دعوة إلى السنة في تطبيق السنة منهجا وأسلوبا

عبد الله الرحيلي

مقدمة

مقدمة ... من كلمات السلف " ... أحدهم إذا خالفه صاحبه قال: كَفَرْتَ. والعِلْم إنما يقال فيه: أخطأتَ". "الإمام الشافعي رحمه الله تعالى". "وما أولاك رحمك الله بتدبُّر ما نقول؛ فإن كان حقّاً، وكنتَ لله مريداً، أن تتلقاه بقلبٍ سليم، وإن كان باطلاً، أو كان فيه شيء ذهب عنّا، أن تردّنا عنه بالاحتجاج والبرهان؛ فإنّ ذلك أبلغ في النصرة، وأوجب للعذْر، وأشفى للقلوب ... ". "ابن قتيبة رحمه الله تعالى". ندِينُ الله بكل ما صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نجعل بعضه لنا وبعضه علينا، فنقرّ ما لنا على ظاهره، ونتأوّل ما علينا على خلاف ظاهره، بل الكلُّ لنا لا نُفَرِّق بين شيءٍ من سُننه، بل نتلقاها كلها بالقبول، ونقابلها بالسمع والطاعة، ونتَّبعها أين توجهت ركائبها، ونَنْزلُ معها أين نزلت مضاربها، فليس الشأن في الأخذ ببعض سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتَرْك بعضها، بل الشأن في الأخذ بجملتها، وتنزيل كل شيء منها منزلتَه، ووضعه بموضعه، والله المستعان وعليه التكلان. الإمام ابن القيّم رحمه الله تعالى.

شكرٌ وتقدير الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على نبيّنا وسيّدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فيطيب لي، بل يتعيّن عليّ، أن أعترف بالفضل لأهله، فقد تفضّل عدد من الإخوة الفضلاء بقراءة هذا الموضوع قبل الطبع، فأفادوني بملحوظاتهم وآرائهم؛ فلهم منّي ولمن كان سبباً في نشر هذا الموضوع الشكر والدعاء، وأسأله عزّ وجل أن يجزيهم عنّي وعن المسلمين وعن الإسلام خير الجزاء، وأن يوفّقنا جميعاً لما يحبّه ويرضاه. المؤلف

مقدّمة الطبعة الثانية الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد كانت الطبعة الأُولى لهذا الكتاب في عام 1410هـ 1990م. وقد نفدت النُّسخ خلال مدة وجيزة، وتوالت الأسئلة عن الطبعة الثانية، وكنت أَعِدُ بها، وأَعزم على الوفاء بذلك، ولكن {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 1، وقد أراد الله أن تتأخر هذه الطبعة إلى هذا الوقت؛ فأجريت عليها بعض التعديلات والإضافات. ملحوظات حول الكتاب وهذه الطبعة: لعل من المناسب أن أشير إلى الملحوظات التالية: - قد أجريت تعديلاتٍ وإضافاتٍ وتقديماً وتأخيراً على الكتاب في هذه الطبعة، ونال الفصل المنقول عن الإمام ابن تيمية نصيباً وافراً مِن هذا في طريقة عرْضه. وكان لبعض المستجدات للمسلمين فيما يتعلّق بقضية الكتاب أثرٌ واضح في هذه التعديلات. وأرجو أن يكون هذا التعديل إلى الأفضل. - قد اتّبعتُ في إحالة الآيات إلى المصحف الشريف طريقة محمد فؤاد عبد الباقي، بالعزو إلى رقم الآية أو الآيات، ثم اسم السورة، ثم رقمها.

_ 1 29: التكوير: 81

- حرصت أن أعتمد في كتابة الآيات على رسم المصحف الشريف، لكن لم يتيسر برنامجٌ على الحاسب الآلي يحقق هذا الغرض؛ فكتبتها بالرسم الإملائي الحديث. - لم أستقصِ في تخريج الحديث، بل اكتفيت بما يؤدي الغرض مِن التخريج، فإذا كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما أغناني عن تتبع الحديث في المصادر الأخرى. - ربما كان مِن المناسب الإشارة هنا إلى أنّ مجالات الأفكار والتطبيقات المنتقدة تشمل، في الأصل، المحاور التالية: 1- الخلل في مجال فهْم السنن. 2- الخلل في مجال التصوِّر لمفهوم التمسك بالكتاب والسنّة. 3- الخلل في مجال فهْم الخلافات الفقهية الفرعية. 4- الخلل في مجال فهْم العقيدة. وقد خُصِّص الكلام في هذا الكتاب بالموضوعات الثلاثة الأُوَل. - الهدف مِن هذا الموضوع هو ما حَدَّده عنوانه: دعوةٌ إلى السنّة في تطبيق السنّة، منهجاً وأسلوباً؛ ذلك لأنّ اتّباع السنّة لا يكفي أن يكون ظاهراً، حتى يكون ظاهراً وباطناً. ولقد رجوتُ أن يكون مثْل هذا العنوان شعاراً للمسلم في مجال تطبيق السنّة في هذا العصر. - ربما كان هذا الكتاب في طبعته الأُولى أوّلَ كتابٍ يَعْرض هذه المشكلة في الفهم ويعالجها؛ إذْ لا أَعْلم كتاباً قبْله تعرَّض لها. ثم ظهرتْ بعض

الكتابات في الموضوع، وعالجتْه معالجةً جادّةً، مثل: رسالة الشيخ بكر أبو زيد، بعنوان: حَدُّ الثّوب والأُزرة وتحريم الإسبال ولباس الشُّهرة، وكتاب د. يوسف القرضاوي، بعنوان: الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم، دراسةٌ في فقه الاختلاف في ضوء النصوص والمقاصد الشرعية، وسِواهما مما اطلعت على بعضه؛ فأفدتُ في هذه الطبعة مما اطّلعتُ عليه مِن هذه الكتابات، وأشرتُ إليه في الكتاب. - في هذه الفترة تُرجم الكتاب إلى اللغة الانجليزية عن طبعته الأُولى، وقد اشترك في ترجمته عددٌ مِن الإخوة الأساتذة الفضلاء؛ حيث ترجمه أوّلاً د. عبد اللطيف الصعيدي، وراجعه د. عطا طه زيدان، ثم جدّتْ أمورٌ اقتضت إعادة النظر؛ فقام شقيقي د. عطاالله بن ضيف الله الرحيلي، والأستاذ غالب بن أحمد المصري بهذا المجهود، وأعادا صياغة بعض موضوعات الكتاب، وبذلا وقتاً وجهداً ليس مِن السهل تصوُّرُهُ، واجتهدا أن تَخْرج الترجمة في صورةٍ مثالية، جزاهم الله جميعاً خيراً، وتقبَّل منهم. إشارة إلى شيءٍ مِن تاريخ فكرة الكتاب: تأَخّرُ الطبعة الثانية هذا قد وافق بعضَ الظواهر المستجدة في المجتمعات الإسلامية؛ فلقد كان طرْقُ هذا الموضوع عند بداية ظهور تلك الأخطاء المنتقَدة في المحاضرة -التي هي أصْل هذا الكتاب-وفي هذا الكتاب مِن بَعْدها، إذْ كانت تلك البداية للأخطاء المعنية هي السبب في طرْق الموضوع، دون تسميةٍ أو تخصيصٍ لأحدٍ مِن الواقِعِين فيها. وكانت هذه البدايات في أول

عام 1407هـ تقريباً، أي قبل إلقاء المحاضرة بنحوِ عام. وما كنتُ أتصوّر أن يكون لهذه الظواهر مستقْبَلٌ أو مستقْبِلٌ، وما كنت أتصوّر أن تَبْلغ هذه الظواهر المخطئة الخاطئة ما بلغتْه اليوم في مجتمعات المسلمين؛ لأن الانحراف فيها عن نصوص الدين وهدْيه وفطرة الله التي فطر الناس عليها واضحٌ كل الوضوح؛ ونصوصُ الدين وهدْيه وفطرةُ الله، كلها، لا تَقبلُ مثل هذا الْمَيل؛ ولكن سرعان ما رأى الناس كيف يفاجَئون-منذ ذلك الوقت-كل يومٍ بمفاجأةٍ أو بغريبةٍ مِن الغرائب التي تُعْرَض عليهم على أنها سنّةٌ لا خيار لهم في قبولها والأخذ بها!. ولم يكن مِن ثمار هذا عند بعض الناس الرجوع إلى السنّة، ولكن العكس، ولم يكن مِن الثمار اجتماع المسلمين، ولكن تَفرُّقهم، ولم يكن مِن الثمار الألفةَ والمحبةَ بينهم، بل العكس!. ورأينا في الناس: - مَن يُسْرع إلى الغلوِّ في نقْد الآخرين، مع تجاهلٍ لنقْد الذات. - ومَن يتجشّمُ الكلام على ما في طويات الآخرين، ويُسارِع إلى الحكم عليهم بإصدار التهم؛ نصْرةً للدين واتّباعاً للكتاب والسنّة بزعمه. - ومَن يُوالي ويعادي إخوانه المسلمين على فروع الأحكام الشرعيّة. - ومَن يميل إلى الظاهريّة في فهم الدين ونصوصه. - ومَن يأخذ بمذهب الخوارج عمليّاً في بعض المسائل، ويُحكِّمه في فهمه للإسلام، وفي إخوانه المسلمين، ولو تبرَّأَ منه بلسانه.

- ومَن أحلّ محل المودّة والأُخوّة الإيمانية الحقدَ والبغضاء والكراهية الدينية!. - ولقد رأينا في التاريخ، وسنرى في الحاضر كيف تكون نهاية أصحاب المناهج المخالفة لمنهج أهل السنّة والجماعة، تلك المناهج التي تميل إلى التشديد والتضييق في غير موضعهما، حيث يَتنكّب أولئك -ولو بعد حين- ما تُنادي به مناهجهم مِن أفكارٍ تُخالف هدْي هذا الدين ومنهج أهل السنّة والجماعة، والغالب أن ينقسموا على أنفسهم، ويتحزبوا فيما بينهم-فضلاً عن مَن سواهم-ويَحْكموا على أنفسهم بالفشل والبعد عن هدي الدين في هذا الباب؛ فلا يَسْلمون في أيّ شعارٍ جاءوا به مخالفاً لمنهج أهل السنّة والجماعة؛ فيقعون في ما يَتَّهمون غيرهم بالبعد عنه، والغالب أن تراهم يُفَرِّقون مِن حيث يُنادُون بعدم التفرّق، ويتحزبون مِن حيث يَدْعون إلى عدم التحزب؛ وهذه سنّة الله في هذه المناهج، والتاريخ شاهدٌ، وسيكون الحاضر والمستقبَل شاهدَيْن أيضاً؛ فأين المعتبِرِون!. وكان تعمُّقُ تلك الظواهر في مجتمعات المسلمين يؤكِّد الحاجة إلى هذا الموضوع بهذه الوجهة وهذه الدعوة إلى السنّة وفق هدْي السنّة منهجاً وأسلوباً. وكم جاء المؤلِّفَ مِن رسالةٍ وشكرٍ على هذا المؤلَّف، وتفاعلَ معه فريقان من الناس: الأول: المؤيد للفكرة الْمُشِيد بها، الذي يقول: لو فَهِم الناس الإسلام على هذا النحو مِن الفهم لما كانت هناك حاجةٌ إلى تلك الأفهام المخطئة وتلك المسالك الملتوية في فهم السنّة، وفي تطبيقها، وفي الدعوة إليها. الثاني: المعارِض الذي رأى أنّ مثل هذه الدعوة شرٌّ على الإسلام والمسلمين؛

فأَخذَ يناجِزُ مثل هذه الأفكار، ويُنَبِّهُ على ما فيها-في نظره- مِن الأخطار! 1، وهمْ قلةٌ مِن الناس.

_ 1 وأَذكُرُ أن هذا الصنف مِن الإخوة قد أشاع الشائعات، وأَطلق الدعاوى، منذ أن سمع المحاضرة، أو سمِعَ عنها!. وحجبتُ شريط المحاضرة عن الناس أوّلَ الأمر، لنحوِ أُسبوعٍ اختباراً لمصداقيّة هذه الأقاويل، وبعد أن سَمِعتُ ما سمعتُ مِن ذلك وعجبتُ له أشدّ العَجب، وتأكد لي كيف يكون الخطأ مِن بعض الناس في هذا الباب نَشرْتُ شريط المحاضرة، وعندها انكشفت الحقيقة لكثيرٍ مِن الناس، وكنتُ قد علّقتُ-بعد ذلك-في نهاية شريط المحاضرة التعليق التالي-وأنقله لما فيه مِن تصويرٍ لتاريخ الكتاب وفكرته ومعاناتها وأُسلوب الدعوة إليها-: وبعد أن انتهت هذه المحاضرة فيطيب لي أن أدعو الإخوة الفضلاء الذين انبروا لنقد المحاضرة والمحاضر، ليس من خلال كلمات المحاضرة، ولكن من خلال تحريف كلماتها ومن خلال ظن السوء بالمحاضر في نيّته وقصده، وأَنا ألتمس لهم العذر -من باب إحساني الظن بهم- فلعلّ عذرَهم أنهم لم يقصدوا الإساءة، ولم يقصدوا الاختلاق على أخٍ مسلم، ولكن ربما تكون غيرتهم الطيبة قد حملتهم على هذا التصرف دون أن ينتبهوا لخطئهم الفادح في حق السنة، وليس في حق الأشخاص. بعد كل هذه المحاضرة لقد قالوا: هزأ المحاضر بالسنة وبأصحاب السنة، هكذا قالوا. ولعل هذا مما يؤكد وجودَ بعض المسالك المخطئة التي أشارت إليها المحاضرة، ومما يؤكد كذلك الأخذ بما دعت إليه المحاضرة من الهدي النبوي في تطبيق السنة والدعوة إليها وفقهها. ولا يليق بنا أن نمرّر أخطاءنا فندعوَ إليها ضمن الدعوة إلى السنة. ولا ينبغي لنا أن لا نغار على السنة من أنفسنا. ولا ينبغي لنا كذلك- في تصورنا للإسلام- أن نكَبِّر الأمور الصغيرة، وننسى الأمور الكبيرة. ولا ينبغي أن يخدعنا الشيطان بالدفاع عن أنفسنا باسم الدفاع عن السنة -ونحن لا نشعر-. والمرء حسيب نفسه، وغداً حسيبه ربه عزّ وجل، ولا ينفعه قريب ولا بعيد، ولا موافق ولا مخالف. وما كان السلف الصالح يَشْعرُ أحدُهم في دعوته للسنة أنه هو الوصيّ الوحيد عليها ومَن عداه من المسلمين متَّهَم عليها؛ فيردُّ كل ما يأتيه عنه مما لم يدركه هو في فقه السنة. = =أخي هذه هي المحاضرة فانقدْها من خلال نصّها، إن أردت النقد بمعنى النصيحة، وانقد نفسك إن كنت ممن تسرّع فوقع فيما أشرتُ إليه من قبل، {بَلِ الإنسَانُ عَلَى نفْسِهِ بصيرةٌ وَلَو أَلْقَى معَاذيرَهُ} ، وليتنا نَكِلُ نيّات الناس إلى عالمها عزّ وجل ونَدَع الظن لأنه أكذب الحديث، على ما أخبر به صلى الله عليه وسلم. وعسى أن يكون في هذا درس لنا جميعاً، والله الموفق، وهو أعلم بمن اتقى.

منهج أهل السنّة والجماعة هو المنهج الحق: والحقُّ أحقُّ أن يُتَّبع، والله غالبٌ على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون؛ وقد قضى الله سبحانه أنه ناصِرٌ دينَهُ وكتابَهُ وعباده المخلصين الدّاعين إلى ذلك. والميزان الحق الذي لا يَضِلّ ولا يميل، الذي يجب أن يُحَكَّم في الأفكار والتصورات والأعمال، بل وفي سرائر النفوس، هو كتاب الله تعالى، وقَصْدُ وجْهِ الله وحْده الذي لا إله إلا هو، ولا ربّ سواه. ويَظَلُّ منهج تحكيم الكتاب والسنّة، وفْق منهج أهل السنّة والجماعة، هو المنهج الحقّ المعصوم، ويَظَلُّ هو طريق النجاة لمن أرادها، وبهذا المنهج نَدين الله تعالى، وإليه ندعو، سواء في هذا الكتاب أو غيره. وفي أعلام الهدى من أئمة هذا المنهج مِن السلف الصالح -مِن الصحابة فمن بعدهم، ممن توفاه الله على الحق غير مفتون ولا منحرفٍ- بصائر ومُهتدى وقدوةٌ لمن أراد الحق خالصاً صافياً لم تكدّرْه مكدِّرات الحق ومكدِّرات الرجال في هذا العصر!. ومسئولية الحفاظ على منهج أهل السنّة والجماعة مسئوليةٌ مشترِكةٌ بين

المسلمين جميعاً، بمختلف مجالاتهم، وبمختلف درجات تمسّكهم؛ لأنّ هذا راجعٌ إلى واجبِ حفْظِ الدين؛ وهو ليس مقصوراً على أحدٍ دون أحدٍ مِن المسلمين، ولا على بلادٍ دون بلاد. وأصول منهج أهل السنّة والجماعة أصولٌ مستقرّةٌ؛ فليس هو بحاجة إلى اجتهادات في أصوله وقواعده العامة؛ وإنما هو في حاجةٍ إلى تجديد تطبيق الأصول تلك على المستجدات في هذا العصر؛ لأنّ هذا هو مقتضى تفعيل هذا المنهج المعصوم في حياة الناس. وهذا الكتاب يكْشف جانباً مِن هذا المنهج الحق في موضوع البحث. علاج مشكلات المسلمين: لقد أيقنتُ أن العلاج لمشكلاتنا نحن المسلمين يَكْمن في أمرين، هما: الأول: الإخلاص لله تعالى. ومِن لازِم الإخلاص صِدْق الرغبة في معرفة الحق وفي اتّباعه. وقد كان السلف على هذه الصِّفَة؛ قال الشعبيُّ في مسألةٍ حَجَّهُ فيها المخالف له بالدليل: إني لأستحيي من الله إذا رأيت الحق أن لا أرجع إليه! 1. الثاني: الفقه في الدين، والفقه في الدعوة. ومِن لازِمه معْرفة النصوص الشرعية، ومعرفة مقاصد الشريعة وقواعدها، والعناية بمجالات تطبيق منهج الإسلام على الحياة المعاصرة، وفهْم المشكلات على حقيقتها؛ ومِن ثَمَّ

_ 1 "فتح الباري بشرح صحيح البخاري": 9/463.

عرْضها على نصوص الشرع وقواعده. فمتى ما توافر هذان الأمران فينا كان الحل لمشكلاتنا، ومتى ما تخلَّف فينا هذان الأمران، أو أحدهما، كانت المشكلات التي لا تنتهي إلا بالعودة إلى هذا العلاج1. وهذا الكتاب يأخذ بيد القاريء الكريم إلى تحقيق شيءٍ من هذا الهدف العزيز. نسأل الله سبحانه أن يُصْلح القلوب والأعمال ويُحقّق الآمال. ولأخلاق الإسلام في هذا الباب، مكانها الذي لا يُغْني عنه سواه؛ فلا يُمْكن نشْر الإسلام بغير أخلاق الإسلام بحالٍ؛ فما أحوج المسلمين إلى أن يترسموا هدْي الإسلام في الدعوة إلى الإسلام. وهذا الكتاب يُنَبِّهُ إلى جوانب مِن هذا العلاج. وما أحوجنا إلى الصدق: صدْق الباطن، وصدْق الظاهر، صدْق القول وصدْق العمل؛ ثم بعْد ذلك سوف يكون حالنا دعوةً للآخرين قبل مقالنا، ويَصْدق في حقنا قول القائل: سِرُّ الفصاحة كامنٌ في المعدنِ لِخَصَائصِ الأرواح لا للأَلْسُنِ! فيستجيب المدعوّ بجهدٍ أقل، ويُقْبِل بقناعةٍ أكثر. ولقد صَدَق من قال:

_ 1 يُنْظر إيضاح هذه الفكرة في: "منهج الدعوة في الكتاب والسنّة"، في موضوعَيْ: "الإخلاص ... "، و"الفقه في الدين والفقه في الدعوة ... "، للمؤلف.

وما يَنْفَعُ الإِعرابُ إنْ لم يكن تُقَى وما ضَرَّ ذا تقوى لسانٌ مُعْجَمُ؟! وإنْ كانت العُجْمةُ عيباً يضره في جوانب أُخرى، لكنه لا يضرّه في تقواه. هذا، وعلى الرغم مِن ازدحام الأفكار هنا إلا أنني أوثرُ أن أَدَعَ القاريء الكريم مع الكتاب علّه يَجِد فيه ما أردتُه مِن الخير وتوضيحِ منْهجٍ سديدٍ في موضوع الكتاب. ولايفوتني في الختام أن أشكر كلَّ مَن قدّمَ النصيحة في قليل أو كثير تجاه هذا الكتاب، وأسأل الله تعالى أن يجزي أولئك الإخوة الفضلاء خير الجزاء، ومنهم الذين قرءوا تجربة طبع الكتاب، وسِواهم كثير، ولئن لم أذكرْهم في هذا الموضع-لأسبابٍ، منها: عدم رضا بعضهم بذلك، ابتعاداً عن الشهرة أو الرياء، وفّقهم الله-فإني أرجو أن تكون ملائكة الرحمن قد أثبتتهم في سجلاتها فيمن ذبّ عن الإسلام ودعا إلى هداه على الوجه المقبول عند الله تعالى. وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. وصلى الله على نبيه وعبده محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومَن والاه. وكَتَبَ: عبد الله بن ضيف الله الرحيلي

المبحث الأول: تمهيد

المبحث الأول: تمهيد بين يدي الموضوع ... بين يدي الموضوع إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. أما بعد: فإن موضوع: "الدعوة إلى السنّة في تطبيق السنّة، منهجاً وأسلوباً" موضوع خطير جليل، والأصل أن يتصدَّى للحديث فيه من توافرت لديه الأهلية عِلْماً وعملاً، ولكن قد ينطلق المرء في حديثه من منطلق الشعور بالواجب وليس من منطلق الشعور بالأهلية، وذلك لما يراه من الحاجة الداعية للتصدِّى لمثل هذا الموضوع، وَمَنْ عدِم الماء تيمم بالتراب، فلستُ أتوهّم أنني طبيب معافى تعيّن عليه أن يتطبب في الناس، بل لم أظن ذلك، فلست أعلمَ منك أيها الأخ القارئ، ولا بالأكثر غَيْرة على سنّة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وما هذه الكلمات إلا ذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين.

فكرةٌ عن الموضوع، والفئة التي يخاطبها: إنني أُخاطب مِنَ الناس مَنْ قلوبهم مفعمة بالإيمان ومحبة الله تعالى ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، يؤلمهم ما عليه واقع الأمة الإسلامية اليوم من إفراط أو تفريط، فقاموا بمهمة دعوة الناس إلى هذا الدين، مؤْثِرِين التعب والجدّ على ما يعدُّه الآخرون راحة وسكوناً. أُخاطب هداةً يحدوهم الأمل في هداية الناس وإسعاد البشرية الضائعة، وإخراجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم. إنني أُخاطبك أنت أيها الأخ الداعي إلى السنّة، يا مَنْ يحترق قلبك على ما أصاب كثيراً من المسلمين من ضياع وبُعْد عن السنّة، فأنت بذلك لا تملك إلا أن تنشط في مهمتك هذه جاعلاً إيّاها همّك بالليل والنهار، وشغلَك الشاغل في حركتك وسكونك في يقظتك ونومك في سرِّك وعلنك، ترجو بذلك أن تكون من أَتْباعِ النبي صلى الله عليه وسلم المهتدين بهديه، المؤتسين به في سائر سنته. إنني أخاطب فيك إيمانك وغَيْرتك على السنّة النبويّة، فإنْ جرحتُ شعورك بذكْر خطأٍ فيك فأملي فيك أن لا تغضب ولا تحزن، إنما تُسَرُّ بقصْدك بالنصيحة وتنتفع بها، وقد قيل: اثنان ظالمان: رجل أُهديتْ إليه النصيحة فاتخذها ذَنْباً، ورجل وُسِّع له في مكان ضيق فجلس متربعاً!!. إن المقصود من هذا الموضوع هو تأكيد الدّعوة إلى السنّة بصورة مؤكَّدة تتناول اتّباع السنّة شكلاً ومضموناً، ومنهجاً وأسلوباً وعملاً وغاية، ويُراد منه تأكيد ضرورة الاهتداء بهدي السنّة في تطبيق السنّة، وفي الدعوة إليها،

إنه ليس دعوة إلى حِفْظِ السنّة ونَشْرها فقط، ولكنه دعوة إلى فقه السنّة فقهاً صحيحاً، وذلك شرْط أساسٌ للاستمساك بالسنّة وتقديرها حقّ قدرها. وليست هذه الفكرة جديدة، وإنْ لم أر أحداً أشار إليها نصّاً، فلقد تحدّث السلف الصالح رحمهم الله عن معان مهمّة ينبغي مراعاتها في الدعوة: كالحكمة، والموعظة الحسنة، واللين، والرفق، وغيرها من المعاني، منطلقين في ذلك من نصوص القرآن الكريم والحديث الشريف في هذه الموضوعات. إنّ هذا الموضوع نَقْدٌ لمنهجنا وأسلوبنا في الدعوة إلى السنّة يُراد منه النصيحة الواجبة لهذا الدين، وليس حديثي موجَّهاً لنقد شخص أو أشخاص أو جماعة، إنما هو لنقد أخطاء شائعة أو واقعة فينا قد يَلْزمنا التنبّه لها والرجوع عنها. واعتناء عدد منّا بالسنّة والدعوة إليها أمر حميد يُدخل السرور على النفس، بَيْد أنه لا يَمْنَع النقدَ ابتغاء النصيحة والتصحيح بل يوجبه. ولا يخفى أيها الأخ القارئ أن هذا الموضوع يحتاج إلى صَدْرٍ عامرٍ بالإيمان والإخلاص والقناعةِ التامّة بضرورة متابعة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم والاقتداء به، والقناعة أنه القدوة المعصوم الذي لا يصح إيمان عبد حتى يقبل ما جاء به صلى الله عليه وسلم. ومن لم يتوافر لديه مِثْلُ هذا المعنى من العبث أن يُتحدث إليه عن أهميّة فِقْه السنّة فقهاً صحيحاً!!. وقد عالج هذا الموضوع أخطاءً في المنهج وفي الأسلوب يقع فيها بعض الدعاة إلى الله تعالى عن حسن نيّة منهم وحرص على الخير، ولمّا كانت أخطاء طَلَبة العلم والداعين إلى السنّة ليست كأخطاء غيرهم، إذْ قد يحسبها

من الديِّن نفسه عامّةُ الناس ومن لا بصيرة له، وقد يستغلّها من في نفسه هوى لِيُشَوِّه دينَ الله المنزَّه، فيستغل بعض تصرفات طلبة العلم والحريصين على السنّة لينتقص بها الدين. وإنما هي أخطاء شخصية والإسلام منها براء. ولما كان الحرص على الخير والاجتهاد فيه لا يستلزم بالضرورة إصابة الحق - إذْ قد يُخالِف الصواب مَنْ يريده ويطلبه- لمّا كان كل ذلك مما يعانيه المسلمون بصورة واضحة، كانت هذه السطور جزءاً من علاج هذه الظواهر غير الموفَّقة. وقد رُوي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: ما أَمر الله عباده بما أمر، إلا وللشيطان فيه نزعتان: إما إلى غلوّ وإما إلى تقصير، فبأيهما ظفر قنع1. وجاء هذا الموضوع على حدّ ما نَقَلتُهُ من قول الإمام ابن القيم-رحمه الله تعالى- عن السنّة والموقف منها، وأنها كلها لنا، وليس منها شيء لنا وشيء علينا، ولا نتخيّر منها. وقد اشتمل الموضوع على نظرات نقديّة لعددٍ من المناهج والأساليب غير السديدة في الدعوة إلى السنّة والتمسك بها، وَتَلَمُّس وجْه الصواب في أسلوب الدعوة في المسائل الخلافية، ومفهوم التمسك بالكتاب والسنّة بين الأخذ بالنص والأخذ بالاجتهاد، وكذلك وَجْه الصواب في مسألة تفاضل الأعمال، والخلاف في المسائل الفرعية.

_ 1 المقاصد الحسنة ... ، للسخاوي: 392.

وقد اخترتُ الحديث عن هذه الجوانب من الموضوع لمحاولة بيان المنهجيّة السليمة في فهم السنّة وإدراك هَدْيها ... وليس الهدف من الكتابة فيه بيانَ الأحكام الفقهية وأدلتها بقدْر تحديد المنطلقات والمنهج السديد لفقه السنن والدعوة إليها من خلال النصوص الشرعية نفسها. ومما دعا إلى الحديث عن هذا الأمر -كما قلت- ما رأيته من أخطاء ومنطلقات مخطئة في منهج بعض الناس، وأسلوبهم في الأخذ بالسنّة والدعوة إليها، قد تسيىء إلى السنّة. نسأله عزّ وجل التوفيق والسداد. ?? المراد بالسنّة في هذا الموضوع وردت لفظة السنّة على عدة معان1، منها: 1- أن يراد بها المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، الذي هو الحديث النبوي، وهي بهذا تتعلق بالإسلام كله، دون أن تختص بفرض، أو واجب، أو سنّة، وهي بهذا شطر الدين، وليس هذا المعنى هوالمقصود هنا، وإن كانت أدلة إيجاب الأخذ بها في عمومها بهذا الاعتبار هي أدلة

_ 1 يُنْظر: إرشاد الفحول، للشوكاني: 833، و"المغني في أصول الفقه"، للخبازي 85-86 مع الحاشية، و"دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه"، للدكتور محمد مصطفى الأعظمي:1-5، و40، الحاشية. وليس المراد هنا التفصيل في هذا البحث، وإنما هي إشارةٌ إلى المعاني المستخدمة فيها لفظة: "سنّة"؛ لكي يكون القاريء على إلمامةٍ سريعة بمصطلح البحث.

الجانب الذي نتناوله. 2- ووردت السنّة في مكان العقيدة. وليس هذا مقصوداً هنا أيضاً. 3- ووردت في مكان الفَرْض. وليس هذا أيضاً مقصوداً هنا إلا أن يكون في مواضع قليلة. 4- ووردت بمعنى ما يقابِلُ البدعة. وليس هذا مقصوداً هنا أيضاً. 5- وإنما المراد بالسنّة هنا ما يقابل الفَرْض من فروع الأحكام الشرعية الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وتتردد بين السنّة المؤكّدة والاستحباب. قال مكحول: "السنّةُ سنّتان: سنّةٌ الأخذ بها فريضة وترْكها كفر، وسنّةٌ الأخذ بها فضيلة وترْكها إلى غيرها1 حرج2". ومجال السنّة هو مجال الأحكام الشرعيّة؛ قال ابن قتيبة رحمه الله تعالى: والسنّة إنما تكون في الدين لا في المأكول والمشروب. ولو أن رجلاً لم يأكل البطيخ بالرطب دهْرَه -وقد أكله رسول الله صلى الله عليه وسلم- أو لمْ يأكل القَرعَ، وقد كان يعجب النبي صلى الله عليه وسلم، لم يُقَلْ أَنه تَرَك السنّة3!!. قلت: وهذا كلام نفيس يدل على فقه الرَّجل، ويؤخذ منه قاعدة عامّة،

_ 1 جاءت هذه اللفظة في بعض النسخ: "غيره"، وفي بعضها: "غيرها". والصواب ما أَثبتُّهُ. 2 الدارمي: المقدمة، باب 49. 3 تأويل مختلف الحديث: 47.

ويستثنى من ذلك الإفطار على الرطب أو التمر أو الماء بالنسبة للصائم، لأنه قد تضافر على ذلك القولُ -بصيغة الأمر- والفعلُ منه صلى الله عليه وسلم؛ فيكون سنّةً. والله أعلم. إشارة إلى أهمية السنّة وأَودُّ الآن أن أُقدِّم الإشارةَ إلى أهمية السنّة بمعناها العامّ وأهمية التمسُّك بها. ويكفي في ذلك ما ورد من الآيات البيّنات والأحاديث الصحيحة من مثل قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهاكُم عَنْهُ فَانتَهُوا ... } 1. وقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَومَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً ... } 2. وقوله: {مَن يُطِع الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} 3. وقوله تعالى: {يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُم فِي شَيءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ والرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ

_ 1 7: الحشر: 95. 2 21: الأحزاب: 33. 3 80: النساء: 4.

تُؤمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَومِ الآخِر ذَلِكَ خَيْرٌ وَأحْسَنُ تَأْوِيلاً} 1. ومِنْ مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فعليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعدي، تمسَّكوا بها، وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومُحْدَثات الأمور، فإن كل مُحْدَثة بِدعة، وكل بِدعة ضلالة" 2. وقوله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ" 3، وقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحْدَثَ في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدّ" 4. إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة الوافرة في الحث على السنّة والاستمساك بها، فكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كل ما فيهما حق وصواب، وليس فيهما شيء من الباطل أو الخطأ. والكتاب والسنة هما الأصل لشرع الله تعالى الذي لا نقص فيه ولا عيب، واعتقادُ هذا اعتقاداً جازماً من مقتضيات الإيمان بالله سبحانه والتسليم

_ 1 59: النساء: 4. 2 المسند: 4/126-127، وَرَدَ عنده الحديث مكرراً بألفاظ مختلفة متقاربة، عن العرباض بن سارية رضي الله عنه، وأبو داود، كتاب السنة، 5- باب في لزوم السنة، ح4607، والترمذي، 42- كتاب العلم، 16- باب ما جاء في الأخذ بالسنّة واجتناب البدع، ح2676: 5/43. 3 أخرجه البخاري في: 34- كتاب البيوع، 60- باب النَّجَش الفتح 4/355، ومسلم: 30- كتاب الأقضية، 8- باب نقْض الأحكام الباطلة، ح18، وأخرجه أبو داود وغيرهم. 4 أخرجه البخاري في: 53- كتاب الصلح، 5- باب إذا اصطلحوا على صلح جور ... الفتح: 5/301، وقال: "ما ليس فيه"، ومسلم: 30: كتاب الأقضية، 8- باب نقْض الأحكام الباطلة، ح17، وقال: "ما ليس منه"، وأخرجه أبو داود وغيرهم.

بأن الكتاب والسنّة وحيٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهذا يعني ضرورة التسليم لهما، واتخاذهما ميزاناً لأقوال الناس ومذاهبهم وأفكارهم لمعرفة صواب ذلك من خطئه، وعدم معارضتهما بشيء من الأقوال والمذاهب والآراء، بما في ذلك أقوالنا وآراؤنا. إن الكتاب والسنّة هما الميزان الحق الذي به نعرف صواب الأقوال والمناهج والمذاهب من خطئها وليس العكس، وعليهما ينبغي أن تُعْرض وليس العكس!!. {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِين} 1. {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً. وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلاً} 2، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِم} 3، {فَلاَ وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُم ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 4. ومهمّة المسلم تُجاه الكتاب والسنّة هي فهْمهما فهْماً صحيحاً،

_ 1 54: النور: 24. 2 82-83: النساء: 4. 3 36: الأحزاب: 33. 4 65: النساء: 4.

وتدبُّرهما، والعمل بهما، والدعوة إليهما. ليس لمسلم أن يُخالِف الكتاب والسنّة: وبناء على هذا فقد اتّضح أنه لا يصح لمسلم أن يُخالِف الكتاب ولا السنّة ولا يسعه ذلك، كيف والقرآن كلام الله تعالى، والسنّة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! مَنْ ذا الذي يريد أن يستدرك على الله أو على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يمكنه ذلك؟!. وقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم من الصحابة فمن بعدهم لا يختلفون على هذا المعنى، بل هم مُجْمِعون على ضرورة المتابعة للكتاب والسنّة وعلى استعظام الإعراض عنهما، وعلى أن كل أحد يؤخذ منه ويُرَدُّ عليه سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إذا سئل عن حُكمٍ ما فإنه كثيراً ما يحكي فعْل النبي صلى الله عليه وسلم ثم يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَومَ الآخِرَ ... } 1 2.

_ 1 21: الأحزاب: 33. 2 روى الإمام البخاري مثل هذا في مواضع متعددة في صحيحه ومن ذلك: في 14- الوتر، 5- باب الوتر على الدابة الفتح: 2/488، و18- تقصير الصلاة، 11- باب مَنْ لم يتطوع في السفر دُبُرَ الصلاة وقبلها الفتح: 2/577، وكذلك يُنظر الثلاثة أبواب قبله، وكذلك البخاري، 25- الحج، 80- باب ما جاء في السعي بين الصفا والمروة، الفتح: 3/502 في موضعين، وكذا في البخاري، برقم 1640، و 1647، الحج، و 6705، الأيمان والنذور.

وكذا كان يفعل ابن عباس رضي الله عنهما1. قال الشافعي: ولا أعلم من الصحابة ولا من التابعين أحداً أُخْبِر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قَبِل خبره، وانتهى إليه، وأثبت ذلك سنّة2. وقال الأوزاعي: إذا بلغك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث: فإياك أن تقول بغيره، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مبلِّغاً عن الله تعالى 3. وقال الربيع: روى الشافعي يوماً حديثاً فقال له رجل: أتأخذ بهذا يا أبا عبد الله؟ فقال: متى ما رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً صحيحاً فلم آخذ به، فأشهدكم أن عقلي قد ذهب4. وقال الربيع: سمعت الشافعي وسأله رجل عن مسألة فقال له: يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها كذا وكذا. فقال له السائل: تقول به؟ فرأيته أُرعد وانتفض وقال: يا هذا أيُّ أرضٍ تقلّني وأيُّ سماءٍ تظلّني إذا رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فلم أقل به؟! نَعَمْ على السمع والبصر5. وقال ابن أبي حاتم: أخبرني أبو محمد السجستاني فيما كتب إليّ عن

_ 1 وقد جاء هذا عنه في عدة مواقف، منها في: البخاري -نسخة الفتح-برقم 774، الأذان، وبرقم4911، تفسير القرآن، وبرقم 5266، الطلاق، والفتح: 3/474. 2 مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنّة، للسيوطي: 34. 3 المصدر السابق: 20-21. 4 تقي الدين السبكي في معنى قول الإمام المطلبي: "إذا صح الحديث فهو مذهبي" ضمن الرسائل المنيرية: 3/98. 5 المصدر السابق: 3/98-99.

أبي ثور: سمعت الشافعي يقول: كل حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قولي وإن لم تسمعوه منّي1. وقال مالك: لاتُعارضُوا السنّة وسلّموا لها2. قال مَعْنٌ: سمعت مالكاً يقول: إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنّة فخذوا به وما لم يوافقهما فاتركوه3. وصح عن الإمام أبي حنيفة وعن الإمام أحمد نحو ذلك. وقال مجاهد والشعبي والحاكم ومالك: ليس من أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم4. وقال الإمام السبكي في مسألةٍ خلافية وهي مسألة ما إذا جاء قولٌ للشافعي يخالف حديثاً، فهل يؤخذ بالحديث أو يؤخذ بقول الشافعي؟ لأنه قرر أنه لا يخالف الحديث وأن الحديث إذا صح فهو مذهبه5: قال: والأَولى عندي اتّباع الحديث ولْيفرض الإنسان نفسه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمع ذلك منه، أَيَسَعُهُ التأخر عن العمل به؟! لا والله، وكلّ أحد

_ 1 المصدر السابق: 3/99. 2 مفتاح الجنّة في الاحتجاج بالسنّة: 41. 3 تقي الدين السبكي في رسالته: "معنى قول الإمام المطلبي": "إذا صح الحديث فهو مذهبي": 3/105. 4 المصدر السابق: 3/105. 5 المصدر السابق 3/ 10.

مكلّف بحسب فهمه1، أي بحسب فهمه للكتاب والسنّة وَفْق القواعد والضوابط في ذلك. وقال في موضع آخر: والذي أقوله: إن المبادرة إلى امتثال الأمر مطلوبةٌ كمن سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم لا رخْصة له في ترْكه2. ومِنْ هذا كله نخرج بحقيقةٍ واضحة هي أنه ما كان لأحد من السلف الصالح رضوان الله عليهم: من الصحابة ومن بعدهم من الأئمة أن يكون له الحق في مخالفة سنّة النبي صلى الله عليه وسلم، بل هم مُجْمعون على احترامها واتّباعها. على أن المراد باتّباع السنّة إنما هو اتّباعها وَفْق هَدْيها، سواء أفي مسألة الدعوة إليها أم الاهتداء بهَدْيها في سائر شئون الحياة، ولهذا أَنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من أخطأ في ظنه أنه يجوز له أن يغلوَ في الدين طالما أنه خَيْر، فقد أخرج البخاري وغيره عن أنس: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أُخْبروا كأنهم تَقَالّوها فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟! قد غفر الله له ما تقدم من ذَنْبه وما تأخر. قال أحدهم: أمّا أنا فأنا أصلِّي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أُفطِرُ، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أَمَا والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكنّي أصوم وأُفْطِرُ،

_ 1 المصدر السابق: 3/102. 2 المصدر السابق: 3/104.

وأُصلِّي وأَرْقُدُ، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنَّتي فليس منّي" 1. فإذا تقرر لديك يا أخي ما سبق؛ فاعلم أن الناس تجاه التمسك بالسنّة على أحوال، ولكنْ هناك داءان لهما أثرٌ كبير في حياتنا تُجاه التمسك بالسنّة على مختلف أحقاب التاريخ الإسلامي هما: 1- الإعراض عن السنّة أو التساهل في الاستمساك بها لأيّ سبب من الأسباب التي قد لا تَخْرجُ عن أمرين، هما: أ - الجهل. ب- ضعْف الإيمان. 2- التمسك بها على غير بصيرة ودون فِقْه لها، وذلك في صورةٍ أو أكثر مما يلي: أ - عدم الاهتداء بهديها الصحيح في التطبيق السلوكيّ لها. ب- عدم الاهتداء بهديها الصحيح في الدعوة إليها. جـ- الاهتمام بالأخْذ ببعضها على حساب بعضها الآخر. وهذا الثاني هو موضوع هذه السطور.

_ 1 أخرجه البخاري: 67- كتاب النكاح، 1- باب الترغيب في النكاح الفتح 9/104، ومسلم بنحوه: 16- كتاب النكاح، ح5، 2/1020، وأخرجه أبو داود في كتاب التطوع، 37 باب، وغيرهم.

المبحث الثاني

المبحث الثاني بيان المنهج والأسلوب الصحيحين للأخذ بالسنة والدعوة إليها المظاهر والأدلة ... المنهج والأسلوب الصحيحان في الأخذ بالسنة والدعوة إليها - المَظَاهِرُ والأدلة- لكلٍ من المنهج والأسلوب ارتباطٌ وثيق بالفكرة -أيّ فكرة- وبطريقةِ عرْضها. ولأثر كلٍ منهما انعكاسٌ تلقائي على الفكرة، وكم من قضية كانت حقاً ولكن أساء إليها منهجُ أو أسلوبُ عرْضها. ولا يكفي أن تكون الدعوى صحيحة لِيَقْبَلها الناس، حتى تُعْرَض عليهم بما يناسبها من المنهج والأسلوب الصحيحين. وهذا هو الأمر الذي يَفْرِضه الإسلام على الداعية حين يدعو إلى شيء من هَدْي الدين؛ فأوجب أن يُدْعى إليه بمنهجٍ سديد وأسلوب صحيح، وإلا فلا يَسُوغ لغير القادر أن يسيء إلى هذا الدين بأخطائه الشخصية منهجاً أو أسلوباً، وأنّ عليه -إذا كان غير متأهّلٍ للدعوة إليه-أن يتأهّل أَوّلاً، قبل أن يدعو إليه. والأدلة الموجبة لاتّباع المنهج والأسلوب الصحيحين كثيرة، وسأقتصر هنا على ذكر بعض الآيات والأحاديث في الموضوع، ومن ذلك: 1- اتخاذ الرسول صلى الله عليه وسلم أُسوةً حسنة: قال الله تعالى آمراً بالاقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم والأخذ بسنته والاهتداء بهدْيه:

{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً} 1. وقال صلى الله عليه وسلم: "صلّوا كما رأيتموني أصلي" 2 وقال: "خذوا عنّي مناسككم فإني لا أدري، لعلّي لا أحج بعد حجتي هذه" 3. 2- الدعوة على بَصيرةٍ: قال تعالى في أهمية البصيرة في الدعوة: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 4. وقال صلى الله عليه وسلم: "من يُرِد الله به خيراً يفقّهه في الدّين" 5.

_ 1 21: الأحزاب: 33. 2 أخرجه البخاري: 10- الأذان، 18- باب الأذان للمسافر، فتح الباري:2/111 من حديث مالك بن الحويرث، رضي الله عنه، وأخرجه أيضاً في كتاب الأدب، باب27، وأخرجه أحمد في المسند: 5/53. 3 أخرجه أحمد بن حنبل: 3/337، 338، ومسلم: 15-الحج، ح3102/943، وأبو داود: 5-المناسك، باب رقم78،2/496، والنسائي: الحج، باب الركوب إلى الجمار ... ح3064، 5/219. 4 108:يوسف:12. 5 أخرجه البخاري في مواضع من صحيحه، منها: 57-فرْض الخمس، 7-باب قول الله تعالى: {فأَنّ لله خُمُسَهُ وللرسول} ، الفتح6/217، و96-الاعتصام بالكتاب والسنّة، 10- باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين ... "، 13/293، وأخرجه مسلم: 33-كتاب الإمارة ح175، 3/1524، وأخرجه في الكتاب نفسه ح100، وأخرجه الترمذي وغيرهم.

3- الحكمة والرفق في الدعوة: قال سبحانه في أهمية: الحكمة1، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِه وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين} 2. وقال صلى الله عليه وسلم: "من يُحْرم الرفق يُحْرم الخير" 3. وقال: "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا يُنْزع من شيء إلا شانه" 4. وقال: "إن الله رفيق يُحِبُّ الرفْق في الأمر كله" 5. وقال: "يَسِّروا ولا تُعسّروا وَبشِّروا ولا تُنفّروا" 6.

_ 1 يُنظر الموضوع الآتي بعنوان: الحكمة في الدعوة إلى السنّة وصُوَرٌ مِن مظاهرها، ويُنظر تفنيد الشبهة المثارة حول هذا المبدأ في الموضوع الآتي بعنوان: أحاديث ظاهرها يُعارِض مبدأ الرفق والحكمة. 2 125: النحل: 16. 3 أخرجه مسلم: 45- كتاب البر والصلة والآداب، ح74-76 4/2001، وأخرجه ابن ماجه: 33- كتاب الأدب، 9- باب الرفق 2/1216، وأحمد في المسند: 4/362،366. 4 أخرجه مسلم، في الموضع السابق، ح78 4/200، وأخرجه أبو داود 9- الجهاد، 1- باب ما جاء في الهجرة وسكنى البدو 3/7، وأخرجه أحمد 6/58 و112، و125 و171، و206، و222. 5 أخرجه البخاري: 88- استتابة المرتدين، 4- إذا عرّض الذمي أو غيره بسبّ النبي صلى الله عليه وسلم....، الفتح 12/280، وفي مواضع أُخَرَ. وأخرجه مسلم في مواضع متعددة، منها الموضع السابق، ح77، وأخرجه ابن ماجه: 33- كتاب الأدب، 9- باب الرفق 2/1216 وغيرهم. 6 أخرجه البخاري عن أنس، 3-كتاب العلم، 11- باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخوّلهم بالموعظة والعلم كي لا يَنْفِرُوا، الفتح 1/163، وفي مواضع أخر. وأخرجه مسلم في: 32- الجهاد، ح 4، وفي مواضع أُخَرَ، وأحمد في مواضع متعددة منها: 1/229و283.

وفي الآية الآتية إشارة إلى أهمية المنهج الصحيح في مجادلة المخالفين من الكافرين من أهل الكتاب، فهي تَنْهى المؤمنين عن مجادلتهم إلا بالتي هي أحسن، وليس هذا فحسب بل الآية تأمر المؤمنين بإعلان الحق الذي يؤمنون به ويدعوهم إليهم دِينُهم، ومِنْ ذلك ما يوافقهم عليه أهل الكتاب من أصول الإيمان، وفي هذا إشارة إلى عدم تحاشي إعلان الحق الذي يشاركنا في الإيمان به أهل الكتاب: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُم وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَينَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُم وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُم وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون} 1. بل تذهب الآية الآتية إلى أبعدَ مِنْ هذا، إذ تأمر المؤمنين أن يبتعدوا عن سبّ الآلهة الزائفة التي يعبدها المشركون من دون الله، ومع أن مثل هذا المسلك حق في ذاته إلا أنه قد يجرّ المشركين إلى أن يسبّوا الله عَدْواً بغير علم، فلهذا نهى الله المؤمنين عن سبّ آلهة المشركين الزائفة، وفي هذا تفقيه للمؤمنين وأَمْر لهم أن ينظروا في عواقب الأمور وفي تحقيق المقاصد الشرعية: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوَاً بِغَيْرِ عِلْم} 2.

_ 1 46: العنكبوت: 29. 2 108: الأنعام: 6.

4- تبليغ الدعوة البلاغ المبين: قال تعالى مبيّناً لعباده المؤمنين أهمية البلاغ والبيان وضرورة العناية بهما وبما يحققهما من الوسائل: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 1. وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 2. 5- العناية بفقه الدين وفقه الدعوة إليه: قال تعالى في أهمية الفقه في الدين والدعوة إليه: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجُدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً، وَإِذَا جَاءَهُم أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَو رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَولا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُم وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} 3. وقال: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} 4. والفقه والبصيرة مما وصف الله به عباده الذين سمّاهم سبحانه: "عباد الرحمن" فَذَكَر أن مِنْ صفاتهم: {وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا

_ 1 54: النور: 24. 2 4: إبراهيم: 14. 3 82-83: النساء: 4. 4 24: محمد: 47.

عَلَيْهاصُمّاً وَعُمْياناً} 1. 6- الوسطية في الدعوة: قال سبحانه في وصْف عباد الرحمن أيضاً منبّهاً على أهمية التوسط وعدم الإفراط والتفريط: {وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} 2. وقال عزّ وجل محذّراً من الغلوّ: {يا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاّ الْحَقَّ} 3. وقال سبحانه: {قُلْ يا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُم غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثيراً وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيل} 4. 7- سلامة القلب للمؤمنين: ذَكَر اللهُ عزّ وجل أَنّ من وصْف المؤمنين: {وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِم يَقُولُون رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} 5.

_ 1 73: الفرقان: 25. 2 67: الفرقان: 25. 3 171: النساء: 4. 4 77: المائدة: 5. 5 10: الحشر: 59.

8- تحاشي ما يَصْرف الناس عن الهداية: قال سبحانه على لسان فئة من المؤمنين المفلحين: {وَقَالَ مُوسَى يا قَوْمِ إِن كُنْتُمْ آمُنْتُم باللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنْتُم مُّسْلِمِينَ، فَقَالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظّالِمينَ} 1. وقال على لسان إبراهيم الخليل عليه السلام: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} 2. 9- بَذْل الوسع في الاستمساك بالدِّين: قال تعالى في الاستمساك بأحكام الإسلام وتعاليمه بقَدْر الاستطاعة من غير تقصير: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُم وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا ... } 3. وقال صلى الله عليه وسلم: "فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم" 4. وقال صلى الله عليه وسلم: "إنّ هذا الدين يُسْر ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا" 5.

_ 1 84-85: يونس: 10. 2 5: الممتحنة: 60. 3 16: التغابن: 64. 4 أخرجه مسلم: 15- الحج، ح 412، باب فرض الحج مرة في العمر 2/975، وأخرجه غيره. 5 أخرجه البخاري: 2- الإيمان، 29- باب الدّين يسر ... ، الفتح 1/93، وفي مواضع أخرى، وأخرجه النسائي، 47- كتاب الإيمان، 28- باب الدّين يُسْرّ، 8/106، وأحمد بن حنبل: 5/69. 1 125: النحل: 16.

الحكمة في الدعوة إلى السنة وصور من مظاهرها

الحكمة في الدعوة إلى السنة وصور من مظاهرها مدخل ... الحكمة في الدعوة إلى السنّة وصُوَرٌ من مظاهرها الحكمة في الدعوة إلى السنّة-وإلى سائر أحكام هذا الدين-علاجٌ لكثيرٍ مِن الأخطاء الواقعة في هذا الباب. ولا يَخفى أيضاً أنّ الحكمةَ في منهج الدعوة إلى هذا الدين تُمَثِّل جانباً كبيراً مِن ذلك المنهج، ويكفي أنه تعالى قد أَمر بها فقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِه وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} 1. إنّ نصوص الوحْي أمثال هذه الآية تدل بعمومها على أن الحكمة في أغلب الأحوال تقضي بالأخذ بالرفق واللين والتيسير، على أن الحكمة كلمة عامّةٌ جميلة المعنى، تقضي بوضع الشيء في موضعه المناسب، وباختيار التصرف الأنسب، والوسيلة والأسلوب المناسبين كذلك للدعوة إلى الخير والمعاني الفاضلة، حتى تشملَ الشدة في موضعها الشرعي المطلوبة فيه، لكنّ الواقع شاهدٌ بأنّ موضعها المطلوبة فيه- في مجال الإصلاح -في بعض الأحيان نادر جداً، وأنه مِن الندرة بحيث تبدو الشدة، مِن عموم هذه النصوص، غير ملتفَتٍ إليها، ذلك لأن هذه الشدة ليست هي المبدأ الأصل في التعامل

الشرعي، وإنما يُلجأ إليها بعد وجود أسبابها ودواعيها الشرعية النادرة. وهناك صُوَرٌ كثيرة من مظاهر الحكمة في الأخذ بالسنة سواء في مجال التطبيق العملي لها أو في الدعوة إليها، التي إذا أخذَ بها الإنسان كان متَّبعاً للكتاب والسنّة في هذا الباب؛ فمن ذلك:

السماحة في الدعوة

1 - السماحة في الدعوة: السماحة في الدعوة إلى السنة سِمَةٌ للدعوة الصحيحة المُلْتَزِمة بأحكام هذا الدين، والسماحة تقتضي حُسْنَ الخُلُق وتقدير ظروف الناس، وتتجلى السماحة في مظاهر متعددة، في سلوك الداعية وتصرفاته، وفي أسلوب دعوته الناس، فينبغي للمسلم العناية بهذا الخلق الإسلامي الرفيع. وبما أن السماحة صفة من الصفات التي تميّز بها هذا الدين تتجلى في جميع أحكامه، فكذلك ينبغي أن تَظْهَرَ هذه السماحة في أسلوب الدعوة إليه ومنهجها، فهو دينٌ سمْحٌ يجب أن يُدْعى إليه بالسماحة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "بُعثتُ بالحنيفية السمحة" 1. وقال صلى الله عليه وسلم: "أحبُّ الدِّين إلى الله الحنيفية السمحة" 2.

_ 1 علّقه البخاري في صحيحه بصيغة الجزم، كتاب الإيمان، باب: الدين يسْر. بلفظ: أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ، وأخرجه أحمد في المسند، برقم: 2108، بسندٍ فيه محمد ابن إسحاق، وقد عنعنه، وهو مدلِّسٌ، ولفظه: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الأَدْيَانِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ قَالَ: "الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ". وشواهد معناه في طبيعة هذا الدين مِن المعلوم مِن الدين بالضرورة. 2 سلسلة الأحاديث الصحيحة، للشيخ محمد ناصر الدين الألباني: 2/569، وقد علَّقه البخاري في الإيمان "باب الدِّين يُسْرٌ".

وهذا هو الأسلوب المؤثر في الناس، ويشهد بهذا الحكمِ: الشرعُ والعقلُ والفطرةُ والواقعُ، وقد قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُم وَلَو كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِن حَوْلِك} 1، فاللين في موضعه الشرعي من السماحة المطلوبة شرعاً. وليس من السماحة حَمْل الناس على رأي واحدٍ إذا كان في المسألة رأيان صحيحان، أو على صورةٍ واحدة إذا كان في المسألة صورتان مشروعتان. وليس من السماحة حمْل الناس على الأشد دائماً. وليس من السماحة حمْل الناس على الأَوْلى دون مراعاةٍ لظروف الناس التي يراعيها الشرع، أو دون مراعاة لطبيعة الحكم الشرعيّ في المسألة. وليس من السماحة عدم عُذْرِ من عَذَره الله. إنه ليس مِن السنّة الدعوة إلى السنّة بالغِلظة والتضييق اللذين لا مجال للسماحة معهما، وهذا يخالف طريقة النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى أحكام الدين وهدْيه؛ فكيف ندعو إلى السنّة متنكِّبين هدْي النبي صلى الله عليه وسلم!.

_ 1 159: آل عمران: 3.

الرفق في الدعوة

2- الرفق في الدعوة: الرفق في الدعوة إلى الله تعالى بعامّة والدعوة إلى السنّة بخاصة مبدأٌ شرعيّ، ولاسيما في مجال الدعوة إلى الله تعالى، والمراد به التلطف في إيصال الدعوة إلى الآخرين، وليس المراد المداهنة والتنازل عن شيء من هدْي

الإسلام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم قولاً عامّاً في الرفق وعاقبته، فقال: "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه" 1. فأراد النبي صلى الله عليه وسلم هذا العموم "لا يكون في شيء ... ولا ينزع من شيء"، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله" 2. فلا يستطيع أحد، بعد هذا البيان النبوي الواضح، أن يُخْرِج الدعوة من هذا الحكم العام. والرفق المشروع في الدعوة إلى الله تعالى فرعٌ من فروع السماحة، ومَظْهَرٌ من مظاهرها، ودليل على التخلُّقِ بها. وليس من الرفق تجاهل ظروف الناس وأعذارهم. وليس من الرفق العجلة المذمومة. وليس من الرفق عدم مراعاة سنّة التدرج في الدعوة والبيان والتعليم المتآخية مع سنة الله في الخَلْق. وليس من الرفق الفُحْشُ والبذاء. وليس من الرفق والسماحة العدول عن هدي النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم بصفة عامة. وليس من الرفق والسماحة مُجَانَبَةُ هدْي النبي صلى الله عليه وسلم في أنه ما خُيّرَ بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً. إنه لا يَصحّ أن ندعو إلى السنّة بما ينافي طبيعتها وطبيعة هذا الدين

_ 1 مسلم، برقم: 2594، البر والصلة والآداب. 2 البخاري، برقم: 6927، استتابة المرتدين، ومسلم، برقم: 2593، البر والصلة والآداب.

مِن الشدة والجفاء، على الرغم مِن تأكيد الرسول صلى الله عليه وسلم على الرفق بعامّةٍ في الأمور كلها.

اتباع السنة شكلا وروحا

3- اتّباع السنّة شكلاً وروحاً: من الطرق والأساليب التي يَظْلم بها المسلم السنُّة ويَظْلم بها هَدْي هذا الدين أن لا يأخذ بالسنُّة شكلاً وروحاً، صورةً وحقيقةً، ظاهراً وباطناً، أسلوباً ومضموناً، طريقةً وهَدْياً، وإن من صُوَرِ الإساءة إلى أحكام هذا الدين، وإلى سننه، أن ترى المرء يحرص فيها على الشكل ويزهد في روحها، وفي حقيقتها، وفي مضمونها، وكم يكون الظلم جائراً حينما يتصوّر المسلم ويصوِّر أنّ هَدْي السنن النبويّة إنما هو في الشكل والصورة فقط، وينسى أو يتجاهل الغاية منها، والمعنى فيها، والسرّ الذي شُرِع من أجله الأخذ بالشكل والصورة. ومما يُؤْسَفُ له أن ترى بعض الناس إذا أوضحت له خطأَ هذا المسلك في طريقة اتّباع هَدْي الإسلام وسننه يأخذ بالمبادرة باتهامك بأنك تكره السنة واتّباعها، وربما أَلقى عليك درساً في بدهيةٍ من البدهيات، وهي أن الصورة والشكل أمرٌ ملازم للسنة، وأنه جزء من السنة، أو أَلقى عليك درساً في أهمية اتّباع السنة!!. وكل ذلك خروج عن الموضوع المختلف فيه إلى موضوع لا خلاف فيه، ولا ينبغي أن يكون فيه خلاف بين مسلمَيْن.

التفريق بين مواطن التصريح ومواطن التلميح

4- التفريق بين مَوَاطن التصريح ومَوَاطن التلميح: مِن الفقه أن يُراعِي الإنسان التفريق بين مواطِن كلٍ من التصريح والتلميح، ومواطن كلٍ مِن التفصيل والإجمال؛ فلا يجعل التصريح في مكان

التلميح، ولا يجعل التفصيل في مكان الإجمال، ولا العكس؛ وتظهر أهميّة هذا عند التعرض لبعض الموضوعات، والتعرّض لبعض النصوص وشرحها، والاستدلال بها، فكم يُخالِف الداعي الهدي النبوي حينما يأخذ في تفصيل الإجمال المقصود في بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، في دروس أو ظروف أو حالاتٍ ليس من المقبول فيها عقلاً أو شرعاً أنْ يتجشّم الداعي والمتحدث ذلك التصريح وذلك التفصيل الذي لم يراعِ فيه حال المخاطبين.

مراعاة التدرج في الدعوة

5- مراعاة التدرّج في الدعوة: مِن الحكمة والاتّباع أن يراعي الداعية مبدأ التدرج في الدعوة إلى السنّة؛ فلقد استقر في المنهج الشرعي النظرُ إلى المقاصد والغايات ورعايتها؛ ومما يوصِلُ إلى تحقيق الغايات والمقاصد الأخذ بسنّة التدرج؛ لئلا تُثْمِرَ الخطوة نتائجَ عكسيّة غير مرغوبٍ فيها؛ وتطبيقاً لهذا المعنى ينبغي أن يكون معلوماً لدى الداعية أنّ تحصيل الأصول مقدَّمٌ على تحصيل الفروع، ولا ما نع مِن تحصيل شيءٍ مِن الفروع قبل الأصول، إذا كانت في الطريق، ولم يكن ذلك على حساب تحصيل الأصول، أمّا إذا كان تحصيل الفروع على حساب الأصول فإن الحكمة، وإنّ مراعاة سنّة التدرج تقتضي تأجيل هذا المقصد إلى وقته المناسب.

تقديم الأهم على المهم

6- تقديم الأهم على المهم: مِن الحكمة والاتّباع مراعاة: تقديم الأهم على المهم في تطبيق السنّة والدعوة إليها؛ وهذا مطلب شرعيّ ينبغي أن يكون واضحاً في ذهن الداعية

وفي همّه، وهو أنه متى ما تزاحمت الفضائل والأحكام؛ فإنّ عليه أن يُقَدِّم الأهمّ على المهم؛ ليكون دائراً مع هذه القاعدة الشرعية الحكيمة؛ وليكون سائراً على الطريق السديد لتحقيق ما يريد. ومتى ما تزاحمت أبواب الدعوة أو مجالاتها في موقفٍ ما، أو في ظرفٍ ما، أو مع شخصٍ ما؛ فإنّ عليه أن يُقدِّم الأَولى أو الأَجدى في مقاصد الدعوة وغاياتها.

دفع المفسدتين بأخفهما

7- دفْع المفسدتين بأخفهما: من الحكمة والاتّباع أيضاً: مراعاة دَفْع المفسدتين بأخفهما في تطبيق السنّة والدعوة إليها، وهذه قاعدة شرعيّة أُخرى يقال فيها ما يقال في القاعدة السابقة؛ إذْ كلاهما مِن مَعينٍ واحدٍ إلا أنّ هذه في باب دفْع المفاسد، وتلك في باب تحصيل المصالح.

ترك الأولى لمصلحة راجحة

8- ترْك الأَوْلى لمصلحةٍ راجحة: مِن الحكمة: الأخذ بمبدأِ تَرْك الأَولى لمصلحة شرعية في تطبيق السنّة والدعوة إليها، وهذه قاعدةٌ شرعيةٌ أيضاً ينبغي للداعية أن يراعيها في الدعوة إلى الله تعالى، ولا سيما في باب الدعوة إلى السنن؛ وفي هذا رعاية للغايةِ مِن الدعوة، وهي هداية المدعوّ والوصول معه إلى قناعة بالإسلام وهدْيه كله، فإذا تعارضت مصلحتان قُدِّم تحصيل أَوْلاهما في منهج هذا الدين؛ فالأَولى يُقَدَّم على ما دونه.

الأخذ بالرخص الشرعية

9- الأَخْذ بالرخَص الشرعية: مِن علامات الاتّباع: الأخْذُ بالرّخص في تطبيق السنّة والدعوة إليها في مواضعها المشروعة، وهذا وجْهٌ مِن أَوْجُهِ اتِّباع أحكام هذا الدين وحِكَمِهِ، ولا فرق بين اتِّباعه في هذا وبين اتّباعه في الأخذ بالسنّة؛ فكلٌ شرْعٌ، وإنما يفرِّق بينهما من لم يفقه الدين.

البعد عن نزعة التكفير والتفسيق والتبديع

10- البعد عن نزعة التكفير والتفسيق والتبديع: من الحكمة والسماحة الأخذ بجانب الورع فيما يتعلق بالحكم على بواطن الناس، وعلى ما في طويات أنفسهم، أو استسهال الحكم عليهم بالكفر ونحوه؛ فإنّ إصدار هذه الأحكام منزلَقٌ خَطِرٌ، ومِثْل هذا إنما هو حقٌّ لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وليس لأحدٍ دونهما القول في هذا إلا بحكم الله ورسوله. ولا تخفى نصوص الوعيد الشديد الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق مَن أقدم على هذا الأمر بغير أمر الله ورسوله. ولقد انتشر في المسلمين منذ سنوات داء التكفير والتبديع على غير هدْي الدين وحُكْمه، وإنما على منهج الخوارج، ولكنه للأسف، قد انتشر باسم منهج أهل السنّة والجماعة، وباسم اتّباع الكتاب والسنّة؛ فأصبح الإنسان يُشاهد في المسلمين مَن يتقرَّب إلى الله تعالى بهذا المنهج وهذا الخُلق؛ فيُصبِح الحكم العامّ في المسلمين -عنده-هو البدعة؛ ويُرَتِّب على ذلك وجوب الهجْر، وهو حكمه عنده الذي ينتهجه في حقِّ صاحب البدعة!. لقد انتشر الحقد والبغضاء بين المسلمين بسبب هذه الوجهة، بل الحقد

الدينيّ، للأسف، وهو أمرٌ ليس عليه مَسْحةٌ مِن دينٍ، ولا مَسْحةٌ مِن خُلُقٍ، ولا مَسْحةٌ مِن عقْل1. وهذا الداء ينبغي أن يتصدى له عباد الله المخلصون العالمون بشرعه الداعون إليه، وأن يُحِلُّوا محله الالتزام بأحكام الإسلام، والأخوّة والمحبة، وحُسْن الظن، والوَرَع والحذر مِن الحيلولة بين الناس وبين رحمة الله وفضله، ويُحِلُّوا محله، أيضاً، منهج أهل السنّة والجماعة، والتعاون والتكافل، وسائر ما جاء به الإسلام لإسعاد البشرية وهدايتها. نسأله تعالى التوفيق والسداد.

_ 1 وقد بحثتُ هذه النزعة في السلوك والفهم، وناقشتها في كتاب: الأخلاق الفاضلة: قواعد ومنطلقات لاكتسابها"، في الفصل السابع منه: خُلُق التعامل مع المخالف، ط. الأُولى، الرياض، 1417هـ. وقد توصَّلتُ فيه إلى نتائج أَحَمَدُ الله عليها، وأَتمنى أن يُفِيد منها الراغب في الحق في هذا الباب.

البعد عن منهج تعميق نقاط الاختلاف وتضخيمها مهما صغرت

11- البعد عن منهجِ تعميق نقاط الاختلاف وتضخيمها مهما صَغُرتْ: من الحكمة والسماحة البعد عن نزعة المشاكسة بالحق وبالباطل، وإغفال النظر إلى نقاط الاتفاق مع الطرف الآخَر، والبعد عن نزعة تضخيم نقاط الاختلاف؛ حتى تصبح كأنها هي الوحيدة في نقاط التعامل مع الطرف الآخَر!. والمسلمون مهما كان الخلاف بينهم، فإنّهم يتفقون في أصْل الأصول: شهادة أنْ لا إله إلا الله، وأنّ محمداً رسول الله؛ فالغفلة عن هذا والتنبّه لنقاط الاختلاف الفرعية أو الاجتهادية، ليس صواباً ولا حكمةً، بل هذه ظاهرةٌ غالباً ما تَنِمُّ عن عدم الفقه أو عدم الإخلاص، وكثيراً ما تَدُلّ هذه الظاهرة

على نزعةٍ تجاريةٍ في تصدير الدين واستيراده، وإنْ شئتَ فقلْ: وتحريفه. نسأل الله السلامة والعافية. أمّا الإسلام فإنّه لا يُقِرُّ هذا الاتجاه الخلافيّ المَعْرَكِيّ [نسبةً إلى المعركة] في أسلوب الدعوة، وإنما يُشيع أُسلوب السماحة، والعذر في مواطن الاجتهاد السائغ، والرفق في معالجة نقاط الخلاف، وإقرار الاجتهاد المشروع-ولو كان صاحبه مخالفاً في اجتهاده1.

_ 1 للدكتور يوسف القرضاوي كتاب قيِّمٌ في معالجة فقْه الاختلاف في هذا الباب، عنوانه: الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم، دراسةٌ في فقه الاختلاف في ضوء النصوص والمقاصد الشرعية، د. يوسف القرضاوي، القاهرة، دار الصحوة، ط. الثالثة، 1412هـ-1991م.

السلام والتبسم في وجه أخيك

12- السلام والتبسّم في وجْهِ أخيك: من السماحة والحكمة الحرص على السلام على أخيك المسلم، أيّاً كان حاله، والتبسّم في وجْهه، وطلاقة الوجْه، وإظهار الأُخوّة والمودّة؛ لأنّ هذا هو هدْي الإسلام، لا ما يَنْتهجه بعض الناس اليوم مِن: الهجر، وترْك السلام، والاكفهرار وعبوس الوجْه؛ حتى يبدوَ الواحد وكأنه حاقدٌ على الدنيا كلها، أو كأنه بَيْن فئةٍ من الكافرين المحارِبين له!. ويَجْهل أو يتجاهل مِثْلُ هذا أن السنّة هي السلام، وردُّ السلام، والتبسّم والبِشْر، على ما تشهد به سنّةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته!.

السماحة فيما يتعلق باختلاف تخصصات الدعاة

13 - السماحة فيما يتعلق باختلاف تخصصات الدعاة: فمِن الحكمة والفقه السماحة في مجال اختلاف الأساليب والطرائق الدعوية، وفي مجال اختلاف تخصصات الدعاة، وتنوِّع الجهود الدعوية، طالما أنها سائرة في الطريق الدعويّ الشرعيّ؛ وليس في شيء مِن نصوص الشرع ما يوجب أن تكون الدعوة على نمطٍ واحدٍ أو مجالٍ واحدٍ، وإنما الذي جاءت به النصوص هو رسْم المنهج، وتحديد الغاية والهدف؛ فإذا تحققَ لداعيةٍ ما هذا وذاك كان سائراً في طريق الدعوة إلى الله تعالى؛ فلا يصحّ التحجير عليه بتحليلٍ أو تحريمٍ لم يأذن به الله تعالى. وبناءً على هذا فإنّ اختلاف تخصصات الدعاة ومجالاتهم، لا يصحّ أن يُنظر ‘إليه على أنه مِن قبيل الخلاف، وإنما هو مِن قبيل اختلاف التنوّع المطلوب لتحقيق الغاية الواحدة، وهي دعوة الناس إلى الله سبحانه، وإلى الأخذ بدينه الذي بعث به رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم. وعلى النهج كان المحققون أئمة السلف الصالح أئمة الهدى. وإنْ شئتَ فاقرأ شاهداً على هذا جواب الإمام مالك للعُمري العابد: فقد كتب هذا الثاني رسالةً إلى الإمام مالك يحضّه فيها على العزلة والانفراد والانقطاع للعبادة، ويُرغِّب مالكاً عن اجتماع الناس إليه لأخذ العلم؛ فكتب الإمام مالك له بقوله: إنّ الله تعالى قسّمَ الأعمال كما قسّم الأرزاق؛ فرُبَّ رجلٍ فتُح له في الصلاة، ولم يُفتَح له في الصوم، وآخَر فتُح له في الصدقة ولم يُفتَح له في

الصيام، وآخر فُتِح له في الجهاد ولم يُفتح له في الصلاة. ونشْرُ العلم وتعليمه مِن أشرفِ أعمال البر، وقد رضيتُ بما فتح الله عز وجل فيه مِن ذلك، وما أظن ما أنا فيه بِدُونِ [أيْ أَقَلَّ] مما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خيرٍ وبِرٍّ، ويجب على كلٍ منّا أن يَرضى بما قُسِمَ له. والسلام1. وعليك السلام ورحمة الله وبركاته أيها الإمام، وَلَيْتَك تعلم ما أصاب كثيراً مِن المسلمين مِن البعد عن هذا الهدْي، وهذا الفقه النفيس!. وما أسعدَ مَن أَخذَ بقولة هذا الإمام هذه، في قضايا التخصص في الدعوة، وتنوِّعِ الجهود الدعوية؛ فقال لأخيه: كلانا على خيرٍ وبِرٍّ، ويجب على كلٍ منّا أن يَرضى بما قُسِمَ له. والسلام!.

_ 1 مختصر منهاج القاصدين، 46، الحاشية، وهو في "سير أعلام النبلاء، للذهبي، كما في تهذيبه: نزهة الفضلاء، لمحمد حسن عقيل موسى، 2/625، وفي سِواهما بألفاظٍ، هذا واحدٌ منها.

المبحث الثالث

المبحث الثالث نقد المسالك المخطئة في باب التمسك بالسنة والدعوة إليها نظرات نقدية لمناهج وأساليب شائعة ... نظرات نقديّة1 لمناهج وأساليب شائعة تَهْدي النصوصُ السابقة كلُّها -وسواها كثير-إلى وجوب الأخذ بالكتاب والسنّة على بصيرةٍ وفقْهٍ صحيح. وكما توجب هذه النصوص الشرعية اتّباع السنّة فإنها توجب كذلك فِقْه السنّة الفقه السليم، ولهذا جاء الأمر بالتعلّم والتعليم، والأمر لمن لا يَعْلم أن يسأل من يَعْلم، وليس المقصود بالعلم الحفظ مجرّداً من الفقْه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يُرِد الله به خيراً يفقّهه في الدين". ووقوفاً عند معاني النصوص السابقة وما في معناها أَودُّ أن أستعرض فيما يأتي بعض النظرات النقدية لأخطاء بعض الناس في المنهج والأسلوب في الدعوة إلى السنّة، وفي تطبيقهم السلوكي لها، وما ينبغي تُجاهها. قواعدُ بين يدي النقد: قبل إيراد الانتقادات في هذا الباب أودُّ أن أُقَدِّم بعض القواعد والمنطلقات الموجزة في الأسطر التالية:

_ 1 هذه النظرات النقدية الآتية آراء للكاتب، كتبها في ضوء فقهه للكتاب والسنّة. ورأيُهُ عنده صواب يحتمل الخطأ. والله الموفق.

قواعد بين يدي النقد

قواعد بين يدي النقد مبدأ الدعوة إلى السنة في تطبيق السنة ... 1- مبدأ الدعوة إلى السنّة في تطبيق السنّة: 1- ينبغي أن نتّفق أَوّلاً على مبدأِ الدعوة إلى السنّة في تطبيق السنّة، والدعوة إلى اتّباع السنّة في الدعوة إلى تطبيق السنّة.

أي أنه ينبغي لنا أن نتَّفق أوّلاً على أمرين: أوَّلهما: وجوب اتّباع السّنّة في تطبيقنا لها. ثانيهما: وجوب اتّباع السّنّة في دعوتنا إلى تطبيق السّنّة أيضاً.

أهمية مراجعة منهجنا وأسلوبنا في الدعوة

2- أهميّة مراجعة منهجنا وأُسلوبنا في الدعوة: الحاجة ضروريّة لمراجعة منهجنا وأسلوبنا الدعويّين اللذين نتّبعهما في الدعوة إلى السنّة والعقيدة، وعند المراجعة سيتضح لنا أنَ أهم ما نحتاجه الآن في ذلك الحكمةُ والاستفادةُ من سِيَرِ السلف الصالح وتجاربهم، والاهتداء بالهَدْي النبويّ في منهج الدعوة وأسلوبها، بَيْد أنه لابدّ من اتّهام النفس ومراجعتها والتواضع في هذا الطريق. يجب أن نتّجه في هذه الفترة إلى الدعوة إلى السنّة في تطبيق السنّة؛ لنبتعد عن الإفراط والتفريط اللذين ضلت بهما فئات من الناس، نسأل الله التوفيق والهداية، فـ"من يرد الله به خيراً يفقّهه في الدين".

دعوة الداعي إلى السنة لاتمنع من نقده نقدا بناء

3- دعوة الداعي إلى السنّة لا تَمنع مِن نقْده نقداً بنّاءً: يُنْكِر بعضُ الناس أن يُنْتقد رأيه أو أن ينبّه إلى خطئه؛ لحجةٍ غريبةٍ واهيةٍ، وهي أنه يدعو إلى الكتاب والسنّة، لذلك لا يصح نقده!! وهذه مغالطة وتعامٍ عن الواقع، وإلا فكيف لا يُفرّق الإنسان بين منهجه وأسلوبه وبين الكتاب والسنة؟ كيف يرى منهجه وأسلوبه البشريّين معصومَيْن، لأنه يدعو للوحي المعصوم؟!.

انتقاد الداعي إلى الخير في أخطائه لايصد عن الخير

4- انتقاد الداعي إلى الخير في أخطائه لا يَصُدُّ عن الخير: وبعض الناس يرفض أن تُنْتقد أخطاؤه في منهجه وأسلوبه في الدعوة إلى السنّة، كما أنه يرفض أن يُنْتقد غيره من الداعين لها بحجةِ أنّ إيجابيةً ظهرتْ في المجتمعات الإسلامية -بسبب التركيز على الدعوة إلى السنّة- وهي اتجاه الناس، بسبب هذه الدعوة، إلى الاهتمام بالسنّة مع ما اشتملت عليه من قصور، وفي هذا خطأ ومغالطة للنفس وللآخرين. إنّ نقدنا لمنهج الدعوة إلى السنّة والأسلوب المتّبع في ذلك لا يعني إنكار الإيجابيّات، ووجود الإيجابيات لا يعني إنكار السلبيات والتغافلَ عنها أو تجاهلها بل العكس هو الصحيح، فينبغي أن يدفعنا حصول بعض الإيجابيات في منهجنا وأسلوبنا إلى الاهتمامِ بالنقد، والتعرفِ على ما يرافِق هذه الإيجابيات من سلبياتٍ، محافظةً على النتائج الطيبة في المنهج والأسلوب، وفي ذلك زيادة للإيجابيات، وتقليل للسلبيات.

أهمية كل من الفقه العلمي والفقه العملي

5- أهمية كلٍّ مِن الفقه العلميّ والفقه العمليّ: وهما أمران متلازمان، ولكن لا يُدْرِكهما جميعاً بعضُ الناس، فقد يُحَقِّقُ شيئاً من فقهها علمياً بَيْد أن الأمر يَفْلت منه في العمل فيطبّقها تطبيقاً لا يدل على فقهٍ بها، لأنه لا يُراعي هديَ السنّة في تطبيق السنّة أو لا يُراعي هديَ السنّة في الدعوة إلى السنّة، فيتخذ أساليب عملية منفّرة عنها، فهذا لم يفقه السنّة فقهاً عمليّاً، ولاشك في أنها مهمّة صعبة شريفة محبّبة للنفس، أن تسعى في فقْه السنّة بَيْد أنك تحتاج إلى صبر وطُولِ مِرانٍ.

وكثير من الناس من يَنْشط للأمر الأول أعني فقهها علميّاً، وينسى فقه العمل.. ولكنّ الموفق من يوفقه الله للأمرين معاً1.

_ 1 تُنظر أمثلة هذا الآتية قريباً.

لاتباع السنة علامات

6- لاتّباع السنّة علامات: لاتّباع السنّة علامات، منها: أ - حبّها حبّاً صادقاً وتعظيمها. ب- محاولة الاستمساك بها كلها والبدء بما هو أولى. جـ- عدم مزاحمتها بغيرها في الظاهر والباطن، وتقديهما على ما عداها عند التعارض. د - الحرص على تعلّمها ومعرفتها. هـ- الدعوة إليها، بالأسلوب الحسن اللائق بها. و عدم فتنة الناس عليها. ز - كَفُّ التطاول عليها، بالأسلوب المتعيّن في إنكار المنكر. حـ- حبّ المتمسّكين بها الداعين إليها وَفْق هديها.

لا يصرف عن السنة خطأ الداعي إليها

7- لا يصْرِفُ عن السنّة خطأُ الداعي إليها: لا يَصرِفْك -يا أخي- عن السنّة خطأ الداعي إليها، أو سوء تصرّفه، أو سوء فِقْهه، فتكون بذلك ممن يصرفه الباطل عن الحق والخطأ عن الصواب،

بل اتّبع الحق ممن جاءك لأنه الحق، لا لأنه دعاك إليه فلان أو فلان، وهذا مِنْ أوضح الأدلة على معرفتك لقدْر الحق وقيمته، ومن أوضح الأدلة على فقهك، وإلا تَسْلُكْ هذا المسلك الصحيح تكن ممن لا يرضى بالحق إلاّ بشرط عصمة الداعي إليه، وهذا الشرط لا يتوافر في غير النبي صلى الله عليه وسلم.

الموقف من خطأ الداعي إلى السنة

8- الموقف مِن خطأِ الداعي إلى السنّة: أ- إذا ساءك تصرفّ ممن يدعوك إلى السنة فلا تَقِفْ مِنْه موقف العدوّ ولا من السنّة، ولكن اقْبَلْ السنّة واشكر له دعوته إياك لها، واعْذره في خطئه واعْلم أنّ فيه شيئاً من الخير ولولا ذلك -غالباً- لَمَا دعاك لها، وأمّا خطؤه فلأنه ليس بمعصوم، وليس ناصحاً لنفسه من لا يقبل الخير إلا من معصوم عن الخطأ. ب- إذا أخطأ من يدعوك للسنّة أو العقيدة في طريقته أو فَهْمه فلا يكن جوابك ردّ فعل بارتكاب خطأ آخر، بل ينبغي أن يَحْمِلَك ذلك على الغيرة على العقيدة والسنّة بِالتماس الطريق الصحيح في فَهْمهما والدعوة إليهما، وإنما خطؤه داعٍ يدعوك لذلك، إنْ كنتَ مُحِبّاً لهذه العقيدة والسنّة اللتين أكرمك الله بهما، وقد يكون هذا المخطئ ليس لديه الأهلية للقيام بواجب الدعوة إليهما، وكأنه يقول لك بخطئه هذا: أنا راغب في الدعوة إليهما ولكني غير قادرٍ فَقُمْ أنت يا أخي بهذا الواجب فلعلك من القادرين عليه المتعيّن عليهم أداؤه!!.

خطأ التعصب وخطرة

9- خطأُ التعصب وخطرُهُ: يطول تعجّبي من شدة تَعَصُّب الناس لمتبوعيهم الذين لم يكتب الله لهم

العصمة، وأتساءل كثيراً وأُحار: كيف يَتَعَصّبُ الإنسان لمتبوعه الذي ليس بمعصوم ويَغْلو فيه، ويقلّده في الصواب والخطأ؟! وكيف يُصْبح الإنسان -في مِثْلِ هذه الحال- عدوّاً لنفسه، وعدوّاً لمتبوعه، وعدوّاً للناس، وعدوّاً للحق، في حين أنه قد لا يريد هذه المعاني كلها ولا واحداً منها؟! ولكنّه الخطأ المنهجي الذي يجرّ إلى هذه الأخطاء كلها. ولو أنه منذ البداية اقتدى برسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو نبيّ الله ورسوله المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى إنْ هو إلا وَحْيٌ يُوْحَى- لكان خيراً له وللناس وللحق!. على أنّ الإنسان ينبغي له أن يُفَرِّق بين التعصب والاتِّباع، والحدُّ الفاصل بينهما هو: قبول الحق إذا بان له، أو عدم قبوله؛ فمتى كان مُوَطِّناً نفسه على قبول الحق؛ ثم يَخْضع له متى ما تبيّن له؛ فهو ليس بمتعصِّب، ولا مانع في هذه الحال من أن يقتدي بمن يَصْلح للقدوة مِن العلماء، ما دام على هذا الشرط. أمّا إذا كان متَّبِعاً لمتبوعه على أي حال، بغضِّ النظر عن الدليل؛ فهذا هو المتعصِّب والمقّلِّد على غير دليل. وللحديث عن هذا الموضوع مجال أوسع غير هذا المجال.

التعصب واتباع السنة

10- التعصب واتّباع السنّة: إذا رأيتُ تعصُّبَ بعض الناس لمتبوعيهم سِوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغُلوَّهم فيهم وفي تقليدهم لهم في الخطأ والصواب، استشعر قلبي ضرورةَ تعصُّبي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسنّته وَفْق سنّته، من غير غلوّ ولا تفريط.

اشتراط الأهلية في الدعوة إلى السنة

11- اشتراط الأهلية في الدعوة إلى السنّة: إذا لم يُحْسن الإنسان الدعوة إلى السنّة ولم يستطع استيعاب هدْي الإسلام في الدعوة فَخَيْرٌ له وللسنّة وللناس أن يتركهم، فيكفّ بذلك شرّه عن السنّة وعن الناس؛ لأن المسألة درجات: أ - صَدٌّ عن السنّة -بأي أسلوب كان، ولو باسم الدعوة إليها-. ب- وإمساك عن الصدّ عنها. جـ- ودعوة إليها بأسلوب محبَّب. ولاشك أن الخير في الدعوة إليها بالأسلوب الحسن، لكن إذا لم يستطع الإنسان ذلك أو تَرَدَّد فِعْله بين الدعوة إلى السنّة والصدّ عنها فَكَفُّ شَرِّه أَوْلى وأَوْجَب، وهو في هذه الحال ليس من القادرين على الدعوة إليها، فالواجب عليه دعوة نفْسه إليها وتمسُّكها بها. ومعلوم أنّ من له مال وتحامَقَ في الإنفاق منه -ولو في بعض أوجه الخير والكرم مثلاً بحيث يَضُرُّ بنفسه، أو غيره ممن تجب عليه نفقتهم، أَوْ لهم عليه حقوق -حُكْمَهُ في الإسلام الحجْرُ عليه، ومنْعُه من التصرف في ماله. والسنّة أهم من حُطَام الدنيا، ومَنْ يكون حاله في الدعوة إليها كحال مَنْ أَشرتُ إلى حاله في ماله فهو أولى بالحجر عليه مِنْ صاحب المال ذاك، أعني مَنْعه عن الدعوة المغلوطة إلى السنّة.

أخطاء مسلكية

12- أخطاء مسلكيّة: يتبيّن مما سبق أَنّ مِن الأخطاء المسلكيّة التي يرتكبها بعض الناس تجاه

السنّة ما يلي: - الانصراف عن اتباع الحق بسبب خطأ الداعي إليه. - جعل المتبوعين دليلاً على الحق. - اشتراط عصمة الداعي لقبول الحق الذي جاء به. - عدم قبول الحق إلا من أشخاص بأعيانهم بسبب الإعجاب بهم والغلو فيهم، وازدراء مَنْ سواهم.

النظرات النقدية

النظرات النقدية العجب والغرور ... النظرات النقديّة: الانتقادات في هذا الباب وفي غيره كثيرة، ولكنّ المهم أن نتنبَّه لها جميعاً، المخطيء وغير المخطيء على حدٍّ سواء؛ لكي نتحاشاها ونبتعدَ عنها لوجه الله تعالى، وهذه الانتقادات التي سأُوردها هنا هي مما وقفتُ عليه واستغربتُه أن يَصْدر من بعض مَن ينتسب إلى السنّة أو إلى المنهج الشرعي أو إلى طلب العلم الشرعيّ؛ ومِن ثمَّ كانت العناية بهذه الأخطاء لاجتنابها وللتنبيه عليها. فمِن ذلك: 1 - العُجْب والغرور: فترى بعض الناس يدعو الآخرين إلى العقيدة أو السنّة متلبساً بشيء من العُجْب الذي يصدّ الآخرين عن قبول الدعوة، مَثَلُهُ في ذلك مَثَلُ الذي يدعو غيره؛ لِيُكْرمه في داره؛ فيقدم له الضيافة بشيء من الفخر والاعتزاز بأنه أكرمه أو أنه هو الذي صنع هذه الأنواع من الطعام؛ فتنقبض نفسه عن كَرَمِهِ وضيافته؛ ويتمنّى لو أنه لم يكن قد دَخَلَ في ساحته.

وقد روى أبو ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يُكَلِّمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم". قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات. قال أبو ذر: خابوا وخسروا، مَنْ هم يا رسول الله؟ قال: "المُسبِلُ والمنّان والمنفِق سلعته بالحَلِفِ الكاذب" 1. وفي رواية: "المنَّان الذي لا يعطي شيئاً إلاّ مَنّه" 2، وقال الله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنّاً وَلا أَذى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاهُمْ يَحْزَنُونَ} 3. والمنّ مذموم بأيّ صورة كان، سواء أكان في المال أم في غيره. قال القرطبي: المنّ غالباً يقع من البخيل والمُعْجَبِ، فالبخيل تَعْظم في نفسه العطيّة وإن كانت حقيرة في نفسها، والمعجَب يحمله العُجب على النظر لنفسه بعين العظمة وأنه منعم بماله على المعطَى وإن كان أفضل منه في نفس الأمر، وموجب ذلك كله الجهل ونسيان نعمة الله تعالى فيما أنعم به عليه، ولو نظر مصيره لعَلِمَ أنّ المنّة للآخذ؛ لما يترتب له من الفوائد4.

_ 1 أخرجه مسلم: 1- الإيمان، ح 171، 1/102. 2 أخرجه مسلم: 1- الإيمان، ح171، 1/102. 3 262: البقرة: 2. ويُنظَر: الآيات بعدها. 4 نَقَلَه عنه ابن حجر في الفتح: 3/299، ويُنْظر لزاماً ما ذكره الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية وما بعدها في تفسيره: 2/306-317 فهو كلامٌ نفيس.

الظاهرية في الفهم

2 - الظاهرية في الفهم: مِن الناس مَن تَخْدعُهُ الظاهرية في الفهم؛ فيقع في أنماطٍ متعدِّدةٍ مِن هذه الظاهرية تجاه الأخذ بالسنّة، ومِن ذلك: أ- أَنْ ترى بعض الناس عنده ظاهرية في فهم السنة، إذ لا يفهمها إلاّ أنها في الأعمال الظاهرة، ولعلّ أهمَّها في نظره اللحيةُ1 وتقصيرُ الثوب2. وإذا نظر إلى مَنْ أتى بهذه فوجده متحلياً بها قال: إنه متّبع للسنّة في حياته، ونسي ما وراء ذلك!! كأنه لا يعلم أن السنّة المتصلة بالمظهر إنما يجب أن تكون دلالات صادقةً على السنن المتصلة بالقلب، وكأنه لا يعلم أن مِنَ

_ 1 ولسنا في حاجة إلى التذكير، أو تأكيد أهمية السنّة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، فاللحية سنّة مؤكَّدة، وإعفاؤها واجب، وقد صح بها الأمر منه صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث، ولكن الكلام هنا ليس عن هذا الموضوع، وإنما هو عن مسألة التطبيق. 2 الغلوّ في تقصير الثوب ليس سنّةً، وإنْ زعَمَه مَن زعَمَهُ، وإنْ حَرِص عليه مَن حَرِص باسم السنّة، وللشيخ بكر أبو زيد رسالةٌ قَيّمةٌ في هذا الموضوع، عنوانها: حَدُّ الثّوب والأُزرة وتحريم الإسبال ولباس الشُّهرة، انتهى فيها إلى التفريق بين حدِّ الثوب وحدِّ الإزار، بجامع المحافظة على ستْر العورة الواجب سترها؛ فلا تُقام سنَّةٌ مع تضييع واجب. وبَنَى الأمر على الأحاديث وفقْهها؛ فقرر بأنّ السنّة في حدّ الثوب مِن تحت نصف الساق إلى الكعبين، وأن كلّ ذلك سنّةٌ في الثوب، وأن التقصير أكثر مِن ذلك ليس عليه دليل، ويترتب عليه انكشاف العورة، وأنّ ما ورد مِن الأحاديث في حدّ ذلك إلى عضلة الساق-أي فوق منتصف الساق بقليل-إنما هو بالنسبة للإزار لا الثوب. قلت: على أنّ الأمرَ في هذا جوازيّ إلى الكعبين؛ فلماذا الامتناع مِن ذلك؟! ولماذا الإنكار على مَن فعلَ ما يجوز له بنصّ الأحاديث الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟!. ولا أدري ما الفرق بين مخالفة المخالِف للشرع في هذا الأمر بتشميرٍ أو بإسبال؟!.

السنّة هذه الأعمال الخاصة بالمظهر بالإضافة إلى أعمال أخرى خاصة بالمَخْبَر، فمن أتى بهذه وهذه هو المتّبع للسنّة، ولعلّ السنن الظاهرة ليست بأولى في أهميتها من السنن الأخرى كأعمال القلوب من حُبٍّ وبُغْض وتواضع وحلم وخوف ورجاء، وعفّة، وذِكْر، ورحمة ... إلى آخر هذه الأعمال القلبية. ولعل هذا النوع من السنن أكثر من السنن الظاهرة. والسنّة-إلى هذا وذاك-منهجٌ يَسِيرُ عليه المرء في حياته ومواقفه مما يَعْرض له سواء أتسنَّى أن يَظْهر ذلك منه أم لم يظهر. ب- ومن الظاهرية في فهم السنّة أن يَظنّ بعضُ الناس أنك لا تكون متمسكاً بالكتاب والسنّة إلا إذا تكلمت في موضوعٍ ما أوردتَ الآيات والأحاديث بمناسبة وبغير مناسبة؛ فذلك عنوان تمسكك بالكتاب والسنّة‍‍!! إنه لا يَفْهم التمسّك بالكتاب والسنّة على أنه الاهتداء بهديهما والاحتكام إليهما في شئون الحياة ولو لم ينطق لسانك بالآيات والأحاديث، لأنه ظاهريٌّ في فهمه لمبدأ التمسك بهما. وهذا جنايةٌ على الكتاب والسنّة. أَمْرٌ طيّب -ولاشك- أن يستدل المسلم على ما يراه بالآيات والأحاديث ولكن ليس شرطاً أن يذكر الدليل النصيّ دائماً حتى في البدهيات وفي غير مناسبة، بل قد يكون في هذا ما فيه من العُجْب والرّياء أحياناً وغير ذلك من المحاذير. ولَكمْ ردد بعض الكتّاب بإكبار خبرَ امرأة آلت على نفسها ألا تتكلم إلا بالقرآن حتى في الإجابة عن أسئلة عاديّة تُوَجّه إليها فإذا ما أجابت بآية من القرآن أَلْبَسَتْ وكلّفت نفسها شططاً.

جـ- ومِن ذلك الغفلة عن أنّ دعوة الناس إلى فعل السنن الخاصة بالمظهر ينبغي أن يقارنها دعوتُهم إلى السنن الأخرى الخاصة بالباطن، ومِنْ ذلك تحقيق النيّة الخالصة لله تعالى في كلِّ سنّة من السنن الظاهرة: - فإعفاء اللحية مثلاً سنّة من سنن المظهر تفتقر إلى تحقيق النيّة الخالصة لله تعالى في فعلها، وما لم يتحقق هذا المعنى فلن يتحقق اتّباع السنّة بمجرد إعفائها، فقد يُعْفي المرء لحيته ولكن لا يريد بذلك وجه الله واتّباع رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء به، فهل نقول لكل من أعفى لحيته: إنه اتّبع السنّة؟! أم تُرانا نقول: إن من خَدَع الناس بإعفائها، دون أن تَخْلص نِيّته، لعله يكون أبلغ ضرراً بالدين!. - والسلام -في ظاهره- سنّة ظاهرة للناس، لكنه لا يكون سنّة حتى يفعله الإنسان لله تعالى وتأسّياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يفعله تزلّفاً لأحد، وتظاهراً لأحد، ولا رجاءً لأحدٍ، غيرِ الله تعالى، ولا لمجرد عادة لا يستشعر من ورائها العبادة. وهكذا لعله يبدو لك جليّاً أن السنَّة في العمل والتطبيق الظاهر مِن لازِمها الإتيان بالسنّة في القلب والضمير، وأَن هذه مفتقِرَة إلى تلك؛ فلا تكون سنّةً إلا بوجودها، ولا يمكن أن يُحْكم باتباع السنّة لمن يأتي بهذه السنّة الظاهرة لمجرد ذلك حتى يأتي بتلك السنّة الأخرى التي هي مِن لازِمها، إلا أن يكون حُكْمنا مِنْ باب حُسْن الظن الواجب في حق المسلم ورجاء أن يكون قد أتى بتلك بدليل هذه.

القصور في الفقه العملي

3 - القصور في الفِقْه العمليّ: ومن الأمثلة التي توضح هذا الأمر أن تَجِد من يُحَقِّقُ -مِنْ الجانب العلميّ النظريّ- أن من السنّة مُصَاقَبَةَ الأقدام في الصلاة بمعنى أن لا يدع المرء فُرْجة بينه وبين مَنْ على جانِبَيْه. وهذا حق وفِقْهٌ صحيح، لكنه يفتقر إلى تطبيق عمليّ صحيح بمعنى اتّباع السنّة في تطبيق السنّة، لكنك تجده في الناحية العمليّة يجانب السنّة، وليت الأمر يقف عند هذا الحدّ، بل يَظُن أنه في تلك الحال على السنّة، فهو بتطبيقه العمليّ يسيء إلى السنّة باسم تطبيق السنّة، فتراه يُؤذي مَنْ على يمينه في الصلاة ومَنْ على يساره؛ لأنه يضايقهم بكثرة التصاقه بكلٍ منهما ويُضيِّق عليهما، وقد لا تُسْعفه الحال فتراه يَمُطُّ رجله اليمنى نحو اليمين ما استطاع، ويَمُطُّ رجله اليسرى نحو اليسار ما استطاع، فيأخذ من مساحة المسجد أكثر مما يستحق، ويؤذي أكثر من واحد ممن يجاوره في الصلاة، وتراه يتكلّف في تطبيق هذه السنّة تكلّفاً لا يليق بالسنّة، وقد ينشغل ويُشْغل بها عمّا هو أولى منها من أفعال الصلاة، وقد يُحدث إيذاؤه لجاره في الصلاة ردّة فِعْل غير محمودة شرعاً. وإن مما يعجب له المرء، ما نراه من بعض المصلين، الذين يفرّج أحدهم ما بين رجليه في الصلاة بشيء من المبالغة تعبّداً لله تعالى، فإذا سجد اضطر إلى ترك فراغ بينه وبين جاره في الصف، لأنه لابد أن يعود إلى وضعه الطبيعي في السجود، فإذا قام رجع إلى تلك الحالة الشاذة في الوقوف للصلاة حيث يَخْرج عن الأدب في ذلك، ويؤذي جاره، وقد يشغله ذلك عن الخشوع في

الصلاة. يفعل بعضهم هذا في الصلاة بغير دليل، إذْ لم يقم على هذا دليل من كتاب أو سنة -فيما أعلم- وهذا الكتاب والسنة بيننا فمن وجد فيهما دليلاً على هذا العمل فليأت به، على أنه ينبغي التنبيه إلى أن هذا شيء والأمر بالتحام الصفوف وتسويتها وعدم ترك فرجة في الصف، كما جاء في الأحاديث الصحيحة، شيء آخر، والعَجَبُ أن يَفْعل المسلم هذا الفعل حرصاً على السنّة بغير دليل من السنّة ولكنه التقليد والإغراق في التزام بعض المظاهر التي يُظَنُّ أنها من الدِّين وهي ليست منه في شيء. بل قد تجد بعضهم لا يكتفي بإلصاق قدمه بقدم جاره في الصلاة بصورة طبيعية، بل تجده لا يرضيه في ذلك إلا مزاحمة جاره والضغط على رجل جاره برجله، وكلّما ابتعد عنه قليلاً برجله لَحِقَهُ وهكذا، وترى بعضهم لا يكتفي بإلزاق القدم بالقدم بصورة طبيعية بل يلوي اتجاه رجله اليمنى نحو اليسار، ورجله اليسرى نحو اليمين، لتُلاصِق رِجْله رِجْل جاره الذي عن يمينه وجاره الذي عن يساره بما في ذلك الكعبان لأنه يظن أنَّ هذه هي السنّة، في حين أن السنّة إلصاق القدم بالقدم بصورة طبيعية دون تفريج ودون ضَغْط على قدم من بجانبك، ودون تكلّف أو إيذاء. وفي تلك الصورة المتكلفة مخالفة لما رواه أبو حميد الساعدي رضي الله عنه في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، إذْ قال: ... واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة ... 1، والله هو الموفق والهادي،

_ 1 صحيح البخاري، نسخة الفتح: 10- كتاب الأذان، 145- باب سنّة الجلوس في التشهد، الفتح: 2/305.

فالإخلاص وحده لا يكفي حتى يَنْضمّ إليه الصواب. ومن الأمثلة كذلك التي توضح هذا الأمر: أن تَجِد مَنْ يُدرِك علمياً أن إعفاء اللحية من السنّة، لكنه من الناحية العملية تراه يأتي بالسنّة بطريقة تسيء إلى السنّة حيث يعفي لحيته لكنه مثلاً لا يعتني بنظافتها، ولسان حاله يقول هذه هي السنّة، بل هو يدعو إلى إعفاء اللحية، وإذا سئل يقول هي سنّة أو أعفيتها لأنها سنّة، فَيَنْظُرُ عامّة الناس إلى تطبيقه لهذه السنّة على معنى أنه قُدْوة في هذه السنّة التي يدعو إليها، فَيَرَوْن حاله، وقد لا يَقْبلون الاقتداء به في هذه السنّة نظراً لما لابَسَها في التطبيق العمليّ من تصرف يسيء إليها!! وإن أَنْكَرتَ عليه ربما قال لك: "البذاذة1 من الإيمان"2 وربما ظنه: البذاءة من الإيمان!. وربما قال لك: "نُهِينا عن التكلف"3. وما عَلِم أن

_ 1 البذاذة: رثاثة الهيئة. قال ابن الأثير: البذاذة رثاثة الهيئة. يقال: بذُّ الهيئة، وباذُّ الهيئة، أي رثُّ اللبسة. أراد التواضع في اللباس وترْك التبجّح به. النهاية في غريب الحديث: 1/110. 2 رُوي بطرق لا تخلو من كلام، لكن قد يَجْبر بعضُها بعضاً، وذكره الألباني في: سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/601 برقم 341. 3 قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أخرجه البخاري، 96-الاعتصام بالكتاب والسنة، باب رقم 3، الفتح13/264. وقد قال الله تعالى آمراً رسوله أن يقول: {وما أَنَا مِن المتكلِّفِيْنَ} ؛ فهذا مبدأٌ من مباديء الإسلام في حياة الإنسان وفي هدْي الدين، ولكنّ الخطأ هنا في أمرين: الأول: وضْع هذا النص في غير موضعه. الثاني: التكلف في تطبيق السنن. فلا هذا صحيح ولا ذاك. ومِن تطبيقات هذا التكلف في فهم السنن، الاستنباط للسنن مِن أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، لا مِن أقواله، في حين أن دلالة الفعل على درجة المشروعية ليست مما يُستنبط مِن الفعل وحده، بل لابدّ مِن القول الذي يُحدِّد درجة الطلب في الشرع؛ وبهذا يتبين خطأ بعض الناس الذين بمجرد أن وَقفوا-أو وُقِّفوا- على رواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم، بأنّ أحد الصحابة شاهده مفتوحٌ إزرار جيبه، أي فتحة ثوبه على صدره، بمجرد هذه الرواية جعل ذلك سنّةً!. والقاعدة أن الفعل وحده لا يدلّ على الوجوب.

التكلف إنما هو في تحمّل الوسخ وعدم النظافة!!. ولعل بعض الناس يفهم من مثل هذا الأمرَ بعدم الاهتمام بالمظهر، أو بالنظافة، أو جواز إهمال النظافة، متغافلاً عن النصوص الشرعية الأخرى الواردة في الأمر بالنظافة والتطيب، وكأنه بهذا الفهم قد انقلب عليه في الحديث لفظ "البذاذة"؛ فظن أنّ الذال الثانية همزةً!. وقد جاء في الحديث: "من كان له شعر فليكرمه" أخرجه أبو داود وغيره1. ثم لعل شأن النظافة في الإسلام بمختلف صورها: الحسّيّة والمعنويّة، الشخصية والاجتماعية، في الثوب والبدن والقلب والمسكن والشارع، كل ذلك من الأمور المعلومة التي لا تحتاج إلى بيان أو تأكيدِ أهميتها في هذا الدين الحنيف، دين الطهر والنظافة من الرذائل والأوساخ الحسيّة والمعنوية، وهذا من أهم مزايا هذا الدين، ولذلك اهتم بوسائل النظافة: من السواك والطيب والاغتسال، في عدة مناسبات ما بين فرض وواجب ومستحب، حتى لقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم اغتسال المسلم يوم الجمعة حقاً لله على كل مسلم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِلَّهِ تعالى على كل مسلم حق أن يغتسل في

_ 1 يُنظَر: سلسلة الأحاديث الصحيحة، للألباني: 1/819.

كل سبعة أيام يوماً" 1. وحديث أبي سعيد: أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم وأن يَسْتنّ أي يستاك وأن يمسّ طيباً إن وجد" 2. فهذه أحكام في نظافة المسلم ليست من قبيل المستحبات ولكنها من قبيل الواجبات.

_ 1أخرجه البخاري: 11- الجمعة، 12- باب هل على مَنْ لم يَشْهد الجمعة غُسْل؟، الفتح: 1/382. 2 أخرجه البخاري: 11- الجمعة، 3- باب الطيب للجمعة، الفتح: 2/364.

التلبس بما يسيء إلى السنة مع الدعوة إليها

4- التلبس بما يسيء إلى السنّة مع الدعوة إليها: فقد تَرَى في تطبيق بعض الناس للسنّة فِقْهاً لها واصطباغاً بمعناها وتأثّراً يدعو الآخرين لحُبّ السنّة والتمسّك بها. وقد ترى في تطبيق بعضٍ آخرين لها عدم فِقْه لها ولا تأثرٍ بها، فيأتي تطبيقه للسنّة دعوةً عمليةً لِتَرْكها؛ لأنه يُطَبِّقها أمام غيره تطبيقاً سيئاً ليس فيه معنى الاهتداء بهذه السنّة التي يدعو الناس إليها. وقد ترى بعضهم في دعوته بلسانه للسنّة ليس مُتّبعاً لها ولا مُهْتدياً بهديها، ويبدو لك كأنه لم يعرف من السنّة سوى جزئية ويتحمس لها على غير هَدْي السنّة، فدعوته بلسانه وألفاظه دعوة إلى السنّة -فيما يبدو له- بَيْد أنها في فَهْم الناس أنه يدعو إلى تَرْكها، وذلك نظراً لمردود كلامه في الناس، إذْ ليس هو المردود الإيجابي، إنما هو المردود السلبي، إنه يدعو إلى السنّة

ولكن بطرق تخالف السنّة، فيؤدي ذلك إلى عكس ما يريد.

التصور بأنه هو الوصي الوحيد على السنة

5- التصوّر بأنه هو الوصيّ الوحيد على السنّة: قد تَشْعر من بعض الناس وهو يدعوك للسنّة أنه من خلال دعوته هذه يَتصور أنه هو الوصي الوحيد على السنّة، وهو المسئول عنها، وهو العالِم بها، أمّا الآخرون، وأمّا المدعوون، فهم أعداء للسنّة أو يكرهونها، أو ليسوا حريصين عليها، أو ليسوا مسئولين عنها أو "جهّال"!! وهذا الإحساس لديه -وهو الداعي إلى السنّة- يَصُدّ الناس عنها، فإنّ إدراك المدعوين لهذا المعنى عنده يقودهم لكراهيته وعدم قبول الدعوة منه، ولو كان ما يدعو إليه حقاً، فيكون بهذا فتنة للناس وداعية لهم لترْك السنّة، وإن قال لهم بلسانه: اتّبعوا السنّة، فإن دعوة الحال أقوى من دعوة المقال. وهذا باب واسع من أبواب الغرور لدى هذا الإنسان، وباب واسع من أبواب الرياء وغيرهما من أنواع الشرّ المحبط للعمل. أمَا عَلِمَ هذا الصِّنْف مِن الناس أنّ الغالب أَن الأساليب الهادئة في الدعوة هي الأساليب الهادية، أو أنّ الأساليب الهادية هي الأساليب الهادئة!.

التقصير في العناية بسلفية السلوك والتطبيق

6- التقصير في العناية بسلفيّة السلوك والتطبيق: قد تجد بعض الناس سلفيّاً في فكره-هذا إنْ أصابَهُ-ولكنّه في سلوكه وتصرفاته بعيدٌ عن ذلك، فبيْنا هو يدعو الناس للسلفية بلسانه تراه يصدّهم عنها بتصرفاته، وكان الواجب أن يهتدي ويَهْدِي بالهديين: هدْي القول، وهدْي العمل، وأن يُؤَيِّد هَدْي المضمون بهَدْي الأسلوب، وعندها سيكون ذا أثر طيب

بالغ في الناس!.

البعد عن فقه الدعوة إلى السنة

7- البعد عن فقْه الدعوة إلى السنّة: ينبغي أن يَسْبق دعوة الناس إلى السنّة تربيتُهم على حبّها وتعظيمها ومعرفةِ قَدْرها، أو ينبغي أن تُقدِّم بذلك للدعوة إلى الالتزام بالسنّة والتمسّك بها؛ وذلك: أ - لأن الناس -غالباً- لا يأخذون بشيء لم يعرفوا قيمته وقدره. ب- ولأن تَرْك الناس للسنّة قد يكون إنما حصل بسبب عدم معرفتهم لقدرها وضرورةِ أَخْذهم بها. جـ- ولأن الذي يَحْمل الناس على الفعل والترك إنما هو فعل القلْب وإيمانه. د- ولأن التمسك بالسنّة ليس له وَزْن عند الله ما لم يكن مبنيّاً على الحبّ والتقدير والتوقير للسنّة وصاحب السنّة عليه صلوات الله وسلامه. إننا نرى صوراً لأساليب بعض الناس في الدعوة إلى السنّة ليست في صالح السنّة نفسها، فقد ترى بعضهم يخاصم الآخرين على مخالفتهم للسنّة من غير أن يعرف خلفياتهم عن مكانة السنّة لديهم، وهو يظنّ أنه بهذا يدعوهم إليها والواقع أنه يخاصمهم، ويظن أنه يُقَرِّبهم والواقع أنه يُبْعدهم، وهذا مِنْ عَدَمِ البصيرة والحكمة، وإذا أرشدتَهُ إلى الطريق الصحيح للدعوة إليها قد يظن بك الظنون التي من أخطرها أنك لا تُحِبُّ السنّة وأنك إنما تعترض عليه لأنه يدعو إليها!!.

التسرع إلى إصدار الأحكام على الناس

8 - التسرّع إلى إصدار الأحكام على الناس: إنّ للأحكام السريعة التي يُعْنى بها بعض الناس تُجاه غيرهم، بشأن عقائدهم، أو مدى اتّباعهم للسنّة إن لهذه الأحكام السريعة التي يَنْظر فيها أصحابها إلى مجرد المظاهر والأقوال، ضرراً بالغاً على العقيدة وعلى السنّة، لأنه ينتج عن هذه الأحكام إخراج أناس من العقيدة والسنّة ظلماً وجهلاً، وقد يترتب على هذا أن يَخْسرهم الصف الإسلامي، وكذلك إدخال أُناسٍ بهذه الأحكام السريعة وحقُهم أن لا يدخلوا. وترتّب على هذه الصورة التي تحصل أحياناً من قبل بعض محبي العقيدة والسنّة أَنْ وُجِدَ بعضُ النفاق من قبل من لم يَقْتنع بالعقيدة والسنّة، يُشجّعه عليه ما يراه من عناية هؤلاء بالظاهر فقط، فيرى من السهل عليه أن يخدعهم بفعل ما يريدون، فيُردّد الكلام الذي يريدون ويُعفي لحيته ويقصّر ثوبه -ولو بشيء من الغلوّ- فيظفر بتزكيتهم وينال ما يطلبه من عاجلٍ عندهم أو عند غيرهم. وبالمقابل هناك صِنْف من الناس عنده إخلاصٌ وتثبّتُ فيبتعد عن المتاجرة الظاهرة لدى أولئك لمكانة عقيدته عنده ولا يَعْتني عنايتهم بإصدار تلك الأحكام السريعة على الناس، فيكُون جزاؤه أن يَحْكموا عليه بالضعف أو الانحراف في عقيدته أو في اتّباعه للسنّة. وقد يترتب على هذا ردود فعل عنيفة ومفاسد عظيمة ولكن لا يُدرِكُها صاحب العاطفة الجاهلة غير المبصرة.

فانظر يا أخي كيف تُؤتى السنّة ومِن أين تؤتى!! ولا حول ولا قوة إلاّ بالله. إن هذا الصِّنْف منّا قد يَسأل غيره للاختبار، ليُصْدِر عليه أحكامه السريعة تلك، فيقول له: ما هي عقيدتك؟ فيقول: عقيدتي كذا وكذا. ويصرف له مما يريد؛ فيُصْدِر حكمه عند ذلك. الحمد لله سلفي العقيدة!! وما عهدنا سلفيّة العقيدة هكذا إلا في هذا العصر. إن الفقه في الدين نعمة كبرى إذا فُقِدَتْ لم يعوّضها شيء. وليس الكلام هنا عن أهمية العقيدة ومشروعيّة السؤال عنها بالأسلوب المناسب الذي تتحقق به غاية شرعية، كما في حديث الجارية، فذلك أمر واضح ينبغي أن لا يَخْتلف عليه مسلمان، إنما الكلام عن سوء التطبيق لهذين الأمرين: أ- الاهتمام بالعقيدة. ب- السؤال عنها. ومِنْ هذا ما يفهمه بعض الناس من سؤال النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: "أين الله؟ " 1: أن ذلك في منزلة الأمر منه صلى الله عليه وسلم أن نسأله نحن المسلمين في عموم الأحوال، حتى مع من نَعْلم أنه مسلم يصلي معنا ويصوم، وهذا خطأ في فهم الحديث من جهة، وغَضٌّ من قيمةِ المعنى الذي اشتمل عليه الحديث من جهة أخرى، وهو إفادته التلازم بين الإيمان بالله واعتقاد صفاته سبحانه ومن ذلك صفة العلوّ، وأنه في السماء كما جاءت به الآيات والأحاديث، فلا ينبغي أن يُفْترض في المسلم عدم إيمانه بهذه الصفة من صفات الله سبحانه على ما يليق به عزّ وجلّ!.

_ 1 أخرجه مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي، 537، المساجد ومواضع الصلاة، وأخرجه غيره.

ويبقى السؤال مشروعاً بصفة عامة في حدود الحكمة والغرض الشرعي الذي لا يترتب عليه مفسدة يأباها الشرع، سواء أكان المسئول مسلماً أم غير مسلم، لكن لا بدّ من التأكيد على أن هذه المشروعية مرتبطة بالغرض الشرعي والحكمة المأمور بها شرعاً.

إهمال النظافة الشخصية

9- إهمال النظافة الشخصية: نظافة الداعي إلى السنّة وحُسن مظهره وذوقه الرفيع جزءٌ أساسٌ مِن واجبه في الدعوة إلى السنّة. وقد رأينا في الناس مَنْ يَعْرض بضاعته الجيدة في مكان ليس حَسَناً لا تَرُوجُ فيه بضاعته -على جودتها- لأنه أساء إليها بوضعها في المكان غير المناسب. وليت شعري هل يُدْرِك هؤلاء الذين يَدْعون الناس إلى السنّة وهم مُتلبّسون بعدم النظافة أو حسن المظهر أو الذوق الطيب الرفيع، هل يُدْرك هؤلاء كم يسيئون للسنّة بعملهم هذا؟!، ألا يعلمون أن الناس إذا رأوا الداعي إلى السنّة المتصدّي لذلك أَحسنوا به الظن حتى يتصوروا أن كل ما يأتيه فهو من السنّة، وأنّ الناس إذا دُعُوا إلى شيءٍ نَظَروا له في شخص الداعي إليه؟! ومِنْ هنا تأتي أهمية القدوة العملية والأسوة الحسنة. إن هذا الصِّنْف من الناس يَحْملون في آن واحد بعضَ ما يَنْفع الآخرين وبعض ما يؤذيهم: يَحْملون للناس شيئاً يَهْديهم وهو السنّة-هذا إنْ أصابوا فهمها- ويَحْملون شيئاً آخر ينفّرهم من تلك الهداية، أو يدعوهم إلى الضلالة، وهو سلوكهم وأخلاقهم وأفهامهم، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله،

نسأل الله تعالى أن لا يجعلنا فتنة للكافرين؛ فضلاً عن أن نكون فتنة للمسلمين.

الخلل في مفهوم الولاء والبراء

10- الخلل في مفهوم الولاء والبراء: لقد حَدَثَ عند بعض الناس خلل في لازم مفهوم الولاء، الذي هو بُغْض البدعة والكفر، وبُغْض المبتدع والكافر، فظننّا أن لازم الولاء أنْ يكون في مقابلِهِ الحقد، وأن ذلك الحقد يتعين علينا حتى في حق المجتهد المخطئ، الذي ربما يكون -في واقع الأمر- هو المصيب ونحن المخطئون.

الخلل في مفهوم الاتباع والابتداع

11- الخلل في مفهوم الاتباع والابتداع: لقد حَدَثَ عند بعض الناس خلل في مفهوم الاتباع والابتداع: فمن الناس من يرى أن الاتباع للكتاب والسنّة إلغاء العقل وَقَفْلُ باب الاجتهاد!! وهذا في مقابل خطأ آخر يرى فتح باب الاجتهاد لكل من شاء ولو لم يكن من أهله، حتى تَجَرَّأَ أو جَرّأَ على ذلك بعض صغار الطلبة!.

بعض المظاهر المخالفة للسنة

بعض المظاهر المخالِفة للسنّة هناك مظاهر عديدة لمخالفة السنّة، سواء في جانب التطبيق العملي لها، أو في أسلوب الدعوة إليها، أودّ الإشارة إلى بعضها، فمِنْ ذلك ثلاثة مسالك هي: - الخطأ في منهجية فقه السنة ومعرفتها. - الشدة في الدعوة إلى السنة. - عدم التوازن في الأخذ بالسنة والدعوة إليها. ومن مظاهر هذه المسالك ما يلي: 1- الإنكار والتشدد في الأمور الخلافية في مجال السنن. 2- تتبع شواذ المسائل الخلافية، وإثارتها في الناس على الرغم من أنها أمور اجتهادية قد يُعذر فيها المخالف1. 3- الغلوّ في السنّة وفي تطبيقها. 4- الغلوّ في الدعوة إلى بعض السنن على حساب غيرها من الأحكام الشرعية. 5- شدة اللهجة في الدعوة إلى السنّة، والابتداء بالشدة في إنكار المنكر. 6- عدم مراعاة الحكمة في الدعوة إلى السنّة وتطبيقها. 7- عدم التفريق بين تَرْك السنّة وتَرْك كمالها.

_ 1 ومعلومٌ أن هذا شيء، والتناصح الواجب بين المسلمين بالأسلوب الصحيح شيء آخر، سواء أكان التناصح في المسائل الاجتهادية أم في سِواها.

8- التمسّك بالدعوة إلى السنّة في بعض المواقف على حساب أمور أكثر أهمية، مثل جَمْع الكلمة ووحدة الصفّ، في حين أن الإسلام في هذه الحال يَحْرص على وحدة الصفّ، وإرجاءِ الدعوة إلى السنّة إلى وقت آخر أنسب لا يترتب عليه مفسدة أكبر من مفسدة تَرْكها، كتفريق الكملة واختلاف الصفّ. 9- التركيز على بعض السنن الخاصة بالمظهر وعدم الاهتمام بالسنن الأخرى. 10- التركيز على الأخذ بالسنن أكثر من التركيز على بعض الأحكام الشرعية الأهم، كالفرائض والواجبات المؤكّدة. 11- الموالاة والمعاداة على بعض السّنن الفرعية. 12- الدفاع عن خطأ النفس باسم الدفاع عن السنّة، وعدم التفريق بين هذا وهذا، وذلك نتيجة الغفلة وحُسْن الظن بالنفس، وسوء الظن بالناس. 13- التسرع بالتبديع لكل ما لا يدركه عقله في مجال فقه النصوص الشرعية، مع أن كثرة التبديع بدعة. 14- الغلوّ في تبجيل بعض العلماء الصالحين الداعين إلى السنّة، والدفاع عن أخطائهم، وعدم الاستعداد لسماع نَقْدهم، وسببُ هذا هو عدم التفريق بين القناعة بالأشخاص، وحدودها الشرعية، والقناعة بالمنهج ونِسْيان أنْ ليس هناك معصوم من البشر إلا من كان نبياً أو رسولاً. 15- الجمود على النص وعدم فقهه فقهاً صحيحاً؛ وفي ذلك مخالفةٌ لقوله تعالى: {والذِينَ إِذَا ذُكِّروا بِآياتِ رَبِهِمْ لَمْ يَخِرِّوا عَلَيْهَا صُمَّاً

وعُمْيَاناً} 1. 16- عدم التفريق بين ما يكون من السنّة بنصّ ظاهر، وبين ما يَرَى أنه من السنن عن طريق اجتهاده في فهم النص. 17- عدم التفريق بين السنّة المؤكدة وبين السنّة الإرشادية للاستحباب والأَولى. 18- التسرُّع في اتهام المخالفين واستباحة الكلام فيهم والطعن فيهم محتجاً لنفسه في هذا أنهم مخالفون للسنّة، بل ربما قال أعداء للدين. 19- الاعتساف في حمل النصوص الشرعية على مَدْحِه أو مَدْح طائفته وإخراج الطوائف الأخرى من المسلمين، من غير أدلة شرعية واضحة على هذا، والتعجّل في تفسير بعض النصوص دون الرجوع إلى قواعد الاستنباط وجَمْعها مع النصوص الأخرى المتصلة بالموضوع. ومن الأمثلة على ذلك ما يتجشمه بعضهم من تفسير أحاديث فيها إخبار عما سيكون فيفسرها بتنزيلها على الواقع الذي يعيشه على سبيل الحصر كما يفعله بعضهم من تفسير حديث: " ... وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة" 2،

_ 1 73: الفرقان: 25. 2 أخرجه أبو داود والدارمي وأحمد وغيرهم، يُنظَر: سلسلة الأحاديث الصحيحة، للألباني: 1/358، رقم 203،204، والعواصم والقواصم، لابن الوزير، 1/186، والصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم ... ، ليوسف القرضاوي، ص43-55، ويُنظَر: الأحاديث الآتية في الموضوع فيما نقلته عن ابن تيمية رحمه الله تعالى.

فيدّعي بعضهم أنه من هذه الواحدة أو أن فئته هي هذه الواحدة وباقي الناس في النار والعياذ بالله. وهذا على الرغم مما في صحة هذا الحديث مِن كلام، لاسيما زيادة: "كلها في النار إلا واحدة" 1. والنقد هنا موجَّه إلى مسلك تزكية النفس والجماعة بهذا الأسلوب، وذلك لما في هذا من محاذير متعددة، أهمها: 1- تزكية النفس أو الجماعة أو المجموعة المعيَّنة. 2- التجاسر على تفسير مثل هذه الأحاديث في الإخبار عن أمور غيبيّة وتنزيلها على أشخاص معينين أو زمان معيَّن. 3- التجاسر على الحُكْم بإخراج أشخاص آخرين أو طوائف من المسلمين من دائرة جماعة المسلمين، أو الشهادة لهم بالنار، مع ما في ذلك من التجاوز لحدود الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه، إذ أن الحكم على شخص أو أشخاص بأعيانهم أمر غيبيّ لا يجوز لأحد من الناس أن يفعله إلا بشهادة الله تعالى أو شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأولئك المعيّنين بالجنة أو النار. 4- المخالفة لنصّ الحديث في تحديد الناجين، حيث جاء ذلك بالوصف

_ 1 الحديث في صحته خلاف، ويُنظر الكلام على صحته في: سلسلة الأحاديث الصحيحة، للألباني: 1/358، رقم 203،204، والعواصم والقواصم، لابن الوزير، 1/186، وفصْل: تفرق الأمة ليس قدراً لازماً ولا دائماً، ص 43-55. مِن "الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم ... "، ليوسف القرضاوي، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير: 2/465.

ولفْظ العموم؛ ليَشْمَل كلّ من تَحَقَّقَ فيه الوصف: " ... من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي....". وأما تزكية المنهج -ضِمْنَ حدوده الشرعية- فهو يَخْتلف عن تزكية النفس والأشخاص؛ إِذْ ينبغي -مثلاً- أن يكون واضحاً من غير شك أنَّ اتَّباع الكتاب والسنّة وَفْق المنهج الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، هو منهج الناجين من عذاب الله، وهذا هو منهج أهل السنة والجماعة.

أمثلة عجيبة غريبة تحصل بسبب تلك الأخطاء

أمثلة عجيبة غريبة تحصل بسبب تلك الأخطاء: بعض المنتسبين إلى طلب العلم الشرعيّ يُلْقون بكتب التفسير والحديث في الزبالة بحجةِ أنّ فيها بدعاً وضلالات وأخطاء في العقيدة. ومشهورٌ ما قام به بعضهم مِن إحراقٍ لكتاب: "فتح الباري بشرح صحيح الإمام البخاري"، للإمام ابن حجر أمير المؤمنين في الحديث، رحمه الله تعالى، وكتاب: "نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار"، للإمام الشوكانيّ، وكتاب: "سبل السلام شرح بلوغ المرام"، للإمام الصنعانيّ؛ بالحجة ذاتها!. وقد بَلَغَني أن أحدهم ألقى كتاباً من كتب تفسير القرآن في الزبالة نظراً لما فيه من الأخطاء. وما أدري هل نسي أن فيه اسم الله وآيات الله أيضاً؟! أم أنه ولو كان كذلك فهذا حكمه عنده؟!. دَعَسَ أحدهم على كتاب، فقلت له: لا يجوز يا أخي، فإن فيه اسم الله. فقال لي: وإن كان كذلك فما الدليل أنه لا يجوز؟ فقلت: لا دليل، إذا كان احترام اسم الله تعالى يحتاج إلى دليل، فما الذي عساه لا يحتاج إلى دليل!!.

فَعَلَ أحدهم معروفاً في شخص فقال له: شكراً. فقال: لا أريدها. يريده أن يقول له: جزاك الله خيراً بهذه الصيغة فقط!. وهذه مسألةٌ ذات ارتباطٍ بالناحية الذوقية والناحية الشرعية؛ ومعلومٌ أنه لاشيء مِن ذلك يَمْنع مِن شكْر صانعِ المعروف بأيّ أسلوبٍ مقبولٍ فِطْرةً، وإنْ وَرَد في الحديث عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ؛ فَقَالَ لِفَاعِلِهِ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا. فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاء"1. لكن ليس في الحديث ما يَمْنع مِن الشكر بغير ذلك. ومعلومٌ أن المقصود الشرعيّ إنما هو حفْظ المعروف وشكْر صاحبهِ؛ والواجب في فقْه الدين وأحكامه أنْ تُرْبط الأحكام وما جاء فيها مِن نصوصٍ شرعيّةٍ بمقاصدها؛ لكي تُحْفظ هذه المقاصد وتراعى، ولا تُتَنكّبَ بشيءٍ مِن الفهم أو السلوك بظاهريةٍ بعيدةِ عن المراد بالنص أو الحكم. نظر رجلٌ في كتابٍ ما؛ فلما رأى أول صفحةٍ منه، فلم يَرَ البدْء بخطبة الحاجة، طرحه وقال: لقد عرفتُ منذ البداية أن المؤلف ليس حريصاً على السّنَّة!. هذا على الرغم مِن أنه يجوز أن يبدأ بخطبة الحاجة، وأن يبدأَ بخطبةٍ سِواها يحمد فيها الله تعالى. كان رجلٌ يُصلِّي في المسجد، وكان في أثناء السجود يرفع أصابع رجليه عن الأرض؛ فشاهده أحدهم؛ فقام إليه وهو في الصلاة؛ فضغط على

_ 1 الترمذيّ، برقم: 2035، البر والصلة.

رجليه ليُنزِلها على الأرض؛ فارتاع المصلِّي ووجِلَ؛ فلما قضى صلاته عرَفَ السبب؛ فقال: هلاّ انتظرتني حتى أقضي صلاتي؛ فتخبرني؛ فأُصلِّي بدلاً مِن الركعتين عشراً!!. رأيتُ رجلاً نصحْتُه في غُلوِّه في تقصير ثوبه ومبالغته فيه، فقال لي: إلى منتصف الساق، فقلت له: لكنك قد رفعته إلى أكثر من منتصف الساق. فقال لي: هذا فيما يبدو لك، ولكن نظرك ليس أصدق من المتر، لقد قستُ ساقي بالمتر، فحددت نصف الساق بالمتر!!. قلت في نفسي: لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعديِّ بن حاتم حينما فهم أن الخيط في الآية هو الحبل حقيقة، في قوله تعالى: {فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْر} 1؛ فأخذ حبلين: أسود وأبيض، فجعل يأكل وينظر إليهما حتى تبينا له فأمسك، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إنك لعريض الوساد". فماذا يقال عن فهم صاحب المتر هذا؟!. وهل هذا القياس بالمتر سنة؟!. أخذ أحد الناس شريطاً لأحد الدعاة إلى الله تعالى، وداس عليه برجله؛ لأنه ليس في الخطّ الدعويّ ضمْن الفهم الضيّق الذي هو عليه، فعل هذا على الرغم مما في الشريط من اسم الله تعالى والآيات والأحاديث!!. قيل لبعضهم في معرض النقاش حول قضية مهمّة وقع فيها خلاف

_ 1 187: البقرة: 2.

بين فريقين من المسلمين: إن شريط "الفديو" موجود وقد صوّرنا فيه هذا؛ فلْتشاهدوا الشريط؛ للتثبت والعدل في الحُكْم بين الطرفين. فقالوا: نحن لا نشاهد "الفديو". نعم: لا يشاهد "الفديو" حتى في مثل هذا المباح. ولا يشاهد "الفديو" حتى في مثل هذه القضية الواجب فيها التثبت، ولا يشاهد "الفديو" مع أنه يفجر في الخصومة، ولا يلتزم الصدق، ويكفِّر بعض المسلمين بل العلماء المجاهدين محدَّدين بأسمائهم!! فأي ورعٍ هذا؟! وأي فهمٍ هذا؟!. قال خطيبٌ في خطبةِ الجمعة في مسجدٍ من المساجد: أُفٍ لإسلامٍ فيه أناشيد إسلامية!!. أَحدُ الناس إذا وَجَدَ شريطاً فيه أناشيد إسلامية، فإنه يدوس عليه بقدمه؛ ولا يراعي حتى ما فيه من اسم الله تعالى!!. قال بعض الناس لشخصٍ: هل فلان من جماعةِ كذا-وسمّى جماعةً يعاديها-؟. قيل له: ولماذا السؤال؟. قال: لأني رأيته واقفاً يوماً مع فلان، وهو مِن هذه الجماعة!!. وهذا مِن أغرب ما يُمْكِن سماعُهُ مِن المقاييس؛ فهل إذا وقفَ شخصٌ مع يهوديّ يُصْبح يهوديّاً، وهل إذا وقف كافر مع مسلم يصبح مسلماً، وهل إذا وقف إنسانٌ مع سلفيّ يصبح سلفيّاً، وهل إذا وقف إنسان مع شافعيٍّ يصبح شافعيّاً!!. سأل أحد الناس شيخه عن الدليل على: أن منهجهم وأسلوبهم في الدعوة هو المنهج الصحيح. فقال: الذي يدل على هذه الحقيقة، هو أننا ندعو

للكتاب والسنّة، وماذا بعد الكتاب والسنّة؟!. ولا أدري كيف يَصْدر مثلُ هذا الجواب، لولا الغفلة ولولا الخطأ البشري، الذي قد يُعْذر فيه الإنسان بَيْد أن ذلك لا يُسوِّغ للإنسان الاستمرارَ في خطئه أو التمادي فيه. إنّ منهج اتّباع الكتاب والسنّة لا يُسوِّغ لصاحبه الخلط بين نصوص الوحي الإلهيّ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والاجتهاد البشري الذي قد يخطئ وقد يصيب عند فهم تلك النصوص أو عند تطبيقها. ولاشك في أن الورع، والفقه في الدين، والغيرة على الدين، كل هذه تدعو الإنسان لإدراك هذا المعنى نظريّاً وعمليّاً، وما سيرةُ أئمة السلف من هذه الأمة عنّا ببعيد، وفّقنا الله تعالى وإخواننا المسلمين لذلك، ووقانا شرّ أنفسنا وسيئات أعمالنا!.

المبحث الرابع: بيان تطبيقي لبعض المسالك المخالفة

المبحث الرابع: بيان تطبيقي لبعض المسالك المخالفة مسالك مخطئة تجاه الخلافات الفرعية ... مسالك مخطئة تجاه الخلافات الفرعية لقد ابتليتِ الأمَّة الإسلامية في هذا العصر بظهور مسالك مخطئة مضرة بالأمة تجاه التعامل فيما بين أفرادها بشأن المسائل الفرعية والخلافات الفرعية، ولقد ظهر شيء من الروح الجدَلِيّة لدى كثيرٍ من المسلمين الصالحين مع نزعة إلى الشدة والغِلْظة والفظاظة، في طريقة الدعوة، وفي الحوار، والموقف، حتى في المسائل الفقهية الخلافية، ويمكن تلخيص مسالك هذه الطريقة فيما يلي: أ - الروح الجدلية في مجال التعرّف أو التعريف بالأحكام الشرعية. ب- الشدة والفظاظة في الحوار. جـ- التحزب على أساس الخلافات الفرعية. د- تجرؤ صغار الطلاب على الخوض في تفاصيل الخلافات الفرعية وأدلتها والترجيح بينها. وقد ترتّب على هذه الطريقة كثير من المفاسد التي لا يقرّها الإسلام، ومن ذلك: - تَفَرُّق الصف الإسلامي على مسائل فرعية، ففي سبيل الحماس لها والأخذ بالصواب فيها نُسِيَتْ وحدة الأمة واجتماع كلمتها على هذا الدين. بل ونُسِيَتْ بعض الأصول في كثير من الأحيان في سبيل التمسك بالصواب في المسائل الخلافية في تلك الفروع!.

- ترتّب على ذلك التفرّق وذلك الأسلوبِ كثيرٌ من الجدل العقيم المنهي عنه شرعاً، القاتل للوقت وللمودة، وكثيرٌ من المشاحنات والبغضاء المذمومة شرعاً والتي لا تليق في حق المسلم تجاه أخيه المسلم!. - وترتّب على ذلك ظهور التعصّبات والتحيّزات التي يرافقها الجهل والظلم، بدعوى الحرص على الحق والصواب في تلك الأمور الخلافية من المسائل الفرعية والأساليب والوسائل!!. - وترتّب على ذلك تجرؤ كثير من صغار الطلاب على الاجتهاد والفتيا و "المشيخة" أو "الزعامة" العلمية أو الدعوية من قِبَل هؤلاء الصّغار الذين لم يأتوا بجديد سوى الخلاف والفرقة والابتعاد عن الجادة، مع التجاهل لآداب العلم وحقوق التعامل، وكان يسعهم الحرص على الخير في منهجٍ وسط يُبْعدهم عن كل هذه الأنواع من الشر!. - لقد نَتَجَ عن هذه المسالك المخطئة في الدعوة وفي طلب العلم والتفقّه في الدين والتعامل مع المخالفين تضخيم بعض الأحكام الفرعية والغلوّ في السنن والمستحبات، وذلك أمرٌ لا يقرّه الدين، لأن السنن والمستحبات هي من الدين وينبغي أن تؤخذ على أنها كذلك، ولا يجوز أن يُتَجاوز بها قَدْرها، كما أنه لا يجوز أن تُنْقص عن قَدْرها الذي وضعها الله فيه، وإلى هذا المعنى يُشير ما جاء عن علي رضي الله عنه من قوله في الوتر: إن الوتر ليس بحتم، ولا كصلواتكم المكتوبة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوتر. ثم قال: "يا أهل القرآن

أوتروا فإن الله وِتْرٌ يحب الوتر1". والدِّين بين الغالي والجافي، والمُفْرِط والمفرّط، ونتج عن هذا الخلل -كما قلت- الوقوع فيما نهى الله تعالى عنه من التفرّق في الدين والتفرّق في الصف، وآياتُ الله تعالى أعظمُ شاهد في نهي الله تعالى أشد النهي عن الأمرين كليهما، وكذا سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيرة فقهاء هذه الأمة: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان من أئمة السلف، فمن تأمل ذلك كله أدرك الحق في هذه المسألة. وإن المُصْلِحَ الحقّ هو ذلك الذي يسعى في الإصلاح من غير أن يرافق إصلاحه إفساد، أو مِنْ غير أن يتلبّس إصلاحه بإفساد يَعْلَمُهُ أو لا يَعْلَمُهُ!.

_ 1 المغني، لابن قدامة 2/593. وقد رواه أحمد في المسند 1/110،143،144،145،148، وأبو داود في كتاب الوتر، باب استحباب الوتر، والترمذي. يُنظَر: حاشية الصفحة الآنفة من المغني. ويُنظَر ما نقلته عن الإمام ابن تيمية رحمه الله، في هذا الموضوع في المبحث السادس مِن هذا الكتاب.

مفاهيم مغلوطة تجاه الالتزام بالكتاب والسنة

مفاهيم مغلوطة تجاه الالتزام بالكتاب والسنّة وخطأ آخر من أخطاء بعض الناس في هذا العصر، ارتكبه في سبيل الدعوة إلى السنّة وإلى الاحتكام إلى الكتاب والسنّة، وهذا الخطأ هو الجمود باسم الاتّباع. لا شكّ في أن الاتّباع للكتاب والسنّة واجب، وأن الخضوع والتسليم لهما لازم لكل مسلم، ولا خِيرَةَ للمسلم أمام حكم الله وحكم رسوله، كما أنه لا يَصْلُحُ للمسلم أن يتقدم بين يدي الله ورسوله بالقول أو التشريع والحكم، هذا أمرٌ لا جدال فيه، ولكنّ الخطأ والجناية على الكتاب والسنّة هما في الحرْص على الجمود، وعدم الفقهِ وسعةِ البصيرة في فهم الكتاب والسنّة في ضوء نصوصهما ومقاصدهما الشرعية. فترى فينا: - مَنْ يتسرع إلى جَعْل التحريم هو الأصل. - ومَنْ يميل إلى التشديد في فهْم الأحكام. - ومَنْ يَتّجه إلى القول الواحد دائماً في المسائل الخلافية، أو التي فيها متسع شرعاً، وإبطال ما عداه. - ومَنْ ينظر إلى المستحبات النظرَ إلى الواجبات. - ومَنْ يتوهم أن السنّة في كل الأمور ليست إلا شيئاً واحداً. فيحجّر المرء بهذا واسعاً. في حين أن السنّة في مسألةٍ ما قد تكون على وجهين، وليست وجهاً واحداً، أو يكون الأصل في بعض الأمور أن السنّة فيه الإطلاق، وليس التقييد والتحديد.

ومن أمثلة هذة المفاهيم المغلوطة

ومن أمثلة هذه المفاهيم المغلوطة: - الظن بأنّ شرْب الماء واقفاً لا يجوز مطلقاً، وأنه لا يجوز إلا قاعداً؛ وقد ورد الأمران عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا بغضّ النظر عما يمكن أن يستنبطه الفقيه من حُكْمٍ من الروايات في هذا. - ومن ذلك: الظن بأنّ صلاة ركعتين قبل المغرب واجبةٌ، فقد أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم مؤكِّداً: "صَلُّوا قبل المغرب ركعتين، صلُّوا قبل المغرب ركعتين". وقال في الثالثة: "لمن شاء" 1 فمن فعلها فقد أحسن، ومن تركها فلا حرج؛ فلا يَصِحُّ أن يَظنَّ أحدٌ بعد هذا أنّ الأمر للوجوب. - ومن ذلك: التضييق في مسألة: الدعاء وألفاظه في كثيرٍ من مواضعه وأحواله، فإن ذلك التضييق ليس عليه دليل صحيح؛ ومعلومٌ أنّ في الدعاء ألفاظاً مأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هي أفضل ما يمكن أن يدعو به الإنسان، ولكن لا حرج أن يدعو الإنسان بسواها، بل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم في تعليمه للتشهد: "ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو2". نَعَمْ هكذا في الصلاة يدعو في هذا الموضع بما شاء بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لا يُدْرِكُ هذا المعنى مَنْ يظن أن السنّة لا تكون إلاّ شيئاً واحداً، وحالة واحدة، وصورة واحدة، في كل الأحوال، وأنها دائماً في نظره لا تَعني إلا التحديد دون التخيير، في كل أمر من الأمور!.

_ 1 أخرجه البخاري: 19- كتاب التهجد، 35- باب الصلاة قبل المغرب، الفتح: 3/59، ويُنظَر: مسلم: 6- كتاب صلاة المسافرين، ح 302-304. 2 أخرجه البخاري: 10- كتاب الأذان، 150- باب ما يتخيّر من الدعاء بعد التشهد، وليس بواجب، من حديث عبد الله بن مسعود، الفتح 2/320.

أحاديث ظاهرها يعارض مبدأ الرفق والحكمة

أحاديث ظاهرها يُعَارِض مبدأَ الرفق والحكمة 1- جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ... كلاّ والله لتأمُرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر ولتأخذنّ على يد الظالم، ولتأطرنّه على الحق أطراً ولتقصرنّه على الحق قصراً ... " 1. 2- وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ القائم على حدود الله والمُدْهن2 فيها كمثل قوم استهموا على سفينة في البحر فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها يصعدون فيستقون الماء فيصبّون على الذين في أعلاها فقال الذين في أعلاها: لا ندعكم تَصْعَدون فتؤذوننا، فقال الذين في أسفلها: فإننا

_ 1 أخرجه أبو داود: 31- كتاب الملاحم، 17- باب الأمر والنهي 4/508-509، والترمذي: 48- كتاب التفسير، 6- باب ومن سورة المائدة، 5/252-253، وابن ماجه: 36- كتاب الفتن، 20- باب الأمر بالمعروف 2/1327-1328، وضعّف الحديث بالانقطاع، لأن أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه، وقد أخرج ابن ماجه الحديث من روايتين: إحداهما: عن أبي عبيدة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مرسل، والأخرى: عن أبي عبيدة عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل رواية أبي داود والترمذي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. 2 في روايةٍ عند أحمد 4/270، "مثل القائم على حدود الله تعالى والراتع فيها والمدهن ... " وفي رواية عنده: 4/273-274، "مثل المدهن والواقع في حدود الله قال سفيان مرة: "القائم في حدود الله مثل ثلاثةٍ ركبوا ... ". و"المُدْهن" من الإدْهان، وهو المحاباة في غير حق، والمراد به هنا التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ننقبها من أسفلها فنستقي. فإن أَخذوا على أيديهم فمنعوهم نَجوا جميعاً وإن تركوهم غرقوا جميعاً" 1. 3- وقال صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" 2. ولاشك في أن معاني هذه النصوص هي من أحكام الدين ومقاصده، ولا يستطيع أحد أن يُبْطلها، أو ينفي ثبوتها ضمن ما شرعه الله من أحكام ومقاصد جليلة لهذا الدين، فقد أوجب الله تغيير المنكر، بَيْدَ أَنه إنما يكون بالأسلوب والطريق الذي أمر الله به، فينبغي أن ينزّل الحكم على ما أنزله الله عليه. والخطاب في مثل هذه النصوص عامّ للأمة، بما فيهم السلطان ونائبه والعلماء والدعاة وسائر المسلمين، وهو خطاب لمجموع الأمة وليس لفرد من أفرادها، والمراد منه مَنْع المنكر بالوسائل المناسبة المطلوبة من كل شخص، وليس لفردٍ ليس له سلطة شرعية أن يقوم بإزالة المنكر بالقوة، فقد يؤدّي

_ 1 أخرجه بهذا اللفظ الترمذي: 34- كتاب الفتن، باب رقم 12، في 4/470، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأخرجه أحمد: 4/268، بلفظ نحوه أيضاً في 4/270و273-274. 2 أخرجه مسلم في: 1- كتاب الإيمان، ح 49 1/69، وأبو داود: 2- كتاب الصلاة، 248- باب الخطبة يوم العيد 1/677-678، وفي:31- كتاب الملاحم، 17- باب الأمر والنهي 4/511، والترمذي: 34- كتاب الفتن، 11- باب ما جاء في تغيير المنكر 4/469-470. وأخرجه النسائي: 47- كتاب الإيمان، 17- باب تفاضل أهل الإيمان 8/98.

ذلك إلى منكر أكبر، وهذه النصوص لا يراد بها ذلك، والنصوص الأخرى تَمْنع مثل هذا. وكيف يُفْهم من نصوص الشريعة أنه يجوز فِعْل مثل هذا المنكر وهي التي تأمر بإزالة المنكر؟!. إن هذه النصوص مراد فيها معنى إيجاب تغيير المنكر مع توافر أسلوب الحكمة والاستطاعة، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" 1. ومن العجيب أن يأخذ بعض الناس مثل هذا النص وحده معزولاً عن بقية النصوص الأخرى ذات العلاقة بالموضوع، وينزّله -بسبب ذلك- على غير معناه الذي عناه الشارع، فلا يَفْهم منه إلا إيجاب تغيير المنكر، ولا يَلْتفت إلى ضرورةِ تَوَافُرِ شروط التغيير للمنكر ووسائله وأساليبه المناسبة، وقد يتمسك ببعض الأساليب التي لا تليق شرعاً بالتغيير، مع أن هذا النص ليس فيه الأمر بغير أسلوب الحكمة، والنصوص الأخرى لا توهم جواز تغيير المنكر بمنكر، أو الخروج عن الحكمةِ والأسلوب الرفيق، الهادي إلى الله تعالى: "وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب". على أن هذا أيضاً لا يُبْطل القول بـ"إن الله لَيَزَعُ بالسلطان ما لا يَزَعُ بالقرآن" بَيْد أنه ينبغي أن ينزّل كل شيء في منزله الصحيح، فإذا لم يمكن التغيير بأسلوب الدعوة والهداية فإنه يتعيّن على مَنْ له سُلْطان، مِنْ ولاية عامة أو خاصة، أن يستخدم سلطانه في تغيير المنكر، وهنا يقال: "إن الله ليزع

_ 1 سبق تخريجه آنفاً.

بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، بشرط أن لا تكون البداية بهذا، وإنما بأسلوب الدعوة والرفْقِ والأُخوةِ واللين والمحبة؛ لأنه يمكن أن نقول أيضاً، "إن الله ليزع بالقرآن ما لا يزع بالسلطان"، فمن يَنْظر للواقع ولفطرة الناس لا يمتري في ذلك، بل إن هذا هو الأصل، وأما التغيير بالسلطان فهو بمثابة الكي يكون آخر الدواء إذا قدّر أن المصلحة الشرعية تقتضي التغيير به. ولا يفوت هنا أن أُنبِّه إلى أنّ هذا إنما هو في مجال التعامل العام مع عموم الناس، أما القضايا المرفوعة للسلطان فلها أحكامها القضائية الشرعية المعلومة، فليست مما فيه هذا الموضوع. وأخيراً ينبغي هنا التنبُّهُ إلى دلالةٍ مهمّة، تدل عليها النصوص الواردة في كلٍ مِن الرفق واللين، والشدّة والغِلظة، وهي دلالة مجموع النصوص، والنظر إلى مقْصدها العامّ؛ فبالنظر إلى جميعها يتبيّنُ لنا: أَنّ الشدّة والغِلظة في الدعوة خطأٌ يأباه هذا الدين، ويَرُدُّه سيرة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم؛ وأنّ الرفق واللين قد جاء الأمر بهما أمراً عامّاً، وجاء الثناء عليهما ثناءً عامَّاً، ليس في ذلك حالةٌ مستثناةٌ مِن هذا الأمر وهذا الثناء؛ بخلاف الشدة والغِلظة؛ فإنّ ما جاء مِن النصوص التي يمكن أن يُستدَل بها عليهما، لا تَدُل على ذلك صراحةً، ثم لم يأتِ ذلك في صورة الدعوة العامّة إليهما، وإنما في حالاتٍ استثنائيةٍ قد تقتضي ذلك؛ ولهذا جاء لفظ الحديث الشريف: "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا يُنْزع من شيء إلا شانه" 1. وهكذا ما ماثَلَهُ مِن الأحاديث

_ 1 أخرجه مسلم، 2594، البر والصلة والآداب، وأخرجه أبو داود 9- الجهاد، 1- باب ماجاء في الهجرة وسكنى البدو 3/7، وأخرجه أحمد 6/58 و112، و125 و171، و206، و222.

التي سبقت الإشارة إليها1؛ بينما لا نجِدُ في نصوص الشرع مثل هذا العموم في الحديث عن الشدّة والغِلظة!. وأَمرٌ آخر نلاحظه في دلالة هذه النصوص، وهو أن الرفق واللين لم يَرِد في النصوص الشرعية ذمٌّ لهما مطلقاً؛ بينما قد ورَدَ في النصوص الذمُّ للشدّة والعنف؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "من يُحْرم الرفق يُحْرم الخير" 2. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله رفيق يُحِبُّ الرفْق في الأمر كله" 3. وقوله صلى الله عليه وسلم: "يَسِّروا ولا تُعسّروا وَبشِّروا ولا تُنفّروا" 4. وقد سبق ذكْر هذه الأحاديث في "بيان المنهج والأسلوب الصحيحين للأخذ بالسُّنَّة والدعوة إليها".

_ 1 في "بيان المنهج والأسلوب الصحيحين للأخذ بالسُّنَّة". 2 أخرجه مسلم: 2592، 45- كتاب البر والصلة والآداب، 4/2001، وأخرجه ابن ماجه: 33- كتاب الأدب، 9- باب الرفق 2/1216، وأحمد في المسند: 4/362،366. 3 أخرجه البخاري: 88- استتابة المرتدين، 4- إذا عرّض الذمي أو غيره بسبّ النبي صلى الله عليه وسلم....، الفتح 12/280، وفي مواضع أُخَرَ. وأخرجه مسلم في مواضع متعددة، منها الموضع السابق، ح77، وأخرجه ابن ماجه: 33- كتاب الأدب، 9- باب الرفق 2/1216 وغيرهم. 4 أخرجه البخاري عن أنس، 3-كتاب العلم، 11- باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخوّلهم بالموعظة والعلم كي لا يَنْفِرُوا، الفتح 1/163، وفي مواضع أخر. وأخرجه مسلم في: 32- الجهاد، ح 4، وفي مواضع أُخَرَ، وأحمد في مواضع متعددة منها: 1/229و283.

وبهذا يتبيّن أنه لا دليل في الشرع يدعو إلى العنف والشدّة في الدعوة1، وأنه لا حجةَ لصنفين مِن الناس في هذا الباب: الصنف الأول: مَن أخطأ عن براءةٍ وحُسْن قصدٍ؛ فأخذ بجانب الشدّة في الدعوة ظنّاً منه بأن هذا هو طريق الدعوة إلى الله تعالى. ومِثْل هذا نقول له: اتّق الله وصَحّح الفهم. الصنف الثاني: مَن اتخذ الدين تُكأةً لأَكْل الدنيا، وزَعمَ أن الشدة والغِلظة هما طريق الدعوة إلى محاسن هذا الدين، وليس هدفه الدين، وإنما الدنيا!. ومِثْل هذا نقول له: اتّق الله؛ فإنّ القضيةُ عندك ليست قضية فَهْم، وإنما هي قضيّة لَهْم!. والحمد لله الذي هدانا لهذا، فلولاه ما اهتدينا إليه.

_ 1 ويُنْظر أيضاً ما سبق في موضوع: الحكمة في الدعوة إلى السنّة وصُوَرٌ مِن مظاهرها.

المبحث الخامس: أمثلة تطبيقية على الموضوع

المبحث الخامس: أمثلة تطبيقية على الموضوع أمثلة لتعدد الصور لبعض السنن ... أمثلة لتعدُّدِ الصُّوَر لبعض السنن تعدُّد الصوَر مِما يتبيّن به منهج الإسلام في الدعوة إلى السنة، ويتبين به كذلك طبيعة السنة في هذا الدين. وقد تَبَيَّنَ مما سبق أنّ السنّة في أمرٍ ما قد لا تَلْزم صورة واحدة محدّدة في جميع الأحوال، بل قد تكون السنّة في أمْرٍ ما على صُوَرٍ متعددة، والسنن التي جاءت على هذا الوجه كثيرة، ومن هنا لَزِم التنبيه إلى هذا الأمر؛ كي لا يأخذ المرء وجهاً واحداً من السنّة في موضوعٍ ما ويُبْطلُ الوجه الآخر من السنّة، ولا أريد حصْر هذا النوع من السنن هنا، وإنما أضرب بعض الأمثلة لها فيما يلي ليستبين المعنى، فمن ذلك: 1- الدعاء للميت في صلاة الجنازة1، قال ابن قدامة رحمه الله بعد أن ذكر الآثار الواردة في ذلك: وبأي شيء دعا مما ذكرنا أو نحوه أجزأه، وليس فيه شيء مؤقت2 أي محدّد لا يجوز إلا به. 2- ويُسنّ تعزية أهل الميت، قال ابن قدامة رحمه الله: يستحبّ تعزية أهل الميت. لا نعلم في هذه المسألة خلافاً3. ومع ذلك فليس في ألفاظ التعزية شيء محدَّد لا تجوز إلا به أو ينبغي

_ 1 يُنْظر: المغني: 3/416-431. 2 المغني: 3/416. 3 المغني 3/485.

التقيّد به، قال ابن قدامة رحمه الله: ولا نعلم في التعزية شيئاً محدوداً1. 3- والردّ من المعزَّى على من عزّاه ليس فيه ألفاظ محدّدة من باب أولى. 4- وغسْل الأعضاء في الوضوء بين مرّة واحدة إلى ثلاث مرات، كل ذلك مجزئ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم2. 5- وعدد الركعات في قيام الليل أقله ركعتان سوى الوتر، ولا حدّ لأكثره. وقد جاءت روايات متعدّدة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من الليل، وبين بعضها خلاف في العدد، فبعضها أنه كان يصلّي إحدى عشرة ركعة، وفي بعضها أنه كانه يصلّي ثلاث عشرة ركعة3. والصواب أن التحديد في عدد الركعات ليس هو الأصل في قيام الليل، وأن الصحابة الذين رووا التحديد في قيام النبي صلى الله عليه وسلم كل منهم روى ما رأى، رضي الله عنه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "صلاة الليل مثنى مثنى ... " 4، فأطلق ولم يحدد.

_ 1 المغني: 3/485. 2 يُنْظر: المغني: 1/179،192-193. 3 يُنْظر: صحيح الإمام البخاري: 19- التهجد. الأبواب الأُولى منه، ولاسيما العشرة الأُولى، وكتاب التروايح، والباب رقم 24 من كتاب المناقب منه أيضاً. ويُنْظر: 6-صلاة المسافرين. من صحيح الإمام مسلم. ويُنْظر: "المغني" لابن قدامة: 2/560-561. 4 متفق عليه، أخرجه البخاري في مواضع متعددة من صحيحه منها: كتاب الصلاة: باب الحِلَق والجلوس في المسجد. ومسلم في صحيحه في: صلاة المسافرين: باب صلاة الليل مثنى مثنى ...

ومن هنا يُعْلَم أنه ما كان ينبغي أن تُجْعل صلاة التراويح وعدد ركعاتها -هل هي عشرون ركعة أو أقل أو أكثر- قضيةً يُثار فيها الخلاف والتعصب للآراء!. 6- وعدد ركعات الوتر قد جاءت فيه روايات متعددة مختلفة، ما بَيْنَ ثلاث ركعات إلى تسع أو إحدى عشرة ركعة1. وليس الأصل في ذلك تحديد عددٍ مُعَيّن، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خِفْت الصبح فأوتر بواحدة". متفق عليه2. 7- وكيفية صلاة الوتر، قد جاءت بها الروايات على صور متعددة، قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: "فإن أوتر بإحدى عشرة سلّم من كل??أوتأو ركعتين وإن أوتر بثلاث سلّم من الثنتين وأوتر بواحدة، وإن أوتر بخمس لم يجلس إلا في آخرهن، وإن أوتر بسبع جلس عقيب السادسة فتشهّد ولم يُسلّم، ثم يجلس بعد السابعة فيتشهّد ويسلّم، وإن أوتر بتسع لم يجلس إلا عقيب الثامنة، فيتشهّد ثم يقوم فيأتي بالتاسعة ويُسلّم ... "3. فإذا كانت الروايات في كيفية صلاة الوتر يُفْهَمُ منها هذه الصُّوَرُ كلها فلماذا تثار فيها الخلافات والتعصبات للآراء ومذاهب الأئمة؟!.

_ 1 يُنْظر: "المغني" لابن قدامة: 2/588-589. 2 مضت الإشارة آنفاً إلى موضعه من الصحيحين. 3 المغني: 2/589، ويُنْظر باقي المبحث إلى ص591.

لعلّ في هذه الأمثلة التفصيلية كفاية لإثبات الحقيقة التي أشرت إليها من أنّ السنة في بعض الأمور قد لا تَلْزم صورة واحدة أو وجهاً واحداً. ولولا خوف الإطالة لذكرت أمثلة أخرى كثيرة غير هذه. ولكن أكتفي -إضافة إلى ما سبق- بسرد إجماليّ لبعض الأمثلة الأخرى فيما يلي: 8- الترجيع في الأذان، وعدم الترجيع، كل ذلك جائز1. 9- الإفراد في الإقامة، والتثنية، كل ذلك جائز2. 10- الجهر بالبسملة، والمخافتة بها في الصلاة، كلاهما جائز3. 11- ألفاظ التشهّد المتعددة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، كلها جائزة، ولا ينبغي أن يُرَدَّ بعضها ببعض. 12- أنواع الاستفتاح الثابتة في الصلاة، كلها جائزة. 13- ألفاظ الدعاء الثابتة للمتزوج، كلها جائزة. 14- ألفاظ الدعاء الثابتة لمن أطعم الطعام، كلها جائزة. 15- وكذلك الحال بالنسبة لخطبة الحاجة، فهي واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنها ليست لازمة في كل حال، كما تدل عليه الروايات الأخرى الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

_ 1 يُنْظر ما في الصفحات: 149، 155. مِن هذا الكتاب. 2 يُنْظر ما في ص: 149-150، 155. مِن هذا الكتاب. 3 يُنْظر ما في الصفحات: 150-151، 153-156. مِن هذا الكتاب.

مثال رائع لمنهج السلف في نقد بعضهم بعضا

مثال رائع لمنهج السلف في نقد بعضهم بعضاً لقد ألّف ابن قتيبة 213-276هـ رحمه الله تعالى كتاباً بعنوان: "إصلاح الغلط في غريب الحديث لأبي عبيد"، استدرك فيه على أبي عبيد في نيِّفٍ وخمسين موضعاً، وتعاظم بعض الناس في عصره وبعد عصره أن يَعْرض مثلُه بالنقد لأبي عبيد. وقدّم ابنُ قتيبة للكتاب بمقدمة جميلة أوضح فيها المنهج المتعيّن على المرء في هذا الباب. وقد أحببت نقلها هنا لأضرب بابن قتيبة مَثَلاً جميلاً يليق بعلمه وفضله، أرجو أن يكون في ذلك ذكرى لنا في هذا العصر الذي أصابنا فيه ما أصابنا، نسأل الله العافية. قال ابن قتيبة1 رحمه الله تعالى: لعلّ ناظراً في كتابنا هذا يَنْفر من عنوانه، ويستوحش من ترجمته2، ويربأ بأبي عبيد رحمه الله، عن الهفوة، ويَأْبَى له الزلة، ويتحشم قَصْب العلماء، وهَتْك أستارهم. ولا يعلم ما تقلدناه من إكمال ما ابتدأ: من تفسير غريب الحديث، وتشييد ما أَسس، وأن ذاك

_ 1 وهو في "إصلاح غلط أبي عبيد في غريب الحديث"، لابن قتيبة عبد الله بن مسلم الدينوري، ص:42-47. بتحقيق عبد الله الجبوري، نقلاً عن مقدمة التحقيق: لكتاب ابن قتيبة: "تأويل مشكل القرآن" للسيد أحمد صقر: 11-14. 2 أي عنوانه؛ لأنه جعله: إصلاح الغلط في غريب الحديث لأبي عبيد. على ما سبق بيانه.

هو الذي أَلْزَمَنا إصلاح الفساد، وسدَّ الخلل. على أنّا لم نقل في ذلك الغلط إنه اشتمالٌ على ضلالة، أو زيغٌ عن سنة. وإنما هو في رأيٍ قَضَى به على معنى مستتر، أو حرفٍ غريب مشكل. وقد يتعثر في الرأي جِلّة أهل النظر والعلماء المبرِّزون، والخائفون لله الخاشعون، فهؤلاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم- وهم قادة الأنام، ومعادن العِلْم، وينابيع الحكمة، وأَوْلى البَشَرِ بكل فضيلة وأَقْربهم من التوفيق والعصمة- ليس منهم أحد قال برأيه في الفقه إلا وفي قوله ما يأخذ به قوم، وفيه ما يرغب عنه آخرون ... وكذلك التابعون ... والناس يختلفون في الفقه وَيَرَدُّ بعضهم على بعض في الحلال أنه حرام، وفي الحرام أنه حلال، وهذا طريق النجاة أو الهلكة، لا كـ"الغريب" و"النحو" و"المعاني" التي ليس على الهافي فيها كبير جُناح، كالشافعي يَرُدُّ على الثوري وأصحاب الرأي1 وعلى مُعَلِّمِه مالك بن أنس. وأبو عبيد يختار من أقاويل السلف في الفقه، ومن قراءتهم، ويرذل منها، ويدل على عورات بعضها بالحجج البيّنة. وعلماء اللغة أيضاً يختلفون، وينبّه بعضهم على زلل بعض، والفرّاء يَرُدُّ على إمامه الكسائي، وهشام يَرُدُّ على الفرّاء، والأصمعيُّ يُخطِّئ المفضّلَ ... وهذا أكثر من أن يحاط به، أو يوقف من ورائه.

_ 1 هم أهل الاجتهاد المشتغلون بالقياس والاستنباط أكثرَ مِن اشتغالهم بحفظ النصوص ونقلها، ويُطْلَقُ هذا المصطلح عادةً على الإمام أبي حنيفة، رحمه الله، ومن سلك مسلكه.

ولا نعلم أن الله عزّ وجل أَعطى أحداً من البشر مَوْثِقاً من الغلط، وأماناً من الخطأ، فنستنكف له منها، بل وَصَلَ عباده بالعجز، وقَرَنهم بالحاجة، ووصفهم بالضعف، والعجلة، فقال: { ... وخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيْفاً} 1، {وخُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} 2، { ... وَفَوْق كُلِّ ذِي عِلْمٍ عليمٌ} 3. ولا نَعْلَمَهُ خَصَّ بالعِلْم قوماً دون قوم، ولا وقَفَهُ على زمن دون زمن، بل جَعَلَهُ مشترَكاً مقسوماً بين عباده، يفتح للآخِر منه ما أغلقه عن الأول، وينبه المُقِلَّ منه على ما أغفل عنه المُكْثِرَ، ويُحْييه بمتأخر يتعقب قول متقدم، وتالٍ يَعْتبر على ماضٍ4. وأوجبَ على كل من علم شيئاً من الحق أن يظهره وينشره، وجعل ذلك زكاة العلم، كما جعل الصدقة زكاة المال. وقد قيل: اتقوا زلة العالم. وزلة العالم لا تُعْرف حتى تُكْشف، وإن لم تعرف هلك بها المقلِّدون، لأنهم يتلقونها من العالم بالقبول، ولا يرجعون إلا بالإظهار لها، وإقامة الدلائل عليها وإحضار البراهين. وقد يَظُّنُّ من لا يعلم من الناس، ولايضع الأمور مواضعها أن هذا اغتياب للعلماء، وطَعْنٌ على السلف، وذِكْر للموتى، وكان يقال: اعْفُ عن ذي قَبْرٍ،

_ 1 28: النساء: 4. 2 37: الأنبياء: 21. 3 76: يوسف: 12. 4 أي يُعيد النظرَ في رأيه.

وليس ذاك كما ظنوا لأن الغيبة سَبُّ الناس بلئيم الأخلاق، وذِكْرهم بالفواحش والشائنات. وهذا هو الأمر العظيم المشبَّه بأكل اللحوم الميتة. فأما هفوة في حرف، أو زلة في معنى، أو إغفال، أو وَهَمٌ أو نسيان -فمعاذ الله أن يكون هذا من ذلك الباب، أو أن يكون له مشاكلاً أو مقارباً، أو يكون المُنَبِّهُ عليه آثماً؛ بل يكون مأجوراً عند الله، مشكوراً عند عباده الصالحين، الذين لا يميل بهم هوى، ولا تَدْخلهم عصبية، ولا يَجْمعهم على الباطل تحزُّب، ولا يَلْفِتُهم عن استبانة الحق حَسَدٌ. وقد كنّا زماناً نعتذر من الجهل. فقد صِرْنا الآن نحتاج إلى الاعتذار من العِلْم1، وكنا نؤمّل شكر الناس بالتنبيه والدلالة فصِرْنا نرضى بالسلامة. وليس هذا بعجيب مع انقلاب الأحوال!!. ولا يُنْكَرُ مع تَغَيُّرِ الزمان، وفي الله خَلَفٌ. وهو المستعان. ونذكر الأحاديث التي خالَفْنا الشيخَ أبا عبيد رحمه الله، في تفسيرها. على قلتها في جنب صوابه. وشُكْرِنا ما نَفَعَنا الله به من عِلْمه، معتدِّين في ذلك بأمرين: أحدهما: ما أوجبه الله على مَنْ عَلِمَ في علمه. والآخر: أَلاّ يَقِفَ ناظرٌ في كتابنا على حرفٍ خالفناه فيه، فيقضي علينا

_ 1 يقصد أنه كان يعتذر من الجهل، وأصبح الآن يحتاج مع الناس إلى أن يعتذر منهم من العلم والرأي ليؤكّد صوابه في رأيه وموقفه، وحُسْنَ نيّتِهِ؛ ليبين لهم أنه على الحق، كما هي حاله في هذا المقطع الذي نقلناه عنه هنا؛ وذلك لأنّ الناس قَلّتْ رغبتهم في الحق، وساءت ظنونهم!.

بالغلط، ونحن من ذلك إن شاء الله سالمون. وما أولاك رحمك الله بِتَدَبُّرِ ما نقول: فإنْ كان حقاً، وكنتَ لله مُرِيداً، أن تتلقاه بقلب سليم، وإن كان باطلاً، أو كان فيه شيء ذَهَبَ عنّا، أن تَرُدّنا عنه بالاحتجاج والبرهان، فإن ذلك أبلغُ في النُّصرَة، وأوجب للعذر، وأشفى للقلوب. انتهى كلام الإمام ابن قتيبة رحمه الله تعالى. ولعل في كلامه هذا عِبْرة وعِظَةً لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد!. والمرجوُّ مِن القاريء العزيز أن يعود فيقرأَ كلامه مرةً أُخرى متأمّلاً محاسِنَهُ، وجوانب الأدب فيه، ومَوَاطِنَ الأُسْوَةِ.

أمثلة نبوية لمناهج وأساليب دعوية

أمثلة نبوية لمناهج وأساليب دعوية مدخل ... أمثلة نبوية لمناهج وأساليب دعويّة توطئة: هذه أمثلةٌ اخترتها مِن تطبيقات النبيّ صلى الله عليه وسلم، انتقيتها من صحيح الإمام البخاري، رحمه الله تعالى. وليس المقصود منها الحصر، وإنما ضرْب الأمثلة على بعضِ ما دعا إليه هذا البحث في ما مضى من موضوعاته. وكلُّ مسلمٍ مدعوٌّ إلى أن يتأمّل أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، سواء منها الذي في صحيح الإمام البخاري أو في غيره، ويستقي منها الأُسوة والقدوة في نهْج الرسول القدوة.

الملاطفة والدعاء

الملاطفة والدعاء عن ابن عباس قال: ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "اللهم علّمه الكتاب" 1. وفي رواية: "اللهم علمه الحكمة" 2، وفي رواية: "اللهم فقهه في الدين" 3.

_ 1 أخرجه البخاري: 3-العلم 17-باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم علمه الكتاب" الفتح: 1/169. 2 أخرجه البخاري: 44-المناقب، ح: 138، باب مناقب ابن عباس. 3 أخرجه البخاري: 4-الوضوء 10-باب وضع الماء عند الخلاء الفتح: 1/244. وأخرجه في مواضع أُخر.

من الأساليب النبوية في التربية: الملاطفة والدعاء. أسلوبٌ نبوي في التربية والدعوة والتعليم ما أروعه إنه أسلوب التودّد، والملاطفة، هكذا!: ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم. إنه تواضعٌ وتربية على التواضع، ودعوة إليه بالقدوة الحسنة، إنه تعليم مِنْه صلى الله عليه وسلم -بسلوكه- للأسلوب الأمثل في تأليف القلوب، وتنشئتها على الحب وعلى قبول الدعوة. فبهذا المعنى ينبغي أن يهتم الداعية وفي مِثْل هذا المثل الرائع ينبغي أن يَنْظر مَنْ يَجْتهد في تقديم الدعوة للإسلام في فظاظة وغلظة، وإذا نفر منه الناس ومن دعوته حمّلهم العتْبَ، وأقام لنفسه العذرَ، واغتبط أنه أُوذي في سبيل الله!. وكان الأحرى به أن يفتش عن عيوب نفسه، وأن يحمّل نفسه التّبعة في صدّ الناس عن طريق الله بسبب مخالفته لهذه السنّة النبوية الفريدة الحكيمة. وأسلوبٌ آخَرُ هو: الدعاء، يتجلى في سيرته صلى الله عليه وسلم من خلال هذا الحديث، الدعاء لمن تدعوه إلى الله ومَنْ تُربيه ومَنْ تُعلّمه، وفي هذا أكثرُ من معنى شريف. ففيه سؤال الله تعالى أن يوفقه لما تريد، ولما تطلبه، ولما ترشده إليه، والله سبحانه هو القادر على ذلك المعين الموفِّق له. وفي الدعاء معنى تربوي هو توجيه المدعو له -بطريق القدوة الحسنة- إلى التوجه إليه سبحانه ودعائه، وعدم الاتّكال على الجهد والسبب مِن دونه عزّ وجل. وفي الدعاء لَفْتٌ لنظر المدعو له -من خلال عبارات الدعاء- إلى ما ينبغي أن يهتم به كالعلم بالكتاب، والفقه في الدّين مثلاً.

وفي دعائه صلى الله عليه وسلم تعليم للدعاة من بعده أن يفعلوا ذلك وأن يقتدوا به فيه، وكم يَغْفل الدعاة في عصرنا عن هذه السنّة وهذا الأسلوب النبويّ القدوة، وكم يَغْفل عنه الآباء والمربون. وكم يركن كثير منهم إلى جهده ثم هو لا يوفَّق!!. إنّ هذا الحديث النبوي الشريف دعوة لنا لننتهج الملاطفة والتودد في الدعوة والتربية ولننتهج -أيضاً- أسلوب الدعاء والتوجه إلى الله سبحانه بسؤاله تحقيق ما نصبوا إليه تجاه المدعو والمربَّى. إن لكل منهما أثراً فورياً على النفس يدركه كل إنسان عنده أحاسيسه ومشاعره!.

اختيار الوقت المناسب والظرف المناسب

2 اختيار الوقت المناسب والظرف المناسب عن ابن مسعود قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخوّلنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا1. ومن الأساليب النبوية في التربية والتعليم: اختيار الوقت المناسب والظرف المناسب. وهذا أسلوبٌ نبويّ آخر في الدعوة، وسط بين الإفراط والتفريط، يحكيه الصحابي الجليل الذي تلقّاه من النبي صلى الله عليه وسلم وذاق أثره الطيّب وطبّقه هو عمليّاً:

_ 1 أخرجه البخاري: 3-العلم 11-باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا الفتح: 1/162.

كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخوّلنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا. نعم هكذا حتى ولو كان الواعظ رسولَ الله!! ذلك أنه يُراعِي الظروف النفسية للسامعين فيتحدث حين يكون للحديث قابلية أفضل واستعداد أحسن، لتلقّي كلمات المتكلم وفهْمها واستيعابها، وكثرةُ المواعظ المتتابعة قد لا تُجدي بل قد تدعو للسآمة والملل، وهذا عكس ما يرتجيه بمواعظه فهو يتجنبه. إنه صلى الله عليه وسلم يراعي سنّة التدرج الطبيعي، ويتطلب الإقناع الراسخ الثابت ولو جاء بطيئاً، ويتحاشى الإيمان المتقلِّب غير الثابت ولو جاء أول الأمر في طفْرة عارمة. وأيضاً فإنه صلى الله عليه وسلم يَسُنّ السنّة لمن بعده من الدعاة، المقتدين به، المقتفين أثره، فهو يرسم لهم الطريق عملياً بسيرته!. فينبغي لهم أن يقتدوا به في ذلك عملياً فهو أُستاذ الطريق، ودليل السالك إلى الله عزّ وجل. لقد كان يتخوّل أصحابه بالموعظة، وهو هو، وأصحابه هم أصحابه، رضوان الله عليهم، الذين اختارهم الله لصحبته، واختاروا طريقه وارتضوا سنته، ولزموا الاقتداء به، وأَحبوا ذلك وتركوا في سبيله الدنيا وزخرفها، ولكنه كان يتخوّلهم بالموعظة في الأيام مخافة السآمة عليهم، أي يتعهدهم بالموعظة في الأيام، وذلك أمْرٌ وسطٌ بين التهاون وترْك التذكير والوعظ الذي يُنْسى، وبين الوعظ والتذكير المستمر الذي يُمِلُّ، وكلا هذين داءٌ خطير يتحاشاه صلى الله عليه وسلم بسيرته هذه، فيتخولهم ويتعهدهم بالموعظة. ومِنْ تخوّله لهم بالموعظة أنه يتحيَّن المناسبات لمواعظه، فتقع موقعها في النفوس:

فمِنْ جَدْيٍ1 ميْت يمرّ به في الطريق مع أصحابه يشبّه به الدنيا2. ومِنْ رَجُل يمرّ به في نَفَرٍ من أصحابه في نشاط وقوة مشمّراً عن ساعده للعمل فيسأل أصحابه عن رأيهم فيه ثم يوجههم بمناسبة ذلك، ورجلٍ آخر يَمُرُّ حسن الهيئة وأخر رثُّ الهيئة يتفاوتان في الإيمان والإخلاص، يسأل أصحابه عن رأيهم فيهما فيقوّمون حالهما بمظهرهما فقط، فيقول في الرجل قوي الإيمان الذي كان رثّ الهيئة: هذا خير من مِلْءِ الأرض مثل هذا3. ومن مناسبةٍ ليومٍ فاضلٍ أو شهرٍ أو أيامٍ أو عيدٍ أو آيةٍ تنزل أو حالةٍ تَحْصل أو قصة تقال أو فعلٍ صائب أو عملِ خيرٍ يفعله أحد أصحابه، أو خطأٍ يرتكبه أحد الناس إلى غير ذلك من المناسبات الداعية للتوجيه والتعليم والوعظ. لقد كان حريصاً صلى الله عليه وسلم على الدعوة والتعليم والأمر بالمعروف والنهي عن

_ 1 الجَدْيُ: الذَّكَرُ من أولاد الغنم يُنْظر: لسان العرب: باب الواو والياء من المعتل فصل الجيم. 2 عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِالسُّوقِ دَاخِلاً مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ، وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ، فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ؛ فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ، ثُمَّ قَالَ: "أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟ " فَقَالُوا: مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ، وَمَا نَصْنَعُ بِهِ؟! قَالَ: "أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ؟ ". قَالُوا: وَاللَّهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ لأَنَّهُ أَسَكُّ فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ. فَقَالَ: "فَوَاللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ"، مسلم: 53-الزهد والرقائق ح2957. 3 يُنْظر البخاري: 67-النكاح، 15-باب الأكفاء في الدين الفتح: 9/132.

المنكر، ولكن حرصه على ذلك لم يُخْرجه عن الحكمة واختيار أفضل السبل وأيسرها للوصول للغاية. كان صلى الله عليه وسلم، بتدرجه في التعليم وتحيّنه الفرص والمناسبات يختار الوقت المناسب للكلمة الطيبة، لأن وضع الكلمة الطيبة في غير موضعها ليس بمحمود وليس دعوة. رأيت مرة رجلاً يبدو لي أن فيه خيراً، ومعه كتاب، فجلس في غرفة الانتظار في المستشفى مع المنتظرين، وأخذ يقرأ في الكتاب لنفسه رافعاً صوته طمعاً في أن يستفيد المنتظرون معه دورهم للطبيب. لم يُقَدِّر ظروفهم النفسية وطبيعة المكان الذي هم فيه!!. ما أجمل الفقه في الدين مع الإيمان القوي، وإن النية الطيبة والرغبة في الخير وحدها لا تكفي ما لم ينضم إليها الفقه والحكمة والأسلوب الحسن لوضع النصيحة والكلمة الطيبة في موضعهما. وما أعظم الفرق بين مَثَل وَمَثَل، ورَجُل ورَجُل، وداعية وداعية!!. نسأل الله تعالى التوفيق والسداد، والاقتداء بخير العباد.

استخدام الرسائل والوسائل المتاحة المشروعة

3 استخدام الرسائل والوسائل المتاحة المشروعة عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه رجلاً وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلمّا قرأه

مزّقه، فحسبت أن ابن المسيب قال: فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُمَزَّقوا كل ممزق1. ومن الأساليب النبوية في التربية والتعليم: استخدام الرسائل وجميع الوسائل المتاحة المشروعة. وهذا أسلوبٌ دعوي نبويّ آخر يَظهر فيه حِرْص النبي صلى الله عليه وسلم على استخدام الوسائل الدعوية المشروعة الممكنة ويدل على أنه لم يقتصر صلى الله عليه وسلم على وسيلة واحدة في الدعوة كالاتصال الشخصيّ مثلاً. فها هو ذا هنا يستخدم أسلوب الرسائل يوجهها إلى البلدان ... ومِن ذلك رسالته هذه إلى كسرى، ورسالةٌ أُخرى إلى هِرَقْل عظيم الروم2، وسِوى ذلك مِن الرسائل. إنه الاستثمار للإمكانات المتاحة كلها التي يسخّرها الله تعالى للداعية، وما إرسال الرسائل منه صلى الله عليه وسلم إلا عنوانٌ لهذا المعنى، ودعوةٌ عملية للدعاة في عصره، ومِنْ بعد عصره لتذكُّر هذا الأمر. فإذا تهيأت أسبابٌ أخرى بعد ذلك للدعوة فينبغي أن يأخذ بها الداعية، سواء أكانت "إذاعة مسموعة" تَبْلُغ بها الكلمةُ الواحدة مسامع الدنيا كلها وتصل إلى مسامع ملايين البشر مئات الأقطار! أم كانت إذاعة مرئية، أو "انترنت"، أو بريداً "إلكترونياً"، أو شريطاً مسجَّلاً، "كاسيت" أو "فيديو" أو

_ 1 أخرجه البخاري: 3-العلم 7- باب ما يُذْكر في المناولة ... الفتح: 1/154. وأخرجه في مواضع أُخر. 2 البخاري، ح7، بدْء الوحي.

كتاباً، أو رسالة مخطوطة أو مطبوعة أو صحيفة أو مكالمة هاتفية أو غير ذلك. لا شكّ في أن وجوب امتداد كلمة الداعية من وجوب الدعوة ذاتها، فإذا كانت الدعوة واجبة على المسلم بإمكاناته المحدودة، فإنها واجبة عليه عند توافر الإمكانات المؤثِّرة لديه، كوجوب الدعوة أو أشد، وعندما يُتِيح الله للمسلم وسيلة للدعوة واسعة الانتشار فإن استخدامه لها في الدعوة واجب أيضاً كوجوب الدعوة أو أشد. إن كلمة في المسجد للتوجيه والدعوة أمْرٌ طيب، ولعل أطيب منه كلمة في الإذاعة المسموعة، تتجاوز حدود المسجد، وعدد المصلين، وتتجاوز حدود القطر الذي يقف فيه المتكلم. وإنّ كلمةً يقولها الداعية نصحاً لبائع أشرطة الغناء الماجن مثلاً أَمْرٌ طيب، ولعل أطيب منه رسالة يكتبها في ذلك المعنى ويوجهها لأَلْفِ بائعٍ مثله. ومع هذا فإنه يلزم الأخذ بكل الطرق هذه، ولا يُكتفى بواحد منها عن الآخر. ترى ما مدى استخدام الداعية للوسائل المتاحة؟. لاشك في أن التقصير كبير.. ولو أن كل مسلم أخذ بالوسائل المتاحة له في الدعوة لكان الأثر كبيراً أيضاً، ولبلغت الكلمة الطيبة القلوب والأسماع في مختلف بقاع الأرض، ولكننا قصّرنا في هذا الجانب، فكانت النتيجة ما نرى الآن!! وكثير ممن يُفكر في الدعوة لا يكاد يراها سوى كلمة عابرة يقولها في الطريق وهو ماض لشأنه ثم هو يرى بعد ذلك أنه قد قام بواجب الدعوة، وهيهات هيهات!! والله المستعان.

التعرف على حال المدعوين لمراعاة أسباب استجابتهم

4 التعرّف على حال المدعوين لمراعاة أسباب استجابتهم عن أنس بن مالك قال: كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً. أو أراد أن يكتب. فقيل له: إنهم لا يقرءون كتاباً إلا مختوماً، فاتخذ خاتماً من فضّة نَقْشُهُ: محمد رسول الله، كأني أنظر إلى بياضه في يده1. ومن الأساليب النبوية في الدعوة: التعرف على حال المدعوّين لمراعاة أسباب استجابتهم. يرى بعض الناس أن على الداعية أن لا يقيم وزناً لاعتبارات المدعوين من الكفار، ومشاعرهم، وأمزجتهم، وأن الداعية حينما يقيم وزناً لذلك، أو يحسب له حساباً في دعوته وأسلوبه في مخاطبتهم يكون قد انهزم، وانحرف بطريق الدعوة وأخطأ الطريق!. وهذا خطأ في أسلوب الدعوة، وضعْفٌ في فقْه الداعية لدعوته، يردُّه فعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ ذلك أنه لا يضره في دعوته أن يَخْتِمَ الكتاب مثلاً، ودينُهُ لا يُحرِّم ذلك، والموجَّه لهم الخطاب لا يقرءون الخطاب إلا مختوماً، إِذَنْ فليتخذ خاتماً نَقْشُهُ: محمد رسول الله، ويلبسه في يده صلى الله عليه وسلم!!. وهذا التصرف منه صلى الله عليه وسلم عنوانٌ للمسائل المماثلة، فينبغي للداعية أن يتخذ

_ 1 أخرجه البخاري: 3-العلم 7- باب ما يُذْكر في المناولة ... الفتح: 1/155. وأخرجه في مواضع أُخر.

منها المَوْقِفَ نَفْسَه ولا ينبغي أن يَقْتصر فِقْهنا للحديث على أنه يجوز أن يُخْتم الكتابُ، وأنه يجوز لبْس خاتم الفضة1. إنّ على الداعية -كي ينجح في إيصال الدعوة إلى قلوب المدعوين- أن يُراعيَ أعرافهم وتقاليدهم وأمزجتهم وثقافاتهم في حدود ما يجيزه الإسلام، ولاسيما في دعوتهم أول الأمر، طالما أن ذلك لا يُخْرج الداعية إلى تحليل حرام أو تحريم حلال، فإن هذا أمر إذا تَنَبَّه له قد يكون مفتاحاً لقلوبهم، وسبباً لهدايتهم.

_ 1 الإمام ابن حجر في شرحه للحديث واستنباط الأحكام منه لم يزد على حكم لبس الخاتم. يُنْظر: فتح الباري في شرح الأحاديث ذات الأرقام: 65، 2938، 5870،5872،5874-5875،7162، ولا بأس؛ لأنه لم يَقْصد هذا الجانب مِنْ فقه الحديث. ولكن علينا أن لا نقتصر عليه.

الدعوة إلى الفقة في الدين والتربية عليه

5 الدعوة إلى الفقه في الدين، والتربية عليه عن معاوية قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من يُرِد الله به خيراً يفقّهْهُ في الدين، وإنما أنا قاسمٌ والله يعطي، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله" 2. ومن الأساليب النبوية في الدعوة: الدعوة إلى الفقه في الدين، والتدريب عليه.

_ 2 أخرجه البخاري: 3- العلم 13- باب من يُرِد الله به خيراً يفقّهْهُ في الدين الفتح: 1/164. وأخرجه في مواضع أُخر.

إن هذا الحديث تربيةٌ على الفقه في الدين، ودعوة للفقه في الدين، فما أحرى المسلم أن يقف عند معنى هذه التربية، وهذه الدعوة: "مَنْ يُرِد الله به خيراً يفقّهْهُ في الدين". إنه ينبغي للمسلم أن يسائل نفسه: ماذا يفقه من دينه؟ والفقه شيء نفيس ليس هو الحفظ، بل الحفظ شيء آخر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "ليبلِّغ الشاهد الغائب؛ فإن الشاهد عسى أن يُبلِّغ من هو أوعى له منه" 1. والداعية إلى الإسلام هو أَولى المسلمين بالفقه في الدين، حتى يدعو إليه على بصيرة، ويعرف إلى ماذا يدعو الناس؟ وكيف يدعو الناس؟ وما هي الأولويات؟ وهل يتدرج في الدعوة؟ وأيّ أسلوب يعتمد في دعوته؟ فما أحوجه إلى أن يتعرف: هل رُزِق الفقه في الدين؟. ما أكثر مَنْ يُحْسن الظن بنفسه، وهو لا يتجاوز وظيفة الحفظ فقط، وما أكثر مَنْ لا يعرف الفقه أصلاً، ولا يظنه غير الحفظ، أوْ لا يعرف الفقه إلا التمذهب بمذهب أحد الأئمة أو قراءة عبارات الفقهاء وحفظ آرائهم. وما أحوج الداعية إلى أن يسلك هذا الأسلوب النبويّ في التربية على الفقه في الدين، فبالفقه يكون الخير للإنسان وللمجتمع. وكثير من الدعاة قد يَجْمع الناسَ على عواطف فقط، قد تكون طيبة ولكنها لا تكفي، ولكنها ليست هي نصوص الدين، ولكنها ليست هي

_ 1 أخرجه البخاري: 3-العلم، 9-باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "رُبّ مبلَّغ أَوْعَى مِن سامعٍ" الفتح: 1/157-158.

مقاصد الدين كلها، ويُربّي أتباعه وتلاميذه على العاطفة وعلى الغيرة ولكن على غير بصيرة. وهذا نقْص، وخلل شديد، تكون له آثاره السيئة فيما بعد -ولو أرضى العواطف الإيمانية أول الأمر- وقد قال الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم: {قُل هَذِهِ سَبِيلِي أُدعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيْرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبعَني} 1. فإذا كانت الدعوة واجبة، فإن الواجب أن تكون على بصيرة وعلى فقه وفهم ووعي. وبذلك الفهم والفقه ينبغي أن يكون الداعية أول مَنْ يَعْتني. وينبغي أن يكون العِلْم هو الأساس الذي تُبنى عليه الدعوة، بل العلم شرط للقول والعمل. ولهذا قال الإمام البخاري: العلم قبل القول والعمل، لقول الله تعالى: {فَاعْلم أنَّه لا إِلهَ إلاّ الله} 2. فبدأ بالعلم. وإن العلماء هم ورثة الأنبياء. ورّثوا العلم، مَنْ أَخَذَه أخذ بحظ وافر. ومَنْ سلك طريقاً يَطْلب به عِلْماً سهّل الله له طريقاً إلى الجنة. وقال جلّ ذكره: { ... إنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَماءُ} 3. وقال: { ... وَمَا يَعْقِلُهَا إلاَّ الْعَالِمُون} 4. وقال: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصحابِ السَّعير} 5.

_ 1 108: يوسف: 12. 2 19: محمد: 47. 3 28: فاطر: 35. 4 43: العنكبوت: 29 5 10: الملك:67

وقال عز وجل: { ... هَلْ يَسْتَوِي الَّذينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُون} 1. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يُرِد الله به خيراً يفقّهْه في الدين" 2. "وإنما العلم بالتعلّم" 3. وقال ابن عباس: كونوا ربانيين حكماء فقهاء علماء4.

_ 1 9: الزمر: 39. 2 مضى تخريجه. 3 قال ابن حجر: "هو حديث مرفوع، أورده ابن أبي عاصم والطبراني من حديث معاوية أيضاً بلفظ "يا أيها الناس تعلموا، إنما العلم بالتعلم، والفقه بالتفقه، ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ... "، إسناده حسن، إلا أن فيه مبهماً اعتضد بمجيئه من وجه آخر، وروى البزار نحوه من حديث ابن مسعود موقوفاً". الفتح 1/161. 4 صحيح البخاري: 3-العلم، 10- باب العلم قبل القول والعمل ... ، الفتح: 1/159-160.

ولم يفتأ النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى التعليم والتعلّم وإلى الفقه في الدين، وأقوالُه وسيرتُه تشهد بذلك.

المبحث السادس: مذهب أهل السنة والجماعة في خلاف الأمة في العبادات

المبحث السادس: مذهب أهل السنة والجماعة في خلاف الأمة في العبادات مدخل ... مذهب أهل السنّة والجماعة في خلاف الأمة في العبادات توطئة: كَتَبَ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في هذا الموضوع رسالة نفيسة1، ينبغي أن تُقرأ في سبيل تَصوُّرِ منهجِ الإسلام في مثل هذا القضايا المهمة؛ فأحببت نقل خلاصةٍ لها هنا2، نظراً لأهميتها، ونظراً لموافقتها لهذا الموضوع الذي أَعْرضه، وكذلك نقلت بعض المعاني من رسالته الأخرى التي عنوانها: قاعدة في توحّد الملّة وتعدّد الشرائع وتنوعّها، وتوحّد الدّين المليّ دون الشرعي3، كما نقلت هنا في البداية شيئاً مِن أسباب الخلاف مِن رسالته الأخرى: رفْع الملام عن الأئمة الأعلام.

_ 1 رسالة مطبوعة ضمن "مجموعة الرسائل المنيرية" 3/115-127، بعنوان: "خلاف الأمة في العبادات ومذهب أهل السنّة والجماعة" عُنيتْ بنشرها وتصحيحها للمرة الأولى سنة 1346هـ، إدارة الطباعة المنيرية وعليها اعتمدتُ فيما نقلتُه منها، وهذه الرسالة قد كُرّرتْ في الرسالة الأخرى التي جاءت بعدها مباشرة، في الطبعة المنيرية، حيث نُقلتْ فيها هذه بكاملها بعد أربعة فصول من بدايتها. 2 وكنتُ في الطبعة الأُولى مِن هذا الكتاب قد نقلتُ الكلام كله بنصّه. 3 رسالة مطبوعة ضمن: "مجموعة الرسائل المنيرية" 3/128-165، وعلى هذه الطبعة اعتمدتُ فيما نقلتُه منها، وهي كذلك مطبوعة في "مجموعة فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمة" 19/106-154. ولم تكرر فيها الرسالة التي قبلها، كما هو الشأن في الطبعة المنيرية.

وقد تصرّفتُ في العبارات في كثيرٍ مِن الأحيان، مع المحافظة على المعنى، وحافظتُ في أحيانٍ كثيرة أيضاً على العبارات، كما زدتُ بعض المعاني للربط أو للتوضيح فقط؛ فَجُلُّ الكلام كلامه إلا ما ندَر، وقد تصرَّفت في كلامه بالتقديم والتأخير والحذف إذا كان الكلام استطراداً أو فيه غموضٌ على القاريء، واعتنيتُ في هذا النقل بعلامات الترقيم، والتفقير وإحالة الآيات والأحاديث، وتصويب الأخطاء المطبعية دون الانشغال أو الإشغال بالتنبيه عليها. وتبقى كلٌ مِن الرسالتين مرجعاً لمن أراد التأكد أو الاستزادة، وإن كنت قد نقلتُ جُلَّ ما فيهما. ومما دعاني إلى هذا التصرّف في عبارات الشيخ، رحمه الله تعالى، ما رأيته مِن صعوبةٍ في ترتيب كلام الشيخ، وذلك بسبب كثرة الاستطرادات، وصعوبة الأسلوب على كثيرٍ مِن القرّاء في زماننا هذا. مدخلٌ إلى الموضوع: حصَلَ بين الأمّة خلافٌ في صفات العبادات الظاهرة، مثل: الأذان، والجهر بالبسملة، والقنوت في الفجر، والتسليم في الصلاة، ورفع الأيدي فيها، ووضع الأكفّ فوق الأكف، ومثل التمتعِ والإفراد والقِران في الحج، ونحو ذلك. وهذا الخلاف مبنيٌّ على الرواية أو على الرأي. فالخلاف المبنيّ على الرواية راجعٌ إلى أسبابٍ، والخلاف المبنيّ على الرأي راجعٌ إلى أسبابٍ.

وقد تحدَّث شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية عن هذا الموضوع في رسالةٍ أخرى قيّمةٍ جديرة بالقراءة، وهي "رفْع الملام عن الأئمة الأعلام"؛ لعل مِن المناسب في هذا المدخل إيراد ما يهمنا منها؛ فمما قال فيها، محدِّداً لأسباب الخلاف هذه، قوله: وبعد: فيجب على المسلمين -بعد موالاة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم- موالاة المؤمنين، كما نطق به القرآن، خصوصاً العلماء، الذين هم ورثة الأنبياء، الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم. يُهتدى بهم في ظلمات البر والبحر. وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم. إذ كل أمة -قبل مبعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم - فعلماؤها شرارها، إلا المسلمين، فإن علماءهم خيارهم، فإنهم خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم في أمته. والمُحْيُونَ لِمَا مات من سنته. بهم قام الكتاب، وبه قاموا. وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا. وليعلم: أنه ليس أحد من الأئمة -المقبولين عند الأمة قبولا عاماً- يتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته، دقيق ولا جليل. فإنهم متفقون اتفاقاً يقينياً على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى أن "كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ولكن إذا وُجد لواحد منهم قولٌ قد جاء حديثٌ صحيح بخلافه، فلابد أن يكون له من عذر في تركه. وجميع الأعذار ثلاثة أصناف: أحدها: عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله.

والثاني: عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول. والثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ. وهذه الأصناف الثلاثة تتفرع إلى أسباب متعددة -ثم ذكرها الإمام- ومنها ما يلي1: ?- أن لا يكون الحديث قد بلغه. - أن يكون الحديث قد بَلَغه لكنه لم يَثْبت عنده. - اعتقاد ضعف الحديث باجتهادٍ قد خالفه فيه غيره، مع قطع النظر عن طريق آخر ... - اشتراطه في خبر الواحد العدل الحافظ شروطاً يخالفه فيها غيره. - أن يكون الحديث قد بلغه، وثبت عنده، لكن نسيه. - عدم معرفته بدلالة الحديث. - اعتقاده أن لا دلالة في الحديث. - اعتقاده أن تلك الدلالة قد عارضها ما دلّ على أنها ليست مراده. - اعتقاده أن الحديث معارَض بما يدل على ضعفه، أو نسخه، أو تأويله -إن كان قابلاً للتأويل- بما يصلح أن يكون معارِضاً بالاتفاق؛ مثل آية أو حديث آخر، أو إجماع. وتحدّث الإمام ابن تيمية عن السبب الأول فقال:

_ 1 تُنظر هذه الأسباب في "رفْع الملام عن الأئمة الأعلام"، لشيخ الإسلام ابن تيمية، الرسالة كلها.

السبب الأول: أن لا يكون الحديث قد بلغه. ومن لم يبلغه الحديث لم يُكلّف أن يكون عالماً بموجبه، وإذا لم يكن قد بلغه -وقد قال في تلك القضية بموجب ظاهر آية، أو حديثٍ آخر، أو بموجب قياس، أو موجب استصحاب - فقد يوافق ذلك الحديث مرةً، ويخالفه أخرى. وهذا السبب: هو الغالب على أكثر ما يوجد من أقوال السلف مخالفاً لبعض الأحاديث؛ فإن الإحاطة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن لأحد من الأمة. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحدِّثُ، أو يفتي، أو يقضي، أو يفعل الشيء، فيسمعه أو يراه من يكون حاضراً، ويُبَلِّغه أولئك -أو بعضهم- لمن يبلغونه، فينتهي علم ذلك إلى من شاء الله من العلماء، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ثم في مجلس آخر: قد يحدِّث، أو يفتي، أو يقضي، أو يفعل شيئاً، ويشهده بعض من كان غائباً عن ذلك المجلس، ويبلّغونه لمن أمكنهم. فيكون عند هؤلاء من العلم ما ليس عند هؤلاء، وعند هؤلاء ما ليس عند هؤلاء. وإنما يتفاضل العلماء من الصحابة ومَن بعدهم بكثرة العلم، أو جودته. وأما إحاطةُ واحد بجميع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا لا يمكن ادعاؤه قط1. وقال: فمن اعتقد أن كل حديث صحيح قد بلغ كلَّ واحد من الأئمة، أو

_ 1 رفع الملام عن الأئمة الأعلام، لابن تيمية: 13-14.

إماماً مُعَيّناً؛ فهو مخطئ خطأً فاحشاً قبيحاً. ولا يقولَنَّ قائل: إن الأحاديث قد دُوِّنت وجُمعت، فخفاؤها -والحال هذه- بعيد. لأن هذه الدواوين المشهورة في السنن إنما جُمعت بعد انقراض الأئمة المتبوعين رحمهم الله. ومع هذا فلا يجوز أن يُدَّعى انحصار حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في دواوين معينة. ثم لو فرض انحصار حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس كلُّ ما في الكتب يعلمه العالم. ولا يكاد ذلك يحصل لأحد. بل قد يكون عند الرجل الدواوين الكثيرة، وهو لا يحيط بما فيها. بل الذين كانوا قبلَ جمع هذه الدواوين كانوا أعلم بالسنة من المتأخرين بكثير. لأن كثيراً مما بلغهم -وصحَّ عندهم- قد لا يبلغنا إلا عن مجهول، أو بإسناد منقطع، أو لا يبلغنا بالكلية. فلقد كانت دواوينهم صدورهم التي تحوي أضعاف ما في الدواوين. وهذا أمر لا يشك فيه من علم القضية1. وختم هذا الموضوع بقوله: فلا بد أن نؤمن بالكتاب كله. ونتبع ما أُنزل إلينا من ربنا جميعه، ولا نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض. ولا تلين قلوبنا لاتِّباع بعض السنة، وتَنْفِر

_ 1 رفع الملام عن الأئمة الأعلام، لابن تيمية:22-23

عن قبول بعضها بحسب العادات والأهواء؛ فإن هذا خروج عن الصراط المستقيم إلى صراط المغضوب عليهم والضالين1. ومِن أوسعِ أبواب الخلافات بين العلماء الخلاف في فهم الرواية ومدلولها. وفيما يلي حديثٌ عن طبيعة هذا الخلاف في العبادات الظاهرة، وبيان مؤدَّاهُ عند الأئمة، وبيان المنهج الصحيح في التعامل مع هذا الخلاف، وسيكون الحديث عن هذا وفق العناصر التالية: - اجتماع الكلمة ومكانته في الإسلام. - الآثار السيئة للتنازع والاختلاف. - أنواع الفساد المترتبة على الخلاف. - طريق العصمة من الفُرقة هو الاعتصام بالأصلين. - الأصل الأول: الاعتصام بالجماعة. - أمثلةٌ لتطبيق هذه القاعدة. - الأصل الثاني: الاعتصام بالسنّة. - أمثلةٌ على تطبيقات هذا الأصل. - ما يجوز فيه الخلاف وما لا يجوز. - اختلاف التنوع في الأعمال المشروعة. - المفاضلة بين الأعمال.

_ 1 رفع الملام عن الأئمة الأعلام، لابن تيمية: ص 106، وهنا انتهى النقل مِن هذه الرسالة.

- الاختلاف الذي أقرِّوا عليه وساغ لهم العمل به.

اجتماع الكلمة ومكانته في الاسلم

اجتماع الكلمة ومكانته في الاسلم * ... مثل قوله: "عليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة" 1. وقوله: "فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد" 2. وقوله: "من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه؛ فإن من فارق الجماعة قِيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه" 3. وقوله: "ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ "، قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "صلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة. لا أقول تَحْلق الشَّعْر ولكن تَحْلق الدين" 4.

_ 1 أخرجه الترمذي: كتاب الفتن، 7- باب ما جاء في لزوم الجماعة 4/466، حديث ابن عباس رضي الله عنهما: يد الله مع الجماعة، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث ابن عباس إلا من هذا الوجه، وقال: وتفسير الجماعة عند أهل العلم: هم أهل الفقه والعلم والحديث. 2 ... عليكم بالجماعة وإياكم والفُرقة، فإن الشيطان ... إلخ الحديث أخرجه الترمذي: كتاب الفتن، 7- باب ما جاء في لزوم الجماعة 4/465-466، وقال هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. 3 أخرجه البخاري: 92- كتاب الفتن، 2- باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "سترون بعدي أموراً تنكرونها"، الفتح: 13/5، لكن بلفظٍ فيه: ... فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات إلا مات ميتة جاهلية، وكرره في 93- كتاب الأحكام، 4- باب السمع والطاعة للإمام، ما لم تكن معصية، الفتح 13/121. وأخرجه مسلم بلفظ البخاري في: 33- كتاب الإمارة، ح 55،56، ط. محمد فؤاد عبد الباقي 3/1477-1478. 4 أخرجه بهذا اللفظ الترمذي، صفة القيامة، 56- باب سوء ذات البين هي الحالقة، 4/663-664. وأخرجه أبو داود إلى قوله: "هي الحالقة" في كتاب الأدب 58-بابٌ في إصلاح ذات البين: 5/218.

وقوله: "من جاءكم وأَمْركم على رجل واحد منكم، يريد أن يُفرّق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائناً مَنْ كان" 1. وقوله: "يُصلّون لكم، فإن أصابوا فلكم، وإن أَخطؤوا فلكم وعليهم" 2. وقوله: "ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فِرقة، منها واحدة ناجية، واثنتان وسبعون في النار" -قيل: ومَن الفِرقة الناجية؟ قال: "هي الجماعة، يد الله على الجماعة" 3. وباب الفساد الذي وقع في هذه الأمة، بل وفي غيرها، هو: التفرق والاختلاف فإنه وقع بين أمرائها وعلمائها من ملوكها ومشايخها وغيرهم من ذلك ما الله به عليم، وإنْ كان بعض ذلك مغفوراً لصاحبه، لاجتهاده الذي يُغْفر فيه خطؤه، أو لحسناته الماحية، أو توبته، أو لغير ذلك. لكن يُعْلم أنّ رعايته من أعظم أصول الإسلام. ولهذا كان امتياز أهل

_ 1 أخرجه بنحوه مسلم في: 33-الإمارة ح59 و60 ط/ محمد فؤاد: 3/1479-1480، وغيره. 2 أخرجه البخاري في: 10-الأذان، 55-باب إذا لم يُتِمّ الإمام وأتم مَنْ خلفه. الفتح: 2/187. وغيره. 3 يُنْظر: "سلسلة الأحاديث الصحيحة" للألباني: 1/356-367 و3/480، والمستدرك للحاكم: 1/128، وقد رواه أيضاً أحمد في المسند: 3/120 و145، وأبو داود في سننه: الباب الأول من كتاب السنّة، والترمذي في: الإيمان، باب افتراق هذه الأمة، وابن ماجه في: الفتن، باب افتراق الأمم. وغيرهم، وانظر الحاشية رقم 90-91.

النجاة عن أهل العذاب من هذه الأمة بالسنة والجماعة، ويذكرون في كثير من السنن والآثار في ذلك ما يطول ذكره. وكان الأصل الثالث بعد الكتاب والسنة الذي يجب تقديم العمل به هو: "الإجماع" فإن الله لا يَجْمع هذه الأمة على ضلالة. ومِن الناس مَن يُخالف أهل السنّة والجماعة وهدْي هذا الدين؛ متعللاً بما ورد عنهم مِن الخلاف في تلك المسائل، كالروافض والمعتزلة، ونحوهم، ممن ينتحل القياس والعقل، ويَطعن في كثير مما ينقله أهل السنّة والجماعة، ويعللون ذلك بما ذُكِر من الاختلاف ونحوه، وربما جَعل ذلك بعضُ أرباب الملة من أسباب الطعن فيها وفي أهلها، فيكون بعض هؤلاء المتعصبين ببعض هذه الأمور الصغار ساعياً في هدم قواعد الإسلام الكبار. وبهذا يتبين مكانة اجتماع الكلمة على الهدى والدين مِن خلال نصوص الدين ومقاصده، ويتبين أن مادّة الاجتماع هي التي جاء بها هذا الدين، لا الافتراق؛ وأيُّ شيء يَجمع الكلمة أعظم مِن هذا الذي جاء به الإسلام، وأمرَ به: إذا كان الله تعالى: - قد أمرنا بطاعته، وطاعة رسوله، وأولي الأمر منّا. - وأمرنا عند التنازع في شيء أن نرده إلى الله وإلى الرسول. - وأمرنا بالاجتماع والائتلاف. - ونهانا عن التفرق، والاختلاف.

- وأمرنا أن نستغفر لمن سبقنا بالإيمان. - وسمّانا المسلمين. - وأمرنا أن ندوم عليه إلى الممات. فهذه النصوص، وما كان في معناها، توجب علينا الاجتماع في الدين، كاجتماع الأنبياء قبلنا في الدين. وولاةُ الأمور فينا هم خلفاء الرسول. قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي قام نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء، ويكثرون"، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: "أوفوا بيعة الأول فالأول، وأَدّوا لهم الذي لهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم" 1. وقال أيضاً: "العلماء ورثة الأنبياء" 2. ورُوي عنه أنه قال: "وددت أني قد رأيت خلفائي". قالوا: ومن خلفاؤك؟ قال: "الذين يحيون سنتي، يعلمونها الناس" 3؛ فهؤلاء هم ولاة

_ 1 البخاري: 60-الأنبياء، 50-باب ما ذكر عن بني إسرائيل. الفتح: 6/495. 2 جزء مِن حديثِ: "مَن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً"، أخرجه الترمذي، 2682، العلم، وأبو داود، 3641، العلم. وقال ابن حجر عنه: "طرف من حديث أبي داود والترمذي وابن حبان والحاكم مصححاً، من حديث أبي الدرداء، وحسّنه حمزة الكناني وضعّفه باضطرابٍ في سنده، لكن له شواهد يتقوى بها". الفتح: 1/160. 3 ذكْره له بصيغة التمريض يوحي بضعفه عنده، ولكن الحديث موضوع، ولفظه: عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم ارحم خلفائي". قلنا: يا رسول الله، ومن خلفاؤك؟ قال "الذين يأتون من بعدي يروون أحاديثي ويعلمونها الناس". = رواه الطبراني في الأوسط، وفيه أحمد بن عيسى بن عبد الله الهاشمي، قال الدارقطني: كذاب. مجمع الزوائد: 1/126، وقال الذهبي عن حديثه هذا بعد أن أورده في "الميزان" 1/126-127: وهذا باطل؛ فالحديث موضوعٌ مِن هذا الوجْه، ويُنظر "الضعفاء والمتروكين" للدارقطني، رقم 53. وليس في أحمد هذا غير قول الدارقطني؛ ولذلك يؤخذ به، حسب قواعد الجرح والتعديل. وقد رُوي الحديث عن غيره لكن لا تقوم بهم حجة. يُنظر: "سلسلة الأحاديث الضعيفة"، برقم 854. وكأن الإمام ابن تيمية-رحمه الله تعالى-ساق الحديث مِن حفظه؛ فسبقت ذاكرته إليه بدلاً مِن غيره من الأحاديث التي وردت على هذه الصيغة من الأحاديث الثابتة؛ فحصل الخطأ عندئذٍ في لفظ الحديث وفي تصوِّر درجته. وفي صحيح مسلم: 2-الطهارة، ح:39 "وددت أَنّا قد رأينا إخواننا ... " الحديث، وفي آخره: "أُناديهم: ألا هلمّ! فيقال: إنهم قد بدّلوا بعدك. فأقول: سحقاً سحقاً"!!.

الأمر بعده، وهم الأمراء والعلماء وبذلك فسّرها السلف ومَنْ تبعهم من الأئمة، كالإمام أحمد وغيره، وهو ظاهرٌ، قد قررناه في غير هذا الموضع.

الآثار السيئة للتنازع والاختلاف

الآثار السيئة للتنازع والاختلاف: كانت الخلافات الفقهية بين الأئمة مبنيةً على أدلةٍ ترجع إلى الرواية أو الرأي، وعلى قواعد وأصولٍ علمية في الاستدلال. وجميعهم متفقون على طلب الحق بدليله، والحفاظ على كيان الإسلام وأهله، وهُمْ-بهذه الرغبة، وهذه الغاية-متفقون غير مختلفين؛ لأنّ غايتهم واحدة على أيّ حالٍ، سواء اتفقوا في الرأي الفقهيّ أو اختلفوا. وعلى الرغم مِن هذا إلا أنّ مَن جاء بعدهم، ممن خفيت عليه هذه الحقيقة مِن أتباعهم قد خالف هذا المنهج، بسبب تعصّبه لمتبوعه، وغلوّه فيه، واتخاذه

مقياساً له دائما في تمييز الحق والصواب. وبهذا المسلك استحكمت في بعض الناس ظاهرة التعصب والغلوّ، وأصبح بعض الناس يتعامل مع ظاهرة الخلافات الفقهية تعاملاً غير فقيه، وأصبح بعضهم يتجاوز الحق إذا جاء على لسان المخالف له؛ وحصلت-بسبب هذا التنازع والخلاف في العبادات الظاهرة والشعائر-أنواعٌ مِن الفساد الذي يكرهه الله ورسوله وعباده المؤمنون.

أنواع الفساد المترتبة على الخلاف

أنواع الفساد المترتبة على الخلاف: وأهم أنواع الفساد المترتبة على هذا الخلاف ما يلي: أحدها: جهْل كثير من الناس أو أكثرهم بالأمر المشروع المسنون، الذي يحبه الله ورسوله، والذي سنّه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمّته، والذي أمرهم باتباعه. الثاني: ظلْم كثير من الأمة أو أكثرهم بعضهم لبعض، وبغيهم عليهم: تارة بنهْيهم عمّا لم ينه الله عنه. وبغْضهم على ما لم يبغضهم الله عليه. وتارة بترك ما أوجب الله من حقوقهم وصلتهم، لعدم موافقتهم لهم على الوجه الذي يؤثرونه، حتى إنهم يُقَدِّمون في الموالاة والمحبة وإعطاء الأموال والولايات مَنْ يكون مؤخَّراً عند الله، ورسوله، ويَتْركون من يكون مقدَّماً عند الله ورسوله لذلك1.

_ 1 وهذا مشاهَدٌ اليوم لدى كثيرٍ مِن المختلفين مِن المسلمين، للأسف، وأمثلته تتكرر على الناس.

الثالث: اتّباع الظن وما تهوى النفس، حتى يصير كثير منهم متديِّناً باتّباع الأهواء في هذه الأمور المشروعة، وحتى يصير في كثير من المتفقهة والمتعبدة من الأهواء من جنس ما في أهل الأهواء الخارجين عن أهل السنّة والجماعة، كالخوارج والروافض والمعتزلة ونحوهم. وقد قال تعالى في كتابه: {وَلاَ تَتَّبِع الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} 1. وقال في كتابه: {وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} 2. الرابع: التفرّق والاختلاف المخالف للاجتماع والائتلاف، حتى يصير بعضهم يبغض بعضاً ويعاديه، ويحب بعضاً ويواليه على غير ذات الله، وحتى يفضي الأمر ببعضهم إلى الطعن واللعن والهمز واللمز، وببعضهم إلى الاقتتال بالأيدي والسلاح، وببعضهم إلى المهاجرة والمقاطعة حتى لا يصلي بعضهم خلف بعض3. وهذا كله من أعظم الأمور التي حرّمها الله ورسوله. وكثير من هؤلاء يصير من أهل البدعة بخروجه عن السنّة التي شرعها

_ 1 26: سورة ص: 38. 2 77: المائدة: 5. 3 وهذا أمرٌ مشاهدٌ في الناس اليوم يَشهد بصدْق ما قاله هذا الإمام الموفَّق، رحمه الله تعالى.

رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، ومِنْ أهل الفُرْقة بالفُرْقة المخالفة للجماعة التي أمر الله بها رسوله، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ في شَيءٍ} 1. وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} 2. وقال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَة، وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَوةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة} 3. وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} 4. وقال تعالى: {وَآتَيناهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} 5. وقال تعالى: {فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم يَومَ الْقِيَامَة} 6.

_ 1 159: الأنعام: 6. 2 213: البقرة: 2. 3 4،5: البينة: 98. 4 19: آل عمران: 3. 5 17: الجاثية: 45. 6 93: يونس: 10.

النوع الخامس: هو شكُّ كثير من الناس وطعْنهم في كثير مما أهلُ السنّة والجماعة عليه متفقون، بل وفي بعض ما عليه أهل الإسلام، بل وبعض ما عليه سائر أهل الملل متفقون، وذلك: - من جهة نقلهم وروايتهم تارة. - ومن جهة تنازعهم ورأيهم أخرى. أما الذي مِن جهة النقل والرواية: فقد عُلِم أن الله حفظ هذا الدين، كما قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظَون} 1؛ فحفظ الله الذكر الذي أنزله على رسوله. وأَمرَ أزواجَ نبيه بذكْره، أي بأن يَذكرنَهُ، حيث يقول: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَة} 2. وحَفِظه من أن يقع فيه من التحريف ما وقع فيما أَنزل قبله. كما عصم هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة. فعصم حروف التنزيل أن تُغَيَّر. وحفظ تأويله أن يَضِلّ فيه أهل الهدى المتمسكون بالسنّة والجماعة. وحفظ أيضاً سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما ليس فيها، من الكذب عمداً أو خطأ، بما أقامه من علماء أهل الحديث وحفّاظه الذين فحصوا عنها وعن

_ 1 9: الحجر: 15. 2 34: الأحزاب: 33.

نَقَلَتِها ورواتها، وعلموا من ذلك ما لا يعلم غيرهم، حتى صاروا مجتمعين على ما تلقوه بالقبول منها إجماعاً معصوماً من الخطأ، لأسباب يطول وصفها في هذا الموضع، وعلموا، هم خصوصاً، وسائر علماء الأمة، بل وعامتها، عموماً ما صانوا به الدّين عن أن يزاد فيه أو ينقص منه مثلما علموا أنه لم يفرض عليهم في اليوم والليلة إلا الصلوات الخمس، وأن مقادير ركعاتها ما بين الثنائي، والثلاثي، والرباعي، وأنه لم يفرض عليهم من الصوم إلا شهر رمضان، ومن الحج إلا حج البيت العتيق، ومن الزكاة إلا فرائضها المعروفة، إلى نحو ذلك. وعلموا كَذِبَ أهل الجهل والضلالة فيما قد يأثرونه عن النبي صلى الله عليه وسلم لعلْمهم بكذب من يَنْقل عنه نقلاً واضح الكذب؛ إمّا لمعارضته للأمر المنقول الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم، أو لكونه مما تتوافر الدواعي لتواتر نقْله عنه، لو كان صحيحاً1.

_ 1 هنا ذَكَر شيخ الإسلام ابن تيمية أمثلةً مِن المنقولات المكذوبة على الرسول صلى الله عليه وسلم، التي عَلِم كَذِبَها أئمة الحديث، فقال: - زعْم الرافضة أن النبي صلى الله عليه وسلم نصّ على عليّ بالخلافة نصاً قاطعاً جلياً. - وزعْم آخرين أنه نص على العباس. - أكاذيب الرافضة والناصبة التي يأثرونها، مثل: - الغزوات التي يروونها عن عليّ وليس لها حقيقة، كما يرويها المُكِدُّون الطرقية مثل: أكاذيبهم الزائدة في سيرة عنترة والبطال، حيث علموا مجموع مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن القتال فيها كان في تسعِ مغازٍ فقط، ولم يكن عِدّةُ المسلمين، ولا العدوّ، في شيء من مغازي القتال عشرين ألفاً. - ومثل الفضائل المرويّة ليزيد بن معاوية ونحوه. - والأحاديث التي يرويها كثير من الكرّامية في الإرجاء ونحوه.=والأحاديث التي يرويها كثير من النسّاك في صلوات أيام الأسبوع، وفي صلوات أيام الأشهر الثلاثة. - والأحاديث التي يروونها في استماع النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه وتواجده، وسقوط البردة عن ردائه، وتمزيقه الثوب، وأخذ جبريل لبعضه وصعوده به إلى السماء. - وقتال أهل الصُفّة مع الكفار. - واستماعهم لمناجاته ليلة الإسراء. - والأحاديث المأثورة في نزول الرب إلى الأرض يوم عرفة وصبيحة مزدلفة، ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم له في الأرض بعين رأسه. - وأمثال هذه الأحايث المكذوبة التي يطول وصفها. فإن المكذوب من ذلك لا يحصيه أحد إلاّ الله تعالى؛ لأن الكذب يحدث شيئاً فشيئاً، ليس بمنزلة الصدق الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يحدث بعده، وإنما يكون موجوداً في زمنه صلى الله عليه وسلم، وهو محفوظ محروس بنقل خلفاء الرسول وورثة الأنبياء.

طريق العصمة من الفرقة هو: الاعتصام بالأصلين: السنة والجماعة

طريق العصمة مِن الفُرقة هو: الاعتصام بالأصلين: السنّة والجماعة مدخل ... طريق العصمة مِن الفُرقة هو: الاعتصام بالأصلين: السنّة والجماعة: إذا تَبَيّنَ بعضُ ما حصل في هذا الاختلاف والتفرق من الفساد، فنحن نذكر طريق زوال ذلك، ونذكر ما هو الواجب في الدين في هذه المنازعات. وذلك ببيان الأصلين اللذين هما: السنّة والجماعة. المدلول عليهما بكتاب الله فإنه إذا اتُّبِعَ كتاب الله، وما تضمنه من اتّباع رسوله، والاعتصام بحبله جميعاً، حصل الهدى والفلاح وزال الضلال والشقاء.

الأصل الأول: الاعتصام بالجماعة

الأصل الأوّل: الاعتصام بالجماعة: أمّا الأصل الأول وهو الجماعة -وبدأنا به لأنه أعرف عند عموم الخلق؛ ولهذا يجب عليهم تقديم الإجماع على ما يظنونه من معاني الكتاب والسنّة- فنقول:

يتبيَّنُ هذا الأصل بتطبيق القواعد التالية: - القاعدة الأُولى: غالبُ الخلاف إنما هو في أمور مستحبة ومكروهة: عامة هذه التنازعات إنما هي في أمور مستحبات ومكروهات، لا في واجبات ومحرمات. فهذه قاعدة بها يتوصّل الباحث عن طريق النجاة في هذا الأمر إلى فهْم حقيقة الخلاف الوارد عن الأئمة في أبواب الفقه. أمثلةٌ لتطبيق هذه القاعدة: المثال الأول: الرجل إذا حج متمتعاً أو مفرداً أو قارناً كان حجه مُجْزئاً عند عامة علماء المسلمين. وإن تنازعوا في الأفضل من ذلك1. المثال الثاني: الأذان، سواء رجّع فيه أو لم يرجّع، فإنه أذان صحيح عند جميع سلف الأمة وعامة خلفها، وسواء ربّع التكبير في أوله أو ثنّاه، وإنما يُخالِف في ذلك بعض شواذ المتفقهة، كما خالف فيه بعض الشيعة فأوجب له الحيعلة بـ:"حي على خير العمل". المثال الثالث: الإقامة يصح فيها الإفراد والتثنية، بأيتها أقام صحت إقامته عند عامة

_ 1 ولكن بعض الخارجين عن الجماعة يوجب، أو يمنع، ذلك، فمن الشيعة من يوجب المتعة، أي التمتع في الحج، ويحرِّم ما عداها، ومن الناصبة من يحرّم المتعة ولا يبيحها بحال..

علماء الإسلام، إلا ما تنازع فيه شذوذ الناس. المثال الرابع: الجهر بالبسملة والمخافتة كلاهما جائز، لا يبطل الصلاة، وإن كان من العلماء من يستحب أحدهما، أو يكره الآخر، أو يختار أن لا يقرأ بها. فالمنازعة بينهم في المستحب، وإلا فالصلاة بأحدهما جائزة عند عامة العلماء، فإنهم وإن تنازعوا بالجهر والمخافتة في موضعهما: هل هما واجبان أم لا؟ وفيه نزاع معروف في مذهب مالك وأحمد وغيرهما، فهذا في الجهر الطويل بالقدر الكثير، مثل المخافتة بقرآن الفجر والجهر بقراءة صلاة الظهر. فأما الجهر بالشيء اليسير أو المخافتة به فمما لا ينبغي لأحد أن يبطل الصلاة بذلك، وما أعلم أحداً قال به، فقد ثبت في الصحيحين1 عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في صلاة المخافتة يُسمعهم الآية أحياناً2.

_ 1 أخرجه البخاري في: 10-الأذان، 97-باب القراءة في العصر، عن أبي قتادة الفتح: 2/246 وأخرجه في مواضع أُخر. ومسلم في 4-الصلاة ح155 1/333. 2 ذَكَر الإمام ابن تيمية هنا أدلةً أخرى على هذا الأمر، فقال: وفي صحيح البخاري عن رفاعة بن رافع الزرقي قال: كنا نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رفع رأسه من الركعة قال: سمع الله لمن حمده. قال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. فلما انصرف قال: "من المتكلم؟ ". قال: أنا. قال: "رأيتُ بضعة وثلاثين مَلَكاً يبتدرونها أيهم يكتبها أولُ". ومعلومٌ أنه لولا جهره بها لما سمعه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا الراوي، ومعلومٌ أن المستحب للمأموم المخافتة بمثل ذلك. البخاري في: 10-الأذان، باب رقم 126 الفتح: 2/284. وكذلك ثبت في الصحيح: عن عمر أنه كان يجهر بدعاء الاستفتاح: "سبحانك اللهم = وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك"، وهذا فعله بين المهاجرين والأنصار، والسنّة الراتبة فيه: المخافتة. صحيح الإمام مسلم: 4-كتاب الصلاة، 13-باب حجة من قال: لا يجهر بالبسملة، ح52. وكذلك كان من الصحابة من يجهر بالاستعاذة. وفي الصحيح عن ابن عباس أنه جهر بقراءة الفاتحة على الجنازة، وقال: لتعلموا أنها السنّة. ولهذا نظائر. البخاري: 23-الجنائز، 65-باب قراءة فاتحة الكتاب على الجنازة، "الفتح: 3/203".

وأيضاً فلا نزاع أنه كان من الصحابة من يجهر بالبسملة كابن الزبير ونحوه، ومنهم من لم يكن يجهر بها كابن مسعود وغيره، وتكلم الصحابة في ذلك ولم يُبطِل أحدٌ منهم صلاةَ أحدٍ في ذلك، وهذا مما لم أعلم فيه نزاعاً، وإن تنازعوا في وجوب قراءتها، فتلك مسألة أخرى. المثال الخامس: القنوت في الفجر، إنما النزاع بينهم في استحبابه، أو كراهيته وسجودِ السهو لتركه، أو فعله، وإلا فعامتهم متفقون على صحة صلاة مَنْ ترك القنوت، وأنه ليس بواجب، وكذلك مَنْ فَعلَه إذْ هو تطويل يسير للاعتدال ودعاء الله في هذا الموضع، ولو فعل ذلك في غير الفجر لم تبطل صلاته باتفاق العلماء فيما أعلم. المثال السادس: القنوت في الوتر هل هو في جميع الحول أو النصف الآخر من رمضان؟ إنما هو في الاستحباب، إذ لا نزاع أنه لا يجب القنوت، ولا تبطل الصلاة به،

وكذلك كونه قبل الركوع أو بعده. المثال السابع: تكبيرات العيد الزوائد، إنما النزاع في المستحب منها، وإلاّ فلا نزاع في أنه يجزئ ذلك كله. المثال الثامن: أنواع الألفاظ في التشهد كلها جائز، ما أعلم في ذلك خلافاً، إلاّ خلافاً شاذّاً، وإنما النزاع في المستحب. المثال التاسع: أنواع الاستفتاح في الصلاة. وأصل الاستفتاح، إنما النزاع في استحبابه، وفي أي الأنواع أفضل، والخلاف في وجوبه خلافٌ قليلٌ. - القاعدة الثانية: إذا كان خلافهم إنما هو في الاستحباب عُلِم اجتماعهم على الجواز: وإذا كان النزاع إنما هو في الاستحباب عُلِم الاجتماع على جواز ذلك وإجزائه، ويكون ذلك بمنزلة القراءات في القرآن، فإن جميعها جائز، وإن كان من الناس من يختار بعض القراءات على بعض. وبهذا يزول الفساد المتقدم فإنه إذا عُلِم أن ذلك جميعه جائز مجزئ في العبادة، لم يكن النزاع في الاختيار ضاراً، بل قد يكون النوعان سواء، وإن رجح بعض الناس بعضها.

ولو كان أحدهما أفضل لم يجز أن يُظْلم مَنْ يختار المفضول، ولا يُذَمّ، ولا يُعاب، بإجماع المسلمين. بل المجتهد المخطئ لا يجوز ذمه بإجماع المسلمين. - القاعدة الثالثة: لا يجوز أن يُعْطَى الحُكم الفرعيّ فوق حقه، ولا أن يُنْقَصَ عنه: ولا يجوز التفرّق بذلك بين الأمة. ولا أن يُعطى المستحب فوق حقه، فإنه قد يكون مَنْ أتى بغير ذلك المستحب من أمورٍ أخرى واجبة ومستحبة أفضلَ بكثير. ولا يجوز أن تُجعل المستحبات بمنزلة الواجبات، بحيث يمتنع الرجل مِنْ تركها، وَيَرى أنه قد خرج من دينه، أو عصى الله ورسوله، بل قد يكون تَرْك المستحبات لمعارضٍ راجح أفضلَ من فعلها، بل الواجبات كذلك. - القاعدة الرابعة: مراعاة ائتلاف القلوب يُقَدَّم على بعض المستحبات: ومعلوم أن ائتلاف قلوب الأمة أعظم في الدين من بعض هذه المستحبات، فلو تركها المرء لائتلاف القلوب كان ذلك حسناً، وذلك أفضل إذا كان مصلحة ائتلاف القلوب دون مصلحة ذلك المستحب. وقد أخرجا في الصحيحين1 عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية، لنقضت الكعبة، ولألصقتها بالأرض، ولجعلت

_ 1 أخرجه البخاري في: 3-العلم، 48-باب من ترك بعض الاختيار مخافةَ أن يَقْصُرَ فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه الفتح: 1/224. ومسلم في: 15-الحج، ح:398، فما بعده 2/968-972.

لها باباً يدخل الناس منه وباباً يخرجون منه". وقد احتج بهذا الحديث البخاري وغيره على أن الإمام قد يَتْرك بعض الأمور المختارة لأجل تأليف القلوب ودفعاً لنفرتها. ولهذا نصّ الإمام أحمد على أنه يجهر بالبسملة عند المعارض الراجح، فقال: يجهر بها إذا كان بالمدينة. قال القاضي لأن أهلها إذْ ذاك كانوا يجهرون فيجهر بها للتأليف وليعْلِمَهم أنه يُقرأ بها، وقال غيره: بل لأنهم كانوا لا يقرءونها بحال فيجهر بها ليعْلِمَهم أنه يُقْرأ بها، وأن قراءتها سنّة، كما جهر ابن عباس بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة. فهذا أصل عظيم ينبغي مراعاته، وبهذا يزول الشك والطعن، فإن الاتفاق إذا حصل على جواز الجميع وإجزائه عُلِم أنه داخل في المشروع، فالتنازع في الرجحان لا يضر، كالتنازع في رجحان بعض القراءات، وبعض العبادات، وبعض العلماء ونحو ذلك، بل قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم كُلاًّ من القرّاء أن يقرأ كما يعلم، ونهاهم عن الاختلاف في ذلك، فمَنْ خالف في ذلك كان ممن ذمّه الله ورسوله، فأما أهل الجماعة فلا يختلفون في ذلك.

الأصل الثاني: الاعتصام بالسنة

الأصل الثاني: الاعتصام بالسنّة: وأما الأصل الثاني: فنقول: السنّة المحفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها من السعة والخير ما يزول به الحرج، وإنما وقعت الشبهة لإشكال بعض ذلك على بعض الناس.

أمثلة على تطبيقات هذا الأصل: المثال الأول: الأذان فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم سنّ في الإقامة الإيتار والشفع، ففي الصحيحين1: أنه أمر بلالاً أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة. وفي صحيح مسلم2: أنه علّم أبا محذورة الإقامة مثنى مثنى، مثل الأذان، فإذا كان كل واحد من مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمره النبي صلى الله عليه وسلم بأحد النوعين، صار ذلك مثل تعليمه القرآن لعمر بحرف ولهشام بن حكيم بحرف آخر، وكلاهما قرآن أَذِنَ الله أن يُقْرأ به. وكذلك الترجيع في الأذان هو ثابت في أذان أبي محذورة، وهو محذوف من أذان بلال الذي رووه في السنن. المثال الثاني: الجهر بالبسملة والمخافتة بها، صح الجهر بها عن طائفة من الصحابة وصحت المخافتة بها عن أكثرهم، وعن بعضهم الأمران جميعاً. وأما المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم فالذي في الصحاح والسنن يقتضي أنه لم يكن يجهرُ بها، كما عليه عمل أكثر الصحابة وأمته.

_ 1 البخاري: 10-الأذان، 2-باب الأذان مثنى مثنى الفتح: 3/82، ومسلم: 4-الصلاة، ح:2-5 1/286. 2 يُنْظر الحديث في ذلك عند مسلم: 4-الصلاة، ح:6 1/287.

ففي الصحيح1 حديث أنس وعائشة وأبي هريرة يدل على ذلك دلالة بيّنة لا شبهة فيها. وفي السنن أحاديث أُخَرُ مثل حديث ابن مغفَّل وغيره. وليس في الصحاح والسنن حديثٌ فيه ذكْرُ جهْرِهِ بها. والأحاديث المصرِّحة بالجهر عنه كلها ضعيفة عند أهل العلم بالحديث، ولهذا لم يخرِّجوا في أمهات الدواوين منها شيئاً. ولكن في الصحاح والسنن أحاديث محتملة، وقد روى الطبراني بإسناد حسن عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بها إذ كان بمكة، وأنه لما هاجر إلى المدينة ترك الجهر بها حتى مات، ورواه أبو داود في الناسخ والمنسوخ، وهذا يناسب الواقع، فإن الغالب على أهل مكة كان الجهرَ بها، وأما أهل المدينة والشام والكوفة فلم يكونوا يجهرون بها، وكذلك أكثر البصريين، وبعضهم كان يجهر بها، ولهذا سألوا أنساً عن ذلك. ولعلّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بها بعض الأحيان أو جهراً خفيفاً، إذا كان ذلك محفوظاً، وإذا كان في كتب الحديث نفسها أنه فعل هذا مرة وهذا مرة زالت الشبهة.

_ 1 يُنْظر: البخاري: 10-الأذان، 89-باب ما يقول بعد التكبير، الفتح: 2/226، ومسلم: 4- الصلاة، ح:50-52 1/299.

المثال الثالث: القنوت، وأمْره بيّنٌ لا شبهة فيه عند التأمل التام. فإنه قد ثبت في الصحاح1 عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قنت في الفجر مرة يدعو على رُعَل وذَكْوان وعُصَيّة ثم تركه، ولم يكن ترْكه نسخاً له، لأنه ثبت عنه في الصحاح أنه قنت بعد ذلك يدعو للمسلمين: مثل الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام والمستضعفين من المؤمنين، ويدعو على مضر2. وثبت عنه أنه قنت أيضاً في المغرب والعشاء، وسائر الصلوات، قنوت استنصار. فهذا في الجملة منقول ثابت عنه، لكن اعتقد بعض العلماء من الكوفيين أنه تَرَكَه تَرْكَ نسخٍ، فاعتقد أن القنوت منسوخ، واعتقد بعضهم من المكيين أنه مازال يقنت في الفجر القنوت المتنازع فيه حتى فارق الدنيا. والذي عليه أهل المعرفة بالحديث أنه قَنَتَ لسبب، وَتَرَكَه لزوال السبب، فالقنوت من السنن العوارض لا الرواتب، لأنه ثبت أنه تركه لَمّا زال العارض، وثبت في الصحاح أنه لم يقنت بعد الركوع إلا شهراً، هكذا ثبت عن أنس وغيره، ولم ينقل أحد قط عنه أنه قنت القنوت المتنازع فيه -وهو القنوت الدائم في الصبح- لا قبل الركوع ولا بعده، ولا في كتب الصحاح والسنن شيء من ذلك، بل قد أنكر ذلك الصحابة كابن عمر وأبي مالك

_ 1 يُنْظر صحيح البخاري: 14-الوتر، 7- باب القنوت قبل الركوع وبعده الفتح: 2/489. 2 البخاري: 15-الاستسقاء، 2-باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "اجْعلها عليهم سنين كسِنِيِّ يوسف" الفتح: 2/492.

الأشجعي وغيرهما. ومن المعلوم قطعاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان كل يوم يقنت قنوتاً يجهر به لكان له فيه دعاء ينقله بعض الصحابة؛ فإنهم نقلوا ما كان يقوله في القنوت العارض، وقنوت الوتر؛ فالقنوت الراتب أولى أن يُنْقل دعاؤه فيه، فإذا كان الذي يستحبه إنما يدعو فيه لقنوت الوتر، عُلِم أنه ليس فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا مما يُعْلم باليقين القطعي كما يُعْلم عدم النص على هذا وأمثاله، فإنه من الممتنع أن يكون الصحابة كلهم أهملوا نَقْلَ ذلك، فإنه مما يُعْلم بطلانه قطعاً. ولذلك المأثور عن الصحابة مثل عمر وعليّ وغيرهما هو القنوت العارض، قنوت النوازل، ودعاء عمر فيه، وهو قوله: اللهم عذّب كفرة أهل الكتاب ... إلخ، يقتضي أنه دعا به عند قتاله للنصارى، وكذلك دعاء عليّ عند قتاله لبعض أهل القبلة، والحديث الذي فيه عن أنس أنه لم يَزَلْ يَقْنُت حتى فارق الدنيا مع ضعف في إسناده، وأنه ليس في السنن إنما فيه القنوت قبل الركوع. وفي الصحاح عن أنس أنه قال: لم يقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع إلا شهراً. والقنوت قبل الركوع هو القيام الطويل، إذْ لفظ القنوت معناه دوام الطاعة، فتارة يكون في السجود، وتارة يكون في القيام.

المثال الرابع: كيفيّة حجّة الوداع، فإنها وإن اشتبهت على كثير من الناس، فإنما أُتوا من جهة الألفاظ المشتركة، حيث سمعوا بعض الصحابة يقول: إنه تمتع بالعمرة إلى الحج وهؤلاء أيضاً يقولون: إنه أفرد الحج، ويقول بعضهم: إنه قرن العمرة إلى الحج. ولا خلاف في ذلك؛ فإنهم لم يختلفوا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحل من إحرامه، وأنه كان قد ساق الهدي، ونحره يوم النحر، وأنه لم يعتمر بعد الحجة في ذلك العام، لا هو ولا أحد من أصحابه، إلا عائشة أمر أخاها أن يُعْمِرها من التنعيم أدنى الحِلّ. وكذلك الأحاديث الصحيحة عنه، فيها أنه لم يَطُفْ بالصفا والمروة إلا مرة واحدة مع طوافه الأول. فالذين نقلوا أنه أفرد الحج صدقوا لأنه أفرد أعمال الحج، لم يَقْرِن بها عمل العمرة كما يَتَوهم مَنْ يقول: إن القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين، ولم يتمتع تمتعاً حَلّ به من إحرامه كما يفعله المتمتع الذي لم يسق الهدي، بل قد أمر جميع أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة، ويُهِلوا بالحج بعد قضاء عمرتهم".

مايجوز فيه الخلاف وما لا يجوز

ما يجوز فيه الخلاف وما لا يجوز: يختلف الخلاف بحسب المسائل التي فيها الخلاف: أ- فالأصول الثابتة بالكتاب والسنّة والإجماع هي بمنزلة الدين المشترك بين الأنبياء ليس لأحد خروج عنها، ومن دخل فيها كان من أهل الإسلام

المحض، وهم أهل السنّة والجماعة. ب- وما تنوّعوا فيه من الأعمال والأقوال المشروعة، فهو بمنزلة ما تنوّعت فيه الأنبياء. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا} 1. وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُم مِنَ اللهِ نُوْرٌ وَكِتَابٌ مُبينٌ، يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} 2. وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} 3.

_ 1 69: العنكبوت: 29. 2 15،16: المائدة: 5. 3 208: البقرة: 2.

اختلاف التنوع في الأعمال المشروعة

اختلاف التنوُّع في الأعمال المشروعة: والتنوع قد يكون في الوجوب تارة، وفي الاستحباب أخرى. أمثلةُ التنوُّع في الواجبات: فتنوُّعهم في الواجبات مثل: وجوب الجهاد على قومٍ، وعلى قومٍ الزكاة، وعلى قومٍ تعليم العلم. وهذا يقع في فروض الأعيان، وفي فروض الكفايات. أمثلةٌ لاختلاف التنوّع في فروض الأعيان: ومِن ذلك: - ما يجب على كل رجل إقامة الجماعة، والجمعة، في مكانه مع أهل بقعته.

- ويجب عليه زكاة نوعِ ماله، بصرفه إلى مستحقه لجيران ماله. - ويجب عليه استقبال الكعبة من ناحيته. - والحج إلى بيت الله من طريقه. - ويجب عليه بِرُّ والديه، وصِلَته ذوي رحمه. - والإحسان إلى جيرانه، وأصحابه، وممالكيه، ورعيته. - ونحو ذلك من الأمور التي تتنوع فيها أعيان الوجوب، وإن اشتركت الأمة في جنس الوجوب. وتارة تتنوّع بالقُدْرة والعجز: كتنوّع صلاة المقيم والمسافر، والصحيح والمريض، والآمن والخائف. أمثلةٌ لاختلاف التنوّع في فروض الكفايات: وفروض الكفايات تتنوّع بتنوّع فروض الأعيان، ولها تنوّع يخصّها وهو أنها تتعيّن على من لم يَقُمْ بها غيرُهُ، فقد تتعين في وقتٍ ومكانٍ، وعلى شخص، أو طائفة، وفي وقت آخر، أو مكان آخر، على شخص آخر، أو طائفة أخرى، كما يقع مثل ذلك في الولايات، والجهاد، والفتيا، والقضاء، وغير ذلك. وأما اختلاف التنوّع في الاستحباب فهو أبلغ، فإن كل تنوّع يقع في الوجوب، فإنه يقع مثله في المستحب، ويزداد المستحب بأنّ كل شخص إنما يُستحب له من الأعمال التي يتقرب بها إلى الله تعالى- التي يقول الله فيها: "وما

يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه" 1- ما يَقْدر عليه، ويفعله وينتفع به، والأفضل له من الأعمال ما كان أنفع له، وهذا يتنّوع تنوّعاً عظيماً. فأكثر الخلق يكون المستحب لهم ما ليس هو الأفضل مطلقاً، إذ أكثرهم لا يقدرون على الأفضل، ولا يصبرون عليه إذا قدروا عليه، وقد لا ينتفعون به بل قد يتضررون إذا طلبوه، مثل: - من لا يمكنه فهم العلم الدقيق، إذا طلب ذلك فإنه قد يُفْسد عقله ودينه. - أو من لا يمكنه الصبر على مرارة الفقر. - أو لا يمكنه الصبر على حلاوة الغنى. - أو لا يقدر على دفع فتنة الولاية عن نفسه، والصبر على حقوقها. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عزّ وجل: "إن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك" 2.

_ 1 البخاري: 81-الرقائق، 38-باب التواضع الفتح: 11/340. 2 " إن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ... " هذا جزء مِن حديثٍ ذكره في "كنز العمال ... " في حديث طويل في: 1/230-231، حديث رقم 1160، وعزاه إلى: "ابن أبي الدنيا في كتاب الأولياء، والحكيم، وابن مردويه، ... ، وابن عساكر، عن أنس". وذكره بنحو معناه في حديثٍ طويل أيضاً في: 1/232، برقم 1161، وفيه: "وربما سألني ولِيِّي المؤمن الغنى فأصرفه إلى الفقر، ولو صرفته إلى الغنى لكان شراً له ... "، وعزاه إلى الطبراني عن ابن عباس. وفي "مجمع الزوائد: 10/285، عن رافع ابن خديج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أحب الله عبداً حماه الدنيا، كما يَظَلُّ أحدُكم يحمي سقيمَهُ الماءَ" وقال: رواه الطبراني، وإسناده حسن، ثم ذكره بلفظ آخر بنحوه عن عقبة بن رافع، وقال: رواه أبو يعلى، وإسناده حسن. وفي المسند: 5/427: حدثنا عبد الله، حدثني أبي، حدثنا أبو سعيد، حدثنا سليمان، عن عمرو أبي عمرو، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل ليحمي عبده المؤمن من الدنيا، وهو يحبه، كما تحمون مريضكم من الطعام والشراب تخافونه عليه ... "، وساقه في المسند بسند آخر في: 5/428.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر لَمّا سأله الإمارة: "يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمّرنّ على اثنين ولا تَوَلّين مال يتيم" 1. وروي عنه أنه قال للعباس عمه: "نفس تنجيها خير من إمارة لا تحصيها" 2.

_ 1مسلم: 33-إمارة ح:17. 2 المصنّف، لابن أبي شيبة: 13/296، الطبعة الهندية.

المفاضلة بين الأعمال

المفاضلة بين الأعمال: ولهذا إذا قلنا: هذا العمل أفضل، فهذا قول مُطْلَقٌ، ثم المفضول يكون أفضل في مكانه، ويكون أفضل لمن لا يَصْلح له الأفضل 3. وهذه قاعدة عامّة ينبغي أن تحكَّمَ في باب المفاضلة بين الأعمال. أمثلة على قاعدة المفاضلة هذه: مِن الأمثلة على هذه القاعدة ما يلي: أ- المفاضلة بين الذكْر وقراءة القرآن:

_ 3 يُنْظر كلامٌ نفيسٌ للإمام ابن تيمية رحمه الله، في المفاضلة بين الأعمال، في مجموع الفتاوى: 11/399-400، 660.

فقراءة القرآن أفضل من الذّكْر، بالنص والإجماع والاعتبار. أما دلالة النص على أنه أفضل فقوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الكلام بعد القرآن أربع "وهي من القرآن" سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" 1. وقوله صلى الله عليه وسلم: "فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه" 2. وقوله عن الله: "مَنْ شغله قراءة القرآن عن ذِكْري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين" 3. وقوله: "ما تَقَرَّب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه" 4. وقول الأعرابي له: إني لا أستطيع أن آخذ شيئاً من القرآن فعلمني ما يجزيني في صلاتي فقال: "قل سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر" 5.

_ 1 البخاري: 83-الأيمان والنذور، باب رقم 19 الفتح: 11/566. 2 أخرجه الترمذي -بلفظ جمع بين هذه العبارة والعبارة الآتية، في: 46-فضائل القرآن، باب رقم 24، ح2926، وقال: هذا حديث حسن غريب. والدارمي في: فضائل القرآن، حديث: 3356، و3357. وقد عَقَد الإمام البخاري في صحيحه باباً بعنوان: فضل القرآن على سائر الكلام، ورقمُهُ: 17، مِن 66-كتاب فضائل القرآن. ويُنظر تخريج ابن حجر له في الفتح: 9/66، وخلاصة القول أن كلَّ طُرقه لا تخلو مِن مقالٍ، ونَقَل عن البخاري أنه أشار في "خَلْق أفعال العباد" إلى أنه لا يصح مرفوعاً، وإنما هو مِن قول أبي عبد الرحمن السُّلَمِي". 3 هذا جزء من الحديث السابق عند الترمذي برقم: 2926، وعند الدارمي برقم: 3356. 4 أخرجه أحمد في المسند: 5/268، والترمذي في "فضائل القرآن"، باب رقم 17 5/176، ويُنْظر ما قاله في سنده. 5 أخرجه أحمد في المسند: 4/353و356، والنسائي في سننه: 11-الافتتاح، باب رقم 32: = "ما يجزئ من القراءة لمن لا يحسن القرآن" 2/110 ط. البابي الحلبي.

وأما دلالة الإجماع على أنّ قراءة القرآن أفضل مِن الذكْر، فقد حكاه طائفة، ولا عبرة بخلاف جهال المتعبّدة. وأما دلالة الاعتبار على أنّ قراءة القرآن أفضل مِن الذكْر: فإن الصلاة يجب فيها القراءة، فإنْ عجز عنها انتقل إلى الذكر، ولا يجزيه الذِّكرُ مع القدرة على القراءة، والمبدَل منه أفضلُ من البدل الذي لا يجوز إلا عند العجز عن المبدَّل. وأيضاً فالقراءة يشترط لها الطهارة الكبرى، كما يشترط للصلاة الطهارتان، والذِّكْر لا يشترط له الكبرى ولا الصغرى؛ فعُلِم أن أعلى أنواع ذكر الله هو الصلاة، ثم القراءة، ثم الذِّكْر المطْلَق، ثم الذِّكر في الركوعِ والسجودِ أفضل بالنص والإجماع من قراءة القرآن. وكذلك كثير من العُبّاد1 قد يَنْتفع بالذكر في الابتداء ما لا يَنْتفع بالقراءة؛ إذ الذكر يعطيه إيماناً، والقرآن يُعْطيه العلم، وقد لا يفهمه، ويكون إلى الإيمان أحوج منه، لكونه في الابتداء. والقرآن مع الفهم لأهل الإيمان أفضل بالاتفاق. فهذا وأمثاله يُشْبه تنوع شرائع الأنبياء فإنهم متفقون على أن الله أمر كلاً

_ 1 في المطبوع "العبادات"، والصواب ما أثبتُّ، وقد نبّهني، مشكوراً، إلى هذا أخي وشقيقي: د. عطا الله.

منهم بالدين الجامع وإن تَعَبّدَهُ1 بتلك الشِّرْعة والمنهاج، كما أن الأمة الإسلامية متفقة على أن الله أمر كلَّ مسلم من شريعة القرآن بما هو مأمور به، إما إيجاباً وإما استحباباً، وإن تنوعت الأفعال في حق أصناف الأمة فلم يختلف اعتقادهم ولا معبودهم، ولا أخطأ أحد منهم، بل كلهم متفقون على ذلك يُصدِّق بعضهم بعضاً. الاختلاف الذي أُقرِّوا عليه وساغ لهم العمل به: وأما ما يشبه اختلاف التنوّع السابق ذكْره من وجه دون وجه2، فهو ما تنازعوا فيه مما أُقِرُّوا عليه، وساغ لهم العمل به من اجتهاد العلماء والمشايخ والأمراء والملوك-فلم تُفرِّق بينهم تلك الخلافات-: 1- كاجتهاد الصحابة في قطع النية وتركها. 2- واجتهادهم في صلاة العصر لَمَّا بعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة، وأمرهم أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة فصلى قوم في الطريق في الوقت، وقالوا: إنما أراد التعجل لا تفويت الصلاة، وأَخّرها قوم إلى أن وصلوا

_ 1 في المطبوع: "وأن نعبده" والصواب ما أثبتّه، وقد نبّهني إلى هذا أخٌ يَعمل عضواً في هيئة التدريس بجامعة العين، وقد غاب عنّي اسمه الذي كنت أحتفظ به مع رسالته. 2 هذا هو النوع الثاني من الاختلاف، وذلك لأن الخلاف يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أنواع: الأول: هو ما سبق ذكره مِن الخلاف، وهو الخلاف السائغ الذي أحد الطرفين فيه مصيب، والطرف الآخر غير مصيب، وإن كان مأجوراً معفوّاً عن خطئه. الثاني: اختلاف التنوّع في الأعمال المشروعة. الثالث: هو هذا، وهو ما تنازعوا فيه مما أُقرّوا عليه وساغ لهم العمل به.

وصلّوها بعد الوقت، تمسكاً بظاهر لفظ العموم. فلم يُعَنِّف النبي صلى الله عليه وسلم واحدة من الطائفتين، وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر" 1. 3- وقد اتفق الصحابة -في مسائل تنازعوا فيها- على إقرار كل فريق للفريق الآخر على العمل باجتهادهم. كمسائل في العبادات، والمناكح، والمواريث والعطاء، والسياسة، وغير ذلك. 4- وحَكَمَ عمر أول عام في الفريضة الحِماريّةِ2 بعدم التشريك، وفي العام الثاني بالتشريك في واقعةٍ مثل الأولى، ولَمَّا سئل عن ذلك قال: تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي. وهم الأئمة الذين ثبت بالنصوص أنهم لا يجتمعون على باطل، ولا ضلالة، ودلّ الكتاب والسنّة على وجوب متابعتهم3.

_ 1 أخرجه البخاري: 96-الاعتصام بالكتاب والسنة، 21-باب أجر الحاكم إذا اجتهد ... " الفتح: 13/318، ومسلم: 30-الأقضية ح:15 3/1342. 2 الحماريّة مسألة من مسائل الفرائض، وهي أن يجتمِع: الزوج، والأم، والإخوة مِن أُمّ، والإخوة لأبٍ وأُمّ. وكذلك كل مسألةٍ يجتمع فيها: زوجٌ، وأمٌّ أو جدة، واثنان فصاعداً مِن ولدِ الأُم، وعصبةٌ مِن ولد الأبوين. والمسألة الحمارية هذه تسمّى أيضاً المُشَرَّكة. يُنظر: المغني، لابن قدامة: 9/24. 3 أي في أصول المنهج، وفي أصل الاتّباع، لا في كل جزئيّةٍ مِن جزئيات الآراء والأقوال؛ وإلا فقد ثبت بالكتاب والسنّة أنهم في أفرادهم غير معصومين، ولكنّ العصمة في إجماعهم، رضي الله عنهم.

5- وتنازعوا في مسائل عِلْمية اعتقاديّة: - كسماع الميت صوت الحي. - وتعذيب الميت ببكاء أهله. - ورؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربه قبل الموت. وكان هذا الخلاف بينهم مع بقاء الجماعة والألفة!. وهو الأمر الذي يَغيب عن كثيرٍ مِن المختلفين فيما بينهم مِن المسلمين في زماننا هذا، ولكن نَعِيب زماننا والعيب فينا، نسأل الله أن يَهدينا!. وهذه المسائل التي اختلفوا فيها: أ - منها ما أحدُ القولين خطأ قطعاً. ب- ومنها ما المصيب في نفس الأمر واحد عند الجمهور -أتباع السلف-، والآخر مؤدٍّ لما وجب عليه بحسب قوة إدراكه، وهل يُقال له مصيب أو مخطئ؟ فيه نزاع. جـ- ومن الناس من يجعل الجميع مصيبين ولا حكم في نفس الأمر. د- ومذهب أهل السنّة والجماعة أنه لا إثم على من اجتهد وإن أخطأ، فهذا النوع-أي مِن اختلاف العلماء والأمراء مِن أهل السنّة والجماعة الاختلاف السائغ- يشبه النوع الأول-أي الأنبياء في شرائعهم- من وجه دون وجه.

أما وجه المخالفة: فلأن الأنبياء عليهم السلام معصومون من1 الإقرار على الخطأ، بخلاف الواحد من العلماء والأمراء، فإنه ليس معصوماً من ذلك؛ ولهذا يسوغ، بل يجب، أن نبين الحق الذي يجب اتِّباعُهُ، وإن كان فيه بيان خطأِ مَنْ أخطأ من العلماء والأمراء. وأما الأنبياء فلا يُبَيِّنُ أحدُهما ما يُظْهر به خطأَ الآخر. وأما المشابهة: فلأن كلاً مِن المجتهدين المختلفين مأمور باتباع ما بَانَ له من الحق بالدليل الشرعي كأمْر النبي صلى الله عليه وسلم باتباع ما أوحي إليه، وليس لأحدهما أن يوجب على الآخر طاعته، كما ليس ذلك لأحد النبيين مع الآخر، وقد يظهر للمجتهد من الدليل ما كان خافياً عليه، فيكون انتقاله بالاجتهاد عن الاجتهاد، ويشبه النسخ في حق النبي، لكن هذا في حق المجتهد رفعٌ للاعتقاد، وذاك في حقِّ النبيّ رفعٌ للحكم حقيقةً، وعلى الأتباع اتّباع مَنْ وُلِّي أمرهم من الأمراء والعلماء فيما ساغ له اتّباعه وأُمر فيه باتّباع اجتهاده، كما على الأمة اتّباع أي نبيٍّ بُعث إليهم، وإن خالف شرعُه شرعَ الأول، لكنّ تَنَوّعَ الشروعِ لهؤلاء، وانتقاله، لم يكن لتنوّع نفس الأمر النازل على الرسول، ولكن لتنوّعِ أحوالهم، وهو إدراكُ هذا لما بلغه من الوحي سمعاً وعقلاً، وعجْز الآخر عن إدراك ذلك البلاغ، إما سمعاً لعدم تمكنه من سماع ذلك النص، وإما عقلاً لعدم فهمه لما فهمه الأول من النص، وإذا كان

_ 1 في المطبوع: "عن". والصواب ما أثبتّه. لأن الفعل "عَصَمَ" يُعَدَّى بـ"من" وليس بـ"عن"، وعلى هذا الاستعمال جاء الأسلوب في القرآن الكريم. وقد نبّهني إلى هذا مشكوراً الأخ المذكور في الحاشية 204.

عاجزاً سقط عنه الإثم فيما عجز عنه، وقد يتبين لأحدهما عجز الآخر وخطؤه ويعذره في ذلك، وقد لا يتبين له عجزه، وقد لا يتبين لكل منهما أيهما الذي أدرك الحق وأصابه؛ ولهذا امتنع مَن امتنع من تسمية مثل هذا خطأً؛ قال لأن التكليف مشروط بالقدرة؛ فما عُجِزَ عنه من العلم لم يكن حُكْمَ الله في حقّه، فلا يقال: أخطأه. وأما الجمهور فَيقولون: أخطأ، كما دلت عليه السنّة والإجماع، لكن خطؤه معذور فيه، وهو معنى قوله: عجز عن إدراكه وعلمه. لكن هذا لا يمنع أن يكون ذاك هو مراد الله ومأموره -فإنّ عجْز الإنسان عن فهم كلام العالم لا يمنع أن يكون قد أراد بكلامه ذلك المعنى- وأن يكون الذي فهمه هو المصيب الذي له الأجران. ولهذا تنازعَ أصحابنا فيمن لم يُصِب الحكم الباطن، هل يقال: إنه مصيب في الظاهر لكونه أدى الواجب المقدور عليه من اجتهاده واقتصاده1، أوْ لا يطلق عليه اسم الإصابة بحالٍ، وإن كان له أجرٌ على اجتهاده وقصده الحق؟. على قولين: هما روايتان عن أحمد؛ وذلك لأنه لم يُصِب الحكم الباطن، ولكن قَصَدَ الحق، وهل اجتهد الاجتهاد المأمور به؟. التحقيق أنه اجتهد الاجتهاد المقدور عليه، فهو مصيب من هذا الوجه، من جهة المأمور المقدور، وإن لم يكن مصيباً من جهة إدراك المطلوب وفعل المأمور المطلق.

_ 1 في المطبوع: "واقتصاره".

يوضح ذلك أن السلطان نوعان: 1- سلطان الحجة والعلم، وهو أكثر ما سمي في القرآن سلطاناً، حتى روي عن ابن عباس، أن كل سلطان في القرآن فهو الحجة. 2- الثاني: سلطان القدرة. والعمل الصالح لا يقوم إلا بالسلطانين، فإذا ضَعُف سلطان الحجة كان الأمر بقدْرِه، وإذا ضَعُفَ سلطان القدرة كان الأمر بحَسَبِه،، والأمر مشروط بالقدرة على السلطانين، فالإثم ينتفي عن الأمر بالعجز عن كل منهما، وسلطان الله في العلم هو الرسالة، وهو حجة الله على خلقه، كما قال تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 1. وقال تعالى: {إنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} 2. وقال: {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} 3، ونظائره متعددة: أمثلةٌ ونظائر لهذا الاتفاق وهذا الاختلاف: ومِن أمثلة هذا ما يلي: أ - اختلاف المذاهب والطرائق.

_ 1 165: النساء: 4. 2 23: النجم: 53. 3 35: الروم: 30.

ب - اختلاف العبادات والتوجهات. جـ - اختلاف المسالك العلمية. أ - اختلاف المذاهب والطرائق: فالمذاهب والطرائق والسياسات للعلماء والمشايخ والأمراء، إذا قصدوا بها وجْه الله تعالى، دون الأهواء؛ ليكونوا مستمسكين بالملة والدين الجامع، الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، واتبعوا ما أُنزل إليهم من ربهم من الكتاب والسنّة بحسب الإمكان، بعد الاجتهاد التام، هي لهم من بعض الوجوه بمنزلة الشرع والمناهج للأنبياء، وهم مثابون على ابتغائهم وجه الله وعبادته وحده لا شريك له، وهو الدين الأصلي الجامع، كما يثاب الأنبياء على عبادتهم الله وحده لا شريك له، ويثابون على طاعة الله ورسوله فيما تمسكوا به لأنه من شرعة رسوله ومنهاجه، كما يثاب كل نبي على طاعة الله في شرعه ومنهاجه، ويتنوّع شرعهم ومنهاجهم مثل أن يَبْلُغَ أحدَهم الأحاديثُ بألفاظ غير الألفاظ التي بلغت الآخر، وتُفَسّر له بعض آيات القرآن بتفسير يخالف لفظُه لفظَ التفسير الآخر، ويتصرف في الجمع بين النصوص واستخراج الأحكام منها بنوع من الترتيب والتوفيق ليس هو النوع الذي سلكه غيره. ب - اختلاف العبادات والتوجهات: وكذلك في عباداته وتوجهاته قد يتمسك هذا بآية أو حديث، وهذا بحديث أو آية أخرى.

جـ - اختلاف المسالك العلمية: وكذلك في العلم: من العلماء من يسلك بالاتباع طريقة ذلك العالِم، فتكون هي شرعهم، حتى يسمعوا كلام غيره ويروا طريقته، فيرجح الراجح منهما، فتتنوّع في حقهم الأقوال والأفعال السالفة لهم من هذا الوجه. وهم مأمورون بأن يقيموا الدين، ولا يتفرقوا فيه، كما أمرت الرسل بذلك، ومأمورون بأن لا يفرقوا بين الأمة، بل هي أمة واحدة، كما أُمِرَتِ الرسل بذلك، وهؤلاء آكد؛ فإن هؤلاء تجمعهم الشريعة الواحدة والكتاب الواحد، وأما القدْر الذي تنازعوا فيه فلا يقال: إن الله أمر كلاً منهم باطناً وظاهراً بالتمسك بما هو عليه، كما أمر بذلك الأنبياء -وإن كان هذا قول طائفة من أهل الكلام- فإنما يقال: إن الله أمر كلاً منهم أن يطلب الحق بقدْر وسعه وإمكانه، فإن أصابه وإلا فلا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها، وقد قال المؤمنون: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} 1. وقال الله: قد فعلت2. وقال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيْمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} 3: - فمَنْ ذَمَّهم ولامهم على ما لم يؤاخذهم الله عليه فقد اعتدى. - ومن أراد أن يجعل أقوالهم وأفعالهم بمنزلة قول المعصوم وفعله،

_ 1 286: البقرة: 2. 2 يُنْظر: صحيح مسلم: 1-الإيمان ح: 119، 1/115-116. 3 5: الأحزاب: 33. وفي المطبوع: {ولا جناح عليكم ... } وهو خطأ.

وينتصر لها بغير هدى مِن الله؛ فقد اعتدى واتبع هواه بغير هدى من الله. - ومن فعل ما أُمر به بحسب حاله مِن اجتهاد يَقْدِر عليه، أو تقليدٍ، إذا لم يقدر على الاجتهاد، وسلك في تقليده مسلك العدل فهو مقتصد؛ إذِ الأمر مشروط بالقدرة: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} 1. فعلى المسلم في كل موطنٍ أن يُسْلِم وجهه لله، وهو محسن ويدوم على هذا الإسلام. فإسلام وجهه: إخلاصه لله. وإحسانُ فِعْلِه: فِعْلُهُ الحسن. فتدبرْ هذا فإنه أصلٌ جامعٌ نافعٌ عظيمٌ. انتهى هنا كلام الإمام ابن تيمية، رحمه الله تعالى، ولعله يكون نبراساً لكل مسلم راغبٍ في معرفة الحق واتّباعه في هذه القضية المهمّة، لاسيما في زماننا هذا الذي أطلّت فيه- منذ سنين- على المسلمين فِتَنٌ آخذٌ آخرها بأولها، وكأنها لا أولَ لها ولا آخر، نسأل الله أن يُسلّمنا وإياهم منها، وأن يَردّنا إلى هدْي ديننا، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه!.

_ 1 286: البقرة: 2.

أبرز المعاني التي تناولها هذا البحث

أبرز المعاني التي تناولها هذا البحث أُوجِزُ بعض المعاني البارزة التي أكَّد عليها هذا الموضوع في النقاط الآتية: ضرورة العناية بسنّة المصطفى صلى الله عليه وسلم، والغيرة عليها وعدم التهوين من شأنها، فهي من الدين، وقد أمر الله ورسوله بالأخذ بها. تأكيد الدعوة إلى السنّة بصورة مؤكَّدة تتناول اتّباع السنة شكلاً ومضموناً ومنهجاً وأسلوباً، والاهتداء بهدي السنّة في تطبيقها والدعوة إليها. دعوة الداعي إلى السنّة لمراجعة منهجه وأسلوبه في دعوته وتطبيقه لها مُحْتَكِماً في ذلك إلى الفقه المطلوب في الدين. تأكيد الدعوة، من حيث المنهج، إلى الأخذ بالسنن كلها وعدم الدعوة إلى الاقتصار على بعضها وإهمال بعضٍ آخر، أو عدم حصر الاقتداء في بعض السنن دون بعضٍ آخر. لا ينبغي التركيز على السنن الظاهرة ونسيان غيرها من السنن. تحتاج السنّة إلى فِقْهين لابدّ منهما للاهتداء بهديها، ولا يُغني أحدهما عن الآخر، هما: 1- الفقه العلميّ. 2- الفقه العمليّ. دعوة الناس إلى حب السنّة وتعظيمها ينبغي أن يَسبق دعوتهم إلى

التمسك بها، أو محاسبتهم عليها. إذا لم يُحْسن الإنسان الدعوة إلى السنّة بالحكمة فعليه أن يَكُفّ عن الإساءة إليها؛ بأن لا يرتكب أساليب في الدعوة إليها منفِّرة عنها. على الداعي إلى السنّة أن يبتعد عن الحرص على إصدار الأحكام على الآخرين، تجاه عقائدهم ومدى اتّباعهم للسنّة، وكثرة التبديع. لاتّباع السنّة علامات ينبغي أن تتوافر في الداعي إليها ومن يريد امتثالها والتأسّي بها. لا ينبغي للإنسان أن يتعصب لمتبوعه الذي لم يكتب الله له العصمة من الخطأ. ينبغي أن لا يَصْرف المسلمَ عن السنّة خطأُ الداعي إليها أو سوء تصرّفه. ينبغي للداعي إلى السنّة أن يتعرّف على الأخطاء في فهم السنّة والدعوة إليها ليبتعد عنها، ولن يتعرّف على ذلك إلا بتمحيصٍ ودراسةٍ نقديّةٍ ومحاسبةٍ دقيقةٍ لنفسه في سلوكه وتصرفاته وفَهْمه في ضوء نصوص الكتاب والسنة والمنهج السديد لفهمهما. أهمية فصْل الكتاب والسنّة عن أخطائنا، وإبرائهما مِن ذلك، واعترافنا بأخطائنا، ورجوعنا عنها إلى الكتاب والسنّة. أهمية التفريق بين نقْد أخطائنا وبين نقد السلف، وعدم حمْل أي نقْدٍ يُوَجَّهُ لنا على أنه نقْدٌ للسلف.

إنّ السماحة في الدعوة، والرفق، والتدرّج، وتقديمَ الأهم على المهم، ودفع المفسدتين بأخفّهما، وتَرْك الأَوْلى لمصلحة شرعية، والأخذ بالرخص الشرعية، كل ذلك من السنّة. إنّ الشدّة والغِلظة في الدعوة خطأٌ يأباه هذا الدين، ويَرُدُّه سيرة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم؛ وأنّ الرفق واللين قد جاء الأمر بهما أمراً عامّاً، وجاء الثناء عليهما ثناءً عامَّاً، ليس في ذلك حالةٌ مستثناةٌ مِن هذا الأمر وهذا الثناء؛ بخلاف الشدة والغِلظة؛ فإنّ ما جاء مِن النصوص التي يمكن أن يُستدَل بها عليهما، لا تَدُل على ذلك صراحةً، ثم لم يأتِ ذلك في صورة الدعوة العامّة إليهما، وإنما في حالاتٍ استثنائيةٍ قد تقتضي ذلك. إنّ في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم التطبيقات العملية للسنن وسائر الأحكام الشرعية، فعلى الداعية أن يلتمس المُثُلَ العليا والأسوة الحسنة في سيرة المصطفى الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، على أن يفقهها الفقه الصحيح. ينبغي أن لا نَضيق بالخلاف في المسائل الفقهية الاجتهادية؛ لأنه هو مقتضى الاجتهاد الذي أَمَرَنا الله تعالى به، إلا أن اجتهاد المجتهد يجب أن يكون منضبطاً بضوابط الاجتهاد الشرعية. ينبغي أن نفتح آذاننا وقلوبنا لرأي المخالِف ونَسْمع منه فلربما يكون الحق معه، فيَلْزَمُنَا اتّباعه. ينبغي أن يكون قَصْدنا عندما ندخل في نقاش أو مناظرة مع الطرف المقابل هو محاولة استكشاف الحق في أيّ الجانبين هو لنتّبعه، لا قصْد

إقناع الطرف المقابل فقط، لأنه هو الذي على الباطل!. ينبغي أن نفرّق بين صحة الدليل وبين فقه الدليل. لا ينبغي في المسائل الخلافية أن نستدل بصلاح صاحب الرأي فنستغني به عن التحقق من إصابته في رأيه واجتهاده. هذا إلى غير ذلك من المعاني التي وردت في هذا الموضوع مما لا تغني عنها هذه النقاط.

الخاتمة

الخاتمة وبعدُ -وقد انتهى الموضوع- فلعلّ مِن المناسب هنا التأكيد على الغاية مِن هذا العرض له، والسمة التي حُرِص على أن يكون عليها هذا العرض. فأمّا الغاية فالنصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامّتهم؛ وأيُّ غايةٍ أخرى فهي ساقطةٌ مِن الحساب-يعْلم الله-ولا باقي إلا الباقي سبحانه وما تعلّقَ به. وأمّا السّمَةُ فهي ما رآه القاريء الكريم، مِن بُعْدٍ عن التسميات للأشخاص والهيئات، وإنما هو تتبُّعُ الأخطاء مجرّدةً عن أصحابها؛ لأن الغاية النصيحة، لا الفضيحة، والغاية إسقاط الخطأ، لا إسقاط المخطيء، ونعوذ بالله أن يكون في نفوسنا حقدٌ أو حسدٌ لأحدٍ مِن المسلمين. على أنّ بعض الأخطاء تكشف صاحبها شئنا أم أبينا، ولا بدَّ مِن ذكْرها ومعالجتها على أساس الاعتراف بها أنها أخطاء ومشكلات تنتظر الحل وإعادة النظر؛ فحينئذٍ نكون مضطرين معذورين، إن شاء الله تعالى، وعُذْرنا-إضافةً إلى ذلك هو أننا ليس في غايتنا شيء آخر غير النصح والإصلاح؛ فالمرجوّ أن لا يُعادينا-والحالة هذه- مَن فيه صلاح. وأعتذر للأخ القارئ إن زلّ القلم أو ندّ اللسان بنوع إساءة، فإنما أردت الخير. والحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

§1/1