دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم = الطعن في القرآن الكريم والرد على الطاعنين

عبد المحسن المطيري

أصل هذا الكتاب رسالة علمية قدمت إلى جامعة القاهرة - كلية دار العلوم قسم الشريعة الإسلامية، نال بها المؤلف درجة الدكتوراة بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف وذلك في العام 2003 م

المقدمة

المقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فقد عرف أعداء الإسلام أن مصدر عزة هذا الدين وأهله، وسر تجدده في نفوس المسلمين هو هذا القرآن العظيم، الذي لا يخلق من كثرة الترداد، ولا تنقضي عجائبه، ولا يمله القارئ والسامع ولا يزداد به المؤمن إلا يقينا بدينه وتعلقا به، هذه المعجزة الخالدة، والآية الباقية ما بقي الليل والنهار، هذا الكتاب الذي وعد الله تعالى بحفظه بقوله: {إنا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] . ولما كانت هذه منزلة القرآن، اجتهد أعداء الدين بالطعن في هذا القرآن؛ حتى يسلخوا المسلمين من التعلق به، فيصبحوا صيدا سهلا وغنيمة باردة. وحرب أعداء الدين هذه ليست فقط على القرآن، بل على كل أساساته وقواعده؛ فهناك الحرب على الرسول (صلى الله عليه وسلم) وسنته (¬1) ، والطعن في عدالة الصحابة، والحرب على المرأة المسلمة (¬2) وحجابها وعفافها، ¬

(¬1) أنظر: آيات الله في الكون، د. عبد الله شحاته (ص:3) ، مكتبة نهضة مصر للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 2002، وهذه الطبعة هي الأولى لهذه الدار وإلا فإن الكتاب قد طبع قبل ذلك في غيرها. (¬2) صورة نظمه العجيب والأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب ومنهاج نظمها ونثرها الذي جاء عليه ووقفت عليه مقاطع آياته وانتهت إليه فواصل كلماته ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له.

والحرب على بعض الشعائر كالجهاد (¬1) ، وغيرها من الجبهات، ولكن الحرب على القرآن هي أخطرها وأشدها وأشرسها؛ لأن القرآن هو الذي يدل على الأصول السابقة ويحث عليها، فهو أصلها وهي فروعه، وبذهاب الأصل تذهب الفروع؛ ومن هنا عزمت في هذه الرسالة على جمع هذه المطاعن والإشكالات التي تثار الآن، والتي هي عبارة - في غالبها - عن ترديد لما سبق، فلو عرفها الناس وتحصنوا منها لما حصل هذا الاضطراب من هذه الشبه. ومن أهداف الرسالة أيضا الرد على المستشرقين الذين يطعنون في هذا الدين، ويشككون في قدسية وعصمة كتابه. وكذلك الرد على المعاصرين الذين تأثروا بهذه الشبه وبدأوا يرددونها. فاخترت أن تكون أطروحتي لنيل درجة الدكتوراة بعنوان: الطعن في القرآن الكريم والرد على الطاعنين في القرن الرابع عشر الهجري. ومن الأسباب التي لأجلها اخترت هذا الموضوع: 1- كثرة المطاعن في هذا الزمن خاصة على القرآن، واتهامه بالتناقض، سواء من المستشرقين، أو من أعداء الدين، أو ممن ينتسبون للإسلام. 2- تأثر بعض المسلمين بهذه الشبه التي تثار، فكان لزاما على طلبة العلم وأهله كشف هذه الشبه، وبيان فسادها للناس أجمعين. 3- إثبات إعجاز القرآن، وأنه من عند الله، وأن الله تكفل بحفظه حقا. ¬

(¬1) /الماركسية والقرآن، للمحامي محمد صياح المعرّاوي، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولي،2000.

4- كشف شبه الطاعنين وأكاذيبهم، وبيان أنها ترديد لما أورده الطاعنون السابقون. 5- كشف المنافقين المندسين بين المسلمين للطعن في هذا الدين. 6- امتثالا لأمر النبي (صلى الله عليه وسلم) كما في حديث أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ (قَالَ: «جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ وأَلْسِنَتِكُمْ» (¬1) . 7- الدخول في حزب جند الله المدافعين عن كتابه؛ لعله يكون لنا شافعا يوم القيامة. وأما أهمية الموضوع فتتضح من أمور كثيرة منها: 1- عموم نفعه للمسلمين. 2- أن الموضوع يعالج مشكلة معاصرة ومستمرة. 3- أن هذا الباب لم يُخدم بما يستحقه. 4- خطورة الطعن في القرآن؛ حيث إنه من نواقض العهد مع أهل الذمة، بل من نواقض الإسلام. وقد حَذَّر النبىُّ (من خطورة فتح هذا الباب، حين وجد نفرًا من أصحابه يخوضون فيه ببابه، وذلك فيما ورد من حديث عَمْرِو بْنِ ¬

(¬1) ما أنبأ به من أخبار القرون الماضية والشرائع السالفة مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب الذي قطع عمره في تعلم ذلك فيورده على وجهه ويأتي به على نصه وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب.

شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ نَفَرًا كَانُوا جُلُوسًا بِبَابِ النَّبِيِّ (فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ كَذَا وَكَذَا -وفي رواية أنهم تكلموا في القَدَر- فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَخَرَجَ كَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ، فَقَالَ: «بِهَذَا أُمِرْتُمْ - أَوْ بِهَذَا بُعِثْتُمْ - أَنْ تَضْرِبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، إِنَّمَا ضَلَّتِ الْأُمَمُ قَبْلَكُمْ فِي مِثْلِ هَذَا، إِنَّكُمْ لَسْتُمْ مِمَّا هَاهُنَا فِي شَيْءٍ، انْظُرُوا الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ، فَاعْمَلُوا بِهِ، وَالَّذِي نُهِيتُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» (¬1) . 5- مما يكسب هذه الرسالة أهمية أني لخصت فيها كتبا كثيرة، سواء من كتب الطاعنين أو الرادين عليهم، فهي خلاصة جهود علماء كبار، وعصارة كتب متفرقة. وبعد القراءة التحضيرية، واستشارة الأساتذة، والمشايخ، والاستنارة بعلمهم، جاءت خطة البحث على النحو التالي: المقدمة: التمهيد: وفيه المباحث التالية: المبحث الأول: تعريف الطعن في القرآن. المبحث الثاني: مصطلحات ترادف الطعن. المبحث الثالث: التعريف بالطاعنين في القرن الرابع عشر الهجري. الباب الأول (النظري) : الطعن في القرآن: نشأته، أسبابه، مواجهته ¬

(¬1) ما تضمنه من الأخبار عن الضمائر.

- الفصل الأول: تاريخ الطعن في القرآن والكتب المؤلفة فيه. المبحث الأول: أول من تكلم فيه. المبحث الثاني: أول من ألف فيه. المبحث الثالث: اتجاهات العلماء في التأليف في هذا المجال. المبحث الرابع: الكتب المؤلفة فيه. - الفصل الثاني: أسباب الطعن في القرآن. المبحث الأول: لماذا هذه الحرب على القرآن؟. المبحث الثاني: ما الحكمة من وجود المتشابه في القرآن؟. المبحث الثالث: أنواع المطاعن.. - الفصل الثالث: مواجهة دعاوى الطعن في القرآن. المبحث الأول: تنزيه كلام الله عن المطاعن. المبحث الثاني: موقف سلف الأمة ممن يثيرون الشبه والمطاعن حول القرآن. المبحث الثالث: قواعد التعامل مع المطاعن. الباب الثاني (تطبيقي) : موقف الطاعنين من آيات القرآن والرد عليهم: - الفصل الأول: الردود الإجمالية على من طعن في القرآن: المبحث الأول: الأدلة على صدق الرسول (صلى الله عليه وسلم) : المطلب الأول: بشارة الكتب السابقة به. المطلب الثاني: شهادة المنصفين من المخالفين على صدقه. المطلب الثالث: الآيات التي يجريها الله تعالى على يديه. المطلب الرابع: إقرار الله تعالى له ولدعوته واستجابته لدعائه. المطلب الخامس: من أدلة صدقه كمال أخلاقه. المطلب السادس: استعداده الدائم لأي اختبار يطرح عليه. المطلب السابع: عدم استغلال فرص التعالي. المطلب الثامن: المباهلة على ما عنده. المطلب التاسع: حمايته من كل ما يكاد له. المطلب العاشر: انتفاء الغرض الشخصي. المطلب الحادي عشر: إخباره بالنهايات في البدايات. المطلب الثاني عشر: إخباره بالغيب. المطلب الثالث عشر: إحكام التشريع. المطلب الرابع عشر: الإعجاز العلمي. المطلب الخامس عشر: الوصف الدقيق للغيب. المطلب السادس عشر: تأليف قلوب العرب. المطلب السابع عشر: الإلزام. المبحث الثاني: الأدلة على صدق القرآن وما فيه: المطلب الأول: إعجاز القرآن. المطلب الثاني: التحدي أن يُؤتى بمثله.

المطلب الثالث: شهادة الكفار وأهل الكتاب وأعدائه بصدقه. المطلب الرابع: الوحدة الموضوعية لكل سورة. المطلب الخامس: عدم التناقض. المبحث الثالث: ردود القرآن على الطاعنين. المبحث الرابع: ردود إجمالية أخرى: المطلب الأول: عدم معارضة كفار مكة. المطلب الثاني: قل هاتوا برهانكم. المطلب الثالث: مخالفة الواقع. المطلب الرابع: إجماع الأمة. -. المبحث الأول: التشكيك في نسبة القرآن إلى الله تعالى: المطلب الأول: دعوى أن القرآن من عند نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) . المطلب الثاني: دعوى أن القرآن نقل من غيره. المطلب الثالث: جواز نقده ومخالفته. المبحث الثاني: زعم عدم حفظه: المطلب الأول: شبهة أنه ليس هو القرآن الذي أنزل. المطلب الثاني: شبهة أنه زيد فيه ونقص. المطلب الثالث: النسخ فى القرآن والطعن فيه من هذا الباب. المبحث الثالث: اتهام القرآن بالتناقض: المطلب الأول: هل في القرآن تناقض حقيقي؟. المطلب الثاني: زعم تناقض بعض الآيات مع بعض.

المبحث الرابع: اتهام القرآن بمعارضة الحقائق: المطلب الأول: دعوى تعارض القرآن مع الحقائق الشرعية. المطلب الثاني: دعوى تعارض القرآن مع الوقائع التاريخية. المطلب الثالث: دعوى تعارض القرآن مع الحقائق الكونية. ثم الخاتمة، وذيلت الرسالة بعدة فهارس لكمال الاستفادة من البحث. وكان المنهج المتبع في هذه الرسالة كالتالي: 1- لقد اجتهدت اجتهادا كبيرا في محاولة حصر الطعون؛ حيث جمعت ما أمكنني من كتب تطعن في القرآن أو ترد على الطاعنين، وحرصت على أن أحضر معظم معارض الكتاب التي تقام؛ لعلي أجد شيئا ليس عندي، وذهبت إلى الكثير من الجامعات للبحث عن رسائل مقاربة لما كتبته، وبحثت في الإنترنت، ودخلت الكثير من المواقع المتخصصة في الطعن في الإسلام، مثل بعض غرف النصارى في البالتوك وغيرها، وسألت الكثير من المتخصصين في هذا الباب والمهتمين، فاتضح لي أن حصر الطاعنين من الصعوبة بمكان؛ فبعضهم مشاهير، وبعضهم مغمور نكرة لا يعرف، فتسميته والرد عليه تشهير له، وبعضهم بل أكثرهم مردّد لما قيل سابقا من الطعون، فاتجهت لحصر الطعون لا الطاعنين - مع عدم إغفال ذكرهم إن وجدوا لاسيما المشاهير منهم - لأن الطعون واحدة في الغالب، وأما الطاعنون فهم كالببغاوات يرددون ما سمعوا، وهذا أيضا منهج نبوي فقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يرد على الخطأ لا على المخطئ، بقوله: «ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا» (¬1) . ¬

(¬1) آيات وردت بتعجيز قوم في قضايا وإعلامهم أنهم لا يفعلونها فما فعلوا ولا قدروا.

2- ليس من منهجي أن أجمع كل ما أثير، بل أجمع ما كان فيه شبهة وقد يقع فيه اللبس عند بعض الناس، وأما بعض الطعون التي يوردها الطاعنون بسبب جهلهم باللغة، أو سوء فهمهم، أو تحريف المعنى، أو الكذب، أو الدعوى المجردة عن الدليل، أو نسبب الحقد الدفين، فهذا يكفي ذكره في إبطاله، ويكفيك من شر سماعه، مثل إنكارهم بلاغة القرآن وهم أبعد الناس عن تذوق بلاغة القرآن، أو تفسير بعضهم قوله تعالى: {وترى الملائكة حافين من حول العرش} [الزمر:75] ؛ فقد قال بعض المستشرقين في تفسير معنى (حافين (: أي بدون أحذية (¬1) . (وفسر بعض المستشرقين قوله تعالى: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه (] الإسراء: 13] بقوله: يأتي الكافر وفي رقبته حمامة. ومنهم عَلََََّامة تصدى لوضع المعجمات الكبرى (¬2) , فكتب في مادة (أخذ) أنها تأتي بمعنى نام لقوله تعالى: (لا تأخذه سنة ولا نوم ( {¬3} [البقرة:255] ) . ومثل ادعاء بعضهم ¬

(¬1) انظر: الإسلام دعوة عالمية ومقالات أخرى، لعباس محمود العقاد (ص: 189) ، منشورات المكتبة العصرية، بيروت. (¬2) الروعة التي تلحق قلوب سامعيه عند سماعهم والهيبة التي تعتريهم عند سماع تلاوته. (¬3) أن قارئه لا يمله وسامعه لا يمجه بل الإكباب على تلاوته يزيد حلاوة وترديده يوجب له محبة وغيره من الكلام يعادي إذا أعيد ويمل مع الترديد ولهدا وصف القرآن بأنه لايخلق على كثرة الرد.

أنه وجد مخطوطة بخط النبي (صلى الله عليه وسلم) ، وبالتالي يثبت أنه لم يكن أميا (¬1) ، وقول بعضهم: إن معنى قوله تعالى: {الذين يتبعون النبي الأمي الذي يجدونه..} [الأعراف:157] أن أمي بمعنى وثني (¬2) . وادعاء بعضهم أن الوحي عبارة عن صرع كان يصيب النبي (صلى الله عليه وسلم) (¬3) . أو النزول إلى الدرك الأسفل من الدناءة بإطلاق لفظ (الخراء) على القرآن، كما في كتاب حيدر حيدر (¬4) (وليمة لأعشاب البحر) (¬5) ، وغير ذلك من السفاهات. 3- الطعون على القرآن تنقسم قسمين، طعون حول القرآن، وطعون في القرآن؛ الطعون حول القرآن من مثل الطعن في ¬

(¬1) كونه آية باقية لا يعدم ما بقيت الدنيا مع تكفل الله بحفظه. (¬2) جمعه لعلوم ومعارف لم يجمعها كتاب من الكتب ولا أحاط بعلمها أحد في كلمات قليلة وأحرف معدودة. (¬3) جمعه بين صفتي الجزالة والعذوبة وهما كالمتضادين لا يجتمعان في كلام البشر غالبا. (¬4) حيدر حيدر: كاتب سوري معاصر من سكان قرية (حصين البحر) القريبة من ميناء طرطوس، ألف رواية"وليمة لأعشاب البحر"وملأها بالاستهزاء والسخرية من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكتابه ودين الإسلام، والرسل والأنبياء، والأزهر، وغير ذلك. انظر: كتاب"الملحدون الجدد"لجمال عبد الرحيم (ص: 125) ، الطبعة الأولى، 2001. (¬5) انظر الملحدون الجدد لجمال عبد الرحيم (ص: 127) .

جمع القرآن، وتواتر القرآن، تقسيم القرآن إلى مكي ومدني، نزول القرآن على سبعة أحرف، معنى المتشابه في القرآن، النسخ في القرآن، ترجمة القرآن، إعجاز القرآن، قراءات القرآن ... إلخ تلك الشبه التي تحوم حول القرآن ولا تطعن في آياته طعنا مباشرا، وهذا البحث كفانا فيه عدد من العلماء الأفاضل والباحثين الأجلاء، ومن أفضل هذه الكتب التي اطلعت عليها، كتاب "شبهات حول القرآن وتفنيدها" للدكتور غازي عناية (¬1) ، وبعضهم أفرد في بعض هذه المباحث مؤلفا، مثل كتاب "المستشرقون وترجمة القرآن الكريم"للدكتور محمد صالح البنداق (¬2) . وفي كتاب "القراءات وأثرها في التفسير والأحكام"للدكتور محمد بن عمر بازمول (¬3) عقد بابا بعنوان (رد الشبهات التي تثار حول القراءات) أجاب فيها على كل ما يثار حول هذا الموضوع، وكتاب القراءات في نظر المستشرقين والملحدين للشيخ عبد الفتاح عبد الغني القاضي (¬4) ، وكتاب نزول القرآن على سبعة أحرف للدكتور مناع القطان (¬5) ، وفي مجلة لواء الإسلام بحث لعبد الباري إبراهيم أبو عبلة في الجواب على طعون المستشرقين في لغة القرآن ونحوه (¬6) . ومن أشد الكتب التي طعنت في هذا الباب كتابان: 1-القرآن: نزوله، تدوينه، ترجمته وتأثيره، لبلاشير (¬7) . ¬

(¬1) طبعته دار ومكتبة هلال للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1996. (¬2) دار الآفاق الجديدة، بيروت، الطبعة الثانية، 1983. (¬3) طبعته دار هجر، الرياض، الطبعة الأولى، 1996. (¬4) من منشورات مكتبة الدار بالمدينة المنورة. (¬5) مكتبة وهبة، الطبعة الأولى، 1991. (¬6) العدد 3، للسنة الحادية والثلاثين، تاريخ نوفمبر 1976، ص: 35. (¬7) ريجي بلاشير (1900-1973) مستشرق فرنسي، ولد في باريس وسافر مع والديه إلى المغرب ودرس في الدار البيضاء، وعين أستاذا للغة العربية في المدرسة الوطنية للغات الشرقية في باريس، وتولى عدة مناصب كبيرة وألف كتبا كثيرة عن الإسلام. انظر: موسوعة المستشرقين، للدكتور عبد الرحمن بدوي، (ص: 127) دار العالم للملايين، بيروت، الطبعة الثالثة، 1993.

2-مقدمة كتاب المصاحف لأبي داود، لآرثر جفري. رد عليهما الدكتور إسماعيل سالم عبد العال في كتابه المستشرقون والقرآن، في جزأين (¬1) . وأما النوع الثاني وهو الطعن في القرآن نفسه من حيث دلالالته ومعانيه وأخباره وأحكامه وغير ذلك، وهو الذي أبحث فيه، والسبب في ذلك أن هذا النوع هو الذي تولى القرآن الرد فيه على الطاعنين؛ ولأن الرد على هذه الشبه فيه الرد على تلك الشبه بطريق اللزوم، فإنه إذا ثبت أن القرآن ليس من عند النبي (صلى الله عليه وسلم) ، بل من الله تعالي، وهو غير قابل للنقد، وأنه ليس فيه تحريف ولا زيادة، وأنه صادق الأخبار وواجب الاتباع، إذا ثبت هذا فإن الله قال فيه: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر:9] ، إذن فلا مجال للطعن في تواتره وجمعه وقراءاته وما نسخ منه؛ لأنه محفوظ بحفظ الله له. 4- الإحالة على الآيات في المصحف جعلتها في صلب البحث، حتى لا يتخم الهامش بالحواشي. 5- حرصت على تخريج الأحاديث والآثار والحكم عليها، فإن كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما اكتفيت بالإحالة عليه؛ وإن كان في غيرهما استقصيت في تخريجه وبينت صحته أو ضعفه، وقد حكمت على هذه الأحاديث بنفسي، ثم قمتُ بتوثيق ذلك من كلام العلماء إن وُجد. ¬

(¬1) أصدر الكتاب رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة، وهو من إصداراتها الدورية تحت سلسلة دعوة الحق، السنة التاسعة، العدد 104، لعام 1410هـ.

6- ترجمت لغير المشاهير. 7- قرأت أحاديث الكتب الستة والموطأ والدارمي، واستخرجت جميع الأحاديث في هذا الباب، ثم طُبع كتاب جامع التفسير الذي جمع مؤلفوه الأحاديث والآثار من الكتب الستة ومسند الإمام أحمد، التي تفسر أو تذكر سبب نزول الآية، فقرأته للتأكد من أنه لم يفتني حديث في هذا الموضوع. 8- لقد كان الرد على الطاعنين متنوعًا؛ فقد رددتُ عليهم بداية ردودا عامة تصلح لكل طعن فى فضل الردود الأجمالية على من طعن في القرآن، ثم ردت على الطعون الأربعة الرئيسة ردودا إجمالية، كل طعن بذاته فى مبحث أسباب الأختلاف في القرآن.، ثم في فصل الردود التفصيلية على من طعن في القرآن رددت على كل طعن بنوعين من الردود، الأول رد إجمالي على كل طعن في هذا الفرع ثم رد تفصيلي على كل طعن ذكر. 9- حرصتُ على الردود الإجمالية لكل طعن فى فصل الردود التفصيلية على من طعن في القرآن؛ لأنها الأهم، فهي صالحة لما قد أُثير ولما يمكن أن يثار في المستقبل، وأما الردود التفصيلية على كل طعن فإنها لا تنتهي، وقد يُفتح لإنسان مالا يُفتح على غيره في الرد، وبعضها طعن ساذج لا يستحق الرد. هذا وقد واجهتني صعوبات كثيرة في مراحل إعداد هذا البحث، نذكر منها: 1- كثرة الطاعنين وصعوبة حصرهم، فهم كثر في كل دولة عربية وإسلامية، وأكثر منهم في دول أوروبا وأمريكا.

2- من الصعوبات التي واجهتها، محاولة حصر كل ما أُلف في هذا الباب من مطبوع أو مخطوط أو مفقود، فلجأت إلى كتب طبقات المفسرين؛ لمعرفة كل من ألف في طعون القرآن، وجردتها وحصرت منها الكتب التي أُلفت في الرد على الطاعنين. وكتب الطبقات التي وجدتها هي: أ-طبقات المفسرين للسيوطي (¬1) . ب-طبقات المفسرين للداوودي تلميذ السيوطي (¬2) . ج-طبقات المفسرين للأدنوري (¬3) . 3- ومن الصعوبات التي واجهتها التعريف بالمستشرقين؛ فإن الكتب المؤلفة عنهم قليلة. 4- وهناك مشكلة أخرى تكمن في ترجمة أسمائهم، فإنه لو وجد لهم تعريف فإنه من الصعب معرفة ما هي ترجمة الاسم الحرفية، مثل المستشرق الفرنسي (GANIER) (¬4) بعضهم يسميه: جانييه، وبعضهم: جانيير، وبعضهم: كانيير، فلا تعلم هل تبحث عن اسمه في حرف الجيم أم في حرف الكاف، ومثله المستشرق (GIBB) (¬5) فبعضهم يسميه: جب، والبعض غب، والبعض الآخر قب، وهكذا، ولقد ترجمت لأكثر من عشرين واحدا منهم وأما الذين لم أجد ترجمتهم فهم اثنان فقط. ¬

(¬1) طبع مكتبة وهبة، القاهرة، تحقيق على محمد عمر، الطبعة الأولى، 1396. (¬2) دار الكتب العلمية، بيروت، تحقيق لجنة من العلماء بإشراف الناشر. (¬3) تحقيق سليمان الخزي، طبع مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، الطبعة الأولى، 1997. (¬4) انظر: موسوعة المستشرقين (ص: 168) . (¬5) انظر: موسوعة المستشرقين لعبد الرحمن بدوي (ص: 174) .

5- ومن الصعوبات أيضا أن أغلب كتب المستشرقين كتبت في غير اللغة العربية، فكنت أجد عناء في ترجمتها أو البحث عن ترجمة لها، وفي الغالب كنت أنقلها من كتب أخرى. 6- ومن الصعوبات أن بعض كتب المستشرقين التي طبعت بالعربية، لم يعد طبعها منذ زمن طويل، فلا تكاد توجد في أسواق الكتب، لذلك كنت أضطر إلى نقلها من كتب العلماء الذين ردوا عليهم في زمنهم. 7- ولقد سافرت إلى هولندا للقاء الدكتور نصر حامد أبو زيد

للتأكد من بقائه على آرائه ومناقشته فيها، فكلمته بالهاتف من هولندا فرفض مقابلتي رفضا قطعيا مع محاولاتي الكثيرة في طلب ذلك، وحصل عندما كنت هناك أن قامت امرأة صومالية الأصل هولندية الجنسية، وكانت مسلمة، قامت بسب النبي (صلى الله عليه وسلم) على صفحات الصحف والطعن في دينه وأعلنت أنها ملحدة لا تؤمن بدين، فطلبت من الأخوة في هولندا جمع كل ما قالت وترجمته إلي العربية، وسألتهم هل ذكرت أدلة أو شبها على ما قالت أم أنه كلام عار عن أي مستند، فكانت نتيجة الترجمة هي الثاني، فكلامها مجرد سب وشتم من غير أي حجة، بل هو الهوى المحض، ثم قامت بعد هذه الضجة بترشيح نفسها للمجلس البرلماني في هولندا فعندها اتضح السبب وبطل العجب، {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب} [آل عمران: 7] . وفي الختام أسأل الله تعالى أن يوفق ويعين، وأن يجعل هذا البحث مفيدا للناس في الدنيا، ونافعا لي في الآخرة.

التمهيد

التمهيد وفيه المباحث التالية: المبحث الأول: تعريف الطعن في القرآن. المبحث الثاني: مصطلحات ترادف الطعن في القرآن. المبحث الثالث: التعريف بالطاعنين في القرن العشرين.

المبحث الأول: تعريف (الطعن في القرآن) : -أولا: تعريف الطعن: (ط ع ن: طَعَنهُ بالرمح، وطَعَنَ في السن كلاهما من باب نصر، وطعن فيه أي قدح من باب نصر أيضا، وطَعَنَاناً أيضا بفتح العين كذا في الصحاح، وفيه أيضا: والفرَّاء يجيز فتح العين من يطعن في الكل، وقال الأزهري في التهذيب: الطَّعنان قول الليث، وأما غيره فمصدر الكل عنده الطعن لا غير، وعين المُضارع مضمومة في الكل عند الليث، وبعضهم يفتح العين من مضارع الطعن بالقول للفرق بينهما. وقال الكسائي: لم أسمع في مضارع الكل إلا الضم. وقال الفرَّاء: سمعت يطعن بالرمح بالفتح. وفي الديوان ذكر الطعن بالرمح، وباللسان في باب نصر، ثم قال في باب: قطع وطَعَن يطعن لغة في طعن يطْعن، فجعل كل واحد منهما من البابين، والمِطْعَانُ: الرجل الكثير الطعن للعدو، وقوم مَطاعينُ، وفي الحديث: «لا يكون المؤمن طَعَّاناً» ؛ يعني في أعراض الناس.

والطَّاعُونُ: الموت من الوباء، والجمع الطَّوَاعِين) (¬1) . وقال ابن فارس: (طعن: أصل صحيح مطرد، وهو النخس في الشيء بما ينفذه، ثم يحمل عليه، ويستعار من ذلك الطعن في الرمح، ورجل طعان في أعراض الناس، وفي الحديث: «لا يكون المؤمن طعانا» . وقال بعضهم: طعن بالرمح يطعُن بالضم، وطعن بالقول يطعَن فتحا) (¬2) . إذن لكلمة طعن معنيان؛ حسي، ومعنوي؛ فالحسي بمعنى الضرب بآلة حادة كالخنجر، وهو المتعدي للمفعول (طعنه) ، والمضارع منه مضموم العين (يطعُن) وبعضهم يفتحه، والمعنوي بمعنى القدح في شيء، سواء كان نسبا، أو كتابا، أو شخصا، أو غير ذلك، وهو اللازم (طعن فيه) ، والمضارع منه مفتوح العين (يطعَن) . - ثانيا: تعريف القرآن: هو كلام الله المعجز المنزل على محمد (صلى الله عليه وسلم) ، المكتوب في المصاحف، المنقول بالتواتر، المتعبد بتلاوته (¬3) . والقرآن من المشهورات التي لا تحتاج الى تعريف. ¬

(¬1) مختار الصحاح (1 / 165) . (¬2) معجم مقاييس اللغة لابن فارس (3/412) بتصرف، وانظر: لسان العرب (13/265-26) . (¬3) انظر: مناهل العرفان للزرقاني (1/15) ، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى، 1996، وانظر: كتاب النبأ العظيم للدكتور محمد عبد الله دراز (ص: 10) دار طيبة للنشر الطبعة الأولى، 1997، وانظر: المناظرة في القرآن، عبد الله المقدسي (1/ 22) ، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى، 1409، تحقيق الجديع، وغير ذلك.

- ثالثا: تعريف الطعن في القرآن: الطعن في القرآن: هو أحد مباحث علوم القرآن، التي تبحث في الرد على من طعن في كتاب الله، أو زعم تناقضه، أو إشكاله، والرد عليها بالأدلة الشرعية، والعقلية، والحسية (¬1) . ¬

(¬1) انظر: البرهان في علوم القرآن للزركشي (2/53) ، بيروت دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1408، والإتقان في علوم القرآن للسيوطي (3/79) ،، القاهرة، مكتبة دار التراث، باهر البرهان في مشكلات القرآن لبيان الحق النيسابوري (1/112) .

المبحث الثاني: مصطلحات ترادف الطعن في القرآن

المبحث الثاني: مصطلحات ترادف الطعن في القرآن هناك عدة مصطلحات في تسمية هذا العلم، ترادف مصطلح الطعن في القرآن وهي: 1-المتشابه أو المشتبه: حيث إن كثيرا من العلماء يطلقون على هذا العلم (المتشابه) ، مثل كتاب: الآيات المتشابهات لبقي بن مخلد، وأضواء على متشابه القرآن لخليل ياسين، وتأويل متشابهات القرآن لابن شهر آشوب وغيرها (¬1) . وأخذوا هذا الاسم من قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ... } [آل عمران:7] . وإنما لم أختر أن تكون الرسالة بهذا العنوان؛ لأن المتشابه يطلق -في علوم القرآن والتفسير-على عدة معان: 1- يطلق المتشابه ويقصد به المشكل من الآيات التي قد تشتبه على فهم القارئ؛ لخلوه من الدلالة الراجحة لمعناه (¬2) ، الذي يحتاج للجواب والرد على الطاعن، كما تقدم. ¬

(¬1) سيأتي في الباب: الأول في مبحث المؤلفات في هذا الفن بيان عن هذه الكتب ومكان طبعها أو ذكرها. (¬2) انظر: كشف المعاني في المتشابه المثاني لبدر الدين بن جماعة، (ص: 28) تحقيق مرزوق إبراهيم، دار الشريف للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1420.

2- ويطلق ويراد به ضد المحكم، وهو الذي لا يعلمه إلا الله، أو لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم (¬1) ؛ مثل الحروف المقطعة، وحقيقة صفات الله وكيفياتها. 3- ويطلق ويراد به الآيات المتشابهة لفظا، وقد تفترق بحرف أو كلمة، وتوجيه هذا التفريق. وقد ألف العلماء في هذا الفن كتبا كثيرة؛ منها: " درة التنزيل وغرة التأويل في بيان الآيات المتشابهات في كتاب الله العزيز" (¬2) ، للخطيب الإسكافي (¬3) ، وأشهرها وأفضلها كتاب "البرهان في متشابه القرآن " (¬4) للكرماني (¬5) . 4- يطلق ويقصد به تشبيه شيء بشيء، كالحور العين باللؤلؤ، وقد ألف في هذا المعنى ابن ناقيا البغدادي (¬6) كتابه " الجمان في ¬

(¬1) انظر: في اختلاف العلماء في تعريف المتشابه بهذا المعنى كتاب الإتقان للسيوطي (3/3) . (¬2) بيروت، دار الآفاق الجديدة، الطبعة الثانية، 1977. (¬3) والإسكافي هو محمد بن عبد الله أبو جعفر الإسكافي، عداده في أهل بغداد أحد المتكلمين من المعتزلة، له تصانيف فكان يناظر الحسين بن علي الكرابيسي يتكلم معه، مات في سنة 402 هـ. انظر: معجم البلدان، لياقوت الحموي، دار الفكر، بيروت، (1/181) . (¬4) دار الوفاء، المنصورة، الطبعة الأولى، 1411 هـ. (¬5) والكرماني هو المعمر بدر الدين، أبو حفص عمر بن محمد بن أبى سعد الكرماني، نزيل دمشق، ولد بنيسابور سنة سبعين وخمسمائة، وسمع في الكهولة من القسم الصفار، وروى الكثير بدمشق، وكان واعظاً، وتوفي في شعبان سنة خمس وستين وستمائة. انظر: شذرات الذهب، دار الكتب العلمية، بيروت، (3/327) . (¬6) هو: عبد الله وقيل: عبد الباقى بن محمد بن الحسين بن داود بن ناقيا أبو القاسم، الأديب الشاعر اللغوي المترسل، هو من أهل الحريم الطاهرى، وهى محلة بغداد، كان مولده في منتصف ذى القعدة سنة عشر وأربعمائة، وكان فاضلاُ بارعاً، وله مصنفات حسنة مفيدة، منها كتاب"الجمان في تفسير متشابهات القرآن"ومجموع سماه"ملح الممالحة"، وكان ينسب إلى التعطيل، ومذهب الأوائل، وصنف في ذلك مقالة، وكان كثير المجون، توفي في ليلة الأحد من رابع شهر المحرم سنة خمس وثمانين وأربعمائة، ودفن بباب: الشام. انظر: طبقات المفسرين للسيوطى، (1/141) الطبعة الأولى، القاهرة، مكتبة وهبة 1936 م، والمنتظم، لابن الجوزي (9/69) ، طبعة دار صادر، بيروت، سنة 1358 هـ، الطبعة الأولى.

تشبيهات القرآن" (¬1) ، ولسيد قطب كتاب في هذا المعنى سماه " التصوير الفني في القرآن ". 5- يطلق المتشابه ويراد به أن القرآن متماثل في النظم والبلاغة والهدف الذي يدعو إليه؛ فلا تجد في أسلوبه اختلافا، ولا في معانيه مناقضة، ولا في سِوَرِه تغايرا، كما في قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23] . قال القرطبي: (متشابها يشبه بعضه بعضا في الحسن والحكمة، ويصدق بعضه بعضا، ليس فيه تناقض ولا اختلاف) (¬2) . فلما كان هذا الاسم يشكل في الفهم، ومشتركا بين عدة معان، أعرضت عنه. 2- موهم الاختلاف أو مختلف القرآن: هكذا سماه الزركشي في البرهان: النوع الخامس والثلاثون: ¬

(¬1) تحقيق مصطفى الجويني، دار منشأ المعارف، الإسكندرية. (¬2) تفسير القرطبي (15/162) ، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1988.

معرفة موهم المختلف (¬1) ، وسماه السيوطي في الإتقان: النوع الثامن والأربعون في مشكله وموهم الاختلاف والتناقض. وقد أخذوا هذا الاسم من الآية وهي قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء:82] . 3- موهم الاضطراب: ومن هذا كتاب دفع " إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " لمحمد الأمين الشنقيطي. وهذا الاسم والذي قبله يتحدث عن نوع واحد من الطعون، وهو التناقض في الآيات، مع أن الطعون لها أنواع أخر، كنفي نسبة القرآن إلى الله، والطعن في لغته وغير ذلك؛ لهذا لم أُسمِّ به الرسالة؛ لقصوره عن شمول جميع أنواع الطعون. 4- أسئلة القرآن: أي الأسئلة التي يطرحها بعض الناس بقصد التشكيك في كتاب الله تعالى؛ ومن هذا: كتاب " البرهان في مسائل القرآن " للجماعيلي المقدسي، و " التبيان في مسائل القرآن " لرضي الدين القزويني، وبعضهم ¬

(¬1) البرهان في علوم القرآن (2/53) .

يسميها جوابات القرآن؛ باعتبار الجواب على هذا السؤال، ككتاب " الجوابات في القرآن " لمقاتل بن سليمان، وبعضهم يجمع بين الاسمين مثل " أسئلة القرآن وأجوبتها " لأبي بكر الرازي. 5-غامض القرآن: ومن هذا كتاب "كشف غوامض القرآن " لفخر الدين الطريحي. 6-مشكل القرآن: ومن هذا كتاب: " تأويل مشكل القرآن " لابن قتيبة -وبعضهم يسميه " مشكل القرآن" (¬1) ، وهو من أول الكتب المفردة في هذا الفن، وهو مطبوع متداول. و" فوائد في مشكل القرآن " لسلطان العلماء العز بن عبد السلام. و" مشكلات القرآن " لمحمد أنور الكشميري. و" مشكل القرآن " للحكيم الترمذي، وهو أكثر الأسماء تداولا بين العلماء على هذا الفن، فقد وجدت ما يقارب العشرين عالما يطلقون عليه هذا اللفظ كما سيأتي (¬2) . فيتحصل لنا من هذا، أن لهذا العلم سبعة أسماء عند العلماء. ¬

(¬1) انظر: تأويل مشكل القرآن (3/202) . (¬2) في مبحث الكتب المؤلفة في هذا الفن بالتفصيل.

المبحث الثالث: التعريف بالطاعنين في القرن الرابع عشر الهجري

المبحث الثالث: التعريف بالطاعنين في القرن الرابع عشر الهجري الطاعنون في كتاب الله هم المشككون فيه، الذين يوردون عليه الشبه والإشكالات والاضطرابات، يريدن بهذا إسقاط قدسية القرآن من قلوب المسلمين؛ لأن القرآن هو قطب رحى المسلمين الذي عليه يدورون، وهو العروة الوثقى التي بها يتمسكون، وهو المورد العذب الذي إليه يردون ومنه يصدرون. وهو أساس الإسلام وركن الشريعة الركين، الذي إذا سقط سقط كل البناء، وتهدم الصرح، وقوض الإسلام، ولم تبق للمسلمين باقية ولا قوة. وقد كثر الطاعنون في كل قرن، ولكن هذا القرن تميز بنوعين من الطاعنين، وهم: الصنف الأول: المستشرقون. الصنف الثاني: العلمانيون، أو تلاميذ المستشرقين، أو العقلانيون ... وفيما يلى نبذة مختصرة عن كل منهما: أولا: المستشرقون: الاستشراق (Orientalism) : تعبير يدل على الاتجاه نحو الشرق، ويطلق على كل ما يبحث في أمور الشرقيين وثقافتهم وتاريخهم، ويقصد به ذلك التيار الفكري الذي يتمثل في إجراء الدراسات المختلفة عن

الشرق، والتي تشمل حضارته، وآدابه، ولغاته، وثقافته (¬1) . واستُغل في أكثر مراحله لخدمة الاستعمار، وتشويه تعاليم الدين. ونشأ هذا الفكر لما عجز النصارى عن مواجهة المسلمين بالسيف، فرأوا أن أفضل طريقة لمحاربة المسلمين هو الغزو الفكري. ولهم طرق كثيرة للوصول إلى أهدافهم منها: تأليف الكتب، وإصدار المجلات، وإلقاء المحاضرات في المنتديات عن الإسلام، والقرآن، والسنة، وتاريخ المسلمين، وإنشاء الجمعيات والمراكز التي تخدم أغراضهم، وعقد المؤتمرات السرية والعلنية، وإنشاء موسوعة دائرة المعارف الإسلامية وغيرها، وإرسال البعثات، وإنشاء جامعات وكليات غربية في بلاد الشرق، وغير ذلك من الوسائل، ولها آثار أكثرها سلبي وبعضها إيجابي. ¬

(¬1) انظر: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (2/697) ، بإشراف الندوة العالمية للشباب: الإسلامي، مراجعة د. مانع بن حماد الجهني، الطبعة الثالثة، 1418، الناشر: دار الندوة العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، الرياض، وأجنحة المكر الثلاثة وخوافيها، لعبد الرحمن حبنكة، دمشق، دار القلم، الطبعة الخامسة، 1986م. - الاستشراق والتبشير، قراءة تاريخية موجزة، د. محمد السيد الجليند، دار النهضة بحرم جامعة القاهرة. - رؤية إسلامية للاستشراق، أحمد غراب، من سلسلة إصدارات المنتدى الإسلامي. - الاستشراق والمستشرقون. د. مصطفى السباعي، دار السلام، القاهرة. - المستشرقون والإسلام. د. محمد قطب، مكتبة وهبة، القاهرة. - صور استشراقية. د. عبد الجليل شبلي، دار الشرق، القاهرة. - المستشرقون. د. عابد بن محمد السفيانى. دار الفرقان. القاهرة.

فمن الآثار السلبية: 1 - الطعن في القرآن والسنة، وهما مصدر التشريع في الدين. 2 - محاولة إحياء الفرق المنحرفة الميتة، أو أفكار بعض المنحرفين كالحلاج وغيره. 3 - صد الناس عن الإسلام بتشويه تعاليمه كما فعلت الموسوعة البريطانية. 4 - إخراج جيل من أبناء المسلمين منسلخ عن دينه بل محارب له. 5 - التشكيك في الثوابت؛ كالجهاد، والحجاب، والميراث، والعقوبات الشرعية؛ كرجم الزاني، وقطع يد السارق، وقتل المرتد، وغير ذلك من الثوابت. 6 - إخراج المرأة من جلبابها بتصوير الحجاب بأنه خرقة لا قيمة لها، ومحاولة مساواة المرأة للرجل في كل شيء، حتى في جواز تعدد الأزواج. وأما الآثار الإيجابية فمنها: 1 -شهادة المنصفين منهم لصدق الإسلام وإعجاز القرآن، حتى دفع الكثير منهم لإعلان إسلامه. 2 - إخراج بعض الكنوز الإسلامية التي كانت مخطوطة بتحقيقها وطبعها. 3 - عمل المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي. ودوافع الاستشراق كثيرة ترجع إلى ثلاثة دوافع: استعماري، وديني، وعلمي (¬1) . ¬

(¬1) انظر: المصادر السابقة والموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة للعقل والقفاري (ص: 174 - 185) ، الطبعة الأولى، 1413، دار الصميعي، الرياض.

ثانيا: العلمانيون: ونقصد بهم تلاميذ أولئك المستشرقين؛ الذين رضعوا منهم أفكارهم، وطعونهم في كتاب الله، ومع هذا يدّعون الإسلام، ويتكلمون باسمه، ويزعمون أنهم بهذا ما يريدون إلا الإصلاح (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَا يَشْعُرُونَ ( [البقرة:11، 12] . وينسبون أنفسهم للعلم، فيقولون: نحن علمانيون. تلبيسا على عامة الناس. وخطر هؤلاء أشد (¬1) ؛ لأنهم باسم الإسلام يطعنون في الإسلام، وبزعم الدفاع عنه يحاربونه، وأسماؤهم كأسمائنا، وهم أبناء جلدتنا، فتلبيسهم على عامة الناس، بل على بعض الخاصة شديد، لذلك كان الرد على هؤلاء، وكشف أباطيلهم وتلبيساتهم من أعظم الواجبات، وآكد الفرائض، حتى تحذر الأمة منهم، وتسلم من شرهم؛ ففي الصحيحين عن حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قال: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: «نعَمْ.» قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: «نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ.» قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: «قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ ¬

(¬1) انظر: كتاب: نقض مطاعن في القرآن الكريم، لمحمد عرفة، (ص: 82) .

هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ» . قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: «نَعَمْ، دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا. فَقَالَ: «هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا» . قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ» ، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ. قَالَ: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ» (¬1) . وهناك نوع ثالث ولكن لا نستطيع أن نعدهم من الطاعنين، وإن كانوا قد عملوا أعمالا-سواء عن قصد أو عن غير قصد- فتحت الباب للطاعنين في القرآن (¬2) ؛ من تأويل غير مقبول في تفسير القرآن، أو جواب عن إشكال فيه تنازل وتسليم مبطن به، أو تحريف معاني كثير من الثوابت إلى معانٍ تساير العصر -بزعمهم- أو إلغائها بالكلية، أو تكلف الاستدلال بآية على ما لا تدل عليه من قريب أو بعيد (¬3) . ¬

(¬1) متفق عليه: (البخاري: كتاب المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، رقم: 3411، ومسلم: كتاب الإمارة، باب: وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند الفتن، رقم: 1847) . (¬2) انظر: اتجاهات التجديد فى تفسير القرآن الكريم، لاستاذنا الدكتور شريف، ص: 737. (¬3) مثل إنكار المعجزات كلها ما عدا القرآن، وإنكار أشراط الساعة الصغرى وبعض الكبرى مثل نزول عيسى والمهدي ويأجوج مأجوج والدابة، وإنكار بعض الغيبيات مثل عالم الجن والملائكة، وإنكار تعدد الزوجات والحجاب وملك اليمين وإنكار السحر، وتأويل الطير الأبابيل بالجراثيم، إباحة بعض أنواع الربا؛ والزعم أن القرآن يدل على جواز تحضير الأرواح، وغير ذلك من سلسلة الأخطاء التي فتحها على مصراعيها تقديم العقل على النقل والانبهار بالعالم الغربي ومحاولة مسايرته. انظر: في بيان أخطاء هؤلاء والرد عليهم: اتجاهات التفسير في العصر الراهن للدكتور عبد المجيد عبد السلام المحتسب، دار البيارق، الأردن، الطبعة الثالثة، 1982. منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير، للدكتور فهد الرومي، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الخامسة، 1422. التفسير ومناهجه لدى مدرسة الإمام محمد عبده للدكتور محمود بسيوني فوده، مطبعة الأمانة، القاهرة. العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب، لمحمد حامد الناصر، مكتبة الكوثر، الرياض، الطبعة الأولى، 1996. اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر، أ. د. فهد الرومي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثالثة، 1997. اتجاه التفسير فى العصر الحديث، للشيخ مصطفى محمد الطير، مطبعة مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة 1975. اتجاهات التجديد فى تفسير القرآن الكريم فى مصر، أ. د. محمد ابراهيم شريف، دار التراث القاهرة، الطبعة الأولى، 1982.

وهم بعض من ينتسب للمدرسة العقلية الحديثة التي تقدم العقل على النقل كالمعتزلة القديمة؛ يقول أستاذنا الدكتور محمد بلتاجي في مقدمة " كتابه مدخل إلى علم التفسير ": وأنه يتضمن عدة (مباحث في عرض وتقويم بعض الدراسات المعاصرة التي تتناول النص القرآني من منطلقات ومناهج باطلة تحاول أن ترتدي ثوب التجديد والتنوير، وإنما هي - في حقيقتها وجوهرها وأهدافها-نفس المزاعم التي طُعن بها في القرآن الكريم منذ أوحى الله تعالى به) (¬1) . وقال حفظه الله: وقد ظهر في عصرنا الحاضر أفراد استخدموا بعض مصطلحات المعتزلة ومقولاتهم، وتمسحوا بهم لكنهم أمعنوا السير في الطريق، ولم يقفوا عند الحد الذي توقف عنده قدماء المعتزلة، بل ¬

(¬1) مدخل إلى علم التفسير، للدكتور محمد بلتاجي، ص: 1، مكتبة الشباب:، مصر، 1998.

تجاوزوه تجاوزا خطيرا، زعموا فيه أن الفهم الحرفي للعرش والكرسي والملائكة والجن والقلم واللوح والسحر وغيرها، يقدم تصورات ذات طابع أسطوري -تجاوزه التاريخ- نبع من الواقع الثقافي للجماعة في عصر نزول هذه الآيات المتضمنة لهذه النصوص، كما زعموا أن كثيرا من الأحكام القرآنية أصبحت تاريخية، حيث تجاوزتها أوضاع العصر وثقافته، وظروفه ولم تعد صالحة للتطبيق فيه، وتمسحوا في ذلك ببعض اجتهادات عمر بن الخطاب رضي الله عنه (¬1) . ¬

(¬1) المصدر السابق ص: 155.

الباب الأول (النظري) الطعن في القرآن: نشأته، أسبابه، مواجهته

الباب الأول (النظري) الطعن في القرآن: نشأته، أسبابه، مواجهته الفصل الأول: تاريخ الطعن. الفصل الثاني: أسباب الطعن في القرآن. الفصل الثالث: مواجهة دعاوى الطعن في القرآن.

الفصل الأول: تاريخ الطعن في القرآن والكتب المؤلفة فيه

الفصل الأول: تاريخ الطعن في القرآن والكتب المؤلفة فيه وفيه عدة مباحث: المبحث الأول: أول من تكلم فيه. المبحث الثاني: أول من ألف فيه. المبحث الثالث: اتجاهات العلماء في التأليف في هذا المجال. المبحث الرابع: الكتب المؤلفة فيه.

المبحث الأول: أول من تكلم فيه وجود الإشكال في فهم القرآن، والطعن فيه بسبب ذلك موجود منذ نزوله؛ لأن القرآن ينقسم إلى أربعة أقسام: قسم لا يجهله أحد، وقسم تعرفه العرب من لغتها، وقسم يعرفه الراسخون في العلم، وقسم لا يعلمه إلا الله، كما ورد عن ابن عباس (¬1) . وأقدم نص وجدتُ فيه حدوث الإشكال على الفهم، والطعن في القرآن، واتهامه بالتعارض مع الحقائق، هو حديث الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: لَمَّا قَدِمْتُ نَجْرَانَ سَأَلُونِي فَقَالُوا: إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ (يَا أُخْتَ هَارُونَ (وَمُوسَى قَبْلَ عِيسَى بِكَذَا وَكَذَا. فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) سَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ» (¬2) . وهذا الطعن الذي ذكر في الحديث، مع أن النبي أجاب عليه، إلا أنه لا يزال يردد إلى يومنا هذا، كما سترى فيما سيأتي إن شاء الله. وقد تكلم القرآن عن كثير من الطاعنين، وذكر طعوناتهم، ثم رد ¬

(¬1) أخرجه ابن جرير الطبري مسندا كما ذكر ذلك ابن كثير في تفسيره (1/7) ولم أجده في تفسير ابن جرير بعد البحث في مظانه، وانظر: الإتقان (3/7) . (¬2) أخرجه مسلم (كتاب الآداب، باب: النهي عن التكني بأبي القاسم، وبيان ما يستحب، رقم: 213) .

عليها ردا واضحا بينا مفحما؛ فبعضهم ادعى أنه يستطيع أن يأتي بمثل القرآن (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْءَايَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا.. (َ [الأنفال:31] ؛ فتحداهم الله تعالى أن يأتوا بمثله فعجزوا، فتحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله فعجزوا، ثم تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا. وبعضهم زعم أن هذه القرآن إنما هو من قصص الأولين وأساطير السابقين {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [النحل:24] ، فرد الله عليهم أنه لا يعرف أن يقرأ ولا يكتب، فكيف ينقلها؟ ‍! ‍ ثم هذه الأساطير ليست خاصة بمحمد، بل هي كتب للجميع، فلماذا لا تحضرون لنا هذه الكتب التي نقل منها؟ وبعضهم قال: إنه تعلَّمه من غلام نصراني فقال الله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103] . وهكذا كلما قالوا شُبْهَةً، وطعنوا طعنا، رد الله عليهم بحجة واضحة، وسيأتي مزيد بحث في هذا الموضوع في مبحث مستقل. وحصل طعن في القرآن في عصر الصحابة؛ ففي زمن عمر (كان في أجناد عمرو بن العاص (رجل يقال له صبيغ (¬1) ، كان يسأل عن متشابه القرآن، فكان يقول: ما المرسلات عرفا، ما العاصفات عصفا. تشكيكا وتعنتا، فأرسل به عمرو (إلى عمر (، فلما علم عمر بقدومه أمر رجلا أن يحضره وقال له: إن فاتك فعلت بك وفعلت. وكان عمر قد جهز له عراجين من نخل، فلما جاءه سأله عن أشياء ثم قال له: ¬

(¬1) قال ابن منظور: (صبِيغٌ: اسم رجل كان يَتَعَنَّتُ الناسَ بسُؤَالات في مُشْكل القرآن، فأَمر عمر بن الخطاب بضربه، ونفاه إِلى البَصرة، ونَهي عن مُجالَسَتِه) ، لسان العرب (8 /439) .

من أنت؟ فقال: أنا عبد الله صبيغ. فقال: وأنا عبد الله عمر. فضربه حتى أدماه، ثم تركه حتى شفي، ثم ضربه حتى أدماه، ثم تركه حتى شفي، ثم ضربه حتى أدماه، ثم تركه حتى شفي، ثم أُحضر فقال صبيغ: يا أمير المؤمنين إن كنت تريد قتلي، فاقتلني قتلا جميلا، وإن كنت تريد أن تداويني، فقد والله برئتُ. فأرسله عمر إلى البصرة، وأمر واليها أبا موسى الأشعري بمنع الناس من مجالسته، فاشتد ذلك على الرجل، فأرسل أبو موسى إلى عمر أن الرجل حسنت توبته، فكتب عمر أن يأذن للناس بمجالسته، فلما خرجت الحرورية قيل لصبيغ: إنه قد خرج قوم يقولون كذا وكذا، وقد مات عمر. فقال: هيهات قد نفعني الله بموعظة العبد الصالح يعني عمر (¬1) . و (أَخْرَجَ عَبْد بْن حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيق عَلِيّ بْن زَيْد، عَنْ أَبِي الضُّحَى، أَنَّ نَافعَ بْنَ الْأَزْرَق، وَعَطِيَّةَ أَتَيَا اِبْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَا: يَا اِبْنَ عَبَّاس، أَخْبِرْنَا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ} [المرسلات: 35] وَقَوْله: (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ( [الزمر: 31] وَقَوْلهِ: {وَاَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الانعام: 23] وَقَوْلهِ: {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّه َحَدِيثًا} [النساء: 42] . قَالَ: وَيْحَكَ يَا ابْنَ الْأَزْرَقِ، إِنَّهُ يَوْمٌ طَوِيلٌ وَفِيهِ مَوَاقِفُ، تَأْتِي عَلَيْهِمْ سَاعَةُ لَا ¬

(¬1) أخرجه مالك في الموطأ (2/455) تحقيق فؤاد عبد الباقي، مصر، دار إحياء التراث، ومعمر بن راشد في جامعه (11/426) تحقيق حبيب االأعظمي، بيروت، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1403، والدارمي في سننه (1/66) تحقيق زمرلي، بيروت، دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى، 1407، وإسناد القصة صحيح والقصة مشهورة، وانظر: الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (2/152) دار الفكر، بيروت، 1414، فقد جمع أطراف القصة ورواياتها.

يَنْطِقُونَ، ثُمَّ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَخْتَصِمُونَ، ثُمَّ يَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ يَحْلِفُونَ وَيَجْحَدُونَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى أَفْوَاهِهمْ، وَتُؤْمَرُ جَوَارِحُهمْ، فَتَشْهَدُ عَلَى أَعْمَالِهْم بِمَا صَنَعُوا، ثُمَّ تَنْطِقُ أَلْسِنَتُهُمْ فَيَشْهَدُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَا صَنَعُوا، وَذَلِكَ قَوْله: {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّه حَدِيثًا} [النساء: 42] . وَرَوَى اِبْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قُلْت0 لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ} [المرسلات: 35] ؟ فَقَالَ: إِنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ حَالَاتٌ وَتَارَاتٌ، فِي حَال لَا يَنْطِقُونَ وَفِي حَال يَنْطِقُونَ) (¬1) . وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ؛ قَالَ {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101] وقال: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 27] ، وقوله (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ( [النساء: 42] {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الانعام: 23] فَقَدْ كَتَمُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ؟ ، وَقَالَ: { ... أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} [النازعات: 27] إِلَى قَوْلِهِ: ( ... دَحَاهَا ( [النازعات: 30] فَذَكَرَ خَلْقَ السَّمَاءِ قَبْلَ خَلْقِ الْأَرْضِ ثُمَّ قَالَ: { ... أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ....} [فصلت: 9] إِلَى قَوْلِهِ: {طَائِعِينَ} [فصلت: 11] فَذَكَرَ فِي هَذِهِ خَلْقَ الْأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ؟. وَقَالَ: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفتح: 14] {عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح: 19] {سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58] فَكَأَنَّهُ كَانَ ثُمَّ مَضَى؟ فَقَالَ ابن عباس: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} [المؤمنون: 101] فِي النَّفْخَةِ الْأُولَى، ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ (..فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا ¬

(¬1) فتح الباري لابن حجر العسقلاني (8/555) .

مَنْ شَاءَ اللَّهُ ... ( [الزمر 68] فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ، ثُمَّ فِي النَّفْخَةِ الْآخِرَةِ (أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (. وَأَمَّا قَوْلُهُ { ... مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الانعام:23] {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42] فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِأَهْلِ الْإِخْلاَصِ ذُنُوبَهُمْ، فقَالَ الْمُشْرِكُونَ: تَعَالَوْا نقُلْ لَمْ نَكُنْ مُشْرِكِينَ، فَخُتِمَ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ، فَتَنْطِقُ أَيْدِيهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ عُرِفَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُكْتَمُ حَدِيثًا، وَعِنْدَهُ {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لو كانوا مسلمين} [الحجر: 2] . وَخَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاءَ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ، ثُمَّ دَحَا الْأَرْضَ؛ وَدَحْوُهَا أَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا الْمَاءَ وَالْمَرْعَى، وَخَلَقَ الْجِبَالَ، وَالْجِمَالَ، وَالْآكَامَ، وَمَا بَيْنَهُمَا فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: (دَحَاهَا (وَقَوْلُهُ: {خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9] فَجُعِلَتِ الْأَرْضُ وَمَا فِيهَا مِنْ شَيْءٍ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، وَخُلِقَتِ السَّمَوَاتُ فِي يَوْمَيْنِ. {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 70] سَمَّى نَفْسَهُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ أَيْ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ شَيْئًا إِلَّا أَصَابَ بِهِ الَّذِي أَرَادَ، فَلَا يَخْتَلِفْ عَلَيْكَ الْقُرْآنُ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ (¬1) . وغير ذلك من الآثار، وكلما بعد العهد بعصر النبوة، كلما زادت الإشكالات والطعون في القرآن. واشتهر ابن عباس رضي الله عنه بالرد على من طعن في القرآن، كما سبق، وسيأتي التمثيل لذلك بأمثلة أخرى إن شاء الله. ¬

(¬1) أخرجه البخاري معلقا (كتاب تفسير القرآن، باب: سورة حم السجدة (فصلت)) ، وقال الحافظ ابن حجر كما في الفتح (8/418) : وصله الطبري وابن أبي حاتم بإسناد على شرط البخاري في الصحة.

المبحث الثاني: أول من ألف فيه

المبحث الثاني: أول من ألف فيه ذكر السيوطي (¬1) أن أول من ألف فيه هو قطرب (¬2) ، واسم كتابه "الرد على الملحدين في متشابه القرآن" (¬3) ، وهذا غير صحيح؛ فإن الإمام سفيان بن عيينه (¬4) له فيه كتاب هو "جوابات القرآن" (¬5) وقد توفي ¬

(¬1) في الإتقان في علوم القرآن (3/79) ، وانظر: البرهان في علوم القرآن للزركشي (2/53) ، والفهرست لابن النديم (1/57) . (¬2) هو محمد بن المستنير أبو على البصري المعروف بقطرب، أحد العلماء بالنحو واللغة، أخذ عن سيبويه وعن جماعة من العلماء البصريين، ويقال: إن سيبويه لقبه قطربا لمباكرته إياه في الاسحار قال له يوما: ما أنت إلا قطرب ليل. والقطرب: دويبة تدب ولا تفتر. نزل قطرب بغداد وسُمع منه بها أشياء من تصانيفه، وروى عنه محمد بن الجهم السمري، وكان موثقا فيما يحكيه، وبلغني أنه مات في سنة ست ومائتين (انظر: تاريخ بغداد (3/298) للخطيب البغدادي، بيروت، دار الكتب العلمية. (¬3) ذكر هذا ابن النديم في الفهرست (ص: 78) دار المعرفة، بيروت، 1398هـ، الداوودي في طبقات المفسرين (2/256) . دار الكتب العلمية، بيروت. (¬4) هو الإمام المجتهد الحافظ الحجة شيخ الإسلام سفيان بن عيينه الهلالي الكوفي، ولد سنة سبع ومائة (10) ، تتلمذ على الأئمة كابن دينار والزهري وابن المعتمر وغيرهم، وتلمذ عليه الأئمة كالشافعي وأحمد بن حنبل وابن معين وغيرهم، ومات سنة ثمان وتسعين ومائة، انظر: ترجمته في طبقات المفسرين للداوودي (1/196-198) ، دار الكتب العلمية، بيروت. (¬5) ذكره ابن النديم في الفهر ست (ص: 51) ،، والداوودي في الطبقات (1/198) . ولكن قال ابن أبي حاتم في"الجرح والتعديل"في ترجمة محمد بن أيوب بن هشام المزني المعروف بكاكا الرازي قال: روى عن الحميدي عن بن عيينة (جوابات القرآن) وروى عن الأصمعي نا عبد الرحمن، قال: سألت أبى عنه فقال: هذا كذاب لم يكن عند الحميدي من هذا شيء، وهذا شيخ كذاب) انظر: كتاب الجرح والتعديل (7/198) ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1952، فالله أعلم.

قبل قطرب، بل إن هناك من هو قبل الإمام سفيان أيضا، وهو الإمام مقاتل بن سليمان (¬1) فله كتاب " الجوابات في القرآن "، ولكن هذه الكتب الثلاثة مفقودة. ولعل أقدم الكتب التي وصلت إلينا في هذا العلم مفردا، هو كتاب ابن قتيبة (¬2) "مشكل القرآن". وأما الجواب عن بعض الإشكالات القرآنية في ثنايا الكتب، من غير إفراد لهذا الموضوع، فكثير؛ فقد رد الإمام مالك في موطأه على ¬

(¬1) (كبير المفسرين أبو الحسن مقاتل بن سليمان البلخي، قال ابن المبارك: وأحسن ما أحسن تفسيره لو كان ثقة قيل: إن المنصور ألح عليه ذباب:، فطلب مقاتلا فسأله لم خلق الله الذباب. قال ليذل به الجبارين. وقيل: إنه قال: سلوني عما دون العرش. فقالوا: أين أمعاء النملة؟ فسكت: وسألوه: لما حج آدم من حلق رأسه؟ فقال لا أدري. قال وكيع كان كذابا. مات مقاتل سنة نيف وخمسين ومائة قال البخاري: مقاتل لا شيء ألبتة. قلت-القائل الذهبي-: أجمعوا على تركه) انظر: سير أعلام النبلاء (7/201-202) بتصرف. (¬2) ابن قتيبة: العلامة الكبير ذو الفنون أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، وقيل: المروزي الكاتب، صاحب التصانيف، نزل بغداد وصنف وجمع وبعد صيته، وقد ولي قضاء الدينور، وكان رأسا في علم اللسان العربي والأخبار وأيام الناس، ومات رحمه الله وذلك في شهر رجب سنة ست وسبعين ومئتين. انظر: سير أعلام النبلاء (13/296-300) بتصرف، طبعة مؤسسة الرسالة، بيروت، الطابعة التاسعة، 1413.

أهل القدر، الذين احتجوا ببعض الآيات على مذهبهم (¬1) ، وخصص الإمام أحمد القسم الأول من كتابه "الرد على الزنادقة والجهمية " (¬2) في الرد على من زعم أن القرآن متناقض، وأسماه باب بيان ما ضلت فيه الزنادقة من متشابه القرآن وذكر فيه اثنتين وعشرين مسألة. وكذلك أبو الحسين محمد بن أحمد الملطي (¬3) المتوفى سنة 377هـ صنف كتابه " التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع " أفرد فيه بابا لمتشابه القرآن، وما يتوهم أنه من الاختلاف والتناقض، نقل فيه ما أخذه هو من الثقات عن مقاتل بن سليمان (¬4) . ¬

(¬1) في كتاب"الجامع في باب: النهي عن القول في القدر"، وباب: ما جاء في أهل القدر. (¬2) طبعته المطبعة السلفية في القاهرة سنة 1393 بتحقيق محمد حسن راشد، وعدد صفحاته ثلاث وأربعون صفحة. (¬3) (محمد بن أحمد بن عبد الرحمن أبو الحسين الملطي المقرئ الفقيه الشافعي نزيل عسقلان، قال الداني: أخذ القراءة عرضا عن أبي بكر بن مجاهد وأبي بكر ابن الأنباري وجماعة، مشهور بالثقة والإتقان، وسمعت إسماعيل بن رجاء يقول: كان أبو الحسين كثير العلم كثير التصنيف في الفقه جيد الشعر، قلت: له قصيدة في وصف القراءة كالخاقانية أولها: أقول لأهل اللب والفضل والحجر مقال مريد للثواب وللأجر وقد حدث عن عدي بن عبد الباقي وخيثمة الأطرابلسي وأحمد بن مسعود الوزان، وروى عنه إسماعيل بن رجاء وعمر بن أحمد الواسطي وداود بن مصحح وعبيد الله بن سلمة المكتب وقرأ عليه الحسن بن ملاعب الحلبي. [معرفة القراء الكبار، للإمام الذهبي (1/343) ، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1404هـ] . (¬4) انظر: رسالة"موهم الاختلاف والتناقض في القرآن"ص: 17.

المبحث الثالث: اتجاهات العلماء في التأليف في هذا المجال

المبحث الثالث: اتجاهات العلماء في التأليف في هذا المجال للعلماء في الكتابة في هذا الفن عدة اتجاهات؛ لأن منهم من يقف عند المادة التي يدرسها، والإشكالات التي ترد عليها. ومنهم من يفرد لهذه الطعون كتباً - أو أجزاء من كتب - ثم يرد عليها. وثمة من يركز على شبيهات كتاب أو شخص بعينه، ومن هؤلاء من يهتم بالطعون من حيث هي، دون التفات لقائلها.. وبيان ذلك على النحو التالي: المطلب الأول: من حيث المادة التي تدرس فلهم فيها اتجاهان على سبيل الإجمال: 1- الجواب على الطعون والإشكالات اللغوية والنحوية: مثل كتاب " مشكل إعراب القرآن " (¬1) للقيسي (¬2) ، و" إعراب مشكل ¬

(¬1) في مجلدين تحقيق ياسين السواس، طبع دار المأمون للتراث، دمشق. (¬2) والقيسي هو: أبو بكر محمد مكي بن أبي طالب حموش بن حمد بن مختار القيسي المقرئ أصله من القيروان، وانتقل إلى الأندلس، وسكن قرطبة، وهو من أهل التبحر في العلوم خصوصا القرآن، كثير التصنيف والتصانيف عاش اثنين وثمانين سنة، ورحل غير مرة وحج وجاور، وتوسع في الرواية، وبعد صيته وقصده الناس من النواحي لعلمه ودينه، وولى خطابة قرطبة، وكان مشهورا بالصلاح والخلق جيد الدين والعقل، توفي سنة ثمانية وسبعين وخمسمائة. انظر: شذرات الذهب (2/260) .

القرآن " (¬1) لثعلب (¬2) ، وهذا الاتجاه يجيب عن كل إشكال لغوي ونحوي، وهو في حقيقته دفاع عن قوله تعالى: {إنا أنزلناه قرآنا عربيا ... } [يوسف:2] ، ولعل أول الطعون اللغوية ما اشتهر باسم مسائل ابن الأزرق (¬3) مع ابن عباس: عن حميد الأعرج، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد، عن أبيه قال بينا عبد الله بن عباس (جالس بفناء الكعبة، قد اكتنفه الناس يسألونه عن تفسير القرآن فقال نافع بن الأزرق لنجدة بن عويمر: قم بنا إلى هذا الذي يجترئ على تفسير القرآن بما لا علم له به. فقاما إليه فقالا: إنا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله، فتفسرها لنا، وتأتينا بمصادقة من كلام العرب؛ فإن الله تعالى إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين فقال ابن عباس: سلاني عما بدا لكما. ¬

(¬1) ذكره القزويني في التدوين في أخبار قزوين (2/152) ، تحقيق عزيز الله العطاردي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1987. (¬2) وثعلب هو: أبو العباس ثعلب أحمد بن يحيي بن يزيد الشيباني، مولاهم العبسي البغدادي، علامة الأدب، شيخ اللغة والعربية، حدث عن غير واحد، وعنه واحد منهم الأخفش الصغير، وسمع من القواريري مائة ألف حديث فهو من المكثرين، وسيرته في الدين والصلاح مشهورة، صنف التصانيف المفيدة، منها كتاب الفصيح وهو صغير الحجم كبير الفائدة، وكتاب القراءات، وكتاب إعراب القرآن وغير ذلك، توفي سنة تسع وثلاثين ومائة. انظر: شذرات الذهب (1/207) . (¬3) هو: نافع بن الأزرق الذى ينتسب إليه الأزارقة أحد زعماء الخوارج، قتل في جمادى الآخرة سنة 65هـ بالبصرة، الكامل في التاريخ، بتحقيق عبد الله القاضي، (4 / 15) ، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 1995م.

فقال نافع: أخبرني عن قول الله تعالى: (عن اليمين وعن الشمال عزين (قال العزون الحِلق الرقاق. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول: فجاؤوا يُهرعون إليه حتى * * يكونوا حول منبره عزينا قال: أخبرني عن قوله: (وابتغوا إليه الوسيلة (قال الوسيلة الحاجة. قال وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت عنترة وهو يقول: إن الرجال لهم إليك وسيلة * * إن يأخذوك تكحلي وتخضبي قال: أخبرني عن قوله: (شرعة ومنهاجا (قال: الشرعة الدين، والمنهاج الطريق. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وهو يقول: لقد نطق المأمون بالصدق والهدى * ج * وبين للإسلام دين ومنهاجا قال: أخبرني عن قوله (إذا أثمر وينعه (قال: نضجه وبلاغه. قال وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر: إذا ما مشت وسط النساء تأودت * * كما اهتز غصن ناعم النبت يانع قال: أخبرني عن قوله تعالى: (وريشا (قال: الريش المال. قال وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت الشاعر يقول: فرشني بخير طالما ما قد ريتني* * وخير الموالي من يريش ولا يبري قال: أخبرني عن قوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في كبد

(قال: في اعتدال واستقامة. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت لبيد بن ربيعة وهو يقول: يا عين هلا بكيت أربد إذ * * قمنا وقام الخصوم في كبد قال: أخبرني عن قوله تعالى: (يكاد سنا برقه (قال: السنا الضوء. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت أبا سفيان بن الحارث يقول: يدعو إلى الحق لا يبغي به بدلا * * يجلو بوء سناه داجي الظلم ج قال: أخبرني عن قوله تعالى: (وحفدة (قال: ولد الولد، وهم الأعوان. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت الشاعر يقول: حفد الولائد حولهن وأسلمت * جج * بأكفهن أزمة الأجمال جج قال: أخبرني عن قوله تعالى: (وحنانا من لدنا (قال: رحمة من عندنا. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت طرفة بن العبد يقول: أبا منذرٍ أفنيتَ فاسْتَبقِ بعضنا حنانيك بعض الشرِ أهونُ من بعضِ قال: أخبرني عن قوله تعالى: (أفلم ييأس الذين آمنوا (قال: أفلم يعلم بلغة بني مالك. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت مالك بن عوف يقول: لقد يئس الأقوامُ أني أنا ابنُه وإن كنتُ عن أرضِ العشيرة نائبًا قال: أخبرني عن قوله تعالى: (مثبورا (قال: ملعونا محبوسا من الخير. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت عبد الله بن الزُّبَعْرَي يقول:

إذ أتاني الشيطان في سنة النو * * م ومن مال ميله مثبورا قال: أخبرني عن قوله تعالى: (فأجاءها المخاض (قال: ألجأها. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت حسان بن ثابت يقول: إذ شددنا شدة صادقة * * فأجأناكم إلى سفح الجبل قال: أخبرني عن قوله تعالى: (نديا (قال: النادي المجلس. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت الشاعر يقول: يومان يوم مقامات وأندية * * ويوم سير إلى الأعداء تأويب إلى آخر تلك المسائل، وقد جاءت في كتاب "الإتقان" للسيوطي في أكثر من ثلاثين صفحة (¬1) . وقد بلغت الأبيات التى استشهد بها ابن عباس في شرح ألفاظ القرآن الكريم التي سئل عنها مائة وواحداً وتسعين بيتا. يقول السيوطي عنها: أنه حذف منها بضعة عشر سؤالاً، وهذا يدل على أن أسئلة نافع بن الأزرق وأجوبة ابن عباس والأبيات التي استشهد بها قد زادت كل منها على المائتين. (¬2) . 2- الجواب على الطعون والإشكالات المعنوية: أي الطعون التي سببها عدم فهم المعنى، أو القصور في فهمه، أو سوء القصد، وهذا النوع هو الأكثر، ويذكر في ثنايا هذه الكتب الجواب على المطاعن، والإشكالات العقدية والفقهية واللغوية أيضا؛ إذا كان لها ¬

(¬1) انظر: الإتقان للسيوطي (2/55-88) تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. (¬2) مدخل إلى علم التفسير: 71، 72.

أثر في فهم المعنى، وهذا النوع هو الأكثر والأشهر، وهو الذي نتكلم عنه في هذا البحث ومن ذلك: الجمع بين قوله: {لا مبدل لكلماته} [الكهف: 27] مع ما حصل من النسخ، والجمع بين قوله: {في يوم كان مقداره ألف سنة} [السجدة: 55] مع قوله: {في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} [المعارج: 4] ، والجمع بين قوله: (لا أقسم بهذا البلد (. [البلد: 1] وقوله: (وهذا البلد الأمين (. [التين: 3] إلى غير ذلك من المسائل والتى ستذكر كثيرا منها فى هذه الرسالة. المطلب الثاني: من جهة إفراده في التأليف، فإن العلماء يتجهون في الكتابة في هذا الموضوع إلى اتجاهين: الأول: إفراد هذه الطعون بكتب والرد عليها، مثل كتاب "مشكل القرآن " لابن قتيبة وغيره من الكتب التي سوف يأتي ذكر لها في المبحث القادم. الثاني: ذكر الطعن في ثنايا الكتاب والرد عليه، كما فعل بيان الحق النيسابوري في كتابه "وضح البرهان في مشكلات القرآن " (¬1) ، والرازي في كتابه " مفاتيح الغيب "، وكثير من المفسرين الذي يتعرضون للرد على هذه الطعون في ثنايا كتبهم. ¬

(¬1) "وضح البرهان في مشكلات القرآن"لبيان الحق النيسابوري، تحقيق صفوان داوودي، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى، 1990.

المطلب الثالث: من حيث المردود عليه، ولهم في ذلك طريقتان: الأولى: تهتم بالرد على شبهات وطعونات شخص معين أو كتاب معين، مثل ابن حزم الأندلسي في رده على ابن النغريلة اليهودي، ومثل الرد على طه حسين في زعمه وجود أحرف زائدة في القرآن وإنكاره قصته إبراهيم، ونصر أبو زيد في دعواه وجوب التحرر من تطبيق نصوص الكتاب والسنة، والرد على دائرة المعارف الإسلامية في زعمها تحريف القرآن ونقله من التوراة والإنجيل وغير ذلك مما سيأتي في تفصيله والرد عليه.

الثانية: تهتم في الطعون من حيث هي، بغض النظر عمن قالها؛ فيجمع الطعون ثم يرد عليها، مثل " الروض الريان في أسئلة القرآن " لشرف الدين بن ريان، و"وضح البرهان "السابق لبيان الحق النيسابوري، و" دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب " للشنقيطي وغيرهم، وهذه الطريقة هي الأشهر في هذا الباب، وهي الطريقة التى سرت عليها في هذه الرسالة.

المبحث الرابع: الكتب المؤلفة فيه

المبحث الرابع: الكتب المؤلفة فيه وهذا المبحث كالكشاف الذي يُعرِّف بالكتب المؤلفة في هذا الفن، وأسمائها، ومؤلفيها، وأماكن طبعها إن كانت مطبوعة، أو أماكن وجودها إن كانت مخطوطة، أو أماكن ذكرها في الكتب إن كانت مفقودة، وهي كالتالي: - أولا: المطبوع: 1- "فوائد في مشكل القرآن "لسلطان العلماء العز بن عبد السلام. طبع عام 1387 ثم 1402 بتحقيق سيد د/سيد رضوان الندوي، نشرته دار الشروق في جدة. 2- "مشكلات القرآن" لمحمد أنور الكشميري. سلسلة مطبوعات المجلس العلمي، الهند، الطبعة الثانية. 3- "أضواء على متشابهات القرآن"، لخليل ياسين. من منشورات دار ومكتبة الهلال، بيروت، الطبعة الثانية، 1980. 4- "الإكليل في المتشابه والتأويل "لابن تيمية. طبع في القاهرة، 1394، رسالة صغيرة. 5- "درة التنزيل وغرة التأويل في بيان الآيات المتشابهات في كتاب الله العزيز"، للخطيب الإسكافي (420هـ) . طبع في بيروت عن دار الآفاق الجديدة سنة 1979، في مجلد من 544 صفحة.

6- "رد معاني الآيات المتشابهات إلى معاني الآيات المحكمات "، لمحمد الأسعردي الدمشقي شمس الدين ابن بلبان (749هـ) . انظر معجم المطبوعات: 229.، وسماه الداوودي: "إزالة الشبهات عن الآيات والأحاديث المتشابهات" كما في طبقات المفسرين للداوودي (ص: 81) . 7-كتاب " مشكل القرآن " أو " تأويل مشكل القرآن " لابن قتيبة، وقد تقدم. 8- كتاب "المسائل والأجوبة في الحديث والتفسير" لابن قتيبة أيضا، طبعته دار ابن كثير في دمشق، الطبعة الأولى، 1990. 9- "متشابه القرآن" للسيوطي (911هـ) مطبوع في القاهرة، ولا تاريخ له. 10- "وضح البرهان في مشكلات القرآن" لبيان الحق النيسابوري، حققه صفوان داوودي، وطبعته دار القلم في دمشق 1990، الطبعة الأولى. 11- "متشابه القرآن" لعبد الجبار الهمذاني (415هـ) طبع في القاهرة: دار التراث 1969، تحقيق عدنان زرزور. 12- "متشابه القرآن" لعدنان زرزور، طبع في دمشق دار المعارف، 1970. 13- "متشابه التنزيل" لمؤلف مجهول. طبع في مكة في المطبعة المنيرية سنة 1311هـ. 14- "تنزيه القرآن عن المطاعن" للقاضي عبد الجبار. طبع في بيروت، دار النهضة بتحقيق عدنان زرزور.

15- "تفسير المشكل من غريب القرآن"، لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي طبع سنة 1406هـ، في الرياض نشر مكتبة المعارف بتحقيق د: على حسين البواب، وهو صاحب كتاب "مشكل إعراب القرآن" المتقدم ذكره في مبحث اتجاهات العلماء في التأليف في هذا المجال. 16- كتاب "القرطين" لابن مطرف الكناني، جمع فيه بين كتابي مشكل القرآن وغريبه لابن قتيبة. طبع بمطبعة دار المعرفة في بيروت. 17- "باهر القرآن في معاني مشكلات القرآن" لبيان الحق النيسابوري. طبع بمطابع جامعة أم القرى في المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1997، تحقيق سعاد بنت صالح بابقي. 18- "مدخل تفسير القرآن والرد على الملحدين "، للحدادي طبع في دار القلم بدمشق، بتحقيق صفوان داوودي. 19- "فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن "، لشيخ الإسلام أبي يحيي بن زكريا الأنصاري. طبع عام 1403 بتحقيق محمد الصابوني، بمطابع دار القرآن الكريم في بيروت. 20- "إيضاح المشكلات "للكشاني. ذكره الزركلي في الأعلام (6/63) ورمز له بأنه مطبوع. 21- "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب"، محمد الأمين الشنقيطي (صاحب الأضواء) . طبعته مكتبة ابن تيمية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1997. 22- "دفاعا عن القرآن ضد منتقديه"، د/عبد الرحمن بدوي. طبعته الدار العالمية للكتب والنشر. 23- " ملاك التأويل "لابن الزبير الغرناطي. دار النهضة العربية، بيروت، 1985.

24- " الروض الريان في أسئلة القرآن "، شرف الدين ابن ريان. طبع مكتبة دار العلوم والحكم في المدينة المنورة، الطبعة الأولى، 1994. 25-"رد معاني الآيات المتشابهات إلى معاني الآيات المحكمات "لابن اللبان (49هـ) . انظر: معجم المطبوعات العربية (ص: 229) ليوسف إلياس سركيس، القاهرة، الطبعة الأولى، 1928. -ثانيا: المخطوط: 1- "أسئلة القرآن وأجوبتها" لأبي بكر الرازي. ومنه نسخة مخطوطة في جامعة الملك سعود في الرياض. 2- "أوضح البرهان في مشكلات القرآن "، لمؤلف مجهول. منه نسخة مخطوطة محفوظة بدار الكتب الوطنية بتونس تحت رقم: 3540، مكتوبة سنة 1221هـ. 3- "توضيح المشكل في القرآن"، لسعيد الغساني بن الحداد. منه قطعة مخطوطة في جامع القيروان. 4- "حل الآيات المتشابهات"، لابن فورك (406هـ) . مخطوط في 74 ورقة بخزانة عاطف باستنبول تحت رقم 433. 5- "حل متشابهات القرآن" ويسميه بعضهم "درة التأويل في متشابه التنزيل" ويسميه آخرون "كشف مشكلات القرآن "، للراغب الأصفهاني. انظر مقدمة تحقيق كتاب المفردات للراغب تحقيق عدنان داوودي، ص: 9، وهو مخطوط في مكتبة راغب باشا رقم 180، وله مخطوطة أخرى في المتحف البريطاني. 6- "مشكلات القرآن" لأبي داود سليمان بن أشعث السجستاني، صاحب السنن. توجد منه نسخة خطية في فاتح كتبخانه سي في استنبول بتركيا رقمه في الفهرس (646) .

7- "الموضح في معاني القرآن وكشف مشكلات الفرقان "، لعبد العزيز الصيدلاني المرزباني من علماء القرن الرابع الهجري. منه نسخة مخطوطة في مكتبة أيا صوفيا رقم (297) . 8- "إزالة الشبهات عن الآيات والأحاديث المتشابهات "لابن اللبان (749هـ) . انظر الأعلام للزركلي (5/327) ورمز له أنه مخطوط. ثم إني وجدت كتابا حافلا جامعا لأغلب المخطوطات الإسلامية في العالم؛ وهو كتاب "الفهرس الشامل للتراث العربي الإسلامي المخطوط" من إصدار المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية، ويطلق عليها اسم "مؤسسة آل البيت" في الأردن، وتم إصدار سبعة وعشرين مجلدا منه، منها في علوم القرآن "مخطوطات التفسير وعلومه" في مجلدين، يذكر فيه عنوان المخطوط، واسم مؤلفه، ومكان وجوده، ورقمه فيه، وهو مرتب هجائيا. ومن المخطوطات التي وجدتها داخلة في علم مشكل القرآن: 9 - الأجوبة الجلية على الأسئلة الخفية للمصري. 10- الأجوبة السنية على الأسئلة الرومية. 11- أجوبة على أحد عشر سؤالا تتعلق بمشكلات تفسير القرآن الذي وضعه العز بن عبد السلام للسندي. 12- استشكالات عمر بن عبد السلام في تفسير الفاتحة، والأجوبة عنها لابن زكريا. 13- الأسئلة المفخمة في الأجوبة المفهمة للرازي. 14- أسئلة القرآن وأجوبتها للواحدي. 15- وبنفس العنوان للرازي.

16- ولعزة سيدي. 17- وللمصري. 18- متشابه القرآن للكسائي. 19- حل مشكلات القرآن للمرعشي. 20- شرح مغمضات القرآن. 21- أوضح البرهان في مشكلات القرآن. 22- الأنوار في مشكلات آيات من القرآن للشطيببي. 23- التبيان في متشابه القرآن للسيوطي. 24- تتمة البيان لما أشكل من القرآن لأبي شامة. -ثالثا: المفقود: 1- " جوابات القرآن " لسفيان بن عيينة (¬1) . ذكره ابن النديم في الفهرست (ص: 51) ، دار المعرفة، بيروت، 1398هـ، والداوودي في الطبقات (1/198) . 2- "الآيات المتشابهات "لبقي بن مخلد. انظر معجم مصنفات القرآن الكريم (4/194) ، الدكتور / على شواخ إسحاق، الرياض، دار الرفاعي، الطبعة الأولى، 1404. 3- "الرد على الملحدين في متشابه القرآن"، لقطرب. ذكره ابن النديم في الفهرست (ص: 78) وذكر الزركشي أنه اطلع عليه كما في البرهان في علوم القرآن (2/53) . 4- "مشكل القرآن " للحكيم الترمذي. ذكره القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن (15/30) ، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1408. ¬

(¬1) ولكن قال ابن أبي حاتم في"الجرح والتعديل"في ترجمة محمد بن أيوب بن هشام المزني المعروف، بكاكا الرازي قال: روى عن الحميدي عن ابن عيينة"جوابات القرآن"وروى عن الأصمعي نا عبد الرحمن، قال: سألت أبى عنه، فقال: هذا كذاب، لم يكن عند الحميدي من هذا شيء وهذا شيخ كذاب انظر: كتاب الجرح والتعديل (7/198) ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1952، فالله أعلم.

5- " معاني القرآن وغريبه ومشكله"للمفضل بن سلمة. انظر الفهرست لابن النديم (1/51) ، والمفضل هو ابن سلمة بن عاصم أبو طالب، وكان فهما فاضلا، كوفي المذهب، أديبًا لغويًا، كان حيًّا في سنة تسعين ومائتين (انظر تاريخ بغداد للخطيب (13/124) . 6- "معاني القرآن وتفسيره ومشكله" لابن جراح الوزير. انظر الفهرست لابن النديم (1/51) . 7- "مشكل القرآن " لابن الأنباري. ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء (15/512) ، وابن طاهر في تذكره الحفاظ (3/875) تحقيق حمدي السلفي، دار الصميعي، الرياض، الطبعة الأولى، 1415، وطبقات المفسرين للداوودي (ص: 231) . 8- "مشكل القرآن "لأبي محمد القتيبي. ذكره القزوينى في "التدوين في أخبار قزوين" (2/183) . 9- "معاني مشكل القرآن "لبعض تلامذة المبرد. ذكره السيوطي في كتاب التطريف في التصحيف (ص: 25) ، تحقيق على حسين البواب، دار الفائز، عمان الأردن، الطبعة الأولى، 1409. 10- " مشكل القرآن " لابن فورك. ذكره ياقوت الحموي في معجم البلدان (1/237) ، بيروت، دار الفكر. 11- "مشكلات التفسير "لقطب الدين محمود الشيرازي. ذكره حاجى خليفة في كشف الظنون (2/1695) . 12- "مشكلات القرآن "لمكي بن أبي طالب القيسي. المصدر السابق في نفس الصفحة. 13- "جوابات القرآن "لأحمد المهرجاني المقرىء. ذكره ابن كثير الداوودي في طبقات المفسرين (1/55) .

14- "البرهان في مسائل القرآن"لابن قدامة المقدسي. ذكره ابن كثير في البداية والنهاية (13/99) ، والأعلام (4/67) . 15- "البرهان في مشكلات القرآن " لأبي المعالي بن منصور الجيلي المعروف بشيذله (494هـ) . ذكره في وفيات الأعيان (1/318) ، كشف الظنون (1/241) ، وطبقات المفسرين لأحمد الأدنروي (ص: 407) ، الأعلام للزركلي (4/232) . 16- "بيان مشتبه القرآن " لعيسى اللخمي الشرشيني (629هـ) . لسان الميزان لابن حجر (4/401) غاية النهاية (1/609) . 17- "تأويلات القرآن" لأبي منصور الماتريدي (333هـ) . ذكره في الأعلام (7/242) . 18- "تأويل متشابهات القرآن " لابن شهر آشوب (588هـ) . انظر الأعلام (7/167) . 19- "التبيان في مسائل القرآن " لأحمد بن إسماعيل الطالقاني القزويني (589هـ) . انظر الأعلام (1/93) . 20- " تيجان التبيان في مشكلات القرآن" لمحمد أمين الخطيب العمري (1203هـ) . انظر الأعلام (6/41) . 21- "ري الظمآن في متشابه القرآن " لأبي محمد الأنصاري الأندلسي النحوي. انظر إيضاح المكنون (3/604) . 22-كتاب "التنزيه وذكر متشابه القرآن " للنوبختي. انظر إيضاح المكنون (4/283) . 23-كتاب "الجوابات في القرآن" ذكره "تاريخ التراث العربي" لفؤاد سزكين (1/200) .، لمقاتل بن سليمان، وله أيضا (متشابه القرآن) ذكره " الأعلام " (8/206) . وله (الآيات المتشابهات) "طبقات المفسرين "للداوودي (2/331) . وكلها مفقودة، ولعلها أسماء لنفس الكتاب.

24-"كشف غوامض القرآن" لابن طريح الرماحي النجفي (1085هـ) ذكره "الأعلام" (5/337) . 25-"كشف المعاني عن متشابه المثاني" لابن جماعة (733هـ) ذكره "إيضاح المكنون" (4/367) . 26- "متشابه القرآن" للكسائي (187هـ) ذكره "تاريخ التراث العربي" لفؤاد سزكين (1/221) . 27- "متشابه القرآن "لأبي الحسن بن المنادي. انظر "تاريخ التراث العربي" لفؤاد سزكين (1/213) . 28- "متشابهات الكتاب" للسخاوي. ذكره "إيضاح المكنون " (4/426) . 29- "مجالس في المتشابه من الآيات القرآنية" لابن الجوزي. ورد ذكره في مصادر ترجمته، انظر على سبيل المثال: الأعلام (4/89) . 30- "مشكل القرآن" لابن مطرف الكناني. ذكره "الأعلام" (6/206) . 31- "هداية الصبيان لفهم بعض مشكل القرآن "للميهي المقري الشافعي. ذكره إيضاح المكنون (1/582) . 32- "البرهان في مسائل القرآن "لعبد الله الجماعيلي الميقدسي (ت620هـ) . انظر البداية والنهاية لابن كثير (13/99) بيروت، الطبعة الأولى، 1977. 33- "ضياء القلوب من معاني القرآن وغريبه ومشكله " للمفضل بن سلمة. ذكره ابن النديم في الفهرست (1/51) . 34- كتاب ابن جراح الوزير "في معاني القرآن وتفسيره ومشكله". ذكره ابن النديم في الفهرست (1/51) . 35-"كشف المشكلات وإيضاح المعضلات " لأبي الفتح بن منعة الموصلي الشافعي. ذكره البغدادي في إيضاح المكنون (2/367) .

36-"كشف غوامض المنقول في مشكل الآيات والآثار وأخبار الرسول" لمحمد العمري الشافعي، الشهير بسبط المرصفي. ذكره إسماعيل باشا في إيضاح المكنون (4/363) . 37- "مشكلات المثنوي". ذكره حاجي خليفة في "كشف الظنون " (2/1695) ولم يبين اسم المؤلف ولم يذكر نبذة عن الكتاب. 38- "درر الكلمات على غرر الآيات الموهمة للتعارض والشبهات " لبيان الحق النيسابوري. ذكره في "معجم المؤلفين " (12/182) و"إيضاح المكنون " (2/58) وانظر مقدمة تحقيق "وضح البرهان "للداوودي (1/14) ، وبهذا يكون الإمام بيان الحق النيسابوري له ثلاث كتب في هذا الفن وهي "وضح البرهان" و"باهر البرهان "وهما مطبوعان، و"درر الكلمات"وهو مفقود. 39- "جوابات القرآن "للإمام أحمد بن حنبل. ذكره الداوودي في "طبقات المفسرين" (1/72) . 40- "متشابه القرآن "لبشر بن المعتمر (210هـ) . ذكره الداوودي في "طبقات المفسرين" (1/117) . 41- "متشابه القرآن "لجعفر بن حرب الهمذاني (236هـ) . ذكره الداوودي في "طبقات المفسرين" (1/127) . 42- "المشكل" لداود بن علي الظاهري (270هـ) . ذكره الداوودي في "طبقات المفسرين" (1/173) ، ولم يذكر هل هو مشكل القرآن أو الحديث. 43- "متشابه القرآن "لأبي البقاء العكبري (616هـ) . ذكره الداوودي في طبقات المفسرين (1/232) . 44-"ري الظمآن في متشابه القرآن" لعبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري

الأندلسي (634هـ) . انظره إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون لإسماعيل باشا البغدادي (3/604) ، استنبول، الطبعة الأولى، 1945. 45-كتاب "التنزيه وذكر متشابه القرآن" للحسن النوبختي. ذكره في "إيضاح المكنون" (4/283) . 46- "متشابه القرآن "لحمزة الزيات (156هـ) . انظر الفهرست لابن النديم (ص: 36) . 47- "متشابه القرآن "لنافع (170هـ) . انظر الفهرست لابن النديم (ص: 36) . 48- "متشابه القرآن "لخلف (229هـ) . انظر الفهرست لابن النديم (ص: 36) . 49- "متشابه القرآن "لمحمود الوراق (230هـ) . انظر الفهرست لابن النديم (ص: 36) . 50- "متشابه القرآن "لأبي هذيل العلاف (235) . انظر الفهرست لابن النديم (ص: 37) . 51- "متشابه القرآن "لأبي علي الجائي (303هـ) . انظر الفهرست لابن النديم (ص: 37) . 52- "متشابه القرآن "لأبي بكر القطيعي (368هـ) . ذكره في إيضاح المكنون (4/426) 53- "متشابه القرآن "لأبي الحسن المنادي (336هـ) . انظر تاريخ التراث العربي (1/213) . 54- "نفي التحريف عن القرآن الشريف "للواحدي. انظر طبقات المفسرين للأدنروي (ص: 128) .

55- "المسائل في القرآن "للجاحظ (255هـ) . انظر طبقات المفسرين للداوودي (2/16) . 56- "أجوبة الإقناع والاحتساب في مشكلات مسائل الكتاب "محمد بن الفخار الجذامي (703هـ) . انظر طبقات المفسرين للداوودي (2/212) . 57- "كتاب المشكلين: مشكل القرآن والسنة" لأبي بكر بن العربي (543هـ) . انظر طبقات المفسرين للداوودي (2/169) . 58- "متشابه القرآن "، لأبي على الجبائي شيخ المعتزلة (303هـ) . انظر طبقات المفسرين للداوودي (2/192) . 59- "غوامض التأويل " لأبي سعيد الشلوبين الإشبيلي (641هـ) . انظر طبقات المفسرين للداوودي (2/268) . 60- "مشكل القرآن " لابن نجيح النفزي (437هـ) . انظر طبقات المفسرين للداوودي (2/338) . ويلاحظ فيما سبق أن أكثر الكتب هي المفقودة، مما يتطلب من العلماء وطلبة العلم البحث عنها، وإخراج هذه الكنوز للأمة، والإفادة منها في تفنيد شبهات الطاعنين والمشككين، ولا ننس أيضا تلك المخطوطات الصادرة عن (مؤسسة آل البيت) والمتصلة منها بالتفسير وعلومه، وقد أشرنا إلى طرف منها في نهاية الكلام السابق عن المخطوطات (¬1) . ¬

(¬1) انظر: صفحة 41

الفصل الثاني: أسباب الطعن في القرآن

الفصل الثاني: أسباب الطعن في القرآن وفيه أربعة مباحث هي: المبحث الأول: لماذا هذه الحرب على القرآن؟ المبحث الثاني: ما الحكمة من وجود المتشابه في القرآن؟ المبحث الثالث: أنواع المطاعن. المبحث الرابع: أسباب الاختلاف في القرآن.

المبحث الأول: لماذا هذه الحرب على القرآن؟ عرف أعداء الله أهمية كتاب الله تعالى في نفوس المسلمين، ومدى تعلقهم به، وعلموا أنه هو باعث نهضتهم، ومحيي همتهم، وموحد كلمتهم، وسبب نجاتهم وقوتهم. يقول الحاخام الأكبر لإسرائيل سابقا مردخاي الياهو، مخاطبا مجموعة على وشك الالتحاق بالجيش الإسرائيلي: (هذا الكتاب الذي يسمونه القرآن هو عدونا الأكبر والأوحد، هذا العدو لا تستطيع وسائلنا العسكرية مواجهته، كيف يمكن تحقيق السلام في وقت يقدس العرب والمسلمون فيه كتابا يتحدث عنا بكل هذه السلبية؟! على حكام العرب أن يختاروا؛ إما القرآن أو السلام معنا) (¬1) . وفي بدايات هذا القرن كان الجنود الإيطاليون يتغنون بأنشودتهم: (أنا ذاهب إلى ليبيا فرحا مسرورا، لأبذل دمي في سبيل سحق الأمة الملعونة ومحو القرآن، وإذا مت يا أماه فلا تبكيني، وإذا سألك أحد عن عدم حدادك فقولي: لقد مات وهو يحارب الإسلام) (¬2) . ويقول الحاكم الفرنسي في الجزائر: (إننا لن ننتصر على ¬

(¬1) انظر: مجلة البيان، العدد: 159، بتاريخ ذو القعدة 1421هـ، وجريدة البلاد (السعودية) : 30 رجب 1421هـ. (¬2) انظر: صلاح الأمة في علو الهمة لسيد عفاني (6/575) نقلا عن التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية للدكتور أحمد شلبي.

الجزائريين ما داموا يقرؤون القرآن، ويتكلمون العربية) (¬1) . ويقول وليم جيفورد: (متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب، يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في طريق الحضارة الغربية بعيدا عن محمد وكتابه) (¬2) . ويقول اللورد كرومر في مصر: (جئت لأمحو ثلاثا: القرآن والكعبة والأزهر) (¬3) . يقول جون تاكلي: (يجب أن نستخدم القرآن -وهو أمضى سلاح-ضد الإسلام نفسه، بأن نعلم هؤلاء الناس-يعني المسلمين- أن الصحيح في القرآن ليس جديدا، وأن الجديد ليس صحيحا) (¬4) . ويقول غلادستون -وزير المستعمرات البريطاني سنة 1895، ثم رئيس الوزراء -: (لن تحقق بريطانيا شيئا من غاياتها في العرب، إلا إذا سلبتهم سلطان هذا الكتاب، أخرجوا سر هذا الكتاب -القرآن- مما بينهم تتحطم أمامكم جميع السدود) (¬5) . ¬

(¬1) قادة الغرب يقولون دمروا الإسلام أبيدوا أهله، لجلال العالم، ص: 31. (¬2) المرجع السابق ص: 49. (¬3) الخنجر المسموم الذي طعن به المسلمون، أنور الجندي: ص 29، دار الاعتصام، سلسلة دائرة الضوء. (¬4) انظر: مجلة مجمع الفقه الإسلامي (ص: 329) ، الدورة السابعة، العدد 7، الجزء الرابع لعام 1992، ورد افتراءات المبشرين على القرآن الكريم، لجمعة (ص: 263) ، وواجب المسلمين في نشر الإسلام للأستاذ زيد الفياض (ص: 19) . (¬5) القراءة المعاصرة للقرآن في الميزان، أحمد عمران، (ص: 17) ، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1995.

وقال أيضا: (ما دام هذا القران موجودا في أيدي المسلمين، فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق، ولا تكون هي نفسها في أمان) (¬1) . إذن هم يعرفون أن القرآن مصدر قوة المسلمين؛ لذلك أعلنوا الحرب على كتاب الله، وهذه الحرب قديمة قدم نزول القرآن، كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26] ؛ يعني أن الغلبة لهم على المسلمين إنما تكون باللغو والطعن في القرآن. ومن أهداف الطعن في كتاب الله: 1- حرب المسلمين؛ لأن الكفار رأوا أن أهل الإسلام لا يمكن قهرهم بالسنان والحروب العسكرية؛ لأنهم قوم يحبون الموت كما هم يحبون الحياة، وإنما كان هذا الحب للشهادة في نفوس المسلمين، لما في كتاب الله من الثناء والحث على الشهادة في سبيله، لذلك توجهوا بالحرب إلى القرآن حتى ينتزعوا القدسية عن القرآن، ويثبتوا أنه ليس من عند الله تعالى، بل من عند محمد (صلى الله عليه وسلم) ، ومن ثَم يتم إبعاد المسلمين عن مصدر توحيدهم وسر قوتهم. 2- فتح باب النزاع والشقاق بين المسلمين على مصراعيه، يقول تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة: 176] . ¬

(¬1) منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير، للدكتور فهد الرومي (ص: 442) مكتب الرشد، الرياض، الطبعة الخامسة، 1412، هجمة علمانية جديدة ومحاكمة النص القرآنى، د. كامل سعفان (ص: 97) .

3- زرع الفتن بين المسلمين كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ... } [آل عمران: 7] . 4- هدم الإسلام: فقد روي عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ زِيَادِ بْنِ حُدَيْر، قَالَ: قَالَ لِي عُمَرُ: هَلْ تَعْرِفُ مَا يَهْدِمُ الْإِسْلَامَ؟ قَالَ: قُلْتُ لَا. قَالَ: يَهْدِمُهُ زَلَّةُ الْعَالِمِ، وَجِدَالُ الْمُنَافِقِ بِالْكِتَابِ، وَحُكْمُ الْأَئِمَّةِ الْمُضِلِّينَ) (¬1) . وبهذا يتحقق لهم ما يريدون، ويصبح المسلمون صيدا سهلا، بل قد يصبح المسلمون في صف الكفار وأتباع ملتهم {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ... } [البقرة: 120] . وللأسف فقد تحقق لهم الكثير من هذا، فقد عُزل الكتاب عن التحكيم بين الناس، واستبدل بقانون الغرب، وصدق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كما جاء عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «خذوا العطاء ما دام العطاء لله، فإذا صار رشوة على الدين فلا تأخذوه ولستم بتاركيه، يمنعكم الفقر والحاجة، ألا إن رحى الإسلام دائرة فدوروا مع الكتاب حيث دار، ألا إن الكتاب والسلطان سيفترقان فلا تفارقوا الكتاب، ألا إنه سيكون عليكم أمراء ¬

(¬1) أخرجه الدارمي (المقدمة باب: في كراهية أخذ الرأي، رقم: 214) .

يقضون لأنفسهم مالا يقضون لكم، فإذا عصيتموهم قتلوكم، وإن أطعتموهم أضلوكم، قالوا: يا رسول الله كيف نصنع؟ قال: كما صنع أصحاب عيسى ابن مريم نشروا بالمناشير، وحملوا على الخشب، موتُُ في طاعة الله خير من حياة في معصية الله» (¬1) . ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في الصغير (2/42) والكبير (20/90) وفي مسند الشاميين (1/379) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/228) : (رواه الطبراني ويزيد بن مرثد لم يسمع من معاذ، والوضين بن عطاء وثقه ابن حبان وغيره، وبقية رجاله ثقات.) .

المبحث الثاني: ما الحكمة من وجود المتشابه في القرآن؟

المبحث الثاني: ما الحكمة من وجود المتشابه في القرآن؟ والباعث على البحث في هذا هو الجواب على شبهة: " أن القرآن إنما أنزل للهدى والبيان فكيف اشتمل على المتشابه "؟ وقد تكلم في جواب هذا كثير من العلماء، وخاضوا في حكمة إنزال المتشابه، وذكروا أمورا بعضها قوي، وبعضها لا يخلو من مقال، وبعضها يتعجب الناظر فيه كيف أمكن أن يقال، وبعضها لا يستحق الذكر. أما أمثلها وأقواها فيما قال العلماء، فهو أن الحكمة من إنزال المتشابه تتجلى في أمور: الأول: أن الله أنزله مختبراً به عباده؛ فأما المؤمن فلا يداخله فيه شك ولا يعتريه ريب، وهو بين أمرين، إما قادر على رده إلى المحكم، وإما قائل: آمنا به كل من عند ربنا. إن لم يتبين له معناه، فأمره كله خير، وتعظم بذلك مثوبته، وتزيد عند الله درجته. وأما المنافق فيرتاب ولا يزيده القرآن إلاّ خسارا، وأما من كان في قلبه زيغ -كأهل البدع -، فيتبعون المتشابه؛ ليفتنوا الناس عن القرآن وصحيح السنة وينزلوه على مقتضى بدعتهم. وسياق الآية وما بعدها دال على أن هذا من حكمة إنزال المتشابه؛ إذ قال تعالى: (وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ

فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلاّ أولوا الألباب ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ( [آل عمران: 7-8] . فالمؤمنون رغبوا إلى ربهم أن لا يزيغ قلوبهم كما زاغت قلوب أهل الزيغ، إذ هو - أي المتشابه - فتنة للعقول والقلوب، وسألوا أن ينزل عليهم رحمة يربط بها على قلوبهم وعقولهم فلا تزيغ، وفي هذا الإشارة إلى أن أهل الزيغ والبدعة محرومون من بركة هذا الدعاء، كل بحسب بدعته، وبعده عن السنة. وقد ذكر الله في القرآن أنه ينزل ما يمتحن به عباده؛ ليزداد الذين آمنوا إيمانا؛ ويضل غيرهم من أهل الضلال، كما قال تعالى: {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضةً فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاُ يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلاّ الفاسقين} [البقرة: 26] . قال الإمام عبد الرحمن السعدي في تفسيره: (يقول تعالى (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاُ ما (أي مَثَلٍ كان (بعوضة فما فوقها (لاشتمال الأمثال على الحكمة وإيضاح الحق، الله لا يستحيي من الحق (فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم (فيفهمونها ويتفكرون فيها،

فإن علموا ما اشتملت عليه على وجه التفصيل، إزداد بذلك علمهم وإيمانهم، وإلاّ علموا أنها الحق، وما اشتملت عليه حق، وإن خفي عليهم وجه الحق فيها، لعلمهم بأن الله لم يضربها عبثا، بل لحكمة بالغة ونعمة سابغة، (وأما الذي كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً (فيعترضون ويتحيرون، فيزدادون كفراً إلى كفرهم، كما ازداد المؤمنون إيماناً إلى إيمانهم، ولهذا قال: (يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً (فهذه حال المؤمنين والكافرين عند نزول الآيات القرآنية، قال تعالى: {وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناُ وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون} [التوبة: 124 - 125] فلا أعظم من نزول الآيات القرآنية، ومع هذا تكون لقوم محنة وحيرة وضلالة، وزيادة شر إلى شرهم، ولقوم منحة ورحمة وزيادة خير إلى خيرهم) (¬1) . ومن هذا القبيل قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلاّ إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرضٌ والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد وليعلم الذين أتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهادِ الذين أمنوا إلى صراط مستقيم} [الحج 52 - 54] . قال ابن القيم: (والمقصود أن قوله: (ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض (هي لام التعليل على بابها، وهذا الاختبار ¬

(¬1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/46-47) ، دار المدني، جدة، 1408.

والامتحان مظهر لمختلف القلوب الثلاثة، فالقاسية والمريضة ظهر خبؤها من الشك والكفر، والمخبتة ظهر خبؤها من الإيمان والهدى وزيادة محبته وزيادة بغض الكفر والشرك والنفرة عنه، وهذا من أعظم حكمة هذا الإلقاء) (¬1) . ومن هذا القبيل أيضاً قوله تعالى: {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلّا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلّا طغياناً كبيراً} [الاسراء: 60] . قال ابن كثير - بعدما ذكر تفسير ابن عباس: أن الرؤيا هي ليلة الإسراء، والشجرة هي شجرة الزقوم -: (وهكذا فسر ذلك بليلة الإسراء مجاهد وسعيد بن جبير والحسن ومسروق وإبراهيم وقتادة وعبد الرحمن بن زيد، وغير واحد، وتقدم أن ناساً رجعوا عن دينهم بعدما كانوا على الحق؛ لأنه لم تحتمل عقولهم وقلوبهم ذلك، فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، وجعل الله ذلك ثباتاً ويقيناً لآخرين، ولهذا قال: (إلاّ فتنة (. أي اختبارًا وامتحاناً، وأما الشجرة الملعونة فهي شجرة الزقوم، كما أخبرهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه رأى الجنة والنار، ورأى شجرة الزقوم، فكذبوا بذلك حتى قال أبو جهل - لعنه الله-: هاتوا تمرا وزبداً، فجعل يأكل هذا بهذا ويقول: تزقموا فلا نعلم الزقوم غير هذا) (¬2) . فهذا كله يدل على أن الله يختبر عباده بما شاء، وإنزاله المتشابه من هذا فإنه فتنة، وقد ضل به كثير ممن ضل عن الحق، كما رفع الله به أهل الإيمان بيقينهم، ورسوخهم درجات من عنده. ¬

(¬1) شفاء العليل لابن القيم ص: 193، تحقيق محمد بدر الدين الحلبي، دار الفكر، بيروت، 1978. (¬2) تفسير ابن كثير (3/48) ، مكتبة دار التراث، القاهرة.

الثاني: إن في إنزال المتشابه إظهارا لفضل العلماء وتفاضلهم فيما بينهم، وفيه أيضاً تعريضهم لمزيد من المشقة والصعوبة في معرفة الحق منها، فيعظم أجرهم، ويرتفع عند الله شأنهم. وأيضاً فإنه يدعوهم لتحصيل علوم كثيرة، نيط بها استنباط ما أريد بالمتشابه من الأحكام الحقة، فتتسع بذلك علومهم. وأيضاً فإنه يدرب العلماء على استنباط المعاني الدقيقة، فتقوى بذلك بصائرهم، ولو أنزل القرآن كله محكماً، لاستوى في معرفته العالم والجاهل، ولم يكن في استنباط ما فيه مشقة توجب عظيم المثوبة (¬1) . وقال الإمام فخر الدين الرازي: "من الملحدة من طعن في القرآن لأجل اشتماله على المتشابهات. وقال: إنكم تقولون: إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى قيام الساعة. ثم إنا نراه بحيث يتمسك به صاحب كل مذهب على مذهبه، فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب الذي هوالمرجوع إليه في كل الدين إلى يوم القيامة هكذا؟ الجواب أن العلماء ذكروا لوقوع المتشابه فيه فوائد منها: أنه يوجب المشقة في الوصول إلى المراد، وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب (¬2) . ¬

(¬1) انظر: تفسير أبي السعود (2/8) ، الخازن (1/320) تفسير أبي الليث السمرقندي (2/13) ، تفسير النسفي (1/246) ، تفسير البيضاوي (2/4) ، تفسير القرطبي (4/89) وانظر: كذلك التمهيد لأبي الخطاب (2/276) . فتح القدير للشوكاني (1/318) (¬2) وقد تقدم ذكر هذه الفائدة؛ لذلك لم أرقمها.

الثالث: أنه لو كان القرآن كله محكما، لما كان مطابقا إلا لمذهب واحد، وكان بصريحه مبطلا لكل ما سوى ذلك المذهب، وذلك مما ينفر أرباب سائر المذاهب عن قبوله، وعن النظر فيه والانتفاع به، فإذا كان مشتملا على المحكم والمتشابه، طمع صاحب كل مذهب أن يجد فيه ما يؤيد مذهبه، وينصر مقالته، فينظر فيه جميع أرباب المذاهب، ويجتهد في التأمل فيه صاحب كل مذهب، وإذا بالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات، وبهذه الطرق يتخلص المبطل من باطله ويتوصل إلى الحق. الرابع: أن القرآن إذا كان مشتملا على المتشابه، افتقر إلى العلم بطريق التأويلات، وترجيح بعضها على بعض، وافتقر في تعلم ذلك إلى تحصيل علوم كثيرة من علم اللغة والنحو والمعاني والبيان وأصول الفقه، ولو لم يكن الأمر كذلك لم يحتج إلى تحصيل هذه العلوم الكثيرة، فكان، في إيراد المتشابه هذه الفوائد الكثيرة. . . (¬1) . الخامس: أن المشتبهات ليست في الأمور المطلوبة من المكلف العمل بها، وإنما هي في بعض الأمور العقدية التي يطالب فيها المكلف بالتفويض والتسليم لله تعالى فيها، ويقول: (آمنا به كل من عند ربنا (. ومما قيل - وهو ضعيف - ما نقله السيوطي - رحمه الله - عن بعضهم قال: (وإن كان مما لا يمكن علمه، ففيه فوائد؛ منها ابتلاء العباد بالوقوف عنده، والتوقف فيه، والتسليم والتعبد بالاشتغال به من جهة التلاوة كالمنسوخ، وإن لم يجز العمل بما فيه، وإقامة الحجة عليهم؛ لأنه منزل بلسانهم ولغتهم، وعجزوا عن الوقوف على معناه مع بلاغتهم ¬

(¬1) راجع الإتقان 2/31.

وأفهامهم، فدل على أنه منزل من عند الله، وأنه الذي أعجزهم عن الوقوف) (¬1) . وهو ضعيف؛ لأنه قد تقرر تضعيف القول باشتمال القرآن على ما لا يمكن معرفة معناه، لكن إذا قيل: إن هذا من حكمة إنزال المتشابه بالنسبة لبعض العباد، وهو البعض الذي لم يعلم معنى المتشابه، صح من هذه الجهة. وأما قوله: (إقامة الحجة عليهم. . . إلى آخر ما ذكر) فبعيد؛ وذلك لأن ما لا يفهم له معنى، فاحتجاج المشركين به على الطعن في القرآن، أقرب من الاحتجاج به عليهم أنه معجز، ولا يخفى أنهم لو قالوا: لو أنزل هذا القرآن كله بلغتنا ولساننا، لما عجزنا عن فهم بعضه. ولجاءوا بقوي من الحجة تسوغ لهم الطعن في القرآن، فكيف يجعل عدم فهمهم لمعناه دليلاً على نزوله بلغتهم؟! ولكن بلغ من الإعجاز بحيث لا يفهمون معناه؛ فما أبعد هذا. ومما قيل في الحكمة وهو باطل قطعاً، قولان: الأول: وهو أبطل قول، ونعني به ما ذكره الرازي وجعله الأقوى، قال: (والخامس وهو السبب الأقوى: أن القرآن مشتمل على دعوة الخواص، والعوام تنبو في أكثر الأمور عن إدراك الحقائق العلمية المحضة، فمن سمع من أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا متحيز ولا مشار إليه، ظن أن هذا عدم محض، فوقع في التعطيل، فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما تخيلوه وتوهموه، ويكون مخلوطاً بما يدل على الحق الصريح، فالقسم الأول وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر يكون من باب المتشابهات، ¬

(¬1) المصدر السابق (2/16) .

والقسم الثاني وهو الذي يكشف لهم في آخر الأمر هو من المحكمات) (¬1) . ولازم هذا القول أن الله أنزل المتشابه؛ ليضل به جمهور المؤمنين المعظمين للقرآن، باعتقاد ظاهره، ثم بعد ذلك يبين لهم أن ما أُخبرتم به أولاً كان كذبا لمصلحتكم. القول الثاني: وهو قريب من الأول في البطلان، أو مثله، ونعني قول القاضي عبد الجبار: (ومنها - أي الحِكَم - أن كون القرآن كذلك - أي محكماً ومتشابها - يصرفه أن يعول على تقليده؛ لأنه يرى أنه ليس بأن يقلد كلامه عز وجل في نفي التشبيه؛ لقوله عز وجل: (ليس كمثله شيء (أولى من أن يقلده في خلافه لقوله عز وجل: (وجاء ربك (. فكما أن اختلاف العلماء في الديانات، وقول بعضهم في المذهب بخلاف قول صاحبه، يصرف المميز عن تقليدهم؛ لأنه ليس تقليد بعضهم بأولى من تقليد سائرهم، فكذلك انقسام القرآن إلى الوجهين اللذين ذكرناهما، يصرف من ذلك لا محالة، وما صرف عن التقليد المحرم، وبعث على النظر والاستدلال، فهو في الحكمة أولى) (¬2) . وهذا الكلام غاية في البطلان؛ فإن القرآن إنما أنزل ليتبع ويقلد؛ قال تعالى: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون} [الأنعام: 155] ، وقال تعالى: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم} [الأعراف: 3] وقال: {واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم} [الزمر: 55] ، وقال: {قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلّا ما يوحى إلي} [يونس: 15] . وقال: {واتبع ما يوحى إليك من ربك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين} [يونس: 109] . ¬

(¬1) أساس التقديس ص 192، وانظر: تفسيرالفخر الرازي أيضاً (7/172) . (¬2) متشابه القرآن للقاضي عبد الجبار (1/26) .

فإلى الله المشتكى، وهو الحاكم فيمن يجعل اتباع القرآن تقليداً محرماً، إنه لعجب كيف أمكن أن يقال هذا الباطل من المنتسبين إلى علماء الملة الحنيفية، وقد عظَّم الله شأن القرآن ورفعه فوق زبر الأولين، وجعله إماماً لخير الأمم. قال تعالى: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} [المائدة: 48] . وقال: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً} [الإسراء: 9] . وكيف يكون القرآن حاكماً إذا كان نزوله من أجل أن يصرف الناس عن تحكيمه في عقيدتهم؟! قال عز وجل: {آلر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد} [إبراهيم: 1] . وقال: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} [النمل: 89] . وقال: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} [البقرة: 213] . والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

المبحث الثالث: أنواع المطاعن

المبحث الثالث: أنواع المطاعن الطاعنون في القرآن كثر، ومطاعنهم وشبهاتهم كثيرة، وحصرها قد يعيي الباحث، ويكل المجد، ولكن حقيقة هذه الطعون أنها تدور في أفلاك محددة، وتنبع من مشكاة واحدة، ويمكننا أن نرجعها إلى أصول وقواعد تلملم شعث هذه الطعون، والرد على هذه الأصول يتكفل بالرد على جميع ما تحته من طعونات لا تعد ولا تحصر (¬1) ، ويمكننا أن نرد المطاعن إلى أربعة أصول يتفرع من بعضها فروع؛ وهي: 1- نفي نسبة القرآن لله تعالى: ويشمل عدة طعون: -نسبته إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) وأنه من تأليفه (¬2) . -نسبته إلى الاقتباس من الكتب السابقة كالتوراة والإنجيل (¬3) . ¬

(¬1) ويكفي في هذا الرد الإجمالي الذي سيأتي في الفصل الأول من الباب: الثاني. (¬2) انظر: الإسقاط في مناهج المستشرقين للدكتور شوقي أبو خليل (ص: 47) ، دار الفكر المعاصر، بيروت، الطبعة الأولى، 1995، ومعالم تاريخ الإنسانية، لويلز (3/626) ، وتاريخ الدولة العربية، ليوليوس فلهاوزن (ص: 8) ، ترجمه عن الألمانية، د. محمد أبو ريدة، الألف كتاب، القاهرة، 1958وغيرها من المراجع. (¬3) انظر: المستشرقون والدراسات القرآنية للدكتور محمد حسين الصغير، (ص: 118-120) ، المؤسسة الجامعة للدراسات والنشر، الطبعة الثانية، 1986، ودائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية (ص: 16) ، والعقيدة والشريعة في الإسلام لجولدتسيهر ص: 12، عن كتاب القرآن الكريم في مواجهة الماديين الملحدين للدكتور أحمد الشاعر (ص: 93) دار القلم، الكويت، الطبعة الثانية، 1982، وانظر: القرآن والمستشرقون، لنقرة (ص: 31) وغيرها من المراجع.

-دعوى عدم قدسيته وإمكانية نقده ومخالفته (¬1) ؛ يعني قد يقر بأنه ليس من النبي (صلى الله عليه وسلم) وأنه من الله تعالى، ولكن يقول هو ليس مقدسا، بل يمكن نقده، وهذا الكلام حقيقته نفي القرآن عن الله تعالى؛ لأن ما كان من الله سبحانهفهو مقدس ولا يمكن نقده، وما كان من غيره فينطبق عليه ما يجري على كلام البشر من خطأ أو عجز أو جهل، إلى غير ذلك من نقائض البشر. 2- زعم عدم حفظه: يعني قد يقر بأن القرآن من الله جل جلاله، ولكن يزعم عدم حفظه فيدعي: - أنه ليس هو القرآن الذي أنزل على محمد (صلى الله عليه وسلم) ، بل قد غير وبدل، وأما الأصل فلا وجود له (¬2) . - أنه زيد فيه ونقص (¬3) ؛ ¬

(¬1) انظر: القرآن الكريم في مواجهة الماديين الملحدين، للدكتور أحمد الشاعر (ص: 96-97) ، والتمهيد في تاريخ الفلسفة للشيخ مصطفى عبد الرازق (ص: 5) ، نقض مطاعن في القرآن الكريم، لمحمد أحمد عرفة، ص: 4، و (طه حسين حياته وفكره) لأنور الجندي، ص: 144، نقلا عن كتاب مستقبل الثقافة في مصر وغيرها من المراجع. (¬2) انظر: دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية، لإبراهيم عوض (ص: 7) ، والوحي الجديد (ص: 44) ، نقلا عن كتاب مناقشات وردود، لمحمد فريد وجدي (ص: 370) ، وغيره من المراجع. (¬3) انظر: لطائف المنان ورائع البيان في دعوى الزيادة في القرآن، د. فضل حسن عباس، دار النور للطباعة النشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1989، والشيعة والقرآن، لإحسان إلاهي ظهير، مكتبة إدارة ترجمات السنة، لاهور باكستان، وكتاب (أيلتقي النقيضان) لمحمد مال الله، دار النفير، الكويت، الطبعة الأولى، 1421، وأصول مذهب الشيعة الإمامية الاثنى عشرية، د. ناصر بن عبد الله القفاري، الفصل الأول من الباب: الأول بعنوان (اعتقادهم في القرآن) (1/123) وغيره من المراجع.

يعني قد يقر بأن القرآن الموجود هو الكتاب الذي نزل من الله، ولكن يقول إنه زيد فيه أو نُقص منه. 3- اتهام القرآن بالتناقض: - تناقض الآيات بعضها مع بعض (¬1) . 4- اتهام القرآن بمعارضة الحقائق: - معارضة الحقائق الشرعية (¬2) . - معارضة الحقائق التاريخية (¬3) . ¬

(¬1) انظر: كتاب تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة الدينوري تحقيق السيد أحمد صقر، المكتبة العلمية، وكتاب المسائل والأجوبة في الحديث والتفسير له أيضا تحقيق مروان العطية ومحسن خرابة، دار ابن كثير، دمشق، الطبعة الأولى، 1990، وأضواء على متشابهات القرآن، لخليل ياسين مكتبة الهلال، بيروت، وباهر القرآن في معاني مشكل القرآن لبيان الحق النيسابوري تحقيق سعاد بابقي، من مطبوعات جامعة أم القرى، 1997، وغير ذلك من المراجع. (¬2) انظر: كتاب: رد مفتريات على الإسلام، لشلبي، ص: 38، عن رسالة المجلس الملي القبطي الأرثوذكس بالإسكندرية، ودائرة المعارف البريطانية (ص: 22) ، حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، للعقاد (ص276) ، المكتبة العصرية، بيروت، وغير ذلك من المراجع. (¬3) انظر: المستشرقون والدراسات الإسلامية، للدكتورمحمد حسين الصغير (74-75) ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، وفي الشعر الجاهلي لطه حسين (ص: 26) ، ومدخل إلى علم التفسير، للدكتور محمد بلتاجي ص: 170، وغير ذلك من المراجع.

- معارضة الحقائق الكونية، أوحقائق العلم التجريبي الحديث (¬1) . والملاحظ في هذه الطعون هو التدرج فيها، فكلما انتفت شبهة انتقلوا إلى التي تليها. ولو علم المسلمون هذه الشبه الأربع والرد عليها لما حصل ما نراه الآن من تأثر كثير من المسلمين بها، بل والاعتقاد فيها أو التسليم بها. والمطاعن من حيث صراحتها تنقسم إلى نوعين: 1- طعون واضحة وصريحة، وهذا هو الغالب في طعون المستشرقين. 2- طعون غامضة وملتوية وغير مباشرة، وهذا الغالب في طعون العلمانيين. ¬

(¬1) انظر: رد مفتريات على الإسلام، لعبد الجليل شلبي، دار القلم، الكويت، الطبعة الأولى، 1982، ومدخل إلى علم التفسير لأستاذنا الدكتور بلتاجي، مكتبة الشباب:، 1998، وغير ذلك من المراجع.

المبحث الرابع: أسباب الاختلاف في القرآن

المبحث الرابع: أسباب الاختلاف في القرآن ذكرنا في المبحث السابق الطعون العامة التي يوردها الطاعنون، ونشير هنا إلي الأسباب التي كانت وراءها، أو التي دفعت هؤلاء إلي الخوض في قضايا تمس القرآن الكريم، ومن ثم يمكن القول بأن اختلافهم في القرآن يرجع إلى مجموعة من الاعتبارات؛ نذكر أهمها فيما يلى: أما نفي نسبة القرآن إلى الله تعالى، وزعم عدم حفظ القرآن، وما يندرج تحتهما من طعونات، فإنها دعاوى من غير أدلة ولا برهان، وسببها الحقد المحض، ولعل سببها الوحيد لديهم دعواهم وجود التناقض في القرآن، والتناقض دليل على عدم قدسيته. وأما دعوى تناقض القرآن فإنها ترجع لخمسة أسباب، كما ذكرها الزركشي، فقد قال - رحمه الله -: الأول: وقوع المخبر به على أحوال مختلفة وتطويرات شتى: كقوله تعالى في خلق آدم إنه {من تراب} [آل عمران: 59] ، ومرة {من حمأ مسنون} [الحجر: 26] ، ومرة {من طين لازب} [الصافات: 11] ، ومرة {من صلصال كالفخار} [الرحمن: 14] ، وهذه الألفاظ مختلفة، ومعانيها في أحوال مختلفة؛ لأن الصلصال غير الحمأ، والحمأ غير التراب، إلا أن مرجعها كلها إلى جوهر، وهو التراب، ومن التراب

تدرجت هذه الأحوال. ومنه قوله تعالى: {فإذا هي ثعبان مبين} [الشعراء: 32] ، وفي موضع {تهتز كأنها جان} [القصص: 31] ، والجان الصغير من الحيات، والثعبان الكبير منها؛ وذلك لأن خلقها خلق الثعبان العظيم واهتزازها وحركاتها وخفتها كاهتزاز الجان وخفته. السبب الثاني: اختلاف الموضوع: كقوله تعالى: {وقفوهم إنهم مسئولون} [الصافات: 24] ، وقوله: {فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين} [الأعراف: 6] ، مع قوله: {فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان} [الرحمن: 36] ؛ قال الحليمي: فتحمل الآية الأولى على السؤال عن التوحيد وتصديق الرسل، والثانية على ما يستلزم الإقرار بالنبوات من شرائع الدين وفروعه. وحمله غيره على اختلاف الأماكن؛ لأن في القيامة مواقف كثيرة، فموضع يسأل ويناقش وموضع آخر يرحم ويلطف به، وموضع آخر يعنف ويوبخ وهم الكفار، وموضع آخر لا يعنف وهم المؤمنون. وقوله: {ولا يكلمهم الله يوم القيامة} [البقرة: 174] ، مع قوله: {فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون} [الحجر: 92-93] وقيل: المنفي كلام التلطف والإكرام، والمثبت سؤال التوبيخ والإهانة،

فلا تنافي، وقيل: إن المنفي كلامهم في النار، والمثبت كلامهم في الحساب. وكقوله: {ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين} [الأنعام: 23] ، مع قوله: {ولا يكتمون الله حديثا} [النساء: 42] ، فإن الأولى تقتضي أنهم كتموا كفرهم السابق، والجواب من وجهين؛ أحدهما: أن للقيامة مواطن ففي بعضها يقع منهم الكذب، وفي بعضها لا يقع، كما سبق، والثاني: أن الكذب يكون بأقوالهم، والصدق يكون من جوارحهم، فيأمرها الله تعالى بالنطق فتنطق بالصدق. ومنه قوله تعالى: {اتقوا الله حق تقاته} [آل عمران: 102] ، مع قوله: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16] ، يحكى عن الشيخ العارف أبي الحسن الشاذلي، رحمه الله، أنه جمع بينهما فحمل الآية الأولى على التوحيد، والثانية على الأعمال، والمقام يقتضي ذلك؛ لأنه قال بعد الأولى (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون (. وقيل: بل الثانية ناسخة؛ قال ابن المنير: الظاهر أن قوله: (اتقوا الله حق تقاته (إنما نسخ حكمه لا فضله وأجره، وقد فسر النبي (صلى الله عليه وسلم) حق تقاته بأن قال: «هو أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر» . فقالوا: أينا يطيق ذلك. فنزلت (فاتقوا الله

ما استطعتم (وكان التكليف أولا باستيعاب العمر بالعبادة بلا فترة ولا نعاس، كما كانت الصلاة خمسين ثم صارت بحسب الاستطاعة خمسا، والاقتدار منزل على هذا الاعتبار، ولم ينحط من درجاته، وقال الشيخ كمال الدين الزملكاني: وفي كون ذلك منسوخا نظر، وقوله: (ما استطعتم (هو (حق تقاته (إذ به أمر فإن (حق تقاته (الوقوف على أمره ودينه، وقد قال بذلك كثير من العلماء اهـ. والحديث الذي ذكره ابن المنير في تفسيره (حق تقاته (لم يثبت مرفوعا، بل هو من كلام ابن مسعود رواه النسائي، وليس فيه قول الصحابة: أينا يطيق ذلك، ونزول قوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم (. ومنه قوله تعالى: {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة} [النساء: 3] مع قوله في أواخر السورة: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} [النساء: 129] فالأولى تُفهم إمكان العدل، والثانية تنفيه؛ والجواب أن المراد بالعدل في الأولى العدل بين الأزواج في توفية حقوقهن، وهذا ممكن الوقوع وعدمه، والمراد به في الثانية الميل القلبي؛ فالإنسان لا يملك ميل قلبه إلى بعض زوجاته دون بعض، وقد كان يقسم بين نسائه ثم يقول: " اللهم هذا قسمي في ما أملك، فلا تؤاخذني بما لا أملك ". يعني ميل القلب،

وكان عمر يقول: اللهم قلبي فلا أملكه، وأما ما سوى ذلك فأرجو أن أعدل. ويمكن أن يكون المراد بالعدل في الثانية العدل التام؛ أشار إليه ابن عطية، وقد يحتاج الاختلاف إلى تقدير، فيرتفع به الإشكال كقوله تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى} [النساء: 95] ثم قال سبحانه: (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما (والأصل في الأولى: وفضل الله المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر درجة، والأصل في الثانية: وفضل الله المجاهدين على القاعدين من الأصحاء درجات. وكقوله تعالى: {إن الله لا يأمر بالفحشاء} [الأعراف: 28] مع قوله: {أمرنا مترفيها ففسقوا فيها} [الإسراء: 16] ، والمعنى أمّرناهم وملّكناهم وأردنا منهم الصلاح فأفسدوا، والمراد بالأمر في الأولى أنه لا يأمر به شرعا ولكن قضاء؛ لاستحالة أن يجري في ملكه مالا يريد، وفرقٌ بين الأمر الكوني والديني. الثالث: الاختلاف في جهتي الفعل: كقوله تعالى: {فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم} [الأنفال: 17] ؛ أضيف القتل إليهم على جهة الكسب والمباشرة، ونفاه عنهم باعتبار التأثير؛ ولهذا قال الجمهور: إن الأفعال مخلوقة لله تعالى، مكتسبة للآدميين، فنفي الفعل بإحدى الجهتين لا يعارضه إثباته بالجهة الأخرى. وكذا قوله: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} [الأنفال:17] أي ما رميت خلقا إذ

رميت كسبا. وقيل: إن الرمي يشتمل على القبض والإرسال وهما بكسب الرامي، وعلى التبليغ والإصابة وهما بفعل الله عز وجل؛ قال ابن جرير الطبري: وهي الدليل على أن الله خالق لأفعال العباد؛ فإن الله تعالى أضافه إلى نبيه ثم نفاه عنه، وذلك فعل واحد؛ لأنه من الله تعالى التوصيل إليهم ومن نبيه بالحذف والإرسال، وإذا ثبت هذا لزم مثله في سائر أفعال العباد المكتسبة، فمن الله تعالى الإنشاء والإيجاد، ومن الخلق الاكتساب بالقوى. ومثله قوله تعالى: {الرجال قوامون على النساء} [النساء: 34] وقال تعالى: {وقوموا لله قانتين} [البقرة: 238] فقيام الانتصاب لا ينافي القيام بالأمر لاختلاف جهتي الفعل. الرابع: الاختلاف في الحقيقة والمجاز: كقوله: {وترى الناس سكارى وما هم بسكارى} [الحج: 2] {ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت} [إبراهيم: 17] وهو يرجع لقول المناطقة: الاختلاف بالإضافة. أي وترى الناس سكارى بالإضافة إلى أهوال القيامة مجازا، وما هم بسكارى بالإضافة إلى الخمر حقيقة. ومثله في الاعتبارين قوله تعالى: {آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} [البقرة:8] وقوله: {ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون} [الأنفال: 21] ، وقوله تعالى: {وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون} [الأعراف: 198] ، فإنه لا يلزم من نفي النظر نفي الإبصار، لجواز قولهم: نظرت إليه فلم أبصره.

الخامس: بوجهين واعتبارين: وهو الجامع للمفترقات، كقوله: {فبصرك اليوم حديد} [ق: 22] وقال: {خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي} [الشورى: 45] ، قال قطرب: (فبصرك (: أي علمك ومعرفتك بها قوية، من قولهم: بصر بكذا وكذا. أي علم، وليس المراد رؤية العين، قال الفارسي: ويدل على ذلك قوله: (فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم الحديد (وصف البصر بالحدة. وكقوله تعالى: {وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك} [الأعراف: 127] مع قوله: {أنا ربكم الأعلى} [النازعات: 24] ؛ فقيل: يجوز أن يكون معناه: ويذرك وآلهتك إن ساغ لهم، ويكون إضافة الآلهة إليه ملكا كان يعبد في دين قومه، ثم يدعوهم إلى أن يكون هو الأعلى، كما تقول العرب موالي من فوق وموالي من أسفل، فيكون اعتقادهم في الآلهة مع فرعون أنها مملوكة له، فيحسن قولهم: (وآلهتك ((¬1) ، وقوله تعالى: {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله} [الرعد: 28] مع قوله: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} [الأنفال: 2] فقد يظن أن الوجل خلاف الطمأنينة؛ وجوابه أن الطمأنينة إنما تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد، والوجل يكون عند خوف الزيغ والذهاب عن الهدى، فتوجل القلوب لذلك، وقد جمع بينهما في قوله: {تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} [الزمر: 23] فإن هؤلاء قد سكنت نفوسهم إلى معتقدهم، ووثقوا به، فانتفى عنهم الشك. ¬

(¬1) وقيل إن معنى (آلهتك) إلاهتك أي عبادتك، انظر: تفسير ابن كثير (2/239) .

وكقوله: {خمسين ألف سنة} [المعارج: 4] وفي موضع {ألف سنة} [السجدة: 5] ، وأجيب بأنه باعتبار حال المؤمن والكافر بدليل {وكان يوما على الكافرين عسيرا} [الفرقان: 26] . وكقوله: {بألف من الملائكة مردفين} [الأنفال: 9] وفي آية أخرى {بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين} [آل عمران: 124] ، قيل: إن الألف أردفهم بثلاثة آلاف، وكان الأكثر مددا للأقل، وكان الألف (مردفين) بفتحها ... ) (¬1) . إذن فأسباب إيهام التناقض عند الزركشي خمسة: - السبب الأول: وقوع المخبر به على أحوال مختلفة وتطويرات شتى. السبب الثاني: اختلاف الموضوع. السبب الثالث: اختلافهما في جهتي الفعل. السبب الرابع: اختلافهما في الحقيقة والمجاز. السبب الخامس: الاختلاف لوجهين واعتبارين. وذكر صاحب كشف الأسرار أن من أسباب الاختلاف في القرآن: (1- (الغُمُوض فِي المعنى) أَيْ الْإشكال إنَّمَا يَقَعُ لِغُمُوضٍ فِي الْمَعْنَى , وَمِنْ نَظَائِرِهِ قولُه تعالى: (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ (, اشْتَبَهَ مَعْنَاهُ عَلَى السَّامِعِ أَنَّهُ بِمَعْنَى كَيْفَ أَوْ بِمَعْنَى أَيْنَ، فَعُرِفَ بَعْدَ الطَّلَبِ وَالتَّأَمُّلِ أَنَّهُ بِمَعْنَى كَيْفَ، بِقَرِينَةِ الْحَرْثِ وَبِدَلَالَةِ حُرْمَةِ الْقُرْبَانِ فِي الْأَذَى الْعَارِضِ , وَهُوَ الْحَيْضُ فَفِي الْأَذَى اللَّازِمِ أَوْلَى. 2- (والاستعارة البديعة) وَأَمَّا نَظِيرُ الِاسْتِعَارَةِ الْبَدِيعَةِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ (, فَالْقَوَارِيرُ لَا يَكُونُ مِنْ الْفِضَّةِ، ¬

(¬1) البرهان للزركشي (64-74) بتصرف واختصار.

وَمَا كَانَ مِنْ الْفِضَّةِ لَا يَكُونُ قَوَارِيرَ، وَلَكِنْ لِلْفِضَّةِ صِفَةُ كَمَالٍ, وَهِيَ نَفَاسَةُ جَوْهَرِهِ وَبَيَاضُ لَوْنِهِ، وَصِفَةُ نُقْصَانٍ وَهِيَ أَنَّهَا لَا تَصْفُو وَلَا تَشِفُّ وَلِلْقَارُورَةِ صِفَةُ كَمَالٍ أَيْضًا، وَهِيَ الصَّفَاءُ وَالشَّفِيفُ، وَصِفَةُ نُقْصَانٍ , وَهِيَ خَسَاسَةُ الْجَوْهَرِ، فَعُرِفَ بَعْدَ التَّأَمُّلِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كُلٍّ وَاحِدٍ صِفَةُ كَمَالِهِ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ مِنْ فِضَّةٍ , وَهِيَ مَعَ بَيَاضِ الْفِضَّةِ فِي صَفَاءِ الْقَوَارِيرِ وَشَفِيفِهَا. وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ (, فَاللِّبَاسُ لَا يُذَاقُ وَلَكِنَّهُ يَشْمَلُ الظَّاهِرَ، وَلَا أَثَرَ لَهُ فِي الْبَاطِنِ، وَالْإِذَاقَةُ أَثَرُهَا فِي الْبَاطِنِ وَلَا شُمُولَ لَهَا، فَاسْتُعِيرَتْ الْإِذَاقَةُ لِمَا يَصِلُ مِنْ أَثَرِ الضَّرَرِ إلَى الْبَاطِنِ وَاللِّبَاسُ بِالشُّمُولِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَأَذَاقَهُمْ مَا غَشِيَهُمْ مِنْ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ. أَيْ أَثَرُهُمَا وَاصِلٌ إلَى بَوَاطِنِهِمْ مَعَ كَوْنِهِ شَامِلًا لَهُمْ.) (¬1) ولعل أضبط التقاسيم بالنسبة لأسباب الطعون هو ما ذكره الراغب الأصبهاني (¬2) ؛ حيث قال: (والمتشابه من القرآن: ما أشكل تفسيره لمشابهته بغيره؛ إما من حيث اللفظ، أو من حيث المعنى؛ فقال الفقهاء: المتشابه ما لا ينبئ ظاهره عن مراده، وحقيقة ذلك أن الآيات عند اعتبار بعضها ببعض ثلاثة أضرب: محكم على الإطلاق، ومتشابه على الإطلاق، ومحكم من وجه متشابه من وجه. ¬

(¬1) كشف الأسرار لعبد العزيز البخاري الحنفي (1/54) ، دار الكتاب الإسلامي، بيروت. (¬2) في كتابه المفردات (ص: 443- 444) تحقيق الداوودي، دار القلم، دمشق.

فالمتشابه في الجملة (¬1) ثلاثة أضرب: متشابه من جهة اللفظ فقط، ومتشابه من جهة المعنى فقط، ومتشابه من جهتهما. - والمتشابه من جهة اللفظ ضربان: 1- أحدهما يرجع إلى الألفاظ المفردة، وذلك: أ-إما من جهة غرابته نحو: الأبّ (¬2) ، ويزفون (¬3) . ب-وإما من جهة مشاركة اللفظ كاليد، والعين (¬4) . 2- والثاني يرجع إلى جملة الكلام المركب، وذلك ثلاثة أضرب: أ- ضرب لاختصار الكلام نحو: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ ... } [النساء: 3] ، أي فلا تتزوجوهن وانكحوا ... ، ب- وضرب لبسط الكلام نحو: {ليس كمثله شيء} [الشورى-11] ، لأنه لو قيل: ليس مثله شيء. كان أظهر للسامع. ج - وضرب لنظم الكلام نحو {أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً قيما} [الكهف/1-2] ، تقديره: أنزل الكتاب قيّما ولم يجعل له عوجاً. وقوله: (لولا رجالٌ مؤمنون (إلى قوله: {لو تزيّلوا} [سورة الفتح /25] . ¬

(¬1) يعني بقسميه المتشابه المطلق، والمتشابه من وجه. (¬2) كما في قوله تعالى {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31] . (¬3) كما في قوله تعال {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} [الصافات: 94] . (¬4) فاليد تطلق على الجارحة والقوة والنعمة، وكذلك العين لها عدة معان مشتركة فتطلق على الشمس والبئر والجارحة وغير ذلك.

- والمتشابه من جهة المعنى: أوصاف الله تعالى، وأوصاف يوم القيامة، فإن تلك الصفات لا تتصور لنا؛ إذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه، أو لم يكن من جنس ما نحسه. -والمتشابه من جهة المعنى واللفظ جميعاً خمسة أضرب: الأول: من جهة الكمية كالعموم والخصوص (¬1) نحو: {اقتلوا المشركين} [التوبة5] . والثاني: من جهة الكيفية كالوجوب والندب (¬2) ، نحو: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} [النساء/3] . والثالث: من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ (¬3) نحو: {اتقوا الله حق تقاته} [آل عمران: 102] . ¬

(¬1) العموم: هو شمول الحكم لكل فرد من أفراد الحقيقة، والخصوص: هو إخراج بعض ما يتناوله العموم قبل تقرر حكمه، انظر: تقريب الأصول إلى علم الأصول لابن جزئ الكلبي، ص: 137-141، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1414. (¬2) الوجوب: ما طلب الشرع فعله طلبا جزما (تقريب الأصول ص: 211) ، والندب: ما طلب الشرع فعله طلبا غير جازم (السابق ص: 212) . (¬3) الناسخ: هو الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا، التقريب، ص: 430، المنسوخ: هو الحكم الشرعي المرفوع بالخطاب الشرعي المتراخي عنه، السابق، نفس الموضع.

والرابع: من جهة المكان والأمور التي نزلت فيها نحو: {وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها} [البقرة: 189] وقوله: {إنما النسيء زيادة في الكفر} [التوبة: 37] ، فإن من لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذر عليه معرفة تفسير هذه الآية. والخامس: من جهة الشروط التي بها يصح الفعل، أو يفسد، كشروط الصلاة والنكاح. وهذه الجملة إذا تصورت، علم أن كل ما ذكره المفسرون من تفسير المتشابه، لا يخرج عن هذه التقاسيم. ثم جميع المتشابه على ثلاثة أضرب: ضرب لا سبيل للوقوف عليه، كوقت الساعة، وخروج دابة الأرض، وكيفية الدابة ونحو ذلك. وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته، كالألفاظ الغريبة والأحكام المغلقة. وضرب متردد بين الأمرين، يجوز أن يختص بمعرفة حقيقته بعض الراسخين في العلم، ويخفى على من دونهم، وهو الضرب المشار إليه بقوله عليه الصلاة والسلام لابن عباس "اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل ". وإذا عُرفت هذه الجملة عُلم أن الوقف على قوله: (وما يعلم تأويله إلا الله (ووصله بقوله (والراسخون في العلم (جائز، وأن لكل واحد منهما وجها حسبما دل عليه التفصيل المتقدم. اهـ.

الفصل الثالث: مواجهة دعاوى الطعن في القرآن

الفصل الثالث: مواجهة دعاوى الطعن في القرآن وفيه ثلاثة مباحث هي: المبحث الأول: تنزيه كلام الله عن المطاعن. المبحث الثاني: موقف سلف الأمة ممن يثيرون الشبه والمطاعن حول القرآن. المبحث الثالث: قواعد التعامل مع المطاعن.

المبحث الأول: تنزيه كلام الله عن المطاعن

المبحث الأول: تنزيه كلام الله عن المطاعن في هذا المبحث نبين عقيدة من عقائد المسلمين الثابتة، ولكن قل من يعرف أدلتها من الكتاب، فأحببت في هذا المبحث أن أجمع جميع الآيات التي تدل على تنزيه كلام الله - تعالى - من المطاعن وشرح معناها. قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] ، فالتدبر للقرآن، ومعرفة أنه ليس فيه أدنى اختلاف، يورث الإنسان العلم أنه من عند الله، إذ لو كان من عند البشر لكان فيه اختلاف كثير، قال البغوي: (أي أفلا يفكرون فيه فيعرفوا-بعدم التناقض فيه وصدق ما يخبر-أنه كلام الله تعالى؛ لأن ما لا يكون من عند الله لا يخلو عن التناقض والاختلاف) (¬1) . وقال تعالى: {ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 1-2] أي لا شك فيه، وكلمة (ريب (نكرة في سياق النفي فتعم، فنفى الله جميع أنواع الريب والشك كبيرها وصغيرها ظاهرها وباطنها، قال القرطبي: (لا ريب نفي عام، والريب هو الشك والتهمة، فكتاب الله لاشك فيه ولا ارتياب.) (¬2) . ¬

(¬1) معالم التنزيل للبغوي (2/254) ، تحقيق محمد النمر، دار طيبة، الرياض، الطبعة الأولى، 1989. (¬2) جامع أحكام القرآن للقرطبي (1/112) باختصار.

وهذا أمر عجيب، فالعادة في كتب بني البشر أن يستفتح أحدهم كتابه بالاعتذار وإظهار العجز، وأن كتابه فيه أخطاء، والمرجو تقبل الحق الذي فيه، والتماس العذر لأخطائه، وبعضهم يطالب القارئ بإصلاح ما يجد، وبعضهم يقول: إن تجد عيبا فسد الخللا جل من لا عيب فيه وعلا ولكن الله - تعالى - استفتح كتابه بهذه الكلمة، معلنا فيها التحدى لكل من يقرأ أن يجد فيه خطأ أو ريبا أو شكا. وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف: 1] ، فليس فيه أدنى اعوجاج، وما كان كذلك فلا يمكن أن يتطرق الطعن فيه، قال القاسمي -رحمه الله-: ((عوجا (أي شيئا من العوج، باختلال في نظمه وتناف في معانيه، أو زيغ وانحراف عن الدعوة إلى الحق، بل جعله مزيلا للعوج إذ جعله (قيما (( (¬1) . وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23] . فهذا القرآن هو أحسن الحديث وأجمله، فلا كتاب أحسن منه، وإذا كان القرآن أحسن الحديث، فإنه لا يمكن لما هو أحسن الحديث، أن يكون فيه تناقض أو إشكال أو مجال للطعن. وقال تعالى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42] ، قال ابن كثير رحمه الله: (أي ليس للبطلان ¬

(¬1) محاسن التأويل للقاسمي (5/7) ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1994.

إليه سبيل؛ لأنه منزل من رب العالمين) (¬1) ، وهذا نص صريح على استحالة وجود الباطل في كتاب الله، بل على استحالة افترائه عليه، فإن الله يوكل من عباده من ينفي عنه انتحال المبطلين، وتحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وذلك مصداقا لقوله تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] ، فـ {مَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [التكوير: 25] ، بل هو كتاب عظيم فصل (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ () وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ( [الطارق: 13-14] . فهذا الكتاب (مَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ( [الشعراء: 210-211] ، والدليل أنهم لا يستطيعون التحدي لهم بمثل قوله تعالى: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [سراء: 88] . ومن الأدلة على أن هذا الكتاب من عند الله قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48] . فما كان لرجل أمي لا يقرأ ولا يكتب أن يأتي بمثل هذا الكلام، ويتحدى به الثقلين، ولم يقدر أحد على معارضته وإجابة هذا التحدي. وقد شهد على صحة هذا القرآن أهل الكتاب كما قال تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ} [الأنعام: 114] . وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 192-197] . ( ... وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ¬

(¬1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/102) .

() وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ( [المائدة: 82-83] . ثم إنه ما كان لبشر أن يفتري كلاما وينسبه إلى الله، ويضل به الملايين من الناس، ثم بعد ذلك لا يعاجله الله تعالى بالعقوبة: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 37] وقال تعالى: (تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ () وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ () لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ () ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ () فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ( [الحاقة: 44-47] . ونحن نقول -على سبيل التنزل- لمن أنكر أن القرآن كلام الله: افرض أن هذا الكتاب من عند الله حقا، وأنك مخطئ، فما أنت صانع {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 52] . وقد توعد الله تعالى المكذبين بهذا الكتاب بالنكال والعذاب، فقال: {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} [الأنعام: 157] . وقال تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الزمر: 55] . وأخيرا نقول لمن كفر بالقرآن: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} [الإسراء: 107-108] (¬1) . ¬

(¬1) وسوف يأتي - إن شاء الله - مزيد أدلة على صحة القرآن، وأنه من الله تعالى في الفصل الأول، من الباب الأول، في مبحث الأدلة على صدق القرآن.

المبحث الثاني: موقف سلف الأمة ممن يثيرون الشبه والمطاعن حول القرآن

المبحث الثاني: موقف سلف الأمة ممن يثيرون الشبه والمطاعن حول القرآن هذا المبحث في غاية من الأهمية؛ لأننا قوم نتبع على بصيرة ولا نبتدع، وقد أُمرنا بالاقتداء بالسلف الصالح، الذين هم خير القرون عند الله، وقضية الحرب على القرآن ليست وليدة اليوم، بل هي حرب قديمة مستمرة وستستمر، فهذه تجارب يجب أن نستفيد منها، حتى نبدأ من حيث انتهوا، فنستفيد علما ووقتا. فنقول: ينقسم موقف السلف مع من يثيرون الشبه حول القرآن إلى قسمين بحسب حال الشخص: أولاً: إن كان طالبَ حق وسؤالُه سؤال استرشاد، ولكنه قد أشكل عليه، فإنهم معه على النحو التالي: 1- تعليمه التسليم والانقياد للنص: كما ورد عَنْ مُعَاذَةَ قَالَتْ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ: مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ؟ ‍ فَقَالَتْ: أَحَرُورِيَّةٌ (¬1) أَنْتِ؟ قُلْتُ: لَسْتُ ¬

(¬1) الحرورية: الْحَرُورِيّ مَنْسُوب إِلَى حَرُورَاء بِفَتْحِ الْحَاء وَضَمّ الرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ وَبَعْد الْوَاو السَّاكِنَة رَاءٌ أَيْضًا، بَلْدَة عَلَى مِيلَيْنِ مِنْ الْكُوفَة، وَالْأَشْهَر أَنَّهَا بِالْمَدِّ، قَالَ الْمُبَرِّد: النِّسْبَة إِلَيْهَا حَرُورَاوِيّ، وَكَذَا كُلّ مَا كَانَ فِي آخِره أَلِف تَأْنِيث مَمْدُودَة، وَلَكِنْ قِيلَ الْحَرُورِيّ بِحَذْفِ الزَّوَائِد، وَيُقَال لِمَنْ يَعْتَقِد مَذْهَب الْخَوَارِج حَرُورِيّ؛ لِأَنَّ أَوَّل فِرْقَة مِنْهُمْ خَرَجُوا عَلَى عَلِيٍّ بِالْبَلْدَةِ الْمَذْكُورَة فَاشْتُهِرُوا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا، وَهُمْ فِرَقٌ كَثِيرَة، لَكِنْ مِنْ أُصُولهمْ الْمُتَّفَق عَلَيْهَا بَيْنهمْ الْأَخْذُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآن وَرَدُّ مَا زَادَ عَلَيْهِ مِنْ الْحَدِيث مُطْلَقًا، وَلِهَذَا اِسْتَفْهَمَتْ عَائِشَة مُعَاذَة اِسْتِفْهَام إِنْكَار , وَزَادَ مُسْلِم فِي رِوَايَة عَاصِم عَنْ مُعَاذَة فَقُلْت: لَا وَلَكِنِّي أَسْأَل، أَيْ سُؤَالًا مُجَرَّدًا لِطَلَبِ الْعِلْم لَا لِلتَّعَنُّتِ، وَفَهِمَتْ عَائِشَة عَنْهَا طَلَبَ الدَّلِيل فَاقْتَصَرَتْ فِي الْجَوَاب عَلَيْهِ دُون التَّعْلِيل) [انظر: فتح الباري (1/502) ] .

بِحَرُورِيَّةٍ وَلَكِنِّي أَسْأَلُ. قَالَتْ: كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ، وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ) (¬1) . وفي الصحيحين أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ حَدَّثَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي رَهْطٍ مِنَّا، وَفِينَا بُشَيْرُ ابْنُ كَعْبٍ فَحَدَّثَنَا عِمْرَانُ يَوْمَئِذٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) «الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ» قَالَ: أَوْ قَالَ: «الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ» فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ: إِنَّا لَنَجِدُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَوْ الْحِكْمَةِ، أَنَّ مِنْهُ سَكِينَةً وَوَقَارًا لِلَّهِ، وَمِنْهُ ضَعْفٌ. قَالَ: فَغَضِبَ عِمْرَانُ حَتَّى احْمَرَّتَا عَيْنَاهُ، وَقَالَ: أَلَا أَرَانِي أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَتُعَارِضُ فِيهِ. قَالَ: فَأَعَادَ عِمْرَانُ الْحَدِيثَ، قَالَ: فَأَعَادَ بُشَيْرٌ، فَغَضِبَ عِمْرَانُ قَالَ: فَمَا زِلْنَا نَقُولُ فِيهِ: إِنَّهُ مِنَّا يَا أَبَا نُجَيْدٍ، إِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ) (¬2) . ¬

(¬1) متفق عليه؛ (البخاري: كتاب الحيض، باب: لا تقضي الحائض الصلاة، رقم: 315، ومسلم: كتاب الحيض، باب: وجوب الصوم على الحائض دون الصلاة، رقم: 335. (¬2) متفق عليه؛ البخاري: كتاب الأدب، باب: الحياء، رقم: 5766، ومسلم: كتاب الإيمان، باب: عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها، رقم: 37.

2- تعليمه بالتي هي أحسن، أخذا من قوله تعالى {وأما السائل فلا تنهر} [الضحى: 10] ، وقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125] وقوله: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنهُمْ وَقُولُواءَامَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46] ، والمسلم أولى بالإحسان من الكتابي. وذكر الداوودي في ترجمة الشنبوذي (عن الداني أنه قال: دخل الشنبوذي على عضد الدولة زائرا، فقال له: يا أبا الفرج إن الله تعالى يقول: {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] ونرى العسل يأكله المحرور فيتأذى به؛ والله الصادق في قوله، فقال: أصلح الله الملك، إن الله لم يقل: فيه الشفاء للناس. بالألف واللام، الَّذيْنِ يدخلان لاستيفاء الجنس، وإنما ذكره مُنَّكرا، فمعناه فيه شفاء لبعض الناس دون بعض. قال الداني: والصواب أن الألف واللام في قوله: (للناس (لا يستغرقان الجنس كله، كما لا يستغرقان في قوله: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم} [آل عمران: 173] وقوله: {فنادته الملائكة} [آل عمران: 39] وقوله: {وقالت اليهود عزير ابن الله} [التوبة: 30] وشبهه) (¬1) . ¬

(¬1) طبقات المفسرين للداوودي (2/60) .

3- الشدة أحيانا على من لا يخاف عليه النفرة بالشدة، وعنده من العلم ما لا ينبغي معه أن يسأل هذا السؤال؛ كحديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ نَفَرًا كَانُوا جُلُوسًا بِبَابِ النَّبِيِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ كَذَا وَكَذَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ كَذَا وَكَذَا -وفي رواية أنهم تكلموا في القدر- فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَخَرَجَ كَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ فَقَالَ: «بِهَذَا أُمِرْتُمْ - أَوْ بِهَذَا بُعِثْتُمْ - أَنْ تَضْرِبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، إِنَّمَا ضَلَّتْ الْأُمَمُ قَبْلَكُمْ فِي مِثْلِ هَذَا، إِنَّكُمْ لَسْتُمْ مِمَّا هَاهُنَا فِي شَيْءٍ، انْظُرُوا الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ، فَاعْمَلُوا بِهِ وَالَّذِي نُهِيتُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» (¬1) . ثانيا: وأما إن كان السائل يسأل تعنتا، فإن لهم معه طرقا كثيرة: 1- تعليمه السؤال الصحيح: عن عامر بن وائلة، أن ابن الكواء سأل عليا - رضي الله عنه - فقال: يا أمير المؤمنين ما الذاريات ذروا؟ قال: ويلك سل تفقها، ولا تسأل تعنتا (¬2) . 2- تأديبه إن كان له عليه قدرة وسلطة: كما فعل عمر - رضي الله عنه - مع صبيغ؛ فعن السائب بن يزيد، أن رجلا قال لعمر - رضي الله عنه -: إني مررت برجل يسأل عن تفسير مشكل القرآن، فقال عمر: اللهم أمكني منه. فدخل الرجل على عمر يوما وهو لابس ثيابا وعمامة، وعمر يقرأ القرآن، فلما فرغ قام إليه الرجل، فقال: يا أمير المؤمنين ما الذاريات ذروا؟ فقام عمر فحسر عن ذراعيه وجعل يجلده، ثم قال: ألبسوه ثيابه واحملوه على؛ قتب، وأبلغوا به حيَّه، ثم ليقم ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد (6806) ، وابن ماجه (في المقدمة في باب: في القدر، رقم: 85) ، وإسناده حسن. (¬2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (17/21) .

خطيبا فليقل: إن صبيغا طلب العلم فأخطأه، فلم يزل وضيعا في قومه بعد أن كان سيدا فيهم (¬1) . 3- هَجْره، والتحذير منه، وعدم مناظرته: وهذا لثلاثة أسباب (¬2) : أ- لتأديبه: كما فعل عمر - رضي الله عنه - مع صبيغ. ب-لأن صاحب الشبهة إن كان مغموسا في باطله، ويطلب نصرته، أو يريد التشكيك في الحق، فإنه لا ينفع معه الجدال: قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيءَايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68] . عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ هَذِهِ الْآيَةَ: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (: «فَإِذَا رَأَيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ» (¬3) . ج-إذا كان الراد على الشبه لا يأمن على نفسه من التأثر: ¬

(¬1) المصدر السابق (17/21) . (¬2) انظر: الروض الريان في أسئلة القرآن (1/75) بتصرف وزيادة. (¬3) متفق عليه؛ (البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب: منه آيات محكمات، رقم: 4273، ومسلم: كتاب العلم، باب: النهي عن اتباع متشابه القرآن، رقم: 2665.

قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ الْأَهْوَاءِ وَلَا تُجَادِلُوهُمْ، فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَغْمِسُوكُمْ فِي ضَلَالَتِهِمْ، أَوْ يَلْبِسُوا عَلَيْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ. وعَنْ أَيُّوبَ قَالَ: رَآنِي سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ جَلَسْتُ إِلَى طَلْقِ بنِ حَبِيبٍ فَقَالَ لِي: أَلَمْ أَرَكَ جَلَسْتَ إِلَى طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ لَا تُجَالِسَنَّهُ. وعَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ فُلَانًا يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَحْدَثَ، فَلَا تَقْرَأْ عَلَيْهِ السَّلَامَ. وعَنْ سَلَّامِ بْنِ أَبِي مُطِيعٍ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ قَالَ لِأَيُّوبَ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَسْأَلُكَ عَنْ كَلِمَةٍ، قَالَ: فَوَلَّى وَهُوَ يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ وَلَا نِصْفَ كَلِمَةٍ، وَأَشَارَ لَنَا سَعِيدٌ بِخِنْصِرِهِ الْيُمْنَى) (¬1) . 4- مناظرته والتصدي له إن انتشرت بدعته وراجت، أو كان ذا سلطان: كما حصل مع الإمام أحمد وابن أبي دؤاد في فتنة خلق القرآن، وكما حصل مع عبد العزيز الكناني مع بشر المريسي، وحكيت وقائع هذه المناظرة في كتاب الحيدة، وهذه سنة إبراهيمية شرعية {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْءَاتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258] . 5- تأليف الكتب التي تنقض بدعته وشبهته، وتبين زيف كلامه. 6- إقامة حد الله عليه، إن كان تحت ولاية المسلمين. 7- إن كان الطاعن ذا شوكة فالحرب؛ قال ابن القيم: (ومن بعض حقوق الله على عباده، رد الطاعنين ¬

(¬1) كل هذه الآثار أخرجها الدارمي في المقدمة، في باب: اجتناب أهل الأهواء والبدع والخصومة.

على كتابه ورسوله ودينه، ومجاهدتهم بالحجة والبيان والسيف والسنان والقلب والجنان، وليس وراء ذلك حبة خردل من الايمان، وكان انتهي إلينا مسائل أوردها بعض الكفار الملحدين على بعض المسلمين، فلم يصادف عنده ما يشفيه، ولا وقع دواؤه على الداء الذي فيه، وظن المسلم أنه بضربه يداويه، فسطا به ضربا وقال: هذا هو الجواب. فقال الكافر: صدق أصحابنا في قولهم، إن دين الإسلام إنما قام بالسيف لا بالكتاب، فتفرقا وهذا ضارب وهذا مضروب وضاعت الحجة بين الطالب والمطلوب، فشمر المجيب ساعد العزم، ونهض على ساق الجد، وقام لله قيام مستعين به، مفوض إليه، متكل عليه في موافقة مرضاته، ولم يقل مقالة العجزة الجهال: إن الكفار إنما يعاملون بالجلاد دون الجدال، وهذا فرار من الزحف، وإخلاد إلى العجز والضعف، وقد أمر الله بمجادلة الكفار بعد دعوتهم إقامة للحجة، وإزاحة للعذر، ليهلك من هلك عن بينة، ويحي من حي عن بينة، والسيف إنما جاء منفذا للحجة، مقوما للمعاند، وحدا للجاحد قال تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز} [الحديد: 25] فدين الإسلام قام بالكتاب الهادي، ونفذه السيف الماضي: فََمَا هُوَ إلاَّ الوَّحْيُ أو حَدُّ مُرْهَفٍ (¬1) يُقيمُ ظَبَاهُ (¬2) أخْدَعَيْ (¬3) كل مائلِ فهذا شفاءُ الدَّاءِ مِنْ كُلِّ عالمٍ وهذا دواءُ الدَّاءِ مَنْ كُلِّ جاهِلِ) (¬4) ¬

(¬1) حد مرهف: المرهف السيف الحاد. (مختار الصحاح (1/109) . (¬2) ظباه: ظب السيف جمع ظُبَة، وهو حد السيف. (لسان العرب (15/22) . (¬3) الأخدعان: عرقان خفيان في موضع الحجامة من العنق. (لسان العرب (8/66) (¬4) هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى، لابن القيم (ص: 31) والبيتان لأبي تمام: انظر: "المثل السائر"2/295.

المبحث الثالث: قواعد التعامل مع المطاعن

المبحث الثالث: قواعد التعامل مع المطاعن لنا في التعامل مع المطاعن التي تثار حول كتاب الله قواعد عدة، وهي كالتالي: أولا: اليقين التام بأن جميع هذه المطاعن مفتراة مكذوبة، لا أصل لها من الصحة، ولا أساس لها من الواقع، وإنما هي محض أوهام بل أضغاث أحلام، جاءت من قلب امرئ حاقد أو جاهل؛ لأن الله تعالى يقول: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42] ، فما كان لنا إن نكذب ربنا ونصدق ملحدا حاقدا أو مجادلا جاهلا، وهذه القضية في غاية من الأهمية؛ إذ أن كل من تأثر بالمستشرقين من المعاصرين لم تكن عنده هذه القضية من المسلمات، بل ضعف يقينهم في هذا الباب أدى بهم إلى هذه المزالق. ثانيا: إن عدم قدرة إنسان معين على الرد، ليس معناه الهزيمة والعجز وإثبات الطعن، بل إنه لا يخلو زمان من قائم لله بالحجة؛ لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] .

ثالثا: قانون العمل عند وجود الطعن لسبب ما: 1- الجمع بين مدلولات النصوص والتوفيق بينها ما أمكن: فالخاص يقدم على العام، والمطلق يقيد بالمقيد. . إلخ. 2- فإن تعذر الجمع، فالنسخ إن أمكن ذلك، وعلم المتقدم والمتأخر. 3- فإن تعذر ذلك لجأنا إلى الترجيح، فيقدم الراجح للعمل. مسلك الترجيح بين الآيات يقوم على الأتي: 1- تقديم المدني على المكي. 2- أن يكون الحكم على غالب أحوال أهل مكة، والآخر على غالب حال أهل المدينة، فيقدم الحكم بالخبر الذي فيه أحوال أهل المدينة. 3- أن يكون أحد الظاهرين مستقلا بحكمه والآخر مقتضيا لفظا يزاد عليه، فيقدم المستقل بنفسه عند المعارضة والترتيب. 4- أن يكون كل واحد من العمومين محمولا على ما قصد به في الظاهر عند الاجتهاد، فيقدم ذلك على تخصيص كل واحد منهما من المقصود بالآخر. 5- أن يكون تخصيص أحد الاستعمالين على لفظ تعلق بمعناه والآخر باسمه. 6- ترجيح ما يعلم بالخطاب ضرورة على ما يعلم منه ظاهرا. قال الزركشي (¬1) : ¬

(¬1) البرهان في علوم القرآن للزركشي (2/48-51) .

(فصل في القول عند تعارض الآي: قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني: إذا تعارضت الآي، وتعذر فيها الترتيب والجمع، طلب التاريخ، وترك المتقدم منهما بالمتأخر، ويكون ذلك نسخا له. وإن لم يوجد التاريخ، وكان الإجماع على استعمال إحدى الآيتين، علم بإجماعهم أن الناسخ ما أجمعوا على العمل بها. قال: ولا يوجد في القرآن آيتان متعارضتان تعريان عن هذين الوصفين. وذكروا عند التعارض مرجحات: الأول: تقديم المدني على المكي، وإن كان يجوز أن تكون المكية نزلت عليه صلى الله عليه وسلم بعد عوده إلى مكة، والمدنية قبلها، فيقدم الحكم بالآية المدنية على المكية في التخصيص والتقديم؛ إذ كان غالب الآيات المكية نزولها قبل الهجرة. الثاني: أن يكون أحد الحكمين على غالب أحوال أهل مكة، والآخر على غالب أحوال أهل المدينة، فيقدم الحكم بالخبر الذي فيه أحول أهل المدينة، كقوله تعالى: (ومن دخله كان آمنا (مع قوله: {كتب عليكم القصاص في القتلى} [سورة البقرة 178] فإذا أمكن بناء كل واحدة من الآيتين على البدل، جعل التخصيص في قوله تعالى: (ومن دخله كان آمنا (كأنه قال إلا من وجب عليه القصاص ومثل قوله: {غير محلي الصيد وأنتم حرم} [سورة المائدة: 1] ونهيه (عن قتل صيد مكة مع قوله تعالى: {يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين} [سورة المائدة: 4] فجعل النهي فيمن اصطاده في الحرم، وخص من اصطاده في الحل وأدخله حيا فيه. الثالث: أن يكون أحد الظاهرين مستقلا بحكمه، والآخر مقتضيا لفظا يزاد عليه، فيقدم المستقل بنفسه عند المعارضة والترتيب، كقوله

تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} [سورة البقرة: 196] مع قوله: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196] وقد أجمعت الأمة على أن الهدي لا يجب بنفس الحصر، وليس فيه صريح الإحلال بما يكون سببا له، فيقدم المنع من الإحلال عند المرض بقوله: (وأتموا الحج والعمرة لله (على ما عارضه من الآية. الرابع: أن يكون كل واحد من العمومين محمولا على ما قصد به في الظاهر عند الاجتهاد، فيقدم ذلك على تخصيص كل واحد منهما من المقصود بالآخر، كقوله: (وأن تجمعوا بين الأختين (بقوله: (وما ملكت أيمانكم (فيخص الجمع بملكه اليمين بقوله تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف} [النساء: 23] فتحمل آية الجمع على العموم، والقصد فيها بيان ما يحل وما يحرم وتحمل آية الإباحة على زوال اللوم فيمن أتى بحال. الخامس: أن يكون تخصيص أحد الاستعمالين على لفظ تعلق بمعناه والآخر باسمه، كقوله: {شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم} [المائدة: 106] مع قوله تعالى: (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ( [الحجرات: 6] الآية فيمكن أن يقال في الآية بالتبين عند شهادة الفاسق إذا كان ذلك من كافر على مسلم، أو مسلم فاسق على كافر، وأن يقبل الكافر على الكافر وإن كان فاسقا، أو يحمل ظاهر قوله: (أو آخران من غيركم (على القبيلة دون الملة، ويحمل الأمر بالتثبت على عموم النسيان في الملة لأنه رجوع إلى تعيين اللفظ، وتخصيص الغير بالقبيلة؛ لأنه رجوع إلى الاسم على عموم الغير. السادس: ترجيح ما يعلم بالخطاب ضرورة على ما يعلم منه ظاهرا، كتقديم قوله تعالى: {وأحل الله البيع} [البقرة: 275] على قوله: {وذروا البيع} [الجمعة: 9] فإن قوله: (وأحل (يدل على حل البيع

ضرورة، ودلالة النهي على فساد البيع إما ألا تكون ظاهرة أصلا، أو تكون ظاهرة منحطة عن النص) اهـ. وقد ذكر الشوكاني في كتابه " إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول " في باب أنواع الترجيح (¬1) طرقا كثيرة للترجيح: فباعتبار المتن ذكر ثمانية وعشرين نوعا، وباعتبار المدلول تسعة أنواع، والترجيح باعتبار أمور خارجة ذكر عشرة أنواع؛ فالمجموع سبعة وأربعون نوعا للترجيح. يقول الشوكاني: (واعلم أن الترجيح قد يكون باعتبار الإسناد، وقد يكون باعتبار المتن، وقد يكون باعتبار المدلول، وقد يكون باعتبار أمر خارج، فهذه أربعة أنواع) (¬2) . (فأما باعتبار السند فهذه لا يلتفت إليها في القرآن؛ لأنه قطعي الثبوت، وإنما تكون في التعارض بين الأحاديث. وأما المرجحات باعتبار المتن فهي أنواع، فمن الأنواع التي لها أثر فيما ظاهره التعارض في القرآن: 1-تقديم الحقيقة على المجاز، لتبادرها إلى الذهن، هذا إذا لم يغلب المجاز كقوله تعالى (. . بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ. . (فيكون المراد بها اليد الحقيقية لا المجاز بمعنى القوة والكرم، لاسيما والتثنية تأباه. 2- أنه يقدم المجاز الذي هو أشبه بالحقيقة على المجاز الذي لم يكن كذلك. ¬

(¬1) إرشاد الفحول (2/382-394) . (¬2) إرشاد الفحول (2/382) .

3- أنه يقدم ما كان حقيقة شرعية أو عرفية على ما كان حقيقة لغوية. 4- أنه يقدم ما كان مستغنيا عن الإضمار في دلالته على ما هو مفتقر إليه. 5-أنه يقدم الدال على المراد من وجهين على ما كان دالا على المراد من وجه واحد. 6- أنه يقدم ما دل على المراد بغير واسطة على ما دل عليه بواسطة. 7- أنه يقدم مفهوم الموافقة على مفهوم المخالفة. وأما المرجحات باعتبار المدلول فهي أنواع: 1- أنه يقدم ماكان ناقلالحكم الأصل والبراءة علىماكان مبقيا على البراءة الأصلية. 2- أنه يقدم ما فيه تأسيس على ما فيه تأكيد. وأما المرجحات بحسب الأمور الخارجة فهي أنواع: 1- أنه يقدم ما عضده دليل آخر على ما لم يعضده دليل آخر. 2- أنه يقدم ما كان فيه التصريح بالحكم على ما لم يكن كذلك كضرب الأمثال ونحوها فإنها ترجح العبارة على الإشارة) (¬1) . يضاف لهذا ما ذكره الزركشي. ¬

(¬1) المرجع السابق، باختصار وتصرف.

الباب الثاني (تطبيقي) : موقف الطاعنين من آيات القرآن والرد عليهم

الباب الثاني (تطبيقي) : موقف الطاعنين من آيات القرآن والرد عليهم وفيه فصلان: الفصل الأول: الردود الإجمالية على من طعن في القرآن. الفصل الثاني: الردود التفصيلية على من طعن في القرآن.

الفصل الأول: الردود الإجمالية على من طعن في القرآن -وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: الأدلة على صدق الرسول (صلى الله عليه وسلم) . (*) المبحث الثاني: الأدلة على صدق القرآن وما فيه. المبحث الثالث: ردود القرآن على الطاعنين. المبحث الرابع: ردود إجمالية أخرى.

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هذا المبحث ليس في المطبوع، ونص هذه الصفحة في المطبوع كالتالي: الفصل الأول: الردود الإجمالية على من طعن في القرآن -وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: الأدلة على صدق القرآن وما فيه. المبحث الثاني: ردود القرآن على الطاعنين. المبحث الثالث: ردود إجمالية أخرى.

المبحث الثاني: الأدلة على صدق القرآن وما فيه

المبحث الثاني: الأدلة على صدق القرآن وما فيه أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : «ما من الأنبياء نبي إلا أعطى ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا» (¬1) . (قال العلماء: معناه أن معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم، فلم يشاهدها إلا من حضرها، ومعجزة القرآن مستمرة إلى يوم القيامة، وخرقه العادة في أسلوبه وبلاغته وإخباره بالمغيبات، فلا يمر عصر من الأعاصير إلا ويظهر فيه شيء مما أخبر أنه سيكون، مما يدل على صحة دعواه، وقيل: المعنى أن المعجزات الماضية كانت حسية؛ تشاهد بالأبصار، كناقة صالح، وعصا موسى، ومعجزة القرآن تشاهد بالبصيرة؛ فيكون من يتبعه لأجلها أكثر؛ لأن الذي يشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مشاهده، والذي يشاهد بعين العقل باق يشاهده كل من جاء بعد الأول مستمرا. ¬

(¬1) متفق عليه (البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي وأول ما أنزل، رقم:4696، ومسلم: كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) ، رقم:152) .

المطلب الأول: إعجاز القرآن:

قال الحافظ ابن حجر: ويمكن نظم القولين في كلام واحد؛ فإن محصلهما لا ينافى بعضه بعضا) (¬1) . وفي هذا المبحث عدة مطالب كلها تدل على صدق القرآن وصحة ما فيه: المطلب الأول: إعجاز القرآن: إعجاز القرآن من الأدلة على صدقه، وأنه من عند الله تعالى حقا، وأوجه إعجاز القرآن كثيرة جدا منها: 1- إخبار القرآن بالغيب: سواء الغيب الماضي أو الحاضر أو المستقبل، وهذا دليل على صدق النبي (صلى الله عليه وسلم) وإعجاز القرآن؛ وهذا الدليل مأخوذ من قوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران:44] . {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49] . {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يوسف:102] . (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ () وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ () وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( [القصص:44-46] . ¬

(¬1) الخصائص الكبرى للإمام السيوطي (1/188) ، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولي،1985.

أي أنك يا محمد لم تكن موجودا في ذلك المكان حتى تستطيع أن تعرف هذه القصة -قصة موسى-ولكن الله تعالى هو الذي أوحى إليك بها، فلعل الناس إذا عرفوا ذلك تذكروا وآمنوا بك، قال ابن كثير -رحمه الله-: (يقول تعالى منبها على برهان نبوة محمد (صلى الله عليه وسلم) حيث أخبر بالغيوب الماضية خبرا كأن سامعه شاهد وراء لما تقدم وهو رجل أمي لا يقرأ شيئا من الكتب نشأ بين قوم لا يعرفون شيئا من ذلك كما أنه لما أخبره عن مريم وما كان من أمرها قال تعالى: "وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون" الآية أي وما كنت حاضرا لذلك ولكن الله أوحاه إليك وهكذا لما أخبره عن نوح وقومه وما كان من إنجاء الله له وإغراق قومه ثم قال تعالى: "تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين" الآية وقال في آخر السورة "ذلك من أنباء القرى نقصه عليك" وقال بعد ذكر قصة يوسف "ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون" الآية وقال في سورة طه "كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق" الآية وقال ههنا بعدما أخبر عن قصة موسى من أولها إلى آخرها وكيف كان ابتداء إيحاء الله إليه وتكليمه له "وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر" يعني ما كنت يا محمد بجانب الجبل الغربي الذي كلم الله موسى من الشجرة التي هي شرقية

على شاطئ الوادي "وما كنت من الشاهدين" لذلك ولكن الله سبحانه وتعالى أوحى إليك ذلك ليكون حجة وبرهانا على قرون قد تطاول عهدها ونسوا حجج الله عليهم وما أوحاه إلى الأنبياء المتقدمين وقوله تعالى: "وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا" أي وما كنت مقيما في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا حين أخبرت عن نبيها شعيب وما قال لقومه وما ردوا عليه "ولكنا كنا مرسلين" أي ولكن نحن أوحينا إليك ذلك وأرسلناك إلى الناس رسولا) (¬1) . وقال تعالى: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ () بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ ( [العنكبوت:48-49] . فإذا كان النبي (صلى الله عليه وسلم) ليس موجودا في تلك الأمكنة، ولا يستطيع أن يقرأ ولا يكتب، دل هذا قطعا أن هذه الأخبار إنما هي من عند الله تعالى، الذي لا تخفى عليه خافيه. ومن إخباره بالغيب المستقبل؛ قوله تعالى: (غُلِبَتِ الرُّومُ () فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ () فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ () بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ () وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ( [الروم:2-6] ، وقد تحققت غلبت الروم بعد سنوات قليلة. فعن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْن عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (ألم غُلِبَتْ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ (قَالَ: غُلِبَتْ وَغَلَبَتْ، كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ أَنْ يَظْهَرَ أَهْلُ فَارِسَ عَلَى الرُّومِ؛ لِأَنَّهُمْ ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (3/391) .

وَإِيَّاهُمْ أَهْلُ الْأَوْثَانِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أَنْ يَظْهَرَ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَذَكَرُوهُ لِأَبِي بَكْرٍ، فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: «أَمَا إِنَّهُمْ سَيَغْلِبُونَ» . فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لَهُمْ فَقَالُوا: اجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ أَجَلًا، فَإِنْ ظَهَرْنَا كَانَ لَنَا كَذَا وَكَذَا، وَإِنْ ظَهَرْتُمْ كَانَ لَكُمْ كَذَا وَكَذَا. فَجَعَلَ أَجَلًا خَمْسَ سِنِينَ، فَلَمْ يَظْهَرُوا فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ (فَقَالَ: «أَلَا جَعَلْتَهُ إِلَى دُونَ الْعَشْرَ» . قَالَ: ثُمَّ ظَهَرَتْ الرُّومُ بَعْدُ. قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (ألم غُلِبَتْ الرُّومُ ... إِلَى قَوْلِهِ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ (قَالَ سُفْيَانُ: سَمِعْتُ أَنَّهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ) (¬1) . وقوله تعالى: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر:43-46] ، هذه الآية نزلت تتحدث عن غزوة بدر، ووقت نزولها كان قبل الهجرة بسنوات، وعائشة كانت صغيرة: عن عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: لَقَدْ أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ (بِمَكَّةَ وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ (بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ((¬2) . عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ (وَهُوَ فِي قُبَّةٍ يوم بدر: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ بَعْدَ الْيَوْمِ» . فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ فَقَالَ: حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَدْ أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ. ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (كتاب تفسير القرآن، باب من سورة الروم، رقم:3193) ، وإسناده صحيح. انظر: صحيح سنن الترمذي للألباني رقم: 2551. (¬2) أخرجه البخاري: (كتاب تفسير القرآن، باب قوله: (سيهزم الجمع ويولون الدبر) ، رقم:4595.

وَهُوَ فِي الدِّرْعِ، فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ.» (¬1) . قال ابن كثير: ((يولون الدبر (أي سيتفرق شملهم ويغلبون، وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: لما نزلت (سيهزم الجمع ويولون الدبر (قال عمر: أي جمع يهزم؟ أي جمع يغلب؟ قال عمر: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله (يثب في الدرع وهو يقول: (سيهزم الجمع ويولون الدبر (فعرفت تأويلها يومئذ. أهـ) (¬2) . ومن هذا إخباره عن بعض المشركين أنه من أهل النار وهو حي، فيموت على الكفر؛ كأبي لهب وامرأته: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ () مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ () سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ () وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ () فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ( [المسد:1-5] . 2- الإعجاز العلمي: من مثل قوله تعالى: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ () بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ ( [الرحمن:19-20] . {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:53] . فقد لاحظ علماء البحار عند التقاء فرعي نهر النيل عند دمياط وعند الرشيد بالبحر الأبيض، حيث تندفع مياه النهر العذبة بقوة شديدة إلى البحر المالحة، ومع هذا كل منهما تحتفظ بمذاقها وأحيائها (¬3) . ¬

(¬1) أخرجه البخاري: (كتاب الجهاد والسير، باب ما قيل في درع النبي، رقم:2758) . (¬2) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/266) . (¬3) انظر: الإعجاز العلمي في القرآن لسيد الجميلي (ص:27) ، والقرآن الكريم، من منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إسيسكو) (ص:30) ،الطبعة الأولي،1997، فقد أشار القرآن إلى كروية الأرض ودورانها، والجنين ومراحل تطوره، وغير ذلك من أنواع الإعجاز العلمي.

وهذا الإعجاز في جميع المجالات؛ الطبية، والجغرافية، والاجتماعية، والفضائية، وفي عالم الحيوان، وعالم النبات، وغيرها (¬1) . 3- الإعجاز البياني (¬2) : فقد حوى القرآن على القدح المعلى من البلاغة والبيان والفصاحة، وشمل على جميع شروط الكلام البليغ في كل سُوَرِه وآياته وكلماته. وقد أخذ من أكل أنواع البلاغة بأوفر نصيب، فتجد فيه إيجاز القصر، والتشبيه الرفيع، والتتميم. ¬

(¬1) انظر: الإعجاز العلمي في القرآن الكريم لسيد الجميلي، دار الهلال، بيروت. - والإعجاز العلمي في القرآن الكريم لحمادة الدبلاني، دار الوفاء، والمنصورة، الطبعة الأولي،2000. - والإبداعات الطبية لرسول الإنسانية لمختار سالم، مؤسسة المعارف في بيروت، الطبعة الأولي،1995. = = - والجراد في القرآن الكريم والعلم الحديث، د. كارم السيد غنيم، ود. عبد العظيم محمد الجمال، دار الصحوة، القاهرة، الطبعة الأولي، 1988م. - وإعجاز النبات في القرآن الكريم، د. نظمي خليل أبو العطا، مكتبة النور، مصر الجديدة. - والاكتشاف العلمية الحديثة ودلالتها في القرآن الكريم، د. سليمان عمر قوش، دار الحرمين، الدوحة، الطبعة الأولي، 1987م. - والقرآن والسنة والعلوم الحديثة، محمد أحمد مدني، وليس فيه ذكر المكتبة ولا تاريخ الطبع. (¬2) انظر: دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني، تحقيق محمود شاكر، مطبعة المدني بالقاهرة، ط3،1992،وإعجاز القرآن والبلاغة النبوية لمصطفى صادق الرافعي، طباعة دار الكتاب العربي في بيروت،1990.

هذا وقد احتوى النظم القرآني على الجزالة، والتناسق، والاهتمام بالإيقاع، والانسجام في اللفظ والنغم؛ وقد حصل للصحابة وهم أفصح الناس، وأعلمهم باللغة وبيانها، حصل لهم التأثير الكبير به، فمن ذلك: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: خَرَجْتُ أَتَعَرَّضُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَبْلَ أَنْ أُسْلِمَ، فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي إِلَى الْمَسْجِدِ، فَقُمْتُ خَلْفَهُ فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ الْحَاقَّةِ، فَجَعَلْتُ أَعْجَبُ مِنْ تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ قَالَ: فَقُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ شَاعِرٌ كَمَا قَالَتْ قُرَيْشٌ، قَالَ: فَقَرَأَ: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (. قَالَ قُلْتُ: كَاهِنٌ. قَالَ: (وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِن رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُم مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ... (إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، قَالَ: فَوَقَعَ الْإِسْلَامُ فِي قَلْبِي كُلَّ مَوْقِعٍ) (¬1) . وعن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ (، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ (يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُم الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لاَ يُوقِنُونَ أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُم الْمُسَيْطِرُونَ (قَالَ: كَادَ قَلْبِي أَن يَطِيرَ) (¬2) . (وفي رواية وَذَلِكَ أَوَّلَ مَا وَقَرَ الْإِيمَان فِي قَلْبِي " ¬

(¬1) أخرجه أحمد في المسند (مسند العشرة المبشرين بالجنة، رقم:108) ورجاله ثقات، إلا أنه منقطع فشريح لم يدرك عمر، انظر (المسند تحقيق أحمد شاكر (1/201) . (¬2) أخرجه البخاري (كتاب تفسير القرآن، باب سورة الطور، رقم:4573)

وَلِلطَّبَرَانِيّ مِنْ رِوَايَةِ أُسَامَة بْن زَيْد عَنْ اَلزُّهْرِيِّ نَحْوُهُ وَزَادَ " فَأَخَذَنِي مِنْ قِرَاءَتِهِ الْكَرْب " وَلِسَعِيد بْن مَنْصُور عَنْ هُشَيْمٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ" فَكَأَنَّمَا صُدِعَ قَلْبِي حِينَ سَمِعْت الْقُرْآن) (¬1) . وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (أَنَّ النَّبِيَّ (قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ فَسَجَدَ بِهَا فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ مِن الْقَوْمِ إِلَّا سَجَدَ، فَأَخَذَ رَجُلٌ مِن الْقَوْمِ كَفًّا مِنْ حَصًى أَوْ تُرَابٍ، فَرَفَعَهُ إِلَى وَجْهِهِ وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا، وهو أمية بن خلف) (¬2) . وعن ابن عباس: أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) ، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عم إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالا. قال: لم؟ قال: ليعطوكه؛ فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله. قال: قد علمت قريش أني أكثرها مالا. قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك إنك منكر له أو إنك كاره له. قال: ماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا برجز ولا بقصيدة مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، والله إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وأنه ليحطم ما تحته. قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. قال: فدعني حتى أفكر فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر يؤثره عن غيره. فنزلت: (ذرني ومن خلقت وحيدا ( {¬3} [المدثر:11] . ¬

(¬1) انظر فتح الباري (2/290) . (¬2) متفق عليه: (البخاري: كتاب الجمعة باب سجدة النجم، رقم:1020، ومسلم: كتاب المساجد وموضع الصلاة، باب سجود التلاوة، رقم:576) . (¬3) أخرجه الحاكم (2/550) وقال الذهبي: صحيح، طبعة دار الباز تحقيق مصطفى عطا.

4- الإعجاز التشريعي (¬1) : فالقرآن معجز في تنظيمه لأحوال البشر في جانب العقائد والعبادات والأخلاق (¬2) ، في تنظيمه لجميع مصالح الأفراد والمجتمعات والسياسات والدول؛ فقد نظم الإسلام حياة الإنسان في نفسه، ومع غيره؛ فهناك آداب الزوجية، وحقوق الوالدين والأبناء والأصدقاء والجيران، وولاة الأمر، والمجتمع، والمسلمين بعامة، ونظم العلاقة بغير المسلمين، فهناك الذمي والمعاهد والمحارب، وهناك حال ضعف الدولة الإسلامية وحال قوتها، وهناك حال الدعوة، وحال المجادلة، وحال المجالدة، وغير ذلك (¬3) . وقد قام بعض المعاصرون بمحاولة بائسة للتشكيك في الإعجاز التشريعي ومحاولة نقضه، وبيان عدم صلاحيته، أو مخالفته العقل، ومن أشهرهم المهندس محمد شحرور في كتابه (الكتاب والقرآن قراءة معاصرة) (¬4) ، وقد رد عليه طائفة كبيرة من العلماء (¬5) ، مثل تشكيكه ¬

(¬1) انظر كتاب " القرآن وإعجازه التشريعي " لمحمد إبراهيم إسماعيل، دار الفكر العربي، القاهرة. (¬2) انظر دستور الإخلاق في القرآن، لدراز، تحقيق عبد الصبور شاهين، بيروت، مطبعة الرسالة، الطبعة الأولي0،1998. (¬3) انظر كتاب مباحث في إعجاز القرآن، لمصطفى مسلم، في الفصل الثالث: الإعجاز التشريعي، ص:231-258، وكتاب (القرآن الكريم) ص:31، من أساليب الغزو الفكر، لغنايم (ص:543) . (¬4) نشر في دمشق عام 1990وطبعته عدة مكاتب. (¬5) وممن رد عليه:1/القراءة المعاصرة للقرآن في الميزان، لأحمد عمران، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولي،1995. 2/بيضة الديك (نقد لغوي لكتاب الكتاب والقرآن) ، ليوسف الصيداوي، المطبعة التعاونية في دمشق، وهو كتاب عظيم رد فيه على أول عشر صفحات من الكتاب من الجانب اللغوي فقط في مائتين وأربع وستين ورقة.

بالحدود الشرعية كقطع يد السارق، ودعوته إلى تحديث الشريعة وعصرنتها، وأن يستبدل الجلد بالسجن، وإنكاره تعدد الزوجات وأنه لا يجوز التعدد إلا بالأرملة ذات الأيتام، وتجويزه ظهور المرأة عارية تماما أمام محارمها، وإنكاره الحجاب الشرعي واشتراط المهر وتنصيف أرث المرأة، وتجويزه النظر للمرأة غير المحرم وغير ذلك من أنواع التحريف واللعب بكتاب الله تعالى وتشريعاته. قال القرطبي رحمه الله: (ووجوه إعجاز القرآن الكريم عشرة: - منها النظم البديع المخالف لكل نظم معهود في لسان العرب وفي غيرها، لأن نظمه ليس من نظم الشعر في شيء، وكذلك قال رب العزة الذي تولى نظمه: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له (وفي " صحيح مسلم " أن أنيسا أخا أبي ذر قال لأبي ذر: لقيت رجلا بمكة على دينك يزعم أن الله أرسله. قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون: شاعركاهن ساحر -وكان أنيس أحد الشعراء -قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة، فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر، فلم يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون. وكذلك أقر عتبة بن ربيعة أنه ليس بسحر ولا شعر، لما قرأ عليه رسول الله (حم فصلت، على مايأتي بيانه هنالك،

فإذا اعترف عتبة على موضعه من اللسان، وموضعه من الفصاحة والبلاغة، بأنه ما سمع مثل القرآن قط، كان في هذا القول مقرا بإعجاز القرآن له، ولضربائه من المتحققين بالفصاحة والقدرة على التكلم بجميع أجناس القول وأنواعه. - ومنها الأسلوب المخالف لجميع أساليب العرب (¬1) . - ومنها الجزالة التي لا تصح من مخلوق بحال، وتأمل ذلك في سورة ق والقرآن المجيد إلى آخرها، وقوله سبحانه: {والأرض جميعا قبضته يوم القيامة} [الزمر: 42] إلى آخر السورة، وكذلك قوله سبحانه: (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون (إلى آخر السورة. فمن علم أن الله سبحانه وتعالى هو الحق: علم أن مثل هذه الجزالة لا تصح في خطاب غيره، ولا يصح من أعظم ملوك الدنيا أن يقول: {لمن الملك اليوم} [غافر: 16] ولا أن يقول: {ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء} [الرعد: 13] . قال ابن الحصار: وهذه الثلاثة من النظم والأسلوب والجزالة لازمة كل سورة، بل هي لازمة كل آية، وبمجموع هذه الثلاثة يتميز مسموع كل آية وكل سورة عن سائر كلام البشر، وبها وقع التحدي والتعجيز، ومع هذا فكل سورة تنفرد بهذه الثلاثة أن ينضاف إليها أمر آخر من الوجوه العشرة، فهذه سورة الكوثر ثلاث آيات قصار، وهي أقصر سورة في القرآن وقد تضمنت الإخبار عن مغيبين؛ أحدهما الإخبار عن الكوثر وعِظَمِهِ وسعته وكثرة أوانيه، وذلك يدل على أن المصدقين به أكثر من أتباع سائر الرسل، والثاني الإخبار عن الوليد بن المغيرة، وقد كان أول نزول الآية ذا مال وولد على ما يقتضيه قول الحق (ذرني ومن ¬

(¬1) يعني أنه ليس بشعر ولا نثر ولا سجع.

خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا ( [المدثر:11-14] ثم أهلك الله سبحانه ماله وولده وانقطع نسله (إن شانئك هو الأبتر (. - ومنها التصرف في لسان العرب على وجه لا يستقل به عربي، حتى يقع منهم الاتفاق من جميعهم على إصابته في وضع كل كلمة وحرف موضعه. - ومنها الإخبار عن الأمور التي في أول الدنيا إلى وقت نزوله، من أمي ما كان يتلو من قبله من كتاب ولا يخطه بيمينه، فأخبر بما كان من قصص الأنبياء مع أممها والقرون الخالية في دهرها، وذكر ما سأله أهل الكتاب عنه وتحدوه به من قصص أهل الكهف، وشأن موسى والخضر عليهما السلام، وحال ذي القرنين فجاءهم وهو أمي من أمة أمية، ليس لها بذلك علم بما عرفوا من الكتب السالفة صحته فتحققوا صدقه، قال القاضي ابن الطيب: ونحن نعلم ضرورة أن هذا مما لا سبيل إليه إلا عن تعلم، وإذا كان معروفا أنه لم يكن ملابسا لأهل الآثار وحملة الأخبار، ولا مترددا إلى المتعلم منهم، ولا كان ممن يقرأ فيجوز أن يقع إليه كتاب فيأخذ منه؛ عُلم أنه لا يصل إلى علم ذلك إلا بتأييد من جهة الوحي. - ومنها الوفاء بالوعد المدرك بالحس في العيان، في كل ما وعد الله سبحانه، وينقسم إلى أخباره المطلقة، كوعده بنصر رسوله عليه السلام، وإخراج الذين أخرجوه من وطنه، وإلى وعد مقيد بشرط كقوله: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} [الطلاق: 3] {ومن يؤمن بالله يهد قلبه} [التغابن: 11] {ومن يتق الله يجعل له مخرجا} [الطلاق: 2] {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} [الأنفال: 65] وشبه ذلك.

- ومنها الإخبار عن المغيبات في المستقبل التي لا يطلع عليها إلا بالوحي، فمن ذلك ما وعد الله نبيه عليه السلام أنه سيظهر دينه على الأديان بقوله تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق (الآية [الصف: 9] ففعل ذلك وكان أبو بكر رضي - الله عنه - إذا أغزى جيوشه عرفهم ما وعدهم الله في إظهار دينه؛ ليثقوا بالنصر وليستيقنوا بالنجح، وكان عمر - رضي الله عنه - يفعل ذلك، فلم يزل الفتح يتوالى شرقا وغربا برا وبحرا قال الله تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم} [النور: 55] وقال: {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين} [الفتح: 27] وقال: {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم} [الأنفال: 7] وقال: {ألم، غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون} [الروم:1-3] فهذه كلها أخبار عن الغيوب التي لا يقف عليها إلا رب العالمين، أو من أوقفه عليها رب العالمين، فدل على أن الله تعالى قد أوقف عليها رسوله، لتكون دلالة على صدقه. - ومنها ما تضمنه القرآن من العلم الذي هو قوام جميع الأنام في الحلال والحرام، وفي سائر الأحكام. - ومنها الحكم البالغة التي لم تجر العادة بأن تصدر في كثرتها وشرفها من آدمي. - ومنها التناسب في جميع ما تضمنه اختلاف، قال الله تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} [النساء: 82] قلت فهذه عشرة أوجه ذكرها علماؤنا رحمة الله عليهم) (¬1) . ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (1/52-54) ، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولي،1988.

(وقد سرد هبةُ الدين الحسيني الشهرستاني المزايا الإجمالية للقرآن وهي: - فصاحةُ ألفاظه الجامعة لكل شرائعها. - بلاغته بالمعنى المشهور؛ أي موافقة الكلام لمقتضى الحال ومناسبات المقام، أو بلاغته المعنوية. - توفر المحاسن الطبيعية فوق المحاسن البديعية. - إيجاز بالغ مع الإعجاز بدون أن يخل بالمقصود. - إطناب غير ممل في مكرراته. - سمو المعاني وعلو المرمى في قصد الكمال الأسمى. - طلاوة أساليبه الفطرية، ومقاطعه المبهجة، وأوزانه المتنوعة. - فواصله الحسنى وأسماعه الفطرية. - أسرار علمية لم تهتد العقول إليها بعد عصر القرآن إلا بمعونة الأدوات الدقيقة، والآلات الرقيقة المستحدثة. - غوامض أحوال المجتمع، وآداب أخلاقية تهذب الأفراد وتصلح شؤون العائلات. - قوانين حكيمة في فقه تشريعي، فوق ما في التوراة، والإنجيل، وكتب الشرائع الأخرى. - سلامته عن التعارض، والتناقض، والاختلاف. - خلوصه من تنافر الحروف، وتنافي المقاصد. - ظهوره على لسان أُمي لم يعرف الدراسة، ولا ألف محاضرة العلماء، ولا جاب الممالك سائحا مستكملا. - طراوته في كل زمان، كونه غضاً طرياً كلما تُلي وأينما تُلي.

- اشتماله على السهل الممتنع، الذي يعد ملاك الإعجاز، والتفوق النهائي. -قوة عبارته لتحمل الوجوه، وتشابه المعاني. -قصصه الحلوة، وكشوفه التاريخية من حوادث القرون الخالية. - أمثاله الحسنى التي تجعل المعقول محسوسا، وتجعل الغائب عن الذهن حاضرا لديه. - معارفه الإلهية كأحسن كتاب في علم اللاهوت، وكشف أسرار عالم الملكوت، وأوسع سفر من مراحل المبدأ والمعاد. - خطاباته البديعية، وطرق إقناعه الفذة. - تعاليمه العسكرية، ومناهجه في سبيل الصلح، وفنون الحرب. - سلامته من الخرافات والأباطيل، التي من شأنها إجهاز العلم عليها كلما تكاملت أصوله وفروعه. - قوة الحجة، وتفوق المنطق. - اشتماله على الرموز في فواتح السور، ودهشة الفكر حولها وحول غيرها. - جذباته الروحية الخلابة للألباب، السحرة للعقول، الفتانة للنفوس. هذا وإن وجوه إعجاز القرآن كثيرة، وقد أُلفت فيها كتب كثيرة، ويمكن أن يضاف إلى ما ذكره الشهرستاني ما يلي: - ترك المعارضة مع توفر الدواعي وشدة الحاجة، مما يؤكد عجز البشر عن الإتيان بمثله.

- اتساق القرآن في أغراضه ومعانيه على طول المدة التي استغرقها في تجميعه، فخواتيمه بعد ربع قرن جاءت مطابقة متساوقة لفواتحه يصدق بعضها بعضا، ويكلمه كأنه نَفَس واحد. - سهولة حفظه كما قال تعالى: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (. فهو ميسر على جميع الألسنة، ومحفوظ في الصدور. - حسن التخلص من قصة إلى أخرى، والخروج من باب إلى غيره. - إطنابه في خطاب اليهود، وإيجازه في خطاب العرب، للتفاوت بينهما فَهْمًا وبلاغة. - وجود كلمات في جمل لا يسد مسدها غيرها، مثل قوله تعالى: {وأهش بها على غنمي} [طه:18] فليس بمقدور أحد أن يأتي بكلمة تسد مسدها. - نزاهته في التعبير، كقوله: {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} [البقرة:187] ، وقوله: {نساؤكم حرث لكم} [البقرة:223] وقوله: {أفضى بعضكم إلى بعض} [النساء:21] وقوله: {أو جاء أحد منكم من الغائط} [النساء: 43] . - خلوص ألفاظ الهجاء فيه من الفحش، كقوله تعالى: {أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله} [النور:50] . - ما تضمنه من الأخبار عن الضمائر، كقوله تعالى: {وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول ... } [المجادلة:8] ، وقوله تعالى: {يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شئ ما قتلنا ههنا ... } [آل عمران:154] وقوله تعالى:

{ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم} [النساء:46] ، وقوله: {وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم} [الأنفال:7] . - جمعه بين صفتي الجزالة والعذوبة، وهما كالمتضادين لا يجتمعان في كلام البشر غالبا. - اقتران معانيه المتغايرة في السور المختلفة، فيخرج في السورة من وعد إلى وعيد، ومن ترغيب إلي ترهيب، ومن ماض إلي مستقبل، ومن قَصَصٍ إلي مَثَلٍ، ومن حكمة إلى جدل، فلا يتنافر، وهي في غيره من الكلام متنافر. - لا يخرج عن أسلوبه، ولا يزول عن اعتداله باختلاف آياته في الطول والقصر. - آي وردت بتعجيز قوم في قضايا، وإعلامهم أنهم لا يفعلونها، فما فعلوها ولا قدروا، فالإخبار بالعجز عن الإتيان بمثل القرآن معجزة للقرآن. - قارئه لا يمله، وسامعه لا يمجه، بل الانكباب علي تلاوته يزيده حلاوة، وترديده يوجب له محبة، وغيره من الكلام يُعادى إذا أعيد، ويمل على الترديد. - كونه آية باقية لا يعدم ما بقيت الدنيا مع تكفل الله بحفظه. - الإعجاز في ترتيب الآيات والسور) (¬1) . وذكر السيوطي في كتاب معترك الأقران خمسة وثلاثين وجها من وجوه إعجاز القرآن، وهكذا لو تُتبعت لزادت عن المائة وجه. ¬

(¬1) انظر كتاب الإعجاز البياني في ترتيب آيات القرآن الكريم وسوره، للدكتور محمد أحمد يوسف قاسم، دار المطبوعات الدولية، الطبعة الأولي،1979.

وكل عالم يزيد وجها لم يذكره غيره وهذا مصداقا لقول عليٍّ ( «لاَ يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ وَلا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ وَلا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ» (¬1) . بل إن السيوطي - رحمه الله تعالى - فصل في كتاب الخصائص في وجوه إعجاز القرآن بعملية حسابية، فبلغت تلك الوجوه عشرات الألوف، فإليك ما قال: قال السيوطي -رحمه الله-: (وقد اختلف الناس في الوجه الذي وقع به ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء في فضل القرآن، رقم:2906) مرفوعا، قَالَ أَبُو عِيسَى الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَإِسْنَادُهُ مَجْهُولٌ وَفِي الْحَارِثِ مَقَالٌ. أهـ وأخرجه الدارمي من نفس الطريق (كتاب فضائل القرآن، باب فضل من قرأ القرآن، رقم:3331) ، وأخرجه الإمام أحمد (رقم:706) عن علي مرفوعا ولفظه: (أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ أُمَّتَكَ مُخْتَلِفَةٌ بَعْدَكَ قَالَ فَقُلْتُ لَهُ فَأَيْنَ الْمَخْرَجُ يَا جِبْرِيلُ قَالَ فَقَالَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ يَقْصِمُ اللَّهُ كُلَّ جَبَّارٍ مَنْ اعْتَصَمَ بِهِ نَجَا وَمَنْ تَرَكَهُ هَلَكَ مَرَّتَيْنِ قَوْلٌ فَصْلٌ وَلَيْسَ بِالْهَزْلِ لَا تَخْتَلِقُهُ الْأَلْسُنُ وَلَا تَفْنَى أَعَاجِيبُهُ فِيهِ نَبَأُ مَا كَانَ قَبْلَكُمْ وَفَصْلُ مَا بَيْنَكُمْ وَخَبَرُ مَا هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكُمْ) والراوي عن علي هو الحارث أيضا كما هو الحال في إسناده الترمذي والدارمي، وله شاهد من حديث ابن مسعود عند الدارمي في نفس الباب الماضي، رقم:3315، ولفظه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَأْدُبَةُ اللَّهِ فَتَعَلَّمُوا مِنْ مَأْدُبَتِهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ حَبْلُ اللَّهِ وَالنُّورُ الْمُبِينُ وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ عِصْمَةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ وَنَجَاةٌ لِمَنْ اتَّبَعَهُ لَا يَزِيغُ فَيَسْتَعْتِبُ وَلَا يَعْوَجُّ فَيُقَوَّمُ وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ فَاتْلُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْجُرُكُمْ عَلَى تِلَاوَتِهِ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرَ حَسَنَاتٍ أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ الم وَلَكِنْ بِأَلِفٍ وَلَامٍ وَمِيمٍ) ، وهو ضعيف فيه إبراهيم الهجري وهو لين الحديث يرفع الموقوفات كما قال ابن حجر في التقريب (ص:116) .

إعجاز القرآن على أقوال بينتها مبسوطة في كتاب الإتقان والملخص انه وقع بعدة وجوه: 1-منها حسن تأليفه والتئام كلمه وفصاحته ووجوه إعجازه وبلاغته الخارقة عادة العرب الذين هم فرسان الكلام وأرباب هذا الشأن. 2-ومنها صورة نظمه العجيب والأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب ومنهاج نظمها ونثرها الذي جاء عليه ووقفت عليه مقاطع آياته وانتهت إليه فواصل كلماته ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له. 3-ومنها ما انطوى عليه من الأخبار بالمغيبات وما لم يكن فوجد كما ورد. 4-ومنها ما أنبأ به من أخبار القرون الماضية والشرائع السالفة مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب الذي قطع عمره في تعلم ذلك فيورده على وجهه ويأتي به على نصه وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب. 5-ومنها ما تضمنه من الأخبار عن الضمائر كقوله تعالى إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا وقوله تعالى ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول. 6-ومنها آي وردت بتعجيز قوم في قضايا وإعلامهم أنهم لا يفعلونها فما فعلوا ولا قدروا كقوله في اليهود ولن يتمنوه أبدا. 7-ومنها ترك المعارضة مع توفر الدواعي وشدة الحاجة. 8-ومنها الروعة التي تلحق قلوب سامعيه عند سماعهم والهيبة التي تعتريهم عند سماع تلاوته كما وقع لجبير بن مطعم انه سمع النبي يقرأ في المغرب بالطور قال فلما بلغ هذه الآية ام خلقوا من غير شيء

أم هم الخالقون إلى قوله المصيطرون كاد قلبي يطير قال وذلك أول ما وقر الإسلام في قلبي. 9-ومنها أن قارئه لا يمله وسامعه لا يمجه بل الإكباب على تلاوته يزيد حلاوة وترديده يوجب له محبة وغيره من الكلام يعادي إذا أعيد ويمل مع الترديد ولهدا وصف القرآن بأنه لايخلق على كثرة الرد 10-ومنها كونه آية باقية لا يعدم ما بقيت الدنيا مع تكفل الله بحفظه. 11-ومنها جمعه لعلوم ومعارف لم يجمعها كتاب من الكتب ولا أحاط بعلمها أحد في كلمات قليلة وأحرف معدودة. 12-ومنها جمعه بين صفتي الجزالة والعذوبة وهما كالمتضادين لا يجتمعان في كلام البشر غالبا. 13-ومنها جعله آخر الكتب غنيا من غيره وجعل غيره من الكتب المتقدمة قد تحتاج إلى بيان يرجع فيه اليه كما قال تعالى (إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون) (¬1) ثم بين السيوطي أن وجوه الإعجاز تصل إلى عشرات الألوف فقال: (قال القاضي عياض: إذا عرفت ما ذكر من وجوه إعجاز القرآن، عرفت أنه لا يحصى عدد معجزاته بألف ولا ألفين ولا أكثر؛ لأنه قد تحدى بسورة منه فعجزوا عنها، قال أهل العلم: وأقصر السور (إنا ¬

(¬1) الخصائص الكبرى (1/195-196) .

أعطيناك الكوثر (فكل آية أو آيات منه بعددها وقدرها معجزة، ثم فيها نفسها معجزات على ما سبق. قلتُ (¬1) : وإذا عَدَدْتَ كلمات سورة الكوثر وجدتها بضع عشرة كلمة، وقد عد قوم كلمات القرآن سبعا وسبعين ألف كلمة وتسعمائة وأربعا وثلاثين، فالقدر المعجز منه يكون في العدد نحو سبعة آلاف تقريبا، تضرب في ثمانية أوجه؛ الأولان (¬2) والسابع والثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر (¬3) تبلغ ستة وخمسين ألف معجزة، ثم ينضم إلى ذلك في بعضه من الوجه الثالث والرابع والخامس والسادس (¬4) جملة ¬

(¬1) القائل السيوطي. (¬2) وهما: 1-حسن تأليفه والتئام كلمه وفصاحته ووجوه إعجازه وبلاغته الخارقة عادة العرب الذين هم فرسان الكلام وأرباب هذا الشأن. (¬3) وهي: 7-ترك المعارضة مع توفر الدواعي وشدة الحاجة. (¬4) وهي:3-ما انطوى عليه من الأخبار بالمغيبات وما لم يكن فوجد كما ورد.

المطلب الثاني: التحدي أن يؤتى بمثله:

وافرة، فتصل معجزات القرآن بذلك إلى ستين ألف معجزة أو أكثر) (¬1) . ولعل هذا أن يكون وجها جديدا من وجوه الإعجاز، وهو كثرة وجوه إعجازه، فكلام غير الله مهما حصل فيه من البلاغة والحكمة والتوفيق، إلا أنه لا يمكن أن يشمل كل وجوه الإعجاز السابقة، والله أعلم. المطلب الثاني: التحدي أن يؤتى بمثله: من علامات صدق القرآن وصحته، هو أنه تحدى الخلق من أنس وجن أن يأتوا بأحسن منه فلم يطيقوا، ثم تحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن أو معارضته، ثم لم يزل يتنزل معهم بالتحدى، فلما عجزوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن تحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله، فلما عجزوا تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، ثم تحداهم أن يأتوا بحديث من مثله فعجزوا: قال سبحانه: {قُل فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [القصص:49] . ¬

(¬1) الخصائص الكبرى للسيوطي (1/197) .

وقال تعالى: {قُل لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88] . ثم قال سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِن دُونِ اللَّهِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [هود:13] . ثم قال جل جلاله: {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِن مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِن دُونِ اللَّهِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23] . وقال تبارك اسمه: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس:38] . ثم قال سبحانه: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور:34] . قال ابن كثير -رحمه الله-: (ثم شرع تعالى في تقرير النبوة بعد أن قرر أنه لا إله إلا هو، فقال مخاطبا للكافرين: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا} [البقرة: 23] يعني محمدا (فأتوا بسورة من مثل ما جاء به:، إن زعمتم أنه من عند غير الله فعارضوه بمثل ما جاء به، واستعينوا على ذلك بمن شئتم من دون الله، فإنكم لا تستطيعون ذلك، وقد تحداهم الله تعالى بهذا في غير موضع من القرآن، فقال في سورة القصص: {قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين} [القصص: 49] وقال في سورة سبحان {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} [الإسراء: 88]

وقال في سورة هود: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين} [هود: 13] وقال في سورة يونس: {وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة من مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين} [يونس: 37، 38] وكل هذه الآيات مكية، ثم تحداهم بذلك أيضا في المدينة فقال في هذه الآية: (وإن كنتم في ريب (أي شك (مما نزلنا على عبدنا (يعني محمدا صلى الله عليه وسلم (فأتوا بسورة من مثله (يعني من مثل القرآن، فتحداهم كلهم متفرقين ومجتمعين سواء في ذلك أميهم وكتابيهم، وقد تحداهم بهذا في مكة والمدينة مرات عديدة مع شدة عداوتهم له وبغضهم لدينه ومع هذا أعجزوا عن ذلك) (¬1) . قال الإمام ابن جرير رحمه الله: (القول في تأويل قوله تعالى: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا} : وهذا من الله عز وجل احتجاج لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي قومه من العرب ومنافقيهم وكفار أهل الكتاب وضلالهم الذين افتتح بقصصهم قوله جل ثناؤه: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم} وإياهم يخاطب بهذه الآيات, وضرباءهم يعني بها, قال الله جل ثناؤه: وإن كنتم أيها المشركون من العرب والكفار من أهل الكتابين في شك - وهو الريب - مما نزلنا على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم من النور والبرهان وآيات الفرقان أنه من عندي, وأني الذي أنزلته إليه, فلم تؤمنوا به ولم تصدقوه فيما ¬

(¬1) تفسير القرآن العظيم (1/59-60) بتصرف.

يقول, فأتوا بحجة تدفع حجته; لأنكم تعلمون أن حجة كل ذي نبوة على صدقه في دعواه النبوة أن يأتي ببرهان يعجز عن أن يأتي بمثله جميع الخلق, ومن حجة محمد صلى الله عليه وسلم على صدقه وبرهانه على نبوته, وأن ما جاء به من عندي, عجز جميعكم وجميع من تستعينون به من أعوانكم وأنصاركم عن أن تأتوا بسورة من مثله. وإذا عجزتم عن ذلك, وأنتم أهل البراعة في الفصاحة والبلاغة والدراية, فقد علمتم أن غيركم عما عجزتم عنه من ذلك أعجز. كما كان برهان من سلف من رسلي وأنبيائي على صدقه وحجته على نبوته من الآيات ما يعجز عن الإتيان بمثله جميع خلقي. فيتقرر حينئذ عندكم أن محمدا لم يتقوله ولم يختلقه, لأن ذلك لو كان منه اختلافا وتقولا لم يعجزوا وجميع خلقه عن الإتيان بمثله, لأن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يعد أن يكون بشرا مثلكم, وفي مثل حالكم في الجسم وبسطة الخلق وذرابة اللسان, فيمكن أن يظن به اقتدار على ما عجزتم عنه, أو يتوهم منكم عجز عما اقتدر عليه) (¬1) . ¬

(¬1) تفسير الطبري (1/165) .

فلما عجزوا عن معارضته مع توفر الدواعي لذلك، علمنا أنه

المطلب الثالث: شهادة المنصفين من أهل الكتاب والكفار وأعدائه له بالصحة والصدق:

ليس بمقدور إنسان أن يأتي بمثله، فهو إذن من خالق البشر الذي هو على كل شيء قدير. المطلب الثالث: شهادة المنصفين من أهل الكتاب والكفار وأعدائه له بالصحة والصدق: وهذا من باب أن أقوى الشهادات على صحة الشيء شهادة الخصوم؛ فأهل الكتاب والكفار مع شدة عداوتهم للقرآن، إلا أن منهم من اعترف به، وأقر بصدقه وصحته، وهذا الدليل مأخوذ من قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [الأنعام:114] . وقوله جل جلاله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} [القصص:52-53] . وقوله تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} [الإسراء:106-108] . وقوله سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف:10] . وقوله تعالى ( ... وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ

قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ( [المائدة:82-85] . أخرج مسلم عن أبي ذر قَالَ: قَدْ صَلَّيْتُ قَبْلَ أَنْ أَلْقَى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِثَلَاثِ سِنِينَ. قُلْتُ: لِمَنْ؟ قَالَ: لِلَّهِ. قُلْتُ: فَأَيْنَ تَوَجَّهُ؟ قَالَ: أَتَوَجَّهُ حَيْثُ يُوَجِّهُنِي رَبِّي، أُصَلِّي عِشَاءً حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ أُلْقِيتُ، كَأَنِّي خِفَاءٌ حَتَّى تَعْلُوَنِي الشَّمْسُ، فَقَالَ أُنَيْسٌ: إِنَّ لِي حَاجَةً بِمَكَّةَ فَاكْفِنِي. فَانْطَلَقَ أُنَيْسٌ حَتَّى أَتَى مَكَّةَ فَرَاثَ (¬1) عَلَيَّ ثُمَّ جَاءَ، فَقُلْتُ: مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: لَقِيتُ رَجُلًا بِمَكَّةَ عَلَى دِينِكَ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ. قُلْتُ: فَمَا يَقُولُ النَّاسُ؟ قَالَ: يَقُولُونَ شَاعِرٌ كَاهِنٌ سَاحِرٌ -وَكَانَ أُنَيْسٌ أَحَدَ الشُّعَرَاءِ -قَالَ أُنَيْسٌ: لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ فَمَا هُوَ بِقَوْلِهِمْ، وَلَقَدْ وَضَعْتُ قَوْلَهُ عَلَى أَقْرَاءِ الشِّعْرِ فَمَا يَلْتَئِمُ عَلَى لِسَانِ أَحَدٍ بَعْدِي أَنَّهُ شِعْرٌ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَصَادِقٌ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. قَالَ قُلْتُ: فَاكْفِنِي حَتَّى أَذْهَبَ فَأَنْظُرَ. قَالَ: فَأَتَيْتُ مَكَّةَ فَتَضَعَّفْتُ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَقُلْتُ: أَيْنَ هَذَا الَّذِي تَدْعُونَهُ الصَّابِئَ؟ فَأَشَارَ إِلَيَّ، فَقَالَ: الصَّابِئَ. فَمَالَ عَلَيَّ أَهْلُ الْوَادِي بِكُلٍّ مَدَرَةٍ (¬2) وَعَظْمٍ حَتَّى خَرَرْتُ مَغْشِيًّا عَلَيَّ، قَالَ: فَارْتَفَعْتُ حِينَ ارْتَفَعْتُ كَأَنِّي نُصُبٌ أَحْمَرُ. قَالَ: فَأَتَيْتُ زَمْزَمَ فَغَسَلْتُ عَنِّي الدِّمَاءَ وَشَرِبْتُ مِنْ مَائِهَا، وَلَقَدْ لَبِثْتُ يَا ابْنَ أَخِي ثَلَاثِينَ بَيْنَ لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ مَا كَانَ ¬

(¬1) راث: أبطأ. مختار الصحاح (1/111) . (¬2) مدرة: جمعه مرد وهو قطع الطين اليابس. لسان العرب (5/162) .

لِي طَعَامٌ إِلَّا مَاءُ زَمْزَمَ، فَسَمِنْتُ حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي، وَمَا وَجَدْتُ عَلَى كَبِدِي سُخْفَةَ جُوعٍ ... ) (¬1) . (وأخرج ابن إسحاق والبيهقي (¬2) من طريق عكرمة، أو سعيد عن ابن عباس: أن الوليد بن المغيرة اجتمع ونفر من قريش، وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم، فقال: إن وفود العرب ستقدم عليكم فيه وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا، ويرد قول بعضكم بعضا، فقالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل، وأقم لنا رأيا نقوم به، فقال: بل أنتم فقولوا لأسمع. فقالوا: نقول كاهن. فقال: ما هو بكاهن، لقد رأيت الكهان فما هو بزمزمة الكاهن وسحره. فقالوا: نقول: مجنون. فقال: وما هو بمجنون، ولقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قال: فنقول: شاعر. قال: فما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر برجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر. قال: فنقول: ساحر. قال: فما هو ساحر، قد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثه ولا عقده. فقالوا: ما تقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لمعذق وإن فرعه لجنى، فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول لأن تقولوا: ساحر. فتقولوا: هذا ساحر يفرق بين المرء وبين أبيه، وبين المرء وبين أخيه، وبين المرء وبين زوجته، وبين المرء وعشيرته، ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي ذر، رقم:2473. (¬2) أخرجه ابن اسحاق كما في مختصر السيرة لابن هشام (2/105) تحقيق طه عبد الرؤوف سعد، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، 1411،، والبيهقي في شعب الإيمان (1/157) ، تحقيق محمد السعيد زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1410، والسند ضعيف فيه محمد بن أبي محمد وهو مجهول (التقريب ص:505) .

فتفرقوا عند ذلك، فجعلوا يجلسون للناس حين قدموا الموسم، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا لهم أمره، فأنزل الله عز وجل في النفر الذين كانوا معه، ويصفون له القول في رسول الله فيما جاء به من عند الله: (الذين جعلوا القرآن عضين (أي أصنافا (فوربك لنسألنهم أجمعين (أولئك النفر الذين يقولون ذلك لرسول الله لمن لقوا من الناس، قال: وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله، وانتشر ذكره في بلاد العرب كلها. وأخرج أبو نعيم (¬1) من طريق العوفي، عن ابن عباس، قال: أقبل الوليد بن المغيرة على أبي بكر يسأله عن القرآن، فلما أخبره خرج على قريش، فقال: يا عجبا لما يقول ابن أبي كبشة، فوالله ما هو بشعر، ولا سحر، ولا بهُذاء مثل الجنون، وان قوله لمن كلام الله. وأخرج ابن إسحاق والبيهقي وأبو نعيم (¬2) ، عن ابن عباس قال: قام النضر بن الحارث ابن كلدة ابن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي، فقال: يا معشر قريش، إنه والله لقد نزل بكم أمر ما ابتليتم بمثله، لقد كان محمد فيكم غلاما حدثا، أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب، وجاءكم بما جاءكم: قلتم ساحر. لا والله ما هو بساحر؛ قد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم: كاهن. لا والله ما هو بكاهن؛ قد رأينا الكهنة وحالهم وسمعنا سجعهم، وقلتم: شاعر. لا والله ما هو بشاعر؛ لقد روينا الشعر ¬

(¬1) لم أجده في الحلية لأبي نعيم بعد البحث في مظانه ولكن أخرجه مسندا ابن جرير الطبري في تفسير (29/156) ،وعطية العوفي ضعيف (تهذيب تهذيب لابن حجر (7/201) دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى،1984. (¬2) أخرجه ابن اسحاق كما في مختصر سيرته لابن هشام معلقا (2/137) عن ابن عباس من غير إسناد.

وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه، وقلتم: مجنون. لا والله ما هو بمجنون؛ لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه، يا معشر قريش انظروا في شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم. وأخرج ابن إسحاق والبيهقي (¬1) ، عن محمد بن كعب، قال: حُدَّثْتُ أن عتبة بن ربيعة قال ذات يوم ورسول الله (في المسجد: يا معشر قريش ألا أقوم إلى هذا فأكلمه، فأعرض عليه أمورا لعله أن يقبل منها بعضها ويكف عنا؟ قالوا: بلى يا أبا الوليد. فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله (، قال عتبة: يا محمد أنت خير أم هاشم؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ أنت خير أم عبد الله؟ فلم يجبه قال: فبم تشتم آلهتنا، وتضلل آباءنا، فإن كنت إنما بك الرئاسة عقدنا ألويتنا لك فكنت رأسنا ما بقيت، وإن كان بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختار من أي بنات قريش شئت، وإن كان بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستعين بها أنت وعقبك من بعدك. ورسول الله (ساكت ولا يتكلم، حتى إذا فرغ عتبة، قال رسول الله (: يا أبا الوليد. قال: نعم. قال: فاسمع مني. قال: افعل. فقال رسول الله (: بسم الله الرحمن الرحيم (حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا (فمضى رسول الله فقرأها عليه، فلما سمعها عتبة أنصت لها وألقى بيديه خلف ظهره معتمدا عليهما، يسمع منه حتى انتهى رسول الله إلى السجدة فسجد ¬

(¬1) أخرجه الأصبهاني في دلائل النبوة (ص:221) تحقيق محمد محمد الحداد، دار طيبة، الرياض، الطبعة الأولى،1409، ويحيى ابن معين في تاريخه (3/54) ،تحقيق د. أحمد محمد نور سيف، مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي، مكة المكرمة، الطبعة الأولى،1979، وفي إسناده يحيى بن عبد الله الأجلح الكوفي لين الحديث (ص:592) والذيال بن حرملة لم يوثقه إلا ابن حبان (الثقات لابن حبان (4/222) تحقيق السيد شرف الدين أحمد، دار الفكر، الطبعة الأولى 1975.

فيها، ثم قال: سمعت يا أبا الوليد؟ قال: سمعت. قال: فأنت وذاك. فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم، قالوا: وما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي إني والله قد سمعت قولا ما سمعت بمثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا السحر، ولا الكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ؛ فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب، فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به. قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه. فقال: هذا رأيي لكم فاصنعوا ما بدا لكم) (¬1) . وهذه بعض شهادات المنصفين من المعاصرين: -يقول إبراهيم خليل (¬2) : (يرتبط هذا النبي (صلى الله عليه وسلم) بإعجاز أبد الدهر بما يخبرنا به المسيح -عليه السلام- في قوله عنه: (ويخبركم بأمور آتية) ، وهذا الإعجاز هو القرآن الكريم، معجزة الرسول الباقية ما بقي الزمان، فالقرآن الكريم يسبق العلم الحديث في كل مناحيه؛ من طب وفلك ¬

(¬1) الخصائص الكبرى للسيوطي (1/189-193) باختصار. (¬2) قس مبشر من مواليد الإسكندرية عام 1919، يحمل شهادات عالية في علم اللاهوت من كلية اللاهوت المصرية، ومن جامعة برنستون الأمريكية، عمل أستاذا بكلية اللاهوت في أسيوط، كما أرسل عام 1954 إلى أسوان سكرتيرا عاما للإرسالية الألمانية السويسرية، وكانت مهمته الحقيقية التنصير والعمل ضد الإسلام، لكن تعمقه في دراسة الإسلام قاده إلى الإيمان بهذا الدين وأشهر إسلامه عام 1959، ومن مؤلفاته: محمد في التوراة والإنجيل والقرآن-المستشرقون والمبشرون في العالم العربي والإسلامي -تاريخ بني إسرائيل. (انظر قالوا عن الإسلام للدكتور عماد الدين خليل (ص:49) .

وجغرافيا وجيولوجيا وقانون واجتماع وتاريخ ... ففي أيامنا هذه استطاع العلم أن يرى ما سبق إليه القرآن بالبيان والتعريف..) (¬1) . وقال: (أعتقد يقينا أني لو كنت إنسانا وجوديا، لا يؤمن برسالة من الرسالات السماوية، وجاءني نفر من الناس وحدثني بما سبق به القرآن العلم الحديث في كل مناحيه؛ لآمنت برب العزة والجبروت خالق السماوات والأرض، ولن أشرك به أحدا) (¬2) . وقال بلاشير (¬3) : (إن القرآن ليس معجزة بمحتواه وتعليمه فقط، إنه أيضاً ويمكنه أن يكون قبل أي شيء آخر تحفة أدبية رائعة، تسمو على جميع ما أقرته الإنسانية وبجلته من التحف، إن الخليفة المقبل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - المعارض الفظ في البداية للدين الجديد، قد غدا من أشد المتحمسين لنصرة الدين عقب سماعه لمقطع من القرآن، وسنورد الحديث فيما بعد عن مقدار الافتتان الشفهي بالنص القرآني بعد أن رتله المؤمنون) (¬4) . وقالت بوتر (¬5) : (عندما أكملت قراءة القرآن الكريم، غمرني شعور بأن هذا هو الحق الذي يشتمل على الإجابات الشافية حول مسائل الخلق وغيرها، وإنه يقدم لنا الأحداث بطريقة منطقية، نجدها متناقضة مع بعضها في غيره من الكتب الدينية، أما القرآن فيتحدث عنها في نسق ¬

(¬1) محمد في التوراة والإنجيل والقرآن (ص:47-48) . (¬2) محمد في التوراة والإنجيل والقرآن (ص: 48) . (¬3) تقدمت ترجمته ص 10. (¬4) قالوا عن الإسلام (ص52) (¬5) ديبورا بوتر: ولدت عام 1954 بمدينة ترافيرز في ولاية ميتشغان الأمريكية، وتخرجت من فرع الصحافة بجامعة ميتشغان، اعتنقت الإسلام عام 1980، بعد زواجها من أحد الدعاة الإسلاميين العاملين في أمريكا بعد اقتناع عميق بأنه ليس ثمة دين غير الإسلام يمكن أن يستجيب لمطالب الإنسان: (قالوا عن الإسلام: ص 55) .

رائع وأسلوب قاطع لا يدع مجالاً للشك بأن هذه هي الحقيقة، وأن هذا الكلام هو من عند الله لا محالة) (¬1) . وقالت بوتر أيضا: (كيف استطاع محمد (صلى الله عليه وسلم) الرجل الأمي، الذي نشأ في بيئة جاهلية أن يعرف معجزات الكون التي وصفها القرآن الكريم، والتي لا يزال العلم الحديث حتى يومنا هذا يسعى لاكتشافها؟ لابد إذن أن يكون هذا الكلام هو كلام الله عز وجل) (¬2) . قال بوكاي (¬3) : (لقد قمت أولاً بدراسة القرآن الكريم، وذلك دون أي فكر مسبق، وبموضوعية تامة بحثاً عن درجة اتفاق نص القرآن ومعطيات العلم الحديث، وكنت أعرف قبل هذه الدراسة، وعن طريق الترجمات، أن القرآن يذكر أنواعا كثيرة من الظاهرات الطبيعية، لكن معرفتي كانت وجيزة، وبفضل الدراسة الواعية للنص العربي، استطعت أن أحقق قائمة أدركت بعد الانتهاء منها، أن القرآن لا يحتوي على أية مقولة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم في العصر الحديث، وبنفس الموضوعية قمت بنفس الفحص على العهد القديم والأناجيل، أما بالنسبة للعهد القديم فلم تكن هناك حاجة للذهاب إلى أبعد من الكتاب الأول، أي سفر التكوين فقد وجدت مقولات لا يمكن التوفيق بينها وبين أكثر معطيات العلم رسوخاً في عصرنا، وأما بالنسبة للأناجيل، فإننا نجد نص إنجيل متي يناقض بشكل جلي إنجيل لوقا، وأن هذا الأخير يقدم لنا صراحة أمراً ¬

(¬1) قالوا عن الإسلام (ص55) (¬2) قالوا عن الإسلام (ص55) (¬3) د. موريس بوكاي: الطبيب والعالم الفرنسي، ألف كتابه المشهور " القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم" وهو من أكثر المؤلفات التي عالجت هذا الموضوع (تعارض الكتب المقدسة مع العلم الحديث) أصالة واستيعاباً وعمقاً، ويبدوا أن هذا الكتاب القيم منحه قناعات مطلقة بصدق الكتاب، وبالتالي صدق الذي جاءته. (انظر:"قالوا عن الإسلام ": ص 56)

لا يتفق مع المعارف الحديثة الخاصة بقدم الإنسان على الأرض) (¬1) . وقال حتي (¬2) : (إن أسلوب القرآن مختلف عن غيره، ثم إنه لا يقبل المقارنة بأسلوب آخر، ولا يمكن أن يقلد، وهذا في أساسه. هو إعجاز القرآن.. فمن جميع المعجزات كان القرآن المعجزة الكبرى) (¬3) . وقال أرنولد (¬4) : (.. (إننا) نجد حتى من بين المسيحيين مثل الفار (الإسباني) الذي عرف بتعصبه على الإسلام، يقرر أن القرآن قد صيغ في مثل هذا الأسلوب البليغ الجميل، حتى إن المسيحيين لم يسعهم إلا قراءته والإعجاب به) (¬5) . ¬

(¬1) " القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم ": ص 13، دار المعارف، القاهرة، 1978 (¬2) حتى: د. فيليب حتى، ولد عام 1886م، لبناني الأصل، أمريكي الجنسية، تخرج من الجامعة الأمريكية في بيروت وقال الدكتوراة من جامعة كولومبيا (1915م) وتنقل في عدة مناصب كبيرة. من مؤلفاته: أصول الدولة الإسلامي، تاريخ العرب وغيرها. (انظر: "قالوا عن الإسلام" ص 58) (¬3) قالوا عن الإسلام (ص58) (¬4) توماس آرنولد [1864-1930] : مستشرق إنجليزي التحق بكلية المجدلية في جامعة كمبردج عام 1882م حيث اجتذبته الدراسات الشرقية، وبعد أن أنجز بنجاح دراسته أمضي السنة الرابعة عاكفاً على دراسة الإسلام، واختير لتدريس الفلسفة في كلية عليكرة الإسلامية في الهند، فقضي فيها عشر سنوات، كان لها تأثير بالغ في نظره تجاه الإسلام، وكان يدعو إلي التوفيق بين الثقافة الإسلامية والفكر الأوربي، وتولي عدة مناصب، وقبل وفاته بعام دعته الجامعة المصرية (جامعة القاهرة الآن) أستاذاً زائراً. وبعد أن أمضي النصف الثاني من العالم الدراسي 1929-1930 في التدريس بقسم التاريخ عاد إلي لندن وتوفي فيها في 30 يونيو 1930، من مؤلفاته " الدعوة الإسلامية" و "ةالخلافة" وغيرها. (انظر: موسوعة المستشرقين، لبدوي ص 9) باختصار، الأعلام للزركلى (2/94) . (¬5) قالوا عن الإسلام (ص50)

المطلب الرابع: الوحدة الموضوعية لكل سورة:

ولقد ألف الدكتور مراد هوفمان -سفير ألمانيا السابق بالرباط- كتاب (الإسلام كبديل) (¬1) ، وفيه شهادات كثيرة على إعجاز القرآن وصدقه، وصدق النبي (صلى الله عليه وسلم) وكمال التشريع. إلى آخر تلك الشهادات الطويلة على صدق القرآن وإعجازه. قارن بين هذا الكلام وكلام نصر أبو زيد عندما يقول: (إن إعجاز القرآن ليس إلا في تغلبه على الشعر وسجع الكهان، ولكنه ليس معجزا في ذاته) (¬2) . المطلب الرابع: الوحدة الموضوعية لكل سورة: وقد عقد الدكتور الفذ محمد عبد الله دراز فصلا في كتابه "النبأ العظيم" عن هذا المطلب (¬3) ، وبيَّن فيه أن من أدلة صدق القرآن وأنه ليس من البشر الوحدة الموضعية لكل سورة، فكل سورة معقودة للتكلم عن موضوع معين، ومع كبر بعض السور وامتداد نزولها على عدة سنوات إلا أن هذه الوحدة لم تنخرم ولم تنُس ولم تتبدل، ثم ضرب لهذا مثلا: فقال: مَثَلُ ذلك كقصر مبني في السماء، ثم ينزل الله منه كل يوم قطعة، فمرة ينزل النافذة ومرة ينزل السقف، ومرة ينزل الجدار، ويأمر الله نبيه بأن يضع الجزء كذا في مكان كذا، فيفعل وهو لا يدري لماذا، ولكنه هكذا أُمر، فلا ينتهي التنزيل إلا ويتضح ¬

(¬1) من منشورات مكتبة العبيكان، الرياض، ط3، 2001. (¬2) انظر كتاب: قصة أبو زيد وانحسار العلمانية في جامعة القاهرة، د. عبد الصبور شاهين، ص:29، دار الاعتصام، القاهرة، وقد نقل كلامه هذا من مقال لـ (أبو زيد) في مجلة الهلال. (¬3) من ص: 143-211.

للجميع مدى توافق هذا البنيان وإحكامه ودقة تصميمه. ولو أنك أخذت كلام أي إنسان لمدة سنة واحدة فقط، ثم أردت أن تجعل منه موضوعا متناغما، أو أفكارا منسجمة مع بعض لما استطعت إلى ذلك سبيلا. ثم دلل على ذلك بأطول سورة في القرآن، وهي البقرة التي نزلت على مدار تسع سنوات، ونزل في أثنائها أغلب السور المدنية، ومع هذا كان بناء سورة البقرة في غاية الإحكام ولم تختلط به أي آية من غيره. قال دراز -رحمه الله- في نظام عقد المعاني في سورة البقرة (¬1) : (اعلم أن هذه السورة على طولها تتألف وحدتها من: مقدمة، وأربعة مقاصد، وخاتمة، على هذا الترتيب: المقدمة: في التعريف بشأن هذا القرآن وبيان أن ما فيه من الهداية قد بلغ حدا من الوضوح لا يتردد فيه ذو قلب سليم، وإنما يعرض عنه من لا قلب له أو من كان في قلبه مرض. المقصد الأول: في دعوة الناس كافة إلى اعتناق الإسلام. المقصد الثاني: في دعوة أهل الكتاب إلى اعتناق الإسلام. المقصد الثالث: في عرض شرائع هذا الدين تفصيلا. المقصد الرابع: ذكر الوازع والنازع الديني الذي يبعث على ملازمة تلك الشرائع ويعصم عن مخالفتها. الخاتمة: في التعريف بالذين استجابوا لهذه الدعوة الشاملة لتلك المقاصد، وبيان ما يرجى لهم في آجلهم وعاجلهم) . ثم دلل على كل ما سبق تدليلا واضحا للعيان مدى مطابقته ¬

(¬1) النبأ العظيم (ص:163) .

المطلب الخامس: عدم التناقض:

للواقع، فإن تم هذا لسورة للبقرة وهي أطول سورة في القرآن وأكثرها آيات وامتد نزولها على تسع سنوات فما بالك بغيرها من السورة، لا شك أنه أولى وأحرى. ثم قال رحمه الله: (إن اجتماع هذه الأسباب في كل سورة متفرقة النجوم، دون أن تغض من إحكام وحدتها، ولا استقامة نظمها هو بالتحقيق معجزة المعجزات) (¬1) . المطلب الخامس: عدم التناقض: وقد أشار الله تعالى إلى هذا الدليل في قوله سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء:82] . قال ابن جرير الطبري -رحمه الله-: (القول في تأويل قوله تعالى: {أفلا يتدبرون القرءان ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} ؛ يعني جل ثناؤه بقوله: {أفلا يتدبرون القرآن} أفلا يتدبر المبيتون غير الذي تقول لهم يا محمد كتاب الله؛ فيعلموا حجة الله عليهم في طاعتك واتباع أمرك، وأن الذي أتيتهم به من التنزيل من عند ربهم، لاتساق معانيه وائتلاف أحكامه وتأييد بعضه بعضا بالتصديق، وشهادة بعضه لبعض بالتحقيق؛ فإن ذلك لو كان من عند غير الله لاختلفت أحكامه وتناقضت معانيه وأبان بعضه عن فساد بعض) (¬2) . ¬

(¬1) انظر النبأ العظيم، لدراز (ص:150) ، وانظر من أساليب الغزو الفكري الطعن في القرآن، للدكتور: غنايم (ص:540) . (¬2) جامع البيان عن تأويل آي القرآن (8/567) ، تحقيق محمود وأحمد ابنا محمد شاكر، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثانية

وفي طيات هذه الآية تحدي، كأنه يقول: تدبر القرآن، وستجده خاليا من التناقضات، ولن تستطيع أن تجد تناقضا واحدا، مما يدلك، أنه من عند الله؛ إذ لو كان من البشر، لكان فيه اختلاف كثير، وتناقض واضح. فكتاب ينزل على مدار ثلاث وعشرين سنة منجما مفرقا، على النبي (صلى الله عليه وسلم) لا تجد فيه أي تناقض، إن هذا لشيء عجاب، قال ابن كثير -رحمه الله-: (يقول تعالى آمرا لهم بتدبر القرآن وناهيا لهم عن الإعراض عنه وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة ومخبرا لهم أنه لا اختلاف فيه ولا اضطراب ولا تعارض لأنه تنزيل من حكيم حميد فهو حق من حق ولهذا قال تعالى "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها" ثم قال "ولو كان من عند غير الله" أي لو كان مفتعلا مختلفا كما يقوله من يقوله من جهلة المشركين والمنافقين في بواطنهم لوجدوا فيه اختلافا أي اضطرابا وتضادا كثيرا أي وهذا سالم من الاختلاف فهو من عند الله) (¬1) . وقال القرطبي -رحمه الله-: (ليس من متكلم يتكلم كلاما كثيرا إلا وجد في كلامه اختلاف كثير؛ إما في الوصف واللفظ؛ وإما في جودة المعنى، وإما في التناقض، وإما في الكذب، فأنزل الله عز وجل القرآن وأمرهم بتدبره؛ لأنهم لا يجدون فيه اختلافا في وصف ولا ردا له في معنى ولا تناقضا ولا كذبا فيما يخبرون به من الغيوب وما يسرون) (¬2) . وبهذا استدل جفري لانغ (¬3) على صدق القرآن (¬4) وأدى إلى ¬

(¬1) تفسير القرآن العظيم (1/529) (¬2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/187) . (¬3) تقدمت ترجمته ص 101. (¬4) انظر كتابه الصراع من أجل الإيمان، ص:66.

إسلامه؛ فالقرآن لا يتناقض مع نفسه، ولا يتناقض مع السنة، ولا يتناقض مع العلم الحديث، بل على العكس فدائما يأتي العلم التجريبي الحديث بالتدليل على صدق القرآن وما فيه، ولا يخالف الوقائع التاريخية، بل هو منسجم تمام الانسجام معها كلها، مما يدلك أنه ليس من بشر، بل هو من خالق البشر وخالق الكون ومدبر العالم (¬1) . ¬

(¬1) وسيأتي الرد على من ادعى تناقض القرآن في مبحث مستقل.

المبحث الثالث: ردود القرآن على الطاعنين

المبحث الثالث: ردود القرآن على الطاعنين وقد تكلم القرآن عن كثير من الطاعنين، وذكر طعوناتهم، ثم رد عليها ردا واضحا بينا مفحما؛ 1- فقد طعن المشركون واليهود في صحة نسبة القرآن إلى الله؛ فقالوا للنبي (كما ذكر الله تعالى عنهم في قوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آية مَكَانَ آية وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النحل: 101] ؛ أي أنك متقول على الله تعالى تأمر بشيء ثم تخالفه (¬1) . {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ ... } [الأنبياء:5] . {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ ... } [الفرقان:4] فرد الله تعالى عليهم من عدة وجوه (¬2) : أ-في قوله: (والله أعلم بما ينزل (أي والله أعلم بما ينزل من المصالح؛ فلعل ما يكون مصلحة في وقت يصير مفسدة بعده، فينسخه وما لا يكون مصلحة حينئذ يكون مصلحة الآن فيثبته مكانه. ¬

(¬1) انظر: القرطبى (10/176) . (¬2) انظر: تفسير البضاوي (3/420) . تفسير ابن كثير (2/156) فتاوى ابن تيميه (12/118) .

ب-ثم قال تعالى: {قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين} [النحل:102] ("ونزله" تنبيه على أن إنزاله مدرجا على حسب المصالح بما يقتضي التبديل (من ربك بالحق (ملتبسا بالحكمة (ليثبت الذين آمنوا (ليثبت الله الذين آمنوا على الإيمان بأنه كلامه، وأنهم إذا سمعوا الناسخ وتدبروا ما فيه من رعاية الصلاح والحكمة، رسخت عقائدهم واطمأنت قلوبهم (وهدى وبشرى للمسلمين (المنقادين لحكمه) . ج-ثم قال تعالى بعدها بقليل {إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون} [النحل:116] . والواقع أن النبي (صلى الله عليه وسلم) أفلح في كل أعماله ودعوته وغزواته، ومكّنه الله من البلاد والعباد، ولم يمت حتى دانت له الجزيرة كلها بالإسلام لله والعبادة له وحده، ولو كان مفتريا على الله لم يكن الله تعالى ليمكن له هذا التمكين. د- ثم إنه ما كان لبشر أن يفتري كلاما وينسبه إلى الله، ويضل به الملايين من الناس، ثم بعد ذلك لا يعاجله الله تعالى بالعقوبة: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:37] وقال تعالى: (تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ () وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ () لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ () ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ () فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ( [الحاقة:44-47] ، {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الأحقاف:8] ، إن كنت كاذباً فالله أعلم منكم بذلك، ولا يملك أحد لي أن يمنع عذاب الله بي الذي لا يتأخر عن الكاذب، فكون الله يعلم بي ولم يعذبني هذه شهادة من الله على صدقي (كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ (. هـ- ورد على اليهود وغيرهم من الكفار الذين أنكروا إنزال

أي كتاب (¬1) ، وذلك أن القول بأن الله تعالى لم ينزل شيئا من الكتب، من أكبر السب لله تعالى {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:91] ، ثم قال: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام:91] . 2- وبعضهم ادعى أنه يستطيع أن يأتي بمثل القرآن {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا..} [الأنفال:31] ؛ فتحداهم الله تعالى أن يأتوا بمثله فعجزوا، فتحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله فعجزوا، ثم تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، كما تقدم ذكره (¬2) . 3- وبعضهم زعم أن هذا القرآن إنما هو قصص الأولين وأساطير السابقين {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [النحل:24] . {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان:4-5] . فرد الله عليهم أنه لا يعرف أن يقرأ ولا يكتب، فكيف نقلها وكيف قرأها؟ قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48] . فما كان لرجل أمي لا يقرأ ولا يكتب أن يأتي بمثل هذا الكلام، ويتحدى به الثقلين، ولم يقدر أحد على معارضته وإجابة هذا التحدي. 4- وبعضهم قال: إنه تعلمه من غلام نصراني. فقال الله تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (2/156) . (¬2) راجع: ص السابقة

أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ( [النحل:103] {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} [الفرقان:4] . (يعنون جبرا الرومي غلام عامر بن الحضرمي، وقيل: جبرا ويسارا كانا يصنعان السيوف بمكة، ويقرآن التوراة والإنجيل، وكان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يمر عليهما ويسمع ما يقرآنه. وقيل: عائشا غلام حويطب بن عبد العزى قد أسلم، وكان صاحب كتب. وقيل: سلمان الفارسي. (لسان الذي يلحدون إليه أعجمي (لغة الرجل الذي يميلون قولهم عن الاستقامة إليه -مأخوذ من لحد القبر- أعجمي غير بين وهذا القرآن لسان عربي مبين ذو بيان وفصاحة. والجملتان مستأنفتان لإبطال طعنهم، وتقريره يحتمل وجهين: أحدهما: أن ما سمعه منه كلام أعجمي لا يفهمه هو ولا أنتم، والقرآن عربي تفهمونه بأدنى تأمل، فكيف يكون ما تلقفه منه؟ ‍! وثانيهما: هب أنه تعلم من المعنى باستماع كلامه، لكن لم يتلقف منه اللفظ؛ لأن ذلك أعجمي وهذا عربي، والقرآن كما هو معجز باعتبار المعنى، فهو معجز من حيث اللفظ، مع أن العلوم الكثيرة التي في القرآن، لا يمكن تعلمها إلا بملازمة معلم فائق في تلك العلوم مدة متطاولة، فكيف تعلَّم جميع ذلك من غلام سوقي، سمع منه في بعض أوقات مروره عليه كلمات أعجمية لعله لم يعرف معناها، وطعنهم في القرآن بأمثال هذه الكلمات الركيكة دليل على غاية عجزهم) (¬1) . (قال القاضي ابن الطيب: نحن نعلم ضرورة أن هذا مما لا سبيل إليه إلا عن تَعَلُّمٍ، وإذا كان معروفا أنه لم يكن ملابسا لأهل الآثار وحملة الأخبار، ولا مترددا إلى المتعلم، منهم ولا كان ممن يقرأ فيجوز ¬

(¬1) تفسير البيضاوي (3/421) .

أن يقع إليه كتاب فيأخذ منه؛ عُلم أنه لا يصل إلى علم ذلك إلا بتأييد من جهة الوحي) (¬1) . 5- ادعاؤهم أنه من النبي (صلى الله عليه وسلم) نفسه وليس من عند الله: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ( [يونس:15-16] . قال ابن كثير - رحمه الله -: (يخبر تعالى عن تعنت الكفار من مشركي قريش، الجاحدين المعرضين عنه أنهم إذا قرأ عليهم الرسول (صلى الله عليه وسلم) كتاب الله، وحججه الواضحة، قالوا له: (ائت بقرآن غير هذا (أي رد هذا وجئنا بغيره من نمط آخر أو (بدله (إلى وضع آخر. قال الله تعالى لنبيه (: (قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي (أي ليس هذا إليَّ إنما أنا عبد مأمور، ورسول مبلغ عن الله (إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم (ثم قال محتجا عليهم في صحة ما جاءهم به (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به (أي هذا إنما جئتكم به عن إذن الله لي في ذلك ومشيئته وإرادته، والدليل على إني لست أتقوله من عندي، ولا افتريته أنكم عاجزون عن معارضته، وأنكم تعلمون صدقي وأمانتي منذ نشأت بينكم إلى حين بعثني الله عز وجل، لا تنتقدون عليَّ شيئا تغمصونني (¬2) به ولهذا قال: (فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون (أي أفليس لكم عقول تعرفون بها الحق من الباطل، ¬

(¬1) نقله عنه القرطبي في تفسيره (1/54) . (¬2)

ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان ومن معه فيما سأله من صفة النبي (صلى الله عليه وسلم) ، قال هرقل لأبي سفيان: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان: فقلت: لا. وكان أبو سفيان إذ ذاك رأس الكفرة وزعيم المشركين، ومع هذا اعترف بالحق، والفضل ما شهدت به الأعداء، فقال له هرقل: لقد عرفت إنه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ثم يذهب فيكذب على الله، وقال جعفر ابن أبي طالب للنجاشي ملك الحبشة: بعث الله فينا رسولا نعرف صدقه ونسبه وأمانته، وقد كانت مدة مقامه عليه السلام بين أظهرنا قبل النبوة أربعين سنة) (¬1) . 6- اتهام النبي (صلى الله عليه وسلم) بأنه شاعر، أو مسحور أو ساحر، أو كاهن يتلقاه من الشياطين، أو مجنون، أو أن ما يتلقاه هو أضغاث أحلام: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} [الأنبياء:5] . (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ () وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ () وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ () تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( [الحاقة:40-43] . {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [التكوير:25] . { ... إذ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الإسراء:47] . {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} [يونس:2] . {وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6] . ويلاحظ في هذه التهم التخبط العجيب والتناقض الغريب، فتارة ¬

(¬1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/411) .

يتهمونه بأنه ساحر وتارة مسحور، ولما رأوا بلاغة القرآن قالوا: هذا شعر. فلما اعترض عليهم أن أوزان الشعر معروفة، وهذا ليس على وزن شيء منها، قالوا: كاهن يعني يسجع كسجعهم، فلما اعترض عليهم بأنه لو كان شعرا أو سجعا لكان الناس يستطيعون تقليده، ولكن الواقع أنه لم يستطع أحد فعل ذلك، لاسيما مع استمرار تحديه لهم في كل مناسبة، فقالوا: إنه أضغاث أحلام. ولكن أضغاث الأحلام لا تأتي بهذا الإحكام والتنظيم والإعجاز والبلاغة، فقالوا: إذن يتلقاه من الشياطين. ولكن كيف يتلقاه من الشياطين وهو يلعن الشياطين صباحا ومساء، ولا يستفتح كتابه إلا بالاستعاذة منهم، والشيطان من صفاتها إضلال الناس، وهذا الكتاب يهدي لأقوم سبيل وأفضل طريق، وهناك الكثير من السحرة والكهنة لديهم شياطين ومردة، فلماذا لا يأتون بمثل ما أتى؟ فقالوا: إذن هي أساطير الأولين وقصص السابقين، اكتتبها فهي تملى عليه. ولكن كيف يقال هذا ومحمد لا يقرأ ولا يكتب، بل هو رجل أمي، قالوا: إذن تعلمه من اليهود والنصارى. فقيل لهم: كيف ذلك وهم أعاجم، وهذا لسان عربي مبين، وكلام فصيح بليغ لم يستطع فحول الفصحاء أن يبلغوا منزلته في البلاغة، فكيف لأعجمي أن يأتي به؟ ثم هل اليهود والنصارى تكفر نفسها؟ فعند ذلك حاروا وبهتوا وألجموا ولم يردوا جوابا. وقد شهد على صحة هذا القرآن أهل الكتاب أنفسهم، كما اشرنا من قبل في مثل قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ} [الأنعام:114] . وقال تعالى: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ () نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ()

عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ () بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ () وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ () أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ( [الشعراء:192-197] ( ... وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ () وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ( [المائدة:82-83] . ونحن نقول -على سبيل التنزل- لمن أنكر أن القرآن كلام الله: افرض أن هذا الكتاب من عند الله حقا وأنك مخطئ فما أنت صانع؟ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) ( {¬1} [فصلت:52] . ¬

(¬1) راجع ص 183 السابقة.

المبحث الرابع: ردود إجمالية أخرى

المبحث الرابع: ردود إجمالية أخرى المطلب الأول: عدم معارضة كفار مكة له، مع أنهم أكثر الناس عداوة وفصاحة: (إن النبي (صلى الله عليه وسلم) قد تحدى العرب قاطبة بأن يأتوا بسورة من مثله، فعجزوا عنه وانقطعوا دونه، وقد بقي (يطالبهم به مدة عشرين سنة، مظهراً لهم النكير، زاريًا على أديانهم، مسفهاً آراءهم وأحلامهم، حتى نابذوه وناصبوه الحرب، فهلكت فيه النفوس، وأُريقت المهج، وقُطعت الأرحام، وذهبت الأموال، ولو كان ذلك (¬1) ¬

(¬1) أي معارضة القرآن والإتيان بمثله.

في وسعهم وتحت أقدارهم، لم يتكلفوا هذه الأمور الخطيرة، ولم يركبوا تلك الفواقر المبيرة، ولم يكونوا تركوا السهل الدمث من القول إلى الحَزْنِ (¬1) الوعر من الفعلٍ، وهذا ما لا يفعله عاقل، ولا يختاره ذو لب، وقد كان قومه قريش خاصة موصوفين برزانة الأحلام، ووفارة العقول والألباب، وقد كان فيهم الخطباء المصاقع (¬2) والشعراء المفلقون (¬3) ، وقد وصفهم الله تعالى في كتابه بالجدل والخصومه واللدد، فقال سبحانه: (ما ضربوه لك إلاَّ جدلاً بل هُمْ قومٌ خصمون (وقال سبحانه: (وتُنذِرَ بِه قوما لُداَّ (، فكيف كان يجوز -على قول العرب ومجرى العادة مع وقوع الحاجة ولزوم الضرورة -أن يغفلوه ولا ويهتبلوا الفرصة فيه، وأن يضربوا عنه صفحاً، ولا يحوزوا الفلاح والظفر فيه لولا عدم القدرة عليه والعجز المانع منه. ومعلوم أن رجلا عاقلا لو عطش عطشاً شديدا، خاف منه الهلاك على نفسه، وبحضرته ماء معرض للشرب فلم يشربه حتى هلك عطشاً، لحكمنا أنه عاجز عن شربه غير قادر عليه، وهذا بين واضح لا يُشكل على عاقل. قلت: وهذا -من وجوه ما قيل فيه ـ أبينها دلالة وأيسرها مؤونة، وهو مقنع لمن تنازعه نفسه مطالعة كيفية وجه الإعجاز فيه) (¬4) . ¬

(¬1) وهو ما غلظ من الأرض. القاموس المحيط (ح ز ن) (¬2) المَصْقَعُ: البليغُ يتفنن في مذاهب القول. الوسيط (ص ق ع) (¬3) المُفْلِق: المبدع، لأن من معاني الفالق أي الخالق والمبدع كما في قوله تعالى (أن الله فالق الحب والنوى (انظر: لسان العرب (10/312) . (¬4) ثلاث رسائل في إعجاز القرآن للرماني والخطابي وعبد القاهر الجرجاني (ص:21) ،وهي من رسالة الخطابي.

المطلب الثاني: إثبات الدليل (من أين لك هذا؟) :

و (قال الخطابي: سمعت ابن أبي هريرة يحكي عن أبي العباس بن سريج قال: سأل رجل بعض العلماء عن قوله تعالى: {لا أقسم بهذا البلد} [البلد:1] ؛ فأخبر أنه لا يقسم بهذا، ثم أقسم به في قوله: {وهذا البلد الأمين} [التين:3] ؟ فقال ابن سريج: أي الأمرين أحب إليك أجيبك ثم أقطعك، أو أقطعك ثم أجيبك؟ فقال: بل اقطعني ثم أجبني. فقال: اعلم أن هذا القرآن نزل على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بحضرة رجال، وبين ظهراني قوم كانوا أحرص الخلق على أن يجدوا فيه مغمزا وعليه مطعنا، فلو كان هذا عندهم مناقضة لتعلقوا به، وأسرعوا بالرد عليه، ولكن القوم علموا وجَهِلْتَ فلم ينكروا منه ما أنكرت. ثم قال له: إن العرب قد تدخل (لا) في أثناء كلامها وتلغي معناها، وأنشد فيه أبياتا) (¬1) . المطلب الثاني: إثبات الدليل (من أين لك هذا؟) : وهذا مأخوذ من قوله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111] ؛ وهذا أسهل الأدلة وأسرعها وأقواها في نفس الوقت؛ لأن أكثر الطعون عبارة عن دعاوى لا حقيقة لها ولا قيمة علمية، فبمجرد مطالبته بالدليل عليها تتهاوى وتسقط. والدعاوى إن لم تقم عليها بينات أصحابها أدعياء ¬

(¬1) البرهان في علوم القرآن للزركشي (2/54) . وسيأتي ذكر بعض هذه الأبيات في مبحث دعوى تناقض بعض الآيات مع بعض. المطلب الثاني: إثبات الدليل (من أين لك هذا؟) : وهذا مأخوذ من قوله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111] ؛ وهذا أسهل الأدلة وأسرعها وأقواها في نفس الوقت؛ لأن أكثر الطعون عبارة عن دعاوى لا حقيقة لها ولا قيمة علمية، فبمجرد مطالبته بالدليل عليها تتهاوى وتسقط. والدعاوى إن لم تقم عليها بينات أصحابها أدعياء كدعوى أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يكتب أو يقرأ، أو أنهم وجدوا مخطوطا بخطه وغير ذلك.

المطلب الثالث: مخالفة الواقع:

كدعوى أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يكتب أو يقرأ، أو أنهم وجدوا مخطوطا بخطه وغير ذلك. المطلب الثالث: مخالفة الواقع: الكثير من الطعون طعون كاذبة تخالف الواقع، فبنظرة سريعة للواقع يتضح بطلانها، كدعواهم أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كاهن، أو ساحر، أو شاعر، أو مجنون، أو كاذب، أو يصرع، أو غير ذلك، فشهادة الواقع والحال بخلاف الدعوى من أقوى الأدلة على بطلان الدعوى. هَبِني قُلْتُ هذا النُّورَ ليلُ أَيَعْمَى العَاِلموُن عَنِ الضَّياءِ المطلب الرابع: إجماع الأمة على ذلك (من سبقك إلى هذا) : قال القرطبي: (باب ما جاء من الحجة في الرد على من طعن في القرآن، وخالف مصحف عثمان بالزيادة والنقصان، لا خلاف بين الأمة ولا بين أئمة أهل السنة أن القرآن اسم لكلام الله تعالى الذي جاء به محمد (صلى الله عليه وسلم) ، معجزة له على نحو ما تقدم، وأنه محفوظ في الصدور، مقروء بالألسنة مكتوب في المصاحف، معلومة على الاضطرار سوره وآياته، مبرأة من الزيادة والنقصان حروفه

وكلماته، فلا يحتاج في تعريفه بَحدًّ ولا في حصره بعد، فمن ادعى زيادة عليه أو نقصانا منه، فقد أبطل الإجماع، وبهت الناس، ورد ما جاء به الرسول (صلى الله عليه وسلم) من القرآن المنزل عليه، ورد قوله تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (وأبطل آية رسوله عليه السلام؛ لأنه إذ ذاك يصير القرآن مقدورا عليه حين شيب بالباطل، ولما قدر عليه لم يكن حجة ولا آية، وخَرَجَ عن أن يكون معجزا، فالقائل أن القرآن فيه زيادة ونقصان راد لكتاب الله ولما جاء به الرسول، وكان كمن قال: الصلوات المفروضات خمسون صلاة، وتزوج تسع من النساء حلال، وفرض الله أياما مع شهر رمضان، إلى غير ذلك مما لم يثبت في الدين، فإذا رد هذا الإجماع كان الإجماع على القرآن أثبت وآكد وألزم وأوجب) (¬1) ، وإجماع الأمة المحمدية حجة، وهي لا تجتمع على خطأ. -وتقدم معنا أيضا الرد الإجمالي على الطعونات الأربعة العامة في مبحث مستقل. ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (1/58) .

الفصل الثاني: الردود التفصيلية على من طعن في القرآن

الفصل الثاني: الردود التفصيلية على من طعن في القرآن وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: التشكيك في نسبة القرآن إلى الله تعالى. المبحث الثاني: زعم عدم حفظه. المبحث الثالث: اتهام القرآن بالتناقض. المبحث الرابع: اتهام القرآن بمعارضة الحقائق.

المبحث الأول: التشكيك في نسبة القرآن إلى الله تعالى (مصدر القرآن)

المبحث الأول: التشكيك في نسبة القرآن إلى الله تعالى (مصدر القرآن) وهذا المبحث فيه ثلاثة مطالب حاصرة -إن شاء الله - لطعونهم أو على أقل تقدير تضمنت هذه المطالب أبرز الطعون التى وجهت إلى مصدر القرآن، بهدف التشكيك فى نسبته إلى الحق سبحانه وتعالى، وتفصيل ذلك فيما يلى: المطلب الأول: دعواهم أن القرآن من عند النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) : هذا الطعن من أقدم الطعون وقد ذكر في القرآن كما في قوله سبحانه: {وَإِذَا بَدَّلْنَا ءايَةً مَكَانَ ءايَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [النحل:101] أي أنك متقول على الله تعالى (¬1) . وكما قال سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ ... } [الفرقان:4] . {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُون} [السجدة:3] . ¬

(¬1) انظر تفسير البيضاوي (3/420) .

{أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ} [سبأ:8] ، {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [سبأ:43] . وتقدم في مبحث ردود القرآن على الطاعنين تفصيل هذا الطعن ورد القرآن عليه، ولا زال الطاعنون يرددون هذه الشبهة إلى اليوم: ففي دائرة المعارف الإسلامية: (القرآن ليس من عند الله) (¬1) . ويقول المستشرق ويلز (¬2) : (محمد هو الذي صنع القرآن) (¬3) . ويقول يوليوس فلهاوزن (¬4) : (القرآن من عند محمد) (¬5) . ¬

(¬1) الإسقاط في مناهج المستشرقين للدكتور شوقي أبو خليل (ص:47) ، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط1،1995. (¬2) هربرت جورج ويلز [1866-1946] : الكاتب والأديب البريطاني المعروف، حصل على بكالوريوس العلوم عام 1888، وتولى التدريس بضع سنين ثم انصرف للتأليف، أشتهر بقصصه التى تعتمد الخيال العلمي، من مؤلفاته " معالم تاريخ الإنسانية " وغيرها من الكتب. (أنظر: " قالوا عن الإسلام ": ص 144) (¬3) معالم تاريخ الإنسانية، لويلز (3/626) ، انظر المرجع السابق (ص47) . (¬4) يوليوس فلهاوزن [1844 - 1918] : مؤرخ لليهودية ولصدر الإسلام، وناقد للكتاب المقدس (العهد القديم) ، ألماني نصراني، وفي سنة 1872 صار أستاذا ذاكر سي فى جامعة جريفسلد، ثم أنتقل إلى جامعة هله halle فى سنة 1882 حيث قام بتدريس اللغات الشرقية وتنقل بين عدة مناصب فى العديد من الجامعات حتى تقاعد عام 1913، ومن مؤلفاته: " تاريخ اسرائيل، " المدينة قبل الإسلام " و " تنظيم محمد للجماعة الإسلامية "، وتاريخ الدولة العربية "، وغيرها من المؤلفات. انظر: (موسوعة المستشرقين، لبدوي (ص: 408) بتصرف. (¬5) تاريخ الدولة العربية، ليوليوس فلهاوزن (ص:8) ، ترجمه عن الإلمانية، د. محمد أبو ريدة، الألف كتاب، القاهرة، 1958.

ويقول غوستاف لوبون (¬1) : (القرآن من تأليف محمد) (¬2) . ويقول درمنجهام (¬3) -وهو يصور النبي (صلى الله عليه وسلم) بالفنان أو الشاعر الذي يتأمل الطبيعة، ثم يبدع في التأليف-: (وهذه النجوم في ليالي صيف الصحراء كثيرة شديدة البريق، حتى ليحسب المرء أنه يسمع بصيص ضوئها، وكأنه نغم نار موقدة. حقا إن في السماء لشارات للمدركين، وفي العالم غيب بل العالم غيب كله؛ لكن ألا يكفي أن يفتح الإنسان عينيه ليرى، وأن يرهف أذنه ليسمع، ويرى الحق ويسمع الكلم الخالد، لكن للناس عيونا لا ترى وآذانا لا تسمع، أما هو فيحسب أنه يسمع ويرى، وهل تحتاج لكي تسمع ما وراء السماء من أصوات إلا إلى قلب مخلص مُلِئَ إيمانا ... ) (¬4) . ويقول نولدكة (¬5) : (كانت نبوة محمد نابعة من الخيالات المتهيجة، والإلهامات المباشرة للحس أكثر من أن تأتي من التفكير النابع من العقل ¬

(¬1) غوستاق لوبون: طبيب ومؤرخ فرنسي، ولد عام 1841 م عنى بالحضارات الشرقية من آثار: حضارة العرب، الحضارة. (انظر " قالوا عن الاسلام ": ص 86) (¬2) حضارة العرب، لغوستاف لوبون، (ص:111) ،في فصل: تأليف القرآن، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط3، 1979. (¬3) تقدمت ترجمته ص 142. (¬4) القرآن والمستشرقون، د. التهامي نقرة، ص:28. (¬5) تيودور نولدكة [1836-1931] : شيخ المستشرقين الألمان غير مدافع، متقن للغات السامية الثلاث (العربية، السريانية، العبرية) ، وعنده لغات أخرى كثيرة، حصل على الدكتوراة الأولى عام 1856 برسالة عن تاريخ القرآن، وكان يبحث عن المخطوطات الشرقية ويعكف عليها لدراستها، فسافر إلى فينا ثم ليدن ثم جوتا فى ألمانيا ثم برلين ثم روما، لكنه لم يرحل إلى البلاد العربية أو الإسلامية مع أن تخصصه فيها، عين فى جامعة كيل استاذاُ للغات السامية، ثم تنقل بين مناصب عدة. (موسوعة المستشرقين، لبدوى ص: 595)

الناضج، فلولا ذكاؤه الكبير لما استطاع الارتقاء على خصومه، مع هذا كان يعتقد أن مشاعره الداخلية قادمة من الله بدون مناقشة) (¬1) . ومجمل أقوال المستشرقين وغيرهم من الطاعنين في الوحي الذي يوحى إليه (؛أن هذا القرآن إنما هو: 1-إلهام سمعي. 2-تأثير انفعالات عاطفية. 3-لأسباب طبيعية عادية كباعثة النوم (التنويم الذاتي) . 4-تجربة ذهنية فكرية. 5-حالة كحالة الكهنة والمنجمين. 6-حالة صرع وهستيريا (¬2) . 7-ول نصر أبو زيد -مُلَمِّحًا إلى هذا الطعن-: (القرآن ينتمي إلى ثقافة البشر) (¬3) . -الرد على هذه الدعوى: - 1- بداية؛ فقد فَصَلَ الله تعالى هذه القضية بقوله: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:37] . ¬

(¬1) آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره، د. عمر بن إبراهيم رضوان، (1/387) ، عن كتاب تاريخ القرآن لنولدكة (1/5) . (¬2) انظر تفصيل هذه الأقوال في كتاب آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره، د. عمر بن إبراهيم رضوان، (1/381) ، دار طيبة، الرياض، ط1،1992. (¬3) مفهوم النص-دراسة في علوم القرآن، لنصر حامد أبو زيد (ص:27) ، من إصدارات الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1990، ضمن إصدارات ما تسميه الهيئة (دراسات أدبية) .

قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: (هذا بيان لإعجاز القرآن، وأنه لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله، ولا بعشر سور ولا بسورة من مثله، لأنه بفصاحته وبلاغته ووجازته وحلاوته واشتماله على المعاني الغزيرة النافعة في الدنيا والآخرة، لا يكون إلا من عند الله، الذي لا يشبهه شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وأقواله، فكلامه لا يشبه كلام المخلوقين؛ ولهذا قال تعالى: (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله (أي مثل هذا القرآن لا يكون إلا من عند الله، ولا يشبه هذا كلام البشر (ولكن تصديق الذي بين يديه (أي من الكتب المتقدمة، ومهيمنا عليه ومبينا لما وقع فيها من التحريف والتأويل والتبديل، وقوله: (وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين (أي وبيان الأحكام والحلال والحرام بيانا شافيا كافيا، حقا لا مرية فيه من الله رب العالمين، كما في حديث الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب: (فيه خبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم وفصل ما بينكم) أي خبر عما سلف وعما سيأتي وحكم فيما بين الناس بالشرع الذي يحبه الله ويرضاه) (¬1) . (لقد علم الناس أجمعون - علماً لا يخالطه شك - أن هذا الكتاب العزيز جاء على لسان رجل عربي أمي، ولد بمكة في القرن السادس الميلادي، اسمه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله.. هذا القدر لا خلاف فيه بين مؤمن وملحد؛ لأن شهادة التاريخ المتواتر به لا يماثلها ولا يدانيها شهادته لكتاب غيره ولا لحادث غيره ظهر على وجه الأرض. أما بعد؛ فمن أين جاء به محمد بن عبد الله (؟ أَمنْ عند نفسه ومن وحي ضميره، أم من معلم؟ ومَن هو ذلك المعلم؟ ¬

(¬1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/417) .

نقرأ في هذا الكتاب أنه ليس من عمل صاحبه، وإنما هو قول رسول كريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثَمَّ أمين: ذلكم هو جبريل عليه السلام، تلقاه من لدن حكيم عليم، ثم نزله بلسان عربي مبين على قلب محمد (صلى الله عليه وسلم) ، فتلقنه محمد منه كما يتلقن التلميذ عن أستاذه نصاً من النصوص، ولم يكن له فيه من عمل بعد ذلك إلا: 1) الوعي والحفظ، ثم 2) الحكاية والتبليغ، ثم 3) البيان والتفسير، ثم 4) التطبيق والتنفيذ. أما ابتكار معانيه وصياغة مبانيه فما هو منها بسبيل، وليس له من أمرهما شيء، إن هو إلا وحيٌ يوحى. هكذا سماه القرآن حيث يقول: {وإذا لم تأتهم بآيةٍ قالوا لولا اجتبيتها، قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي} [الأعراف: 203] ، ويقول: {قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي، إن اتبع إلا ما يوحى إلي} [يونس: 15] وأمثال هذه النصوص كثيرة في شأن إيحاء المعاني، ثم يقول في شأن الإيحاء اللفظي: {إنا أنزلناه قرآناً عربياً} [يوسف: 2] ، {سنقرئك فلا تنسى} [الأعلى: 6] ، {لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه، ثم إن علينا بيانه} [القيامة:16 -19] ، (اقرأ) ( [العلق:1] ، {واتل} [الكهف: 27] ، {ورتل} [المزمل: 4] فانظر كيف عبر بالقرآن بالقراءة والإقراء، والتلاوة والترتيل، وتحريك اللسان، وكون الكلام عربياً، وكل أولئك من عوارض الألفاظ لا المعاني البحتة.

القرآن إذاً صريح في أنه "لا صنعة فيه لمحمد (صلى الله عليه وسلم) ، ولا لأحد من الخلق، وإنما هو منزل من عند الله بلفظه ومعناه"، والعجب أن يبقى بعض الناس في حاجة إلى الاستدلال على الشطر الأول من هذه المسألة، وهو أنه ليس من عند محمد (صلى الله عليه وسلم)) (¬1) . 2- لو كان القرآن من تأليف النبي (صلى الله عليه وسلم) ، لاستطاع العرب أن يأتوا بمثله، مع حرصهم الشديد على معارضته، لكن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يتحداهم دائما ويكرره عليهم كثيرا، ومع هذا لم يطق أحد منهم معارضته، ولا يقال: إن النبي (صلى الله عليه وسلم) بلغ من العبقرية مبلغا، بحيث لم يستطع أحد أن يأتي بمثل ما قال. لأنه يمكن للمخالفين أن يجتمعوا فيألفوا قرآنا، ومن المعلوم أن الجماعة تبدع وتبتكر أكثر من الإنسان الواحد، فلو اجتمع مائة شاعر مثلا لتأليف قصيدة؛ لكانت في جمالها وقوتها وسبكها أفضل بمراحل من شاعر واحد ألف قصيدة، مهما بلغ هذا الشاعر من البلاغة والبيان (¬2) ، فإذا كان آحاد المشركين لم يستطيعوا معارضة القرآن؛ فلماذا لم يجتمعوا لمعارضته؟ ولكن هيهات؛ فإنه لو اجتمعت قريش والعرب وأهل الأرض قاطبة، بل والجن ما كانوا لهم أن يأتوا بمثل آية منه {قُل لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88] . ¬

(¬1) النبأ العظيم، لعبد الله دراز، ص:14-15 (¬2) ومن هذا الباب المجامع الفقهية وما فيها من اجتهاد جماعي، ومنه ما في دول الغرب من عمل لجان متخصصة في الطب والفلك والأحياء والكيمياء والكهرباء والحاسوب وغيرها من العلوم، فأثمرت هذه اللجان المتخصصة علوما وإبداعا، واكتشافا لا يستطيعه الفرد الواحد مهما بلغ من فرط الذكاء وسيلان، الذهن وعبقرية العقل أن يبدعه.

3- (تبرؤ محمد (من نسبة القرآن إليه ليس ادعاء يحتاج بينة، بل هو إقرار يؤخذ به صاحبه؛ في الحقيقة إن هذه القضية لو وجدت قاضياً يقضي بالعدل، لاكتفى بسماع هذه الشهادة التي جاءت بلسان صاحبها على نفسه، ولم يطلب وراءها شهادة شاهد آخر من العقل أو النقل، ذلك أنها ليست من جنس (الدعاوى) فتحتاج إلى بينه، وإنما هي من نوع (الإقرار) الذي يؤخذ به صاحبه، ولا يتوقف صديق ولا عدو في قبوله منه، أي مصلحة للعاقل الذي يدعي لنفسه حق الزعامة، ويتحدى الناس بالأعاجيب والمعجزات لتأييد تلك الزعامة، نقول أي مصلحة له في أن ينسب بضاعته لغيره، وينسلخ منها انسلاخاً؟ على حين أنه كان يستطيع أن ينتحلها فيزداد بها رفعة وفخامة شأن، ولو انتحلها لما وجد من البشر أحداً يعارضه ويزعمها لنفسه. الذي نعرفه أن كثيراً من الأدباء يسطون على آثار غيرهم، فيسرقونها أو يسرقون منها ما خف حمله وغلت قيمته وأُمنت تهمته، حتى إن منهم من ينبش قبور الموتى، ويلبس من أكفانهم ويخرج على قومه في زينة من تلك الأبواب المستعارة؛ أمَّا أن أحداً ينسب لغيره أنفس آثار عقله، وأغلى ما تجود به قريحته فهذا ما لم يلده الدهر بعد) (¬1) . 4- (لا أدل على أن الوحي القرآني خارج عن الذات المحمدية من مخالفة القرآن في عدة مواطن لرأيه الشخصي ولطبعه الخاص) (¬2) ومعاتبته على أخطائه: ¬

(¬1) النبأ العظيم: (ص:16) (¬2) القرآن والمستشرقون، لنقرة ص:35، والمستشرقون وشبهاتهم حول القرآن، محمد باقر الحكيم (ص:50) ، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت.

مثل قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لولا كتاب من الله سبق لمسكم في ما أخذتم عذاب عظيم} [الأنفال:67] عن ابْنَ عَبَّاسٍ قالُ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ (الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي ... -الحديث وفيه-: فَلَمَّا أَسَرُوا الْأُسَارَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: «مَا تَرَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى؟» فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ هُمْ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ، أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً؛ فَتَكُونُ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلْإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : «مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟» ، قُلْتُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ، وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ تُمَكِّنَّا فَنَضْرِبَ، أَعْنَاقَهُمْ فَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عُقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتُمَكِّنِّي مِنْ فُلَانٍ -نَسِيبًا لِعُمَرَ- فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهَا. فَهَوِيَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ جِئْتُ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَيْنِ يَبْكِيَانِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ، فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ، وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : «أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمْ الْفِدَاءَ، لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ» شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ (، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ (إِلَى قَوْلِهِ: (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا

(فَأَحَلَّ اللَّهُ الْغَنِيمَةَ لَهُمْ (¬1) . (وتأمل آية الأنفال المذكورة، تجد فيها ظاهرة عجيبة؛ فإنها لم تنزل إلا بعد إطلاق أسارى بدر وقبول الفداء منهم، وقد بُدئت بالتخطئة والاستنكار لهذه الفعلة، ثم لم تلبث أن ختمت بإقرارها وتطيب النفوس بها، بل صارت هذه السابقة التي وقع التأنيب عليها هي القاعدة لما جاء بعدها (¬2) . فهل الحال النفسية التي يصدر عنها أول الكلام - لو كان عن النفس مصدره - يمكن أن يصدر عنها آخره , ولما تمض بينهما فترة تفصل بين زمجرة الغضب والندم وبين ابتسامة الرضا والاستحسان؟ كلا، وإن هذين الخاطرين لو فرض صدورهما عن النفس متعاقبين , لكان الثاني منهما إضراباً عن الأول ماحياً له، ولرجع آخر الفكر وفقاً لما جرى به العمل. فأي داعٍ دعا إلى تصوير ذلك الخاطر الممحو وتسجيله، على ما فيه من تقريع علني بغير حق، وتنغيص لهذه الطُعمة (¬3) التي يراد جعلها حلالاً طيباً؟ إن الذي يفهمه علماء النفس من قراءة هذا النص أن هاهنا ألبتة شخصيتين منفصلتين، وأن هذا صوت سيد يقول لعبده: لقد أسأتَ ولكني عفوت عنك وأذنت لك) (¬4) . ومثل هذا قوله تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّن ¬

(¬1) أخرجه مسلم (كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة فداء الإسرى، رقم 1763) . (¬2) يعني أنه يجوز لولي الأمر بعد هذه الحادثة في الأسرى أن يفدي بهم أو يمن بالمجان أو يقتلهم. (¬3) الطعمة: المكسب (¬4) النبأ العظيم، ص:27.

َ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ( [التوبة:43] ، وقوله سبحانه: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ... } [الأحزاب:37] ، عَنْ مَسْرُوقٍ -رحمه الله- قَالَ: «كُنتُ مُتَّكِئًا عِندَ عَائِشَةَ فسَأَلْتُ عَائِشَةَ: هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ (رَبَّهُ؟ فَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ لَقَدْ قَفَّ (¬1) شَعَرِي لِمَا قُلْتَ؛ يَا أَبَا عَائِشَةَ ثَلَاثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ، قُلْتُ: مَا هُنَّ؟ قَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا (رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ. قَالَ: وَكُنْتُ مُتَّكِئًا فَجَلَسْتُ , فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْظِرِينِي وَلَا تَعْجَلِينِي أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (, فَقَالَتْ: أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ , (فَقَالَ: «إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ , رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنْ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ» فَقَالَتْ: أَوَ لَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (أَوَ لَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (. قَالَتْ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَتَمَ شَيْئًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ , فَقَدْ ¬

(¬1)

أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ , وَاللَّهُ يَقُولُ: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ (وَلَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ (كَاتِمًا شَيْئًا مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ (قَالَتْ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُخْبِرُ بِمَا يَكُونُ فِي غَدٍ , فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ , وَاللَّهُ يَقُولُ: (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ((¬1) . وعَنْ أَنَسٍ قَالَ: جَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ يَشْكُو فَجَعَلَ النَّبِيُّ (يَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ، قَالَ أَنَسٌ: لَوْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَاتِمًا شَيْئًا لَكَتَمَ هَذِهِ. قَالَ: فَكَانَتْ زَيْنَبُ تَفْخَرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ (تَقُولُ: زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ وَزَوَّجَنِي اللَّهُ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ) (¬2) . يقول الدكتور محمد عبد الله دراز -رحمه الله- وهو يتكلم عن أدلة صدق النبي (صلى الله عليه وسلم) ، فذكر أن من الأدلة على ذلك: (مخالفة القرآن لطبع الرسول، وعتابه الشديد له في المسائل المباحة، وأخرى كان يجيئه القول فيها على غير ما يحبه ويهواه؛ فيخطئه في الرأي يراه، ويأذن له في الشيء لا يميل إليه , فإذا تلبث فيه يسيراً تلقاه القرآن بالتعنيف الشديد، والعتاب القاسي، والنقد المر، حتى ¬

(¬1) متفق عليه (البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب: تفسير سورة النجم، رقم:4574، ومسلم: كتاب الإيمان، باب معنى قول الله عز وجل ولقد رآه نزلة أخرى، رقم:177) واللفظ لمسلم. (¬2) أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، باب وكان عرشه على الماء وهو رب العرش العظيم، رقم: 6984) .

في أقل الأشياء خطراً: {يا أيها النبي لما تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك} [التحريم:1] ، (وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ( [الأحزاب: 37] ، {عفى الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين} [التوبة: 43] ، {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم} [التوبة: 113] ، {ما كان لنبيٍ أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيزٌ حكيم، لولا كتابٌ من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} [الأنفال:6-68] ، {عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى، وما عليك ألا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى، كلا} [عبس:5-10] . أرأيت لو كان هذه التقريعات المؤلمة (¬1) صادرة عن وجدانه، معبرة عن ندمه ووخز ضميره حين بدا له خلاف ما فرط من رأيه؛ أكان يعلنها عن نفسه بهذا التهويل والتشنيع؟ ألم يكن له في السكوت عنها ستر على نفسه، واستبقاء لحرمة آرائه؟ ¬

(¬1) الدكتور دراز لم يذكر فيما ذكر تقريعات مؤلمة بل إنما هي عتاب، ولكن هناك آيات آخرى تدل على ما قال منها قوله تعالى (وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا {75} [الإسراء:74-75] وقوله {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ..} [المائدة:67] ، وقوله (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ {47} [الحاقة:44-47] .

بل إن هذا القرآن لو كان يفيض عن وجدانه , لكان يستطيع عند الحاجة أن يكتم شيئاً من ذلك الوجدان، ولو كان كاتماً شيئاً لكتم أمثال هذه الآيات، ولكنه الوحي لا يستطيع كتمانه {وما هو على الغيب بضنين} [سورة التكوير الآية: 24] ) (¬1) . وقد أقر بهذا الدليل بعض المستشرقين، مثل المستشرق (ليتنر) حيث قال: (مرة أوحى الله إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) وحيا شديد المؤاخذة؛ لأنه أدار وجهه عن رجل فقير أعمى , ليخاطب رجلا غنيا من ذوي النفوذ، وقد نشر ذاك الوحي، فلو كان محمد كاذبا -كما يقول أغبياء النصارى بحقه -لما كان لذلك الوحي من وجود) (¬2) . 5-موقف الرسول (صلى الله عليه وسلم) من النص القرآني موقف المفسر الذي يتلمس الدلالات، ويأخذ بأرفق احتمالاتها: (وأنت لو نظرت في هذه الذنوب التي وقع العتاب عليها , لوجدتها تنحصر في شيء واحد، وهو أنه (كان إذا ترجح بين أمرين ولم يجد فيهما إثماً , اختار أقربهما إلى رحمة أهله وهداية قومه وتأليف خصمه، وأبعدهما عن الغلظة والجفاء، وعن إثارة الشبه في دين الله. لم يكن بين يديه نص فخالفه كفاحاً، أو جاوزه خطأ ونسياناً، بل كل ذنبه أنه مجتهد بذل وسعه في النظر، ورأى نفسه مخيراً فتخير. هَبْهُ مجتهداً أخطأ باختيار خلاف الأفضل، أليس معذوراً ومأجوراً؟ على أن الذي اختاره كان هو خير ما يختاره ذو حكمه بشرية وإنما نبهه القرآن إلى ما هو أرجح في ميزان الحكمة الإلهية، هل ترى في ذلك ذنباً ¬

(¬1) النبأ العظيم، ص:24. (¬2) دين الإسلام، للايتنر، ترجمة عبد الوهاب سليم (ص:132) ، المكتبة السلفية، دمشق، 1423هـ.، وذكر أن لايتنر هو باحث انجليزي حصل على أكثر من شهادة دكتوراة في الشريعة والفلسفة واللاهوت، زار الأستانة عام 1854م.

يستوجب عند العقل هذا التأنيب والتثريب؟ أم هو مقام الربوبية ومقام العبودية، وسنة العروج بالحبيب في معارج التعليم والتأديب؟ . توفي عبد الله بن أُبي كبير المنافقين، فكفنه النبي في ثوبه وأراد أن يستغفر له ويصلي عليه، فقال عمر رضي الله عنه: أتصلي عليه وقد نهاك ربك؟ فقال (: إنما خيرني ربي فقال {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة} [التوبة: 80] وسأزيده على السبعين، وصلى عليه، فأنزل الله تعالى: {ولا تصل على أحدٍ منهم مات أبداً ولا تقم على قبره} [التوبة:84] فترك الصلاة عليهم) (¬1) ؛ اقرأ هذه القصة الثابتة برواية الصحيحين , وانظر ماذا ترى؟ إنها لتمثل لك نفس هذا العبد الخاضع , وقد اتخذ من القرآن دستوراً يستملي أحكامه من نصوصه الحرفية، وتمثل لك قلب هذا البشر الرحيم وقد آنس من ظاهر النص الأول تخييراً له بين طريقين , فسرعان ما سلك أقربهما إلى الكرم والرحمة , ولم يلجأ إلى الطريق الآخر إلا بعد ما جاءه النص الصريح بالمنع. وهكذا كلما درست مواقف الرسول من القرآن في هذه المواطن أو غيرها , تجلى لك فيه معنى العبودية الخاضعة , ومعنى البشرية الرحيمة الرقيقة؛ وتجلى لك في مقابل ذلك من جانب القرآن معنى القوة التي لا تتحكم فيها البواعث والأغراض , بل تصدع بالبيان فرقاناً بين الحق والباطل، وميزاناً للخبيث والطيب، أحب الناس أم كرهوا، رضوا أم سخطوا، آمنوا أم كفروا، إذ لا تزيدها طاعة الطائعين ولا تنقصها ¬

(¬1) متفق عليه (البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب قوله استغفر لهم أو لا تستغفر لهم، رقم:4393، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر، رقم: 2400) .

معصية العاصين، فترى بين المقامين ما بينهما، وشتان ما بين سيد ومسود، وعابد ومعبود) (¬1) . 6- نسبة محمد (صلى الله عليه وسلم) القرآن إلى الله لا تكون احتيالاً منه لبسط نفوذه، وإلا لِمَ لَمْ ينسب أقواله كلها إلى الله (¬2) . (ولو أننا افترضناه افتراضاً لما عرفنا له تعليلاً معقولاً ولا شبه معقول , اللهم إلا شيئاً واحداً قد يحيك في صدر الجاهل، وهو أن يكون هذا الزعيم قد رأى أن في (نسبته القرآن إلى الوحي الإلهي) ما يعينه على استصلاح الناس باستيجاب طاعته عليهم , ونفاذ أمره فيهم؛ لأن تلك النسبة تجعل لقوله من الحرمة والتعظيم ما لا يكون له لو نسبه إلى نفسه. وهذا قياس فاسد في ذاته، فاسد في أساسه؛ أما أنه فاسد في ذاته , فلأن صاحب هذا القرآن قد صدر عنه الكلام المنسوب إلى نفسه والكلام المنسوب إلى الله تعالى فلم تكن نسبته ما نسبه إلى نفسه بناقصةٍ من لزوم طاعته شيئاً، ولا نسبة ما نسبه إلى ربه بزائدةٍ فيها شيئاً، بل استوجب على الناس طاعته فيهما على السواء، فكانت حرمتها في النفوس على سواء، وكانت طاعته من طاعة الله، ومعصيته من معصية الله , فهلا جعل كل أقواله من كلام الله تعالى لو كان الأمر كما يهجس به ذلك الوهم. وأما فساد هذا القياس من أساسه؛ فلأنه مبني على افتراض باطل، وهو تجويز أن يكون هذا الزعيم من أولئك الذين لا يأبون في الوصول إلى غاية إصلاحية أن يعبروا إليها على قنطرة من الكذب والتمويه ¬

(¬1) النبأ العظيم، ص:28-30. (¬2) شبهات حول القرآن وتفنيدها، د. غازي عناية، (ص:21) .

, وذلك أمر يأباه علينا الواقع التاريخي كل الإباء , فإن من تتبع سيرته الشريفة في حركاته وسكناته، وعباراته وإشاراته، في رضاه وغضبه، في خلوته وجلوته لا يشك في أنه كان أبعد الناس عن المداجاة والمواربة، وأن ذلك كان أخص شمائله وأظهر صفاته قبل النبوة وبعدها كما شهد ويشهد به أصدقاؤه وأعداؤه إلى يومنا هذا (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عُمُراً من قبله أفلا تعقلون ( [يونس: 16] ) (¬1) . وقد قدمنا أن النبي (صلى الله عليه وسلم) شهد بصدقه الصديق والعدو، وشهد بصدقه من عاشره ومن رآه لأول وهلة، ومن سمع به وبأخباره. ونزيد على ما سبق شهادة أكبر المعاندين في قريش , ورأس الكفر , وفرعون هذه الأمة أبو جهل فعن علي رضي الله عنه أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ (: إِنَّا لَا نُكَذِّبُكَ وَلَكِنْ نُكَذِّبُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ((¬2) . 7- (في بعض المواقف تكون حاجة النبي (صلى الله عليه وسلم) للقرآن شديدة، بل لقد كانت تنزل به نوازل من شأنها أن تحفزه إلى القول، وكانت حاجته القصوى تلح عليه أن يتكلم، بحيث لو كان الأمر إليه لوجد له مقالاً ومجالاً، ولكنه كانت تمضي الليالي والأيام تتبعها الليالي والأيام, ولا يجد في شأنها قرآناً يقرؤه على الناس؛ ومع هذا لم يتقوله ولم ينزل عليه شيء) (¬3) ، مما يدلك ¬

(¬1) النبأ العظيم، ص:17-20. (¬2) أخرجه الترمذي (كتاب تفسير القرآن، باب من سورة الأنعام، رقم:3064) من طريقين مرفوعا عن علي رضي الله عنه ومرسلا عن ناجية بن كعب، ويتقوى بعضها ببعض لاسيما أن السيوطي في الدر المنثور (3/264) ذكر أن عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه أخرجوه عن أبي ميسرة. (¬3) آراء المستشرقين لرضوان (1/388) .

على صدقه؛ إذ الكاذب لا يتأخر في افتراء الكذب عند الحاجة الماسة إليه، وإليك بعض الأمثلة على ذلك: أ-عن ابن عباس قال: بعثت قريش النضر بن الحارث , وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة , فقالوا لهم: سلوهم عن محمد , وصفوا لهما صفته , وأخبروهم بقوله؛ فإنهم أهل الكتاب الأول , وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى أتيا المدينة فسألوا أحبار يهود عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) , ووصفوا لهم أمره وبعض قوله وقالا: إنكم أهل التوراة , وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. قال: فقالوا لهم: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن , فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل وإلا فرجل متقول فتروا فيه رأيكم؛ سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم , فإنهم قد كان لهم حديث عجب، وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه، وسلوه عن الروح ما هو؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه , وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم. فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش , فقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد , قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور. فأخبروهم بها فجاءوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) , فقالوا: يا محمد أخبرنا فسألوه عما أمروهم به , فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : «أخبركم غدا عما سألتم عنه» ولم يستثن فانصرفوا عنه ومكث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خمس عشرة ليلة , لا يُحْدِثُ الله له في ذلك وحيًا, ولا يأتيه جبرائيل عليه السلام حتى أرجف أهل مكة , وقالوا: وعدنا محمد غدًا , واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها لا

يخبرنا بشيء عما سألناه عنه، وحتى أحزن رسولَ الله (مُكْثُ الوحي عنه, وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبرائيل- عليه السلام - من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف , فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم , وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية , والرجل الطواف , وقول الله عز وجل (ويسألونك عن الروح قل الروح (الآية (¬1) . ب- فترة الوحي في حادث الإفك (¬2) : (ألم يرجف المنافقون بحديث الإفك عن زوجه -عائشة رضي الله- عنها وأبطأ الوحي، وطال الأمر والناس يخوضون، حتى بلغت القلوب الحناجر , وهو لا يستطيع إلا أن يقول بكل تحفظ واحتراس: «إني لا أعلم عنها إلا خيراً» . ثم إنه بعد بذل جهده في التحري والسؤال واستشارة الأصحاب، ومضى شهر بأكمله , والكل يقولون ما علمنا عليها من سوء، لم يزد على أن قال لها آخر الأمر: «يا عائشة أما إنه بلغني كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله» . هذا كلامه بوحي ضميره، وهو كما ترى كلام البشر الذي لا يعلم الغيب، وكلام الصدّيق المتثبت الذي لا يظن ولا يقول ما ليس له به علم، على أنه لم يغادر مكانه بعد أن قال هذه الكلمات حتى نزل صدر سورة النور معلناً براءتها، ومصدراً الحكم المبرم بشرفها وطهارتها. ¬

(¬1) قال السيوطي في الدر المنثور (5/357) : أخرج ابن اسحاق وابن جرير وابن المنذر وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل. (¬2) متفق عليه عن عائشة (البخاري: كتاب الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضا، رقم:2518، ومسلم: كتاب التوبة، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف، رقم:2770) .

فماذا كان يمنعه - لو أن أمر القرآن إليه - أن يتقول هذه الكلمات الحاسمة من قبل؛ ليحمي بها عرضه , ويذب بها عن عرينه , وينسبها إلى الوحي السماوي , لتنقطع ألسنة المتخرصين؟ ولكنه ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله {ولو تقول علينا بعض الأقاويل، لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحدٍ عنه حاجزين} [سورة الحاقة الآيات: 44- 47] (¬1) . ج-لقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يتحرق شوقا إلى تحويل القبلة إلى الكعبة، وظل يقلب وجهه في السماء ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا , لعل الوحي ينزل عليه بتحويل القبلة إلى البيت الحرام , ولكن رب القرآن لم ينزل في هذا التحويل قرآنا ,على الرغم من تلهف رسوله الكريم إليه إلا بعد قرابة عام ونصف العام (¬2) . عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا , وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) فَتَوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ ... ) (¬3) . ولو كان الوحي من تأليف النبي (صلى الله عليه وسلم) , لما تأخر كل هذه المدة لشيء يحبه ويشتهيه ويتشوف إليه ويتحرق شوقا له، ولكنه وحي الله ولا ينزل إلا بأمر الله وإذنه. ¬

(¬1) النبأ العظيم، ص: 20) . (¬2) المستشرقون وشبهاتهم حول القرآن، للحكيم (ص:56) . (¬3) متفق عليه (البخاري: كتاب الصلاة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان، رقم:399،ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة، رقم:525) .

8-توقف الرسول (صلى الله عليه وسلم) أحياناً في فهم مغزى النص حتى يأتيه البيان: (لقد كان يجيئه الأمر أحياناً بالقول المجمل , أو الأمر المشكل الذي لا يستبين هو ولا أصحابه تأويله , حتى ينزل الله عليهم بيانه بعد. قل لي بربك: أي عاقل توحي إليه نفسه كلاماً لا يفهم هو معناه، وتأمره أمراً لا يعقل هو حكمته؟ . أليس ذلك من الأدلة الواضحة على أنه ناقل لا قائل، وأنه مأمور لا آمر؟ . وإليك بعض هذه الأمثلة: -المثال الأول: موقفه في قضية المحاسبة على النيات: نزل قوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} [البقرة: 284] فأزعجت الصحابة إزعاجاً شديداً، وداخل قلوبهم منها شيء لم يدخلها من شيء آخر؛ لأنهم فهموا منها أنهم سيحاسبون على كل شيء حتى حركات القلوب وخطراتها؛ فقالوا: يارسول الله أنزلت علينا هذه الآية ولا نطيقها، فقال لهم النبي (صلى الله عليه وسلم) : «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير» فجعلوا يتضرعون بهذه الدعوات حتى أنزل الله بيانها بقوله: (لا يكلف الله نفساً إلى وسعها (إلى آخر السورة المذكورة (¬1) ، وهنالك علموا أنهم إنما يحاسبون على ما يطيقون من شأن القلوب , وهو ما كان من النيات المكسوبة والعزائم المستقرة، لا من الخواطر والأماني الجارية على النفس بغير اختيار. ¬

(¬1) أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، باب بيان أنه سبحانه لا يكلف إلا الوسع، رقم:125) .

وموضع الشاهد منه أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لو كان يعلم تأويلها من أول الأمر لبين لهم خطأهم وهم في أشد الحاجة إليه، ولم يكن ليتركهم لهذا الهلع الذي كاد يخلع قلوبهم وهو بهم رؤوفٌ رحيم، ولكنه كان مثلهم ينتظر تأويلها، ولأمر ما أخر الله عنهم هذا البيان، ولأمر ما وضع حرف التراخي في قوله تعالى: {ثم إن علينا بيانه} [القيامة: 19] . المثال الثاني: مسلكه في قضية الحديبية: اقرأ في صحيح البخاري (¬1) وغيره قضية الحديبية، ففيها آية بينة: أذن الله للمؤمنين أن يقاتلوا من يعتدي عليهم أينما وجدوه، غير ألا يقاتلوا في الحرم من لم يقاتلهم فيه نفسه، فقال تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} [البقرة: 190] فلما أجمعوا زيارة البيت الحرام في ذلك العام وهو العام السادس من الهجرة أخذوا أسلحتهم حذراً أن يقاتلهم أحد فيدافعوا عن أنفسهم الدفاع المشروع. ولما أشرفوا على حدود الحرم علموا أن قريشاً قد جمعت جموعها على مقربة منهم , فلم يثن ذلك من عزمهم؛ لأنهم كانوا على تمام الأُهبة، بل زادهم ذلك استبسالاً وصمموا على المضي إلى البيت , فمن صدهم عنه قاتلوه، وكانت قريش قد نهكتها الحروب , فكانت البواعث كلها متضافرة والفرصة سانحة للالتحام في موقعة فاصلة يتمكن فيها الحق من الباطل فيدمغه. وإنهم لسائرون عند الحديبية إذ بَرَكت راحلة النبي (صلى الله عليه وسلم) وأخذ أصحابه يثيرونها إلى جهة الحرم فلا تثور، فقالوا: خلأت القصواء - أي حرنت الناقة - فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) : «ما خلأت القصواء، وما ذاك لها ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، رقم:2583.

بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل» يعني أن الله الذي اعتقل الفيل ومنع أصحابه من دخول مكة محاربين, هو الذي اعتقل هذه الناقة ومنع جيش المسلمين من دخولها الآن عنوة. وهكذا أيقن أن الله تعالى لم يأذن لهم في هذا العام بدخول مكة مقاتلين، لا بادئين ولا مكافئين، وزجر الناقة فثارت إلى ناحية أخرى , فنزل بأصحابه في أقصى الحديبية، وعدل بهم عن متابعة السير امتثالاً لهذه الإشارة الإلهية , التي لا يعلم حكمتها، وأخذ يسعى لدخول مكة من طريق الصلح مع قريش قائلاً: «والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها» ولكن قريشاً أبت أن يدخلها في هذا العام لا محارباً ولا مسالماً، وأملت عليه شروطاً قاسية بأن يرجع من عامه، وأن يرد كل رجل يجيئه من مكة مسالماً، وألا ترد هي أحداً يجيئها من المدينة تاركاً لدينه، فقبل تلك الشروط التي لم يكن ليمليها مثل قريش في ضعفها على مثل المؤمنين في قوتهم، وأمر أصحابه بالتحلل من عمرتهم وبالعودة من حيث جاءوا. فلا تسل عما كان لهذا الصلح من الوقع السيء في نفوس المسلمين، حتى إنهم لما جعلوا يحلقون بعضهم لبعض كاد يقتل بعضهم بعضاً ذهولاً وغماً، وكادت تزيغ قلوب فريق من كبار الصحابة فأخذوا يتساءلون فيما بينهم ويراجعونه هو نفسه قائلين: لِمَ نعطي الدنية في ديننا؟ وهكذا كاد الجيش يتمرد على إمرة قائده ويفلت حبله من يده. أفلم يكن من الطبيعي إذ ذاك لو كان هذا القائد هو الذي وضع هذه الخطة بنفسه أو اشترك في وضعها أو وقف على أسرارها أن يبين لكبار الصحابة , حكمة هذه التصرفات التي فوق العقول، حتى يطفئ نار الفتنة قبل أن يتطاير شررها؟

ولكن انظر كيف كان جوابه حين راجعه عمر: (إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري) يقول: إنما أنا عبد مأمور ليس لي من الأمر شيء إلا أن انفذ أمر مولاي واثقاً بنصره قريباً أو بعيداً، وهكذا ساروا راجعين وهم لا يدرون تأويل هذا الإشكال حتى نزلت سورة الفتح , فبينت لهم الحكم الباهرة والبشارات الصادقة فإذا الذي ظنوه ضيماً وإجحافاً في بادئ الرأي كان هو النصر المبين والفتح الأكبر وأين تدبير البشر من تدبير القدر؛ {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيراً، هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفاً أن يبلغ محله ولولا رجالٌ مؤمنون ونساءٌ مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرةٌ بغير علمٍ ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيءٍ عليماً لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخُلُن المسجد الحرام أن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلِم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً} [سورة الفتح الآيات: 24-27] ) (¬1) . 9-إخباره في هذا الكتاب بأمور تحصل بعد موته وعلوم لم تكن في عصره, وقد قيل: يمكن أن تخدع كل الناس بعض الوقت، ويمكن أن تخدع بعض الناس كل الوقت، ولكن لا يمكن أن تخدع كل الناس كل الوقت، ¬

(¬1) النبأ العظيم، ص:30-34.

فلنفرض أن النبي (صلى الله عليه وسلم) استطاع أن يخدع كل من كان في زمنه، ألا يخشى أن ينكشف بعد ذلك إذا ازداد الناس علما، فهو يخبر بأمور فلكية وأخرى طبية وأمور جغرافية، ويخبر بأحداث سوف تقع بعد موته، ويتكلم بعلوم لم يعرفها أهل زمانه، كل هذا وهو مطمئن القلب لصدق نفسه، ثم لا يأتي الواقع إلا مطابقا لما قال، ولا يأتي العلم -على تقدمه الكبير- إلا بتأكيد كلامه وتأييد آرائه، أليس في هذا دليل أنه لا يتحدث من قبل نفسه , بل من قبل من يعلم السر والنجوى الذي لا تخفى عليه خافية. قالت بوتر (¬1) : (كيف استطاع محمد (صلى الله عليه وسلم) الرجل الأمي, الذي نشأ في بيئة جاهلية أن يعرف معجزات الكون التي وصفها القرآن الكريم، والتي لا يزال العلم الحديث حتى يومنا هذا يسعى لاكتشافها؟ لابد إذن أن يكون هذا الكلام هو كلام الله عز وجل) (¬2) . 10-منهجه في كيفية تلقي النص أول عهده بالوحي (¬3) : (ولقد كان حين ينزل عليه القرآن في أول عهده بالوحي يتلقفه متعجلاً ,فيحرك به لسانه وشفتيه طلباً لحفظه، وخشية ضياعه من صدره، ولم يكن ذلك معروفاً من عادته في تحضير كلامه، لا قبل دعواه النبوة ولا بعدها، ولا كان ذلك من عادة العرب، إنما كانوا يزورون كلامهم في أنفسهم، فلو كان القرآن منبجساً من معين نفسه لجرى على سنة كلامه وكلامهم ولكان له من الروية والأناة الصامتة ما يكفل له حاجته؛ من إنضاج الرأي , وتمحيص الفكرة، ولكنه كان يرى نفسه أمام تعليم يفاجئه وقتياً ويلم به سريعاً، بحيث لا تجدي الروية شيئاً في اجتلابه لو ¬

(¬1) تقدمت ترجمتها ص 187. (¬2) قالوا عن الإسلام (ص55) (¬3) المستشرقون وشبهاتهم حول القرآن، للحكيم (ص:52) .

طلب، ولا في تداركه واستذكاره لو ضاع منه شيء ,وكان عليه أن يعيد كل ما يلقى إليه حرفياً، فكان لابد له في أول عهده بتلك الحال الجديدة التي لم يألفها من نفسه, أن يكون شديد الحرص على المتابعة الحرفية، حتى ضمن الله له حفظه وبيانه بقوله: (لا تحرك به لسانك لتعجل به (الآيات [القيامة: 16] ، وقوله: {ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل ربي زدني علما} [طه: 114] . هذا طرفٌ من سيرته بإزاء القرآن، وهي شواهد ناطقة بصدقه في أن القرآن لم يصدر عنه بل ورد إليه، وأنه لم يفض عن قلبه بل أفيض عليه) (¬1) . 11-أليس يكفي للحكم ببراءة الإنسان من عمل من الأعمال , أن يقوم من الطبيعة شاهدٌ بعجزه المادي عن إنتاج ذلك العمل؟ . فلينظر العاقل: هل كان هذا النبي الأمي (أهلاً بمقتضى وسائله العلمية , لأن تجيش نفسه بتلك المعاني القرآنية؟. سيقول الجهلاء من الملحدين: نعم. فقد كان له من ذكائه الفطري وبصيرته النافذة ما يؤهله لإدراك الحق والباطل من الآراء , والحسن القبيح من الأخلاق, والخير والشر من الأفعال، حتى لو أن شيئاً في السماء تناله الفراسة , أو تلهمه الفطرة , أو توحي به الفكرة, لتناوله محمد بفطرته السليمة وعقله الكامل وتأملاته الصادقة. ونحن قد نؤمن بأكثر مما وصفوا من شمائله، ولكننا نسأل: هل كل ما في القرآن مما يستنبطه العقل والتفكير، ومما يدركه الوجدان والشعور؟ اللهم كلا. ¬

(¬1) النبأ العظيم، ص: 34

طبيعة المعاني القرآنية ليست كلها مما يدرك بالذكاء وصدق الفراسة فمن ذلك: أ - أنباء الماضي لا سبيل إليها إلا بالتلقي والدراسة: ففي القرآن جانب كبير من المعاني النقلية البحتة , التي لا مجال فيها للذكاء والاستنباط، ولا سبيل إلى علمها لمن غاب عنها إلا بالدراسة والتلقي والتعلم؛ ماذا يقولون فيما قصه علينا القرآن من أنباء ما قد سبق وما فصله من تلك الأنباء على وجهه الصحيح كما وقع؟ أيقولون: إن التاريخ يمكن وضعه أيضاً بإعمال الفكر ودقة الفراسة؟ أم يخرجون إلى المكابرة العظمى فيقولون إن محمداً قد عاصر تلك الأمم الخالية، وتنقل فيها فشهد هذه الوقائع مع أهلها شهادة عيان، أو أنه ورث كتب الأولين وعكف على دراستها حتى أصبح من الراسخين في علم دقائقها؟ إنهم لا يسعهم أن يقولوا هذا ولا ذاك، لأنهم معترفون مع العالم كله بأنه (لم يكن من أولئك ولا من هؤلاء {وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم} [سورة آل عمران الآية: 44] ، {وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون} [سورة يوسف الآية: 102] ، {وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر} [سورة القصص الآية: 44] ، {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخُطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون} [سورة العنكبوت الآية: 48] ، {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا} [سورة هود الآية: 49] ، {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين} [سورة يوسف الآية: 3] . لا نقول إن العلم بأسماء بعض الأنبياء والأمم الماضية , وبمجمل ما جرى من حوادث التدمير في ديار عاد وثمود وطوفان نوح

وأشباه ذلك لم يصل قط إلى الأميين؛ فإن هذه النتف اليسيرة قلما تعزب عن أحد من أهل البدو أو الحضر؛ لأنها مما توارثته الأجيال وسارت به الأمثال، وإنما الشأن في تلك التفاصيل الدقيقة والكنوز المدفونة في بطون الكتب , فذلك هو العلم النفيس الذي لم تنله يد الأميين , ولم يكن يعرفه إلا القليل من الدارسين، وإنك لتجد الصحيح المفيد من هذه الأخبار محرراً في القرآن، حتى الأرقام طبق الأرقام: فترى مثلاً في قصة نوح عليه السلام في القرآن أنه لبث في قومهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، وفي سفر التكوين من التوراة أنه عاش تسعمائة وخمسين سنة، وترى في قصة أصحاب الكهف عند أهل الكتاب أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة شمسية، وفي القرآن أنهم لبثوا في كهفهم {ثلاثمائةٍ سنين وازدادوا تسعاً} [سورة الكهف الآية:25] وهذه السنون التسع هي فرق ما بين عدد السنين الشمسية والقمرية؛ قاله الزجاج يعني بتكميل الكسر. فانظر إلى هذا الحساب الدقيق في أمة أمية لا تكتب ولا تحسب. كَفَاكَ بِالْعِلْمِ فِي الأُمِّيَّ مُعْجِزَةًً فِي الجْاَهِلِيَّةِ والتَّأدِيبِ فِي اليُتْمِ نعم إنها لعجيبة حقاً: رجل أمي بين أظهر قوم أميين، يحضر مشاهدهم - في غير الباطل والفجور - ويعيش معيشتهم مشغولاً برزق نفسه وزوجه وأولاده، راعياً بالأجر، لا صلة له بالعلم والعلماء؛ يقضي في هذا المستوى أكثر من أربعين سنة من عمره، ثم يطلع علينا فيما بين عشية وضحاها , فيكلمنا بما لا عهد له به في سالف حياته , وبما لم يتحدث إلى أحد بحرف واحد منه قبل ذلك، ويبدي لنا من أخبار تلك القرون الأولى ما أخفاه أهل العلم في دفاترهم وقماطرهم؟ أفي مثل هذا يقول الجاهلون إنه استوحى عقله واستلهم ضميره؟ أي منطق يسوغ أن يكون هذا الطور الجديد العملي نتيجة طبيعة لتلك الحياة الماضية الأمية؟ إنه لا مناص في قضية العقل من أن يكون لهذا الانتقال

الطفري سر آخر يُلتمس خارجاً عن حدود النفس وعن دائرة المعلومات القديمة، وإن ملاحدة الجاهلية وهم أجلاف الأعراب في البادية كانوا في الجملة أصدق تعليلاً لهذه الظاهرة , وأقرب فهماً لهذا السر من ملاحدة هذا العصر، إذ لم يقولوا كما قال هؤلاء إنه استقى هذه الأخبار من وحي نفسه، بل قالوا: إنه لابد أن تكون قد أمليت عليه منذ يومئذ علوم جديدة؛ فدرس منها ما لم يكن قد درس، وتعلم ما لم يكن يعلم {وكذلك نصرف الآيات وليقولوا دَرَستَ} [سورة الأنعام الآية: 105] ، {وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا} [سورة الفرقان الآية: 5] . ولقد صدقوا؛ فإنه درسها، ولكن على أستاذه الروح الأمين، واكتتبها، ولكن من صحفٍ مكرمةٍ مرفوعةٍ مطهره، بأيدي سفرةٍ كرامٍ برره {قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عُمُراً من قبله أفلا تعقلون} [يونس:16] . ذلك شأن ما في القرآن من الأنباء التاريخية، لا جدال في أن سبيلها النقل لا العقل، وأنها تجيء من خارج النفس لا من داخلها. أما سائر العلوم القرآنية فقد يقال: إنها من نوع ما يدرك بالعقل، فيمكن أن ينالها الذكي بالفراسة والروية. وهذا كلام قد يلوح حقاً في بادئ الرأي، ولكنه لا يلبث أن ينهار أمام الاختبار، ذلك أن العقول البشرية لها في إدراك الأشياء طريق معين تسلكه، وحدٌ محدود تقف عنده ولا تتجاوزه، فكل شيء لم يقع تحت الحس الظاهر أو الباطن مباشرة، ولم يكن مركوزاً في غريزة النفس، إنما يكون إدراك العقول إياه عن طريق مقدمات معلومة توصل إلى ذلك المجهول، إما بسرعة كما في الحَدْسِ (¬1) ,وإما ببطء كما في الاستدلال والاستنباط والمقايسة (¬2) ، وكل ما لم تمهد له هذه الوسائل والمقدمات , لا يمكن أن تناله يد العقل بحال، وإنما سبيله الإلهام، أو النقل عما جاءه ذلك الإلهام. فهل ما في القرآن من المعاني غير التاريخية كانت حاضرة الوسائل والمقدمات في نظر العقل؟ ذلك ما سيأتي نبأه بعد حين، ولكننا نعجل لك الآن بمثالين من تلك المعاني نكتفي بذكرهما هنا عند إعادتهما بعد: أحدهما: قسم العقائد الدينية. والثاني: قسم النبوءات الغيبية. ب - الحقائق الدينية الغيبية لا سبيل للعقل إليها: فأما أمر الدين فإن غاية ما يجتنيه العقل من ثمرات بحثه المستقل فيه، بعد معاونة الفطرة السليمة له، هو أن يعلم أن فوق هذا العالم إلهاً قاهراً دبره , وأنه لم يخلقه باطلاً، بل وضعه على مقتضى الحكمة والعدالة؛ فلابد أن يعيده كرةً أخرى لينال كل عامل جزاء عمله , إن خيراً وإن شراً. هذا هو كل ما يناله العقل الكامل من أمر الدين، ولكن القرآن لا يقف في جانبه عند هذه المرحلة؛ بل نراه يشرح لنا حدود الإيمان مفصلة، ويصف لنا بدء الخلق ونهايته، ويصف الجنة وأنواع نعيمها، والنار وألوان عذابها، كأنهما رأي عين، حتى إنه ليحصي عدة الأبواب، ¬

(¬1) الحدس: الظن والتخمين. (¬2) المقايسة: القياس وهو الاستدلال على الشيء بمثيله أو شبيهه.

وعدة الملائكة الموكلة بتلك الأبواب، فعلى أي نظرية عقلية بنيت هذه المعلومات الحسابية، وتلك الأوصاف التحديدية؟ إن ذلك ما لا يوحي به العقل البتة، بل هو إما باطل فيكون من وحي الخيال والتخمين، وإما حق فلا ينال إلا بالتعليم والتلقين، لكنه الحق الذي شهدت به الكتب واستيقنه أهلها {وما جعلنا عدتهم إلا فتنةً للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيماناً} [المدثر: 31] ، {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} [الشورى: 52] ، {ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون} [ص: 69] ، {وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه من الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين} [يونس: 37] . ج -أنباء المستقبل قد تستنبط بالمقايسة الظنية , ولكنها لا سبيل فيها لليقين إلا بالوحي الصادق: وأما النبوءات الغيبية فهل تعرف كيف يحكم فيها ذو العقل الكامل؟ إنه يتخذ من تجاربه الماضية مصباحاً يكشف على ضوئه بضع خطوات من مجرى الحوادث المقبلة، جاعلاً الشاهد من هذه مقياساً للغائب من تلك، ثم يصدر فيها حكماً محاطاً بكل تحفظ وحذر، قائلاً: (ذلك ما تقضي به طبيعة الحوادث لو سارت الأمور على طبيعتها , ولم يقع ما ليس في الحسبان) . أما أن يبت الحكم بتاً , ويحدده تحديدا ,ً حتى فيما لا تدل عليه مقدمة من المقدمات العلمية، ولا تلوح منه أمارة من الأمارات الظنية العادية، فذلك ما لا يفعله إلا أحد رجلين: إما رجل مجازف لا يبالي أن يقول الناس فيه صدق أو كذب، وذلك هو دأب جهلاء المتنبئين من العرافين والمنجمين. وإما رجل اتخذ عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده، وتلك هي سنة الأنبياء والمرسلين،

ولا ثالث لهما إلا رجلاً روى أخباره عن واحد منهما. فأي الرجلين تراه في صاحب هذا القرآن حينما يجيء على لسانه الخبر الجازم بما سيقع بعد عام وما سيقع في أعوام، وما سيكون أبد الدهر، وما لن يكون أبد الدهر؟ ذلك وهو لم يتعاط علم المعرفة والتنجيم , ولا كانت أخلاقه كأخلاقهم تمثل الدعوى والتقحم، ولا كانت أخباره كأخبارهم خليطاً من الصدق والكذب، والصواب والخطأ. بل كان مع براءته من علم الغيب وقعوده عن طلبه وتكلفه، يجيئه عفواً ما تعجز صروف الدهر وتقلباته في الأحقاب المتطاولة أن تنقض حرفاً واحداً مما ينبئ به {وإنه لكتابٌ عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من حكيمٍ حميد} [فصلت: 41-42] . ولنسرد لك هاهنا بعض النبوءات القرآنية مع بيان شيء من ملابساتها التاريخية؛ لترى هل كانت مقدماتها القريبة أو البعيدة حاضرة فتكون تلك النبوءات من جنس ما توحي به الفراسة والألمعية؟ مثال ذلك: -ما جاء في بيان أن هذا الدين قد كتب الله له البقاء والخلود، وأن هذا القرآن قد ضمن الله حفظه وصيانته {كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض} [الرعد: 17] ، {ألم ترَ كيف ضرب الله مثلاً كلمةً طيبةً أصلها ثابتٌ وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حينٍ بإذن ربها} [إبراهيم:24-25] ، {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9] . أتعلم متى وأين صدرت هذه البشارات المؤكدة، بل العهود الوثيقة؟ إنها آيات مكية من سور مكية، وأنت قد تعرف ما أمر الدعوة المحمدية في مكة؟ عشر سنوات كلها إعراض من قومه عن الاستماع لقرآن، وصد لغيرهم عن الإصغاء له، واضطهاد وتعذيب لتلك الفئة القليلة التي آمنت به، ثم مقاطعة له ولعشيرته ومحاصرتهم مدة غير يسيرة في شِعب من شِعاب مكة، ثم مؤامرات سرية أو علنية على قتله أو نفيه، فهل للمرء أن يلمح في ثنايا هذا الليل الحالك , الذي طوله عشرة أعوام، شعاعاً ولو ضئيلاً من الرجاء أن يتنفس صبحه عن الإذن لهؤلاء المظلومين برفع صوتهم وإعلان دعوتهم؟ ولو شام المصلح تلك البارقة من الأمل في جوانب نفسه من طبيعة دعوته، لا في أفق الحوادث، فهل يتفق له في مثل هذه الظروف أن يربوا في نفسه الأمل حتى يصير حكماً قاطعاً؟ وهَبْهُ امتلأ رجاء بظهور دعوته في حياته ما دام يتعهدها بنفسه، فمن يتكفل له بعد موته ببقاء هذه الدعوة وحمايتها وسط أمواج المستقبل العاتية؟ وكيف يجيئه اليقين في ذلك , وهو يعلم من عبر الزمان ما يفت في عضد هذا اليقين؟ فكم من مصلح صرخ بصيحات الإصلاح , فما لبثت أصواته أن ذهبت أدراج الرياح! وكم من مدينة قامت في التاريخ ثم عفت ودرست آثارها! وكم من نبي قتل! وكم من كتابٍ فقد أو انتقص أو بدل! وهل كان محمد (صلى الله عليه وسلم) ممن تستخفه الآمال فيجري مع الخيال؟ إنه ما كان قبل نبوته يطمع في أن يكون نبياً يوحى إليه {وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمةً من ربك} [القصص:86] ولا كان بعد نبوته يضمن لنفسه أن يبقى هذا الوحي محفوظاً لديه {ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلاً إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيراً} [الإسراء: 86-87] ؛ فلابد إذاً من كفيل بهذا الحفظ من خارج نفسه، ومن ذا الذي يملك هذا الضمان على الدهر المتقلب المملوء بالمفاجآت؟ إلا رب الدهر الذي بيده زمام الحوادث كلها، والذي قدر مبدأها ومنتهاها، وأحاط علماً بمجراها ومرساها، فلولا فضل الله ورحمته الموعود بهما في الآية الآنفة , لما استطاع القرآن أن يقاوم تلك الحروب العنيفة التي أقيمت ولا تزال تقام عليه بين آن وآن. سل التاريخ: كم مرةٍ تنكر الدهر لدول الإسلام , وتسلط الفجار على المسلمين , فأثخنوا فيهم القتل، وأكرهوا أمماً منهم على الكفر، وأحرقوا الكتب، وهدموا المساجد؛ وصنعوا ما كان يكفي القليل منه لضياع هذا القرآن كلاً أو بعضاً كما فعل بالكتب قبله؛ لولا أن يد العناية تحرسه , فبقي في وسط هذه المعامع رافعا راياته وأعلامه، حافظا آياته وأحكامه، بل اسأل صحف الأخبار اليومية كم من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة تنفق في كل عام لمحو هذا القرآن ,وصد الناس عن الإسلام بالتضليل والبهتان والخداع والإغراء ثم لا يظفر أهلها من وراء ذلك إلا بما قال الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36] ، ذلك بأن الذي يمسكه أن يزول هو الذي يسمك السماوات والأرض أن تزولا، ذلك بأن الله {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} [التوبة: 33] ، والله بالغ أمره ومتم نوره , فظهر وسيبقى ظاهرا لا يضره من خالفه حتى يأتي أمر الله) (¬1) . 12-لماذا يستبعد المستشرقون إمكانية نزول الوحي على النبي (صلى الله عليه وسلم) عن طريق جبريل، مع أن كثيرا منهم يُسَلَّّمُون بأبعد من ذلك؛ فهم ¬

(¬1) النبأ العظيم، ص:38-47.

يؤمنون إيمانا كاملا بأن موسى عليه السلام قد تلقى التوراة من الله تعالى مباشرة من غير واسطة؟ 13-وانظر إلى هذا التناقض؛ تارة يصفون النبي (صلى الله عليه وسلم) بأنه عبقري , وفنان موهوب, وملهم (¬1) استطاع بذكائه الشديد أن يصنع هذا الدين والقرآن، وتارة يقولون هو, مجنون , أو مصروع ,أو مهووس (¬2) ؛ ألا ترى كيف أوقعهم بغضهم للحق في هذه المضحكات؟ وتأمل كيف استطاعت خديجة - رضي الله عنها- بفطرتها البسيطة أن تعرف أن ما يأتي النبي (صلى الله عليه وسلم) ليس شيطانا وجنونا ولا هَوَساً حين قالت: (كلا واللهِ لا يُخزِيكَ اللهُ أبداً؛ إنك لَتَصِلُ الرَّحِمَ وتحمل الكلَّ , وتُكْسِبُ المعدومَ وتُقْرِِِي الضَّيْفَ وتُعِينُ على نوائبِ الحقَّ) (¬3) . فما أبعد هذا الكمال الإنساني عن الهوس الذي قد يملي على صاحبه مواقف غريبة وأفعالا منكرة ينبو عنها الذوق السليم، لذلك فإن بعضهم لا يملك نفسه عندما يقرأ سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) وما يأمر به إلا أن يسلم بنبوته؛ يقول توماس كارلايل (¬4) : (هل رأيتم قط رجلا كاذبا يستطيع أن يوجد دينا عجيبا؟ إنه لا يقدر أن يبني بيتا من الطوب، فهو لم يكن عليما بخصائص الجير والجص والتراب وما شاكل ذلك فما ذلك الذي ¬

(¬1) انظر القرآن والمستشرقون لنقرة (ص:28) . (¬2) انظر كتاب رؤية إسلامية للإستشراق، لأحمد غراب، ص:15، وانظر: القرآن والمستشرقون لنقرة (ص:29) . (¬3) متفق عليه (البخاري: كتاب بدء الوحي، باب بدء الوحي، رقم:4، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله، رقم: 160) . (¬4) تقدمت ترجمته ص: 100

يبنيه بيت إنما هو تل من الأنقاض , وكثيب من أخلاط المواد؛ وليس جديرا أن يبقى على دعائمه اثنى عشر قرنا , يسكنه مائتا مليون من الأنفس (¬1) ، ولكنه جدير أن تنهار أركانه فينهدم فكأنه لم يكن، وأني لأعلم أن على المرء أن يسير في جميع أموره طبق قوانين الطبيعة , وإلا أبت أن تجيبه طلبته، كذبُُ ما يذيعه أولئك الكفار وإن زخرفوه حتى تخيلوه حق، ومحنةُُ أن ينخدع الناس -شعوبا وأمما- بهذه الأضاليل) (¬2) . ويقول أيضا: (لقد أصبح من أكبر العار على كل فرد متمدن في هذا العصر, أن يصغي إلى القول بأن دين الإسلام كذب , وأن محمدا خداع مزور، فإن الرسالة التي أداها ذلك الرجل ,ومازالت السراج المنير مدة اثني عشر قرنا لمئات الملايين من الناس أمثالنا , خلقهم الله الذي خلقنا، أكان أحدهم يظن أن هذه الرسالة التي عاش بها ومات عليها هذه الملايين الفائقة الحصر والعد أكذوبة وخدعة؟ أما أنا فلا أستطيع أن أرى هذا الرأي أبدا، فلو أن الكذب والغش يروجان عند خلق الله هذا الرواج ,ويصادفان منهم ذلك التصديق والقبول , فما الناس إذاً إلا بُلُهُ ومجانين، وما الحياة إلا سخف وعبث؛ كان الأولى ألا تُخلق) (¬3) . 14-من الأدلة على أن القرآن ليس من النبي (صلى الله عليه وسلم) : أوقات نزوله (¬4) ؛ فليس للنبي (اختيار فيما ينزل أو متى ينزل، فقد يأتيه وهو ¬

(¬1) تعداد المسلمين جاوز المليار، ولكن هذا العالم يتحدث عن علمه ووقته حيث إنه ولد سنة 1795م. (¬2) قالوا عن الإسلام (ص:123) . (¬3) انظر: القرآن والمستشرقون، د. التهامي نقرة (ص:25) . (¬4) المستشرقون وشبهاتهم حول القرآن، للحكيم (ص:54) .

في الفراش مع أهله، أو وهو نائم , أو مع أصحابه , أو وهو سائر , أو على البعير (¬1) ، وقد يتتابع الوحي ويحمى حتى يشعر بكثرته عليه له , وقد يفتر عنه حتى يشتاق إليه , بل قد يمرض من تأخره عليه؛ فقد روي عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ (: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَابَعَ عَلَى رَسُولِهِ (الْوَحْيَ قَبْلَ وَفَاتِهِ حَتَّى تَوَفَّاهُ أَكْثَرَ مَا كَانَ الْوَحْيُ ثُمَّ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بَعْد) (¬2) . وعن عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -أَنَّ نِسَاءَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كُنَّ حِزْبَيْنِ , فَحِزْبٌ فِيهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ وَصَفِيَّةُ وَسَوْدَةُ , وَالْحِزْبُ الْآخَرُ أُمُّ سَلَمَةَ وَسَائِرُ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ... الحديث وفيه فَقَالَ: «لَا تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ؛ فَإِنَّ الْوَحْيَ لَمْ يَأْتِنِي وَأَنَا فِي ثَوْبِ امْرَأَةٍ إِلَّا عَائِشَةَ» ... الحديث) (¬3) . وعَنْ أَنَسٍ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ أَظْهُرِنَا إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً , ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا , فَقُلْنَا: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ» . فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (ثُمَّ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ ... » (¬4) . عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لِجِبْرِيلَ: «أَلَا تَزُورُنَا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورُنَا» ، قَالَ: فَنَزَلَتْ (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ ¬

(¬1) انظر فتح الباري (1/30) فقد ذكر أن عند البيهقي حديث (وإن كان ليوحى إليه وهو على ناقته فيضرب حزامها الأرض من يقل ما يوحى إليه) . (¬2) متفق عليه (البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب: كيف نزل الوحي، رقم:4982، ومسلم: كتاب التفسير، باب، رقم:3016) . (¬3) البخاري: كتاب الهدية وفضلها والتحريض عليها، باب من أهدى إلى صاحبه وتحرى بعض نسائه، رقم:2581. (¬4) أخرجه مسلم: كتاب الصلاة، باب حجة من قال البسملة آية من كل سورة، رقم:400.

المطلب الثاني: نقله من غيره , والرد عليهم:

أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا ( [الْآيَةَ] (¬1) . وعن جُنْدُبَ بْنَ سُفْيَانَ: أبطأ جبريل على النبي (صلى الله عليه وسلم) , فاشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا , فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ شَيْطَانُكَ قَدْ تَرَكَكَ , لَمْ أَرَهُ قَرِبَكَ مُنْذُ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (. (¬2) فهذه أربعة عشر دليلاً على أن القرآن ليس من النبي (صلى الله عليه وسلم) , وبعضها كافٍ في ذلك , وكني جمعتها كلها حتى لا يكون للمعترض حجة. المطلب الثاني: نقله من غيره , والرد عليهم: أولاً: يقرر بعض المشككين أو الطاعنين أن القرآن ليس من عند النبي (صلى الله عليه وسلم) ولكنه ليس من عند الله أيضا , بل هو مما نقله من غيره، كما قال ذلك مشركو مكة: إنه تعلمه من غلام نصراني. فقال الله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103] { ... وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} [الفرقان:4] ؛ ¬

(¬1) البخاري: كتاب بدأ الخلق، باب ذكر الملائكة، رقم:3218. (¬2) متفق عليه (البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب (ما ودعك ربك وماقلى، رقم:4950، ومسلم: كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم، رقم:1797) ، وأحمد (رقم:18329) واللفظ لأحمد.

وهذا الغير قد يكون أهل الكتاب , وقد يكون غيرهم. وقد أُلَّفَتْ في هذا الطعن مؤلفاتْ استشراقية كثيرة منها (¬1) : 1-عناصر يهودية في مصطلحات القرآن الدينية، للمستشرق المجري بيرنات هيللر (1857-1943) ، نشر عام 1928. 2-كتاب (الكلمات الأجنبية في القرآن) رسالة دكتوراة للمستشرق الألماني فرانكيل (1855-1909) ، ليدن، 1878. 3-مراجع القرآن وعلومه، للمستشرق الألماني بريتزل [1893 - 1941] . 4-المصادر الأصلية للقرآن، لتاسدول، طبع في لندن 1905. 5-مصادر القصص الإسلامية في القرآن وقصص الأنبياء، سايدر سكاي، طبع في باريس 1932. 6-مصادر القصص الكتابي في القرآن، بقلم سباير، 1939. فهذه الكتب ألفت في هذا الطعن فقط، وهناك كتب أخرى ذكر هذا الطعن في أثنائها منها: دائرة المعارف الإسلامية , حيث يقولون: (إنه ليس في سورة الفاتحة أي شئ إسلامي خاص بل على العكس فيها ألفاظ يهودية ونصرانية) (¬2) ، وفيها أيضا: (القرآن عبارة عما كان عند الكهان , بدليل وجود ¬

(¬1) انظر المستشرقون والدراسات القرآنية، للدكتور محمد حسين الصغير، (ص:118-120) ، المؤسسة الجامعة للدراسات والنشر، ط2،1986. (¬2) دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية (ص:16) .

السجع والقسم بالطبيعة) (¬1) . ويقول جولدتسيهر (¬2) : (إن القرآن ليس إلا مزيجا منتخبا من معارف وآراء دينية عرفها, واستقاها محمد بسبب اتصاله بالعناصر اليهودية والمسيحية وغيرها , التي تأثر بها تأثرا عميقا والتي رآها جديرة بأن توقظ عاطفة دينية حقيقة عند بني وطنه، لقد تأثر بهذه الأفكار تأثرا وصل إلى أعماق نفسه , وأدركها بايحاء قوة التأثيرات الخارجية ,فصارت عقيدة انطوى عليها قلبه , كما صار يعتبر هذه التعاليم وحيا إلهيا) (¬3) . (ويزعم المبشر نلسن وغيره: أن الإسلام مقلَّد , وأن أحسن ما فيه مأخوذ من النصرانية , وسائر ما فيه مأخوذ من الوثنية. وحكى الكونت هنري دي كاستري في كتابه "الإسلام سوانح وخواطر" عن أحد المبشرين قوله: إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يقرأ ويكتب، ¬

(¬1) دائرة المعارف الإسلامية الإستشراقية ص: 27. (¬2) مستشرق مجري يهودي مشهور (1850-1921) اعتنى بالعلوم الدينية الإسلامية عناية خاصة وألف في هذا المجال عدة كتب منها: الظاهرية مذهبهم وتاريخهم، دراسات إسلامية، محاضرات في الإسلام، اتجاهات تفسير القرآن عن المسلمين، أقام في القاهرة فترة، وفي أثناء هذه الفترة استطاع أن يختلف إلى بعض الدروس في الأزهر، وكان ذلك بالنسبة إلى أمثاله امتيازا كبيرا ورعاية عظيمة، اغتر به الكثير لسعة اطلاعه وإنصافه في بعض الأحيان، ولكنه كان يدس السم في العسل، فلا تجد طعنا من الطعون إلا وله فيه نصيب. انظر: (موسوعة المستشرقين للدكتور عبد الرحمن بدوي، ص: 197-203) بتصرف وزيادة. (¬3) العقيدة والشريعة في الإسلام لجولدتسيهر ص:12، عن كتاب القرآن الكريم في مواجهة الماديين الملحدين، للدكتور أحمد الشاعر (ص:93) دار القلم، الكويت، ط2،1982، وانظر القرآن والمستشرقون، لنقرة (ص:31) .

فقرأ التوراة وقرأ الإنجيل, وأخذ تعاليمه منهما) (¬1) . وفي كتاب "المنجد" (¬2) الذي ألفه النصارى -كمرجع في اللغة العربية والأعلام- قد رسمت صورة للنبي (, وفيها أن الإنجيل أمامه وهو معه الريشة ينقل منه. ويقول بلاشير (¬3) : (كان أسلوب النبي في القرآن أول عهده بالدعوة مفعما بالعواطف، قصير العبارات، فخم الصورة، يقدم أوصاف العقاب والثواب في ألوان صارخة، وكثيراً ما يكرر الآيات تَكراراً مملاً، حتى تنقلب معانيها إلى الضد، فلما تقدم الزمن بالنبي فقد الأسلوب منهجه الأول، وأخذ يَقُصُّ في نغمات هادئة بديعة قصص الأنبياء، مثلما تراه في قصة حب يوسف وزوجته بوتيفار، وكانت هذه الصورة مثيرة لخيال كثير من شعراء الفرس والترك، وفي آخر عهد النبي فقد الأسلوب كل حرارة وكل فن، وأغرم بالجدل الديني مع اليهود والنصارى) (¬4) . ويقول طه حسين (¬5) : (يلاحظ أن في القرآن أسلوبين متعارضين , لا تربط الأول بالثاني صلة ولا علاقة، مما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن هذا الكتاب قد خضع لظروف مختلفة , أو تأثيرات ببيئات متباينة، فمثلا نرى القسم المكي يمتاز بكل مميزات الأوساط المنحطة، كما نشاهد أن القسم المدني أو اليثربي تلوح عليه أمارة الثقافة ¬

(¬1) رد افتراءات المبشرين على آيات القرآن الكريم، للدكتور محمد جمعة عبد الله (ص:263) ، جامعة أم القرى، ط1،1985. (¬2) في حرف الميم عند ذكر اسم (محمد) وقد حذفت هذه الصورة من الطبعات الجديدة للكتاب. (¬3) ريجي بلاشير (1900-1973) ولد في باريس، وسافر مع أبويه إلى المغرب، وقضى دراسته الثانوية في مدرسة فرنسية في الدار البيضاء، وتولى عدة مناصب كان آخرها تعينه أستاذا للغة العربية الفصحى في المدرسة الوطنية للغات الشرقية في باريس من 1950إلى1970، ومن كتبه: تاريخ الأدب العربي منذ البداية حتى نهاية القرن الخامس عشر، وتوفي دون أن يتمه، وترجمة القرآن إلى اللغة الفرنسية. (انظر: موسوعة المستشرقين، لعبد الرحمن بدوي؛ ص: 127 بتصرف) . (¬4) القرآن والمستشرقون (ص:32) . (¬5) طه بن حسين بن علي بن سلامة، ولد 1889، وتوفي 1973، دكتور في الأدب، من كبار المحاضرين، ولد في قرية الكيلو بمغاغة من محافظة المنيا، وأصيب بالجدري في الثالثة من عمره فكف بصره، وبدأ حياته في الأزهر ثم بالجامعة المصرية القديمة، وهو أول من نال شهادة الدكتوراة منها عام 1914، بكتاب (ذكرى أبي العلاء) وسافر في بعثة إلى باريس فتخرج بالسوربون (1918) وعاد إلى مصر فعين محاضرا في كلية الآداب بجامعة القاهرة، ثم كان عميدا لتلك الكلية، كوزيرا للمعارف، وكان من أعضاء المجمع العلمي العربي المراسلين بدمشق، ثم رئيسا لمجمع اللغة العربية بمصر، ثارت حوله ضجة كبيرة بسبب جرأته الكبيرة في نقد القرآن لاسيما في كتابه (في الشعر الجاهلي) ، وله مؤلفات كثيرة. انظر: الأعلام للزركلي (3/231) بتصرف.

والاستنارة، فأنتم إذا دققتم النظر وجدتم القسم المكي يتفرد بالعنف والشدة، والقسوة والحدة والغضب والسباب , والوعيد والتهديد, مثل (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ( [المسد:1-4] (وَالْعَصْرِ () إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ( [العصر:1-2] {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ، إن ربك لبالمرصاد} [الفجر:13] (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ( [التكاثر:5-6] ، ويمتاز هذا القسم أيضا بالهروب من المناقشة، وبالخلو من المنطق فيقول: (قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ( [الكافرون:1-6] . ويمتاز كذلك بتقطع الفكرة واقتضاب المعاني وقصر الآيات، والخلو التام من التشريع والقوانين، كما يكثر فيه القسَمُ بالشمس والقمر والنجوم والضحى والفجر والعصر والليل والنهار والتين والزيتون ... إلى آخر ما هو جدير بالبيئات الجاهلية الساذجة ,التي تشبه بيئة مكة تأخرا وانحطاطا. وأما القسم المدني فهو هاديء لين , وديع مسالم، يقابل السوء بالحسن , ويناقش الخصوم بالحجة الهادئة والبرهان الساكن الرزين, فيقول {َوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء:22] . ويهجر مع أعدائه الترهيب والقسوة, ويسلك سبيل الترغيب والتطميع في المكافأة , فيقول {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31] ،

{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب} [الطلاق2-3] . كما أن هذا القسم ينفرد بالتشريعات الإسلامية ,كالمواريث والوصايا والزواج والطلاق والبيوع وسائر المعاملات، ولا شك أن هذا أثر واضح من آثار التوراة والبيئة اليهودية , التي ثقفت المهاجرين إلى يثرب ثقافة واضحة، يشهد بها هذا التغيير الفجائي الذي ظهر على أسلوب القرآن. أما طول آياته في هذا القسم , فهذا أمر جلي ظاهر؛ لأن إحدى آياته قد تزيد على عدة سور بتمامها من القسم المكي، أما أفكاره فهي منسجمة متسلسلة , ترمي أحيانا إلى غايات اجتماعية وأخلاقية. وعلى الجملة فإن ما في هذا القسم المدني من هدوء ومنطق وتشريع وقصص وتاريخ , يدل دلالة صريحة على أن الظروف التي أحاطت بهذا الكتاب , أبان نشأته قد تطورت تطورا قويا) (¬1) . وقال الخوري الحداد (¬2) : (إن الدعوة المحمدية كانت في العهد ¬

(¬1) من مذكرة أملاها طه حسين على طلابه في كلية الآداب بالجامعة المصرية، ثم أخذها النائب عبد الحميد سعيد وألقى بيانا في مجلس النواب في دورة سنة 1932عن موقف طه حسين من القرآن، ونقل هذه المادة بنصها، ثم نقلها ورد عليها محمد أحمد عرفة -وكيل كلية الشريعة الإسلامية- في كتاب اسماه نقض مطاعن في القرآن الكريم، وطبع في مطبعة المنار بمصر، ووقف على تصحيحه وعلق على بعض حواشيه السيد محمد رشيد رضا، ط1، 1351هـ، (ص:4-7) . (¬2) يوسف إلياس الحداد، مبشر لبناني وكان يلبس بزة الخوارنة المسيحيين، كرس جهوده في الهجوم على القرآن والإسلام، وألف في ذلك كتبا منها: الإنجيل والقرآن، والقرآن والكتاب، ونظم القرآن والكتاب، وغير ذلك من الكتب، وقد تصدى له وكشف عواره ورد عليه ردا مفحما الأستاذ محمد دروزة في كتابه (القرآن والمبشرون) ،طبعه المكتب الإسلامي في بيروت، ط2،1972، وانظر ترجمة الحداد في مقدمة الكتاب.

المكي كتابية إنجيلية , توراتية مسيحية يهودية، والقرآن نسخة عربية من الكتب السماوية السابقة , المنزلة على الأنبياء السابقين ومقتبس منها، والقرآن كتاب توراتي إنجيلي في موضوعه ومصادره وقصصه وجدله، وكان محمد متأثرا إلى أبعد الحدود باليهود والنصارى، واليهودية والنصرانية والتوراة والإنجيل , حتى كأنه واحد منهم مع غلبة المسحة المسيحية) (¬1) . وقال: (والسر الكبير في ثقافة محمد الكتابية والإنجيلية , وجود العالم المسيحي ورقة بن نوفل من بني أسد ابن عم السيدة خديجة في جوار النبي، وهو الذي زوجة ابنة عمه، فقد أجمعت الآثار على أن ورقة تنصر , وكان يترجم التوراة والإنجيل إلى العربية، فهو إذن عالم مسيحي كبير، وقد عاش محمد في جواره خمسة عشر عاما قبل مبعثه، ألا تكفي هذه المدة لنابغة العرب محمد بن عبد الله , لكي يأخذ عنه شيئا من علوم التوراة والإنجيل، وينص صحيح البخاري على أن ورقة هو الذي ثبَّّتَ محمدا في دعوته وبعثته لما عاد خائفا من غار حراء، وعلى أن الوحي فتر لما توفي ورقة، وحاول محمد الانتحار مرارا لفقده وفتوره، ونجد في المدينة في معية النبي حاشية مسيحية ويهودية قد أسلمت أو سايرت الإسلام، نجد بلالا الحبشي مؤذن النبي. وصهيبا الرومي المسيحي الثري، وسلمان الفارسي المسيحي الأصل، وعبد الله بن سلام اليهودي الوحيد الذي أسلم في المدينة مع كعب الأحبار، وهل كان ¬

(¬1) انظر القرآن والمبشرون (ص:94-95) .

حديث هذه الحاشية الكريمة سوى التوراة والإنجيل؟ إن ذلك حجة قاطعة على أن بيئة النبي والقرآن كانت كتابية من كل نواحيها، وأن ثقافة محمد والقرآن كتابية في كل مظاهرها ,وذلك بمعزل عن الوحي والتنزيل) (¬1) . وقد ذهب إلى أبعد من ذلك المستشرق كليمان هواز (¬2) ,حيث كتب فصلا زعم فيه أنه اكتشف مصدرا جديدا للقرآن، وهو شعر أمية بن أبي الصلت، ومن ذلك قوله: وَيَوْمَ مَوْعِدِهِمْ أنْ يُحْشَرُوا زُمَراً يَوْمَ الَتَّغَابُنِ إذُ لا يَنفَعُ الحَذَرُ مُسْتَوسِقِيَنَ مَعَ الدَّاعِي كَأَنَّهُمُ رِجْلُ الجَرادِ زَفَتْهُ الرَّيحُ مُنْتشرُ بَرَزُوا بصعيد مستوٍ جَزِرٍ وأُنْزِلَ العَرْشُ والميزانُ والزُبُرُ تَقُولُ خُزَّانُها مَا كَانَ عِنْدُكُمُ أًلُمْ يَكُنْ جَاءَكُمْ مِنْ رَبَّكُمْ نُذُرُ قالوا بَلَى فتبَِعْنا فَتْيةً بَطَرُوا وَغَرَّنَا طُولُ هذا العَيْشِ والعُمُرِ (¬3) وأورد توسدال (¬4) شبهته السابقة وقال: إن من مصادره- القرآن- شعر امرئ القيس حيث قال: دَنَتِ السَّاعَةُ وانشَقَّ القَمَرْ عَنْ غَزَالٍ صَادَ قَلْبِي ونَفَرْ أَحْوَرُ قَدْ حِرْتُ في أَوْصَافِِِهِ نَاعِسُ الطَّرُفِ بعَيْنَيهِ حَوَرْ بِسهَامٍ مِنْ لحاظٍ فَاتِكٍ تَرَكَتْنِي كَهَشِيِمِ المُحْتِظِر (¬5) ¬

(¬1) القرآن والمستشرقون لنقرة، ص:37-38. (¬2) كليرنسدال: لم أجد له ترجمة , والظاهر أنه على قيد الحياة , له كتاب بعنوان مصادر الإسلام في 216 صفحة وستة فصول , وطبع في الهند. (انظر: "آراء المستشرقين حول القرآن " عمر إبراهيم (1/125) (¬3) القرآن والمستشرقون لنقرة ص:34. (¬4) لم أجد له ترجمة (¬5) المرجع السابق ص:34.

ولو أردنا أن نجمع أقول كل من تكلم لطال بنا المقام (¬1) . ثانياً الرد على من زعم أنه نقل من غيره: 1-لقد تكفل الله تعالى بالرد على هذه الشبهة: وبالسبر والتقسيم القول: إن القرآن يمكن أن يأتي إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) عن أربع طرق: من عند نفسه، من عند شخص، من كتاب، من الله تعالى ,أما من عند نفسه فقد تقدم معنا الرد على هذه الشبهة بأكثر من عشرة أوجه، (¬2) -أما من عند شخص؛ فمن هو هذا الشخص؟ أكثر الطاعنين على أنهم نصارى أو يهود، فرد الله تعالى عليهم أن لسان أولئك القوم ولغتهم أعجمية، ولكن لغة هذا القرآن عربي مبين، فكيف للأعجمي أن يأتي بأعلى الفصاحة وذروة البلاغة في اللغة العربية: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103] . -أما من كتاب، فالنبي (صلى الله عليه وسلم) لا يقرأ ولا يكتب: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48] ، ¬

(¬1) وقد ألف د. إبراهيم عوض كتابا بعنوان (مصدر القرآن: دراسة لشبهات المستشرقين المبشرين حول الوحي المحمدي) ،طبعته مكتبة زهراء الشرق في القاهرة، 1997، وهو جيد في بابه، وانظر: من أساليب الغزو الفكري الطعن في القرآن الكريم، للدكتور نبيل غنايم، (ص:529-531) ، وهو بحث نشر في مجلة مجمع الفقه الإسلامي (العدد السابع، الجزء الرابع) سنة 1992. (¬2) راجع ص السابقة.

- فلم يبق إلا أنه من الله تعالى. 2-العهد القديم لم يكن مترجما إلى اللغة العربية قبل الإسلام، وقد نص على ذلك المستشرقون أنفسهم، فهذا (جوتين) يقول عن صحائف اليهود: (إن تلك الصحائف مكتوبة بلغة أجنبية) (¬1) ، وقد أشارت الموسوعة البريطانية إلى عدم وجود ترجمة عربية لأسفار اليهود قبل الإسلام وأن أول ترجمة كانت في أوائل العصر العباسي , وكانت بأحرف عبرية (¬2) . كيف إذن أخذ النبي (صلى الله عليه وسلم) منها، لابد على المستشرقين أن يفتروا كذبة جديدة , وهي أن النبي (صلى الله عليه وسلم) درس لغة التوراة فكان يترجمها للقرآن؟!!. 3-ومن لطائف الاستدلال على أنه لم ينقل من غيره ما يذكره العلماء في فوائد أسباب النزول؛ إذ يذكرون أن من فوائد أسباب النزول أن دلالته على إعجاز القرآن , وأنه من الله تعالى من ناحية الارتجال، فنزوله بعد الحادثة مباشرة يقطع دعوى من ادعوا أنه أساطير الأولين، أو من كتب السابقين (¬3) ، فلو كان ينقل كتابه من كتب غيره , لكان إذا سأله سائل يتريث حتى يراجع الكتب التي عنده , وينظر ماذا تقول في هذه المسألة ثم يجيب، ولكن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يكن يفعل , بل يسأله الرجل فيعطيه الجواب الموافق للصواب، الذي لم يكن قرأه ولا عرفه إلا في هذه اللحظة التي نزل عليه فيها , وقد ذكرت في مبحث أدلة صدق النبي وقائع كثيرة تدل على هذا المعنى. ¬

(¬1) دراسات في تاريخ الإسلام ونظمه، س. د. جوتين، نقلا عن كتاب الوحي القرآني في المنظور الاستشراقي ونقده، لمحمود ماضي، (ص:147) . (¬2) المرجع السابق (ص:148) . (¬3) ذكر هذه الفائدة الطاهر بن عاشور في كتابه التحرير والتنوير (1/50) .

4- من أوضح الأدلة على رد دعوى النقل من , غيره التحدي أن يأتي بمثله، كما تقدم تفصيل هذا في الردود العامة. 5-لو كان القرآن مأخوذا من التوراة والإنجيل والكتب السابقة , لما استطاع محمد (صلى الله عليه وسلم) أن يتحدى الناس ويقدم على هذا الخطأ الفادح؛ لأن هذه الأصول المنقول عنها موجودة في متناول أيدي الجميع، فلماذا يتحدى الناس بشيء موجود، ألا يخشى أن يقوم بعض الناس بالرجوع إلى مراجعه والعمل مثل عمله، فينكشف؟ 6-ثم هذه الأساطير والمراجع ليست خاصة بمحمد (صلى الله عليه وسلم) , بل هي كتب متداولة بيد الجميع, فلماذا لا تحضرون لنا هذه الكتب التي نقل منها؟. 7- (افتراض تعلم النبي (صلى الله عليه وسلم) من نصارى الشام ويهود المدينة وغيرهم, لا يتفق مع الحقيقة التاريخية التي تحدثنا عن الحيرة والتردد في موقف المشركين من رسول الله في محاولتهم لتفسير ظاهرة الرسالة؛ لأن مثل هذه العلاقة مع النصارى أو اليهود لا يمكن التستر عليها أمام أعداء الدعوة من المشركين وغيرهم، الذين عاصروه وعرفوا أخباره وخبروا حياته العامة بما فيها من سفرات ورحلات) (¬1) . 8-وجود بعض الشرائع في القرآن , التي تتفق مع ما في التوراة والإنجيل , أو حتى ما عند العرب ليس في هذا دليل على أنه مأخوذ منها، فالقرآن لم يأت لهدم كل شيء , بل لتصحيح الخطأ وإقرار الحق، فالصدق والشجاعة والكرم والحلم والرحمة والعزة كل هذه المعاني موجودة عند كفار مكة ومع هذا جاء الإسلام ولم يغير منها شيئا بل ¬

(¬1) المستشرقون وشبهاتهم حول القرآن، لمحمد باقر الحكيم (ص:43) .

باركها وحث عليها، لذلك قال النبي (صلى الله عليه وسلم) : «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ» (¬1) . ولم يقل: لأنشئها. إذن ليس من الضروري لكتاب هداية من هذا القبيل، أن يشجب كل الوضع الذي كانت الإنسانية عليه قبله حتى يثبت صحة نفسه، فمن الطبيعي أن يقر القرآن بعض الشرائع، سواء في الكتب السابقة السماوية , أو في عادات الناس وأعرافهم، وأما الخطأ فإنه لا يقره (¬2) ، وقد نص القرآن على هذا المعنى في مثل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:37] . 9-كيف يمكن اعتبار التوراة والإنجيل من أهم مصادر القرآن مع أن القرآن, خالفها في كثير من الأشياء؛ ففي بعض الأحداث التاريخية نجد القرآن يذكرها بدقة متناهية ,ويتمسك بها بإصرار، في الوقت الذي كان بإمكانه أن يتجاهل بعضها، على الأقل تفاديا للاصطدام بالتوراة والإنجيل) (¬3) . (ففي قصة موسى يشير القرآن إلى أن التي كفلت موسى هي امرأة فرعون، مع أن سفر الخروج يؤكد أنها كانت ابنته، كما أن القرآن يذكر غرق فرعون بشكل دقيق , لا يتجاهل حتى مسألة نجاة بدن فرعون من الغرق مع موته وهلاكه، في الوقت الذي نجد التوراة تشير إلى غرق ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة (8729) ، رواه الإمام مالك في الموطأ بلاغا من غير إسناد (كتاب الجامع، باب ما جاء في حسن الخلق) بلفظ (بعثت لأتمم حسن الخلق) ، وأخرجه البزار بلفظ (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) (انظر فتح الباري (6/665) . (¬2) المستشرقون وشبهاتهم حول القرآن، للحكيم (ص:61) . (¬3) المستشرقون وشبهاتهم حول القرآن (ص:46) .

فرعون بشكل مبهم، ويتكرر نفس الموقف في قضية العجل؛ حيث تذكر التوراة أن الذي صنعه هو هارون، وفي قصة ولادة مريم للمسيح- عليهما السلام- وغيرها من القضايا) (¬1) . 10-من المعلوم أن في القرآن ما لا وجود له في كتب اليهود والنصارى، مثل: قصة هود وصالح وشعيب، فكيف أتى بها النبي (صلى الله عليه وسلم) ؟ (¬2) . ¬

(¬1) المرجع السابق (ص:47) . (¬2) الوحي القرآني من المنظور الاستشراقي ونقده، لماضى (ص:148) ، الجواب الصحيح لابن تيمية (3/25) ، (4/57) .

11-وإذا كان النبي (صلى الله عليه وسلم) أخذ من النصارى الذين خالطهم؛ من أمثال سلمان , وصهيب وورقة، فلِمَ لم يفضحوه عندما سب النصارى وكفرهم في كتابه في عدة آيات، حتى إن سورة المائدة، وهي من آخر السور نزولا , كانت من أكثر السور تكفيرا للنصارى (¬1) ؟ ذكر الآيات التي تكفر النصارى من سورة المائدة. 12-من تناقضهم زعمهم أن النبي (صلى الله عليه وسلم) أخذ القرآن من سلمان وصهيب النصرانيين وابن سلام اليهودي وغيرهم ممن أسلم من أهل ¬

(¬1) الوحي القرآني في المنظور الاستشراقي ونقده، لماضي (ص:148) .

الكتاب (¬1) ، وحقيقة الأمر أن إسلام هؤلاء حجة عليهم، إذ لو كان النبي (صلى الله عليه وسلم) أخذ القرآن والشريعة من أهل الكتاب، فلماذا يتركون الأصل ويذهبون إلى الفرع؟ 13-إذا كان النبي (صلى الله عليه وسلم) أخذ دينه من اليهود والنصارى (والقرآن نسخة عربية من الكتب السماوية السابقة المنزلة على الأنبياء السابقين ومقتبس منها، والقرآن كتاب توراتي إنجيلي في موضوعه ومصادره وقصصه وجدله) ، كما يقول الخورى الحداد , فلماذا إذن هذه الحرب الشعواء عليه؟ ولماذا هذا الطعن في كتاب مأخوذ من الإنجيل والتوراة؟ أليس حقيقة هذا الأمر أنه طعن في الأصل المأخوذ منه؟، أم أن هؤلاء الطاعنين علموا في قرارة أنفسهم أنه كتاب عظيم منزل من الله تعالى , وأنه ناسخ للشرائع السابقة؛ فهالهم هذا الأمر وحاولوا تنفير الناس منه بأي طريق ,فأخذوا يتكلمون بأي كلام ,لا لشيء إلا بغضا لهذا الكتاب , فجرفهم الحماس حتى قالوا كلاما طعنوا به في التوراة والإنجيل -التي يدينون بها-وهم لا يشعرون. 14-لقد شهد المنصفون من المستشرقين بضد ذلك: يقول المستشرق الإنجليزي لايتنر (¬2) : (بقدر ما أعرف من دِينَيِ اليهود والنصارى أقول بأن ما علمه محمد ليس اقتباساً , بل قد أوحى إليه ربه, ولا ريب بذلك) (¬3) . ويقول هنري دي كاستري: (ثبت إذن أن محمدا لم يقرأ كتابا ¬

(¬1) انظر القرآن والمستشرقون، لنقرة، ص:35. (¬2) تقدمت ترجمته ص:211. (¬3) الوحي القرآني في المنظور الاستشراقي ونقده، لماضي (ص:149) .

مقدسا , ولم يسترشد في دينه بمذهب متقدم عليه) (¬1) . 15-وأما قول طه حسين: (وأما القسم المدني فهو هاديء لين وديع مسالم، يقابل السوء بالحسن , ويناقش الخصوم بالحجة الهادئة والبرهان الساكن الرزين: فيقول {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء:22] ، ويهجر مع أعدائه الترهيب , والقسوة ويسلك سبيل الترغيب والتطميع في المكافأة) . فنقول: إن من غيرك ممن يوافقك أو توافقهم النصارى المبشرين والمستشرقين يخالفونك هنا فهذا الخوري الحداد يقول: (حين استقر محمد في المدينة انقلب انقلابا شاملا كاملا، انقلابا في الدعوة، فقد دخلت السياسة الدين، وانقلابا في الداعية الذي أصبح رجل دولة وحرب، وانقلابا في طريق الدعوة لقتال المشركين إلى أن يؤمنوا , والكتابيين حتى يخضعوا للجزية، انقلابا في الأسلوب حيث كان بالحكمة والموعظة الحسنة ,فصار بالقتال والجهاد) (¬2) ، فمن نصدق؟، والحق أن أسلوب القرآن واحد، ولكنه يشتد مع الكافرين , ويتلطف مع المؤمنين (¬3) . 16-وأما الحداد فقد حشى كتبه بالتناقض المضحك، ونقول له: ¬

(¬1) المرجع السابق. (¬2) انظر القرآن والمبشرون، لدروزة (ص:95) بتصرف يسير. (¬3) وانظر كتاب: نقض مطاعن في القرآن الكريم، لمحمد عرفة، فقد رد على هذه الفقرة ردا مطولا مفصلا، مبينا فيها أن القرآن يتميز بوحدة الأسلوب في المكي والمدني، (من ص:15إلى56) ، والمستشرقون وشبهاتهم حول القرآن، لمحمد باقر الحكيم (من:64-70) .

(وكفى بنفسك اليوم عليك حسيبا (. فإليك هذه الطامة؛ إنه يقرر بكل وضوح وقوة أن القرآن (نسخة عربية من الكتب السماوية السابقة المنزلة على الأنبياء السابقين ومقتبس منها، والقرآن كتاب توراتي إنجيلي في موضوعه ومصادره وقصصه وجدله) ، ويدلل على هذا بأن النبي (صلى الله عليه وسلم) أخذه من ورقة وغير ذلك من الأدلة الكثيرة التي ساقها. ويقول: إن ذلك حجة قاطعة على بيئة النبي , والقرآن كانت كتابية من كل نواحيها، وأن ثقافة محمد والقرآن كتابية في كل مظاهرها, وذلك بمعزل عن الوحي والتنزيل) . ثم يعقد فصلا بعنوان (هل للقرآن من مصدر) فيجيب: (المصدر الأول للقرآن هو الله؛ وهذه قضية إيمانية لا تُمس) (¬1) ، وإن تعجب فعجب تناقضه واضطرابه وحيرته، وهذه كافية في نسف كل ما قال، ولكن مع هذا سنكمل قراءة نص كلامه، ومع قلته إلا أنه حوى من المغالطات الشيء الكثير، فهو تارة يكذب كذبا صريحا , مثل قوله: وهو-يعني ورقة- الذي زوجه ابنة عمه) ، مع أن كتب السيرة تذكر أن خديجة هي التي كانت راغبة في النبي (صلى الله عليه وسلم) , وأرسلت له تعرض في زواجها، وأن الذي خطبها له هو عمه أبو طالب من عمها عمرو بن أسد (¬2) ، وكيف لورقة أن يزوجها-وهو ابن عمها- مع وجود أعمامها الذين هم أقرب منه وأحق في الولاية؟! ¬

(¬1) انظر القرآن والمستشرقون، لنقرة (ص:39) نقلا عن كتاب الحداد (القرآن والكتاب) ص:298. (¬2) انظر فصل: من الذي زوج خديجة، من كتاب الروض الأنف شرح السيرة النبوية لابن هشام، للإمام السهيلي (2/238) ، تحقيق عبد الرحمن الوكيل، الناشر مكتبة ابن تيمية، القاهرة، 1993.

- (وقد عاش محمد في جواره خمسة عشر عاما قبل مبعثه) . لم تذكر كتب السيرة أن النبي (صلى الله عليه وسلم) التقى بورقة إلا تلك المرة، فكيف يزعم أنه لازمه خمس عشرة سنة؟ ثم لو كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يعرفه هذه المعرفة لما احتاج إلى خديجة لتوصله إليه، ويكفى في الرد على هذا الكلام أنها دعوى لا دليل عليها. - (وينص صحيح البخاري على أن ورقة هو الذي ثَََبَّتَ محمدا في دعوته وبعثته ,لما عاد خائفا من غار حراء) . وانظر إلى هذه المكابرة، فقد نص الحديث أن التي ثبتته هي خديجة - رضي الله عنها- وأما ورقة فقد خوفه فقال: (ليتني فيها، جَذِعاً يا ليتني أكونُ فيها حياً حين يخرج قومك، فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : «أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ» ؟ قَالَ وَرَقَةُ: نَعَمْ, لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا أُوذِيَ. في رواية: عُودِيَ) . وإليك نص الحديث كما في الصحيحين؛ عن عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ (قَالَتْ: كَانَ أَوَّلَ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ, ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ فَكَانَ يَلْحَقُ بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -قَالَ: وَالتَّحَنُّثُ التَّعَبُّدُ- اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ, وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ , فَيَتَزَوَّدُ بِمِثْلِهَا حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ, فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : «مَا أَنَا بِقَارِئٍ» . قَالَ: «فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي» ، فَقَالَ: اقْرَأْ. قُلْتُ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ» . «فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي» ، فَقَالَ: اقْرَأْ. قُلْتُ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ» . «فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى

بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي» ، فَقَالَ: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (. فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ، فَقَالَ: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي» . فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، قَالَ لِخَدِيجَةَ: أَيْ خَدِيجَةُ مَا لِي لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي، فَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ، قَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا ,فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ ,وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ ,وَتَحْمِلُ الْكَلَّ ,وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أَخِي أَبِيهَا وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ وَيَكْتُبُ مِنْ الْإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ ,وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ، قَالَ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ (خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا حين يخرجك قومك، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : «أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟» قَالَ وَرَقَةُ: نَعَمْ , لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا أُوذِيَ-وفي رواية: عودي- وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ حَيًّا أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وَفَتَرَ الْوَحْيُ فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)) (¬1) . ¬

(¬1) متفق عليه (البخاري: كتاب بدء الوحي , باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) رقم: 3 ومسلم: كتاب الإيمان , باب ب بدء الوحي إلى رسول الله رقم: 160) .

وإذا كان ورقة يعرف حال النبي (صلى الله عليه وسلم) ,وأنه لازمه خمس عشرة سنة , وأخذ منه القرآن، فلماذا يقول: (هذا الناموس -يعني الوحي-الذي أنزل على موسى) ويقول: (وإن يدركني يومك حيا أنصرك نصرا مؤزرا) أليس في هذا تصديق له وإثبات صحة نبوته، أم أن الحدادي يأخذ من الحديث ما يوافق هواه ويعرض عن غيره. -وقوله: (ونجد في المدينة في معية النبي حاشية مسيحية ويهودية قد أسلمت أو سايرت الإسلام، نجد بلالا الحبشي مؤذن النبي وصهيبا الرومي المسيحي الثري، وسلمان الفارسي المسيحي الأصل، وعبد الله بن سلام اليهودي الوحيد الذي أسلم في المدينة مع كعب الأحبار) : فانظر كم حوى هذا النص من المغالطات، فصهيب لم يكن من الأثرياء، بل كان فقيرا معدما مستضعفا (¬1) ، وسلمان لم يكن مسيحي، الأصل بل كان مجوسيا ثم تنصر ثم أسلم بعد وصية الراهب النصراني له بذلك (¬2) ، وعبد الله بن سلام لم يكن الوحيد الذي أسلم من اليهود، فهناك الغلام اليهودي جار النبي (صلى الله عليه وسلم) الذي عاده من مرضه فأسلم، ¬

(¬1) انظر ترجمته في الإصابة في ترجمة الصحابة لابن حجر (3/449) ، تحقيق علي البجاوي، دار الجيل، بيروت، ط1،1992، نعم ذكروا أنه ترك ماله ليهاجر، وأن أهل مكة لم يسمحوا له حتى ترك كل ماله، ولكن لم يذكروا أن هذا المال كان كثيرا بحيث كان من الأثرياء، وحتى لو كان فلماذا ترك هذا الثراء وتبع النبي (صلى الله عليه وسلم) ، ألا يدل هذا أن صهيبا عرف صحة نبوة محمد (صلى الله عليه وسلم) ؟. (¬2) انظر حديثه الطويل في قصة إسلامه في مسند الإمام أحمد (رقم:23225) وإسناده صحيح.

بن وصفية بنت حيي بن أخطب وغيرهم (¬1) ، وكعب الأحبار لم يدرك النبي (صلى الله عليه وسلم) ، بل هو من التابعين. (¬2) فيا الله؛ كيف يلقى الهوى صاحبه في مهاوًى ومزالق. 17- وأما زعمهم أن من مصادر القرآن شعر أمية بن أبي الصلت؛ (فإن الغريب في الأمر أن المستشرقين يشكون في صحة السيرة النبوية نفسها، ويتجاوز بعضهم الشك إلى الجحود، فلا يرونها مصدرا تاريخيا صحيحا، فهم يقفون هذا الموقف العلمي من السيرة ويغلون في هذا الموقف، ولكنهم يقفون من أمية وشعره موقف المتيقن المطمئن، مع أن أخبار أمية ليست أدنى إلى الصدق ولا أبلغ في الصحة من السيرة، فما سر هذا الاطمئنان الغريب إلى نحو هذه الأخبار دون الأخرى) (¬3) . الأمر الآخر كذبهم في هذه الدعوى؛ فشعر أمية بن أبي الصلت، وشعر امرؤ القيس محفوظ معروف فلا يحتاج الأمر إلى كثير عناء لإثبات بطلان دعواهم؛ يقول العقاد: (وأيسر ما يبدو من جهل هؤلاء المخاطبين في أمر اللغة العربية قبل الإسلام، وعلاقتها بلغة القرآن الكريم، أنهم يحسبون أن العلماء المسلمين يجدون في بحث تلك الأبيات وصبا واصبا لينكروا ¬

(¬1) انظر فتح الباري لابن حجر (7/322) في شرح الحديث المتفق عليه (لو آمن بي عشرة من اليهود لآمن بي يهود) حيث قال: (الْمُرَاد عَشَرَة مُخْتَصَّة وَإِلَّا فَقَدْ آمَنَ بِهِ أَكْثَر مِنْ عَشَرَة وَوَقَعَ عِنْد اِبْن حِبَّان قِصَّة إِسْلَام جَمَاعَة مِنْ الْأَحْبَار كَزَيْدِ بْن سَعَفَة مُطَوَّلًا. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ يَهُودِيًّا سَمِعَ النَّبِيّ (يَقْرَأ سُورَة يُوسُف فَجَاءَ وَمَعَهُ نَفَر مِنْ الْيَهُود فَأَسْلَمُوا كُلّهمْ) انتهي بتصرف واختصار. (¬2) انظر كتاب الأعلام للزركلي (5/288) (¬3) القرآن والمستشرقون، لنقرة (ص:33) .

نسبتها إلى الجاهلية، ولا يلهمهم الذوق الأدبي أن نظرة واحدة كافية لليقين بإدحاض نسبتها إلى امرئ القيس أو غيره من شعراء الجاهلية) (¬1) . ولقد بحثت في ديوان امرئ القيس فلم أجد هذه الأبيات. وأما أمية بن أبي الصلت، فإن بعض العلماء نسبوا هذه الأبيات له، ولكن أمية أدرك الإسلام ورأى الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، وسمع القرآن من النبي (صلى الله عليه وسلم) في مكة، وانصرف عنه فتبعته قريش تسأله عن رأيه فيه، فقال: أشهد أنه حق، قالوا: هل تتبعه؟ قال: حتى أنظر في أمره. وخرج إلى الشام وهاجر النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى المدينة، وحدثت وقعة بدر وعاد أمية من الشام يريد الإسلام، فعلم بمقتل أهل بدر وفيهم ابنا خال له، فامتنع وأقام في الطائف حتى مات (¬2) ، فهو الذي تأثر بالقرآن ولم يتأثر القرآن به، وشهد على صحة القرآن، هذا وقد ذكر في ترجمته أنه كان مطلعا على الكتب القديمة، ويلبس المسوح تعبدا، وهو ممن حرموا على أنفسهم الخمر، ونبذوا عبادة الأوثان في الجاهلية (¬3) ؛ فهو إنما أخذ معنى هذا الشعر من الكتب السماوية السابقة التي كان يطلع عليها. ولو سلمنا جدلا بأن النبي (صلى الله عليه وسلم) أخذ هذا الموضع من أمية، فما هو المانع أن يجري الله الحق على ألسنة بعض الناس، وينزل القرآن موافقا لما قالوا، كما حصل هذا مع عمر كثيرا. ¬

(¬1) إسلاميات، لعباس محمود العقاد ص:51-53، مصر، دار الشعب، وانظر كتاب قضايا قرآنية في الموسوعة البريطانية (نقد مطاعن، ورد شبهات) ، د. فضل حسن عباس، (ص:46) ، دار البشير، الأردن، ط2،1989. (¬2) الأعلام للزركلي (2/23) . (¬3) المرجع السابق.

المطلب الثالث: جواز نقده ومخالفته، والرد عليهم:

فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَنَزَلَتْ (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى (وَآيَةُ الْحِجَابِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَمَرْتَ نِسَاءَكَ أَنْ يَحْتَجِبْنَ، فَإِنَّهُ يُكَلِّمُهُنَّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ، وَاجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ (فِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُنَّ: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ (فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ) (¬1) . وقد قررنا أن القرآن جاء ليقر الحق ويصحح الخطأ. ثم نقول لهم: إن العرب -الذين بعث فيهم النبي (صلى الله عليه وسلم) -كانوا أعرف الناس بالشعر، وأحرص الناس على الطعن في القرآن؛ ومع هذا لم يورد أحد منهم هذا الطعن الساذج. المطلب الثالث: جواز نقده ومخالفته، والرد عليهم (¬2) : أولا: هذا لون آخر من ألوان المواجهة البغيضة ضد القرآن، وهو ¬

(¬1) متفق عليه: (البخاري: كتاب الصلاة، باب ما جاء في القبلة ومن لم ير الإعادة، رقم: 394، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر، رقم: 2399) . (¬2) وفي مجلة البيان - العدد 159،لشهر فبراير 2001- مقال بعنوان (الليبرالية العربية وهدم النص والسقوط في التبعية) لمحمود سلطان، أصل هذا المنهج وعرف بأشهر رموزه - أمثال شبلي شميل وفرح أنطون وسلامة موسى وأحمد لطفي السيد وإسماعيل مظهر وأدونيس وفرج فودة وهشام الترابي، وعلي عبد الرازق في كتابه الإسلام وأصول الحكم وطه حسين-.

ليس موجها ضد النص القرآني في مصدره الإلهي، ولكنه يستهدف أثر القرآن في الحركة الفكرية والتقدم العلمي. فهو قد يقر بأن القرآن من عند الله، ولكن هذا الأمر لا يجعله يسلم من النقد والمخالفة، وحقيقة هذا الطعن أنه إنكار لقدسيته، وأنه من عند الله ولكن بأسلوب ذكي؛ لأنه يعلم أنه لو صرح بإنكار القرآن وأنه ليس من عند الله، فسوف يلقى طوفاناً من المواجهة والتهم التي قد تصل إلى تكفيره؛ فلجأوا إلى هذه الشبهة ومؤداها هو نفس مؤدى إنكار القرآن، فأهم قضية عند المسلمين -وهي التي تؤرق الكافرين وأذنابهم- أن القرآن قدسي لا يقبل النقد، وحاكم واجب الاتباع. و (يتزعم هذه النزعة ضد الإسلام الفيلسوفان الألمانيان؛ تنمان المتوفى 1829 وبروكر المتوفى 1770، والفيلسوف الفرنسي فيكتور كوزان المتوفى 1947، ويرى هؤلاء أن أهم عوامل الركود في العقلية العربية وضآلة الفكر الإسلامي ترجع إلى القرآن أولا، فهو كتاب المسلمين المقدس الذي يعوق النظر العقلي الحر) (¬1) . وبما أنه يعوق النظر العقلي الحر فيجب هجره وعدم التعويل عليه أو التحاكم له، ويقول طه حسين: (لا شك أن الباحث الناقد، والمفكر الجريء لا يفرق في نقده بين القرآن وبين أي كتاب أدبي آخر) (¬2) . ¬

(¬1) القرآن الكريم في مواجهة الماديين الملحدين، للدكتور أحمد الشاعر (ص:96-97) ، وانظر التمهيدي في تاريخ الفلسفة للشيخ مصطفى عبد الرازق (ص:5) . (¬2) نقض مطاعن في القرآن الكريم، لمحمد أحمد عرفة، ص:4.

ويقول: (إن الدين الإسلامي يجب أن يعلم فقط كجزء من التاريخ القومي لا كدين إلهي منزل بين الشرائع للبشر، فالقوانين الدينية لم تعد تصلح في الحضارة الحديثة كأساس للأخلاق والأحكام، ولذلك لا يجوز أن يبقى الإسلام في صميم الحياة السياسية، أو أن يتخذ كمنطلق لتجديد الأمة، فالأمة تتجد بمعزل عن الدين) (¬1) . ويقول نصر حامد أبو زيد: (آن أوان المراجعة والانتقال إلى مرحلة التحرر، لا من سلطة النصوص وحدها، بل من كل تعوق مسيرة الإنسان في عالمنا، علينا أن نقوم بهذا الآن وفورا قبل أن يجرفنا الطوفان) (¬2) ، وكتب نصر أبو زيد ومحمد أركون الجزائري (¬3) تدور حول هذه القضية وأن القرآن -لو سلمنا بسلامة نصه وأنه من الله- فإن مفهومه ليس إلهيا ولا مقدسا بل هو إنساني (¬4) ، ولنضرب بعض الأمثلة لكلامهم في هذا الباب: يقول نصر أبو زيد: (إن القرآن نص ديني ثابت من حيث منطوقه، لكنه من حيث مفهومه يتعرض له العقل الإنساني ويصبح مفهوما يفقد ¬

(¬1) (طه حسين حياته وفكره) لأنور الجندي، ص:144، نقلا عن كتاب مستقبل الثقافة في مصر. (¬2) انظر كتابه: " الإمام الشافعي وتأسيس الأيدلوجية الوسطية "،ص:112، نشرته شركة (سينا للنشر) سنة:1991. (¬3) انظر كتاب: تهافت الاستشراق العربي (بحث نقدي في فكر وإنتاج محمد أركون) ، لمحمد بريش؛ رئيس تحرير مجلة الهدى المغربية، وهي عبارة عن مقالات له في المجلة في الأعداد 13،14،15،16،17،18،19. (¬4) انظر كتبه " الإمام الشافعي وتأسيس الأيدلوجية الوسطية "، " ونقد الخطاب الديني"، و" مفهوم النص "، وغيره من الكتب والمقالات.

صفة الثبات، ومن الضروري هنا أن نؤكد أن حالة النص الخام المقدس حالة ميتافيزيقية (¬1) لا ندري عنها شيئا، والنص منذ لحظة نزوله الأولى، تحول من كونه (نصا إلهيا) وصار فهما (نصا إنسانيا) ؛ لأنه تحول من التنزيل إلى التأويل، إن فهم النبي (صلى الله عليه وسلم) (¬2) للنص يمثل أولى مراحل حركة النص في تفاعله بالعقل البشري، ولا التفات لمزاعم الخطاب الديني بمطابقة فهم الرسول للدلالة الذاتية للنص، على فرض وجود مثل هذه الدلالة الذاتية ... ) (¬3) ، ويقول عن القرآن: (كتاب العربية الأكبر وإثرها الأدبي الخالد دون نظر إلى اعتبار ديني) (¬4) ، ويقول (إن النص في حقيقته وجوهره منتج ثقافي) (¬5) . ويقول: (منذ نزل القرآن في كلمات عربية أصبح بشريا يجوز الطعن فيه وعليه، وتجوز مناقشته ويجوز فيه ما يجوز على الكلام البشري من خطأ وصواب) (¬6) . ¬

(¬1) يعني الأمور الغيبية غير المحسوسة، وهذه العبارات يكثر منها أبو زيد في كتبه -مع أن أكثر الناس لا يفهمونها-لإعطاء القارئ انطباعا بعمق المؤلف، ومدى اتساع علمه وثقافته، فيكسب نفسه هالة من قوة الطرح التي تنطلي على ضعاف الشخصيات والمتأثرين به، وهذا من أساليب الإرهاب الفكري الخفي، فهو يستطيع أن يقول (حالة غيبية لا ندري عنها شيئا) وتكون أسهل في الفهم، ولكنه يريد أن يتعالم أمام القارئ. (¬2) لم يذكر في كتابه الصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم) بل هي مني. (¬3) نقد الخطاب الديني (ص:126) ، القاهرة، مطبعة مدبولي، الطبعة الثالثة. (¬4) مفهوم النص، لنصر أبو زيد (ص:12) . (¬5) المرجع السابق (ص:27) . (¬6) انظر قصة أبو زيد وانحسار العلمانية في جامعة القاهرة، د. عبد الصبور شاهين (ص:86) .

وهذا هو أساس المذهب العلماني الذي ينطلق من مبدأ عزل الدين عن السياسة، وينتهي بعزل الدين عن الحياة (¬1) . ثانيا: الرد عليهم: يحسن فى بداية هذا الرد أن أقرر أن ثمة فرقاً كثيرة من الفرق المنحرفة، فتحت هذا الباب للطاعنين؛ منها المعتزلة في دعواهم تقديم العقل على النقل (¬2) ، ومنها الصوفية في دعواهم أن للقرآن معنى ظاهرا وباطنا، وأن الباطن لا يفهمه إلا كبار مشايخ الصوفية، وأن الكشف والرؤى والمنامات أهم مصادر التلقي عندهم (¬3) ، ومنها الشيعة الذين يقدمون قول الأئمة على القرآن (¬4) . لذلك كان من أهم ما يميز عقيدة أهل السنة والجماعة ما يسمى بمنهج التلقي (¬5) ، فهم يعتمدون في تلقى الأحكام الشرعية على القرآن ¬

(¬1) انظر: كتاب العلمانية، نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة، د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي، مصر، مكتب الطيب، ط2،1999. (¬2) انظر: الملل والنحل للشهرستاني (ص:56) ، بيروت، دار المعرفة، ط7،1998، والموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (1/73) ، نشر الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الرياض، دار الندوة العالمية للطباعة والنشر، ط3،1418. (¬3) انظر كتاب: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة، للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، القاهرة، دار الحرمين، ط4،1989. (¬4) انظر كتاب: (أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية، عرض ونقد) ،د. ناصر بن عبد الله القفاري، القاهرة، دار الحرمين للطباعة، ط2،1994. (¬5) انظر: رسائل في العقيدة لمحمد بن إبراهيم الحمد (ص:15) ،دار ابن خزيمة، الرياض، الطبعة الأولى 2002، والموسوعة الميسرة (1/40) ،وغيره من كتب العقيدة وأصول الفقه.

والسنة والإجماع والقياس، وغيرها من الأدلة التي يذكرها كل من تكلم في علم أصول الفقه، ويعتمدون في الفهم على فهم السلف الصالح للنصوص. والرد على هؤلاء وهؤلاء كالتالي: إذا ثبت أن القرآن ليس من عند النبي (صلى الله عليه وسلم) ، وأنه من الله تعالى بكل ما فيه من كلمات وحروف-كما أثبتنا هذا في المباحث السابقة- فهو إذن مقدس لا يمكن الاعتراض عليه ولا نقده، فقد أمر الله الناس باتباع الشرع، والأمر يدل على الوجوب؛ فقال سبحانه: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس:109] ، فكيف نخالف أمر الله تعالى بأن نتبع غير الوحي؟ ومن أعظم معاني العبادة الرضى به حَكَمًا سبحانه: {..إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف:40] ، فالدين القيم أن تجعل تحاكمك لله، والتحليل والتحريم والتشريع من خصائص الربوبية، ومن جعلها لغير الله فقد اتخذه ندا له سبحانه: { ... إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57] . والحصر يدل على انفراد الله تعالى بالحكم. {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31] عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: " أَتَيْتُ النَّبِيَّ (وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: يَا عَدِيُّ اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الْوَثَنَ ". وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا

اسْتَحَلُّوهُ وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ. ((¬1) . يعني أنهم لم يتخذوهم أربابا لأنهم عبدوهم، بل لكونهم أطاعوهم في التحليل والتحريم. وقال سبحانه: {..وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:26] ، فسمى التحاكم لغيره شِركًا (¬2) ، وقال: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيب} [الشورى:10] ، وكلمة (شيء) نكرة في سياق النفي وهذا من صيغ العموم، فكل شيء نختلف فيه فالحكم فيه لله، ثم أكد على إرادة العموم بـ (من) التي تفيد التأكيد (¬3) . والله سبحانه لا يحكم ولا يقضي إلا بالحق، فمن رد حكم الله وشرعه فإنما رد الحق {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ... } [يونس:32] . قال جل جلاله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ... } [المائدة:48] . وقال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ... } [النساء:105] . وقال سبحانه: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ... } [الإسراء:105] ، فهو متلبس بلبوس الحق على كل أحواله (¬4) . والله تعالى لا يظلم ولا يحيف في الحكم (¬5) ( ... أَمْ يَخَافُونَ ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (كتاب التفسير، باب سورة التوبة، رقم:3095) وحسنه الألباني (صحيح الترمذي (3/56) رقم:2471) . (¬2) انظر: أضواء البيان للشنقيطي (4/91) ،مكتبة ابن تيمية، القاهرة، 1988. (¬3) انظر: تفسير القرطبي (16/7) . (¬4) انظر: تفسير القاسمي (4/636) . (¬5) انظر تفسير ابن كثير (3/298) .

أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ ( [النور:50] ، فلماذا إذن لا نأخذ حكمه؟ وقال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين:8] {..وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [الأعراف:87] ، { ... وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] . فإن كان الله أحسن الحاكمين وخيرهم وأحكمهم، فكيف يعرض المسلم عنه إلى غيره؟ لذلك قال النبي (صلى الله عليه وسلم) كما ذكر الله تعالى عنه: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [الأنعام:114] ، يعني وأهل الكتاب يشهدون بفضله ومنزلته وأنه حق. واتباع الرسالة هو ينبوع السعادة؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن السعادة والهدى في متابعة الرسول، وإن الضلال والشقاء فى مخالفته، وإن كل خير فى الوجود إما عام وإما خاص، فمنشأه من جهة الرسول، وإن كل شر فى العالم مختص بالعبد فسببه مخالفة الرسول أو الجهل بما جاء به، وإن سعادة العباد فى معاشهم ومعادهم باتباع الرسالة، والرسالة ضرورية للعباد لابد لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء، والرسالة روح العالم ونوره وحياته، فأي صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور، والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة (¬1) ، ¬

(¬1) يشير ابن تيمية إلى ما أخرجه الترمذي (في كتاب الزهد، باب منه، رقم:2322) ، وابن ماجه (كتاب الزهد، باب مثل الدنيا، رقم:4112) عن أبي هريرة مرفوعا (الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا ذِكْرَ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ أَوْ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا) ، وهو حسن، حسنه الترمذي والألباني (صحيح سنن الترمذي (2/269) .

وكذلك العبد ما لم تشرق فى قلبه شمس الرسالة، ويناله من حياتها وروحها، فهو في ظلمة وهو من الأموات قال الله تعالى: (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها (فهذا وصف المؤمن، كان ميتا فى ظلمة الجهل فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان، وجعل له نورا يمشى به فى الناس، وأما الكافر فميت القلب (في الظلمات) ، وسمى الله تعالى رسالته روحاً، والروح إذا عدم فقد فقدت الحياة قال الله تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدى به من نشاء من عبادنا (فذكر هنا الأصلين وهما الروح والنور، فالروح الحياة، والنور النور. وحاجة العبد إلى الرسالة أعظم بكثير من حاجة المريض الى الطب، فإن آخر ما يقدر بعدم الطبيب موت الأبدان، وأما إذا لم يحصل للعبد نور الرسالة وحياتها مات قلبه موتا لا ترجى الحياة معه أبدا، أو شقي شقاوة لا سعادة معها أبدا، فلا فلاح إلا باتباع الرسول، فان الله خص بالفلاح أتباعه المؤمنين وأنصاره، كما قال تعالى: (فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون (أي لا مفلح إلا هم، فعلم بذلك أن الهدى والفلاح دائر حول ربع الرسالة وجودا وعدما، وهذا مما اتفقت عليه الكتب المنزلة من السماء، وبعث به جميع الرسل. ولهذا قص الله علينا أخبار الأمم المكذبة للرسل، وما صارت إليه عاقبتهم، وأبقى آثارهم وديارهم عبرة لمن بعدهم وموعظة،

وكذلك مسخ من مسخ قردة وخنازير لمخالفتهم لأنبيائهم، وكذلك من خسف به وأرسل عليه الحجارة من السماء، وأغرقه في اليم، وأرسل عليه الصيحة وأخذه بأنواع العقوبات، وإنما ذلك بسبب مخالفتهم للرسل وإعراضهم عما جاءوا به واتخاذهم أولياء من دونه، وهذه سنته سبحانه فيمن خالف رسله وأعرض عما جاءوا به، واتبع غير سبيلهم، ولهذا أبقى الله سبحانه آثار المكذبين لنعتبر بها ونتعظ؛ لئلا نفعل كما فعلوا فيصيبنا ما أصابهم، كما قال تعالى: (إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون (وقال تعالى: (ثم دمرنا الآخرين وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون (أي تمرون عليهم نهارا بالصباح وبالليل، وهذا كثير في الكتاب العزيز يخبر الله سبحانه عن إهلاك المخالفين للرسل، ونجاة اتباع المرسلين؛ ولهذا يذكر سبحانه فى سورة الشعراء قصة موسى وإبراهيم ونوح وعاد وثمود ولوط وشعيب، ويذكر لكل نبي إهلاكه لمكذبيهم والنجاة لهم ولأتباعهم، ثم يختم القصة بقوله (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم (فختم القصة باسمين من أسمائه تقتضيها تلك الصفة وهو العزيز الرحيم، فانتقم من أعدائه بعزته، وأنجى رسله واتباعهم برحمته. والرسالة ضرورية في إصلاح العبد في معاشه ومعاده، فكما أنه لا صلاح له في آخرته إلا باتباع الرسالة؛ فكذلك لا صلاح له في معاشه ودنياه إلا باتباع الرسالة؛ فإن الإنسان مضطر إلى الشرع، فإنه بين حركتين حركة يجلب بها ما ينفعه، وحركة يدفع بها ما يضره، والشرع هو النور الذي يبين ما ينفعه وما يضره، والشرع نور الله في أرضه، وعدله بين عباده وحصنه الذي من دخله كان آمنا، وليس المراد بالشرع التمييز بين الضار والنافع بالحس، فإن ذلك يحصل للحيوانات العجم، فإن الحمار والجمل يميز بين الشعير والتراب، بل التمييز بين الأفعال التي تضر فاعلها في معاشه ومعاده، كنفع الإيمان، والتوحيد، والعدل، والبر، والتصدق، والإحسان، والأمانة، والعفة، والشجاعة، والحلم، والصبر، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وصلة الأرحام، وبر الوالدين، والإحسان إلى

المماليك، والجار، وأداء الحقوق، وإخلاص العمل لله، والتوكل عليه، والاستعانة به، والرضا بمواقع القدر به، والتسليم لحكمه، والانقياد لأمره، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، وخشيته في الغيب والشهادة، والتقوى إليه بأداء فرائضه واجتناب محارمه، واحتساب الثواب، عنده وتصديقه وتصديق رسله في كل ما أخبروا به، وطاعته في كل ما أمروا به مما هو نفع وصلاح للعبد في دنياه وآخرته وفى ضد ذلك شقاوته ومضرته فى دنياه وآخرته، ولولا الرسالة لم يهتد العقل إلى تفاصيل النافع والضار في المعاش والمعاد، فمن أعظم نعم الله على عباده وأشرف منة عليهم، أن أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وبين لهم الصراط المستقيم، ولولا ذلك لكانوا بمنزلة الأنعام والبهائم، بل أشر حالا منها، فمَنْ قَبِلَ رسالة الله واستقام عليها، فهو من خير البرية، ومَنْ رَدَّها وخرج عنها فهو من شر البرية، وأسوأ حالا من الكلب والخنزير والحيوان البهيم، وفى الصحيح من حديث أبى موسى رضى الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «مَثَلُ ما بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الهُدَى والعِلْمِ، كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا فَكانَتْ مِنهَا طَائِفَة قَبِلَتْ الماءَ فأنْبَتَتِ الكَلَأَ والعُشْبَ الكثيرَ، وكان منها أجادِبِ أَمْسَكَتِ الماءَ فنَفَعَ اللهُ بها النَّاسَ، فشربوا منها وانتفعوا وزرعوا، وأصابَ طائفةً منها أخرى إنما هي قيِعَانُ لا تُمْسِكُ ماءً ولا تُنْبِتُ كَلأ، فذلك مثل من فَقِهَ في دِينِ اللهِ تعالى ونَفَعَه ما بعثني اللهُ به، فعَلِمَ وعَلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يَقْبَل هُدَى الله الذي أُرْسِلْتُ به» متفق على صحته.

فالحمد لله الذي أرسل إلينا رسولا من أنفسنا، يتلو علينا آيات الله ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة ن وإن كنا من قبل لفي ضلال مبين، والدنيا كلها ملعونة ملعون ما فيها إلا ما أشرقت عليه شمس الرسالة، وأسس بنيانه عليها، ولا بقاء لأهل الأرض إلا ما دامت آثار الرسل موجودة فيهم، فإذا دَرسَتْ آثار الرسل من الأرض، وانمحت بالكلية، خرب الله العالم العلوي والسفلي، وأقام القيامة، وليست حاجة أهل الأرض إلى الرسول كحاجتهم إلى الشمس والقمر والرياح والمطر، ولا كحاجة الإنسان إلى حياته، ولا كحاجة العين إلى ضوئها، والجسم إلى الطعام والشراب؛ بل أعظم من ذلك وأشد حاجة من كل ما يقدر ويخطر بالبال، فالرسل وسائط بين الله وبين خلقه في أمره ونهيه، وهم السفراء بينه وبين عباده، وكان خاتمهم وسيدهم وأكرمهم على ربه محمد بن عبد الله، يقول: " يا أيها الناس إنما أنا رحمةً مهداة " وقال الله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (وقال صلوات الله وسلامه عليه: «إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب» (¬1) وهذا المقت كان لعدم هدايتهم بالرسل. أهـ) (¬2) . لذلك كان من يعرض عن دين الله ويحكم أي شيء آخر، فإنما هو متبع لهواه: قال سبحانه: (فَإِن لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص:50] ؛ يعني لا أحد أضل ممن اتبع هواه. وقال جل جلاله: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم ¬

(¬1) أخرجه الدرامي عن أبي صالح مرسلاً (المقدمة، باب كيف كان أول شأن النبى رقم 150) (¬2) فتاوى ابن تيمية (19/93-101) بتصرف يسير.

بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( [المائدة:49-50] ، فكل حكم غير حكم الله، فهو حكم الجاهلية، وليس الحضارة والتقدم كما يزعم الطاعنون. وقال: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ... } [المائدة:48] . وقال: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ} [الرعد:37] ، وهذا وعيد شديد للنبي (لو خالف كتاب الله؛ فما بالك بغيره. بل هذا التولي عن دين الله يعد من نواقض الإسلام يقول تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] ، فنفى الله تعالى عن من لم يُحَكِّمِ النبيَّ (الإيمان، وأقسم على ذلك بأعظم قسم -أقسم بنفسه العلية- وأكد هذا بالنفي مرتين (لا.. لا) ، (وفي هذا الوعيد الشديد ما تقشعر له الجلود وترجف له الأفئدة فإنه أولا اقسم سبحانه بنفسه مؤكدا لهذا القسم بحرف النفي بأنهم لا يؤمنون فنفى عنهم الإيمان الذي هو رأس مال صالحي عباد الله حتى تحصل لهم غاية هي تحكيم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم لم يكتف سبحانه بذلك حتى قال (ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت) فضم إلى التحكيم أمرا آخر هو عدم وجود حرج أي حرج في صدورهم فلا يكون مجرد التحكيم والإذعان كافيا حتى

يكون من صميم القلب عن رضا واطمئنان وانثلاج قلب وطيب نفس ثم لم يكتف بهذا كله بل ضم إليه قوله (ويسلموا) أي يذعنوا وينقادوا ظاهرا وباطنا ثم لم يكتف بذلك بل ضم إليه المصدر المؤكد فقال (تسليما) فلا يثبت الإيمان لعبد حتى يقع منه هذا التحكيم ولا يجد الحرج في صدره بما قضى عليه ويسلم لحكم الله وشرعه تسليما لا يخالطه رد ولا تشوبه مخالفة.) (¬1) وقال سبحانه: { ... وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] . { ... وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] . { ... وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] . (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُم مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُم مُعْرِضُونَ (48) وَإِن يَكُن لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ( [النور:47-54] . لذلك كله فلا يجوز لأحد كائنا من كان أن ينتقد كتاب الله ¬

(¬1) فتح القدير للشوكاني (1/573) .

أو يخالف مقتضاه: قال تعالى: { ... وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:41] . نعم لا يجوز لأحد أن يعقب على أحكام الله، وذلك أن الانتقاد والتعقيب إنما يكون بسبب أمور؛ إما أن المعقب والمنتقِد أعلم من المنتقَد، سواء كان أعلم على العموم أو بهذه المسألة بالذات التي أنتقد فيها، أو لا يكون أعلم ولكن المنتقَد غفل عن نقطة معينة في حكمه جانب فيها الصواب، فينبهه المنتقِد عليها. وكل هذا منتفٍ بحق الله سبحانه، فلا أحد أعلم منه في كل الأمور جملة وتفصيلا، والله سبحانه وتعالى لا تأخذه سنة ولا نسيان ولا غفلة: { ... لا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه:52] . {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:132] . وقد الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ ... } [النساء:105] . وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ... } [النساء:64] . إذن الغاية من إنزال الكتب أن يُتحاكم إليها، والغاية من إرسال الرسل طاعتها، فمن لم يحقق هذه الغايات فهو لم يؤمن أصلا بدين الإسلام، بل بكل الأديان، فما الدين إلا طاعة الله تعالى بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وما الإسلام إلا استسلام لله في تطبيق شرعه على نفسه ومجتمعه. -الرد التفصيلي: وأما زعم المستشرقين -تنمان وبروكر وفيكتور - أن القرآن يعوق النظر العقلي الحر، فهذا باطل لوجوه:

1/القرآن أمر في كثير من الآيات بالنظر والتفكر والبحث: فقد أمرهم الله تعالى بالنظر إلى كل العلوم، فأمر بالنظر إلى عالم النبات في قوله {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:99] وقال سبحانه {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم:50] ، وأمرهم بالنظر إلى علم الفلك في قوله {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:185] ، {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101] ، {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6] ، وفي علم الطب والتشريح قال {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق:5] ، وأمرهم بالنظر إلى علم التاريخ فقال تعالى {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران:137] وقال {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت:20] ،

وفي علم الطبيعة والجغرافيا قال {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد:3] ، وأثنى الله تعالى على المفكرين والمتأملين لهذا الكون فقال {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار} [آل عمران:191] ، وأمر بالتفكر فقال {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} [الروم:8] ، وقال: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ:46] . فالزعم أن القرآن يعوق النظر العقلي الحر هو غاية في المناقضة لصريح القرآن. 2/الذي يعوق أتباعه عن النظر العقلي الحر هو من كان يظن أن في كتابه شيئا من الخطأ يتعارض مع العقل، أما والحال أن القرآن ليس فيه شيء من الخطأ أو الخلل فإنه أمر بل تحدى أن يجد الناس في القرآن شيئا يخالف ما عليه النظر العقلي الحر (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) ، وقد ألف الإمام ابن تيمية -رحمه الله- كتاب (درء تعارض العقل والنقل) قرر فيه أنه لا يمكن أن يتعارض نقل صحيح مع عقل صريح وأن الشرع لا يأتي بشيء تحيله العقول، ثم فند فيه كل زعم المعارضة بينهما.

-قول طه حسين (الباحث الناقد والمفكر الجريء لا يفرق في نقده بين القرآن وبين أي كتاب أدبي آخر) ومثله قول نصر أبو زيد (منذ نزل القرآن في كلمات عربية أصبح بشريا يجوز الطعن فيه وعليه، وتجوز مناقشته ويجوز فيه ما يجوز على الكلام البشري من خطأ وصواب) : فهذا الكلام في غاية من الخطورة مخالف لما عليه إجماع المسلمين، وكيف لا يفرق الناقد بين كتاب الله المنزه سبحانه عن كل خطأ ونقص وكتاب إنسان المجبول على الخطأ والنقص، وما الطعن في كتاب الله إلا طعنا في الله سبحانه إذ القرآن من كلام الله الذي هو صفة من صفاته، فهل يجوز الطعن في الله؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، لقد اتفقت الملل والأديان والشعوب والمذاهب أن الإله المستحق للعبادة هو الذي بلغ الكمال المطلق في كل شيء، فإن كان الإله كاملا فما يقوله كامل أيضا، وما هذه الدعوى إلا تمهيدا لتجريئ الناس على كتاب الله؛ فإذا كان يمكن نقده إذن يمكن مخالفته وعدم اتباعه، بل هذا ما صرح به طه حسين نفسه عندما قال-كما تقدم-: (إن الدين الإسلامي يجب أن يعلم فقط كجزء من التاريخ القومي لا كدين إلهي منزل بين الشرائع للبشر، فالقوانين الدينية لم تعد تصلح في الحضارة الحديثة كأساس للأخلاق والأحكام، ولذلك لا يجوز أن يبقى الإسلام في صميم الحياة السياسية أو أن يتخذ كمنطلق لتجديد الأمة فالأمة تتجد بمعزل عن الدين) وكذا صرح بهذا نصر أبو زيد عندما قال (آن أوان المراجعة والانتقال إلى مرحلة التحرر، لا من سلطة النصوص وحدها، بل من كل تعوق مسيرة الإنسان في عالمنا، علينا أن نقوم بهذا الآن وفورا قبل أن يجرفنا الطوفان) . ونحن نسأل هؤلاء الذين يرون وجوب التحرر من سلطة النصوص

ويرون أن القوانين الدينية لم تعد تصلح كأساس للأخلاق والأحكام، ما هو الذي يصلح إذن كأساس للأخلاق والأحكام؟ هل هي شريعة الغاب في أفريقيا، أم شريعة الإباحية في أوروبا التي تبيح للرجل فعل الفاحشة حتى أرحام وعائلته وتبيح زواج المثلين والشذوذ الجنسي مع الحيوانات، فما هي القوانين الوضعية التي تصلح الآن كأساس للأخلاق والأحكام؟. وقد علم الله تعالى أن كثيراً من الناس سوف يعارض حكم الله بعقله القاصر، فأمر بالصبر على حكمه وعدم التنازل لأي بشر في هذه القضية: قال تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ... } [الإنسان:24] وهذه الآية ذُكِرَتْ كثيرا في كتاب الله. وقام بعض الطاعنين من المعاصرين بحيلة جديدة لإبطال النصوص، فأخذوا يبحثون في كتب أهل العلم عن مدخل يلجوا منه إلى إسقاط العمل بكتاب الله وإبطال النصوص، فوجدوا قاعدة من قواعد التفسير للعلماء فيها قولان، فأخذوا القول الضعيف منهما والمخالف لما عليه الجمهور؛ لأنهم ظنوا أنه يخدم أغراضهم، وهذه القاعدة هي: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فأخذوا بالرأي الآخر وهو: أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ، وفهموا من هذه القاعدة فهما خاطئا؛ وهو أن كل نص يُخص الحكم بسببه ولا يتعدى فيه الحكم إلى غيره. مع أن أصحاب القول المرجوح لم يقولوا هذا، بل رأوا أنه ما كان فيه نفس علة سبب النزول فله نفس الحكم من باب القياس الجلي، فالخلاف بين العلماء هو في الوقائع التي بمثل علة النص، هل تدخل

في النص بعمومه أم بالقياس، فهم لم يختلفوا في دخولها، وإنما اختلفوا في كيفية دخولها، فبعضهم قال: النص يشملها بعمومه. وبعضهم قال: لا يشملها النص، ولكن يقاس على المنصوص عليه. وأما هؤلاء فقالوا: إن الحكم مقصور على سبب نزوله لا يتعداه إلى غيره بحال من الأحوال، لا نصا ولا قياسا، وشنوا حربا على قاعدة (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) حتى قال المستشار العشماوي: إن قاعدة (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) قد حدثت في فترات الظلام الحضاري والانحطاط العقلي) ، وهذا ما يدندن عليه نصر أبو زيد في كتابه (مفهوم النص) كثيرا، ثم زادوا الطين بلة، فقالوا: والنصوص لا تفهم إلا بأسباب نزولها، فما لم يكن له سبب نزول معروف، فلا يجوز تطبيقه ولا العمل به، وبما أن أكثر النصوص من هذا الباب؛ إذن فيجب على الناس أن يجتهدوا في كل زمان في تشريع الأحكام التي تناسب عصرهم بقطع النظر عن القرآن، فهم يريدون تفريغ القرآن من محتواه وجعله أوعية فارغة، وقوالب لا معنى لها، أو لها معنى مقصور على عصر التنزيل فقط (¬1) . ومِثْل هذا أيضا جارودي (¬2) الذي يرى أن القرآن موجه إلى ¬

(¬1) انظر في دراسة هذا الموضوع والرد على المخالفين فيه كتاب (أسباب النزول بين الفكر الإسلامي والفكر العلماني) ، للدكتور محمد سالم محمد، القاهرة، ط1، 1996،وهو يريد بهذا الرد على نصر أبو زيد ومحمد سعيد العشماوي ومحمد أركون الجزائري الذين تبنوا هذا الرأي ودافعوا عنه في مؤلفاتهم، وقد لخصته في هذه الصفحات. (¬2) روجيه جارودي [1913 - على قيد الحياة] : مفكر فرنسي معروف، كان أحد كبار زعماء الحزب الشيوعى الفرنسى سابقاً، أعتنق النصرانية فى مرحلة الشباب، وفي عام 1933 أنضم إلي الحزب الشيوعي الفرنسي،، وفصل عنه عام 1970، وفي جنيف وتسمى بـ (رجاء جارودي) ، وكتب العديد من المؤلفات، ولكن كان لثقافته الشيوعية بقية آثار على فكره، فكان أحيانا يتخبط فى كتبه. [انظر: "فكر جارودي بين المادية والإسلام "، لعادل التل، ص 25، " قالوا عن الإسلام " ص 214]

شعب معين في تاريخ محدد (¬1) ، ويكفيك من شر سماعه، وحكاية كلام هؤلاء يكفي في بطلانه، وبيان بشاعته وخطورته على الدين، وقد تقدم في النصوص السابقة من الكتاب والسنة الرد عليهم، فيغني عن إعادته. ¬

(¬1) فكر جارودي بين المادية والإسلام (نقد كتابات روجيه جارودي في ضوء الكتاب والسنة) ، عادل التل، (ص:131) ، دار البينة، بيروت، ط2،1997.

المبحث الثاني: زعم عدم حفظه (النص القرآني)

المبحث الثاني: زعم عدم حفظه (النص القرآني) المطلب الأول: شبهة أنه ليس هو القرآن الذي أنزل: جاء في دائرة المعارف الإسلامية (¬1) : (الوحي الذي ¬

(¬1) أصدر المستشرقون هذا الكتاب منذ بضع عشرات من الأعوام بعدة لغات -الإنجليزية والفرنسية والألمانية- كموسوعة كاملة عن الإسلام دينا وتاريخا وحضارة وآدابا وعلوما واقتصادا وسياسة وأعلاما، وهي تقع في أربعة مجلدات ضخام، وبعد صدورها بفترة بدا لهم أن ينتزعوا من بين موادها المواد الخاصة بالدين وعلومه وأعلامه، ثم أصدروا ذلك في مجلد واحد بعنوان (مختصر دائرة المعارف الإسلامية) ، وفي هذا المجلد يجد القارئ خلاصة الفكر الاستشراقي فيما يخص ديننا ورجاله. انظر: دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية، أضاليل وأباطيل للدكتور إبراهيم عوض، (ص:5) مكتبة البلد الأمين، القاهرة، الطبعة الأولى 1998، ومن منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة بحث بعنوان (دراسة لتصحيح الأخطاء الواردة في الموسوعة الإسلامية) ، وللدكتور فضل حسن عباس رسالة بعنوان (قضايا قرآنية في الموسوعة البريطانية؛ نقد مطاعن ورد شبهات) ، دار البشير، الأردن، الطبعة الثانية1989.

كان الرسول (يتلقاه ليس هو القرآن الذي نقرؤه الآن، ذلك أن هذا الوحي قد أعيدت صياغته بحيث أخذ الشكل الحالي) (¬1) ، ثم ذكر الدليل على ذلك وهو أنه (لا يمكن التوفيق بين فكرة وجود أصل للقرآن محفوظ في السماء وما وقع في القرآن من نسخ) (¬2) . ويقول صاحب كتاب الوحي الجديد: (إنه من المستحيل أن يكون القرآن الحالي حاويا لجميع ما أنزل , بل إنه من المؤكد تاريخيا أنه قد ذهب جانب ليس بالقليل، ومن المستحيل إقامة البرهان على أنه طِبْقَ ما نطقت به شفتا محمد تماما , بل إنه في آيات عديدة منه اختلافات مدهشة، ولا يعرف إلا الله ما هو النص الصحيح) (¬3) . ويقول: (إننا نعلم تماما بشهادة زيد بن ثابت، التي لا ريب فيها ¬

(¬1) دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية، لإبراهيم عوض (ص:7) . (¬2) المرجع السابق (ص:9) . (¬3) الوحي الجديد (ص:44) ، نقلا عن كتاب مناقشات وردود، لمحمد فريد وجدي (ص:370) . وواضح من اسم الكتاب (الوحي الجديد) أنه ينكر وجود الوحي القديم.

المطلب الثاني: شبهة أنه زيد فيه ونقص , والرد عليها:

أنه لم تدون جميع السور والآيات التي سمعت من فم محمد، بل إن كثيرا منها حفظ في صدور الناس، ومرت سنون عديدة قبل أن يؤمر زيد بتدوينها، نقلا عن ذاكرة أولئك القراء , فكيف تأمن على الحقيقة من ذاكرتهم؟) (¬1) . المطلب الثاني: شبهة أنه زِيدَ (¬2) فيه ونُقِصَ , والرد عليها: أولاً: في هذا المطلب نعرض للقول بأن أصل القرآن موجود، ولكنه زيد فيه أو نقص، وقد فتح هذا الباب على مصراعيه الرافضة الاثنا عشرية , حيث نقلوا عن أئمتهم أن القرآن محرف وناقص ومبدل، وإنما فعلوا هذا حتى يثبتوا خلافة علي رضي الله عنه وآل بيته؛ فإذا اعترض عليهم معترض بأن هذه الولاية لم تذكر في القرآن , لا تصريحا ولا تلميحا ولا إشارة، كان الجواب: إن القرآن محرف ناقص (¬3) . وتقول في دائرة المعارف الإسلامية: (القرآن لم يسجل كله عند نزوله، بل كثير من الوحي المتقدم النزول لم يسجل؛ لأن المسلمين لم يكونوا منتبهين لأهمية ما يتلوه الرسول (، فضاع كثير من القرآن) (¬4) . وتشير دائرة المعارف أيضا إلى سقوط سورتين كاملتين من القرآن , وهما (سورة النورين) و (سورة الولاية) (¬5) . آخذين هذا الرأي من مذهب الشيعة الغلاة. وفيها أيضا: (البعض ينكر الآيات التي يلعن فيها خصوم محمد) (¬6) . وقال رحمانيوف: (إن الخوارج قد ألفت سورة يوسف، بينما زادت الشيعة سورة أخرى) (¬7) . ويقول جولدتسهير (¬8) : (لا يوجد كتاب تشريعي اعترفت به طائفة دينية اعترافا عقديا على أنه نص منزل أو موحى به , يقدم نصه في أقدم ¬

(¬1) المرجع السابق ص:371. (¬2) وقد ألف الدكتور فضل حسن عباس- الأستاذ المشارك في الجامعة الأردنية، كلية الشريعة- كتابا بعنوان لطائف المنان ورائع البيان في دعوى الزيادة في القرآن، تكلم فيه كلاما جيد عن قضية أن القرآن قد زيد فيه، ولكنه لم يتكلم عن موضوع النقص، والكتاب طبعته دار النور للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأول،1989. (¬3) انظر كتاب الشيعة الاثنا عشرية وتحريف القرآن، لمحمد عبد الرحمن السيف، الطبعة الأولة 1998, لم يذكر عليه اسم الدار التي طبعته ولا مكان الطبع، وكتاب الشيعة والقرآن، لإحسان إلهي ظهير، مكتبة إدارة ترجمات السنة، لاهور باكستان، وكتاب (أيلتقي النقيضان) لمحمد مال الله، دار النفير، الكويت، الطبعة الأولى1421. وأصول مذهب الشيعة الإمامية الاثنى عشرية، د. ناصر بن عبد الله القفاري، الفصل الأول من الباب الأول بعنوان (اعتقادهم في القرآن) (1/123) . وانظر من كتب الشيعة كتاب (فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب) للنوري الطبرسي، وقد طبع عدة طبعات، وكتاب لله ثم للتاريخ، لحسين الموسوي، وقد طبع عدة طبعات من غير ذكر للدار التي طبعته. (¬4) دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية (ص:14) . (¬5) دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية (ص:18) . (¬6) المرجع السابق. (¬7) انظر كتاب: الرد القرآني على كتيب"هل يمكن الاعتقاد بالقرآن" للسفير الروسي م. رحمانوف, لعبد الله كنون. (ص:22) دار الكتاب اللبناني، الطبعة الأولى1982. (¬8) تقدمت ترجمته ص 232

عصور تداوله , مثل هذه الصورة من الاضطراب وعدم الثبات، كما نجد في النص القرآني) (¬1) . ونفى نولدكه الألماني (¬2) في كتابه (تاريخ القرآن) أن تكون فواتح السور من القرآن , مدعيا أنها رموز لمجموعات الصحف التي كانت عند المسلمين الأولين قبل أن يوجد المصحف العثماني، فمثلا حرف الميم كان رمزا لصحف المغيرة , والهاء لصحف أبي هريرة , والصاد لصحف سعد بن أبي وقاص , والنون عثمان؛ فهي-كما يزعم- إشارات لملكية الصحف , وقد تركت في مواضعها سهواً، ثم ألحقها طول الزمن بالقرآن فصارت قرآنا (¬3) . وقال طه حسين -مقلدا المستشرقين-: (هناك موضوع آخر يجب أن أنبهكم إليه , وهو مسألة هذه الحروف العربية غير المفهومة التي تبتدئ بها بعض السور , مثل ألم، ألر، طس، كهيعص، حم، عسق ... إلخ، فهذه كلمات ربما قصد منها التعمية أو التهويل , أو إظهار القرآن في مظهر عميق مخيف , أو هي رموز وضعت للتمييز بين المصاحف المختلفة التي كانت موضوعة عند العرب، فمثلا (كهيعص) رمزاً لمصحف ابن مسعود، (حم عسق) رمزاً لمصحف ابن عباس (طس) رمزاً لمصحف ابن عمر، وهلم جرا، ثم ألحقها مرور الزمن بالقرآن فصارت قرآنا) (¬4) . ¬

(¬1) انظر كتاب: القرآن والمستشرقون , لنقرة ص:40، عن كتاب القرآن والكتاب. (¬2) تقدمت ترجمته ص (202) (¬3) انظر بحث القرآن والمستشرقون , للدكتور التهامي نقرة (1/23) ،ضمن كتاب مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والإسلامية، طبعة مكتب التربية العربي لدول الخليج. (¬4) نقض مطاعن في القرآن الكريم، لمحمد أحمد عرفة، ص:7-8.

ويقول نصر أبو زيد: (لم ينج القرآن من عمليات المحو والإثبات) (¬1) . ثانيا: الرد على هذه الشبهة: 1- دعوى أن القرآن تبدل كله لها اتصال وثيق بالشبهة التي تليها , ولكنها زادت في المبالغة والسذاجة حتى ادعت بأن القرآن كله قد تغير، مخالفين بذلك الإجماع التاريخي على حفظ القرآن منذ عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى يومنا هذا (¬2) ، وإليك بعض النصوص من منصفيهم -لا من كتبنا- على أن ¬

(¬1) قصة أبو زيد وانحسار العلمانية في جامعة القاهرة، لعبد الصبور شاهين (ص:202) . (¬2) من أساليب الغزو الفكري، لغنايم (ص:567) .

القرآن الموجود بين أيدينا هو نفس القرآن الذي أنزل على النبي (صلى الله عليه وسلم) ؛ ولم يتغير منه حرف لا زيادة ولا نقصا. يقول لوبلوا (¬1) : (إن القرآن هو اليوم الكتاب الرباني الوحيد الذي ليس فيه أي تغيير يذكر) (¬2) . ويقول موير (¬3) : (إن المصحف الذي جمعه عثمان قد تواتر انتقاله من يد ليد حتى وصل إلينا بدون أي تحريف، ولقد حُفِظَ بعناية شديدة بحيث لم يطرأ عليه أي تغيير يذكر , بل نستطيع أن نقول: إنه لم يطرأ عليه أي تغيير على الإطلاق في النسخ التي لا حصر لها , والمتداولة في البلاد الإسلامية الواسعة؛ فلم يوجد إلا قرآن واحد لجميع الفرق الإسلامية المتنازعة، وهذا الاستعمال الإجماعي لنفس النص المقبول من الجميع حتى اليوم , يعد أكبر حجة ودليل على صحة النص المنزل ¬

(¬1) لوبلوا: لم أجد له ترجمة، وإن كان واضحا من اسمه أنه فرنسي، وقد يكون هناك خطأ مطبعي في كتابة اسمه، فقد وجدت رجلا فرنسيا اسمه (ماري لوبان) وهو زعيم حزب الجبهة الوطنية، كان ضابطا في الجيش الفرنسي بالجزائر، وله عضوية بالبرلمان الأوروبي بمدينة سترازبورغ، حزبه ينمو لمطالبته بإخراج العرب من فرنسا، يتراوح عدد المصوتين له بين 8و11%، فلعله يكون هو مقصود الدكتور دراز لاسيما أن دراز أقام في فرنسا طويلا. (انظر: مجلة الهدى التونسة، العدد13) . (¬2) انظر: كتاب مدخل إلى القرآن الكريم، للدكتور محمد عبد الله دراز، (ص:40) ، دار القلم، الكويت،1993. (¬3) ليوأري موير (1895 - 1959) : ولد في بولندا , علام بولندا , عالم بالآثار الإسلامية , يهودي , هاجر إلي فلسطين عام (1921) ومات فيها , وتقلب في الجامعة العبرية بين مناصب كثيرة من مدرس في معهد الدراسات الشرقية ثم عميد المعهد ثم مدير للجامعة , وله مؤلفات كثيرة، انظر: "موسوعة المستشرقين ": ص 539.

الموجود معنا , والذي يرجع إلى الخليفة المكروب عثمان) (¬1) . ويقول بلاشير (¬2) : (إن الفضل بعد الله يعود إلى الخليفة عثمان بن عفان؛ لإسهامه قبل سنة 655م في إبعاد المخاطر الناشئة عن وجود نسخ عديدة من القرآن، وإليه وحده يدين المسلمون بفضل تثبيت نص كتابهم المنزل، على مدى الأجيال القادمة) (¬3) . 2- هذه الشبهة الرد عليها متفرع من الرد على الشبه السابقة، فإن كان المخالف قد أقر بأن هذا القرآن ليس من النبي (صلى الله عليه وسلم) ولا نقله من غيره، بل هو من الله تعالى؛ فإن الله قال في هذا الكتاب: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر:9] ، فبما أن الله تكفل بحفظه، إذن لا يوجد مجال للطعن في بقائه؛ لأن هذا تكذيب لله تعالى. 3-يكفي في الرد على هذه الدعوى العارية عن مستند أن نطالبهم بالدليل، {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} [البقرة::111] . فالدعاوى إن لم تقم عليها بينات أصحابها أدعياء 4- نرد عليهم بالواقع؛ فإن الواقع يُثْبِتُ إن القرآن لم يتغير منه شيء، فالتفاسير القديمة والكتب المؤلفة في الصدر الأول، والآثار المنقولة عن التابعين والصحابة ,والأحاديث المرفوعة للنبي (لم نجد فيها حرفا يغاير ما هو بين أيدينا الآن، بل يذكر فيها القرآن بنصه وحروفه وترتيبه، وكل من قام بمحاولة لتحريفه أو تغييره فُضِحَ وكُشِفَ وباءت حيلُه بالفشل. ¬

(¬1) مدخل إلى القرآن الكريم، للدكتور محمد عبد الله دراز، (ص:40) ، دار القلم، الكويت،1993. (¬2) تقدمت ترجمته ص (9) . (¬3) تاريخ الأدب العربي لبلاشير (2/22) عن كتاب قالوا عن الإسلام (ص:52) .

5-أجمع العلماء على أن ما بين دفتي المصحف هو كتاب الله الذي أنزل، وليس فيه نقص ولا زيادة (¬1) ، ولم تعتن أمة من الأمم بكتاب كاعتناء أمة الإسلام بكتاب الله (القرآن) ، فقد ألفت حوله من الكتب ما لا يحصى كثرة؛ في تفسيره وضبط حروفه وعلومه, وتفنيد الشبهات حوله, وقراءاته, وتجويده, وإعجازه, وبلاغته, وإعرابه ,ورسمه ,وأعداد كلماته, وحروفه، وغير ذلك (¬2) . 6- من الأدلة على سلامة نقله وحفظه من النقص، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يكتم أي شيء حتى ما كان فيها معاتبة شديدة له؛ مثل قوله سبحانه: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ... } [الأحزاب:37] . عَنْ مَسْرُوقٍ -رحمه الله- قَالَ: كُنْتُ مُتَّكِئًا عِنْدَ عَائِشَةَ, فسَأَلْتُ عَائِشَةَ: هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ (رَبَّهُ؟ فَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ لَقَدْ قُفَّ شَعَرِي لِمَا قُلْتَ؛ يَا أَبَا عَائِشَةَ ثَلَاثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ، قُلْتُ: مَا هُنَّ؟ قَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا (رَأَى رَبَّه, فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ قَالَ: وَكُنْتُ مُتَّكِئًا فَجَلَسْتُ , فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْظِرِينِي وَلَا تَعْجَلِينِي, أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (فَقَالَتْ: أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ,فَقَالَ: ¬

(¬1) انظر: شبهات حول القرآن (ص:49) (¬2) انظر: مدخل إلى علم التفسير، أ. د. محمد بلتاجي (ص:7) .

«إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ , رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنْ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ» فَقَالَتْ: أَوَ لَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (أَوَ لَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (. قَالَتْ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَتَمَ شَيْئًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ , فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ , وَاللَّهُ يَقُولُ: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ (وَلَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ (كَاتِمًا شَيْئًا مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ (قَالَتْ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُخْبِرُ بِمَا يَكُونُ فِي غَدٍ, فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ, الْفِرْيَةَ وَاللَّهُ يَقُولُ (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ((¬1) . وعَنْ أَنَسٍ قَالَ: جَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ يَشْكُو, فَجَعَلَ النَّبِيُّ (يَقُولُ: «اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» . قَالَ أَنَسٌ: لَوْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَاتِمًا شَيْئًا لَكَتَمَ هَذِهِ، قَالَ: فَكَانَتْ زَيْنَبُ تَفْخَرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ (تَقُولُ: زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ وَزَوَّجَنِي اللَّهُ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ) (¬2) . ¬

(¬1) متفق عليه (البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب: تفسير سورة النجم، رقم:4574، ومسلم: كتاب الإيمان، باب معنى قول الله عز وجل: ولقد رآه نزلة أخرى، رقم:177) واللفظ لمسلم. (¬2) أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، باب وكان عرشه على الماء وهو رب العرش العظيم، رقم: 6984) .

7-أما كلام جولد تسيهر؛ فإننا نتساءل هل رأى جولد تسيهر كتب الشرائع السابقة في نصوصها الأصلية حتى تصح المقارنة والحكم؟. وقد قال هو حين عرض للكلام عن حديث نزول القرآن على سبعة أحرف: (إن التلمود يقول بنزول التوراة بلغات كثيرة في وقت واحد) (¬1) . هذا وقال آرثر جفري (¬2) في تقديمه لكتاب المصاحف لأبي داود: (إن تاريخ التوراة والإنجيل , وصحة نسبتهما وحرفيتهما , أبعد ما يكون عن الصحة والوثوق) (¬3) . 8- وأما كلام طه حسين (فهي دعوى قد كفانا هو إبطالها لأنه يشك فيها ويردد وبين أمرين متناقضين، ثبوت أحدهما ينفي الآخر؛ فكونها قصد بها التهويل وإظهار القرآن في مظهر عميق مخيف يقتضي أنه نطق بها الرسول وأنها كانت في عهده، وكونها رموزا وضعت لتميز بين المصاحف المختلفة ثم ألحقها مرور الزمن بالقرآن يقتضي أنه لم ينطق بها الرسول ولا كانت في زمنه، ونقض القرآن لا يكون بهذا الشك والاضطراب والترديد بين أمور متناقضة، ولو علم الناقد أن الصحابة والتابعين كانوا يتشددون في تجريد المصحف من كل ما ليس قرآنا حتى أنهم امتنعوا من العجم والشكل وكتابة أسماء السور لاستحيا من أن يقول مثل هذا القول، ولعمري -إذا ¬

(¬1) القرآن والمستشرقون , لنقرة ص:40. (¬2) آثر جفري: مستشرق استرالي عُين أستاذاً في الجامعة الأمريكية في بيروت , ثم أستاذاً في جامعة كولومبيا , ثم أستاذاً للغات السامية في مدرسة اللغات الشرقية في القاهرة , له عدة مؤلفات منها تحقيق كتاب المصاحف لأبي داود , المفردات الأجنبية في القرآن , وغيرها (آراء المستشرق حول القرآن , د. نمر رضوان (1/143) . (¬3) المرجع السابق.

المطلب الثالث: النسخ في القرآن:

كان شاكا أو مضطربا -فلم لا يأتي إلا بما هو طعن في القرآن، ولم لم يذكر ولو على سبيل الشك والترديد ما قاله المفسرون من أنها أسماء للسور أو جئ بها هكذا مسرودة ليعلمهم أن القرآن منظوم من هذه الحروف التي ينظمون من كلامهم فهو إذن من جنس ما ينطقون، فليأتوا بمثله إن كانوا صادقي، ذلك لأن مواده ليست أعجمية بل هي من المواد التي ينظمون منها كلامهم وليست غريبة عنهم، فإذا عجزوا بعد فيعلموا أنه ليس من كلام البشر، بل هو من عند خالق القوى والقدر، وأنى لهذا الناقد أن يقول خيرا في الكتاب الكريم ولو على سبيل الشك وهو يريد نقضه وإبطاله) (¬1) . المطلب الثالث: النسخ في القرآن: موضوع النسخ في القرآن هذا من علوم القرآن الكبيرة التي أفردت بمؤلفات كثيرة، واستيعاب جميع أطراف هذا العلم يأخذ وقتا وجهدا وصفحات كثيرة، ولكني أردت في هذا المبحث أن أتكلم عن جانب واحد فقط من جوانبه وهو الطعن في القرآن من باب النسخ -الذي له اتصال وثيق بموضوع الرسالة-، وذلك أن النسخ في القرآن من الأبواب التي ولج منها الطاعنون للطعن في كتاب الله، ولو عرفوا حقيقته لعلموا أنه من محاسن القرآن لا من المطاعن فيه، ¬

(¬1) نقض مطاعن في القرآن، لمحمد عرفة (ص:79-81) .

فالنسخ له حِكَم كثيرة منها (¬1) : 1-التدرج في الأحكام على الأمة حتى لا تنفر ويسهل عليها تقبله، كما حصل في الخمر فقد تدرج القرآن فيه على مراحل؛ أولاها: الإشارة إلى أنه ليس من الرزق الحسن، كما في قوله تعالى {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ... } [النحل:67] ، والواو تقتضي المغايرة، ثم بيان أن فيه ضررا وشرا كبيرا من غير التعرض لمنعه كما في قوله تعالى {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما أثم كبير ومنافع للناس وأثمهما أكبر من نفعهما..} [البقرة:219] ، ثم تحريمه في أوقات الصلاة كما في قوله سبحانه {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ..} [النساء:43] . ثم تحريمه تحريما تاما في كل الأوقات في سورة المائدة -التي هي من أواخر السور نزولا- في قوله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ... } [المائدة:90] . عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانَ شِفَاءٍ، فَنَزَلَتْ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ... الْآيَةَ) ، فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانَ شِفَاءٍ، فَنَزَلَتْ الَّتِي فِي النِّسَاءِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنَ ¬

(¬1) انظر: آراء المستشرقين حول القرآن، لرضوان، (2/630) ، ومناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني (2/152) ، ومباحث في علوم القرآن للقطان ص:246، وغير ذلك.

لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانَ شِفَاءٍ، فَنَزَلَتْ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ... إِلَى قَوْلِهِ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ: انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا) (¬1) . ومثل الخمر في هذا الميسر والفاحشة. عن يُوسُفُ بْنُ مَاهَكٍ قَالَ: إِنِّي عِنْدَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِذْ جَاءَهَا عِرَاقِيٌّ فَقَالَ: أَيُّ الْكَفَنِ خَيْرٌ قَالَتْ: وَيْحَكَ وَمَا يَضُرُّكَ قَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرِينِي مُصْحَفَكِ قَالَتْ: لِمَ قَالَ: لَعَلِّي أُوَلِّفُ الْقُرْآنَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُقْرَأُ غَيْرَ مُؤَلَّفٍ قَالَتْ: وَمَا يَضُرُّكَ أَيَّهُ قَرَأْتَ قَبْلُ إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنْ الْمُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الْإِسْلَامِ نَزَلَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ لَا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ لَقَالُوا لَا نَدَعُ الْخَمْرَ أَبَدًا وَلَوْ نَزَلَ لَا تَزْنُوا لَقَالُوا لَا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا، لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ (وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ {بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر:46] وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ، قَالَ: فَأَخْرَجَتْ لَهُ الْمُصْحَفَ فَأَمْلَتْ عَلَيْهِ آيَ السُّوَرِ) (¬2) . 2-استخدام هذا الأسلوب في الدعوة، فالداعي يبدأ مع المدعو بالتدرج وتعليقه بالدار الآخرة وزرع الإيمان في قلبه، ثم يخبره بأحكام الإسلام شيئا فشيئا. ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (كتاب تفسير القرآن، باب من سورة المائدة، رقم:3049) والنسائي (كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر، رقم:5540) ، وأبو داود (كتاب الأشربة، باب في تحريم الخمر، رقم:3670) وصحح إسناده الألباني (انظر: صحيح سنن النسائي (3/1126) . (¬2) أخرجه البخاري (كتاب فضائل القرآن، باب تأليف القرآن، رقم:4707) .

3- بيان رحمة الله بهذه الأمة؛ فهو سبحانه يراعي أحوال الناس وعاداتهم ويتدرج معهم رحمة بهم حتى لا ينفروا من الإسلام، بل يحببهم به حتى يكونوا من أهله. 4-فيه دلالة على بعض صفات الله كالعلم فهو سبحانه عالم بأحوال الناس جملة وتفصيلا، وعالم بما يصلحهم وينفعهم والطريقة التي تصلح لهم، وفيه دلالة على صفة الحكمة والرحمة كما تقدم. 5-من الحكم التذكير بنعمة الله لاسيما في بعض أنواع النسخ الذي يكون فيها النسخ من أثقل إلى أسهل كما هو الحال في عدة المتوفاة عنها زوجها وغير ذلك. 6-ابتلاء المكلف واختباره بالامتثال وعدمه. 7-إرادة الخير بهذه الأمة، فإن النسخ إن كان إلى ما هو أخف ففيه سهولة ويسر، وإن كان إلى ما هو أثقل ففيه زيادة الثواب والأجر. لهذا كان النسخ من محاسن القرآن لا من مطاعنه. وقبل أن ندخل في الرد على الطعون التفصيلية لابد من ذكر بعض القواعد المهمة في هذا الباب، فمن ذلك: 1-النسخ يكون في الأحكام ولا يكون في الأخبار -كما توهم بعض المستشرقين (¬1) -، فجميع أخبار القرآن -من قصص السابقين وأمور الغيب وأحوال البرزخ وما يحصل في اليوم الآخر- لا يدخله النسخ ¬

(¬1) انظر: آراء المستشرقين حول القرآن االكريم وتفسيره لرضوان (2/630) .

أبدا، لأن نسخ الخبر يلزم تكذيب أحدهما، وهذا لا يكون في كتاب الله (¬1) . 2-النسخ إنما كان في زمن النبي (صلى الله عليه وسلم) ، وأما بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) فإن القرآن لا ينسخ ولا يتغير ولا يتبدل، بل هو محفوظ بحفظ الله تعالى له {أنا نحن نزلنا الذكر وأنا له لحافظون} [الحجر:9] ، فلا يرجع في النسخ إلا لنقل صريح عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أو عن صحابي يقول: آية كذا نسخ كذا، مما له حكم الرفع (¬2) . 3-أقوال الأديان الثلاثة في النسخ: (1-جائز عقلا وواقع سمعا، وعليه إجماع المسلمين، من قبل أن يظهر أبو مسلم الأصفهاني ومن شايعه، وعليه أيضا إجماع النصاري، ولكن من قبل هذا العصر الذي خرقوا فيه إجماعهم، وركبوا رؤوسهم وهو كذلك رأي العيسوية، وهو طائفة من طوائف اليهود الثلاث. 2-أن النسخ ممتنع عقلا وسمعا، وإليه جنح النصارى جميعا في هذا العصر، وتشيعوا له تشيعا ظهر في حملاتهم المتكررة على الإسلام، وفي طعنهم على هذا الدين القويم من هذا الطريق -طريق النسخ-، وبهذه الفرية -أيضا- يقول الشمعونية، وهم الطائفة الثانية من اليهود. 3-أن النسخ جائز عقلا ممتنع سمعا، وبه تقول العنانية وهي الطائفة الثالثة من اليهود، ويعزى هذا الرأي إلى أبي مسلم الأصفهاني من المسلمين، ولكن على اضطراب في النقل عنه، وعلى تأويل يجعل خلافه لجمهرة المسلمين شبيها بالخلاف اللفظي إلا يكنه) (¬3) . ¬

(¬1) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (3/61) . (¬2) انظر الإتقان للسيوطي (3/71) . (¬3) مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني (2/147) ، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولي، 1995.

وأما الطعون في هذا الباب فهي كالتالي: -ذهب بعض المستشرقين إلى أن النسخ يدل على وجود التحريف والتبديل في القرآن وأنه لم يحفظ (¬1) ، بل حصل فيه كثير من التغيير، فقد ثبت أن كثير من الآيات المنسوخة كانت تتلى بعد الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، مثل حديث عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ) (¬2) . وبعضهم يرى أن النسخ حيلة ابتدعها المسلمون للخروج من مأزق التناقض بين الآيات (¬3) مثل آيات عدة المتوفاة وآيات المصابرة وآيات القبلة. أولا: الردود: 1-النسخ موجود في الشرائع السابقة؛ فمن طعن في القرآن من هذا الباب فهو يطعن في جميع الشرائع المنزلة، (فقد نسخت التوراة إباحة تزوج الأخوة والأخوات كما كان في عهد آدم عليه السلام، ونصها في سفر اللاويين الإصحاح الثامن عشر "عورة أختك بنت أبيك أو بنت أمك المولودة في البيت أو المولودة خارجا لا تكشف عورتها"، ونسخ إباحة الجمع بين الأختين كما كان ذلك في عهد ¬

(¬1) انظر: مناهل العرفان للزرقاني (2/136) ، الرد الجميل على المشككين في الإسلام، عبد المجيد صبح، (ص:80) ،دار المنارة للنشر والتوزيع، المنصورة، الطبعة الأولى 2001. (¬2) أخرجه مسلم (كتاب الرضاع، باب التحريم بخمس رضعات، رقم:1452) . (¬3) انظر: آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره، لعمر رضوان (ص:628) .

يعقوب عليه السلام فإنه كان يجمع بين ليا وراحيل ابنتي خاله، وقصته مذكورة في سفر التكوين الإصحاح التاسع والعشرين، ودليل النسخ ما جاء في سفر اللاويين الإصحاح الثامن عشر "ولا تأخذ امرأة على أختها للضر لتكشف عورتها معها في حياتها"، ونسخت إباحة أكل جميع الحيوانات كما كان في عهد نوح عليه السلام ففي سفر التكوين الإصحاح التاسع خطابا لنوح ونبيه "كل دابة حية تكون لكم طعاما كالعشب الأخضر دفعت إليكم الجميع "، ودليل النسخ ما جاء في سفر اللاويين، الإصحاح الحادي عشر من تحريم الجمل والأرنب والخنزير وغير ذلك، فهذا قليل من كثير مما نسخته التوراة من أحكام الشرائع السابقة. وأما الإنجيل فقد نسخ إباحة الطلاق كما كان ذلك في الشريعة الموسوية بأي سبب كان زنا أو غيره، وإباحة تزوج المطلقة، ففي سفر التثنية الإصحاح الرابع والعشرين "إذا أخذ رجل امرأة وتزوج بها فإن لم تجد نعمة في عينيه لأنه وجد فيها عيب شيء كتب لها كتاب الطلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته، ومتى خرجت ذهبت وصارت لرجل آخر"؛فحرم الإنجيل الطلاق إلا بعلة الزنا، وحرم تزوج المطلقة، ونص متى في ذلك الإصحاح الخامس "وقيل من طلق امرأته فليعطها كتاب الطلاق، وأما أنا فأقول لكم إن من طلق امرأته إلا لعلة الزنا يجعلها تزني، ومن يتزوج مطلقة فإنه يزني "، ونسخ حرمة أكل الحيوانات التي كانت محرمة في شريعة موسى، وتقدمت الإشارة إلى بعضها ... ) (¬1) إلى أخر تلك النصوص. 2-أن النسخ من محاسن القرآن لا من مساوئه كما تقدم ¬

(¬1) فضيحة المبشرين في احتجاجهم بالقرآن المبين، لعبد الله كنون الحسني، (ص:5-6) ، مطبعة رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، 1982، وانظر: مناهل العرفان (2/150)

في ذكر طرف من هذه الحكم، وأكثر ما يدندن عليه الطاعنون هو نسخ الحكم وبقاء التلاوة أو العكس وهي قضية نسخ التلاوة وبقاء الحكم، فيقولون: ما فائدة بقاء الآية إذا ذهب حكمها ونسخ، وكيف يقال إن هذه الآية نسخت وحكمها باق، ولم يعلموا أن لهذا حكما كثيرة، فمن حكم نسخ الحكم وبقاء التلاوة: أ- التذكير بنعمة الله تعالى حيث إن غالب الآيات المنسوخة الحكم لا التلاوة فيها تخفيف على الأمة (¬1) مثل نسخ عدة المتوفاة من سنة إلى أربعة أشهر وعشرا، وفي الصحيحين قَالَتْ زَيْنَبُ سَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ تَقُولُ: جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَدْ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا أَفَتَكْحُلُهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : لَا، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، كُلَّ ذَلِكَ يَقُولُ: لَا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ) قَالَ حُمَيْدٌ: فَقُلْتُ لِزَيْنَبَ: وَمَا تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ؟ فَقَالَتْ زَيْنَبُ: كَانَتْ الْمَرْأَةُ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا دَخَلَتْ حِفْشًا وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا وَلَمْ تَمَسَّ طِيبًا حَتَّى تَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ حِمَارٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ طَائِرٍ فَتَفْتَضُّ بِهِ فَقَلَّمَا تَفْتَضُّ بِشَيْءٍ إِلَّا مَاتَ ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُعْطَى بَعَرَةً فَتَرْمِي ثُمَّ تُرَاجِعُ بَعْدُ مَا شَاءَتْ مِنْ طِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ، ¬

(¬1) الإتقان للسيوطي (3/69) .

سُئِلَ مَالِكٌ مَا تَفْتَضُّ بِهِ قَالَ تَمْسَحُ بِهِ جِلْدَهَا) (¬1) . ب- أن نسخ حكم الآية التكليفي لا يبطل كل الأحكام المتعلقة بالآية مثل الأجر لمن قرأها، فقارئها له ثواب التلاوة، وكذلك الاستفادة من الآية في الأحكام البلاغية والنحوية والتجويدية، ومن قيام معجزات بيانية أو علمية أو سياسية فيها (¬2) . 3-أن العقل لا يمنع أن يقول الملك لرعيته: افعلوا كذا، وهو يقصد أن يهيئهم لأمر آخر، فإذا تهيئوا قال: افعلوا كذا، وكما يقول الطبيب لمدمن التدخين مثلا: قلل من شرب الدخان، فإذا تجاوز هذه المرحلة قال له: اقطع التدخين. 4-وأما حديث عائشة في مسلم (كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات يحرمن ... ) فأجيب بعدة أجوبة: أ-أن المقصود قارب الوفاة ولم يتوف بعد (¬3) . ب- أن مقصود عائشة هو تأخر النسخ قبيل وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) حتى إن بعض الصحابة لم يعلم بالنسخ فكان يقرأ بها بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) (¬4) وهذا هو المتبادر للذهن. قال النووي رحمه الله: (وَقَوْلهَا: (فَتُوُفِّيَ رَسُول اللَّه (وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأ) ¬

(¬1) متفق عليه (البخاري: كتاب الطلاق، باب تحد المتوفى عنها زوجها أربعة أشهرا وعشرا، رقم:5024، ومسلم: كتاب الطلاق، باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة، رقم:1489) . (¬2) انظر مناهل العرفان (2/153) (¬3) نفحات من علوم القرآن، محمد أحمد معبد (ص:82) ،دار السلام، القاهرة، الطبعة الأولى، 1996. (¬4) الإتقان لليسوطي (3/63) .

هُوَ بِضَمِّ الْيَاء مِنْ (يَقْرَأ) وَمَعْنَاهُ أَنَّ النَّسْخ بِخَمْس رَضَعَاتٍ تَأَخَّر إِنْزَالُهُ جِدًا حَتَى أَنْهُ (تُوفِي وَبَعْض النَّاس يَقْرَأ خَمْس رَضَعَات وَيَجْعَلهَا قُرْآنًا مَتْلُوًّا لِكَوْنِهِ لَمْ يَبْلُغهُ النَّسْخ لِقُرْبِ عَهْده فَلَمَّا بَلَغَهُمْ النَّسْخ بَعْد ذَلِكَ رَجَعُوا عَنْ ذَلِكَ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ هَذَا لَا يُتْلَى. وَالنَّسْخ ثَلَاثَة أَنْوَاع أَحَدهَا مَا نُسِخَ حُكْمه وَتِلَاوَته كَعَشْرِ رَضَعَات , وَالثَّانِي مَا نُسِخَتْ تِلَاوَته دُون حُكْمه كَخَمْسِ رَضَعَات وَالشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا , وَالثَّالِث مَا نُسِخَ حُكْمه وَبَقِيَتْ تِلَاوَته وَهَذَا هُوَ الْأَكْثَر وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: (وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّة لِأَزْوَاجِهِمْ (الْآيَة وَاَللَّه أَعْلَم) (¬1) . وأما نسخ التلاوة وبقاء الحكم فله حكم كثيرة منها (¬2) : 1-الابتلاء لمعرفة كمال اتباع الناس للنصوص، فالمؤمن كامل الإيمان يسلم، والمنافق يجادل، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَلَسَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ يوم الجمعة فَلَمَّا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُونَ قَامَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي قَائِلٌ لَكُمْ مَقَالَةً قَدْ قُدِّرَ لِي أَنْ أَقُولَهَا لَا أَدْرِي لَعَلَّهَا بَيْنَ يَدَيْ أَجَلِي فَمَنْ عَقَلَهَا وَوَعَاهَا فَلْيُحَدِّثْ بِهَا حَيْثُ انْتَهَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ وَمَنْ خَشِيَ أَنْ لَا يَعْقِلَهَا فَلَا أُحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَكْذِبَ عَلَيَّ؛ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا (بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةُ الرَّجْمِ فَقَرَأْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ وَاللَّهِ مَا نَجِدُ ¬

(¬1) شرح مسلم للنووي (10/29) ، دار الفكر، (¬2) انظر: مباحث في علوم القرآن (ص:246) ،والإتقان في علوم القرآن (3/72) ، ومناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني (2/152) .

آيَةَ الرَّجْمِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ وَالرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ ... ) (¬1) . 2-بيان فضل هذه الأمة؛ إذ بلغ من كمال اتباعها أنها تتبع حتى ما نسخ لفظة ولا تجده في المصحف، قال السيوطي: (يظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن، من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به، فيسرعون بأيسر شئ، كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام.) (¬2) 3-لنفرض جدلا أن هذه الأحكام التي نسخ لفظها لا يجوز العمل بها لأن ما نسخ لفظه فقد نسخ حكمه، فإن ثبوتها في السنة يكفي للعمل بها. - وأما دعوى أن النسخ ابتدعه المسلمون للخروج من مأزق التناقض في الآيات فهذا كلام باطل لوجوه: 1-النسخ كان في زمن النبي (صلى الله عليه وسلم) وليس مبتدعا بعده، وكان الصحابة رضي الله عنهم لا يأذنون لأحد بالفتوى حتى يتعلم الناسخ والمنسوخ (¬3) . 2-بل إن النسخ موجود في كل الشرائع كما تقدم. 3-أن بعض الآيات تدل هي ذاتها على النسخ من غير تدخل من أحد مثل قوله تعالى في آيات المصابرة {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا..} [الأنفال:66] . ¬

(¬1) أخرجه البخاري (كتاب الحدود، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت، رقم:6442) . (¬2) الإتقان (3/72) . (¬3) انظر مناهل العرفان (2/136) ، الإتقان في علوم القرآن (3/58) .

4-أن الآيات المنسوخة قد تم الإجماع على نسخها والأمة لا تجتمع على ضلالة. 5-أن الحكم على آية أو حديث بالنسخ له شروط شديدة لابد أن تتوفر حتى يحكم على هذا النص بالنسخ، فلا يمكن لأي أحد التلاعب في النصوص بحجة النسخ، فمن هذه الشروط (¬1) : 1-أن يكون النسخ حكما شرعيا. 2-أن يكون الناسخ دليلا شرعيا. 3-أن يكون الناسخ متراخيا عن المنسوخ. 4-أن يكون بين النصين تعارض حقيقي، فلا يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع بينهما. 5-أن النسخ لا يكون في الأخبار كما تقدم. وبهذا يتضح مدى كون النسخ من محاسن القرآن ومفاخره بل لعلنا لا نبالغ إن قلنا إنه من إعجازه في أحيان كثيرة. وقد جازف صاحب كتاب الرد الجميل على المشككين في الإسلام بإنكار النسخ في القرآن (¬2) محاولا بهذا الرد على من طعن في القرآن بسبب وجود النسخ، ¬

(¬1) انظر: مناهل العرفان (2/141) . (¬2) انظر الكتاب ص:118.

وهذا خطأ بل النسخ موجود والرد على من طعن في القرآن بسبب النسخ واضح وقد تقدم وفيه مقنع لطالب الحق، وأما صاحب الهوى فإنه لا يقتنع ولو جئت له بأوضح الواضحات.

المبحث الثالث: اتهام القرآن بالتناقض

المبحث الثالث: اتهام القرآن بالتناقض المطلب الأول: هل في القرآن تناقض حقيقي؟. - أسباب وقوع التناقض من الشخص الواحد هي: إما لقلة العلم, أو بسبب النسيان, أو اختلاف النفسية ,والطباع ,أو اختلاف الاجتهاد, أو الابتعاد عن الحق, أو للمصلحة الشخصية (¬1) ؛ وكل هذه الأسباب منتفية عنه تعالى فهو سبحانه عالم السر والنجوي, ولا يضل ولا ينسى, ولا يبدو له شيء لم يكن يعرفه حتى يغير اجتهاده, وهو الحق ولا يصدر منه إلا الحق, ولا يبلغ أحد من خلقه ضره فيضره ولا نفعه فينفعه. ¬

(¬1) انظر: أصول الجدل والمناظرة , د. حمد العثمان (ص 377) في مبحث (تناقص النظار) مكتبة ابن القيم , الكويت , طبعة 2001.

(وسئل الغزالي عن معنى قوله تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} [النساء: 82] فأجاب بما صورته: الاختلاف لفظ مشترك بين معان, وليس المراد نفي اختلاف الناس فيه , بل نفي الاختلاف عن ذات القرآن؛ يقال هذا كلام مختلف. أي لا يشبه أوله آخره في الفصاحة إذ هو مختلف؛ أي بعضه يدعو إلى الدين وبعضه يدعو إلى الدنيا, أو هو مختلف النظم؛ فبعضه على وزن الشعر وبعضه منزحف (¬1) ، وبعضه على أسلوب مخصوص في الجزالة وبعضه على أسلوب يخالفه وكلام الله تعالى منزه عن هذه الاختلافات؛ فإنه على منهاج واحد في النظم, مناسب أوله آخره ,وعلى مرتبة واحدة في غاية الفصاحة ,فليس يشتمل على الغث والسمين، ومسوق لمعنى واحد وهو دعوة الخلق إلى الله تعالى وصرفهم عن الدنيا إلى الدين، وكلام الآدميين يتطرق إليه هذه الاختلافات؛ إذ كلام الشعراء والمترسلين إذا قيس عليه وجِد فيه اختلاف في منهاج النظم, ثم اختلاف في درجات الفصاحة, بل في أصل الفصاحة حتى يشتمل على الغث والسمين, فلا تتساوى رسالتان ولا قصيدتان, بل تشتمل قصيدة على أبيات فصيحة وأبيات سخيفة وكذلك تشتمل القصائد والأشعار على أغراض مختلفة؛ لأن الشعراء والفصحاء {في كل واد يهيمون} [سورة الشعراء] فتارة يمدحون الدنيا وتارة يذمونها، وتارة يمدحون الجبن فيسمونه حزما وتارة يذمونه ويسمونه ضعفا, وتارة يمدحون الشجاعة ويسمونها صراحة وتارة يذمونها ويسمونها تهورا, ولا ينفك كلام آدمي عن هذه الاختلافات؛ لأن منشأ هذه الاختلافات اختلاف الأغراض واختلاف الأحوال, والإنسان تختلف أحواله ,فتساعده الفصاحة عند انبساط الطبع وفرحه ويتعذر عليه عند الإنقباض, ولذلك تختلف أغراضه, فيميل إلى الشيء مرة ويميل عنه أخرى, فيوجب اختلاف الأحوال والأغراض اختلافا في كلامه ¬

(¬1)

بالضرورة فلا تصادف اللسان يتكلم في ثلاث وعشرين سنة وهي مدة نزول القرآن ,فيتكلم على غرض واحد, وعلى منهج واحد ولقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بشرا تختلف أحواله ,فلو كان هذا كلامه أو كلام غيره من البشر لوُجِدَ فيه اختلاف كثير، فأما اختلاف الناس فهو تباين في آراء الناس لا في نفس القرآن, وكيف يكون هذا المراد وقد قال تعالى: {يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا} [البقرة: 26] فقد ذكر في القرآن أنه في نفسه غير مختلف وهو مع هذا سبب لاختلاف الخلق في الضلال والهدى, فلو لم يختلف فيه لكانت أمثال هذه الآيات خلفا, وهي أشد أنواع الاختلاف, والله أعلم) (¬1) . وأما ادعاء معارضة القرآن للحقائق سواء كانت, شرعية, أو طبيعية, أو تاريخية، فإن سبب هذا الزعم, وقوع هؤلاء على بعض الإشارات التي فهموا منها أن هناك تعارضا, فتمسكوا بها وبدأوا يجمعون كلام كل متردية ونطيحة ,للنفخ في هذه الشبهة حتى يتم لديهم هذا الاتهام للقرآن بالتعارض مع الحقائق، وما علم هؤلاء أن الذي خلق الطبيعة وأنزل القرآن واحد وهو الله تعالى، وأن منزل القرآن والشريعة واحد وهو الله تعالى، وأن كل الحقائق التاريخية التي حصلت لنا وعرفناها عن طريق الكتب المتوارثة غابرا عن غابر, قد رآها الله تعالى معاينة وشاهدها حقيقة, ولم تنقل له كما هو الحال فينا عن طريق كتب. إذن فقضية التعارض سواء كانت في الحقائق الشرعية ,أو الكونية, أو التاريخية أمر لا يمكن تصوره عقلا, وغير واقع أصلا، وكل ما ادعوا أنه متعارض قد تم الإجابة عليه. ¬

(¬1) البرهان للزركشي (2/54-56) .

المطلب الثاني: زعم تناقض بعض الآيات مع بعض

وقد تقدم معنا في مبحث أسباب وقوع الإشكال كلاما نفيسا للإمام الزركشي والإمام الراغب الأصفهاني, في بيان وجه كل ما قيل أن فيه تناقضا. المطلب الثاني: زعم تناقض بعض الآيات مع بعض وهذا الموضوع قد أكثر الطاعنون منه , بناء على القاعدة الجدلية أن التناقض علامة بطلان المذهب (¬1) ، ولكن كل ما زعموا فيه التناقض, فهو محض افتراء أو جهل، وقد تكلم العلماء قديما على هذا النوع من الطعون, وجمعوا كل ما قيل في ذلك, ورتبوها على حسب ترتيب سور المصحف وأجابوا على كل ما قيل في ذلك بل وعلى مالم يقل مما يُظن أن فيه إشكالا أو تناقضا، ومن هذه الكتب المؤلفة في هذا الفن: 1-"كتاب تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة الدينوري (¬2) ، وهو أقدم كتاب وصل إلينا. 2-"كتاب المسائل والأجوبة في الحديث والتفسير" له أيضا (¬3) . 3-"أضواء على متشابهات القرآن"، لخليل ياسين (¬4) ، في مجلدين. ¬

(¬1) انظر الكافية في الجدل لإمام الحرمين الجويني (ص:172) ، تحقيق د. فوقية حسين محمود، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة1979، وانظر آداب البحث والمناظرة، للأمين الشنقيطي (64) ، مكتبة ابن تيمية، القاهرة. (¬2) تحقيق السيد أحمد صقر، المكتبة العلمية. (¬3) تحقيق مروان العطية , ومحسن خرابة، دار ابن كثير، دمشق، الطبعة الأولى1990. (¬4) مكتبة الهلال، بيروت.

4-"باهر القرآن في معاني مشكل القرآن" لبيان الحق النيسابوري (¬1) ، في أربعة مجلدات. 5-"وضح البرهان في مشكلات القرآن" له أيضا (¬2) ، في مجلدين. 6-"تفسير آيات أَشِْكَلتْ" لابن تيمية (¬3) ، في جزأين. 8-"دفع إيهام الاضطراب"، لمحمد الأمين الشنقيطي (¬4) . 9-"مشكلات القرآن", لمحمد أنور شاه الكشميري (¬5) . 10-"الروض الريان في أسئلة القرآن"، لشرف الدين بن ريان (¬6) . وغير ذلك من الكتب الكثيرة، التي لو جُمِعَ كل ما فيها لكان مجلدات كثيرة ,وإنما قَصَدتُ بذكر هذه الكتب بيان أن هذا الطعن قد قًُِتلَ بحثا, وأجيب عن كل ما قد قيل أو يمكن أن يقال فيه, ومع هذا لا زال أعداء الدين ينعقون بهذه الطعون ويرددونها، مما يدلك على عدم حرصهم على اتباع الحق, أو إنما القصد هو إضلال بسطاء المسلمين ممن لم يقرؤوا هذه الكتب، والله المستعان. يقول جولدتسيهر (¬7) : (من العسير أن نستخلص من القرآن نفسه ¬

(¬1) تحقيق سعاد بابقي، من مطبوعات جامعة أم القرى 1997. (¬2) تحقيق صفوان عدنان داوودي، دار القلم , بيروت، الطبعة الأولى1990. (¬3) تحقيق عبد العزيز الخليفة، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى1996. (¬4) مكتبة ابن تيمية، القاهرة، الطبعة الأولى1996. (¬5) الناشر المجلس العلمي، في جوهانسبرك، الطبعة الثالثة 1998. (¬6) تحقيق عبد الحليم السلفي، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، الطبعة الأولى1994. (¬7) لاحظ هذا المستشرق اليهودي لا يكاد يمر طعن إلا ويسهم فيه، وللأسف يثني عليه الكثير من المعاصرين.

مذهبا عقيديا (¬1) موحدا متجانسا وخاليا من المتناقضات، ولم يصلنا من المعارف الدينية الأكثر أهمية وخطرا، إلا آثار عامة نجد فيها -إذا بحثناها في تفاصيلها-أحيانا تعاليماً متناقضة) (¬2) . وسنذكر إن شاء الله في هذا المبحث بعض ما ذكر من شبهات في هذا العصر (¬3) والجواب عليها بإذن الله. الطائفة الأولي: طعون ذُكرت في كتاب "رد مفتريات على الإسلام"، لعبد الجليل شلبي، ورد فيه على رسالتين تطعنان في القرآن؛ الأولى رسالة في ست ورقات منسوبة إلى المجلس القبطي بالإسكندرية, وموقعة باسم الأسقف العام, ورئيس المجلس, والنائب العام البابوي تيموثاوس (¬4) ، والطعون التي ذكروها كالتالي: 1-في سورة يونس: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ ¬

(¬1) هكذا والفصيح عقديا. (¬2) نمو العقيدة الإسلامية وتطورها، لجولدتسيهر، عن كتاب الإسقاط في مناهج المستشرقين والمبشرين، لشوقي أبوخليل (ص:64) . (¬3) انظر: "رد مفتريات على الإسلام "، لعبد الجليل شلبي (ص:67-77) ، ورد فيه على رسالتين تطعنان في القرآن؛ الأولى رسالة في ست ورقات منسوبة إلى المجلس القبطي بالإسكندرية، والرسالة الثانية جاءت بالبريد من استراليا في إحدى وعشرين صفحة، وموقعه باسم: المدعون العامون في محكمة الحقيقة. وانظر أيضاً الرد على أسئلة (توني بولدروجوفاك) وتشكيكاته حول القرآن الكريم والنبي العظيم، للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، والملحدون الجدد لجمال عبد الرحيم , وغير ذلك من الكتب الكثيرة. (¬4) وقد ذكرت مع الطعن رد شلبي , وغالبا أزيد عليه ردوداً أخرى لم يذكرها وأنبه على ذلك بكلمة (قلتُ) .

لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ... ( [يونس:15] , وفي سورة النحل: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قل نزله روح القدس من ربك بالحق} [النحل:101] . ففي الآية الأولى طُلب منه التبديل فرفض , والآية الثانية تم التبديل (¬1) . والجواب (¬2) : أن التبديل في الآية الأولىكان بطلبٍ من الكفار لرسوله (أن يأتي بقرآن جديد أو يبدل هذا القرآن ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول لا أستطيع، فذلك كلام الله ينسخ منه سبحانه ما يشاء ويثبت ما يشاء، وأنا أتبع ما يوحى إليَّ نسخا أو إثباتا. والآية الثانية تذكر أن الله سبحانه إذا نسخ حكما بحكم قال الكفار لمحمد: أنت مفتر في هذا القرآن؛ لأنك غيرت حكماً قررته من قبل، ثم تقرر الآية التالية أن ذلك من الله تعالى، نزله الله بواسطة جبريل روح القدس، ومحمد لا يغير. فأي تناقض بين الآيتين! كلتاهما تثبت أن القرآن من عند الله, وأن محمداً (لا يستطيع أن يغير منه شيئاً. 2- الآية 106من سورة البقرة تُناقِضُ الآية 27 من سورة الكهف، والآية في سورة البقرة هي: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106] والآية في سورة الكهف: {واتل ما أُيوحى إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته..} [الكهف:27] . ¬

(¬1) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:37) . (¬2) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:67) .

فالآية الثانية تخبر أن كلمات الله لا تبدل، والأولى تخبر أنها تنسخ وتنسى، والنسخ نوع تبديل (¬1) . الجواب (¬2) : الآية الأولى تتحدث عن نسخ الأحكام وتغيير حكم بآخر، وهذا أمر لا بد منه في حال أمة جاهلية نقلها الإسلام تدريجيا إلى حال جديدة متكاملة، والآية الثانية تذكر أنه لا أحد غير الله يستطيع أن يبدل كلماته، أو يرد حكما أنزله سبحانه، والطاعنون لم يفهموا النص فظنوه تناقضا، وكلتا الآيتين توضح أن الله وحده يمحو ما يشاء ويثبت، تماما كالآية السابقة قلتُ: التبديل يطلق على تبديل الأحكام ,وهذا سائغ، ويطلق على تبديل الأخبار, وهذا الذي لا يمكن في القرآن، فكل آية لها مورد (¬3) ، فالنسخ والتبديل يكونان في الأحكام لا الأخبار. ¬

(¬1) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:37) . (¬2) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:68) . (¬3) الرد على النصراني في مطاعنه على القرآن، محمد رجب (ص:22) .

3- الآية 9 من سورة الحجر تناقض الآية 39 من سورة الرعد: وآية الحجر هي: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر:9] ، وآية الرعد هي: {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب..} [الرعد:39] ، يعني كيف يجتمع الحفظ مع المحو (¬1) ؟. الجواب (¬2) : آية الحجر تصف القرآن أنه تنزيل من الله تعالى, وأن الله حافظه من الزوال والتحريف، وصدق الله وصدق قرآنه، فالمسلمون بعد أربعة عشر قرنا يقرأون القرآن غضا طريا صريحا صحيحا كما أنزله الله تعالى، وكما قرأه محمد (صلى الله عليه وسلم) على أصحابه، فأين كتاب موسى وأين وصاياه، وأين إنجيل عيسى؟ هذه كتب لم يحفظها الله تعالى فذهبت مع الأيام، والقرآن لم يضع منه شيء ولن يضيع. وأما آية الرعد تذكر أن الله يمحو أحكاما ويثبت أخرى، ويمحو مقادير ويثبت غيرها، أفي هذا تضارب؟ قلتُ: آية الرعد ليست في القرآن, بل المراد منها الصحف التي بيد الملائكة التي فيها مقادير الخلق، فإن الله تعالى يغيرها حسب مشيئته وحكمته، واختلف العلماء في ذلك ولكن كل الخلاف دائر في باب القدر (¬3) ، ولو سلمنا أن آية الرعد في القرآن، فإن المقصود بالمحو ¬

(¬1) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:37) . (¬2) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:68) . (¬3) انظر تفسير فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية في علم التفسير، للإمام الشوكاني (3/89) ، دار الوفاء، المنصورة، الطبعة الأولى،1994، وقد ذكر فيه ثلاثة عشر قولا، ليس فيها أن المقصود به محو القرآن.

والإثبات هو في وقت حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) , وأما بعد اكتمال القرآن وموت النبي (صلى الله عليه وسلم) ,فإن الله يحفظ القرآن ويصونه. 4- السجدة آية 5 - تناقض المعارج آية (4) : وآية السجدة هي: {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون} [السجدة:4] ، وآية المعارج هي: {تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} [المعارج:4] ، يعني أن ألف سنة في الآية تناقض خمسين ألف سنة في الآية الأخرى (¬1) . الجواب (¬2) : إن الآية تصف يوم القيامة بالطول، وأنه في طوله يعدل ألف سنة مما يعدل الناس، ولا يراد منها إفادة التكثير، كما تقول لصاحبك كتبت لك خمسين خطابا، وترددت على بيتك عشرين مرة، واللغويون يقولون دائما: العدد لا مفهوم له. فإذا وَصَفَت الآية الثانية هذا اليوم بأن مقداره خمسين ألف سنة فلا تناقض لأن كلا منهما تصفه بالطول، وقيل: وهذا اليوم يختلف مع الناس باختلاف مواقفهم وما يعانيه كل منهم، فقد يطول اليوم على شخص لشدة مشقته, ويقصر على آخر لعدم المشقة. قلت: إن الآيتين ليستا على مورد واحد، بل الأولى تتحدث عن أمر لا تتحدث عنه الأخرى، ¬

(¬1) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:37) . (¬2) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:69) .

فالآية الأولى تتحدث عن مدة يوم معراج الأوامر ومدته ألف سنة (¬1) ، والثانية تتحدث عن يوم القيامة ومدته خمسين ألف سنة، كما هو ظاهر من السياق: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (*) لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (*) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (*) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (*) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (*) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (*) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (*) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (*) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (*) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ( [المعارج:1-10] ، وهو القول الراجح فقد ذكر ابن كثير أربعة أقوال في المراد من اليوم ومال إلى أن المراد به يوم القيامة (¬2) ، وهو الراجح بدليل ما أخرجه مسلم عن أبي هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : «مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ, فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ, فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ ,كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ, فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ ... » (¬3) . وقد ذكر العلماء أجوبة كثيرة وغالبها وجيه، وقد سُئل ابنُ عباس عن هذه الآية وأجاب عنها (¬4) ، ومع هذا لا زال هذا الإشكال يكرر إلى يومنا هذا. ¬

(¬1) فقد ذكر ابن كثير عن كثير من السلف أنهم قالوا: إن بين السماء والأرض مسافة خمسمائة عام، فنزول الملك وعروجه بالأمر مجموعه ألف سنة (3/457) . (¬2) تفسير ابن كثير (4/418-420) . (¬3) أخرجه مسلم (كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة، رقم:987) . (¬4) انظر تفسير ابن كثير (4/420) .

5- سورة البلد وسورة والتين: سورة البلد جاء فيها: {لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد} [البلد:1-2] ، وسورة التين فيها: {والتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين} [التين:1-3] ؛فكيف قال: لا أقسم بهذا البلد ثم أقسم به (¬1) ؟. الجواب (¬2) : فَهِمَ القومُ -وهم كما يدل أسلوبهم وكتابتهم علماء جدا في اللغة - أن (لا) في (لا أقسم) نافية، وهذا جهل بلغة العرب، وإنما تأتي لا في القسم توكيدا وهذا شائع في اللغة، كما في قوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم.. (أي أقسم بربك أنهم كذلك، وكما قال النابغة: فَلاَ وَحًقَّ الَّذِي مَسَّحْتً كَعْبَتَهُ وَمَا هُرِيقً عَلَى الأنْصَابِ مِنْ جَسَدِ وقول الآخر: فَلاَ وَاللهِ لاَ يُلْقَى لمَاِبى وَلاَ لمِّا ِبهمْ أبَداً دَواءُ وقول طرفه: فَلاَ وَأَبِيكَ ابنة العامري لا يدعي القوم أني أفر وقال علماء اللغة: إن هذا القسم يفيد تعظيم المقسوم به، كما في سورة البلد، وكما في قوله تعالى: {فلا اقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم أنه لقرآن كريم} [الواقعة:75-77] ، وكقوله: ¬

(¬1) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:37) . (¬2) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:69) .

{لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة} [القيامة:1-2] ، فهذه كلها أقسام وليس هذا من دقائق اللغة وإنما هو من أولياتها ولكن القوم لا يعلمون. وإذا اعتبرت (لا) نافيه والجملة خبرية فهي مقيدة؛ أي لا أقسم به وأنت حل به، ولكن أقسم به وأنت غير حل به، فلا تناقض أيضاً. 6-قوله تعالى: {قل لله الشفاعة جميعا له ملك السموات والأرض ثم إليه ترجعون} [الزمر:44] ، مع قوله: {مالكم من دونه من ولي ولا شفيع، أفلا تتذكرون} [السجدة:4] وقوله: {يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه} [يونس:3] . هذه الآيات متناقضة في رأي تيموثاوس (¬1) . الجواب (¬2) : الآيات الثلاث تذكر أن الله وحده هو المتصرف في خلقه، ولا يشفع عنده إلا من أذن له، لله وحده الشفاعة، لا شفيع من دونه ولا بغير إذنه.. فأي تناقض بين هذه الآيات؟ أليست الشفاعة في هذا كله لله وحده؟ أفلا تذكرون؟. قلت: نفى الله تعالى الشفاعة الشركية التي يعتقدها المشركون في معبوداتهم، وأثبتها له وحد، ولمن يأذن له فيها، فهو سبحانه ينفيها في حال ويثبتها في حال آخر. 7-في سورة الواقعة جاء مرة: {ثلثة من الأولين وقليل من الآخرين} [الواقعة:13-14] ، ¬

(¬1) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:37) . (¬2) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:71) .

ثم جاء مرة أخرى {ثلة من الأولين وثلة من الآخرين} [الواقعة:39-40] . فهذا تناقض عند تيموثاوس ومجلسه (¬1) . الجواب (¬2) : والآية الأولى تتحدث عن السابقين المقربين، والثانية تتحدث عن أصحاب اليمين ... استفيقوا أيها الناقدون. 8- الحجر: آية 85: (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل إن ربك هو الخلاق العليم ... (، تناقض بالتوبة:73 (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ... (. ووجه التناقض فيما يرى القوم أن الآية الأولى أمرت بالصفح ,والثانية أمرت بالغلظة (¬3) . الجواب (¬4) : سورة الحجر مكية، وفي مكة لم يكن أذن بالقتال، والله تعالى يقول في آية الحجر أنه لم يخلق هذا الكون عبثا يفسد فيه من يفسد ويصلح من يصلح، بل الله جامع الناس بعد ذلك وجاز كلا بما فعل، فلا تحزن يا محمد لمخالفة القوم إياك ومعارضتهم دعوتك، وغدا تقوم الساعة فيجزون بسوئهم وتجزى بإحسانك، فأعرض عنهم حتى يأتي أمر الله. ¬

(¬1) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:37) . (¬2) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:71) . (¬3) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:37) . (¬4) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:71) .

وسورة التوبة مدنية ,وتسمى الفاضحة؛ لأنها فضحت المنافقين، قد نزلت في حج أبي بكر بالناس، وكان الجهاد قد شرع قبل ذلك، ويسمى هذا العام عام الوفود؛ إذ أخذت قبائل العرب تتوافد على المدينة يدخلون في دين الله أفواجا، ولم يبق بعدُ مسوغ لبقاء الكفار الذين يعبدون من دون الله أوثانا، ولا لبقاء المنافقين الذين يفشون أسرار المسلمين ويخدعونهم, ويقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فيجب جهادهم لقطع قوم عن الكفر وآخرين عن النفاق ,كي يعيش الناس في جو نظيف ,خال من فساد العقيدة وفساد الأخلاق! فأين التناقض؟ الناس جميعاً يفعلون هذا، يقول قائد الفرقة لجيشه: لا تضربوا. وبعد مدة يقول: اضربوا. ويقول المهندس الزراعي لفلاحيه: لا تزرعوا الآن. بعد شهر يقول: ازرعوا، وكُلَّ حِكْمَةْ. قلتُ: ومن الأجوبة أن الآية الأولى المقصود بها حال الدعوة، والثانية حال الجهاد، فاختلف مورد كل آية، كما أن الوالد في حال نجاح ابنه يفرح ويحسن إليه بهدية، وفي حال رسوبه يغضب ويعاقبه، ولا يقال: إن هذا الوالد متناقض؛ لأنه مرة يفرح ومرة يغضب، ففرحه في مجال وغضبه في مجال آخر. 9- الأعراف أية 37: (حتى إذا أدركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا (، وفي الأعراف آية 17 يقول الشيطان لله تعالى: (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين (؛ هذا تناقض عظيم جدا عندهم، كبراء القوم أضلوهم، والشيطان قال إنه يضلهم. فمن

الذي يضل هل هو الشيطان أم الكبراء (¬1) ؟. الجواب (¬2) : وهل من التناقض أن يُضَلَّلَ الشخص من كثيرين؟ وأنتم أعضاء المجلس الملي، وجماعة المدعين أضلكم الشيطان, وأضلكم رؤساؤكم وأضللتم أنفسكم ,وأضلكم جهلكم، وأضلكم كتابكم، ولا تناقض في شيء من هذا. 10-الآية 275من البقرة وهي: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل البيع وحرم الربا (. والآية 29 من التوبة وهي: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون (، هاتان الآيتان متناقضتان فيما يرى تيموثاوس ومجلسه، يقصدون أن الجزية مثل الربا (¬3) . الجواب (¬4) : ويبدوا أنهم أرادوا تكثير عدد الآيات؛ لأنهم ذكروا سورة والتين وسورة والبلد مرتين تكثير للعدد! وهل الجزية رِباً؟ هذا فهمهم ولا يفهمه سواهم. قلت: شتان بينهما؛ فالربا لا يجوز أبدا سواء مع المسلم أو الكافر، وأما الجزية فهي ضريبة تجعل على الكفار مقابل حمايتهم ¬

(¬1) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:37) . (¬2) انظر: رد مفتريات على الإسلام (ص:72) . (¬3) انظر: المصدر السابق (ص:37) . (¬4) انظر: المصدر السابق (ص:73) .

في ديار المسلمين، أو إبقائهم في الأرض التي يفتحها المسلمون مقابل هذا المال، ويراعى فيها سعة القوم وفقرهم ,ولا يجوز فيها التضييق عليهم. 11-الآية 65 من سورة الأنفال , وهي , (ياأيها النبيُّ حرض المؤمنين علي القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وأن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون (تناقص الآية 48 من سورة الأحزاب , وهي (ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل علي الله وكفي بالله وكيلاً (فزعموا أن هناك تضارباً بين الآيتين؛ إذ الآية الأولي تطلب من النبي (صلى الله عليه وسلم) تحريض المؤمنين وحثهم علي القتال , بل والتجلد لقتالهم فإن العشرين الصابرين منهم يقتلون مائتين , والمائة الصابرة يقتلون ألفاً من الذين كفروا , بينما الآية الثانية تطلب من النبي (صلى الله عليه وسلم) ألا يطيع الكافرين والمنافقين , وأن يدع أذاهم لا يقابلهم مثله ويكفيه التوكل على الله , فهو حسبه وكفى بالله وكيلاً ,فكيف يأمره في الأولى لتحريض على قتالهم بهذا الجَلَد ,ويأمره في الثانية بترك آذاهم , فظنوا هذا تناقضاً , فطاروا به فرحاً , واتخذوه حجراً يقذفون به كتاب الله (¬1) . والجواب (¬2) : ليس هناك أي تضارب , فالكافرون والمنافقون كانوا يؤذون رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بألسنتهم وباختلاق أقوال عليه , فأمره الله بأن يدع أذاهم له , فهو سبحانه وتعالى يتولى رد كيدهم في نحرهم , ودحض افتراءاتهم على رسوله , فكفي بالله وكيلاً , فأمره في آية الأحزاب أن لا يقابل اللسان بالسنان , ¬

(¬1) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:37) . (¬2) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:73) .

بينما أَمَرَه في شأن الكفار المحاربين أن يحرض المؤمنين على قتالهم , والتجلد لهم , فأمره الله سبحانه في آية الأنفال بمقابلة الَسَّنان بالسَّنان, فالحكمة تقتضي وضع السيف في موضعه واللين في موضعه , فلا تعارض إذن بين الآيتين. وحتى مع التسليم بأن الأمر في سورة الأنفال يقابل الأمر في سورة الأحزاب , فإن هذا يناسب التدرج في تشريع القتال , علي حسب ما تقتضيه كل مرحلة من مراحل الدعوة من قوة وضعف, فلا تناقض. 12- الآية 20 من سورة آل عمران وهي: (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن، وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم، فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد (، تناقض الآية 89 من سورة النساء وهي: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم، ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا (. ووجه التناقض - فيما يرون -أن الآية الأولى ذكرت أنه ليس على الرسول إلا البلاغ، والآية الثانية أمرته بقتال المنافقين وجهادهم، وبهذا نجد هؤلاء المساكين يدورون في حلقة مفرغة، يعيدون ما قالوا ثم يكررونه (¬1) . الجواب (¬2) : الآية الأولى -ومثلها كثير جدا -تقول لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) : إنك ¬

(¬1) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:37) . (¬2) الجواب: انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:75) .

لست مطالب بخلق الهداية في نفوسهم، ولكن الله يهدي من يشاء، وإنما عليك أن تبلغ رسالة الله، فمن آمن بها وأسلم فقد اهتدى، ومن تولى فحسابه على الله، وحسبك أنك بلغت الرسالة، ولست مكلفا بخلق الهداية. والآية الثانية تتحدث عن المنافقين وموقفهم يشبه موقف (المدعين) والمجلس المِلَّيء المزعوم يتمنون أن يكفر المسلمين ككفرهم، وقد نهى المسلمون أن يتخذوا منهم أصدقاء حتى يهاجروا في سبيل الله، ولا تعني الهجرة في هذا المقام الانتقال من مكة إلى المدينة؛ إذ السورة مدنية والمنافقين كانوا بالمدينة، ولكن المراد بالهجرة طاعة الله تعالى وترك المحرمات، وهذا من معاني الهجرة, ومن معانيها أيضا الجهاد، وكان جماعة من المنافقين بقيادة عبد الله بن أُبي رجعوا قبل المعركة يوم أحد. والقرآن ينهى المسلمين عن اتخاذهم أصدقاء؛ لأن ذلك تكريم لهم وإطلاع لهم على أسرار المسلمين، ادّعوا الإسلام وأعرضوا عن الدفاع عنه، وعاونوا أعداءه. وليس في هذا خَلْقُ هداية في أنفسهم، وإنما التخلص منهم ومن شرورهم، والناس في كل أمة وفي كل عصر يقتلون الخونة. فهل هذا تناقض؟ . قلتُ: إن البلاغ أنواع، فبلاغ الكلمة وبلاغ المال وبلاغ الجهاد، فالجهاد إنما شرع لتبليغ دعوة الله إلى مشارق الأرض ومغاربها، حتى يصل الإسلام إلى جميع نواح المعمورة. 13- الآية 108 من سورة الأنعام تناقض الآية 4 من سورة محمد: وآية الأنعام هي (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا

الله عدوا بغير علم.. (وآية سورة محمد هي: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق، فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها، ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض، والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم، سيهديهم ويصلح بالهم (. ولعل وجه التناقض فيما يرون أن الآية الأولى نهت المسلمين عن سب الأصنام التي يعبدها المشركين، والآية الثانية حثتهم على الجهاد (¬1) ! . الجواب (¬2) : القوم واهمون ومتحاملون؛ فالآية الأولى مكية سَنَّتْ للمسلمين أدبا خُلقيا، فنهتهم عن شتم الأصنام وهم يعلمون أنها لا تضر ولا تنفع، ولكن لو سبوها لسب الكفار الإله الخالق سبحانه عدوانا وجهلا؛ لأنهم لم يعرفوه ولم يعرفوا صفاته، هذا أدب أخلاقي رفيع، وها نحن نجري عليه، فالجماعة (المدعون) والمجلس الملي يسبون ويشتمون ويقذفون النبي الكريم بأشنع الألفاظ، ونحن نلتزم المنطق ونغضي عن شتائمهم، هذا لعلمنا أن الشتائم لا جدوى من ورائها، وأن الشَّتَّام يحط دائما من قدر نفسه، ولا ينال من قدر من شتمه شيئا. والآية الرابعة من سورة محمد تبين جانبا من تعاليم الحرب، فتعلم المسلمين أنهم إذا قابلوا الكفار في المعركة فعليهم أن يوقعوا بهم الضرب، فإذا أثخنوهم قتالاً وهزموهم كان لهم بعد ذلك أن يمنوا على من يستحق المن, وأن يأخذوا الفدية ممن يستحق أن يفدى. ¬

(¬1) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:37) . (¬2) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:75) .

فليس في الآية إباحة لسب الأصنام، والآيتان قي وقتين مختلفين لكُلُّّ حُكْمُها على ما قدمنا. قلت: ظَنَّ هؤلاء الجهالِ أنه طالما جاء النهيُ في سورة الأنعام عن سَبَّ أصنام الكفار, فمن باب أولى يجب الكفُّ عن قتالهم؛ إذ القتال وضرب الرقاب أعظم من السَّبَّ ,ولو كانت لهم عقول لأدركوا علة النهي عن سبَّ أصنام الكفار في نفس الآية , وهي أن سبَّ آلهتهم يُفضى إلي حَمْلِ المشركين علي سبَّ الله تعالى , وهم أجهلُ الناسِ بقدر الله , وليس للنهي في الآية أي علاقة بمرعاة مشاعر المشركين , ولكَنْ لضآلة عقولهم وسوء طَوَّيتيهم نظروا إلي صَدْرِ الآية فقط وتركوا باقيها , فزعموا أن في القرآن آية تنهي عن سبَّ أصنام المشركين لحفظ مشاعرهم , وآية أخرى تأمر بضرب رقابهم , ومن خلال هذا الزعم رموا القرآن بالتناقض , فسبحان الله أين عقول القوم؟ ‍! 14- الآية 127 من سورة النحل، وهي: (وأصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولاتك في ضيق مما يمكرون.. (تناقض الآية: {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله} [الشورى:39 -40] . يعني أن الآية الأولى تأمر بالصبر على الذي يصيبه من الناس، والآية الثانية تأمر بالانتصار من الذي يصبيه (¬1) . والجواب (¬2) : الآية الأولى مسبوقة بقوله تعالى: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما ¬

(¬1) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:37) . (¬2) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:76) .

عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر.. (. وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أراد أن يُمَثَّلَ بعدد من المشركين, جزاء ما مَثَّلُوا بعمه حمزة في يوم أحد، فنهته الآية أن يزيد عما فعل بعمه، وبينت أن العفو أفضل. وآيات الشورى تصف المؤمنين بأنهم إذا بغى عليهم أحد انتصروا لأنفسهم، وبينت كما بينت الآية الأولى أن جزاء السيئة يكون بقصاص مماثل، وأن من عفا وأصلح فإن الله تعالى يثيبه. فالآيتان في مجرى واحد، كلتاهما تفضل العفو وتقيد العقوبة بالمماثلة! ولا يتأتى للمسلمين أن ويُبغى عليهم ويقفوا مكتوفي الأيدي، بل عليهم أن ينتصروا لأنفسهم ممن بغى عليهم، ولكنهم مع هذا الانتصار لا يظلمون ,فما أروعه أدباً وأسماه سلوكاً. وأنت تجد في الأناجيل أن المسيح يقول لتلاميذه: أحسنوا إلى أعدائكم وباركوا لاعنيكم. ومع هذا تجده يقول لليهود: يا أولاد الأفاعي، ترون القذاة (¬1) في أعين الناس ولا ترون الخشبة في أعينكم! وليس في هذا الكلام بركة ولا إحسان، وإنما هو توبيخ وزجر، فلم لم يباركهم ويحسن إليهم؟. ثم نجد الذي يقول: أحسنوا إلى أعدائكم. والذي يقول: ما جئت لأنقض الناموس. يقول أيضاً: لا تظنوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض، ما جئت لأُلقي سلاماً بل سيفاً، فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه، والابنة ضد أمها والكنة (¬2) ضد حماتها. ¬

(¬1) القذاة: - (¬2) زوجة الابن.

والعهد القديم والعهد الجديد كلاهما مليء بالمناقضات والخرافات، وهي رسائل وكتب من صناعة قوم انتحلوا صفة القداسة، ومثل هذا لا يوازن به كلام القرآن المحكم؛ لأنه تنزيل من حكيمٍ حميد، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وصدق الله: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} [النساء:82] ولكن يتدبره من يفهمه، (إنما يذكر أولو الألباب) (¬1) . الطائفة الثانية: -وهذه رسالة أخرى وزعت على المراكز الإسلامية في أمريكا، موقعة باسم (توني بولدروجوفاك) ، وأجاب عنها الشيخ عبد الرحمن بن عبد الخالق (¬2) ؛كما يلي: 15-السؤال أو الاعتراض الأول: يقول السائل: كيف يمكن اعتبار القرآن قد أوحي إلى محمد، وفي نفس الوقت نجد أن محمدا (هو المتكلم في آيات عديدة كما في ¬

(¬1) انتهت إلى هنا الرسالتان اللتان تطعنان في القرآن؛ الأولى رسالة في ست ورقات منسوبة إلى المجلس القبطي بالإسكندرية، والرسالة الثانية جاءت بالبريد من استراليا في إحدى وعشرين صفحة، وموقعه باسم: المدعون العامون في محكمة الحقيقة، ورد عليهما عبد الجليل شلبي في كتاب (رد مفتريات على الإسلام) ، (ص:67-77) . (¬2) وهي رسالة مكتوبة على الآلة الكاتبة ولم تطبع وتباع في المكاتب مصورة، وفي موقع الشيخ عبد الرحمن على الإنترنت (salafy.net) نسخة كاملة من هذه الرسالة، لذلك ذكرت كلامه من غير إحالة لعدم وجود النص مطبوعا، ولكني اجتهدت أن أوثق كل جواب له بذكر المراجع التي ذكر نحو ما قال.

سورة الفاتحة الآيات من 5، 7 -وهي: (إياك نعبد وإياك نستعين أهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضآلين) ، وفي سورة البقرة الآيات 2 الآيات 105، 117، 163، وهي: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِن خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة:105] ، {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [البقرة:117] ، (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) ( [البقرة:163] . وكما في سورة 3 الآية (الله لا إله إلا هو الحي القيوم (2، وفي سورة رقم 40 الآية 65 (هو الحي لا إله إلا هو فادعوه (، والسورة رقم 43 الآيتان 88، 89؟. والجواب (¬1) : إن السائل لا يعرف أساليب اللغة العربية، ولا طرائق البلغاء في الكلام، ولا منهجهم في البيان، ومعلوم أن القرآن نزل بلغة العرب، وقد تحدى الله الأولين والآخرين أن يأتوا بسورة من مثله؛ بلاغة وفصاحة، وبيانا وحلاوة ,وبناء معجزا يستحيل الإتيان بكلام مثله في الحلاوة والبيان. ¬

(¬1) انظر: معرفة تأويل المتشابه، د. عبد الله أبو السعود (ص:93) .

ومن أساليب العرب في البيان أن يتحدث المتكلم عن نفسه تارة بضمير المتكلم، وتارة بضمير الغائب، كأن يقول المتكلم: فعلت كذا وكذا، وذهبت، وآمرك يا فلان أن تفعل كذا، وتارة يقول عن نفسه أيضا: إن فلانا -يعني نفسه- يأمركم بكذا وكذا. وينهاكم عن كذا، ويحب منكم أن تفعلوا كذا. كأن يقول أمير أو ملك لشعبه وقومه وهو المتكلم: إن الأمير يطلب منكم كذا وكذا. وهو يشير بذلك أن أمره لهم من واقع أنه أمير أو ملك، وهذا أبلغ وأكمل من أن يقول لهم: إنني الملك وآمركم بكذا وكذا. فقوله: إن الملك يأمركم. أكثر بلاغة من قوله: إنني الملك وآمركم. وقد جاء القرآن بهذا النوع من البيان , كما في الآيات التي اعترض بها السائل فظن أن هذا لا يمكن أن يكون من كلام الله سبحانه وتعالى، نحو قوله تعالى في سورة البقرة: (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم (، وقوله في سورة آل عمران: (ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق (فظن هذا الذي لا يعرف العربية أن الله لا يمكن أن يتكلم عن نفسه بصيغة الغائب, وأنه كان لا بد وأن يقول: (نزلت عليك يا محمد الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه..) ونحو ذلك وهذا جهل بأساليب اللغة العربية، وموقعها في البيان والبلاغة، ولا شك أن خطاب الله هنا وكلامه عن نفسه بصيغة الغائب، أبلغ من لو قال سبحانه: ألم، أنا الله لا إله إلا أنا الحي القيوم نزلت عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الآيات.

وعلى كل حال فهذا أسلوب من أساليب البلاغة في اللغة، والظن أن هذا يطعن في القرآن، وأنه ليس من عند الله, وإنما من عند الرسول ظن تافه ساذج في منتهى الركاكة والجهل. وأما الالتفات (¬1) في الخطاب من الحضور إلى الغيبة والعكس، كأن يخاطب المخاطب بضميره فيقول: إنك فعلتَ كذا وكذا، ثم تخاطبه تارة أخرى بضمير الغائب, فتقول له: فعل فلان كذا وكذا وأنت تعنيه. فهذا كذلك أسلوب من أساليب البلاغة: كقوله تعالى: (عبس وتولى أن جاءه الأعمى (ولا شك أن النبي هو المقصود، ثم حول الله الخطاب إليه قائلا: (وما يدريك لعله يتزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى ... (الآيات [عبس:1-4] . وأما أن القرآن كتاب تعليم وتوجيه, فقد جاء ليعلم المسلمين ماذا يقولون في صلاتهم، وبماذا يدعون ربهم، فقد أنزل الله سورة (الفاتحة) لتكون دعاءً وصلاة للمسلمين يتلونها في كل ركعة, وفيها: (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين (وهذا كلام الله عن نفسه سبحانه, يصف نفسه بهذه الصفات الجليلة العظيمة, ثم يعلم المسلمين أن يقولوا في صلاتهم ودعائهم هذا (إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين (. فهذه السورة تعليم وتوجيه من الرب سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين؛ ليصلوا ويدعوا بها في كل ركعة من ركعات صلاتهم، وفي هذه السورة من ¬

(¬1) انظر المعجم المفصل في علوم البلاغة، د. أحمد عكاوي (ص:208) ،دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1992.

البلاغة والإعجاز والمعاني ما لا تسعه هذه الرسالة الموجزة، ولو أن عالما بالعربية تدبرها كفته إعجازا وشهادة أن هذا القرآن منزل من الله سبحانه وتعالى وليس من كلام بشر. والخلاصة من هذا السؤال أن صاحبه إنما أتى به من كونه لا يعلم العربية ولا أساليب البيان والفصاحة, وما أظن إلا أن معظم اللغات تعرف هذا اللون من التعبير, والذي يسمى بـ (الالتفات) أي التحول من الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبة، لمقاصد كثيرة؛ كتخفيف العتاب، أو توجيه النظر إلى البعيد ,أو استحضار المشهد، أو التعظيم، أو التحقير, ونحو ذلك من مقاصد البلغاء. وكذلك قوله سبحانه وتعالى في سورة (غافر:65) : (هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين (فهو خطاب لله سبحانه وتعالى عن نفسه بصيغة الغائب, وهو تعريف للعباد بذاته العلية جل وعلا، وقد قدمنا أن هذا أسلوب من أساليب العربية في الخطاب. ومثل هذا أيضا ما اعترض به هذا الجاهل باللغة ,وهو قوله تعالى في (سورة الزخرف:87، 88، 89) : (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون (. فإن هذا جميعه من حديث الرب جل وعلا عن نفسه، وعن رسوله، وأن محمدا (كان إذا سأل المشركين عن خالق السماوات والأرض ,يعترفون أنه الله سبحانه وتعالى, فعَجَّبَ الله نبيه (من حال هؤلاء المشركين, الذين يعتقدون بأن الله خالق السماوات والأرض ثم لا يفردونه وحده بالعبادة، ولا يؤمنون بقدرته على إحيائهم بعد موتهم، ثم ذكر الله توجع رسوله محمد (صلى الله عليه وسلم) وشكاته من قومه , (وقيله (أي وهذا قول الرسول لربه (يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون (وعندئذ يأتيه الجواب وهو بمكة (فاصفح عنهم وقل

سلام (أي لا تعلن حربا عليهم الآن (فسوف يعلمون (ما يكون مآلهم في الدنيا من القتل بأيدي المؤمنين، ومآلهم في الآخرة من الخلود في النار أبد الآبدين. وهذا الجاهل باللغة يظن أن قوله تعالى: (وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون (الآية، أن هذا من كلام محمد (صلى الله عليه وسلم) ، وإذن فالقرآن لا يمكن أن يكون من كلام الله، ومثل هذا السخف لا يحتاج إلى رد, ولكن ماذا نفعل إذا كان هذا هو مستوى هؤلاء من العلم؟ ومع ذلك يعارضون القرآن، ويشككون في رسالة الإسلام. السؤال الثاني ونصه كما يلي: السورة 10 (الآية 3) ذكر بها أن خلق السماوات والأرض تم في ستة أيام , وفي السورة 41 (الآيات من 9 إلي 12) ذكر بها أن خلق الأرض تم في يومين, وخلق الله الأنهار والغابات ... إلخ في الأرض (بعد خلقها) في أربعة أيام، وأنه قد خلق السماوات في يومين، فالسورة 10 - فيما زعموا- تتناقض مع السورة 41 حيث إن ناتج جمع (2+4+2=8أيام) . الجواب (¬1) : هذا السؤال يتعلق بقوله تعالى: (قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق ¬

(¬1) انظر: درة التنزيل وغرة التأويل في بيان الآيات المتشابهات في كتاب الله العزيز، للإمام الخطيب الإسكافي (ص:284) ، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الأولى 2002،وفتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن، لأبي يحيى الأنصاري (ص:504) ،بيروت، دار القرآن الكريم، الطبعة الأولى 1983،والرد على ابن النغريلة اليهودي لابن حزم (ص:53) ، والانتصارات الإسلامية للطوفي (1/504) .

الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فسواهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها.. ( [فصلت9-12] . نعم بجمع هذه الأيام دون فهم وعلم يكون المجموع ثمانية, وقد ذكر الله في مواضع كثيرة من القرآن أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام وما ظنه السائل تناقضا فليس بتناقض؛ فإن الأربعة أيام الأولى هي حصيلة جمع اثنين واثنين؛ فقد خلق الله الأرض خلقا أوَّليَّا في يومين, ثم جعل فيها الرواسي وهي الجبال ووضع فيها بركتها من الماء، والزرع، وما ذخره فيها من الأرزاق في يومين آخرين, فكانت أربعة أيام، فقول الله سبحانه وتعالى: (وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين (، هذه الأيام الأربعة هي حصيلة اليومين الأولين ويومين آخرين, فيكون المجموع أربعة, وليست هذه الأربعة هي أربعة أيام مستقلة أخرى زيادة على اليومين الأولين.. ومن هنا جاء الخطأ عند السائل, ثم إن الله خلق السماوات في يومين, فيكون المجموع ستة أيام بجمع أربعة واثنين ولا تناقض في القرآن بأي وجه من الوجوه ثم إن القرآن لو كان مفتريَّا كما يدعي السائل- فإن محمدا (لم يكن ليجهل مثلا أن اثنين وأربعة واثنين تساوي ثمانية, وأنه قال في مكان آخر من القرآن إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام فهل يتصور عاقل أن من يقدم على تزييف رسالة بهذا الحجم، وكتاب بهذه الصورة يمكن أن يخطئ مثل هذا الخطأ, الذي لا يخطئه طفل في السنة الأولى الابتدائية؟! ل

اشك أن من ظن أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) افترى هذا القرآن العظيم ,ثم وقع في مثل هذا الخطأ المزعوم, فهو من أحط الناس عقلا وفهما. والحال أن السائل لا يفهم لغة العرب, وأن عربيا فصيحا يمكن أن يقول: زرت أمريكا فتجولت في ولاية جورجيا في يومين، وأنهيت جولتي في ولاية فلوريدا في أربعة أيام ثم عدت إلى لندن لا شك أن هذا لم يمكث في أمريكا إلا أربعة أيام فقط وليس ستة أيام؛ لأنه قوله: في يومين في أربعة أيام. يعني يومين في جورجيا ويومين في فلوريدا. فقوله تعالى: (وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام (. أي بزيادة يومين عن اليومين الأولين. قلتُ: وقد ذكر هذا الطعن ابن النغريلة اليهودي ورد عليه ابن حزم بنحوه (¬1) . 181818-18 1 418-السؤال الرابع هو السورة 21:الآية 76 ذكر بها أن نوحاً وأهل بيته قد نجوا من الفيضان يعني قوله تعالى: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الأنبياء:76] ، ولكن السورة 11:الآيتان 42-43 ذكر بهما أن أحد أولاد نوح قد غرق؟ يعني قوله سبحانه: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:42-43]- ¬

(¬1) الرد على ابن النغريلة اليهودي (ص:52) .

الجواب (¬1) : إن الاستثناء أسلوب معروف في لغة العرب, فيذكر المتكلم المستثنى منه على وجه العموم, ثم يخرج منهم من أراد إخراجه. ويمكن أن يأتي الاستثناء منفصلا، ويمكن أن يأتي متصلا، وفي سورة الأنبياء قال الله تعالى عن نوح: (ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم (وقد بين سبحانه وتعالى المراد بأهله في آيات أخرى, وهو من آمن منهم فقط، حيث أخبر سبحانه وتعالى في سورة هود أنه قال لنوح: (احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل (. فقد أمره الله سبحانه وتعالى أن يحمل أهله معه إلا من سبق القول من الله بهلاكهم، وقد كان قد سبق في علم الله أن يهلك ابنه مع الهالكين؛ لأنه لم يكن مؤمنا، ولم يكتب الله لأحد النجاة مع نوح إلا أهل الإيمان فقط، وابنه لم يكن مؤمنا، وبالتالي فلا تناقض بين قوله تعالى في سورة الأنبياء أنه نجى نوحا وأهله، وبين ما جاء في سورة هود أنه أغرق ابن نوح؛ لأن ابن نوح لم يكن من أهله، كما قال تعالى لنوح لما سأله عن ابنه: (يا نوح إنه ليس من أهلك (. وبالتالي فلا تناقض بحمد الله في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. السؤال الخامس هو: هناك أخطاء نحوية في القرآن، فيوجد به جمل غير متكاملة، ولا تفهم تماما بدون إدخال بعض الكلمات الأخرى عليها (5:2) ، ¬

(¬1) انظر: معرفة تأويل المتشابه، د. عبد الله أبو السعود (ص:79) ،دار ابن حزم، بيروت، الطبعة الأولى 2000، وتفسير ابن كثير (3/185) .

(7:160-161.. إلخ) ، -يعني قوله سبحانه: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5] ، (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) ( [الأعراف:160-161] ، إن ترتيب السور بالقرآن غير متصل تاريخيا أو منطقيا، فلا تشعر بوقت أو مكان. هناك شك في موضوعية تكامل القرآن؛ لأننا نجد أن أناثاً وأماكن غير محددة وأحداثاً وضعت معا في رؤية واحدة, وكأنهم جميعا كانوا يعيشون معا في نفس الزمان. وهذا يسبب مشاكل عديدة, واختلاط الأمر لكل من يحاول فهم القرآن كقطعة أدبية، لإعادة بناء حياة وتعاليم محمد بوسيلة مرتبة, فلا بد للفرد أن يقفز من سورة إلى أخرى في القرآن كله, ويترك الفرد بإحساس عدم التكامل وعدم الرضا؛ لأنه لم يحصل على القصة الكاملة, وهذا مضاد تماما للإنجيل الذي كتب فيما يزيد عن عدة آلاف السنين بما يزيد عن 40 مؤلفاً مختلفاً. -الجواب (¬1) : إن صياغة هذا السؤال على هذا النحو يدل على أن كاتبه إما أنه لا يدرك شيئا من اللغات، عربية كانت أم غير عربية، أو أنه يعترض لمجرد الاعتراض, وتفصيل ذلك على هذا النحو: ¬

(¬1) انظر دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، للشنقيطي (ص:5) .

(أ) الآية الخامسة من سورة البقرة وهي قوله تعالى: (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون (يشير الله بقوله: (أولئك (على المذكورين قبل ذلك وهم المتقون الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، وينفقون مما رزقهم الله، ويؤمنون بالقرآن، والكتب التي نزلت على الرسل قبل القرآن, ويؤمنون بالآخرة، وهؤلاء المذكورون قد عبر الله عنهم بـ (أولئك (وهي اسم إشارة للبعيد تعظيما لشأنهم ورفعا لمنزلتهم (على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون (ويبدو أن السائل ظن أن إشارة الله لهؤلاء المذكورين (بأولئك (- وهي صيغة إشارة للبعيد- أن هذا خطأ نحوي؛ إذ يعبر عن القريب بالبعيد، ولم يفهم أن هذا أسلوب بلاغي من أساليب العرب، وهي تعبيرهم بالإشارة بالبعيد للتعظيم والتهويل أحيانا، وللتقليل والتحقير أحيانا حسب السياق، ومرامي الكلام، وهنا عبر الله عن هؤلاء المتقين، الذين يتصفون بهذه الصفات بصيغة البعيد , وهي (أولئك (رفعا لشأنهم وإعلاء لمنزلتهم, ولا شك أن هذا أمر عظيم؛ لأن فيه إشارة ورفعة لهؤلاء المذكورين. ب) وأما قوله تعالى في سورة الأعراف: {وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما، وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشر عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} [الأعراف: 16] واعتراض السائل هو كيف يقول تعالى: (كلوا من طيبات ما رزقناكم (، ويتكلم بصيغة الخطاب وهو قبل ذلك قد تكلم عن بني

إسرائيل بصيغة الغائب، وأنه سبحانه قطعهم اثنتي عشرة أسباطا, وأنه قال لموسى كذا وكذا ومرة أخرى لا يفهم السائل أسلوب العربية، ولا بلاغة الخطاب، ويظن أن الانتقال من الغيبة إلى الخطاب خلل في الأسلوب، وخطأ نحوي!! وهذا يدل على أنه لا يعرف نحوا، ولا بلاغة، ولا يدرك معنى للفصاحة ولا البيان. فهذه الآية في منتهى الإعجاز والبلاغة؛ فإن الله تحدث فيها عن بني إسرائيل وما صنع لهم من الخير والإحسان، وأنه ظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى، وبدلا من أن يقول: وقلت لهم: كلوا من طيبات ما رزقناكم. أو وقال لهم موسى: إن الله يقول لكم: (كلوا من طيبات ما رزقناكم (فإن الله حذف هذا وانتقل رأسا إلى القول دون ذكر القائل؛ لأن القائل معروف من السياق, وهو الرب تبارك وتعالى, ولا يمكن أن يفُهم أن القائل هو غير الرب جل وعلا, لأن القول هو (كلوا من طيبات ما رزقناكم (فمن سيقول هذا القول إلا الله؟ ومعلوم أن حذف ما يعلم جائز، بل ذكر المعلوم ضرورة حشو وزيادة لا داعي لها، والقرآن ينزه عن الحشو والزيادة. ويفهم كل من يعلم العربية أن قوله تعالى: (وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم (أن معنى ذلك وأنزلنا عليهم المن والسلوى وقلنا لهم: (كلوا من طيبات ما رزقناكم (فحذف (وقلنا لهم) ، أو (أمرنا موسى أن يقول لهم) لأن هذه زيادة لا داعي لها في السياق لأنها معلومة!! (ج) وأما قول السائل: إن ترتيب السور غير متصل تاريخيا أو منطقيا؛ حيث لا يفهم القارئ الوقت ولا المكان. فهذا كذلك من قصور علمه وفهمه، وبعده عن إدراك الإعجاز القرآني في ترتيب

المصحف، والوحدة الموضوعية في السورة، وهذا باب عظيم لا تسعه العجالةُ للرد على هذه الشبهات السخيفة. وقد كتب في هذا مجلدات ومجلدات قديما وحديثا، وأُحيل السائلَ على كتابٍ مختصرٍ حديثٍ, وهو كتاب "النبأ العظيم" للشيخ الدكتور محمد عبد الله دراز رحمه الله, وأظنه مترجما إلى الإنجليزية. وهنا في هذه الآية من سورة الأعراف لا يسجل الله الأحداث التي وقعت لبني إسرائيل من حيث كونها تاريخا وإنما يذكر إنعامه عليهم، ويسجل مخازيهم، ونكثهم لعهودهم وكفرانهم لنعمة الله سبحانه وتعالى. فهذه الأحداث التي وقعت لبني إسرائيل وإن كانت متباعدة في الزمان, ولكنها ذُكِرتْ مجتمعة في الآية لتذكرهم بنعم الله على آبائهم, ثم جحودهم ونكرانهم. (د) وأما قول السائل (توني بولدروجوفاك) : إن الإنجيل أفضل من القرآن من حيث الوحدة الموضوعية, والترتيب الزمني، وتسلسل الأحداث, فإن هذا مما يدل حقيقة وللأسف على تدني عقل السائل, وعدم تمييزه بين الكتاب المعجز المتناهي في البلاغة والعصمة والإحكام، وبين كتاب لم يسلم من التحريف والتبديل والتناقض، وهو أشبه بمذكرات يوميها كتبها تلاميذ أو تلاميذ تلاميذ المسيح عليه السلام من الذاكرة, معبرين فيها عن تصور شخصي لهم، وتفسير شخصي للأحداث التي نقلت أو رآها بعضهم، وقد اختلفوا في هذا النقل اختلافا كبيرا، وجاءت عباراتهم في كثير من الأحيان ركيكة متهالكة. ولا شك الإنجيل الحقيقي لم يكن كذلك, وإنما أتكلم عن الأناجيل الموجودة الآن بين أيدي النصارى, وهي مختلفة فيما بينها. ولا شك أن القرآن الكريم لم ينزل قط على طريقة الأناجيل المحرفة ,التي لا تعدو أن تكون- كما ذكرنا- مذكرات ويوميات لحياة

السيد المسيح عليه السلام، فيها كثير من الاختلاف والتناقض والتضاد, ومن ذلك ما ذكرناه آنفا، ومنها كذلك نسبة المسيح إلى عنصرية بغيضة تارة ,كالزعم أنه قال: إن خبز البنين لا يجوز أن يعطى للكلاب. وذلك عندما استغاثت به امرأة كنعانية أن يشفي ابنتها. وقوله في مقام آخر: لا كرامة لنبي في بلده وتفضيله الأجناس الأخرى على لبني إسرائيل, وكذلك قوله: (لم أبعث إلا إلى خراف بني إسرائيل الضالة وقوله في مقام آخر: اذهبوا واكرزوا بالإنجيل في العالم أجمع!! فتارة يدعي أنه مبعوث لنبي إسرائيل وتارة للعالم أجمع، وكذلك قوله بوجوب التزام الشريعة كلها، ثم الادعاء أنه نسخ الشريعة كلها, وأباح للحواريين أن يأكلوا كل النجاسات والخبائث, وأن كل ما يدب على الأرض حلال لهم.. وهذا التناقض كثير في الإنجيل. وليس في الإنجيل قط ما يدل على أن الله تعالى أوحى شيئا, أو شرع شيئا, أو تكلم بنفسه كلاما مباشرا, بل هو رواية عن أعمال المسيح، أو خبر عن المسيح أنه يقول: قال: أبي كذا أو كذا. وليس في الإنجيل ما يدل على أن الله هو الذي يتكلم أو يخاطب عباده. ومعلوم أن القرآن غير هذا تماما, فليس القرآن مذكرات ويوميات كتبها النبي (صلى الله عليه وسلم) ,أو كتبها الصحابة عن حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) ، وإنما القرآن هو كلام الله المعجز الذي ليس للنبي فيه إلا التبليغ فقط (قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي (. [ولا مجال بتاتا للمقارنة بين القرآن الكريم الكتاب العظيم الذي نزل تبيانا لكل شيء, فجمع الدين كله أصولا وفروعا, عقيدة وشريعة ,وأخلاقا وأمثالا ووعظا، وبين الأناجيل المحرفة المتناقضة التي لم تزد على كونها يوميات للسيد المسيح عليه السلام, يظهر فيها لكل ذي بصيرة التناقض والتزيد والتقول على الله بغير علم. -

السؤال السادس هو: هناك وجهات نظر متضاربة في ادعاء محمد النبوة؛ فالسورة (53: الآية10) يعني قوله: (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) ( [النجم:10] ,ذكر بها أن الله نفسه أوحى إلى محمد. والسورة (16: 102، والسورة (26: الآيات من 192: 194) ، يعني قوله: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) ( [النحل:102] ونحوها من الآيات-ذكر بها أن "روح القدس" نزلت إلى محمد, والسورة (15: الآية8) وهي قوله: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنظَرِين} [الحجر:8] ذكر بها أن الملائكة, وهم أكثر من واحد نزلوا إلى محمد والسورة (2: 97) يعني قوله: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ( [البقرة:97] ؛ ذكر بها أن الملاك جبريل واحد فقط، لم يذكر في القرآن ولا في الأناجيل ما يقول أن "روح القدس" هي جبريل. -الجواب: قوله سبحانه وتعالى في سورة النجم (53:3-12) عن رسوله محمد (صلى الله عليه وسلم) : (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى (الآيات. فهذا وصف لجبريل الروح القدس الأمين, الذي نزل على محمد (صلى الله عليه وسلم) بحراء، وجاءه بالوحي من ربه، ولقد رآه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على صورته التي خلقه الله عليها وله ستمائة جناح مرتين: واحدة في مكة في بدء الوحي، وثانية عندما عرج بالنبي (صلى الله عليه وسلم) إلى السماء, كما جاء ذلك في حديث السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها في الصحيحين، وجبريل المذكور

في سورة النجم (53) ، هو نفسه الذي ذكره الله في سورة النحل (14) ، حيث يقول سبحانه وتعالى: (قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين ((16: 102) ، فقد سماه الله روحا؛ لأنه ينزل بما يحيي موات القلوب، وهو وحي الله إلى رسله، ووصفه بروح (القدس) أي المقدس المنزه عن الكذب أو الغش، فهو الذي قدسه الله ورفعه، وأعلى من شأنه عليه السلام. وأما ما ذكره الله في سورة الحجر الآية رقم 15,فإن الله لم يذكر فيها أن الملائكة نزلوا على النبي (صلى الله عليه وسلم) بالوحي ,كما فهم هذا الجاهل حيث يقول: (والسورة رقم (15: 8) ذكر فيها أن الملائكة ,وهم أكثر من واحد نزلوا على محمد. وإنما الآيات هكذا (وقالوا (أي الكفار (يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون، لوما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين (فرد الله مقالة هؤلاء الكفار, الذين استعجلوا نزول الملائكة بالعذاب عليهم, وهو ما هددهم الله به إن أصروا على التكذيب, فقال تعالى: (ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين (أي إن الله لا ينزل الملائكة إلا بالحق، وإنهم إذا نزلوا نزلوا بالعذاب عليهم, فمعنى ذلك أنهم غير ممهلين، والحال أن الله أمهلهم ليقيم الحجة عليهم، ولم يشأ سبحانه وتعالى أن يعجل العقوبة الماحية المستأصلة, لهم كما حدث للأمم السابقة، بل شاء الله أن يعاقبهم بالعقوبات التي لا تستأصلهم، فقد أنزل الملائكة في بدر وغيرها من معارك الرسول خزيا للكفار, ونصرا للرسول والمؤمنين. وأما الآية 97من سورة البقرة فهي نص صريح في أن جبريل عليه السلام هو الذي أنزل القرآن على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، قال تعالى: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى

وبشرى للمؤمنين (وهذا رد على اليهود الذين كرهوا جبريل، وأنه ينزل بحربهم وهلاكهم , فأخبرهم الله أن هذا الملاك هو ملاك الرب، وأنه هو الذي أنزل القرآن على قلب محمد (صلى الله عليه وسلم) ، وقد وصف الله جبريل في القرآن بأنه روح القدس؛ أي الروح المقدسة, كما قال سبحانه وتعالى: (قل نزله روح القدس من ربك بالحق (. وقد قدمنا معنى روح القدس. 22 22-السؤال السابع هو: هناك آراء متضاربة في كيفية خلق الإنسان؛ فالسورة (25: 54) -وهي: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [الفرقان:54]- يذكر بها أن الإنسان خلق من ماء، والسورة (36: 77,78) -وهي قوله {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس:77] ؛ ذكر بها أنه خلق من نطفة, والسورة (37: 71,72) -يعني قوله: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ (سورة ص الآية:71؛ذكر بها أنه خلق من طين، على الرغم من أن سجلات الحفريات لا تساند نظرية التطور. -والجواب (¬1) : أن الله سبحانه وتعالى ذكر في كتابه الكريم- الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه- أنه بدأ خلق الإنسان بخلق أبي البشر آدم الذي خلقه من التراب، الذي أصبح طينا يعجنه بالماء، ثم حمأ مسنونا، أي طينا مخمرا، ثم سواه الله بأن خلقه بيديه سبحانه, ثم أصبح آدم وهو في صورته الطينية صلصالا كالفخار، وهو الطين إذا يبس وجف، ثم ¬

(¬1) انظر: معرفة تأويل المتشابه، د. عبد الله أبو السعود (ص:88) .

نفخ الله فيه الروح فأصبح بشرا حياَّ، ثم أمر الملائكة بالسجود له بعد أن أصبح كذلك , ثم خلق الله من أحد أضلاعه زوجته حواء- كما جاء ذلك في الحديث النبوي - فهي أنثى مخلوقة من عظام زوجها. والله يخلق ما يشاء مما يشاء كيف يشاء، ثم لما عصى آدم بأكله من الشجرة التي نهاه الله أن يأكل منها، أهبطه الله إلى الأرض , ثم جعل الله تناسل آدم من اجتماع ماء الرجل وماء المرأة، والعرب تسمي المني الذي يقذفه الرجل في رحم الأنثى ماء، وسماه الله في القرآن (ماء مهينا (. وكل ذلك موجود في القرآن الكريم. وهذا المسكين ظن أن هذه آراء متعارضة، وظن أن كل ذلك آراء متعارضة ,ولم يفهم أن خلق آدم لم يكن كخلق حواء فآدم خلق من الطين، وحواء خلقت من ضلع آدم، وأن كل إنسان خلق من أنثى وذكر من ماء مهين، وأن عيسى عليه السلام خلق من أنثى بلا ذكر، كما قال سبحانه وتعالى عن عيسى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} [آل عمران:] . وكان تنوع خلق البشر على هذه الصور؛ ليبين الله لعباده قدرته الكاملة، فهو يخلق ما يشاء مما يشاء كيف يشاء، وقد خلق الإنسان الأول آدم من طين من غير أنثى أو ذكر، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، وخلق سائر الخلق من اجتماع الذكر والأنثى، فسبحان من له القدرة الكاملة، والمشيئة النافذة, وهذا كله يدل على الخلق المستقل للإنسان, وأنه لا ينتمي إلى حيوانات هذه الأرض، فالتطور- إن كان حقا- فهو إنما يكون في حيوانات وأحياء هذه الأرض فقط, وأما الإنسان فإنه خلق خلقا مستقلا في السماء، وإن كان الله قد خلقه من طين هذه الأرض, وهذا هو

الذي يؤيده العلم والنظر في الكون (¬1) . الطائفة الثالثة: محاضرة عن تناقض القرآن ألقاها نصراني , ولم يذكر اسمه ولا مكان إلقائها وسجلت على شريط صوتي وكتب عليه: (تهادوا تحابوا) (الدال على الخير كفاعله) (الكلمة الطيبة صدقة) تلبيسا على عوام المسلمين حتى يروج بينهم، ولم يذكر فيه اسمه ولا مكان إلقائها، وذكر فيه سبعة عشر شبهة، ومعظمها ذكرت سابقا، وابتعادا عن التكرار فسأذكر ما لم يقله أصحاب الرسالات السابقة: 23-الشبهة الأولى: قال: (مرة يقول محمد إن الجنة لليهود والنصارى والصابئين والمسلمين، ومرة يقول للمسلمين فقط: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ (¬2) مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( [البقرة:62] ، ويقول: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] . -الجواب (¬3) : إن آية البقرة تتكلم عن اليهود والنصارى والصابئين قبل بعثة النبي (صلى الله عليه وسلم) ، فكل من آمن بنبيه وأطاعه فله الجنة، وأما بعد بعثة النبي (صلى الله عليه وسلم) ¬

(¬1) وإلى هنا انتهت الرسالة، ورد الشيخ عبد الرحمن عليها. (¬2) الصابئون كما قال (وهب بن منبه: الذي يعرف الله وحده وليست له شريعة يعمل بها ولم يحدث كفرا. وقال عبد الله بن وهب: قال عبد الرحمن بن زيد الصابئون أهل دين من الأديان كانوا بجزيرة الموصل يقولون: لا إله إلا الله. وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي إلا قول لا إله إلا الله, قال: ولم يؤمنوا برسول , فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: هؤلاء الصابئون. يشبهونهم بهم يعني في قولهم: لا إله إلا الله) (تفسير ابن كثير (1/104) ورجحه الإمام ابن كثير -رحمه الله-. (¬3) انظر: الرد على النصراني في مطاعنع على القرآن، لمحمد عبد المنعم (ص:46) ، دار الشاطبي، الكويت، الطبعة الأولى،2002.

فقد نسخت شريعته الشرائع ونسخ دينه الأديان، ولا يقبل من أحد إلا الإسلام، فهذا معنى الآية الأخرى، ويؤيد ذلك ما أخرجه (ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: قال سلمان رضي الله عنه: سألت النبي (صلى الله عليه وسلم) عن أهل دين كنت, معهم، فذكرت من صلاتهم وعبادتهم فنزلت (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر (الآية وقال السدي إن (الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا (الآية نزلت في أصحاب سلمان الفارسي, بينا هو يحدث النبي (صلى الله عليه وسلم) إذ ذكر أصحابه فأخبره خبرهم , فقال: كانوا يصلون ويصومون ويؤمنون بك, ويشهدون أنك ستبعث نبيا. فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال له نبي الله (: «يا سلمان من أهل النار» فاشتد ذلك على سلمان , فأنزل الله هذه الآية ,فكان إيمان اليهود أنه من تمسك بالتوراة, وسنة موسى عليه السلام حتى جاء عيسى فلما جاء عيسى, كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى فلم يدعها ,ولم يتبع عيسى كان هالكا, وإيمان النصارى أن من تمسك بالإنجيل منهم, وشرائع عيسى كان مؤمنا مقبولا منه حتى جاء محمد (صلى الله عليه وسلم) فمن لم يتبع محمدا (منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل, كان هالكا. قلت (¬1) : هذا لا ينافي ما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر (- قال: فأنزل الله بعد ذلك: (ومن يبتغ غير الإسلام دين فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ¬

(¬1) القائل ابن كثير , رحمه الله.

(فإن هذا الذي قاله ابن عباس إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقة ولا عملا, إلا ما كان موافقا لشريعة محمد (صلى الله عليه وسلم) بعد أن بعثه به، فأما قبل ذلك فكل من اتبع الرسول في زمانه ,فهو على هدى وسبيل ونجاة؛ فاليهود أتباع موسى عليه السلام والذين كانوا يتحاكمون إلى التوراة في زمانهم، فلما بعث عيسى (وجب على بني إسرائيل اتباعه والانقياد له ,فأصحابه وأهل دينه هم النصارى، فلما بعث الله محمدا (خاتما للنبيين, ورسولا إلى بني آدم على الإطلاق ,وجب عليهم تصديقه فيما أخبر ,وطاعته فيما أمر والانكفاف عما عنه زجر وهؤلاء هم المؤمنون حقا) (¬1) ، ومن النصوص الصريحة في هذا الباب حديث أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ, يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ» (¬2) . 24-قال: (مرة نهى عن الفحشاء ومرة أمر بها، تناقض فظيع جدا، قال في الأعراف: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28] ، وقال في الإسراء: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا ... } [الإسراء:16] . الجواب: من عدة أوجه: 1-الأمر يطلق في الشرع ويراد به الأمر الشرعي، والأمر ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (1/103) بتصرف. (¬2) أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا، رقم: 153) .

الكوني، والفرق بينهما، أن الأمر الشرعي لا يكون إلا فيما يحب سبحانه لكنه لا يلزم أن يتحقق، فالله تعالى يأمر بتطبيق شرعه, وهو يحب ذلك ,لكن الكثير من الدول لم تفعل، والأمر الكوني يكون فيما يحب وما لا يحب، ولكنه لازم الوقوع؛ فالشيطان مخلوق بأمر الله ,لكن الله تعالى لا يحبه، فالله لا يأمر بالفحشاء شرعا، لكنها تقع كونا، فإنه لا يقع شيء في هذا الكون إلا بأمر الله ومشيئته، ومن هذا الباب معنى آية الإسراء، فإذا قضى الله على قرية بالهلاك , فإنما كان هذا لانتشار الفسق والفحشاء والفجور فيها. 2- ولو سلمنا أن المراد هو الأمر الشرعي، فيكون هناك محذوف، والتقدير، أمرنا مترفيها بالطاعة ففسقوا فيها، يعنى فخرجوا عن طاعة الله. 3-القراءة الأخرى تبين معنى آخر وهي (أمَّرنا) أي جعلناهم أمراء، فأضلوا قومهم. 4-أَمَرَ في اللغة تأتي بمعنى كَثُرَ وظهر، أخرج البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ: كُنَّا نَقُولُ لِلْحَيِّ إِذَا كَثُرُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَمِرَ بَنُو فُلَانٍ) (¬1) ، ومنه حديث أبي سفيان الطويل مع هرقل وفيه قال أبو سفيان: (لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ؛ إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ) (¬2) . إذن معنى الآية أن كثرة المترفين الفاسقين في بلد وظهورهم نذير عذاب. قال ابن كثير: (اختلف القراء في قراءة قوله (أمرنا ¬

(¬1) أخرجه البخاري (كتاب تفسير القرآن، باب قوله: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها..، رقم:4711) . (¬2) تقدم تخريجه ص:134، وأنه متفق عليه.

(فالمشهور قراءة التخفيف واختلف المفسرون في معناها؛ فقيل: معناه أمرنا مترفيها ففسقوا فيها أمرا قدريا, كقوله تعالى: (أتاها أمرنا ليلا أو نهارا (لأن الله لا يأمر بالفحشاء , وقيل: معناه أمرناهم بالطاعات ففعلوا الفواحش فاستحقوا العقوبة. رواه ابن جريج عن ابن عباس وقاله سعيد بن جبير أيضا، وقال ابن جرير: يحتمل أن يكون معناه جعلناهم أمراء. قلت: إنما يجيء هذا على قراءة من قرأ (أمِّرْنا مترفيها) قال علي بن طلحة: عن ابن عباس قوله: (أمرنا مترفيها ففسقوا فيها (يقول: سلطنا أشرارها فعصوا فيها ,فإذا فعلوا ذلك أهلكهم الله بالعذاب, وهو قوله: (وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها (الآية. وكذا قال أبو العالية، ومجاهد، والربيع بن أنس. وقال العوفي عن ابن عباس: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها (يقول: أكثرنا عددهم. وكذا قال عكرمة, والحسن ,والضحاك, وقتادة وعن مالك عن الزهري (أمرنا مترفيها (أكثرنا) (¬1) . 25- قال النصراني في الشريط المسجل: (مرة ينهى عن النفاق ومرات أخرى يقر النفاق) ، فنهى عن النفاق في سورة النساء يقول: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) ( [النساء:138-139] ، وأقر النفاق في النحل بقوله: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106] ، ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (3/32) .

يعني في تصريح لكل إنسان أن يكذب إذا وقع في الأسر أو في أي مأزق، هذه نزلت في عمار بن ياسر الذي اعترف بالأصنام وكفر بالله وبمحمد, وقال: إن الذي ينكر الله وينافق الكافرين, وهو تحت الإكراه محلل له وليس عليه أي ذنب أو عقوبة, حاشا لله أن ينكر الإنسان إيمانه تحت الضغظ والإكراه) أهـ. -الجواب: الذي يظهر أن هذا النصراني يريد الاعتراض لمجرد الاعتراض والطعن، وإلا فالآيتان مختلفتان تماما كل واحدة منهما تتكلم عن أمر مستقل؛ فالآية الأولى تتكلم عن النفاق, وهو إبطان الكفر وإظهار الإسلام، والآية الثانية تتكلم عن المكره على الكفر، أي إبطان الإسلام وإظهار الكفر، وشتان بين المعنيين، فإبطان الكفر وإظهار الإيمان لا يجوز في ملة من الملل؛ لأنه كذب وتزوير وغش وهذا كله محرم عقلا، وأما إبطان الإيمان وإظهار الكفر في حال الإكراه الملجئ، من باب الحفظ على نفس المسلم، فهذا من محاسن شريعة الإسلام، ولا أدري هل يزعم هو أن دين النصارى لا يجوز فيه إظهار الكفر للضرورة؟ قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة:113] . والذي نراه الآن هو أن النصارى تؤيد اليهود تأييدا كاملا وتبرئهم من دم المسيح، بل وغيروا اسم كتابهم ليوافق اسم كتاب اليهود فسموا الإنجيل العهد الجديد، والتوراة العهد القديم، فهم - بالجملة- يظهرون لهم التأييد، ويبطنون لهم البغض ,ويرون أنهم ليسوا على شيء.

26-وقال: (مرة حرم الخمر في الدنيا ومرة حلل الخمر في الآخرة، قال في المائدة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90] ، وقال في المطففين: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:25,26] . -الجواب: 1-أحوال الآخرة تختلف عن أحوال الدنيا، فقد يجوز هناك ما يحرم هنا، ثم إن في الآخرة لا يوجد تكاليف, بل تسقط كل التكاليف ,بل هي نعيم أبدي. 2-خمر الآخرة تختلف عن خمر الدنيا، فهي خالية من المنغصات والآفات التي في خمر الدنيا، فقال تعالى: (بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ) [الواقعة:18، 19] ، وقال: (وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ ( [الطور:22، 23] وقال: ( ... وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ... (. فخمر الدنيا؛1- طعمه غير لذيذ 2-وتحدث لمن شربها الصداع 3-وتذهب بعقله 4-ويكثر عندها اللغو واللغط، بل لا تحلو إلا بكثرة اللغو 5-وتوقع الإنسان في الآثام العظام من دخول تحت اللعنة وارتكاب للمحظورات, فلا يمتنع عن شيء منها, وكيف يمتنع وهو لا عقل له، فهذه خمسة منغصات لخمر الدنيا نفاها الله عن خمر الآخرة، فالطعم لذة للشاربين، وهم لا يصدعون عنها ولاينزفون؛ أي لا تذهب

عقولهم ولا لغو عندها ولا أثم فيها. وقال تعالى: (يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ ( [الصافات: 45-47] ، وهذا الكأس من خمر الجنة، والمعين: الجاري الكثير، ولون هذه الخمر بيضاء أي حسنة المنظر، وهي ذات (لذة) ، والغول صداع في الرأس وقيل وجع في البطن وهي ليس فيها هذا ولا هذا، (ينزفون) أي لا يسكرون منها (¬1) ,فلا تذهب عقولهم, وتبقى لذتها. لذلك من آثر خمر الدنيا على خمر الآخرة, فحري أن يحرمه، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا ,لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ» (¬2) . 27-وقال: مرة يقول فرعون نجا، ومرة يقول فرعون غرق: قال في يونس: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس:92] ، وقال في الإسراء: (فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَعَهُ جَمِيعًا () [الإسراء:103] . -الجواب: وهذا ليس تناقضا كما هو واضح، بل فرعون مات غرقا، لكن الله تعالى أخرج جثته للناس لتكون لهم آية، وهذا مما لا يتوقع المرء أن يقع فيه أي لبس، ولكن هو الهوى الذي يلقي صاحبه في المهاوي، ¬

(¬1) التسهيل لابن جزئ (2/235) . (¬2) متفق عليه (البخاري: كتاب الأشربة، باب قول الله (إنما الخمر والميسر …) ،رقم:5253، ومسلم: كتاب الأشربة، باب عقوبة من شرب الخمر إذا لم يتب، رقم:2003) .

ولا بأس أن ننقل بعض النقول عن السلف حتى يطمأن القلب: (قال ابن عباس وغيره من السلف: إن بعض بني إسرائيل شكوا في موت فرعون، فأمر الله تعالى البحر أن يلقيه بجسده سويا بلا روح, وعليه درعه المعروفة على نجوة من الأرض - وهو المكان المرتفع- ليتحققوا موته وهلاكه؛ ولهذا قال تعالى (فاليوم ننجيك (أي نرفعك على نشز من الأرض (ببدنك (قال مجاهد: بجسدك. وقال الحسن: بجسم لا روح فيه. وقال عبد الله بن شداد: سويا صحيحا؛ أي لم يتمزق ليتحققوه ويعرفوه. وقال أبو صخر: بدرعك. وكل هذه الأقوال لا منافاة بينها كما تقدم والله أعلم، وقوله: (لتكون لمن خلفك آية (أي لتكون لبني إسرائيل دليلا على موتك وهلاكك وأن الله هو القادر الذي ناصية كل دابة بيده, وأنه لا يقوم لغضبه شيء) (¬1) . 28-وقال: مرة يقول: إن الأرض خلقت قبل السماء. ومرات يقول: إن السماء خلقت قبل الأرض؛ قال في البقرة: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:29] ، وقال في النازعات: (أأنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (*) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (*) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (*) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (*) أخرج منها ماءها مرعها ( [النازعات:27-30] . الجواب: هناك فرق بين الخلق والدحي، فخلق الأرض كان قبل السماء ,ث ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (2/431) .

م خلقت السماء ,ثم دحيت الأرض، والدحي - على رأي ابن عباس وجماعة من السلف - هو إخراج الماء والمرعى، يعني أن الله تعالى خلق الأرض ككوكب، ثم خلق السماء وبقيتِ الأجرام، فلما انتهى من ذلك، بدأ يهيئ الأرض لأن تكون دار حياة للناس، فجعل فيها الماء والطعام (المرعى) (¬1) ، ومثل هذا كمثل رجل بنى بيتا من دورين , فبنى الدور الأول ثم بنى الثاني، ثم رجع إلى الأول ليكمل مرافقه ويمدد أسلاك الكهرباء فيه ,وغير ذلك من مستلزمات العيش، فهو بنى الدور الأول، ثم الدور الثاني , ثم رجع للأول ليهيئه للسكنى. وقد سئل الأمام السيوطي عن هذه المسالة شعراً فقال السائل: يا عالم العصر لا زالت أناملكم ... تهمي وجودكم نام مدى الزمن لقد سمعت خصاما بين طائفة ... من الأفاضل أهل العلم واللسن في الأرض هل خلقت قبل السماء وهل ... بالعكس جا أثر يا نزهة الزمن فمنهم قال إن الأرض منشأة ... بالخلق قبل السما قد جاء في السنن ومنهم من أتى بالعكس مستندا ... إلى كلام إمام ماهر فطن أوضح لنا ما خفى من مشكل وأبن ... نجاك ربك من وزر ومن محن ثم الصلاة على المختار من مضر ... ماحي الضلالة هادي الخلق للسنن فأجاب: الحمد لله ذي الأفضال والمنن ... ثم الصلاة على المبعوث بالسنن الأرض قد خلقت قبل السماء كما ... قد نصه الله في (حم) فاستبن ولا ينافيه ما في النازعات أتى ... فدحوها غير ذاك الخلق للفطن ¬

(¬1) فتح القدير للشوكاني (5/374) .

فالحبر أعني ابن عباس أجاب بذا ... لما أتاه به قوم ذوو لسن وابن السيوطي قد قال الجواب لكي ... ينجو من النار والآثام والفتن (¬1) وهذا الاعتراض عرض على بعض الصحابة ,كابن عباس وغيره ,وأجاب عنه (¬2) ، وذكره ابن النغريلة اليهودي , ورد عليه ابن حزم في القرن الرابع (¬3) ، ومع هذا لا زال يردد إلى الآن. 29-وقال: قال في سورة يونس: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَ كَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [يونس:94] . إذن محمد كان شاكا في الوحي الذي كان يأتيه وكان مرتابا، وهذه دعوة له أن يرجع إلى الكتاب المقدس. الجواب: ولا زالت سلسلة الجهل باللغة مستمرة، ويوضح ذلك ما يلي: 1-أسلوب الشرط من أساليب اللغة العربية، وله أدوات كثيرة منها (إن) (¬4) وهي حرف وجود لوجود، فمثلا لو قلت لك: إن كنت في البيت اتصل بي، أو إن كان عندك كتاب الألفية لابن مالك فأعطنيه، فهذا الأسلوب لا يستلزم أني في البيت أو أن الكتاب عندي. ¬

(¬1) الحاوي للفتاوي، لجلال الدين السيوطي (2/19) ، مكتبة السلام العالمية، القاهرة. (¬2) انظر: فتح القدير (5/374) . (¬3) انظر كتاب الرد على ابن النغريلة اليهودي، لابن حزم (ص:51) . (¬4) مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، لابن هشام (1/29) ، المكتبة العصرية، بيروت، ط1،1991.

فكذلك هنا، لا يستلزم من هذا الأسلوب أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) شاك، كما فهم النصراني، لذلك ورد عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال «لا أشك ولا أسأل» (¬1) . 2-وقيل: إن هذا الخطاب للأمة، كما ورد في مواضع من القرآن (¬2) ، كقوله: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ... } [الطلاق:1] وغيره كثير. 3-وذهب ابن حزم إلى أن (إن) هنا بمعنى (ما) أي: فما كنت في شك مما أنزلنا إليك، كقوله تعالى: {إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون} [الأعراف:188] وقوله: {إن نحن إلا بشر مثلكم} [إبراهيم:11] , قال: (لأن من المحال العظيم الذي لا يتمثل في فهم من له مسكة, أن يكون إنسان يدعو إلى دين يقاتل عليه, وينازع فيه أهل الأرض ,ويدين به أهل البلاد العظيمة, ثم يقول لهم: إني في شك مما أقاتلكم عليه أيها المخالفون, ولست على يقين مما أدعوكم إليه وأحققه لكم أيها التابعون، إلى مثل هذا السخف الذي لا يتصور إلا في دماغ هذا المجنون الجاهل (¬3)) (¬4) . ثم إن معنى الآية: أن من أدلة صدق نبوتك يا محمد أن أهل الكتاب يعرفون ذلك ,فاسألهم حتى يطمأن قلبك. وليس معناها اترك دينك واتبع أهل الكتاب كما زعم النصراني (¬5) . إلى غير ذلك من الطعون الباردة الساذجة ,التي يوردها المغرضون ,وما هي إلا كبيت العنكبوت، أو كالزبد الذي يعلو على الماء ثم يموت. ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة مرسلا (انظر فتح القدير للشوكاني (2/489) . (¬2) فتح القدير (2/487) . (¬3) يعني ابن النغريلة اليهودي. (¬4) الرد على ابن النغريلة اليهودي (ص:60) . (¬5) هذه آخر الاعتراضات التي ذكرها النصراني في شريطه.

المبحث الرابع: اتهام القرآن بمعارضة الحقائق

المبحث الرابع: اتهام القرآن بمعارضة الحقائق المطلب الأول: دعوى تعارض القرآن مع الحقائق الشرعية: -الطعن الأول: كيف تزعمون أن محمدا (اصطفاه الله للرسالة وهيئه, مع وصفه له بالضلال (¬1) ، فهو كقومه كان وثنيا، {ووجدك ضالا فهدى} [الضحى:7] ؟ -الجواب: 1- (قيل إن العرب كانت إذا وجدت شجرة منفردة في فلاة من ¬

(¬1) انظر كتاب: رد مفتريات على الإسلام، لشلبي، ص:38، عن رسالة المجلس الملي القبطي الأرثوذكس بالإسكندرية، دائرة المعارف البريطانية (ص:22) .

الأرض لا شجر معها سموها ضالة، فتهتدي بها على الطريق، فقال الله تعالى لنبيه: (ووجدك ضالا فهدى (أي وجدك لا أحد على دينك فهديت بك الخلق إلي) (¬1) ، ومن هذا قول: (الحكمة ضالة المؤمن) . أي أن الضلال هنا المقصود به الحقيقة اللغوية لا الشرعية، إذ لم يكن في ذلك الوقت شرع، وبعض المعاني اللغوية معنى جميل كما رأيت. 2-وقيل: إنه من قولك: ضللت الطريق. أي لم تعرفه (¬2) ، ومنه قولهم: ضالة الإبل والغنم. يعني التي لم تهتد لقومها، فالنبي (صلى الله عليه وسلم) كان موحدا عارفا بالله بفطرته وعقله، ولكنه لم يعرف كيف يعبده؛ لأنه لم ينزل عليه شرع، فهو ضال بهذا المعنى, أي لم يعرف طريق العبادة الصحيحة. قال الراغب: (الضلال ترك الطريق المستقيم؛ عمدا كان أو سهوا، قليلا كان أو كثيرا، ويصح أن يستعمل لفظ الضلال ممن يكون منه خطأ ما، ولذلك نسب إلى الأنبياء، وإلى الكفار، وإن كان بين الضلالين بون بعيد، ألا ترى أنه قال في النبي: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7] ، أي غير مهتد لما سبق إليك من النبوة، وقال في يعقوب: {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف:95] ، وقال أولاده: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يوسف:8] إشارة إلى شغفه بيوسف وشوقه إليه، وكذلك {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يوسف:30] ، وقال عن موسى عليه السلام: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء:20] تنبيه أن ذلك منه سهو، وقوله: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا ... ¬

(¬1) ثمرات الأوراق لابن حجة الحموي (ص:293) ، دار الجيل، بيروت، الطبعة الثانية 1987. (¬2) انظر لسان العرب (11/391)

( [البقرة:282] ، أي تنسى وذلك من النسيان الموضوع على الإنسان، والضلال من وجه آخر ضربان؛ ضلال في العلوم النظرية ,كالضلال في معرفة الله ووحدانيته ,ومعرفة النبوة ونحوهما, المشار إليهما بقوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء:136] ، وضلال في العلوم العملية ,كمعرفة الأحكام الشرعية التي هي العبادات) (¬1) ، وهذا النوع يعذر فيه الإنسان إذا لم يبلغه، ألا ترى أن زيد بن عمرو بن نفيل (¬2) دخل الجنة مع أنه لم يعرف كيف يعبد الله تعالى، فقد أخرج البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ (: أَنَّ النَّبِيَّ (لَقِيَ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ بِأَسْفَلِ بَلْدَحٍ , قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ (الْوَحْيُ, فَقُدِّمَتْ إِلَى النَّبِيِّ (سُفْرَةٌ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا, ثُمَّ قَالَ زَيْدٌ: إِنِّي لَسْتُ آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ وَلَا آكُلُ إِلَّا مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَأَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرٍو كَانَ يَعِيبُ عَلَى قُرَيْشٍ ذَبَائِحَهُمْ, وَيَقُولُ: الشَّاةُ خَلَقَهَا اللَّهُ وَأَنْزَلَ لَهَا مِنْ السَّمَاءِ الْمَاءَ, وَأَنْبَتَ لَهَا مِنْ الْأَرْضِ ,ثُمَّ تَذْبَحُونَهَا عَلَى غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ. إِنْكَارًا لِذَلِكَ وَإِعْظَامًا لَهُ) (¬3) . وأخرج البخاري أيضا عَنْ ابْنِ عُمَرَ (: أَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ ¬

(¬1) المفردات (ص:510) . (¬2) وهو أبو سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة، التقَى بالنبي (صلى الله عليه وسلم) قبل أن يبعث، ومات قبل البعثة بخمس سنوات، وهو من الباحثين عن الدين الحق. (انظر ترجمته في الإصابة لابن حجر (2/613)) . (¬3) أخرجه البخاري: (كتاب المناقب، باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل، رقم:3614) .

نُفَيْلٍ خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ يَسْأَلُ عَنْ الدِّينِ وَيَتْبَعُهُ, فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ الْيَهُودِ فَسَأَلَهُ عَنْ دِينِهِمْ, فَقَالَ: إِنِّي لَعَلِّي أَنْ أَدِينَ دِينَكُمْ فَأَخْبِرْنِي؟ فَقَالَ: لَا تَكُونُ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ. قَالَ زَيْدٌ: مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ غَضَبِ , اللَّهِ وَلَا أَحْمِلُ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ شَيْئًا أَبَدًا، وَأَنَّى أَسْتَطِيعُهُ فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ؟ قَالَ: مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا، قَالَ زَيْدٌ: وَمَا الْحَنِيفُ؟ قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ، فَخَرَجَ زَيْدٌ فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ النَّصَارَى فَذَكَرَ مِثْلَهُ فَقَالَ: لَنْ تَكُونَ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ. قَالَ: مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ, وَلَا أَحْمِلُ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ وَلَا مِنْ غَضَبِهِ شَيْئًا أَبَدًا، وَأَنَّى أَسْتَطِيعُ، فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ؟ قَالَ: مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا. قَالَ: وَمَا الْحَنِيفُ؟ قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ، فَلَمَّا رَأَى زَيْدٌ قَوْلَهُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام, خَرَجَ, فَلَمَّا بَرَزَ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْهَدكُ أَنِّي عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ. وَقَالَ اللَّيْثُ: كَتَبَ إِلَيَّ هِشَامٌ, عَنْ أَبِيهِ, عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا, قَالَتْ: رَأَيْتُ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ قَائِمًا مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ, يَقُولُ: يَا مَعَاشِرَ قُرَيْشٍ وَاللَّهِ مَا مِنْكُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرِي. وَكَانَ يُحْيِي الْمَوْءُودَةَ يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ ابْنَتَهُ: لَا تَقْتُلْهَا أَنَا أَكْفِيكَهَا مَئُونَتَهَا فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا تَرَعْرَعَتْ، قَالَ لِأَبِيهَا: إِنْ شِئْتَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكَ وَإِنْ شِئْتَ كَفَيْتُكَ مَئُونَتَهَا (¬1) ، وأخرج الإمام أحمد عَنْ نُفَيْلِ بْنِ هِشَامِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ ¬

(¬1) أخرجه البخاري: كتاب المناقب، باب حديث زيد بن عمرو، برقم:3616.

نُفَيْلٍ, عَنْ أَبِيهِ ,عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِمَكَّةَ هُوَ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فَمَرَّ بِهِمَا زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ, فَدَعَوَاهُ إِلَى سُفْرَةٍ لَهُمَا، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي إِنِّي لَا آكُلُ مِمَّا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ. قَالَ: فَمَا رُئِيَ النَّبِيُّ (بَعْدَ ذَلِكَ أَكَلَ شَيْئًا مِمَّا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ. قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِي كَانَ كَمَا قَدْ رَأَيْتَ وَبَلَغَكَ , وَلَوْ أَدْرَكَكَ لَآمَنَ بِكَ وَاتَّبَعَكَ، فَأسْتَغْفِرْ لَهُ: قَالَ «نَعَمْ» فَاَسْتَغْفِرُ لَهُ؛ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمَّةً وَحِدَه) (¬1) ، وذكر ابن حجر في الإصابة أن الواقدي والفاكهي أخرجا بإسنادهما عن عامر بن ربيعة في حديث طويل , وفيه أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «قد رأيته في الجنة يسحب ذيولا» (¬2) . فزيد بن عمرو مع جهله بطريق العبادة, إلا أن فطرته دلته على وجود الله ,وعقله هداه إلى توحيد الله، فكان يعبد الله على حسب اجتهاده، فهو مع ضلاله عن طريق العبادة الصحيحة, إلا أنه كان معذروا لذلك أدخله الجنة، ومن هذا الباب معنى قوله تعالى: (ووجدك ضالا فهدى (. أي ضالا عن طريق العبادة الصحيحة فدلك عليها له وإن كان عارفا بالله موحدا له. 3-ثم إننا نلزمهم بأمر وهو: هل هم يقولون هذا أيضا في موسى عندما قال عن نفسه, {فعلتها إذاً وأنا من الضالين} [الشعراء:20] . 4-ثم إننا لو تنزلنا لهم وسلمنا لهم بالمعنى الذي يريدون, فإن هذا لا يضره؛ فهو معذور بعدم العلم فهو إذ لم يضل عن علم بل ضل بغير علم , وهذا لا حرج عليه ولا مؤاخذة فيه، قال شيخ الإسلام ابن ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد في المسند (رقم:1651) وإسناده حسن. (¬2) الإصابة (2/616) .

تيمية: (وأما وجوب كونه (قبل أن يبعث نبيا لم يخطئ أو لا يذنب فليس في النبوة ما يستلزم هذا) (¬1) . ولكن الحرج كل الحرج فيمن يعرف العلم والهدى ثم يتركه ,كما هو حال اليهود والنصارى الذين يعرفون النبي (صلى الله عليه وسلم) كما يعرفون أبناءهم. -الطعن الثاني: كيف سُحِرَ النبي (صلى الله عليه وسلم) مع أن الله تعالى يذكر كلام الكفار, ووصفهم النبي بالمسحور في مقام الذم في قول الله على ألسنتهم: {إن تتبعون إلا رجلا مسحورا} [الفرقان:8] . -الجواب: هذا الشبهة تردد كثيرا، وللأسف يرددها كثيراً من المعاصرين من العلمانيين، ومن أصحاب المدرسة العقلية، وممن يعلم صلاحه ويظهر حبه للدين (¬2) . -الجواب: أولا: لابد - أولاً - أن نعرف أن حديث سحر النبي (صلى الله عليه وسلم) ثابت في الصحيحين, وقد تقدم معنا النقل عن ابن الصلاح, وهو أن ما كان في الصحيحين قد تلقته الأمة بالقبول (¬3) ، ونص الحديث عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سُحِرَ النَّبِيُّ (حَتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ ¬

(¬1) منهاج السنة النبوية في الرد على الرافضة والقدرية، لأحمد بن عبد الحليم بن تيمية (2/396) ، مكتبة ابن تيمية، القاهرة. (¬2) انظر: منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير، للرومي، (ص:347) . (¬3) قال ابن القيم: وهو حديث ثابت عند أهل العلم بالحديث لا يختلفون في صحته , وقد اتفق أصحاب الصحيحين على تصحيحه، ولم يتكلم فيه أحد من أهل الحديث بكلمة واحدة , والقصة مشهورة عند أهل التفسير والسنن والحديث والتاريخ والفقهاء، وهؤلاء أعلم بأحوال رسول الله (وأيامه من المتكلمين. (التفسير القيم لابن القيم (ص:566) .

إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ -وفي رواية: وأنه يأتي أهله ولا يأتي- حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ عِنْدِي دَعَا اللَّهَ وَدَعَاهُ, ثُمَّ قَالَ: «أَشَعَرْتِ يَا عَائِشَةُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ؟» ، قُلْتُ: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «جَاءَنِي رَجُلَانِ فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ, ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ. قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ -الْيَهُودِيُّ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ- قَالَ: فِيمَا ذَا قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ. قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ قَالَ: فَذَهَبَ النَّبِيُّ (فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى الْبِئْرِ ,فَنَظَرَ إِلَيْهَا وَعَلَيْهَا نَخْلٌ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَ: "وَاللَّهِ لَكَأَنَّ مَاءَ هَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ ,وَلَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَأَخْرَجْتَهُ قَالَ: «لَا، أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَافَانِيَ اللَّهُ وَشَفَانِي ,وَخَشِيتُ أَنْ أُثَوِّرَ عَلَى النَّاسِ مِنْهُ شَرًّا» . وَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ) (¬1) . فظاهر من الحديث أن السحر كان في الأمور الدنيوية فهو يخيل إليه أنه أتى أهله ولكنه لم يفعل ويخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله (¬2) ، وأما الأمور الشرعية والوحي، فإنه محفوظ من الخطأ فيها, كما ثبت في النصوص الكثيرة، كقوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} [النجم:3-4] . وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: ¬

(¬1) متفق عليه (البخاري: كتاب الطب، باب السحر، رقم:5433، ومسلم: كتاب السلام، باب السحر، رقم:2189) . (¬2) ويرى الشيخ رشيد رضا أن هذا كان خاصا فقط في إتيانه أهله، وأنه معنى قول عائشة: كان يخيل إليه أنه يأتي الشيء ولا يأتيه. كناية عن الجماع، كما جاء في تفسيره في الرواية الثانية. (انظر تفسير الفاتحة وست سور من خواتيم القرآن، لمحمد رشيد رضا ص:137) .

كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أُرِيدُ حِفْظَهُ فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ وَقَالُوا: أَتَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، فَأَمْسَكْتُ عَنْ الْكِتَابِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى فِيهِ فَقَالَ: «اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ» (¬1) وغير ذلك من النصوص المتكاثرة. قَالَ الْمَازِرِيّ: (أَنْكَرَ الْمُبْتَدِعَة هَذَا الْحَدِيث وَزَعَمُوا أَنَّهُ يَحُطّ مَنْصِب النُّبُوَّة وَيُشَكِّك فِيهَا، قَالُوا: وَكُلّ مَا أَدَّى إِلَى ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِل. وَزَعَمُوا أَنَّ تَجْوِيز هَذَا يَعْدَم الثِّقَة بِمَا شَرَعَهُ مِنْ الشَّرَائِع إِذْ يُحْتَمَل عَلَى هَذَا أَنْ يُخَيَّل إِلَيْهِ أَنَّهُ يَرَى جِبْرِيل وَلَيْسَ هُوَ ثَمَّ، وَأَنَّهُ يُوحِي إِلَيْهِ بِشَيْءٍ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ، قَالَ الْمَازِرِيّ: وَهَذَا كُلّه مَرْدُود لِأَنَّ الدَّلِيل قَدْ قَامَ عَلَى صِدْق النَّبِيّ (فِيمَا يُبَلِّغهُ عَنْ اللَّه تَعَالَى وَعَلَى عِصْمَته فِي التَّبْلِيغ، وَالْمُعْجِزَات شَاهِدَات بِتَصْدِيقِهِ، فَتَجْوِيز مَا قَامَ الدَّلِيل عَلَى خِلَافه بَاطِل , وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّق بِبَعْضِ الْأُمُور الدُّنْيَا الَّتِي لَمْ يُبْعَث لِأَجْلِهَا وَلَا كَانَتْ الرِّسَالَة مِنْ أَجْلهَا, فَهُوَ فِي ذَلِكَ عُرْضَة لِمَا يَعْتَرِض الْبَشَر كَالْأَمْرَاضِ، فَغَيْر بَعِيد أَنْ يُخَيَّل إِلَيْهِ فِي أَمْر مِنْ أُمُور الدُّنْيَا مَا لَا حَقِيقَة ,لَهُ مَعَ عِصْمَته عَنْ مِثْل ذَلِكَ فِي أُمُور الدِّين، قَالَ: وَقَدْ قَالَ بَعْض النَّاس: إِنَّ الْمُرَاد بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (كتاب العلم، باب في كتاب العلم، رقم:3646) والإمام أحمد في المسند (رقم:6474) والدارمي (المقدمة، باب من رخص في كتابة العلم، رقم:484) ، وهو صحيح؛ انظر: صحيح سنن أبي داود للألباني (2/695) رقم:3099.

(يُخَيَّل إِلَيْهِ أَنَّهُ وَطِئَ زَوْجَاته وَلَمْ يَكُنْ وَطِأَهُنَّ , وَهَذَا كَثِيرًا مَا يَقَع تَخَيُّله لِلْإِنْسَانِ فِي الْمَنَام , فَلَا يَبْعُد أَنْ يُخَيَّل إِلَيْهِ فِي الْيَقِظَة. قُلْت (¬1) : وَهَذَا قَدْ وَرَدَ صَرِيحًا فِي رِوَايَة اِبْن عُيَيْنَةَ فِي الْبَاب الَّذِي يَلِي هَذَا وَلَفْظه " حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاء وَلَا يَأْتِيهِنَّ ". وَفِي رِوَايَة الْحُمَيْدِيّ " أَنَّهُ يَأْتِي أَهْله وَلَا يَأْتِيهِمْ ". قُلْت: وَوَقَعَ فِي مُرْسَل عَبْد الرَّحْمَن بْن كَعْبٍ عِنْد اِبْن سَعْد " فَقَالَتْ أُخْت لَبِيد بْن الْأَعْصَم إِنْ يَكُنْ نَبِيًّا فَسَيُخْبَرُ، وَإِلَّا فَسَيُذْهِلُهُ هَذَا السِّحْر حَتَّى يَذْهَب عَقْله ". قُلْت: فَوَقَعَ الشِّقّ الْأَوَّل (¬2) كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيث الصَّحِيح. وَقَدْ قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: لَا يَلْزَم مِنْ أَنَّهُ كَانَ يَظُنّ أَنَّهُ فَعَلَ الشَّيْء وَلَمْ يَكُنْ فَعَلَهُ أَنْ يُجْزَم بِفِعْلِهِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَكُون مِنْ جِنْس الْخَاطِر يَخْطِر وَلاَ يَثْبُت، فَلَا يَبْقَى عَلَى هَذَا لِلْمُلْحِدِ حُجَّة. وَقَالَ عِيَاض: وَيُؤَيِّد جَمِيع مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَل عَنْهُ فِي خَبَر مِنْ الْأَخْبَار أَنَّهُ قَالَ قَوْلًا فَكَانَ بِخِلَافِ مَا أَخْبَرَ بِهِ. وَقَالَ الْمُهَلَّب: صَوْن النَّبِيّ (مِنْ الشَّيَاطِين لَا يَمْنَع إِرَادَتهمْ كَيَدَهُ، فَقَدْ مَضَى فِي الصَّحِيح أَنَّ شَيْطَانًا أَرَادَ أَنْ يُفْسِد عَلَيْهِ صَلَاته فَأَمْكَنَهُ اللَّه مِنْهُ، فَكَذَلِكَ السِّحْر مَا نَالَهُ مِنْ ضَرَره مَا يُدْخِل نَقْصًا عَلَى مَا يَتَعَلَّق بِالتَّبْلِيغِ بَلْ هُوَ مِنْ جِنْس مَا كَانَ يَنَالهُ مِنْ ضَرَر سَائِر الْأَمْرَاض مِنْ ضَعْف عَنْ الْكَلَام، أَوْ عَجْز عَنْ بَعْض الْفِعْل، أَوْ حُدُوث تَخَيُّل لَا ¬

(¬1) القائل ابن حجر , رحمه الله. (¬2) يعني أنه أُخبر.

يَسْتَمِرّ، بَلْ يَزُول وَيُبْطِل اللَّه كَيْد الشَّيَاطِين) (¬1) . ومثل هذا قوله تعالى عن موسى {قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66] ، فسحر النبي (صلى الله عليه وسلم) مثل سحر موسى (وهو أن يخيل إليه الشيء، فمن أنكر الحديث ماذا يقول عن هذه الآية؟ ونزيد من الأمر توضحاً فنقول السحر الذي أراده المشركون غير السحر الذي حصل للنبي (، فهم أرادوا المسحور يعني الذي يصل إلى حد الجنون والافتراء, وقول ما لا يعقل ودخول الجن في المسحور، وهذا لا شك أنه باطل في حق النبي (صلى الله عليه وسلم) ، وأما سحر النبي (صلى الله عليه وسلم) فهو من نوع التخيل الذي يحصل لأي إنسان يقظة ومناما، وهذا لا يضر في مقام النبوة. -الطعن الثالث: كيف يسحر النبي (صلى الله عليه وسلم) مع أن الشياطين لا تسلط على عباد الله الصالحين ,كما قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:42] (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) ( [النحل:99-100] ، فسحر النبي دليل أنه من الغاويين وأنه من الذين يتولون الشيطان (¬2) ؟. الجواب: السحر أنواع (¬3) : 1-سحر بالأدوية. ¬

(¬1) فتح الباري (10/237) . (¬2) ذُكرت هذه الشبهة في غرفة النصارى في البالتوك على الإنترنت , للأسف ولم يجب عليها أحد من المسلمين. (¬3) انظر فتح الباري (10/239) .

2-سحر لا حقيقة له بل هو خيال أو خفة يد. 3-سحر بالاستعانة بالشياطين. إذن فليس كل أنواع السحر تسلط من الشياطين على المسحور، وذهب بعض العلماء إلى أن سحر النبي (صلى الله عليه وسلم) من نوع الأدوية؛ قال ابن حجر: وَاسْتَدَلَّ اِبْن الْقَصَّار عَلَى أَنَّ الَّذِي أَصَابَهُ كَانَ مِنْ جِنْس الْمَرَض بِقَوْلِهِ فِي آخِر الْحَدِيث: «فَأَمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِي اللَّه» . وَفِي الِاسْتِدْلَال بِذَلِكَ نَظَر , لَكِنْ يُؤَيِّد الْمُدَّعَى أَنَّ فِي رِوَايَة عَمْرَة عَنْ عَائِشَة عِنْد الْبَيْهَقِيِّ فِي الدَّلَائِل " فَكَانَ يَدُور وَلَا يَدْرِي مَا وَجَعه " وَفِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس عِنْد اِبْن سَعْد: مَرِضَ النَّبِيّ (وَأُخِذَ عَنِ النِّسَاء وَالطَّعَام وَالشَّرَاب، فَهَبَطَ عَلَيْهِ مَلَكَانِ..الْحَدِيث) (¬1) ، ولو سلمنا أنه من النوع الشيطاني، فليس كل تعرض من الشيطان للإنسان معناه أنه ليس من عباد الله، وفرق كبير بين التعرض والمحارشة وبين التسلط، ويؤيد ذلك ما أخرجه مسلم عَنْ جَابِرٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ (يَقُولُ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ» (¬2) ، فكل صالح يتعرض له الشيطان، بل هذه وظيفته في الحياة، وهو أقسم على إغواء بني آدم. ولو سلمنا أن هذا من التسلط فإنه لفترة محدودة ,ثم بعد ذلك يذهبه الله تعالى, ويرجع المسلم إلى حاله الأولى؛ فهذا آدم عليه السلام أغواه ¬

(¬1) فتح الباري (10/238) . (¬2) أخرجه مسلم (كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس، رقم:2812) .

الشيطان حتى وقع في أكل الشجرة، وهذا موسى قتل نفسا بغير نفس فقال: {هذا من عمل الشيطان} [القصص: 15] ولا يقول أحد أن هذا من التسلط بمعنى التحكم والإغواء والتضليل، بل يبقى آدم وموسى من خير أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. -الطعن الرابع: (كيف يذكر في القرآن أن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم -يعني من مثل قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} [البقرة:34]- مع أن هذا الدين اشتهر بالتشدد في إنكار الشرك وتكفير كل ساجد لغير الله) (¬1) . الجواب: السجود نوعان؛ سجود تحية وإكرام, وسجود عبادة وإعظام، فسجود العبادة لا يجوز في جميع الملل وعند جميع الرسل، بل لا يسجد الإنسان إلا لله وحده وأما سجود التحية فهذا كان جائزا في شرع من قبلنا، كما حصل ليوسف عندما خر له أبواه وأخوته سجدا، فلم ينكر عليهم، ومن هذا الباب سجود الملائكة لآدم، وأما في شرعنا فقد نسخ سجود التحية، درأ للفتنة وسدا لأبواب الشرك وطرائقه. قال القرطبي -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: {ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا ... } [يوسف: 100] : (وقد نسخ الله ذلك كله في شرعنا، وجعل الكلام بدلا عن الانحناء. وأجمع المفسرون أن ذلك السجود على أي وجه كان ,فإنما كان تحية لا عبادة، قال قتادة: هذه كانت تحية الملوك عندهم , وأعطى الله هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة) (¬2) . ¬

(¬1) حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، للعقاد (ص276) ،المكتبة العصرية، بيروت. (¬2) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (9/174) .

المطلب الثاني: دعوى تعارض القرآن مع الوقائع التاريخية:

على أن كثيراً من العلماء يقولون: إن السجود هنا المقصود به المعنى اللغوي للسجود، وهو عموم الانحناء والميل والاحترام, ولا يلزم منه أن يخر على الأرض (¬1) . المطلب الثاني: دعوى تعارض القرآن مع الوقائع التاريخية: وقد أشعل أوار هذه الفتنة , وحمل رايتها محمد خلف الله في كتابه "الفن القصصي في القرآن الكريم "، وإن كان هو لم يبتدعها بل أخذها من المستشرقين ومنهم: المستشرق الألماني هوروفيتش (¬2) (1874-1931) الذي تحتوى بحوثه القرآنية على طائفة كبيرة من الملاحظات والمعلومات، والجزء الأول من كتابه "مباحث قرآنية" يعالج النصوص القصصية في القرآن ويقسم كلامه إلى: عموميات وشكليات، أساطير رادعة ... إلخ. ¬

(¬1) انظر المرجع السابق، ومن وسائل الغزو الفكري، لأستاذنا الدكتور نبيل غنايم (ص:589) . (¬2) هورفيس [1874-1931] مستشرق ألماني يهودي , تعلم في جامعة برلسين , وعين مدرساً فيها عام [1902] , واشتغل في الهند من 1907 إلى 1914 مدرساً للغة العربية في كلية عليكرة الإسلامية , كما اشتغل أميناً للنقوش الإسلامية في الحكومة الهندية البريطانية , وعاد إلى ألمانيا عام 1914 , وعين مدرساً للغات السامية في جامعة فرانكفورت حتى وفاته , كانت رسالته للدكتوراه عن كتاب المغازي للواقدي , وتولى تحقيق جزأين من " طبقات ابن سعد " وألف كتاب " مباحث قرآنية " وغيرها من المؤلفات. انظر: موسوعة المستشرقين للدكتور عبد الرحمن بدوي (ص: 621) بتصرف واختصار , دار العلم للملايين , بيروت , الطبعة الثالثة , 1993.

والأستاذ بروكلمان (¬1) الذي أورد بعض العناوين البارزة لموضوعات كتبت في قصص القرآن وهي تاريخيا كما يلي: 1-الهجادة في قصص القرآن، بقلم سجبار، ليبزيج 1907م. 2-مصادر القصص الإسلامية في القرآن وقصص الأنبياء، بقلم سايدر سكاي، باريس، 1932م. 3-القصص الكتابي في القرآن، بقلم سباير وجريفنا ينخن، 1939م. وبعد هذا نجد المستشرق المجري بيرانت هيللر (1857-1943م) يتخصص تقريبا في جزء من قصص القرآن , فينشر بحوثا في مجلة الفصول بعنوان: 1-قصة أهل الكهف، عام 1907. 2-عناصر يهودية في مصطلحات القرآن الدينية، 1928م. 3-قصص القرآن، عالم الإسلام، 1934م (¬2) . ثم جاء المعاصرون بعد ذلك - وللأسف من بني جلدتنا - ليكملوا المشوار , ونفذوا تلك الأباطيل بأقوال تنبأ عن سوء طوية وفساد قصد , تلك هي أقوالهم: ¬

(¬1) كارل بروكلمان [1868 - 1956] مستشرق ألماني مشهور , التحق بجامعة روستوك في 1886 , ودرس فيها العربية , وتتلمذ على نولدكة كثيراً , ونال الدكتوراه عام 1893 في برسلاو برسالة عن ابن الجوزي وكتابه تلقيح فهم أهل الآثار , وعن مؤلفاته المشهورة " تاريخ الأدب العربي " الذي ذكر فيه المخطوطات العربية وأماكن جودها , وهو في خمسة مجلدات , وبذل فيه جهوداً كبيرة ً , وكان يتقن إحدى عشرة لغة شرقية وست لغات غربية , وبلغت مؤلفاته (555) مؤلفاً. انظر موسوعة المستشرقين (ص 98) باختصار. (¬2) انظر المستشرقون والدراسات الإسلامية، للدكتورمحمد حسين الصغير (74-75) ،المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع.

يقول طه حسين: (للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل , وللقرآن أن يحدثنا أيضا , ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة وبالقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي) (¬1) . ثم قام محمد خلف الله بجمع كل هذه المغالطات , وما أوردوه من شبه على هذه القضية وسود فيها كتابا من خمسمائة صفحة وسماه "الفن القصصي في القرآن الكريم" (¬2) ، ووافقه على هذا أمين الخولي وزوجته عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) (¬3) . قدم خلف الله مقدمة في بيان أن هناك فنا من الفنون , هو ما يسمى بالفن القصصي، وهذا الفن يُعتمد فيه على جمال الأسلوب , وترابط الفكرة مع الهدف النبيل من القصة، ولا يضير هذا الفن كون القصة ملفقة أو خيالية مادام أن الهدف نبيل والغاية نافعة، ثم بنى على هذه المقدمة أن قصص القرآن هي نوع من أنواع هذا ¬

(¬1) في الشعر الجاهلي لطه حسين (ص:26) عن كتاب منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير (ص:447) . (¬2) النسخة التي بين يدي من مطبوعات سينا للنشر، القاهرة، وهي الطبعة الرابعة 1999، وأما الطبعة الأولى فقد طبعت عام 1951.وقد أشرف على الرسالة أمين الخولي- زوج عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) - مقرا له على كل ما قال، وقد أحدثت هذه الرسالة ضجة مدوية في وقتها حيث تقدم الطالب محمد أحمد خلف الله عام 1947 في كلية الآداب بجامعة فؤاد رسالة للحصول على الدكتوراة عن "الفن القصصي في القرآن الكريم ", وقرر فيها أن القرآن يذكر أشياء لم تقع، وقد تم رفض الرسالة وفصل الطالب، انظر:"منهج المدرسة العقلية الحديثة للرومي"ص:445.وقد حرصت على مقابلته، فسألت عنه فعلمت أنه توفي قبل ثلاثة أعوام تقريبا، والعجيب أنه كان من المدافعين عن د. نصر حامد أبو زيد عندما أقيمت عليه قضية الردة. (¬3) انظر" مدخل إلى علم التفسير"، للدكتور محمد بلتاجي ص:170.

الفن في جميع صفاته، لذلك فلا يلزم أن تكون كل قصة يذكرها القرآن قصة واقعية، ثم بعد ذلك أخذ يقرر هذه الدعوى بأن الكثير من القصص القرآنية ليست صحيحة تاريخا , بل التاريخ يخالفها. وقد طرح خلف الله كلامه بكل جرأة , حتى إنه لم يجد ضيرا أن يقول ما قال الكفار {حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين} [الأنعام:25] قال خلف الله: (إنا لا نتحرج من القول بأن القرآن أساطير) (¬1) . وقال: (أصبح العقل الإسلامي غير ملزم بالإيمان برأي معين في هذه الأخبار الواردة في القصص القرآني؛ وذلك لأنها لم تُبلغ على أنها دين يتبع ... ومن هنا يصبح من حق العقل البشري أن يهمل هذه الأخبار , أو يجهلها , أو يخالف فيها , أو ينكرها) (¬2) . ثم لم يقتصر على ذلك حتى قال: (ومن هنا يصبح من حقنا، أو من حق القرآن علينا، أن نفسح المجال أمام العقل ليبحث ويدقق، وليس عليه من بأس في أن ينتهي من هذه البحوث إلى ما يخالف هذه المسائل، ولن تكون مخالفة لما أراده الله أو لما قصد إليه القرآن؛ لأن الله لم يرد تعليمنا التاريخ، ولأن القصص القرآني لم يقصد إلا إلى الموعظة والعبرة , وما شابهها من مقاصد وأغراض، إن المخالفة هنا لن تكون إلا مخالفة لما تتصوره البيئة ولما تعرفه عن التاريخ، ولم يقل قائل بأن ما تعرفه البيئة العربية عن التاريخ هو الحق والصدق، ولم يقل بأن المخالفة لما في أدمغة العرب من صور عن التاريخ هي الكفر ¬

(¬1) "الفن القصصي في القرآن الكريم "، لمحمد خلف الله (ص:209) . (¬2) المرجع السابق ص:74.

والإلحاد، بل لعل هذه المخالفة واجبة حتى يكون تصحيح التاريخ وخلوه من الخيالات والأوهام) (¬1) . فمخالفة القرآن عنده واجبة لأجل التاريخ، فتصحيح التاريخ عنده أهم من تصحيح القرآن. فانظر إلى هذا الهذيان الذي تشمئز منه نفوس المسلمين وتقشعر منه جلودهم، ولست في مقام الرد على هذا الكتاب وكل مغالطاته، بل إنما أريد الرد على هذه القضية وهي دعوى معارضة القرآن للحقائق التاريخية، وسوف أقسم الرد على نوعين، ردود إجمالية ثم الردود التفصيلية، وإليك البيان (¬2) : -الردود الإجمالية: 1-هذه الدعوى مخالفة لإجماع الأمة على أن كل القصص في القرآن إنما تحكي واقعا حقيقيا (¬3) . 2-هناك نصوص ترد هذه الدعوى , بل هي في محل النزاع ,كقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف:111] ، قوله سبحانه: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ... } [الأعراف:62] ، وكقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115] ، أي صدقا في الأخبار وعدلا في الأحكام (¬4) . ¬

(¬1) الفن القصصي ص:255. (¬2) وقد استفدت أكثر هذا الرد من كتاب "مدخل إلى علم التفسير"، لأستاذنا الدكتور محمد بلتاجي، نشر مكتبة الشباب بالمنيرة، 1998. (¬3) انظر "منهج المدرسة العقلية في التفسير"،للرومي ص:442. (¬4) انظر تفسير ابن كثير (2/167) .

كل ما في القرآن إما أخبار أو أحكام، فكل أخباره صدق وكل أحكامه عدل، ومن الأخبار قصص الأمم السابقة مع أنبيائها. 3-لا شك أن القصة من أهدافها العبرة , وأحيانا قد يختلق القاص القصة وينسخها من وحي خياله، لكن هذا ليس هو الكمال؛ فكون الراوي يأخذ العبرة من قصة واقعية هو الأكمل، والقرآن لا يأتي إلا بالكمال , كما قال سبحانه: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف:3] ، وما كان لأحسن القصص أن تكون كذبا. 4- قال الدكتور بلتاجي: (إن الله تعالى -وهو القادر الحق - أعظم من أن يلجأ في كتابه المنزل -الذي أنزله لهداية الخلق جميعا - لاستخدام الباطل والأكاذيب ليجتذب بها العرب من معاصري نزوله إلى الإيمان , وهو يعلم أن هذا الكتاب سيؤمن به غيرهم في أزمنة وأمكنة أخرى، فما هي نسبة العرب الذين عاصروا نزول القرآن -وأتى بما عندهم من أساطير وأوهام كما زعموا- إلى من أسلم ويسلم في كل عصر ومكان حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وهل يصح مثل هذا القول إلا بناء على عقيدة ترى أن الإسلام (دين محلي) , نزل إلى شبه الجزيرة في القرن السابع الميلادي , واجتذبهم إلى الإيمان بموافقته لما كان عندهم من أوهام وخيالات وأباطيل تخالف التاريخ الحق؟ وهل يعقل أن الله تعالى لم يعلم حال من سيؤمن بالقرآن من غير هؤلاء , ممن تتكشف لهم حقيقة هذه (الأوهام) - كما زعم أصحاب النظرية؟! وألا يقودنا القول بذلك إلى سؤال بالغ الأهمية هو: كيف يلجأ

الخالق - جل وعلا عما يقولون - إلى موافقة خيالات وأوهام العرب الجاهلين وقت نزوله، وهو القادر - بطريق القطع - على أن يصوغ كتابه المنزل من الحقائق المتفقة مع الواقع والتاريخ, التي تحدث أثرها من الموعظة والعبرة في نفس الوقت؟ وألا يشبه هذا الزعم الذي تتضمنه هذه النظرية أن يكون حيلة بشرية يلجأ إليها البشر الضعاف المحدودو القدرة والعلم في سبيل اجتذاب الناس إلى دعواتهم؟ أما أن يكون هذا أسلوباً إلهياً في تنزيل آخر الكتب المنزلة , فهذا ما لا يمكن أن تتصوره العقول من كل وجه) (¬1) . 5-دأب العلماء على أخذ الكثير من الأحكام الفقهية من القصص القرآنية مثل صحة أنكحة الكفار المأخوذ من قوله تعالى: {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ ... } [القصص:9] ، وجواز كون المهر عملا مأخوذ من قوله تعالى {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ... } [القصص:27] وغيرها، بل أخذوا منها أحكاما عقدية في أصول اعتقاد المسلمين، فإبطال القصص القرآنية يبطل الكثير من الأحكام؛ لأنه إذا كانت القصة مكذوبة فلا يجوز أخذ الأحكام منها، وهذا لم يقل به أحد. 6-يلزم من هذا القول أن الله تعالى لَبَّس على الناس بذكر هذه القصص المكذوبة في كتابه, الذي يزعم أنه محفوظ من الخطأ والريب والكذب، ويلزم منه أن القرآن صد الكثير من الناس عن الإسلام بسبب عدم مطابقة قصصه للواقع، بل هذا ما ادعاه خلف , حيث زعم أن التمسك بمقياس الصدق التاريخي في القصص القرآني خطر أي خطر ¬

(¬1) مدخل إلى علم التفسير، د. بلتاجي (ص:188) .

على النبي (صلى الله عليه وسلم) وعلى القرآن، بل هو جدير بأن يدفع الناس إلى الكفر بالقرآن كما كفروا من قبل بالتوراة (¬1) . 7-قال الشيخ شلتوت: (وهذه الآراء -فضلا عما لها من نتائج سيئة - تذهب بقدسية القرآن من النفوس , وتزيل عنه روعة الحق , وتزلزل قضاياه في كل ما تناوله من عقائد وتشريع وأخبار ماضية وأحوال مستقبلة) (¬2) . 8-يقول تعالى: {إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} [فصلت: 41 , 42] . فإذا كان المضمون التاريخي في القصص القرآني - كما يزعم خلف الله وأصحابه - باطل في الحقيقة , ونفس الأمر مطابقاً لما كان في نفوس المشركين أو غيرهم، ألا يكون هذا معارضاً معارضة صريحة لمضمون هذه الآية , التي تنفي إمكان أن يقتحم الباطل إليه من بين يديه ولا من خلفه؟ ، فإذا أضفنا إلى هذا قوله تعالى: (وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفكٌ افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلماً وزوراً وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرةً وأصيلاً قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفوراً رحيماً ( [سورة الفرقان الآيات: 4 - 6] ، فهل يبقى هناك أي وجه لما ذكره خلف الله؟ من محاولة العبث بالعقول , ما يذكره خلف الله من أن نفي الافتراء هنا يتعلق بمصدر القرآن ¬

(¬1) الفن القصصي (ص:42) . (¬2) تفسير القرآن الكريم، محمود شلتوت (ص:273) ، دار الشروق، الطبعة السادسة،1394هـ.

كله، لا بجزئياته! فهل يصح في منطق العقول حقاً أن ما ينطبق على الكل المجموع لا يندرج على جزئيات هذا الكل؟! . ومن العجب أن يثبت خلف الله في كلامه السابق أن في القرآن أساطير، والآية السابقة تحكي قول الذين كفروا في ذلك، ثم تعقب عليه بأن الذي أنزل هذا القرآن إنما هو الذي يعلم السر في السماوات والأرض، وفي هذا أبلغ بيان في نفي زعم الأسطورة عنه؛ لأن الذي يعلم حقائق الأمور في كل شيء , لا يجوز عليه أن يحكي في كتابه المنزل الأساطير والأباطيل على أنها هي الحق الذي لا يأتيه الباطل , إنما يقع في هذا ناقصو العلم والمعرفة من البشر , الذين لا علم لهم بحقائق وأسرار الكون. 9-وهذا المعنى الأخير مصداق قوله تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا} [سورة النساء الآية 82] يعني - والله تعالى أعلم - لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً مع حقائق الأمور التاريخية والكونية، ولوجدوا فيه اختلافاً كثيرا بعضهم مع بعض، ولوجدوا فيه اختلافا كثيرا مع الفطرة البشرية، لكنه لما كان من عند الله فقد تجرد عن ذلك كله، فليس فيه أي اختلاف مع شيء من ذلك , لكن خلف الله وأصحابه يزعمون أن في قصصه اختلافا مع الحقائق التاريخية والكونية، فهل يستقيم مع هذا القول أن يكون فيما صدروا عنه من عند الله؟!. 10-وما قولهم في قوله تعالى: (ألم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون ( [سورة السجده الآيات:1-3] ، فرد على دعوى الافتراء بإثبات أنه هو الحق من الله، فهل يتمشى مع منطق العقل أو أساليب البيان أن يكون حقاً قد احتوى باطلاً؟ وهل يصدق عليه وصف الحق حينئذ؟.

11- وما قولهم في وصف القرآن - بما فيه من قصص - بأنه الحق كما في قوله تعالى: {إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً} [سورة البقرة الآية: 119] وقوله: {تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين} [سورة البقرة الآية: 252] ، وقوله: {نزل عليك الكتاب بالحق} [سورة آل عمران الآية: 3] وقوله: {إن هذا لهو القصص الحق} [سورة آل عمران 62] ، وقوله: (إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين ( [سورة الأنعام الآية: 57] ، وقوله: {وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً} [سورة الإسراء الآية: 105] ، وقوله: {نحن نقص عليك نبأهم بالحق} [سورة الكهف الآية: 13] ، وقوله: {ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا} [سورة الفرقان الآية: 33] ، وقوله: {نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون} [سورة القصص الآية: 3] ، وقوله: {والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} [سورة الأحزاب الآية: 4] ، وقوله: {والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق} [سورة فاطر الآية: 31] ، وقوله: {إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق} [سورة الزمر الآية: 41] ، وقوله: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين} [سورة الزمر الآية: 2] ، وقوله: {تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديثٍ بعد الله وآياته يؤمنون} [سورة الجاثية الآية: 6] ، وقوله: {وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم} [سورة محمد الآية: 2] ؟. فقد أثبتت هذه الآيات كلها - وأمثالها في القرآن كثير - أن القرآن كله حق نزل من عند الله , وآياته كلها حق؛ وقصصه كلها حق؛ لأن الله تعالى لا يقص إلا الحق، وهو يقص علينا نبأ أهل الكهف بالحق، ونبأ موسى وفرعون بالحق، وكل ما قصه وأوحى به فهو الحق، لأن الله تعالى لا يقول إلا الحق وهو يهدي السبيل، ووحيه كله حق، وكتابه كله حق، لا يصل إليه الباطل والافتراء والكذب بأي وجه من الوجوه , كما

قال تعالى: (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله (و (قل الله يهدي للحق (وليس الظن أو الوهم أو الافتراء من الحق (راجع يونس: 35 - 37) .. فأين في هذا كله ما يتيح لخلف الله وأصحابه الزعم بأن نفي الافتراء في هذه الآيات لا يلحق المواد الأدبية القصصية، ولا بما في هذه القصص من صور للأحداث والأشخاص؟ وهل إذا لَحِقَ الافتراء هذه الأمور - كما يزعمون - يصح إطلاق وصف الحق في الآيات السابقة؟ وهل استخلاص عبرة ينافي أن يكون القصص المستخلص منه حقاً؟ لقد أجابت عن هذا الزعم الباطل آخر آية في سورة يوسف , وهي قوله تعالى: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون (. فالعبرة المستخلصة من القصص القرآني , إنما تستخلص من قصص حق لا افتراء فيه ولا أسطورة. 12-وفي القرآن الكريم قوله تعالى: (فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون ( [سورة يونس الآية: 32] ، فإذا كان كل ما في القرآن قد وصف بأنه هو الحق , فهل يستقيم بعد هذا أن يتضمن شيئاً ينسب إلى باطل أو ضلال , بمخالفته لحقيقة التاريخ أو الحقائق الكونية) (¬1) ؟. 13-إن عدم مطابقة ما في القرآن من وقائع تاريخية مع أحداث التاريخ , إما منشؤه عدم وجود هذه القصص في التاريخ أصلا , وإما ¬

(¬1) هذه الأدلة الخمسة ذكرها الدكتور بلتاجي في كتابه "مدخل إلى علم التفسير " (ص:194-197) .

منشؤه أن يكون في التاريخ شيء يعارضه؛ فإن كان الأول فإن عدم عثورنا عليه في التاريخ ليس دليلا على عدم وقوعه حقيقة , فعدم العلم ليس علما بالعدم، وأما إن كان الثاني فلا بد أن تكون هذه الحادثة حصل لها من النقل والتواتر والتثبت مثل ما حصل للقرآن حتى تعارضه , وهذا لا وجود له، وإلا فإننا نقدم ما في القرآن؛ لأنه أصح بشهادة الجميع. 14-هذه الدعوى تفتح الباب للطاعنين على مصراعيه، فإذا ثبت أن القرآن فيه أشياء مكذوبة ومفتراه , إذن كيف يتبع ويلزم به ويتحاكم إليه. وأما الردود التفصيلية على الشبه التي ذكرها، فهي كالتالي: -الطعن الأول: قوله تعالى عن المسيح عيسى بن مريم عليه السلام: {ويكلم الناس في المهد} [آل عمران: 46] ، حيث روى الرازي عن اليهود والنصارى أنهم ينكرون أن عيسى تكلم في زمن الطفولة، ويحتجون بأن هذا لو حدث لكان من الوقائع العجيبة التي تنقل بالتواتر (¬1) . -الطعن الثاني: وقوله تعالى: {وقال فرعون: يا هامان ابن لي صرحاً} [غافر 36] فالمدعو خلف الله يشير إلى ما رواه الرازي من قول اليهود: أطبق الباحثون عن تواريخ بني إسرائيل وفرعون , أن هامان ما كان موجوداً البتة في زمان موسى وفرعون، وإنما جاء بعدهما بزمن مديد (¬2) . ¬

(¬1) الفن القصصي لخلف الله، ص:25. (¬2) السابق، ص:27.

-الجواب: 1-أن هذا الآيات تليت على اليهود في زمن النبي (صلى الله عليه وسلم) ,وكان فيهم العلماء والأحبار فلم ينكر أحد منهم هذا الأمر. 2-كيف يُحاكم القرآن المحفوظ بحفظ الله له بكتب أهل الكتاب , التي ملئت تحريفا وزيفا , بل طال التحريف عندهم كتبهم المقدسة، هذا لا يقبله عقل، ومثل هذا كمثل عالم كبير السن والقدر والاطلاع، تكلم في قضية، فقال له الناس: نحن نخالفك بهذا؛ لأن عندنا كتابا محرفا لا ندري من ألفه ملئ بالأخطاء يخالف ما تقول؟!!. فإن كان هذا لا يجوز في حق البشر فكيف بخالق البشر، يقول د. بلتاجي: (لو أن خلف الله يحاكم آيات القرآن الكريم إلى شيء يقيني لكان له وجه فيما يذكره، لكنه يحاكمها إلى التواريخ القديمة وما عند اليهود والنصارى عنها.. فما قوله فيما في هذه التواريخ القديمة من خرافات وأساطير وأوهام آمنت بها البشرية أجيالً طويلة، ثم تبين ضلالها وكذبها) (¬1) ؟. 3-دعوى أن هذا مطبق عليه عندهم منقوضة بما حصل من اليهود والنصارى في زمن النبي (صلى الله عليه وسلم) , من الإقرار عليه وعدم إنكاره، مع حرصهم الشديد على مخالفته في ما هو أقل من ذلك. 4- (إن الرازي لم يترك هذه الشبهة دون رد، وبالتالي لم يكن من الذين يقولون بها على سبيل الإيمان أو الاقتناع، فقد قال: أجاب المتكلمون عن هذه الشبهة , وقالوا: إن كلام عيسى عليه السلام في المهد , إنما كان للدلالة على براءة حال مريم عليها السلام من الفاحشة، وكان ¬

(¬1) مدخل إلى علم التفسير (ص:216) .

الحاضرون جمعاً قليلين، فالسامعون لذلك الكلام كان جمعاً قليلاً، ولا يبعد في مثله التواطؤ على الإخفاء.، وقال: والجواب أن تواريخ موسى وفرعون قد طال العهد بها، واضطربت الأحوال والأدوار , فلم يبق على كلام أهل التاريخ اعتماد في هذا الباب، فكان الأخذ بقول الله تعالى أولى) (¬1) . 5- (إن عدم تسجيل التاريخ البشري لواقعة تكلم عيسى في المهد لا يعتبر دليلاً قاطعاً لعدم حدوث ذلك، حتى يدعي أحد تكذيب القرآن في الإخبار به، ويصح ادعاؤه. أما فيما يتصل بالتواريخ البشرية , فمما لاشك فيه أنها أهملت تسجيل كثير من الأحداث الفردية - مهما تكن أهميتها في ذاتها - حيث لم يتوفر لها من الشهادة الصادقة , وتوفر سبل الإذاعة، والنقل , والبقاء على مر العصور ما يكفل لها ذلك. إذ يكفي أن تنقطع حلقة في هذه السلسة لتصبح الواقعة في حكم المجهول من الأجيال التالية، وعلى العكس من ذلك , فإن بعض الأوهام الكاذبة في ذاتها , قد يتوفر لها من ظروف إيمان بعض الناس بصحتها - بناء على بعض الشواهد والظواهر الخادعة - وتسجيلهم لها، ثم رعايتها بظروف تضمن إذاعتها وانتقالها عبر الأجيال - ما يجعلها تدخل التاريخ من أوسع أبوابه، وهي في أصلها أسطورة كاذبة لا نصيب لها من الحق. وقد تلعب يد التحريف والتجهيل والتعمية ببعض جوانب واقعة صحيحة في أصلها , فإذا بها قد جمعت في نهاية الأمر بين الحق والباطل في قصة واحدة ,هذا معروف مسجل عن أوهام التواريخ ¬

(¬1) مدخل إلى علم التفسير (ص:213) و (ص:217) .

وأخطائها، فهي تهمل، وتنسى، وتحرف، وتخدع، وتتوهم، وكل هذا يتضمنه ما يسمى بـ"التاريخ البشري"، وخاصة في عصور ما قبل التدوين المنظم , ذي الأساليب والإمكانات المنضبطة شيئاً ما. وإذا كان هذا ثابتاً لاشك فيه , فهل يقبل منطق البحث العلمي النزيه , أن يتخذ إغفال التواريخ القديمة لحادثة فردية , مثل كلام طفل في المهد , دليلاً قاطعاً على كذب الوحي في إخباره بها (¬1) ؟) . 6-إن فرعون موسى -من بين فراعنة مصر- ليس معروفا للمؤرخين بصورة قطعية متفق عليها، فإذا كان الأمر كذلك , فإن تحديد وزرائه ومعاونيه بالاستقصاء والحصر , أمر لا يمكن أن يدعيه على سبيل القطع مؤرخ يحترم عقله وعقول الناس (¬2) . ¬

(¬1) مدخل إلى علم التفسير (ص:214) . (¬2) السابق ص:217.

-الطعن الثالث: قوله تعالى: {يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:28] ، وقد علم أن بين مريم وهارون أكثر من خمسة عشر قرنا (¬1) . -الجواب (¬2) : 1-أن هارون كان رجلا صالحا من بني إسرائيل , ينسب إليه كل من عرف بالإصلاح، والمراد: أنكِ كنتِ في الزهد والتقوى كهارون، فكيف صرت هكذا. 2-أن مريم من نسل هارون، فنسبت إليه كما يقال: يا أخا همدان، يا أخا العرب، يعني يا من نسله منهم، ومنه قوله تعالى: {واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف ... } [الأحقاف:21] ¬

(¬1) الفن القصصي، ص:28. (¬2) انظر مدخل إلى علم التفسير (ص:229) ودفاع عن القرآن ضد منتقديه، د. عبد الرحمن بدوي (ص:169) ، الدار العالمية للكتب والنشر.

ومن هذا الباب حديث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) , إِذْ جَاءَ هُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ , ثُمَّ أَدْبَرَ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : «يَا أَخَا الْأَنْصَارِ كَيْفَ أَخِي سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ؟» ، فَقَالَ: صَالِحٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : «مَنْ يَعُودُهُ مِنْكُمْ؟» فَقَامَ وَقُمْنَا مَعَهُ وَنَحْنُ بِضْعَةَ عَشَرَ , مَا عَلَيْنَا نِعَالٌ وَلَا خِفَافٌ (¬1) وَلَا قَلَانِسُ (¬2) وَلَا قُمُصٌ , نَمْشِي فِي تِلْكَ السِّبَاخِ حَتَّى جِئْنَاهُ , فَاسْتَأْخَرَ قَوْمُهُ مِنْ حَوْلِهِ حَتَّى دَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ مَعَهُ" (¬3) ، وهذا الجواب وجيه وقوي. 3-أن هارون كان رجلا مُعْلِناً بالفسق , فشبهت به. 4-هارون المقصود به هنا ليس هو هارون أخي موسى , بل هو أخ لمريم حقيقة فنسبت إليه، فقد عرض هذا الإشكال على النبي (صلى الله عليه وسلم) وأجاب عنه بهذا الجواب، فقد أخرج الإمام مسلم عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: لَمَّا قَدِمْتُ نَجْرَانَ سَأَلُونِي فَقَالُوا: إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ (يَا أُخْتَ هَارُونَ (وَمُوسَى قَبْلَ عِيسَى بِكَذَا وَكَذَا. فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) سَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: «إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ» (¬4) . وهذا نص قاطع صحيح صريح في هذه القضية فلا محيد عنه (¬5) ، ¬

(¬1) الخفاف: جمع خف وهو مايلبس على الرجل من الجلد. (¬2) القلانس: جمع قلنسوة، وهي من ملابس الرأس. لسان العرب (6/181) . (¬3) أخرجه مسلم (كتاب الجنائز، باب في عيادة المريض، رقم:925) . (¬4) أخرجه مسلم (كتاب الآداب، باب النهي عن التكني بأبي القاسم , وبيان ما يستحب من الأسماء، رقم:2135) (¬5) قال الدكتور عبد الرحمن بدوي بعد أن ذكر هذا الجواب: هذا الافتراض وإن كان غير مستحيل في ذاته , إلا أنه يفتقر إلى أي مستند آخر لإثباته. انظر: دفاع عن القرآن ضد منتقديه، ص:170) ، وذكر أن هذا الاحتمال لا دليل عليه وإنما أوجدته احتياجات القضية، (دفاع عن القرآن ضد منتقديه، ص:171) ، وقال: هذه المشكلة لم تثر في حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) . دفاع عن القرآن ضد منتقديه، ص:180) ،وكنت أظنه في البداية لم يطلع على هذا الحديث , ولكنه قال في الخاتمة (ص:189) : وما ذكره مسلم والترمذي في موضوع الحوار الذي دار بين المغيرة الذي أرسله النبي إلى نجران وأهل تلك البلاد، هو في رأينا مختلق لتأييد أن هذا الاعتراض أجاب عنه النبي بنفسه. وهذا الكلام لاشك في بطلانه؛ فإنه؛ لم يضعف هذا الحديث أحد من أهل العلم , بل هو في أصح الكتب بعد كتاب الله وهو صحيح البخاري، وما المانع أن يعرض هذا الإشكال على النبي، لاسيما أن أهل نجران نصارى ويعرفون تاريخ عيسى ومريم.

قال الطوفي -رحمه الله-: (هذا سؤال قد كفانا جوابه صاحب الشريعة () (¬1) . -الطعن الرابع: يقول: بانَ للعقل الإسلامي أن وداً وسُواعاً ويغوثَ ويعوقَ ونسراً كانت الأوثان التي تعبد في الجزيرة العربية زمن البعثة المحمدية، وعجز العقل الإسلامي عن أن يفهم الصلة بين هذه الأوثان وبين نوح عليه السلام حتى تجيء في قصته، فالدنيا خربت في زمن نوح بالطوفان , فكيف بقيت تلك الأصنام؟ (¬2) . -الجواب: نسأل: مَن قال إن الدنيا خربت؟ إنما هلك كل الناس إلا من كان في السفينة، وأما بقاء الأصنام وغيرها من الجمادات فهو غير مستبعد. ¬

(¬1) الانتصارات الإسلامية في كشف شبه النصرانية، للطوفي (1/302) ،مكتبة العبيكان، الرياض، الطبعة الأولى 1999. (¬2) الفن القصصي (ص:65) .

قال القرطبي: (عن ابن عباس: إن نوحا عليه السلام كان يحرس جسد آدم عليه السلام , على جبل بالهند, فيمنع الكافرين أن يطوفوا بقبره, فقال لهم الشيطان: إن هؤلاء يفخرون عليكم، ويزعمون أنهم بنو آدم دونكم , وإنما هو جسد , وأنا أصور لكم مثله تطوفون به. فصور لهم هذه الأصنام الخمسة، وحملهم على عبادتها, فلما كان أيام الطوفان دفنها الطين والتراب والماء, فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطان لمشركي العرب) (¬1) . -الطعن الخامس: سياق آيات قصة لوط في سورة الحِجْر , يخالف سياق نفس القصة في سورة هود وغيرها من السور: ففي الحِجْر: (فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) ( [الحجر:61-71] . وأما في هود: (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا ¬

(¬1) تفسير القرطبي (18/199) .

رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) ( [هود:77-81] ، ففي الحجر أخبروه أنهم رسل الله قبل أن يأتي قومه، وفي هود أخبروه بعد ذلك؟. -الجواب: لا شك أن سياق سورة هود هو سياق قصة لوط ,كما يدل عليه غيره من الآيات، ويدل عليه أيضا قوله في الحجر: (إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُْنتُمْ فَاعِلِينَ (فلو كان يعلم أنهم ملائكة لما قال هذا الكلام لقومه. وليس في الحجر ما يدل على خلاف هذا، وكون الآيات قدمت كلام الملائكة مع أنه متأخر حدوثا , فهذا لا يضر لحكمة معينة، والواو لا تقتضي الترتيب، قال ابن كثير: (قوله: قال (إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون واتقوا الله ولا تخزون (. وهذا إنما قاله لهم قبل أن يعلم بأنهم رسل الله، كما قال في سورة هود , وأما ههنا فتقدم ذكر أنهم رسل الله , وعطف ذكر مجيء قومه ومحاجته لهم، ولكن الواو لا تقتضي الترتيب ولا سيما إذا دل دليل على خلافه) (¬1) . -الطعن السادس: وذكر خلف الله أن في القرآن أساطير للأولين؛ ومثل لها بالذي مر على قرية وهو خاوية على عروشها، وقصة أهل الكهف، لأن ما فيها ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (2/555) .

من أخبار الغيب لا يتفق مع مقاييس العقل (¬1) . -الجواب: 1- تحكيم القرآن إلى العقل خطير جدا، لأن العقل أحيانا كثيرة يخطئ، فكيف يحاكم الكتاب المعصوم إلى ما هو كثير الخطأ، ثم عقول الناس تتفاوت؛ فهناك العبقري وهناك الأخرق، وبينهما مراتب كثيرة، فأي عقل من هذه المراتب نحاكم لها القرآن، ثم إذا وجدنا عقولا بمنزلة مقبولة لنقد القرآن؛ فما هو الحل عندما تختلف هذه العقول، لاشك إن هذا باب لو فتح لا يغلق. 2- قصة أهل الكهف يثبتها أهل الكتاب أيضا، بل إنما نزلت هذه الآيات بناء على استفسارهم عنها -كما تقدم- (¬2) ، والعادة أنهم لا يطعنون في كتبهم المقدسة -على خلاف بعض بني جلدتنا-، فالطعن في قصة تتابعت الكتب السماوية على إثباتها جرأة خطيرة. 3-هذه دعوى من غير دليل، وكل دعوى بلا دليل باطلة، لاسيما إذا كان القرآن يقرر خلاف هذه الدعوى. -الطعن السابع: الطعن في قصة سليمان عليه السلام مع بلقيس والهدهد: قال الإمام الرازي: (أن الملاحدة طعنت في هذه القصة من وجود: أحدها: أن هذه الآيات اشتملت على أن النملة والهدد تكلما بكلام لا يصدر ذلك الكلام إلا من العقلاء، وذلك يجر إلي السفسطة، ¬

(¬1) الفن القصصي (ص:180-181) . (¬2) ص:214.

فإنا لو جوزنا ذلك لما أمنا في النملة التي نشاهدها في زماننا هذا أن تكون أعلم بالهندسة من إقليدس وبالنحو من سيبويه، وكذلك القول في القملة والصئبان، ويجوز أن يكون فيهم الأنبياء والتكاليف والمعجزات. ومعلوم أن من جوز ذلك كان إلى الجنون أقرب. وثانيها: أن سليمان عليه السلام كان بالشام، فكيف طار الهدد في تلك اللحظة اللطيفة من الشام إلى اليمن، ثم رجع إليه. وثالثها: كيف خفي على سليمان عليه السلام حال مثل تلك المملكة العظيمة مع ما يقال إن الجن والإنس كانوا في طاعة سليمان، وأنه عليه السلام كان ملك الدنيا بالكلية، وكان تحت راية بلقيس حال طيران الهدهد إلا مسيرة ثلاثة أيام؟. ورابعها: من أين حصل للهدهد معرفة الله تعالي ووجوب السجود له وإنكار سجودهم للشمس وإضافة إلي الشيطان وتزينه؟) (¬1) . -الجواب: قال الرازي في الجواب على ذلك: (والجواب على الأول: أن ذلك الاحتمال قائم في أول العقل، وإنما يدفع ذلك بالإجماع. وعن البواقي: أن الإيمان بافتقار العالم إلي المختار يزيل هذه الشكوك) (¬2) . (هذا ما رد به الرازي على هذه الطعون، وهو رد مجمل قاصر ¬

(¬1) مفاتيح الغيب 24/190-191 (¬2) مفاتيح الغيب 24/.91

يكاد يسلم - بعد هذه الطعون الفصلة - بالعجز على الرد المفصل القوي، مما يذكرنا بما قيل عن الرازي أنه - مع علمه وفضله - كان يذكر الطعون مفصلة ولا يورد معها - أحيانا - ما يكافئها من الجواب، مما فتح مجالا أمام متبعي الشبهات للاستدلال على طعونهم بما أورده الرازي ولم يفلح - مع كبير علمه - في الرد المقنع عليه. والحقيقة أن هذه الطعون - التي عرض لها خلف الله في سياق نظريته السابقة - لا تقوم في مجموعها أو تفصيلاتها كمستند للطعن في شيء من القرآن الكريم، وسيكون ردنا عليها نقضاً لكل من يستدل بها وذلك على النحو التالي: (أ) فيما يتصل بكلام الهدهد والنملة - فقد أصبح من المقطوع به الآن عند العلماء الذين يدرسون سلوك أنواع الطير والحيوان والحشرات، أن لكل منها لغة تقوم مقام اللغة المعهودة عند البشر، في التعبير ونقل الأحاسيس والمعارف، على نحو ما ماتزال تفاصيله مجهولة من البشر، لكن المقطوع به من شواهد كثيرة جداً أن لكل منها نوعاً من اللغة يتم به الأتصال بين أفراده، وقد سجل بعض العلماء تسجيلات صوتية لأنواع من الطيور في حالة الفزع نقلت إليهم - في غاية من الوضوح - هذه المشاعر والمعاني (¬1) . فلم يعد يشك الآن في أن كل نوع من الأحياء له لغة خاصة بأفراده، وهذا أمر واضح لكل من يراقب سلوك الطيور والحشرات، بل إن بعض العلماء يذهبون إلى أن أنواع النبات هي الأخرى تملك لغة واتصالاً فيما بينها، على نحو ما - مما لا يتسع المجال لتقرير القول فيه، ولا يتطلبه. ¬

(¬1) وقد استخدم هذا تجريبيا في زجر الطير لاقط الحب عن أماكن هذه الحبوب باذاعة تسجيلات التحذير والفزع.

فما العجب بعد هذا من أن تتكلم النملة، ويتكلم الهدهد، بكلام يفهمه سليمان عليه السلام لأنه - كما ورد في القرآن الكريم - علم منطق الطير وأوتي من كل شيء (النمل 16) (¬1) ؟ أما أنهم تكلموا بكلام يدل على شيء من العقل فإن من يراقب سلوك الطير والحشرات فسوف يدرك بغاية من الوضوح أن سلوكهم يجرى على نظم من الوعى والتدبير والعمل من أجل غايات تهديهم إليها غرائزهم وفطرهم، وعلى المعاند في هذا أن يقراء شيء عن سلوك الحشرات والطيور في كتب العلم التجريبي، وسوف يذهله ما يقرأ، وعليه أن يراقب العمل والنطام في (مملكة النحل) أو في (عالم النمل وقراه التي ينشئها) .. وليس ذلك كله إلا مصدقاً لقوله تعالي {ربنا الذي أعطي كل شيء خلقه ثم هدى} [طه: 50] وقوله: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون} [الأنعام: 38] ، وهو الذي تدل عليه بحق كافة مشاهدات العلماء المحققين. والمتشكك في ذلك إنما هو المستحق لسخرية الساخرين! فما العجب إذن في أن تتكلم نملة ويتكلم هدهد؟ وما العجب في أن يفهم عنهما من عرف لغة كل منهما؟ ولا يجر ذلك - كما زعم الملاحدة الطاعنون - إلي شيء من السفسطة التي ذكروها، فلم يقل القرآن الكريم بشيء من ذلك، إنما قال بما تدل عليه ملاحظة هذه الأنواع، وهو أن لها منطقاً، أما علم الهندسة، والنحو، والتكاليف، والمعجزات؛ فإنما هو من قول الملاحدة الذي يرد عليهم، لأننا لا نحمل القرآن الكريم إلا ما نطق به لا ما قام في أوهام الملاحدة. ¬

(¬1) والعلماء الآن يحاولون التعرف على منطق بعض الطير.

(ب) فيما يتصل بطيران الهدهد من الشام إلي اليمن، ثم الرجوع إلى الشام، فالذي ورد في القرآن الكريم عنه قوله تعالى: {فمكث غير بعيد..} [النمل: 22] ، وليس في القرآن الكريم تحديد أن الهدهد مكث " لحظة " كما يقول هؤلاء، ولا يفهم من " غير بعيد " في سياقها إلا مدة تكفي للطيران، وقد قرئت على صفحاء العرب من المشركين في عصر الرسالة - وهم أعلم باللغة، وكانوا يعرفون اليمن والشام - فما أثاروا - فيما علمنا - هذا الاعتراض، فعلم منه أن التعبير القرآني يخلوا عن دواعي اعتراض هؤلاء الملاحدة. (ج) أنا كيف خفي على سليمان حال مملكة سبأ - فإن القرآن الكريم لم يصفه بأنه كان يعرف الغيب، وقد كان هذا غيبا بالنسبة إليه، وليس فيما وصف القرآن الكريم به سليمان عليه السلام إلا تسخير الرياح والشياطين وتعليم منطق الطير وإيتاء الملك الذي لا ينبغي لأحد بعده، لكن ليس فيه شيء من وصفه بعلم غير ما علمه الله له، فما العجب في أن تكون في الأرض أشياء وممالك كان سليمان - مع عظمة ما أعطاه الله له - يجهلها؟ إن القرآن الكريم لا يذكر شيئا عن أن سليمان - عليه السلام - كان ملك الدنيا كلها بأكملها - كما يزعم هؤلاء الطاعنون - ولعل مستندهم في هذا إنما هو بعض المبالغات الإسرائيلية التي لم يرد لها ذكر في الوحي القرآني. أما إذا كان واحد منهم قد فهم ذلك من قوله تعالى: {وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون} [النمل: 16] ، فهو لا يعرف شيئاً عن أساليب البيان العربية، لأن (من) هنا للتبعيض، وليس المعني أن كل الأنس - دون استثناء - كانوا تحت ملكه.

ولعل الذي جر الطاعنين إلي طعنهم ما ذكروه هم من أنه كان تحت راية ملكة سبأ اثنا عشر الف ملك تحت راية كل منهم مائة ألف ‍! وليس في نصوص القرآن الكريم شيء من هذا مطلقاً، والعدد الذي ذكروه يجاوز بكثير جداً ما يمكن أن يكون موجوداً عندئذ من عدد السكان، وهو يذكرنا بما نقده ابن خلدون من مبالغات المؤرخين القدماء، وما حذر منه (فيكو) من غرور الأمم حين تكتب تارخها - فكيف تحمل هذه المبالغات على نصوص القرآن الكريم التي لم تعرض لها إطلاقاً؟ فلا عجب إذن أن يجهل سليمان - عليه السلام - أمر ملكة سباً مع كل ما أعطاه الله له، لأنه لم يعطه علم كل ما في الأرض، ولم تكن هناك اتصالات منتظمة بين المالك بحيث تعرف كل منها الأخرى، وتتصل بها على النحو الذي نعهده في عصرنا والذي حدث بعد ذلك بحكم التطور العمراني، ولم تكن الجن التي سخرت لسليمان - عليه السلام - أيضاً تعرف الغيب كما ورد في قوله تعالي: {فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين} [سبأ: 14] . (د) أما من أين حصل للهدهد معرفة الله تعالى ووجوب السجود له وإنكار سجودهم للشمس وإضافته إلي الشيطان وتزيينه؟ فإنما كان الهدهد من جند سليمان عليه السلام، والآيات تتكلم عن أمر (غيبي) لا يقاس على معرفة البشر الآن بأحوال الطير، وما المانع من أن تكون فطرة كافة المخلوقات عارفة بوجوب السجود لله تعالى وحده، وقد جاء في القرآن الكريم شاهداً بذلك قوله تعالى: (اولم يروا إلي ما خلق الله من شيء يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجداً لله وهم داخرون ولله يسجد ما في

السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون ( [النحل: 48-49] وقوله: {والنجم والشجر يسجدان} [الرحمن: 6] وقوله: {الم تر ان الله يسبح له من في السموات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون} [النور: 41] وقوله {تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهم وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفوراً} [الإسراء: 44] ... فما العجب بعد هذا كله أن بكون الهدهد من جند سليمان - عليه السلام - عارفاً لوجوب السجود لله تعالى وحده منكراً السجود لغيره؟ إن القضية - فيما نري قضية إخبار عن الغيب لا تصل معرفة البشر التجريبية أو العقلية إلى شيء يستند إليه إنكار هذا الإخبار الذي يجاوز حدود هذه المعرفة، فالمؤمنون بالغيب وبصدق الوحي القرآني يؤمنون به، والمكذبون ينكرون بكل ما لا يقع منهم تحت حس مباشر أو تجربة مادية، لكنهم في مثل هذه القضايا الغيبية لا مستند لهم في إنكارهم إلا محض الشك والتكذيب وقياس الغائب على الشاهد وتحكيم عقولهم القاصرة فيما هو من علم الغيب، ... ولسنا نملك لهؤلاء وسيلة تحملهم على الإيمان بالغيب وعدم قياس الأمور فيه على علم الشهادة البشرية. {ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا اولئك الذين لم يرد الله ان يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الأخرة عذاب عظيم} [المائدة: 41] . .... وبهذا يتبين لنا أنه ليس فيما ورد من قصة سليمان في سورة النمل ما يطعن في صحة شيء مما ورد في القرآن الكريم) (¬1) . وقد ذكر خلف الله طعونا أخرى لكنها لا تدخل في موضوع (دعوى معارضة القرآن للحقائق التاريخية) ، لذلك لم أذكرها، وإن كان من رد على خلف الله ذكرها؛ لأني لا أرد على كتاب خلف الله، بل أرد على من زعم هذه الدعوى، وأغلب إشكالاته من باب تعارض ¬

(¬1) مدخل إلى علم التفسير (ص:236) .

المطلب الثالث: دعوى تعارض القرآن مع الحقائق الكونية أو حقائق العلم التجريبي:

الآيات بعضها مع بعض , وقد أجبنا على أكثرها في المطلب السابق. المطلب الثالث: دعوى تعارض القرآن مع الحقائق الكونية أو حقائق العلم التجريبي: من المطاعن على القرآن دعوى أنه يتعارض مع الحقائق الكونية أو حقائق العلم التجريبي الحديث، وعليه فإن القرآن ليس من كلام الله تعالى؛ لأن الله جل جلاله يعلم كل شيء، وقد ذكر الطاعنون لهذا أمثلة سيأتي ذكرها. بادئ ذي بدأ لابد من وضع بعض القواعد لهذه المسألة: 1- لابد أن تكون هذه المعلومات التجريبية وصلت مرحلة الحقيقة العلمية المستقرة المتفق عليها (¬1) ، فلا يجوز أن نجادل القرآن بنظريات تفسيرية لبعض ظواهر الكون، أو أن القضية العلمية عبارة عن تجارب لم تصل إلى حد الحقيقة الثابتة القطعية، مثل نظرية أن أصل الإنسان قرد ثم مر بمراحل حتى وصل إلى هذا المستوى (¬2) ، التي تتعارض مع كون ابتداء خلق الناس كان من آدم الذي خلقه الله تعالى مرة واحدة من غير تدرج. 2-لابد أن يكون هذا التناقض من كل وجه بحيث لا يحتمل ¬

(¬1) انظر: التفسير والمفسرون، للذهبي (2/470) ، مكتبة وهبة، القاهرة، الطبعة الخامسة 1993، والمدخل إلى علم التفسير، د. بلتاجي ص: 208، وص: 26. (¬2) انظر: مدخل إلى علم التفسير، أ. د. محمد بلتاجي حسن (ص: 203) ، حيث نقلها عن ميلر بروز (رئيس قسم لغات الشرق الأدنى) .

حمل اللفظ على معنى آخر، فإن دلالة القرآن الظنية المعنى مما يمكن حملها على عدة معان (¬1) ، ومن هذه المعاني معان لا تخالف العلم، مثل دعوى أن الأرض تدور حول الشمس، المناقض لقوله الله تعالى: (وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن. . (فنسب فعل الدوران للشمس، وهذا غير صحيح؛ فإن اللفظ ليس قاطعا في هذا المعنى، بل إنه ابتدأ بقول: (وترى الشمس (أي أن هذا الأمر بالنسبة لرؤية الإنسان، وسياق الآية كما هو ظاهر ليس مقصودا في إثبات دوران الأرض حول الشمس أو العكس، فلا ينبغي تحميل النص ما لا يحتمل. فإذا كانت المسألة في حقيقة علمية ثابتة، وهى تعارض نصا قرآنيا من كل وجه، فهنا تحصل المناقضة. وكعادتنا نبدأ أولا بالردود الإجمالية ثم التفصيلية: 1-أن العلم والقرآن لا يمكن -عقلا- أن يتعارضا؛ وذلك لأن مصدرهما واحد وغايتهما واحدة، فمصدرها هو الله سبحانه وتعالى، فالله هو الذي خلق هذا الكون وما فيه من معارف وعلوم، وهو الذي شرع هذا الدين وما فيه من أخبار وأحكام، وما كان من الله فإنه لا يتناقض، (فالقرآن والكون - وهما مصدر الحقائق الدينية والعلمية - كلاهما من عند الله وصنعه، أنزل القرآن بالحق كما خلق الكون بالحق، فلا ينبغي للإنسان طلب الحق إلا فيهما، ومن ثم لا يتصور تصادم الحق مع نفسه) (¬2) . ¬

(¬1) التفسير والمفسرون (2/480) ، والمدخل إلى علم التفسير، د. بلتاجي ص: 26. (¬2) اتجاهات التجديد في تفسير القرآن، للدكتور شريف، ص: 639.

ويتفقان أيضا في الغاية والهدف، وهو إسعاد البشرية وتذليل صعوبات الحياة، فما اتفق في المصدر والغاية لا يمكن أن يتعارضا فيما بين ذلك، فالعلم الصحيح لا يعارض القرآن، بل هما أخوان متعاونان (¬1) . 2-إن المنصفين من أهل الملل الأخرى شهدوا بأن القرآن لا يتعارض مع العلم أبدا. يقول إبراهيم خليل: (يرتبط هذا النبي (صلى الله عليه وسلم) بإعجاز أبد الدهر بما يخبرنا به المسيح -عليه السلام- في قوله عنه: (ويخبركم بأمور آتية) . وهذا الإعجاز هو القرآن الكريم، معجزة الرسول الباقية ما بقي الزمان، فالقرآن الكريم يسبق العلم الحديث في كل مناحيه؛ من طب وفلك وجغرافيا وجيولوجيا وقانون واجتماع وتاريخ ... ففي أيامنا هذه استطاع العلم أن يرى ما سبق إليه القرآن بالبيان والتعريف. .) (¬2) ، وقال: (أعتقد يقينا أني لو كنت إنسانا وجوديا، لا يؤمن برسالة من الرسالات السماوية، وجاءني نفر من الناس، وحدثني بما سبق به القرآن العلم الحديث في كل مناحيه؛ لآمنت برب العزة والجبروت، خالق السماوات والأرض ولن أشرك به أحدا) (¬3) . وقال بوتر: (عندما أكملت قراءة القرآن الكريم، غمرني شعور بأن هذا هو الحق، الذي يشتمل على الإجابات الشافية حول مسائل الخلق وغيرها، وإنه يقدم لنا الأحداث بطريقة منطقية، نجدها متناقضة مع بعضها في غيره من الكتب الدينية، أما القرآن فيتحدث عنها في نسق ¬

(¬1) انظر: اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر، للدكتور شريف، ص: 628. (¬2) محمد في التوراة والإنجيل والقرآن (ص: 47،48) . (¬3) المرجع السابق (ص: 48) .

رائع وأسلوب قاطع لا يدع مجالاً للشك بأن هذه هي الحقيقة، وأن هذا الكلام هو من عند الله لا محالة) (¬1) . وقال بوتر أيضا: (كيف استطاع محمد (صلى الله عليه وسلم) ، الرجل الأمي الذي نشأ في بيئة جاهلية، أن يعرف معجزات الكون التي وصفها القرآن الكريم، والتي لا يزال العلم الحديث حتى يومنا هذا يسعى لاكتشافها؟ لابد إذن أن يكون هذا الكلام هو كلام الله عز وجل) (¬2) . وقال حتي: (إن أسلوب القرآن مختلف عن غيره، ثم إنه لا يقبل المقارنة بأسلوب آخر، ولا يمكن أن يقلد، وهذا في أساسه، هو إعجاز القرآن. . فمن جميع المعجزات كان القرآن المعجزة الكبرى) (¬3) . ولقد ألف الدكتور مراد هوفمان -سفير ألمانيا السابق بالرباط- كتاب (الإسلام كبديل) (¬4) ، وفيه شهادات كثيرة على إعجاز القرآن وصدقه وصدق النبي (صلى الله عليه وسلم) وكمال التشريع. ومن الذين تخصصوا في هذا المجال، وكان من أشد الناس عداوة للقرآن والرسول (الدكتور موريس بوكاي، وكان كلما جاءه مريض مسلم يحتاج إلى العلاج الجراحي، فإنه إذا أتم علاجه يقول له: ماذا تقول في القرآن، هل هو من الله أنزله على محمد أم من كلام محمد نسبه إلى الله افتراء عليه؟ فإذا أجاب المريض بأنه من الله، وأن محمدا (صادق، قال: أنا أعتقد أنه ليس من الله وأن محمدا ليس بصادق. ¬

(¬1) قالوا عن الإسلام (ص55) . (¬2) قالوا عن الإسلام (ص55) (¬3) قالوا عن الإسلام (ص58) (¬4) من منشورات مكتبة العبيكان، الرياض، الطبعة الثالثة، 2001.

وبقي على ذلك زمانا حتى جاءه الملك فيصل بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية الراحل، يقول بوكاي: فعالجته جراحيا حتى شفي، فألقيت عليه نفس السؤال، فقال لي: هل قرأت القرآن؟ فقلت: نعم مرارا وتأملته. فقال لي: بلغته أم بترجمة؟ فقلت: بالترجمة. فقال: إذن أنت تقلد المترجم، والمقلد لا علم له؛ إذ لم يطلع على الحقيقة، لكنه أخبر بشيء فصدقه، والمترجم ليس معصوما من الخطأ والتحريف عمدا، فعاهدني أن تتعلم اللغة العربية وتقرأ القرآن بها وأنا أرجو أن يتبدل اعتقادك الخاطئ هذا. قال: فتعجبت من جوابه، ووضعت يدي في يده وعاهدته على ألا أتكلم في القرآن حتى أتعلم العربية، وذهبت من يومي إلى الجامعة الكبرى بباريس، وتعلمت اللغة العربية في سنتين، وأنا آخذ يوميا درسا حتى يوم عطلتي، ثم قرأت القرآن بإمعان، ووجدته الكتاب الوحيد الذي يضطر المثقف بالعلوم العصرية أن يؤمن بأنه من الله، لا يزيد حرفا ولا ينقص، وأما التوراة والأناجيل الأربعة ففيها كذب كثير لا يستطيع عالم عصري أن يصدقها) (¬1) . وكانت ثمرة هذه الدراسة العميقة للقرآن تأليف كتابه المشهور "التوراة والإنجيل والقرآن بمقياس العلم الحديث"، ومما قاله بوكاي في هذا الكتاب: (لقد قمت أولاً بدراسة القرآن الكريم، وذلك دون أي فكر مسبق، وبموضوعية تامة بحثاً عن درجة اتفاق نص القرآن ومعطيات العلم الحديث، وكنت أعرف - قبل هذه ¬

(¬1) مقال في مجلة السمو العدد الثاني (نوفمبر/2001) ، للدكتور وليد الطبطبائي بعنوان "الملك فيصل يدعو الجراح العالمي موريس بوكاي للإسلام"، في الصفحة الأخيرة، وذكر في المقدمة أن هذه القصة موجودة في كتاب "نوادر التاريخ" لصالح محمد الزمام.

الدراسة وعن طريق الترجمات - أن القرآن يذكر أنواعا كثيرة من الظاهرات الطبيعية، لكن معرفتي كانت وجيزة، وبفضل الدراسة الواعية للنص العربي استطعت أن أحقق قائمة أدركت بعد الانتهاء منها أن القرآن لا يحتوي على أية مقولة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم في العصر الحديث، وبنفس الموضوعية قمت بنفس الفحص على العهد القديم والأناجيل، أما بالنسبة للعهد القديم، فلم تكن هناك حاجة للذهاب إلى أبعد من الكتاب الأول، أي سفر التكوين فقد وجدت مقولات لا يمكن التوفيق بينها وبين أكثر معطيات العلم رسوخاً في عصرنا، وأما بالنسبة للأناجيل، فإننا نجد نص إنجيل متى يناقض بشكل جلي إنجيل لوقا، وأن هذا الأخير يقدم لنا صراحة أمراً لا يتفق مع المعارف الحديثة الخاصة بقدم الإنسان على الأرض) (¬1) . - ثانيا: الرد التفصيلي: 1- لعل من أقدم الطعون في دعوى تعارض القرآن مع العلم التجريبي، ما ادعاه بعضهم من معارضة قوله تعالى عن العسل: {فيه شفاء للناس} [النحل: 69] . قال القرطبي: (اعترض بعض زنادقة الأطباء على هذا الحديث، فقال: قد أجمعت الأطباء على أن العسل يُسهِل فكيف يوصف لمن به الإسهال؟ فالجواب أن ذلك القول حق في نفسه لمن حصل له التصديق بنبيه عليه السلام (¬2) ، فيستعمله على الوجه الذي عينه وفي المحل الذي أمره ¬

(¬1) قالوا عن الإسلام (ص56) . (¬2) يعني في حديث أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ (فَقَالَ: أَخِي يَشْتَكِي بَطْنَهُ فَقَالَ: «اسْقِهِ عَسَلًا» ثُمَّ أَتَى الثَّانِيَةَ فَقَالَ: «اسْقِهِ عَسَلًا» ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: (اسْقِهِ عَسَلًا) ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. فَقَالَ: «صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ اسْقِهِ عَسَلًا» فَسَقَاهُ فَبَرَأَ. متفق عليه (البخاري: كتاب الطب، باب الدواء بالعسل، رقم: 5684، ومسلم: كتاب السلام، باب: التداوي بسقي العسل، رقم: 2217) .

بعقد نية وحسن طوية, فإنه يرى منفعته ويدرك بركته, كما قد اتفق لصاحب هذا العسل وغيره كما تقدم. وأما ما حكي من الإجماع فدليل على جهله بالنقل؛ حيث لم يقيد وأطلق. قال الإمام أبو عبد الله المازري: ينبغي أن يعلم أن الإسهال يعرض من ضروب كثيرة, منها الإسهال الحادث عن التخم والهيضات; والأطباء مجمعون في مثل هذا على أن علاجه بأن يترك للطبيعة وفعلها, وإن احتاجت إلى معين على الإسهال أعينت ما دامت القوة باقية, فأما حبسها فضرر, فإذا وضح هذا قلنا: فيمكن أن يكون ذلك الرجل أصابه الإسهال عن امتلاء وهيضة، فأمره النبي (صلى الله عليه وسلم) بشرب العسل، فزاده إلى أن فنيت المادة فوقف الإسهال، فوافقه شرب العسل. فإذا خرج هذا عن صناعة الطب أذِن ذلك بجهل المعترض بتلك الصناعة. قال: ولسنا نستظهر على قول نبينا بأن يصدقه الأطباء، بل لو كذبوه لكذبناهم ولكفرناهم وصدقناه (; فإن أوجدونا بالمشاهدة صحة ما قالوه، فنفتقر حينئذ إلى تأويل كلام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وتخريجه على ما يصح، إذ قامت الدلالة على أنه لا يكذب) (¬1) . ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن (10/91)

وقد أجاب ابن حزم -رحمه الله- على ابن النغريلة اليهودي بأن كلمة (فيه شفاء) نكرة فلا تلزم العموم (¬1) ، وقد تقدم معنا كلام الأمام الداني (¬2) أن (ال) في كلمة (للناس) ليست للعموم بل للجنس. وهذه هي الطعون العلمية التي ذكرها المجلس الملي النصراني ورد الدكتور شلبي عليها: - 2_ الأرض ثابتة لا تتحرك: (جاء في سورة لقمان: (وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم (. وجاء هذا في سورة أخرى. . وقال ((رجال المجلس الملي)) : إن العلم يثبت أن الأرض تدور حول نفسها مرة كل 24 ساعة فكيف يقول القرآن إنها راسية وثابتة (¬3) ؟ الجواب: (معنى تميد تضطرب وتتزلزل، ولا يراد بالميدان مجرد حركة متزنة، والمصدر الثلاثي (فعلان) يأتي لإفادة هذا المعنى، مثل ميدان وغليان وثوران وجولان. . . وهكذا، والآية تذكر أن الله ثبت الأرض حتى يستطيع البشر أن يستقروا عليها في نومهم، ويزرعوا ويرعوا ماشيتهم، ولو كانت مضطربة ما استطاع الناس أن يطمئنوا عليها وأن يعملوا هذه الأعمال. نحن ننام في الطائرة وفي القطار وفي السفينة، فإذا اضطرب واحد منها استيقظنا وشعرنا بالتعب، وقد نطلب من السائق أن يعمل شيئاً يسكنها لتثبت، ولا يعني تثبيته أنه يقف ولا يتحرك، بل أن ينقطع اضطرابه، ¬

(¬1) الرد على ابن النغريلة اليهودي (ص: 62) . (¬2) رد مفتريات على الإسلام ص: 66. (¬3) رد مفتريات على الإسلام (ص: 130)

وسيذكر القوم بعد معترضين على القرآن أنه ذكر (وكل في فلك يسبحون (، و (كل (كلمة تشمل الشمس وتوابعها من القمر والأرض والكواكب الأخرى، فالقرآن إذن يقرر حركة كل هذه الكواكب) (¬1) . 3_ الكواكب في حجم الحجارة: (جاء في القرآن: {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين} [الملك:5] ، وجاء أيضاً: {ولقد جعلنا في السماء بروجاً وزيناها للناظرين وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين} [الحجر:16-18] ، وقال رجال المجلس: إن القرآن جعل النجوم والكواكب في حجم الحجارة، ترمي بها الملائكة الشياطين، والعلم الحديث يثبت أن كل كوكب عالم ضخم. والذي في الآية أن هناك أجساماً نارية تصيب الشياطين، ولم يذكر أن الشيطان يسقط عليه نجم أو أن الملائكة ترميه به، والعلم الحديث، ورواد الفضاء يتحدثون عن النيازك التي ترى في الفضاء الواسع مذنبات مضيئة، ومنها الناري الذي ينطفئ ويتفتت في سيره، وبعضها يصل إلى الأرض، وهي تشبه المقذوفات البركانية، والذين درسوا جغرافية فلكية يعرفون هذا، فهذه المقذوفات قطع تنفصل من الكواكب وتتحرك في الفضاء، خصوصاً إذا كان النجم أو الكوكب قريبا من الأرض، والله تعالى يصيب بها من يشاء ويحفظ بها من يشاء، وقد تكون قطعاً باردة ولكنها مضيئة كالقمر. ¬

(¬1) المصدر السابق (ص: 130) .

أما سمع نوابغ العصر أصحاب تيموثاوس أن الذين نزلوا على سطح القمر رأوا هناك جهات ساكنة نارها، وأخرى ملتهبة؟ وأنهم رأوا الأرض مشعة كما نرى نحن القمر؟ وأن الفضاء مليء بقطع نارية سابحة، ومنها ما يصل إلى الأرض؟) (¬1) . 4_ الفضاء سطح أملس قابل للسقوط وكذلك الأرض: (ذلك لأنه جاء في القرآن {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن} [الطلاق:12] ، وجاء: {والله الذي جعل لكم الأرض بساطاً} [نوح:19] ، وجاء: {يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون} [البقرة:21] ، {الذي جعل لكم الأرض فراشاً} [البقرة:22] ، وجاء هذا ومثله في آيات أخرى، وخطؤه في نظر رجال المجلس أن الأرض كوكب واحد وليس سبعة، وكذلك السماء! والآية الأولى جاءت في ختام سورة الطلاق، وهي تلفت الأنظار إلى قدرة الله تعالى البالغة: (الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً (. آية عجيبة رهيبة تبين ضآلة الإنسان في هذا الكون العظيم، ويقف غير واحد من الكتاب مذهولاً أمام التعبير، وأمام مدلوله، وأمام هذا الإعجاز القرآني. ¬

(¬1) رد مفتريات على الإسلام (ص: 132) .

ما هذه السماوات؟ وما هذه الأرضين؟ كل ينظر من زاوية خاصة، وكل يجد في الآية ما يبهره. قد تكون السماء التي توصل علمنا إليها بكل ما فيها من كواكب ونجوم وأفلاك إحدى سماوات سبع، والكرة الأرضية التي نعيش عليها هي أيضاً كذلك! إن علم الفلك الحديث يؤيد هذا، ويذكر أن المجموعة الشمسية التي يتعلق بها عالمنا هذا ليست إلا واحدة من مجموعات أخرى لا يعلمها إلا الله الذي خلقها. فهذا إعجاز قرآني؛ إذ لم يكن محمد يدرس فلكاً ولا يعرف شيئاً عن هذه المستكشفات الحديثة. وفي اللغة العربية يذكر العدد لإرادة التكثير، ويعبرون عنه بأنه عدد لا مفهوم له، وهذا كما تقول لصديقك: زرتك ألف مرة ولم تزرني. فأنت لا تريد ألفاً بعدده، وإنما تريد زرتك مرات كثيرة، فإذا حملنا العدد في الآية هذا المحمل، فالمعنى أن الله خلق سماوات كثيرة وأرضين كثيرة، وهذا حق وواضح. وقد يكون المراد بالسبع الأرضين أنواعا مختلفة من تربة الأرض، ويسمى كل نوع أرضاً، وهذا وهذا كما تقول: أصبح فلان ثرياً يملك أراضي كثيرة، والأرض أنواع بحسب تربتها وما بكل تربة من عناصر تكونت منها، بعضها رملي وبعضها جيري، وببعضها معادن حديدية وبالأخرى عناصر نحاسية وهكذا، كما قال تعالى: {ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود} [فاطر:27] . وقد يراد من أنواع الأرض ما تصلح لإنباته، فأرض بها غابات وأرض بها زهور، وثالثة قاحلة لا تنبت شيئاً. وآية سورة البقرة: {الذي جعل لكم الأرض فراشاً} [البقرة:22] . .

ليست الوحيدة التي تذكر هذا في القرآن، بل هناك آيات أيضاً أخرى تذكر هذا، ومعنى (فراشا (: أي مبسوطة تحت أقدامنا، منبسطة كالفراش، ننام عليها ونمشي ونزرع، ونستقر أيضاً أنعامنا ومساكننا، ولو جعلها الله سبحانه وتعالى كثيرة التعاريج شديدة التحدب، ما استطعنا أن نستريح عليه، ولا أن نجري كل هذه الأعمال، فالآية تذكر نعمة من نعم الله علينا، وليس في هذا ما يفيد أن الأرض قابلة للسقوط! وأما الآية التي في سورة الأنبياء، فقد جاءت ضمن آيات غاية في الروعة والإعجاز العلمي الفلكي، ولها يعجب الكثيرون كيف قرر القرآن هذه الحقائق منذ ذلك الزمن السحيق. فاقرأ قوله تعالى: {أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شي حي أفلا يؤمنون وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجاً سبلاً لعلهم يهتدون وجعلنا السماء سقفاً محفوظا وهم عن آياتها معرضون وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس كلٌ في فلكٍ يسبحون} [الأنبياء:30-33] . كانت السماوات العديدة والأرض جزءاً واحداً، ففتقها الخالق وفصل بعضها عن بعض: تبارك الله، وصدق نبيه الكريم! ما كان ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى!! في العصر الوسيط عصر الإظلام العقلي، والركود العلمي يقرر القرآن الكريم بحق أحدث النظريات العلمية، التي لم يهتد إليها العلم الحديث إلا من زمن قريب! هذه الكواكب كلها بما فيها الأرض كانت قطعاً نارية، انفصلت من الشمس أثناء دورانها الأبدي الجبار، فتناثرت في الفضاء الذي لا يعلم مداه إلا الله، واستغرقت ملايين الأعوام وبلايينها حتى بردت

قشرتها الخارجية، وشق الله بها الأنهار والبحار، وأنزل عليها ماء الأمطار، فدبت بها بعد ملايين السنين أيضاً صور الحياة المختلفة من النباتات الدنيئة والطحالب، ثم الحيوانات المختلفة، منها ما انقرض ومنها ما بقي، هكذا جعل الله من الماء كل شيء حي، كل شيء من النباتات والطيور والديدان والحشرات والأفاعي والوحوش والأناسي، كلها من الماء وتقوم حياتها عليه. هذا إبداع الله وخلقه، قدر سبحانه وهدى، ولم يأت شيء من أعماله بطريق المصادفة. أما التوراة فتقول: (في البدء خلق الله السماوات والأرض، وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الأرض ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه) . هكذا بدأ وأنشأ الله السماوات والأرض جميعاً دفعة واحدة، ولم يذكر شيء عن الماء. تعبير ساذج وتفكير وثني، لا يفهم إلا الشيء المتجسد؛ أين كان الله إن كانت روحه ترف وتحوم حول الماء؟ أكان بلا روح، أم هو الذي تجسد فصار هذا الحيز الضئيل كالحمامة؟ خلق الكون كله وهو جزء صغير منه. (وقال الله: ليكن نور. فكان نور، ورأى الله النور أنه حسن) ! لم يكن يعرف أنه سيكون حسناً، ولكن لما ظهر له أعجبه. عمل من طريق الصدفة البحتة، وتجربة نجحت وجاءت بشيء جميل. أهذه هي البلاغة؟! لا فصاحة تعبيرية ولا حقيقة علمية. ونقرأ بقية هذه البداية فنجد: أن الله فصل بين النور والظلمة، وسمى النور نهاراً والظلمة ليلاً، وقال لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد، ولتظهر اليابسة. ودعا اليابسة أرضاً.

وهكذا يمضي سفر التكوين مضطرباً في الكلمات القليلة التي بدأ بها. في البداية خلق السماوات والأرض وكانت الأرض خربة، وبعد ذلك خلق وسط الماء شيئاً جامداً أسماه أرضاً، وسمى بعضاً منه سماء. وهل يؤيد هذا علم أو يتسع له عقل؟ خلق السماوات والأرض، ثم خلق شيئاً سماه أرضاً وسماء! كانت الفكرة القديمة أن العالم كله ماء، وأن الأرض طافية فوق الماء كحبة العنب، وهو تفكير نشأ عن نظر محدود. وسفر التكوين وبقية الكتاب المقدس _أو الذي يسمى الكتاب المقدس _ من وضع بشري متأخر. ومع اضطراب التعبير، وسقامة الأسلوب، ومخالفة المعنى لحقائق العلم يعجب تيموثاوس التقي الذكي به ويعيب القرآن. {أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون} [سورة الأنبياء:30] . {وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً وهم عن آياتها معرضون} [سورة الأنبياء:32] . . والسماء هي كل شيء نراه فوقنا، وفهم تيموثاوس أن السماء لا تكون إلا بمعنى الفضاء، وهو جهل فاضح، لقد كان العرب يقولون لمحمد (صلى الله عليه وسلم) أسقط السماء علينا كسفاً؛ أي قطعاً، فهل كانوا يعنون الفضاء؟ ونحن ننظر إلى الأعلى ليلاً ونهاراً فنرى الكواكب السابحة، لا نستطيع نحن ولا تستطيع الجن والإنس أن تغير من نظامها شيئاً، أو تعدل فيه أدنى تعديل؟ كما أننا لا نستطيع حتى الوصول إليه، لقد كان من أعاجيب العلم أن وصل الناس إلى أرض القمر، والقمر تابع

للأرض وكوكب ضئيل! فأين الجهد البشري من هذه الكواكب البعيدة الجبارة؟ وأين هي؟ وما مدى العلم بها؟ صدق الله (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً () [سورة الاسراء:30] . (¬1) . 5-قرر القرآن أن جبل ((قاف)) يحيط بالأرض كلها وذلك في أول سورة (ق) قي قوله تعالى: (ق والقرآن المجيد (. وهذا خطأ؛ لأن العلم يبين أن أعلى قمة هيس (إفرست) (¬2) . وهذه خرافة مصدرها كتاب اليهود! الذي يتحدث عن جبل قاف الخرافي. أما القرآن فلم يذكر جبالاً ولا قمماً، والحرف (ق) أحد الحروف الكثيرة التي بدئت بها سور من القرآن مثل: ص، ن، حم، الر. . وهكذا. ولكن الصيغة المادية البحتة التي تركتها التوراة المزيفة في ذهن القوم، وجهت ذهنهم هذا الاتجاه المادي البحت، وإذا كانت هذه خرافة منشؤها كتاب يهودي، فكيف يؤاخذ بها القرآن؟! إن كتب اليهود هي كتب المسيحيين، فليوجه القوم اللوم إلى أنفسهم، أما أن يكونوا هكذا جاهلين، ثم يحملون جهلهم على القرآن، فهذا ما لا يقبله غير عقولهم) (¬3) . ¬

(¬1) "رد مفتريات على الإسلام" (ص: 132-136) (¬2) السابق (ص: 142) . (¬3) "رد مفتريات على الإسلام" ص: 142.

وهذه طعون علمية أخرى من كلام المستشرقين، فيما ذكره الأستاذ ميلر بروز (رئيس قسم لغات الشرق الأدنى وآدابه، وأستاذ الفقه الديني الإنجيلي في جامعة ييل) في بحث له بعنوان: (مقترحات في موضوع العلاقة بين الدين والعلم في الإسلام) (¬1) ، وقد أجاب عليها أستاذنا الدكتور بلتاجي على النحو التالي: 6-قال ميلر: (من الذائع المشهور أن النتائج التي وصل إليها العلم الحديث عن أصول العلم، تخالف كل المخالفة ما هو مقرر في الكتاب المقدس، وفي القرآن من أن الله خلق العالم في ستة أيام، صحيح أن القرآن يقرر أن يوما عند الله كألف سنة مما يعد الإنسان ولكن هذا لا يحل المعضلة؛ فإن فترة الزمان المتطاولة التي مر بها الكون في وجوده، لا يمكن أن تضغط في ستة آلاف أو ستة ملايين سنة) (¬2) . الجواب: (أ- الآيات التي أشار إليها ميلر بروز تقرر أن الله تعالى خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش، لكنها لا تعرض لعمر الكون المخلوق منذ خلقه الله تعالى حتى يومنا هذا، لكن ميلر بروز في كلامه السابق يخلط بين الأمرين، مشيراً إلى (معضلة) لا وجود لها، حيث يتكلم عن (فترة الزمان المتطاولة التي مر بها الكون في وجوده، والتي لا يمكن أن تضغط في ستة آلاف أوستة ملايين سنة) ، فمال الآيات القرآنية التي يشير إليها وعمر الكون؟! ¬

(¬1) انظر: المدخل إلى علم التفسير، لأستاذنا الدكتور بلتاجي (ص: 203) . (¬2) السابق (ص: 203) .

إنها تقرر فحسب الزمن الذي خلق الله تعالى فيه الكون، دون أن تعرض لما بعد الخلق من الزمن الذي مر على الكون المخلوق حتى يومنا هذا. فالتناقض الذي يتكلم عنه هذا المستشرق إنما جاء نتيجة لخلطه بين الأمرين، وتحميل الآيات القرآنية غير ما تحمله من معنى. وذلك أمر غاية في الوضوح لكل من يراجع نصوص الآيات المشار إليها ثم يراجع كلام المستشرق عنها) (¬1) . ب- إن ميلر بروز ـ أو غيره ـ لا يستطيع أن يعرض بشيء من التكذيب لما قررته هذه الآيات، من أن الله تعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش؛ لأن فعل الخلق وزمانه سبقا الوجود البشري، فلا يستطيع أحد إطلاقاً أن يزعم أنه شهد - بأي وسيلة - أو رصد كيفية خلق السماوات والأرض وزمانه، وعلم البشر المادي - بكافة فروعه - نشأ بعد أن تم الخلق، وليس هناك أمامه سبيل ما لمعرفة تفصيلات خلق السماوات والأرض وما بينهما - من حيث الزمان - إلا ما أخبر به الوحي الصادق عن الله تعالى في هذه الآيات، وفيما يتصل بها من أحاديث نبوية صحت روايتها عن النبي (صلى الله عليه وسلم) ، ولا يملك الإنسان - في علمه البشري وسيلة أخرى يسترجع بها كيفية الخلق أو زمانه ليقيس عليها ما ورد في الوحي، ومن هنا لا يستطيع العلم البشري بحال أن يصل في هذه القضية إلى شيء يستند عليه في تكذيب ما ورد في الوحي؛ لأن الوحي يحكي هنا عن أمر (غيبي) لم يشهد البشر ولا يصل إليه علمهم المادي بحال، كما قال تعالى: {ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضداً} [سورة الكهف:30] . ¬

(¬1) السابق (ص: 206) .

فكل زعم بمحاولة التشكيك في الله تعالى: خلق السماوات والأرض في ستة أيام زعم باطل بدءاً، يستوي في بطلانه مع دعوى الكفار القدماء، بأن الملائكة - الذين لم يشهدوا خلقهم أو يحيطوا بهم علماً - إناث، وقد رد الله تعالى عليهم بقوله: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً أشهدوا خلقهم سنكتب شهادتهم ويسألون (. أما ما يشير إليه ميلر بروز من (النتائج التي وصل إليها العلم الحديث عن أصول العالم) فليس في هذه النتائج - وهي محض فروض في ذاتها - ما يعرض لشيء عن مقدار الزمن الذي خلق الله فيه السماوات والأرض، وإن كان فيها تقديرات فرضية لعمر الكون المادي، وتلك قضية أخرى كما سبق أن قررنا) (¬1) . 7-قال ميلر: (الإنسان نفسه لم يخلقه الله دفعة واحدة منفصلا عن خلق الحيوان، ولكه جاء نتيجة لتطور طويل من الأشكال الدنيا للحياة، فكيف إذن نتغلب على هذا الإشكال) (¬2) . (ج) أما ما يشير إليه ميلر بروز من نظرية النشوء والاتقاء لداروين في قوله: "إن الإنسان نفسه لم يخلقه الله في دفعة واحدة منفصلاً عن خلق الحيوان، ولكنه جاء لتطوير طويل من الأشكال الدنيا للحياة) ـ فإنما يشير في نظرية لم تكن في وقت من الأوقات حقيقة علمية قطعية يمكن أن تقاس عليها النصوص الدينية، فهي لم تزد في وقت ما ـ منذ قيل بها ـ عن أن تكون مجرد فرض لم يقم عليه أبداً دليل قاطع، أو قريب من القطع واليقين، ومنذ أعلنها داروين وجد لها معارضون من رجال العلم التجريبي؛ لأنه لم يقم أبداً دليل محسوس على صحتها، ¬

(¬1) المدخل إلى علم التفسير، ص: 207. (¬2) السابق، ص: 203

وإنما هي فرض عقلي فسر به داروين بعض الظواهر والمشاهدات، لكن لم يرصد أحد من المؤمنين بها إطلاقاً تطوراً مادياً يقطع بصحتها، بل على العكس من ذلك فقد طالعتنا وكالات الأنباء في أكتوبر 1974م (شوال 1394هـ) أن أعضاء بعثة الآثار الفرنسية البريطانية، التي تقوم بسلسلة من الحفائر في إثيوبيا قد اكتشفوا بقايا هيكل عظمي لإنسان، يرجع تاريخها إلى حوالي أربعة ملايين سنة، وقال أعضاء البعثة إن هذا الكشف سيغير تماماً النظريات السابقة المعروفة عن أصل الإنسان (جريدة الأخبار القاهرية في 28/10/1974 ص1) . ومما لاشك فيه أن أول ما يغيره هذا الكشف نظرية داروين، فهل يستقيم بعد هذا أن يطعن إنسان في صدق الوحي القرآني في الخلق، مستنداً إلى استنتاج فرضي لعالم طبيعي، لم يثبته هو أو غيره بصورة قاطعة، بل وجدت اكتشافات تطعن في صحته؟ ومن هنا لا تصلح هذه النظرية ـ على أي نحو ـ لتكون مقياساً تقاس عليه نصوص القرآن الكريم في الخلق. ومنهجنا في كافة النظريات البعيدة عن وصف اليقين، هو أننا ننزه القرآن ابتداءً عن أن يقال في تأويله شيء يتصل بمحض الفروض والاستنتاجات القابلة للتغيير، بل الإلغاء أصلاً. وبهذا يتبين أن كلام ميلر بروز وأمثاله عن (خلق الإنسان في تطور طويل من الأشكال الدنيا) ـ كقضية مسلم قطعاً بصحتها ـ شنشنة كاذبة تعرفها من هؤلاء وهي تقوم على جعل (الظنون والتصورات) حقائق قاطعة مسلماً بصحتها، وينبغي ألا يخدع هذا المنهج القائم على التعمية والتجهيل بحقائق الأمور - أحدًا من الباحثين الذين يحترمون عقولهم) (¬1) . ¬

(¬1) "المدخل إلى علم التفسير" (ص: 209) .

8- في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} [الكهف: 86] . يقول خلف الله: (بان للعقل الإسلامي أن مسألة غروب الشمس في عين حمئة، لا يستقيم وما يعرف من حقائق هذا الكون) (¬1) . -الجواب: قد قدمنا أن لا يصح الأخذ بالألفاظ المحتملة وادعاء أنها تعارض العلم، (فالتعبير القرآني المحكم المعجز يقول (وجدها تغرب) ولم يقل إنها تغرب؛ حتى يكون هذا تعبيرا عن الحقيقة الكونية المطلقة) (¬2) . قال ابن كثير -رحمه الله-: (قوله: (وجدها تغرب في عين حمئة (أي رأى الشمس في منظره تغرب في البحر المحيط، وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله، يراها كأنها تغرب فيه، وهي لا تفارق الفلك الذي هي مثبتة فيه لا تفارقه) (¬3) . وقال القرطبي -رحمه الله-: (قال القفال: قال بعض العلماء: ليس المراد أنه انتهى إلى الشمس مغربا ومشرقا، ووصل إلى جرمها ومسها؛ لأنها تدور مع السماء حول الأرض، من غير أن تلتصق بالأرض، وهي أعظم من أن تدخل في عين من عيون الأرض، بل هي أكبر من الأرض أضعافا مضاعفة، بل المراد أنه انتهى إلى آخر العمارة من جهة المغرب ومن جهة المشرق، فوجدها في رأي العين تغرب في عين حمئة، كما أنا نشاهدها في الأرض الملساء كأنها تدخل في الأرض؛ ولهذا قال: ¬

(¬1) الفن القصصي (ص/34) . (¬2) مدخل إلى علم التفسير (ص: 233) . (¬3) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/103) .

"وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا" ولم يرد أنها تطلع عليهم بأن تماسهم وتلاصقهم، بل أراد أنهم أول من تطلع عليهم) (¬1) . فالدعاء أن هذه الآية تعارض العلم لاشك أنه ادعاء باطل. ¬

(¬1) جامع أحكام القرآن للقرطبي (11/50) .

وهكذا؛ لو نظرت إلى معظم طعونهم في القرآن بدعوى معارضته للعلوم الحديثة، فإنها لا تكاد تخرج عن الضابطين الأوليين في هذا المبحث؛ إما أنها نظريات لم تصل حد الحقيقة المسلمة، أو تحميل لفظ القرآن ما لا يحتمل. والله تعالى أعلى وأعلم. والله سبحانه هو الموفق والهادي إلي سواء السبيل.

الخاتمة

الخاتمة لقد ظهر لي بعض النتائج والتوصيات بعد هذه الدراسة، وهي كالتالي: 1-أحسب أني أتيت بشيء جديد في هذه الرسالة , لا سيما في بعض المباحث , كأدلة صدق النبي (صلى الله عليه وسلم) , والردود الإجمالية على كل طعن , وبعض الردود التفصيلية, وغير ذلك. 2-أغلب الطعونات تَكَفَّل القرآن بالرد عليها إجمالا. 3-الكثير من الطعون أجاب عنها النبي (صلى الله عليه وسلم) تفصيلا. 4-الطاعنون يرددون الطعونات ويتناقلونها , ويتواصون بها , ويأخذها الرجل , عن الآخر ثم يعيد صياغتها مرة أخرى , معرضين عن أجوبة العلماء عليها , وضاربين بعرض الحائط تفنيد العلماء لها, وهذه علامة أهل الأهواء، وصدق الله إذ يقول: {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك. .} [فصلت: 43] . 5-يلاحظ أن هناك تقسيم للأدوار في الطعون، فيبدأ الأول بطعن , ثم الثاني بطعن آخر في زمان يليه وهكذا، وكل واحد منهم يبارك للآخر ويدافع عنه. 6-شؤم البدع والفرق الضالة على الإسلام , حيث فتحوا الباب للطاعنين، فتجدهم يستدلون بكلام الرافضة في إثبات تحريف القرآن، ويستدلون بكلام الصوفية بأن القرآن ليس واجب الاتباع؛ لأن له معاني أخرى غير المعان الظاهرة يسمونها العلم الباطن، ويستدلون بكلام المعتزلة في تقديم العقل على النقل.

7-الطاعنون العلمانيون، لم يكن طعنهم في القرآن مباشرا، وأما المستشرقون فقد كانوا يطعنون طعنا مباشرا في القرآن؛ لأنهم يعلمون خطورته في إذكاء روح التحدي في الأمة، وأما تلاميذهم من العلمانيين فقد كانوا أكثر ذكاء في الطعن , فهم يعلمون مكانة القرآن في نفوس المسلمين , ومدى إتقانه وإحكامه , فالطعن فيه مزلة مدحضة مسقطة للسمعة من أول الأمر، لذلك فقد كانت طعونهم تحوم حول الحمى. 8- لقد اتضح أن أكثر المستشرقين ليس فيهم من الاعتدال شيء ولا من الإنصاف، بل هم يغرون المسلمين بكثير من الكلام الجميل عن الإسلام؛ وذلك ليوصفوا بالاعتدال والإنصاف، فإذا فُتحتْ لهم الأبواب , وأصغت لهم الآذان , وذاب الحجاب , جاءت الطعون من كل حدب وصوب، كما هو الحال في جولدتزيهر وبلاشير وغيرهم (¬1) . 9-من أسخف الطعون الإستشراقية الطعون اللغوية، فهؤلاء المستشرقون الذين ظهروا بعد نزول القرآن بأكثر من ألف سنة , يريدون أن يخبرونا أن القرآن فيه أخطاء لغوية أو نحوية، مع أنه عرض على فصحاء العرب وعلماء اللغة والنحاة واللغويين , ولم ينقم عليه أحد شيئا في لغته، فإذا بهؤلاء بعد هذه الأزمنة المتطاولة , والإجماع القطعي يخرجون لنا بهذه البائقة، التي أضحكت عليهم المجانين، فلا ينبغي التشاغل بالرد عليهم في هذا الباب , ولا إضاعة الأوقات على قوم يريدون أن يعلمونا لغتنا وهم لا يفقهون منها شيئا، وأغلب طعونهم هي عبارة عن ألفاظ مشتركة , أو ألفاظ عامة , أو غير ذلك من أنواع طرائق الكلام، وإنه ليصح لنا أن نتمثل بقول الشاعر: ¬

(¬1) وقد قرر هذه القضية أستاذنا الدكتور محمد إبراهيم شريف تقريرا شافيا في كتابه (اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر) ص: 730.

إِذَا وَصَفَ الطَّائِيَ بِالُبُخْلِ مَادِرُ (¬1) وعَيَّر قَسًا (¬2) بالفَهَاهَةِ باقِلُ (¬3) وقال السُّهَى (¬4) للشَّمْسِ أًنْتِ خَفِيَّةٌ وقال الدُّجَى للصُّبْحِ لَونْكَ حَائِلُ فيَا مَوْتُ زُرْ إنَّ الحياةَ ذَمِيمَةٌ ويا نَفْسُ جِدَّي إنَّ دَهْرَكِ هَازِلُ (¬5) 10-لا يألو أعداء الله جهداً في الطعن في هذا الدين، واستخدام كل الطرق لتنفير الناس منه, ولو كان في غايةٍ من الخسة ¬

(¬1) مارد: هو رجل من بني هلال بن عامر بن صعصعة , اسمه مخارق , بلغ من بخله أن سقى إبله , فبقى في أسفل الحوض ماء قليل , فسلح فيه ومدر الحوض به , فسمى مادراُ وصار مضرب المثل عند العرب , فيقال: أبخل من مارد , انظر: مجمع الأمثال , للنيسابوري, تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد , دار المعرفة , بيروت (1/111) . (¬2) هو قس بن ساعدة بن حذاقة بن زهير بن إياد بن نزار الإيادي , كان من حكماء العرب وأعقل من سمع به منهم , وهو أول من كتب من فلان إلى فلان , وأول من أقر بالبعث من غير علم وأول من قال: أما بعد، وأول من قال: البينة على من ادعى واليمين على من أنكر. وقد عمر مائة وثمانين سنة , قال الأعشى: وأبلغ من قس. انظر: مجمع الأمثال , للنيسابوري , (1/111) (¬3) باقل: هو رجل من إياد قال أبو عبيدة: باقل رجل من ربيعة بلغ من عيه أنه اشتري ظبياً بأحد عشر درهماً فمر بقوم، فقالوا له: بكم اشتريت الظبي فمد يديه، ودلع لسانه يريد أحد عشر، فشرد الظبي، وكان تحت إبطه، وهو مضرب المثل في العي، فيقال: أعيا من باقل، انظر: مجمع الأمثال (1/111) . (¬4) السُّهى: هو كوكب صغير خفي في نجوم بنات نعش. انظر: المستقصي في كلام العرب، للزمخشري (1/147) ، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 1987م. (¬5) ومعني الأبيات أنه إذا اختلت معايير الحكم على الأشياء؛ كأن عيَّر مادر - وهو مضرب المثل في البخل - حاتماً الطائي - وهو مضرب المثل في الكرم - بالبخل، وعيَّر باقلُ - وهو مضرب المثل في العي - قس بن ساعدة الإيادي - وهو مضرب المثل في الفصاحة - بالفهاهة، ورمى السُّهى الخفي الشمس بالخفاء، فإن الموت يصبح أحب إلي النفس من الحياة، فقد صارت ذميمة بغيضة، ويجب على النفس آنذاك أن تقابل هذا الهزل بالجد والعزم.

والدناءة، كما فعل لبيد بن الأعصم عندما سحر النبي (صلى الله عليه وسلم) . 11-من المفارقات العجيبة أن يكون هؤلاء المتطفلون على ديننا , الطاعنون في كتاب ربنا، مرجعا لكثير من الكُتّاب الإسلاميين، وكأن الأمة الإسلامية عقمت أن تأتي بأمثال هؤلاء. 12- يجب التنبه والحذر من الأشخاص الذين يثني عليهم الطاعنون، فإنهم لا يفعلون ذلك إلا لمعرفتهم بقرب طريقتهم من طريقتهم، وليروجوا أسماءهم على البسطاء فيستمعوا لهم ويأخذوا عنهم. 13-لو جُمعت كل طعون المعاصرين على القرآن , لأنتج هذا أعظم أنواع الكفر بالدين، فلو أخذنا بقول إنه مأخوذ من اليهود والنصارى , وإنه زيد فيه ونقص , وإنه يجوز نقده , وإنه لا يجب العمل به , وإنه متناقض , وإن كل القصص التي فيه عبارة عن أساطير مكذوبة، لأدى هذا إلى نقض الدين كله من أصله؛ لأن الدين قائم على القرآن، والقرآن عبارة عن أخبار وأحكام، كما قال سبحانه: (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا (أي صدقا في الأخبار وعدلا في الأحكام، فإذا كانت الأخبار مكذوبة والأحكام غير لازمة، فما فائدة نزول القرآن إذن؟!. 14-من الطعون الجديدة في هذا العصر تعارض القرآن مع العلوم التجريبية الحديثة، فلم يُتعرض لها إلا في هذا الزمن، بعد الاكتشافات العصرية الجديدة. 15-التوصية بكتابة مؤلَّف في طبقات المفسرين من القرن العاشر -حيث وقف الداودي- إلى عصر. الحاضر؛ لأنه لم يؤلف في هذا

المجال أحد، مع شدة الحاجة لمعرفة ما كتب في هذه العصور المتطاولة، ومعرفة تراجم مؤلفيها. 16-التوصية بتحقيق كتاب الرازي في التفسير "مفاتيح الغيب"، والرد على جميع ما يورده من الطعون، لأنه يورد الطعون بقوة ويجيب عليها -في الغالب- بضعف (¬1) ، أو كما قيل: يورد الطعن بنقد ويجيب بنسيئة، ثم يطبع كتاب " مفاتيح الغيب" طبعة جديدة مع وضع جميع هذه الردود في الحاشية عند كل تطعن، كما هو الحال في تفسير الزمخشري (الكشاف) حيث طبع مع رد ابن المنير الإسكندراني. 17-يقول الرافعي: خذ من زاعمي التحرر: الكذب في فلسفة المنفعة، والتسفل في شعاعة الغريزة، والوقاحة في زعم الحرية، والخطأ في علة الرأي، والإلحاد في حجة العلم (¬2) . 18-وأخيرا نقول لمن حاول الطعن في كتاب الله , أو في رسول الله (صلى الله عليه وسلم) , أو في شيء من دين الله: اعلم أنك بفعلك هذا قد جنيت على نفسك , وأوديت بها إلى مهاوي الردى , واعلم أن "هذا الدين متين" (¬3) "وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ " (¬4) ، فأشفق على نفسك يا ناطِحَ الجَبَلِ الأَشَم بِرأْسِهِ ... أشفق عَلَى الرأس لاَ تُشْفِقْ عَلَى الجَبَلِ وإنما مثل هؤلاء الطاعنين كوَعْلٍ غَرَّه قَرْنَاه, فرَأَى ذاتَ يومٍ صَخْرةً ضخمةً راسيةً شامخةً , فأراد أن يريها قوةَ قرنيه فنطحها بكل ما عنده من ¬

(¬1) اننظر المدخل إلى علم التفسير، أ. د. بلتاجي (ص: 222) . (¬2) إعجاز القرآن لمحمد صادق الرافعي (ص: 10) . (¬3) أخرجه الإمام أحمد في المسند عن أنس (27318) حسنه الألباني في السلسة الضعيفة (5/501) رقم: 2480. (¬4) أخرجه البخاري عن أبي هريرة (كتاب الإيمان، باب الدين يسر، رقم: 39) .

قوة , فتحطم قرناه وتفتتا، وأما الصخرة فما أحست من ذلك بشيء , قال الشاعر: كناطِحٍ صَخْرةٍ يوماً ليُوهنُها ... فلَمْ يُضِرْها وأَوْهَى رَأْسَه الوَعْلُ فالإسلام كالبحر الخضم , لا يضره من ألقى فيه بحجارة محاولا إيذاءه ومَا يَضُرُ البَحْرَ أمْسَى راسياً ... إذا رَمَى إِليه صَبِي بحَجَرْ وهكذا الدين دائما يخرج منتصرا، جعلنا الله - تعالى- من أنصاره، وحسبنا الله ونعم الوكيل، اللهم اجعلنا نخشاك كأننا نراك، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاك. (سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين (، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

§1/1