعظم يسمى به البدن, قصص القرآن ص248.

1- يوسف وإخوته. 2- يوسف في بيت العزيز. 3- يوسف في السجن. 4- يوسف والحكم. 5- يوسف وبنو إسرائيل. وسأتناولها فيما يلي ...

أولا: يوسف وإخوته

أولًا: يوسف وإخوته رأى إخوة يوسف اهتمام يعقوب -عليه السلام- به أكثر منهم، وتمكن الشيطان من نفوسهم، فملأها بالحسد والحقد، وأنساهم حق الأبوة، وحق الأخوة، وقدر الله عليهم أن يكونوا كذلك، فكبر في نفوسهم أن يميل قلب أبيهم ليوسف الصغير أكثر من ميله لهم، وهم كبار ورجال، يمثلون عصبة قوية. كبرت هذه الأحاسيس في نفوسهم، وسيطرت على حياتهم، فقال بعضهم لبعض: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} 1. قالوا ذلك وأنساهم الشيطان أن الحب القلبي عطاء إلهي لا يملكه الإنسان، وأما العدل العقلي والمادي الذي يملكه الإنسان فلا تقصير فيه من أبيهم2، ومع ذلك رأوا أن أباهم على خطأ واضح، وفكروا في تصحيح هذا الخطأ ... قال قائل منهم: {اقْتُلُوا يُوسُفَ} ...

_ 1 سورة يوسف آية: 8. 2 جاء في تفسير الألوسي أنه لا لوم على الوالد في تفضيل بعض أولاده في المحبة القلبية؛ لأن المحبة القلبية لا تدخل تحت وسع البشر. "التفسير ج12 ص171".

لكن اقتراح القتل لم يكن مسلما لديهم؛ لأنه جريمة قتل يباشرونها بأنفسهم, وإخفاؤها والخلاص منها أمر صعب، وفعلها لا يليق بهم. ولذلك كان الاقتراح التالي وهو {اطْرَحُوهُ أَرْضًا} ومعناه: أن يرموه في صحراء قاحلة؛ ليموت بعيدا عنهم إما بالجوع، أو بالعطش, أو بافتراس الوحوش الضارية ... والاقتراح الثاني لا يقل وحشية عن الاقتراح الأول, فكلاهما إزهاق للروح، وسفك للدم. ومن ألاعيب الشيطان بهم، أن زين لهم تآمرهم، فعللوه برغبتهم في إبعاد أبيهم عن ضلاله، وبأنهم سوف يتوبون، ويكونون من عباد الله الصالحين، وسهل لهم الشيطان الجرم بتقديم العزم على التوبة قبل ارتكاب الإثم؛ لئلا يتراجعوا. يصور الله تعالى هذا التآمر بقوله تعالى: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} 1. لكن واحدا منهم توسط في الرأي، واقترح رأيا به يبعد يوسف عن أبيهم، وفي نفس الوقت يعيش في أرض بعيدة مجهولة، قال تعالى: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} 2، رضوا هذا الرأي واتفقوا عليه، وبدءوا في التنفيذ ... ذهبوا لأبيهم وطلبوا منه أن يرسل يوسف معهم للرعي والعمل، فلم يوافق على طلبهم لصغر سنه، فذكروا له أنه لن يعمل، وأنهم سيتركونه يلعب، ويجري، ويتنزه، ويستأنس بأمثاله من الصغار. فبين لهم أنه لا يصبر على فراق ولده الصغير، وبعده عنه يحزنه، وأيضا فهو يخاف عليه من الذئب لصغره، والبرية ملأى بالذئاب.

_ 1 سورة يوسف آية: 9. 2 سورة يوسف آية: 10.

تعهد الأبناء لأبيهم بالمحافظة عليه، وأكدوا أمامه أنهم يحبون له ما يحبونه لأنفسهم، وهم جماعة لا يقدر الذئب عليهم، ولا خير فيهم إن غلبهم الذئب وأكله. فوافق يعقوب -عليه السلام- على إرساله معهم، يصور القرآن الكريم الحوار بين يعقوب وبنيه، فيقول سبحانه: {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ، أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ، قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ، قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ} 1. وأخذوا يوسف معهم، وذهبوا به إلى بئر يرتاده السيارة من التجار للتزود بالماء، وعزم جمعهم على تنفيذ ما اتفقوا عليه، فألقوه في الجب، ونزل جبريل فحمله، ووضعه في جانب من البئر بحيث لا يصل إليه الماء، وبشره بالفرج، وعلو الشأن، وأنه سينجو، وأن الله سيجمعه بأبيه وإخوته بعدما يمكن له في الأرض، يقول تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} 2. وجاءوا لأبيه بقميصه الذي خلعوه منه، وعليه بعض الدم، وقالوا له: إنا شغلنا بالرمي والسبق عن يوسف، فأكله الذئب، وحاولوا إخفاء جرمهم بأن جاءوا متأخرين ليلا على غير عادتهم، وبالبكاء الحار لفراقه، وبقميصه الملوث بالدم، يقول تعالى: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ، قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ، وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} 3.

_ 1 سورة يوسف الآيات: 11-14. 2 سورة يوسف آية: 15. 3 سورة يوسف الآيات: 16-18.

لكن يعقوب -عليه السلام- لم يصدقهم في مقالتهم له؛ لأنه رأى من القرائن والأحوال ما يؤكد كذبهم, ومنها: - رؤيا يوسف -عليه السلام- تؤكد أنه لن يموت هكذا. - أخذوا يوسف ليلعب، وإذا بهم يعتذرون بلعبهم دونه. - زعموا أن الذئب أكله، والذئب لا يأكل ضحيته كلها، بل يكتفي بقطعة منها. - لو تصورنا أن الذئب أكله، فهل يأكله كله في مرة واحدة؟ - جاءوا بالقميص سليما وعليه دم، وهذا لا يتصور؛ لأن الذئب يمزق القميص وهو يقتل ضحيته. - في حديثهم إشارة إلى الكذب, قالوا: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} 1. - رأى عليه السلام في تأخرهم، وبكائهم الخداع، والتحايل، وعدم الصدق. أسلم يعقوب -عليه السلام- أمره لله صابرا، وقال لهم: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} 2. وجاءت قوافل التجار، وأناخت بإبلها بجانب البئر، وأرسلوا ساقيهم لينزع لهم الماء، فلما أدلى الوارد دلوه تعلق يوسف بالحبل، وشده الوارد، فلما رآه استبشر، وقال: هذا غلام، وعرف التجار بالأمر، فكتموا خبر العثور عليه، وجعلوه بعضا من بضاعتهم التي أحضروها من بلاد الشام إلى مصر، وباعوه بثمن رخيص؛ لأنهم لم يتكلفوا فيه ثمنا، ولم يهتموا بشأنه مخافة ظهور قومه، واسترجاعه منهم. واشتراه عزيز مصر ورباه ... وكان ما كان حتى تولى عليه السلام أمر الخزائن لتميزه بالحفظ، والعقل، وسعة النظر.

_ 1 سورة يوسف آية: 17. 2 سورة يوسف آية: 18.

وتمر الأيام، ويعم القحط أرض كنعان، ويأتي إخوة يوسف ليمتاروا لقومهم من خزائن يوسف: {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} 1. عرفهم لأنه فارقهم رجالا، وأنكروه لأنهم فارقوه صبيا، وهو الآن عليه أبهة الملك، ورونق الرئاسة، وعنده الخدم والحشم، وأما هم فحالهم لن يتغير. أعطاهم ما طلبوا، وأمدهم بالطعام والعدة التي يحتاجون إليها في سفرهم، فلما حدثوه بالعبرية، قال لهم: من أنتم؟ وما شأنكم؟ قالوا له: نحن أبناء يعقوب نبي الله، وقد رزقه الله اثني عشر رجلا، هلك واحد منا في البرية وبقي أحد عشر ... قال لهم: أنتم عشرة, فأين الحادي عشر؟ قالوا: هو شقيق من هلك لأبيه وأمه، وهو أخ لنا من أبينا، وتركناه مع أبيه ليتسلى به لأنه أحبنا إليه ... هنا قال لهم يوسف عليه السلام: ائتوني بأخيكم هذا لأعطيكم ما تطلبون بعد ذلك، فإن لم تأتوني به، فلن أعطيكم شيئا، ولن أسمح لكم بدخول البلاد، فوعده بأنهم سيطلبون ذلك من أبيهم، ويؤكدون له الحاجة الماسة لإحضار أخيهم معهم2. وأمر يوسف فتيانه بأن يضعوا أثمان الحبوب التي دفعها إخوته في رحالهم، وكانت هذه الأثمان منتجات صناعية كالنعال والثياب وغيرها. ولما عادوا لأبيهم، وفتحوا متاعهم، وجدوا مع الطعام بضاعتهم التي اشتروا بها، وقد ردت إليهم، دليلا على كرم عزيز مصر، واهتمامه بهم، فعرضوا الأمر على أبيهم، وطلبوا منه أن يرسل أخاهم معهم ليمتاروا, وبخاصة أنهم يتعاملون مع ملك كريم، يعطيهم مجانا، يطعمون قومهم, ويدخرون بضاعتهم، ويزدادون كيل بعير لأخيهم، ويحافظون عليه، وذلك في مدة قصيرة يسيرة3, قال لهم أبوهم

_ 1 سورة يوسف آية: 58. 2 اقرأ الآيات: 59-63 من سورة يوسف. 3 تفسير ابن كثير ج2، ص484.

{قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} 1. أعطوا العهد لأبيهم، فقال لهم حين هموا بالسفر إلى مصر بأخيهم: {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} 2. وقد أمرهم بذلك حتى لا تصيبهم العين، فنفذوا طلب أبيهم، ودخلوا من عدد من الأبواب، ووصلوا إلى الملك فقرب أخاهم إليه، وعرفه بأنه أخوه يوسف، وعليه أن يصبر ولا يحزن. وجهزهم بجهازهم، ووضع الصواع في رحل أخيهم سرا، ولما هموا بالرحيل نادى منادي الملك، قال تعالى: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ، قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ، قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} 3. أنكر إخوة يوسف اتهامهم بالسرقة، وردوها عنهم, وقالوا: {مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} 4. فرد جنود الملك: ما جزاء السارق إذا ثبتت عليه سرقة الصواع؟

_ 1 سورة يوسف آية: 66. 2 سورة يوسف آية: 67. 3 سورة يوسف الآيات: 70-72, والصواع: آلة الكيل من ذهب أو من فضة. 4 سورة يوسف آية: 73.

فرد إخوة يوسف -عليه السلام- جزاؤه في شريعتنا أن يسترق سنة، وهلموا بالبحث، فمن وجد في رحله الصواع فالرق جزاؤه. واستمر يوسف في تحقيق غرضه بحيلته تلك، قال تعالى: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} 1. ومكن الله ليوسف بهذه الحيلة، حيث أجرى عقوبة شريعة يعقوب بإبقاء أخيه سنة كاملة؛ لأن شريعة ملك مصر كانت تقضي بالضرب والغرامة فقط ... وهنا قال إخوة يوسف له: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} 2, وأرادوا بأخيه يوسف3، فأسرها يوسف في نفسه ولم يظهر لهم تألمه من مقالتهم. وحاول إخوة يوسف أن يخففوا عن أبيهم، فاقترحوا على الملك أن يطلق سراح أخيهم، ويأخذ أحدهم مكانه مراعاة لظروف أبيهم الشيخ الكبير، فرفض يوسف لأن ذلك يخالف الشرع والعدل. وأصر يوسف على الرفض، فأمرهم كبيرهم بأن يرجعوا لأبيهم، ويقصّوا عليه ما حدث، على أن يبقى هو في أرض مصر، حتى يأذن له أبوه بالعودة، أو يقضي الله له4.

_ 1 سورة يوسف آية: 76. 2 سورة يوسف آية: 77 3 قالوا: المراد بسرقة يوسف أن عمته كانت تربيه بعد مولده، وكانت تحبه، فلما جاء أبوه يأخذه وضعت منطق إسحاق في وسطه، وزعمت سرقته، فلما ظهر عند يوسف أبقته عندها سنة كشرع ذلك الزمان، وقيل: إن يوسف سرق صنم عمته، وكسره، ورماه، فبقي عندها سنة. 4 تفسير القرطبي ج9، ص242.

وجاءوا إلى أبيهم يؤكدون له حادثة السرقة، وهم شهود عليها، ومعهم في الشهادة رجال القوافل، وأهل القرية، والكل يؤكد صدق ما قلناه لك. ومع صدق أبناء يعقوب -عليه السلام- في حديثهم مع أبيهم هذه المرة، فإنه -عليه السلام- يرد عليهم قائلا لهم: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} 1. إنه ما زال يأمل في عودة الغائبين إليه جميعا، وهم: يوسف وأخوه وكبيرهم الذي بقي في مصر. وأعرض عنهم أبوهم، وتولى بعيدا، أسفا على يوسف، وانقلب سواد عينه بياضا من شدة البكاء، وتنوع الغيظ الذي يكتمه. فتعجب أبناؤه من ذكره يوسف بعدما طالت الأيام به، وكبر سنه، وأشرف على الموت والهلاك، وواجهوه بهذه المشاعر، قائلين له: {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِين} 2. رد عليهم يعقوب بأنه يشكو أمره لله، وأمله ورجاؤه كله فيه، وعليهم أن يرجعوا ويبحثوا عن يوسف وأخيه بلا يأس أو قنوط، فرحمة الله واسعة، لا ييئس منها إلا الكافرون، قال تعالى: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} 3.

_ 1 سورة يوسف آية: 83. 2 سورة يوسف آية: 85. 3 سورة يوسف آية: 87.

فلما جاءوا يوسف، دخلوا عليه، وقالوا له: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِين} 1. فرد عليهم يوسف, عليه السلام: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} 2. هنا ظهرت لهم الحقيقة، وانكشف المخبوء، وتعجبوا قائلين له: {قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} 3. وهنا عادوا إلى أنفسهم، وتذكروا هذا الماضي البعيد، واعترفوا له بخطئهم، وطلبوا منه العفو والصفح، وقالوا له ما حكاه الله تعالى: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} 4. فعفا عنهم، وأحسن إليهم، قال تعالى: {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} 5. وهكذا ... تعارف الإخوة على يوسف وأخيه، وعادوا لأبيهم يحملون له البشرى، ويعرفونه بكل ما حصل معهم.

_ 1 سورة يوسف آية: 88. 2 سورة يوسف آية: 89. 3 سورة يوسف آية: 90. 4 سورة يوسف آية: 91. 5 سورة يوسف آية: 92.

ثانيا: يوسف في بيت عزيز مصر

ثانيًا: يوسف في بيت عزيز مصر حينما أخذ التجار يوسف صغيرا من الجب، ذهبوا به إلى مصر، وباعوه بثمن زهيد. شاءت إرادة الله تعالى أن يكون الذي اشتراه هو وزير مصر الأول؛ ليتحقق له ما قضى به سبحانه وتعالى. وكان يلقب وقتذاك بـ "العزيز"، ولم يكن للعزيز ولد، فأخذ يوسف لزوجته وقال لها: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} 1. فبدل الله يوسف بالجب قصر الملك؛ ليتمتع فيه بكرم المنزلة، وطيب الطعام، وحسن الملبس، والاطلاع على أمور الناس، وأحوال المعاش، وليتعلم ما يعرفه أمثاله من أبناء الملوك والأمراء. وكانت أمنية العزيز من تبني يوسف أن يساعده في مهامه، أو يتخذه وزوجته ولدا يئول إليه الأمر من بعده. ورحبت امرأة العزيز بهذا الصغير، واهتمت بتربيته، واعتنت بتعليمه، وسرعان ما أحبه كل من عاشره من خدم وحشم القصر، لما كان يتمتع به من جمال باهر، وأدب رفيع، وطاعة سريعة. وقد تأثرت زوجة العزيز بيوسف، وتعلق قلبها به، وشغفت بالحياة معه، فكانت تتزين أمامه، وتظهر مفاتنها ومحاسنها لتميله إليها، لكنه لم يلتفت إلى شيء من هذا، واستمر مستمسكا بالعفة والطهارة، والخلق الكريم. انتقلت زوجة العزيز من التعريض للتصريح، وأعدت العدة لتنال من يوسف ما تشتهي، وتبغي، قال تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} 2.

_ 1 سورة يوسف آية: 21. 2 سورة يوسف آية: 23.

نعم ... هو في بيتها، شاب أعزب، يعيش تحت سيف العبودية، يجد نفسه أمام أميرة شابة، جميلة، تتهيأ له، وتعد المكان، وتطلب منه أن يستجيب لطلبها وقد تهيأت له واستعدت، وتكرر الطلب منها مرات متعددة. لم يتأثر يوسف بهذه المغريات، وإنما تذكر ربه فاستعاذ به من أي سوء، وتذكر العزيز الذي أكرم مثواه، فقال لها على الفور: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} 1. أي: أعوذ بالله معاذا مما دعوتني إليه، وزوجك هو سيدي، وربي، الذي أكرمني ورباني، فكيف أخونه في أهله، وأجيبك إلى ما تريدين، وفي الاستجابة لك ظلم وعدوان على حق الله، وحق الناس، ولا يفوز الظالم بخير أبدا2. وبهذا الموقف من يوسف -عليه السلام- تظهر أخلاقه بوضوح، فهو مؤمن، صاحب عقيدة، يستعيذ بالله تعالى، ويسأله المعونة في أداء حق سيده، الذي أكرمه، وأحسن مثواه, ولا يصح التعدي على حقوق الآخرين أبدا. ويكبر الأمر في نفس امرأة العزيز، وتحس بطعنة توجه لكبريائها، فلا هي حققت غرضها، ولا هي تعففت، فتهم بضرب يوسف، ويهم هو بالدفاع عن نفسه، فيتذكر حقها عليه فيجري بعيدا عنها، وتجري وراءه وتلحق به، وتقطع ثيابه من دبر حين أدركته قريبا من الباب. وعند وصولهما إلى الباب يجدان العزيز عنده، وعندئذ تحاول المرأة تبرئة نفسها، وتتهم يوسف بمحاولة الإساءة إليها، والفتك بها، وطلبت ضرورة مجازاته بالسجن، أو بالتعذيب؛ لينال جزاء جرأته على سيدة القصر، وامرأة العزيز،

_ 1 سورة يوسف آية: 23. 2 فتح القدير للشوكاني ج3 ص17 بتصرف.

وعن هذا الموقف يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ، وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيم} 1. وجد العزيز نفسه أمام قضية خطيرة تهمه ... تدعي امرأة العزيز أن يوسف أراد بها الفاحشة، وينفي يوسف التهمة عن نفسه، ويذكر الحقيقة: {رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} , ويحتكم العزيز إلى حاكم للقضاء من أهل زوجته، وإليه الإشارة في قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} , وسمى القاضي شاهدا لما يحتاج إليه من التثبت والتأمل والتصور الصحيح للواقع كأنه رآه، وكان القاضي من أهلها، قيل: هو ابن عمها، أو ابن خالها، أو مستشار الملك، ويرى السهيلي أنه طفل تكلم في المهد حيث ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- شاهد يوسف ضمن من تكلموا في المهد، وكان القاضي عادلا حكيما، قال للملك: إن كان القميص قطع من أمام فهي صادقة؛ لجذبها القميص وهو مقبل عليها، وإن كان القميص قطع من دبر فهي كاذبة؛ لقطعها القميص وهو يجري منها. قال الشاهد: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ

_ 1 سورة يوسف الآيات: 24, 25, ويذهب المفسرون في تفسير قوله تعالى: {هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} مذاهب كثيرة، فمنهم من يقول: {هَمَّتْ بِهِ} هم: فعل وهم بها هم: ترك، ومنهم من يقول: بل هم بها هم: فعل لولا أن رأى برهان ربه، ومنه من يقدم ويؤخر فيقول: المعنى: لولا أن رأى برهان ربه لهم بها إلى غير ذلك من الأقوال، ونحن نرجح ما أشرنا إليه.

الصَّادِقِينَ} 1. نظر الملك إلى القميص، فلما رآه قد من دبر علم الحقيقة، وتأكد من صدق يوسف وبراءته، فقال ليوسف ولزوجته، ما حكاه الله تعالى: {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ، يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} 2، أراد الملك بذلك ستر الموضوع بتركه، والتوبة عنه، والاستغفار له، لكن أمر النساء لا يبقى سرا أبدا. وسرعان ما أخذ النسوة يتحدثن عن امرأة العزيز، وشغفها بحب يوسف، وخيانتها لزوجها، وتفريطها في طهارتها، سمعت امرأة العزيز بحديث النسوة، وأرادت إحاطتهن بما لم يحطن به ليعذرنها، فدعتهن إلى طعام، وأجلستهن على المقاعد الوثيرة، وسلمت كل واحدة سكينا تستعمله في أكلها، وبدل أن تحضر لهن الطعام أخرجت يوسف إليهن بحسنه وجماله، فلما رأينه سحرن به، وقطعن أيديهن بالسكاكين، وهن لا يدرين، وقالوا جميعا: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} 3، حينئذ أبدت امرأة العزيز عذرها، قال تعالى: {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ} 4, يرى يوسف هذا الموقف فيعلن بكل وضوح، أن السجن أحب إليه من ارتكاب ما يدعونه إليه، ويسأل الله تعالى أن يصرف عنه كيد النسوة ليبقى طاهرا، نظيفا.

_ 1 سورة يوسف آية: 26, 27. 2 سورة يوسف آية: 28, 29. 3 سورة يوسف آية: 31. 4 سورة يوسف آية: 32.

ثالثا: يوسف في السجن

ثالثًا: يوسف في السجن بعدما ظهرت براءة يوسف, رأى العزيز سجنه مدة، يتصور الناس بها براءة زوجته، وإدانة يوسف فيما اتهم به. والتقى في السجن بصنوف من الناس، وتعامل معهم بخلقه وطهارته، واشتهر بينهم بالأمانة، وصدق الحديث، وحسن السمت، وكثرة العبادة، ومعرفة التعبير، والإحسان إلى المسجونين بعيادة مريضهم، والقيام بحاجاتهم فأحبوه، وأخذوا برأيه ومشورته1. ودخل السجنَ فتيانِ أحدهما ساقي الملك، والثاني خبازه؛ لأنهما اتهما بمحاولة دس السم للملك في طعامه وشرابه، ولما لقيا يوسف تعارفا عليه، وتعلقا به كسائر الترلاء ... ثم إن كلا منهما رأى مناما وجاء إلى يوسف ليؤوله له. رأى أحدهما أنه يعصر للملك عنبا، وكانوا يسمون العنب خمرا، ورأى الثاني أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه، وطلبا من يوسف -عليه السلام- أن يؤول لهما ما رأيا لما يعرفان عنه من الصدق، والعلم، والتعبير. وكان يمكن ليوسف أن يعرفهما بتأويل ما رأيا مباشرة، لكنه -عليه السلام- وجدها مناسبة حسنة للدعوة إلى الله تعالى. قال للرجلين: إنه يعرف تأويل الرؤيا، وسيخبرهما بما سيئول إليه أمرهما، وعلى أي تدل أحلامهما، وسيرد على استفتائهما، وقدم لهما برهانا على مدى معرفته، وهو أن يخبرهم بطعامهم قبل أن يجيء إليهم، وذلك أمر عجيب يدل على معرفته المعجزة، وأخبرهم بطعامهم قبل أن يأتيهم، وصدق في قوله لهم، وأخذ في بيان سر معارفه،

_ 1 تفسير ابن كثير ج2 ص477 بتصرف.

قال تعالى: {قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} 1. وهذا أمر يجعل الفتيين يفكران في حقيقة هذا الرب، الذي علم يوسف هذا العلم، وجعله يتميز عن سائر الناس، إنه علم غيبي نافع، وكأني بهم يسألون: من هذا الرب؟ وهل هو غير إله المصريين, ومن أتباع هذا الرب؟ يتابع يوسف -عليه السلام- حديثه عن دينه فيقول للفتيين، ما حكاه الله تعالى: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ، وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} 2. فيعرف مستمعوه من مقالته أنه ليس على دين الرعاة؛ لأنهم لا يؤمنون بالله حقا، ولكنه على دين آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وهم الرسل المشهورون بالصدق، وتعليم قومهم الدين الحق. وعرفهم أن دينه ودين آبائه يقوم على التوحيد، وإبطال الشرك، وعبادة الله وحده؛ لأنه لا يليق بعاقل أن يعبد آلهة يتخذها من الحجر، أو الشجر، أو المعادن, أو من غيرها. وأخذ يوسف بعد ذلك في بيان أدلة التوحيد، وأدلة إبطال الشرك بصورة مقارنة وسهلة، قال لهم كما قال تعالى: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} 3.

_ 1 سورة يوسف آية: 37. 2 سورة يوسف الآيات: 37, 38. 3 سورة يوسف آية: 39.

وهو سؤال إنكاري يحمل مراد يوسف، فالله الذي أعبده واحد، ذل كل شيء لعز جلاله، وعظمة سلطانه، بينما الآخرون يتخذون عددا من الآلهة لا تضر أبدا، ولا تنفع مطلقا، فأيها أحق بالعبادة: إله واحد قادر، أم آلهة متعددون لا تنفع ولا تضر, ولا تملك من أمر نفسها شيئا؟ قال لهم ما حكاه الله تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} 1. فالله وحده صاحب السلطان، والقدرة، والبراهين تشهد له، بينما آلهة القوم من اختراعات الناس، وأكاذيبهم، وعليهم أن يعلموا أن القضاء، والتصرف, والحكم بيد الله، والملك كله له يفعل ما يشاء ويريد، وعليهم أن يعلموا بضرورة التلازم بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، وذلك يقضي بتوجه العبد لله بالعبادة والرجاء؛ لأنه النافع الضار، وليس للآلهة المزعومة شيء من ذلك أبدا، فكيف تكون آلهة مع الله؟! وبذلك ختم دعوته مبينا أن الدين الذي يعرفهم به هو الدين الحق، وهو الصراط المستقيم، الخالي من العوج، الذي يسعد صاحبه ويكتب له الخير في الدنيا وفي الآخرة، ويلاحظ أن يوسف -عليه السلام- استفاد من تقدير الناس له, فجعله سببا وصلة إلى دعائهم إلى التوحيد، والإسلام، وبخاصة بعدما لمح من سجية الفتيين حب الخير، والإنصات له، والإقبال على دعوته2.

_ 1 سورة يوسف آية: 40. 2 تفسير ابن كثير ج2 ص479.

ويبدو أن يوسف -عليه السلام- كان يباشر الدعوة داخل السجن ويطبقها عمليا؛ ولذلك رأينا تحول المجتمع إلى دين يوسف عليه السلام, يدل على ذلك قول امرأة العزيز قبيل خروج يوسف من السجن، كما حكاه الله تعالى: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ، وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1. إنها تصور الله بصفاته، فهو الذي يهدي، وهو الرحمن، وهو الغفور الرحيم, وكل هذه صفات يقر بها المؤمنون بالله. وبعد أن عرض على أصحابه دعوته، عبر لهما الرؤيا، ودلّهما على ما تشير إليه، وهي أن من رأى نفسه يعصر خمرا، فسوف يخرج من السجن، ويعود إلى سيده ليسقيه خمرا كما كان، وأما الثاني فسوف يعاقب بالصلب، ويترك حتى تأكل الطير من رأسه، ورغبة في الخروج من السجن, قال يوسف للفتى الذي ظن أنه ناجٍ من الموت: اذكرني عند الملك، وحدثه عن براءتي، عسى أن يتذكر، ويصدر قرارا بالإفراج عني ... لكن الملك لم يتذكر، والفتى الناجي لم يذكر، فلبث يوسف في السجن بضع سنين، قال تعالى: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} 2. ولما أراد الله إخراج يوسف من السجن أجرى الحوادث نحو مراده -سبحانه وتعالى- بحكمة ودقة، فرأى الملك رؤيا فزع منها، رأى: {سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} 3, وطلب من

_ 1 سورة يوسف الآيات: 52, 53. 2 سورة يوسف آية: 42. 3 سورة يوسف آية: 43.

وزرائه، وأولي الأمر عنده أن يفسروا له ما رأى، فردوا عليه بأن ما رأى ليس حلما، وإنما أخلاط في الدم، وأغاليط يراها النائم انعكاسا لظروف نفسية وحياتية؛ ولذلك فليس لها معنى تدل عليه، إنها أضغاث أحلام. هنا يتذكر ساقي الملك الذي نجا، وخرج من السجن، يتذكر صاحبه يوسف، وما عرف به من قدرة على التأويل، وعلم بالتعبير، فيخبر الملك بتمكنه من تعبير هذه الرؤيا؛ لأنه يعرف رجلا في السجن عنده علم بالتعبير، هو يوسف، قال لهم الساقي: {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} 1، فأعدوا له العدة، وأرسلوه إلى يوسف في سجنه، وسهلوا له مقابلته، وجاء الساقي إلى يوسف وطلب منه متلطفا وقال: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} 2، ناداه باسمه العلم، وبالصفة التي عرف بها بين كل من عامله، وهي الصدق، وطلب تعبير رؤيا الملك، وقصها عليه بالتفصيل، ففسرها له يوسف -عليه السلام- وعرفه أن البقرات السبع السمان، والسنبلات السبع الخضر، عبارة عن سبع سنوات متصلة يعملون فيها بجد واجتهاد، ويرزقون خلالها ثمرا طيبا، وقمحا وفيرا، وعليهم أن يأخذوا ما يكفيهم، ويدخروا الباقي في سنبله حتى لا يصاب بالسوس؛ لينفعهم خلال سبع سنوات تعقب السبع الأولى، حيث فيها تجدب الأرض وينقطع المطر، ويشتد الأمر على الناس, فيأكلون مما ادخرتم لهم في السنوات السبع الأولى. وبعد ذلك تأتي سنة يعم خيرها، ويتنوع ثمرها، ويفيض ماؤها، ويكثر نتاج الزرع والضرع، ويعودون خلالها إلى ما كانوا يعصرون من قبل، لكن الأمر يحتاج إلى تعامل دقيق، ورعاية حكيمة، طوال هذه المدة.

_ 1 سورة يوسف آية: 45. 2 سورة يوسف آية: 46.

يحكي القرآن الكريم عرض الرجل رؤيا الملك على يوسف, فيقول سبحانه: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} 1. كما يحكي القرآن الكريم تفسير يوسف لهذه الرؤيا, فيقول سبحانه: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} 2. يعود الساقي إلى الملك بتأويل الرؤيا، فيسر الملك بهذا التفسير، لكنه يقف أمام بعض التساؤلات: - الرؤيا تشتمل على سبع صالحات، وسبع طالحات، وتفسيرهما بالوفرة والجدب أمر مسلم، لكن من أين جاء الحديث عن السنة التي يكون فيها المطر والعصير؟ - وأيضا إذا كان الماء والمطر سببا لكل حياة، فلم عودة الناس إلى ما كانوا يعصرون على وجه الخصوص؟ - من أين جاء يوسف بعلم تعبير الرؤيا دون الآخرين، وقد نشأ بينهم، وتعلم علومهم؟ - ومع تسليم الملك بصدق التعبير، فإنه رأى أن الأمر يحتاج إلى إدارة حكيمة، وأمينة، تسير بالمجتمع إلى الخير، وفق الخطة التي رآها في حلمه، وكما فسرها لهم يوسف عليه السلام. فكر الملك في كل هذا، ورأى تميز يوسف بالعلم، وإخلاصه في النصح وما كان لمثله أن ينصح وهو مسجون ظلما، لكنه -عليه السلام- نصح مخلصا؛ لينقذ

_ 1 سورة يوسف آية: 46. 2 سورة يوسف الآيات: 47-49.

المصريين وغيرهم، من سنوات القحط، والجوع. ويبدو أن الملك كان على شيء من دين سماوي، وكان قد سمع عن نشاط يوسف -عليه السلام- في دعوة الناس داخل السجن، فصدق بكل ما سمع، ورأى أن يكل الأمر ليوسف؛ ليدير شئون الزراعة، وتوزيع الميرة، في أرض وادي النيل، ويتولى خزائن مصر في المرحلة القادمة. فأمر بالإفراج عنه، وجاء رسول الملك لإخراج يوسف من السجن لمقابلة الملك، وجاء رسول الملك إلى يوسف أولا، وأخبره بقرار الملك، لكن يوسف رفض الخروج إلا بعد أن يتحقق من براءته من التهمة التي أودع بسببها في السجن، وطلب من الرسول أن يسأل الملك زوجة العزيز، ويسأل النسوة اللاتي قطعن أيديهن في القصر، وبذلك يعلم الجميع براءته، ويعيش معهم نظيف السمعة، طاهر الخلق, خالصا، صادقا. يحكي القرآن موقف الملك ورد يوسف عليه، بقوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} 1. أحضر الملك النسوة، وزوجة العزيز، وسألهن: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} 2. هذه شهادة النسوة، وفيها يعلنَّ براءة يوسف من أي سوء. أما زوجة الملك فقد اعترفت أمام الجميع اعترافا تفصيليا، يظهر الحق كاملا، ويبين براءة يوسف، وتقر بذنبها، وتتوب إلى الله، آملة أن يعرف يوسف أنها برأته في غيبته، ولم تخنه بشهادة زور ضده، وعللت سبب اعترافها المفصل بأمور:

_ 1 سورة يوسف آية: 51. 2 سورة يوسف آية: 52.

الأول: أنها تخاف من عقوبة الله تعالى إن كذبت عليه؛ لأن الحقائق التي تؤمن بها أن الله لا يهدي كيد الخائنين. الثاني: إظهار ضعف نفسها، والنفس أمارة بالسوء، وهي بذلك الإعلان تردع النفس, وتؤدبها، وتوجهها نحو الأخلاق الفاضلة لتكون متمتعة برحمة الله. الثالث: تطمع بتوبتها، وإقرارها في غفران الله ورحمته؛ لأنه سبحانه وتعالى غفور رحيم. يوضح الله تعالى شهادة امرأة العزيز التفصيلية، فيقول سبحانه: {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ، وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1. ويبدو أن الملك وزوجة العزيز قد دخلا في دين يوسف على نحو ما ذكرت قبل، وكما يظهر من الألفاظ التي لا ينطق بها إلا موحد يعرف الله تعالى. وبعد ظهور براءة يوسف -عليه السلام- جاءه الرسول وأخرجه من السجن إلى عالم الحرية الواسع.

_ 1 سورة يوسف الآيات: 51-53، ويرى بعض المفسرين أن مراد زوجة الملك من قولها: {لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} ، أي: ليعلم زوجي أني لم أخنه مع أحد، وما كان مع يوسف كان مراودة مني امتنع عنها يوسف، ويذهب آخرون إلى أن الكلام من أول: {لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} من كلام يوسف. والأولى ما ذكرته, فإن الحديث كله مروي على لسان زوجة العزيز في جلسة الاعتراف، وكان يوسف وقتها في السجن, وأيضا فإن من الممكن فهم قولها: {لَمْ أَخُنْهُ} أي: لم أخن زوجي حيث لم يقع المحذور الأكبر ولم أخن يوسف بالكذب عليه وهو غائب، وتكلمت بالحق والصدق.

رابعا: يوسف والحكم

رابعا: يوسف والحكم ... سقط

وإنما سأل ولاية خزائن الأرض، والإشراف على الأهراء التي يجمع فيها الغلات؛ ليدخر فيها من السنوات الطيبات للسنوات العجاف، التي أخبرهم بشأنها، ويتصرف بالأحوط والأصلح، والأرشد. وقد أراد الله ليوسف -عليه السلام- ذلك، فمكّن له في مصر، ووضعه على خزائن الأرض ليكون مقصد الناس وقت الجدب، يطلبون منه، ويعطيهم، ويدعوهم إلى الله تعالى. ولا يمكن تصور أن يوسف ترك أمر الدعوة؛ لأنه لم يتركها وهو في السجن, فكيف يتركها بعد أن صار متمكنا ذا سلطان وجاه؟ وفي قصة مؤمن آل فرعون -عليه السلام- ورد ذكر يوسف -عليه السلام- وبيان أنه دعا المصريين إلى عبادة الله وحده، وأظهر لهم المعجزات الدالة على صدقه، يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} 1. فهم في زمن موسى -عليه السلام- كانوا يعرفون أن يوسف -عليه السلام- بعث فيهم، ودعاهم إلى الله، وجاءهم بالمعجزات، لكنهم لم يؤمنوا به. إن القصة لم تتحدث بالتفصيل عن دعوة يوسف -عليه السلام- لأنها في السورة تتخذ مسارا آخر، لتحقيق غرض يفيد الدعوة والدعاة، وعساه عليه السلام كان يكتفي بالدعوة العملية، وبالإشارات الموحية في بعض الأحيان، وبالتوجيه الواضح حين يقتضيه المقام ... فمن الناحية العملية كان صاحب خلق، ودين، وحسن معاملة. ومن ناحية الإشارات نقرأ ما ذكره للناس، مبينا إيمانه بالله الواحد الأحد.... ومن ناحية التوضيح رأينا ما فعله في السجن.

_ 1 سورة غافر آية: 34, يرى بعض المفسرين أن يوسف المذكور في الآية هو حفيد يوسف الصديق. "انظر تفسير أبي السعود ج5 ص9".

خامسا: يوسف وبنو إسرائيل

خامسًا: يوسف وبنو إسرائيل خرج يوسف من السجن، وصار محل ثقة الملك، ويبين ابن كثير أن الملك كان يسمى "الريان بن الوليد"، وأن وزيره الأول هو "أطفير" الذي اشترى يوسف ورباه، وهو زوج من راودت يوسف عليه السلام. أراد يوسف أن يصلح الناس في معاشهم ودينهم، فطلب من الملك أن يوليه الخزائن، فاستحسن الملك ما طلب، وعزل أطفير، وولى يوسف مكانه، وبعدها هلك أطفير بمدة وجيزه، فزوج الملك يوسف زوجة العزيز، فلما دخل بها قال لها: أليس ذلك خيرا مما كنت تريدين؟ فقالت: أيها الصديق لا تلمني, فإني كنت امرأة جميلة، ناعمة في ملك ودنيا، وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله في حسنك وهيئتك على ما رأيت ورأى النسوة1. وتولى يوسف وزارة مصر الأولى، وتزوج زليخا فوجدها عذراء، فولدت له أولادا. وقد اشتهر يوسف بالعدل، والإنصاف، والصدق، وإعانة الضعفاء فأحبه الجميع، ويقال: إن الملك آمن بدعوة يوسف، وسلم الأمر له، فصار كل شيء في مصر تحت حكمه2: {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} والملك راضٍ عنه. ومما يدل على أن يوسف -عليه السلام- صار متمكنا في كل جوانب الحياة في مصر, أنه تعامل مع إخوته منفردا، ولم يرجع لرئيس معه في محاكمة أخيه، أو مناقشة إخوته، أو إحضار أهله جميعا إلى مصر.

_ 1 تفسير ابن كثير ج2 ص383. 2 البداية والنهاية ج1 ص211.

يروي الفضل بن عياض مصورا سلطان يوسف -عليه السلام- أن امرأة العزيز وقفت على ظهر الطريق حتى مر يوسف بسلطانه فقالت: "الحمد لله الذي جعل الضعفاء ملوكا بطاعته، وجعل الملوك صغارا بمعصيته"1. ومضت السنوات الأولى، وجاء الجدب والقحط، فورد الناس على يوسف من سائر الأقاليم، يمتارون لأنفسهم وعيالهم، فكان لا يعطي الرجل أكثر من حمل بعير في السنة، وكان عليه السلام لا يشبع نفسه، ولا يأكل هو والملك، والجنود، إلا أكلة واحدة في وسط النهار، حتى يتكافأ الجميع. كان يوسف -عليه السلام- رحمة من الله تعالى على أهل مصر، وعلى من جاورهم, وكان أبناء يعقوب -عليه السلام- أعرابا، يعيشون في البادية، ويتنقلون حيث العشب والماء, فلما نزل القحط بالناس حل الجدب ببني إسرائيل؛ ولذلك جاء أبناء يعقوب يمتارون من مصر، وكان ما كان بين يوسف -عليه السلام- وإخوته على نحو ما ذكرت.... وأخيرا أعطاهم قميصه، وقال لهم: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} 2، ذلك أن أباه يعقوب -عليه السلام- قد كف بصره؛ لكثرة بكائه على فراق يوسف وأخيه، وكان دائما يذكرهما. ولما غادرت القافلة ومعها قميص يوسف أرض مصر، هاجت ريح حملت رائحة القميص إلى يعقوب، فقال لمن معه: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ، قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} 3، عرف ريح يوسف ولم يقطع به؛ حتى لا يتهم من بنيه وقومه بالجري وراء الأماني والأحلام، وجاء حامل القميص فألقاه على وجهه فعاد إليه بصره، وهنا قال لإخوته: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} 4.

_ 1 تفسير ابن كثير ج2 ص482. 2 سورة يوسف آية: 93. 3 سورة يوسف آية: 94, 95. 4 سورة يوسف آية: 96.

فطلبوا من أبيهم أن يغفر لهم، واعترفوا بخطئهم فسامحهم، وأخبرهم بأنه سيدعو الله لهم ويستغفره, فهو سبحانه الغفور الرحيم، يقول الله تعالى: {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ، قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 1. وجاء الإسرائيليون جميعا إلى مصر مع نبيهم يعقوب، وكان عددهم يقترب من أربعمائة رجل وامرأة، وعاشوا بمصر مكرمين. يذكر ابن كثير أن إخوة يوسف حملوا أهلهم جميعا، ورحلوا بهم من بلاد كنعان قاصدين أرض مصر، فلما علم يوسف باقترابهم خرج لتلقيهم، وأمر الملك أمراءه، وأكابر الناس بالخروج مع يوسف لتلقي نبي الله يعقوب -عليه السلام- وأهله، ويقال: إن الملك خرج بنفسه مع يوسف للترحيب بالركب القادم، ولما وصلوا إلى البلدة قال لهم يوسف: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} 2. وعاش الإسرائيليون في مصر متمتعين بقوة السلطان، وعزة يوسف -عليه السلام- قال تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} 3. ويبدو أن الإسرائيليين عاشوا في عزلة عن المصريين، وحافظوا على كافة خصائصهم النفسية، والمادية، والبدوية.... إلخ.

_ 1 سورة يوسف الآيات: 97, 98. 2 سورة يوسف آية: 99. 3 سورة يوسف آية: 100.

ولذلك بقي المجتمع مكونا من طبقتي المصريين والإسرائيليين، المتباعدتين عن بعضهما حتى بعث الله موسى -عليه السلام- وأرسله رسولا إلى المصريين، وبني إسرائيل معا. ومن عجائب المقارنات أن المصريين خرجوا مع الملك، ويوسف لاستقبال بني إسرائيل يوم مجيئهم، وعند خروجهم تخفوا، وأخذوا معهم ذهب المصريات، بلا حق لهم فيه، وهو الذهب الذي صنعوا منه العجل ليكون لهم إلها. ويختلف المؤرخون في عدد الإسرائيليين يوم خروجهم من مصر، وبعضهم يذكر أنهم بلغوا أكثر من سبعمائة ألف, مما يعني أنهم عاشوا مدة طويلة في أرض مصر.

النقطة الثالثة: ركائز الدعوة في قصة يوسف عليه السلام

النقطة الثالثة: ركائز الدعوة في قصة يوسف عليه السلام مدخل ... "النقطة الثالثة": ركائز الدعوة في قصة يوسف عليه السلام قصة يوسف -عليه السلام- مليئة بالدروس، غنية بالعبر والعظات؛ ولذلك ختم الله السورة بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 1. ودروس القصة هي ركائز للدعوة والدعاة، يجب اتخاذها أسوة، وقدوة.... وأولو الألباب هم أسبق الناس إلى الاستفادة من قصص القرآن الكريم، وهدى الله تعالى. وإني -بعون الله تعالى- أبرز من قصة يوسف الركائز التالية:

_ 1 سورة يوسف آية: 111.

الركيزة الأولى: تربية الرسول الداعية

"الركيزة الأولى": تربية الرسول الداعية نشأ يوسف -عليه السلام- في بيت النبوة، وتعلق به قلب أبيه، وبخاصة بعدما أدرك ما سيكون عليه شأنه من منزلة دينية واجتماعية، وكان يهتم به كثيرا، ويوجهه نحو معالي الأمور، ومكارم الأخلاق، ويعرفه بالله تعالى، من ذلك أنه لما قص يوسف ما رآه عليه، قال له ما حكاه الله تعالى: {قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ، وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 1. فلقد رأى رؤياه وهو صغير، يقول وهب: رأى يوسف وهو ابن سبع أن إحدى عشرة عصا طوالا غرزت في الأرض كهيئة الدائرة، وأن عصا صغيرة وثبت عليها حتى ابتلعتها، ورأى رؤية الكواكب وهو ابن اثنتي عشرة سنة، وفي كل مرة يأتي لأبيه يقص له ما رأى؛ لقوة ما يشعر به من حب وثقة، لأن أباه كان يحيطه بالحنان والرحمة، ويتعامل معه بأخوة وتقدير بعيدا عن الغلظة والقسوة2، وكان يوجهه نحو ما يحسن خلقه، ودينه، وسلوكه. ومن التوجيهات التربوية الحسنة المستفادة من الآيات ما يلي: 1- تحذير الولد من أسباب الضرر، وذلك أمر له أهميته في التربية، وعلى الآباء أن يُولوا هذا الجانب عناية خاصة؛ لأن أدوات التوجيه عديدة، وكلها تتجه للولد منذ مولده للتأثير فيه، وأغلبها يهتم بتقديم القيم الفاسدة، ونشر أخلاقيات لا تتناسب مع تعالم الإسلام، وكرامة الإنسان.

_ 1 سورة يوسف الآيات: 5, 6. 2 تفسير الرازي ج9 ص89.

وكثير من الآباء يهملون توجيه الأبناء في طفولتهم، ظنا منهم أن الوقت لم يحن بعد للتوجيه، والإرشاد، فيتركون الأطفال يلعبون، ويأخذون من هنا ومن هنا، ويفاجأ الآباء بأبنائهم يتمردون على القيم الحسنة، والأخلاق الطيبة، بسبب إهمالهم، وتربيتهم في الوقت المناسب. لقد أثبت علم النفس أن الطفل يبدأ في اكتساب الخلق والسلوك بعد مولده مباشرة، من أمه وأبيه؛ ولذلك وجب على الآباء أن يعايشوا أبناءهم ويقتربوا من مشاكلهم وقضاياهم، فهم مسئولون عن أبنائهم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله سائل كل راعٍ عما استرعاه، حفظ أم ضيع، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته" 1, ويقول صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول" 2. ولذلك نعيش مع يعقوب -عليه السلام- وهو يحنو على يوسف، ويحاوره، وينصحه، وكان توجه يوسف إلى أبيه تلقائيا يقص عليه ما رأى، ويسعد برأيه وتوجيهه. استمع يعقوب لرؤى يوسف الصغير، ولم يعلق عليها بتفسير، وإنما أدرك منها المنزلة العالية التي سينالها يوسف من بين إخوته، ولذلك نصحه بأمور محددة: الأول: لا تخبر إخوتك بالرؤيا حتى لا يتآمروا عليك، ويتخلصوا منك، حسدا وحقدا، من عند أنفسهم؛ لأن النفس أمارة بالسوء، وهذه حقيقة بشرية، حيث تتملك النفس غير المؤمنة، أنانية طاغية، تدفعها لارتكاب أعمال سيئة، ضد من يتمتع بنعم وافرة، وخير واضح؛ ولذلك يحسن بالإنسان المؤمن إذا أتاه فضل من الله أن يستره ويخفيه؛ لأن المحروم من هذا الفضل يتحول إلى حاسد، حاقد. وقد رأى يعقوب من بنيه مدى ألمهم، من تصورهم أن يوسف أحب إليه منهم؛ ولذلك كان تحذيره.

_ 1 صحيح ابن حبان. 2 سنن أبي داود.

وعلى الإنسان أن يعلم عداوة إبليس للناس، ويعلم أنه يستغل النفوس الضعيفة، يوسوس لها، ويحرضها على المعصية، ويزين لها السوء. الثاني: دعوة الولد إلى الاستقامة في الخلق والسلوك، عسى أن يختاره الله، ويوفقه لاكتساب المعارف والعلوم الدينية، وقد دعا يعقوب -عليه السلام- يوسف إلى ذلك قائلا له: إن الله سبحانه كما أراك مستقبلك قادر على اصطفائك، واختيارك، وتعليمك، وإتمام نعمته عليه بالنبوة؛ لتكون امتدادا لفضل الله الذي جعله لأبويك من قبل إبراهيم، وإسحاق عليهما السلام. وفي تذكير يعقوب -عليه السلام- ليوسف -عليه السلام- بآبائه الرسل، عامل تربوي، يجعله يسير على هداهم، ويتمنى لنفسه أن يكون رسولا مثلهم، فالإنسان يعتز بآبائه، ويتمنى أن يتشبه بهم، ويسعد كثيرا بالتواصل المتين مع أصوله وقبيلته، ولكن.... هل هذا مناسب لعقلية الطفل الصغير؟ الإنسان في مرحلة الطفولة شديد التعلق بأبيه، سريع التأثر به، يحب ملازمته ويتمنى أن يكون معه دائما. ويمكن للوالد أن يوجه ولده الصغير إلى القيم الدينية، والاجتماعية، بأسلوب سهل، يستطيع الصغير أن يتصوره. وقد وجه يعقوب -عليه السلام- يوسف الصغير إلى الله، وبين له أن الله كما أراه الرؤيا الصالحة, فإنه يديم خيره، وفضله عليه بالعلم، والطاعة, والنبوة. وقد تم له ما عمل له، فتفوق يوسف في العلوم، وبخاصة في تأويل الرؤيا، وتنظيم أمور المعاش، وإقامة العدل، والالتزام بالصدق والأمانة، والمحافظة على حق الله وحق الناس، يقول الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ

لَا يَعْلَمُونَ، وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} 1. وقد عاش يوسف مؤمنا بالله تعالى، مطيعا له سبحانه، ملتجئا لجنباته في كل حالاته، حيث نراه يستعيذ بالله من فعل السوء، ويدعو الله ليصرف عنه كيد النسوة, وفي نهاية قصته يقر بنعمته عليه، وعلى أهله، وعلى الناس أجمعين، ويقول: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} 2. وهكذا يعدد كافة النعم التي عاشها، وتمتع بها إخوته، وأهله، ويشكر الله على عطائه، وفضله.

_ 1 سورة يوسف آية: 21, 22. 2 سورة يوسف آية: 100.

الركيزة الثانية: أخلاق الرسول الداعية

"الركيزة الثانية": أخلاق الرسول الداعية تعلم يوسف من أبيه -عليه السلام- الخلق الكريم، والأدب الفاضل، وقد تجلى ذلك في مراحل حياته جميعا. ومن أخلاقه التي تميز بها عليه السلام طهارته، وعفته، وقد رأيناه يوم أن راودته التي هو في بيتها، وهيأت نفسها له، وكررت ذلك معه، وبذلت كل ما أمكنها. ورغم أنه شاب, له طاقته وقوته، لم يضعف أمام سيدة تميزت بالجمال والجاه، وإنما لازم الطهارة والعفة، وحاول أن يوقظ فيها العقل والخلق، وهو يقول لها ما حكاه الله تعالى: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} , يبين لها عليه السلام أسباب عدم استجابته لرغباتها، وهي في نفس الوقت أسباب لها يجب

أن تمنعها عما سعت إليه. فالسبب الأول: وهو الاستعاذة بالله، واللجوء إليه، تبعد المستعيذ عن الفاحشة؛ لأنه سبحانه وتعالى حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن. والسبب الثاني: وهو مراعاة حق الرب إن أراد به الله، فهو إلههما، وإن أراد به السيد فهو زوجها، ومراعاة حق الرب تقتضي أن يبتعدا معا عن المعصية. والسبب الثالث: وهو الاعتراف بالفضل الذي يقتضي عدم الإساءة لصاحبه، وكلاهما قد أكرم الرب لهما في حياتهما, ومعاشهما. والسبب الرابع: وهو أن حقائق الوجود البشري تؤكد أن المعتدي على حق غيره, يبوء بالإثم والخسران، وهي لهما معا. وهكذا واجه يوسف دواعي الغواية التي فعلتها المرأة وهي: المراودة، وغلق الأبواب، والتهيؤ، بدواعيه إلى العفة وهي خوف الله، والمحافظة على عرض سيده الذي أكرمه، ومخافة الخسران والبوار. وظل يوسف متمسكا بطهارته بعدما تجمعت النسوة، واشتركن مع زوجة العزيز في المراودة، وهددنه بالسجن، والهوان, والإذلال، وقال لهن متضرعا إلى ربه: قال تعالى: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} 1. إن اختلاط الرجل بالمرأة, والخلوة بالأجنبية من أكبر عوامل الإفساد، ونشر الفاحشة؛ ولذلك كان الإسلام قاطعا في تحريم هذا الاختلاط. يروي البخاري بسنده عن عقبة بن عامر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إياكم والدخول على النساء"، فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحمو؟ قال صلى الله عليه وسلم: "الحمو الموت" 2.

_ 1 سورة يوسف آية: 33. 2 صحيح البخاري, كتاب النكاح ج9 ص330.

والحمو قريب الزوج كأخيه، وابن عمه ... وآثار اختلاط الرجال بالنساء في المدرسة، أو في البيوت، أو في العمل، أو في غيرها ضارة جدا، وينبغي الإقلاع عنه. ومن أخلاقه العفو والتسامح، فلقد اعتبر عليه السلام اعتراف النسوة بخطئهن أمام الناس كافيا في حقه عليهن، ويوم أن عرف إخوته ما وصل إليه أمره سامحهم، وقال لهم: {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} . ومن أخلاقه بره بأبيه، وحرصه عليه، حيث نراه -عليه السلام- يسارع بإرسال القميص إليه ليطمئن على أولاده، وأحضره على رأس أهله، واستقبله خارج المدينة، ورفعه على العرش، وأكرمه، وأكبره عليه السلام.

الركيزة الثالثة: الحرص على الدعوة

"الركيزة الثالثة": "الحرص على الدعوة" عاش يوسف في السجن مدة، ومع ذلك لم ينس أنه صاحب عقيدة صحيحة, وأن عليه أن يوصلها للناس؛ ليؤمنوا بها، ويتحولوا إلى الالتزام بتعاليمها. وهذا مسلك الداعية دائما مع دعوته؛ لأنه يعيش لها، وبها، ولا يرى لنفسه وظيفة سواها. ونتصور يوسف -عليه السلام- ينشر دعوته بين المسجونين، بعدما عرف بينهم بالصلاح والخلق الكريم. صحيح أن القرآن الكريم عرض صورة واحدة للدعوة قام بها يوسف مع صاحبيه، لكني أعتبر هذه الصورة نموذجا لسلوكه في السجن مع الناس، وآثر القرآن ذكر هذا النموذج تصويرا لمسار يوسف مع الدعوة، ومعلما رئيسيا في حياته، وفي نفس الوقت ففيه الغناء لإعطاء تصور كامل عن منهج دعوته "عليه السلام".

لو لم يكن يوسف مخلصا لدعوته لآثر الصمت، ولعاش في السجن حزينا، شاكيا، متأثرا بالآلام التي تلاحقه من إخوته، ومن النسوة، ومن الملك ... ولظل يسائل نفسه ... من أحق بالسجن, أنا أم هؤلاء؟ لكنه -عليه السلام- لم يعش هذه الآلام، وإنما أسلم أمره الله، ورضي بقضائه وقدره، وأعلن ذلك لرفقائه في السجن, قائلا ما حكاه الله تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} 1. إن معرفته بالله أسلمته لقدرته سبحانه وتعالى، فالحكم كله له، وعلى الإنسان أن يستسلم لجلاله، ويفنى في عبادته، ويلازم دينه القويم، ومنهجه المستقيم. لقد تحول السجن في حياة يوسف إلى مدرسة متكاملة، أغنته عن الأهل والأصحاب.... وأمدته بالوقت الذي استثمره في التأمل، والطاعة، والعبادة، والدعوة، حيث اشتهر في السجن بالإحسان، والكرم، وحب الخير لرفقائه أجمعين، والإخلاص في أخذهم إلى الله، وتعريفهم بخالقهم، فهو واحد لا شريك له في ألوهيته، وربوبيته، وليس له ند، ولا يصح أبدا أن يتخذ الإنسان مع الله شريكا من هوى النفس، أو من ضلالات الناس. والحكم والتشريع كله لله فقط، ولا يجوز مطلقا أن يقوم غيره بهذا الأمر، سواء كان فردا أو جماعة، حتى لا يكون شريكا لله في ألوهيته وحاكميته.

_ 1 سورة يوسف آية: 40.

والعبادة بمفهومها الواسع تعني الخضوع المطلق، والطاعة الشاملة, ولا تكون إلا لله. ويدرك العقل مدى الترابط بين هذه المفاهيم المستفادة من الآيات، فقصد العبادة لله نتيجة حتمية لكونه الحاكم الواحد، وهذا الحكم ملازم لوحدانيته، وقدرته. إن الواحد القهار لا بد أن يكون حاكما، ولا بد أن يعبد وحده عن استحقاق وتمكن، ولا شيء لغيره من ذلك أبدا. وكأني بـ "يوسف" -عليه السلام- حينما جاءه رسول الملك ليخرجه من السجن، وهو يقول له: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} كأني به يفضل حياة السجن داعيا، مؤمنا، على الحياة خارج السجن متهما منبوذا، فلما ظهرت براءته خرج عليه السلام إلى عالم الحرية, يطلب حقه إفادة للناس: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} .

الركيزة الرابعة: منهجية الدعوة

"الركيزة الرابعة": منهجية الدعوة تقدم قصة يوسف منهجية عالية في الدعوة إلى الله تعالى, في أمرين رئيسيين: الأمر الأول: التدرج في الوصول للغاية1. المفاجأة تؤدي إلى الدهشة، والتغيير الكلي لا يتم دفعة واحدة؛ ولذلك يرى علماء التربية ضرورة التدرج في التعليم والتربية، مع تقديم السهل من قضايا الدعوة على

_ 1 يختلف التدرج عن المجاراة؛ لأن المجاراة تسليم للخصم بما يعتقد، ثم تكون المناقشة بعد ذلك، أما التدرج فهو المناقشة ابتداء على أن تتم شيئا فشيئا، وتقديم القضية جزءا جزءا.

غيره، والانتقال من البدهيات والمسلمات إلى ما يحتاج لدليل وبرهان. والطبيب حين يعالج مريضه في تقديم الدواء تبعا لتقبُّل المريض، واستعداد بدنه. وعلى الدعاة أن يسلكوا هذا المسلك؛ ليحققوا لدعوتهم نجاحا، وتمكنا في قلوب الناس. وقد اتبع يوسف -عليه السلام- هذا الأسلوب مع من التقى بهم، وقد اشتملت قصته على نماذج لهذا التدرج. فهو عليه السلام حين عرض عليه صاحباه ما رأيا، وطلبا منه تفسيرها لهما، أخذ يدخل إلى نفسيهما مدخلا لطيفا، رفيقا، متدرجا حيث بدأ بتأكيد الثقة في علمه, وأخذ ينبئهما بالطعام الذي سيأتيهما قبل إتيانه. وبعدها بين لهما أن هذا العلم جاءه من ربه، الذي يعبده، ويؤمن به، وبالضرورة سيتساءل صاحباه: ما دينه؟ وما ربه؟ وهو على الفور يوضح لهما أنه ليس على دين الناس، إن دين الناس باطل، فهم يكفرون بالله، ولا يؤمنون باليوم الآخر.... أما دينه فهو دين إبراهيم وإسحاق -عليهما السلام- القائم على التوحيد الخالص، والتوجه بالعبادة لله وحده, كل ذلك على وجه الحكاية, وهم يسمعون ... ثم ينتقل مرحلة أخرى في شكل استفهام حول دينه ودين الناس, يوجهه لصاحبيه, قال تعالى: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} 1. إنه يخاطب فيهما الأخوة والصحبة، ويسألهما سؤالا لا يحتاج لجواب؛ لأنه أجاب عنه في حديثه الذي سبقه مباشرة، وإنما يقصد بالسؤال أن يفكروا في عقيدتهم, ويعودوا إلى فطرتهم، ويتجاوبوا مع أصالتها.

_ 1 سورة يوسف آية: 39.

جاء في الظلال: "وهو سؤال يهجم على الفطرة في أعماقها، ويهزها هزا شديدا. إن الفطرة تعرف لها إلها واحدا، ففيم إذن تعدد الأرباب؟ إن الذي يستحق أن يكون ربا يعبد هو الله الواحد، ومتى توحد الإله فواجب أن يتوحد الرب.... وما يجوز لحظة واحدة أن يعرف الناس أن الله واحد، ثم يدينوا لغيره، ويتخذوه ربا من دون الله"1. وبعدها ينتقل يوسف خطوة أخرى، فيتجه إلى بيان بطلان دين الناس، من ناحية أن آلهتهم التي يعبدونها صنعوها بأيديهم، وسموها بآلهة بزعمهم، وليس لها من دليل وبرهان ... وأخيرا يصل إلى مبتغاه، مناديا بدعوته قائلا: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} ... وهكذا تدرج يوسف -عليه السلام- في دعوة صاحبيه، ووصل إلى عرض دعوته في نهاية المطاف، ثم فسر لهما ما رأيا. ومرة أخرى ... نرى يوسف -عليه السلام- مع إخوته, لقد التقى بهم ثلاث مرات، في المرة الأولى تحدث معهم وعرفهم، واشترط عليهم إحضار أخيهم ليمتاروا بعد ذلك، وفي المرة الثانية حضر أخوه فعرفه بنفسه، وتحايل لإبقائه معه، وفي المرة الثالثة عرفهم بنفسه وأعطاهم قميصه، وبعد ذلك جاءوه بقومهم أجمعين. إنه تدرج معهم منعا للمفاجأة، وإظهارا لحقيقة النفوس، وحتى يكون مجيئهم جميعا لمصر مقبولا، ومن الجائز ألا يتحقق له ما أراد لو أعلنه لهم أول مرة.

_ 1 في ظلال القرآن ج12 ص225, 226 ط. دار العربية.

وعلى الدعاة أن يستفيدوا بهذا الأمر المنهجي، وذلك بتحديد المرض الذي يريدون علاجه, واتباع خطة تدريجية في العلاج والتوجيه. إن الخطبة الدينية يجب أن تتدرج في العرض والطلب، وتنتقل من فكرة إلى فكرة، في تدرج عقلي لتكون محل القبول والتأثير. الأمر الثاني: القصة وسيلة للدعوة القصة عمل فني متكامل، يقصد به التأثير في القارئ والمستمع، بعدما تجذبه إلى أحداثها، وشخوصها. وتعد قصة يوسف -عليه السلام- صورة متكاملة للقصة القرآنية، حيث نراها تضم ثروة من الحقائق والمعارف، وقدرا كبيرا من الإيحاءات والتوجيهات، وتنوعا في الأدلة والبراهين التي تثبت حقيقة الدين، وأحقيته في الاتباع. إن مجرد تذكر يوسف -عليه السلام- يجعل العقل يسبح في السورة من أولها إلى آخرها، وهو يتصور يوسف، طفلا، وسجينا، وواليا، وبين إخوته، وأهله، ومع النسوة، والملك. إن القصة تجمع كافة العناصر بحيويتها، ونشاطها، فهي تصور المكان مع تنوعه، وتغيره، فهو الجب، والسجن، والقصر، والعرش. وتصور الأشخاص بنفوسهم, وطبائعهم، فها هم إخوته بأوصافهم وصفاتهم، وها هو أبوهم وصلته بأبنائه، وها هي امرأة العزيز، وأصحابه في السجن، والعزيز. وفي القصة العقد التي يتضح حلها بعد حوار، ونقاش، ولعل أشهرها رؤيا يوسف التي ظهر تعبيرها عمليا في نهاية القصة. ولكن.... ما سر التأثير بالقصة؟ إن القصة تشد خيال المتابع لها؛ ليتعقب أحداثها، ويتنقل معها من موقف لآخر, وهي تجعل المتابع لها يشارك بوجدانه أبطال القصة، راجيا لهم الخير، أو رافضا عملهم، ومسلكهم.

وهي تثير الانفعالات النفسية للمتابع لها، وتحرك عالم اللاشعور لديه، وتجعله يتخذ موقفا من الذي يراه ويسمعه. إن اتخاذ الموقف من أحداث القصة هو بداية التأثر بها، والاستفادة بالتوجيهات المقصودة منها. والإسلام يدرك الميل الفطري للإنسان نحو القصة، ولذلك أوردها في القرآن للفائدة والعبرة. والقصص القرآني أنواع ثلاثة: النوع الأول: القصص التاريخي، وتشمل القصة التاريخية, الواقعية المقصودة بأماكنها، وأشخاصها، وحوادثها.... وهي كل قصص الأنبياء التي وردت متضمنة كافة العناصر الفنية الواقعية. النوع الثاني: قصة النموذج الواحد مثل قصة ولدي آدم؛ لأنها تعرض نموذجا، واقعيا، وحيدا، قابلا للتكرار في كل العصور. النوع الثالث: القصة التمثيلية، وهي التي تركز على الحدث وتسكت عن الأشخاص، مع قابليتها للتطبيق، وذلك مثل قصة أصحاب الجنتين1. وقصص القرآن الكريم بكل أنواعه يقصد التأثير، وتحقيق غاية مقصودة، ولذلك يعرض الواقع كما هو، ويبرز الإيجابيات والسلبيات، مع التعليق الموجز عليها ليأخذ المتابع هدنة، يتمكن خلالها من الحكم والمشاركة بعقله، لا بعواطفه فقط. إن المسلم وهو يتابع قصة يوسف -عليه السلام- وهي قصة تاريخية, يجد نفسه بالضرورة أمام رأي يتخذه مع كل حدث، وكل شخصية، ومع الرأي يكون الموقف، ويكون التأثر.

_ 1 منهج التربية الإسلامية ج1 ص237.

والقرآن في قصصه يتخير من الأحداث ما يحقق غرضه؛ ولذلك نراه يسكت عن أحداث ومواقف، ويكتفي بغيرها، ومع ذلك تستمر جاذبيته ويبقى تأثيره، يقول الشيخ محمد عبده: "إن قصص القرآن الكريم لم يقصد سرد الوقائع مرتبة حسب أزمنتها، وإنما المراد بها الاعتبار والعظة، ببيان النعم متصلة بأسبابها، لتطلب بها، وبيان النقم بعللها لتتقى من وجهتها، ومتى كان هذا هو الغرض من السياق فالواجب أن يكون ترتيب الوقائع في الذكر على الوجه الذي يكون أبلغ في التذكير، وأدعى إلى التأثير"1. إن على الدعاة أن يستفيدوا بقصص القرآن الكريم من ناحيتين: أولاهما: الاستشهاد بمقاطع من القصة في دعوتهم الناس، كمقطع العفة في حياة يوسف -عليه السلام- لأن هذا الاستشهاد يعد دليلا عمليا، عاشه الناس في عالم الواقع؛ ولذلك فهو بعيد عن الخيال، والأحلام. والثانية: الاستفادة بالقصة القرآنية كرمز يساعد على توضيح المراد، ومعالجة الواقع، من غير حساسية أو تجريح؛ لأن ربطها بالقرآن الكريم يعد إبرازا لمبدأ مقرر شرعا. لقد ألف الفيلسوف "بيدبا" كتابه "كليلة ودمنة" على ألسنة الحيوانات والطيور؛ ليصلح به الناس بعيدا عن الإثارة والتصادم، وقد استطاع تحقيق هدفه بهدوء، ولم يغضب أحدا. والقصة القرآنية حين تخرج من جو القرآن الكريم يكون لها من السحر، وقوة التأثير، وسرعة التصديق ما ليس لغيرها من كلام الناس. إن القصة مليئة بالتوجيهات المعبرة، والدروس المفيدة، وعلى الدعاة أن يستفيدوا من منهجية القصة، ويسلكوا مسلكها في الدعوة والتوجيه.

_ 1 تفسير المنار ج1 ص327.

الركيزة الخامسة: حقائق لابد منها

"الركيزة الخامسة": حقائق لا بد منها هناك بعض القضايا التي وردت في قصة يوسف -عليه السلام- أود أن أبينها بإيجاز: الحقيقة الأولى: "العلاقات الأخوية" الإخوة، وهم أبناء أب واحد، وينتسبون لعائلة واحدة، يمكن أن يدب الشقاق بينهم, وينتشر الحسد في قلوبهم، إلى الحد الذي يقتل فيه الأخ أخاه. والقصة توضح أن ذلك الأمر يقع بين الناس لأسباب كثيرة, من أهمها: 1- البعد عن منهج الله تعالى؛ لأن البعد عن منهج الله يجعل الإنسان ماديا، أنانيا، يعمل لنفسه فقط، ولا يرضيه قضاء الله إن تفوق عليه غيره. 2- إهمال القيم الأخلاقية التي تدعو إلى المودة، والحب، والتسامح، والعفو؛ لأن إهمال هذه القيم يؤدي إلى الكراهية والعدوان. 3- انتشار الجهل؛ لأن الجهل يجعل صاحبه لا يعرف الحقيقة، وربما تصور العدل ظلما وهو لا يعرفه، ولعل لصاحبه عذرا، وهو يلومه. 4- عدم غلق أبواب الشيطان للولوج إلى النفس؛ لأنه يوسوس بالعدوان، ويزين الضرر، وفتح الأبواب أمام الشيطان فرصة ينتهزها إبليس وجنوده. 5- عدم تسوية الآباء بين أبنائهم، وقد رأينا كيف فعل الشيطان بقابيل، وبإخوة يوسف عليه السلام. الحقيقة الثانية: "طلب الرئاسة" نرى في قصة يوسف -عليه السلام- أنه طلب الرئاسة، وزكى نفسه؛ لينال ما طلب، وذلك في قوله تعالى: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} وهذا الواقع يؤدي إلى التساؤلات الآتية: - كيف زكى يوسف نفسه؟

والله تعالى يقول: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} 1. - وكيف يطلب الرئاسة لنفسه, والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنا لا نولي هذا الأمر من سأله, ولا من حرص عليه" 2, ويقول لعبد الرحمن بن سمرة: "لا تسأل الإمارة" 3؟ - وكيف يطلب يوسف الإمارة من سلطان كافر؟! - ولِمَ ترك يوسف الاستثناء حيث قال: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} ؟ ولم يقل: إن شاء الله؟ - وهل يجوز لأي مسلم أن يطلب الإمارة لنفسه, كما فعل يوسف عليه السلام؟ وللوقوف على الرأي في هذه التساؤلات، علينا أن ندرك أن المجتمع البعيد عن الدين يعلو فيه الفاسق، ويختفي فيه المؤمن، وحينئذ فلا مانع من أن يبرز المؤمن صفاته ليستفاد به، وقد علم يوسف أن إصلاح شأن الناس واجب عليه، وإيصال الحق لذويه، ومن هنا طلب القيادة، وزكى نفسه، لإصلاح المجتمع، وتبليغ دعوة الله تعالى. ولا مانع من طلب الرئاسة من سلطان كافر؛ لأنها لن تنال إلا من هذا الطريق وقد ترك يوسف الاستثناء في حديثه، حتى لا يتصور الملك عجز يوسف؛ لأنه لا يفهم معنى الاستثناء المقصود، ومن الممكن تصور أن يوسف -عليه السلام- استثنى في نفسه. وطلب الرئاسة في الجو الذي طلبها فيه يوسف ضرورة دينية؛ لأن الجماهير لا تتحول إلى الدين الحق، إلا إذا سلمت أمامها مؤسسات التوجيه، وتلاقت في طريق

_ 1 سورة النجم آية: 32. 2 صحيح البخاري بشرح فتح الباري, باب ما يكره من الحرص على الإمارة ج13 ص125. 3 تفسير الرازي ج9 ص164.

واحد، تبني ولا تهدم، تشيد الخير، وتقوض الفساد ولا تتناقض الآراء لرواد المجتمع الواحد ... وذلك لا يكون إلا بتولي يوسف الأمر كله، وقد تم له ما أراد، حيث ترك الملك له كل شيء، وتمكن يوسف من كل شيء. وبهذا, لا لوم عليه في طلب الرئاسة, وتزكية النفس، وللمسلم أن يطلب رئاسة يقدر على الوفاء بها بطرق يرضى بها المجتمع الذي يعيش فيه، حتى إذا ما استجيب له يقوم بدوره مع الناس متآلفا، ودودا. الحقيقة الثالثة: "تمني الموت" في نهاية قصة يوسف -عليه السلام- نقرأ قوله تعالى: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} 1. فقد سأل عليه السلام ربه حينما تمت النعمة عليه باجتماعه بأبويه وإخوته, وبما من الله عليه بالنبوة والملك ... دعا ربه أن يديم عليه نعمته في الآخرة, وأن يتوفاه مسلما، وأن يلحقه بالصالحين من إخوانه النبيين والمرسلين عليهم صلوات الله وسلامه. والسؤال هنا: هل يجوز ليوسف -عليه السلام- أن يتمنى الموت وهو صحيح؟ وهل يجوز لأتباع محمد -صلى الله عليه وسلم- هذا التمني؟ إن تمني الموت لا يجوز مطلقا، لا ليوسف، ولا لأي مسلم آخر. ولذلك قال المفسرون: إن يوسف -عليه السلام- طلب ذلك حين حضرته الوفاة، أو إنه طلب من ربه أن يتوفاه على الإسلام يوم يحين أجله، وذلك كما يقول الرجل وهو يدعو: اللهم أحيني مسلما، وأمتني مسلما.

_ 1 سورة يوسف آية: 101.

وما ذهب إليه المفسرون أولى من قول بعضهم: إن ذلك كان جائزا في شريعة يوسف عليه السلام. ومن المعلوم أن حياة الرسل للدعوة، فإذا ما تمت يقترب أجلهم، لقد شعر الصحابة بقرب أجل النبي -صلى الله عليه وسلم- لما نزل قول الله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} 1، ولما نزلت سورة النصر سُر الصحابة وبكى ابن عباس، ولما سئل قال: هذا أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي شريعة الإسلام لا يجوز للمسلم أن يتمنى الموت؛ لأن الموت يقطع العمل، وأما الحياة فإنها فرصة المؤمن يزداد بها خيرا، في شكره النعم، أو صبره على البلاء. وإذا تعرض المسلم لضر أو أذى، فإن الله -سبحانه وتعالى- يجيز له الهجرة نصرة لدينه، يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} 2. ومن هنا فقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن تمني الموت, حيث قال: "لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان ولا بد متمنيا الموت فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي, وتوفني إذا كان الموت خيرا لي" 3. أما إذا عمت الفتنة ولم يجد المرء لنفسه خلاصا منها, فإنه يجوز له أن يتمنى الموت؛ ولهذا قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في آخر خلافته، لما رأى أن الأمور لا تجتمع

_ 1 سورة المائدة آية: 3. 2 سورة النساء آية: 97. 3 صحيح البخاري بشرح فتح الباري, باب الدعاء بالموت ج11 ص150.

له، ولا يزداد الأمر إلا شدة قال: "اللهم خذني إليك فقد سئمتهم، وسئموني"، وقال البخاري -رحمه الله- لما وقعت له الفتنة, وجرى له مع أمير خراسان ما جرى، قال: "اللهم توفني إليك". وفي الحديث الصحيح: "إن الرجل ليمر بالقبر -أي: في زمن الدجال- فيقول: يا ليتني مكانك"؛ لما يرى من الفتن، والبلايا، والأمور الهائلة1. الحقيقة الرابعة: عدم تعجل النتيجة أوحى الله إلى يوسف وهو في الجب بما سيئول إليه أمره، وطال به الزمن، ولما جاءه إخوته، لم يتعجل إظهار الحقيقة، وإنما تدرج في الظهور لأخيه، وإخوته، وأبيه، وذلك أمر حسن في شئون الحياة الدنيا. أما في شئون الدين فهو أشد حسنا، وأعظم أثرا؛ لأن التربية الهادئة المركزة تبني المبادئ على أساس متين، وتجعل البناء صلبا يتحمل الأنواء، والأعاصير, والزلازل. والدين يواجهه أعداؤه في كل عصر ومصر؛ ولذلك لزم أن يكون قوي البناء متين الدعائم ... وأيضا, فإن تعجل النتيجة والأثر، لا يحقق النتيجة المأمولة، وكثيرا ما يؤدي إلى التصادم، والانفعال، والعصبية، وهذا أمر لا يفيد الدعوة إلى الله تعالى.

_ 1 تفسير ابن كثير ج2 ص492.

أيوب عليه السلام

أيوب عليه السلام مدخل ... 13- أيوب عليه السلام: أيوب -عليه السلام- رسول الله إلى قومه الذي جاء ذكره في القرآن مختصرا. و"أيوب" اسم أعجمي غير منصرف، وقيل: بل هو اسم عربي, ومعناه في العربية والعبرية: الرجوع إلى الله في كل حال، في المحنة والبلاء، والمنحة والرجاء.... وقد اتخذ بلاء أيوب -عليه السلام- صورا عديدة، فقد ابتلاه الله تعالى بالنعم والخير، فشكر ربه المنعم، المتفضل، واستمر يذكره آناء الليل، وأطراف النهار، عابدا خاشعا ... كما ابتلاه الله بالأذى، والضر، فصبر ورضي، واحتسب صبره ورضاه لله رب العالمين. وبلغ من تحمله لقضاء الله وقدره، أنه لم يطلب من الله رفع الأذى لينال بالصبر رضوان الله تعالى. وما طلب من الله النجاة إلا شفقة بزوجته بعدما رأى حالها ... وقد تحمل أيوب -عليه السلام- في بلائه فصبر، وظل راضيا بقضاء الله تعالى؛ ولذلك ففي قصته دروس وعبر. والحديث عن أيوب -عليه السلام- يتضمن النقاط التالية:

النقطة الأولى: التعريف بـ"أيوب" عليه السلام

"النقطة الأولى": التعريف بـ "أيوب" عليه السلام أيوب بن موص بن زراح بن إسحاق1, من ذرية إبراهيم -عليه السلام- يقول الله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ} 2, والضمير في {ذُرِّيَّتِهِ} يعود إلى إبراهيم -عليه السلام- وأيوب نبي أوحى الله إليه؛ لقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ} 3. وقد تزوج أيوب ابنة عمه، قيل: اسمها: رحمة بنت يوسف بن يعقوب4، وكان مبعثه -عليه السلام- بـ "حران"5. وقد مدحه الله تعالى, وأبرز صفاته الخيرة، فقال تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} 6. فلقد التزم عليه السلام مقام العبودية، وأسلم أمره لله تعالى، وابتلي فصبر, وكان كثير التسبيح لله رغم ما كان فيه من بلاء. لم يتحدث القرآن الكريم عن دعوة أيوب -عليه السلام- واكتفى بالحديث عن خصائصه, وصفاته، وما ابتلي به. يقول الحافظ ابن حجر: "وكان له البثنية7, سهلها، وجبالها، وله فيها أهل ومال وولد، فسلب ذلك منه شيئا فشيئا، وهو يصبر ويحتسب، ثم ابتلي في

_ 1 البداية والنهاية ج1 ص220. 2 سورة الأنعام آية: 84. 3 سورة النساء آية: 163. 4 البداية والنهاية ج1 ص221. 5 فتح الباري ج6 ص421. 6 سورة ص آية: 44. 7 بفتح الباء والثاء وكسر النون: اسم ناحية من نواحي الشام, بين دمشق وأذرعات. "معجم البلدان ج1 ص338".

في جسده بأنواع من البلاء، فرفضه الناس إلا امرأته"1. وقد استمر أيوب -عليه السلام- في دعوة الناس إلى الله تعالى سبعين عاما، وكان فيها عظيم التقوى، رحيما بالمساكين, يكفل الأرامل والأيتام، ويكرم الضيف، وينصح بالحق في رفق ولين، ومن رفقه بقومه، وشدة تقواه أنه كان يمر بالرجلين يتنازعان فيذكران الله، فيرجع إلى بيته يكفر عنهما كراهية أن يذكرا الله إلا في حق، ومخافة أن يكبهما الله في النار2. وذات يوم قال أخ له لآخر: لو كان الله يعلم من أيوب خيرا ما ابتلاه بهذا البلاء، وسمعهما أيوب، فجزع من ذلك جزعا لم يجزع مثله قط، فقال لله: اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة شبعانا وأنا أعلم مكان جائع، فصدقني، فصدق من السماء، وهما يسمعان ... اللهم إن كنت تعلم أني لم يكن لي قميصان قط، وأنا أعلم مكان عارٍ فصدقني، فصدق من السماء، وهما يسمعان3. وهذه كلها شواهد حق على حسن خلقه، وصدقه في دعوة الناس التي استمرت سبعين عاما. وبعد ذلك نزل به البلاء، ففقد ماله، وأهله، وولده، ولم يبق معه إلا زوجته، وأصيب بعد ذلك في بدنه حتى لم يبق في جسده عضو سليم. وقد عاش أيوب -عليه السلام- في البلاء مدة طويلة، اختلف العلماء في تحديدها، وأقلها في أقوالهم ثلاث سنين، وأكثرها ثماني عشرة سنة ... وقد قابل أيوب هذا البلاء بالصبر، والاستسلام لله، عبودية وخضوعا، قالت له زوجته: يا أيوب لو دعوت ربك لفرج عنك.... فقال لها: لقد عشت سبعين سنة صحيحا، فهل قليل لله أن أصبر على البلاء سبعين سنة4؟

_ 1 فتح الباري ج6 ص421. 2 تفسير ابن كثير ج4 ص39. 3 البداية والنهاية ج1 ص223. 4 تفسير ابن كثير ج3 ص188.

وكما اختلف العلماء في تحديد مدة البلاء، اختلفوا في صوره وأنواعه, وبخاصة ما كان في بدنه، ويذهبون في ذلك إلى آراء كثيرة، أوصلها الإمام القرطبي إلى خمس عشرة صورة. والذي أراه -والله أعلم- أن الله ابتلى أيوب -عليه السلام- فصبر حتى صار يضرب بصبره المثل، وكان مما ابتلى به المرض، وأراه مرضا لا ينفر الناس منه، ولا يلحق به نقصا في شخصه، فهو عليه السلام رسول، مكلف بدعوة الناس، ولو كان به نقص ذاتي، أو مرض منفر، لاعتذر الناس به عند الله، وكان لهم عذرهم في أن الذي نفرهم هو المرض. ولذلك فهو مرض لا ينفر، كالروماتيزم، وآلام العظام، والضعف العام، وهكذا ... والابتلاء متحقق بهذه الأمراض التي لا تنفر، كما يتحقق بغيرها، والضر به لشدته، ولمدته الطويلة، وحينما قال الله له: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} ضربها، ولم يكن عاجزا. وأي فائدة تترتب على إلقائه في مزبلة، أو امتلاء جسده بالدود، أو تقيح جسده، أو عبث الدواب به؟ لا فائدة في كل هذا؟ والأنبياء والرسل كرام عند الله تعالى. ولذلك كان أيوب في أثناء بلائه يصدق من الله تعالى، ويكرم أمام الناس، يمدح الله تعالى أيوب -عليه السلام- بصبره على البلاء، وصدقه في العبودية، واستمراريته على الذكر والتسليم، فيقول تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} . انصرف الناس جميعا عن أيوب -عليه السلام- ولم يبق معه إلا زوجته, فقد استمرت معه تخدمه وتساعده، وتعمل لدى الناس لتنفق عليه من أجرها -رضي الله عنها- واستمرت على ذلك، حتى انصرف الناس عنها؛ خوفا من انتقال مرض زوجها إليهم، فعمدت إلى إحدى ضفيرتيها، وباعتها لإحدى بنات الأشراف، بطعام طيب وفير

ثم باعت الضفيرة الثانية وأنفقت ثمنها على أيوب، وأطعمته. وأين إبليس في بلاء أيوب؟ وما دوره في الإضلال؟ لم يغب إبليس.... وإنما قام بدوره مع زوجته، حيث جاءها في صورة طبيب يصف لها دواء أيوب، فلما أتت زوجها تعرض عليه إحضار طبيب يشفيه، تألم منها لنسبتها الشفاء لغير الله، وضجرها من قدر الله، وأقسم ليضربنها. وانطلق إبليس إلى رجلين صديقين لـ "أيوب" وقال لهما: احملا لـ "أيوب" خمرا، فإن شرب منه برئ, فلما أتياه، وعرضا عليه الخمر، قال لها: جاءكما الخبيث، كلامكما وشرابكما وطعامكما علي حرام، فقاموا من عنده. وأتى إبليس إلى أيوب، ووسوس له، وأخبره بأن زوجته بغت بمال أنفقته عليه، فتألم وأقسم ليضربنها مائة سوط، فلما جاءته سألها عن مصدر المال الذي تأتي به، فكشفت له عن رأسها، وأخبرته بأنها باعت ضفيرتيها؛ لتنفق ثمنهما، وتطعمه. يذكر المفسرون صورا عديدة لمحاولات إبليس مع أيوب, منها أن الله كلم إبليس, وأنه مكن له في السماء السابعة. يورد القرطبي بعضا منها ثم يعقب برأي ابن العربي، وفيه أن ذلك كلام لا يصح؛ لأن الله أهبط إبليس من الجنة بلعنته، وسخطه، مطرودا من السماء إلى الأرض، ومحال أن يرقى بعد ذلك إلى مقام الأنبياء، وأما قولهم: إن الله كلمه، فمحال أن يكلم الله إبليس أو جنوده، وأما قولهم: إن الله سلطه على أيوب، وماله، وولده، فهو أمر متروك لإبليس وذريته مع الخلق جميعا، ولا حاجة لتوجيه خاص بأيوب، وأما قولهم: إن إبليس قال لزوجة أيوب: أنا إله الأرض فلو تركت ذكر الله، وسجدت لي لعافيت زوجك، فلا يصح؛ لأن هذا كلام لا يقبله مؤمن عادي، فكيف تسمعه زوجة نبي مؤمنة؟! 1.

_ 1 تفسير القرطبي ج15 ص209 بتصرف.

تألم أيوب -عليه السلام- لحال زوجته حينما رأى رأسها، ورق لها، فسأل الله أن يكشف عنه الضر، والأذى؛ رحمة بزوجته. ولما تم الأجل الذي قدره الله تعالى واتجه أيوب إلى ربه، وسأله كشف الضر، وقال ما حكاه الله عنه: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين} 1, {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} 2. والمراد بالنصب: الضر الذي أصابه في بدنه، والمراد بالعذاب: الضر الذي أصابه في ماله وولده3. وقيل: النصب: الشر والبلاء ماديا أو معنويا كالوسوسة والشك، أما العذاب: فهو البلاء والشر المادي فقط4. ونلمح أدبه -عليه السلام- مع ربه وهو يدعوه، إذ نراه ينسب الضر إلى الشيطان، ويسأله أن يرفعه عنه.... واستجاب الله لـ "أيوب" -عليه السلام- وانفرجت الغمة، وذهب البلاء، وقال الله لأيوب: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} 5. أمره سبحانه وتعالى بأن يضرب الأرض برجله، فضربها عليه السلام ضربة فنبعت عين، فأمره الله أن يغتسل منها، فاغتسل فذهب جميع ما كان في بدنه من الأذى، ثم أمره فضرب الأرض في مكان آخر فنبعت منه عين أخرى، وأمره أن يشرب منها، فلما شرب ذهب جميع ما كان في باطنه من السوء، وتكاملت العافية ظاهرا وباطنا6 بعدما اغتسل من عين، وشرب من الأخرى.

_ 1 سورة الأنبياء آية: 83. 2 سورة ص آية: 41. 3 تفسير ابن كثير ج4 ص39. 4 انظر تفسير القرطبي ج15 ص2007. 5 سورة ص آية: 42. 6 تفسير ابن كثير ج4 ص39.

وكافأه الله أيضا على صبره الجميل، بأن أعاد له أهله ومثلهم معه، يقول تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} 1. وللعلماء في إعادة أهله له, أقوال متعددة: الأول: أن الله أحياهم بأعيانهم, وآتاه مثلهم في الدنيا، وينسب هذا القول إلى ابن عباس وابن مسعود ومجاهد رضي الله عنهم. الثاني: أن الله تعالى خيّره بين إحضارهم بذواتهم، أو تركهم في الجنة على أن يؤتى له بأمثالهم، فاختار بقاءهم في الجنة، وإحضار أمثالهم له في الدنيا. الثالث: أوتي أجرهم في الآخرة، وأعطي أمثالهم في الدنيا2. ومع الآراء الثلاثة, فقد أوتي بأمثالهم، وضاعف الله في نعمه ... ومن عجيب قدر الله أن زوجته لما جاءته بعد أن اغتسل، وألبسه الله حلة من الجنة لم تعرفه، فقالت له: يا عبد الله, أين ذهب هذا المبتلى الذي كان ههنا؟ فوالله القدير ما رأيت رجلا أشبه به منك إذ كان صحيحا، فقال لها: فإني أنا هو، وأعاد الله لزوجته شبابها، وأنجبت له عددا من الأولاد. وبالنسبة لقسمه الذي حلف فيه: ليضربنها، فقد علمه الله حيلة يبر بها قسمه، من غير إيذائها، رحمة به وبها، قال الله تعالى له: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} 3. فأخذ بيده حزمة من الحشيش الأخضر اللين، بها مائة عود صغير، وضربها به مرة واحدة خفيفة، وبذلك بر قسمه، ولم يؤذ زوجته.

_ 1 سورة ص آية: 43. 2 تفسير ابن كثير ج3 ص189، 190، وقد رجح الرازي في تفسيره الرأي الأول ج13 ص215. 3 سورة ص آية: 44.

وهكذا انتهت محنة أيوب، بعودة ما كان فيه من خير، وضاعف الله له العطاء، تكريما له. يروي الحاكم أن أيوب -عليه السلام- كان له أندران، أحدهما للقمح، والثاني للشعير، فبعث الله سحابتين، فلما كانت إحداهما على أندر القمح، أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت الأخرى على أندر الشعير الفضة حتى فاض. يروي البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه: "بينما أيوب يغتسل عريانا، خر عليه رجل جراد من ذهب، فجعل يحثي في ثوبه، فناداه ربه: يا أيوب, ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى يا رب، ولكن لا غنى لي عن بركتك" 1. فنزل عليه الذهب في شكل جماعات الجراد، فأخذ يجمعها، ويلتقطها في ثوبه ... فلما سأله الله عن عطائه إياه أقر له عليه السلام بأنه أغناه، لكنه مع ذلك لا يستغني عن الزيادة رحمة من الله وبركة. وهكذا عاش أيوب في النعم الوافرة، وخيرات الله الكثيرة، حتى لقي ربه عن عمر يزيد على تسعين عاما, صلى الله عليه وسلم.

_ 1 صحيح البخاري بشرح فتح الباري ج6 ص420, باب {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} .

النقطة الثانية: ركائز الدعوة في قصة أيوب عليه السلام

النقطة الثانية: ركائز الدعوة في قصة أيوب عليه السلام مدخل ... "النقطة الثانية": ركائز الدعوة في قصة أيوب عليه السلام يمكننا أن نأخذ من قصة أيوب عددا من العبر، تعود إلى القائم بأمر الدعوة، وكأن الله تعالى فصل لنا هذا الجانب ليكون معلما لكل من يقوم بأمر الدعوة، يرى به ما سيقابله من مشاق، وما يحتاج إليه من صفات، وما يجب عليه من حسن معاملة وخلق؛ ليكون على بينة من طبيعة الناس، ومشاق الدعوة، وضرورة التبليغ. وسأحاول إبراز أهم الركائز فيما يلي:

الركيزة الأولى: تكامل شخصيته مبلغ الدعوة

الركيزة الأولى: تكامل شخصيته مبلغ الدعوة ... الركيزة الأولى: تكامل شخصية مبلغ الدعوة مبلغ الدعوة، والقائم بشأنها، لا يحقق مراده من النجاح إلا إذا أخلص في سعيه، وكمل في ذاته. وأول ما يحتاجه الداعية، أن يمتن صلته بالله، ويرضى بقضائه وقدره، في السراء والضراء. وليعلم الدعاة أن: "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأولياء، ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلاه الله على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة" 1. وإن الصبر ليعد الدليل الأوضح على قوة إيمان صاحبه، وصدقه في العبودية لخالقه، فالبلايا للمؤمن امتحان واختبار، يقول تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} 2. وقد رأينا في قصص الأنبياء السابقين كثيرا من ابتلاء الله لهم، وصبرهم على ما قدره الله عليهم؛ ولذلك كان الصبر نصف الإيمان. جاء في الحديث القدسي: "إذا وجهت إلى عبد من عبادي مصيبة في بدنه, أو ماله، أو ولده، ثم استقبل ذلك بصبر جميل، استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزانا، أو أنشر له ديوانا" 3.

_ 1 سنن الترمذي, كتاب الزهد, باب ما جاء في الصبر ج4 ص602، وقال: هذا حديث حسن صحيح. 2 سورة الملك آية: 2. 3 مدرسة الأنبياء ص176.

وقد رأينا أيوب -عليه السلام- ابتلي في نفسه، وماله، وأهله، وولده، فلم يجزع أبدا، وظل على حسن التقوى، وجميل الصبر مدة طويلة، راضيا بقضاء الله فيه. وحاجة الدعاة إلى الصبر ضرورة؛ لأنهم دائما يجابهون أعداء الله في الأرض، وكثيرا ما يتمكن الأعداء منهم، وحينئذ يكون الصبر ملاذهم ومأواهم، وهو الأسلوب الأمثل لإثبات قوة الحق، وإظهار صلابة الإيمان وعزته. ولحكمة أرادها الله تعالى ابتلى الأنبياء جميعا بصور شتى من البلاء؛ ليكونوا الأسوة لدعاة الله من بعدهم.... ومن الصفات التي يجب أن يتحلى بها الداعية، أن يكون رفيقا بمن حوله ومعاشريه، وأولهم أهله وبنوه، فهم المجال الأقرب لدعوته، وإيمانهم دليل على صدق الدعوة.... ولذلك أمر الله تعالى رسوله محمدا -صلى الله عليه وسلم- قائلا: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} 1. وهذا أيوب -عليه السلام- لما أقسم على أن يضرب زوجته مائة سوط، علمه الله أن يبر بقسمه، ولا يؤذي زوجته، ليتعلم كيف يكون رفيقا، رقيقا معها، ولم يأمر الله تعالى أيوب -عليه السلام- بترك الضرب بالكلية، ليعلم أن من حق الزوج أن يؤدب زوجته في حدود الرفق والمودة، والرحمة، ويرى الشافعي أن هذا المخرج جائز في الإسلام في غير الحدود، ويوافقه أبو ثور وأصحاب الرأي2. ومما يساعد الدعاة على القيام بواجب الدعوة أن يكون بيته مثواه الآمن، وراحته، وسكنه؛ ليستعين بذلك على المشاق، والصعاب، التي يواجهها مع الناس. لقد أرشد إبراهيم ولده إسماعيل -عليه السلام- بطلاق زوجته الأولى لما رأى في أسلوبها ولقائها، ضجرا وتألما وشكاية من قدر الله تعالى. إن القائم بأمر الدعوة إذا أدى حق الله، وحق الناس، وحافظ على ذلك تتكامل شخصيته، ويحقق لدعوته الخير والفلاح.

_ 1 سورة طه آية: 132. 2 تفسير القرطبي ج15 ص213, 214 بتصرف.

الركيزة الثانية: الثقة المطلقة في الله

الركيزة الثانية: الثقة المطلقة في الله حينما تشتد الخطوب، ويكثر البلاء، ويجد الداعية نفسه وحيدا، فريدا، عليه أن يركن إلى الله تعالى، ويستجير بمعونته ونصره، فهو سبحانه القادر على كل شيء، وبيده مقاليد السموات والأرض، وإليه يرجع الأمر كله، وهو سبحانه يقلب الليل والنهار، بما يشاء وبما يريد. إن الثقة في الله تملأ القلب قوة، وتشحن النفس بالشجاعة والإقدام، وتجعل العقل يتيقن بما عند الله أكثر من يقينه مما في يد نفس صاحبه. إن الصدق في الإيمان هو الذي يجعل المؤمن يقدم على الموت في سبيل الله ثقة بوعد الله تعالى1. وهو الذي يجعل المؤمن يلازم الطاعة الخالصة، والدنيا من حوله تموج بالفتن، وتدعو إلى الضلال والهوى. إن الدعاة إلى الله أجراء عند الله، أينما كانوا وحيثما حلوا, وكيفما أرادهم سيدهم أن يعملوا عملوا، وليس عليهم بعد ذلك التطلع إلى المصير. وكذلك لم يكن عجيبا عند العقلاء ما نراه من أنبياء الله تعالى، وهم يستمرون في الدعوة إلى الله، بلا أتباع، وبلا أنصار من الناس؛ لأنهم اتبعوا ربهم، وانتصروا به وحده سبحانه وتعالى. وأيوب -عليه السلام- مَثَل أعلى في هذه الثقة، لم يذهب إلى طبيب يعالجه، ولم يلتمس طريقا يشفيه، ولما أراد الله له النجاة والشفاء أخذه إليه، فناداه قائلا: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} ، وحينئذ أمره بالاغتسال في الماء الذي نبع له بعد أن ضرب الأرض بقدمه، وأعاد له ما أخذ منه، من أهل ومال، ومثله معه.

_ 1 لأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صور رائعة في مجال التسابق للشهادة والجهاد والموت في سبيل الله تعالى.

الركيزة الثالثة: الأخذ بالأسباب المشروعة

الركيزة الثالثة: الأخذ بالأسباب المشروعة ليس بعيدا على الله أبدا أن يتم شفاء أيوب بلا عمل منه، لكن الله تعالى أمره أن يضرب الأرض بقدمه؛ لينبع الماء، ويغتسل منه ويشرب، وبذلك يزول ما ببدنه وباطنه من أذى. لقد أمره الله تعالى بذلك ليتعلم هو والآدميون من بعده، أن الله تعالى يجري أقداره على أسباب يقوم بها الناس، حتى لا يتكلوا، فكأنه استعمل الدواء، فأشفاه الله من الداء، وصارت سنة في الناس أن يأخذوا بالأسباب، متوكلين على الله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عباد الله تداووا؛ فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء" 1. ومن الأخذ بالأسباب قول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} 2. إن الله تعالى قادر على أن ينصر رسوله بـ "كن" ولكنه أجرى النصر على الأسباب، فهيأ طائفة من المؤمنين يؤيدون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وينصرونه، وحتى يعلم المسلمون على طول الزمن أن الإسلام يحتاج إلى جهد المسلمين، وصدقهم في الدفاع عنه. وبالنظر في تاريخ الدعوة، نرى جريان القدر الإلهي على الأسباب البشرية غالبا, حتى لا يتكل الناس. فالمجتهد يفوز، والكسول يخبو، والساعي إلى الحق يصل إليه ... ومن الأخذ بالأسباب ومراعاة الواقع ما نراه من أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه, فلقد أنكر عليه ابنه عبد الملك عدم إسراعه في إزالة الانحراف مرة واحدة, قال له: لا تعجل يا بني, فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني

_ 1 سنن الترمذي, باب ما جاء في الدواء ج4 ص383، وقال: هذا حديث حسن صحيح. 2 سورة الأنفال آية: 62.

أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة, فيدفعوه جملة، وتكون من ذا فتنة1, وفي هذا درس للدعاة.

_ 1 الموافقات ج2 ص93, ط. دار المعرفة.

الركيزة الرابعة: أهمية الدعاء

الركيزة الرابعة: أهمية الدعاء شرع الله للناس اتصالا عاجلا به، يلجئون إليه لتحقيق حاجاتهم، وهو الدعاء، والتوجه لله تعالى. إن الدعاء الخالص هو العبادة الحقيقية؛ لأنه دليل تقدير العبد للمعبود، وثقته فيه. والدعاة إلى الله تعالى أحوج الناس إلى هذا السبيل، وعليهم اللجوء إلى الله في السراء والضراء؛ ليديم لهم العطاء، ويتحقق لهم النصر، ويتمكنوا من نشر دين الله بصفائه بين الناس.

ذو الكفل عليه السلام

14- ذو الكفل عليه السلام: وردت قصة ذي الكفل في آيتين من آيات القرآن الكريم في سورتي "الأنبياء" و"ص", يقول الله تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} 1، {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ} 2. يرى بعض العلماء أن ذا الكفل ليس نبيا، ولكنه عبد صالح، تكفل لبني قومه أن يكفيهم أمرهم، ويقضي لهم حاجاتهم، ويحكم بينهم بالعدل وبالحق، ففعل ذلك فسمي بذي الكفل، وقيل: لأنه تكفل بأمر فوفاه، وقيل: لأنه تحمل ضعف غيره في العمل، وثوابه ضعف ثواب غيره أيضا، وينسب هذا الرأي لمجاهد، وقتادة3. ويذهب آخرون وعلى رأسهم الحسن وابن تيمية والرازي, والأكثرون إلى أنه -عليه السلام- نبي من الأنبياء, مستدلين بما يلي: 1- إن الكفل اسم مفيد، ومعناه النصيب، وسماه الله بذلك على سبيل التعظيم, فوجب أن يكون الكفل هو كفل الثواب؛ لأن الله جعل عمله ضعف عمل غيره، وجعل ثواب عمله ضعف ثواب عمل غيره، وكان في زمنه أنبياء، وهذا يرجح كونه نبيا؛ لأنه لا يجوز أن يكون ثواب الرجل الصالح إن قلنا بعدم ثبوت نبوته أفضل من ثواب النبي، مهما كان العمل الذي كلف به.

_ 1 سورة الأنبياء آية: 85. 2 سورة ص آية: 48. 3 تفسير القرطبي ج11 ص328.

2- إن الله قرن اسمه وذكره باسم وذكر إسماعيل وإدريس -عليهم السلام- وهؤلاء أنبياء، فهو نبي مثلهم؛ لأن الغرض من الآية ذكر الفضلاء من عباده ليتأسى بهم الناس. 3- إن السورة ملقبة بسورة الأنبياء, فكل من ذكره الله تعالى فيها، فهو نبي1. يذكر الترمذي أن ذا الكفل من أنبياء بني إسرائيل, وبرغم أن الآيات لم تفصل في حركته بالدعوة، إلا أن الأوصاف التي أوردتها عنه -عليه السلام- تدل على ملامح دعوته، وأهمها: - ذو الكفل: حيث تكفل بما عهد إليه، ووفى بكل ما كلف به، وذلك دليل على قيامه بأمر الدعوة والبلاغ؛ لأنها موضوع رسالته التي كلف بها، والقضية التي بعث لها، وكان عليه السلام يتكفل لكل إنسان بحاجته، فقصده أصحاب الحاجات، وبهذا سهل أمامه الاتصال بهم, ودعوتهم إلى الله تعالى. - من الصابرين: وهذه صفة أساسية في نبوته، فبها يؤدي حق الله وحق الناس، ويتحمل كافة المعارضات والعداوات، التي توجه لشخصه، أو لكونه رسولا، أو لدعوته، من الضالين المكذبين على اختلافهم، وتنوعهم. - من الأخيار: وخيرية الرسول دائما تكون لنفسه وللناس، وهو ينصحهم ويرشدهم، ويحاول إصلاح حياتهم وأخراهم، ويبصرهم بما يجب عليهم لله تعالى. وهذه الملامح مستفادة من الصفات المذكورة، وأما بيان الوقائع الدالة عليها فلم يتكلم عنها المفسرون والمؤرخون، وكل ما فصل فيه البعض لا دليل عليه؛ ولذلك كان الاكتفاء بالإجمال أولى.

_ 1 تفسير الرازي ج11 ص211.

يونس عليه السلام

يونس عليه السلام النقطة الأولى: التعريف بقوم يونس ... 15- يونس عليه السلام: من رسل الله تعالى يونس -عليه السلام- وهو من أبناء يعقوب -عليه السلام- بعثه الله تعالى إلى غير الإسرائيليين، والحديث عنه يحتاج إلى عدة نقاط. "النقطة الأولى": التعريف بقوم "يونس" بعث الله يونس -عليه السلام- إلى الآشوريين، الذين أسسوا لهم حضارة عرفت بهم، ونسبت إليهم، ويقع موطنهم حول نهر "دجلة" وروافده. وأشهر مدنهم: آشور، وأريلا، والكلخ، ونينوى، وتقع هذه المدن في الجهة المقابلة لمدينة "الموصل" الحالية. وقد نشأ الآشوريون في البادية، إلا أنهم تغلبوا على أهل المدينة، وأسسوا دولتهم، وحضارتهم. وكان للآشوريين عاصمتان: آشور، وهي عاصمة فصل الشتاء، ونينوى، وهي عاصمة فصل الصيف. وقامت حضارة الآشوريين على القسوة والحرب؛ ولذلك كانوا يأخذون الجزية من جيرانهم، ويبسطون نفوذهم على كثير من الشعوب. وكانوا يعبدون أصناما لهم سموها بأسماء مدنهم، وجعلوا إلههم الأكبر هو آشور، وبه يسمى ملكهم، وكانوا يتوجهون بالعبادة لآشور "الملك"، ويتقربون إليه بالعطايا، ويسيرون على أوامره ونواهيه1.

_ 1 قصة الحضارة ج2 ص264-277 بتصرف.

وكانت دعوة يونس -عليه السلام- للآشوريين، انطلاقا من عاصمتهم "نينوى" يدل على ذلك ما حدث مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أن ذهب إلى "الطائف" حين التقى بـ "عداس" غلام بني ربيعة النصراني، حيث قدم عداس للنبي -صلى الله عليه وسلم- قطف عنب, فمد النبي -صلى الله عليه وسلم- يده إليه، وقال: "باسم الله" قبل أن يأكل، فقال عداس: إن هذا الكلام لا يقوله أهل هذه البلاد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "من أي البلاد أنت؟ " فقال: أنا من نينوى ... فقال له النبي: "أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ " قال له عداس: وما يدريك ما يونس؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ذلك أخي كان نبيا، وأنا نبي" 1. دعا يونس -عليه السلام- قومه إلى عبادة الله وحده، ونبذ ما هم عليه من خلق سيئ، وظلم، وعدوان على الناس. ومن البدهي أن الله أمده بالمعجزة، ونزل عليه الوحي؛ لتحديد جوانب الدعوة التي أخذ يبلغها للناس. لكن القوم أصروا على ضلالهم وفسادهم، وتمسكوا بعبادة الملوك والأوثان ... فلما طال الزمن وهم على ضلالهم، غضب يونس -عليه السلام- من عنادهم، وأنذرهم بعذاب الله الذي سينزل عليهم لإصرارهم على الكفر والضلال، فلما ظهر العذاب فوق الرءوس فر من بلدهم، واتجه إلى الشرق حيث البحر والسفن؛ ليتمكن من السفر بعيدا عنهم. لكن القوم بعدما تركهم يونس -عليه السلام- خافوا من نزول ما خوفهم منه، وقذف الله في قلوبهم التوبة، والرجوع إلى الله تعالى، فلبسوا مسوح الرهبان، وفرّقوا بين كل بهيمة وولدها، وأخذوا يستغيثون بالله، ويتضرعون إليه ليكشف عنهم غضبه، وينزل عليهم رحمته، فاستجاب الله لهم، ورفع العذاب بعدما اقترب منهم، وأظلهم.

_ 1 السيرة النبوية ج2 ص266 ط. دار التراث.

يصور الله تعالى موقف يونس -عليه السلام- من قومه، وإيمان قومه من بعده، فيقول سبحانه: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} 1، {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} 2، {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} 3. والآيات تشير إلى غضب يونس -عليه السلام- من قومه، وفراره منهم، وأن القوم آمنوا بعد فراره فنفعهم إيمانهم، ورفع الله عنهم عذاب الخزي الذي كاد أن يحل بهم، ومتعهم في الحياة الدنيا، وسوف يمتعون في الآخرة بإذنه تعالى لإيمانهم, وتقواهم. يقول ابن كثير: "وقد اختلف المفسرون في انتفاعهم بهذا الإيمان، في الدار الآخرة ... على قولين ... والأظهر من السياق انتفاعهم به؛ لإطلاق مسمى الإيمان عليهم، والإيمان ينقذ من عذاب الآخرة"4, والله أعلم. وأخذ يونس -عليه السلام- دورته التي قدرها الله له، وعاد داعيا، وأرسله الله مرة أخرى، يقول تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} . لكن هل هؤلاء المؤمنون هم قومه الذين فر منهم قبل ذلك، أم إنهم قوم آخرون؟؟! يفترق العلماء في هذه المسألة إلى فريقين، وأميل إلى رأي من قال: إنهم ليسوا قومه السابقين لأسباب: 1- أن قومه السابقين آمنوا بعدما تركهم وفر منهم، أما هؤلاء فقد آمنوا

_ 1 سورة الصافات الآيات: 139, 140. 2 سورة الأنبياء آية: 87. 3 سورة يونس آية: 98. 4 تفسير ابن كثير ج2 ص433.

بعدما دعاهم لقوله تعالى: {فَآمَنُوا} . 2- أن أقوامه السابقين كانوا جمعا غفيرا، أما هؤلاء فكانوا عددا قليلا في حدود مائة ألف أو يزيدون. ولا مانع من أن يكون عليه السلام أرسل لقومه المؤمنين، وأرسل إلى هؤلاء أيضا فآمنوا، فتمتع الجميع بنعيم الله في الدنيا حتى ماتوا، وسوف يتمتعون بنعيم في الآخرة بإذنه تعالى، والله هو الرحمن الرحيم.

النقطة الثانية: التعريف بـ "يونس" عليه السلام

"النقطة الثانية": التعريف بـ "يونس" عليه السلام هو يونس بن متى، من أنبياء بني إسرائيل، أرسله الله للآشوريين، وكان ملكهم قد غزا بني إسرائيل، وسبى الكثير منهم، فبعثه الله إليهم؛ ليدعوهم إلى دين الله تعالى، ويرسل معه بني إسرائيل ليعودوا إلى ديارهم. دعا يونس -عليه السلام- أهل نينوى، لكنهم أصروا على كفرهم، وعبادتهم للأوثان، والأشخاص، فتركهم عليه السلام وذهب مغاضبا. يفسر العلماء ذهابه مغاضبا بما يليق بمقام النبوة بعدة أوجه: الأول: أن المعنى ذهب مغاضبا من أجل ربه، والمؤمن يغضب لله إذا عصي أمره، وتركت طاعته. الثاني: أنه غضب على قومه من أجل كفرهم، واشتد عليهم وفر منهم، ولم يصبر على أذاهم. الثالث: أنه ترك الناس وذهب مغاضبا للملك الذي يتولى أمور الناس؛ لأنه لم يكن معه في دعوته لهم1, ووقف منه موقفا سلبيا.

_ 1 كان الوحي ينزل على أنبياء بني إسرائيل، ويتولى الحكم والسياسة الملوك.

وأحسنها الرأي الأول.... وتدل هذه المغاضبة أيا كان المراد بها، على ضيق صدر "يونس", وأنه لما تحمل أمر النبوة قام به بمشقة وعسر؛ ولذلك لم يصبر على قومه، وكان يتوعدهم بالعذاب يحل بهم، فلما أظلّهم العذاب تركهم، ولكنهم تابوا فرفع الله العذاب عنهم، وعاتب الله يونس لأنه تعجل بتركهم1. وكان عليه ألا يتركهم إلا بإذن من الله تعالى، وألا يغضب أبدا.... يبين القرآن الكريم هذه الصفات في يونس -عليه السلام- فيقول تعالى: {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} 2. حيث يأمر الله محمدا -صلى الله عليه وسلم- ألا يكون كأخيه يونس في الغضب، والضجر, والعجلة، مع قومه، ويوم أن دعا ربه وهو في بطن الحوت كان مكظوما ... يقول ابن عباس ومجاهد: أي: مملوءا غما ... ويقول عطاء وأبو مالك: أي: مملوءا كربا ... يقول الماوردي: والفرق بينهما أن الغم في القلب "العقل"، والكرب في النفس "العواطف"، ولا مانع من إرادة المعنيين معا. خرج يونس من عند قومه، وذهب إلى البحر ليفر منهم بواسطة سفينة تقله بعيدا عنهم، فوجد سفينة مملوءة، فركبها، وسارت السفينة، وولجت بركابها في البحر، فلما جاءها الموج، ثقلت بمن فيها، وتوقفت في عرض البحر، فتشاور الركاب، واتفقوا على أن يقترعوا فيما بينهم، فمن أصابته القرعة، ألقوه في البحر؛ ليتخففوا منه، فلما اقترعوا وقع السهم على نبي الله يونس، فلم ينفذوها عليه، لصلاحه وخلقه، وأعادوا القرعة مرة ثانية وثالثة, وفي كل مرة تأتي عليه، فألقوه في الماء، حيث لا مناص من ذلك. ويجري القدر لتحقيق مراد الله تعالى، ويأتي حوت عظيم يلقمه، فيأمره الله تعالى بعدم أكل لحمه، أو تكسير عظمه، ويبتلعه الحوت، ويستقر "يونس" في بطنه حيا، فأخذ يسبح ربه، ويعبده، واتخذ من بطن الحوت مسجدا, واستغرق في الذكر

_ 1 سورة القلم آية: 48. 2 تفسير القرطبي ج11 ص329.

والتسبيح، والدعاء، ونادى ربه أن ينقذه من هذه الظلمات، وتاب عما كان منه ... بعدما رأى أنه تضايق في سعة الدنيا, فضيق الله عليه في بطن الحوت، يصور الله ذلك فيقول سبحانه: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} 1. والآية تتحدث عن كونه ترك قومه غاضبا، وظن أن لن نقدر عليه، بمعنى: ألا نضيق عليه كقوله تعالى: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} 2 أو بمعنى الحكم والقضاء أي: لا نقضي عليه بالعقوبة3، وسكن في بطن الحوت، وعاش ظلمة الليل وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت، وتاب عليه السلام عما خالف فيه من ترك دعوة قومه وعدم الصبر عليهم، وضجره من كفرهم، وسأل الله أن يفرج عنه ما هو فيه. لما محصه الله تعالى، وأدبه، وعلم صلاته، وتسبيحه أمر الحوت أن يقذفه على الساحل، فقذفه ضعيفا, نحيلا، يقول الله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} 4، ونجاه الله تعالى إلا أنه كان عاريا يحتاج لستر، وظل، وطعام، وشراب، وأتم الله تعالى فضله عليه، يقول تعالى: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ، وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} 5. والآية تشير إلى أنه ألقي في العراء وهو ضعيف, نحيل، وقد رضي الله عنه وأكرمه بنعمه، يقول تعالى: {لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} 6, فبنعمة الله التي أحاطته نبذ بالعراء وهو غير مذموم.... وقد

_ 1 سورة الأنبياء آية: 87. 2 هذا رأي سعيد بن جبير، وعطاء، والحسن، وكثير من العلماء "الطبري ج11 ص331". 3 هذا رأي قتادة، ومجاهد، والفراء "الطبري ج11 ص332". 4 سورة الأنبياء آية: 88. 5 سورة الصافات الآيات: 145, 146. 6 سورة القلم آية: 49.

أنبت الله عليه شجرة من يقطين، واليقطين كل شجر ممتد على الأرض لا ساق له، وورقه كبير، ولذلك قال بعض المفسرين: أنبت الله عليه شجرة من القرع لكثرة ظلها، وصلاحية أكل ثمرها من أول طلوعه إلى آخره، ونفعه للطعام، والدواء، وعدم اقتراب الذباب منه، وهيأ الله لـ "يونس" دابة جبلية تسقيه من لبنها. وصار على هذا الحال حتى أصبح سليما، معافى، قويا. وأتم الله عليه نعمته, فكلفه بالرسالة مرة أخرى، وأرسله لقوم صدقوا به وأطاعوه، يقول تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} 1، ولا مانع أن يكونوا قومه السابقين، وحينئذ تكون دعوتهم من قبيل التذكير. ومن الممكن أن يكونوا قوما آخرين مع قومه وهو الأولى، والله أعلم ... ما نزل بـ "يونس" -عليه السلام- تمحيص وتأديب؛ ولذلك كانت رحمة الله معه، وجرت أقدار الله لتحقيق مراده سبحانه وتعالى، في إعادته لدعوة الناس، بعدما عاش هذه المدة سجينا في بطن الحوت. ولا ينبغي لأحد من الناس أن يتصور نقصا بـ "يونس" -عليه السلام- فهو رسول الله -عليه السلام- يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه عنه ابن عباس -رضي الله عنه- يقول: "ما ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن متى" 2. ويقول الحافظ ابن حجر: "خص يونس بالذكر لما يخشى على من سمع قصته أن يقع في نفسه تنقيص له, فبالغ في ذكر فضله لسد هذه الذريعة"3.

_ 1 سورة الصافات الآيات: 147, 148. 2 صحيح البخاري, باب {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} ج6 ص450. 3 فتح الباري ج6 ص452.

النقطة الثالثة: ركائز الدعوة في قصة يونس

النقطة الثالثة: ركائز الدعوة في قصة يونس الركيزة الأولى: ضرورة الصبر والتحمل ... "النقطة الثالثة": ركائز الدعوة في قصة يونس تقدم قصة يونس -عليه السلام- عبرا كثيرة في مجال الدعوة إلى الله تعالى، أجمل منها الركائز التالية: الركيزة الأولى: ضرورة الصبر والتحمل الإنسان مكون من جسد، وعقل، وعاطفة، ويرتبط بأي أمر يعايشه، سواء كان أمرا ماديا أو معنويا، فالإنسان يحب المكان الذي تربى فيه، ويحنّ إليه، ويتمنى رؤية أصدقاء الشباب والصبا، وإذا عشق فكرة، تفانى في خدمتها وتنميتها؛ ولذلك كان تغيير الإنسان أمرا شاقا؛ لأن التغيير يبعده عن أمور التصق بها. فإذا ما كان التغيير إلى دين جديد، كان أشق وأصعب؛ لأنه يغير العواطف، ويربطها بكل ما أحله الدين، ويبعدها عن كل ما نهى الله عنه، ويغير العقول، وينقلها من مجال الوهم, والضلال، وخرافة القيم المادية، إلى هدى الله، وإنسانية الدين، وقيم الخلق والحق، ويغير أعمال الجسد بالتكاليف العملية، التي توجه الجسد في كل حركاته وسكونه ... إنه تغيير يشمل الإنسان كله؛ ولذلك فهو يحتاج إلى محاولات عديدة، ومدة مديدة، وطاقة شديدة. إن القائم بدعوة الناس إلى الله، وهو يباشر عملية التغيير، عليه أن يكون صبورا على الناس، يتحمل صدهم، ويناقش آراءهم، ويقدم لهم دعوته بكل وسيلة ممكنة، وبمختلف الأساليب لإقناع الناس، وإدخالهم في دين الله تعالى. إن إبليس وجنوده يَحُولون بين الدعاة وبين الناس؛ ليبقى الناس في ضلالهم وكفرهم، وينصرف الدعاة عن تحقيق غاياتهم. وعلى الدعاة أن يوجِّهوا ردا كلما وجدوا صدا؛ لأنهم لو ضجروا وتألموا لحققوا لإبليس غايته، وما يعمل له.

وقد رأينا نوحا -عليه السلام- يستمر في دعوته ألف سنة إلا خمسين عاما، ولم يفر من ملاقاة الناس إلا بعدما أمره الله تعالى. وإبراهيم -عليه السلام- هاجر بأمر ربه بعد أن نجاه الله من النار، وفي قصة يونس درس في هذا المجال، فلقد ترك يونس القوم مغاضبا وفر إلى الفلك، فأدبه الله تعالى حتى أقر بالخطأ، وتاب إلى الله، فلما تاب أعاده الله سبحانه إلى ما كان عليه.

الركيزة الثانية: الإخلاص في العبودية

الركيزة الثانية: الإخلاص في العبودية يحتاج القائمون بأمر الدعوة إلى قوة تعينهم على مهام الدعوة ومشاقها، وتساعدهم في الوصول إلى القلوب والعقول، وليس هناك إلا الله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه العليم بالقلوب والخفايا، والقادر على تسخير الوجود كما يشاء، والهدى هداه، يوفق من يشاء للطاعة، ويحرم من يشاء من التقى والرشاد. ولذلك كانت حاجة الدعاة ماسة في نوال عون الله وتوفيقه، ولا يتم لهم ذلك إلا بإخلاص العبودية، والالتزام بحق المعبود في كافة الأحوال، والأقوال, والأعمال ... وبذلك يتمكن من القيام بواجب الدعوة، أما إذا أهمل الله في حياته، وعاش بعيدا عن الطاعة لله، فإنه يضر دعوته، وفاقد الشيء لا يعطيه، والظل يعوج باعوجاج أصله. إن الداعية يعمل لتحويل وجهة العباد إلى الله تعالى، ولا بد أن يكون في مقدمة المتوجهين، وبذلك يكون داعية بقوله، وعمله، وخلقه. وقد ذكر الله -سبحانه وتعالى- سبب قبول توبة يونس -عليه السلام- يبين الله ذلك، فيقول سبحانه وتعالى: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} 1.

_ 1 سورة الأنبياء الآيات: 87, 88.

وفي هذه الآية شرط الله لمن دعاه أن يجيبه، كما أجاب يونس، وينجيه كما نجاه، وهو قوله: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} 1. يروي أبو داود في سننه عن سعد بن أبي وقاص عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "دعاء ذي النون في بطن الحوت: "لا إله إلا أنت, سبحانك إني كنت من الظالمين" لم يدعُ به رجل مسلم في شيء قط إلا استُجيب له" 2. يقول الدكتور عبد الحليم محمود: "لقد كان يونس -عليه السلام- مسبحا، أي: منزها لله تعالى، نادى ربه بدعوة في غاية الحق، إنها: أولا: توحيد: "لا إله إلا أنت". وثانيا: تنزيه: "سبحانك". وثالثا: اعتراف بالتقصير: "إني كنت من الظالمين" 3. ولعل أقوى ما يربط العابد بربه مداومة الذكر، في تضرع وخشوع؛ لأنه بذلك يلتزم باب ربه، كسائل يلازم الباب لحاجته، فلا يلبث الباب إلا أن ينفتح، وينال مراده.... يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم, وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ " قالوا: بلى يا رسول الله! قال صلى الله عليه وسلم: "ذكر الله تعالى". فقال معاذ بن جبل: ما شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله4. ويقول صلى الله عليه وسلم: "ما من قوم يذكرون الله إلا حفّت بهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده" 5.

_ 1 سورة الأنبياء آية: 88. 2 سنن أبي داود. 3 في رحاب الأنبياء والرسل ص126. 4 سنن الترمذي ج5 ص459. 5 سنن الترمذي ج5 ص460.

موسى عليه السلام

موسى عليه السلام النقطة الأولى: التعريف بقوم موسى ... 16- موسى عليه السلام: موسى1 -عليه السلام- من أنبياء بني إسرائيل، أرسله الله تعالى لقومه وللمصريين، وهو من أولي العزم الذين خصهم الله بالعزم القوي، والصبر الجميل، والتحمل الشديد؛ ولذلك ففي قصته عبر وفوائد، وبخاصة أن أتباعه من بني إسرائيل ما زالوا يدعون تبعيتهم له، واليهود منهم يتصورونه خاصا بهم، والنصارى يتصورون عيسى -عليه السلام- جاء على دين موسى -عليه السلام- إلا أن الله رفع شأنه فاتخذه ابنا له، وصيره إلها معه. إن العالم المعاصر يموج بالتيارات العديدة، والمتعارضة من اليهود ومن غيرهم؛ ولذلك كان من الأفضل الإحاطة بقصة موسى -عليه السلام- ودينه وأتباعه المعاصرين، وما هم عليه من عنصرية وأباطيل، ومما يحتاج لبيان توضيح الصلة بين أتباع موسى، واليهود الحاليين ليكون الحديث صادقا عن هؤلاء، وهؤلاء. وأسأل الله تعالى أن يوفقني في هذه الدراسة عن موسى -عليه السلام- والتي أراها تحتاج إلى بحث النقاط التالية: "النقطة الأولى": التعريف بقوم موسى جاء يوسف -عليه السلام- ببني إسرائيل جميعا مع أبيهم إلى مصر، من البادية,

_ 1 موسى اسم معرب من العبرية، أصله في العبرية: موشا، ومو معناها ماء، وشا معناها الشجر، والاسم يشير إلى الماء والشجر اللذين كانا حول قصر فرعون في مدينة "عين شمس", والذي التقط منه تابوت موسى "بصائر ذوي التمييز ج6 ص61".

وأسكنهم في حاضرة مصر، وغيرها من المدن المصرية، وعاشوا معه منعمين متمتعين بسلطان يوسف وعزته، وكان الرعاة "الهكسوس" هم ملوك مصر يوم مجيء آل يعقوب، فتعاون الإسرائيليون مع الرعاة، ولم يختلطوا بالمصريين، وعاشوا في عزلة بعيدا عن المصريين. وقد تمكن المصريون من طرد الهكسوس مع بداية حكم الأسرة الثامنة عشرة، فتغير حال الإسرائيليين، وانقلب وضعهم في المجتمع، وأخذ الفراعنة يتعاملون معهم كدخلاء، متعاونين مع الأعداء. وكان من نتيجة ذلك أن فراعنة الأسرة الثامنة عشرة أخذوا في تكليفهم بالأعمال الشاقة، وصنفوهم في الشغل, فصنف يبني، وصنف يحرث، وصنف يزرع ... ومن لم يكن له عمل فعليه الجزية، وهكذا ساموا الإسرائيليين {سُوءُ الْعَذَابِ} . وقد أصدر فرعون ذلك الزمان قرارا بقتل أي ذكر يولد للإسرائيليين، وترك الإناث يعيشون. وسبب هذا القرار أن الكهنة والمنجمين أخبروا فرعون بأن مولودا من بني إسرائيل قد أظلنا زمانه الذي يولد فيه، يسلبك الملك، ويبدل الدين، ويخرجك من مصر1. وقيل: إن السبب هو أن الإسرائيليين كانوا يتدارسون فيما بينهم ما نقلوه عن إبراهيم -عليه السلام- من أن الله سيخرج من ذريته غلاما، يكون هلاك ملك مصر على يديه، وذلك بعد أن أذاه ملك مصر في زوجته سارة2. وقيل: إن السبب رؤيا رآها الملك من أن نارا أقبلت من نحو بيت المقدس, فأحرقت دور مصر جميعا وسكانها، ولم تضر بني إسرائيل، فأوَّلَها المعبرون بغلام إسرائيلي يولد، يدمر ملك فرعون مصر3.

_ 1 تاريخ الطبري ج1 ص387. 2 البداية والنهاية ج1 ص237. 3 الكامل ج1 ص170.

أخذ فرعون الحيطة بقراره، وأمر بتنفيذه بكل دقة ... وحدث أن قيل لفرعون: أفنيت النسل، وإنهم خولك وعمالك، فأمر أن يقتل الغلمان عاما ويستحيوا عاما، فولد هارون في السنة التي يستحيا فيها الغلمان1. يصور القرآن الكريم فرعون هذا الزمان وعمله، فيقول تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} 2. وهكذا انقسم المجتمع المصري إلى قسمين رئيسيين هما: القسم الإسرائيلي: وهم أبناء يعقوب بعد أن كثر عددهم، وقد رأينا ما حل بهم بعد انتهاء حكم الرعاة، وبعدما أخذ فرعون يتعامل معهم على أساس أنهم أعداء الدولة والنظام، واتخذ من القرارات ما يكفل عدم تمكنهم من ملك مصر. القسم الثاني: الأقباط, وهم سكان مصر الأصليون، وعليهم يقوم نظام الملك، وقد خضعوا لجبروت فرعون الذي ادعى الألوهية، واتخذه المصريون ربهم الأعلى. إن فرعون تكبر وعلا، وقسم الشعب إلى طوائف, وفرق بين الناس ليعلو عليهم جميعا، إنه كان من المفسدين. وكان الإسرائيليون على دين يوسف -عليه السلام- إلا أنهم غيّروا فيه, وبدّلوا، وأدخلوا فيه بعضا من ضلالات المصريين؛ ولذلك تشوه التوحيد لديهم، وأصبح خليطا من الشرك والتجسيد، ولم يبق معهم من دين آبائهم إلا مسماه فقط.

_ 1 تاريخ الطبري ج1 ص388. 2 سورة القصص آية: 4.

أما المصريون فكانوا يعبدون الأصنام، والأوثان، والحيوان، ويتخذون فرعون إلها أكبر؛ ولذلك كانوا جميعا محتاجين إلى رسول يدعوهم إلى دين الله الحق، وقد جاءهم موسى -عليه السلام- بهذا الدين ومعه أخوه هارون عليه السلام.

النقطة الثانية: التعريف بموسى عليه السلام

النقطة الثانية: التعريف بموسى عليه السلام مدخل ... "النقطة الثانية": التعريف بموسى عليه السلام حياة موسى -عليه السلام- متشعبة الجوانب، غريبة الأطوار، وقد أحاطه الله برحمته وقدرته؛ ليكون رسوله إلى المصريين وبني إسرائيل، وقال له سبحانه وتعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} 1، والتعريف به -عليه السلام- يحتاج إلى مدارسة حياته في عدد من الجوانب؛ لنرى في كل جانب عجيبة من عجائب قدرة الله تعالى في عنايته بموسى -عليه السلام- وذلك فيما يلي:

_ 1 سورة طه آية: 41.

أولا: ولادة موسى

أولا: ولادة موسى حينما أصدر فرعون قراره بقتل ما يولد للإسرائيليين من الذكور، ووضع كل المحاذير حتى لا يفلت منهم أحد، وُلد موسى -عليه السلام- والله غالب على أمره، فقدر سبحانه وتعالى أن يولد هذا المولود, ويربى في دار فرعون نفسه، وينشأ على فراشه، ويغذى بطعامه وشرابه، ثم يكون هلاكه في الدنيا والآخرة على يديه.... فالله فَعَّال لما يريد، وهو القوي العظيم. وحتى يتحقق قدر الله تعالى نرى الحوادث تسير بعَجَب مدهش، وبطريقة ناطقة بقدرة الله تعالى وحكمته، ذلك أن أم موسى حملت به، فأنكرت حملها على الناس، ولم يكتشفها أحد من زبانية الطاغوت، فلما وضعته ألهمها الله تعالى أن تتخذ تابوتا وتضعه فيه، فكانت ترضعه، وتضعه في التابوت مخافة أن يكتشفه أحد، وألهمها الله تعالى أن تضع التابوت في البحر أمام بيتها1, وتربط التابوت بحبل تمسك

_ 1 كان بيت أم موسى على شاطئ البحر.

بطرفه؛ لتتمكن من إرضاعه، وفي نفس الوقت تحميه من عسس فرعون وعيونه, وشاء الله أن ينقطع الحبل، وتتقاذف الأمواج التابوت، وتتحرك به بعيدا، وتأخذه إلى جوار قصر فرعون. ويعجب العقل أن تكون النجاة فيما هو مظنة الهلاك، ولكنه الله الذي قال لأمه: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} فألقته في اليم، وتحرك به الماء بعيدا عن عيونها وبيتها، فكاد قلبها أن ينخلع منها فرقا عليه، وتعلقا به. يذكر المفسرون أن الجواري التقطْنَ التابوت من البحر، وأخذنه مغلقا لسيدتهن "آسية بنت مزاحم"، فلما فتحته آسية رأت وليدا يتلألأ وجهه بالنور, والحسن، فأحبته، ورضيته لنفسها ولدا، فلما جاء فرعون هَمَّ بذبحه، فطلبت آسية منه أن يتركه، ويهبه لها، فرضي برجائها ليكون لها فقط، فليس له به حاجة. ووصل الولد إلى بيت فرعون، وأصبح مكفولا برعاية الملك، وزوجته.... يصور الله هذا الجانب من القصة، فيقول سبحانه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ، وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} 1.

_ 1 سورة القصص الآيات: 7-9.

والوحي إلى أم موسى إلهام في القلب، يضعه الله فيه، فيقتنع به صاحبه ويطبقه1. وقد ألهم الله أم موسى بأمرين: 1- أن ترضعه عقب ولادته وتشبعه، ولا تفعل كما تفعل الإسرائيليات إذا ولدن ذكرا؛ لأنهن كن يقتلن أولادهن بأيديهن، أو يسلمنه إلى جنود فرعون ليذبحوه. 2- إذا خافت عليه من جنود فرعون, فعليها أن تلقيه في البحر بعد أن تضعه في تابوت، وألهمها الله -سبحاته وتعالى- بأنه لن يصاب بأذى، وأن الله سيعيده إليها، وسيجعل الله له شأنا ومقاما، وسيكون رسول الله إلى الناس، وعليها ألا تخاف عليه من أي أذى، كالضياع والموت، ولا تحزن لبعده عنها، أو مخافة القتل. وتشير الآيات إلى التقاط آل فرعون لموسى من البحر، وتربيته في بيتهم، آملين أن يكون قرة عين لهم، وهم لا يشعرون أنه سيكون لهم عدوا وحزنا، وكأن القدر يقول لهم: "يا أيها الملك الجبار، المغرور بكثرة جنوده، وسلطة بأسه، واتساع سلطانه، قد حكم العظيم سبحانه وتعالى، الذي لا يغالب، ولا يمانع، ولا تخالف أقداره، أن هذا المولود الذي تحترز منه، وقد قتلت بسببه من النفوس ما لا يعد ولا يحصى، لا يكون مرباه إلا في دارك، وعلى فراشك، ولا يغذى إلا بطعامك، وشرابك في منزلك، وأنت الذي تتبناه، وتربيه، وتتفداه، ولا تتطلع على سر معناه ... ثم يكون هلاكك على يديه؛ لمخالفتك ما جاء به من الحق المبين, وتكذيبك ما أوحي إليه, لتعلم أنت وسائر الحق، أن رب السموات والأرض

_ 1 يرى الجمهور أن الوحي لأم موسى كان إلهاما على نمط: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} , وذهب جماعة إلى أنه كان مناما، وذهب آخرون إلى أن مَلَكًا تمثل لها وكلمها به، وقال مقاتل: أتاها جبريل بذلك, فهو وحي إعلام لا إلهام، والكل يراها غير نبية "تفسير القرطبي ج13 ص250".

هو الفعال لما يريد, وأنه هو القوي الشديد، ذو البأس العظيم، ومالك الحول والقوة، وصاحب المشيئة التي لا مرد لها"1. وقد كاد الله لفرعون وهامان وجنودهما بهذا التدبير؛ لما كانوا عليه من الخطأ, والظلم، والعدوان. ولكن، هل يتحمل الجنود الآثام التي قاموا بها، بأمر من رؤسائهم؟ الآية تشركهم في الخطأ، وتجعلهم معاقبين به؛ لأنهم أداته المنفذة، ولولاهم ما تحقق له شيء.

_ 1 البداية والنهاية ج1 ص238.

ثانيا: رضاعة موسى

ثانيا: رضاعة موسى وافق فرعون على المحافظة على الرضيع، ووهبه لزوجته "آسية بنت مزاحم"، فبدأت في البحث عن ظئر ترضعه بنفقة، لكنه لم يقبل ثديا، ولم يأخذ طعاما، فحاروا في أمره، واجتهدوا على تغذيته بكل ممكن فلم يفعل، فأرسلوه إلى السوق لعرضه على النساء عساه أن يرضع من إحداهن. وكانت أم موسى كلفت أخته "كلثوم" بتتبع أثره، ومعرفة أخباره من بعد، حتى لا يكشف أمره أحد، فلما رأته في السوق, وشاهدت إعراضه عن النساء قالت لهم: هل أدلكم على أهل بيت يهتمون به ويكفلونه، وهم له ناصحون.... فلما وصفتهم {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} سألوها: وما يدريك بذلك؟ لعلك تعرفين أهله؟ فقالت: لا، ولكني أردت، وهم للملك ناصحون، ودلتهم على أم موسى، فكلفوها بإحضارها، فأحضرتها لهم، والصبي يبكي في يد فرعون من الجوع، فدفعه إليها فقبل الصبي ثديها، ورضع منها ... فسألوا الأم: لِمَ ارتضع منك، ولم يرتضع من غيرك؟ قالت: إني امرأة طيبة الريح، طيبة اللبن، لا أكاد أُوتى بصبي إلا ارتضع مني، طلب فرعون من أم موسى البقاء في القصر لإرضاعه، فرفضت لحاجة زوجها وأولادها، فأعطوها الصبي بأجر تأخذه، وهكذا عاد موسى إلى أمه، واستقر أمرها

وسعدت بولدها، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ، فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} 1. واطمأنت أم موسى على وليدها بعد أن أصابها الهلع يوم أن ألقته في البحر، حيث فرغ قلبها من كل شيء إلا من تذكر وليدها هذا، وقدر الله للصبي أن يعود لأمه، ترضعه في بيتها، وتأخذ أجرتها من مال فرعون، وتتمتع بحماية جنده، وسلطانه. وخاب حذر فرعون، وقام بتربية الغلام الذي يخاف مجيئه، ويعمل على قتله يوم مولده. نعم.... إنه الله رب العالمين.

_ 1 سورة القصص الآيات: 10-13.

ثالثا: تربية موسى

ثالثا: تربية موسى أتم موسى مدة الرضاع عند أمه، وبعدها انتقل إلى بيت فرعون؛ لتشرف آسية على تربيته، وترعى شئونه، وصار معروفا بين المصريين أنه ابن فرعون، وكانوا يسمونه موسى بن فرعون، ويعرفون أن الإسرائيليين أخواله من الرضاع. وحدث وهو صغير أن كانت آسية تداعبه وتلاعبه، فناولته فرعون، فلما حمله أخذ الغلام بلحيته فنتفها، فهمّ بقتله لتصوره أنه هو هو، قالت آسية: إنما هو صبي لا يعقل، ووضعت أمامه ياقوتة حمراء، وجمرة نار، وقدمتهما لموسى الصغير، فمد يده وأخذ الجمرة، فحدثت عقدة لسانه، فدرأت عن موسى القتل بذلك1.

_ 1 الكامل في التاريخ ج1 ص173.

وكبر موسى -عليه السلام- وصار له شأن في مصر، وكان يأكل مما يأكل فرعون ويلبس من ملبسه، ويركب مركبه، إلا أنه كان يحب العدل، وينفر من الظلم؛ ولذلك عز به بنو إسرائيل وأحبوه، وامتنع القبط عن إذلالهم، وتسخيرهم. وفي يوم ذهب موسى إلى أطراف مدينة "منف" ووصلها بعد نصف النهار، وقد أغلقت الأسواق أبوابها، ورجع الناس إلى بيوتهم، فوجد رجلين يقتتلان؛ أحدهما من شيعته، والآخر من عدوه، والمراد من شيعته أتباعه وأصحاب مذهبه؛ لأن الإسرائيليين كانوا على شيء من دين يوسف -عليه السلام- وأما عدوه فهو العابد للأصنام؛ لأن الجميع كانوا يتصورون موسى ابنا لفرعون، ويفسرون تعاطفه مع الإسرائيليين بسبب رضاعته منهم. اقتتل هذان الرجلان فاستغاث الإسرائيلي بموسى، ورأى موسى أن القبطي معتدٍ، سبَّاب، شتم الإسرائيليين جميعا, فجاء إليه وضربه بقبضة يده, فقضى عليه ومات. يقول قتادة: أراد القبطي أن يسخر الإسرائيلي ليحمل حطبا فأبى، فشتمه, فاستغاث الإسرائيلي بموسى -عليه السلام- ومن المعلوم أن إغاثة المظلوم دين في الملل كلها1. ولم يكن موسى يريد قتله، ولذلك ندم على فعله، وتاب لربه، وطلب من الله المغفرة، ووضح أن هذا من عمل الشيطان، وإغوائه ... يقول الله تعالى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ، قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 2.

_ 1 تفسير القرطبي ج13 ص260. 2 سورة القصص الآيات: 15, 16.

وبهذا يعرف أن موسى -عليه السلام- ضرب القبطي بقبضة يده، ووكزه بها، فمات بسببها، فلما قضى عليه، استغفر موسى ربه، وتاب إليه، فقبل الله توبته, إنه هو الغفور الرحيم. يتحدث المفسرون، والمؤرخون عن عمر موسى في هذا الوقت، ويوردون آراء كثيرة، تبعا لاختلافهم في المراد بالحكم، والعلم، الذي آتاه الله لموسى -عليه السلام- وذكره في قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} 1، فمن يراه النبوة والفقه، يذهب على أن موسى قد بلغ مبلغ النبوة، وهو أربعون سنة، ومن يراه الفهم والإدراك، يذهب إلى أنه كان صغيرا لا يتجاوز ثلاثين عاما، ومنهم كعب الذي يذكر أن عمر موسى في هذا الوقت كان اثنتي عشرة سنة2. وأرى -والله أعلم- أنه كان صغيرا؛ لأنه عاش عند مدين عشر سنوات على الأقل، وتزوج وعاد إلى مصر مرة أخرى، فأتاه الوحي حين عودته بسيناء في الوادي المقدس، وكلف بالرسالة عندها، وهذا يرجح أنه لم يتجاوز ثلاثين عاما وقت مقتل القبطي. وعند صباح اليوم التالي أصبح موسى خائفا، يسير بين الناس، ويترقب الأخبار والحوادث، وبينما هو كذلك إذا بالرجل الذي استنصره بالأمس يستغيث به مرة ثانية؛ لينصره على قبطي آخر يقاتله، فرد عليه موسى غاضبا: إنك سيئ التفكير، لا تقدر الأمور كما ينبغي، تشاد من لا تطيقه، وتجلب شر من لا تقدر عليه, وهذا ظاهر في مخاصماتك، ومشاجراتك ... سمع الإسرائيلي هذا اللوم العنيف من موسى، فاهتم في قتل القبطي، وخاف القبطي من وجود موسى فحذره من

_ 1 سورة القصص آية: 14. 2 تفسير القرطبي ج13 ص261.

مساعدة الإسرائيلي؛ حتى لا يقتله كما قتل نفسا أخرى بالأمس. يصور القرآن الكريم هذا بقوله تعالى: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ، فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} 1. والآيات توضح أن الإسرائيلي استغاث بموسى، وأن موسى عنّفه، ويجب أن نعلم أن الذي أراد البطش بالقبطي هو الإسرائيلي وليس موسى، وإنما وجه القبطي كلامه لموسى مخافة أن يساعد الذي هو من شيعته؛ لأن حادثة الأمس صارت حديث المدينة، وأن الملأ علموا أن موسى هو القاتل، وأنهم يجدّون في البحث عنه في كل أرجاء المدينة للقبض عليه وقتله. أما القول بأن موسى أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما، أو بالذي هو من غير شيعته فبعيد، يقول الشيخ العدوي: "ومن البعيد جدا أن موسى يخطئ مرة في تشيعه للذي من شيعته، ويكون من وراء ذلك قتل رجل بدون ذنب، ثم يعاود الخطأ مرة ثانية، بعد يوم واحد من توبته"2!! وكذلك من البعيد أن موسى يقابل الرجل الذي يستنصره في المرة الثانية ويعنفه بقوله: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} ثم يساعده مرة أخرى. والحق أن مرجع الضمير في {أَرَادَ} للإسرائيلي، والضمير في {قَالَ} للقبطي. وأنقذ الله موسى من فرعون وملئه، بعدما جدّوا في البحث عنه لقتله

_ 1 سورة القصص الآيات: 18, 19. 2 دعوة الرسل ص269.

يقول تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ، فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 1. وهذا الرجل هو مؤمن آل فرعون، وهو ابن عم فرعون, لما علم بما قرره الملأ بحث عن موسى، جاءه من مكان بعيد مسرعا، وأخبره بأن الملأ يبحثون عنه لقتله جزاء على قتله القبطي، ونصحه بترك المدينة، والخروج من مصر بالكلية، حتى لا يقع في أيدي الناس. واستمع موسى لنصح الرجل، وخرج من المدينة إلى جهة المشرق، قاصدا بلاد مدين؛ لما يسمعه عن أهلها من الخير والفضل.

_ 1 سورة القصص الآيات: 20, 21.

رابعا: موسى عند مدين

رابعا: موسى عند مدين خرج موسى -عليه السلام- من المدينة خائفا يترقب، ولم يكن يعرف الوجهة التي يقصدها، ولذلك دعا ربه لينجيه من فرعون وملئه، ويهديه إلى الصراط المستقيم، ويوفقه لما فيه الخير والفلاح ... يقول الله تعالى: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} 1، ومدين: اسم مدينة على بحر القلزم "الأحمر" تقع تجاه تبوك بين وادي القرى والشام، وسميت القبيلة باسم المدينة2، وقيل: بل هو اسم قبيلة سكنت هذا المكان، ومنه قوله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} وليس هو شعيبا الذي وجد في زمن موسى عليه السلام.

_ 1 سورة القصص آية: 22. 2 معجم البلدان ج5 ص77.

وأرى رجحان هذا الرأي؛ لأن شعيبا الرسول -عليه السلام- جاء بعد لوط -عليه السلام- لقوله تعالى: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} ، ولوط -عليه السلام- كان معاصرا لإبراهيم -عليه السلام- أما موسى -عليه السلام- فقد جاء بعد أبناء أبناء يوسف، فبينه وبين إبراهيم خمسة آباء على الأقل هم: "يوسف بن إبراهيم بن يوسف الصديق ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم" عليهم السلام، وعلى ذلك فشعيب صاحب موسى ليس هو شعيبا الرسول1، والله أعلم ... توجه موسى ناحية مدين، وجدّ في السير حتى وصل إلى منطقة فيها بئر ماء، فتوقف عندها ليستريح من هذا السفر الشاق، الطويل، وجلس تحت شجرة، ينظر للناس ويشاهد أحوالهم، فإذا هم عدد من رعاة الغنم والماشية، جاءوا بقطعانهم لتشرب الماء الذي تريد، ورأى فتاتين تقفان بعيدا عن البئر، وتمنعان غنمهما من الاقتراب نحو الماء، أو نحو أغنام الآخرين ... ولاحظ موسى أن الرجال يسقون غنمهم الماء صافيا، وما بقي من ماء البئر فهو لغنم الفتاتين ... ولاحظ أيضا أن البنات تتأخر في العودة؛ لأنهما تذودان غنمهما عن الماء؛ انتظارا لانتهاء الشباب من السقي. لاحظ موسى ذلك فسأل البنتين: ما خطبكما؟ وما هي الأسباب التي تدفعكما إلى التأخير؟؟ قالتا: لا نستقي أولا حتى لا نزاحم الرجال لضعفنا، وأبونا شيخ كبير، لا يمكنه أن يحضر معنا، وليس لنا أخ يأتي معنا، فأشفق موسى عليهما، وزاحم الرعاة، وغلبهم على الماء، وسقى للمرأتين غنمهما، فعادا مبكرتين إلى أبيهما، وأخذتا تحدثانه عن شهامة موسى ورجولته وقوته، وأنه شخص غريب عن مدين وربما يحتاج لعمل وإقامة.

_ 1 تفسير أبي السعود ج5 ص9.

تحدث شعيب مع ابنتيه، وموسى جالس تحت ظل شجرة عند البئر، يدعو الله تعالى أن يرزقه من الخير ليعيش عابدا، يتمكن من أداء ما وجب عليه، عن ذلك يقول الله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} 1. واستجاب الله لموسى دعاءه، وفكر شعيب في إحضار موسى ليعلم شأنه، ويكافئه على مساعدته لبناته، ويشكره على مروءته، ويتفق معه ليعمل عنده وفق شروط يرتضونها، فأرسل إحداهما لإحضاره، يقول الله تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} 2. أرسل شعيب إحدى بناته إلى موسى، فجاءته ساترة وجهها بكُمّ درعها، وأبلغته دعوة أبيها ليذهب معها؛ ليعطيه أجر ما سقى لهما، فذهب معها، وقال لها: كوني ورائي، ودليني على الطريق يمينا أو يسارا، فإني لا أنظر أدبار النساء، فتيقنت من أمانته، كما رأت من قبل شهامته وقوته. وصل موسى إلى شعيب، وجلس معه، وحدثه في كل شئونه، وروى له كافة الأحداث التي تركها في مصر من قتل الأبرياء، وتسخير الضعفاء، واضطهاد المساكين, فقال له شعيب: أنت الآن

_ 1 سورة القصص الآيات: 23, 24, والأمة: هي الجماعة، من دونهما أي: بعيدا عنهما، {تَذُودَانِ} بمعنى: تمنعان، {يُصْدِرَ} بمعنى: ينتهي. 2 سورة القصص الآيات: 25, 26.

في ديار خارجة عن مملكة فرعون فاطمئن ولا تخف، وقدم له الطعام والمأوى ضيفا كريما، بعد أن رفض أخذ أجرة على مساعدته للنسوة. بعد أن اطمأن موسى عند شعيب، وطعم واستراح، قالت البنت التي دعته لأبيها: يا أبت استأجره، فهو قوي أمين، فعرض شعيب رؤيته عليه، واقترح عليه أن يتزوج واحدة من بناته، بعد أن يعمل لديه أجيرا مدة ثماني سنوات, وإن زادها إلى عشر فالزيادة تبرع محض، له أن يقبلها، أو يرفضها منعا للحرج والمشقة. وافق موسى على اقتراح شعيب، على أن يترك تحديد أي الأجلين الذي سيقضيه موسى لوقته، وله أن يختار أي الأجلين بلا لوم، أو عتاب. يقول الله تعالى: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ، قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} 1. أتم موسى -عليه السلام- المدة، ودخل بأهله، يروي ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سأل جبريل عليه السلام: "أي الأجلين قضى موسى؟ " فأخبره أنه قضى عشر سنين2.

_ 1 سورة القصص الآيات: 27, 28. 2 تفسير القرطبي ج13 ص280.

خامسا: تكليف موسى بالرسالة

خامسا: تكليف موسى بالرسالة بعد أن أتم موسى -عليه السلام- عمله عند شعيب، ودخل بزوجته، استأذن شعيبا أن يأخذ زوجته ويرجع إلى مصر لزيارة والدته وأقاربه، فأذن له، فخرج بأهله وغنمه, وصحبه في رحلة العودة إلى مصر زوجته وولدان له. تاه موسى وصحبه في الطريق، فنزلوا بوادي طوى، في طور سيناء.... وجاء الليل بظلامه الدامس، وبرده القارس، وجاء المخاض لزوجته، وأصبحوا في حاجة ماسة للنار، لأسباب عديدة:

- إنهم يحتاجون للنار يعدون بها الطعام، وبخاصة للأم التي ولدت. - ويحتاجون للنار تضيء لهم المكان؛ ليعرفوا أين هم، ويكتشفوا الحياة من حولهم. - ويحتاجون للنار يستدفئون بها من برد الشتاء الشديد. - ويحتاجون للنار ليعلم المارة أن ناسا هنا، فيأتون إليهم، ويستعينون بهم على معرفة الطريق إلى مصر. أخرج موسى زنده وقدحه، لكنه بدل أن يخرج نارا أظهر ضوءا فقط، وهنا أبصر موسى بجانب الطور من بعيد نارا، فقال لأهله: استمروا في مكانكم، وسأذهب إلى مكان النار، لأعرف خبر ما عندها، وعسى أن أتمكن من إحضار جمرة نار ملتهبة تستدفئون بها من البرد، وتستعينون بها في إعداد الطعام، والمؤانسة. عن هذه المرحلة، وحتى إقامة موسى وصحبه في طور سيناء يقول الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْ لِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} 1. والأجل الذي قضاه موسى هو المدة التي اتفق عليها مع شعيب، وجذوة النار قطعة منها، وهي القبس، أو الشهاب، ووعد موسى أهله بإحضار جزء من النار لحاجتهم إليه، ورجا أن يجد عند النار أناسا، يستهدي بهم عن الطريق إلى مصر. وذهب موسى -عليه السلام- ناحية النار، واقترب منها، فإذا النار في شجرة، فوقف متعجبا من حسن ذلك الضوء، وشدة خضرة هذه الشجرة، فلا شدة حر النار تغير حسن خضرة الشجرة، ولا كثرة ماء الشجرة، ولا قوة الخضرة تغيران حسن ضوء النار، وحاول موسى -عليه السلام- أن يختبر طبيعة هذه النار، فأهوى إليها بضغث

_ 1 سورة القصص آية: 29.

في يده فلم يحترق، وكان كلما اقترب منها ابتعدت عنه، وإن ابتعد اقتربت، ثم لم تزل تطمعه، ويطمعها، إلى أن وضح أمرها، وناداه الله وكلمه، وكلفه بالرسالة، يقول الله تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 1. وحدد الله لموسى أصول الدعوة التي سيبلغ الناس بها، وذلك في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى، إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى، وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى، إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي، إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى، فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} 2. كلم الله تعالى موسى -عليه السلام- من جهة الشجرة، وعرف من كلام الله تعالى عددا من القضايا: الأولى: عرفه الله بالمكان الموجود فيه وهو "الوادي المقدس"، وقد تجلى الله فيه وطهره، وأخرج منه الكفر والضلال، ويجب على موسى أن يحافظ على طهارة المكان وقداسته، ولله أن يفضل مكانا على مكان. الثانية: أمره الله بخلع نعليه وهو بالمكان المقدس احتراما له وتواضعا؛ لينال بركة المكان، يقول القرطبي: "والعرف عند الملوك أن تخلع النعال تواضعا، فكأن موسى أُمر بذلك على هذا الوجه"3, ومن الجائز أن الأمر بخلع النعل كناية عن ضرورة تفريغ القلب من أمر الأهل والولد، والمعاش، وغيرها؛ ليتفرغ كليا للرسالة والدعوة.

_ 1 سورة القصص آية: 30. 2 سورة طه الآيات: 11-16. 3 تفسير القرطبي ج11 ص172.

الثالثة: اختاره الله للرسالة، وكلفه باستماع الوحي، فوقف موسى -عليه السلام- وأخذ يستمع. روي عن وهب بن منبه، أنه قال: من أدب الاستماع سكون الجوارح، وغض البصر، والإصغاء بالسمع، وحضور العقل، والعزم على العمل, وذلك هو الاستماع كما يجب لله تعالى، وهو أن يكف العبد جوارحه، ولا يشغلها، فلا يشتغل قلبه عما يسمع، ويغض طرفه فلا يلهو قلبه بما يرى، ويحضر عقله فلا يحدث نفسه بشيء سوى ما يستمع إليه، ويعزم على أن يفهم، فيعمل بما يفهم1. قالوا: إن موسى -عليه السلام- لما أمر بالاستماع، وقف على حجر، واستند إلى حجر، ووضع يمينه على شماله، وألقى ذقنه على صدره، ووقف يستمع2. الرابعة: أخبره الله أن أول الدعوة توحيد الله تعالى في ألوهيته، وربوبيته، وأسمائه، وصفاته، فهو سبحانه واحد لا شريك له، وهو الواحد القهار. الخامسة: عرفه بحتمية قيام الساعة، وفيها يحاسب الله الناس جميعا؛ لتجزى كل نفس بما تسعى. السادسة: حذره الله من أعداء الله في الأرض؛ لأنهم يبذلون أقصى الجهد لصد الناس عن الإيمان، وهم في سعيهم ومحاولاتهم يبدءون بصرف الناس عن الطاعة شيئا فشيئا، ويستمرون معهم حتى يصرفوهم عن الدين بالكلية، وبذلك يكون الهلاك والموت، وعلى موسى أن يحذرهم حتى لا يردى. تعجب موسى مما رأى، ومما سمع عند من كان يظنه نارا.... لقد جاء يقصد لهبا، ونارا، فأخذ نورا، ورحمة ... وكان يتمنى أن يجد من يهديه لطريق مصر، فهداه الله إلى طريق إنقاذ الناس أجمعين. سُر موسى بما رأى وبما سمع، وشعر أن الأمر ثقيل، والمهمة شاقة، تحتاج إلى قوة وثقة وإيمان ويقين، فأمده الله تعالى ببعض الآيات التي تمكنه من القيام

_ 1 تفسير القرطبي ج11 ص176. 2 نفس المرجع ج11 ص176.

بواجبه، يقول الله تعالى: {مَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى، قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى، قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى، فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى، قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى، وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى، لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} 1. والآيات تشير إلى بداية وحي الله لموسى -عليه السلام- ومع بداية الوحى يحتاج الرسول إلى معجزات، يتأكد بها من اختيار الله له، وكان ما رآه موسى -عليه السلام- عند الشجرة كافيا، إلا أن الله تعالى أظهر له معجزتين أخريين تأكيدا لاختياره، وبرهانا على قومه، وقد علم الله عتوهم واستكبارهم، وتدريبا له على تلقي الوحي وتحمل التكاليف, وهاتان المعجزتان هما: المعجزة الأولى: معجزة العصا ... بدأ الله سؤال موسى عما بيمينه، والجواب هو العصا، لكن موسى أخذ يتحدث عن وظيفة العصا؛ حبا في إطالة الحديث مع ملك الوحي، أو مع الله، حيث قال: هي عصاي أملكها، وأتحامل عليها حين أمشي، وأضرب بها أغصان الشجر لتسقط فتأكلها غنمي، ولها منافع أخرى كثيرة ... وكأني بموسى -عليه السلام- قد استشرف عظمة المقام، فأراد أن يسأله الله عن هذه المنافع الأخرى، ليطول الكلام، ويمتد اللقاء.... إلا أن الله أمره بإلقائها على الأرض، فألقاها، فإذا حية تسعى، خاف موسى من الحية، فأمره الله أن يأخذها بيده ولا يخاف منها، وسيعيدها الله عصا مرة أخرى كما كانت. المعجزة الثانية: أمر الله موسى -عليه السلام- أن يضع يده تحت إبطه، وسوف يرى أنها ابيضّت بلا مرض ولا أذى، فإذا أراد أن يعيدها إلى حالتها الطبيعية فعليه أن يضعها مرة أخرى تحت إبطه، ويخرجها. اطمأن موسى -عليه السلام- إلى اختيار الله له، وبدأ يتحرك للدعوة ويعمل لها.

سادسا: قيامة بالدعوة

سادسا: قيامه بالدعوة طلب موسى من ربه أن يجعل معه أخاه هارون وزيرا يعينه، ويشد أزره، فاستجاب الله له، وأمده بما طلب, وقام موسى بواجب التبليغ لفرعون وقومه، يدعوهم إلى التوحيد، وطاعة الله، ويطلب من فرعون أن يترك الإسرائيليين لشأنهم، وأن يرسلهم أحرارا إلى موسى -عليه السلام- ليعيدهم إلى التوحيد الخالص الذي تعلموه من أنبيائهم، ويعيدهم إلى الأرض المقدسة، كما قام موسى -عليه السلام- بالدعوة في قومه أيضا.... ولقي مشقة وعنتا، من هؤلاء، وهؤلاء، فقابلها ومعه هارون بصبر النبوة، وخلق الرسل، والثقة في عون الله وقدرته، وأيده الله بالمعجزات العديدة، في مواجهته للمصريين، وللإسرائيليين سواء بسواء. ويبدو أن غلبة الجانب المادي، والجدل الكلامي سمة مصريي هذا الزمان؛ ولذلك كانت معجزات موسى لهم حسية، وكثر الحوار والجدل مع موسى بلا نتيج. وكان الإسرائيليون يعيشون عبيدا للفراعنة، ولذلك لم يجادلوا موسى، وهم في مصر، وأظهروا له الطاعة والامتثال، ودائما كانوا يشكون له ما لقوه من فرعون، يصور الله تعالى شكاياتهم، فيقول سبحانه: {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} 1، فلما نجوا من ذل فرعون، وانتقلوا إلى برية سيناء، ظهروا على حقيقتهم، وبان من مواقفهم مع موسى وهارون -عليهما السلام- ما في طباعهم من خصائص. فلقد جُبلوا على المادية، وألفوها، وتعلقوا بها؛ ولذلك طلبوا من موسى -عليه السلام- أن يصنع لهم صنما يعبدونه، ويلازمونه, ويرونه وهم يعبدون، وطلبوا أن يروا

_ 1 سورة الأعراف آية: 129.

الله جهرة ... وعبدوا العجل الذي صنعه السامريّ. وفي طبعهم مخالفة من يعيشون معه، ولو إلى الأسوأ، فلقد طلبوا من موسى -عليه السلام- أن يطعمهم البصل، والثوم، وغيرهما بدل المن والسلوى. وفيهم الجبن والخوف، فلقد استضعفوا هارون حين غاب عنهم موسى -عليه السلام- فكفروا، وعبدوا العجل، فلما جاءهم موسى خافوا، ورجعوا إلى الدين مرة أخرى. ولما أمرهم موسى -عليه السلام- أن يدخلوا بيت المقدس، رفضوا لأن فيها قوما جبارين. ولما طلب منهم موسى -عليه السلام- أخذ الألواح بعزيمة وقوة، ترددوا، فلما هددهم بظلة الجبل، وخوفهم من سقوطها عليهم امتثلوا. ومن طبعهم نقض العهد والميثاق، فلقد أخذ الله عليهم الميثاق فنقضوه، ولم يلتزموا. ومن طباعهم أنهم أمام الضعفاء جبابرة، وأمام الأقوياء خاضعون، انظر إليهم كيف استهانوا بهارون -عليه السلام- لطيب خلقه، ولينه، وعفوه، وكادوا أن يقتلوه ... فلما جاءهم موسى -عليه السلام- اعتذروا بأن تصرفهم كان خارج طاقتهم، وأنهم خدعوا. تعامل موسى -عليه السلام- مع كل هذا، واستمر في الدعوة لدين الله تعالى بالحسنى، وبالخلق. وقد حاول مع قومه أن يدخل بيت المقدس، لكنهم جبنوا، فقضى الله عليهم أن يتيهوا في سيناء أربعين عاما. إنها لرحلة طويلة، وشاقة عاشها موسى -عليه السلام- في مصر، وعند شعيب، وفي سيناء، رحلة لا يتحملها إلا رسول ذو عزم وقوة، وقد أثنى الله تعالى على موسى -عليه السلام- في القرآن الكريم، ومن ثناء الله تعالى قوله سبحانه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا، وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ

الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} 1، وقوله تعالى: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} 2، وقوله تعالى: {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} 3، وقوله تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} 4.

_ 1 سورة مريم الآيات: 51, 52. 2 سورة الأعراف آية: 144. 3 سورة طه آية: 39. 4 سورة طه آية: 41.

سابعا: وفاة موسى

سابعا: وفاة موسى يروي البخاري بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "أرسل الله ملك الموت إلى موسى -عليه السلام- فلما جاءه صكه في وجهه، فرجع إلى ربه، فقال: أرسلتَني إلى عبد لا يريد الموت، فقال له: ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور، فله أن يعطى بما غطى يده، بكل شعرة سنة، فأتاه، وأخبره فقال موسى: أي رب، ثم ماذا؟ قال: ثم الموت، قال موسى: فالآن، قال: فسأل موسى الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية حجر"1. وحقق الله لموسى طلبه، وقربه من بيت المقدس التي سعى مع قومه لدخولها، ولكنهم جبنوا، وعاشوا في التيه. ولما حانت المنية، وجاء الأجل، مر موسى بملأ من الملائكة يحفرون قبرا، فلم ير أحسن منه، ولا أنضر، ولا أبهج، فقال موسى: يا ملائكة الله، لمن تحفرون هذا القبر؟ فقالوا: لعبد من عباد الله كريم، فإن كنت تحب أن تكون هذا العبد فادخل هذا القبر، وتمدد فيه، وتوجه إلى ربك، وتنفس، ففعل ذلك، فمات صلوات الله

_ 1 صحيح البخاري بشرح فتح الباري, باب وفاة موسى ج6 ص440.

عليه وسلامه, وصلت عليه الملائكة، ودفنته1. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت ثم, لأريتكم قبره إلى جانب الطريق، تحت الكثيب الأحمر" 2. ويقول صلى الله عليه وسلم: "مررت ليلة أسري بي على موسى -عليه السلام- وهو قائم، يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر" 3, رضي الله عنه وأرضاه, صلى الله عليه وسلم.

_ 1 البداية والنهاية ج1 ص318، 319. 2 صحيح البخاري بشرح فتح الباري, باب وفاة موسى ج6 ص441. 3 الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان, باب الموضع الذي رأى فيه المصطفى -صلى الله عليه وسلم- موسى -عليه السلام- يصلي في قبره ج1 ص95.

النقطة الثالثة: حركة موسى عليه السلام بالدعوة

النقطة الثالثة: حركة موسى عليه السلام بالدعوة أولا: حركة موسى بالدعوة لفرعون ... "النقطة الثالثة": حركة موسى -عليه السلام- بالدعوة أخذ الوحي ينزل على موسى -عليه السلام- وهو في طريقه إلى مصر، وتأكد أنه رسول الله إلى الإسرائيليين، وإلى فرعون وملئه، فاطمأن لذلك، وبدأ في مسار جديد، يتحرك فيه بدعوة الله تعالى. ويلاحظ أن دعوة موسى -عليه السلام- لفرعون وملئه تختلف في المنهج والوسيلة والأسلوب، عن دعوته للإسرائيليين؛ لاعتبارات كثيرة، أهمها: أن الإسرائيليين كانوا على ذكر بدين الله تعالى، حيث عاش بينهم إسحاق، ويعقوب، ويوسف -عليهم السلام- بينما كان المصريون على كفر وضلال، ومن المعلوم أن أثر دعوة يوسف -عليه السلام- للمصريين لم تستمر طويلا؛ لأن الإسرائيليين تعاونوا مع الهكسوس الذين أسسوا دولة الرعاة في مصر، فلما تمكن المصريون من طرد الهكسوس عملوا على طرد الإسرائيليين, وانعكس ذلك على دين يوسف -عليه السلام- في مصر، وسوف نتحدث عن دعوة موسى -عليه السلام- للفريقين، ولقارون في مباحث منفصلة فيما يلي: أولا: حركة موسى بالدعوة لفرعون كلم الله موسى -عليه السلام- وأيده بالمعجزات الباهرة، وطمأنه على اختياره رسولا يدعو لدينه، وكلفه أن يبدأ بدعوة فرعون وملئه، وقد اشتملت حركة موسى بالدعوة لفرعون على عدد من المسائل: المسألة الأولى: التعريف بفرعون عرف الله موسى -عليه السلام- بطبيعة فرعون وملئه، فرغم أن موسى -عليه السلام- عاش في بيت فرعون, وتربى في قصره، وعاشره طويلا، وعرف كثيرا عنه، رغم ذلك نرى أن الله سبحانه وتعالى يفصل لموسى طباع فرعون وأتباعه؛ ليكون على بينة وافية بهم، وهو يدعوهم إلى الله تعالى.

لقد كان فرعون فاسدا في كل جوانب حياته، ادعى الألوهية، ونادى في الناس أنا ربكم الأعلى، وأنكر على أتباعه أن يتخذوا إلها سواه، وكان متكبرا في خلقه، مغرورا بالنعم التي يرفل فيها، فلقد تصور أن تملكه لأمر مصر، وسيطرته على أنهارها وزروعها، يجعله فوق البلاد والعباد. واشتهر بالقسوة، والظلم في معاملة الرعية، وأسرف في الإفساد، وإلحاق الأذى بالناس، وتجبر، وطغى، وتمادى في غيه، ولم يسمع لناصح، ولم يلتفت إلى الحق أبدا. يصور الله تعالى حال فرعون وملئه، ويبين ضلالهم، وظلمهم، وفسادهم، فيقول تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} 1، وقال تعالى: {فَحَشَرَ فَنَادَى، فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} 2, وقال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} 3، وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ، مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ} 4، وقال تعالى: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} 5, وقال تعالى: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ، الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} 6. هذا هو فرعون على حقيقته, كما صورته آيات القرآن الكريم.

_ 1 سورة القصص آية: 38. 2 سورة النازعات الآيات: 23, 24. 3 سورة القصص آية: 4. 4 سورة الدخان آية: 30. 5 سورة الزخرف آية: 51. 6 سورة الفجر الآيات: 10-12.

إنه شخص مغرور، اعتلى العرش، واستعبد الناس، وفرقهم شيعا، واستخدمهم لنفسه، ونشر الفساد فيهم. ادعى الألوهية فصدقوه، وأطاعوا أمره، واتجهوا إليه عابدين، مستسلمين. وقد وضع فرعون خطة خبيثة، تمكنه من استمرار التحكم، والاستعلاء، والطغيان، تقوم هذه الخطة على اتخاذ مجموعة من الأفراد متميزين بعلم ومعرفة، ونشرهم في الأقاليم المختلفة؛ ليكونوا دعاة له, مشرفين على استمرارية ملكه، وسلطانه، مبلِّغين ما يريد أن يوصله للناس، وقد أغدق على هذه المجموعة الأموال، والوظائف, وشيئا من سلطانه، ووجاهته. فهم الملأ المنتشرون وسط الناس ... وهم العلماء السحرة الذين يديرون شئون المدائن ... وهم الوزراء المحيطون به ... ولذلك كان يكتفي بتوجيه أوامره لهذه المجموعة؛ ليوصله هؤلاء بعد ذلك إلى سائر الناس، فهم له مطيعون، مؤيدون. انظر إليه، وهو يؤكد ألوهيته الوحيدة، ينادي بذلك للملأ، ويجمعهم في مؤتمر حاشد ليقول لهم: أنا ربكم الأعلى، ومع اتخاذه لحاشيته تلك، اتخذ جنودا أشداء، كوّنوا قوة طاغية، كثيرة العدد والعدة، لتكون في مواجهة من يتصدى لألوهيته، وجبروته.... يقول العوفي في روايته عن ابن عباس: "أوتاد فرعون هم الجنود الأقوياء الذين يشدون له الأمر, ويعينونه على تحقيق ما يريد"، وكان لجنود فرعون قوة ظاهرة في عددهم, وعدتهم كما يفهم من الاستفهام الوارد في قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ، فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} 1؟ فقد سمى الله حديث فرعون حديث الجنود؛ لما تمتعوا به من قوة وبطش.

_ 1 سورة البروج الآيات: 17, 18.

وقد تمكن فرعون بهذا التخطيط من الاستخفاف بعقول الناس، وعدم الاكتراث بهم، وذلك الحال واضح من التوجيه الذي وجَّهه لوزيره هامان في قوله الذي حكاه الله عنه في قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ، أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} 1، وفي قوله تعالى: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} 2. إنه في هاتين الآيتين يأمر "هامان" وزيره الأول أن يتخذ من الطين آجرا؛ لبناء برج عالٍ ليصعد عليه، ويُوهم الرعية أنه بحث عن إله موسى في الأماكن العالية فلم يجده؛ لأنه لا إله للناس إلا فرعون. ويقوم هامان ببناء البرج مع تيقنه بعدم جدواه، ويطيعه الجنود، ويعيش فرعون وسط الملأ والجنود إلها معظما معبودا. يذكر بعض المفسرين أن هامان بنى الصرح من الطين، حتى بلغ نهاية ما قدر عليه من البناء، ثم صعد فرعون وإلى جانبه هامان، ثم صوب فرعون سهما إلى السماء، ورمى به، فعاد النصل مخضبا بالدم، فلما رأى فرعون النصل وعليه دم قال: يا هامان لقد قتلت إله موسى، فضحك هامان وقال: ومع هامان تقول ذلك يا فرعون3!! وبدون الملأ والجنود لا يستطيع فرعون أن يظلم الناس، ولا أن ينشر الفساد بينهم؛ ولذلك يعاقب الله مع فرعون ملأه وجنوده، يقول الله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} 4, ويقول سبحانه:

_ 1 سورة غافر الآيات: 36, 37. 2 سورة القصص آية: 38. 3 تفسير الخازن ج5 ص174, ولعل الذي لطخ النصل بالدم طير كان في السماء، أو فتنة من الله لهم. 4 سورة القصص آية: 8.

وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ} 1. وهكذا.... أخذ الجنود والملأ نفس عقوبة فرعون؛ لأنهم أعوانه على الظلم، ولولاهم ما تمكن من ظلم أحد.... وأيضا فلقد أصبحوا ظَلَمَة مفسدين، على دين وأخلاق فرعون، يقول تعالى: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} 2، ويقول تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ} 3. وأهلكهم الله -سبحانه وتعالى- كما أهلك فرعون؛ لأنهم صاروا مثله في الظلم، والإفساد والتعدي على حقوق الله، وحقوق الناس، يقول تعالى: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ، فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ، وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ، وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} 4. المسألة الثانية: الاستعداد للبلاغ استشعر موسى -عليه السلام- ثقل المهمة، وأدرك حاجته إلى عدة تعينه على المشاق التي ستقابله, ولذلك اتجه إلى الله تعالى مبينا له العذر, راجيا منه العطاء,

_ 1 سورة القصص آية: 39. 2 سورة القصص آية: 32. 3 سورة الشعراء الآيات: 10, 11. 4 سورة القصص الآيات: 39-42.

وقد حكى الله ذلك بقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي، وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي، كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا، وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا، إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} 1. لقد طلب موسى -عليه السلام- من ربه -سبحانه وتعالى- أن يمده بعدد من الخصائص, شعر أنه في حاجة إليها, وهي: - طلب موسى عليه السلام -أولا- أن يشرح الله صدره؛ ليذهب ما به من ضيق، وانفعال، وتسرع في الحكم, والتنفيذ كما فعل يوم أن استغاث به الرجل من شيعته، وحتى يتمكن بشرح صدره من تقبّل المعارضة، وحسن التعامل مع الأعداء برفق ولين. ومن المعروف أن انشراح الصدر يحول مشاق التكاليف إلى متعة، ويجعل مصاعب الطاعة لذة وحلاوة، كما يجعل السعي للغاية مليئا بالحيوية، والنشاط، والأمل ... وهذا يفسر حالات السعادة والرضى، التى كان يلقاها الصحابة وهم يعبدون، وكذلك وهم يموتون في سبيل الله. - وطلب موسى عليه السلام -ثانيا- أن ييسر الله أمره، ويوفقه لكل عمل يرضى عنه, ويبعده عن كل ما يضر، ويؤذي.... وهو مطلب يضمن له النجاح في الدعوة وفي غيرها؛ لأن الإنسان بدون تيسير الله عاجز، فهو محدود القوة، والتصور، والعلم ... والطريق طويل، وشاق؛ لذلك كان التيسير الإلهي ضرورة للنجاح. - وطلب موسى عليه السلام -ثالثا- من الله أن يحل عقدة من لسانه؛ ليفهموا قوله، وقد أتته هذه العقدة يوم أن ابتلع الجمرة من يد "آسية" وقد طلب موسى -عليه السلام- حل عقدة واحدة فقط، ولو سألها جميعا لكانت. - وطلب موسى عليه السلام -رابعا- من الله تعالى أن يرسل معه أخاه هارون لما يتميز

_ 1 سورة طه الآيات: 25-35.

به من الفصاحة، والهدوء، وعدم الغضب، وبهذا عد موسى -عليه السلام- أنفع أخ لأخيه في الدنيا، حين سأل الله له النبوة والرسالة، وقصد موسى -عليه السلام- من إرسال هارون معه أن يشد أزره، ويقوي جانبه، ويشاركه الرأي والنصيحة، وينيبه في بعض مهام البلاغ والدعوة. والغاية العظمى التي قصدها موسى -عليه السلام- أن يتمكن من الاستمرار في الذكر، والتسبيح، والعبادة، مع الطاعة المطلقة لله، والقيام بمسئولية الدعوة إلى الله تعالى. فاستجاب الله له على الفور، وأعطاه كل ما سأله دفعة واحدة، يقول سيد قطب: "هكذا مرة واحدة، في كلمة واحدة، {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} , فيها إنجاز، لا تسويف ولا تأجيل، كل ما سألته أُعطيته فعلا.... ومع العطاء إيناس، وتكريم، وأي تكريم أكبر من أن يذكر الكبير المتعال اسم عبد من العباد!! "1. وبهذا زال خوف موسى -عليه السلام- وبدأ حركة الدعوة مع فرعون وملئه. المسألة الثالثة: مواجهة فرعون استجاب الله لموسى، وحقق له ما طلب، وأصبح هارون رسولا معه ... وبدآ سويا في دعوة فرعون وملئه إلى الله تعالى، بعد أن تخلصا من الخوف من فرعون ورهبته، تحوطهما عناية الله، ورعايته. وطلب موسى -عليه السلام- من فرعون أن يؤمن بالله إلها واحدا، وربا لا شريك له، ويخصه وحده سبحانه بالطاعة، والخضوع، والانقياد. وطلب منه أيضا أن يترك بني إسرائيل لموسى -عليه السلام- ليعود بهم إلى عقيدة التوحيد الخالص، ويسكنهم الأرض المقدسة التي كتب الله لهم أن يسكنوا فيها.

_ 1 في ظلال القرآن ج5 ص471.

حدد الله رسالة موسى -عليه السلام- لفرعون بقوله تعالى: {فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} 1، وبقوله تعالى:. {وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} 2. وهكذا انحصرت مهمة موسى -عليه السلام- مع فرعون في أمرين: أولهما: دعوة فرعون إلى الإيمان بوحدانية الله تعالى، والتوجه بالعبادة له وحده، والقيام بالدعوة لهذا الأمر جاء من قبل موسى وهارون اللذين أرسلهما الله رب العالمين؛ لتصحيح أخطاء الناس، حين يتخذون آلهة أخرى مع الله تعالى. ومع الدعوة إلى التوحيد، نرى بالضرورة الدعوة إلى الإيمان بالرسالة، والوحي المنزل، وباليوم الآخر بما فيه من حساب وعذاب. ثانيهما: إنقاذ الإسرائيليين، وفك أسرهم، وتركهم يعودون مع موسى -عليه السلام- إلى بيت المقدس للسكن فيه، وبعودتهم يرجعون إلى عقيدة التوحيد الخالص بعد التخلص من الملوثات المادية والحيوانية، التي شابت تدينهم. وأخبر موسى وهارون -عليهما السلام- فرعون بأن معهما آيتين من معجزات الله؛ لإثبات صدقهما فيما دَعَوَا إليه.

_ 1 سورة طه الآيات: 47, 48. 2 سورة الأعراف الآيات: 104-106.

وقد قام موسى وهارون بإيصال الدعوة لفرعون في لين، ورفق، وترغيب، واستمالة, فهما يدعوانه إلى الهدى، والأمن، والسلام، والنجاة في اتباع الهدى، وعرفاه بأن معهما آيتين من معجزات الله تشهدان بصدقهما. رد فرعون عليهما, وطلب منهما أن يظهرا هاتين الآيتين اللتين تحدثا عنهما؛ ليرى مدى صدقهما. فأظهر له موسى -عليه السلام- معجزة العصا، ومعجزة اليد، التي تدرب عليهما في طور سيناء يوم أن كلمه الله تعالى، فاتهمهما فرعون بالكذب، وبأن ما أظهراه هو السحر، وأخذ في مناقشة موسى، ومحاولة صرفه عن الدعوة، قال له: يا موسى, أنسيتَ فضلنا عليك؟ أنسيتَ أننا ربيناك في بيوتنا، وأنفقنا عليك في صغرك من أموالنا، ومتعناك بجاه الملك يوم أن انتسبت إلينا وليدا، واستمرت حياتك معنا مدة طويلة؟ وهل نسيت يا موسى يوم أن قتلت مصريا من قومنا وأنت من الجاحدين لنعمتي وحق تربيتي لك، وأنكرت ألوهيتي، ولم تؤمن بي كما آمن الآخرون، وأخيرا هربت من ديارنا؟ والآن تأتينا مرة أخرى بنفس جحودك وإنكارك. وهذا الكلام من فرعون يدل على فهمه، ومعرفته، وبعده عن السفاهة، والسذاجة، غير أن إبليس أضله، وأبعده عن الحق والصواب. رد عليه موسى, عليه السلام: لن أنكر نعمة أسديت إلي، وما كنت أقصد قتل الرجل، ولم أتصور أن إنسانا يموت من وكزة، وكان فراري خوفا من ظلمكم وجوركم؛ لأنكم لن تتصوروا خطئي، وستحكمون علي بتعمد القتل ... وقد أكرمني الله تعالى بالنبوة، وأرسلني وأخي إليك، وإلى قومك لأدعوك بدعوة الله تعالى. ولكن لِمَ لم تترك يا فرعون قضية استعبادك للإسرائيليين جميعا، وإلحاق الأذى بهم؟ ولِمَ لا تتهم نفسك بدل أن تمن علي بما أنعمت؟ وهل كنت أحتاج يا فرعون إلى ما أسديته إلي، لو سرت في الإسرائيليين بالعدل، والصواب؟!

وكأني بموسى -عليه السلام- يذكر لفرعون أن سوء سياسته هو سبب ما ذكر من أفعال، فبسبب الخوف منه كان إلقاء موسى وليدا في البحر، وكان فرار موسى من مصر، ومن المقرر أن إذلال أمة يعد إذلالا لكل فرد فيها. يصور القرآن الكريم هذا الجزء من الحوار في قوله تعالى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ، وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ، قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ، فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ، وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} 1. وبعد ذلك انتقل فرعون إلى سؤال موسى عن ربه، قال له: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} ؟ 2 إنه يسأل عن حقيقة الله؛ لأنه يتصوره محسوسا، مشخصا، على اعتبار أنه أحد الآلهة المنتشرة في عقائد الناس. فيرد عليه موسى وهارون: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} 3، {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} 4.

_ 1 سورة الشعراء الآيات: 16-22. يرى المفسرون أن المراد بالكفر في الآيات جحود النعمة أو إنكار ألوهية فرعون، والمراد بالضلال: الخطأ غير المقصود، أو عدم التوفيق للصواب. 2 سورة الشعراء آية: 23. 3 سورة طه آية: 50. 4 سورة الشعراء آية: 24.

عرف موسى فرعون بالله عن طريق إبراز أفعاله وصفاته، فهو الخالق لكل موجود, في السموات والأرض وما بينهما، والمخلوقات جميعها تدين له وتئول إليه. وهو سبحانه الذي يمكن كل مخلوق من أداء وظيفته, ويهديه للقيام بها, وبذلك كانت الدقة، وكان الجمال، وكان التوازن بصورة دائمة لا تتخلف أبدا في سائر المخلوقات، وكلها تدل على قدرة الخالق، العظيم، الواحد، سبحانه وتعالى. يحاول فرعون بذكائه، أن يحول النقاش بعيدا عن موضوع الألوهية، فيقول لموسى: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} 1. والسؤال عن القرون الأولى غير محدد الموضوع، فهل هو عن عددهم؟ أو عن دينهم؟ أو عن حكم ضلالهم؟ أو عن مسئوليتهم في إبداع الضلال؟ أو عن عذاب الله لهم؟ أو عن سبب تركهم في الفساد؟ إنه غير محدد الموضوع؛ ولذلك يحتاج إلى أجوبة طويلة، متنوعة. لكن موسى عليه السلام -بفطنة النبوة- يعيد فرعون إلى قضية الألوهية، مع الإجابة عن سؤاله عن القرون الأولى: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى، كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى، مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} 2، وفي رد موسى نراه يجيب فرعون، ويأخذه إلى تعريفه بالله تعالى, فيذكر له أن علم القرون الأولى، من كافة نواحيها، عند ربي الذي أدعوك إلى الإيمان به، وهو سبحانه المتصرف فيهم، ولا حاجة لنا إلى التفاصيل، ويكفينا أن نعرف أنها عند ربي، فهو سبحانه متصف بالحق المطلق الذي لا ينسى ولا يخطئ، ويكفينا ثقة في علم الله تعالى، ما خلق من نعم، فقد جعل الأرض مهدا، وذللها

_ 1 سورة طه آية: 50. 2 سورة الشعراء آية: 24.

للعمل، وللزراعة، وسلك فيها طرقا للحركة والتنقل، وأنزل من السماء مطرا للسقي والزرع، وأخرج من الأرض نباتات متنوعة للحب، والفاكهة، والزينة، والرعي؛ ليتمتع الإنسان، والطير، والحيوان، وكل دواب الأرض بها، وجعل سبحانه من ذلك آيات، وبراهين تدل عليه، وهي أدلة يدركها صاحب العقل السليم. وهذه الأرض التي أكرمنا الله بها، وأفاض علينا بنعمه من خلالها، هي المادة التي خرج منها الإنسان، وإليها يعود حين الموت، ومنها يخرج يوم البعث. إن هذه الآيات تدور حول الإنسان في وجوده وعدمه، وحول الكون القريب من الإنسان، من زرع، وماء، وأرض، وحياة، كما أنها تذكر الإنسان بحركته في هذا الكون، فقد خلقه الله لتعميره، وسوف يسأله عن مسئوليته يوم يبعثه, ويخرجه من الطين مرة أخرى. ومن فطنة موسى -عليه السلام- أنه أتى بالآيات والبراهين، التي يعتز بها فرعون، فهو فخور بملكية أرض مصر بأنهارها، وزرعها، وثمرها، ويجعل ذلك سبيله لادعاء الألوهية.... يأتي موسى -عليه السلام- إلى هذه الآيات، ويوضح الخالق الحقيقي لها، ويبين أنه الله رب العالمين، وليس لفرعون منها إلا الملكية الصورية، والتحكم الظالم، أما المُوجِد لها فهو الله تعالى، فهو الذي خلق وأوجد، وحقه أن يعبد وحده، وهو الله الواحد لا شريك له أبدا. لم يتمكن فرعون من مواجهة حجج موسى -عليه السلام- بالحوار والمناقشة، وإنما اتجه إلى إثارة الناس ضد موسى، قال لهم: {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ} 1, {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ، أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ}

_ 1 سورة الشعراء آية: 25.

فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ، فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} 1. وفي حديث فرعون نرى لجوءه إلى الإثارة، والتحريض، وتوجيه الرأي العام ضد دعوة موسى، وأخذ يبثّ في الناس ضلاله وأكاذيبه، بصورة مثيرة، على شكل أسئلة تحريضية ضد موسى ودعوته، ومن أسئلته: ألا تستمعون لأكاذيب موسى وهو ينكر ألوهيتي، ويثبتها لربه؟! وأليس لي ملك مصر أتحكم في أرضها، ومائها، وسكانها؟! وأينا أفضل: أنا بما أملك، أم موسى الفقير الذي لا يملك شيئا؟! وهل صورة موسى تصلح للرسالة, وفي لسانه حبسة؟ وهل يتصور أن إله موسى يملك كل شيء، ويتركه فقيرا؟! لِمَ لم يمده بالذهب, أو يرسل معه الملائكة تساعده؟! إن هذه الأسئلة مفهومة من الآيات، قصد فرعون بها صرف الناس عن سماع دعوة موسى وهارون عليهما السلام. ويلاحظ أن فرعون ألقى أسئلته في جمع من قومه إثارة لهم؛ لأن العقل الجمعي سريع الانفعال، يستجيب بطريقة تلقائية وسريعة للمثيرات العاطفية ... ولذلك تعد مخاطبة الجماهير لأول مرة بصورة جماعية، في القضايا الكبرى, لونا من ألوان العبث والاستخفاف بالعقول، ولذلك قال الله عن فرعون في القرآن الكريم: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} . وسار الجمهور خلف فرعون بعدما استثارهم، وأخذ في الاستماع إلى حديثه وكلامه عن موسى -عليه السلام-

_ 1 سورة الزخرف الآيات: 51-54.

قال تعالى: {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} 1، وقال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} 2. ونجح فرعون في استثارة الرأي العام ضد دعوة موسى، وأخذ في تهديد موسى -عليه السلام- فأعاده موسى -عليه السلام- إلى الحوار مرة أخرى، وفكر فرعون في الاستعانة بأتباعه من السحرة والعلماء. المسألة الرابعة: التحدي الكبير، وإيمان السَّحَرَة أقام موسى وهارون على فرعون الحجة، وتبين أتباع فرعون قوة موسى بحجته وضعف فرعون بألوهيته، حينئذ لجأ فرعون إلى التهديد، قال تعالى على لسان فرعون: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} 3، فأعاده موسى إلى الحوار: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} 4, إن موسى -عليه السلام- لم يواجه التهديد بالغضب، وإنما واجهه بهدوء وروية، ومع الهدوء عرض مثير لبيان الحقيقة، والناس يسمعونه متسائلا: أتسجنني وإن أتيتك ببرهان بيّن لا يشك فيه عقل؟! ولم يحدده له، ولم يشر إليه؛ ليتشوق فرعون ومن معه لمعرفته, وقد كان، فعاد فرعون إلى الحوار, قال تعالى: {قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} 5، فقدم موسى -عليه السلام- برهاني العصا واليد، شاهدة على صدقه. فلما رأى فرعون ذلك, قال لأتباعه: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ، يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} 6.

_ 1 سورة الشعراء آية: 27. 2 سورة غافر آية: 26. 3 سورة الشعراء آية: 29. 4 سورة الشعراء آية: 30. 5 سورة الشعراء آية: 31. 6 سورة الشعراء الآيات: 34, 35.

ولنتأمل في منطق سياسة فرعون، وطريقته في مخاطبة الناس، يعلن أن موسى ساحر ومجادل، وأنه يعمل على طرد المصريين من بلدهم، وبعد ذلك يطلب رأيهم, ويعتبره أمرا منهم يقوم بتنفيذه، ويخطب فيهم ... فماذا تأمرون؟!! ويتصور الناس أن موسى ساحر حقا؛ ولذلك اقترحوا مقاومته بنفس السلاح الذي يستعمله، واقترحوا لفرعون أن يجمع من مختلف المدن المصرية أئمة السحر، وأساتذة العلماء، على أن يعد للقاء عدته؛ لينهزم موسى على رءوس الناس. واستحسن فرعون الفكرة، وقال لموسى: {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى، فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى} 1. حدد فرعون وموسى موعد اللقاء، في يوم عيد للمصريين، هو يوم الزينة، وجعلوه ضحى ذلك اليوم، حيث يتجمع الناس، ويرون في وضوح الشمس ما يقع، بلا خداع, أو دعاية، أو تدليس، وسُر موسى بذلك, فهو واثق من نصر الله، واللقاء فرصة لعرض دعوته، وإظهار صدقها على الجمع الغفير دفعة واحدة، وأرسل فرعون إلى مختلف المدن لإحضار كبار العلماء، وقادة السحر، وعرفهم بما جرى له مع موسى وهارون- عليهما السلام- فطمأنوا فرعون وأقسموا بعزته أنهم سيغلبون موسى، واستفسروا عن المكافأة التي سيأخذونها، فعرفهم أنه سيكافئهم ماديا، ويقربهم إليه سياسيا، واجتماعيا. وجاء يوم الزينة، والتقى العلماء والسحرة بموسى وهارون، والجمع حاشد، والكل ينتظر هزيمة كبيرة بموسى، يقول ابن كثير: "وحضر فرعون, وأمراؤه, وأهل دولته، وأهل بلده عن بكرة أبيهم، آملين أن يغلب السحرة، وتثبت ألوهية فرعون"2.

_ 1 سورة طه الآيات: 57, 58. 2 البداية والنهاية ج1 ص254.

تقدم موسى إلى السحرة، وبيَّن لهم قضيته، ونهاهم عن تعاطي السحر الباطل, وخوفهم من عذاب الله إن لم يلتزموا بالحق والصواب، وقد أدى نصح موسى لهم إلى تغيير نظر بعضهم إليه، بعدما علم أن هذا الكلام لا يصدر إلا من نبي؛ ولذلك اختلفوا فيما بينهم، يقول الله تعالى: {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى، فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} 1، قيل: إنهم تنازعوا حول رسالة موسى وصدقه، وقيل: في كون فرعون إلها، وقيل: في صلة سحرهم بالحق، والله أعلم في تنازعهم، لكنهم اتفقوا على بقاء موضوع تنازعهم سرا، وترك الفصل للوقائع والأحداث التي جاءوا لها، على أن يبذلوا أقصى طاقاتهم، ويتحدوا في عمل واحد ليغلبوا، فإذا ما غلب موسى لا لوم عليهم لأنهم لم يقصروا، يصور الله الحالة النفسية للسحرة قبل مباشرة التحدى، فيقول سبحانه: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى، قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى، فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} 2. اصطفّ السحرة، ووقف موسى وهارون أمامهم، وقال كبيرهم لموسى: إما أن تلقي، وإما أن نبدأ نحن بالإلقاء؟ وهو سؤال ينبئ عن رغبتهم في البدء؛ لعلمهم أن رهبة الاستهلال تبقى في النفس لا تزول إلا بإضعاف قوتها التأثيرية ... قال لهم: ابدءوا أنتم، فعمدوا إلى حبال وعصي أعدوها لذلك، قيل: إنها كانت عصيا مجوفة قد مُلئت زئبقا، وكذلك الحبال كانت مصنوعة من جلد مجوف محشو بالزئبق، وقد حفروا قبل ذلك في الأرض حفرا، ووضعوا فيها المواسير المملوءة بوقود النار، فلما طرحت

_ 1 سورة طه الآيات: 61, 62. 2 سورة طه الآيات: 62-64.

العصي والحبال، تحركت بفعل سخونة الزئبق، وقيل: إن من حيلهم إطلاق أبخرة كثيفة تؤثر في العين، أو أنها كانت تتحرك بمحركات خفية كالمغناطيس وغيرها1. وقد جعلهم موسى -عليه السلام- يبدءون؛ لأنه يثق في ربه ودعوته، وحتى يتمكن من إبطال سحرهم أمام الناس، متأكدا أن الله تعالى لا يصلح عمل المفسدين ... نعم ... ألقوا حبالهم وعصيهم، فتحركت في كل اتجاه، وعظم سحرهم في أعين المشاهدين، فخاف موسى -عليه السلام- من فتنة الناس بالسحر، فطمأن الله موسى -عليه السلام- وأمره بأن يلقي عصاه، فألقاها فإذا هي حية عظيمة، ذات قوائم وعنق وبطن وشكل هائل مزعج، جعلت الناس يفرون بعيدا خوفا منها، وأقبلت هذه الحية فابتلعت ما ألقوه من عصي وحبال، بسرعة مذهلة على كثرتها وتنوعها، ونظر السحرة إلى الحية فوجدوا حجمها ثابتا لا يتغير، فهالهم ذلك، وتحيروا ... وأخيرا وجدوا أنفسهم ساجدين، معلنين إيمانهم برب هارون وموسى. يقول الله تعالى, مصورا هذا اللقاء: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى، قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى، فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى، قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى، وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى، فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} 2. يقول سعيد بن جبير، وعكرمة، والقاسم، والأوزاعي، وغيرهم من علماء التفسير: إنما سجد السحرة بعدما رأوا منازلهم وقصورهم في الجنة, وقد تهيأت لهم، وازيّنت لقدومهم؛ ولهذا لم يلتفتوا إلى تهويل فرعون وتهديده ووعيده لما هاله الأمر، وعميت بصيرته وبصره، وأخذ يتحدث بكلام كاذب لا يصدقه فيه أحد.

_ 1 دعوة الرسل ص184، 185. 2 سورة طه الآيات: 65-70.

- قال فرعون للسحرة: آمنتم له، مع أنهم حددوا إيمانهم، وجعلوه لله، إذ قالوا: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} فما موسى وهارون إلا مبلِّغا الدعوة، وعاملان على الإيمان بالله رب العالمين. وقال لهم: {آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} ؛ لأنه بطغيانه وجبروته، يتصور نفسه سيدا على الأبدان وعلى العقول، وما درى هذا الضال أن القلوب تميل للحق، وتقتنع بالصواب، وأنها لو تيقنت أسلمت ولو صدقت أطاعت، لا سلطان عليها إلا لله تعالى؛ لأن القلوب بين إصبعين من أصابع الله. لقد كان فرعون ينتظر من السحرة أن يستأذنوه في أعمال القلوب، مع أن السحرة لما شاهدوا الحق، وانزاحت عنهم غشاوة الضلال، انبهروا بالقدرة الإلهية، فخروا ساجدين، وبعدها أعلنوا إيمانهم. وقال لهم: إن موسى لكبيركم، ومن أين لفرعون هذه المقارنة؟ وهل هو يسلم لموسى بأي منزلة، حتى يجعله كبير علمائه وسحرته، أم إن الفاجعة جعلت فرعون يهرف بما لا يعرف؟ - وقال لهم: علمكم السحر، ولم يسأل نفسه: متى التقى بهم موسى؟ وأين علمهم؟ وإن كانوا تلامذته فلم أقدموا على التحدي مع أستاذهم؟ - وأخذ فرعون في تهديدهم بالعذاب الشديد، الذي به يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ويصلبهم في جذوع النخل العالية، ويتركهم للطير، والسباع تأكل أجسادهم وأبدانهم، وبعدها سوف يعلمون، من الأشد عذابا، ومن الباقي. وخاب فرعون في مقالته وتهديده؛ لأنه يجهل حقيقة الإيمان، ولا يدري أن الإيمان يشمل التصديق بالآخرة، وما فيها من نعيم وثواب، ويعلم عن يقين أنها خير من الدنيا؛ ولذلك رد السحرة على فرعون قائلين له: افعل ما شئت, فكل ما

يمكنك فعله هو جزء من الحياة الدنيا، والإيمان بالله يهون علينا المصائب، ويجعلنا نتحمل الظلم والطغيان صابرين محتسبين. إن الله في الحقيقة هو الخير المطلق، وهو الأبقى، ليس كمثله شيء. ويبدو -والله أعلم- أن فرعون -لعنه الله- عذبهم، وصلبهم -رضي الله عنهم- ونفذ وعيده فيهم، فما ضعفوا وما انتكسوا، يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنه: "كانوا في أول النهار سحرة، فصاروا في آخره شهداء بررة"1، وكان آخر دعائهم: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} . لقد ماتوا حين جاء أجلهم، ولقوا ربهم مؤمنين صالحين، ولو اتبعوا فرعون لماتوا لأجلهم أيضا، ولكانوا لجهنم حطبا، لكنهم -رضي الله عنهم- آثروا الآخرة على الأولى، وسلموا أمرهم لله تعالى، فصاروا في الدنيا مثلا عاليا للمؤمنين، وفي الآخرة لهم الدرجات العلا؛ لأنهم أتوا ربهم مؤمنين صالحين. المسألة الخامسة: أنوار وسط الظلمات في وسط الظلمات يبزغ الفجر، ومن وسط الآلام يتولد الأمل، وما العمل الصالح إلا تكليف بالمشاق تصحبه راحة، ورضى ... وها هو موسى -عليه السلام- يلقى العنت، والمشاق في دعوة فرعون وملئه، إلا أن الله خفف عنه ما لاقاه ببعض المؤمنين الذين آمنوا بدعوته، وسط الركام الهائل من الكفر والضلال، وهؤلاء هم المؤمنون الذين يمثلون نقطة ضوء وسط ظلام البغي والفساد، في مصر القديمة زمن موسى وهارن عليهما السلام. وسأورد شيئا من قصص إيمانهم؛ لأهمية التعريف بهم، فقد تحملوا بلاء قاسيا، وصبروا على الأذى الذي نزل بهم، رغم شدته وجبروته، ولأنهم من أقباط مصر، ومن المقربين لفرعون، ومن الذين عاشوا في قمة سلطان فرعون ليكونوا مثلا، وقدوة

_ 1 البداية والنهاية ج1 ص258.

وسأذكر منهم ما يلي: 1- سَحَرَة فرعون: رأينا أن فرعون جمع خِيرَة علمائه وسحرته، من المدن والقرى، وحَشَرَهم في يوم الزينة، على أمل أن يُغلَب موسى وهارون عليهما السلام. واجتمع السحرة، وأقسموا بعزة فرعون، ربهم وإلههم على النصر، والغلب، ظانين أن موسى وهارون بعض السحرة الكاذبين. ولما ألقى موسى عصاه رأوها غريبة، عجيبة، في صورة حية حقيقية لها أقدام، ورأس، وبطن، وشاهدوها تبتلع عصيهم وحبالهم التي أعدوها، ودعموها بمختلف حيلهم، وطرقهم ... لما رأوا ذلك علموا صدق موسى في رسالته، فسجدوا لله، واتبعوا موسى مؤمنين بربه، ولما يتأثروا بتهديد فرعون, قال تعالى: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} 1، وصلبهم فرعون، وقطع أطرافهم، وانتقلوا من دار الفناء إلى دار الخلد والبقاء، في الفردوس الأعلى عند مليك مقتدر. وقد اختلف المؤرخون في عددهم، يذكر المكثرون أنهم كانوا أكثر من عشرة آلاف وأوصلوهم إلى ثمانين آلفا، والمقلون يذكرون أنهم كانوا أربعين رجلا2. والعقل يميل إلى القلة العددية؛ لأنهم لو كانوا ثمانين ألفا لكونوا جيشا وقوة تقاوم عدوان فرعون، ولفتكوا به، ولو تمكن منهم فرعون لاستغرق في تعذيبهم وقتا طويلا، مع أن المؤرخين والمفسرين يذكرون أن فرعون قتلهم وصلبهم في يوم واحد. وعلى ذلك فعدهم بالعشرات أو بالمئات، أولى من القول بكثرتهم.

_ 1 سورة طه آية: 72. 2 البداية والنهاية ج1 ص245.

يقول ابن كثير: "إن هؤلاء المؤمنين لما أخذهم فرعون لقتلهم، قالوا له يعظونه، ويخوفونه بأس رب العالمين: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} 1، ويقولون له: إياك أن تكون منهم، فكان منهم, {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا، جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} 2, فاحرص أن تكون منهم، فحالت بينه وبين ذلك الأقدار التي لا تغالب ولا تمانع، وحكم العلي العظيم بعذابه العذاب الأليم"3. 2- مؤمن آل فرعون: آمن السحرة برب موسى وهارون -عليهما السلام- واضطرب معسكر فرعون، وظهرت صيحة التخلص من موسى بقتله لخطورته على المجتمع والدين، يقول الله تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} 4, و {الْمَلَأُ} هم سادة القوم وكبراؤهم، يطلبون من فرعون عدم ترك موسى ومن معه أحرارا؛ لأنهم يفسدون الناس، ويدعون إلى ترك عبادة فرعون ونبذ عبادة سائر الآلهة، فيجيبهم فرعون بخطة وضعها إزاء هذه القضية، وهي تقتيل ما يولد للإسرائيليين، من ذكور، وترك البنات، حتى ينقطع نسلهم، ثم يطمئن الملأ على قوته، وعلوه، وسلطانه، كما هو شأنه دائما.

_ 1 سورة طه آية: 74. 2 سورة طه الآيات: 75, 76. 3 البداية والنهاية ج1 ص258. 4 سورة الأعراف آية: 127.

إنه لم يتحدث معهم في قتل موسى كما طلبوا؛ لأنه في قرارة نفسه -والله أعلم- كان متيقنا من صدق موسى، وأنه كان يخاف إن أصابه بسوء بعدما رأى من آياته ومعجزاته، يدل على ذلك قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} 1. فقوله: {ذَرُونِي} من باب التمويه، والإبهام بأنهم هم الذين يمنعونه من قتله ... لأن من يقصد القتل لا يعلن عزمه، وإنما يلجأ للتنفيذ مباشرة ... ويتم فرعون مقالته لهم بالخوف على الناس من موسى؛ لأن موسى -عليه السلام- إما أن يبدل دينهم، أو أن يظهر في الأرض الفساد، وعليهم أن يحذروه، ولا يسمعوا قوله. علم موسى بما يدور في معسكر فرعون بشأنه، فلجأ إلى الله: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} 2، اعتصم بالله، وتوكل عليه لينقذه من طغيان فرعون ومن كل طاغية يتكبر في الأرض، ولا يؤمن بالله، ولا بيوم الحساب، فليس هنالك إذًا ما يمنعه من الظلم، والفساد، والقتل، والتدمير. ولما قويت مؤامرات فرعون، وتعاون الملأ على موسى، غضب رجل من آل فرعون قيل: هو ابن عم فرعون، وليس إسرائيليا، لقوله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} ، وفهم الآية على السياق الوارد أولى من القول بالتقديم والتأخير؛ ليصير المعنى: رجل يكتم إيمانه عن آل فرعون، كما قال البعض، على اعتبار أن الرجل كان إسرائيليا. ومما يرجح أن الرجل كان قبطيا من آل فرعون، أن فرعون سمح له بهذا الحديث الطويل، وانفعل بكلامه، واستمع له، ولو كان إسرائيليا لعاجله بالعقوبة3, والأخذ بالظاهر هنا أولى.

_ 1 سورة غافر آية: 26. 2 سورة غافر آية: 27. 3 تفسير الزمخشري ج4 ص161، وابن كثير ج4 ص77، والقرطبي ج15 ص306.

آمن الرجل بموسى سرا، ولم يجد بدا من إظهار إيمانه، وإعلان غضبه على فرعون وملئه لظلمهم, وعدوانهم، وتفكيرهم في قتل موسى, وأخذ في مناقشتهم بعقل، وحكمة. لقد نصح المؤمن قومه بحق، وسلك في نصحه لهم منهجا رشيدا وخطة حسنة، فهو واحد منهم، يهمه شأنهم، ويعرف طبائعهم واتجاهاتهم؛ ولذلك تعامل معهم بما يليق بهم, وكان دائما يخاطبهم بقوله: {يَا قَوْمِ} . ومن منهجه في مخاطبة فرعون وقومه، تقدير فكرهم، ومحاولة إيقاظ عقولهم بالاستفهام المتكرر، المتصل بواقع الحياة التي يعيشونها، وكان ينتقل معهم من مسألة إلى مسألة، ترفقا بهم، وكان يبين لهم في كل مرحلة حرصه عليهم، وتمنيات النجاة لهم, وأمل استمرار الملك فيهم: أ- قال الرجل لقومه ما حكاه الله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} 1, وهو بذلك يعرض عليهم الموضوع، ويناقش عقولهم، بعيدا عن العصبية والانفعال ورد الفعل، وبلا تحيز ظاهر لموسى أو لدعوته، ويبين لهم أن موسى إما أن يكون كاذبا، أو صادقا، وخير لهم أن يتجنبوا إيذاءه في الحالتين؛ لأنه إن كان كاذبا فسيتحمل عقوبة كذبه بعيدا عنكم، وإن كان صادقا، فستحل بكم عقوبة الكفر به، فلا تضيفوا إليها جريمة قتله، فيتضاعف عذابكم2؛ لأن احتمال صدقه أقوى، فقد جاءكم بالبينات المؤيدة له,

_ 1 سورة غافر آية: 28. 2 يقول المفسرون: ومن معانيها "كل الذي يعدكم"، فبعض بمعنى كل، وذهب آخرون إلى أن المراد أن البعض مهلك، فما بالكم بالكل.

واعلموا أن الكذاب، المكثر في الإفك، لن يوفقه الله للخير أبدا، مهما كان ... ب- ثم انتقل إلى مسألة ثانية، وهي قضية الملك، قال تعالى: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} 1. وفي هذه المسألة يوضح لهم أن الملك بيدهم الآن، وهم به ظاهرون في الأرض وعلى الناس، وهذا أمر يجب أن يحافظوا عليه، وعليهم أن يفكروا في بأس الله الذي خوفهم منه، من ناحية كيفية مواجهته، والانتصار عليه، في حال صدق موسى، ولن يقدر عليه أحد لأنه من الله تعالى ... في هذه المسألة يضع نفسه معهم، في حال مجيء بأس الله، وهو إظهار لحرصه عليهم، وعلى الملك الذي جعله لهم خاصة من دونه. إنه يُوقِظ عقولهم أمام حقائق الحياة، حتى لا يستمروا في أمانيهم وأحلامهم، التي لا تتصل بحقيقة الوجود، وحركة الحياة. وقد رأى فرعون خطورة حديث الرجل؛ لأنه يلامس العقل المجرد، ويعرض المسألة كما هي واضحة أمام الناس، فأراد أن يصرف الناس عنه، فقال لهم ما تشير إليه الآية في أن الرأي الصائب هو رأيه، وأنه يعمل لمصلحتهم، ورشدهم، وسعادتهم، وعليهم أن يطمئنوا لذلك. جـ- وبعدها انتقل الرجل إلى مسألة أخرى، وهي خوفه على الناس من عذاب الله أن يحل بهم في الدنيا، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ، مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} 2، إنه يذكرهم بأحداث الأمم التي سبقتهم، فقد

_ 1 سورة غافر آية: 29. 2 سورة غافر الآيات: 30, 31.

كذبوا رسلهم، ولم يؤمنوا بدعوتهم، فأهلكهم الله تعالى، جزاء كفرهم وضلالهم، وأعلن الرجل لهم أنه يخاف عليهم من نزول الهلاك بهم؛ لأن الله بعدله يمهل ولا يهمل. د- ثم يبين لهم أنه يخاف عليهم من عذاب الآخرة، يقول تعالى: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ، يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} 1 ... ومع هذه المسألة يوضح الرجل لقومه، أنه يخاف عليهم من عذاب يوم القيامة، حيث لا قوة إلا لله، وحيث لا يرى الظالمون نصيرا أو معينا، ينادي بعضهم بعضا ولا مجيب، ويفرون من العذاب، لكن إلى عذاب آخر أشد وأنكى؛ لأن يوم الآخرة يوم شديد, لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. هـ- وينتقل الرجل إلى إظهار أخطاء القوم في تقدير رسالة موسى وهارون، اعتمادا على تجربة لهم سابقة، يقول تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ، الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} 2، وهذه التجربة دليل واضح على سوء التقدير لديهم، فلقد جاءهم يوسف -عليه السلام- من قبل بدين الله تعالى، ودعاهم إلى التوحيد، وأظهر المعجزات الدالة على صدقه، وهو نفس ما فعله موسى عليه السلام.

_ 1 سورة غافر الآيات: 32, 33. 3 سورة غافر الآيات: 34, 35.

لكنهم كفروا برسالة يوسف -عليه السلام- ولم يؤمنوا به، وقالوا بعد موته: {لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} ، وظهر كذبهم بمجيء موسى وهارون -عليهما السلام- رسولين إليهم، وهذا ضلال في التفكير، والتقدير، سببه التمادي في الشك، والبعد عن الله تعالى. إن موقفهم أساسه الكبر، والطغيان، والجدل في الحق بلا دليل من العقل أو الشرع، وبذلك حلت عليهم لعنة الله، ونزل بهم غضبه؛ لأن الله يطبع على قلب كل متكبر جبار، ومن تعود المعصية استمرأها، ومن استمرأها صارت له مذهبا، وطريقا. و ثم أخذ يبين لهم قيمة الحياة الدنيا، وزخارفها بالنسبة للآخرة، فمتاع الدنيا قليل وزائل، أما متاع الآخرة فمستقر ودائم وكثير، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ، يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ، مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} 1. وقد تفضل الله على الناس فجعل جزاء السيئة بمثلها، وأما من عمل صالحا فجزاؤه غير محدد، ويكفي أنه يدخل الجنة يتمتع فيها بغير حساب. ز- وينهي الرجل المؤمن حديثه مع الناس، ويوضح لهم أنه يدعوهم إلى النجاة والخير، وهم يدعونه إلى النار والإثم، وأنه سيدعهم ويترك الأمر لله العليم بكل شيء, قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ، تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ

_ 1 سورة غافر الآيات: 38-40.

الْغَفَّارِ، لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ، فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} 1. وقد سكت فرعون عن الرجل أولا لقرابته، فلما تبين خطورته حاول قتله، إلا أن الله نجاه منه، قال تعالى: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} 2. 3- آسية زوجة فرعون: هي آسية بنت مزاحم، زوجة فرعون، جعلها الله سببا في نجاة موسى من الذبح؛ لأنها لما رأته في التابوت سُرت به، وقالت لزوجها: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} 3 فوافقها، ولما همّ فرعون بقتله يوم أن نتف شعر لحيته اعتذرت له لصغره، فعفا عنه. ولما بعث موسى -عليه السلام- آمنت به، وأسلمت لله رب العالمين، ورفضت أن تعود الكفر، رغم إلحاح فرعون عليها. ويقال: إن سبب إيمان آسية، أنها سمعت كلام أرواح أبناء ماشطة فرعون وهم يبشرونها بالثواب الجزيل، والعطاء الوافر، ثم أطلعها الله تعالى على مقام الماشطة بعد وفاتها؛ فازدادت إيمانا، ورسوخا. وقد عذبها فرعون بربط يديها ورجليها في أوتاد، ووضعها في حر الشمس وقال لجنوده: انظروا أعظم صخرة تجدونها، فإن مضت على إيمانها بموسى

_ 1 سورة غافر الآيات: 41-44. 2 سورة غافر آية: 45. 3 سورة القصص آية: 9.

فألقوها عليها، وإن كفرت فهي امرأتي، فلما أتوها وسألوها رفعت رأسها إلى السماء فأبصرت بيتها في الجنة، فمضت على قولها، وتمسكت بإيمانها، فنزع الله روحها، فلما ألقيت الصخرة، ألقيت على جسد بلا روح. عن سلمان: كانت الملائكة تظللها من الشمس بأجنحتها.... وعن أبي العالية: إن فرعون جاء لمشاهدتها وهي تعذب، فأراها الله بيتها في الجنة فضحكت، فقال فرعون: أتعجبون لهذه المجنونة، نحن نعذبها، وهي تضحك؟!! وعن امرأة فرعون يقول الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 1، وجعل الله إيمان آسية مثلا يضربه للمؤمنين الذين تنكشف أمام بصائرهم الحقائق، فيتمسكون بها، ولا تغرنهم الدنيا، ولا يلعب بعقولهم إبليس وجنوده. إن امرأة فرعون ضربها الله مثلا عاليا من عدة وجوه: أ- اختارت أن تكون عند الله، وتحيا في جنته، بعيدا عن ملك فرعون، وقصوره، وخدمه، وحشمه، لأن دنيا هؤلاء الناس.... على نقيض حكم الله، ليس لها قيمة وإن تزخرفت، وتزينت. ب- طلبت أن يكون لها بيت واحد في الجنة عند الله، وبذلك اختارت الجار قبل الدار، ولبيت كريم بصحبة كرام خير من ألف بيت يسكنه لئام، ظالمون. ج- تبرأت من ظلم فرعون، وعمله، برغم أنها تعيش معه، لكنها لم تتأثر بضلاله، فجعلها الله مثلا للمؤمنين؛ ليعلموا أن الله حكم عدل، لا يؤاخذ أحدا إلا بذنبه، وأنه لا يضر المؤمن أن يعاشر الكافرين والظلمة، إذا كان محتاجا إليهم، ما دام

_ 1 سورة التحريم آية: 11.

لا يشاركهم الظلم، ولا يعينهم عليه، فوالله ما ضر كفر فرعون آسية في شيء أبدا. د- يلجأ المؤمن إلى الله في وقت اضطراره وشدته، وليس عليه إن حدد سبب الطلب، والغاية التي يتمناها، فهو سبحانه يجيب المضطر إذا دعاه. جاء في الظلال: "وموقف امرأة فرعون مثل في الاستعلاء على عرض الحياة الدنيا، في أزهى صوره، فقد كانت امرأة فرعون أعظم ملوك الأرض يومئذ، تسكن في قصر فرعون، أمتع مكان تجد فيه امرأة ما تشتهي ... لكنها استعلت على هذا بالإيمان ولم تعرض عنه فحسب، بل اعتبرته شرا، ودنسا، وبلاء، تستعيذ بالله منه. وهي امرأة واحدة في مملكة عريضة، قوية، تقف وحدها وسط ضغط المجتمع, وضغط القصر، وضغط الملك، وضغط الحاشية ... في وسط هذا كله رفعت رأسها إلى السماء، ونادت الله. إنها نموذج عالٍ في التجرد لله ... ومن ثم استحقت الذكر في كتاب الله الخالد، الذي تتردد كلماته في جنبات الكون، وهي تتنزل من الملأ الأعلى إلى العالم كله ... وفي الزمن كله"1. 4- ماشطة بنت فرعون 2: آمنت برسالة موسى -عليه السلام- وكانت تمشط لبنت فرعون شعرها، وذات يوم جلست تمشطها، فسقط المشط من يدها, فقالت: باسم الله، تعس من كفر بالله، فقالت لها ابنة فرعون: ألك رب غير أبي؟ قالت: ربي, ورب أبيك، ورب كل شيء هو الله. فلطمتها بنت فرعون، وأخبرت أباها، فأخذ يعذبها, ويقيدها بالأوتاد، ويسلط عليها الحيات، ويسألها: ما أنت منتهية؟

_ 1 في ظلال القرآن ج28 ص174, دار العربية للطباعة والنشر. 2 انظر قصتها في تفسير ابن كثير ج4 ص394.

فتقول له: ربي وربك ورب العالمين هو الله، فأخذ يذبح أولادها أمامها، واحدا واحدا، ولكنها تزداد إيمانا؛ لأن أرواح أبنائها كانت تأتيها، وتبشرها بالثواب وتدعوها إلى الصبر، وكشف الله لها الغطاء، فرأت منزلتها في الجنة، وتحملت ما نزل بها حتى لقيت ربها, رضي الله عنها. وهكذا كانت النجوم تبعث الضوء والأمل، في ظلمات الليل البهيم ليبقى الأمل، ويستمر الخير بين الناس، وإن كان قليلا. المسألة السادسة: استمرار فرعون في ضلاله استمر موسى -عليه السلام- في دعوة فرعون، وأمده الله تعالى بالآيات البيِّنات تشهد بصدقه، وتؤيده في دعوته، وأهم هذه الآيات هي: 1- العصا، قال تعالى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} 1. 2- اليد، قال تعالى: {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِين} 2. 3- الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} 3. ومع ذلك استمر فرعون في كفره، واستخفافه بالناس، حيث كان لا يرى لهم إلا رأيه، ولا يقر لغيره -إن خالفه- برأي أو سداد. ومن أقوال الناس: قال تعالى: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ، أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ، فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَه

_ 1 سورة الشعراء آية: 32. 2 سورة الشعراء آية: 33. 3 سورة الأعراف آية: 133.

الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} 1، وقال تعالى: {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} 2، وقال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} 3. وهكذا استخف فرعون بعقول أهل مصر, واستعبدهم، ودعاهم إلى عبادته فاتخذوه إلها، رغم وضوح الطريق، وظهور الحجة ... لكنه الضلال والظلم يعادي الحق، ولا يرضى له بالوجود. المسألة السابعة: نهاية فرعون أصر فرعون وقومه على الكفر، ولم يأبهوا بالآيات بعدما عاينوها ولمسوها في حياتهم، وكانوا كلما أحاطتهم الضفادع، والقمل، والجراد، والطوفان، والدم، استغاثوا بموسى، فإذا رُفعت عنهم عادوا لكفرهم، يقول الله تعالى: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} 4. واتهم فرعون موسى بالسحر وبالجنون، واشتد في إيذائه للإسرائيليين، فاتجه موسى -عليه السلام- لله، مستجيرا به، سائلا إياه أن ينزل نقمته بفرعون وقومه، وأن يطمس على أموالهم، ويشد على قلوبهم؛ ليستمروا في العذاب، فاستجاب الله له

_ 1 سورة الزخرف الآيات: 51-53. 2 سورة الشعراء آية: 27. 3 سورة القصص آية: 38. 4 سورة الأعراف الآيات: 134, 135.

يقول تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ، فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} 1، فأنزل الله بهم القحط، والجدب، والجوع، وكانت تأتيهم فترات خصب وسعة، فيقولون: هذه لنا بعملنا واستحقاقنا، وإذا جاء الجدب والقحط تشاءموا بموسى "وما علموا أن كل ما ينزل بهم هو قدر الله تعالى". وأصروا على كفرهم، وأعلنوا ذلك لموسى، فجاء من قبل الله عذاب في صور شتى، ومتتابعة ... يقول تعالى: {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ، فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} 2. يذكر المفسرون أن موسى -عليه السلام- عاش مع قوم فرعون بعد إيمان السحرة أربعين عاما, يظهر لهم الآيات، وهم بين الكفر والإيمان مترددون، منافقون. قالوا لموسى: ادع ربك يمطرنا فجاءهم الطوفان فكفروا، فأهلك الله زرعهم ودوابهم ... فسألوا موسى رفع الطوفان، فرفعه الله، ونبت الزرع فكفروا, جاءهم الجراد وأكل الزرع ... فسألوا موسى رفع الجراد فرفعه الله فكفروا.... فأرسل الله عليهم القمل وهو حشرة صغيرة مدببة أكلت الدواب، والزروع، ولصقت بالجلود، ومنعتهم من النوم ... فسألوا موسى رفعه، فلما رفعه الله كفروا، فأرسل الله عليهم الضفادع فملأت بيوتهم، وفرشهم، وأمتعتهم، وطعامهم، وشرابهم، فسألوا موسى

_ 1 سورة الأعراف الآيات: 130, 131. 2 سورة الأعراف الآيات: 132, 133.

رفعه، فلما رفعت كفروا ... فأرسل الله عليهم الدم، وصار نهر النيل دما يشربه الإسرائيلي ماء، ويشربه القبطي دما.... وهكذا1. ومع كل هذه الآيات المفصلة البينة، وما بينها من تباعد زمني، أصروا على كفرهم، فأمر الله موسى وهارون أن يأخذا قومهما، ويرحلا إلى برية سيناء، فخرجوا جميعا تجاه بحر القلزم "الأحمر" واتبعهم فرعون بجنوده يريد القبض عليهم والفتك بهم، وعند البحر، حيث الأمواج العالية، ألقى موسى عصاه، فانفلق البحر وانشق، وظهر فيه طريق جاف، يربط الشاطئين، فعبره موسى وقومه، وتبعهم فرعون وجنوده، فلما كانوا في الوسط انطبق البحر، وتلاقى الماء، وغرق فرعون وعدد من جنوده يقول الله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} 2. ولم يقبل الله توبة فرعون في وقت الغرق؛ لأن التوبة لا تقبل إذا حدثت بعد مجيء الموت. وقد طافت جثة فرعون على الماء، فأخرجها المصريون وحنطوها، لتبقى عبرة لمن يعتبر، وذكرى لمن كان له عقل، وحتى لا يكون هناك عذر للغافلين.

_ 1 تفسير القرطبي ج7 ص267-271 بتصرف. 2 سورة يونس الآيات: 88-92.

وقد أهلك الله فرعون في يوم عاشوراء، وهو اليوم الذي نجى الله فيه موسى، فعن ابن عباس -رضي الله عنه- أن رسول الله لما قدم المدينة, وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فقال النبي صلى الله عليه سلم: "ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ " فقالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله فيه بني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى، قال: "فأنا أحق بموسى منكم" فصامه، وأمر بصيامه1. وقد رحل موسى وهارون -عليهما السلام- من مصر ومعهما الإسرائيليون, وقد حملوا معهم جثمان يوسف -عليه السلام- تنفيذا لوصيته.

_ 1 صحيح البخاري بشرح فتح الباري, كتاب الصوم, باب صيام يوم عاشوراء.

ثانيا: حركة موسى بالدعوة للإسرائيليين دعا موسى الإسرائيليين كما دعا فرعون وقومه، ولم يستجب له من الإسرائيليين إلا عدد قليل؛ لخوفهم من فرعون وقومه، وحثهم موسى على عدم الخوف، والتوكل على الله؛ لأن الخوف يتعارض مع الإيمان، فأعلنوا توكلهم على الله، وسألوه ألا يجعلهم فتنة للظالمين، يقول الله تعالى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ، وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ، فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} 1، وقد استجاب الله لهم، ومَنَّ عليهم، بإهلاك فرعون وملئه، ونجاة الإسرائيليين، وأورثهم الأرض الطيبة

_ 1 سورة يونس الآيات: 83-86.

يقول تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} 1. ولما عبر الإسرائيليون البحر، ووصلوا إلى الشاطئ الشرقي، لم يجدوا ماء يشربون منه، أو يسقون دوابهم، فشكوا لموسى، وطلبوا منه الماء، فأمره الله أن يضرب الحجر بعصاه, فلما ضربه تفجّرت منه اثنتا عشرة عينا، فجعل لكل قبيلة عينا. ولما ساروا في الصحراء، تألموا من حرارة الشمس، فشكوا لموسى, فأظلّهم الغمام، يقيهم من الحر. ولما قل طعامهم، وشعروا بالجوع، شكوا لموسى، فأنزل الله عليهم المن والسلوى2, يقول الله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} 3، وهكذا، أحاطتهم النعمة من كل جانب، وغمرهم فضل الله تعالى، وصار لزاما عليهم أن يطيعوا موسى -عليه السلام- ويتبعوا دينه الموحى به من الله تعالى.

_ 1 سورة الأعراف آية: 137. 2 المن: رطوبة تلتصق بورق الشجر تشبه في طعمها العسل، والسلوى: طائر الحبارى أو السمان. 3 سورة الأعراف آية: 160.

وقد تفضل الله على الإسرائيليين كثيرا، فدخلوا مصر آمنين، وعاشوا مع نبي الله يوسف -عليه السلام- ولما سقط حكم الرعاة، وجاءت الأسرة الثامنة عشرة في مصر القديمة، وطردت الرعاة، أخذت في اضطهاد الإسرائيليين, واستعبادهم، وقتل الذكور، وترك الإناث، فبعث الله موسى وهارون -عليهما السلام- لإنقاذ الإسرائيليين، فطلبا من فرعون أن يرسلهم معهما ليرحلوا بعيدا عن مصر، فأبى. وقد هيأ الله لهم الحياة في مصر، فبوّأهم بيوتا فيها، وجعل بيوتهم قبلة، وبشر الله المؤمنين منهم بالخير، يقول تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} 1، يذهب مجاهد أن المراد بمصر هي مدينة "الإسكندرية"، ويرى الضحاك أنها تعم كل مصر من البحر إلى أسوان، والإسكندرية من أرض مصر2، وقد هيأ الله السكن للإسرائيليين في كل أرض مصر ... ولما هدم فرعون بيعهم, أحل الله لهم الصلاة في بيوتهم، قال تعالى: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} 3. وأورث الله لهؤلاء الإسرائيليين أرض مصر والشام، وبارك لهم في زروعها وثمراتها، وأتم الله عليهم نعمته كلها، وكان المأمول أن يستمر الإسرائيليون على طاعة الله، ويداوموا على منهجه؛ ليعيشوا متمتعين في آلاء الله ونعمه، لكن هذا الأمل لم يتحقق، وسرعان ما ظلموا، وغيروا، وبدلوا.

_ 1 سورة يونس آية: 87. 2 تفسير القرطبي ج8 ص371. 3 سورة الأعراف آية: 128.

ولحكمة أرادها الله تعالى أخذ يبين مخالفاتهم لموسى -عليه السلام- ويعدد المعاصي التي ارتكبوها واحدة واحدة، وسوف أتحدث عنها، وبخاصة أنها توضح المخالفة، وتبين طبائع النفس، وتشير إلى العناصر الأساسية التي تتكون منها الشخصية الإسرائيلية، وسأعقد لكل مخالفة مسألة، وذلك فيما يلي: المسألة الأولى: حنين الإسرائيليين إلى الأصنام شاهد الإسرائيليون معجزات موسى -عليه السلام- وعاشوا في النعم والآلاء التي تفضل الله عليهم بها، وآمنوا بدين موسى -عليه السلام- ومع هذا كانت تعاودهم الوثنية التي ألفوها خلال حياتهم في مصر، وغلبتهم ماديتهم التجسيدية، ولم تمنعهم عظمة النعمة من الانتكاسة السريعة، والخضوع للشهوة؛ لأن التكوين الطبيعي أقوى تاثيرا من المكتسب؛ ولذلك جاءوا لموسى بعد أن نجاهم الله من الغرق، وطلبوا منه أن يجعل لهم صنما يعبدونه، كما يفعل أقوام التقوا بهم في سيناء، وهم العماليق، يقول الله تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} 1. طلب غريب عجيب!! يريدون صنما يعبدونه من دون الله، ويطلبون من موسى أن يوجد هذا الصنم لهم!! إنه طلب يؤكد صفاتهم, وأخلاقهم القائمة على الجحود، والجهل، والتوجه المادي، والرغبة في التبعية، والإحساس بالضعف. أما الجحود فإن نجاتهم من الغرق، وفلق البحر أمامهم، معجزة لم يجف مدادها بعد، ومع ذلك يكفرون بالله فور رؤيتهم لقوم يعكفون على أصنام لهم، ويطلبون من موسى أصناما يعبدونها مثلهم، ويهملون كل شيء.

_ 1 سورة الأعراف الآيات: 138-140.

وأما الجهل فإنهم لم يقدروا الأمور قدرها، واتخذوا من هؤلاء الناس قدوة لهم، مع أن الله سيهلكهم، ويبطل عملهم، ويعذبهم على كفرهم ... وكيف يأملون من موسى أن يوجد لهم صنما يعبدونه، وقد أفنى عمره في الدعوة إلى التوحيد ... وكيف يبحثون عن صنم مع أن الله أكرمهم، وفضلهم على الأمم من حولهم!! وأما ماديتهم فإنهم طلبوا إلها من الحجر، وانصرفوا عن الله الذي عرفهم به موسى، وأظهر لهم قدرته، وبين لهم اتصافه بكل كمال يليق به سبحانه وتعالى. وأما ميلهم إلى التبعية فإنهم يريدون مثل ما رأوا عند الناس؛ لإحساسهم أنهم أفضل منهم، وتبعيتهم لهم تضمن لهم الحياة والاستقرار. وأما إحساسهم بالضعف: فإنهم لجئوا لموسى ليصنع لهم إلها، وكان يمكنهم أن يوجدوه بأنفسهم، ولأنفسهم، لكنهم لشعورهم بالضعف طلبوا من الغير أن يصنع لهم. المسألة الثانية: طلبهم الطعام الأدنى تابع الإسرائيليون سيرهم مع موسى في صحراء سيناء، واحتاجوا إلى الماء, ففجر الله لهم من الحجر اثنتي عشرة عينا، خصص موسى عينا لكل قبيلة، ولما اشتد حر الشمس عليهم أظلهم الغمام، ولما جاعوا أمدهم الله بالمن والسلوى. والمن مادة رطبة تنزل من الجو كما ينزل الطل، وتتجمع على الحجر وورق الشجر، وطعمها حلو يشبه العسل ... والسلوى طائر السمان، وكان يأتيهم على هيئة أسراب متلاحقة، يغطي الأرض بكثرته. والمن والسلوى، من أطيب الطعام؛ للذة مذاقه، وكثرة فوائده، وجمال منظره، يقول تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى

كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} 1. نعمة عظيمة، أتتهم من الله تعالى، بلا جهد أو تفكير، وكان عليهم أن يسعدوا بإنزالها عليهم، ويشكروا المنعم على ما تفضل به، لكنهم كفروا بالنعمة، وتبرموا بها، وطلبوا من موسى غيرها، يقول تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} 2. إنهم لجهلهم وجحودهم، آثروا تنوع الأطعمة وإن قلت قيمتها، وساء مذاقها. إنهم يطلبون الفول والقثاء، والعدس، والبصل، والثوم، وهي أنواع منتشرة في كل أرض الله، وهي طعام العامة، وجهل الإسرائيليين جعلهم يفضلونها على المن والسلوى. وأيضا, فإن هذا الطلب يدل على جحودهم؛ لأنهم لو قدروا الله حق قدره، لعلموا أن عطاءه كريم، عظيم، وعطاء العظيم الكريم لا بد أن يكون أفضل، وأعظم. يقول القرطبي: "وفضل المن والسلوى على ما طلبوه, من وجوه: 1- المن والسلوى طعام نزل من الله عليهم، وأمر بأكله، وفي استدامة أمر الله، وشكر نعمته أجر، وذخر في الآخرة، أكثر مما في غيره. 2 - ما مَنّ الله عليهم به ألذ، وأطيب من الذي سألوه. 3- ما من الله به عليهم يأتيهم بلا كلفة، ولا عمل، ولا تعب. 4- ما من الله عليهم حلال، خالص من أي شائبة معصية.

_ 1 سورة الأعراف آية: 160. 2 سورة البقرة آية: 61.

وكان رد موسى -عليه السلام- عليهم: {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} 1. وهو أمر يصعب تنفيذه، من باب قوله تعالى: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} 2؛ لأنهم كانوا في التيه بعيدين عن أي مصر3. ولذلك رفض موسى -عليه السلام- طلبهم, وعرفهم أن الذي يطلبون هو الدني، ولا يصح أن يقدموه على ما هو خير منه. إن طلبهم يدل على ما عندهم من عناد، وما في طباعهم من خسة، وما في فكرهم من طمع، وتمرد على القدر، وعلى الخير. وقيل: إن الله استجاب لطلبهم، وأسكنهم مصر فرعون، وضرب عليهم الذلة والمسكنة، وباءوا بغضب منه سبحانه وتعالى. والأولى القول بأن موسى -عليه السلام- رفض طلبهم، وعنّفهم، وبين لهم أن هذه المزروعات توجد في الأمصار التي يسكنها عامة الناس، وأنهم بعيدون عنها، ويؤيد هذا أن الله أمرهم بعد ذلك بدخول القرية المقدسة، وأنهم سكنوا الشام بعد التيه. المسألة الثالثة: طلبهم رؤية الله جهرة أخبر موسى -عليه السلام- قومه الإسرائيليين وهم بمصر، أن الله سيهلك عدوهم، وأنه سينزل عليهم كتابا، ينظم حياتهم، ويضع المنهج الذي يعيشون به، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب، وهو في سيناء، فأمر الله تعالى أن يقصد سفح جبل الطور الأيمن، ويمكث فيه صائما ثلاثين يوما، وزادها الله عشرة، صامها موسى -عليه السلام- وتم ميقات ربه أربعين يوما، وبذلك تهيأ لملاقاة الله.

_ 1 سورة البقرة آية: 61. 2 سورة الإسراء آية: 50. 3 تفسير القرطبي ج1 ص428، 429.

اختار موسى من قومه سبعين رجلا يحضرون معه الميقات، وحضروا، واستمعوا كلام الله تعالى، وشاهدوا كل ما حل بموسى، يقول الله تعالى مصورا هذا اللقاء: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ، وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} 1. والآيات توضح أن موسى -عليه السلام- استخلف أخاه هارون -عليه السلام- في قومه، وهو غائب عنهم، وأمره بملازمة الإصلاح، والبعد عن مناهج المفسدين الضالين. كما يتضح من آيات القرآن الكريم أن موسى -عليه السلام- طلب من الله أن يريه ذاته، فقال الله: لن تتمكن من رؤيتي، ولكن انظر إلى الجبل, فإن استقر مكانه، إذا تجليت له فسوف تراني، فلما تجلى الله للجبل اندك، فخر موسى صعقا، وعلم أن رؤية الله عيانا أمر مستحيل؛ لأن الله ليس كمثله شيء، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار, وهو اللطيف الخبير. شاهد السبعون كل هذا، وسمعوا الحوار، ورأوا الأحداث والوقائع، ومع ذلك طلبوا من موسى طلبا غريبا وهو أن يروا الله جهرة، وهذا أمر غير ممكن، يقول الله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} 2، فطلبوا رؤية الله عيانا، مشخصا، ولم يعتبروا

_ 1 سورة الأعراف الآيات: 142, 143. 2 سورة البقرة آية: 55.

بكلام الله لموسى، ولا بما حدث لموسى، وإنما طلبوا أن يظهر الله لهم جهرة، فنزلت بهم الصاعقة، وأهلكتهم، وهم ينظرون حولهم، ثم دعا موسى -عليه السلام- ربه ليعودوا إلى الحياة مرة أخرى، فأعادهم الله رجاء أن يشكروا النعمة، ويؤدوا حق المنعم.... المسألة الرابعة: عبادة العجل لما ذهب موسى -عليه السلام- لميقات ربه، استخلف أخاه هارون -عليه السلام- الذي عرف باللين، والهدوء، فانتهز السامر فرصة غياب موسى -عليه السلام- وشكك في صدقه، وبخاصة بعدما أخلف موسى موعد معهم، وقال لبني إسرائيل: إنما أخلف موسى موعده معكم، لما معكم من الحلي التي سرقتموها من المصريات، فهي حرام عليكم، وطالبهم بالتخلص منها، وإلقائها في النار، فاستجابوا له، وجمعوا الذهب، وألقوه في النار، فصنع منه السامر هيكلا تجسد أمامهم في صورة عجل، يصدر صوتا، له خوار1، وقال لهم: هذا إلهكم، وإله موسى فأطاعوه,

_ 1 تفسير الرازي ج22 ص103، هذا وقد قال العلماء: إن سبب الصوت خديعة صنعها السامر, وذلك بفتح ثقب في جسد العجل، يصدر الصوت مع هبوب الريح. وقيل: بل هو من فتنة الشيطان للإسرائيليين، وقيل: إن السامر رأى جبريل -عليه السلام- يوم انفلاق البحر يخوض الماء بفرسه "حيزوم" وكانت إذا مست شيئا أحياه الله، فأخذ السامري ترابا حيا من تحت أقدام الفرسة، واحتفظ به ووضعه في فم العجل فأخرج الصوت. وقيل: بل هي فرسة جبريل يوم أن جاء ليصعد بموسى, عليه السلام. وقيل: بل رآها السامري مرة ما، ودليل القائلين بأنه تراب الفرسة قوله تعالى: {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} , فالقبضة تراب من أثر جبريل. ويستبعد الشيخ عبد الوهاب النجار ما يقال عن أن الصوت سببه تراب الحياة، ويرى أنها من الريح في فتحة بالعجل المصنوع, ويرى أن معنى الآية: أن السامر بصر بعجل مصري لم يره الإسرائيليون، وأخذ جزءا من تعاليم موسى الخاصة بالتوحيد، وأبعدها عن الإسرائيليين، وهي المرادة بالقبضة التي نبذها من آثار موسى الرسول، وبعد ذلك رأى الفرصة مواتية للعب بعقول الإسرائيليين "قصص الأنبياء ج1 ص220".

وعبدوه، واتخذوه إلها، وادعوا أن موسى نسيهم عندما خرج للقاء ربه. يصور الله عبادة الإسرائيليين للعجل، فيقول تعالى: {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ، فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} 1. والسامري هذا، رجل مصري كان يعبد البقر، دخل في دين موسى ظاهرا، وقيل: هو إسرائيلي، من قبيلة تعرف بالسامرة في بلاد الشام2، والأوزار التي حملوها معهم من مصر، هي ذهب المصريات استعارته الإسرائيليات منهن، وهربن به. وعبد الإسرائيليون العجل، وأخذوا يرقصون حوله، ويلعبون، وتحققت أمنية لهم، رجوها طويلا من قبل، ولم يفكروا في هذا الإله البقرة، مع أنه لا يتكلم معهم ولا يرد عليهم، ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا. إنهم بعبادتهم للعجل أكدوا طباعهم الوثنية، وبرهنوا على تعودهم نقض المواثيق، فلقد عاهدهم موسى -عليه السلام- على ضرورة الاستقامة على دين الله وطاعته، وأن يتجنبوا أية مخالفة وهو غائب عنهم.... ولكنهم لم يخالفوا في جزئية، بل تركوا الدين بالكلية، يقول الرازي في تفسيره: "إن القوم كانوا من الجهالة، بحيث اعتقدوا أن ذلك العجل المعمول في تلك الساعة هو الخالق للسموات والأرض، وكانوا في نهاية البلادة والجلافة؛ لتصديقهم أن صوت البقرة "الخوار" يناسب مقام الألوهية"3.

_ 1 سورة طه الآيات: 87, 88. 2 تفسير القرطبي ج11 ص233، 234. 3 تفسير الرازي ج22 ص104.

وقال رحمه الله: "إن تصور رجوع عدد يقرب من ستمائة ألف عن الدين الحق، دفعة واحدة، إلى عبادة العجل، ثم رجوعهم إلى الدين الحق بعد رجوع موسى إليهم؛ تصور عجيب يؤكد بلاهتهم، وتعودهم على الاستعباد والتبعية للأقوى، واستهانتهم بالأضعف، ويشير إلى عنصريتهم التي جمعت هذا العدد الضخم في الكفر وفي الإيمان"1. وفي اتخاذ الإسرائيليين للعجل إلها, برهان على عنصريتهم الضالة، فلقد عاشوا مع المصريين، ولم يكونوا مثلهم في الدين، ولم يعبدوا العجل معهم ... أما أن يأتيهم الضلال من رجل منهم، فهو أمر سهل، وطاعته في الضلال أمر محبب إليهم. وقد أخبر الله موسى -عليه السلام- أن قومه وقعوا في فتنة الكفر، وأضلهم السامري في الدين، فرجع إلى قومه مسرعا, وهو حزين غاضب، يتملكه الندم والحسرة على هؤلاء الناس، الذين تركوا عبادة الله إلى عبادة البقر، ووجد نفسه أمام ثلاثة أطراف، أخذ يسائلهم عن هذا العبث, وهم: - الإسرائيليون. - أخوه هارون عليه السلام. - السامري. وكان له مع كل منهم حوار, نلخصه في الآتي: أ- موسى والإسرائيليون: رجع موسى إلى قومه ومعه الألواح، فلما رأى الإسرائيليين يسجدون للعجل, ويعبدونه ألقى الألواح فانكسرت, وقال للإسرائيليين: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا}

_ 1 تفسير الرازي ج22 ص105 بتصرف.

يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 1، وقال لهم ما حكاه الله تعالى: {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} 2. والآيات توضح أن موسى -عليه السلام- سأل الناس عن الدافع الذي دفعهم إلى الكفر ... فهل هو عدم ثقتهم في وعد الله الذي يؤكد لهم الثواب الجزيل إذا أقاموا على طاعته، وأن يسمعهم كلامه سبحانه في التوراة على لسان موسى -عليه السلام- وأن يحقق الله لهم النصر والظفر، إن تمسكوا بدينه؟!! إن كان ذلك هو السبب فذلك دليل نفاقهم، وعدم صدقهم في إيمانهم بموسى أولا؛ لأن الله أكرمهم، ونجاهم، وأمدهم بالنعم في كل جوانب حياتهم، وبعد ذلك لا يثقون فيه!!! أم إن السبب هو طول المدة بين وقت إيمانهم ووقت كفرهم؛ لأن الزمن قد ينسى لطوله؟!!! إن كان السبب هو هذا، فهو دليل ضعف الإيمان؛ لأن الإيمان عقيدة تؤكدها العبادات، ويحييها الالتزام الخلقي، ومن يعش الإيمان حقيقة يره في كل عمل، وفي كل وقت؛ وحينئذ لا ينسيه طول الوقت أبدا، بل يؤكده، ويقويه. أم إن السبب هو الرغبة في نزول غضب الرب؛ لأن الكفر بالله وعبادة إله آخر يوجب غضب الرب، ولا يفعل ذلك إلا المعتوه، الضال. فردوا عليه بأن المخالفة التي وقعوا فيها، ليست بإرادتهم، وإنما أضلهم السامر، ودعاهم إلى التخلص من الذهب المسروق، وصنع العجل، ودعاهم إلى عبادته فأطاعوه، يقول تعالى: {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ، فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} 1.

_ 1 سورة طه الآيات: 87, 88.

وكان عليهم أن يتدبروا في مزاعم السامر، فلا يتخلصوا من وزر بكفر، ولا يندهشوا بصوت بقرة، ولا يتركوا التأثر بخلق السموات والأرض، وكيف يسجدون لبقرة، وقد ذاقوا طعم الإيمان بالله، وعرفوا مدى استحقاقه سبحانه للعبادة، وشاهدوا الآيات والبراهين الدالة على صدق الرسول، وصدق دعوته؟! إن هذا لشيء عجاب! وسوف يعاقب الله الناس على ضلالهم، وينجي من تاب منهم، ورجع عن ذنوبه، يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ، وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} 1. ب- موسى وهارون: واتجه موسى -عليه السلام- مغاضبا إلى أخيه هارون، {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا، أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} 2، وفي الآية عتاب شديد من موسى لهارون وهو يسأله: لِمَ لَمْ تتبعني حين رأيتهم كفروا وعبدوا العجل؟ يريد موسى أن يتبعه هارون منهجيا, بمعنى أن ينكر عليهم، أو يقاتلهم، كما كنت أفعل لو كنت فيهم، أو تتبعني فتهجرهم، وتترك الإقامة بينهم، لتلحق بي، ففي مفارقتهم زجر، وتقريع.... ويتابع موسى -عليه السلام- عتابه متسائلا: وهل يا هارون عصيت أمري، ووصيتي التي قلتها لك؟ وعنها يقول الله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} 3.

_ 1 سورة الأعراف الآيات: 152, 153. 2 سورة طه الآيات: 92, 93. 3 سورة الأعراف آية: 142.

أجاب هارون -عليه السلام- بهدوء على أخيه موسى: {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} 1 ... وكان موسى -عليه السلام- قد أخذ شعر رأسه بيده اليمنى، وشعر لحيته بيده اليسرى؛ لأن الغيرة لله ملكته، والانفعال بكفر قومه أحزنه؛ ولذا قال هارون: لا تأخذ برأسي أو لحيتي، حتى لا يتخيل أحد أنك تعاقبني، أو تستخف بي2, فتركه موسى، وأخذ هارون يشرح له ما حدث. يبدأ هارون حديثه بمودة ظاهرة، وينادي أخاه موسى ويقول: {يَا ابْنَ أُمَّ} وكان موسى أخاه لأمه وأبيه، ولكن هارون ركز على أخوته لأمه؛ لما فيها من لين، وعطف، ومرحمة. وبعدها بين له أنه حذرهم من هذا الضلال، ودعاهم إلى الله تعالى, وقال لهم: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي، قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} 3. توضح الآية أن هارون نصح الناس قبل مجيء موسى -عليه السلام- وبيّن لهم فتنة السامر، وبطلان مزاعمه، وأن عليهم أن يعلموا أن ربهم هو الرحمن، الرحيم، وليس هو العجل المزعوم، وحثهم على اتباعه، وطاعته. وبين لموسى أسباب بقائه وسطهم بعد كفرهم، وهي خشيته من تفرق الناس؛

_ 1 سورة طه آية: 94. 2 يذهب القرطبي إلى أن موسى -عليه السلام- أخذ برأس هارون -عليه السلام- وضمه إليه ليعلمه بنزول الألواح عليه، وليسمع واقع الحال بصورة لا يسمعها أحد، وكان أخذ الرجل من شعر رأسه ولحيته تكريما واحتراما، إلا أن هارون نهى موسى عن ذلك حتى لا يتخيل الإسرائيليون أن موسى يعاقبه "تفسير القرطبي ج7 ص289". 3 سورة طه الآيات: 90, 91.

لأنه إن خرج سيتبعه فريق، ويبقى فريق، وربما تقاتلوا، وحينئذ أكون سببا في فرقتهم مع أنك أمرتني أن أبقى بينهم، وأدعوهم إلى الله تعالى. ويبين هارون أن القوم استهانوا به، وتصوروه ضعيفا، وكادوا أن يقتلوه حين نهاهم عن عبادة العجل. وينهي هارون حديثه مع أخيه برجاء عدم فعل أي شيء يتصوره الكفار عقوبة, أيا كانت صورها، يقول تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 1. وبعد اتضاح موقف هارون أمام موسى -عليهما السلام- توجه موسى إلى الله داعيا لنفسه ولأخيه بالمغفرة والرحمة, قال تعالى: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} 2، وفي تحقيق هذا الدعاء غاية المنى؛ لأن المغفرة تحقق الستر والصفح عما وقع، والرحمة تحقق العون، والتوفيق والنصر، والهداية الدائمة. ج- موسى والسامري: اتجه موسى -عليه السلام- إلى السامر، وسأله عن الذي حمله على فعل ما فعل، فأجابه بأن نفسه زينت له ذلك، فقال له موسى: اخرج من بيننا، وابتعد عن الناس حتى لا يلقاك أحد، وانظر إلى العجل الذي ألهته، ولازمت عبادته؛ لأننا سنحرقه، ونلقيه في البحر ترابا يذوب في الماء، واعلم أيها الضال أن الإله الحق هو الله الذي وسع علمه كل خلقه، يتصرف كيف يشاء، وله الأمر كله، وإليه مرجع الخلائق أجمعين ...

_ 1 سورة الأعراف آية: 150. 2 سورة الأعراف آية: 151.

عن موقف موسى من السامر، يقول الله تعالى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ، قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي، قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا، إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} 1.... وقد ذهب العلماء في تفسير قوله تعالى: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا} 2 مذاهب شتى3، والراجح أن معناها: أخذت جزءا من تعاليم موسى الخاصة بالتوحيد، وأبعدتُها عن الإسرائيليين حتى لا يتمسكوا بها، فيسهل إضلالهم، وخداعهم4. يقول الشيخ عبد الوهاب النجار: إن السامر خدع بني إسرائيل، وأخذ منهم الحلي، وبصر بعجل من العجول التي تعبد في مصر، ولم يبصره غيره، فجاء به إلى الإسرائيليين، وقال لهم: هذا إلهكم جئتُ به بدل حليكم لتعبدوه، فانخدعوا، وصدقوا، وعبدوا، وعلى هذا يكون العجل حيوانا عاديا ... ويكون معنى قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} 5. إن بني إسرائيل اتخذوا بدل حليهم عجلا مجسدا له صوت، وعبدوه6، فمعنى {مِنْ حُلِيِّهِمْ} "بدل حليهم", والمراد بالمبصر العجل الذي رآه السامري.

_ 1 سورة طه الآيات: 95-98. 2 سورة طه آية: 96. 3 انظر هامش ص328. 4 تأويل أبي مسلم الأصفهاني ص217. 5 سورة الأعراف آية: 148. 6 قصص الأنبياء ص220.

والذين يذهبون إلى أن العجل صنع من الذهب يرون أن معنى {مِنْ} للتبعيض، ويكون المبصر فن الصياغة، وصناعة الذهب، وكان السامر فعل ذلك لخبرته في صناعة الذهب1. وفي النهاية يبين الله المصير الذي ينتظر عبدة العجل، فيقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} 2. المسألة الخامسة: التيه ودخول بيت المقدس سار موسى -عليه السلام- بقومه في برية سيناء، فلما اقترب من بيت المقدس، وجد فيها قوما جبارين من العرب الكنعانيين، والفزاريين، وغيرهم، يصدون عن سبيل الله، ويمنعون غيرهم من المجيء لبيت المقدس، والسكن فيها، فأمر موسى -عليه السلام- قومه بدخول بيت المقدس، ومقاتلة الجبابرة، وإخراجهما منه, وقال لهم: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} 3, فقد كتب الله لهم أن يقيموا فيها، وعليهم أن يقاتلوا لينالوا حقهم، ويدخلوا مدينتهم، ولا يرجعوا عنها فيخسروا بعد الربح ... لكنهم رفضوا طلب موسى -عليه السلام- خوفا من هؤلاء الجبابرة، قال تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} 4، وقالوا لموسى: لن ندخل هذه الأرض حتى يخرج منها الجبابرة، فإن خرجوا دخلنا، وأعلنوا خوفهم منهم، فظهر رجلان

_ 1 مدرسة الأنبياء ص229. 2 سورة الأعراف آية: 152. 3 سورة المائدة آية: 21. 4 سورة المائدة آية: 22.

من بينهم، ونصحوهم، وطلبوا منهم الدخول؛ لأنهم بمجرد وصولهم إلى الباب سيغلبون، ما داموا متوكلين على الله، مؤمنين به، يقول تعالى: {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1. ومع هذه النصيحة أعلنوا رفضهم القاطع، وقالوا لموسى: اذهب أنت وربك للقتال، ولن نكون معك، ونسوا كل ما تفضل الله به عليهم، قال تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} 2. هناك اتجه موسى -عليه السلام- لربه شاكيا قومه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِين} 3, وطلب منه أن يفصل لهم عنه, وعن أخيه معه. فقضى الله عليهم بالتيه في برية سيناء أربعين عاما، وحرم عليهم دخول بيت المقدس، خلال هذه المدة، يقول الله تعالى: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} 4. يقول ابن عباس: فتاهوا في الأرض أربعين سنة، يصبحون كل يوم، ويسيرون ليس لهم قرار، وتوفي هارون -عليه السلام- وبعده توفي موسى -عليه السلام- بسنتين، أو بثلاث سنوات، وأقام فيهم يوشع بن نون خليفة عن موسى، ومات أكثر بني إسرائيل في التيه، وانقضت المدة، فخرج يوشع بمن بقي منهم وبأبنائهم، وحاصر

_ 1 سورة المائدة آية: 23. 2 سورة المائدة آية: 24. 3 سورة المائدة آية: 25. 4 سورة المائدة آية: 26.

بيت المقدس، وفتحها، وسكنها الإسرائيليون، وأمرهم يوشع بالاستقامة على الحق، واتباع دين الله تعالى1. المسألة السادسة: تعمد المخالفة لما أنعم الله على الإسرائيليين بفتح بيت المقدس، أمرهم نبي الله يوشع بن نون أن يدخلوا الباب مطأطئي الرءوس, سجدا لله، خاشعين، خاضعين، وأن يقولوا ألسنتهم حطة، أي: حط عنا خطايانا التي سلفت منا، ليبدءوا حياة طيبة في البلدة المقدسة، التي جعلها الله لهم، وجعلهم فيها سادة، وملوكا. رغم هذا الأمر الصريح تعمدوا المخالفة، فدخلوا بظهورهم زحفا على أستاههم، وأخذوا يقولون حنطة، أي: حبة شعير، وبذلك بدلوا ما أُمروا به، واستهزءوا بما كُلِّفوا بعمله، فحق عليهم العذاب الأليم الذي نزل بهم، يقول الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ، فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} 2. يروي البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "قيل لبني إسرائيل: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} فبدّلوا فدخلوا يزحفون على أستاههم, وقالوا: حبة في شعرة" 3.

_ 1 البداية والنهاية ج1 ص322. 2 سورة البقرة الآيات: 58, 59. 3 صحيح البخاري بشرح فتح الباري, كتاب التفسير, باب: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} ج8 ص304.

المسألة السابعة: خضوعهم للقوة جاء موسى -عليه السلام- بالألواح لبني إسرائيل، وأمرهم أن يعملوا بما فيها، ويخلصوا لها بقوة وعزم، لكنهم قالوا لموسى: نريد أن نراها أولا، فإن كانت سهلة قبلناها، وإلا تركناها، فلم يوافقهم عليه السلام, فراجعوه كثيرا، فأصرّ على رأيه، وهم يصرون على ترددهم، رغم أن الله أخذ عليهم العهد والميثاق، يقول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ، وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} 1. وبالنظر في الآيتين ندرك القضايا التي يتضمنها الميثاق, وهي: 1- عبادة الله وحده، ونبذ عبادة ما سواه. 2- برّ الوالدين. 3- بر ذوي القربى. 4- الإحسان إلى اليتامى، والمساكين. 5- الالتزام بحسن الكلام وطيبه. 6- إقامة الصلاة. 7- إيتاء الزكاة. 8- صيانة الدم، وعدم العدوان. 9- التعاون، وعدم إجبار البعض على ترك بلده.

_ 1 سورة البقرة الآيات: 83, 84.

واستمروا في المعصية، فمسخهم الله قردة وخنازير، يقول تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُون} 1، ويقول سبحانه: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} 2. المسألة التاسعة: معونة الله لموسى طوال رسالة الله لموسى -عليه السلام- كان الله معه، يمده بالمعجزات، ويعرفه بموضوع الدعوة، ويطلعه على طبائع الناس، ولم يتركه سبحانه وتعالى وحده طوال عمره كله، من مولده إلى وفاته -عليه السلام- وقد رأينا كيف تربى؟ وكيف نشأ؟ وفي إطار المعونة الإلهية لموسى بعد الرسالة, تبرز ثلاث حوادث حدثت مع موسى -عليه السلام- وجاء القرآن الكريم بها مفصلة، وهي: الحادثة الأولى: رَدّ مقالة الإسرائيليين عن جلد موسى: عرف موسى -عليه السلام- بالحياء الشديد، فكان يستر جسده؛ حتى لا يرى منه أحد شيئا, فأشاع الإسرائيليون أن بجسده برصا أو أدرة، جعله يستتر أثناء الغسل؛ لأنهم كانوا يغتسلون عرايا ولا يستترون، فرد الله كلامهم، وبرأ موسى من مقالتهم. يروي البخاري بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة، ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى يغتسل وحده، فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر، فذهب مرة يغتسل، فوضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه، فخرج موسى في إثره يقول: ثوبي يا حجر، حتى نظرت بنو إسرائيل إلى جسده، فقالوا: والله ما بموسى بأس، وأخذ ثوبه، وطفق بالحجر ضربا" 2.

_ 1 سورة الأعراف آية: 163. 2 سورة الأعراف آية: 166. 3 صحيح البخاري بفتح الباري, باب من اغتسل عريانا, ج1 ص385.

وآدر -بمد الألف وفتح الدال وتخفيف الراء- معناها: انتفاخ في الخصية، وفي بعض طرق الحديث أنهم قالوا: إنه أبرص أو آدر، وقد برأ الله موسى من هذا العيب بطريقة حسية، وجعل القائلين به يرجعون عنه؛ ولذلك يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} 1. الحادثة الثانية: ذبح البقرة قتل أحد الإسرائيليين عمه ثم ألقاه على مجمع الطريق؛ ليرث أمواله، حيث لا ولد له، وأخذ يبكي ويصيح؛ بحثا عن القاتل ليخفي جريمته، وحتى لا يحرم من الميراث. ودار على الناس يسألهم، وجاء لرسول الله موسى -عليه السلام- وقال له: إن عمي قُتل، وأتى إلى أمر عظيم، وإني لا أجد أحدا يبين لي قاتله غيرك يا نبي الله ... فنادى موسى في الناس: من كان عنده علم عن هذا فليبينه، فلم يكن أحد منهم عنده علم. ومجيء القاتل لموسى استخفاف بموسى، وتكذيب لدعوته؛ لأنه لو كان مؤمنا مقدرا ما قتل قريبه، ولما جاء لموسى ... وانتظر الناس، وانضموا إلى جانب الرجل الباحث عن قاتل عمه. فأوحى الله إلى موسى أن يأمرهم ليذبحوا بقرة, فتعجبوا وقالوا: جئناك لنعرف القاتل، تأمرنا بذبح بقرة، إنك تهزأ بنا، وتلعب بعقولنا ... فقال: أعوذ بالله أن أكون جاهلا وأهزأ بكم ... إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، وكان يمكنهم أن يذبحوا أي بقرة، لكنهم طلبوا من موسى أن يحددها لهم من ناحية عمرها، ولونها، وعملها ... فبين لهم أنها متوسطة العمر، لا هرمة ولا صغيرة، وسط بينهما، وأنها صفراء فاقع لونها، وأنها لا تعمل في السقي أو الحرث، فعرفوها، ووجدوا أنها مملوكة

_ 1 سورة الأحزاب آية: 69.

لامرأة عجوز، غالت في ثمنها، وباعتها لهم فذبحوها، وأخذوا عظما منها، ضربوا به القتيل، فنطق وسمى لهم قاتله، ثم مات مكانه، فاقتص موسى -عليه السلام- من قاتله، وهو ابن أخيه الذي كان يريد إرثه. وهكذا كان عون الله لموسى -عليه السلام- في مواجهة لؤم القوم ومكرهم, حيث كانوا يتصورونه عاجزا، وما دروا أن الله معه يؤيده وينصره، يقول الله تعالى عن هذه الحادثة: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ، قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ، قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ، قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ، قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ، وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ، فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 1. الحادثة الثالثة: مصاحبة الخضر يروي البخاري بسنده عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس: إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بني إسرائيل، إنما هو موسى آخر, فقال: كذب عدو الله، حدثنا أبي بن كعب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن موسى -عليه السلام- قام خطيبا في

_ 1 سورة البقرة الآيات: 67-73.

بني إسرائيل فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فقال له: بلى، لي عبد بمجمع البحرين هو أعلم منك ... قال: أي رب، ومن لي به؟ قال: تأخذ حوتا فتجعله في مكتل، وحيثما فقدت الحوت فهو ثم1 ... إلخ. والحديث بتمامه يفصل لقاء موسى بالخضر، وقد فصلها القرآن الكريم كذلك، وكلاهما يبين أن حكمة الله تعالى قضت بوقوع القصة؛ ليتعلم موسى -عليه السلام- رد العلم لله، فهو العليم بكل شيء، وعلمه، وإرادته، وقدرته، مع كل موجود؛ ولذلك كان على موسى أن يقول لمن سأله: الله أعلم. وقد وقع العتاب بمنهجية مؤثرة، ومعجزة، حيث حدد الله لموسى مكان لقاء الرجل الأعلم منه، وهو مجمع البحرين، وأتصور هذا المكان عند التقاء خليج العقبة بخليج السويس، عند رأس محمد؛ لأن موسى -عليه السلام- كان في سيناء، ولا يوجد بحران يلتقيان إلا هناك، وقد حدد الله لموسى علامة يعرف بها المكان، هذه العلامة هي ضياع الحوت، ففي هذا المكان يوجد الرجل الصالح. اصطحب موسى -عليه السلام- غلاما، ومعهما الحوت في مكتل، فلما جاوزا المكان، قال موسى لفتاه: أحضر لنا الطعام لنأكل، فقد تعبنا، وأصابنا الجوع، فقال له الغلام: لقد نسيت الحوت عند الصخرة التي استرحنا عندها، وقد اتخذ الحوت طريقه إلى البحر بصورة عجيبة، فقال موسى: هذا المكان هو الذي أقصده، فهيا بنا نرجع إليه, فرجعا حتى وصلا إلى الصخرة، فرأى موسى رجلا مسجى بثوب فسلّم عليه، فقال الخضر: أنى بأرضك السلام ... قال: أنا موسى رسول الله. فقال الرجل: أنا على علم علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه. فقال له موسى: هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا.

_ 1 صحيح البخاري بشرح فتح الباري, كتاب أحاديث الأنبياء, باب حديث الخضر ج6 ص231، 232.

فقال الرجل: إنك لن تصبر لعدم إحاطتك بما أعلم. قال له: ستجدني إن شاء الله صابرا، ومطيعا ... فقال الخضر: إن أردت أن تتعلم فاتبعني، ولا تسأل عن شيء أبدا، حتى أعرفك بخبره، واتفقا على ذلك ... يقول الله تعالى موضحا هذا الحوار، وهذا الاتفاق: {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا، قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا، قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا، فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا، قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا، قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا، قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا، قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} 1. ويلاحظ أن الله عرّف موسى أن هناك من هو أعلم منه، وأن الرجل الأعلم يقر بأن علمه من الله، وأنه إن عرف شيئا فهو يجهل أشياء، وأن الإنسان متصف بالعجز والقصور، والعلم كله لله. وتبين الآيات أن هذا الرجل متصف بالعبودية الخالصة لله، وأن الله أكرمه وأمده بالنعم، وأعطاه علما لدنيا من عنده سبحانه. ويستفيد موسى من تعليم الله، ويقر للرجل بالتبعية ليتعلم منه، ويشترط عليه الرجل، ويحدد له كيفية التلقي، وعدم الاعتراض، وعدم السؤال عن أي جانب لا يفهمه بعقله؛ لأن العقل له منهجه، وطاقته في الفهم، ويوافق موسى على شروط الرجل، ويعلق قبوله بالمشيئة الإلهية؛ لأن الله إذا أراد شيئا قال له كن فيكون.

_ 1 سورة الكهف الآيات: 62-70.

ويبدأ التعليم العملي، الرجل يمشي وموسى وراءه، فلقيا في البحر سفينة، استأذن الخضر في ركوبها، فأذن لهم ربانها بلا أجر يأخذه، ركب الخضر وخرق السفينة، فاعترض موسى؛ لأن الخرق يغرق السفينة، فسأله الرجل عن صبره الذي اتفق معه عليه، فاعتذر موسى بنسيانه، وبعدها ساروا على الساحل، فوجدوا مجموعة من الغلمان يلعبون، فجاء الخضر إلى واحد منهم، واقتلع رأسه وقتله، فاعترض موسى -عليه السلام- مرة ثانية؛ لأنه قتل غلاما بغير جرم يرتكبه، فوضح له أنه ارتكب مخالفة ثانية، ولم يصبر, فاعتذر موسى -عليه السلام- وقال: إن اعترضت بعد ذلك فلا تصاحبني، ولك عذرك في تركي، وساروا حتى دخلوا قرية، وطلبوا من أهلها طعاما فرفضوا، فوجد الخضر جدارا يميل للوقوع، فأقامه وأصلحه بلا أجرة، فاعترض موسى -عليه السلام- على إصلاح الجدار بلا أجرة، مع أن أهل القرية رفضوا إطعامهم ... فقال الخضر: هذه هي الثالثة ... وعلينا أن نفترق بعد أن أوضح لك خبر الأحداث الثلاثة. أما السفينة فهي مملوكة لمساكين، ضعفاء يعملون في البحر، وكان وراءهم ملك ظالم، يأخذ كل سفينة صالحة غصبا، بلا ثمن، فقمت بخرقها حتى لا يأخذها. وأما الغلام، فقد طبع يوم طبع كافرا، وأبواه مؤمنان، فخشينا أن يكلفهما بسبب عاطفة الحب والشفقة، فيقعا في الضلال، ويتدينا بدينه. وأما الجدار فهو مملوك لغلامين صغيرين يتيمين، وتحته كنز لهما1، وكان أبوهما صالحا، فأقمت الجدار، حتى يبلغا الرشد، ويستخرجا كنزهما.

_ 1 اختلف العلماء في الكنز، فقال عكرمة وقتادة: كان مالا معدودا وهو الظاهر, وقال ابن عباس، وعمر مولى غُفْرة، وعثمان بن عفان: كان لوحا من ذهب كتب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن!! عجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب!! عجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح!! عجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل!! عجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن لها!! لا إله إلا الله محمد رسول الله، "تفسير القرطبي ج11 ص38".

ثم قال الرجل الصالح: وما فعلته باجتهاد مني, ولكنه أمر من الله تعالى لي، يقول الله تعالى مصورا هذا: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا، قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا، قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا، قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا، قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا، فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا، قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا، فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا، قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا، فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا، قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا، أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا، وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا، فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا، وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا

وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} 1. وقد استفاد موسى -عليه السلام- من هذه القصة، وعرف خطأه، عندما قال: ليس هناك من هو أعلم مني على وجه الأرض، ولم ينسب العلم لله، كما استفاد ضرورة الرجوع إلى الله تعالى في كل أمر غير مقطوع به، كما تيقن من أن علم الله لا يحيط به بشر أبدا، كما تعلم التواضع لمن يعلمه, ولو كان أقل منه قدرا. ونود أن نوضح بعض الأمور: الأمر الأول: الخضر بين النبوة والولاية يرى بعض العلماء أن الخضر كان نبيا, مستدلين بما يلي: الدليل الأول: وصف الله سبحانه الخضر بالعبودية له في قوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} 2، وقد وصف الله بالعبودية أنبياءه -عليهم السلام- ويقول تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} 3. ويقول سبحانه: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} 4، ويقول سبحانه: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} 5. الدليل الثاني: آتاه الرحمة من عنده، قال تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} 6, والرحمة تأتي

_ 1 سورة الكهف الآيات: 65-82. 2 سورة الكهف آية: 65. 3 سورة ص آية: 45. 4 سورة الإسراء آية: 3. 5 سورة ص آية: 30. 6 سورة الكهف آية: 65.

بمعنى النبوة، يقول تعالى على لسان صالح عليه السلام: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} 1، ويقول سبحانه: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} 2. الدليل الثالث: أخبر الله تعالى بأنه أعطاه علما من عنده، فقال سبحانه: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} 3، ومن المعلوم أن علم الأنبياء من الله تعالى، يعلمهم ويمدهم بالوحي، يقول تعالى: {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} 4. الدليل الرابع: أن الخضر بعد أن فسّر لموسى حقيقة الأحداث التي اعترض عليها، قال: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} 5، ففي هذا بيان أنه تلقى الأمر من الله ونفّذه، شأن الأنبياء جميعا حيث يتبعون الوحي في كل تصرفاتهم. الدليل الخامس: أن الأفعال التي أقدم عليها الخضر، لا يقدم عليها إلا متمكن من حقيقتها ونتائجها، وذلك لا يقدر عليه إلا الله تعالى6.

_ 1 سورة هود آية: 63. 2 سورة مريم آية: 53. 3 سورة الكهف آية: 65. 4 سورة يوسف آية: 68. 5 سورة الكهف آية: 82. 6 تفسير القرطبي ج11 ص16، ورجح القرطبي نبوته، ونسب القول به إلى الجمهور.

ويذهب القشيري1, وغيره إلى أن الخضر ليس نبيا، وحجة هؤلاء أن الخضر نفسه لم يخبر موسى -عليه السلام- بأنه رسول من الله، ولم تثبت نبوته بدليل قطعي ... وأقصى ما يقال فيه أنه ولي من أولياء الله الصالحين، والأولياء عباد صالحون لله تعالى، والمراد من الرحمة الولاية، وللولي كرامات خارقة للعادة تكريما له، وتأكيدا على صلاحه, والعبودية اسم لكل الآدميين. وقد اتبع موسى -عليه السلام- وهو رسول, الخضر وهو ولي؛ ليتعلم منه العلم، والتواضع، وتقدير العلماء، وليس بمانع أنه يهب الله للولي علما لم يهبه لرسوله. وأرى أنه لم يكن نبيا، حيث لا مانع من تفضّل الله على من يشاء من عباده، بما يشاء، وفق حكمته وعلمه، والرحمة تفيد معنى النبوة، والولاية، والنعمة، وليس معنا دليل يخصص واحدة دون الأخرى.... وكونه وليا أقوى في معاتبة موسى، وأحسن في توجيهه؛ ليتعلم منه مع كونه أقل منه، ويستفيد ضرورة التواضع، وبذلك الجهد في تحقيق الأماني الطيبة، والغايات المشروعة، ولا يصح أن ننسب النبوة لشخص إلا بدليل قطعي، ولا دليل هنا. وسمي الرجل بالخضر؛ لأنه جلس على فروة بيضاء فصارت خضراء، يروي الترمذي بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنما سمي الخضر بهذا الاسم؛ لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزت تحته خضراء" 2. الأمر الثاني: حياة الخضر وموته ذهب بعض الناس إلى القول بأن الخضر حي إلى الآن، وأنه التقى مع بعض المتصوفة، وأنه موجود في كل زمان، ودائما هو ينتقل من مكان إلى مكان3.

_ 1 انظر شرح النووي على صحيح مسلم ج15 ص136. 2 سنن الترمذي, كتاب التفسير, باب من سورة الكهف ج5 ص313. 3 شرح النووي على صحيح مسلم ج15 ص136.

وهذا كلام لا أصل له، ولا دليل عليه، بل الأدلة تردّه، وهي: الدليل الأول: يقول الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} 1، والآية صريحة في الدلالة على أن البشر جميعا يموتون ولا يخلدون، والخضر من البشر, فموته مقرر ثابت. الدليل الثاني: يقول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} 2، والآية تؤكد أن الله تعالى أخذ الميثاق على كل نبي، أن يؤمن بمن يجيء بعده من الأنبياء، وينصره ... وهذا يستلزم أخذ الميثاق عليهم لمحمد -صلى الله عليه وسلم- لأنه خاتم النبيين، فحق على كل من يدركه أن يؤمن به وينصره, فلو كان الخضر حيا في زمانه، لما وسعه إلا اتباعه، والاجتماع به، والقيام بنصره، ولم يثبت بدليل أنه التقى برسول الله، أو اجتمع به3، والولي هنا كالنبي. الدليل الثالث: عن جابر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال قبل موته بشهر: "تسألوني عن الساعة، وإنما علمها عند الله، وأقسم بالله ما على الأرض من نفس منفوسة، تأتي عليها مائة عام وهي يومئذ حية" 4، وهذا الحديث يقطع بوفاة الخضر إن لم يكن قبل الإسلام, فقبل مائة العام المذكورة. الأمر الثالث: المراد بالعلوم اللدنية إدراك حقائق الأشياء تصور، أو تصديق؛ لأن الإدراك إن تضمن حكما، فهو

_ 1 سورة الأنبياء آية: 34. 2 سورة آل عمران آية: 81. 3 البداية والنهاية ج1 ص299. 4 صحيح مسلم بشرح النووي, كتاب فضائل الصحابة ج16 ص91.

التصديق، كقولنا: "العلم واجب", وإن لم يتضمن حكما فهو التصور، كإدراك العلم في ذاته. والتصور والتصديق، إما أن يحصل بلا كسب وطلب، وبشكل تلقائي، كالشعور باللذة، والحكم بأن الوالد أكبر من ابنه، وهذا أمر عادي يقع لكل الناس ما عدا المجانين ... وإما أن يحصل الإدراك بكسب وطلب، فإن كان طريقه مدارسة العلوم النظرية الموصلة إلى المجهول واكتساب المعارف، كأحكام الفقه، وقواعد النحو, واكتساب ملكة الحكم، والتمييز بين المسائل، فهو علم عادي ... وإن كان طريقه المجاهدات الروحية، والورع، والتقوى، والإقبال على الله تعالى، وصاحب هذا الطريق يجاهد نفسه وشهوته، ويستمر في الاستقامة والعبادة، حتى يتفضل عليه مولاه بالعطاء، كطارق بالباب يستمر في الملازمة والطرق حتى ينفتح له الباب ... وهذا يستمر في تدبر أسرار الخلق ... حتى ينجلي أمامه الحق، وتأتيه الأنوار الإلهية، وتمده بالفتوحات العقلية التي هي عطاء إلهي محض، وهي المرادة من قوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} 1, وعنها يقول الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} 2. وعلى ذلك فنيل العلم من الله طريقه هو الورع، والزهد، والتقوى، ومداومة الطاعة، والانقياد ... أما ما يقال عن الجذب، والمكاشفة لطائفة خاصة، فهو قول غير مسلم، يقول الله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 3.

_ 1 سورة الكهف آية: 65. 2 سورة البقرة آية: 282. 3 سورة البقرة آية: 257.

وقصة الخضر في مجملها تشير إلى بعض الفوائد، وأهمها: أ- ضرورة الاتباع: والمراد بالاتباع الالتزام بمنهج الله أمرا ونهيا, وترك الاجتهاد العقلي فيما ورد فيه نص ديني؛ لأن الاجتهاد مع النص لا يجوز.... وسبب ذلك أن منهج الله قائم على علم دقيق، شامل, فهو سبحانه يعلم حقائق الأشياء وسائر المخلوقات، ويعلم الغايات الحسنة للإنسان، ويعلم الطريق الموصل إلى الغاية الصحيحة، فإذا أمر بأمر، أو نهى عن شيء وجب الالتزام بما أمر ونهى؛ رعاية للمصلحة، وتحقيقا للخير الذي يتمناه الإنسان ... أما علم الإنسان فهو محدود بالمكان، وبالزمان, وبجزئية معينة؛ ولذلك فهو عاجز عن رسم الطريق، وعاجز عن تحديد الهدف الكلي، الخير. ومن هنا وجب الاتباع, ولزم اجتناب الابتداع. وإذا لم يوجد نص في مسألة ما، وجب الاعتماد على المبادئ العامة، وروح الدين، والتقيد بما أحل الله تعالى، وسؤال الله التوفيق والسداد. ب- أهمية العلم والتعلم: لما عاتب الله موسى -عليه السلام- توجه موسى -عليه السلام- إلى الرجل الذي أعطاه الله علما من لدنه؛ ليتعلم منه، رغم أنه رسول يوحى إليه، وأبدى للرجل احترامه والتواضع له، بقوله: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} ، فهو يستأذنه، ويعرفه بما يريد، ويحدد له الرغبة في أن يتبعه حتى يتعلم، ويتبعه أينما سار، وكيفما عمل، وفي أي موضوع تحدث فيه.... ويتبعه ليتعلم منه الأمور التي علمها الله له، ويجهلها موسى، وبذلك تخلق بخلق طالب العلم أمام أستاذه القدير. ج- عدم التسرع في الحكم: برغم أن الرجل حذر موسى من الحكم المتعجل، وحثه على الصبر، وعدم الاعتراض حتى يشرح له أسباب أفعاله، رغم ذلك اعترض موسى -عليه السلام- ولم يصبر

ولذا فارقه الرجل، ووضح الله الأسباب الحقيقية لأفعاله، فلما عرفها موسى تعلم من خطئه, ووقف على ضرورة الصبر، وعدم استعجال الخبر، وضرورة الوفاء بالوعد والاتفاق. د- سعادة الإنسان في معية الله: وضّح الخضر أسرار ما فعل, وبيّن أنه خرق السفينة ليحفظها للمساكين من الملك الظالم، وأنه قتل الغلام لكفره حتى لا يرهق أبويه ويجرهما إلى المعصية والكفر, وأن تحت الجدار كنزا، رأى حمايته لأصحابه حتى يكبر اليتامى ... وبهذا ظهرت أهمية ما فعل الخضر، واتضح أن الله تعالى أمر الخضر بهذه الأعمال ليحافظ على حقوق اليتامى والمساكين والصالحين، وقد قام الخضر بهذه الأفعال من غير إحاطة أصحابها بها. إن معية الله، وإعانته لخلقه، تحقق للإنسان الخير والسعادة، وواجب على الإنسان أن يجتهد ويعمل لاستنزال رحمات الله تعالى والتمتع في معية الله الدائمة, وبذلك يعيش سعيدا موفقا. هـ- أثر صلاح الآباء على الأبناء: صلاح الآباء ينفع أبناءهم وذرياتهم, وقد رأينا الخضر يبرر لموسى -عليه السلام- سبب إقامته للجدار, ويوضح أنه لحماية الكنز لليتيمين حتى يكبرا؛ لأن أباهما كان صالحا، يقول الله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} 1.

_ 1 سورة النساء آية: 9.

ثانيا: حركة موسى بالدعوة للإسرائيليين

ثانيا: حركة موسى بالدعوة للإسرائيليين ... ويبدو أن الإسرائيليين شعروا بعجزهم في الالتزام بهذا الميثاق، فحاولوا التخلص منه بعد إقراره، لتعارضه مع طبيعتهم، ونفسياتهم، لكن موسى -عليه السلام- لم يقبل منهم التردد؛ لعلمه أنهم لا يطيقون الحق، ولا بد من حملهم عليه حملا، فأمر الله الملائكة فرفعت الجبل فوق رءوسهم، حتى صار غمامة فوقهم، وقال لهم موسى: إما أن تقبلوا ما في الألواح، وإلا سقط عليكم الجبل، فخافوا, وقبلوا الألواح، وسجدوا لله تعالى. يقول الله تعالى عن هذه الحادثة: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 1، ودلالة الآية ظاهرة في أنهم أطاعوا الله بالخوف، ولولا ذلك لاستمروا على المعصية والتمرد. المسألة الثامنة: عدوانهم يوم السبت حرم الله على اليهود صيد السمك يوم السبت؛ ليختبر صدقهم في تدينهم، ومدى إخلاصهم في الطاعة والانقياد، وقدر الله أن يكون النهر في يوم السبت مليئا بالحيتان، تأتيهم مشرعة، بيضاء، سمانا، لا يُرَى الماء من كثرتها، وتغيب عنهم في الأيام الأخرى، فاستمروا على الطاعة مدة، إلا أنهم لم يصبروا طويلا، وتحايلوا في المعصية، فمنهم من كان يصطاد يوم السبت، ويترك صيده في الماء مربوطا بالحبال، ليأخذه يوم الأحد، أو في يوم آخر، ومنهم من حفر جدولا صغيرا، يحبس فيه السمك يوم السبت، ويأخذه في الأيام الأخرى، فنصحهم فريق منهم، فلم يسمعوا لنصحهم

_ 1 سورة البقرة الآيات: 63, 64.

ثالثا: حركة موسى بالدعوة لقارون

ثالثا: حركة موسى بالدعوة لقارون قارون من بني إسرائيل، يقول الرواة: إنه كان ابن عم موسى، أو ابن خالته، استماله فرعون إلى جانبه، وخصه بوزارة المال، وأصبح يمثل مع فرعون وهامان ثلاثي الكبر، والغرور، والاستعلاء على المصريين والإسرائيليين على حد سواء، ففرعون استعلى وتكبر بملكه, وسلطانه، وخضوع الناس له، وهامان استكبر، وطغى بقوته، وقربه من فرعون، وقيامه بشئون الجند، والبناء، والأمن ... وقارون تكبر, واغتر بماله، وتحكمه في شئون المال. جاء موسى -عليه السلام- إلى الثلاثة، ودعاهم إلى الله، فأبوا الطاعة, وأصروا على ضلالهم وكفرهم، وأخذوا في تلفيق التهم الكاذبة لموسى -عليه السلام- يقول الله تعالى: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} 1، ويقول تعالى: {إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} 2. وانتظر الإسرائيليون من قارون عونا ومساعدة؛ لكونه واحدا منهم، إلا أنه انحاز لفرعون ليدوم له ما هو فيه، وبغى على قومه وظلمهم؛ إرضاء للطاغوت الكبير، يقول تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} 3.

_ 1 سورة العنكبوت آية: 39. 2 سورة غافر آية: 24. 3 سورة القصص آية: 76.

وقد تمكن قارون من استقطاب جماعة من قومة اتبعوه، وكانوا معه؛ ولذلك استمروا في مدحه، وإبداء الإعجاب بما هو فيه، وتمنوا أن يكونوا أغنياء مثله, يملكون بعض ما يملكه؛ لأن الله قد أعطاه من الأموال والكنوز ما لم يعط لغيره، يصورها قول الله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} . فهي لكثرتها تعجز الجماعة من الرجال الأقوياء عن حمل مفاتيح خزانتها، وكان على قارون أن يتجه بالشكر لله تعالى على هذا العطاء، لكنه كفر، وأصابه العجب والغرور. وقال أتباع قارون المعجبون به: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} 1. لأنه عند مروره وظهوره، كان يحاط بالخدم، والعبيد، والجنود، والزينة، فتمنى الأتباع هذا لأنفسهم، وكانوا يعجبون بكثرة الأموال التي تعجز العصبة القوية عن حمل مفاتيحها. إلا أن فريقا من قومه، أخلصوا له النصح، وقالوا له ما حكاه الله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ، وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} 2، وقد حدد هؤلاء نصحهم لقارون في عدد من النصائح:

_ 1 سورة القصص آية: 79. 2 سورة القصص الآيات: 76, 77.

الأولى: {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} ، ومرادهم بالنهي عن الفرح، البطر والعجب المؤدي إلى الكبر، وإلى الوقوع في المعاصي، وإلى نسيان حق الله تعالى، في الوقت الذي تحتاج فيه النعمة إلى شكل المنعم؛ لتدوم وتزيد. الثانية: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} ، ومعناه ضرورة استعمال المال في طاعة الله، وإنفاقه في الأوجه المشروعة الخيرة؛ ليكون المال وسيلة لكسب متع الدنيا، وفي نفس الوقت الحصول على ثواب الآخرة؛ ليعيش الغني سعادة الدنيا، وسعادة الآخرة. الثالثة: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ، ومرادهم أن المال إذا صلح صاحبه، يتمتع به في الدنيا، فقد أباح الله تعالى مباهج الحياة، ودعا الإنسان إلى الاستفادة بماله في كافة زينة الدنيا المشروعة؛ لأنه لو بخل على نفسه، أو قصر فيما وجب عليه من نفقة، وصدقة ... أو غيرها؛ يكون آثما، يحاسبه الله على تقصيره في هذا المجال. الرابعة: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} ، ومرادهم من هذه النصيحة، أن يجعل في ماله نصيبا للفقراء والمحتاجين، وأن يحسن إليهم، فإن المال مال الله، أحسن الله به إلى الإنسان، وواجب على الإنسان أن يستفيد من هذا الدرس وهو يتصرف في المال، فيحسن إلى غيره كما أحسن الله له. الخامسة: {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} ، ومرادهم بهذه النصيحة ألا يجعل المال، الذي هو عطاء الله تعالى, سببا للظلم، والكبر، ونشر الفساد بين الناس؛ لأن الله لا يحب المفسدين، وسينزل العقوبة بهم ويهلكهم، ويهلك مالهم، وكل ما يساعدهم على الفساد. إن هذه النصائح صادرة من عقول مخلصة، وعلماء عارفين بالحق، وقد قصدوا بدعوتهم قارون؛ لأنه قريب لهم.

إن قارون كان قد استمرأ الكبر، وسيطر عليه حب المال، وامتلأ بالغرور والظلم، فرد على قومه بجفاء متجاهلا ما يعرفه من قدرة الله تعالى التي تجلّت بإهلاك الذين سبقوه وكانوا أكثر منه مالا، وعددا، وقوة، يقول الله تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} 1. وكما نصح العلماء والعقلاء قارون اتجهوا بالنصيحة لأتباعه, وقالوا لهم: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} 2. فدعوا عليهم بالهلاك، بعد أن أصروا على تبعيتهم، وعرفوهم بأن ثواب الله تعالى للمؤمنين أفضل من كنوز الأرض وأموال الدنيا، والمستحق لهذا الثواب هو المؤمن الصابر، ونزلت عقوبة الله بقارون، وخسف الله به، وبأمواله الأرض، ولم يجد نصيرا ينصره أو معينا يساعده، وعجزت أمام قدرة الله كل القوى، وندم أتباعه على موقفهم، وأقروا في النهاية بأن الأرزاق بيد الله تعالى، واتبعوا موسى، واعترفوا بأن الله نجاهم ولم يخسف بهم الأرض مع قارون، يقول الله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ، وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} 3.

_ 1 سورة القصص آية: 78. 2 سورة القصص آية: 80. 3 سورة القصص الآيات: 81, 82.

وبنهاية قارون يسجل القرآن الكريم نهاية أحد المفسدين، الذين حاربوا الله في الأرض، وسوف يلقى عقوبته الأشد في الآخرة، يقول الله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} 1. إن قصة قارون تعد نموذجا للإنسان، حينما تلعب به شهوة السلطة، أو شهوة المال. إن هذه الشهوة وأمثالها تدفع صاحبها إلى الانفصال عن أصله وتراثه، كما فعل قارون، فهو إسرائيلي، إلا أنه بغى عليهم بسبب المال والجاه الذي كان يعيشه مع فرعون، وأيضا فإنها تصيب الإنسان بالغرور، والكبرياء، والظلم، وتجعله ينسى الحقيقة، ولا يستجيب لداعيها، ولا يبحث عنها، وعلى العاقل أن يحذر من فتنة المال والقوة، وأن يؤمن بالله تعالى، ويقر له بالفضل، ويؤمن به، ويتوكل عليه؛ لينال نصيبه في الدنيا وفي الآخرة.

_ 1 سورة القصص آية: 83.

النقطة الرابعة: بنو إسرائيل واليهود

النقطة الرابعة: بنو إسرائيل، واليهود إسرائيل -عليه السلام- هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم -عليهم السلام- ومن أبنائه تناسل الإسرائيليون، وكثر شعبهم. وقد انقسم أبناء يعقوب -عليه السلام- من بعده إلى شِيَع، وجماعات، وبطون، وأفخاذ، وتباينت مواقفهم، وتعددت مذاهبهم، ومن أشهر جماعاتهم اليهود المنتسبون إلى "يهوذا" أكبر أبناء يعقوب، والعرب تقلب الذال دالا، وقيل: هم الذين تابوا من عبادة العجل ورجعوا إلى الله تعالى، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} 1، أي: تبنا ورجعنا. فاليهود جماعة من بني إسرائيل ... ومن هنا ندرك سر حديث القرآن الكريم عن بني إسرائيل، وعن اليهود، حيث نلمس اختلافا واضحا بين هذا، وذاك. فحديث القرآن الكريم عن بني إسرائيل يتضمن ملامح التكريم، والتفضيل، والتنعيم، وفي عجالة سريعة نقرأ قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} 2، فقد ناداهم الله باسم أبيهم إسرائيل، رسول الله إليهم، وأمرهم بضرورة ذكر النعم التي جاءتهم؛ ليشكروا من أنعم بها عليهم ... ولتكون النعم دليلا على المنعم سبحانه وتعالى، وعرفهم سبحانه بأنه فضلهم على عالمي زمانهم، أو على كل العالمين، إذا ظلوا مطيعين له،

_ 1 سورة الأعراف آية: 156. 2 سورة البقرة آية: 47، ويلاحظ أن الله تعالى أمر أمة محمد بذكره مباشرة, فقال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُم} ؛ ليكون نظر أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- من المنعم إلى النعم، وغيرهم من النعم إلى المنعم، والفرق بينهما كبير.

وآمنوا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- حين يأتيهم، يقول تعالى: {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} 1؛ لأن الإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وفاء بعهدهم مع الله تعالى2. ويقول تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} 3، فلقد نظم الله شئونهم ومعاشهم، فاختار منهم اثني عشر نقيبا4، وعين لكل سبط نقيبا، والنقيب هو الرجل العظيم في قومه، ذو الخلق الحسن، العارف بما في نفوسهم ودخائلهم، المسئول عن توجيههم ونصحهم. وعرفهم الله تعالى أنه معهم بالمعونة والنصر، إن استقاموا على منهجه في إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والإيمان بالرسل، ونصرهم، ودفع أعدائهم, والتصدق بالمال؛ لأن ذلك هو المنهج الصحيح، وما يخالفه فهو خطأ وضلال.

_ 1 سورة البقرة آية: 41. 2 تفسير القرطبي ج1 ص333. 3 سورة المائدة آية: 12. 4 تفسير القرطبي ج6 ص113, وفيه ذكر أسماء الأسباط والنقباء.

ويقول تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} 1، وهؤلاء المستضعفون هم بنو إسرائيل الذين استذلهم فرعون, وقد جعل الله لهم أرض مصر والشام، فمشارق الأرض يراد بها أرض الشام، ومغاربها يراد بها أرض مصر2, وقد أورثهم الله هذه الأرض لاستقامتهم على دينه واتباعهم لموسى -عليه السلام- ولذلك فالإرث لأهل ذلك الزمان فقط؛ لأن من جاء بعدهم لم يستمروا على الدين الإلهي الصحيح. ويقول تعالى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 3، وهذه الآية تحدد نوعية الإرث المذكور في الآية السابقة، ويراد به السكنى والإقامة، ولكنهم كفروا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وناصبوه العداء، فلزم حرمانهم من عطاء الله تعالى، إلى أن يأتيهم العذاب يوم القيامة. ويقول تعالى: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ} 4, وفي الآيات بيان لاختيار الله لبني إسرائيل، وتفضيلهم على عالمي زمانهم، بكثرة الإيتاء، وتنوع المعجزات، وتعدد النعم، وتلون الابتلاء والاختبار.

_ 1 سورة الأعراف آية: 137. 2 تفسير القرطبي ج7 ص272. 3 سورة يونس آية: 93. 4 سورة الدخان الآيات: 32, 33.

ويقول تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} 1، والآية شاهد آخر على تفضل الله على بني إسرائيل، فلقد آتاهم الله التوراة، وجعل منهم الأنبياء، والسلطان، والحكم في الناس، والفهم للكتاب المنزل، والشريعة الموحى بها، ورزقهم من كل أنواع الحلال، قوتا، وطعاما، وثمرا.... وفضلهم سبحانه وتعالى على عالمي زمانهم. هذا حديث القرآن الكريم عن بني إسرائيل, المنتسبين إلى رسول الله يعقوب -عليه السلام- وفيه تقدير لنبي الله "إسرائيل" الذي انتسبوا إليه. أما حديث القرآن عن اليهود فيختلف اختلافا بينا، ونلمح ذلك حين نعرف أن القرآن الكريم عرفنا بانقسام الإسرائيليين إلى فريقين، يقول الله تعالى: {فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} 2، وقد وصل الافتراق بينهم إلى التعارض، والتضاد، فأيد الله المؤمنين على من عارضهم بالبرهان، والحجة, واليقين. وقد أشار الله إلى الكافرين من بني إسرائيل في قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} 3.

_ 1 سورة الجاثية آية: 16. 2 سورة الصف آية: 14. 3 سورة المائدة الآيات: 78-80, والآيات تجيز لعن من ضل وكفر، وإن تسمى باسم الرسول.

والآيات تبين أن بعض بني إسرائيل قد كفروا برسالة موسى -عليه السلام- وأنهم استحقوا اللعنة والطرد من رحمة الله تعالى، ونزل لعنهم في الزبور والإنجيل، بسبب عصيانهم، وتركهم النهي عن المنكر، وتعاونهم على المعاصي. ودلالة عصيانهم، وضلالهم اتخاذهم الكفار أولياء من دون المؤمنين، وهم ليسوا بمؤمنين بنبي من الأنبياء بدءا من إسرائيل إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- في الحقيقة. هؤلاء الذين كفروا من بني إسرائيل هم اليهود، كما نتبين من حديث القرآن الكريم عنهم. يقول الله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 1، واليهود بقولهم هذا يتخيلون الجنة لهم خاصة، وهي أمنية لا برهان عليها، من قول أو عمل فهم كاذبون. ويقول تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 2، واليهود بهذه المقالة يتصورون أنهم وحدهم على الحق، ويرون غيرهم على ضلال، ومع أنهم يقرءون كتاب الله المنزل، وفيه بطلان مقالتهم، إلا أنهم يقولون بذلك كراهية لغيرهم من البشر كما قال غيرهم ممن سبقوهم، وسوف يعاقبهم الله تعالى أشد العقاب. ويقول تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا

_ 1 سورة البقرة آية: 111, وقد أجاز القرآن أن يكون {هُودًا} بمعنى: يهوديا. 2 سورة البقرة آية: 113.

سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} 1. والآية تبين الانحراف الخلقي عند اليهود، فهم يحرفون التوراة، ويؤولونها بغير ما تتأول به، ويعبثون بالوحي، فيقولون: سمعنا وعصينا، ويدعون لعدم الطاعة وعدم السمع، وصرف الناس عن الحق، ويقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: أسمع ولن تسمع، ولن يستجاب لك، وبدل أن يقولوا: راعنا المكونة من فعل الأمر ونا المفعولية، يقولون: راعنا بالتنوين، بمعنى: سفيها، وكانوا يطعنون في الدين، ولو أنهم استقاموا وأطاعوا لكان خيرا لهم ... لكنهم كفروا فلعنهم الله تعالى. ويقول تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} 2, والآية نزلت في اليهود حين خوفهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من العذاب، وقال لهم معاذ بن جبل، وسعد بن عبادة، وعقبة بن وهب: يا معشر اليهود، اتقوا الله، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله، ولقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه، وتصفونه لنا بصفته، فقال رافع بن حريملة، ووهب بن يهوذا: ما قلنا هذا لكم، ولا أنزل الله من كتاب بعد موسى، ونحن أبناء الله وأحباؤه، فوجه الله لهم سؤالا وهو: فلم يعذبكم بذنوبكم؟ لأنهم يقرون بهذا العذاب للعصاة منهم ... فإن أجابوا بأنهم لن يعذبوا، فقد تناقضوا، وإن أقروا بالعذاب، فقد كذبوا أنفسهم، والحق أنهم بشر كسائر الناس، وأمرهم إلى الله تعالى3. ويقول تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا

_ 1 سورة النساء آية: 46. 2 سورة المائدة آية: 18. 3 تفسير القرطبي ج6 ص120.

وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} 1 وكذبوا، وضلوا بمقالتهم هذه التي قالوها, حينما قل مالهم بسبب عصيانهم، وقد قال بعضهم هذه المقالة، فلما لم ينكرها الآخرون صاروا كأنهم جميعا قالوها. ويقول الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} 2، والآية تبين لونا من ألوان كفر اليهود، حيث يجعلون لله ابنا هو عزير3، وما كان لهم أن يفعلوا ذلك، لكنه الضلال والكفر ... يقول القرطبي: وأرادوا بالبنوة بنوة النسل، وهذا أشنع الكفر4. ويقول الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 5، وفي الآية رد على اليهود حينما تصوروا أفضليتهم، وقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، رغم معاصيهم، وقال لهم الله: إن كنتم صادقين في مقالتكم فتمنوا الموت؛ لتعودوا لأبيكم وحبكم، لكنهم لن يتمنوا ذلك أبدا؛ لعلمهم بمعاصيهم، وظلمهم، وكذبهم.

_ 1 سورة المائدة آية: 64. 2 سورة التوبة آية: 30. 3 روي في سبب هذه المقالة أن اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى -عليه السلام- فرفع الله عنهم التوراة، ومحاها من قلوبهم, فراح عزير يسيح في الأرض، فأتاه جبريل, فقال له: أين تذهب؟ قال: أطلب العلم، فعلمه التوراة كلها -كرامة له- فجاء إلى بني إسرائيل فعلمهم التوراة، فقالوا: إن هذا لم يتهيأ لعزير إلا وهو ابن الله "تفسير الطبري ج14 ص202". 4 تفسير القرطبي ج8 ص117. 5 سورة الجمعة آية: 6.

وهذا الاختلاف في تصوير القرآن الكريم لليهود، ولبني إسرائيل يجب أن يكون معلوما في إطار دراسة دعوة موسى عليه السلام. يقول الأستاذ إبكار السقاف: لا بد من معرفة من هم العبرانيون، والإسرائيليون، واليهود، وذلك بمراجعة أحداث التاريخ القديم. ويرى أن العبرانيين: يرجعون إلى عشيرة عُرفت باسم "عبرو" أو "عبريوا" أو "عبران" نسبة إلى جدها الأعلى "عابر" ... ووجدت العشيرة في بلاد بابل، في مدينة "أور" الواقعة بين دجلة والفرات، وقد هاجر أفراد من العشيرة إلى "حران", واستقرت في أرض كنعان، وتكاثرت هذه العشيرة، وعرفت بالعبرانيين، وإليها ينتسب خليل الله إبراهيم -عليه السلام- وبعد إبراهيم انقسمت العشيرة إلى عشائر عديدة، ذابت جميعها في الشعوب التي عاشوا معها. أما بنو إسرائيل: فهم وحدهم أبناء يعقوب بن إسحاق الذي عرف بإسرائيل، وأبناء يعقوب هم الأسباط، وعددهم اثنا عشر رجلا: راءؤيين، وشمعون، ولاوي، ويهوذا, ويساكر، وزوبولون، من أمهم "ليئة" ... و"داني، ونقتال" من أمهم "بلهة" ... و"حاد" و"أشير" من أمهم "زلفة" ... و"يوسف" و"بنيامين" من أمهم "راحيل" ... هؤلاء هم أبناء إسرائيل، ومن نسل هؤلاء الأبناء تكونت بيوت إسرائيل، وقد أضاف كل ابن اسم أبيه إلى بيته، فعرفت ذريتهم ببني إسرائيل.... فالإسرائيليون هم أبناء يعقوب خاصة.... أما أبناء عابر، جد إبراهيم -عليه السلام- وأبناء إبراهيم -عليه السلام- من غير سارة, فليسوا إسرائيليين. فإسماعيل ابن "هاجر" ليس إسرائيليا ...

وزمران، ويفشان، ومدان، ويشتاق، وشوح أبناء إبراهيم -عليه السلام- من "قصورة", فليسوا بإسرائيليين أيضا. وكل من تفرّع من نسل هؤلاء, فليس إسرائيليا ... وقد تسرب عامل الفناء في الإسرائيليين عقب وفاة سليمان -عليه السلام- وأدى احتلال الآشوريين لمملكتهم إلى القضاء النهائي على الشعب الإسرائيلي عام 701 قبل الميلاد. وأما اليهود: فهم ينقسمون إلى قسمين: القسم الأول: ينسب إلى "يهوذا" رابع أبناء يعقوب -عليه السلام- وظهرت نسبة أبنائه إليه، بعد أن أصبح اسمه علما على الإقليم الذي اختص به، بعد أن قسمت الأرض على بيوت إسرائيل، وقد اندثر هذا القسم بالغزو البابلي، الذي أحرق "أورشليم" وهدم الهيكل، وقتل وشرد من لقيه من اليهود في هذه المنطقة، وأسر منهم خمسين ألفا، ونفاهم إلى أرض بابل عند نهر الفرات، واستمروا هناك وذابوا مع الزمن في شعبها. والقسم الثاني: وهو الموجود في الزمن الحاضر، ويتمثل في اليهود الحاملين لجنسيات مختلفة، في مناطق مختلفة، الذين توارثوا الدين اليهودي عن أسلافهم، الذين سكنوا شرق أوروبا، وكانت لغتهم تعرف بـ "الليدية". وهؤلاء لا يرتبطون بالعبرانيين، ولا بالإسرائيليين، ولا بأبناء يهوذا، بصلة نسب، وقربى ... إنهم ينحدرون من قبائل الخزر المنغولية، التي تمكنت من تأسيس مملكة وثنية في منطقة واسعة، تقع في شرق أوروبا، يحدها من الشرق جبال الأورال، ومن الغرب وسط أوروبا، ومن الشمال موطنهم الأصلي، ومن الجنوب البحر الأسود, وقد اعتنقت هذه المملكة اليهودية. إن هذه المملكة عرفت في التاريخ واشتهرت بالقسوة، والميل لسفك الدم ...

ولما انحلت مملكة الخزر هذه، توزع أبناؤها في البلاد المجاورة، فانتشروا في أوروبا شرقا، وغربا، وشمالا، وجنوبا، ومع حركة الاستعمار الأوروبي للعالم انتشر أفراد من اليهود في بلاد العالم المختلفة، وصار لهم وجود وأثر1. هذا ... ويؤكد العلم الحديث أن اليهود المعاصرين لا صلة لهم بأبناء يعقوب عليه السلام. يقول الأستاذ أوجين بتلر2: "إن جميع اليهود بعيدون عن الانتماء إلى الجنس اليهودي". ويقول الدكتور محمد عوض3: "إن شعبا يهوديا كبير العدد، قد تم تكوينه قبل ميلاد المسيح بقرنين أو ثلاثة في الحوض الشمالي لنهر الراين، ثم تفرعت منه مجموعات أخرى في بولندا، وفي روسيا الغربية، وقد ازدادت هذه المجموعات في العدد، حتى أربى عددها على تسعة أعشار اليهود في العالم". ويقول الأستاذ رايلي4: "إن تسعة أعشار اليهود في العالم يختلفون عن سلالة أجدادهم اختلافا واسعا ليس له نظير، وإن الزعم بأن اليهود جنس نقي حديث خرافة". ويقول الأستاذ تبار5: "إن اليهود عبارة عن طائفة دينية، اجتماعية, انضم إليهم في جميع العصور أشخاص، من شتى الأجناس، وهؤلاء المتهودون جاءوا

_ 1 انظر إسرائيل وعقيدة الأرض الموعودة ص43-50. 2 الأستاذ أوجين بتلر, أستاذ علم الأنثروبولوجيا في جامعة جنيف. 3 الدكتور محمد عوض, عالم جغرافي معاصر, تولى عمادة كلية الآداب جامعة القاهرة, وله مؤلف تحت عنوان "المسألة الصهيونية في نظر العلم". 4 الأستاذ رايلي, من علماء الأجناس في القرن التاسع عشر، وله مؤلف عن "أجناس أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر", وأهمية كتابه أنه ألفه قبل حدوث المشكلة الصهيونية. 5 الأستاذ تبار زميل للأستاذ رايلي في مؤلفه السابق.

من جميع الآفاق، فمنهم الفلاشا سكان الحبشة، ومنهم الألمان ذوو السحنة الألمانية، ومنهم التاميل وهم اليهود السود من الهند، ومنهم الخزر وهم الذين سكنوا شرق أوروبا وأسسوا مملكة بها، وعند انحلالها توزعوا في أوروبا، وهم اليهود الأوروبيون". ويقول الدكتور محمد عوض: "إن يهود أوروبا من أصل أوروبي، ويهود اليمن من أصل يمني، ويهود الحبشة من أصل حبشي، ومن الافتراء على الحقيقة أن يقال: إن اليهود شعب لا وطن له، إنهم أعضاء في شعوب كثيرة، ولهم أوطان عديدة"1. إن تسمية اليهود ببني إسرائيل تسمية مجازية، واليهود المعاصرون لا يرتبطون بأبناء يعقوب بقربى، أو نسب، ويا ليتهم آمنوا بدين يعقوب إيمانا حقيقيا، وانتسبوا له انتسابا مقبولا. إنهم حرفوا كلام الله, وبدلوه، وصنعوا من عقولهم دينا مشوها، مليئا بالعنصرية, والمادية، والاستعلاء، ومحاربة الخير لسائر الناس من غير اليهود ... واليهود اليوم هم الذين جاءوا من منغوليا، يعيشون بالمناهج التي وضعوها لأنفسهم، ودونوها في التلمود، والبروتوكولات، وتفسيرات الكهنة والأحبار لكتابهم المقدس. واليهود المعاصرون رغم كفرهم برسالات الله، يتسترون باسم نبي الله يعقوب "إسرائيل"؛ ليظهروا بمظهر المؤمنين المتبعين لدين الله، ووصل بهم حد الاستخفاف بالعقول أن سموا دولتهم، وكثيرا من معالم حياتهم باسم "إسرائيل" تماديا منهم في الخداع، والتضليل. ولن يستمر خداعهم؛ لأن عمر الزيف لا يدوم. هل كان يعقوب -عليه السلام- يرضى بالاستيلاء على حقوق الآخرين؟ وهل فعلها

_ 1 ما جاء عن العلم الحديث ورد ملخصا في مقالة للدكتور نعمات أحمد, بجريدة الأهرام ص13 في 15/ 5/ 2002م.

مع الكنعانيين؟ أو مع المصريين حين عاش بينهم؟ وهل قام يعقوب -عليه السلام- بالاستيلاء على الأوطان, وقتل الأبرياء, وباشر الاستعلاء والطغيان؟ إن كل الجرائم التي يرتكبها اليهود في العالم المعاصر, يبرأ منها يعقوب -عليه السلام- وكل رسل الله، رغم ما يدّعيه اليهود ويزعمونه. إن الحركة الصهيونية من نتاج العقلية اليهودية الظالمة، والاعتداء على الآمنين، وقتل النساء والأطفال، صناعة يهودية محضة!! إن محاولات إفساد الشباب، وفق خطة منظمة هو عمل يهودي خالص!! ونجاح اليهود المعاصرين تم في غفلة المسلمين، ولو تنبه المسلمون في وقت مبكر لما تمكن اليهود أبدا. أما وقد حدث ما حدث, فواجب على الأمة الإسلامية أن تعود لربها، وتلتزم بدينها، وتتيقن من جزئية نزول الوحي إليها، وحينئذ فقط، وليس قبل ذلك تملك أمرها، وتعود لحيويتها، وتقوم بوظيفتها التي حددها الله لها، يوم أن أخرجها للوجود، خيرا للناس أجمعين. لا يليق بأمة جاءت لتقود العالم بالخير، ونحو الخير، أن تصير ذيلا للعالم المادي المليء بالشهوات، البعيد عن الله رب العالمين.

النقطة الخامسة: ركائزة الدعوة في قصة موسى عليه السلام

النقطة الخامسة: ركائزة الدعوة في قصة موسى عليه السلام مدخل ... "النقطة الخامسة": ركائز الدعوة في قصة موسى عليه السلام موسى -عليه السلام- من أولي العزم من الرسل، أُوذي فصبر، ودعا إلى الله فقُوبل بالجحود والنكران، أثنى عليه الله تعالى بما هو أهله، فقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} 1، وقال تعالى:

_ 1 سورة مريم آية: 51.

وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} 1، وقال تعالى: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} 2، وقال تعالى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} 3. وقد خصه الله بالتكلم، وأنزل عليه المعجزات الكثيرة، وأرسل معه أخاه هارون؛ ليعينه, ويشاوره، ويخلفه. وقد دعا موسى -عليه السلام- طوائف عديدة، وواجه الملوك، والأمراء، والعلماء, والسحرة, والمستضعفين المستعبدين. حيث كانت دعوته للمصريين وللإسرائيليين. وتعد رسالة موسى -عليه السلام- وحركته بالدعوة معلما بارزا للدعاة، يأخذون منه الفوائد والعبر؛ ولذا استنبط من قصته الركائز التالية:

_ 1 سورة طه آية: 39. 2 سورة الأعراف آية: 144. 3 سورة طه آية: 13.

الركيزة الأولى: التوحيد أساس الدعوة

الركيزة الأولى: التوحيد أساس الدعوة جاء الرسل جميعا بدعوة أقوامهم إلى توحيد الله تعالى توحيدا خالصا، يشتمل على الالتزام بما يقتضيه هذا التوحيد بصورة كاملة. إن التوحيد بشموله، وكماله يقتضي من المؤمن أن يتعامل مع الله بما يليق به, فلا بد من اليقين بأنه سبحانه وتعالى له الحكم، والأمر كله بيده, وقدرته شاملة لكل ما كان، وما هو كائن، وما سيكون إلى يوم القيامة، ومن هذا اليقين يتوجه المؤمن

إلى الله بعمله، وقوله, وسلوكه، ويحول حياته كلها إلى عبادة خالصة لرب العالمين ... إن العبد الرقيق المملوك لرجل يعيش حياته لسيده، فنشاطه وماله وولده لسيده، ومن إخلاصه لسيده يعيش مطيعا له ظاهرا وباطنا، ويستمر في الامتثال، راضيا، سعيدا. والإنسان عبد لله في الحقيقة، فإذا ما تيقن حقيقته، وقدر الله حق قدره، عاش لله بصورة كلية، يقول الله تعالى وهو يعلم محمدا هذه العبودية: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِين} 1. إن العبودية الصادقة تتضمن بعض الأساسيات الهامة المستفادة من الآيات: أ- الاعتراف الصادق بأن الدين هو الصراط المستقيم، الذي أنزله الله على عباده، بواسطة الرسول المكلف من قِبَل الله تعالى. ب- الإقرار بأن كل ما يقع في ملك الله تعالى هو بعلمه، وبإرادته، وقدرته، وأن الهداية إلى الحق، والخير قدر من الله تعالى، يحققه لمن يشاء من عباده وفق عدل الله، ورحمته. ج- إن الدين الصحيح المستقيم، هو دين إبراهيم -عليه السلام- الذي دعا إلى التوحيد والملة المستقيمة، مع البراءة المطلقة من كل ألوان الشرك، سواء كان شركا قوليا، أو عمليا، أو ظاهرا، أو باطنا. د- إن كل نشاط يقوم به العبد المؤمن, يجب أن يكون عبادة لله الواحد

_ 1 سورة الأنعام الآيات: 161-163.

وذلك بنية التوجه لله، وإرادة الطاعة, والاستقامة على منهج الله تعالى، فالعبادات المشروعة المحددة، وغير المحددة، وأعمال الحياة، ووصايا ما بعد الموت تكون لله بالقصد والنية، ومن المعلوم أن الأعمال العادية تتحول بالنية إلى عبادة، وعلى المسلم أن يوحد ربه؛ ليكون مسلما صادقا. إن التوحيد بشموله هو منهج حياة متكامل، وهو كفيل بصناعة الإنسان, والجماعة صناعة ربانية، خالصة. ولهذا كان إبليس وذريته، يلعب بالناس، ويبعدهم عن التوحيد، بصورة كلية أو جزئية، بلا يأس، أو قنوط. ولهذا أيضا بعث الرسل -عليهم السلام- لكل الأمم؛ لإنقاذهم من كل مظاهر الشرك، والفساد. وقد استمر الموكب الكريم من رسل الله، في دعوتهم الناس إلى الدينونة المطلقة لله رب العالمين. ومع الرسل كان موسى -عليه السلام- الذي واجه ادعاء فرعون الألوهية، واستعلاء هامان وقارون، بالقوة، والمال، وخضوعهم لفرعون، وقوته، كما واجه طاعة العامة لفرعون في ضلاله، وكفره، وأيضا واجه الإسرائيليين بمكرهم، وخداعهم، وضعفهم, وماديتهم ... وكان عليه السلام واضحا في دعوته إلى التوحيد الخالص، بحقيقته، وشموله، وبيّن لهم أن هذا التوحيد يتضمن أركان العقيدة، وجوانب الشريعة, وكافة القيم الأخلاقية النبيلة ... وعلى هذا يتأكد لنا أن الدعوة إلى التوحيد تحتاج إلى الجهد المبذول، وتحتاج إلى استمرارية الدعوة إلى يوم القيامة.

الركيزة الثانية: ضرورة الاستعداد للدعوة

الركيزة الثانية: ضرورة الاستعداد للدعوة الدعوة تغيير شامل للحياة، وصناعة ربانية للأفراد والجماعات، إنها لا تترك شخصا لهواه، ولا تدع جماعة تفسد في الأرض، وتعمل على هزيمة إبليس وبنيه، وتزيل وساوسهم، وغواياتهم من القلوب، والعقول. إن الدعوة تجعل الحاكم مسئولا عن رعيته، وتحدد عمله في حماية الدين، وصيانة الدنيا ... ولا مجال في الدين الحق لتأليه حاكم، أو لتركه يطغى، أو يتجبر، أو يفسد، أو يستذل الناس ويهينهم؛ لأنها تحدد له المنهج، وترسم له الطريق، وتقيده بالوحى الإلهي الذي أنزله الله على رسله عليهم السلام. والدعوة تحدد للناس حقوقهم، وواجباتهم، مع اختلافهم في الثقافة، أو في المال، أو في العمل، أو في الجنس، أو في اللون، أو في الدين ... وهكذا. وهذه الغايات الكبرى التي يعمل لها الدين تجعل المهمة شاقة، والنجاح أمرا صعبا؛ ولذلك وجب الاستعداد للدعوة، وقد رأينا موسى -عليه السلام- يطلب من الله أمورا تساعده في تبليغ الدعوة. وأهم ما يحتاجه القائمون بالدعوة ما يلي: 1- قوة العقيدة: يحتاج مبلغو الدعوة من الرسل والدعاة إلى عقيدة قوية؛ لأنهم يعملون على تقويتها في حياة الناس، ولا يمكن للدعاة أن يصلوا إلى ذلك إلا إذا اتصفوا هم بها أولا؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ومن المعلوم أن الدعوة العملية أبلغ تأثيرا من الدعوة النظرية، وما خرج من القلب الصادق يصل إلى قلوب الآخرين. 2- امتلاك صفات القيادة: تحتاج القيادة إلى صفات يتمتع بها القائد الحسن والأنبياء، والدعاة قواد في مجتمعهم، ورواد يأخذون بيد الناس إلى ما يعملون له، وأهم صفات القيادة تتمثل في الشجاعة؛ ليتمكن القائد من توجيه الدعوة الدينية إلى الناس، بلا خوف أو فزع، ويتمتع برباطة الجأش، وقوة العزيمة، وبهذا يتمكن من التعامل مع الواقع بهدوء وروية، وقد تسلح موسى -عليه السلام- بخلق الشجاعة، والجرأة في مواجهة فرعون بسلطانه، وهيبته.

ومن صفات القيادة مشاركة الناس في قضاياهم، وتحمل إزالة الأضرار والآلام عنهم, وقد رأينا موسى -عليه السلام- يشارك الإسرائيليين، ويطلب من فرعون أن يحررهم، ويتركهم يذهبون معه عليه السلام إلى بلاد الشام. ومن صفات القيادة الكرم المادي والمعنوي؛ لأن ذلك يقرب القلوب، ويجمع العقول والعواطف، يقول الله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} 1. ومن صفات القيادة الصبر، والتحمل، وهذا يمكن الداعية من استيعاب مواقف معارضيه، ويجعله قادرا على توجيه الحوار نحو قضيته، والانتقال من مسألة إلى أخرى، ومن دليل إلى غيره بلباقة، وحكمة.

_ 1 سورة فصلت آية: 34.

الركيزة الثالثة: خصائص البلاغ المبين

الركيزة الثالثة: خصائص البلاغ المبين استعد موسى -عليه السلام- للبلاغ, وأحل الله له عقدة من لسانه، وأرسل معه أخاه، وذلك حتى تصل دعوته إلى الناس بينة، واضحة، مفهومة، كما قال عليه السلام وهو يطلب من ربه المعونة, قال تعالى: {وَاجْعَلْ لِي} ذلك أن غاية الرسالة البلاغ، والبلاغ يعني الوصول إلى المراد، وبذل ما يكفي لتحقق المطلوب في صورة عادية، يقال: بلغ الغلام إذا وصل إلى زمن التكليف والمسئولية، ومنه قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} 1. ويتضمن البلاغ كذلك بذل أقصى الجهد، والبلاغة, والفصاحة، والحسن، والبيان2.

_ 1 سورة الأحقاف آية: 15. 2 لسان العرب، مادة "بلغ" ج10 ص301، 302.

وهذه الدلالات اللغوية لكلمة البلاغ, تشير إلى أهم خصائصه في مجال الدعوة إلى الله تعالى: - جلاء القضية التي يدعو إليها الرسول، أو الداعية في ذهن المستمع؛ ليعرف حقيقتها، وغايتها، وأهميتها عن أشباهها، وأمثالها، كالدعوة إلى التوحيد حيث ندرك من عرض الرسول لها هذا التميز، لقد كان فرعون يرى أنه الإله الواحد, ويقول: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} 1، لكن دعوة موسى وضحّت وحدانية الله، المتصف بكل كمال يليق بالإله المعبود. - تحريك عمليات الإدراك العقلي حول القضية موضوع الدعوة، انظر إلى موسى -عليه السلام- وهو يخاطب عبدة الأصنام، لقد أوصلهم بأسئلته إلى أن يقروا له بالصدق، قال تعالى: {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} 2. وها هو عليه السلام يخاطب فرعون حتى أصابه بالبهتان، والعجز ... وسبب ذلك أن موسى -عليه السلام- حرك بدعوته عوامل التعقل والتفكير، فعجزوا عن الرد حتى كادوا أن يؤمنوا بموسى ودعوته. - بذل أقصى الطاقة، وكل الممكن في عملية البلاغ، فليست الدعوة شعارا يرفع، أو عملا للمباهاة والراحة، وإنما هي تكليف يحتاج إلى السعي المتواصل، والعمل الدءوب، والانتقال بالمستمعين من دليل إلى دليل، ومن حجة إلى حجة، عسى أن يصل أحدها إلى شغاف القلب فينفتح، ويدخل في دين الله تعالى. - الاستفادة بفنون البلاغة المتعددة في عرض موضوع الدعوة بتصوير المعنى، وعرضه في أساليب مختلفة، وتحسينها بالجمال والإبداع؛ لتتمكن المعاني من نفسية المستمع، وتجذبه عاطفيا، وفي البلاغة سحر يشد العقول إليه، وتألفه العاطفة، والوجدان.

_ 1 سورة القصص آية: 38. 2 سورة الأنبياء آية: 64.

انظر إلى الجمال في الوجود، تلقه يأخذ بالألباب، ويصل سحره إلى الذوق والوجدان، فيحرك عند الأديب قصائد الشعر، ومقالات الأدب، في إبداع عجيب، يزين المعنى ويكسوه بلباس الحسن والبهاء. ولقد كان العرب بسليقتهم الصافية، يعجبون بجمال القرآن الكريم، فيأتون لسماعه، وإن لم يؤمنوا به. وليس من البلاغ إبراز الحق في صورة ميتة، خالية من الحركة والجمال؛ لأن هذا ليس بلاغا في الحقيقة، وضرره أكثر من نفعه. وليس من البلاغ أن تنطق بالحق ألسنة تعيش بالباطل، وتعمل به، وتلهو وتلعب، ويكفي في هذه الحالة أن يقول الناس: لو كان الداعي صادقا, لأفاد نفسه قبل أن يفيدنا. وليس من البلاغ قول لا يبرز المعنى، وخير لهذا القول أن يسكت وينتهي.

الركيزة الرابعة: أساسيات النجاح في الدعوة

الركيزة الرابعة: أساسيات النجاح في الدعوة المؤمنون المخلصون يأملون في نجاح الدعوة إلى الله تعالى، والرسل -عليهم السلام- في مقدمة المؤملين؛ ولذا رأينا موسى -عليه السلام- يسأل الله تعالى أن يمده بعوامل النجاح, التي تعينه في الدعوة. ومن أساسيات النجاح، أن يعرف القائم بالدعوة كل شيء عن المدعوين، من ناحية تدينهم، وثقافتهم، ودورهم في المجتمع ... ليتمكن بهذه المعرفة من تخير الوسيلة المناسبة, والأسلوب النافع. ومن أساسيات النجاح, تعاون المخلصين من المؤمنين في العمل لدعوة الله، فيشد بعضهم أزر بعض، ويشاركه في الأمر، ويدافع عنه، ويكون له ردءا يقويه ... ولا مجال للتنافس بين الدعاة؛ لأنهم أصحاب قضية واحدة، ولا بد لهم من التعاون في إبرازها، وتدعيمها.

ومن أساسيات النجاح، الإعداد المسبق للحركة بالدعوة؛ ليتمكن القائم بأمر الدعوة من إعداد العدة لكل موقف، وحتى لا يفاجأ خلال الدعوة بما لم يتوقعه، وليملك زمام الأمر بيده، ويحركه بعمله، وقوله.... والعالم المعاصر عالم تنظيم، وتخطيط، ومتابعة. ومن أساسيات النجاح, مشاركة الآخرين وخاصة المخلصين؛ لأنهم قد يدركون ما لا يعرفه، وبذلك يستفيد بفكر غيره، ويأخذ دروسا من الآخرين، وهذا موسى -عليه السلام- ذهب إلى الخضر، وتعلم منه الكثير. ومن أساسيات النجاح, البعد عن الخطأ بقدر الإمكان، ومقاطعة المخطئين إن علم بهم؛ لأن الظهور مع أهل الباطل يقويهم، ويوحي للناس أن الداعي واحد منهم، وحينئذ يكون الضرر.

الركيزة الخامسة: شخصية المرأة في الدعوة

الركيزة الخامسة: شخصية المرأة في الدعوة لم تغب المرأة عن قصص الأنبياء, إلا أن ظهورها كان سلبيا غالبا، فمع نوح ولوط -عليهما السلام- كفرن بدعوتهما، ومع يوسف كانت امرأة العزيز والنسوة. إلا أن شخصية المرأة في قصة موسى -عليه السلام- أخذت منحى إيجابيا، خلد ذكرهن بسببه في القرآن الكريم. فها هي أم موسى -عليه السلام- يوحي الله إليها، ويلهمها كيفية المحافظة على وليدها، وإرضاعه، وعدم قتله، وإلقائه في النهر حين تخاف عليه. ونلمح روح المؤمنة الحانية في أم موسى -عليه السلام- فلقد امتلأ قلبها حبا لوليدها, ومخافة عليه، وشفقة لفراقه، وكادت من شدة خوفها أن تحكي لجنود فرعون ما حدث منها، إلا أن الله ربط على قلبها لتبقى مؤمنة، قائمة. وها هي أخت موسى -عليه السلام- تتعاون مع أمها في حفظ موسى، وتتابع مسيرة التابوت, وتدل زوجة العزيز على امرأة ترضعه بحنان وإخلاص، وتستمر في المتابعة حتى يعود موسى -عليه السلام- إلى أمه.

وها هن بنات شعيب يقمن بسقي الغنم, ورعيها في أدب, ووقار. وأخيرا تظهر امرأة فرعون مؤمنة, صادقة، تعلن إيمانها بالله تعالى، وتتبرأ من فرعون وملئه وأمواله وجاهه, وتعيش لله رب العالمين. إن بروز المرأة بهذه الصورة الطيبة، يعرف بدور المرأة في المجتمع، ويؤكد أنها مسئولة, ومكلفة, وقادرة على خدمة الدعوة إلى الله تعالى، وقد يتوارى الرجل أمام جهودها, وعملها. والدين يكرم المرأة كما يكرم الرجل، فبعضهم من بعض، وكلاهما له دوره ووظيفته في الحياة. وعلى الدعاة أن يدركوا أهمية دور المرأة في المجتمع، ويخصوها بالدعوة، فلها تأثيرها على أولادها، وفي بيتها وبيئتها، وفي أحيان كثيرة يتأثر البيت كله بامرأة واحدة فيه، بسبب إخلاصها, وصدقها.

الركيزة السادسة: بين الدنيا والآخرة

الركيزة السادسة: بين الدنيا والآخرة: يحتاج المؤمن عموما، والدعاة خاصة إلى معرفة الحياة الدنيا، والحياة الأخرى معرفة يقينية؛ ليتصرفوا وهم في الحياة الدنيا على ضوء هذا اليقين بما يفيدهم, ويحقق مصالحهم في الدنيا، والآخرة. لقد نصح العقلاء قارون بأن يستخدم النعم التي أنعم الله بها عليه، وأن يقصد بها تحقيق الخير في الآخرة، ولا ينسى حظه في الدنيا، قال له قومه: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} 1.

_ 1 سورة القصص آية: 77.

ومجمل هذه النصيحة أن يبذل عطاء الله في طاعة الله، وبذلك يتمتع بالحياة الدنيا، وفي نفس الوقت يكون عمله كله للآخرة، وبهذا فسر ابن عباس، والجمهور قوله تعالى: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} , فقالوا: إن معناها: لا تضيع عمرك في الدنيا في غير عمل صالح، فنصيب الإنسان في الدنيا هو عمره، والتعمير الحقيقي يكون بالعمل الصالح، والعمل الصالح هو قنطرة الخير في الآخرة1 ... ولذلك نصحوه بالإحسان في الدنيا، والمراد به التوجه الصادق بالعمل الصالح لله رب العالمين مع الصدق، وخلوص القصد؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- عندما سُئل عن الإحسان، قال: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه, فإن لم تكن تراه فإنه يراك" 2. إن المؤمن الحقيقي يرى الآخرة كما يرى الدنيا، ويعرف القيمة الحقيقية لكل منهما. فالدنيا دار ممر تنتهي بالموت، ومتاعها قليل، وخيرها لا يدوم، ومنغِّصاتها كثيرة، وقد يختلط خيرها بشرها؛ كمال يضيع في المرض، وسلطان يضعفه الخوف, وجمال يغيره النشوز والنكد، وجمع تهزمه الكوارث والنكبات ... وصدق الله العظيم وهو يصور متع الحياة الدنيا، يقول تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} 3. أما الآخرة فهي دار مقر وخلود، متاعها كثير، وخيرها عميم، خالية من الكدر والمنغصات، وليس فيها ضرر البتة، ويكفي أن الإنسان يتمتع فيها بحرية مطلقة، ما يريده يكون، وما يأمله يتحقق. أزواج حسان، وصحب كرام

_ 1 تفسير القرطبي ج13 ص314. 2 صحيح البخاري بشرح فتح الباري, كتاب الإيمان, باب سؤال جبريل ج1 ص114. 3 سورة الكهف آية: 45.

وغلمان مخلَّدون، وحياة متجددة، ومقام جميل، تحيطه الخضرة، وتمر تحته الأنهار ... إن المؤمن في الآخرة يعيش سعادة أبدية، تحيط النعم به من كل جانب، يلمس فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، يقول الله تعالى مشيرا إلى نعيم الآخرة: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 1. هذا التصوير الصحيح للدنيا والآخرة، لو صدق به إنسان ما، تصديقا يقينيا لاعتدل عمله، وسلوكه، وخلقه على منهج الله، مالك الدنيا والآخرة. والعاقل يتساءل: ولِمَ لا يؤمن الإنسان بهذه الحقائق, والدنيا أمامه تجربة ماثلة، يشاهد من خلالها الصورة التي ذكرها القرآن الكريم؟ ويعد صدق القرآن الكريم في تصوير الحياة الدنيا، دليلا على صدق تصويره للآخرة، وبخاصة أن الموت حق، والكل يموت حين مجيء أجله. ومعجزات الرسول -صلى الله عليه وسلم- شاهدة على صدقه في كل ما أخبر عنه، ومنها حقيقة الآخرة، فهي الخير, وهي السعادة، وهي أمل المؤمنين، يقول الله تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} 2، ويقول سبحانه: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} 3. هذه الحقائق لم يصدق بها قارون، فاستغرقته الحياة الدنيا، واغتر بنفسه وماله، وظل على كفره حتى أغرقه الله تعالى.

_ 1 سورة البقرة آية: 25. 2 سورة العنكبوت آية: 64. 3 سورة الضحى آية: 4.

أما سَحَرَة فرعون فقد اكتشفوا هذه الحقائق، وقارنوا بين الدنيا والآخرة، وفتح الله بصائرهم، فلم يرتدعوا بتهديد فرعون، بل رحبوا بالموت، والقتل، والصلب؛ لأنه في غايته الكبرى يضيع الحياة الدنيا، إلا أنهم سيفوزون بالحياة الأخرى. لقد فات أوان تهديد السحرة، وربطت اللمسة الإيمانية مضغة القلب الضئيلة بالقدرة الإلهية اللا نهائية، فإذا الإنسان قوة سامية، تلتصق برب الوجود كله، وتعلو فوق قوى الأرض كلها، وإن تماوجت، وتطاولت، وادعت السلطان، والنفوذ ... بهذه اللمسة الإيمانية واجه السحرة فرعون، وقوته، ودولته قائلين: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} 1. واكتشفت امرأة فرعون هذه الحقائق، ولامستها بقلبها، وعقلها؛ ولذلك آثرت بيتا في الآخرة، واعتبرت دنيا فرعون بقصوره، وأملاكه، وسلطانه، سجنا ظالما، وطغيانا فاسدا، ونادت الله قائلة: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 2. وهذا المؤمن من آل فرعون يستثيره تآمر فرعون وملئه على رسول الله موسى -عليه السلام- فيظهر نفسه، ويحدثهم حديث المطمئن، العارف بالله، المتيقن من حقيقة الآخرة، وقيمتها إزاء الدنيا.

_ 1 سورة طه الآيات: 72, 73. 2 سورة التحريم آية: 11.

ولذلك كان يخوِّفهم من زوال سلطان الدنيا وملكها, إذا جاءهم بأس الله تعالى، ويخوفهم من سوء المنقلب في الآخرة, فهو الخسران المبين, وينصحهم بالحق، وهو يقول لهم: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} 1، {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ، مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} 2. إن الإيمان اليقيني بالآخرة يصلح الحياة الدنيا، ولا يسمح للفساد، أيا كان لونه أو مصدره, أن يسود فيها؛ لأنه سيصطدم حتما بالمؤمنين، ولن يعيش أبدا معهم. إن مشهد السحرة، وامرأة فرعون، وهم يظهرون استعلاءهم على الكفر والضلال، هو إعلان واضح لحرية العقل، والضمير، حين ينفكّ عن قيود الأرض، وظلمات المادة. إن هذه المشاهد تؤكد أن انتصار الحق والإيمان، يكون بعد انتصارهما في عالم الفكرة، والعقيدة، وقبل السلوك بالضرورة، كما تؤكد الصلة، والترتيب بين هذين الانتصارين، فلا بد من الانتصار في عالم الضمير قبل الانتصار في عالم الواقع، ولا يعلو أصحاب الحق في الحياة، إلا بعد أن يعلو الحق في قلوبهم على ما عداه، من طمع وشهوة، وحب للمادة، وخلود في الأرض ... لا بد أن يتجسد الحق والإيمان في المشاعر والفكر، قبل أن يتحرك في الجوارح، والسلوك. ليس من الإيمان في شيء أن يتحول الإيمان إلى كلمات يتشدق بها اللسان، والقلب فارغ منها.

_ 1 سورة غافر آية: 29. 2 سورة غافر الآيات: 39, 40. "385".

وليس من الإيمان في شيء أن يصير الإيمان شعرا، لا صلة له بالضمير والشعور. وليس من الإيمان في شيء أن يدعيه من يدعيه، وأعماله وأقواله وأخلاقه متناقضة مع لوازم الإيمان. إن الأمة الإسلامية مطالبة بأن تعيد النظر في حقيقة إيمانها, لتكون صادقة مع نفسها، ومع ربها، ومع الحياة التي تعيشها. إن أعداء الإسلام يتعاملون مع المسلمين على أساس تسلحهم بالإيمان الصحيح، ويعدون عدتهم المادية على هذا الأساس، وتكون المواجهة، ويتحقق النصر لأهل الباطل؛ لأنهم واجهوا بأسلحتهم قوما لا سلاح لهم، بعدما فقدوه برضى، واختيار منهم ... وعلى المسلمين أن يلوموا أنفسهم، ويصلحوا أمرهم إن أرادوا النصر، والفوز.

الركيزة السابعة: تجنب الظلم والظالمين

الركيزة السابعة: تجنب الظلم والظالمين من حقائق الحياة أن الاقتراب من الفساد يفسد، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ومن أعان ظالما فهو مثله، ومن والى ظالما فهو معين له على الظلم؛ ولذلك عد جنود فرعون من الظالمين؛ لأنهم ساعدوه، وأطاعوه، وكانوا معه، ولولاهم لما استطاع أن يفعل شيئا ما. ولما رجع موسى -عليه السلام- إلى قومه، ووجدهم يعبدون عجلا، عاتب أخاه هارون لبقائه فيهم، وسأله: لِمَ لم تتركهم, وتتبعني، وتأت إلي؟ وسبب ذلك أن بقاءه وسط الظالمين عون لهم، وشبهة يدعون بها أن الرسول معهم، ويلبسون بذلك على الناس. وتلك حقيقة؛ لأن الظالم إذا شعر ببعد الناس عنه رجع، أما إذا وجد الناس من حوله تمدحه، وتنافقه، فإنه يتمادى في ضلاله. لقد أدى النفاق بفرعون إلى أن ادعى الألوهية، وعبده المنافقون، وأشاعوا في الناس، وفي كل أرجاء مصر ألوهية فرعون، لقاء غنم رخيص، ومال زهيد، وقرب من السلطان لا يدوم.

هل كان فرعون يستطيع الوصول إلى عقول كل المصريين لإقناعهم بألوهيته؟ أم هو النفاق، والمنافقون؟ ومن هنا شرع الله لرسله الابتعاد عن الظالمين، وترك معاشرتهم, وذلك أضعف الإيمان. وهذا درس يحتاج إلى فهم وخلق؛ ليتم هجر الظلم, والظالمين، في أمن وسلام، بعيدا عن الخطأ والعدوان؛ لأن من يتجنب الظالم لا يصح أن يكون ظالما مثله.

الركيزة الثامنة: أهمية العلم

الركيزة الثامنة: أهمية العلم العلم في حد ذاته مفيد، ويكفي أن يدعيه ما ليس فيه، وقد علمنا من موقف موسى -عليه السلام- مع الخضر، ضرورة التعلم، وأهمية تحصيله، وبذل الجهد والمشاق في الحصول عليه، والتأدب في التعليم, والإقرار بمنزلة المعلم، وتقديره. يقول الإمام ابن حجر في شرحه لصحيح البخاري: "والمراد بالعلم في قوله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} 1 العلم الشرعي، الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف، من أمر دينه في عباداته ومعاملاته، والعلم بالله وصفاته، وما يجب له من القيام بأمره، وتنزيهه عن النقائص"2 ... ويلحق بهذا العلم جميع العلوم التي يحتاجها المسلمون، ويحتاجها الدعاة إلى الله تعالى. وتحصيل العلم يحتاج إلى مشقة لا بد منها، ويحتاج إلى التواضع والإخلاص, وقد رأينا الصحابة والتابعين -رضوان الله عليهم- يرحلون في طلب حديث واحد، ويسافرون الأيام الطويلة؛ ليسمعوا شيخا بسط الله له في علمه. وعلى المسئولين أن يهيئوا مسالك العلم للناس، وأن يمكنوا العلماء العقلاء الذين يصلحون في الأرض، ولا يفسدون.

_ 1 سورة طه آية: 114. 2 فتح الباري ج1 ص441, كتاب العلم, باب فضل العلم.

هارون عليه السلام

17- هارون عليه السلام: هو الشقيق الأكبر لموسى -عليه السلام- ولد في السنة التي كان فرعون يدع القتل فيها، وهو أكبر من موسى بثلاث سنوات. وهو اسم معرب من العبرية، وينطق فيها بالهمزة بدل الهاء، فيقولون: آرون بمعنى النشاط1، وهو اسم ينطبق على مسماه؛ لتميز هارون بالنشاط في الطاعة، والحرص على تحقيق مقصده بهدوء، ولين. وقد عاش في مصر، ولم يخرج منها إلا مع الإسرائيليين، يوم أن خرجوا جميعا، ورحلوا إلى سيناء. وحين كلف الله موسى -عليه السلام- بالرسالة، طلب من الله أن يعينه بإرسال هارون -عليه السلام- معه؛ لما تميز به من صفات، يقول الله تعالى حكاية على لسان موسى عليه السلام: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} 2، ويقول سبحانه: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} 3، ويقول

_ 1 بصائر ذوي التمييز ج6 ص67. 2 سورة القصص آية: 34. 3 سورة طه الآيات: 29-32.

تعالى: {وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ، وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} 1. ومن مجمل الآيات نفهم أن هارون -عليه السلام- اتصف ببعض الصفات التي من أجلها طلب موسى -عليه السلام- من الله أن يشركه أخوه هارون في الرسالة والدعوة، وأهمها: الأولى: تميز هارون -عليه السلام- بالهدوء واللين، فتمكن بذلك من مواجهة المواقف الشديدة، رابط الجأش، بلا ضيق أو انفعال. الثانية: تميز هارون -عليه السلام- بالشدة، وقوة البأس، وهذا يساعد في تبليغ الدعوة، ويدخل الرعب في قلوب العدو، ويشد أزر موسى -عليه السلام- ويبعد عنه خوف الأعداء؛ لأنه كان يتوقع انتقامهم منه لقتله المصري يوم أن فر إلى مدين، يقول الثعلبي: "كان هارون أطول من موسى"2. الثالثة: تميز هارون -عليه السلام- بالرشد، وسداد الرأي؛ ولذلك رغب موسى -عليه السلام- أن يشركه في الأمر، ويشاوره في مواجهة المعارضين، وقد ساعده على ذلك هدوء طبعه، وثباته وقت الشدائد. انظر له -عليه السلام- يوم أن عبد قومه العجل, وجاءه موسى -عليه السلام- وأخذ برأسه ولحيته، فإنه -عليه السلام- أقنع موسى -عليه السلام- بوجهة نظره، وأعاده بلينه إلى الهدوء، فدعا له موسى عليه السلام. الرابعة: تميز هارون -عليه السلام- بالفصاحة، والبيان؛ ولذلك طلب موسى -عليه السلام- معاونته؛ ليشترك معه في الدعوة، ويدفع عن موسى ما سوف يقابله، ويقنع الناس بصدق موسى عليه السلام. وقد استخلف موسى -عليه السلام- هارون يوم أن ذهب لملاقاة ربه؛ ليصلح حال الناس،

_ 1 سورة الشعراء الآيات: 13, 14. 2 بصائر ذوي التمييز ج6 ص68.

ويدعوهم إلى الحق، ويبعدهم عن الضلال والهوى، يقول الله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} 1. لكن الإسرائيليين انتهزوا فرصة غياب موسى -عليه السلام- واستجابوا للسامري حين دعاهم لإلقاء الذهب، الذي جاءوا به من مصر في النار؛ ليتخلصوا من وزره؛ لأنه لا حق لهم فيه، وصنع لهم عجلا من البقر، ودعاهم إلى عبادته فعبدوه، واستهانوا بهارون لطيب خلقه، ولين طبعه، فلما رجع موسى إليهم اعتذروا له, وعادوا إلى دين الله مرة أخرى. وقد توفي هارون قبل موسى بسنتين أو بثلاث، يروى السدي عن أبي مالك وأبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة بن مسعود، وعن ناس من الصحابة قالوا: ثم إن الله أوحى إلى موسى أني متوف أخاك "هارون" فأت به إلى جبل كذا، وكذا، فانطلق موسى وهارون نحو هذا الجبل، فإذا هم بشجرة لم تر شجرة قبلها، وإذا هم ببيت مبني، وإذا هم بسرير عليه فرش، فإذا فيه ريح طيبة، فلما نظر هارون إلى ذلك البيت, والجبل، وما فيه أعجبه، فقال: يا موسى, إني أحب أن أنام على هذا السرير, فلما نام قبض الله روحه ... فلما قبض رفع ذلك البيت، وذهبت تلك الشجرة، ورفع السرير به إلى السماء. لما رجع موسى -عليه السلام- إلى قومه، وليس معه هارون، قالوا: إن موسى قتل هارون ... فلما سمع موسى -عليه السلام- ذلك، قام فصلى ركعتين، ثم دعا الله، فنزل السرير وعليه هارون، حتى نظروا إليه بين السماء والأرض، فعلموا أن هارون قبضه الله إليه، وبرئ موسى -عليه السلام- من اتهامهم2.

_ 1 سورة الأعراف آية: 142. 2 قصص القرآن ص290.

وقصة هارون -عليه السلام- تفيد أهمية استعانة الدعاة بمن يساعدهم في القيام بواجبهم، ويستفيدون بأي شيء يسهل التبليغ، جريا على عادة البشر، كما استعان موسى -عليه السلام- بأخيه هارون، والقصة كذلك توضح لنا أهمية الدعاء، والطلب من الله سبحانه وتعالى, فهو القادر على كل شيء.

إلياس عليه السلام

18- إلياس عليه السلام: إلياس -عليه السلام- هو أحد أنبياء بني إسرائيل، والعرب تنطق اسمه بألفاظ متعددة, فيقولون: هو "الياسين, أو ياسين، وآل ياسين" أسماء متعددة له عليه السلام. لقد كان إرسال إلياس -عليه السلام- بعد موسى بوقت قصير، ونظرا لغلو الإسرائيليين في المادية، وإفراطهم في التجسيد، جاءتهم المعجزات الحسية العديدة؛ لتحقيق شيء من التوازن النفسي بين متطلبات الطبع اليهودي المادي، وبين متطلبات الإيمان والرسالة، يقول النووي: "كان إلياس على صورة موسى -عليه السلام- وقوته, وقد نشأ في بيئة حسنة، وكان الإسرائيليون يحبونه، ويقولون: إنه بشرى اليعازر لهم، وسيهلك الله به الملوك، والجبابرة"1. حفظ إلياس ما عندهم من التوراة، وأظهر لهم المعجزات. صاح فيهم مرة صيحة أرعبتهم، وكادت تقتلهم ... فقالوا: هو ساحر، ونسوا كل ما قالوه فيه، وهمّوا بقتله فهرب منهم، وساروا وراءه، فانفلق الجبل ودخله إلياس، وانصرف الناس, وعاش إلياس في الجبل حتى بلغ أربعين سنة، فبعثه الله نبيا، وكلفه بالرسالة إلى قومه، وأمره أن يتوجه إلى الملوك، والجبابرة لدعوتهم إلى عبادة الله تعالى. وقد امتد نطاق دعوة إلياس إلى سبعين مدينة, تتوسطها مدينة "بعلبك" التي تقع في شمال لبنان حاليا، وفي كل مدينة جبار يسوسها، وكانوا يعبدون الأصنام، ويصنعونها على صورة بشرية ويسمونها "بعلا".

_ 1 تفسير الجمل ج3 ص550.

وقد أجرى الله على يد "إلياس" -عليه السلام- عديدا من المعجزات، مثل: - خمود النار بأمره1. - عدم إحراق النار لامرأة الملك2. - حبس الماء عن القوم3. - إحياء الموتى4. - نزول الغيث5. وحديث المؤرخين عن معجزات إلياس الحسية طويل6, ونحن لا نقطع بها؛ لورودها عن طريق أدلة ظنية، ولا نردها لأن المطلع على تاريخ أنبياء بني إسرائيل يرى كثرة المعجزات الحسية, التي أظهرها الأنبياء جميعا، بدءا بيوسف -عليه السلام- وانتهاء بعيسى عليه السلام. ويجب أن يكون واضحا أن أنبياء بني إسرائيل جميعا بعثوا بتجديد رسالة موسى -عليه السلام- لكثرة ما صنعوا، وحرفوا. أرسل الله إلياس -عليه السلام- إلى قومه من بني إسرائيل، وقومه هم أحد أسباطهم الذين رحلوا إلى مدينة "بعلبك" في أقصى الشمال، فنسوا عهد الله، وعبدوا الأوثان دونه, فبعث الله إليهم إلياس -عليه السلام- يدعوهم إلى التوحيد، ويذكرهم بعهد الله, ويبين لهم أن الانحراف عن دين الله ضلال مبين؛ لأن الله هو خالقهم، ورازقهم، وربهم، ورب آبائهم، ورب العالمين.

_ 1 قالوا: إن الملك طلب منه معجزة وهي إطفاء النار، فنادى: أيتها النار اخمدى ... فخمدت. 2 قالوا: إن امرأة الملك آمنت مع إلياس، فألقاها زوجها في النار، فدعا إلياس ربه، فلم تعمل النار فيها شيئا. 3 أنذر إلياس -عليه السلام- قومه بحبس الماء إن لم يؤمنوا، فأصروا على الكفر، فحبس المطر، وجفت الأنهار, وغارت العيون، ومات الشجر. 4 قالوا: إن إلياس أحيا عددا من الموتى بإذن الله, منهم اليسع. 5 لما أمن البعض به, دعا الله بالماء, فنزل الغيث، وجرت الأنهار، وتفجرت العيون. 6 انظر الفتوحات الإلهية الشهير بالجمل "ج3 ص550 بتصرف".

لكن القوم استمروا على ضلالهم، واتخذوا صنما من الحجر، وعبدوه من دون الله، وتصوروه ربا، يعينهم، ويحفظهم، ويمدهم بالخير. وكان عليه السلام ناصحا أمينا لقومه، لطيفا في دعوته لهم، حيث أخذ يناقشهم ويطلب منهم الحجة والبرهان, ويدلل على ضلالهم، ويدعوهم إلى الله رب العالمين, يقول الله تعالى: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ، أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ، اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} 1. ومن هذه الآيات, ندرك الحقائق التالية: أولا: إلياس هو رسول الله -عليه السلام- اختاره الله للرسالة، وأنزل عليه وحيه, وكلفه بدعوة قومه إلى العقيدة الصحيحة. ثانيا: أن قوم إلياس اتخذوا إلها، وسموه "بعلا", ذهب المفسرون إلى أنه صنم، أو ملك، اتخذوه إلها أو ربا, ويمكن جمع هذه الآراء في أنهم صنعوا صنما على صورة ملكهم، وعبدوه إلها، وقصدوه ربا، وبهذا تلتقي الآراء في مفهوم واحد، لا تعارض فيه. ثالثا: أن دعوة إلياس -عليه السلام- كانت لقومه، وهم أحد أسباط بني إسرائيل، الذين رحلوا من بيت المقدس، وسكنوا شمال الشام، في مدينة "بعلبك". رابعا: دعا إلياس -عليه السلام- قومه بحكمة، ولين، وحسن في الدعوة والإرشاد. - فلقد ناداهم بما بينهم من قربى، ونسب، وقال لهم: يا قوم؛ ليعلموا أنه حريص عليهم، ساعٍ لمصلحتهم.

_ 1 سورة الصافات الآيات: 123-126.

- وعرض عليهم دعوته بصورة المستفهم؛ ليعودوا إلى أنفسهم، ويكرروا السؤال على عقولهم، عساهم يفيئون، ويعودون إلى صوابهم. - قارن إلياس -عليه السلام- لقومه بين صنمهم، وبين الله، وبين أن الصنم حجر لا يسمع، ولا يبصر، ولا يضر، ولا ينفع، ولا يغني عن أحد شيئا، بينما الله تعالى خلقهم، ورزقهم، ونظم لهم حياتهم، فهو ربهم، ورب الناس أجمعين. يسمع القوم دعوة إلياس -عليه السلام- فيؤمن بدعوته المخلصون الأصفياء، وتظل الأكثرية على ضلالها وكفرها، وينزل الله عذابه بهم، وينجو إلياس والمؤمنون معه, بسبب إيمانهم وإخلاصهم، وفي الآخرة سيحل عليهم عذاب جهنم وويلاتها، وسيفوز المؤمنون برضوان الله في جنات النعيم، وأما إلياس -عليه السلام- فقد أبقى الله له الثناء الجميل، والذكر الحسن في الأمم بعده، فما من أمة مؤمنة إلا وتذكره بالخير، وتسلم عليه كسائر أنبياء الله، وها هي أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- تذكره بالنبوة، وتقرأ عنه في القرآن الكريم، كتاب الله رب العالمين، وفي سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وله -عليه السلام- السلامة من كل سوء، والبعد عن كل شر وأذى؛ لأنه عبد لله ورسوله إلى قومه، وقد وفى بما كلف به عليه السلام، يقول الله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ، إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ، إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} 1. ويوجد حاليا على جبل "الكرمل" المقام على سفحه مدينة "حيفا" قبر، يقال: إنه قبر "إلياس"2 عليه السلام.

_ 1 سورة الصافات الآيات: 127-132. 2 بنو إسرائيل في القرآن الكريم ص240.

اليسع عليه السلام

19- اليسع عليه السلام: اليسع -عليه السلام- أحد أنبياء بني إسرائيل، وقد ذكر الله نبوته مع ذكر الأنبياء الآخرين، يقول الله تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} 1, ويقول سبحانه: {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ} 2. ووهم البعض فذكر أنه إلياس، وليس كذلك؛ لأن الله أفرد كل واحد منهما بالذكر، وكانا معاصرين في بني إسرائيل، ويقال: إن اليسع ابن عم إلياس، أو ابن أخيه. وهناك من يزعم أن اليسع هو إدريس, وليس كذلك؛ لأن إدريس -عليه السلام- هو جد نوح -عليه السلام- بينما اليسع من أبناء يعقوب، وقد أرسله الله إلى بني إسرائيل. يروي قتادة عن الحسن -رضي الله عنه- أن اليسع بعث بعد إلياس، فمكث ما شاء الله أن يمكث، يدعو قومه إلى التوحيد الخالص، وإلى الطاعة والانقياد لله تعالى3، وظل مستمسكا بالحق، سالكا منهج الرسل، إلى أن قبضه الله إليه. وقد تميز اليسع منذ صغره بالرشد، والحفظ، وكان ينصح قومه، ويبين لهم خطأهم وضلالهم، فكرهوه, وطارده اليهود ليقتلوه, فآوته آم إلياس -عليه السلام- وكان اليسع مريضا، فدعا له إلياس بالشفاء، فشفاه الله تعالى.

_ 1 سورة الأنعام آية: 86. 2 سورة ص آية: 48. 3 تاريخ الطبري ج1 ص464.

ثم إن إلياس دعاه إلى دينه، فآمن به ولازمه أينما ذهب. ويبدو أن الإسرائيليين ألفوا المعصية، فكثر فيهم الأنبياء، يدعونهم على دين موسى -عليه السلام- وبمنهج الله الذي كان الوحي ينزل به على كل نبي؛ تجديدا لما ضيعوه وتصحيحا لما حرفوه، وظلوا على ذلك، لم يخلصوا لله صادقين؛ ولذلك تتابع الأنبياء والرسل فيهم، وكلما جاءهم رسول وجدهم على غير الحق، بعيدين عن الصواب، فإذا آمنوا بأحدهم انتكسوا بعده، وهكذا كان حالهم بعد اليسع، فإنهم ظلوا يؤمنون بدعوته ويعظمونه حتى قبضه الله تعالى، فعادوا إلى الكفر والضلال. يقول ابن كثير: "لما قبض الله اليسع خلف فيهم الخلوف، وعظمت الأحداث والخطايا, وكثر الجبابرة، واعتدوا على الحرمات"1.

_ 1 البداية والنهاية ج2 ص4.

داود عليه السلام

داود عليه السلام النقطة الأولى: حالة الإسرائيليين قبل بعث داود ... 20- داود عليه السلام: داود -عليه السلام- من أنبياء بني إسرائيل، وبه بدأ عصر الإسرائيليين الذهبي, فأسسوا مملكتهم، وصار لهم سلطان وحكم، وقد بدأت شهرة داود -عليه السلام- قبل مبعثه؛ لأنه عُرف بالشجاعة والإقدام، وشارك قومه في حروبهم ... والحديث عن داود -عليه السلام- يحتاج إلى دراسة النقاط التالية: النقطة الأولى: حالة الإسرائيليين قبل بعث داود كما تمرد اليهود على وحي الله مع موسى -عليه السلام- تمردوا عليه بعده، وكثر فيهم الأنبياء، وتتابع نزول الوحي. واستمر بحثهم عن الملك والسيادة، طوال عهدهم مع الأنبياء، وكانوا يربطون كل دعوة بهذه القضية، فإذا جاءهم من يدعوهم إلى إله وشريعة خاصة بهم, يعلون على غيرهم بواسطتها، أطاعوه، وإن دعاهم إلى دين صحيح متجرد من العنصرية، والخصوصية، طغوا وبغوا. إنهم يريدون دينا، يعلون به من غير تعب أو عمل؛ ولذلك قالوا لموسى -عليه السلام- حين طلب منهم دخول الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم، ومقاتلة الجبابرة الموجودين فيها، ليحلوا محلهم، قالوا: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} 1.

_ 1 سورة المائدة آية: 24.

قضى الله عليهم أن يتيهوا في البرية أربعين عاما، كما قال تعالى: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِين} 1، وفي مدة التيه توفي موسى وهارون -عليهما السلام- وتولى الحكم فيهم رجل قوي سار بهم إلى الأرض المقدسة، وتمكن من فتحها وطرد الجبابرة، وكان عليهم أن يشكروا الله على هذا الفتح الذي انتظروه طويلا، ويبرزوا شكرهم بطاعة الله، لكنهم عصوا ما أمرهم الله به، قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ، فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} 2, قيل لهم: ادخلوها ساجدين، فدخلوها بظهورهم، وقيل لهم: قولوا: حطة, فقالوا: حنطة. واستمرءوا المعصية، وغالوا فيها، فعاقبهم الله، وأنزل عليهم عذابا من السماء، وسلط عليهم ملكا ظالما، هو جالوت، فأذلهم وقتل كثيرا من رجالهم، وطردهم من الأرض المباركة، التي جاءوها مع يوشع بن نون، واستولى على أموالهم وممتلكاتهم ... وتعاقب عليهم عدد من الأنبياء، يجددون لهم دعوة موسى -عليه السلام- وذات يوم شعروا بذنوبهم، وتبين لهم أنهم لن يخرجوا من الذل والهوان، إلا بشيء من الشجاعة والإباء، فجاءوا إلى نبي زمانهم، وطلبوا منه أن يبعث الله لهم ملكا، يقودهم لقتال جالوت، ويجمع كلمتهم، ويرفع من شأنهم، ويعيد لهم شيئا من كرامتهم الضائعة. وقد جاءوا يطلبون ذلك من النبي؛ لأن النظام في بني إسرائيل أن يكون النبي من بيت، والملك من بيت آخر، والنبي يوجه، والملك يسوس ويحكم بتوجيه النبي.

_ 1 سورة المائدة آية: 26. 2 سورة البقرة الآيات: 58, 59.

رد عليهم النبي وهو يعرف طبائعهم: ألا تتوقعون أن تقعدوا عن الجهاد إذا فرض عليكم وأنتم الذين طلبتموه, وتحمستم له؟! فأجابوه بأن مصلحتهم في الجهاد, وأن القعود عنه هوان وذل، ولا بد لهم منه بعدما أخرجوا من ديارهم وأموالهم، وأكدوا عزمهم وإصرارهم، فلما فرض عليهم نكصوا، ورجعوا إلا قليلا منهم. يقول الله تعالى مصورا طلبهم القتال، وموقفهم منه بعد فرضه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} 1. اختار الله لهم رجلا, يتمتع بالعلم الواسع، والقوة البدنية، هو طالوت، فلما علموا به اعترضوا لسببين: الأول: فقر طالوت؛ لأنه معروف بينهم بقلة المال، ورأوا أن هذا يصرف الأغنياء عن الاشتراك في القتال تحت قيادة طالوت. الثاني: أنه رجل من العامة، فليس هو من سلالة الملوك، أو من سلالة الأنبياء، وتصوروا أنه بذلك لا يصح أن يكون ملكا مطاعا، فأخبرهم نبيهم أن ذلك اختيار الله العليم بكل شيء، الحكيم, القادر، والخير كله في اختيار الله تعالى، وقد رزق الله طالوت بسطة في العلم والجسم، ومشيئة الله نافذة لا يصح معارضتها، يقول الله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ

_ 1 سورة البقرة آية: 246.

اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 1. إن طالوت رجل اختاره الله، فهذه واحدة، وزاده بسطة في العلم، والجسم ... وهذه أخرى، وهو سبحانه يؤتي ملكه من يشاء ... والله واسع عليم، ليس لفضله مانع، وهو العليم بالخير، يضع كل أمر في موضعه الصحيح. وكعادة الإسرائيليين في الجدل والمراء، عادوا مرة أخرى إلى نبيهم، وطلبوا منه أن يظهر طالوت آية من الله، تبين اختياره ملكا عليهم، وكأنهم بذلك يكذبون نبيهم في خبره لهم، قال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 2. وهذا التابوت هو الذي وضع فيه موسى الألواح يوم أن جاء بها من عند الله، وعرفهم نبيهم أن التابوت ستحمله الملائكة لهم؛ ليصدقوا، ويؤمنوا، ويجاهدوا عدو الله، وعدوهم تحت إمرة طالوت. وأتاهم التابوت، وصار اليهود يأتون إليه، ويأخذون ألواحا منه، ويضعون غيرها مكانها، تحريفا لها، حتى لم يبق من الألواح إلا القليل؛ ولذلك أنذرهم الله تعالى بقوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} 3.

_ 1 سورة البقرة آية: 247. 2 سورة البقرة آية: 248. 3 سورة البقرة آية: 79.

جاء طالوت، وأحضر لهم التابوت، بما بقي من ألواح موسى، فبايعوه ملكا عليهم، فدعاهم إلى الجهاد، وقتال أعدائهم الذين أذلوهم، وجهز جيشا كبيرا، سار به إلى عدوه وعدوهم، وأراد طالوت أن يفجأ العدو، وكان بينه وبين عدوه نهر، فأمر جنوده باجتياز النهر بلا شراب، أو استحمام، أو راحة, وعرفهم بضرورة تنفيذ أوامره؛ لأنها من الله، فمن أطاعه ولم يشرب فهو معه، ومن عصاه وشرب فلن يكون معه، وقد قال لهم طالوت ذلك؛ لأنه قادم على معركة، ومعه جيش من المهزومين الأذلاء، أمام جيش قوي، يعتز بانتصاراته وهيمنته، رأى طالوت ضرورة تمتع جنوده بقوة كامنة في الإرادة والعزيمة، بها تضبط الشهوات والنزوات، وتصمد للحرمان والمشاق، وتستعلي على الضرورات، والحاجات ... ورأى طالوت أهمية اختبار صمودهم أمام رغباتهم، وصبرهم أمام متاعهم، وحدد لهم جوانب الابتلاء والاختبار وهم على النهر، وكانوا عطاشا؛ ليتميز الصالح من غيره. قال لهم طالوت ذلك، لكنهم خالفوه، فشربوا، وارتووا، واغتسلوا، فطردهم لعدم صلاحيتهم للمهمة القادمين عليها ... ودلت التجربة على أهمية الاختبار العملي، وعدم الاكتفاء بالنية اللفظية. طرد طالوت المخالفين, وأبقى الذين أطاعوه ولم يشربوا رغم قلتهم، فلما اقترب اللقاء نظر فريق ممن كانوا معه إلى الأعداء، ورأوهم كثرة فهابوهم، وخافوا من لقائهم، فرد عليهم المؤمنون الصادقون قائلين: إن الله تعالى ينصر الفئة القليلة المؤمنة الصابرة على الفئة الكثيرة الظالمة، ونصر الله غالب، وهو على كل شيء قدير. والتحم الفريقان، وسأل المؤمنون النصر من الله، ورجوه أن يلهمهم الصبر، ويثبت أقدامهم أمام الفئة الباغية، واشتد القتال، وكان داود -عليه السلام- شابا يافعا، اشترك في المعركة، وحمل مقلاعا، ووضع به حجرا، وصوبه نحو جالوت قائد الأعداء، وقذفه فقتله، وبقتل جالوت انهار العدو، وتفرق جنده، وانتصر طالوت ومن معه, يقول تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ

بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ، وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} 1. تؤكد الآيات أن النصر كان من عند الله، وبإذن منه ... وتبرز الآيات دور داود، مع أنه كان فتى من بني إسرائيل، وجالوت كان ملكا قويا، وقائدا مخوفا, وجبارا مرعبا ... لكن الله شاء أن يرى القوم بأعينهم، ويشاهدوا بحواسهم، أن الأمور لا تجري بظواهرها، إنما تتم بحقائقها ومقاديرها، وحقائقها ومقاديرها في يد الله وحده، وقد أراد الله سبحانه أن يرى الناس مصرع الجبار "جالوت" على يد فتى صغير؛ ليعلموا أن الجبابرة -وإن تعاظموا- ضعاف, ضعاف أمام قدرة الله النافذة، وهناك حكمة أخرى مغيبة، فقد أراد الله لداود -عليه السلام- أن يستلم الملك بعد طالوت، ويجمع الملك مع النبوة، ويبدأ مع الإسرائيليين عهدا جديدا، جزاء وفاقا لما أبدوه من عودة صحيحة لله، في نفوسهم وعملهم، ساعة أن أقدموا على محاربة عدوهم مع طالوت. جاء في تفسير القرطبي: "أن طالوت كان أعلم رجل في بني إسرائيل،

_ 1 سور البقرة الآيات: 249-251.

وأجمله، وأتمّه، فما كاد نظر النبي يقع عليه، حتى وقع في قلبه أنه هو الذي أوحى الله إليه بتمليكه، وأنه أرسله إليه ليحمله الزعامة، ولواء الجهاد، فلما كلفه، قال طالوت: وما أنا والملك, فإني من سبط بنيامين، وإني فقير؟ فقال له: هذه إرادة الله، وذاك أمره، فاشكره، وأطع بما كلفك به"1. وفي الآيات درس له أهميته, وهي في شخصية طالوت القيادية، فقد اختاره الله بسعة في العلم، وقوة في البدن، وهما صفتان أساسيتان في القائد، فهو بعلمه يخطط ويأمر, ويراقب وينفذ، وبقوته البدنية يتحمل ويصبر، ويقدم ويضرب، ولقد أبدى طالوت صلابة ظاهرة في قيادته، حيث اختبر جنوده وهم عطاش بأن أمرهم بعدم الشرب من الماء، وهو اختبار صحيح وتدريب على الطاعة والإقدام، ولم يتردد طالوت في طرد الذين شربوا الماء، وخالفوا أوامره. وانتصر طالوت بالمؤمنين، الذين يتيقنون أن النصر من عند الله تعالى. وإن في قصة طالوت درسا بليغا للأمة الإسلامية؛ لتعلم, وتتيقن أن القوة كلها تكمن في قوة الإيمان، وصدق الاعتقاد، وخلوص النية، والقصد لله رب العالمين, يقول تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} 2. ومن الآيات ندرك شيئا عن طبائع القوم الذين بعث فيهم داود -عليه السلام- فهم قوم جبناء، يخافون لقاء عدوهم، وينتظرون النصر بواسطة غيرهم. وهم جماعة محبة للسلطة، والمال، والملك، وكان هذا الحب محركا لهم للجهاد، إلا أن الجبن كان يمنعهم. وهم أناس تعودوا مخالفة دين الله؛ ولذلك عملوا على تحريف التوراة وتبديل الألواح.

_ 1 تفسير القرطبي ج3 ص246. 2 سورة البقرة آية: 252.

وهم شعب لا عهد لهم، ولا ميثاق، طلبوا ملكا يقاتلون به أعداءهم، فلما جاءهم نكصوا, وخالفوا. وهم أمة حاسدة، لا تتصور أمة أخرى أعلى منها؛ ولذلك قالوا: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} 1.

_ 1 سورة البقرة آية: 247.

النقطة الثانية: التعريف بداود عليه السلام

النقطة الثانية: التعريف بداود عليه السلام مدخل ... النقطة الثانية: التعريف بداود عليه السلام داود -عليه السلام- من سلالة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم, عليهم الصلاة والسلام. تميز بالشجاعة منذ صغره، واشترك مع المؤمنين في جيش طالوت، ووفقه الله تعالى، وقتل جالوت، وكان عاملا رئيسيا في هزيمة جيش العماليق، والقضاء على سلطانهم في بيت المقدس، وأعاد للإسرائيليين وطنهم المفقود. أحب الإسرائيليون داود، واتخذه طالوت مستشارا له، فكان لا يقضي أمرا دونه, وزوجه ابنته، مع أنه ليس إسرائيليا، وصار عونه في كل ما قام به. فلما مات طالوت، انتقل الملك إلى داود، وقدر الله له أن يجمع بين الملك والنبوة. وليس بصحيح ما رواه المؤرخون1 من أن الملك انتقل إلى داود بعد صراع طويل مع طالوت؛ لأن طالوت اختيار الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ} , {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} ... وداود -عليه السلام-

_ 1 انظر تاريخ الطبري ج1 ص473-475 بتصرف.

{وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} ، وليس بمتصور أن يتصارعا إذًا، فهما اختيار الله واصطفاؤه, ومحال أن يصطفي الله أناسا تعمل ما ليسوا له بأهل؟؟؟ وداود -عليه السلام- هو أول من جمع بين الملك والنبوة، يقول تعالى: {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} 1، ويقول سبحانه: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} 2. وكان الأمر قبله أن تكون النبوة في بيت والملك في بيت آخر، لكن الله أكرم داود -عليه السلام- فجمع له بين الاثنين، وضم لهما القضاء، والفصل بين الناس. وقد اختار الله داود -عليه السلام- رسولا إلى بني إسرائيل، وأنزل عليه الزبور، يقول تعالى: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} 3, وداود من الرسل الذين فضّلهم الله تعالى، ولو قارناه بأنبياء بني إسرائيل لبان فضله، وظهرت منزلته العالية. وأيده الله تعالى بالمعجزات العديدة؛ لتكون دليل صدقه أمام قومه، ومن أهم هذه المعجزات:

_ 1 سورة البقرة آية: 251. 2 سورة ص آية: 20. 3 سورة الإسراء آية: 55.

تليين الحديد له

1- تليين الحديد له: فكان يفتله بيده كحبل القطن، يقول تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} 1, ويقول تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ، أَنِ اعْمَلْ

_ 1 سورة الأنبياء آية: 80.

سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 1، وذلك أن داود -عليه السلام- قد أعانه الله على عمل الدروع من الحديد، وأرشده الله إلى صناعتها, وصنعة اللبوس هي صناعة الدروع، وكانت قبله تصنع من الصفيح، قطعة واحدة، فلما لان الحديد له، صنعها عليه السلام حلقا من الصلب الشديد، في هيئة رقائق متموجة لينة، والسابغات هي الدروع، وقد أمره الله تعالى بأن يقدر في السرد، بمعنى فتح الحلقة على قدر المسمار، فلا تتسع عنه، ولا تضيق عنه.

_ 1 سورة سبأ الآيات: 10, 11.

تأويب الجبال والطير معه

2- تأويب الجبال والطير معه: يقول الله تعالى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ، إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ، وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} 1، ويقول تعالى: {مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} 2، وذلك أن الله تعالى وهبه حلاوة الصوت، وجمال النطق، فكان عليه السلام إذا قرأ شيئا من كتابه "الزبور" يقف الطير في الهواء، يرجع بترجيعه، ويسبح بتسبيحه، وكانت الجبال تجيبه، وتسبح معه، وفي الصحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سمع أبا موسى الأشعري -رضي الله عنه- يقرأ القرآن, فقال له: "لقد أُوتيتَ أبا موسى مزمارا من مزامير داود" 3. والآية تصور فضل داود -عليه السلام- وأنه قد بلغ من الشفافية والتجرد لله حدا انزاحت الحجب أمامه، فالتقت معه الكائنات، وانمحت الفواصل بين المخلوقات، وسبح الطير والجبل معه، وأخذ كل منهم يتصل بالآخر في التسبيح، والحمد، والدعاء، يسمع, ويفهم، ويرجع، ويعيد، وتلك درجة لا ينالها إلا المقربون.

_ 1 سورة ص الآيات: 17-19. 2 سورة سبأ آية: 10. 3 صحيح البخاري, كتاب فضائل القرآن, باب تحسين الصوت ج9 ص92.

وقد تميز داود -عليه السلام- بعدد من الخصائص: الأولى: العبادة الدائمة يقول تعالى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} 1، يقول ابن عباس: {ذَا الْأَيْدِ} أي: صاحب القوة في الطاعة، وقال قتادة: أعطي قوة في العبادة، فكان يقوم الليل، ويصوم نصف الدهر. وعن وهيب بن الورد أن داود -عليه السلام- جعل ليله كله نوبا عليه، وعلى أهل بيته، لا تمر ساعة من الليل إلا وفي بيته مصلٍّ لله2. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كان داود أعبد البشر" 3، ويقول صلى الله عليه وسلم: "أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، ويصوم يوما، ويفطر يوما" 4. الثانية: الشجاعة والقوة تميز داود -عليه السلام- منذ صغره بالشجاعة، فلقد اشترك في شبابه مع طالوت والقوم يفرون، وتمكن من قتل جالوت، وساهم مع المنتصرين في إعادة الكرامة لشعب إسرائيل المطرود. ومكن الله له من صناعة الدروع، وألان له الحديد؛ ليستفيد به في صناعات عديدة عسكرية، وعمرانية، وزراعية، وغيرها. ولما بعثه الله نبيا، وجعله ملكا، مكن له من البأس والقوة، يقول تعالى: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} 5.

_ 1 سورة ص آية: 17. 2 تفسير القرطبي ج11 ص319. 3 رواه الترمذي وحسنه، انظر بصائر ذوي التمييز ج6 ص84. 4 صحيح البخاري بشرح فتح الباري، كتاب الأنبياء، باب صلاة داود ج6 ص455. 5 سورة ص آية: 20.

الثالثة: الحكم والقضاء تميز داود بالحكمة والقضاء بين المتخاصمين، ويقصده المتخاصمون لشدة عدله، ودقته في فهم الموضوع، وتناول أطرافه جميعا، حتى إنه -عليه السلام- اعتبر نفسه ظالما، يوم أن حكم على صاحب الغنم قبل أن يناقش حجته الحقيقية: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ، فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} 1. ويمكننا من خلال الآيات التي تحدثت عن معجزات داود -عليه السلام- ومزاياه، أن نحدد ملامح دعوته فيما يلي: 1- دعا قومه إلى التوحيد، وجدد لهم دعوة موسى -عليه السلام- وكان الوحي ينزل عليه بتعاليم الله، وقد أبقاه لقومه في كتابه المقدس "الزبور". 2 - دعاهم إلى الشريعة، والعمل الصالح، قال تعالى: {وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 2، وطلب منهم ضرورة الطاعة لشكر الله، يقول تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} 3، ويقول تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} 4. 3- كان شديد الإنكار على كل مخالف لحكم الله، معتدٍ على حدوده

_ 1 سورة ص الآيات: 24, 25. 2 سورة سبأ آية: 11. 3 سورة الأنبياء آية: 80. 4 سورة سبأ آية: 13.

ظالم لنفسه بالشرك، أو بالبغي، أو بالمعاصي، يقول تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} 1. وقد وهب الله لداود -عليه السلام- ولده سليمان، لتستمر النبوة، والملك في ولده، وقربه إليه، يقول تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّاب} 2، ويقول تعالى: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} 3.

_ 1 سورة المائدة آية: 78. 2 سورة ص آية: 30.

وفاة داود عليه السلام

وفاة داود عليه السلام: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كان داود -عليه السلام- فيه غيرة شديدة, فكان إذا خرج أغلقت الأبواب فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع, قال: فخرج ذات يوم وغلقت الدار فأقبلت امرأته تتطلع إلى الدار, فإذا رجل قائم وسط الدار فقالت لمن في البيت: من أين دخل هذا الرجل والدار مغلقة؟! والله لتفضحن بداود، فجاء داود فإذا الرجل قائم وسط الدار, فقال له داود: من أنت؟ فقال: أنا الذي لا أهاب الملوك، ولا أمنع من الحجاب، فقال داود: أنت والله إذن ملك الموت، مرحبا بأمر الله، ثم مكث حتى قبض روحه، فلما غسل وكفن وفرغ من شأنه, طلعت عليه الشمس، فقال سليمان للطير: أظلي داود، فأظلته الطير حتى أظلمت عليه الأرض، فقال سليمان للطير: أقبضي جناحا".

قال أبو هريرة: فطفق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرينا كيف فعلت الطير، وقبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده1، وغلبت عليه يومئذ المضرحية2. وروي عن بعضهم أن ملك الموت جاءه وهو نازل من محرابه، فقال له: دعني أنزل أو أصعد، فقال: يا نبي الله، نفدت السنون، والشهور، والآثار، والأرزاق، قال: فخر ساجدا على مرقاة له من تلك المراقي, فقبضه وهو ساجد، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى التسليم. ويقال: إنه -عليه السلام- دفن في بيت لحم3.

_ 1 رواه أحمد، وقال ابن كثير: إسناده جيد قوي ورجاله ثقات، ومعنى قوله: "وغلبت عليه يومئذ المضرحية" أي: وغلبت على التظليل عليه المضرحية، وهي الصقور الطوال الأجنحة، واحدها مضرحي، قال الجوهري: هو الصقر الطويل الجناح. 2 قصص القرآن ص316. 3 تاريخ ابن خلدون ج1 ص143.

النقطة الثالثة: داود عليه السلام والقضاء

النقطة الثالثة: داود عليه السلام والقضاء مدخل ... النقطة الثالثة: داود -عليه السلام- والقضاء كان داود -عليه السلام- يباشر القضاء بنفسه، وكان يقسم أيامه أربعة أقسام؛ يوما للعبادة في المحراب، ويوما يجلس في الديوان للحكم والقضاء، ويوما للدعوة والإرشاد، ويوما يخدم فيه نفسه. وكان عليه السلام في قضائه متميزا بالعدل والإنصاف، يعطي لكل ذي حق حقه، لا يميل لطرف، ولا ينحاز لفريق لحساب فريق، وكان الله يمده بالعون والتوفيق في مهامه جميعا، ويهديه للهدى والرشاد.

وكان الله يبين له الصواب إذا أخطأ، وكان عليه السلام رجّاعا، يعود للحق إذا عرفه، ولا يعتز بحكم أصدره، ما لم يكن وحيا. وفي مجال معونة الله لداود -عليه السلام- وإرشاده إلى الصواب, نورد ثلاثا من القضايا التي أصدر فيها حكما، ثم عدل عنه، بعد أن أظهر الله له الحق، والصواب.

الحادثة الأولى: حادثة الغنم

الحادثة الأولى: حادثة الغنم في يوم عبادة داود -عليه السلام- فوجئ وهو في المحراب برجلين, يدخلان عليه من فوق سور المحراب ليلا، ففزع منهما؛ لأنه تصورهما جاءا لقتله، وهم بالدفاع والقتال، فهدآ من روعه، وعرفاه بأنهما خصمان، اختصما في غنم بينهما، وطلبا منه الحكم بينهما، بما عرف عنه من دقة، وعدل، ورجواه ألا يظلم أحدهما، وأن يدلهما على الحكم العادل المستقيم، يقول تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} 1. هدأت نفس داود -عليه السلام- وذهب عنه الروع، وجلس يسمع لهما، فقال المدعي: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} 2, وضح المدعي الصلة بينه وبين المدعى عليه، وهي أنهما أصدقاء، وعلى دين واحد، وقال: إن المدعى عليه أراد أخذ نعجتي، وغلبني ببلاغته، وسلطانه ... ويبدو أن المدعى عليه أقره على ما ادعى, فأصدر داود حكمه بعد أن عرف الدعوى، وسمع إقرار المدعى عليه ... وكان عليه السلام أن يستقصي في البحث، ويسأل المدعي: من أين له هذه النعجة الواحدة؟ فلربما سرقها من المدعى عليه "وهو الذي كان". حكم داود -عليه السلام- بعد إقرار المدعى عليه، وشعر بأنه تعجل، وأدرك أن هذا ابتلاء من الله، فاستغفر الله، وخر ساجدا، واستمر على سجوده حتى غفر الله له

_ 1 سورة ص الآيات: 21, 22. 2 سورة ص آية: 23.

وقربه إليه، وعرفه بحسن المنزلة في الجنة، يقول تعالى: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ، قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} 1. إن القضية حقيقة كظاهرها، فالرجلان من الإسرائيليين، ولأحدهما تسع وتسعون نعجة، وللثاني نعجة واحدة، إلا أن الثاني سرق هذه النعجة من أخيه الأول, فأراد الأول أن يأخذ نعجته بحيلة، ولذا أقر بالدعوى التي عرضها صاحب النعجة الواحدة، ولم يشر إلى سرقة أخيه للنعجة، حياء وخلقا. تعلم داود -عليه السلام- من هذه الحادثة ضرورة الاستقصاء في موضوع الدعوى، وهو ما يعرف بالتحري والشهود، وأخذ رأي الخبراء؛ ولذلك استغفر ربه على تعجله، ورجع عنها، وقبل الله توبته، وغفر له. ولا يصح أن يقال: إن داود أخطأ في عدم سماع رأي المدعى عليه؛ لأنه أمر لا يتصور من داود -عليه السلام- فسماعه رأي الطرفين من بدهيات التقاضي، ولا يخطئ فيها داود -عليه السلام- لكثرة خبرته، وإنما الخطأ كان في تسرعه؛ لأنه رأى الظلم بينا أمامه. وفي القصة روايات لا تقبل في حق نبي الله داود -عليه السلام- ولا يمكن تصورها لأنها تتعارض مع عصمة رسل الله تعالى؛ ولذا نوردها في الهامش موجزة2.

_ 1 سورة ص الآيات: 23-25. 2 يقال: كان لداود -عليه السلام- تسع وتسعون زوجة، وذات يوم رأى زوجة قائد جيشه "أوريا" فأحبها، وخطط للتخلص من زوجها، فأرسله في غزوة عاد منها، فأرسله في ثانية، وثالثة حتى قُتل، وبعدها تزوجها داود عليه السلام ... وهذا من افتراء اليهود على داود، فهل يليق برسول أن ينظر إلى امرأة غيره, ويتآمر لقتل زوجها, ويكلفه بغزوات لغاية قتله؟! جاء في سفر صموئيل الثاني، الإصحاح الحادي عشر ما هو أفدح، جاء "أن داود أقام في أورشليم، وكان في وقت المساء، قام عن سريره، وتمشّى على سطح بيت الملك، فرأى من على السطح امرأة تستحمّ، وكانت المرأة جميلة جدا، فأرسل داود رسلا وأخذها، فدخلت إليه، فاضطجع معها، وحبلت المرأة من داود، فاستدعى زوجها، وأعطاه إجازة؛ ليبيت معها ويستر الفضيحة، لكن الزوج رفض ترك الميدان والحرب، فأمر داود بقتل الزوج في الحرب وبعدها تزوج المرأة ... هل هذا حديث يليق برسول؟! وهل الكتاب المتضمن لهذه الأقوال مقدس، منزل! ويقول آخرون: إن المرأة كانت مخطوبة ولم تتزوج. ويرى أصحاب هذه الأقوال أن الملكين جاءا لداود ليعلم خطأه، ويرجع عنه، ويذهب الفاهمون إلى أن اليهود قصدوا تشويه صورة داود -عليه السلام- لأن عيسى -عليه السلام- من نسله، وبذلك يجدون لأنفسهم عذرا في عدم الإيمان بعيسى عليه السلام.

الحادثة الثانية: أكل الزراعة

الحادثة الثانية: أكل الزراعة أقبلت غنم ليلا على مزرعة، ليس معها راعيها، فأفسدت الزرع، وأتت عليه، فاحتكم أصحاب الزراعة إلى داود -عليه السلام- قائلين له: يا نبي الله, إنا حرثنا أرضنا وزرعناها، وتعهدناها حتى إذا آن أوان حصادها، جاءت غنم هؤلاء القوم ليلا، فانتشرت في زرعنا، وأكلته حتى لم يبق منه شيء، فقال داود لأصحاب الغنم: أحقا ما يقول هؤلاء؟ قالوا: نعم.

فقال لأصحاب المزرعة: كم تقدرون ثمنا لزرعكم؟ فذكروا له الثمن ... فقال لأصحاب الغنم: كم تقدرون ثمنا لغنمكم؟ فذكروا له الثمن. رأى داود -عليه السلام- أن الثمنين متقاربان، فقال لأصحاب الغنم: ادفعوا أغنامكم إلى أصحاب المزرعة؛ تعويضا لهم عن زرعهم. وهذا الحكم يؤدي إلى فقدان أصحاب الغنم كل شيء، وإلى حصول أصحاب الزرع على الأرض، وعلى الغنم معا. وهنا يلهم الله سليمان بن داود الحكم الصحيح، فيستأذن أباه في إظهار حكمه، فيأذن له, فيقضي بأن يقوم أصحاب الأرض برعي الغنم، ويقوم أصحاب الغنم بزراعة الأرض، فإذا ما جاء وقت الحصاد، تسلم أصحاب الأرض أرضهم بزرعها، وتسلم أصحاب الغنم غنمهم بتمامها ... وبهذا يأخذ كل طرف حقه كاملا, فإن قيل: فما بال أصحاب الأرض يرعون الغنم لأصحابها؟ نقول: يرعونها ويأخذون صوفها، ولبنها، ونتاجها، جزاء عملهم. رضي الجميع بهذا الحكم، وسعد به داود -عليه السلام- وحكم به, وعاد عن حكمه الأول. وهذا الحكم من تفهيم الله لسليمان، فهو سبحانه مطلع على كل شيء، يقول تعالى عن هذه الحادثة: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ، فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} 1. يقول الحسن: لولا هذه الآية لهلك القضاة؛ لأن الله تعالى أثنى على سليمان بصوابه، وأثنى على داود باجتهاده، وأمد كلا منهما بالعلم والحكمة.

_ 1 سورة الأنبياء الآيات: 78, 79.

الحادثة الثالثة: التنازع حول الولد

الحادثة الثالثة: التنازع حول الولد كان لامرأتين ولدان، جاء الذئب وأخذ أحدهما، فتنازعا حول الثاني، كل منهما تريده لنفسها، فاحتكما إلى داود -عليه السلام- فحكم به للكبرى ... فاستأذن سليمان أباه، وأتى بالمرأتين، وقال لهما: هاتوا سكينا أشقه بينكما نصفين، فوافقت الكبرى ورفضت الصغرى، وانزعجت, وقالت: يرحمك الله، هو ابنها، أعطه لها، لا تشقه، فحكم به للصغرى؛ لأنه عرف أنها أمه، فرجع داود عن حكمه، وحكم بما رآه ولده سليمان. أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كانت امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت صاحبتها: إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك, فتحاكما إلى داود، فقضى به للكبرى, فخرجتا على سليمان بن داود، فأخبرتاه, فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى: لا تفعل، يرحمك الله، هو ابنها، فقضى به للصغرى" 1. وإنما حكم داود للكبرى؛ لأن الولد كان في يدها، وليس مع الصغرى بينة, وهذا جارٍ على القواعد الشرعية، وأما سليمان فقد احتال بإذن من أبيه بحيلة لطيفة، أظهرت ما في نفس كل منهما، ووصل للحق بظهور جزع الصغرى الدال على شفقتها، ولم يلتفت إلى إقرارها بأنه ابن الكبرى؛ لأن إقرارها خوف عليه، وإيثار لحياته بدافع أمومتها. ومن هذه القصص الثلاث تظهر فوائد، لا بد منها لكل حاكم يقصد العدل ويعمل له، وأهمها:

_ 1 صحيح البخاري بشرح فتح الباري, كتاب الأنبياء, باب {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ} ج6 ص464, 465.

1- عدم التسرع في الحكم، واستقصاء البحث والتحري، ومحاولة معرفة كافة جوانب القضية، حتى لا يترك جانب له أهميته في الحكم. 2- ضرورة المحافظة على الحقوق الأساسية والعامة، لكل منهم؛ لأن لكل تهمة عقوبة لا تتعداها، ومن الظلم للإنسان أن يعاقب بغير ما يستحقه، أو يعاقب بذنب غيره، أو ينظر إليه إذا ارتكب جرما واحدا كأنه ارتكب جرائم الدنيا كلها. 3- ضرورة فطنة القاضي؛ ليكتشف الحقيقة بالأسئلة المتعددة، ليتمكن من محاصرة المتهم حتى يقر بالواقع الحقيقي. وليعلم الجميع أن العدل أساس الملك، وبه تدوم السعادة للجميع ...

النقطة الرابعة: ركائز الدعوة في قصة داود عليه السلام

النقطة الرابعة: ركائز الدعوة في قصة داود عليه السلام الركيزة الأولى: شجاعة الداعية ... النقطة الرابعة: ركائز الدعوة في قصة داود عليه السلام في قصة داود -عليه السلام- دروس وعبر عديدة، يمكن للدعاة أن يستفيدوا بها، وهم يتحركون بالدعوة، ويبلغونها للناس، وهذه الدروس ركائز نسوقها للدعاة، ومن أهمها: الركيزة الأولى: شجاعة الداعية الداعية الفاهم لرسالته، المتمسك بالحق، الذي يدرك أنه يعمل لله تعالى، عليه أن يكون شجاعا في عرض الحق، وفي الدفاع عنه؛ لأن الشجاعة قوة دافعة، تظهر قوة الإيمان، وتؤكد قناعة الداعية بما يعمل له. والشجاعة تجعل لصاحبها ذكرا حسنا بين الناس؛ لأنها تكون في خدمة مصالحهم، وسعادتهم.

والشجاعة تتحول بصاحبها إلى عادة ترزقه القدرة على عرض الدعوة على جميع الناس، لا يهاب فريقا، ولا يهرب من ملاقاة آخر, وبذلك يقوم بواجب الدعوة إلى الله. والشجاعة جرأة، وإقدام عند الحاجة إليها ... ولذلك لزم أن يلتزم الدعاة بآدابها، وأخلاقها. إن التهور، والاندفاع، والعدوان، وإظهار الإقدام فيما لا يفيد, ليس من الشجاعة في شيء. وعلى الشجاع أن يعد للأمر عدته كما فعل داود -عليه السلام- فقد صنع آلة الحرب، وعمر، وزرع، ونشر العدل، وكون جيشا قويا؛ ولذلك عد عصر داود بداية العصر الذهبي للإسرائيليين.

الركيزة الثانية: حسن عرض الدعوة

الركيزة الثانية: حسن عرض الدعوة على الدعاة أن يعرضوا دعوتهم بوسيلة مؤثرة، وبأسلوب مفهوم. انظر إلى القرآن الكريم وهو يعرض قصة طالوت بقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ} ... وحين يعرض قصة الخصمين فيقول: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} فهو بالاستفهام يقدم الموضوع كأنه مشاهد مرئي، وكأنه يقول للمستمع: انظر، اسمع. يشير الزمخشري إلى أن الاستفهام يجعل المعنى في صورة المحسوس المفهوم؛ لأنه يبحث عن إجابة عند المستمع1، وهذا في حد ذاته يجعل المستمع يشارك الداعية فيما يريد، ويثير اهتمامه نحو موضوع السؤال. والاستفهامات كثيرة في القرآن الكريم، وعلى ألسنة رسل الله, عليهم صلوات الله وسلامه.

_ 1 تفسير الزمخشري ج4 ص82 بتصرف.

الركيزة الثالثة: التأني في الدعوة

الركيزة الثالثة: التأني في الدعوة يتعجل الدعاة نتائج سعيهم، وليس لهم ذلك، بل عليهم أن يخلصوا في الدعوة، ويتركوا النتائج لله تعالى، وليتجنبوا أن يكتفوا بالرد على اتهامات الآخرين, وعليهم أن يعرضوا دعوتهم بينة واضحة، مع أدلتها وبراهينها، ويتركوا الجدال حولها، فإن جادلهم فريق فلهم دعوتهم الخاصة بهم.

الركيزة الرابعة: تعاون الدعاة

الركيزة الرابعة: تعاون الدعاة على الدعاة أن يتعاونوا على تبليغ الدعوة؛ ليكمل بعضهم بعضا، ويأخذوا درسا من سليمان وداود -عليهما السلام- فقد تعاونا في الحكم، ووصلا بأمر الله تعالى إلى الحكم الصحيح. وليتجنبوا التنافس، والتنازع لما له من ضرر عليهم وعلى دعوتهم، وليبتعدوا عن الاختلاف في الفتوى، حتى لا يختلف الناس، ويمكن لهم أن يتدارسوا سويا الفتاوى محل الخلاف؛ ليصلوا إلى حكم يرضونه جميعا، وحينئذ ينتهي الاختلاف وهو الأمر المطلوب.

سليمان عليه السلام

سليمان عليه السلام النقطة الأولى: التعريف بسليمان عليه السلام ... 21- سليمان عليه السلام: سليمان -عليه السلام- أحد أنبياء بني إسرائيل، أرسله الله تعالى بعد أبيه داود عليه السلام. ويعد عصر سليمان -عليه السلام- أزهى عصور الإسرائيليين، فقد أسس لهم المملكة الصالحة بحضارتها الراقية، وكان له عليه السلام في الحكم، والملك أحداث وأحاديث، وسوف أتحدث عنه بمشيئة الله تعالى في النقاط التالية: النقطة الأولى: التعريف بسليمان عليه السلام سليمان -عليه السلام- هو ابن نبي الله داود -عليه السلام- نشأ في بيت النبوة، وتربى في كفالة الملك، وورث الشجاعة والحكمة عن أبيه. كان سليمان يشارك أباه في أمور الحكم والقضاء, ويساعده في تدبير أمور الدولة، وكان يحكم في بعض القضايا بأدق مما يحكم أبوه، كما حكم في قضية الزرع والغنم1, وقضية التنازع حول الولد2, ولقد كان داود يرجع لحكمه؛ لظهور صوابه، ودقته. وتوفي داود وعمر سليمان اثنان وعشرون عاما، فورث الحكم، والقضاء

_ 1 انظر ص413. 2 انظر ص415.

عن أبيه، يقول تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} 1. وقد ورث سليمان الملك والنبوة معا؛ لأنه لو حرم النبوة فقد حرم الخير كله، ولما أمده الله بالمعجزات العظيمة، ذات التأثير الواضح في بناء ملك سليمان -عليه السلام- ولا صحة لمن يثبت له الملك، وينفي عنه النبوة. يقول الكلبي: كان لداود تسعة عشر ولدا، فورث سليمان من بينهم الملك والنبوة، أما المال فقد انقسم على العدد كله. ووراثة النبوة تعبير مجازي؛ لأن النبوة اختيار إلهي محض، والمراد منها هنا أن الله جعل النبوة له بعد أبيه. وقد علم الله سليمان منطق من لا يتكلم؛ من طير، ونبات، وحيوان، وجماد، وآتاه كل ما طلب، وأمده بكل شيء تصوره، فضلا من الله ونعمة. وكان سليمان جديرا بتولي الملك بعد أبيه؛ لحكمته، وحسن تدبيره، وقدرته الفائقة على الفهم، والحكم، والتنفيذ ... وقد أكمل سليمان ما بدأه داود، وشرع في عمارة المسجد كما أوصاه والده، وبنى مدينة "تدمر"، وأقام على بناء الهيكل سبع سنوات، وبنى بيتا للجنود، وأنشأ مصنعا للسلاح، وأسس أسطولا تجاريا كبيرا، يجوب الشرق والغرب، وازدهرت على يديه حضارة ربانية كبيرة، وعاش الإسرائيليون مجدا لم يروه في أي مرحلة من مراحل تاريخهم، ولما بلغ سليمان مبلغ النبوة جاءه وحي الله، فجمع بين الملك، والقضاء، والنبوة كأبيه داود عليهم السلام.

_ 1 سورة النمل آية: 16.

لقد وفى سليمان -عليه السلام- بما كلف به، ودعا قومه إلى الله تعالى، وكان دائم الشكر لله, يدعو ربه أن يعينه على الطاعة، والذكر، والحمد، والثناء على النعم الوافرة التي أعطاها الله له، ولوالديه، وأن يتفضل عليه بإدخاله في عباده الصالحين، يقول تعالى: {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} 1. وقد مدحه الله تعالى لصلاحه وتقواه، فقال تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} 2، وقربه إليه، وجعله من أنبيائه، وخلصائه، في الدنيا والآخرة. وقد استفاد سليمان بمواعظ داود -عليهم السلام- في أقواله، وأعماله، وسلوكه، يقول وهب: "لما استخلف داود ابنه سليمان وعظه، فقال: يا بني إياك والهزل، فإن نفعه قليل، يهيج العداوة بين الإخوان، وإياك والغضب؛ فإن الغضب يستخف بصاحبه, وعليك بتقوى الله وطاعته, فإنهما يغلبان كل شيء, واقطع طمعك عن الناس, فإن ذلك هو الغنى, وإياك والطمع فإنه الفقر الحاضر، وإياك وما يُعتَذر عنه من القول، والفعل، وعود لسانك ونفسك الصدق، والزم الإحسان, فإن استطعت أن يكون يومك خيرا من أمسك فافعل، ولا تجالس السفهاء، ولا ترد على عالم ولا تماره في الدين، وإذا غضبت فالصق جسمك بالأرض، وتحول من مكانك، وارج رحمة الله؛ فإنها وسعت كل شيء"3.

_ 1 سورة النمل آية: 19. 2 سورة ص آية: 30. 3 قصص القرآن ص317، 318.

النقطة الثانية: معجزات سليمان عليه السلام

النقطة الثانية: معجزات سليمان عليه السلام تسخير الريح ... النقطة الثانية: معجزات سليمان عليه السلام سأل سليمان -عليه السلام- ربه أن يهب له ملكا، لا يناله أحد بعده، وبالضرورة لم يشاهده أحد قبله، فاستجاب الله له، وأقام له ملكا عريضا، وحضارة راقية، تعتمد على خوارق العادات التي وهبها الله لسليمان عليه السلام. وكان على الإسرائيليين أن يتذكروا فضل الله عليهم، وأن يعلموا أن هذه المعجزات لم تظهر لأمة سابقة، ولن تظهر لأمة لاحقة، وأنهم بها تمكنوا من الحياة في إطار أرقى حضارة عرفتها البشرية. لقد كانت المعجزات الحسية في مجملها تأتي مؤقتة، تبهر العقول، وتؤدي وظيفة معينة وتنتهي، كطوفان نوح -عليه السلام- ونار إبراهيم -عليه السلام- وعصا موسى -عليه السلام- وغيرها.... أما معجزات سليمان -عليه السلام- فكانت تصنع حضارة، وتستمر مع سليمان لا تنقطع عنه ما دام حيا، وفي نفس الوقت ينتفع بها كل إسرائيلي يعيش في مملكة سليمان عليه السلام. إن هذا البروز الواضح لمعجزات سليمان -عليه السلام- ذات النفع المادي الشامل, يتناسب مع العقلية الإسرائيلية في ماديتها، ونفعيتها، واتكالها، وحاجتها الدائمة إلى قوة ليست منهم، تساعدهم، وتعينهم، وترفع شأنهم في أعين الآخرين. 1- تسخير الريح: يقول الله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} 1، ويقول تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ

_ 1 سورة الأنبياء آية: 81.

الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} 1، ويقول تعالى: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ، فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} 2. ومن الآيات, وأقوال المفسرين نعلم أن الله سبحانه سخّر الريح لسليمان -عليه السلام- خاصة، وأنها كانت ريحا عاصفة، شديدة، قوية، لكنها شدة تفيد ولا تضر؛ ولذا وصفها الله بأنها رخاء، ولينة، وقد بلغ من سرعة الريح أن المسافة التي يسيرها الناس في شهرين مسرعين، تقطعها الريح في يوم واحد مهما كانت حمولتها، التي بلغت أحيانا مئات الألوف بأحمالهم، وعتادهم، في بعض الأوقات. وكانت الريح تتحرك بأمر سليمان، وتتجه حيث يريد، واستمرت في طاعتها، وخضوعها لسليمان طيلة حياته كلها عليه السلام. وكانت الريح تجري في كل الأرض التي باركها الله, وهي مملكة سليمان -عليه السلام- الممتدة من خليج العقبة إلى شط الفرات، وكانت الريح تسوق الماء إلى الجهة التي يشاؤها سليمان، كما كانت تحرك السحاب إلى ما يأمر به سليمان لتمطر فيه، وأيضا كان لهبوب الريح دور في توجيه السفن إلى الموانئ التي يريدها سليمان؛ ولذلك كان اتجاه الريح خاضعا لتوجيهاته عليه السلام. ولكن ... ما هي الفائدة التي قدمتها الريح المسخرة في مملكة سليمان عليه السلام؟ وهل استفاد بها الإسرائيليون؟ وما دورها في الحضارة؟

_ 1 سورة سبأ آية: 12. 2 سورة ص الآيات: 35, 36.

يقول القرطبي: كان سليمان -عليه السلام- لا يقعد عن الغزو، فإذا علم قوما يعادون الله في الأرض أرسل إليهم، واستعد لهم، وسار إليهم غازيا، تحمله الريح إلى حيث يريد، وكان إذا أراد وجهة ما, أحضر فراشا، وجعل عليه الناس، والدواب، وآلة الحرب، ثم يأمر الريح فتحمل الجميع إلى حيث يريد1. يروي سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان سليمان إذا جلس نصبت حواليه أربعمائة ألف كرسي، فيجمع الإنس والجن جميعا عليها، وتقلهم الريح حيث يشاء2. فهل وصلت الإنسانية إلى شيء من هذا؟! وسيلة نقل جبارة، تنقل المجتمع كله في لحظة واحدة، في يسر، وأمان ... لقد استفاد الإسرائيليون بهذه المعجزة، وصارت الأرض كلها تحت أيديهم يذهبون، ويرجعون حيث يريدون. يروي المؤرخون أن سليمان -عليه السلام- كان يركب الريح، ويمر على البلاد والقرى، وينزل حيث يريد، بلا مطار يعد، أو استقبالات تجهز، أو نفقات تبذل ... وبذلك استراح الناس، ونهض المجتمع. إن الحضارة الحديثة تفتخر بعملياتها الاتصالية، وباختراعاتها المتنوعة من طيران وسفن، وأقمار صناعية، وأشكال الاتصالات السلكية، واللاسلكية ... ومع ذلك لا يمكن لأي عقل أن يتصور حضارة اقتربت من حضارة سليمان عليه السلام ... إن جيش سليمان المكون من مئات الألوف كان ينقل بعتاده إلى ميدان المعركة في ساعات قليلة، بدون أدنى جهد، أو حدوث أي خطأ، لم تسقط له طائرة، أو تصطدم بغيرها ... وكانت الريح تحمل له أحاديث الناس وكلامهم.

_ 1 تفسير القرطبي ج11 ص322. 2 تفسير القرطبي ج14 ص269.

لقد كان سليمان يركب الريح، ويتجول في أرجاء مملكته، يطمئن على رعيته، ركب الريح مرة، فمر بحرّاث، وحملت الريح إليه كلامه وهو يقول: لقد أوتي آل داود ملكا عظيما ... فنزل وأتى الحراث، وقال له: إني سمعت قولك، وإني جئت إليك؛ لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه، لتسبيحة واحدة يقبلها الله منك لخير مما أوتي آل داود، فقال الحراث: أذهب الله همك كما أذهبت همي1.

_ 1 تفسير القرطبي ج15 ص205.

تسخير الجن

2- تسخير الجن: يقول تعالى: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} 1، ويقول تعالى: {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} 2، ويقول تعالى: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ، وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} 3. من الآيات، ومن أقوال المفسرين نفهم أن الله تعالى سخر الجن كله لسليمان -عليه السلام- يوجههم لما يشاء من الأعمال، وقد أقدره الله عليهم وحكمهم، وأدار شئونهم، وكلفهم بأعمال نافعة للمملكة، حيث جعل منهم طائفة تبني وتعمر، وتشيد الصروح العالية الرائعة، ومن أعمالهم في فن العمارة، ما أقاموه له من أماكن طيبة للعبادة، وهي المحاريب، كما نقشوا له الصور الجميلة على الجدر، وهي التماثيل، وكان عملها مباحا في شريعة سليمان -عليه السلام- وبنوا له الحياض لحفظ الماء،

_ 1 سورة الأنبياء آية: 82. 2 سورة سبأ آية: 12. 3 سورة ص الآيات: 37, 38.

وهي الجفان، وأنشئوا الأواني، والصوامع الثابتة، وهي القدور الراسيات، يقول الله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} 1. كما كلف سليمان طائفة أخرى من الجن بالغوص في الماء لاستخراج اللؤلؤ والمرجان، ومختلف الجواهر واللآلئ، وهو عليه السلام أول من وصل إلى استخراج اللؤلؤ من البحر، يقول تعالى: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ، وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} 2، ويقول تعالى: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} 3. وكان عليه السلام يوجه الجن إلى الأعمال المختلفة، فيقومون بها، مستفيدا بما يتمتعون به من سرعة في الحركة، وقدرة على اختراق الحواجز المادية ... وكان عليه السلام يسجن كل من يخالفه من الجن، ويقيده بالسلاسل، ويضع المخالفين، اثنين اثنين، في سجن واحد. وبتسخير الجن لسليمان -عليه السلام- قامت نهضة المملكة على أعمال الجن، وتمتع الإسرائيليون بنتائج هذه الأعمال من غير أن يعملوا، أو يتضرروا.

_ 1 سورة سبأ آية: 13. 2 سورة ص الآيات: 37, 38. 3 سورة الأنبياء آية: 82.

إسالة النحاس

3- إسالة النحاس: احتاج سليمان -عليه السلام- إلى مادة يصنع بها السلاح، وبعض الصناعات الأخرى، فأمده الله بها، وخلق له عينا، يسيل منها النحاس الأصفر، كما يسيل الماء, واستمر سيلان العين ثلاثة أيام، يقول تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} 1، وكان الجن يأخذ النحاس السائل ويشكله كما يريد سليمان، فيجمد، ويصير مصنوعا جديدا، مفيدا.

_ 1 سورة سبأ آية: 12، القطر: هو النحاس السائل.

محادثة ما لم ينطق

4- محادثة ما لم ينطق: علم الله سليمان -عليه السلام- منطق الطير، يقول تعالى: {وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} 1، والآية تتضمن مقالة سليمان -عليه السلام- لبني إسرائيل، يعرفهم بفضل الله عليهم؛ ليشكروا هذه النعم. وقد فهم سليمان -عليه السلام- كلام من لا يتكلم عموما، من طير، وحشرات، ونبات, وجماد.... وإنما خص الطير بالذكر؛ لأنه كان من جنوده، وكان يحتاجه كثيرا يظله من الشمس بجسمه، ويلطف الهواء بجناحيه، ويحمل البريد، ويأتيه بأخبار المناطق البعيدة. وكان سليمان يبين لقومه أقوال الطيور؛ لما فيها من حكمة، ومواعظ ... قال جماعة من العلماء: إن سليمان -عليه السلام- كان يفهم ما في نفس الطائر من غير صوت ... والأظهر أنه كان يسمع صوت الطائر، ويدرك به ما في نفسه كدلالة ظاهر الآية. وبهذه المعجزات تمكن سليمان -عليه السلام- من إقامة حضارة واسعة شملت البر، والبحر، والجو ... وصدق في قوله الذي حكاه الله تعالى: {وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} 2.

_ 1 سورة النمل آية: 16. 2 سورة النمل آية: 16.

النقطة الثالثة: مملكة سليمان عليه السلام

النقطة الثالثة: مملكة سليمان عليه السلام العقيدة الصحيحة ... النقطة الثالثة: مملكة سليمان عليه السلام بعطاء الله، وفضله على آل داود -عليه السلام- تمكن سليمان -عليه السلام- من إقامة مملكة راقية, ذات حضارة إنسانية، عظيمة، شاملة لكل جوانب الحياة الإنسانية، وتقوم هذه المملكة الصالحة على الأسس التالية: 1- العقيدة الصحيحة: قام سليمان -عليه السلام- بواجبه، الذي كلفه الله به، ودعا الناس إلى عبادة الله تعالى، وضرورة الإخلاص في التوجه إليه، ونبذ كل ألوان الشرك, والشركاء، يدل على ذلك توجه سليمان -عليه السلام- إلى الله بالطلب والدعاء في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} 1، فهو في طلبه يؤكد أن الله هو الغفور، الرحيم، وأنه القادر على كل شيء، وأنه -سبحانه- يهب ما يشاء لمن يشاء، ويمنع عمن يشاء ما يشاء. وكان عليه السلام يعيش نعم الله تعالى، ويشكره دائما، انظر إليه يوم استمع إلى النملة، وهي تحذر سائر النمل، من بطش جنود سليمان بهم، نجده -عليه السلام- يتوجه إلى الله بالشكر، على نعمه الوافرة له، ولوالديه، ويسأله التوفيق للعمل الصالح الذي يرضى به، وأن يجعله في زمرة الصالحين في الدنيا، وفي الآخرة، يقول تعالى: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} 2.

_ 1 سورة ص آية: 35. 2 سورة النمل آية: 19.

وطالب الهداية والتوفيق من الله قد وصل إلى درجة اليقين, والصدق، والعمل لا يكون صالحا إلا باستجماع كل أركان الشريعة، والتزام الأخلاق الكريمة. وما آمن به سليمان -عليه السلام- هو دعوة قومه؛ ولذلك لما علم بضلال بلقيس ملكة سبأ، أرسل إليها بكتاب، بدأه بقوله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وطلب منها أن تأتي إليه, ومعها قومها, مؤمنين بالله, تاركين عبادة غير الله تعالى, يقول الله تعالى: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ, إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} 1. ولما أرسلت إليه مالا، رده إليها، وعرفها بالله الذي آتاه كل خير، وخير الله أفضل من أموالهم وهداياهم، يقول تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} 2. وقد مدح الله سليمان -عليه السلام- وبين منزلته في الدنيا وفي الآخرة، وهي القرب من الله تعالى، والرجوع الحسن في رضوان الله، يقول تعالى: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} 3.

_ 1 سورة النمل الآيات: 29-31. 2 سورة النمل آية: 36. 3 سورة ص آية: 40.

العدل في الحكم

2- العدل في الحكم: اشتهر سليمان بالحكم العادل، وكانت له بعض الأحكام العادلة في عهد أبيه، حتى اشتهر بها، يقول تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} 1. وقد سبق بيان حكمه في حادثة الغنم والزرع، وفي حادثة الولد الذي أكله الذئب.

_ 1 سورة الأنبياء آية: 79.

صيانة حقوق الرعية

3- صيانة حقوق الرعية: كان عليه السلام يراقب رعيته، ويرعى مصالحهم، ويقدم لهم ما يحتاجون إليه في معاشهم. وقد رأينا عمل الجن، والريح، والنحاس المذاب، في حياة بني إسرائيل، فلقد صنع لهم حضارة، وحقق لهم كل ما يريحهم، ويسر معاشهم. كان عليه السلام يتفقد أحوال الرعية، ويبحث عن حاجاتهم ليقضيها لهم، فهو عليه السلام سمع صوت النملة وهي تحذر إخوانها من بطش جنوده، وتطلب منهم اللجوء إلى المساكن, فسر بذلك. ومع الهدهد، نجد أنه -عليه السلام- تفقد الطير، فلم يجده، فأنذره بالعقوبة، ثم قبل عذره لما وجده محقا في غيابه. وكان يتفقد الخيل، ويستعرضها أمامه، ويأمر جنوده برعايتها، وقد أمرهم بإرجاعها إليه، بعد أن أخذوها بعيدة عنه؛ ليمسح أعناقها وقوائمها بيده الشريفة، يقول الله تعالى: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ، فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ، رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} 1، ومعنى الآيات أنه استعرض الخيل عشاء، وهي من أجود أصناف الخيل؛ لأنها من الصافنات الجياد، أي: التي ترفع إحدى اليدين، وتقوم على ثلاثة أطراف فقط، وهي خيل سريعة المشي، واسعة الخطا، وبعد الاستعراض دعا الخيل مرة أخرى، وأخذ يلاطفها، ويروضها، ويمسح أعناقها، وسيقانها؛ تشريفا وتعظيما لشأنها، وقوتها، وحتى يعرف ما بها من تعب أو مرض. ومعنى قوله تعالى: {رُدُّوهَا عَلَيَّ} : أرجعوها إلي مرة أخرى, قائلا: إني أحببت هذه الخيل؛ لأنها تذكرني بربي، وتعينني على الجهاد في سبيله، وأريد أن أطمئن عليها,

_ 1 سورة ص الآيات: 31-33.

وليس كما يقول الوضَّاعون: إن سليمان استغرق في استعراض الخيل حتى فاتته صلاة العصر، ولذلك أعادها، وأخذ يقطع سيقانها، ويضرب صدورها بالسيف؛ انتقاما منها وتقربا إلى الله تعالى.... ولكن متى عد قتل الحيوان تقربا إلى الله؟ وما ذنب الخيل في فوات صلاة العصر؟ إنه دخيل، موضوع، ويمكن إجمال الغرض من مسح سليمان -عليه السلام- للخيل فيما يلي: أ- تشريفها، وتكريمها، وإظهار فضلها؛ لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو. ب- إبراز قاعدة المسئولية السياسية، التي يتحملها الراعي تجاه رعيته، وعلى الملك أن يباشر الأمور بنفسه، مهما كان أتباعه، وجنده. ج- أنه كان خبيرا بطب الخيل، فأراد أن يطمئن عليها قبل أن تبيت. وهكذا نراه -عليه السلام- يهتم بأحوال رعيته على اختلاف أجناسهم وأنواعهم وأعمالهم. واهتمامه بالطير، والحيوان، والنمل دليل على اهتمامه بالناس؛ لأنه وجه كل ما سخر له لصنع حضارة تخدم الناس.

موقفه من صاحب الرأي الآخر

4- موقفه من صاحب الرأي الآخر: لم يكن سليمان -عليه السلام- مستبدا ولا غليظا، وإنما كان نبيا وملكا، ينظر إلى مخلوقات الله، ويقدر لها رأيها, ويسمع قولها، ويناقشها ليصل إلى الحق. إنه -عليه السلام- جمع جنوده في حشد ضخم, وسار بهم، فلما اقترب من وادي النمل، قالت نملة لإخوانها: ادخلوا مساكنكم، حتى لا يقتلكم سليمان وجنوده، وهم لا يشعرون بجريمتهم، فسمع سليمان حديث النملة, ولم يغضب, ولم يعاتب، ولم يغير أمرها لإخوانها، وإنما استحسن صنيعها، وتوجه بالشكر لله الذي علمه منطق النمل.

ولما تفقد الطير لم يجد الهدهد، وعلم أنه غائب, فأنذره بعقوبة الذبح، أو بالتعذيب الشديد بنتف ريشه، إن كان غيابه بلا عذر، فلما جاء الهدهد أبدى عذره، وبيّن لسليمان أنه ذهب إلى مكان بعيد رأى فيه عجبا، هذا المكان هو سبأ، وهي مملكة نائية غنية، فيها كل ما يحتاجه الناس، وعلى رأس المملكة ملكة، لها عرش عظيم، ودين هذه المملكة كفر وضلال؛ لأنهم يسجدون للشمس من دون الله, وقد لعب الشيطان برءوسهم، وزين لهم الضلال والكفر، وتركوا السجود لله تعالى الذي يعلم أسرار السموات, والأرض، ويخرجها لعباده وفق مشيئته سبحانه وتعالى. استمع سليمان إلى ما اعتذر به الهدهد، وقال له: سنتبين الحقيقة لنعلم إن كنت صادقا أو كاذبا. وقد ظهر صدق الهدهد، فبانت براءته، وعفا عنه سليمان -عليه السلام- يقول الله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ، لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ، فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ، إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ، وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ، أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ، اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} 1.

_ 1 سورة النمل الآيات: 20-27.

النقطة الرابعة: سليمان وملكة سبأ

النقطة الرابعة: سليمان وملكة سبأ ذكر الهدهد لسليمان سبب غيابه، وبيّن له أنه عائد من سبإ بأخبار هامة، وصحيحة، ووضح أنها تتصل بفساد في العقيدة؛ لأن أصحاب هذه المملكة, يعبدون الشمس من دون الله تعالى. أرجأ سليمان عقوبة الهدهد، حتى ينظر في الأخبار التي أتى بها، فإن كان صادقا عفا عنه، وإن كان كاذبا عاقبه. فكتب سليمان رسالة إلى ملكة سبأ، صدرها: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وبيّن فيها أنها مرسلة من سليمان، وكلف الهدهد بحملها، وإلقائها في مكان بحيث يصل إلى الملكة. وصل الخطاب إلى الملكة، وقرأته, وأحاطت بما فيه، فجمعت كبار رجال مملكتها، وشاورتهم في الرسالة، وقالت لهم: إنها جاءت من عند سليمان، وإنها مصدرة بـ "باسم الله", وإن الرسالة دعوة للجميع أن يأتوا لسليمان خاشعين، متواضعين, مؤمنين بالله تعالى، تاركين الشرك وعبادة الشمس، وطلبت من المجتمعين أن يبدوا رأيهم، ويشتركوا معها في وضع القرار المناسب، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ، إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بسم الله الرحمن الرحيم، أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ، قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} 1. قال الحاضرون بعد أن تداولوا الرأي في موضوع الرسالة: القرار قرارك، والأمر إليك، ونحن أصحاب قوة وبأس، ننفذ ما تأمرين به، يقول تعالى:

_ 1 سورة النمل الآيات: 29-32.

{قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} 1. نظرت الملكة، ورأت أنه لا قبل لها بحرب سليمان، حتى لا تجر على شعبها ومملكتها الخراب، والدمار، وقالت لرجالها: إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها، وجعلوا أعزة أهلها أذلة، وهدفهم الاستيلاء على الديار، والأموال؛ ولذلك سأرسل لسليمان هدية مالية ضخمة، لنرى ما سيحدث، فإن كان ملكا قبلها، وإن كان نبيا ردها، ووقتها لكل حدث حديث, يقول تعالى: {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ، وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} 2. وصل وفد الملكة إلى سليمان -عليه السلام- ورأى سليمان أنه لا يحمل مالا كثيرا، فقال لهم: ارجعوا بمالكم، لا حاجة بي إليه، فلقد أعطاني الله تعالى رسالة, وملكا، وسخر لي الكون كله، وآتاني ما لم يؤت أحدا من العالمين. وحمل الوفد تهديدا للملكة؛ لأنها إن لم تصدق برسالته، وتؤمن بالله، واستمرت على كفرها، وضلالها، وعرفهم بأنه سيرسل لها جيشا ضخما، لا قبل لها به، وسوف يخرجها من مملكتها، ورجالها صاغرون، يقول تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ، ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} 3. عاد الوفد إلى بلقيس الملكة، فعلمت أن سليمان ليس واحدا من الملوك، تهمه الأموال والسلطان، وإنما هو رسول يدعو لدين الله، الذي أيده بالقوة، وسخر له

_ 1 سورة النمل آية: 23. 2 سورة النمل الآيات: 34, 35. 3 سورة النمل الآيات: 36, 37.

الكون، فهيأت نفسها لتذهب إليه، وتبحث الأمر معه، وعلم سليمان بتحركها، فجمع جنوده من الجن والإنس، وطلب منهم إحضار عرشها، قبل وصولها، وسألهم ... {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} 1. فأجابه عفريت من الجن، أنا أحضر لك عرشها قبل أن تقوم من مقامك الذي أنت فيه ... استكثر سليمان "عليه السلام" هذه المدة، فقال رجل من علماء بني إسرائيل دعا الله باسمه الأعظم، أنا آتيك به قبل أن تغمض عينك، وقال: يا نبي الله أمدد بصرك فمد بصره نحو اليمين، فإذا بالعرش، فما رد بصره إلا وهو عنده ... ونظر سليمان فرأى العرش ثابتا عنده، فأقر بفضل الله الذي مكن له ونصره، وطلب من الله أن يعينه على الشكر، وطلب من أتباعه أن يتوجهوا بالشكر لله، يقول الله تعالى: {قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ، قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} 2. قال سليمان لجنوده: نكروا لها عرشها، وغيروه، بالزيادة والنقص، فجعلوا تحت العرش ماء، وفوق الماء زجاجا، فلما وصلت بلقيس سألوها أهكذا عرشك؟ قالت: كأنه هو: وقد علمت أن سليمان على حق منذ أن راسلني، وأسلمت قبل ذلك، يقول تعالى: {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ، فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ، وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} 3.

_ 1 سورة النمل آية "38". 2 سورة النمل الآيات "39، 40". 3 سورة النمل الآيات "41-43".

قيل لها أدخلي الصرح الذي بناه الجن، فلما رأته حسبته ماء، فكشفت عن ساقيها، فنوديت أنه قصر من زجاج لا ماء به، فأقرت بواقعها، وأعلنت إسلامها، ورجعت عن ذنوبها، وآمنت مع سليمان لله رب العالمين، يقول تعالى: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 1.

_ 1 سورة النمل آية "44".

النقطة الخامسة: فتنة سليمان عليه السلام

النقطة الخامسة: فتنة سليمان "عليه السلام" يتحدث المؤرخون عن فتنة سليمان "عليه السلام"، التي أشار الله تعالى إليها، في قوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ، قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} 1، وذهبوا في تفسيرها مذاهب عديدة2، وأحسن ما قيل فيها أن هذه الفتنة فسرها الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري، بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- يقول: قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "قال سليمان بن داود: لأطوفن الليلة، على سبعين امرأة، تحمل كل امرأة فارسا، يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: قل إن شاء الله، فلم يقل ولم تحمل النسوة شيئا إلا واحدا، ساقطا أحد شقيه"، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "لو قالها لجاهدوا في سبيل الله" 3، وألقى السقط على الكرسي درسا لسليمان "عليه السلام".

_ 1 سورة ص الآيات "34، 35". 2 تفسير القرطبي ج15 ص198، 199". 3 صحيح البخاري بفتح الباري، كتاب الأنبياء باب ووهبنا لداود سليمان ج6 ص460.

وللحديث روايات أخرى في صحيحي البخاري ومسلم، وفي سنن النسائي، وصحيح ابن حبان، ومسند أحمد وغيرهم بنفس اللفظ إلا أنهم يختلفون في العدد، فالمقل منهم يذكر ستين امرأة، والمكثر يذكر مائة، ويتأول اختلاف العدد بأن بعضهم سرايا، والباقي مهيرات، وكان لسليمان "عليه السلام" ألف امرأة، بين مهيرة، وسرية1. وصاحب سليمان رجل من الإنس، كان يستشيره، وقيل هو من الجن، وقيل هو من الملائكة، وفي عدم استجابة سليمان لنصيحته، تلك يقول العلماء إنها كانت في أثناء كلامه، فنسيها، أو أنه لم يسمعها، أو قالها صاحبه في نفسه بلا صوت. ومعنى ألقينا على كرسيه جسدا، أن المولود الذي خرج ساقطا أحد شقيه، ألقى على كرسي سليمان ليراه، ويعلم خطأه في عدم استثنائه، بقوله: إن شاء الله. وتفسير الفتنة بما جاء في الحديث أولى؛ لأن السنة نزلت لبيان القرآن الكريم، وأيضا فإن هذا التفسير يحافظ على عصمة النبوة، ويبعدنا عن الآراء التي لا يصح القول بها مطلقا. ومن الآراء الباطلة ما يقال من أن الشيطان تمكن من سرقة خاتم سليمان "عليه السلام" أثناء قضائه لحاجته؛ لأنه كان لا يدخل به الخلاء، فأخذه من زوجته "الجرادة"، وصار للشيطان قوة سليمان، وعاشر نساءه، وكان لا يغتسل واستولى على الكرسي، والمملكة أربعين يوما حتى اكتشف أمره، فطار من الكرسي وألقى الخاتم في البحر، فابتلعته سمكة اصطادها سليمان -عليه السلام- فلما وجد خاتمه، استرد ملكه، وعاد لعرشه، ونسائه، ودينه، وقومه2.

_ 1 فتح الباري ج6 ص460. 2 جاء ذكر الرواية مفصلة في كتب التفسير المختلفة، انظر تفسير ابن كثير ج4 ص35-37.

وهذا كلام باطل من وجوه: 1- يعطي هذا الكلام القدرة للخاتم، وهذا لا يجوز لأن القدرة لله رب العالمين، وما قيمة ملك ونبوة يتحكم فيها خاتم؟! 2- تشير الرواية أن الشيطان استمتع بنساء سليمان "عليه السلام" وهذا يتنافى تماما مع عصمة النبوة، ولا يصح القول بها. 3- توضح هذه الرواية أن الشيطان تمثل بصورة سليمان، ولا يصح أن يتمثل بصورة النبي أبدا يقول -صلى الله عليه وسلم: "من رآني في المنام فقد رآني حقا، فإن الشيطان لا يتمثل بي" 1. 4- حدد الله لإبليس سلطانه، وعرفه بأنه لا سلطان له على المخلصين، يقول تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} 2 ... وسليمان -عليه السلام- من هؤلاء المخلصين الصادقين، يقول تعالى: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} 3، فكيف يتسلط عليه الشيطان إذا؟! 5- القول بهذه الأكذوبة ينفي الحقيقة الدينية من أساسها؛ إذ كيف يتمكن الشيطان من القيام بدور النبي، ويستمر في الإفساد والإضلال مدة، فمتى يثق المؤمن إذًا في صدق الوحي المنزل؟! إن صدق هذه الرواية يعطي الشيطان قدرة على إفساد جميع العلماء، والزهاد وعلى قدرته على تمزيق تصانيفهم، وتخريب ديارهم، وهذا لا يقول به أحد. إن هذه الرواية باطلة، ولا يصح القول بها أبدا، يقول ابن كثير في سياق هذه الرواية منكرات، من أشدها ذكر النساء؛ لأن الله يعصم نساء أنبيائه تشريفا

_ 1 شرح السنة للبغوي ج12 ص 226، باب تأويل رؤية النبي. 2 سورة الحجر آية "42". 3 سورة ص آية "40".

وتكريما لهم ... ويقول: والرواية كلها منقولة عن أهل الكتاب، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب1. يبين الرازي صحة ما ذهبنا إليه، ويقول: ويمكن أن تفسر الفتنة بمرض شديد أصاب سليمان، فأقعده على الكرسي، واستمر حتى رجع لصحته، ويمكن أن يقال: إن الله ابتلى سليمان بخوف، أو بتوقع بلاء شديد، فضعف وجلس على الكرسي حتى زال الخوف فرجع إلى ما كان عليه من القوة، وطيب القلب، يختم الرازي كلامه بقوله: وحمل الفتنة على أحد هذه الوجوه لا يحوجنا إلى تلك الآراء الركيكة2.

_ 1 تفسير ابن كثير ج4 ص36. 2 تفسير الرازي ج26 ص209.

النقطة السادسة: وفاة سليمان عليه السلام

النقطة السادسة: وفاة سليمان -عليه السلام يقول الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} 1، والآية تشير إلى وفاة سليمان -عليه السلام- وكانت وفاته غريبة كحياته -عليه السلام- فلقد توفي، ولم تعلم الجن بوفاته، إلا بعد سنة كانت تعمل خلالها، في إتمام بناء بيت المقدس، يقول المفسرون، إن سليمان -عليه السلام- كان في محرابه، فأدركه الموت، وهو متكئ على عصاه، واستمر على ذلك، حتى جاءت الأرضة، وأكلت طرف العصا "المنساة"، فاختل توازنه، فسقط على الأرض، وهنا علمت الجن، وعلم أهله بموته، فأقبلوا عليه، وغسلوه، ودفنوه، ... وظهر

_ 1 سورة سبأ آية "14".

للناس أن الجن لا يعلمون الغيب، كما كان يدعون، وقالت الجن: لو علمنا موته ما لبثنا في العمل الشاق المهين1. وهذا القول شائع عند المفسرين والمؤرخين، يذكرونه خلال تفسيرهم للآية ... إلا أنه رأي تأباه وقائع الحياة. - فهل يعقل أن يموت شخص ما، ويستمر سنة لا يسأل عنه أحد؟ - وهل سكت نساء سليمان عن غيابه عنهن هذه المدة الطويلة؟ - سليمان -عليه السلام- نبي وملك فمن كان يدبر شئون المملكة خلال هذه المدة؟ - ألم يبحث عنه وزراؤه ومستشاروه لأخذ رأيه في مهام الحكم والدولة؟ - هل توقف الوحي خلال هذه المدة، أم ماذا؟ والرأي المعقول هو أن سليمان "عليه السلام" توفي ودفن كسائر الناس، وبقي موته مخيفا عن الجن دون غيرهم، كوصيته، وقام بالأمر بعده ابنه، والجن تعمل في أماكن نائية، شاقة، خوفا من سليمان عليه السلام. وكان لسليمان عصا لا يتركها أبدا، وذات يوم رآها جن على الأرض، تأكل فيها الأرض، فتقصى الأمر، فعلم أن سليمان مات، فأسرع إلى زملائه، وأخبرهم، فعلموا موت سليمان، وتركوا العمل، وقالوا لو علمنا الغيب، ما عملنا، وتعبنا هذه المدة. ويؤيد هذا الرأي أن خر تأتي بمعنى مات، وأن تعبير القرآن بالفعل المضارع في قوله "تأكل" بدل الماضي يؤكد هذا الرأي ... والله أعلم.

_ 1 انظر ابن كثير، والخازن، والزمخشري، وغيرهم عند تفسير الآية.

النقطة السابعة: ركائز الدعوة في قصة سليمان عليه السلام

النقطة السابعة: ركائز الدعوة في قصة سليمان عليه السلام الركيزة الأولى: الدين والحضارة ... النقطة السابعة: ركائز الدعوة في قصة سليمان -عليه السلام أقام سليمان -عليه السلام- حضارة ربانية عظيمة، على أسس خارقة للعادة، لكنها متلائمة مع حياة البشر، وقدمت نموذجا فريدا لبني إسرائيل، حيث كان النبي هو الملك، وظهر فيها بجلاء عظمة الحضارة القائمة على الدين، الملتزمة بشرع الله، واتضح فيها أيضا أهمية السلطة الدينية في تطبيق شرع الله في حياة الواقع؛ لأن الناس -الملأ والعامة- دائما على مذهب ملوكهم، ولهذا كانت ركائز الدعوة المستفادة من قصة سليمان-عليه السلام- لها أهميتها للدعوة إلى الله تعالى وسأبرز أهمها فيما يلي: الركيزة الأولى: الدين والحضارة تبنى الأمم حضارتها، بصور مدنية متعددة، تقيم العمران، وتشيد السدود، وتمهد الطرق، وتبني السفن، وتنشئ المصانع، وتنتج السيارات، وتزرع الأرض، وتبرز للحياة، كل ما يحتاجه الناس في معاشهم، وراحتهم، وسعادتهم. وتختلف الحضارات فيما بينها بسبب اختلاف الأسس الفكرية، والنظم الاجتماعية التي تسود أصحاب كل حضارة. فهناك الحضارات المادية، التي يسيطر على أصحابها الفكر المادي في العقيدة، والنشاط العام ولذلك ينتشر فيهم الارتباط بكل ما هو مادي، ممثلا في شهوات الهوى، وأطماع النفس الأمارة بالسوء، ودائما يلجأ الماديون إلى وضع الأنظمة، والتشريعات ويجعلونها متناسقة مع فكرهم ونظرتهم. إن أصحاب الفكر المادي يبيحون التعامل بالربا، ولا يرون جرما في إشباع الشهوة باسم الحرية، ولهم في مفهوم الستر، والحياء، وحسن الخلق، تصورات خاصة تختلف عن تصورات الآخرين. وكثيرا ما تنعكس أفكار الماديين، وفلسفاتهم، على أشكال مدنيتهم، وصور النشاط الاجتماعي والتعليمي، الذي يرتضونه لمجتمعهم.

إن صرحا عمرانيا شامخا قد يقام، لكن قيمته تختلف من جماعة لأخرى، فهناك جماعة تجعله ناديا للعراة، أو للرقص، أو للقمار ... وأخرى تجعله مسجدا، أو مكتبة علمية ... وهكذا يأخذ التقدم المدني حضارة تقوم على فكر أصحابها. ولقد أقام سليمان -عليه السلام- حضارة دينية، تحافظ على حق الله تعالى، وحقوق الآخرين، وتبتعد عن الظلم، والكبر، والاستعلاء ... لقد استعرض سليمان جنوده من الجن، والإنس، والطير، بعددهم وعدتهم، فلما رأى فيهم القوة الهائلة الكافية، وسمع مقالة النملة لإخوانها تذكر فضل الله عليه، وأقر به، وطلب من الله أن يلهمه ويوفقه لشكر نعمه التي تفضل بها عليه، وعلى والديه، وأن يجعله عبدا صالحا، خاشعا، خاضعا لله رب العالمين، قال ما حكاه الله تعالى: {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} 1، فلا غرور، ولا إستعلاء، ولا إهمال، لأي حق لله تعالى. ولما تفقد الطير -عليه السلام- ووجد الهدهد غائبا غضب، وأنذره بالحساب والعقاب، بعد تحقيق معه يبين إن كان بريئا أو مذنبا، لإنزال العقوبة التي يستحقها فقط فلما جاء الهدهد، وقد سبب غيابه، وأدلته على ما يقول، تركه -عليه السلام- ولم يعاقبه التزاما بتطبيق عدل الله تعالى. ولما أرسلت إليه ملكة سبأ هدية مالية ضخمة، على وجه الرشوة، غضب كثيرا، ورد الهدية وقال لمن حملوها إليه: {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ، ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} 2.

_ 1 سورة النمل آية "19". 2 سورة النمل الآيات "36، 37".

إن حضارة سليمان -عليه السلام- قامت على توحيد الله تعالى، وكان كل كائن فيها يقوم بواجبه في إطار عبوديته لله رب العالمين. وهناك فرق واضح بين حضارة تقوم على أساس ديني، وأخرى تغايرها، ويكفي أن نعلم أن الحضارة الدينية، تتقدم في إطار التعاليم الربانية، وتنسجم مع الشريعة الإلهية، وتصير عاملا في تقوية، وإحياء الأخلاق الإنسانية، النبيلة، ولذلك فإنها حضارة تعيشها أمة مؤمنة صالحة. أما الحضارات المادية، فإنها تعمل في خدمة الشيطان، تسوء فيها الأخلاق، وينتشر الإنحلال والشذوذ، وتعم المظالم، ويصير الشر والعدوان سمة لأفراد هذه الحضارة، قد يتقدمون علميا، لكنه علم ينتج أسلحة الدمار، ووسائل الفتك، وقد ينالون مالا، لكنه لاستبعاد الآخرين. فعلى مدار التاريخ وجدت حضارات عديدة ظالمة كحضارة عاد، وثمود، ولكنها بادت، واندثرت، وسوف تتبعها حضارات أخرى لعدوانيتها، وظلمها.

الركيزة الثانية: أثر القادة في توجيه الرعية

الركيزة الثانية: أثر القادة في توجيه الرعية عندما يصلح القائد، تصلح رعيته، ولذلك كان اهتمام النبي -صلى الله عليه وسلم، بعلية القوم، ليؤمن بإيمانهم من وراءهم. وللقادة في أممهم تأثير كبير، ويرجع كفر من كفر في الأمم السابقة إلى الملإ منهم؛ إذ كان الملأ دائما يتصدون للدعوة الدينية، ويحاربون الرسل، ويصدون الناس عن سبيل الله، وقد كان لقيادة داود وسليمان -عليهما السلام- لمملكتهم أثر في إيمان الناس، وكافة منسوبي المملكة، وكان كل من فيها يؤمن بالله، ويعمل له، وقد رأينا الهدهد يغيب، ليعرف خبر بلقيس، ويقف على حقيقة الإله الذي تعبده وقومها، ويجيء بخبر الملكة، ويشرحه لسليمان، إنهم يعبدون غير الله، ويسجدون للشمس، ولا يؤمنون بالله الخالق، الذي يعلم العلن والسر، والظاهر والمخبوء، وقد رأينا

كيف أن كل رعايا مملكة سليمان كانت تعمل للحق، وتذكر به، وقد وقفنا على مقالة سليمان -عليه السلام- وهو يقول: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} 1 مشيرا إلى حبه للخيل؛ لأنها تذكره بالله، وتحببه في الغزو والجهاد. إن دور القائد في أمته خطير، ولذلك يتحمل الرئيس مسئولية رعيته، وإذا قصر في دعوتهم فعليه إثمهم.

_ 1 سورة ص آية "32".

الركيزة الثالثة: الدعوة قبل القتال

الركيزة الثالثة: الدعوة قبل القتال حينما علم سليمان -عليه السلام- بأن مملكة سبأ، تعبد الشمس من دون الله تعالى، رد حامل الهدية إليه، وعرفه بأنه سيذهب إليهم بقوة لا قبل لهم بها، إذا لم يدخلوا في دين الله تعالى، ويعلنوا إسلامهم لله رب العالمين، وقد أرسل إليهم -عليه السلام- خطابا يدعوهم فيه إلى الله، حمله إليهم الهدهد، فألقاه عليهم، وقرأته الملكة، وعرضته على وزرائها، ومستشاريها، وعن هذا الخطاب يقول الله تعالى: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ، إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بسم الله الرحمن الرحيم، أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} 1. وهذه الآيات تؤكد الحقائق التالية: 1- حسن خلق الملكة، وحكمتها السياسية؛ لأنها لم تبت في الأمر وحدها وإنما جمعت الملأ، وهم الكبراء، والوزراء، وعرفتهم بالخطاب، ووصفت الخطاب بالكرم، والحسن لما فيه من دعوة، ولأنه من سليمان -عليه السلام.

_ 1 سورة النمل الآيات "29-31".

2- بدأ الخطاب "بسم الله الرحمن الرحيم" ليبين لهم من الوهلة الأولى أن إله سليمان هو الله الواحد الأحد، الرحمن الرحيم. 3- وفي ذكر الله وأسمائه دعوة صريحة للإيمان به، وترك ما عداه من آلهة أخرى كالشمس وغيرها. 4- ترك الاستعلاء في الأرض، وضرورة التواضع الله تعالى، وأهمية السمع والطاعة لما يدعونهم إليه. 5- طلب سليمان منهم أن يعلنوا إسلامهم، ويأتوا إليه بعد إسلامهم، ليأخذوا منه تعاليم الله تعالى. وقد تصرفت الملكة "بلقيس" بعقل وروية، وفي النهاية أعلنت إسلامها لله رب العالمين.

الركيزة الرابعة: حقائق عالم الجن والسحر

الركيزة الرابعة: حقائق عالم الجن والسحر نظرا لقيام مملكة سليمان -عليه السلام- على أعمال قام بها الجن، أود أن أقدم تعريفا موجزا بالجن، وما يتصل بهم على ضوء الحقائق الإسلامية. الجن أرواح عاقلة، مكلفة، مجردة عن المادة، مستورة عن الحواس، ولهم قدرة على التشكل، يأكلون، ويشربون ويتناكحون، وله ذرية1، وقد خلقهم الله من النار، يقول تعالى: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} 2. ويتشكل الجن في صورة الشجر، والحجر، والطير، والحيوان، والإنسان، ويسكن في الأماكن العالية والمنخفضة، وفي البيوت، وأماكن النجاسات، ويكثر وجودهم في الأسواق.

_ 1 الفصل لابن حزم ج5 ص12. 2 سورة الرحمن آية "15".

والجن يتصف بأوصاف عديدة، ويسمى بأسماء مختلفة تبعا لأوصافه، فمنهم العفريت، والشيطان، والمارد، والغول، والخبل1، ولهم قبائل، وينقسمون إلى جماعات، وطوائف تبعا لدينهم، وقرابتهم، وأعمالهم. والطريق إلى تجنب شرورهم هو الإيمان الصادق، وطاعة الله تعالى، يقول تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} 2. وأعمارهم طويلة، ولذلك يخبرون بأمور، يظنها الناس غيبا، ولا غيب فيها وإنما هي خبرتهم التي عاصروها من مدة طويلة، وقد علمنا أن سليمان -عليه السلام- مات وبقيت الجن لا تعلم موته، فدل ذلك على أنها لا تعلم الغيب. ولو تمكن الجن من الإنسان فإنه يستطيع إلحاق ضرر به بأحد الصور الآتية: 1- صرع الإنسان: يمكن للشيطان أن يصرع الإنسان، يقول تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسّ} 3، يقول الإمام الطبري، "يتخيله الشيطان في الدنيا، فيصرعه من المس، يعني من الجنون4 وفي الحديث أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعها صبي به لمم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "اخرج عدو الله، أنا رسول الله" فبرأ الصبي5، واللمم طرف من الجنون يلم بالإنسان6.

_ 1 العفريت: القوى الداهية، والشيطان: الهائج الضار، والمارد: الخارج من مسكنه متمردا على الطاعة، والغول: الذي يتشكل بأشكال مخيفة، والخبل: الذي يضر الناس ويشوش على عقولهم. 2 سورة النحل آية "99". 3 سورة البقرة آية "275". 4 تفسير الطبري ج3 ص101. 5 مجمع الزوائد ج9 ص6 وقال عنه رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح. 6 النهاية في غريب الحديث ج4 ص272.

وصرع الجن للإنسان، يكون عن شهوة وعشق، أو لرد عدوان وجزاء، أو لمجرد العبث والهوى1. 2 - ألحاق الضرر بالبدن. يمكن للجن أن ينخس المولود في بدنه، يروي البخاري بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه: "ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخا من نخسة الشيطان، إلا ابن مريم وأمه" 2 ويلحق بالإنسان المرض، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "الطاعون وخز من أعدائكم من الجن وهو شهادة المسلم" 3. وقد مرض أيوب من مس الشيطان، يقول تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ، ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} 4. 3- قتل الإنسان: قد يتمكن الشيطان من قتل الإنسان، يروي مسلم في حديث طويل حديث الفتى الذي خرج مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الخندق، وكان يستأذن رسول الله ليعود إلى أهله بأنصاف النهار، فاستأذنه يوما، فقال له الرسول -صلى الله عليه وسلم: "خد سلاحك، فإني أخشى عليك قريظة"، فأخذ سلاحه، ثم رجع فإذا امرأته بين البابين قائمة، فأصابته الغيرة، فقالت له: اكفف عليك رمحك، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني، فدخل فإذا حية عظيمة على الفرش، فأهوى إليها بالرمح فطعنها به، ثم خرج فركزه في

_ 1 إيضاح الدلالة في عموم الرسالة لابن تيمية ص27. 2 صحيح البخاري بشرح فتح الباري، كتاب الأنبياء ج6 ص469. 3 مسند الإمام أحمد ج4 ص413، طا الميمنية. 4 سورة ص الآيات "41، 42".

الدار، فاضطربت عليه، فما يدري أيها كان أسرع موتا؟ الفتى أم الحية1؟! في الحديث دلالة على أن الجن يمكن أن يقتل الإنسان بإرادة الله تعالى. وعلى الجملة فالجن خلق من خلق الله تعالى، عرف الله الإنسان الطريقة الحسنة للنجاة منه، وهي منحصرة في الإيمان، والذكر والتزام شرع الله تعالى، وتطبيق آداب الدين في الحياة والمعاش. وقد ذم الله فريقا من اليهود، نبذوا التوراة، واتبعوا أوامر الشيطان، وضلالات السحرة، يقول تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} 2. والآيات تبين أن فريقا من اليهود نبذوا التوراة، واتبعوا السحرة الذين أضلهم الله تعالى، يقول السدي، عارضت اليهود محمد -صلى الله عليه وسلم- بالتوراة، فاتفقت التوراة والقرآن، فنبذوا التوراة، وأخذوا بكتاب آصف، وبسحر هارون، وماروت، يقول محمد بن إسحاق، لما ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن سليمان من المرسلين، قال:

_ 1 صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب قتل الحيات ج14 ص234، 235. 2 سورة البقرة الآيات "101، 102".

بعض أخبارهم عنه: والله ما كان إلا ساحرا، والسحر هو الكفر هنا، فنفى الله عن سليمان السحر، وبين أن الشياطين هي التي كفرت لأنها ألقت إلى الأحبار أن ما فعله سليمان كان سحرا، ولم يكن رسالة إلهية. فنفى الله كفر سليمان، أو خطأ ما أنزل على الملكين، ولكن الذين كفروا هم هاروت وماروت الموجودان ببابل بأرض العراق، وقد كفروا بتعليم السحر ... ففي الآيات تقديم وتأخير، وهي كالتي: "وما كفر سليمان وما أنزل على الملكين، ولكن الشياطين هاروت وماروت كفروا يعلمون الناس السحر ببابل" فهاروت وماروت بدل الشياطين1. ويذهب جمهور العلماء إلى أن السحر حقيقة لقوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} ، ولقوله تعالى: {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} 2، ورأوا أن الساحر قد يتمكن من السيطرة على المسحور، وإلحاق الأذى به بإرادة الله تعالى.

_ 1 تفسير القرطبي ج2 ص50. 2 سورة الأعراف آية "116".

الركيزة الخامسة: طرق الوقاية من الجن والسحر

الركيزة الخامسة: طرق الوقاية من الجن والسحر الشيطان متربص بالإنسان، يريد أن ينقض عليه، ويبعده عن طاعة الله تعالى وقد وضح ذلك من قصة آدم -عليه السلام- وعلى الإنسان أن يكون حذرا في حياته لينجو من شر إبليس وجنوده، وطرق الوقاية من الجن ما يلي: أولا: قطع طرق الشيطان الموصلة يحاول الشيطان أن يسلك سبلا للوصول إلى الإنسان، والسيطرة عليه، وهي نفس الطرق التي يستغلها الساحر، ليصل بها إلى غايته، يقول ابن الجوزي: "اعلم أن القلب كالحصن، وعلى الحصن سور، به أبواب وفتحات، يسكن العقل هذا الحصن، وتأتيه الملائكة، وبجانب الحصن خلاء مفتوح تسكنه الشياطين، تحاول أن تقتنص فرصة لدخول الحصن، ولا تزال الشياطين في محاولتهم تدور حول الحصن، إلا أنها لا تدخل ما دام الحصن مستنيرا بالذكر، مشرقا بالإيمان، فإن وجد الجن غفلة، أو ظلاما دخل الحصن ليسكنه، فإذا إستيقظ القلب طرده مرة أخرى"1 يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} 2، وتستمر الأنوار بدوام الذكر، والطاعة، يقول تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ، وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} 3، وعلى الإنسان أن يقطع كافة الطرق التي تمكن الشيطان من الوصول إليه. ثانيا: الاستعاذة بالله من الشيطان ومعنى الاستعاذة، الاستجارة بالله تعالى، يقول تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ، وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُون} 4، وتحسن الاستعاذة عند قراءة القرآن الكريم، حتى لا يصرف الشيطان الإنسان عن القراءة يقول الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} 5.

_ 1 تلبيس إبليس ص37، 38. 2 سورة الأعراف آية "201". 3 سورة يس الآيات "60-65". 4 سورة المؤمنون الآيات "97، 98". 5 سورة النحل آية "98".

وعند الصلاة حتى لا يشوش الشيطان على المصلي، يروي مسلم بسنده أن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي، وقراءتي، يلبسها علي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ذاك شيطان يقال له خترت، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثا"، قال: ففعلت ذلك فأذهب الله عني1. وعند الغضب: حتى لا يتمكن الشيطان من إيقاع الإنسان في المهالك، يقول سليمان بن صرد -رضي الله عنه- كنت جالسا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- ورجلان يستبان، فأحمر وجه أحدهما، وانتفخت أوداجه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "إني لاعلم كلمة لو قالها، اذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ذهب عنه ما يجد" 2. وعند الخلاء: حتى لا يلعب الشيطان بمقعد الإنسان، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بالله من الخبث والخبائث" 3. وعند رؤية مكروهة: حتى لا يبتئس، ويتألم، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "إذا رأى أحدكم رؤيا يخافها، فليبصق عن يساره، وليتعوذ بالله من شرها، فإنها لا تضره" 4. وعلى المسلم أن يحصن نفسه من السحر، والشياطين دائما، بالاستقامة والطاعة ودوام معية الله له، والاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم.

_ 1 صحيح مسلم بشرح النووي - كتاب السلام - باب التعوذ ج4 ص 2 صحيح البخاري برح فتح الباري - كتاب بدء الخلق - باب صفة إبليس ج6 ص327. 3 صحيح البخاري بشرح فتح الباري، كتاب الوضوء ج1 ص283. 4 صحيح البخاري بشرح فتح الباري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس ج6. ص338.

ثالثا: الإكثار من ذكر الله تعالى إن الذكر هو النور الذي يطرد الشيطان، ولا يسمح له بالدخول ويمنعه من سكن الحصن، وقد أمر الله به، يقول تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ، إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ،} 1. يقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله خنس، وإن نسي التقم قلبه، فذلك الوسواس الخناس" 2، وأرشدنا الله ورسوله -صلى الله عليه والسلام- إلى فضيلة الذكر: فذكر الله عند الاستيقاظ من النوم يحدث عند المسلم العزيمة والقوة، ويدفع عنه الكسل، حيث يبدأ المسلم يومه بذكر الله، داعيا ربه أن يعيذه من الشيطان الرجيم، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة مكانها، عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كلها فأصبح نشيطا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان" 3. وذكر الله عند الخروج من البيت يعصم المسلم من شر الشيطان، فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من قال -يعني إذا خرج من بيته- بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله قال: يقال حينئذ: هديت وكفيت ووقيت، فتتنحى له الشياطين، فيقول له شيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي" 4.

_ 1 سورة الأعراف الآيات "205، 206". 2 تفسير ابن كثير ج3 ص297. 3 أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده ج6 ص335. 4 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب ما يقول إذا خرج من بيته ج ص328.

وذكر الله في المسجد مبعد للشيطان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط، فإذا قضى أقبل فإذا ثوب 1 "أدبر"، فإذا قضى أقبل، حتى يخطر بين الإنسان وقلبه فيقول: أذكر كذا وكذا حتى لا يدري أثلاثا صلى أم أربعا، فإذا لم يدر ثلاثا صلى أو أربعا سجد سجدتي السهو"2. وكلمة التوحيد ولزوم الاستغفار أحد الوسائل المهمة في دحر الشيطان، فعن أبي بكر الصديق، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استكثروا من لا إله إلا الله والاستغفار، فإن الشيطان قال: قد أهلكتهم بالذنوب وأهلكوني بقول لا إله إلا الله والاستغفار، فلما رأيت ذلك منهم أهلكتهم بالأهواء، حتى يحسبون أنهم مهتدون فلا يستغفرون" 3. وإذا وضع المسلم جنبه على فراشة فذكر الله، ظل في حماية ربه حتى يصبح فعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وضع العبد جنبه على فراشه فقال: بسم الله، وقرأ فاتحة الكتاب أمن من شر الجن والإنس ومن كل شيء" 4.

_ 1 ثوب: التثويب: الإقامة، وأصله من ثاب إذا رجع، ومقيم الصلاة راجع إلى الدعاء إليها، فإن الأذان دعاء إلى الصلاة، والإقامة دعاء إليها، انظر صحيح مسلم ج1 ص291. 2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده ج6 ص337. 3 ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ونسبه لأبي يعلى، وفيه عثمان بن مطر وهو ضعيف، وذكر الدارمي نحوه، انظر سنن الدارمي، باب في اجتناب الأهواء ج1 ص78. 4 ذكره السيوطي في الجامع الكبير ونسبه للبزار والديلمي، قال الهيثمي في المجمع: وفيه غسان بن عبيد وهو ضعيف ووثقه ابن حبان، وبقية رجاله رجال الصحيح.

وهكذا يكون المسلم ذاكرا لربه عند يقظته ونومه، فيكون في كنف الله ورعايته في يومه كله رحمة من الله له. والذكر على كل حال دواء ناجح للشيطان، وسلاح قاتل، يصيب منه المقاتل، التي بها يقوى على إفساد الناس وإضلالهم، قال ابن القيم: "ولو لم يكن في الذاكر إلا أن يحترز المسلم من الشيطان ويدفعه عنه، لكان حقيقا بالعبد أن لا يفتر لسانه عن ذكر الله تعالى، وأن يزال لهجا بذكره، فإنه لا يحرز نفسه من عدوه إلا بالذكر، ولا يدخل عليه العدو إلا من باب الغفلة، فهو يرصده، فإذا غفل وثب عليه وافترسه، وإذا ذكر الله تعالى انخنس عدو الله وتصاغر وانقمع حتى يكون كالوصع1 وكالذباب، ولهذا سمي الوسواس الخناس"2. ويقول: "والشياطين قد احتوشت العبد وهم أعداؤه، فما ظنك برجل قد احتوشه أعداؤه المحنقون عليه غيظا، وأحاطوا به، وكل منهم يناله بما يقدر عليه من الشر والأذى، ولا سبيل إلى تفريق جمعهم عنه إلا بذكر الله عز وجل3. رابعا: قراءة القرآن فالقرآن خير سلاح يحارب به المسلم عدوه؛ لأنه كلام الله، وله تأثير عجيب في طرد الشيطان وإبعاده. ففي حديث أبي هريرة عندما وكله رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فكان الشيطان يأتيه في صورة شيخ فقير، فيحثو من مال الصدقة، حتى هم أبو هريرة برفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له الشيطان: "دعنى أعلمك كلمات ينفعك الله بها

_ 1 الوصع: طائر أصغر من العصفور. 2 الوابل الصيب من الكلم الطيب ص33 بتصرف. 3 نفس المصدر ص75.

قلت: وما هي؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} حتى تختم الآية، فإنك لا يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فخلى سبيله، ثم أخبر أبو هريرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك - فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أما إنه صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب من ثلاث ليال يا أبا هريرة؟ " قلت: لا، قال: "ذاك شيطان" 1. فآية الكرسي لها تآثير عجيب في دفع الشياطين من الجن، ولهذا شرع الله لنا قراءتها قبل النوم، لما فيها من النفع العظيم والخير الكثير، حتى إن قراءتها في البيت تطرد الشيطان، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سورة البقرة فيها آية سيدة آي القرآن، لا تقرأ في بيت وفيه شيطان إلا خرج منه: آية الكرسي"2. ومن قرأ أواخر سورة البقرة عصمته من الشياطين كذلك، فعن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام، أنزل فيه آيتين ختم بهما سورة البقرة، ولا يقرأان في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان" 3. وقراءة سورة البقرة بشكل عام مطردة للشيطان، فعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة" 4.

_ 1 من حديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوكالة، باب إذا وكل رجلا فترك الوكيل شيئا فأجازه ج4 ص487. 2 أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب التفسير، من سورة البقرة ج2 ص259. 3 أخرجه الترمذي في سننه، كتاب ثواب القرآن، باب ما جاء في آخر سورة البقرة ج8 ص98. 4 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد ج1 ص539.

قراءة المعوذتين، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجان وعين الإنسان حتى نزلت المعوذتان، فلما نزلتا أخذ بهما وترك ما سواهما1. وهكذا يعتبر القرآن أهم الوسائل التي تطرد الشيطان، حيث يعصم المسلم من كيده ووسوسته، وينقذه من السحرة، وسحرهم.

_ 1 أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الطلب، باب ما جاء في الرقية بالمعوذتين ج6 ص252.

النقطة الثامنة: ضياع مملكة إسرائيل بعد سليمان عليه السلام

النقطة الثامنة: ضياع مملكة إسرائيل بعد سليمان عليه السلام. استمرت مملكة بني إسرائيل الصالحة طوال عصر داود وسليمان عليهما السلام وهي فترة امتدت أكثر من قرن من الزمان، وبعد موت سليمان تولى الأمر من بعده ابنه "رحبعام" فانقسم عليه الإسرائيليون، وطلبوا منه أن يتخلى عن مواريث أبيه فرفض، وعرفهم بأنه على نفس ما كان عليه أبوه، فانقلبوا عليه، واتبعوا واحدا منهم هو "يربعام" وأعلنوا أنهم يتبرءون من بيت داود إلى الأبد ... وانقسم الإسرائيليون إلى مملكتين، مملكة يهوذا في الجنوب تحت إمرة أبناء سليمان، ومملكة إسرائيل في الشمال ويحكمها معارضوهم. وقد نشبت حروب عديدة بين المملكتين استمرت قرابة قرنين، وأخذ كل فريق يستعين بالقوى المجاورة، من غير الإسرائيليين ... واستمر الصراع حتى تمكن ملك آشور من التسلط على مملكة إسرائيل، وقبض على ملكها، وقاد أهلها جميعا إلى بلاده أسرى، وأحل محلهم قبائل عربية كانوا أصحابها قبل الإسرائيليين ... وظلت

مملكة يهوذا تصارع، وتناضل الآشوريين، وتحاول إبعادهم عن دولتهم1 ... وكان يأتيها بين الحين والحين نبي من قبل الله تعالى، يجدد لهم دعوة موسى عليه السلام ويذكرهم بنعم الله، ويخوفهم من عذابه ... لكن الإسرائيليين كعهدهم دائما، كانوا يكذبون الأنبياء، ويتهمونهم بالجنون، والسفه، حتى فعلوا ذلك مع أحد أنبيائهم "أرميا" عليه السلام وقيدوه وسجنوه. واستمروا على ضلالهم، وإفكهم حتى نزل بهم وعد الله الذي أخبرهم الله به على لسان موسى عليه السلام يقول تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} 2. وفي عام 596 قبل الميلاد، أغار بختنصر، ملك بابل عليهم بجنوده فدمر بلادهم، وخرب بيت المقدس، وساقهم إلى سجون بابل، ونفاهم بمملكته، واستعبدهم، فعاشوا مرحلة السبي البابلي، أذلاء، صاغرين. وكان انتصار بختنصر عليهم هو المقصود من قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} 3. وبعد خمسين عاما من النفي، والتشريد، تغلب "كورش" ملك الفرس على البابليين، فأطلق سراح الإسرائيليين، وأعاد من بقي منهم إلى بيت المقدس، وساعدهم، فعادوا لبغيهم، وكفرهم بعد قرنين من الزمان عاشوها تحت السيطرة الفارسية، وكان أن جاء وعد الآخرة، فسلط الله عليهم ملكا من ملوك بابل هو

_ 1 كانت عاصمة الشمال نابلس، وعاصمة الجنوب القدس، ويلاحظ أن مملكة يهوذا كانت صغيرة ومنحصرة في بيت المقدس وما حولها فقط. 2 سورة الإسراء آية "4". 3 سورة الإسراء آية "5".

"خردوس" فأزال سلطانهم، ودمر بلادهم مرة أخرى، وأبعدهم عن البلاد، وفي ذلك يقول الله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا، إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} 1. وهكذا انتهى شأن بني إسرائيل قبل ميلاد المسيح عليه السلام وتوزعوا في البلاد المجاورة كمصر، والحجاز، والعراق، واليمن، وبلاد آسيا الوسطى، ولهم في هذه البلاد جاليات يهودية حتى اليوم2.

_ 1 سورة الإسراء الآيات "6، 7". 2 يمكن مراجعة كل ما ذكر عن ضياع ملك بني إسرائيل في أسفار العهد القديم، أسفار الملوك "الأول والثاني"، وانظر ما نقله الطبري في التاريخ ج1 ص593، وفي التفسير ج15 ص41، 42، والكامل ج1 ص173.

زكريا عليه السلام

زكريا عليه السلام مدخل ... زكريا عليه السلام: تشرذم الإسرائيليون، وتفككت دولتهم، واستعبدهم البابليون، والآشوريون والمقدونيون وظهرت فيهم المذاهب العديدة المتعارضة. أراد الله سبحانه وتعالى أن يعيد مجد أبناء داود عليه السلام، وأن يبطل مزاعم اليهود بشأنهم، فاختار من ذريتهم آخر أنبيائهم وهم، زكريا، ويحيى وعيسى عليهم السلام، وثلاثتهم من آل عمران التي اصطفاها الله تعالى، يقول سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم} 1. ذلك أن امرأة عمران رضي الله عنها انجبت بنتين، الأولى: تزوجها زكريا عليه السلام، وولدت منه يحيى عليه السلام، والثانية: هي مريم وهبتها لخدمة الهيكل، فحملت وولدت عيسى عليه السلام. فيحيى وعيسى عليهم السلام ابنا خالة، وزكريا صهر مريم عليهم السلام، وكان زكريا عليه السلام يعمل نجارا، لقوله صلى الله عليه وسلم: "كان زكريا نجارا" 2 وزكريا عليه السلام ينتسب إلى داود عليه السلام، ويكتفي القرآن في حديثه عن زكريا عليه السلام بذكر حادثتين هما:

_ 1 سورة آل عمران الآيات "33، 34". 2 صحيح مسلم بشرح النووي، باب فضل زكريا ج15 ص135.

الحادثة الأولى: كفالة مريم

الحادثة الأولى: كفالة مريم نذت امرأة عمران ما في بطنها لله، خدمة للهيكل، وكانت تتمناه ولدا، وأراد الله أن يكون أنثى، فلما وضعتها أمها سمتها "مريم" واستعاذت بالله أن يضرها الشيطان، فتقبلها الله تعالى، ووهبتها أمها لخدمة دار العبادة، وتهافت الناس للإنفاق عليها، ولخدمتها، وللتشرف بالقربى عن طريقها لله رب العالمين، يقول تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} 1، واقترع القوم فيمن يكفلها، فوقعت القرعة على زكريا زوج أختها الكبرى، وأخذت مريم في العبادة، والجلوس في المحراب فنشأت نشأة صالحة، وأحاطتها رعاية الله، وأتت الملائكة تخدمها، وجاءها الطعام، وفيرا متنوعا، وعلم زكريا أن ذلك فضل الله، وعطاؤه، عندئذ طلب من الله أن يرزقه ولدا، يقول تعالى: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} 2.

_ 1 سورة آل عمران آية "44". 2 سورة آل عمران الآيات "36، 37".

الحادثة الثانية: ولادة يحيى

الحادثة الثانية: ولادة يحيى كانت زوجة زكريا عليه السلام عقيما لا تلد، وكبر زكريا، ولم يرزق بولد، ونظر حوله فرأى أن الموالى ليسوا بأمناء على دين الله تعالى: فتمنى في نفسه ولدا من صلبه يرث النبوة، ويكون امتدادا لآل يعقوب عليه السلام، ويكون محل توفيق الله، ورضاه. ولم يجد إلا الله يحقق له هذه الأمنية، وبخاصة أنه رأى مريم تتمتع بالرزق الوفير من غير عمل، أو جهد، يأتيها من الله تعالى، القادر العظيم، حينما رأى فضل الله على مريم اتجه إلى الله بالدعاء، وطلب منه الولد، يقول الله تعالى: {كهيعص، ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا، إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا، قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا، وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} 1. والآيات واضحة في أن الله أنزل رحمته بزكريا عليه السلام، حين دعاه وحيدا، لا يسمعه إلا الله، وطلب منه أن يرزقه وليا، يرثه مع كبر سنه، وعقم زوجته، فليس هناك مستحيل على قدرة الله تعالى، وتمنى زكريا أن يكون ولده محل رضى الله وقبوله، يقول تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} 2، ويقول سبحانه: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} 3.

_ 1 سورة مريم الآيات "1-6". 2 سورة آل عمران آية "38". 3 سورة الأنبياء آية "89".

يقول قتادة: إن الله يعلم القلب النقي، ويسمع الصوت الحفي، وقد قام زكريا من الليل ينادي، نداء لا يسمعه أحد، ومعنى وهن العظم مني: ضعف العظم بسبب الكبر وظهر الكبر على الشعر فابيض واشتعل شيبا. والمراد بالإرث: النبوة؛ لأن الأنبياء لا يورث لهم مال، والدنيا كلها لا تستحق أن يهتم بها نبي، ولذلك تمنى زكريا عليه السلام إرث النبوة، ودعا بذلك. استمع الله لزكريا، وأجاب دعاءه، قال تعالى: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا، قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا، قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا، قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} 1، ويقول سبحانه: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ، فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ، قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} 2، ويقول سبحانه: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} 3.

_ 1 سورة مريم الآيات "7-10". 2 سورة آل عمران الآيات "38-41". 3 سورة الأنبياء آية "90".

ومن مجمل الآيات ندرك أن الله استجاب دعاء زكريا، وبشره بغلام، يسمى باسم لم يسبق به هو "يحيى" وأصلح الله زوجته للحمل، وذهب عقمها، وحاضت. طلب زكريا من الله آية وعلامة يعرف بها وقت حمل زوجته بهذا الولد، قال الله له آيتك أن يعتريك صمت وسكوت لمدة ثلاث أيام، لا تستطيع أن تتحدث خلالها إلا بالرمز، ولما جاء وقت الحمل كان زكريا يقرأ، ويسبح، ولا يستطيع التكلم مع أحد، ويولد له يحيى، سيدا وحصورا1، ونبيا من الصالحين، وعاش زكريا حتى لقي ربه عليه السلام وقيل إنه مات مقتولا، قتله اليهود.

_ 1 الحصور الذي يكف عن النساء، ولا يقربهن، مع القدرة، ويمكن أن يكون المعنى الحابس نفسه عن المعاصي "تفسير القرطبي ج4 ص78، 79".

يحيى عليه السلام

يحيى عليه السلام: استجاب الله دعاء زكريا عليه السلام ورزقه يحيى عليه السلام، وقد سماه بهذا الاسم بشرى لوالديه، في أنه يعمر، ويحيى طويلا، وللدلالة على أن قلبه حي بالمحبة، وجسمه حي بالطاعة، ولسانه حي بالذكر، وأن باطنه حي بالعلم، والعصمة1. ولد يحيى عليه السلام قبل ميلاد المسيح بستة أشهر2 يقول كعب الأحبار: كان يحيى حسن الصورة والوجه، لين الجناح، قليل الشعر، قصير الأصابع، طويل الأنف، مقرون الحاجبين، رقيق الصوت، كثير العبادة، قويا في طاعة الله تعالى: قيل: إن أتراب يحيى قالوا له وهو صغير: اذهب معنا نلعب، قال لهم: ما للعب خلقت، وكان يعظ الناس، ويقف لهم في أعيادهم، ومجامعهم، ويدعوهم إلى الله تعالى3. يقول تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} 4 ... وأول من آمن بعيسى عليه السلام هو يحيى عليه السلام. يصف الله يحيى بقوله: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} 5 والآية تدل على أن الله خلق يحيى سيدا كريما، ونبيا مرسلا، وحصورا يمنع نفسه من الشهوات ويملك زمام نزغاته من الانفلات.

_ 1 بصائر ذوي التمييز ج6 ص94. 2 قصص الأنبياء للثعالبي ص361. 3 نهاية الإرب ج14 ص20. 4 سورة مريم آية "12". 5 سورة آل عمران آية "39".

وقد عاش يحيى فقيرا، عطوفا، طاهرا، وقتل شهيدا على يد "هيرودس" الطاغية، حاكم بلده ... ذلك أن هيرودس "أراد أن يتزوج من ابنة أخ له، فبين يحيى عليه السلام أن ذلك لا يحل؛ لأنها من محارمه، إلا أن "هيرودس" تزوجها، وحقد على يحيى، وأمر بإحضار رأسه، فدخل جنده على يحيى وهو قائم يصلي في المحراب، وذبحوه، وقطعوا رأسه، وأحضروها إلى الطاغية "هيرودس" فأمر بدفنها في دمشق الحالية، والقبر الآن يقع في قلب المسجد الأموي بدمشق. يقول ابن عساكر: رأيت رأس يحيى بن زكريا حين أرادوا بناء المسجد، حيث أخرجوه من تحت ركن من أركان القبلة مما يلي المحراب جهة الشرق، فكانت البشرة والشعر على حاله، لم يتغير، كأنما قتل الساعة. تقول بعض الروايات: إن يحيى قتل في حياة أبيه زكريا1. وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم التقى بيحيى ليلة الإسراء حيث قال: "ثم عرج بي إلى السماء الثانية، فاستفتح جبريل ففتح له، وإذا أنا بابني الخالة عيسى بن مريم، ويحيى بن زكريا، فرحبا بي، ودعوا لي بخير" 2 عليهم جميعا الصلاة والسلام....

_ 1 قصص الأنبياء ص310، 311. 2 صحيح البخاري بشرح فتح الباري - كتاب أحاديث الأنبياء ج6 ص467.

عيسى عليه السلام

عيسى عليه السلام النقطة الأولى: ولادة عيسى عليه السلام ... عيسى عليه السلام: عيسى عليه السلام آخر أنبياء بني إسرائيل، وليس بينه وبين النبي محمد صلى الله عليه وسلم نبي آخر. وهو من آل عمران، ومن نسل داود، ولذلك اضطهده اليهود، وآذوه، وحاولوا قتله. دعا الإسرائيليين إلى دين موسى عليه السلام وبشر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم للعالمين من بعده. وهو أحد أولي العزم من الرسل، الذين أبلوا بلاء حسنا، وصبروا على ما كذبوا، وأوذوا حتى أتاهم نصر الله المبين، وسوف أتحدث عن عيسى عليه السلام في النقاط التالية: النقطة الأولى: ولادة عيسى عليه السلام ترعرعت مريم1 أم المسيح عيسى في بيت الله، ونشأت عابدة متبتلة، واصطفاها الله على نساء العالمين، يقول تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ، يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} 2.

_ 1 يعني اسم مريم في العبرانية بأمة الله، أو خادمة الله. 2 سورة آل عمران الآيات "42، 43".

وعاشت رضي الله عنها، حصيفة، حصينة، فاعتزلت الرجال، وعاشت لله رب العالمين، فجعلها الله مثلا للمؤمنات، الفانتات، يقول تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} 1. وحملت الملائكة بشرى الله لها، بأنها ستلد غلاما مميزا، اسمه المسيح عيسى2 لا أب له، وينسب لأمه، عظيما في الدنيا، وجيها في الآخرة، ومن المقربين لله تعالى ويتكلم وهو في المهد بعد مولده، ويكون من الصالحين، الصادقين، يقول تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ، وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} 3. تعجبت مريم من هذه البشرى، وتساءلت كيف يكون لي غلام من غير أن يمسني أحد من البشر في نكاح، ولا سفاح، يقول تعالى: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 4. وضاق الأمر بها، وتألمت وهي تتصور ذلك في عالم الواقع؛ لأنها لا تحب لوم الناس، وإتهامهم لها، فاعتزلت الناس، وجلست وحدها في جهة الشرق التي يعظمها قومها، وجعلت بينها وبينهم حجابا، فأرسل الله إليها روح عيسى عليه السلام فتمثل لها إنسانا كاملا، وأتاها في محرابها، ففزعت منه، واستعاذت بالله إن كان ممن يتقى

_ 1 سورة التحريم آية "12". 2 سمي عيسى من العيس وهو الجمال، لبياض لونه. 3 سورة آل عمران الآيات "45، 46". 4 سورة آل عمران آية "47".

شره، فطمأنها، وقال لها: أنا رسول ربك جئت لأهب لك غلاما، طاهرا نقيا، وتسائلت: كيف يكون ذلك بلا زواج، أو سفاح، فأجابها الرسول بأن ذلك قضاء الله وقدره وقد أراد الله من ذلك أن يكون آية للناس، ورحمة من عنده يقول تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا، فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا، قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا، قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا، قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا، قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} 1 ... وحملت مريم، وجاءها المخاض، وهي جالسة عند جذع نخلة، فحزنت من لوم الناس، وعتابهم وتمنت أن تكون قد ماتت قبل هذا اليوم، حتى لا يذكرها أحد بسوء. وولدت مريم المسيح، وناداها جبريل من أسفلها، لا تحزني، فقد وهب الله لك رجلا عظيما، وسيدا في الناس، وأمرها بأن تهز النخلة لتسقط عليها الرطب تأكل منها، وتعيش، وأمرها كذلك أن لا تكلم أحدا من الناس، وأن تنذر يومها صوما عن الكلام لله رب العالمين، وقيل الذي ناداها هو عيسى عقب مولده. وجاءت إلى قومها تحمل وليدها، فأخذوا في لومها، وهي لا تتكلم، قالوا لها: لقد جئت شيئا لا يصدقه عقل، جئت بولد تدعين أنه بغير أب، فكيف ذلك، يا أخت هارون، وسليلة الأنبياء ... فأشارت إليه ولم تتكلم لصومها عن الكلام ... قالوا: كيف نتكلم مع وليد صبي ما زال في المهد؟ وسكتوا جميعا، وتكلم الوليد فقال: إني عبد الله: أتاني الله الإنجيل، وجعلني نبيا، وبارك الله لي في كل مكان، وأوصاني

_ 1 سورة مريم الآيات "16-21".

بالصلاة، والزكاة، ما دمت حيا، يقول الله تعالى: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا، فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا، فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا، وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا، فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا، فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا، يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا، فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا، وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا، وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا، وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} 1. والآيات توضح الحقائق التالية: 1- خلق الله عيسى عليه السلام من غير أب. 2- أكرم الله مريم، وفضلها على نساء العالمين، وخاطبها جبريل، وجعلها أما لعيسى عليه السلام. 3- أن عيسى عليه السلام تكلم في المهد، وأثبت براءة أمه من أي اتهام. 4- عاش عيسى وأمه عليهما السلام في معجزات خارقة منذ اللحظة الأولى، ليردوا على الإسرائيليين أكاذيبهم، واتهاماتهم.

_ 1 سورة مريم الآيات "22-33".

5- أعلن عيسى عليه السلام وهو في المهد أصول دعوته لبني إسرائيل وهي: - نزول الكتاب عليه ليكون دستور الناس وشريعتهم. - عيسى رسول الله عليه السلام يستقبل الوحي، وعلى الناس أن يسمعوا لدعوته. - ملازمة عيسى لبركات الله، أينما حل، ووقتما يكون. - على عيسى وقومه أن يقيموا الصلاة لله رب العالمين. - إيتاء الزكاة شرع طبقه عيسى ودعا إليه. - البر بالوالدين شريعة عيسى عليه السلام. - ترك القسوة، والجبروت، والتزام الرحمة والسكينة ضرورة خلقية - الأمن والسلام هما دعوة عيسى عليه السلام وبهما يعيش في الدنيا والآخرة.

النقطة الثانية: معجزات عيسى عليه السلام

النقطة الثانية: معجزات عيسى عليه السلام المعجزة أمر خارق للعادة، يظهره الله على يد مدعي النبوة، تصديقا له، وهي ممكنة عقلا في حق الله تعالى، ودائما يتخير الله المعجزة من جنس ما تفوق فيه الناس، ومن معجزات عيسى عليه السلام ما يلي: 1- ولادته عليه السلام من غير أب، وهذا أمر خارق لعادة الناس، في التناسل، والتكاثر، وهو أمر سهل، هين على الله تعالى: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} 1.

_ 1 سورة مريم آية "21".

2- نطقه في المهد حيث تكلم بكلام مفهوم، معقول كحديث الرجل الكامل في خلقته. 3- نفخ عيسى عليه السلام في تمثال مصنوع من الطين على هيئة الطير، فصار طيرا بإذن الله. 4- إبراء الأعمى والأبرص بإذن الله تعالى. 5- إحياء عيسى عليه السلام لعدد من الموتى بإذن الله. 6- كان عيسى عليه السلام ينبئ أصحابه بالطعام والشراب الذي يأكلونه، أو يدخرونه في بيوتهم بإذن الله. 7- أنزل الله المائدة من السماء كطلب القوم لتكون لهم آية بإذن الله. يقول الله تعالى عن معجزات عيسى عليه السلام: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} 1، ويقول سبحانه: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 2، ويقول سبحانه

_ 1 سورة المائدة آية "110". 2 سورة آل عمران آية "49".

{قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ، قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} 1.

_ 1 سورة المائدة الآيات "114، 115".

النقطة الثالثة: رسالة عيسى عليه السلام

النقطة الثالثة: رسالة عيسى عليه السلام جاء عيسى عليه السلام مجددا لدعوة موسى عليه السلام وأنزل الله عليه الإنجيل مصدقا لما بين يديه من التوراة، وأساسيات رسالة عيسى عليه السلام ما يلي: "أولا: كانت دعوة عيسى عليه السلام خاصة ببني إسرائيل، يقول تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} 1 ... ولم تتحول دعوته إلى عالمية، إلا في عصور متأخرة على يد الإمبراطور "قسطنطين" و"بولس"، وبهما تغيرت ملاح دعوة عيسى عليه السلام. ثانيا: الدعوة إلى التوحيد الخالص، ونبذ الشرك، والشركاء، فالله واحد لا شريك له، وليس لعيسى مع الله إلا ما لأي رسول مع الله تعالى، يقول تعالى: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 2. وأي كلام عن بنوة عيسى، ومشاركته لله في الألوهية بأي وجه من الوجوه ليس

_ 1 سورة الصف آية "6". 2 سورة المائدة آية "117".

صحيحا، يقول تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ، لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1، ويقول تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ، اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 2. ثالثا: المسيح عليه السلام رسول الله تعالى، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه ولا يصح مطلقا أن نخرجه من إطار البشرية تحت أي مسمى، يقول تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} 3، ويقول تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} 4.

_ 1 سورة المائدة الآيات "72، 73". 2 سورة التوبة الآيات "30، 31". 3 سورة المائدة آية "75". 4 سورة النساء آية "172".

والأناجيل الموجودة مع أتباع عيسى عليه السلام اليوم تشهد ببشرية المسيح. جاء في إنجيل يوحنا، الإصحاح الخامس، في فقرة "24": "الحق الحق أقول لكم، إن من يسمع كلامي، ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية". وفي فقرة "30": "إني لا أجلب مشيئتي، بل مشيئة الرب الذي أرسلني". وفي فقرة "36" "وأما أنا فلي شهادة أعظم من يوحنا؛ لأن الأعمال التي أعطاني الأب لأكملها ... تشهد لي أن الأب قد أرسلني، والأب نفسه الذي أرسلني يشهد لي. جاء في إنجيل يوحنا، الإصحاح السابع، فقرة "28"، فنادى يسوع، وهو يعلم في الهيكل قائلا: تعرفونني، وتعرفون من أين أنا، ومن نفسي لم آت، بل الذي أرسلني هو حق، الذي أنتم لستم تعرفونه، أنا أعرفه، وهو أرسلني. وجاء في إنجيل متى الإصحاح العاشر، فقرة "40" "من يقبلكم يقبلني، ومن يقبلني يقبل الذي أرسلني". فهذه النصوص من الأناجيل تشهد ببشرية المسيح، وأنه رسول الله تعالى إلى بني إسرائيل. رابعا: أتى المسيح عليه السلام لقومه بشرائع جديدة، تناسب مع ما يحتاجون إليه، يقول تعالى: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} 1، ويقول تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا، وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} 2.

_ 1 سورة آل عمران آية "50". 2 سورة النساء الآيات "160، 161".

خامسا: دعا المسيح عليه السلام إلى التصديق بالكتب السماوية التي سبقته، يقول تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} 1. سادسا: بشر المسيح عليه السلام برسالة محمد صلى الله عليه وسلم التي يأتي بعده، يقول تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2.

_ 1 سورة المائدة آية "46". 2 سورة الأعراف آية "157".

النقطة الرابعة: رد ما يقال في ولادة عيسى عليه السلام

النقطة الرابعة: رد ما يقال في ولادة عيسى عليه السلام مدخل ... النقطة الرابعة: رد ما يقال في ولادة عيسى عليه السلام أثارت ولادة عيسى عليه السلام من غير أب أفكارا، جعلت أتباعه يقولون: إن عيسى ابن الله، صار جزءا من ذاته سبحاته وتعالى، ويرون أن المسيح والله اجتمعا في ذات واحدة، وصارا طبيعة واحدة، ويزعمون اتحاد الناس واللاهوت في ذات خاصة، هي الله تعالى. وإني هنا أورد ما قاله النصارى، وأناقشهم في قولهم، بالدليل والبرهان

أولا: المسيح ابن الله

أولا: المسيح ابن الله يقول النصارى إن المسيح ابن الله تعالى؛ لأنه خلق من غير أب، فالله أبوه، وهو ابنه. وهذا كلام لا يصح؛ لأن ولادة عيسى عليه السلام من غير أب، معجزة إلهية داخلة في إطار قدرة الله تعالى، فهو سبحانه وتعالى خلق حواء بلا أم، وخلق آدم بلا أب، ولا أم، ولم يثبت أحد لهما بنوة الله تعالى، فقدرة الله عامة، وإذا أراد شيئا قال له: كن فيكون. وقد أثار وفد نصارى نجران هذه المقالة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك تشتم صاحبنا؟ فقال لهم صلى الله عليه وسلم: "وما أقول؟ " قالوا: تقول إنه عبد الله. قال لهم صلى الله عليه وسلم: "أجل، إنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء، البتول". فغضبوا، وقالوا: هل رأيت إنسانا قط بلا أب؟! فإن كنت صادقا فأرنا مثله، فأنزل الله قوله1: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 2. وواضح من الآية أن الآية قد ردت عليهم؛ لأننا لو قلنا ببنوة عيسى لله لعدم وجود الأب، فالواجب الأولى أن يكون آدم ابن الله، ولم يقل به أحد؟! ثم ما هو المانع أن يخلق الله إنسانا من دم امرأة فقط، وقد خلق إنسانا من تراب جامد؟!.

_ 1 مدرسة الأنبياء ص330. 2 سورة آل عمران آية "59".

ثانيا: كلمة الله

ثانيا: كلمة الله يقول النصارى إن المسيح كلمة الله تعالى كما جاء في القرآن الكريم، يقول تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} 1 ... إلا أنهم يقولون إن الكلمة جزء من الذات الإلهية، ولهم تصوراتهم في التقاء كلمة الله بجسد الإنسان، حيث اتحدا في ذات واحدة. وهذا كلام لا يصح؛ لأن الله قديم بذاته، وصفاته، وأفعاله، وليس مركبا من أجزاء، ولا ينقسم إلى أجزاء، وكلامهم في اتحاد اللاهوت بالناسوت، قائم على التركيب، والأجزاء، وهذا لا يليق بالله تعالى. وأيضا فإن الكلمة التي حملها جبريل هي "كن" فكان عليه السلام ...

_ 1 سورة آل عمران آية "45".

ثالثا: عيسى روح الله

ثالثا: عيسى روح الله ... ثالثا: عيسى عليه السلام يقول النصارى إن المسيح روح الله، لقوله تعالى في القرآن الكريم: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} 1 ويريدون بالروح جزءا من الله تعالى. وهذا كلام لا يصح؛ لأن الروح تعني النفخة التي نفخها جبريل بأمر الله تعالى في درع مريم ... وتأتي بمعنى رحمة الله، وأضيفت الروح إلى الله للتشريف والتكريم. وعلى الجملة فإن الله إله واحد، والمسيح رسول الله، وأمه صديقة عذراء، يقول تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} 2.

_ 1 سورة النساء آية "171. 2 سورة المائدة آية "75".

النقطة الخامسة: حياة المسيح ونهايته في الأرض

النقطة الخامسة: حياة المسيح ونهايته في الأرض أكرم الله عيسى عليه السلام فجعل لأسرته سورة باسمها، هي سورة "آل عمران"، وجعل لأمه سورة باسمها، هي سورة "مريم"، وجعل لإحدى معجزاته سورة باسمها هي سورة "المائدة". وقد ولد المسيح ببيت لحم، وهاجر مع أمه، وجماعته إلى مصر، ثم عاد إلى بيت المقدس لما بلغ ثلاث عشرة سنة، ونزل عليه الإنجيل وهو ابن ثلاثين عاما. أخذ عيسى يدعو قومه إلى دين الله تعالى، ليستقيموا على الحق، وأظهر لهم المعجزات لم يتأثروا بها، وآمن به عدد منهم، فانقسموا إلى فريقين، فريق آمن به، وفريق آخر كفر به، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} 1. إلا أن الذين كفروا به حاولوا قتله، وصلبه، فأنقذه الله منهم بأن قتلوا رجلا آخر يشبهه، وصلبوه، أما عيسى عليه السلام فقد رفعه الله إليه، يقول تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا، وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ}

_ 1 سورة الصف آية "14".

{إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا، وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} 1، ويقال إن الذي قتل هو يهوذا الإسخريوطي الذي خان المسيح، وجاء بجنود الرومان لقتل المسيح، فرفع الله عيسى إليه، وألقى شبهه على يهوذا ... فكان أن قتله الرومان ظنا منهم أنه المسيح، مع أنه هو الذي جاء بهم. واختلف العلماء في رفع المسيح حيا أو ميتا، فقال بعضهم رُفع حيًّا أثناء النوم وقال آخرون رفع بعد قبض روحه، وتوقف آخرون، وأولاها الرأي الأول. وسوف ينزل عيسى عليه السلام إلى الأرض مرة أخرى، ونزوله عليه السلام علامة من علامات الساعة الكبرى، فعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَة} 2 قال: نزول عيسى بن مريم من قبل يوم القيامة3 وقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} 4 قال ابن كثير: "أي بعد نزوله إلى الأرض في آخر الزمان قبل قيام الساعة، فإنه ينزل ويقتل الخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام"، وقد جاء التفصيل في السنة النبوية، فقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنه عندما تشتد فتنة الرجال، ويضيق الأمر بالمؤمنين في ذلك الزمان، ينزل الله عبده ورسوله عيسى عليه السلام وينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، قال صلى الله عليه وسلم: "ينزل عيسى بن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق" 5.

_ 1 سورة النساء الآيات "156-159". 2 سورة الزخرف آية "61". 3 إسناد حسن: رواه ابن حبان في صحيحه "الإحسان" ج8 ص222. 4 سورة النساء آية "159". 5 رواه الطبراني وصححه الشيخ الألباني: "صحيح الجامع" "8025".

وقد وصف لنا الرسول صلى الله عليه وسلم حاله عند نزوله فقال: "ليس بيني وبين عيسى نبي، وإنه نازل، فإذا رأيتموه فأعرفوه، رجل مربوع إلى الحمرة، والبياض، ينزل بين ممصرتين، كأن رأسه يقطر، وإن لم يصبه بلل" 1، ويكون نزوله في وقت اصطف فيه المقاتلون المسلمون لصلاة الفجر، وتقدم إمامهم للصلاة، فيرجع ذلك الإمام طالبا من عيسى أن يتقدم ليؤمهم، فيأبى، ففي الحديث: "وإمامهم -أي إمام الجيش الإسلامي - رجل صالح فبينما إمامهم يتقدم يصلي بهم الصبح، إذ نزل عليهم عيسى بن مريم الصبح، فرجع ذلك الإمام ينكص، يمشي القهقهرى ليتقدم عيسى، فيضع عيسى يده بين كتفيه، ثم يقول له: تقدم فصل، فإنها لك أقيمت، فيصل بهم إمامهم" 2. وروى مسلم في "صحيحه" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال طائفة من أمتى يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى بن مريم، فيقول أميرهم: تعالى صل لنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله هذه الأمة" 3. ومهمته بعد نزوله هي حكم الناس بالعدل، والحق، يروي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا -أي ليس نبيا ولا رسولا- فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الحرب، ويفيض المال، حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها" 4.

_ 1 رواه أبو داود، وقال الألباني: صحيح، صحيح الجامع "5265". 2 رواه ابن ماجه وانظر "صحيح الجامع" ج6 ص277. 3 صحيح مسلم. 4 صحيح البخاري بشرح فتح الباري - كتاب الأنبياء ج6 ص491.

روى أبو داود عن أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم: "فيمكث في الأرض أربعين سنة، ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون" 1. وبهذا تنتهى رسالات الله لبني إسرائيل، ويبقى عليهم أن يؤمنوا بما جاءهم من عند الله تعالى إن كانوا صادقين. ولو صدقوا الله حقا لأمنوا بما بشرهم به المسيح عليه السلام. ومع هذه الكثرة من الأنبياء، فقد لعبت السياسة بالناس، وشوهت الأديان لصالحها، ولم يعد الله في دنيا البشر إلا بعض الطقوس تؤدى في أماكن العبادة، وغيرها. ونحن نتساءل: ألمثل هذا جاء الرسل؟ ونزلت الكتب؟ وظهرت التضحيات؟ وكانت الدعوة؟ وكان الجهاد. نحن لا نسلم بهذه النهاية، ونرى أن الرسل جاءوا لصناعة عالم محكوم بشرع الله، يعيش العبودية الشاملة، لله المعبود، الواحد، الأحد. هذا.... وقد حاولت إبراز بعض ركائز عقب إيراد تاريخ كثير من الرسل بصورة موجزة، وسأعقب على هذه الدراسة، بنظرة تحليلية، استنبط بها الركائز الرئيسية في دعوات الرسل تكون منطلقا عمليا للدعاة، الذي اعتبره الهدف الرئيسي لهذه الدراسة، وسيكون جزءا متمما للكتاب بإذن الله تعالى.

_ 1 صحيح الجامع "5265".

القسم الثاني: الركائز الرئيسية في الدعوات الإلهية

القسم الثاني: الركائز الرئيسية في الدعوات الإلهية مدخل ... القسم الثاني: الركائز الرئيسية في الدعوات الإلهية تمهيد: بعد هذه الجولة مع رسل الله عليهم السلام بطولها، وعرضها يحسن بنا أن نقف متأملين في كل ما جرى، محاولين بقدر الإمكان التركيز على النقاط التي اشترك فيها الرسل عليهم السلام؛ لأن اشتراك الرسل في قضية ما، يشير إلى أهمية هذه القضية، ويؤكد تجذرها في الحياة الإجتماعية، ويوضح حقيقة وحدة الدين واشتراك الرسل جميعا في تبليغه، والتحرك به للناس. ولعل أهم القضايا التي تبرز أمامنا في تاريخ الرسل، وصلتها بالدعوة وثيقة، ما يلي: 1- تكريم الإنسان. 2- الغاية من خلق الإنسان. 3- الدعوة إلى التوحيد. 4- الدعوة إلى العبادة. 5- الدعوة إلى مكارم الأخلاق. 6- إثبات رسالة الرسل. 7- إثبات البعث. 8- شخصية مبلغ الدعوة. 9- خصائص الإنسان، وطبائعه. 10- الحركة بالدعوة "منهجا، ووسيلة، وأساليب". إن هذه الركائز المستفادة من الدعوات الإلهية، تحدد للأمة الإسلامية طريقها وترسم المنهج الذي يجب أن يكون. وأرى أهمية هذه الدراسة الآن، نظرا لما يتعرض له الإسلام من أعدائه، بغية تحريفه، وتغيير معالمه، ولما يتعرض له المسلمون من إتهامات ظالمة، وعدوان سافر، وهمجية مستترة تحت مسميات كاذبة. وقد أدى ضعف الأمة إلى علو صوت الباطل، وطغيانه، وتماديه في مخططه العدواني الخبيث.

ومن هنا كان اللجوء إلى سير الأنبياء، والاستفادة من تجربتهم مع الناس، أمر له أهميته؛ لأنه عبارة عن مبدإ مدعم بالدليل، ومنهج مبني على تجارب عديدة ثابتة، وصادقة، ومسلم بها. يقول سيد قطب: "قصص الأنبياء يمثل موكب الإيمان في طريقه الممتد الواصل الطويل، ويعرض قصة الدعوة إلى الله، واستجابة البشر لها، جيلا بعد جيل، كما يعرض طبيعة الإيمان في نفوس هذه النخبة الممتازة المختارة من البشر، التي اصطفاها الله لتبليغ دينه، ويوضح طبيعة العلاقة، بين الرسل وبين ربهم الذي خصهم بهذا الفضل العظيم ... إن اتباع هذا الموكب الكريم يفيض على القلب رضى ونورا وشفافية، ويبشر بنفاسة عنصر الإيمان، وأصالته في الوجود، ويكشف كذلك عن حقيقة التصور الإيماني، ويميزه عن تصورات دخيلة للإيمان، صنعها الهوى، وزينها الشيطان، وباركها أعداء الله في الأرض"1. إن الدروس في قصص الأنبياء عديدة، ومعها شهادة صدق على فاعليتها، وتكاملها، وحين يأخذها الدعاة طريقا لهم، يشعرون بتكامل الغاية، والوسيلة، ويتأكدون أنهم موصولون بالقوة التي نصرت الأنبياء من قبل، عساهم ينتصرون. وقد كان للمواجهة بين الرسل وأقوالهم، دور بارز في إظهار خصائص الناس النفسية، والفكرية، والاجتماعية؛ لأنهم عبروا عن حقيقتهم من بدء الدعوة، ساعة أن كان الرسول وحيدا، وفريدا ... ويعد تكرار هذه الخصائص من رسول إلى رسول تأكيدا عمليا على صدق هذه الحقيقة وتجذرها في حياة الناس. إن الدعاة إلى الله تعالى في أمس الحاجة إلى تتبع هدي رسل الله في الدعوة؛ لأنهم بذلك يدعون لله بمنهج الله، مستفيدين بما أنزله الله تعالى من وحي على رسله عليهم الصلاة والسلام.

_ 1 في ظلال القرآن ج1 ص55 دار الشروق.

إن الإنسان هو الإنسان، منذ أن خلقه الله تعالى، وبما تميز به من طاقات، وقوى، وبما فضل به عن سائر المخلوقات، وأي حقيقة عن الإنسان تبنتها دعوات الرسل تعد ركيزة أصيلة تعرف بالإنسان، وتوضح ظاهره، وباطنه. وأسال الله تعالى أن يوفقني فيما هدفت إليه من هذه الدراسة، التي أتناول فيها القضايا التي أشرت إليها بإذن الله تعالى. وسوف أعقد لكل قضية مبحثا، وذلك فيما يلي ...

المبحث الأول: تكريم الإنسان

المبحث الأول: تكريم الإنسان الإنسان هو الإنسان من البداية ... المبحث الأول: تكريم الإنسان ينظر الدين إلى الإنسان نظرة متميزة، ويقر له بالحقيقة التي خلقه الله عليها. فقد أوجده الله إنسانا منذ اللحظة الأولى، مركبا من عنصري المادة، والروح واختاره خليفته في الأرض، وأنزل عليه وحيه، وكلفه باتباع الهدي الرباني، والتمسك بتعاليم الله المبلغة إليه. والتصور الديني الصحيح يقدم عددا من الحقائق عن الإنسان، من أهمها: 1- الإنسان هو الإنسان من البداية: الإنسان الأول هو آدم عليه السلام خلقه الله إنسانا منذ اللحظة الأولى، بخصائصه وقواه، وطاقاته الظاهرة، والباطنة. فهو -أولا: كائن عاقل، يدرك ويتصور، ويفهم، ويستنتج، ويحكم، ولذلك جعله الله رسولا، وحمله أمامة الدين، ليعيش به في الدنيا، ويسعد بسببه في الآخرة، وولاه رئاسة الدنيا يعمرها بالخير، والصلاح. ومن دلالة العقل في الإنسان، التوجه إليه بالخطاب، وتفهم تساؤلاته، ومعارضاته في كافة ما يعرض له من أمور الحياة. ولولا عقل الإنسان لعجز عن تدوين أعماله، وكتابتها بصورة ما، لتبقى تاريخا ناطقا، وأثرا شاهدا على حياة الإنسان في الزمان الماضي. لقد دون الإنسان تاريخه على الشجر، والحجر، والعظم، والورق، وعلى كل ما أمكنه الكتابة عليه، ولو لم يكن عاقلا لعجز عن تصوير واقعه، وتسجيله لمن بعده من الناس.

إن تاريخ الكائنات الأخرى غير معروف، وما عرف منها فهو بسبب الإنسان الذي أهتم بها، وسجلها، وكتبها كما يكتب لنفسه. ومن دلالة العقل في الإنسان قيامه بتأسيس حضارات عديدة على مدار الزمن الطويل سواء كانت زراعية، أو صناعية، أو عمرانية ... لقد تمكن الإنسان بواسطة توجهه الفكري، من إنشاء العمران، وبناء السدود، وتشييد المصانع ونحت الصخر والحجر وشق الطرق، وركوب البحر والهواء، وعاش بذلك في مدنيات مزدهرة رأينا أمثلة لها مع عاد، وثمود، وقوم إبراهيم، وإسماعيل، وبني إسرائيل، وغيرهم. ومن دلالة العقل في الإنسان: قدرته على التعلم والتعليم، حيث تمكن بإرادة الله من علم أسماء كل شيء، ووضع رمز دال على كل شيء، وكل شخص، ومن ذلك كان طريقه إلى البحث، والدراسة، لكل ما في الكون من حوله، معتمدا على هذه البداية الضرورية، لتحديد كل شيء باسمه، ولولاها لتاهت السبل، وتداخلت الحقائق، ولعجز الإنسان عن تحديد ما يراد بحثه، والنظر فيه. ولولا عقل الإنسان لعجز عن هذه المعرفة، ولما تمكن من بحث ما يريد، واكتشاف ما يلوح له. ومن دلالة العقل في الإنسان محافظته على القيم الإنسانية، النبيلة كالعدل، والمحبة والصدق، والبر، والتعاون، والقيم الإنسانية في جملتها خيرة، راقية تنمي الخلق، وتسمو بصاحبها إلى درجة الكمال.... وهذه القيم ليست غامضة في الفكر الإنساني، وليست متقلبة، إنها قيم واضحة وثابتة. والإنسان بفطرته يدرك هذه القيم، ويحبها، ويعيش بها ولو أهمل الإنسان عقله، وترك أمره لبطنه، أو لشهوته، لتحولت القيم معه إلى صور مادية ضارة، كما فعلها أعداء الرسل على الزمن كله، الذين أفسدوا الحياة، ونشروا الظلم، واعتدوا على الحرمات، وارتكبوا الحرام، فصب عليهم ربك صوت عذاب.

ومن دلالة العقل في الإنسان، اتساع دائرة تفكيره عن المحيط الذي يعيشه، زمانا ومكانا، فالإنسان يعيش في بيئة محددة المعالم، ومع ذلك فإنه يفكر في الماضي السحيق، وفي المكان البعيد، وفي المستقبل الذي لم يقع بعد. إنه يعيش الماضي عبرة للحاضر، ويعيش الحاضر مستفيدا بتجارب وحضارات الآخرين، ويعيش المستقبل طموحا، وأملا، وتخطيطا، ولولا عقل الإنسان لما تمكن من هذا الانطلاق الواسع عبر الزمان والمكان ومع سائر الجماعات، ومختلف الأجناس. إن العقل بقوة التخيل فيه يساعد الإنسان على استحضار صورة الماضي مجسدة مصورة، ولو بعد زوالها.... ويقدم له المستقبل في صورة أمنيات، وآمال يسعى لها بالتخطيط والعمل. وهو -ثانيا: كائن له مع العقل جسد ووجدان، والجسد هو الوعاء الحامل للعقل والوجدان وحياته لهما حياة، وفناؤه لهما انتهاء، والوجدان يختلف عن العقل في أنه قوة غير منضبطة بقاعدة ونظام. قوة تسبح في عالم خاص بها، وتعيش مع العواطف وعالم اللاشعور، بينما العقل محكوم بالممكن من المدركات، وله نظام ثابت في التفكير، والفهم والاستنتاج. إن الوجدان يهيم بالجمال، ويسبح في عالم من الرضى ... وإن الإنسان يحب بوجدانه غالبا، ويسعد بعواطفه. ولولا الوجدان لنفر الناس من أصحاب العاهات، ولما حدث ارتباط روحي متين، بين عديد من الناس. إن من يجن بسبب موت حبيبته، إنسان يعيش بوجدانه لا بعقله، والإنسان الذي يقدم على الموت في سبيل الله يحيا الدين بعقله، ووجدانه. إن الإنسان مكون من جسد، وعقل، ووجدان، منذ اللحظة الأولى التي خلقه الله فيها، وقد عشنا الصورة كاملة في خلق آدم وحواء عليهما السلام.

وليس صحيحا ما ذهب إليه "دارون" من أن الإنسان لم يخلق إنسانا أول مرة، وإنما تطو ر إلى الصورة التي هو فيها الآن، وأسباب عدم صحته عديدة، وأهمها: 1- الثابت دينيا في كل الدعوات الإلهية أن أول البشر آدم عليه السلام، وأنه بعث بالرسالة، وكلف بدعوة بنيه، ومن بعده جاء الرسل جميعا إلى هذا الإنسان. 2- لم يشاهد أحد من الناس، الانتقال من جنس إلى جنس، ولم يرو أحد ولو من أصحاب نظرية التطور، أنه شاهد حشرة، أو ذبابة، أو حمارا، أو كلبا، أو قردا، صار إنسانا، وانعدام المشاهدة الواقعية يجعل فكرة التطور الدروينية فكرة خيالية بحته لا صلة لها بعالم الحقيقة. 3- يستدل الدروينيون بالتطور في الجنس الواحد على التطور بين الأجناس، وزعموا أن الوجود كل نشأ على أساس مذهب التطور.... ومع كل ما قالوه اعترفوا بعجزهم عن معرفة خالق الحياة في الخلية الأولى التي هي سبب الحياة، وهذا الاعتراف ينفي مذهبهم كله، ويؤكد أن الإنسان خلق متفردا في تكوينه وخصائصه، وملكاته، يقول تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} 1.

_ 1 سورة الإسراء آية "70".

الإنسان مخلوق له دين

2- الإنسان مخلوق له دين: من الحقائق الثابتة أن الإنسان بدأ متدينا منذ اللحظة الأولى، فلقد نزل الوحي على آدم عليه السلام قبل أن يوجد بنوه، وحين أهبط الله آدم إلى الأرض قال له: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 1.

_ 1 سورة البقرة الآيات "38، 39".

والآيات واضحة في دلالتها على تدين الإنسان لله رب العالمين، فلقد أهبط الله تعالى آدم وحواء عليهما السلام من الجنة إلى الأرض، وأسكن معهما إبليس وذريته، وأنزل على آدم الهدي الإلهي، الذي يصلح به الناس، فمن اتبعه فاز ونجا، ومن خالفه خسر الدنيا والآخرة، وعرف الإنسان منذ بداية البشرية كيف ينتصر إذا أراد الانتصار وكيف ينهزم إذا اختار لنفسه الهزيمة. وانطوت الفطرة البشرية على ضرورة الخضوع لله رب العالمين، وعند غياب الدين الصحيح، رأينا الإنسان يتخذ لنفسه دينا، يعبد فيه إلها مصنوعا من الحجر، أو الشجر، على صورة إنسان، أو حيوان، ورأيناه كذلك يتقرب لهذه الآلهة المزعومة بالعطايا، والقربات ويطلب منها، ويلجأ إليها، ويستغيث بها عند الحاجة. إن الإنسان هو المخلوق الوحيد، المسئول عن دين الله في الأرض، ولذا جعله الله خليفته، وبعث إليه رسله عليهم السلام، لتبليغ الدين الحق كلما اختفت تعاليمه، أو حرفها المحرفون من أعداء الله. وقد استمرت البشرية بعد آدم عليه السلام على الدين الحق، مدة عشرة قرون، وبعدها ظهرت الأصنام، وصار لها كهنة يدعون لها، ويروجون لعبادتها، ورأى جبابرة الأرض أن وضع دين للناس يهيئ لهم السيطرة، والتحكم، هو الطريق الأكثر فائدة لما يريدون، ولذلك اتخذوها آلهة من دون الله، وألهوا أنفسهم، واستعبدوا الناس، واستكبروا في الأرض، وعملوا على القضاء على أي دعوة إلهية ينادي بها رسول من قبل الله في الناس. ولأن الإنسان مخلوق لله، والدين منزل من عند الله، وجدنا التوافق التام بين الإنسان السوي، والدين الحق، فكلاهما خلق الله، وكل منهما يلتقي مع الآخر، في توافق، وتناغم، وانسجام.

إن الله خلق الإنسان مكونا من جسد وعقل، ووجدان، وأنزل الدين مشتملا على عقيدة، وشريعة، وأخلاق، ليشبع الإنسان كافة جوانبه، ويتمكن من القيام بواجبه الذي خلق له، في توافق وتوازن، وانسجام فلا يطغى جانب على غيره، ولا يشبع عنصرا دون سواه. فليس من الدين مادية مفرطة تشبع الجسد، وتهمل الروح، وتعلي شأن اللذة الدنيوية، وتتفنن في الاستجابة للشهوات والغرائز، مع نسيان العقل والوجدان. وليس من الدين رهبانية جانحة، تعزل الإنسان عن الحياة، وتضعف الجسد، وتهمل العقل، وتغرق الإنسان في همهمات، وشطحات، مهما تعدد مسماها. وليس من الدين اعتماد مطلق على العقل، يرضى بالفلسفة، ويغتر بالتقدم الفكري، وينسى ما عداه. إنما الدين وحي من الله تعالى، جاء به الرسل للناس بمنهج كامل، يتعامل مع الجسد، والعقل، والوجدان، بصورة متوازنة. إن الدين الحق ينظم للإنسان كاف جوانب حياته، وجميع ألوان نشاطه، وبذلك يعيش الإنسان لله إنسانا سويا، لا تتمزق شخصيته، ولا تتبعثر أنشطته ولا يدركه القلق، أو الاضطراب أو التضارب. والإنسان حين يعيش بالدين الحق يجد نفسه أمام نظام رباني، ينسق له ألوان نشاطه، ويشرع له في كل أمور الدنيا، ويهيئه ليسعد في الآخرة. إن وحدة المنهج يحقق وحدة الشخصية، دون أن يجور جانب على جانب، أو يضيق مجال الحركة، أو يمزق الإنسان بين عدد من المناهج البشرية بما فيها من عجز، وتضارب، وقصور. إن رسالات الله، ودعوات رسله إلى الناس، حاولت أن توضح الحقيقة الدينية أمام الإنسان، حماية لفطرته، وإزالة للغبش الذي وضعه أهل البغي، والضلال في الأرض.

وقد بدأت المعركة الدينية منذ آدم عليه السلام وتحددت كافة القوى، فهناك قوى الخير التي تبلغ هدى الله للناس، وتعمل على انتشاره في العالمين، ورسل الله عليهم السلام هم طلائع قوى الخير، وقد رأيناهم دعاة، عاملين، مجاهدين، يبلغون دين الله تعالى كما جاءهم من عند خالقهم، متحملين في سبيل ذلك، العنت والأذى، والتهم، والعدوان.... وأدوا ما كلفهم الله به بصورة تامة كاملة، ومع الأنبياء نجد المؤمنين الصالحين، الذين اكتشفوا حقيقة أنفسهم، فعبدوها لله، وأخذوا في الطاعة، والالتزام، ونشر الهداية في الآخرين. وهناك قوى الشر، وعلى رأسها إبليس الذي طرده الله من الجنة، وأنظره إلى يوم الدين، وكثرت ذرية إبليس، وتمكنوا من ضم قوى عديدة للعمل معهم. ومن هذه القوى النفس الأمارة بالسوء، والشهوات والنزعات، والهوى بما لها من تأثير في الإنسان طاهرا، وباطنا.... ومن هذه القوى جبابرة الناس، وفساقهم، الذين يرون في الحق والعدل تعارضا مع توجهاتهم، وآمالهم. ومن هذه القوى كل من يحب لنفسه أن يتصف بشيء من صفات العظمة والتأليه. ومن رحمة الله بالناس أن وضح لهم مختلف القوى، ليختار الإنسان لنفسه ما يريد، وليعلم نهاية الطريق الذي اختاره لنفسه، يقول تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} 1.

_ 1 سورة طه الآيات "123، 124".

المبحث الثاني: الغاية من خلق الإنسان

المبحث الثاني: الغاية من خلق الإنسان حينما ننظر في دعوات الرسل عليهم السلام جميعا، نرى قضية رئيسية بدءوا بها جميعا، وهي {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وتتضمن هذه الدعوة على أمرين واضحين: أولاهما: الله واحد لا شريك له. ثانيهما: ضرورة عبادة الله الواحد الأحد. ويقوم الدين كله على هذين الجانبين، وكل ما بعدهما من أمور الدين فروع وثمار، تأتي تبعا لتحقيق هذين الجانبين في حياة الناس. وبالنظر في هذين الأمرين تظهر الغاية من خلق الإنسان، فهو لم يخلق ليعمر الكون فقط، أو ليعيش فقط، وإنما خلق ليكون عبدا لله تعالى، يحقق العبودية في نفسه، وفي أعماله، وفي الكون من حوله، يقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 1. فالإنسان مخلوق للعبادة، وقد اختصه الله بخلافته في الأرض، ليحقق هذه العبودية على نفسه، ومع الناس، وفي الكون كله. وقد هيأ الله تعالى الإنسان، وأمده بالعقل، والقدرة، وأراد الله له أن يعبده راضيا، مختارا، وكلفه، ليكون قادرا على القيام بالعبادة عن وعي، ورضا، واختيار، ليسعد بهذه العبودية التي يؤدي بها ما وجب عليه، وأعطاه حرية في التطبيق والعمل، يريد، ويميل، والله يعينه، وبذلك يكون العابد كريما لا ذليلا، مريدا لا مقهورا، وتلك رحمة من الله تعالى، حيث كلف الناس بالعبادة، وتكفل لهم بالرزق، والمعاش

_ 1 سورة الذاريات آية "56".

لكي يملئوا حياتهم بما كلفوا به، ولا يضيعوا أوقاتهم فيما تكفل به الخالق العظيم، يقول تعالى: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} 1. والآيات تبين رحمة الله، وعظمته، فهو السيد المطاع، وشأنه سبحانه وتعالى مع عبيده، لا يقاس عليه شأن الخلق مع عبيدهم، فإن عبيد الخلق مطلوبون للخدمة، والتكسب للسادة، بواسطة أعمال يقومون بها ابتغاء عطاء، وأجر، والله تعالى لا يطلب من عباده رزقا، ولا إطعاما، وإنما يطلب منهم عبادته فقط، وزائد على أنه لا يطلب منهم رزقا فهو الذي يرزقهم، وعليهم أن يقوموا بما خلقوا له. وبتحقيق العبودية يتحقق توحيد الله تعالى في الحقيقة لما بين التوحيد والعبادة من تلازم، وارتباط. فالتوحيد تصديق يقيني بألوهية الله الواحد، هذه الألوهية المشتملة على تقدير الله الخالق، وعدم إشراك غيره معه فيما يستحق من صفات، وأفعال، فهو سبحانه متفرد في الألوهية، والربوبية، والقوامة، والسلطان، والحكم. والواجب على الإنسان العابد أن يحقق هذا التوحيد، اعتقادا في الضمير، وعبادة في الشعائر، ونظاما وسلوكا في الحياة العملية. إن التوحيد في حقيقته يعني أن تعود حياة الناس بجملتها إلى الله.... وليس من التوحيد التوجه بالتعظيم إلى مخلوق آخر غير الله. وليس من التوحيد إعطاء ما لله لغير الله؛ لأن ذلك شرك، وجحود لا يجوز في دين الله تعالى. وبهذا الفهم الدقيق والحقيقي للتوحيد، تكون العبادة الخالصة لله، عملا ضروريا ملازما للتوحيد.

_ 1 سورة الذاريات الآيات "57، 58".

وليس من العقل أن يتخذ الله ربا واحدا، ويعبد سواه، ويقصد بالطلب، والدعاء والرجاء. وليس من الدين أن تؤمن بالله وحده بالضمير، وتهمله في العبادة والسلوك والنظام. إن الحياة بقانون يغاير شرع الله، ونظام يخالف نظام الله، يشير إلى نفاق في العقيدة، ويؤكد عدم الاقتناع بشريعة الله..... وإن لا فلم ترك نظام الله وإهمل شريعته؟ إن العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله، ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة، والظاهرة1، وهي بذلك بعظمة الإله الواحد. ولذلك كانت دعوات الرسل جميعا قائمة على توحيد الله، وإخلاص العبادة له، يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2، ويقول سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} 3، ويقول سبحانه: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا، لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} 4. فالدين كله داخل في العبادة، والإنسان بالعبادة يكون عبدا ربانيا. يقول ابن تيمية: والعبادة والدين كلاهما يتضمن الذل والخضوع، يقال: دنته، فدان، أي ذللته، فذل، كما يقال طريق معبد أي مذلل وطأته الأقدام.

_ 1 العبودية ص8. 2 سورة الأنبياء آية "25". 3 سورة النحل آية "36". 4 سورة مريم الآيات "93-95".

لكن العبادة المأمور بها، تتضمن معنى الذل، ومعنى الحب، فهي تشتمل على غاية الذل لله، وغاية الحب له.... وأول مراتب الحب العلاقة، لتعلق القلب بالمحبوب ثم الصبابة لانصباب القلب إليه، ثم الغرام وهو الحب الملازم للقلب، ثم العشق وآخرها التتيم، يقال: تيم الله، أي عبد الله، فالمتيم المعبد لمحبوبه1..... والواجب أن يكون الله أحب للعبد من كل شيء، وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء. إن حب الله وتعظيمه يجعل العبد سعيدا بعبادة الله، فيطيع راضيا، ويتوكل مطمئنا. إن الله سبحانه هو رب العالمين، وخالقهم، ورازقهم، ومحييهم، ومميتهم، ومقلب قلوبهم، ومصرف أمورهم، لا رب لهم غيره، ولا مالك لهم سواه ولا خالق لكل شيء، ومدبره، ومسخره، إلا هو، سواء اعترفوا بذلك، أو أنكروه، وسواء علموا ذلك، أو جهلوه، لكن أهل الإيمان منهم عرفوا ذلك، وآمنوا به، وشكروه بعبودية الإلهية، رغبا ورهبا، بخلاف من كان جاهلا بذلك أو جاحدا له، مستكبرا على ربه، لا يقر ولا يخضع له، مع علمه بأن الله ربه وخالقه، فالمعرفة بالحق إذا كانت مع الاستكبار عن قبوله والجحد له، كانت عذابا على صاحبها، كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} 2، وقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 3، وقال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} 4.

_ 1 العبودية ص13. 2 سورة النمل آية "14". 3 سورة البقرة آية "146". 4 سورة الأنعام آية "33".

فإذا اعترف العبد أن الله ربه وخالقه، وأنه مفتقر إليه محتاج إليه، وعرف العبودية المتعلقة بربوبية الله، هذا العبد يسأل ربه، ويتضرع إليه، ويتوكل عليه. وهناك من العبيد أقوام يعرفون الله، ويقرون بحقيقة ربوبيته، ولكنهم لا يعبدون، وإن عبدوا فبصورة لا تثمر عبودية صحيحة، إنهم يعيشون بنظام غريب، وسلوك يخالف دين الله وشرعه. وهذه المعرفة عاشها إبليس، وأهل النار، يقول الله عن إبليس: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون} 1، ويقول سبحانه: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} 2، ويقول سبحانه: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} 3 فهو قد أقر بربوبية الله واعترف له بالعزة، ولكنه كفر بمعصيته، وعدم خضوعه لأمر الله تعالى فأبى، واستكبر، وكان من الكافرين. وأهل النار كذلك يقرون بربوبية الله، ولكنهم لا يعبدون ولا يطيعون، ولا يحققون العبودية لله في حياتهم، وفي الكون المحيط بهم، فاستحقوا اللعن والعذاب، يقول تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} 4، ويقول تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} 5. فمن أقر بالله ربا ولم يخضع له، ولم يطعه، ولم يعش العبودية في كل جوانب حياته، كان مثل إبليس، وأهل النار.

_ 1 سورة ص آية "79". 2 سورة ص آية "82". 3 سورة المؤمنون آية "106". 4 سورة الأنعام آية "30". 5 سورة الكهف آية "110".

إن العبادة متعلقة بالألوهية، فالإله هو الذي يألهه القلب بكمال الحب والتعظيم، والإجلال، والإكرام، والخوف، والرجاء، ونحو ذلك. وعلى العابد أن يعلم أن عبادة الله تكون بما أمر به، وشرعه، يقول تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} 1. إن العبودية الحقه تجعل صاحبها يؤمن بخيرية شرع الله؛ لأنه من الله، وذلك كاف في الإيمان، أما أن يجعل الخيرية خاضعة للمقارنة، والتنظير، فذلك أمر يضر الإيمان، ولا يفيد. ليس من العبودية الصحيحة أن يعيش الإنسان التوحيد في عالم الثقافة النظرية، والفكر المجرد بعيدا عن التطبيق في عالم الواقع. وليس من العبودية الصحيحة أن يحاول العابد إقناع نفسه بخيرية دينه بالمقارنة بالنظم الأخرى.... لأن مصدر الخيرية في الحقيقة هو الله تعالى، والمؤمن به لا يحتاج لمقارنة. لقد أكرم الله رسله بهذه العبودية، فوصفهم بها، وكانوا أحق بها، وأهلها يقول تعالى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} 2، ويقول تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ، إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ، وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} 3، ويقول تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ

_ 1 سورة الكهف آية "110". 2 سورة ص آية "17". 3 سورة ص الآيات "45-47".

نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} 1، ويقول تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} 2، ويقول تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} 3. ولقد دعا رسل الله عليهم السلام أقوامهم إلى عبادة الله الواحد، الأحد، واستمروا عليها مع امتداد الزمن، وتباعد المكان. وحينما ننظر إلى هذا الموكب المتتابع لرسل الله، واجتماعهم حول هذه القضية، ندرك على الفور أهمية هذه القضية، التي التقوا حولها، وعاشوا جميعا لها. وندرك كذلك أن ذكر القرآن الكريم لهذه الدعوات أمر مقصود، أراد الله به أن يوقظ همم الأمة الإسلامية، ليؤمنوا بالله إلها واحدا، ويخصوه وحده بالعبادة، ويعبدوه بما أمر وشرع.... وكأن هذه التجارب أدلة مثبتة لصدق ما دعا إليه الرسل عليهم السلام.... على المسلمين أن يستفيدوا بها، ويأخذوا منها ما ينفعهم في حركة الدعوة إلى الله تعالى. وقد يتصور البعض أن دعوة الرسل عليهم السلام لأقوامهم، كانت سهلة ميسرة لقلة الناس، ولصلتهم برسولهم.... قد يتصور البعض ذلك إلا أن الواقع يؤكد غير ذلك، فلقد واجه الرسل، الملأ والجبابرة، وأعداء الحق، وأخلصوا في دعوتهم وأدوا ما عليهم من واجب، وتركوا الأمر لله بعدما بذلوا كل ما أمكنهم من بيان، وتوضيح.

_ 1 سورة ص آية "30". 2 سورة ص آية "41". 3 سورة الإسراء آية "3".

المبحث الثالث: الدعوة إلى التوحيد

المبحث الثالث: الدعوة إلى التوحيد القسم الأول: توحيد الأسماء والصفات ... المبحث الثالث: الدعوة إلى التوحيد إن الدعوات الإلهية جميعا، جاءت لتبليغ دين الله تعالى، بكماله، وتمامه، ليعيش الناس به عبيدا مخلصين، يقول الأستاذ/ محمد قطب: "إن "لا إله إلا الله" لم تكن عقيدة فقط، إنما كانت دائما -إلى جانب العقيدة- توجيهات ربانية تتناول جوانب الحياة المختلفة، فهي تارة توجيهات خلقية، وأخرى توجيهات نفسية، وثالثة إقتصادية1. إن هدف "لا إله إلا اله" إقامة أمة على نهج رباني، يقوم على العقيدة، ويتأسس بالعبادة والشريعة، ويجمل بمكارم الأخلاق ومحاسن السلوك. والعقيدة الدينية أساسها توحيد الله تعالى، ولذلك فصل الأنبياء في التعريف بها، وركزوا عليها. ويتضح من تتبع دعوات الرسل أن التوحيد أنواع ثلاثة، متمايزة، يجب الإيمان بها، لتنتج إيمانا صادقا كاملا، وهذه الأنواع هي: القسم الأول: توحيد الأسماء والصفات لله الأسماء الحسنى، وصفاته العلى، وهو سبحانه في أسمائه، وصفاته، واحد لا شريك، ودلالة الأسماء والصفات على ذات الله تعالى دلالة خاصة، تليق بذاته سبحانه وتعالى، ولا يصح فهمها على ضوء مفهوم الحوادث المخلوقة، ولا يصح تصور أن الحوادث وإن سميت، أو اتصفت بأسماء الله، أو صفاته، تشبه الله في جانب من جوانب الصفة. فالكبير اسم من أسماء الله تعالى مثلا، يجب أن يفهم بمعنى خاص به، فالخالق لا يشبهه مخلوق أبدا، والمخلوق كائن حادث، والخالق إله قديم قادر {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}

_ 1 لا إله إلا الله عقيدة وشريعة ومنهاج حياة ص24.

وصفاته تعالى هي ذاته، وهو سبحانه: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ، هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1.

_ 1 سورة الحشر الآيات "22-24".

القسم الثاني: توحيد الربوبية

القسم الثاني: توحيد الربوبية ومعناه أن الله هو الرب الواحد، الفاعل لكل ما في الوجود، الخالق لكل موجود بلا شريك، أو معين، اختص بالربوبية دون سواه، فوجب توحيده بها. والربوبية اسم مشتق من الرب، ومعناه السيد، والمالك، والمربي، ولذلك يقال: فلان رب الأسرة، من قبيل الاستعمالات المجازية؛ لأن الواقع المشاهد يؤكد أن الإنسان لا يملك أمر نفسه، ولا يؤثر تأثيرا حقيقيا في أي جانب؛ إذ الأمور تجري بالمقادير، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول لابن عباس رضي الله عنه: "يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف" 1. وتوحيد الربوبية من المسلمات العقلية، التي آمن بها البشر دائما؛ لأن الإنسان دائما يدرك عجزه أمام قوى الكون المختلفة، ولا يعلم لها تفسيرا، ولذلك سلم بوجود الله الخالق القادر.

_ 1 سنن الترمذي - باب وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس ج4 ص677 والحديث حسن صحيح.

يؤكد القرآن الكريم إيمان الإنسان بالرب الواحد، في آيات كثيرة، فيقول تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} 1، ويقول تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} 2 ويقول تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} 3، ويقول تعالى، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 4. فهذه آيات تؤكد تسليم الناس بتوحيد الربوبية، فهو سبحانه الرزاق، ومالك الكون كله، والمحيي، والمميت، والمعطي، والمانع، والمدبر.... وعاشت البشرية بهذا اللون من التوحيد، وظنت نفسها تعرف الله، والحق ليس كذلك، فإبليس لم يجادل في وحدانية الرب، والكفار كانوا مثله، وما استفادوا بإيمانهم القاصر. وفي العصر الحديث، بدأت عقول تغتر بفكرها، فأنكرت ما وراء المادة، وآمنت بالمحسوس وحده، وهذا أدى بهم إلى إنكار توحيد الربوبية، والكفر المطلق بالله تعالى.

_ 1 سورة يونس آية "31". 2 سورة المؤمنون الآيات "84، 85". 3 سورة الزخرف آية "9". 4 سورة الزخرف آية "87".

القسم الثالث: توحيد الألوهية

القسم الثالث: توحيد الألوهية يعتبر توحيد الألوهية، ثمرة مباشرة لتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الربوبية. لأن توحيد الأسماء والصفات ينفي الشريك في الاسم، والصفة، وتوحيد الربوبية يدور على إثبات الفعل، والتأثير لله وحده. فإذا ما آمن الإنسان بربوبية الله، وأسمائه وصفاته، يجد نفسه تلقائيا مؤمنا بألوهية الله تعالى، فيتعلق القلب به سبحانه، خوفا ورجاء، ويتعلق اللسان به صدقا وإيمانا، وتتعلق الجوارح به عملا وطاعة. وحين يحقق المؤمن في نفسه توحيد الألوهية تتحقق العبودية الصادقة التي من أجلها خلق الله الإنسان. إن تكامل الإيمان في الشخصية المؤمنة يبرز التوحيد، والعبادة، في قالب واحد، لا ينفك أحدهما عن الآخر، وهو الذي عناه الأنبياء وهم ينادون في الناس {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} . ولقد بدأت البشرية بنبي الله آدم عليه السلام، مؤمنة، موحدة، تشهد بوحدانية الله تعالى في أسمائه وصفاته، وربوبيته، وألوهيته، لكنها لم تستمر على الإيمان طويلا؛ إذ لعب بها الهوى، وأضلها إبليس، فاتخذت آلهة عددا، وعبدتها من دون الله تعالى. وكانت كلما جاءهم رسول يدعوهم إلى الحق، لا يؤمنون، وإن آمن بعضهم فسرعان ما يرتدون. إن تاريخ الناس بالنسبة لدين الله مؤسف، ففترات الكفر، والإلحاد تربو على فترات الإيمان، ولم يأت رسول إلى قومه إلا وهم على ضلال مبين، بدءا بنوح عليه السلام إلى خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، وكان الناس خلال ضلالهم يعبدون الأصنام، والأوثان، والأشخاص، والكواكب، والأشجار، والبيوت وغيرها. جاء نوح عليه السلام فوجد قومه، يعبدون الأصنام من دون الله تعالى، فدعاهم إلى التوحيد الخالص، والعبودية الحقة، لكن القوم أصروا على كفرهم وقالوا ما حكاه

الله عنهم: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} 1 فتمسكوا بأصنامهم، وعلى رأسها هذه الأصنام الخمسة المذكورة لأنها أكبرها، وأكثرها أتباعا، وواجهوا حركة نوح عليه السلام بالدعوة باتهامه بالكذب والسفاهة، والجنون، ولم يرتضوا أن يكون الرسول بشرا، في الوقت الذي ارتضوا فيه أن يكون الله حجرا أو حيوانا. و"عاد" هي الأخرى عبدت الأصنام، ونسيت الله، وحقوقه، فكان ردهم كقوم نوح تماما، فاتهموا هودا بخفة العقل، والكذب، ومخالفة أبائه السابقين. و"ثمود" كذلك كانت على نمط من سبقوهم في الكفر، والضلال، ولما دعاهم صالح عليه السلام أبوا واستمروا على ضلالهم. وهكذا كان كل الأقوام مع رسلهم، في رفضهم الدعوة، واتهام الرسول، والتشبث بمواريثهم، وضلالهم..... ولقد كان للقوم منطق واحد في ضلالهم، وكفرهم. لقد عبدوا الأصنام، والأوثان، ورفضوا عبادة الله وحده، متعللين بأسباب واهية. قالوا: إن مواريث الآباء في عبادة الأصنام أولى بالاتباع؛ لأن الأباء ما عبدوها إلا عن اقتناع بها، فكيف لهم ترك ما كان عليه الآباء والأجداد. وقالوا: إن عبادة عدد من الآلهة أفضل من عبادة إله واحد؛ لأن الكثرة والتعدد أحق من التوحد، وكأنهم في سوق يبيعون ويشترون. وقالوا: إن تعدد الآلهة يساعدهم في العبادة؛ لأنهم يصطحبون الإله معهم أينما ذهبوا وأينما حلوا. وقالوا: إن الأصنام آلهة صغرى، نراها، ونلمسها، وبها نتقرب إلى الله الأعظم، يشير الله تعالى إلى هذه العلل الواهية، فيقول تعالى:

_ 1 سورة نوح آية "23".

{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} 1، ويقول تعالى: {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ، إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} 2 ويقول تعالى: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 3. وكل هذه الافتراءات، والمزاعم الباطلة تعود إلى الجهل، والكبرياء والاستغراق في الهوى، وحب الشهوة، وحب السيطرة والاستعلاء. فهم بكبريائهم يعتزون بأبائهم، ويتمسكون بما ورثوه منهم، وكأنه الحق الذي لا تجوز مخالفته رغم وضوح فساده، وضلاله. وبسبب هذا الكبر نجدهم لا يهتمون بدعوة الرسول إليهم لكونه رجلا عاديا، من عامتهم. وهو بجهلهم يعبدون أصناما لا تضر، ولا تنفع، ولا تسمع، ولا تتكلم، ولا تملك من أمر نفسها شيئا، ولا تدفع عن نفسها ضرا، وأهملوا عبادة الله الذي خلقهم، ورزقهم، وهو الذي أحياهم، وسوف يميتهم. وبجهلهم تصوروا أن كثرة الحجارة تعطي معنى آخر، مع أن هو حجر واحدا كان أو عددا. وبجهلهم اعتبروا الألوهية سلعة كسائر السلع، ولذلك فضلوها عددا وكثرة ومن حبهم للهوى أنهم فضلوا صناعة آلهة متعددة بأيديهم، واصطحابها في سفرهم، ورحلاتهم ليسعدوا بها، ويعيشوا معها.

_ 1 سورة الأعراف آية "70". 2 سورة الشعراء الآيات "136، 137". 3 سورة ص آية "5".

ومن حبهم للاستعلاء والتسلط عملهم على انتشار عبادة الأصنام في الناس؛ لأنها وسيلتهم إلى السيطرة على عقول العامة، والاستيلاء على ما لهم من حقوق. لقد وصل بهم الضلال إلى أن نصبوا أنفسهم آلهة، ووجهوا العامة، وغيرهم إلى تعظيمهم، والخضوع لهم، مع أنهم يعلمون علم اليقين، ضعفهم، وحاجتهم إلى الله دائما، وبخاصة في وقت مرضهم، وأزماتهم، ومشاكلهم.... لكنه الضلال والكبر ولقد استمر الرسل عليهم السلام في جلاء الحقيقة، ودعوة الناس إلى الدين الحق، ولم يأبهوا بمعارضة أهل الباطل والضلال.

المبحث الرابع: الدعوة إلى العبادة

المبحث الرابع: الدعوة إلى العبادة اتجه الرسل عليهم السلام جميعا إلى دعوة الناس إلى توحيد الله تعالى، وترك تأليه ما سواه، ورأينا أن الدعوة إلى عبادة الله جاءت ملازمة للدعوة إلى التوحيد لأن التوحيد بلا عبادة عبث لا يجوز في دين الله تعالى. إن العبادة تشعر الإنسان المخلوق، باحتياجه إلى الله الخالق، وتعتمد العبادة على فطرة الإنسان؛ لأنها ترتبط بغريزة التدين، التي تبدو في إحساس الإنسان بوجود سلطان غيبي، فوق قوى الكون، يوجد بلا سبب، خالق السماوات والأرض، وهو على كل شيء قدير. قد يبدو هذا الإحساس الفطري باهتا، ولذلك جاء الرسل، لتأكيد هذه الفطرة، وإبرازها في الجانب العملي للحياة، وترسم طريق استقامة الفطرة في تدينها لله، وعبادتها للخالق العظيم. إن العبادة طاعة منهجية، والتزام عملي، وسلوك يشمل كل نشاط الإنسان ولعل اهتمام الرسالات بالعبادات على أساس هذا المفهوم، هو الذي سهل للعابدين من أتباع سائر الدعوات أن يتسموا بـ"المسلمين". فنوح عليه السلام يقول: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِين} 1 وإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام يقولان: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} 2 وإبراهيم ويعقوب يوصيان أولادهما ويقولان: {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 3.

_ 1 سورة يونس آية "72". 2 سورة البقرة آية "128". 3 سورة البقرة آية "132".

ويوسف عليه السلام يقول لربه: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} 1. وسليمان يرسل إلى بلقيس قائلا: {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} 2، فلما أسلمت قالت: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 3. وإبراهيم عليه السلام: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} 4، وحواريو عيسى قالوا: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} 5. ولا غرابة في هذه التسمية لأنها تتفق مع مفهوم العبادة في كثير من الجوانب إذ الأصل اللغوي لمادة الإسلام تحتمل معاني ثلاثة: أحدها: الانقياد والمتابعة، وفي الحديث: "أن الله أعانني عليه حتى أسلم" 6، أي انقياد لي وكف عن وسوستي، وقال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} ، أي لا تقولوا ذلك؛ لأنه صار منقادا لكم ومتابعا. والثاني: السلامة والأمانة، قال الأزهري: المسلم من دخل في باب السلامة. والثالث: قال ابن الأنباري: المسلم معناه المخلص لله في عبادته7، فالإسلام هو الإخلاص لله في عبادته. هذه المعاني المحتملة من لفظة الإسلام، هي نفسها المعاني المستفادة من العبادة لأن العبادة فيها انقياد كامل لله، وإخلاص للمعبود، عن رغبة مستلزمة للأمن والسلامة

_ 1 سورة يوسف آية "101". 2 سورة النمل آية "31". 3 سورة النمل آية "44". 4 سورة آل عمران آية "67". 5 سورة آل عمران آية "52". 6 صحيح مسلم ج17 ص157 بشرح النووي. 7 مفاتيح الغيب ج2 ص638.

يقول الرازي عند قوله تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} 1 أي إني أسلمت وجهي لله، لا أعبد غيره، ولا أتوقع الخير إلا منه، ولا أخاف إلا من قهره، وسطوته، ولا أشرك به غيره2 وبذلك يتضمن إسلام الوجه الإخلاص، وكمال العبودية، وقصرها على الله وحده، فدعوة الرسل إلى العبادة دعوة إلى الإسلام في الحقيقة. والعبادات التي دعا إليها الرسل نوعان: الأول: نوع محدد مقدر مكيف بنص مقدس لا يقبل التغيير والتبديل. الثاني: نوع غير محدد، ويدخل في إطار قواعد كلية تحتوي على جزئيات عديدة، حدثت أو لم تحدث. أما عن النوع الأول فيقول الغزالي عنه، "إنه محدد مقدر من جهة الأنبياء لا يدرك وجه تأثيرها ببضاعة عقل العقلاء، بل يجب فيها تقليد الأنبياء الذين أدركوا تلك الخواص بنور النبوة"3، ويقول العقاد عنها: "أنها شعائر توقيفية تؤخذ بأوضاعها وأشكالها4.... والعبادات المحددة هي التي يلتمس أثرها عادة، ويطلب سرها كالصوم والصلاة، والزكاة والحج، وقد اتفقت الدعوات السابقة في وضع أصولها للناس، حتى يتحقق الانقياد العملي ويظهر الإخلاص لله تعالى بها. هذا هو سيدنا إبراهيم عليه السلام دعا ربه أن يمكنه وذريته من إقامة الصلاة فيقول: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} 5. ومن الأوصاف التي استحق بها سيدنا إسماعيل المدح إقامته للصلاة: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} 6.

_ 1 سورة آل عمران آية "20". 2 مفاتيح الغيب ج2 ص630. 3 المنقذ من الضلال ص185. 4 حقائق الإسلام ص108. 5 سورة إبراهيم آية "40". 6 سورة مريم آية "55".

وحينما كلف موسى بالرسالة، كان أول ما أمر به هو الصلاة حيث قال الله له: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} 1 وأمره الله وأخاه هارون فقال تعالى: {أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} 2. ومن وصايا لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} 3. والصلاة والزكاة، أول ما نطق به عيسى عليه السلام في المهد إذ قال: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} 4. فنرى الرسل قد كلفوا بإقامة الصلاة وبلغوا هذا التكليف. إن الصلوات الواردة على ألسنة الرسل أعمال مكررة، في مواعيد ثابتة، وتحتاج إلى تدبر، وتذكر، وخشوع، كما يدل على ذلك لفظ إقامة الذي أسندت إليه الصلاة، وكيفية هذه الصلاة من ناحية الإحاطة بها تحتمل رأيين: الأول: أن يطلع الله كل رسول على كيفية صلاة الأمم السابقة، وتفاصيلها وهيئتها لتبقى معلومة لديه. الثاني: أن لا يطلع الله الرسل على التفاصيل، وإنما يعرفهم بها في إجمال، وهذان الرأيان ذكرهما الرازي عند تفسيره لقوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} 5 وقد ذكر في سورة لقمان أن هذه الكيفية للصلاة اختلفت هيئاتها من رسالة إلى رسالة، وإن اتحدت في حقيقتها وغرضها6.

_ 1 سورة طه آية "14". 2 سورة يونس آية "87". 3 سورة لقمان آية "17". 4 سورة مريم آية "31". 5 مفاتيح الغيب ج6 ص18. 6 مفاتيح الغيب ج6 ص863.

وسواء كانت كيفية الصلاة معلومة للرسل، أو غير معلومة، فإنه لا يمنع أن يكون هناك اشتراك في بعض أجزاء هذه الكيفية كالتوجه إلى قبلة، وإن اختلفت، فلقد عرف أن اليهود كانت تتوجه إلى بيت المقدس، كما ثبت من مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم لهم في هذا التوجه، بعد الهجرة واستمر في هذه المشاركة سبعة عشر شهرا حتى أمر بالتحويل إلى الكعبة1، وكالركوع والسجود فإن إبراهيم "عليه السلام قال: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} 2، ومريم نوديت: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} 3، وداود عليه السلام {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} 4، وكتأدية الصلاة في مكان طاهر كالمسجد والبيع والكنائس، والزكاة أيضا بمعناها البسيط الذي هو إعطاء المحتاج جزء من المال معونة له جاءت أصولها في الرسالات السابقة. فعن إبراهيم: وابنه إسحاق، يقول تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} 5. ومن صفات إسماعيل عليه السلام وصلاحه: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} 6، ومن أقوال المسيح في مهده: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} 7. وجاء في العهد القديم: "أنصفوا المسكين والبائس نجوا المسكين والفقير"8، وجاء أيضا: "من يرحم الفقير يقرض الرب"9.

_ 1 لباب النقول ج1 ص23، 24. 2 سورة الحج آية "26". 3 سورة آل عمران آية "43". 4 سورة ص آية "24". 5 سورة الأنبياء آية "73". 6 سورة مريم آية "55". 7 سورة مريم آية "31". 8 مزامير - إصحاح 72 فقرة 4. 9 المثال - إصحاح 10

وجاء في العهد الجديد: "بع أملاكك وأعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء"1، وجاء فيه أيضا: "تعالوا يا مباركي أبي، ورثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم لأني جعت فأطعمتموني، عطشت فسقيتموني، كنت غريبا فآويتموني، عريانا فكسوتموني، مريضا فزرتموني، محبوسا فأتيتم إلي. فيجيبه الأبرار حينئذ قائلين، يا رب متى رأيناك جائعا فأطعمناك، أو عطشانا فسقيناك، ومتى رأيناك غريبا فأويناك، أو عريانا فكسوناك، ومتى رأيناك مريضا أو محبوسا فأتينا إليك، فيجيب الملك ويقول: الحق أقول لكم بما إنكم فعلتموه بأحد إخواني هؤلاء الأصاغر في فعلتم"2. والصيام معروف في الرسالات السابقة، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 3. والحج منذ سيدنا إبراهيم عليه السلام معروف للناس بعد أمر الله له: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} 4. وعلى هذا فأصول العبادات موجودة في جميع الرسالات السابقة، وذكر وجود هذه الأصول منذ القيم يفيد تقبلها؛ لأن العبادة تكليف ومشقة، والشيء الشاق إذا عم سهل تحمله، يقول أبو السعود في ذكر العبادات تأكيد للحكم، وترغيب فيه، وتطييب المخاطبين به فإن الشاق إذا عم سهل همله5.

_ 1 انجيل متى - الإصحاح 19 - فقرة 21. 2 انجيل متى - إصحاح 26 - فقرات 34: 40. 3 سورة البقرة آية "183". 4 سورة الحج آية "27". 5 تفسير أبي السعود ج1 ص198.

وكما سبق من اختلاف كيفية الصلاة فبقية العبادات تختلف أيضا في الكيفية إن جميع الرسالات جعلت الصوم امتناعا عن المفطرات، في وقت معلوم، والتشبيه الوارد في قوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 1 يفيد المماثلة في أصل الوجود، أو في الوقت، أو في المقدار، وقد رجح الفخر الرازي أن المماثلة في أصل الوجود فقط؛ لأن الكيفية تختلف على حساب استعدادات المكلفين، وقدراتهم2. ويكفي أن تعلم أن الكيفيات التي وضعت فيها العبادات سابقا، كانت تتضمن الانقياد لله، والامتثال المطلق في النفس، والمال، وكافة ما يستطيعه البشر. أما العبادات الغير محددة فقد وضعت مبادئها في دعوات الرسل، وهم ينادون أقوامهم بترك الفساد في الأرض، وإصلاحها بالخير والإصلاح، والتعاون والبر، والتقوى والمحافظة على حقوق الله، وحقوق الناس.

_ 1 سورة البقرة آية "183". 2 مفاتيح الغيب ج2 ص171.

المبحث الخامس: الدعوة إلى مكارم الأخلاق

المبحث الخامس: الدعوة إلى مكارم الأخلاق الاتجاه الأول: الدعوة إلى الأخلاق مع بدء الدعوة إلى التوحيد ... المبحث الخامس: الدعوة إلى مكارم الأخلاق تعتبر الأخلاق جانبا حيويا وهاما في كل رسالة سماوية، ولم تكتف واحدة منها بتصحيح العقائد، والشرائع بل وصل اهتمامها بالأخلاق إلى أن المناداة بها ظهر مقترنا بظهور الدعوة؛ لأن الأخلاق جزء من التوحيد وعبادة الله تعالى. ومن المعروف أن صدق التوحيد، وإخلاص العبادة، يستتبعان بالضرورة أخلاقا نقية عالية، والرسل صلوات الله عليهم خير الناس، اصطفاهم الله تعالى لنشر المكارم الأخلاقية، وركز في طباعهم السمو النفسي، والأخلاقي، الذي جعلهم مستعدين للقيام برسالتهم، يحدد الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم منزلة الخلق في الرسالات فيقول صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" 1 فهو متمم لمن سبقه من الرسل، وكأن الهدف من كل رسالة هو نشر جانب أخلاقي ما، إلا أن الرسالة الخاتمة جاءت متممة لهدف هذه الرسالات بتكميل مكارم الأخلاق كلها. ولقد كان منهج الرسالات المقدس في تعليم الأخلاق واضحا في اتجاهات معينة نجملها في اتجاهات ثلاثة هي: الاتجاه الأول: الدعوة إلى الأخلاق مع بدء الدعوة إلى التوحيد بدأ الرسل في دعوتهم إلى الأخلاق مع بداية الدعوة إلى التوحيد، حتي يصنعوا بالأخلاق حاجزا بين النفس وشهوتها والقلب وهواه، ويرسموا للإنسانية طريقا مليئا بالفضائل والصلاح. وإنما بدءوا هكذا لأن الإيمان بالله قرين الأخلاق، كلاهما يستلزم خضوعا وخشوعا، وطاعة مطلقة لله تعالى، وتجنب المظالم، وترك النفس، كل ما يشينها ويرديها، وكلاهما يستوجب على صاحبه أن يتحلى بالآخر، ولا يكمل الآخر

_ 1 موطأ مالك بشرح الزرقاني ج4 ص92 ما جاء في حسن الخلق.

إلا مع الأول، ولذلك لم يبعث رسول إلا إلى قوم فسدت أخلاقهم، وضلت عقائدهم، وعاثوا في الأرض فسادا واستكبارا، في هذا الوقت تعمل الرسالة على إصلاح هذا الحال مع الدعوة إلى الإيمان. هذا هو سيدنا نوح عليه السلام بعث في قوم ذلت عقائدهم، وفسدت أخلاقهم وأخذوا في تلقين ناشئتهم هذه المبادئ الضالة، في العقيدة والأخلاق، يقول أبو السعود إنهم أصروا على المعاصي، والكفر، واستكبروا استكبارا شديدا، عن الاتباع والطاعة1، ولوضعهم هذا طلب الرسول منهم أن يعبدوا الله، ويتركوا المعاصي، وقال لهم: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} 2. وهود عليه السلام دعا قومه إلى توحيد الله، وعبادته، فقال لهم: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} 3، وفي نفس الوقت أمرهم بأن يتوبوا عن المعاصي، ويستغفروا الله عن الذنوب، ولا يصروا على الإجرام والظلم، فقال لهم: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} 4، ولقد دعا هود قومه إلى التوبة، والاستغفار، مع دعوتهم إلى التوحيد؛ لأنهم عتوا عتوا كبيرا واستكبروا في الأرض بغير الحق، وقالوا غرورا وتعاليا من أشد منا قوة؟ ..... وصالح عليه السلام بعثه الله لقومه، فطلب منهم أن يعبدوا الله الواحد، وينبذوا فاسد الأخلاق، ويتوبوا عنها فقال لقومه: {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ

_ 1 تفسير أبي السعود ج5 ص197. 2 سورة نوح الآيات " 3، 4". 3 سورة هود آية "50". 4 سورة هود آية "52".

هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} 1، فطلب إليهم أن يوحدوا الله، ويعبدوه، ويرجعوا عما كانوا يباشرونه من القبائح الأخلاقية، وقد جاء النظم في الآية مهتما بالتوبة، حيث ذكر العلة الباعثة عليها، وهي {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} وجعل عقبها مباشرة الغاية المرجوة وهي {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيب} 2. وواضح أن هذه الغاية، وتلك العلة، داعيتان إلى توحيد الله، وعبادته، والبعد عن الضلال، وترك السفة بصورة تلقائية، فقد وضعتهما الآية حول الأمر بالتوبة للإشارة إلى أهمية هذا الأمر، وضرورته للتوحيد، ولبيان مدى ما يترتب عليها من فائدة. وهكذا دعا صالح عليه السلام قومه إلى التوحيد وفي نفس الوقت دعاهم إلى ترك الفساد والاستكبار. وشعيب عليه السلام دعا قومه إلى التوحيد، واستقامة الأخلاق، حيث قال لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 3 فنراه عليه السلام قد بدأ بإصلاح العقيدة وقفى عليها بالأمر بإيفاء الكيل، والميزان، إذا باعوا، والنهي عن بخس الناس أشياءهم إذا اشتروا، وأن يبتعدوا عن كل إفساداتهم، وضلالهم، بعد ذلك، وقد نهاهم شعيب عن كل هذا وختم قوله لهم بقوله: {ذَلِكُمْ خَيْر

_ 1 سورة هود آية "61". 2 تفسير أبي السعود ج3 ص31. 3 سورة الأعراف آية "85".

لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، وكأن مقتضى الإيمان يستلزم التمسك بالطيب الحلال والبعد عن الخبيث المحرم. وهكذا جمع شعيب عليه السلام في أول دعوته بين المناداة بالتوحيد والمناداة بالأخلاق كسائر الرسل عليهم السلام. ولوط عليه السلا" يبدأ دعوته بأن يستنكر على قومه مفاسدهم، فطالبهم بتنقية أخلاقهم، مع مطالبتهم بالتوحيد، ذلك لأنهم كما ذكر صاحب قصص الأنبياء كانوا قد ابتدعوا من المنكرات ما لم يسبقهم إليه أحد من خلق الله، حيث كانوا يأتون الذكران من العالمين، شهوة من دون النساء، ولا يرون في ذلك سوءا، أو قبحا، فيعلنونه، ولا يستترون1، فهم في هذا الباب فريدون لا سابق لهم، وقد بين الله لهم هذه الحقيقة بقوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} 2، فهم يعلنون الفاحشة الظاهر قبحها من دون سائر الناس ولا يرتدون أبدا، ولقد وصفهم لوط بسبب هذا بصفات عدة، إنكارا منه لعملهم، وتوجيها لهم إلى الخير. فسألهم -أولا- على وجه الإنكار وقال لهم: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} 3. ووجههم -ثانيا- إلى وجوب التسامي بغريزتهم، وببذلها في حلال وطهر. ذلك أن الشهوة إن بذلت في موضعها المشروع فهي صفة حسن، وإن بذلت في غير المشروع فهي فحشاء وصفة قبيحة، وقد أراد عليه السلام أن يعودهم التسامي بالشهوة، وينتقلوا بها من الفحشاء، إلى الحسن، فقال لهم عند حضور أضيافه وقد أرادوا الاعتداء عليهم، قال لهم: {بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُم} 4، يقصد عليه السلام أن يتزوجوهن

_ 1 قصص الأنبياء ص113. 2 سورة العنكبوت آية "28". 3 سورة الشعراء آية "165". 4 سورة هود آية "78".

بالطريق المشروع، ومما يؤكد هذا المقصد "لفظ الطهر" لأن لقاء البنات والنسوة لا يكون طاهرا إلا بالمشروع. وهكذا اتجه لوط إلى تعليم قومه الأخلاق مع دعوتهم إلى التوحيد، ولا عجب فإن الرسل جميعا اهتموا بالأخلاق. ومن بعد سيدنا لوط رأينا موسى عليه السلام يدعو إلى الأخلاق، ويقول لفرعون: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} 1 فقد بين له أن الهدف هو أن يتطهر من دنس الكفر، والطغيان، عن طريق خشية الله وقد خاطبه بأسلوب الاستفهام، ليستدعيه بالتلطف في القول، ويستنزله بالمداراة من عتوه تنفيذا لقوله تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} 2. وعيسى عليه السلام لما سأله أحد الفريسيين قائلا: "يا معلم أية وصية هي العظمى في الناموس؟ فقال له يسوع: تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك، هذه هي الوصية الأولى العظمى والثانية مثلها تحب قريبك كنفسك، فبهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء"3. وهكذا دعاهم إلى الله ومكارم الأخلاق وقد وضح ذلك في القرآن الكريم وهو يحكي إجابة عيسى لله تعالى فيقول: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 4.

_ 1 النازعات الآيات "18، 19". 2 سورة طه آية "44". 3 انجيل متى - الإصحاح الثاني والعشرين - فقرات 37: 41". 4 سورة المائدة آية "117".

الاتجاه الثاني: التركيز على الرذائل المتفشية

الاتجاه الثاني: التركيز على الرذائل المتفشية قامت الدعوات السماوية لإصلاح الفساد في جميع الجوانب، وبكافة الصور إلا أنها كانت تركز على الفساد المتفشي في البيئة التي بعث فيها الرسول، ولعل أخطر فساد تفشى في البيئات كلها، وأخذ صبغة مشابهة، هو ضعة الإنسان، وتذلله أمام إله لا ينفع، ولا يضر، ورغم أن نظرة الأقوام إلى الأصنام مرتبطة بعقائدهم، إلا أن اتصالها بالأخلاق هام وخطير، ذلك لأنها لم تقدم قيما ولم تأمر بتصحيح خطأ، فبرزت سيئاتها في أخلاقهم بوضوح، ولذلك جاهد الرسل لنبذ هذه النظرة العقائدية أولا، والمتجهة إلى إفساد الأخلاق ثانيا. ومن الأخطاء التي ركز عليها الرسل، وأبرزها القرآن الكريم على سبيل المثال ما كان من قوم شعيب حيث كانوا يطففون الكيل والميزان فإذا اكتلوا على الناس يستوفون وإن أعطوهم يخسرون، فأتاهم شعيب لإصلاح هذا الخطأ وقال لهم: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} 1، ومثل هذا النداء تكرر في قصص القرآن الكريم مع شعيب عليه السلام. ومنها كذلك ما كان من قوم لوط عليه السلام، حيث كانوا يأتون الذكران من العالمين، ويتركون النساء، وقد تفشى فيهم هذا الداء، لدرجة أنهم كانوا يؤتونه على أعين الناس من غير استحياء مع أنهم لم يسبقوا بمثله، فقال لوط: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ، إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} 2، وقد تكررت تفاصيل فاحشة

_ 1 سورة هود آية "85". 2 سورة الأعراف الآيات "80، 81".

قوم لوط في كل المواضع التي ذكرها القرآن الكريم عن قصتهم. ومنها ما كان من فرعون من ظلم وطغيان، حيث ادعى أنه رب الناس، وقد استولى على جميع البلاد، وقال للناس: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} 1، ووصل به طغيانه إلى أن استعبد بني إسرائيل في مصر، وأصدر أمره بقتل جميع ذكورهم، وترك نسائهم، ولذلك جاءه موسى عليه السلام ومعه هارون لتصحيح هذه المفاسد، ولتوضيح نهاية لمظالمه، وكان ما كان إلى أن هاجر بنو إسرائيل إلى الشام، ومعهم موسى، وهارون، وغرق فرعون، وجنوده، وماتوا جميعا في اليم. ومع التركيز على المفاسد الرئيسية الموجودة، لم يهمل الرسل أي جانب في بيئتهم، فكانوا يشجعون الصالح، ويحاولون منع سائر المفاسد الضارة بالمجتمع، والناس.

_ 1 سورة الزخرف آية "51".

الاتجاه الثالث: بيان عاقبة الأخلاق

الاتجاه الثالث: بيان عاقبة الأخلاق دعا الرسل الناس بدعوة الحق، فآمن قوم، وكفر آخرون، وكان من أهم ما نادوا به هو الأخلاق، وقد حكى القرآن مصائر المؤمنين، وعاقبة الكافرين ليتضح الطريق لمن لا يزال فيه، وينجو من يرجو لنفسه النجاة، وكان من حكمة الله تعالى أن حل الجزاء بالأمم السابقة في الدنيا، ولم يمهلهم للآخرة، فقوم نوح كذبوا فكانت عاقبتهم: {فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ} 1، وأما قوم هود فكذبوه

_ 1 سورة الأعراف آية "64".

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} 1 وأما قوم صالح فقد هلكوا بتكذيبهم: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَة} 2 وقوم لوط فقد حل بهم ما يستحقون: {إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} 3 وأما فرعون وجنوده فإنهم لما طغوا: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} 4. وهكذا أهلك الله الأمم الفاسدة في الدنيا، وأراهم جزاء ضلالهم، وذكر مصيرهم هذا في القرآن الكريم ليستفيد به من نزل القرآن لهم، ولكي تكمل الفائدة أمهل الله الأمة الخاتمة، وأرجأ عقوبتها الكلية إلى يوم الدين.

_ 1 سورة الشعراء آية "121". 2 سورة الحارقة آية "5". 3 سورة العنكبوت آية "34". 4 سورة طه آية "78".

المبحث السادس: إثبات رسالة الرسل

المبحث السادس: إثبات رسالة الرسل بعث الله رسله إلى الناس، وجاء كل رسول إلى قومه، يدعوهم إلى توحيد الله تعالى، وقصر العبادة له، والتخلق بالأخلاق الفاضلة.... وقد سلك كل رسول في دعوته منهجا دقيقا، واستفاد بكل ما مكنه الله من وسيلة، وأسلوب. واستقبل الأقوام رسلهم استقبالا سيئا، فلم يسمعوا لهم، ولم يصدقوا دعوتهم، وأخذوا في الجدل، والمعارضة. ومع أن الرسل عليهم السلام كانوا موضوعيين في التبليغ، يركزون الدعوة على قضايا الدين بتوضيح حقائقه، والتدليل على ما يطلبون، بالحكمة، والموعظة الحسنة بكل صدق في النصح، وبكل خلق في الدعوة والطلب..... مع ذلك أخذ الناس في مواجهة الرسل بطرق غوغائية قائمة على السب، والشتم، واتهام الرسول في شخصه وعمله. وكان أكبر ما وجهوه للرسل، الاعتراض على رسالتهم، ورأوا أن ذلك هو أيسر الطرق لإلغاء الدعوة بالكلية؛ لأنهم لو تمكنوا من إلغاء الرسالة لا يبقى شيء بعدها. وحاولوا أن يضعوا الإلغاء في صورة علمية منظمة، مؤيدة بالدليل ... قالوا -أولا- لا يصح أن يكون الرسول بشرا، لما يتصف به البشر من عجز، وطبع، فهو مكون من مادة، وروح، ولذلك تتملكه غريزتا الشهوة، والغضب، ويأتي منه الفساد والاختلاف، ويشغله إشباع نفسه فهو يأكل الطعام، ويمشي في الأسوق، وتشغله الحياة بمشاكلها، وحاجاتها.

وقد بين الله تعالى مقالة الأقوام هذه، فقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} 1، ويقول تعالى: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 2، ويقول تعالى: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} 3، ويقول تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} 4، ويقول تعالى: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} 5، ويقول تعالى: {فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ، أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} 6. ومن جملة هذه الآيات ندرك إنكار الناس لنبوة البشر، لتصورهم أن البشر لا يقدر على الاتصال بالله، ولا يمكنه حمل الوحي إليهم. والرد عليهم: يتضح بإظهار خطئهم في فهم حقيقة الإنسان، فهو فعلا مركب من جسد وروح، لكنهم يتصورون غلبة الجسد المادي للروح فقالوا ما قالوا عن الإنسان.

_ 1 سورة الأنعام آية "91". 2 سورة الأعراف آية "69". 3 سورة هود آية "27". 4 سورة الإسراء آية "94". 5 سورة المؤمنون آية "25". 6 سورة القمر الآيات "24، 25".

لكن الحق أن الجسد مخلوق لخدمة الروح، وطاعتها فيما توجه إليه. إن الإنسان بتكونه المادي، والروحي، يسمو على سائر الخلائق، ويفضل الملائكة إذا سادت روحه، وقادت الجسد، يقول الشهر ستاني: "إن للبشر نفسين، نفس حيوانية لها قوتان: قوة الغضب، وقوة الشهوة، ونفس إنسانية لها قوتان: قوة علمية، وقوة عملية، وبقواها الحيوانية لها أن تجمع وتمنع، وبقواها الإنسانية لها أن تقسم الأمور، وتفصل الأحوال، ثم تعرض الأقسام والأحوال على العقل، فيختار العقل الذي هو كالبصر النافذ من العقائد، الحق دون الباطل، ومن الأقوال: الصدق دون الكذب، ومن الأفعال: الخير دون الشر، ويختار بقوته العملية من لوازم القوة الغضبية الشدة، والشجاعة والحمية، دون الذلة، والجبن، والنذالة، ويختار بها أيضا من لوازم "القوة الشه, ية" التآلف، والتودد، والرفعة، دون الشرة، والمهانة، والخساسة.... فيكون من أشد الناس حمية على خصمه وعدوه، ومن أرحم الناس تذللا وتواضعا لوليه وصديقه، وإذا بلغ هذا الكمال، فقد استخدام القوتين واستعملهما في جانب الخير، ثم يترقى منه إلى إرشاد الخلائق في تزكية النفوس عن العلائق، وإطلاقها عن قيد الشهوة والغضب، وإبلاغها إلى حد الكمال. ومن المعلوم أن كل نفس شريفة عالية زكية هذه حالها، لا تكون كنفس لا تنازعها قوة أخرى على خلاف طباعها، وحكم "العنين" العاجز في امتناعه عن تنفيذ الشهوة، لا يكون كحكم المتصون، الزاهد، المتورع، في إمساكه عن قضاء الوطر مع القدرة عليه، فإن الأول مضطر عاجز، والثاني مختار، قادر، حسن الاختيار، جميل التصرف، وليس الكمال والشرف في فقدان القوتين، وإنما الكمال كله في استخدام القوتين"1. وقالوا -ثانيا- إن الملائكة أولى بالرسالة من البشر؛ لأن الملائكة، أبدعت إبداعا، لا من شيء، وهي نورانية محضة، ديدنهم الطاعة، وطبيعتهم العبودية لله

_ 1 الملل والنحل ج2 ص13.

ولا مادة في تكونها يكدر صفاءها، فناسب ذلك أن تتلقى من الله، وتتصل بالملأ الأعلى ... في الرد عليهم: نقول إن تفضيل الملائكة على البشر أتى من خطأين: أولاهما: قولهم إن المبدع من لا شيء أشرف من المخترع من شيء، قول باطل؛ لأن الإنسان من حيث الروح مبدع بأمر الله تعالى، ويستوي في ذلك مع الملائكة، ومن حيث الجسد مخترع بخلق الله وقدرته، فزاد بذلك عن الملائكة وبخاصة إذا أدى الجسد إلى كمال الروح، وطهارتها، وكان خادما لها، مطيعا لتوجيهاتها. ثانيهما: عقد المقارنة بين الروحاني، والمادي فيها قصور، وإنما المقارنة الصحيحة تكون بين الروحاني المجرد، والجسماني الروحاني المجتمع، وحينئذ يفضل الإنسان الملائكة لأن الجسد حينئذ تجميل وتحسين للروح. والشخص الجميل يحسنه الثوب الحسن، والمعنى الراقي يزينه اللفظ البليغ. وقالوا -ثالثا- إن الملائكة كمال مطلق، فهي مخلوقات علوية، لها قوة في تصريف الأجسام، وتقلب الأفلاك. والرد عليهم: بأن الله قادر على كل شيء، يعطي لبعض خلقه ما يريد من تأثير، فهو سبحانه يعطي الملائكة، ويعطى الإنسان كما يريد. وليس الكمال في المخلوقات العلويات فقط، بل هو في السفلية أيضا، والكمال في النهاية يتوقف على التوكل، والتسليم، والطاعة. إن الإنسان ببدنه وعقله، يحس ويتخيل ويتوهم ويفكر، ويحفظ، ويتذكر، وهذا كاف ليقوم الإنسان بما كلف به، وكاف أيضا ليكون رسولا، مختارا من الله تعالى. إن وجود الجانب المادي في الإنسان يعطي لطاعته قدرا وقيمة، فإن الملائكة كمال مطلق في الطاعة، لكن الناس محتاجون إلى كمال يكملهم، ويأخذ بيدهم، ويدعوهم

ولا يقدر على ذلك إلا إنسان، كملت روحه، وتحولت جوارحه إلى طاعة مطلقة لهذه الروح لتترقى. وإذا وصل الإنسان إلى هذه الدرجة أمده الله بالوحي، وسهل له الاتصال بالملأ الأعلى عن طريق روحه السامية. وفي نفس الوقت يتصل بالناس، عن طريق جانبه المادي، البشري ... وليس للملائكة شيء من هذا. إن الإنسان يتعامل مع أخيه الإنسان، ويلتقي معه بحواسه وعقله، عملا، وفكرا ومودة.... وفي نفس الوقت يخاف من المخلوقات الغائبة، والمتخيلة، والهائمة وبذلك كان الخير للإنسان أن يتلقى من أخيه الإنسان ... وقد أجرى الله مشيئته في إرسال الرسل على طبيعة الشر، حيث اختارهم من أرقى الناس عنصرا، وأفضلهم خلقا، وأحسنهم طاعة، وتوكلا، وأمدهم بالوحي مشتملا على منهج الله لإصلاح الناس، فيحفظون، ويبلغون، ويناقشون، ويتابعون. يقول الشهرستاني: "ثبت أن الباري سبحانه وتعالى: خالق الخلائق، ورازق العباد، وأنه المالك الذي له الملك، والمالك يكون له على عباده أمر، وتصريف.... وذلك أن حركات العباد قد انقسمت إلى اختيارية، وغير اختيارية، فما كان منها باختيار من جهتهم، فيجب أن يكون للمالك فيها: حكم، وأمر، وما كان منها بلا اختيار، فيجب أن يكون له فيها: تصريف، وتقدير ومن المعلوم: أن ليس كل أحد يعرف حكم الباري تعالى، وأمره، فلا بد إذن من واحد يستأثره بتعريف حكمه وأمره في عباده، وذلك الواحد يجب أن يكون من جنس البشر، حتى يعرفهم أحكامه وأوامره ويجب أن يكون مخصوصا من عند الله عز وجل بآيات خلقية هي حركات "تصريفية" و"تقديرية" يجريها الله على يده عند التحدي بما يدعيه، تدل تلك الآيات على صدقه، نازلة منزلة التصديق بالقول المؤكد، وإذا ثبت صدقه، وجب اتباعه في جميع

ما يقول ويفعل، وليس يجب الوقوف على كل ما يأمر به وينهى عنه؛ إذ ليس كل علم تبلغ إليه "قوة البشر". ثم "الوحي" من عند الله العزيز يمد حركاته الفكرية، والقولية، والعملية، بالحق في الأفكار، والصدق في الأقوال، والخير في الأفعال، فبطرف يماثل البشر، وهو طرف الصورة، وبطرف يوحي إليه، وهو طرف المعنى والحقيقة: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} فبطرف يشابه نوع الإنسان، وبطرف يماثل نوع الملائكة، وبمجموعهما يفضل النوعين، حتى تكون بشريته فوق بشرية النوع: مزاجا واستعدادا، وملكيته فوق ملكية النوع الآخر: قبولا، وأداء، فلا يضل ولا يغوي بطرف البشرية، ولا يزيغ ولا يطغى بطرف الروحانية، فيقرر أن "أمر الباري" تعالى واحد لا كثرة فيه، ولا انقسام له: قال تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ} غير أنه يلبس تارة عبارة العربية، وتارة عبارة العبرية، والمصدر يكون واحدا والمظهر متعددا و"الوحي": إلقاء الشيء إلى الشيء بسرعة فيلقي "الروح" "الأمر" إليه دفعة واحدة، بلا زمان " قال تعالى: {كَلَمْحٍ بِالْبَصَر} فيتصور في نفسه الصافية صورة الملقي، كما يتمثل في المرآة المجلوة صورة المقابل، فيعبر عنه إما بعبارة قد اقترنت بنفس التصور، وذلك هو قال تعالى: {آيَاتُ الْكِتَاب} ، أو بعبارة نفسه وذلك هو "أخبار النبوة" وهذا كله "بطرفه الروحاني". وقد يتمثل "الملك الروحاني" له بمثل صورة البشر تمثل المعنى الواحد بالعبارات المختلفة، أو تمثل الصورة الواحدة في المرايا المتعددة، أو الظلال المتكثرة للشخص الواحد، فيكالمه مكالمة حسية، ويشاهده مشاهدة عينية.... ويكون ذلك بطرفه الجسماني، وإن انقطع "الوحي" عنه لم ينقطع عنه التأييد والعصمة: حتى يقومه في أفكاره، ويسدده في أقواله، ويوفقه في أفعاله1.

_ 1 الملل والنحل ج2 ص38.

وتثبت النبوة للبشر، انطلاقا من حاجة الناس إلى اجتماع، في إطار منهج ونظام، فلو أخذ الإنسان نظامه من إنسان آخر فقد ضيع نفسه، وإن أخذه من الله فكيف السبيل إليه؟! إذا لم تكن عن طريق نبوة البشر!! ومن هنا وجب أن يكون في الناس شارع يبين شرع الله، وأحكامه في العقائد والمعاملات.... وهذا الاحتياج ضروري للناس، ويجب أن يكون القائم بتبليغ منهج الله من الناس ومعهم، بحيث تكون نسبته للناس كنسبة المعطي للسائل، والطبيب للمريض، وذلك القائم بالتبليغ هم الأنبياء، بما اتصفوا به من كمالات، تمكنهم من الإحاطة بعلوم، لا يقدر عليها الملائكة، وتجعلهم قادرين على تعليم الناس تعليما لا يقدر عليه الملائكة أيضا. وقالوا -رابعا- وإذا كانت الرسالة لبشر، فلم لا يكون غنيا، وله عصبة من الناس، ومعينون من الملائكة. والرد عليهم: إن النبوة اختيار إلهي محض، وهو سبحانه، خالق الخلق، ومقسم الأرزاق، وله في اختيار النبي من البشر حكمة، وهو معه بالمعونة، والتأييد، والنصر، فليس للنبي حاجة في مال، أو عصبة بشرية، أو قوى ملائكية، ويكفي أن الله معه. ومن حكمه الله أن اختار رسله من عامة الناس، حتى لا يتهمهم أحد، بأنهم يسعون للمحافظة على مواريث أبائهم، وأجدادهم، وحتى لا يقول أحد إنهم يعتمدون على قوة غير قدرة الله تعالى. هذا.... وقد سلك الأنبياء في إثبات رسالتهم لأقوامهم عدة طرق، من أهمها: الطريق الأول: بينوا للناس صلاحيتهم للرسالة، بطريقة عملية فها هم يبلغونهم بوحي الله تعالى الذي جاءهم، ويناقشونهم، ويوضحون لهم جوانب الدين

المختلفة ويعرفونهم بأن الملك لا يناسبهم، يقول تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} 1. ويوضحون عدم المناسبة بين الإنسان والملائكة لأن الملك لا يتصل بالإنسان بروحانيته، ولا بد له من التشكل بصورة البشر ليتعامل مع البشر ... وحينئذ يكون للناس حق الاعتراض مرة أخرى على اعتبار أنه بشر لا ملك، يقول تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} 2. الطريق الثاني: إظهار المعجزة تصدقهم؛ لأن لسان حال المعجزة يقول: صدق عندي فيما يبلغ عني وقد سبق أن علمنا الكثير من معجزات الرسل، مثل معجزة إعادة الطير حيا بعد تمزيقه، وتوزيعه على الأجبل، مع إبراهيم عليه السلام وناقة صالح عليه السلام، ومعجزات موسى، وداود، وسليمان، وعيسى، وزكريا، ويحيى عليهم السلام، وكل هذه المعجزات طرق لإثبات صدق الرسول في دعوته للناس. الطريق الثالث: بيان بشرية الرسل السابقين؛ لأن الأمر إذا تقرر وقوعه مرة جاز له أن يقع مرة أخرى، وما دام رسل الأقوام السابقين كانوا منهم، فذلك أمر يؤيد بعثة البشر من بعدهم، وكان الرسول يذكر ذلك لقومه، ليصدقوا به، فعن هود عليه السلام يقول تعالى: {ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} 3، وعن صالح يقول تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ} 4.

_ 1 سورة الإسراء آية "95". 2 سورة الأنعام آية "9". 3 سورة الأعراف آية "96". 4 سورة الأعراف آية "74".

وهذا الطريق قوي في دلالته؛ لأن الإنسان إن سلم لغيره بقضية، فمن السهل أن يقتنع بها لنفسه. الطريق الرابع: بيان أن النبوة عطاء إلهي ... أثبت الرسل لأقواهم أن اختيار الله لهم، فضل ورحمة، ونعمة يعتزون بها وليس لغيرهم الاعتراض عليها، ومن هذا ما قاله نوح لقومه: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ} 1، وما قاله صالح لقومه: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً} 2، وما قاله شعيب لقومه: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} 3، والمراد بالرزق الحسن، والرحمة المؤتاه هي النبوة التي بعثوا بها وعارضهم الناس فيها. وهكذا أثبت الرسل رسالتهم بطريقة واقعية؛ لأنهم أعادوا القوم إلى التاريخ المنظور، والمعروف ليتدبروا فيه، ويعتبروا به، ويصدقوا بالرسالة بعد ذلك فإن كذبوا بعد ذلك فهو تكذيب بكل الرسالات، وإن صدقوا فهو إيمان بجميعها. وهكذا: أثبت رسالتهم لأقوامهم، وردوا شبههم، واعتراضاتهم، لكي يؤمنوا بالرسالة التي تعد ركنا رئيسيا في الإيمان.

_ 1 سورة هود آية "28". 2 سورة هود آية "63". 3 سورة هود آية "88".

ونحب أن نشير هنا إلى مسألة هامة، وهي أن الرسل عليه السلام وهم يثبتون الألوهية، والرسالة، أثبتوا مع ذلك ركنين آخرين هما: - إثبات الوحي والكتاب المنزلة؛ لأن الله سبحانه وتعالى ينزل دينه على رسوله وحيا، يحفظه الرسول ليكون كتابا مقدسا أنزله الله عليه مثل الزبور، والتوراة والإنجيل. - إثبات الملائكة؛ لأن الوحي يتم في أغلبه بواسطة ملك يحمل وحي الله إلى الرسول المختار عليه السلام. وبثبوت التوحيد، والرسالة، والوحي، والملائكة، يتبين الطريق الإيماني المنزل من عند الله تعالى، وليس بعد ذلك لمكلف من الناس أن يدعي المنهج العلماني، أو اتباع الفطرة، أو غير ذلك من دعاوي المعصية، والضلال.... فلقد أرسل الله الرسل لإرشاد الناس إلى المنهج الإلهي الصحيح، في العقيدة، والعبادة، والخلق وأوجب على الناس طاعتهم، والخضوع لله رب العالمين.... يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} 1.

_ 1 سورة النساء آية "64".

المبحث السابع: إثبات البعث

المبحث السابع: إثبات البعث يوم القيامة وما فيه، من فوز للمطيعين، وعقاب للعصاة، بعد بعث الخلائق وحسابهم، أمر أجمعت الدعوات على تأكيد إثباته، حتى يشعر الإنسان بالمسئولية الدائمة في كل شيء، ويعلم أن كل ما يفعله في حياته الدنيا سوف يلقاه في الآخرة، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. ولما كان الإنسان بفطرته يحس أن حياته ليست جسدا فقط، ينتهي بالموت، بل إن له من الجسد روحا لا تفنى، ولكنها تنتقل إلى مكان آخر، تسعد فيه أو تشقى وتنعم بأعمالها أو تعذب. إن الإنسان بفطرته، أدرك ضرورة البعث والحساب، تمييزا للخبيث من الطيب، ووضع للحساب تصورات عديدة، وأفكارا كثيرة. هذا الإحسان الفطري عند الناس كان أساسا أكدته جميع الرسالات السماوية، ووضحته بنصوصها المقدسة، وبينت أن البعث الأخروي، أمر مؤكد، وأنه في يوم القيامة سوف يحاسب الجميع بأعمالهم، ويجزون على الطاعة، ثوابا خالدا ونعيما مقيما، وعلى العصيان العذاب والألم. وكان صوت الرسالات دائما يهتم بالبعث ويثبته، هذا هو سيدنا نوح عليه السلام منذ اللحظات الأولى في دعوته، يبين لقومه أنه يخاف عليهم من يوم القيامة حيث يبعث الناس، ويعذب العصاة الكافرين، فقال لهم: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 1، وقال: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} 2،وبهذا خوفهم من عذاب عظيم، مؤلم، نازل على الطغاة والظالمين، الذين لا يوحدون الله

_ 1 سورة الأعراف آية "59". 2 سورة هود آية "26".

ولا يعبدونه، ولسوف يرونه في يوم الطوفان، أو في يوم القيامة، كما أشار إلى ذلك المفسرون، إلا أن أبا السعود يرجح أن المقصود بهذا العذاب، عذاب يوم القيامة، ذلك أن عذاب الطوفان، وإن كان مؤلما، وعظيما، إلا أن عذاب يوم القيامة أشد وأعظم، بسبب دوامه وتنوعه، والصيغة تناسب هذه المبالغة في الشدة والعظم حيث أسندت الأليم والعظيم، إلى اليوم كما في نهاره صائم، وليله قائم، وأيضا فإن الغرق ليس نهاية عذابهم، وأقصاه فقد ذكر الله تعالى أنهم بعد إغراقهم في يوم الطوفان يحرقون، فقال تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} 1، مما يجعلنا نتسائل عن هذه النار، أهي نار في الدنيا، أم نار في يوم القيامة، وقصة إهلاكهم المفصلة في السور القرآنية خلت من الإشارة إلى هذا الإحراق، مما يدفعنا إلى الإيمان بأنها نار الآخرة ونتابع في ذلك إحدى روايات أبي السعود عن هذه النار، فقد ذكر أنها نار جهنم، تتزل بهم لا محالة، وتحققها ضروري، ولعل عطف إدخالهم النار على الإغراق بالفاء لبيان هذه الضرورة المحققة وكأنها تعقب الإغراق2. وكون المراد هو عذاب يوم القيامة، لا يمنع حدوث العذاب في يوم الطوفان، واندراجه في العذاب أنذرهم به سيدنا نوح عليه السلام، وخاف عليهم من وقوعه، وقد جاء في الجلالين، أن العذاب المراد هو عذاب الدنيا والآخرة معا3. وهكذا نجد سيدنا نوحا عليه السلام يخوف الناس من المعاد، وما فيه فآمن به الضعفاء وصدقوا بملاقاة الله في يوم القيامة، وأيقنوا بالبعث والحساب، فلما جاء المستكبرون إلى نوح يطعنون في هؤلاء الضعفاء، ويطالبونه بطردهم من حوله قال لهم: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} 4، أي مصدقون بلقاء الله

_ 1 سورة نوح آية "25". 2 تفسير أبي السعود ج5 ص199. 3 تفسير الجلالين ج1 ص106. 4 سورة هود آية "29".

موقنون بذلك، عالمون أنهم ملاقوه لا محالة1، ولذلك فلن يطردهم من الاتباع، بعد هدايتهم وإيمانهم. ولما أكثر المعارضين من العناد والتكبر، عرفهم نوح بأن الله يملك أمرهم في الدنيا والآخرة، فكما أنه المتصرف في الدنيا، فهو المتصرف في يوم القيامة، ولسوف يرجعون إليه ليحاسبهم فقال لهم: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 2 فأسلم بذلك أمرهم إلى الله وعرفهم أنهم سيرجعون إليه يوم القيامة للحساب والمؤاخذة. ولعل الهدف من بيان حقيقة البعث وإثباته، أولا عند الناس هو تخويفهم من الإهمال وتحذيرهم من العصيان، ذلك أن الرسل، صلوات الله عليهم قدموا التخويف والتحذير في دعوتهم، وذكروا بهما قبل أي شيء آخر، وأعظم التخويف هو بالبعث ويوم القيامة، وإنما قدم الرسل ذلك لأن غالبية القوم مقلدون، والمقلد لا ينظر في الدليل، ولا يعتبر بالآيات إلا إذا أخاف، يقول الرازي، إن المقلد إذا خوف خاف وما لم يحصل الخوف في قلبه لا يشتغل بالاستدلال، ولهذا السبب قدم الرسل التخويف دائما كما أشارت لذلك سورة الشعراء حيث كان الرسل يقدمون "ألا تتقون "على أني لكم رسول أمين3. وقد تتابع الرسل بعد نوح عليه السلام وكلهم يثبت المعاد ويؤكده ويخوف قومه منه، فلقد خوف "هود" قومه من عذاب يوم عظيم وقدم لهم قوله "ألا تتقون" ليشعرهم بالخوف من عذاب الله الذي سينزل بهم وبخاصة في الآخرة، فلما أصروا على الكفر والضلال بين لهم إنهم استحقوا التأنيب في الدنيا والآخرن فقال لهم:

_ 1 تفسير الكشاف ج2 ص266. 2 سورة هود آية "34". 3 مفاتيح الغيب ج6 ص533.

{وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} 1، ولقد كان من أوضح أسباب اللعنة أنهم كفروا بالبعث الذي ذكره لهم، وعرضوا رأيه في هذا المجال، في دهشة واستغراب، وقال السفهاء منهم لنظرائهم، {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} 2 ولم يكتفوا بهذا الاستفهام الإنكاري، بل أنكروا البعث صراحة، واستبعدوا كل ما وعدهم به من أمور الأخرة، فقالوا: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ، إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِين} 3، فلا عجب إذًا بعد الإنكار والاستهزاء أن تتابعهم اللعنات في الدنيا والآخرة. وسيدنا شعيب عليه السلام خوف قومه من يوم القيامة، ودعاهم إلى العمل الصالح من أجل الفوز فيه فقال لهم: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} 4، وإنما قال لهم هذا رجاء أن يستجيبوا لدعوته، ويؤملوا في ثواب يوم الآخرة. وأيضا فلقد بين سيدنا إبراهيم عليه السلام أن الإيمان بالله جزء من العقيدة لا تتم إلا به، ولا ينزل الخير والأمن في الدنيا إلا على أساس الإيمان كله، بين ذلك وهو يدعو ربه قائلا: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} 5، فنراه عليه السلام يقصر دعوته بالخير والأمن

_ 1 سورة هود آية "60". 2 سورة المؤمنون آية "35". 3 سورة المؤمنون الآيات "36، 37". 4 سورة العنكبوت آية "36". 5 سورة البقرة آية "126".

على من يستحقها من الناس، والمستحق هو من آمن بالله واليوم الآخر، أما الكافر بهما فهو وإن تمتع فإنما يتمتع قليلا في الدنيا، لكنه في الآخرة سوف يعذب بعذاب النار وبئس المصير. وفي هذه الآية يوضح سيدنا إبراهيم عليه السلام حقيقة الإيمان، والكفر، ومآل كل واحد منهما عند الله. إن سيدنا إبراهيم عليه السلام دعا إلى البعث في لين، ولم يصطدم بعتو القوم وجبروتهم، وحينما كان يلجأ إلى التمثيل كان يمثل بنفسه، يقول لهم مشيرا إلى القدرة الإلهية {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} 1 ليكون إيمانهم بالله مشتملا على التسليم بقدرته الشاملة للإحياء والإمانة، والمراد بالموت هو الإماتة في الدنيا، والمراد بالإحياء المجازاة على الأعمال2، وقد نظمت الآية الأمانة مع الإحياء في سمت واحد كما ذكر أبو السعود لأنها قد نيطت بجميع أمور الآخرة بما يأتي بعدها من البعث3، ومن تمثيله بنفسه قوله: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} 4، حيث قال أطمع بينما هو عليه السلام قاطع بالمغفرة، وأسند إلى نفسه الخطيئة مع أن الأنبياء مترهون عن الخطايا وما فعل ذلك إلا تعليما للأمة ليعرفوا أن أثر المغفرة على الخطيئة يظهر حتما يوم القيامة ولم يخطئ إبراهيم عليه السلام قط. إن المؤمنون يسلمون باليوم الآخر، ويصدقون بالبعث، ويعملون الصالحات من أجل النجاة، في الآخرة، وهم لا يؤثرون أي عمل على طاعة الله، انظر إلى سحرة

_ 1 سورة الشعراء آية "81". 2 مفاتيح الغيب ج6 ص526. 3 تفسير أبي السعود ج4 ص110. 4 سورة الشعراء آية "82".

فرعون لما آمنوا قالوا لفرعون {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} 1، وقالوا أيضا: {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُون} 2 فإنهم بذلك أعلنوا إيمانهم الذي لا يعبأ بالدنيا وعذابها وإنما ينتظرون الآخرة وما فيها من حساب وجزاء وفق ما أرشدهم سيدنا موسى عليه السلام فلقد نقل إليهم قول الله له: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} 3، ونقل كذلك قوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} 4 فالإخراج من الأرض بالبعث، وعودة الروح إلى الجسد من أجل الحساب، والجزاء على الأعمال، وقد ذكر لهم موسى ذلك ليثبت لهم البعث الذي هو من أصول دعوته وأحد الأركان التي يقوم عليها الإيمان. إن المؤمنين من أتباع موسى عليه السلام كانوا لشدة يقينهم بالقيامة، كانوا يخوفون أهاليهم من أهوالها، كالرجل الذي آمن منهم ونادى فيهم قائلا: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَاد} 5 ويوم التناد هو يوم القيامة حيث ينادي بعضهم بعضا للاستعانة أو يتصايحون بالويل والثبور، أو يتنادى أصحاب النار وأصحاب الجنة، أو يند بعضهم من بعض على قراءة التشديد، وعن الضحاك إذا سمعوا -أي الكفار- زفير النار ندوا هربا فلا يأتون قطرا من الأقطار إلا وجدوا ملائكة صفوفا، فبينما هم يموج بعضهم في بعض إذا سمعوا مناديا أقبلوا إلى الحساب6.

_ 1 سورة طه آية "72". 2سورة الزخرف آية "14. 3 سورة طه آية "15". 4 سورة طه آية "55". 5 سورة غافر آية "32". 6 تفسير أبي السعود ج5 ص9.

والبعث هو أول ما نطق به عيسى عليه السلام وهو في المهد إذ قال: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} 1، وكان يقول لليهود الصدوقيين الذين ينكرون البعث "وأما من جهة قيامة الموات، فما قرأتم ما قيل لكم من قبل الله القائل: أنا إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب، ليس الله إله أموات، بل إله أحياء، فلما سمعوه بهتوا من تعليمه"2.

_ 1 سورة مريم آية "33". 2 انجيل متى - إصحاح 22 - فقرات" 31-33

المبحث الثامن: شخصية مبلغ الدعوة

المبحث الثامن: شخصية مبلغ الدعوة يتضمن تاريخ الدعوة التعريف برسل الله تعالى، وقد فصلنا التعريف بالرسل، ومنهج حركتهم بالدعوة في القسم الأول. وهنا أقدم الملامح الرئيسية لشخصية مبلغ الدعوة، وهو الرسول ابتداء ليتأسى به كل الدعاة إلى الله بعد ذلك، فرسل الله عموما هم الرواد، والقادة في طريق الله، وهم أسوة الدعاة والمؤمنين من بعدهم، يقول الله تعالى عنهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} 1. وتحقيقا لمناط الأسوة، فإني أتحدث عنهم في الأمور التالية: 1- نشأة الرسل: تحدث القرآن الكريم بالتفصيل عن نشأة رسولين هما يوسف وموسى عليهما السلام على نحو ما وضحت فيما سبق، وهنا استنبط الدروس التالية: أ- ضرورة التكوين الخلقي: فلقد نشأ موسى عليه السلام تحت رعاية المؤمنة الفاضلة، امرأة فرعون، وتربى يوسف عليه السلام في رعاية أسرة العزيز، بعيدا عن الدنس، وقد تربى كل منهما في بيئة غنية، فلم تشغلهما الحاجة من صغرهما، ولم يختلطا بالسوقة، وأراذل الناس..... وبذلك أكرمهما الله تعالى بالنشوة القوية، والثقة وعدم الخوف، ولم يتدنسا بشيء مما عليه الناس. ب- التربية العلمية: عاش موسى ويوسف عليهما السلام في بيت السلطان وأكرمهما الله بعنايته، ووفقهما للمعرفة ينهلان منها، وقال الله عن كل منهما: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين} 2، والمراد بالعلم الإحاطة بما يحتاجون إليه في أمورهم،

_ 1 سورة الأنعام آية "90". 2 سورة يوسف آية "22".

والمراد بالحكمة، العقل والفهم، وبواسطة تمكنهما من العلم والحكمة صار لهما شأن بين الناس، يقول تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} 1. ج- التربية العملية: ويراد بها تعليم النشء كيفية التعامل مع الناس، واكتشاف البيئات، والوقوف على طبائع البشر مع اختلافهم، ثقافة، وفكرا، وعملا. ولقد أحاط الله رسله بهذا النوع من التوجيه، فها هو يوسف عليه السلام يعاشر التجار، والأمراء، وأصحاب السجن، ويتحدث في أمور المعاش، وقضايا الدين، وطرق التخطيط للمستقبل. ومثله كان موسى عليه السلام من قبل، يعيش في بيت فرعون، ويختلط بالمصريين، والإسرائيليين، ويتجول بين الرعية، ويذهب إلى مدين، ويعمل برعي الغنم، ويرى حياة المدنية، والبداوة، ويرى العمران، والصحراء. إن هذه التربية التي عاشها موسى ويوسف عليهما السلام ضرورة لكل مبلغ لدين الله تعالى؛ لأنها تمكنه من فهم الناس، والتعامل معهم، وتجعله قادرا على تبليغ دين الله تعالى على الوجه الصحيح. لقد ربى الله رسله، وكونهم بقدرته، ولذلك كانوا محل ثقة الناس وتقديرهم قبل الرسالة، وكانوا يأملون فيهم أن يكونوا كهنة الأصنام، ودعاة الأوثان. فلما بدءوهم بدعوة التوحيد، تعجبوا، وأصابتهم الدهشة، وعبروا عن ذلك بما حكاه الله عنهم، يقول تعالى: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} 2.

_ 1 سورة النمل آية "15". 2 سورة هود آية "62".

ويقول تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} 1، ويقول تعالى: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ،} 2. فالرسل قبل الرسالة تميزوا بأخلاقهم، وعلمهم، وحسن تعاملهم مع الناس، ومن أهم ما تميزوا به: الأمانة، وهي من أمهات الأخلاق، اتصف بها جميع الرسل، قبل بعثتهم وبعدها، وظهرت معهم كلازمة من لوازم حياتهم، واشتهروا بها بين أقوامهم، ولذلك رأينا الرسول حينما يقابله الناس بالتكذيب، والإيذاء، يذكر لهم ما عرف به عندهم من أمانة واضحة قبل الرسالة، وهي معه بعد الرسالة بالضرورة، لقد قال كل رسول لقومه: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} 3 يقول أبو حبان: هذه الآية علة معلولها ما تقدمها، من عرض الرسول تقوى الله عليهم، وعلة هذا معلولها تقتضي أن تكون معروفة، ومعهودة، لدرجة تدفع إلى الإيمان بالمعلوم، فالرسول مشهور بين قومه بالأمانة4، وكأنه يقول لهم بهذه الآية: كنت أمينا من قبل، فكيف تتهموني اليوم5؛ لأن الكفار لا يستطيعون إنكار ما اشتهر به رسولهم، ولذلك حاولوا إزالة الصفات المعروفة عن الرسول، بدعوى حدوث أمور عارضة، منعت استمرار هذه الصفات المسلم بها، من قبل، كدعوى الإصابة بالجنون، أو بالمس بالشياطين من أمثال قول قوم نوح عنه: {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ

_ 1 سورة هود آية "87". 2 سورة يوسف آية "51". 3 سورة الشعراء آية "107". 4 البحر المحيط ج8 ص31. 5 تفسير أبي السعود ج4 ص113.

حَتَّى حِينٍ} 1، فذكروا أنه أصيب بجنون. وأيضا قال قوم هود: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} 2، واكتفى قوم صالح بتذكيره بأنه كان قبل البعثة محل رجائهم وأملهم وقالوا: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} 3، وهكذا كانت الأمانة أولى الصفات التي ظهرت في أعمال الرسل، وحياتهم لشمولها وأهميتها، ولذلك حاول المعارضون ردها، وعقدوا من أجل إبطالها المؤتمرات والاجتماعات. ومن صفات الرسل العفو والصفح والحلم، فبرغم الدعاوي المفتراه، والسفاهة الواضحة من المعارضين، لم نجد لهم إلا لينا وتساميا، فلم يردوا بقول غليظ، أو عمل شديد، وكل ما ردوا به هو نفي التهمة، وبيان أنهم رسل الله، وذلك كرد نوح عليه السلام {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 4، وكرد هود حيث قال: {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 5، وأما صالح عليه السلام قال تعالى: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} 6، وكذلك كان لين شعيب حيث استمع إلى معارضة قومه وتهديداتهم، ثم كانت النهاية: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} 7.

_ 1 سورة المؤمنون آية "25". 2 سورة هود آية "54". 3 سورة هود آية "62". 4 سورة الأعراف آية "61". 5 سورة الأعراف آية "67". 6 سورة الأعراف آية "79". 7 سورة الأعراف آية "93".

وسيدنا إبراهيم عليه السلام يقول لأبيه: {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} 1، وعلى نمط هذا اللين والتسامح كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. واشتهر الرسل عليهم السلام كذلك بالعفة فلم يمدوا أيديهم على شيء عند الناس، ولم يحسدوا أحدا على ما آتاه الله من فضله، ولم يأخذوا أجرا على دعوتهم، ولم يكونوا عالة على أحد قط، فلقد رعي جميعهم الغنم يتكسبون لمعاشهم ويستغنون بها عن عطاء الناس، يبين النبي ذلك حين سأله جابر رضي الله عنه: وهل كنت ترعى الغنم؟ قال له: "وهل من نبي إلا وقد رعاها" 2، يقول السهيلي وإنما جعل الله هذا -رعي الغنم- في الأنبياء ليكونوا رعاة الخلق بعد ذلك، وليكون الخلق رعاياهم3، هذا وقد أكد الرسل جميعا لأقوامهمم إنهم لا يأخذون أجرا على دعوتهم ولا يطلبونه البتة، وذكروا ذلك في وضوح حيث قالوا جميعا لأقوامهم: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} 4. واشتهر الرسل عليهم السلام أيضا بالصدق، ومن أجل تأكيد صدقهم أتتهم المعجزات الخارقة للعادة، لتكون دليل صدق على البلاغ، يقول صاحب المواقف: "أجمع أهل الملل والشرائع على عصمة الأنبياء من تعمد الكذب فيما دل على صدقهم فيه، كدعوى الرسالة، فيما يبلغونه عن الله"5 ولا بد من صدقهم في هذا، لئلا تبطل فائدة الرسالة؛ إذ لو جاز كذب النبي في الأحكام التبليغية لبطلت دلالة المعجزة على صدقه، فيما أتى به من الله، مع أن دلالة المعجزة على صدقه دلالة عادية قطعية6.

_ 1 سورة مريم آية "47". 2 صحيح البخاري ج4 ص191 - كتاب بدء الخلق - باب يعكفون على أصنام لهم. 3 هامش سيرة النبي ج1 ص178. 4 سورة الشعراء آية "109". 5 شرح المواقف ج3 ص204. 6 شرح العلامة عبد الحكيم ص467.

ولقد مدح القرآن سائر الرسل وأظهر صدقهم فقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} 1، وقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} 2، وقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} 3.... وهكذا وصفهم القرآن بالصدق بصيغة المبالغة مع تقديم هذه الصفة في الذكر على النبوة؛ لأن النبوة متوقفة عليها، ولن تكون بدونها، ولم يحدث عمليا أن كذب نبي قط، وما جاء من أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم كذب ثلاث كذبات مثل ما روى مسلم والبخاري عن أبي هريرة من عدة طرق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -واللفظ للبخاري- قال: "لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات اثنتين منهن في ذات الله عز وجل قوله: إني سقيم، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وقال بينما هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبار من الجبابرة، فقيل له إن ههنا رجلا معه امرأة من أحسن الناس فأرسل إليه فسأله عنها فقال من هذه؟ " قال: أختي، فأتى سارة: قال يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك وأن هذا سأل فأخبرته أنك أختى فلا تكذبيني" 4. هذا الذي جاء منافيا للصدق الدائم لرسل الله يجعلنا نحمله على معاريض القول، والمعاريض نوع من البديع، معناه أن يدل اللفظ على معنيين أحدهما صدق ينويه المتكلم في نفسه، والثاني كذب يسكت المتكلم عن نفيه إسكاتا للمجادل، وحمل الحديث على المعاريض يجعلنا لا نكذب الحديث، ولا نكذب إبراهيم عليه السلام، وتأويل الكلمات على مفهوم المعاريض ممكن لأن معنى إني سقيم مريض القلب بسبب

_ 1 سورة مريم آية "41". 2 سورة مريم "54". 3 سورة مريم آية "56". 4 صحيح البخاري ج4 ص141 - كتاب بدء الخلق، باب واتخذ الله إبراهيم خليلا، صحيح مسلم ج7 ص68 - كتاب الفضائل - باب فضائل إبراهيم.

أطباق ذلك الجمع على الكفر، ومعنى قوله: بل فعله كبيرهم هذا، إثبات الفعل إلى نفسه لا إلى الصنم، يقول الزمخشري: إن قصة إبراهيم عليه السلام لم يكن أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم، وإنما قصد تقريره لنفسه واثباته على أسلوب تعريضي يبلغ فيه غرضه1، وقوله: هي أختي أي أختي في الإسلام، وقد ورد في لفظ رواية مسلم، تلك أختي في الإسلام فإني لا أعلم في الأرض مسلما غيري وغيرك2. هذا وقد قال الرازي في تفسيره: إن الخبر لو صح فهو محمول على المعاريض3، ومن المعلوم أن ما في المعاريض من صور الكذب ليس كذبا في الحقيقة وقد جمع البخاري صورا منها وترجم لها بعنوان "باب المعاريض" مندوحة من الكذب4. وهكذا كان الأنبياء صادقين وأمناء وأصحاب عفة وقد جمعوا سائر الأخلاق الفاضلة، فلما جاء خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم سار على هديهم، وتمم بما احتاجه الناس وقال: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" 5.

_ 1 الكشاف ج2 ص577، وقد بين الزمخشري تأويل هذا التعريض فقال لو كتبت كتابا رشيقا وسألك صاحبك: أأنت كتبت؟ فقلت له أنت الذي كتبت فهو إقرار لجوابه مع الاستهزاء، وأيضا فإن الصنم الكبير كان غيظة لإبراهيم أكثر من غيظ غيره فهو الذي تسبب في دفع إبراهيم إلى تكسيرهم، باختصار وقيل المراد بالكبير أصبعه. 2 صحيح مسلم ج7 ص98. 3 مفاتيح الغيب "ج6 ص98. 4 صحيح البخاري ج8 ص59 - كتاب الأدب - باب المعاريض مندوحة من الكذب. 5 موطأ مالك ج4 ص92 ما جاء في حسن الخلق.

إن ما تميز به الرسل من صفات أعدوا لها إعدادا بحيث حملوا الدعوة، وتحملوا في سبيل تبليغها التعب، والمشاق، والعذاب، والألم. وواجب أن يكون الدعاة إلى دين الله تعالى على نفس النمط، يجب أن تتكون قلوبهم على الدعوة، والإخلاص لها، وتمتلئ حياتهم بالعمل للدعوة، والسعى في تبليغها، لقد أنشأ القرآن الكريم قلوبا لحمل أمانة الدعوة، تتصف بالصلابة، والقوة، والتجرد، بحيث لا تتطلع إلى شيء في هذه الأرض أيا كان غير طاعة الله، إنها تنظر إلى الآخرة، وتعمل لرضى الله فقط. بهذه القلوب، وبهؤلاء الرجال تنجح الدعوة، ويتحقق نصر الله..... ولن تنجح الدعوة برجال لا يؤدون حق الله عليهم؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه ولن تنجح الدعوة بأشخاص لم يستعدوا للدعوة استعدادا علميا، وخلقيا، واجتماعيا؛ لأنهم بعجزهم، وجهلهم، يضرون ولا يفيدون، ومن المعلوم أن اليد المرتعشة لا تقدر على الحمل، والرجل الأشل لا يقدر على المسير. ولن تنجح الدعوة برجال يقومون بها ترفا، ويتعيشون بها وظيفة؛ لأن هؤلاء سوف يفرون عند أول مواجهة، ولن يتحملوا شيئا من تبعاتها، ومشاقها. إنما تنجح الدعوة برجال، تيقنوا الصدق في دينهم، وسعدوا بإيمانهم، وعاشوا الحقيقة الدينية في فكرهم، وقولهم، وعملهم. إن هؤلاء الرجال هم طلائع النصر لدين الله تعالى، وهم العاملون على إنقاذ الناس من ركام الفسق، والضلال، وأخذهم إلى طاعة الله تعالى. ..... وحينئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.... وإنه لقريب.

المبحث التاسع: خصائص الإنسان وطبائعه

المبحث التاسع: خصائص الإنسان وطبائعه مدخل ... المبحث التاسع: خصائص الإنسان وطبائعه أعلن الله ميلاد الإنسان، وسط عالم من الملائكة، وحمله مسئولية الخلافة في الأرض من اللحظة الأولى، وفضله بمجموعة من الطاقات، والملكات ليعمر الكون، ويقوم بدوره عبدًا لله تعالى. ولم يرتض إبليس هذا الوضع المميز لآدم وبنيه فطلب من الله تعالى أن ينظره إلى يوم القيامة؛ ليعيش بين الآدميين، يزين لهم، ويفتنهم، ويحاول إضلالهم. وبدأت معركة في الأرض بين الإنسان وإبليس، ستبقى مستمرة إلى يوم القيام. وأراد الله بهذه المعركة أن يتميز الآدميون، يظهر الطيب منهم، والخبيث ليكون الحساب بعد، على عملهم وعطائهم. إن إبليس وذريته يعملون في جد، وخفاء، ولهم قدرة على الوسوسة والإغواء، ومعهم إمكانية الحياة مع الإنسان وفي داخله، ولذلك هو مستمر في عمله، وعدوانه. وحتى لا يكون للإنسان عذر في هذه المعركة عرف الله الإنسان بعمل إبليس وذريته، وحدد له الغاية التي يسعى لها، والطرق التي يعمل من خلالها، والخدع والدسائس التي يستفيد بها. وأرسل الله رسله للناس يدعون إلى الحق، ويقنعون بالدليل، ويحددون الوسائل التي ينهزم بها إبليس وبنوه. وتتابع مجيء الرسل عليهم السلام للناس، واستمرت المعركة، وتجلت خلالها طبائع الناس، وظهرت خفايا النفوس البشرية، وأصبحت صفحة مكشوفة، تحدد الملامح، وتبين أنسب الطرق للتعامل معها. ومما يؤكد حقيقة هذه الطبائع، وأصالتها في الناس، تكررها مع أقوام الرسل جميعا رغم بعد المكان، واختلاف الزمان.

إن الوقوف على هذه الحقائق المستفادة من دعوات الرسل في القرآن الكريم تعطى فؤاد كثيرة للدعاة إلى الله دائما؛ لأنهم بعد علمهم بطبائع الناس يمكنهم التوجه إليهم بصورة ملائمة، مؤثرة. ندرك من قصة خلق الإنسان في بدايته الأولى أنه مخلوق عجيب، أودع الله فيه كثيرا من الأسرار، فهو مخلوق مزود بطاقات عديدة، ولعل أهمها طاقة المعرفة التي تمكنه من معرفة الكائنات من حوله، والتأمل، والنظر فيها بعمق، وتمكنه من الحفظ والتذكر، والتحليل، والاستنباط. ومن طاقات الإنسان قوة الإرادة التي تغلب شيئا على شيء، وتحدد المقصود، وتدع سواه. ومن طاقات الإنسان القوة الفاعلة التي تحرك جوارحه للعمل، وتنشط همته للإنتاج، وبهذا الفعل تكون صورته في الناس. إن القوة الفاعلة نتاج طبيعي لقوة العلم، وقوة الإرادة، وهذه القوى تحدد قدر الإنسان في الحياة. ومن عجائب الإنسان ازدواجية القيم التي يتمتع بها، فلديه مساحة واسعة للخير، والحب، والأمل، والتعاون، والتفاؤل، والتجرد، ونكران الذات.... وفي نفس الوقت يمتلك قيما مضادة كالشهوة، والكراهية، والتشاؤم، والأنانية، والانعزال. يقول الأستاذ/ محمد قطب: "من عجائب التكوين البشري وجود خيوط متقابلة، متوازنة متحاورة في النفس، مختلفة في الاتجاه.... كأنها أوتار، متقابلة تشد الكيان كله، وتربطه من كل جانب يصلح للربط"1.

_ 1 منهج التربية الإسلامية ج1 ص154، 155.

هذا التكوين البشري يحتاج إلى معرفته المربون والدعاة، ليتعاملون مع الإنسان على أساس وجود هذه الاتجاهات المتقابلة فيه. إن الكفر، والمعصية عبارة عن تغلب قوى الشر، والفساد، على غيرها في الإنسان لسبب ما، والدعاة عليهم أن لا ييأسوا من كفر كافر، أو فساد ضال، فأمامهم جانب خير، عليهم أن يبرزوه في الإنسان، ويقووه، ويعتمدوا على معطياته، فما التربية في الحقيقة إلا توجيه لعناصر الإنسان نحو غاية مقصودة بطريقة ترضي، وتقنع، وبذلك يضعف الكفر، وينتهي العصيان. ليس الإنسان نمطا واحدا لا يتغير، وإنما هو كائن، قابل للتغيير والتبديل.... وكثيرا ما تتغير عواطف، وتتبدل اتجاهاته.... وقد رأينا كيف انتقل الإنسان من عالم الإيمان إلى الضلال، أو آمن بعد كفر.... وذلك يعد دليلا عمليا للدعاة، يدفعهم إلى العمل والأمل في خدمة الدعوة والناس. ومن حقائق الإنسان العامة: أن التغير الحقيقي الذي يعايشه يكون من داخله في الأساس؛ لأن الإنسان يحيا بروحه ويشعر بذاته من خلال شعوره، وفكره، وإذا تمنى أمرا، أو أحبه، أو رضي به فإن هذه الجوانب تبدأ من روحه، وعقله، وتنعكس تلقائيا على جوارحه وسلوكه. إن العقل هو أساس الاقتناع، والرضى هو رأس العمل.... ولذا كان الباطن هو قائد البدن، ومنه يكون التغيير. إن قيم الخلق، والسمو، والتقدير تأتي من العقل، ولكنها تظهر عمليا على الجوارح. ولهذا كان على الدعاة تربية النفوس، ومخاطبة العقول بالبرهان المقنع، والقول الحكيم ليصلوا لمرادهم. إن الإنسان يتميز على سائر الكائنات بالتفكير العقلي، والاختيار الحر، والإرادة الطليقة،.... ولذلك ينهزم كل من يتعامل معه بعيدا عن هذه الحقائق.

وقضى الله للإنسان أن يكون عابدا باختياره، ولذلك جعل محل الإيمان النية والقصد الذي لا يطلع عليه مخلوق، على أن يشهد له النطق، وتؤكده الأعمال.... وأي إيمان لا ينبع من القلب لا قيمة له؛ لأنها في حكم الله نفاق حركة الخوف، وكذب لا يقبله الله تعالى. ومن حقائق الإنسان العامة أن قواه العقلية، الباطنية، تجد نفسها دائما أمام خطين متعارضين، أحدهما يدعوه إلى الرفعة، والخير، وحسن الخلق ... والثاني يدعوه إلى الجشع، والمادة والشهوة، وسوء الخلق.... وذلك معنى قوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} 1 وقوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 2. يقول الإمام القرطبي: "النجدان هما طريق الخير، وطريق الشر، ويرى أن كل نفس بشرية خلقها الله تعالى هيأها وعرفها طريق الفجور، وطريق التقوى، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ هذه الآيات يدعو ربه ويقول: "اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من دساها، أنت وليها ومولاها" 3. هذه الحقيقة هي مدخل الشيطان إلى الإنسان، فعن طريقها يزين الشهوة، ويجمل الشر، ويهون من شأن المعصية، ويستمر في إغوائه حتى يجعل للشر في النفس قوة، وبذلك يتمكن من إضلال صاحبه. وعلى الدعاة أن يتوجهوا إلى جانب الخير في الإنسان، ويستفيدوا به في الهداية والرشاد، ليتغلبوا على عدو الله وعدوهم، ولهذا فهم في حاجة إلى دراسة حقيقة النفس، وما يتصل بها من دراسات للوقوف على طريق مخاطبة الباطن، والتأثير فيه.

_ 1 سورة البلد آية "10". 2 سور الشمس الآيات "7-10". 3 تفسير القرطبي ج2 ص65، 75-76.

إن أهل الضلال في كل زمان، يعملون على يقظة قوى الشر في الإنسان بإباحة الفتنة، ونشر المغريات، وإشعال الغرائز في الإنسان، وتيسير إشباعها بالحرام، ليسهل لهم الإفساد، وإطفاء نور الله في الأرض.... وهم لذلك لا يملون، ولا يضيعون وقتا، أو فرصة. وعلى المسلمين أن يعيشون هذا الوقع، ويخلصوا في خدمة الحق، ورفع الصواب والهدى، بكل ما أمكنهم من علم، وفقه، وعدة، وقوة. إن على الدعاة التعامل مع جانب النفس المختلفة، فلا يهملون جانبا ما، ولا يركزون على جانب واحد؛ لأن التوازن يؤدي إلى الرضى، والطمأنينة. وقد تعامل الرسل عليهم السلام مع الإنسان بحقائقه تلك، وعملوا على دعوته، والتسامى به نحو الخير. لكن الإنسان مع الرسل لم يكن سويا، بعدما لعب به الشيطان الرجيم، وأضله في حياته كلها، وأبعده بعدا تاما عن هدى الله، ودينه القويم، ولذلك تغيرت صورة الإنسان قديما بعد أن ترك الفطرة، وتمادى في الغي والضلال، وغرته الحضارة والمدنية، بصورة جديدة، وطبع جديد.... كأنه الإنسان المعاصر، المفتون بالمخترعات المادية، وألوان اللذة، بعيدا عن قيود الحق، وتعاليم الدين. ومن هنا كان الوقوف على طبائع الإنسان كما ظهرت خلال تعامل الأقوام مع الرسل له أهميته.... ومن هذه الطبائع ما يلي:

استعلاء السلطة

1- استعلاء السلطة: اصطدم الأنبياء أثناء دعوتهم بالولاة الذين يتولون شئون الناس، وقد رأينا مواجهتهم لعدد من الأنبياء، فقد واجه النمرود بن كنعان ملك الكلدانيين إبراهيم عليه السلام وواجه فرعون موسى عليه السلام وكان لعزيز مصر موقف مع يوسف عليه السلام. توضح هذه المواقف أن الملوك والأمراء، يعملون لتدعيم موقفهم، مع أقوامهم، وتقوية أركان حكمهم، والمحافظة على مصالحهم الشخصية بكل ما أمكنهم من وسائل. وقد وصل بهم الأمر إلى إعلان أنفسهم آلهة للناس، كما فعل النمرود، وكما كان فرعون، وحتى يمكنوا هذا الإعلان عند الناس، وجدناهم ينشرون أعوانهم في المدائن، لتوجيه الناس، والتأثير في الرأي العام. وحتى يتأكدوا من قيام الأعوان بما كلفوا به، أغدقوا عليهم مالا وجاها، وقربوهم إليهم، وجعلوهم من خاصتهم، ومستشاريهم،.... فلما جاء الأنبياء بدعوتهم، وبلغوها للأمراء، والقادة علموا أن الإيمان بدعوة النبي، يتعارض مع وضعيتهم بين الناس، ولذلك قاوموا الدعوة، وأشاعوا بين الناس الأكاذيب عن الأنبياء، ودعواتهم، لصرف الناس عن الحق. وموقف الرؤساء من الدعوة، يرجع في تصوري لأسباب عديدة، من أهمها: 1- الإحساس بالقوة الناشئة من تحكمهم في البلاد والعباد، من غير منازع من الناس. 2- وضع كل المقدرات المادية تحت تصرفهم حيث اعتبروا أنفسهم ملاكا لها، ومن أقوال فرعون ما حكاه الله تعالى عنه: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} 1. وفي مقالة فرعون بيان لغروره بقوته، واستعلائه بما ملكه، وتحكم فيه ... يبين الإمام القرطبي أن فرعون أظهر أمره للناس ليصرفهم عن موسى فينادي هو، ويأمر بمن ينادي بذلك في الأقاليم لتوضيح أنه يملك مصر بلا منازع، كما تملك أنهارها، وأرضها، وكل ما فيها، يتصرف فيها كما يريد، ويشاء2.

_ 1 سورة الزخرف آية "51". 2 انظر تفسير القرطبي ج15 ص98، 99.

3- خضوع الناس، وتسليمهم بحق السلطان المقدس، فلقد صدقوا فرعون حينما قال لهم: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} 1، وقال لهم: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} 2. يشير الله إلى طاعة الناس لفرعون، وتصديقهم لمزاعمه، فيقول تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} 3. إن حال فرعون هو حال كل جبار في الأرض، سيطرت عليه نفسه، وخدعه تعظيم الناس، وخضوعهم له، ولقد كانت "بلقيس" تعلم ذلك ساعة أن جاءها الهدهد بخطاب سليمان؛ إذ قالت لقومها: {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} 4. 4- وجود أنظمة تعمل لتكريس التعظيم والتبجيل، للسلطان، والحاكم، وهذه الأنظمة وضعها الحاكم لنفسه، وصار لها شأن، وتقدير وسط الناس، ومن أمثله هذه الأنظمة ما بثه فرعون في المدائن من علماء، وسحرة، وولاة، وكلهم يدين بالولاء، والطاعة له. هذه بعض آثار السلطة على أصحابها، وقد بعث رسل الله لهؤلاء الناس، وتعاملوا معهم بما يناسبهم، ودعوهم إلى الحق بمنهج يتلاءم مع واقعهم وفكرهم. يوضح الله ملامح هذا المنهج في قوله لموسى وهارون عليه السلام: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} 5، وفي قوله تعالى: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} 6.

_ 1 سورة النازعات آية "24. 2 سورة القصص آية "38". 3 سورة الزخرف آية "54". 4 سورة النمل آية "34". 5 سورة طه آية "44". 6 سورة النازعات الآيات "18، 19".

وكان رسل الله عليهم السلام يخصون القادة بالدعوة، لأهميتهم الاجتماعية، ولأن إيمانهم إيمان لأتباعهم، ولو ظفر الرسل عليهم السلام منهم بالصمت، والسكون لعد ذلك كسبا يمكنهم من دعوة عامة الناس. ولذلك كان فهم وضعيتهم مفيدا في دعوتهم إلى دين الله تعالى ...

كبرياء الملأ

2- كبرياء الملأ: والملأ هم قادة الرأي في المجتمع، وأعوان السلطان في الناس، يملكون بعض المزايا الفكرية، والمالية، والعلمية وسموا بالملأ لأنهم يملئون المجتمع ظهورا، وحركة، أو يملئون المجالس، حوارا وفكرا.... أو يملئون الأسواق مالا وغنى ... وذلك يجعل لهم ظهورا في الناس، وتأثيرا في إتجاهاتهم. الملأ هم معارضو الرسل جميعا، وكان لهم دور في صد الناس عن اتباع دين الله تعالى. إنهم قوة توجيه الرأي العام، وهم كبار في أعين الناس، ويعيشون معهم.... ولذا كان لرأيهم أهمية في الطاعة والاتباع، هؤلاء الملأ يتصفون بما يلي: 1- يملكون قدرا من الثقافة الفكرية، بسبب ما هم فيه من غنى، ولأنهم نشئوا في بيئة الحكم والقيادة، وتعلموا العلوم التي وجدت في عصورهم، وعرفوا المدنية، وعاشوا الحضارة التي كانوا معها. 2- الملأ هم حلقة الوصل بين السلطة، والعامة، يقومون بدور القوة المنفذة على الجماهير، ولذلك ينحازون للحاكم دائما، ويعملون له.... وهم مستشارو السلطان، وناصحوه، ودورهم معه كبير. 3- تعيش هذه الفئة في رفاهية، وغنى، حيث يغدق عليهم الحاكم الكثير، ليضمن ولاءهم، وليستمر بهم إلها معظما بين الناس. 4- يتمتع الملأ بثقة في أفكارهم، وأعمالهم مهما كان خطأهم، ولذلك نراهم يفتخرون بالباطل، ويعتزون به.

ودعوة الملأ إلى الله تحتاج إلى منهج خاص، يقدر العقل، ويناقش بهدوء، ويلتزم بحسن الخلق، ويؤكد على ما للملأ من أهمية، ومنزلة، حتى يدركوا أن دين الله يعطي أكثر من غيره، والفائدة الحقيقية في الطاعة، والاتباع.

استسلام العامة

3- استسلام العامة: والعامة هم الجمهور العريض من الناس، وهم الضعفاء الذين يعملون في خدمة الملأ، والسلطان، وقد جبلوا على الخضوع، وبرغم تملكهم للكثرة العددية، إلا أنهم ينتظرون دائما من يساعدهم، ويوجههم. والعامة أصناف كثيرة، فمنهم أرباب الحرف، وأهل الصناعة، ورجال الزراعة، وطوائف المهن المختلفة. ودعوة هؤلاء تحتاج إلى معايشتهم على تنوعهم، واختلافهم، والعمل على كسب ثقتهم، والدخول في دعوتهم شيئا فشيئا؛ لأن آذانهم تسمع من العلماء، ومن غيرهم ... وأي استقامة لديهم تحتاج إلى رعاية، وحماية.... لأن الجبابرة الذين يستعبدونهم يعملون باستمرار على إضلالهم، وإقناعهم بما هم فيه من ضعة، وهوان. كان فرعون يقول لهم: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} 1، ويقول عن موسى: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} 2، وكأنه ساع لمصلحتهم، عامل على رفعتهم، وسعادتهم. وقد قص القرآن الكريم بعض حوارات الكبار والضعفاء من أتباع الرسل، فقال تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ، قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} 3.

_ 1 سورة القصص آية "38". 2 سورة غافر آية "26". 3 سورة الأعراف الآيات "75، 76".

وفي الآيات بيان لأخلاق الكبار، وهم الملأ، وغيرهم، حيث يسألون الضعفاء الذين آمنوا، منكرين عليهم إيمانهم، مستهزئين بهم، متهمين إياهم بالجهل، وعدم العلم، مع الإشارة إلى أن صالحا وربه لا يستحقون هذا الإيمان، وتصور الكبار أنهم بهذا سيصرفون الضعفاء عن الدين، فلما رد عليهم المستضعفون الذين آمنوا، وأخبروهم بأنهم آمنوا بصالح عليه السلام، رسولا، وبالله ربا، وبما أرسل به دينا صادقا، لما سمعوا ذلك عرفوهم بأنهم يكفرون بما آمنوا به، كأن سبب الكفر دخول المستضعفين في الإيمان. ويقول الملأ من قوم شعيب للناس، ما حكاه الله تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} 1، حيث نراهم يخوفون بالبوار والخسران بسبب الإيمان، وفي وقاحة كاذبة، وضلال مبين. ومع فرعون وقومه نرى التعاون المفسد بين السلطان، والملأ يقول تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} 2، وفي الآية نرى الملأ يأتون لسيدهم، يحرضونه ضد موسى؛ لأن موسى في نظرهم يفسد في الأرض، ويفرق الناس، ويدعو إلى ترك الآلهة، والبعد عن تألية فرعون، وهذا في نظرهم فساد، وخسران.... فيطمئنهم فرعون ويعرفهم بقراره الجديد، وهو قتل ذكور الإسرائيليين، وترك النساء، ويهدئ خواطرهم بالثقة في قوته القاهرة، وعلوه الكاذب.

_ 1 سورة الأعراف آية "90". 2 سورة الأعراف آية "127".

وفي يوم القيامة حين تنكشف الحقائق يناقش المستكبرون والمستضعفون، وهم في العذاب، حول من كان سبب الكفر والضلال، يصور الله تعالى هذا النقاش، فيقول: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ، قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ، وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1، فنرى كل فريق يلقي باللوم على الفريق الآخر، يقول المستضعفون للمستكبرين: لولا أنتم لكنا الآن في الجنة بإيماننا. فيرد المستكبرون: هل قهرناكم على عدم الإيمان، ووقفنا بينكم وبينه، إنكم كفرتم بإرادتكم، والكفر طبع فيكم. فيوضح المستضعفون ما قام به المستكبرون معهم من حيل مخادعة، ومكر لئيم وتخطيط لتدعيم الكفر، واستمرارية في هذا الخداع والوسوسة. يقول القرطبي: "والمستكبرون هم القادة والرؤساء، والمستضعفون هم الأتباع الذين استمروا على الكفر في الدنيا"2 لأن المؤمن عزيز بالإيمان، قوي بمعية الله، ولا يكون ضعيفا بعد الإيمان. من هذه الحوارات نلمس أخلاق الناس ...

_ 1 سورة سبأ الآيات "31-33". 2 تفسير القرطبي ج14 ص302.

فالقادة، يعارضون رسول الله إليهم دائما، ويظهرون للناس على أساس أنهم أصحاب حق، ولهم علم بحقائق الأمور، ويتهمون الرسول بكل ما ينفر الناس منه. ونرى الملأ في خدمة سيدهم، يعملون له، ويساعدونه في المحافظة على ملكه وسلطانه. والعامة ضعاف يسيرون في ركب قادتهم، ولا يتبينون الحق إلا بعد فوات الأوان. إن الملأ هم الذين هددوا شعيبا بالطرد، يقول تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} 1، وهم مع كل الرسل استعملوا هذا الأسلوب، يقول تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} 2. وعلى القائمين بأمر الدعوة أن يدركوا حقيقة النفس البشرية، وطبيعة من سيقومون بدعوتهم ليتمكنوا من التعامل معهم بما يناسبهم. إن نفس الإنسان مليئة بالطمع، وحب الذات، وقد رأينا ما كان من قابيل، وكيف أدت به الأنانية إلى قتل أخيه.... ورأينا ما كان من إخوة يوسف عليه السلام، حيث كذبوا على أبيهم، وحاولوا التخلص من أخيهم. ومع هذا ففي الناس نفوس مشرقة، تحب الحق، وتعمل له، وكل ما تتمناه أن تعرفه، وتصل إليه، كما حدث من سحرة فرعون وزوجته.... وبالرجوع إلى حركة الرسل عليهم السلام بالدعوة لأقوامهم تتضح النفوس، وتعرف الطبائع، ويكن للدعاة أن يقوموا بعملهم في يسر ونجاح.

_ 1 سورة الاعراف آية "88". 2 سورة إبراهيم آية "13".

المبحث العاشر: الحركة بالدعوة

المبحث العاشر: الحركة بالدعوة مدخل ... المبحث العاشر: الحركة بالدعوة بعث الله رسله، لتبليغ دينه، وإرشاد الناس إلى ما يحقق مصلحتهم في الدنيا، وفي الآخرة. وقد صنع الله رسله، وأمدهم بعونه، ومدده، ولم يتركهم لعقولهم، وأفكارهم. لقد اختار الله رسله من البشر، وكلفهم بما يطيقه البشر، وهداهم للخلق الكريم، والسلوك الحسن فارتقت روحهم، وصاروا في الطاعة كالملائكة وفي العمل والسلوك عبادا صالحين، مطبقين للمنهج الإلهي المستقيم. وقد أمد الله رسله بعدما كلفهم بالرسالة، بكل ما يحتاجون إليه، وبكل ما تحتاجه الرسالة. عرفهم الله بالدين، أصوله، وفرعوه، مفصلا في الجوانب التي لا بد للتفصيل معها، ومجملا في القضايا التي يكفي معها الإجمال. والدين مجموعة من الحقائق المتضمنة لمنهج إصلاح الحياة، والأحياء، تحتاج دائما إلى من يوصلها للناس بمنهج دقيق، ووسيلة صحيحة، وأسلوب يتلاءم مع الناس ومن المعلوم أن الحقيقة لا تتحرك بذاتها، ولا يهتم بها أحد إن بقيت في أسفار مغلقة، أو في ثنايا عقل صامت، ومن المعلوم كذلك أن الحقيقة إذا حملها منهج عقيم لا تصل لأحد، وربما وصلت على غير وجهها الصحيح. إن العروس إذا لم تتزين لا تعرف، وإذا تزينت بزينة سافرة، تسيء لنفسها، وتجمع حولها صعاليك البشر. ومن هنا: أكرم الله رسله فعرفهم بالمنهج المناسب لدينه، وهداهم للوسائل الملائمة لهديه، وبذلك صار الرسل قدوة في التدين، والمنهج، والوسيلة، والأسلوب.

إن الله تعالى لم يترك منهج الحركة للرسل يتصرفون فيه باجتهادهم، بل أنزله عليهم، كما أنزل دينه، بوحي ثابت مقرر. لو نظرنا إلى قصص القرآن الكريم، وهو يتناول دعوات الرسل عليهم السلام نلاحظ أنهم جميعا ساروا في خط واحد. فكلهم: جاء لقومه بعد انحرافهم عن التوحيد، وضلالهم في عبادة غير الله. وكلهم: ركز في دعوته على التوحيد الخاص، وضرورة قصر العبادة لله تعالى. وكلهم: عاش بين قوم ضالين، متمسكين بما هم فيه، من كفر وضلال. وكلهم: استمر في دعوته حتى اتضحت طبيعة الناس، وعاقب الله المكذبين بالإهلاك، ونجى المؤمنين من العذاب الأليم. خط الجميع واحد، ومنهجهم في الدعوة واحد أيضا. وحينما يكون الرسل هم قدوة المؤمنين، والدعاة، وهو واجب، فإن الأمر يلزم الدعاة باتباع منهج الله في تبليغ دين الله للأسباب التالية: أ- المنهج الإلهي في التبليغ هو المنهج الملائم للفطرة؛ لأنه من الله الخالق للناس، والخالق عليم بمن خلق، وحين يحدد منهج خطابه، فهو بلا شك خطاب مناسب. ب- المنهج الإلهي في التبليغ كما هو مناسب للفطرة، هو مناسب للدين نفسه، وبه يحدث التناسب، والانسجام. ج- إن منهج الله في التبليغ يجعل الدعاة في ثقة وهم يسيرون على خطى الرسل عليهم السلام، كما يدفعهم إلى التحمل، والصبر، وهو يواجهون أعداء الله في الأرض، الذين لا يتغيرون في مسلكهم، وعداوتهم، وإن تغير الزمان، وتغير المكان، يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ

وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ، وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ، وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ} 1، ويقول تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} 2 ويقول تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} 3. إن المنهج الإلهي منهج واقعي، بمعنى اعترافه بالواقع، والتعامل معه، لا ليقبله ولكن ليصححه، ويربطه بتعاليم الدين. وهو منهج يتعامل مع الإنسان، ويحاول تحريك قلبه، ولسانه، وجوارحه، ولذلك فهو لا يبقى في المجال النظري، وإنما يستمر حتى يكون منهجا عمليا، يعيشه الناس في حياتهم ومناشطهم. وحينما نحاول استنباط أهم ملامح منهج الرسل، ووسائلهم وأساليبهم، فإني أكتفي بكلمات موجزة حيث سبق تناول هذه القضايا خلال دراسة تاريخ الرسل.

_ 1 سورة المطففين الآيات "29-32". 2 سورة آل عمران آية "114". 3 سورة البقرة آية "109".

أهم ملامح منهج الرسل

أهم ملامح منهج الرسل: يمكن رصد أهم ملامح المنهج الذي طبقه الرسل في دعوة الناس فيما يلي: 1- البدء بقضية التوحيد، وبيان ارتباط التوحيد بالعبادة التي خلق الإنسان من أجلها، وفي هذه النقطة وجدنا الأنبياء يبينون فساد العقائد الباطلة، وعدم استحقاق الآلهة المزعومة للعبادة. 2- تجزئة القضية أثناء عرضها على الناس، فمرة تكون الدعوة في نقد الآلهة وأخرى في قيمة عبادتها، وثالثة في التعريف بالله تعالى ... وهكذا لأن التجزؤ ضرورة للفهم ويساعد على الحوار، والإقناع. 3- القرب من المخاطبين، والاستفادة بكل ما يساعد على ذلك، كالقرابة والفكر المشترك، وإبراز الصفات التي تؤدي لهذا القرب كالحب، والنصح، والأمانة ومن القرب المجاراة، وإشعار الناس بأن الداعي معهم في الآمال والأماني. 4- الالتزام بمكارم الأخلاق، والتمسك بها حتى تصير سمة من يتصدى للدعوة، في نفسه، ومع الناس. 5- الصبر في الدعوة، وعدم تسرع النتيجة، ومبلغ الدين يعمل الله، والواجب عليه أن يستمر في عمله، ولا ينظر للنتيجة؛ لأن التعجل في الإيمان لا يفيد 6- معايشة واقع الناس، وتفهم أحوالهم، لمعرفة الإيجابيات، والسلبيات التي يستفيد بها في دعوتهم إلى الله تعالى. 7- أن يكون حامل الدين صورة عملية لما يطلبه من الناس؛ لأن ذلك أدعى للاستماع له، والأخذ منه. 8- مراعاة الظروف من كافة نواحيها، فقد يكون الوقت غير ملائم لانشغال الناس بأمر آخر، وقد يكون المكان ليس مناسبا، كأماكن اللهو، والفسق، وقد تكون الحالة النفسية أو الاجتماعية، أو غيرها، لا تشجع على الدعوة، ولذلك يقول الله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} 1، ويقول تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 2.

_ 1 سورة الأعلى آية "9". 2 سورة الأنعام آية "68".

9- تقبل الرأي المعارض، ومناقشته بلين وهدوء؛ لأن الدين هو الحق وما عداه باطل، ومن المعلوم أن الحق أبلج، وحجته أقوى، ولو عاش الناس بمنطق العقل والبرهان الصحيح لما استمروا على معارضاتهم، وجدلهم. 1- التعامل الحقيقي يقوم على فهم الإنسان، فهو مخلوق يقاد من باطنه، ولقواه العقلية، والعاطفية سلطان على قدراته الجسدية، ولذلك كان ضروريا أن يعيش الدعاة مع العقل لتفهيمه، وإقناعه، ومع الوجدان لإرضائه، وجذبه، وحينئذ تنجح الدعوة لقد رأينا من خطابات الرسل ما يقنع العقل، ويرضي الوجدان، وبذلك حددوا المنهج للدعاة.

من وسائل الرسل في الدعوة

من وسائل الرسل في الدعوة: استعمل الرسل عليهم السلام كل ما أمكنهم من وسائل هداهم الله إليها وعرفهم بها. فلقد واجه الرسل أقوامهم مواجهة مباشرة، واستفادوا بما عرف حديثا بوسائل الاتصال. ودعوا بالمنهج العملي التطبيقي، وبخاصة حينما يتمسك الناس بضلالهم. وأرسلوا للناس الرسل، وكتبوا لهم الكتب، واستقبلوا الوفود كما حدث من سليمان عليه السلام فقد دعا ملكة سبأ عن بعد بواسطة كتاب حمله إليها الهدهد، واستقبل وفدا من قبيلتها. وتعد المعجزة وسيلة من وسائل الدعوة، ففيها إظهار لقدرة الله، وبيان لصدق الرسول، وعلى نمطها يمكن للدعاة، أن يبرزوا ما في دين الله من حكم، وفضائل سبق بها، وهو ما يعرف بالإعجاز بجميع مجالاته. ولو استعرضنا كل الوسائل التي توصل إليها العلم الحديث لوجدنا لها عند الرسل أصل ودليل، في إطار ما شرع الله للناس. وهكذا يمكن الدعاة من اكتشاف الوسائل المناسبة، حسب تنوعهم. واختلافاتهم، وسيجدون لها من تاريخ الرسل أصل، ودليل.

أساليب دعوة الرسل

أساليب دعوة الرسل: استفاد الرسل عليهم السلام بأساليب الخطاب والتوجيه على اختلافها، وقد وقفنا على كثير منها خلال دراستنا لحركة الرسل بالدعوة.... وبالرغم من أن اللغة التي دعا بها الرسل ليست هي العربية غالبا، فقد حكاها الله تعالى في القرآن الكريم باللغة العربية، وجعلها سهلة وميسرة ليستفيد بها من نزل القرآن لهم، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

الخاتمة

الخاتمة: الحمد لله الذي أعانني على الانتهاء من كتابة تاريخ دعوات رسل الله عليهم الصلاة والسلام. وأسأله سبحانه أن يغفر لي أي تقصير وقعت فيه فالكمال له سبحانه وحده وآمل أن أكون قد تمكنت من إبراز بعض القضايا التي عملت على إبرازها.... وأهمها: 1- البداية الإيمانية للإنسان، حيث كان آدم عليه السلام، وكانت ذريته، ولولا أعداء الله في الأرض لاستمر الناس أمة واحدة، على دين الله، ومنهجه. 2- إبراز شخصية الرسول في كل الأقوام، من ناحية صلابته في الحق، وصبره في الدعوة، وتحركه بين الناس بمنهج مستقيم مؤثر. 3- سنة الله واحدة في المكذبين، فقد أهلك الله أعداء الرسل، وعذبهم، وقضى عليهم، وهم يمنون أنفسهم بالقوة والغلبة. 4- إظهار ركائز الدعوة مع كل رسول؛ لتكون أساسا لانطلاق الدعاة بدعوتهم، وتبليغ دين الله للناس. 5- التزام كل رسول بما جاءه من عند الله في الأصول، والمنهج، وبذلك كانت دعوة الناس إلى دين الله، بمنهج الله تعالى. 6- قامت دعوة الرسل جميعا على دعوة الناس إلى عبادة الواحد، وتعريف الأقوام بالواجب الذي خلقوا له، وما ضعفوا، وما استكانوا.... ولئن كذبتهم أممهم، فقد بقيت دعوتهم مددا لدعاة الأمة الخاتمة التي حملت مسئولية دين الله في الناس. إن دراسة تاريخ الرسل يقصد بها إفادة الأمة الإسلامية من عدة نواح: أ- معرفة هذا الموكب الكريم من رسل الله، من كافة النواحي التي عرضها القرآن الكريم.

ب- الاستفادة ببرهنة الرسل على توحيد الله وعبادته، لتكون دليل هداية وإيمان. ج- السير على نمط هؤلاء الرسل وبخاصة في حياتهم العملية التطبيقية. د- امتثال الدعاة منهج الرسل في توجههم للناس، وتحركهم بدعوة الله تعالى. وأسأل الله تعالى أن ينفعني بما قمت به، وأن يقبله مني، وأن يضع له القبول عند الناس. ربنا عليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

الفهرس

الفهرس: الموضوع رقم الصفحة المقدمة 7 تاريخ الدعوة 11 دعوات الرسل عليهم السلام التمهيد 35 1- آدم عليه السلام: النقطة الأولى: خلق آدم 41 النقطة الثانية: آدم والملائكة 44 النقطة الثالثة: آدم وإبليس 45 النقطة الرابعة: خروج آدم من الجنة 49 النقطة الخامسة: هابيل وقابيل 52 ركائز الدعوة في قصة آدم الركيزة الأولى: تكريم الإنسان 54 الركيزة الثانية: رسالة الإنسان 55 الركيزة الرابعة: فضل الله على الإنسان 56 2- إدريس عليه السلام: التعريف بإدريس عليه السلام 57. 3- نوح عليه السلام: التعريف بنوح عليه السلام 59 التعريف بقوم نوح 60 حركة نوح بالدعوة 61

الموضوع رقم الصفحة الركيزة الأولى: العقيدة أساس الدعوة 66 الركيزة الثانية: أساسيات الحركة بالدعوة 69 الركيزة الثالثة: أثر الإيمان 74 الركيزة الرابعة: حاجة الدعوة إلى الصبر 4- هود عليه السلام: التعريف بهود 78 التعريف بقوم هود 79 حركة هود بالدعوة 81. ركائز الدعوة في قصة هود عليه السلام الركيزة الأولى: العقيدة والدعوة 86 الركيزة الثانية: المترفون أعداء الدعوة 87. الركيزة الثالثة: الرسول قدوة الدعاة 88. الركيزة الرابعة: الدين والحضارة 90. الركيزة الخامسة: ضعف الإنسان وقدرة الله 91 5- صالح عليه السلام: التعريف بصالح عليه السلام 93 التعريف بقوم صالح 94 حركة صالح بالدعوة 95. ركائز الدعوة في قصة صالح عليه السلام. الركيزة الأولى: طبيعة التمدين 101 الركيزة الثانية: دعوة أهل الحضارة 103 6- إبراهيم عليه السلام:

الموضوع رقم الصفحة تمهيد 106 التعريف بإبراهيم عليه السلام 107 التعريف بالأماكن والأقوام التي زارها 116 حركة إبراهيم بالدعوة 118 حركة إبراهيم بالدعوة مع أبيه 119 حركة إبراهيم بالدعوة مع الملك 122 حركة إبراهيم بالدعوة مع عبدة الأصنام 126 حركة إبراهيم بالدعوة مع عبدة الكواكب 133 ركائز الدعوة في قصة إبراهيم عليه السلام الركيزة الأولى: شخصية مبلغ الدين 138 الركيزة الثانية: منهجية الدعوة إلى الله 141 ا- التخلية قبل التحلية 141 2- مراعاة الأوليات 142 3- التوافق مع الواقع 143 الركيزة الثالثة: وسائل دعوة إبراهيم عليه السلام 143 الركيزة الرابعة: أساليب الدعوة 145 7- لوط عليه السلام: التعريف بقوم لوط عليه السلام 147 التعريف بـ"لوط" عليه السلام 148. حركة لوط بالدعوة 149. ضيوف لوط عليه السلام 152. ركائز الدعوة في قصة لوط عليه السلام. الركيزة الأولى: العلاقة بين الدعاة 153

الموضوع رقم الصفحة الركيزة الثانية: منطق أعداء الحق 154 الركيزة الثالثة: الاهتمام بعلاج المرض وأسبابه 155 الركيزة الرابعة: أساسيات في الدعوة 156 8- شعيب عليه السلام: التعريف بشعيب عليه السلام 159. التعريف بقوم شعيب عليه السلام 160 حركة شعيب بالدعوة 167 ركائز الدعوة في قصة شعيب الركيزة الأولى: المعرفة الشاملة بالمدعويين 170 الركيزة الثانية: تكامل المنهج الإلهي 171 الركيزة الثالثة: منطلقات الدعوة 172 9- إسماعيل عليه السلام: التعريف بإسماعيل عليه السلام 174 أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام تمهيد: 179 10- إسحاق عليه السلام: التعريف بإسحاق ودعوته 181 11- يعقوب عليه السلام: التعريف بـ"يعقوب" عليه السلام 184 12- يوسف عليه السلام: تمهيد 187 التعريف بالمجتمع الذي عاش فيه يوسف عليه السلام 188 التعريف بـ"يوسف" عليه السلام 191

الموضوع رقم الصفحة أولا: يوسف وإخوته 194 ثانيا: يوسف في بيت عزيز مصر 203 ثالثا: يوسف في السجن 207 رابعا: يوسف والحكم 215 خامسا: يوسف وبنو إسرائيل 217 ركائز الدعوة في قصة يوسف عليه السلام الركيزة الأولى: تربية الرسول الداعية 221 الركيزة الثانية: أخلاق الرسول الداعية 224 الركيزة الثالثة: الحرص على الدعوة 226 الركيزة الرابعة: منهجية الدعوة 228 الأمر الأول: التدرج 228 الأمر الثاني: القصة 231 الركيزة الخامسة: توضيح بعض الحقائق 234 الحقيقة الأولى: العلاقات الأخوية 234 الحقيقة الثانية: طلب الرئاسة 234 الحقيقة الثالثة: تمنى الموت 236 الحقيقة الرابعة: عدم تعجل النتيجة 238 13- أيوب عليه السلام: التمهيد 239 التعريف بـ"أيوب" عليه السلام 240 ركائز الدعوة في قصة أيوب عليه السلام الركيزة الأولى: تكامل شخصية مبلغ الدعوة 247 الركيزة الثانية: الثقة المطلقة في الله 249

الموضوع رقم الصفحة الركيزة الثالثة: الأخذ بالأسباب المشروعة 250 الركيزة الرابعة: أهمية الدعاء 251 14- ذو الكفل عليه السلام: التعريف بـ"ذي الكفل ودعوته" 252 15- يونس عليه السلام: التعريف بـ"قوم يونس" عليه السلام 254 التعريف بـ"يونس" عليه السلام 257 ركائز الدعوة في قصة يونس عليه السلام الركيزة الأولى: ضرورة الصبر والتحمل 261 الركيزة الثانية: الإخلاص في العبودية 262 16- موسى عليه السلام: التمهيد 264 التعريف بقوم موسى عليه السلام 264 التعريف بموسى عليه السلام 267 أولا: ولادة موسى عليه السلام 267 ثانيا: رضاعة موسى عليه السلام 270 ثالثا: تربية موسى عليه السلام 276 رابعا: موسى عند مدين 275 خامسا: تكليف موسى بالرسالة 278 سادسا: قيامه بالدعوة 283 سابعا: وفاة موسى عليه بالسلام 285 حركة موسى عليه السلام بالدعوة التمهيد 287

الموضوع رقم الصفحة حركة موسى بالدعوة لفرعون المسألة الأولى: التعريف بفرعون 287 المسألة الثانية: الاستعداد للبلاغ 291 المسألة الثالثة: مواجهة فرعون 293 المسألة الرابعة: التحدي الكبير، وإيمان السحرة 300 المسألة الخامسة: أنوار وسط الظلمات 305 1- سحرة فرعون 306 2- مؤمن آل فرعون 307 3- آسية زوجة فرعون 313 4- ماشطة بنت فرعون 315 المسألة السادسة: استمرار فرعون على ضلاله 316 المسألة السابعة: نهاية فرعون 317 حركة موسى بالدعوة للإسرائيليين التمهيد 320 المسألة الأولى: حنين الإسرائيليين للأصنام 323 المسألة الثانية: طلبهم الطعام الأدنى 324 المسألة الثالثة: طلبهم الله جهرة 326 المسألة الرابعة: عبادة العجل 328 1- موسى والإسرائيليين 330 2- موسى وهارون 332 3- موسى والسامري 334 المسألة الخامسة: التيه ودخول بيت المقدس 336 المسألة السادسة: تعمد المخالفة 338

الموضوع رقم الصفحة المسألة السابعة: خضوعهم للقوة 339 المسألة الثامنة: عدوانهم يوم السبت 340 المسألة التاسعة: معونة الله لموسى 341 - رد مقالة اليهود عند جلد موسى 341 - ذبح البقرة 342 1- الخضر بين النبوة والولاية 348 2- حياة الخضر وموته 350 3- المراد بالعلوم اللدنية 351 فوائد قصة الخضر أ- ضرورة الاتباع 353 ب- أهمية العلم والتعلم 353 ج- عدم التسرع في الحكم 353 د- سعادة الإنسان في معية الله 354 هـ- أثر صلاح الآباء على الأبناء 354 حركة موسى بالدعوة لقارون التعريف بقارون 355 بنو إسرائيل واليهود 360 الإسرائيليون وموقف القرآن الكريم منهم 360 اليهود وموقف القرآن الكريم منهم 368 ركائز الدعوة في قصة موسى عليه السلام التمهيد 370 الركيزة الأولى: التوحيد أساس الدعوة 372

الموضوع رقم الصفحة الركيزة الثانية: ضرورة الاستعداد للدعوة 374 الركيزة الثالثة: خصائص البلاغ المبين 376 الركيزة الرابعة: أساسيات النجاح في الدعوة 378 الركيزة الخامسة: شخصية المرأة في الدعوة 379 الركيزة السادسة: بين الدنيا والآخرة 380 الركيزة السابعة: تجنب الظلم والظالمين 385 الركيزة الثامنة: أهمية العلم 386 17- هارون عليه السلام: التعريف بهارون عليه السلام 387 18- إلياس عليه السلام: التعريف بإلياس عليه السلام 391 19- اليسع عليه السلام: التعريف باليسع عليه السلام 395 20- داود عليه السلام: التمهيد 397 حالة الإسرائيليين قبل بعث داود 397 التعريف بداود عليه السلام 404 معجزات داود "عليه السلام" 405 1- تليين الحديد 405 2- تأويب الجبال والطير 406 3- القيادة الدائمة 407 4- الشجاعة والقوة 407 5- الحكم والقضاء 408

الموضوع رقم الصفحة وفاة داود عليه السلام 408 داود والقضاء التمهيد 409 حادثة الغنم 410 حادثة أكل الزرع 412 حادثة التنازع حول الولد 414 ركائز الدعوة في قصة داود عليه السلام الركيزة الأولى: شجاعة الداعية 415 الركيزة الثانية: حسن عرض الدعوة 416 الركيزة الثالثة: التأني في الدعوة 417 الركيزة الرابعة: تعاون الدعاة 417 21- سليمان عليه السلام: التعريف بسليمان عليه السلام 418 معجزات سليمان عليه السلام 421 1- تسخير الريح 421 2- تسخير الجن 424 3 - إسالة النحاس 425 4 - محادثة ما لم ينطق 426 مملكة سليمان عليه السلام 1- العقيدة الصحيحة 427 2- العدل في الحكم 428 3- صيانة حقوق الرعية 429 4- موقفه من صاحب الرأي الآخر 430

الموضوع رقم الصفحة سليمان وملكة سبأ 432 فتنة سليمان 435 وفاة سليمان 438 ركائز الدعوة في قصة سليمان عليه السلام الركيزة الأولى: الدين والحضارة 440 الركيزة الثانية، أثر القاتدة في توجيه الرعية 442 الركيزة الثالثة: الدعوة قبل القتال 443 الركيزة الرابعة: عالم الجن 444 أضرار الجن 1- صرع الإنسان 445 2- إلحاق الضرر بالبدن 446 3- قتل الإنسان 446 الركيزة الخامسة: طرق الوقاية من الجن والسحر 448 أولا: قطع طرق الشيطان 449 ثانيا: الاستعاذة بالله 449 ثالثا: الإكثار من ذكر الله 451 رابعا: قراءة القرآن 453 ضياع مملكة إسرائيل بعد سليمان 455 22- زكريا عليه السلام: التعريف بـ"زكريا" عليه السلام 459 كفاله مريم 460 ولادة يحيى 461

الموضوع.............. رقم الصفحة 23 - يحيى عليه السلام: التعريف بـ"يحيى" عليه السلام 463 24- عيسى عليه السلام: التمهيد 466 ولادة عيسى عليه السلام 466 معجزات عيسى عليه السلام 470 رسالة عيسى عليه السلام 472 رد ما يقال في ولادة عيسى عليه السلام 475 أولا: المسيح ابن الله 476 ثانيا: المسيح كلمة الله 476 ثالثا: المسيح روح الله 477 حياة المسيح ونهايته في الأرض 478 القسم الثاني: الركائز الرئيسية في الدعوات الإلهية التمهيد 485 المبحث الأول: تكريم الإنسان 488 الإنسان هو الإنسان 488 الإنسان مخلوق له دين 491 المبحث الثاني: الغاية من خلق الإنسان 495 المبحث الثالث: الدعوة إلى التوحيد 502 توحيد الأسماء والصفات 502 توحيد الربوبية 503 توحيد الألوهية 504 المبحث الرابع: الدعوة إلى العبادة 509

الموضوع رقم الصفحة المبحث الخامس: الدعوة إلى مكارم الأخلاق 516 الاتجاه الأول: الأخلاق مع التوحيد 516 الاتجاه الثاني: التركيز على الرذائل المتفشية 521 الاتجاه الثالث: بيان عاقبة الأخلاق 522 المبحث السادس: إثبات رسالة الرسل 524 المبحث السابع: إثبات البعث 534 المبحث الثامن: شخصية مبلغ الدعوة 541 تربية الرسل 541 التكوين الخلقي 541 التربية العلمية 541 المبحث التاسع: خصائص الإنسان وطبائعه 549 1- استعلاء السلطة 553 2- كبرياء الملأ 556 3- استسلام العامة 557 المبحث العاشر: منهجية الدعوة 561 أهم ملامح منهج الرسل 563 وسائل الرسل في الدعوة 565 أساليب الرسل 566 الخاتمة 567 الفهرس العام 569

§1/1