دعائم التمكين

حمد بن حمدي الصاعدي

مقدمة

مقدمة دعائم التمكين للمملكة العربية السعودية على ضوء قوله تعالى: {الَّذِينَ إنْ مَكَّنَّاهُم في الأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلاَة وَآتُوا الزَّكاة وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهواْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُور} [الحج، الآية: 41] إعداد الدكتور/ حمد بن حمدي الصاعدي الأستاذ المشارك بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين؛ أمَّا بعد: فإنَّ الكتابة في موضوع دعائم التمكين للمملكة العربية السعودية على ضوء قوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَْرضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 41] ذات شئون؛ لأنَّ الموضوع واسع جداً، والمادَّة غزيرة ومتشعبة، ولا يفيد في ذلك اختصار الموضوع مهما حاول الكاتب الاختصار. ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله، كما قيل. ولذا فإني سوف أشير إلى أمور أجدها أولى بالإشارة؛ ومنها ما يلي: 1 - أنَّ الكتابة في هذا الموضوع هي من باب التذكير بالنعم لتعرف فتُشْكَر فَتَدُوم كما قال الله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] . 2 - أنَّ المقصود الأهم في هذا الموضوع، هو التنبيه على أهمية العقيدة وتطبيق الشريعة في جميع شئون الحياة؛ لأنَّ التمسك بالعقيدة الصحيحة وتطبيق أحكام الشريعة على الوجه الذي أراده الشارع، هما أساس التمكين في الأرض، وشرط العاقبة الحسنة والنجاة والحياة السعيدة في الدنيا والآخرة {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه: 123] . 3 - أنَّ الالتفاف حول المنهج الشرعي، والاعتصام بالكتاب والسنة، والتكاتف والتآلف، وتحقيق الأخوة الإسلامية - كما أمر الله - مقصد شرعي ودعامة من دعائم التمكين والاستخلاف في الأرض كما قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ

قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور: 55] . 4 - أنَّ عالمية المنهج وبقاءه وتفرده على غيره بميزات لا توجد في غيره، كل ذلك يتطلب الدعوة المستمرة إليه والمحافظة على بقائه ووقايته من كل ما يخدش نقاءه وصفاءه أو الاعتداء عليه؛ لأنَّ الحق لا يكفيه كونه حقاً وحسب، كما قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْض} [البقرة: 251] . 5 - أنَّ المتتبع لسير ولاة الأمر في المملكة العربية السعودية منذ نشأتها وخلال مراحلها وأدوارها المتتابعة، وخاصّةً في الدور الثالث الذي يبدأ بفتح الرياض على يد الملك عبد العزيز - رحمه الله - عام 1319هـ، لا يمكنه إلاَّ أن يقول: إنَّ القاعدة التي يسير عليها أولئك الحكام، والمنهج الذي يطبقونه في حياتهم وحياة رعيتهم هو تطبيق الدعائم الشرعية الواردة في الآية الكريمة موضوع البحث، وقد وعد الله بالنصر والتمكين لمَنْ وَفَّى بشروط التمكين. وأنَّ المهم هو تحقق الشروط، لا حصول المشروط؛ لأنَّ حصوله قد أخبر الله به، وما أخبر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم لا شك ولا ارتياب في تحققه. وهذه الأمور التي سبقت - وإن كان البحث سوف يتكفل ببيانها وإيضاحها - الإشارةُ إليها في هذه المقدمة مما يدفع المطلع على الاستمرار في قراءة الموضوع، وهذا أحد أهداف الكاتبين. نسأل الله تعالى العون والتوفيق، إنَّه سميع مجيب.

خطة البحث: 1 - المقدمة: وتشتمل على ما يلي: أ - أهمية الموضوع، أسباب اختياره. ب - تحديد الزمان الذي يتناوله البحث، وأسباب الحصر في ذلك. 2 - التمهيد: وهو في بيان ألفاظ عنوان البحث. ويتناول ما يلي: أ - الدعائم. ب - التمكين. ج – المملكة العربية السعودية. 3 - صُلْب الموضوع، وفيه عِدَّة فصول: الفصل الأول: فيما يتعلَّق بالآية الكريمة. وفيه مباحث: الأول: في بيان حال العرب قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم. الثاني: في مناسبة الآيات لِمَا قبلها. الثالث: في سبب نزول الآية الكريمة. الرابع: في أقوال المفسرين في الآيات. الخامس: في بيان دلالات الآية الكريمة، وعلاقة ذلك بما كان عليه الحال إبان قيام الدولة السعودية على يد الملك عبد العزيز - رحمه الله -. وفيه مطالب: الأول: الصورة الكريمة التي سيكون عليها الذين إنْ مَكَّنهم الله في الأرض. الثاني: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. الثالث: وظيفة الدولة المسلمة. وأنَّ الحق لا يكفيه كونه حقاً فقط. الرابع: أن تلك الصورة الكريمة لم تدم طويلاً. وإن كان التمسك بالأصل لم يزل موجوداً للوعد الإلهي بذلك.

الخامس: علاقة الآية الكريمة بما كان عليه الحال عند قيام الدولة السعودية على يد الملك عبد العزيز عام 1319هـ. الفصل الثاني: في ماهية الدعائم، وبيان أهميتها. وفيه مباحث: الأول: في الدعامة الأولى: إقام الصلاة. وفيه مطالب: الأول: في ماهية الصلاة. الثاني: في أهميتها. الثالث: في المقصود بإقامة الصلاة على ضوء الآية الكريمة. الثاني: في الدعامة الثانية: إيتاء الزكاة. وفيه مطالب: الأول: في ماهية الزكاة. الثاني: في أهمية الزكاة. الثالث: في الحكمة من إيتاء الزكاة على ضوء الآية الكريمة. الثالث: في الدعامة الثالثة والرابعة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفيه مطالب: الأول: في ماهيتهما. الثاني: في أهميتهما. الثالث: في الحكمة منهما على ضوء الآية الكريمة. الفصل الثالث: في اهتمام ولاة الأمر في المملكة العربية السعودية بتلك الدعائم والأسس، وتطبيقها على أنفسهم ورعيتهم. وفيه مباحث: الأول: في اهتمام المؤسس الأول بتلك الدعائم. وفيه مطلبان: الأول: تقريره للهدف العام من الدعامة الأولى، وهو العقيدة السلفية. الثاني: عنايته بالهدف الخاص من الدعامة الأولى: إقام الصلاة. الثالث: في جهود أبنائه من بعده في ترسيخ وتطبيق تلك الدعائم. الرابع: في ثمرة تطبيق تلك الدعائم على الراعي والرعية.

1 - المقدمة: وتشتمل على ما يلي: أ - أهمية الموضوع وأسباب اختياره. ب - تحديد الزمان الذي يتناوله البحث وأسباب الحصر في ذلك. أ - أهمية الموضوع وأسباب اختياره: إنَّ بيان أهمية موضوعٍ مَّا تنبع من أهمية الأمور التي يبحثها، وما لها من مكانة وشأن عظيم. وهذا الموضوع الذي نتحدَّث عن أهمية وأسباب اختياره يتناول الأمور التالية: 1 - العقيدة الصافية المبنية على توحيد الله، وإخلاص العبادة له دون سواه، امتثالاً لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] . 2 - الشريعة والمنهج الكامل الذي رضيه الله لعباده وأتَمَّ به النعمة عليهم وفيه بيان صحة المعتقد وسلامة البناء1. 3 - التعاون والاعتصام حول المعتقد الصحيح المبني على النصوص الشرعية من الكتاب والسُنَّة وفهم السَّلَف الصَّالح. كقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران: 103] .

_ 1 المنهج القويم ص 45

وكقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى" 1. 4 - السلطة المسلمة التي تحمي ذلك كله، وأنَّه لا يكفي في الأمر أن يكون حقاً، بل لابدَّ من مدافع عن الحق ودافع إليه، في استقامة المنهج. 5 – التذكير بالنعم وتجليتها، لتعرف، فتشكر، فتدوم، لأنَّ دوام النعم والزيادة منها مرهون بشكرها، كما قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُم} [إبراهيم: 7] . 6 - التحذير من كفران النعم؛ لأنَّ ذلك يعرضها للزوال والاضمحلال. هذه بعض الأمور التي حضرتني عند التفكير في كتابة هذا الموضوع دعائم التمكين للمملكة العربية السعودية على ضوء قوله تعالى: {الَّذِينَ إنْ مَكَّنَّاهُم في الأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلاَة وَآتُوا الزَّكاة وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهواْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُور} [الحج، الآية: 41] . وإن كانت الأسباب ليست محصورة في تلك الأمور إلاَّ أنَّ ما ذُكِرَ أهمها. ب - تحديد الزمان الذي يتناوله البحث: يتحدَّد الكلام في هذا الموضوع بالمدة الزمانية - التي دخل فيها الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - رحمه الله - مدينة الرياض عام 1319هـ، إلى الوقت الحاضر - عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود أطال الله في عمره. والسبب في هذا التحديد أمور منها:

_ 1 رواه البخاري في كتاب الأدب، باب 36 رقم 5680، وفي كتاب المساجد باب 54 رقم 467 وغيره. ومسلم في البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم ... الخ رقم 2585 – 2586.

1 - أنَّ دعائم التمكين للمملكة العربية السعودية المذكورة في عنوان البحث أشد وضوحاً، وأكثر جلاءً في هذا الدور. 2 - أنَّ المناسبة التي كُتِبَ الموضوع من أجلها حددت الاحتفاء بمرور مائة عام على تأسيس المملكة، فكان من المناسب أن لا يخرج الموضوع عن ذلك التحديد. 3 - أنَّ قصر الموضوع على هذه المدة المتميزة يعطيه مجالاً للاستيفاء بخلاف ما لو كان مشتملاً على أدوار المملكة العربية السعودية الثلاثة.

التمهيد

التمهيد: ويتناول شرح ألفاظ عنوان الموضوع. وهي: أ – الدعائم. ب - التمكين. ج – المملكة العربية السعودية.

أ - الدعائم: جمع لدعامة، وفعله (دَعَمَ) كمَنَعَ، قال في مقاييس اللغة1: "الدال والعين والميم أصل واحد. وهو شيء يكون قياماً لشيءٍ آخر ومساكاً؛ تقول: دعمت الشيء أدعمه دعماً، وهو مدعوم. والدّعامتان: خشبتا البكرة، ودعامة القوم سيدهم. ويقال: لا دعم لفلان أي: لا قوة له". - وفي اللسان: "دعم الشيء يدعمه دعماً مَال فأقامه"2. - وفي المعجم الوسيط3: "دَعَمَهُ دعماً: أسنده بشيءٍ يمنعه من السقوط. ويقال: دعم فلاناً أعانه وقَوَّاه. ودَعَّمَه: قوَّاه وثبَّته. ويقال: هو دعامة الضعيف أي معينه. ويقال: هذا من دعائم الأمور، أي: مِمَّا تتماسك به الأمور". - ومن هذه المعاني السابقة لمادَّة (دَعَمَ) يتضح معنى الدعائم، وأنَّها تدور على معنى التثبيت، والتقوية، والمنع من السقوط، والقوة، والإسناد، والإعانة، والدعم. ولا نقصد بدعائم التمكين إلاَّ هذه الأمور التي ثَبَّتَتْ وقَوّتْ ودعَّمَت وأسندت ومنعت من السقوط، وأعانت على استمرار الولاية الراشدة التي قامت على تلك الدعائم. وبذلك يلتقي المعنى اللغوي مع المعنى الاصطلاحي، وهذا ما قصدناه من البحث اللغوي.

_ 1 مقاييس اللغة لابن فارس 2/282، تحقيق وضبط عبد السلام هارون، ط2 مطبعة البابي الحلبي بمصر. 2 لسان العرب المحيط 2/985 أعاد بناءه على الحرف الأول من الكلمة، يوسف خياط، دار الجبل. 3 المعجم الوسيط 1/286، مجموعة من المؤلفين، ط 2.

ب - التمكين: تفعيل مصدر للفعل الرباعي (أمكن أو مَكَّنَ) يقال: (أمكنه) من الشيء جعل له عليه سلطاناً وقدرة. والأمر: فلاناً سهل عليه وتيسر له. ويقال: فلان لا يمكنه النهوض لا يقدر عليه1. و (مَكَّنَ له في الشيء) : جعل له عليه سلطاناً. وفي القرآن الكريم: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ ... } [سورة الكهف، الآية: 84] . وقد يأتي هذا الفعل لازماً كما يقال: (مَكُنَ) فلانٌ عند الناس مكانةً، عظم عندهم، فهو مكين2. ويجمع على مكناء. وفي القرآن الكريم: {قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [سورة يوسف: الآية: 54] . وبعد أن عرفنا معنى الدعائم والتمكين يتضح أنَّ إضافة الدعائم إلى التمكين من باب شجر الأراك؛ لأنَّها سلبت المعنى وأصبح معنى الكلمتين واحداً هو التثبيت والإمساك والمنع من السقوط ... الخ المعاني التي سبقت. ج- المملكة العربية السعودية: دولة إسلامية عربية ذات سيادة، وهي معروفة بما تتميز به وتحويه من الحرمين الشريفين، حيث قبلة المسلمين التي يتوجهون إليها في صلاتهم خمس مرات في اليوم والليلة ومهاجر نبيهم صلى الله عليه وسلم، ومحاولة تعريف المعرف قد يزيده غموضاً. ولكن نقول: إنَّ المملكة العربية السعودية تشغل الجزء الأكبر من جزيرة العرب وتقع في الجزء الغربي من قارة آسياً بين خطي طول 35ْ - 56ْ شرقاً، وعرض 16ْ - 32ْ شمالاً.

_ 1 المعجم الوسيط 2/881، مختار الصحاح 6/2205. 2 لسان العرب، مادة (مكن) 5/516-517.

ويحدها شمالاً: الكويت، والعراق، والأردن. وجنوباً: الجمهورية اليمنية. وشرقاً: عُمان ودولة الإمارات العربية المتحدة، وقطر، والخليج العربي. وغرباً: البحر الأحمر. وعاصمتها: الرياض. ومن أهم مدنها: مكة المكرمة، والمدينة المنورة. وجدة على البحر الأحمر، والدمام على الخليج العربي. وقد أطلق عليها هذا الاسم (المملكة العربية السعودية) بعد توحيدها تحت راية التوحيد عام 1351هـ الموافق 21 جمادى الأولى، أول برج الميزان 1310 شمسية الموافق الموافق 23/9/1932م. ووصفت بالسعودية: نسبة إلى مؤسسها الأول محمد بن سعود الذي عاش في المدة من 1139-1179هـ حيث التقى بالداعية السلفي المجدِّد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وتعاهد معه على نصرة الإسلام، ونشر الدعوة السلفية عام 1157هـ، وعلى تطبيق الشريعة الغرَّاء، وذلك في مدينة الدرعية 1.

_ 1 تاريخ المملكة، سيد محمد إبراهيم ص 153

الفصل الأول: فيما يتعلق بالآيات الكريمة

الفصل الأول: فيما يتعلق بالآيات الكريمة مدخل ... الفصل الأول: فيما يتعلَّق بالآيات الكريمة وفيه مباحث: الأول: في حالة العرب قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم. الثاني: في مناسبة الآيات لما قبلها. الثالث: في سبب نزول الآيات. الرابع: في بيان أقوال المفسرين في الآيات الكريمة. الخامس: في دلالات الآية الكريمة وعلاقة ذلك بما كان عليه الحال في زمان قيام الدولة السعودية الثالثة: وفيه مطالب: الأول: الصورة الكريمة التي سيكون عيها الحال بعد التمكين في الأرض. الثاني: أنَّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. الثالث: بيان وظيفة الدولة المسلمة على ضوء الآية الكريمة.

المبحث الأول: في حالة العرب قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم

المبحث الأول: في حالة العرب قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم المبحث الأول: في حالة العرب قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم ... المبحث الأول: في حالة العرب قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم: كانت العرب، والناس جميعاً - إلاَّ القليل - عند مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم في جاهليَّةٍ جهلاء، وضلالةٍ عمياء، انتشرت فيهم عبادة الأوثان، وعكفوا على القبور، ودعوا غير الله تعالى. فاضطربت أحوالهم السياسية والاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية، وكثرت الحروب، وثارت لأتفه الأسباب، وتفكَّكت الأُسَر، وعمَّت الرذيلة، وقلَّت الفضيلة. ولم يكن هناك نظام يحكم بين الناس إلاَّ النظام القبلي القائم على التعصب للقبيلة. فبعثَ اللهُ تعالى رسوله محمَّداً صلى الله عليه وسلم بالدين الحقِّ، والتوحيد الخالص، مُبَشِّراً مَنْ أطاعه بالجنة، ومُحَذِّراً مَنْ عصاه بالنار. فاستجاب لدعوته الرجل، والرجلان، وبعض النساء، والصبيان، مِمَّن كتب الله لهم الفوز والفلاح1. وعارضَ دعوته كثيرٌ مِمَّن كُتِبَت عليه الشقاوة، فوقف في طريق الدعوة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم من عند ربه، وأخذ يثير حولها الشكوك والأوهام، ويؤذي الذين دخلوا في دين الله بشتى أنواع العذاب، فَقُتِلَ بعض من آمن، ظلماً وعدواناً، وضُيِّقَ على بعضهم الآخر، حتى اضطروا إلى ترك أهلهم وأموالهم وبلدهم، وفرُّوا بدينهم الذي هو أغلى شيء يملكونه. وكانت الحكمة تقضي بألاَّ يعرض هؤلاء النفر أنفسهم للهلاك، فلم يؤمروا بالجهاد في بادئ الأمر، وإنَّما أُمِرُوا بالصبر والتحمُّل حتى قوي أمر المسلمين، وكانت لهم شوكة ودولة تحميهم، وتصد العدو عنهم2. وحينئذٍ شُرِعَ الجهاد لإعلاء كلمة الله -تعالى-، والدفع عن المستضعفين3.

_ 1 الدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/35-51، وظلال القرآن 17/600- 601. 2 البحر المحيط 1/373. 3 التيسير في أحاديث التفسير 4/177.

المبحث الثاني: مناسبة الآيات لما قبلها

المبحث الثاني: مناسبة الآيات لما قبلها المبحث الثاني: مناسبة الآيات لما قبلها ... المبحث الثاني: مناسبة الآيات لما قبلها الآية الكريمة التي يدور البحث على ضوئها مرتبطةٌ بثلاث آيات قبلها، والآيات الثلاث ليست بمنفصلة عمَّا تقدمها من آيات السورة الكريمة. فالله - سبحانه وتعالى- لَمَّا ذكر جملة مِمَّا يُفْعَل في الحج، وما فيه من منافع دنيوية وأخروية - وكان المشركون قد صدُّوا الرسول صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ومنعوه من دخول الحرم، وآذوا مَنْ كان بمكة من المؤمنين - أنزل الله تعالى هذه الآيات مبشرة للمؤمنين بدفعه عنهم، ومشيرة إلى نصرهم وإذنه لهم في القتال1. ومعلنة ما به يزول الصد والمنع، وما به يصير المسلمون أعزة أحراراً أقوياء2. ووعد الله في هذه الآيات بالتمكين لهم في الأرض، وردهم إلى ديارهم، وفتح مكَّة لهم3. وأنَّ عاقبة الأمور راجعةٌ إلى الله تعالى. والعاقبة للتقوى. ولم يذكر - سبحانه وتعالى- ما يدفعه عنهم ليكون أفخم وأعظم وأعمَّ4. {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ. أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [سورة الحج - الآيات: 38-41] .

_ 1 البحر المحيط 1/373. 2 التفسير الواضح 2/71، والتيسير في أحاديث التفسير 4/177، وأحكام القرآن لابن العربي، القسم الثالث، 1296-1299. 3 البحر المحيط 1/373. 4 أحكام القرآن لابن العربي، القسم الثالث 1296-1299.

المبحث الثالث: في سبب نزول الآيات الكريمة

المبحث الثالث: في سبب نزول الآيات الكريمة المبحث الثالث: في سبب نزول الآيات الكريمة ... المبحث الثالث: في سبب نزول الآيات الكريمة: 1 - رُوِيَ أنَّ المؤمنين لَمَّا كثروا بمكَّة أذاهم الكُفَّار، وهاجر مَنْ هاجر إلى أرض الحبشة، أراد بعض المؤمنين أن يقتل مَنْ أمكنه من الكُفَّار ويغتال ويغدر، فنزلت الآيات إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 39] . فوعد الله فيها بالمدافعة، ونهى عن الخيانة، وخصَّ المؤمنين بالدفع عنهم والنصرة لهم، وعلَّل ذلك بأنَّه لا يحب أعداءهم الخائنين الله والرسول صلى الله عليه وسلم الكافرين نعمه1. 2 - وعن ابن عباس2 رضي الله عنهما قال: "لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكَّة قال أبو بكر3 رضي الله عنه: أخرجوا نبيهم. إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، ليهلكن القوم، فنزلت {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} الآية. قال ابن عباس: وهي أول آية نزلت في القتال".

_ 1 البحر المحيط 1/373. 2 ابن عباس هو: عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم، وُلِد قبل الهجرة بثلاث سنين، ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفهم فكان يسمى البحر والحبر؛ لسعة علمه. وقال عمر: لو أدرك ابن عباس أسنانا ما عشره منا أحد. مات سنة ثمانٍ وستين بالطائف وهو من المكثرين من الحديث. تقريب التهذيب ص 178-179، وسير أعلام النبلاء 3/331 فما بعدها. 3 أبو بكر: هو عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة التيمي، أبو بكر بن أبي قحافة الصديق، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مات في جمادى الأولى سنة 13هـ وعمره ثلاث وستون سنة. تقريب التهذيب ص 181، الاستيعاب 2/243، الإصابة 2/341.

قال الترمذي1: "حديث حسن". وقد رواه غير واحد عن الثوري2. وروى نحوه عن جماعة من التابعين3.

_ 1 الترمذي: هو محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحاك السلمي الترمذي، أبو عيسى، صاحب كتاب الجامع. أحد الأئمة، ثقة حافظ، مات سنة 279هـ. تقريب التهذيب ص 314، شذرات الذهب 2/174-175. 2 الثوري هو: سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري أبو عبد الله الكوفي، مناقبه كثيرة، أفردها ابن الجوزي في مجلد. من تآليفه: كتاب التفسير، والجامع الكبير. توفي سنة 161هـ. تقريب التهذيب ص 128، وتاريخ بغداد 9/151، وطبقات ابن سعد 6/371 3 فتح القدير 3/457، وكتاب توفيق الرحمن في دروس القرآن للشيخ فيصل بن عبد العزيز آل مبارك ص 107، وانظر سنن الترمذي: كتاب تفسير القرآن حديث (3171) .

المبحث الرابع: في أقوال المفسرين في معنى الآيات

المبحث الرابع: في أقوال المفسرين في معنى الآيات المبحث الرابع: في أقوال المفسرين في معنى الآيات ... المبحث الرابع: في أقوال المفسرين في معنى الآيات: 1 - {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38] . المعنى: إنَّ الله يدافع عن المؤمنين الذين توكلوا عليه وأنابوا إليه، غوائل المشركين وشر الأشرار وكيد الفجار. وقيل: يعلي حجتهم. وقيل: يوفقهم. والمعنى متقارب. والجملة مستأنفة لبيان هذه المزية الحاصلة للمؤمنين من رب العالمين وأنَّه المتولي للمدافعة عنهم1. وفي الآية إشارة إلى أنَّ المؤمنين مُعَرَّضون للابتلاء من أعداء الله، ولكنَّ الله -سبحانه وتعالى- يدافع عنهم. فيربط على قلوبهم ويثبت أقدامهم على طريق الهدى، ويمدهم بالصبر على احتمال المكروه، وهذا الوعد أشبه بالدروع التي تتكسَّر عليها ضربات الباطل والكفر. ثُمَّ ينتهي الأمر بانحسار الضلال وأهله، وغلبة الإيمان وانتصار أهله؛ كما قال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21] . وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:38] . أي أنَّ الله لا يحب مَن اتَّصَف بهذه الصفة، وهي الخيانة في العهود والمواثيق، لا يفي بما قال. والكفر: الجحود للنعم لا يعترف بها2. والجملة مقررة لمضمون الجملة الأولى؛ فإنَّ مدافعة الله للكافرين عن عباده المؤمنين مشعرة أتم إشعار بأنَّهم مبغضون إلى الله غير محبوبين له.

_ 1 فتح القدير للشوكاني 3/456، وابن جرير 7/171 2 ابن كثير 3/224.

وإيراد صيغتي المبالغة للدلالة على أنَّهم كذلك في الواقع لا لإخراج مَن خان دون خيانتهم، أو كفر دون كفرهم1. وهكذا تضمَّنت الآية وعداً من الله بنصر المؤمنين، ووعيداً بخذلان الكافرين الخائنين، والخيانة - هنا - تصدق بالأصالة على الخيانة الكبرى. وهي خيانة الأمانة الإلهية التي عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان. مما يجب على الإنسان الوفاء به من حقوق الله تعالى، وحقوق العباد في كُلِّ آن. وتصدق بالتبع على بقية صنوف الخيانات مِمَّا يتفرَّع عنها ويظهر أثره في مختلف التصرفات2. 2 - {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39] . الآية على تقدير محذوف: أي أذن لهم في القتال بسبب أنَّهم ظلموا. قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "هذه أول آية نزلت في الجهاد"3. وقال أكثر المفسرين: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان مشركو مكَّة يؤذونهم أذىً كثيراً، وكانوا يأتون إليه بين مضروب ومشجوج، ويتظلَّمون إليه، فيقول لهم: "اصبروا فإنِّي لم أومر بقتالهم"، حتى هاجروا، فأُنْزِلَت هذه الآية4. وقال في أحكام القرآن: "إنَّ الله -سبحانه وتعالى- لَمَّا بعثَ محمَّداً صلى الله عليه وسلم بالحجَّة، دعا قومه إلى الله دعاءً دائماً عشرة أعوام لإقامة حجة الله، ووفاءً بوعده الذي امتن به بفضله في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ... } [الإسراء:15] .

_ 1 فتح القدير 3/456 2 التيسير في أحاديث التفسير 4/178 3 صفوة التفاسير 2/291 4 صفوة التفاسير 2/291، وانظر تفسير ابن كثير 3/225.

واستمرَّ الناس في الطغيان، وما استدلوا بواضح البرهان، وحين أعذر الله بذلك إلى الخلق وأبوا عن الصدق، أمَرَ رسولَه صلى الله عليه وسلم بالقتال يستخرج الإقرار بالحق منهم بالسيف"1. وقُرِئ {يُقَاتَلُونَ} بفتح التاء وكسرها. وقوَّى صاحب الأحكام2 قراءة الكسر؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بعد وقوع العفو والصفح عمَّا فعلوا، أذِنَ الله له بالقتال عند استقراره بالمدينة، فأخرج البعوث، ثُمَّ خرج بنفسه حتى أظهره الله يوم بدر. وذلك في قوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} 3. وفي هذا التذييل للآية وعد من الله تعالى بنصر المؤمنين نصراً مؤزراً متى خاضوا المعركة لإعلاء كلمة الله ونصر دينه. وقد جاء هذا الوعد في صيغة تحفز على الاستماتة في سبيل الله، كلها توكيد وتأييد. ومَنْ كانت قدرة الله توجهه وترافق خطواته وحركاته، لن يستطيعَ عائق كيفما كان أن يقف في طريقه أو يفتّ من عزيمته4. 3 - {الذين أُخْرِجُوا من الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40] .

_ 1 أحكام القرآن لابن العربي، القسم الثالث ص 1296-1297، وابن جرير 17/171-172 2 هو: أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد المعافري الأندلسي الأشبيلي، ولد في شعبان سنة 468هـ، ختام علماء الأندلس، وآخر أئمتها وحُفَّاظها، وله عِدَّة مؤلَّفات منها: أحكام القرآن، وكتاب المسالك في شرح موطأ مالك، والعواصم من القواصم، والمحصول في أصول الفقه، وغيرها. وتوفي سنة 543هـ. طبقات المفسرين للدادي 2/167-170، طبقات المفسرين للسيوطي ص34، وفيات الأعيان 3/423 3 أحكام القرآن لابن العربي، القسم الثالث ص 1297 4 التيسير في أحاديث التفسير 4/178.

{الذين أُخرجوا من ديارهم} : وصفٌ للذين أذن لهم بالقتال، فهو بدل منصوب على المدح، أو مرفوع على أنَّه مبتدأ. والمراد بالديار: مكَّة المكرَّمة1. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أُخْرِجُوا من مكَّة إلى المدينة بغير حق، وهم محمَّد صلى الله عليه وسلم وأصحابه"2. {إِلأَ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} : أي ما كان لهم إلى قومهم إساءة، ولا كان لهم ذَنْب إلاَّ أنَّهم وحَّدوا الله وعبدوه لا شريك له. - وهل في هذا عدوان على أحد؟ أو ضرر يعود على أحد؟! ولكن أهل الضلال والبغي ينظرون بعيون مريضة، ويحكمون على الأمور بعقولٍ فاسدة. فيرون النور ظلمة، والخير شرّاً، والإحسان إساءً!! 3. فتكون هذه الآية الكريمة مثل قوله تعالى: {هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ} [المائدة: 59] . وقول النابغة4: ولا عيب فيهم غير أنَّ سيوفهم ... بهنَّ فلولٌ من قراع الكتائب5 وقوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] .

_ 1 فتح القدير 3/457 2 صفوة التفاسير 2/292 3 ابن كثير 3/225، التفسير القرآني للقرآن - الكتاب التاسع ص 1044 4 هو زياد بن معاوية بن ضباب الذبياني الغطفاني المضري، أبو أمامة، شاعر جاهلي، من الطبقة الأولى. كانت تضرب له قبة في سوق عكاظ فتقصده الشعراء وتعرض عليه أشعارها. طبقات ابن سلام ص51، الأعلام 3/54-55، الشعر والشعراء ص87 وما بعدها. 5 ديوان النابغة ص 39. وفتح القدير 3/225.

معنى: لهدِّمَت: لَخُرِّبَت باستيلاء أهل الشرك على أهل الملل. والصوامع: صوامع الرهبان. وقيل: صوامع الصابئين. والبيع: جمع بيعة، وهي كنيسة النصارى. والصلوات: هي كنائس اليهود. والمساجد: هي مساجد المسلمين. والمعنى: لولا ما شرعه الله للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء لاستولى أهل الشرك، وذهبت مواضع العبادة من الأرض1. قال ابن كثير2 - رحمه الله -: "أي لولا أنَّه يدفع بقومٍ عن قوم، ويكف شرور أناس عن غيرهم بما يخلقه ويقدره من الأسباب، لفسدت الأرض، ولأهلك القويُّ الضعيفَ"3. وقيل: لولا هذا الدفع لهدِّمَت في زمن موسى -عليه السلام- الكنائسُ. وفي زمن عيسى -عليه السلام- الصوامِعُ والبِيَعُ. وفي زمن محمَّد صلى الله عليه وسلم المسَاجِدُ. وقيل: لولا دفع الله ظُلْمَ الظَّلَمة بعدل الولاة4. وحمل الآية على العموم أولى؛ لأنَّ التخصيص لم يقم عليه دليل. - والآية فيها تحريض على القتال المأذون فيه قبل، وأنَّه تعالى أجرى العادة بذلك في الأمم الماضية بأن ينتظم به الأمر، وتقوم الشرائع، وتصان المتعبدات من الهدم، وأهلها من القتل والشتات.

_ 1 فتح القدير 3/457 2 هو: إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضوء بن كثير بن ضوء بن درع. الحافظ، عماد الدين أبو الفداء، ولد سنة 701هـ، وتوفي سنة 774هـ، له عِدَّة مؤلفات منها: التفسير، والبداية والنهاية، والأحكام على أبواب الفقه، وغيرها. طبقات المفسرين للداودي 1/111-113، الدرر الكامنة 1/399. 3 ابن كثير 3/226. 4 ابن كثير 3/226.

- وكأنَّه لما قال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} قيل: فليقاتِل المؤمنون، فلولا القتال لَتُغُلِّبَ على أهل الحق في كُلِّ أُمَّة1. وقوله -تعالى-: {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} . الضمير {فِيهَا} يعود على المساجد؛ لأنَّها أقرب مذكور. وقيل: يعود على الجميع، باعتبار ما كان عليه الأمر قبل أن ينحرف أهلها عن دين الحق، وتنسخ بما جاء في القرآن. وأُخِّرَت المساجد لتأخرها في الوجود. وقيل: إنَّ هذه المواضع ذُكِرَت مرتَّبة على الأشرف فالأشرف. فأُخِّرَت المساجد لشرفها2؛ ولأنَّها أماكن العبادة الحقة3. {وَلَيَنْصُرنَّ الله مَنْ ينْصُرُه إنَّ الله لقويٌّ عزيز} اللام واقعة في جواب القسم. والمعنى: والله لينصرن مَنْ ينصره. - والمراد بمَن ينصر الله: من ينصر دينه وأولياءه4. - ونصر الله تعالى لهم: أن يظفر أولياءه بأعدائهم جلاداً وجدالاً، وفي ذلك حضٌّ على القتال. - ثُمَّ أخبر تعالى: أنَّه قوي على نصرهم، عزيز، لا يغالب5. فوصف الله نفسه بالقوة والعزَّة، فبقوته خلق كل شيء، فقدَّره تقديراً. وبعزَّته لا يقهره قاهر، ولا يغلبه غالب. بل كل شيء ذليل لديه، فقيرٌ إليه. ومَن كان القاهر الذي لا يغالب ناصرَهُ، فهو المنصور، وعَدَوَّهُ المقهور. قال تعالى: {ولقد سَبَقَت كَلِمَتُنا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ. إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورونَ. وإنَّ

_ 1 البحر المحيط 6/374-375 2 ابن كثير 3/226 3 صفوة التفاسير 2/292 4 فتح القدير 3/457 5 أحكام القرآن لابن العربي، القسم الثالث ص 1297.

جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171-173] . وقد أنجز الله وعده حيث سلَّط المهاجرين والأنصار على صناديد الكفر من العرب، وعلى أكاسرة العجم، وقياصرة الروم، وأورثهم أرضهم وديارهم1. ولن يخلف الله وعده لمن جاء بما شرطه في هذه الآية وغيرها مِمَّن تحقَّق فيه هذا الوعد. 4 - {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 41] . {الذين} : منصوب بدل {ممن ينصره} أو وصف المأذون لهم في القتال. فيجوز فيه من الإعراب ما جاز في قوله: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا} كما سبق. - والتمكين: السلطنة ونفاذ الأمر على الخلق. - وفي الآية إخبار بالغيب عمَّا تكون عليه سيرتهم إنْ مكَّن لهم في الأرض وبسط لهم في الدنيا، وكيف يقومون بأمر الدين2. وعن عثمان بن عفَّان3 رضي الله عنه - هذا والله – "ثناء قبل بلاء": يريد أنَّ الله قد أثنى عليهم قبل أن يحدثوا من الخير ما أحدثوا. وقالوا: فيه دليل على صحة

_ 1 البحر المحيط 6/376، تفسير النووي لمراح لبيد 2/56 2 البحر المحيط 6/376، تفسير النووي لمراح لبيد 2/56، التفسير القرآني للقرآن، الكتاب التاسع ص 1046-1047 3 هو: عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس الأموي أمير المؤمنين، ذو النورين، أحد السابقين الأولين، وثالث الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، استشهد في ذي الحجة سنة 35هـ، وكانت خلافته اثنتى عشرة سنة، وعمره ثمانون سنة. تقريب التهذيب ص 235، الإصابة 2/455، الاستيعاب مع الإصابة 3/69

أمر الخلفاء الراشدين؛ لأنَّ الله تعالى لم يجعل التمكن ونفاذ الأمر مع السيرة العادلة لغيرهم من المهاجرين. فلا حَظَّ فيها للأنصار والطلقاء1. - وفي الآية أخذ العهد على مَنْ مكَّنه الله أن يفعل ما رتب على التمكين في الآية2. - وقيل: نزلت في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم3. - وعن الحسن4، وأبي العالية5: هم أمته عليه السلام. وقيل: هم أهل الصلوات الخمس، وهو قريب مِمَّا قبله6. وقال ابن أبي نجيح7: هم الولاة.

_ 1 انظر: البحر المحيط 6/376، والطقاء: جمع طليق وهو الأسير الذي خلى سبيله. ترتيب القاموس، مادة طلق. ومختار الصحاح ص:396. 2 انظر: البحر المحيط 6/376 3 انظر: البحر المحيط 6/376 4 هو: الحسن بن أبي الحسن يسار، أبو سعيد، مولى زيد بن ثابت الأنصاري ولد بالمدينة لسنتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ثُمَّ نشأ بوادي القرى، وقرأ القرآن على حطان الرقاشي، وروى عن خلف، من التابعين، له ترجمة مطولة في سير أعلام النبلاء 4/563 رقم الترجمة 223، وشذرات الذهب 1/136، وطبقات المفسرين للداودي 1/150. ومن مؤلفاته: التفسير، وكتابه إلى عبد الملك بن مروان في الرد على القدرية. توفي سنة 110هـ. 5 هو: رُفَيْع - بالتصغير - بن مهران، أبو العالية الرياحي - بكسر الراء والتحتانية - ثقة كثير الإرسال، من الثانية، مات سنة 90هـ. له تفسير رواه عنه الربيع بن أنس البكري. تقريب التهذيب ص 154، طبقات المفسرين للداودي 1/178-179 6 البحر المحيط 6/376 7 هو: عبد الله بن أبي نجيح، الإمام الثقة المفسر. أبو يسار الثقفي المكي، واسم أبيه يسار، مولى الأخنس بن شريف الصحابي، وهو من أخص الناس بمجاهد، توفي سنة 131هـ. تقريب التهذيب ص 191، سير أعلام النبلاء 6/125-126، شذرات الذهب 1/182، طبقات المفسرين للداودي 2/258، تقريب التهذيب ص 191

وقال الضحاك1: هو شرطٌ شرطه الله من أتاه الملك. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: المهاجرون والأنصار والتابعون. وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: "فينا نزلت هذه الآية {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} . والآية بعدها. أُخْرِجْنَا من ديارنا بغير حق2 إلاَّ أن قلنا: ربنا الله، ثُمَّ مكنا في الأرض فأقمنا الصلاة، وآتينا الزكاة، وأمرنا بالمعروف، ونهينا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور، فهي لي ولأصحابي"3. وقال الصباح بن سوادة الكندي4: "سمعت عمر بن عبد العزيز5: يخطب ويقول: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْض ... } الآية. ثُمَّ قال: ألا إنَّها ليست على الوالي وحده. ولكنها على الوالي والموَلَّى عليه. ألا أُنبئكم بما لكم على الوالي من ذلك. وبما للوالي عليكم منه؟: 1 - إنَّ لكم على الوالي من ذلكم أن يؤاخذكم بحقوق الله عليكم. 2 - وأن يأخذ لبعضكم من بعض. 3 - وأن يهديكم للتي هي أقوم ما استطاع.

_ 1 هو: الضحاك بن مزاحم الهلالي، أبو القاسم الخرساني المفسر، يروي تفسيره عنه عبيد بن سليمان، وهو صدوق كثير الإرسال، مات بعد المائة. انظر: طبقات المفسرين للداودي 1/222، شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي 1/124، سير أعلام النبلاء 4/598-599 2 فتح القدير 3/358 3 المرجع السابق 3/358 4 لم أعثر على ترجمته. 5 هو: عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي أمية، أمير المؤمنين، أمُّه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، ولي إمرة المدينة...... وكان مع سليمان كالوزير، وولي الخلافة بعده، فعُدَّ من الخلفاء الراشدين، وروى له الجماعة، كان عادلاً في رعيته وأعادها إلى عهد الخلفاء الراشدين، فلذا عُدَّ الخليفة الخامس، مات رحمه الله سنة مائة وواحد 101هـ. تقريب التهذيب ص 255، شذرات الذهب 1/119.

- وإنَّ عليكم من ذلك الطاعة غير المبزوزة1، ولا المستكثر بها. ولا المخَالِف سرُّها علانيتها". وقال عطية العوفي2: "هذه الآية كقوله -تعالى-: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ} ، وقوله: {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} كقوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} " [طه: 132] . وعن زيد بن أسلم3: في قوله -تعالى-: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْض} : قال: "أرض المدينة". {أَقَامُوا الصَّلاةَ} : قال: "المكتوبة". {وَآتُوا الزَّكَاةَ} : قال: "المفروضة". {وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوف} : قال: "بلا إله إلاَّ الله". {وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} : قال: "الشرك بالله". {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُُمُورِ} : قال: "وعند الله ثواب ما صنعوا"4. ويقول ابن جرير5 - رحمه الله تعالى - في تأويل قوله -تعالى-: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ

_ 1 المبزوزة: من بزّ قرينه، بزّاً، وبزّة، غلبه. والشي نزعه وأخذه بجفاء وقهر. انظر: تفسير ابن كثير 3/226، توفيق الرحمن في دروس القرآن 3/107، المعجم الوسيط 1/54 2 هو: عطية بن سعيد بن جنادة الجدلي العوفي الكوفي، أبو الحسن، صدوق يخطئ كثيراً، مدلساً من الثالثة، مات سنة إحدى عشرة. تقريب التهذيب ص240، شذرات الذهب 1/144 3 هو: زيد بن أسلم العدوي، مولى عمر، أبو عبد الله، أو أبو أسامة المدني، ثقة عالم. وكان يرسل، من الثالثة، مات سنة 136هـ. كانت له حلقة للفتوى والعلم بالمدينة، له تفسير القرآن يرويه عنه ابنه عبد الرحمن. تقريب التهذيب ص 111-112، شذرات الذهب 1/194، سير أعلام النبلاء 5/316 4 فتح القدير 3/458، ابن كثير 3/226، زاد المسير 5/437 5 هو: محمد بن جرير الطبري، الإمام الحبر، صاحب التفسير المشهور والتاريخ والمصنفات الكثيرة، سمع إسحاق بن إسرائيل ومحمد بن حميد الرازي وطبقتهما، وكان مجتهداً لايقلد أحداً، أثنى العلماء على تفسيره وعدوه من أفضل التفاسير. كانت ولادته سنة أربعٍ وعشرين ومائتين بآمل طبرستان، ووفاته في بغداد سنة 310هـ. شذرات الذهب 2/260

وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 41] : "يقول تعالى ذكره: أذن للذين يقاتلون بأنَّهم ظلموا - الذين إنْ مكَّناهم في الأرض أقاموا الصلاة - والذين ههنا رد على الذين يقاتلون. ويعني قوله: {إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْض} : إن وطَّنا لهم في البلاد فقهروا المشركين وغلبوهم عليها، وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: إنْ نصرناهم على أعدائهم وقهروا مشركي مكة، أطاعوا الله فأقاموا الصلاة بحدودها. {وَآتُوا الزَّكَاةَ} : يقول: وأعطوا زكاة أموالهم من جعلها الله له. {وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ} : يقول: ودعوا الناس إلى توحيد الله والعمل بطاعته وما يعرفه أهل الإيمان بالله1. {وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَر} : يقول: ونهوا عن الشرك بالله والعمل بمعاصيه الذي ينكره أهل الحق والإيمان بالله. {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} : يقول: ولله آخر أمور الخلق، يعني أنَّ إليه مصيرها في الثواب عليها، والعقاب في الدار الآخرة2. وعن أبي العالية: "كان أمرهم بالمعروف أنَّهم دعوا إلى الإخلاص لله وحده لا شريك له. ونهيهم عن المنكر أنَّهم نهوا عن عبادة الأوثان وعبادة الشيطان. ثُمَّ قال: فمن دعا إلى الله من الناس كلهم فقد أمر بالمعروف، ومن نهى عن عبادة الأوثان وعبادة الشيطان فقد نهى عن المنكر3.

_ 1 تفسير ابن جرير 17/179، صفوة التفاسير 2/292 2 ابن جرير 17/179 3 المرجع السابق 17/179

المبحث الخامس: في دلالات الآية الكريمة، وعلاقة ذلك بما كان عليه حال الجزيرة العربية عند قيام الدولة السعودية الثالثة

المبحث الخامس: في دلالات الآية الكريمة، وعلاقة ذلك بما كان عليه حال الجزيرة العربية عند قيام الدولة السعودية الثالثة مدخل ... المبحث الخامس: في دلالات الآية الكريمة، وعلاقة ذلك بما كان عليه حال الجزيرة العربية عند قيام الدولة السعودية الثالثة عام 1319هـ، وفيه مطالب: الأول: الصورة الكريمة التي سيكون عليها {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ} . الثاني: أنَّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. الثالث: وظيفة الدولة المسلمة. وأنَّ الحق لا يكفيه كونه حقّاً فقط. الرابع: أنَّ تلك الصورة الكريمة لم تدم طويلاً، وإن كان التمسك بالأصل موجوداً للوعد الإلهي بذلك. الخامس: علاقة ما تدل عليه الآية الكريمة بما كان عليه الحال عند قيام الدولة السعودية على يد الملك عبد العزيز.

المطلب الأول: في الصورة الكريمة التي سيكون عليها المؤمنون بعد التمكين في الأرض

المطلب الأول: في الصورة الكريمة التي سيكون عليها المؤمنون بعد التمكين في الأرض: لقد جاءت الآية الكريمة ذات الرقم (41) من سورة الحج، تحمل دلالات عامَّة وشاملة لا يحدها زمان ولا مكان - كما ظهر ذلك من أقوال المفسرين -، وسواء أريد ب {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْض} طائفة مخصوصة - كالمهاجرين، أو أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أهل الصلوات الخمس، أو الولاة - أو كان المراد عموم أُمَّة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما يدل عليه ظاهر نظم الآية - التي سيقت في قوالب شاملة عامَّة - كالذين، والأرض، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر - فإنَّ الآية تعرض الصورة الكريمة التي سيكون عليها هؤلاء المؤمنون الذين أُخْرِجُوا من ديارهم بغير حق، وذلك حين ينصرهم الله، ويمكِّن لهم في الأرض، وتكون لهم القوة والغلبة1. إنَّهم مع ذلك لن يكونوا على شاكلة مشركي مكَّة الذين كان إليهم وبأيديهم القوة والسلطان، فتسلَّطوا على عباد الله، ورهقوهم، وأخذوهم بالبأساء والضراء، وأخرجوهم من ديارهم بغير حق2. إنَّ هؤلاء المؤمنين حين يمكن لهم في الأرض - سيكونون مصابيح هدى وينابيع رحمة - للإنسانية كلها بما يقيمون فيها من موازين الحق والعدل، وما يغرسون في آفاقها من مغارس الخير والإحسان. إنَّهم يقيمون الصلاة ليستمدوا منها العون من الله. ويؤتون الزكاة فيكشفون الضر عن عباد الله.

_ 1 التفسير القرآني للقرآن، الكتاب التاسع (9/1047-1048) . 2 المرجع السابق.

ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فيصلحون بهذا من سلوك الناس، ويقيمون لهم الطرق المستقيمة، فلا تتصادم منازعهم، ولا تفسد مشاربهم. وقد صدق الله وعده، ومكَّن سبحانه وتعالى للمؤمنين في الأرض، بعد أن هاجروا من مكة إلى المدينة. فكانوا أعلام هدى، وآيات رحمة، وموازين عدل وإحسان بين الناس، وكانوا كما وصفهم الله تعالى بقوله: {كُنْتُم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَت لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروفِ وَتَنْهَونَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمَنُونَ باللهِ} [آل عمران: 110] 1.

_ 1 المرجع السابق ص 1048

المطلب الثاني: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب

المطلب الثاني: أنَّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب: وبيان ذلك أنَّ سبب نزول الآية - كما سبق - هو إيذاء كفار قريش لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهجرتهم إلى المدينة. ولكن نَظْم الآية والقوالب التي صيغت بها معانيها، جاءت عامَّة كليةً تشمل جميع من توفرت فيه شروط التمكين في الأرض، وقد مرَّ مَنْ قال بذلك من المفسرين1. والقاعدة عند العلماء والأصوليين والمفسرين: أنَّ الآية إذا كان لها سبب نزول خاص، وكذا الحديث، إذا كان وارداً على سببٍ خاصٍّ. فإنَّ الحكم لا يكون مقصوراً على السبب. وإن كان دخول صورة السبب في الحكم لها الأولوية؛ لأنَّ العبرة بعموم اللفظ عند استنباط الحكم لا بخصوص السبب، كما هو الراجح لدى كثيرٍ من العلماء. وعلى ذلك يكون الحكم الذي دلَّت عليه الآية الكريمة عامّاً لجميع مَنْ تحقَّقت فيه شروط التمكين في الآية2. وهذا أحد الأسباب التي توضح العلاقة بين دلالة الآية وموضوع البحث.

_ 1 أحكام القرآن لابن العربي 6/376، وانظر ص 29 من البحث. 2 البحر المحيط 6/376

المطلب الثالث: وظيفة الدولة المسلمة. وأن الحق لا يكفيه كونه حقا فقط

المطلب الثالث: وظيفة الدولة المسلمة. وأنَّ الحق لا يكفيه كونه حقّاً فقط: ذكر كثيرٌ من المفسرين أنَّ الآية الكريمة - وهي قوله -تعالى-: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ…} الآية [الحج: 41] . قد تضمَّنت الغاية الكبرى من وجود الدولة المسلمة الصالحة. وبيان الأسس والدعائم التي تقوم عليها تلك الدولة1. - وأنَّ القيام بالمبادئ المذكورة والتقيد بمضمونها - هو الشرط الذي شرطه الله لمن يستحق النصر في قوله -تعالى-: {وَلَيَنْصُرنَّ الله مَنْ ينْصُرُه إنَّ الله لقويٌّ عزيز} [الحج:40] . وتلك الأسس والدعائم -كما ذُكِرَت في الآية- أربع: الأولى: إقام الصلاة. الثانية: إيتاء الزكاة. الثالثة: الأمر بالمعروف. الرابعة: النهي عن المنكر. والكلام على أهمية هذه الأسس وما قامت به الدولة السعودية في شأنها - سيأتي - إن شاء الله. لكن نشير إلى ناحية أخرى تعرَّضت لها الآيات - كما سبق - وهي أنَّ الحق لا يكفيه كونه حقّاً، بل لابدَّ من منافح عنه، ودافع إليه. ومِنْ ثَمَّ لم يشأ الله أن يترك الإيمان والخير عزلاً، تكافح قوى الطغيان والشر - اعتماداً على قوة الإيمان في النفوس، وتغلغل الحق في الفطر، وعمق الخير في القلوب، إلاَّ ريثما يستعدون للمقاومة، ويتهيأون للدفاع. ويتمكنون من وسائل الجهاد.

_ 1 مجموع الفتاوى لابن تيمية 28/242، الدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/205-206، التيسير في أحاديث التفسير 4/181-182، التفسير الواضح 2/71-72، أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير 3/164، المنهج القويم ص 40

وعندئذٍ أُذِنَ لهم في القتال لرد العدوان؛ لأنَّ الإيمان والخير والحق لابدَّ لها من قوة تحميها من البطش، وتقيها من الفتن، وتحرسها من كُلِّ مَنْ يريد الاعتداء عليها1. ووراء ذلك كُلِّه تلك القاعدة العامَّة، وهي حاجة العقيدة إلى الدفع عنها، وأنَّ الحقَّ مهما كان نوعه لابدَّ له من نصرة ودفاع، وهذه الحقيقة عبَّر عنها القرآن الكريم بمنتهى الدقة والوضوح في قوله -تعالى-: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة: 215] وإليها يشير في هذه الآيات بقوله -تعالى-: {وَوَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} فهذه المواضع - على قداستها وتخصيصها لعبادة الله - معرَّضة للهدم والخراب، ولا يشفع لها في نظر الباطل، كونها يُذْكَر فيها اسم الله كثيراً، ولا يحميها إلاَّ دفع الله الناس بعضهم ببعضٍ، أي دفع حماة العقيدة لأعدائها الذين ينتهكون حرمتها ويعتدون على أهلها، فكان من حكمة الجهاد في الإسلام، حماية العقيدة، وحرية العبادة، وتمكين المؤمنين العابدين العاملين من تحقيق منهاج الحياة القائم على العقيدة، المتصل بالله، الكفيل بتحقيق الخير للبشرية في الدنيا والآخرة2.

_ 1 في ظلال القرآن 17/602، التيسير في أحاديث التفسير 4/179-180، التفسير الحديث 7/106-107، التفسير الواضح 2/71، التفسير القرآني للقرآن 17/1042-1044 2 المراجع السابقة.

المطلب الرابع: أن تلك الصورة الكريمة والسيرة الحسنة لم تدم طويلا

المطلب الرابع: أن تلك الصورة الكريمة والسيرة الحسنة لم تدم طويلا ... الرابع: أنَّ تلك الصورة الكريمة والسيرة الحسنة لم تدم طويلاً: سبق أنَّ الصورة الكريمة التي سيكون عليها المؤمنون الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق - بعد التمكين لهم في الأرض - قد تحقَّقت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام - رضوان الله عليهم، وذلك بعد أن هاجروا إلى المدينة

النبوية، وتوفَّرت فيهم شروط التمكين، حيث قامت أول دولة إسلامية تحت راية لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمَّداً رسول الله. وكان أولئك المؤمنون القائمون على أمرها، مَصابيح هدى، وينابيع رحمة للإنسانية كلها، بما يقيمون فيها من موازين الحق والعدل، وما يغرسون في آفاقها من مغارس الخير والإحسان. فكانت سيرتهم في الحكم والرعية شعيرة إسلامية يجب الاهتداء بها، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسَّكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإنَّ كُلَّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار" 1. كما أصبحت سيرتهم في الرعية وما كانوا عليه من العدل أمنية إنسانية يود كل قائم ومسئول عن أمر المسلمين أن يسيرها ويهتدي بها أو بما يشابهها. لكن تلك الصورة الكريمة والسيرة الطيبة التي كان عليها الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من بعده - لم تدُم طويلاً، لحكمةٍ يعلمها الله، وأسباب قدرها، ومنها الابتعاد عن شروط التمكين في الأرض، والإخلال بما أمر الله به.. نعم! ما برحت عوامل الضعف الذاتية، ونقم الكيد الخارجية تنهش في جسم الأمة الإسلامية بما يوهن أو يمرض عافيتها2. إلاَّ أنَّ الله -تعالى- بمقتضى اسمه اللطيف، واسمه الرحيم، وقى هذه الأُمَّة من الاستئصال3. وقضى بقدره الحكيم بحفظ الدين إلى يوم التناد، كما قال -تعالى-: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] .

_ 1 رواه أبو داود، كتاب السُنَّة، حديث رقم (4067) . والترمذي في كتاب العلم، باب (16) حديث رقم (2676) . والإمام أحمد (4/126-127) . وابن ماجه في المقدمة 6: باب اتباع سُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين، حديث (4342) . 2 المنهح القويم ص 25 3 لقوله – تعالى -: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (الأنفال:33) .

وقال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمَّتي ظاهرين على الحق لا يضرهم مَنْ خذلهم - أو مَن خالفهم - حتى يأتي أمرُ الله" 1. وإنَّ المستقرئ لتاريخ هذه الأُمَّة في حقبه المتتابعة والمتفاوتة، قوةً وضعفاً، يعلم أنَّ: دولة الإسلام لم ينقطع موكبها، ولم تقف سفينتها منذ أن أقام الرسول صلى الله عليه وسلم دولة الإسلام العظمى في المدينة النبوية. فقد شهد التاريخ الإسلامي - بعد عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والخلافة الراشدة - عِدَّة دول2. تعنى بأمر العقيدة والشريعة، وتحمي الحوزة، وتدافع عن حصن الإسلام، وإن كان ذلك لا يقاس بمعيار الخلافة الراشدة، لكن الأمر الذي لا يجوز نكرانه، هو أنَّ تلك الدول قد قامت بمسئولياتٍ كبيرة، منها: 1 - اتخاذ الكتاب والسُنَّة مصدراً للتشريع والحكم، وإن حصل تقصير في إنفاذ مقتضاهما دون الاستخفاف بالأصل أو ردّ للأمر أو جحود للأحكام. 2 - الحفاظ على كيان الأُمَّة والاستمساك بمبدأ وحدتها، ولو على ضعف في بعض الأحيان. 3 - استمرار الدعوة والفتح الإسلامي. 4 - اتصال النشاط العلمي والحضاري ونشر الثقافة الإسلامية. ولو في مستوى أقل مِمَّا هو مطلوب3.

_ 1 أخرجه الإمام أحمد (5/284،283،78) ، وأبو داود، حديث رقم (4252) وابن ماجه برقم (3952) ، وابن حبان في صحيحه. انظر موارد الظمآن ص 458، ومناهج العلماء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للسامرائي ص 255 2 مثل: الخلافة الأموية من 42-132، والخلافة العباسية، والدولة العثمانية، والدولة السعودية قبل الملك عبد العزيز. المنهج القويم ص 26 3 المنهج القويم ص 26.

وفي ذلك كله تصديق لمعنىً جليلٍ من معاني الحديث العظيم الذي مرَّ، كما أنَّ فيه دليلاً على صدق ما وعد الله به من أنَّه يخرج لهذه الأمة مَن يجدد لها دينها. كما في الحديث النبوي: " إنَّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة مَنْ يجدِّد لها دينها" 1. فلم يزل المصلحون يتتابعون على هذه الأمَّة المحمدية، كلَّما بَعُدَ العهد بواحدٍ خلفه آخر، وفاءً من الله جلَّ وعلا بهذا الوعد الحكيم: {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 9] . حتى وصل الأمر بالأمة الإسلامية إلى العقد الأول والثاني من القرن الرابع عشر من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فكان المجدِّد فيه هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - فقد نشأ في زمن ضعفت فيه الآثار المحمدية. وضعفت المعالم الإسلامية، فلا راية إلاَّ لأهل الشرك والبدع. لهم الصولة والجولة، والعامة تبعٌ لهم. والخاصة دعاة لهم، قد ضلوا وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل، لم يسلم من شباكهم إلاَّ نذر يسير. وأصبحت البدعة عندهم سُنَّة إذا غيرت قيل: غيرت السُنَّة. فلمَّا رأى الشيخ حالهم، وعرف ضلالتهم، دعاهم إلى توحيد الله بالعبادة، وإفراده بها. ولم يزل صابراً على ما يلقاه من أذى، داعياً إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، يسانده في ذلك - بعد عون الله تعالى - الإمام محمد بن سعود - رحمه الله -، إلى أن أتت هذه الدعوة المباركة ثمارها، وغرست غرساً

_ 1 أخرجه أبو داود في الملاحم 2/424 وقال عنه سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز - حفظه الله: "هذا حديث إسناده جيد، ورجاله كلهم ثقات. وقد صحَّحه الحاكم، والحافظ العراقي، والعلاَّمة السخاوي، وآخرون". وصحَّحه الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 599. وانظر: الفواكه العذاب في معتقد الشيخ محمد بن عبد الوهاب ص 6

طيباً ما زال الناس يعيشون في ظله، فأثمرت تلامذة يدعون إلى الحق، وكتباً تهدى إليه، فسار الطلاب بهذه الدعوة إلى كل مكان، وسارت مؤلفات الحق مسار النهار، فانشرحت صدور الموفقين لهذه الدعوة وقبلوها، ودعوا إليها، والتقت قلوبهم عليها، وإن تباعدت أقطارهم. واتضح دين الحق، وظهر أمر الله: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8] . لكن هذه الدعوة المباركة لم تسلم من حروبٍ شرسة، شنَّها أعداؤها، أعداء الدين الذين شَرِقُوا بدعوة الحق وكرهوها، وسعوا في الإطاحة بها، والقضاء عليها، وعملوا بكل ما أوتوا من الوسائل إلى إخماد نور هذه الدعوة الإصلاحية، ولكن وسائلهم باءت بالفشل، ولم تحقق تقدماً ولم تقض لهم وطراً؛ لأنَّ نور الله باقٍ ودينه منصور. فحقق الله لعباده المؤمنين وعده بالنصر والتمكين في الأرض1 على يد الإمام الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، حيث رفع راية التوحيد خفاقة، فأعزَّ الله به أهل هذه الدعوة بعد أن كانوا أذِلَّة، وأغناهم جلَّ وعلا به بعدما كانوا عالة2.

_ 1 قال -تعالى-: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور: 55) . 2 الدعوة في عهد الملك عبد العزيز (1/15-17) ، المنهج القويم في الفكر والعمل ص 21-27، الفواكه العذاب في معتقد الشيخ محمد بن عبد الوهاب ص 6-7

المطلب الخامس: في بيان العلاقة والموازنة بين دلالة الآية الكريمة وما كان عليه الحال إبان قيام المملكة العربية السعودية على يد الملك عبد العزيز

المطلب الخامس: في بيان العلاقة والموازنة بين دلالة الآية الكريمة وما كان عليه الحال إبان قيام المملكة العربية السعودية على يد الملك عبد العزيز: إنَّ بيان العلاقة وعقد المقارنة بين دلالة الآيات الكريمة، وما صاحب نزولها من الظروف المتعلقة بحال العرب من الناحية الدينية أو السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية عند مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم، وحال جزيرة العرب إبان قيام الدولة السعودية على يدي الملك عبد العزيز - رحمه الله - لا يتطلب كبير عناء؛ إذ المشابهة والموازنة بينهما جداً واضحة، فالجاهلية الجهلاء بالأمور الدينية، وكثرة البدع وعبادة القبور من دون الله قد كانت موجودة. - والفوضى السياسية، واستئساد الحكم القبلي العشائري، هو الذي يتحكم في كثيرٍ من المناطق. - والفاقة والعوز وقلة الموارد الاقتصادية هي الحالة الظاهرة. - والتفكك الاجتماعي والأسري والتناحر بين الأخ وأخيه هو المسيطر في غالب الأحيان. - والإخراج بدون ذنب إلاَّ أن يقول المؤمن ربنا الله، قد حصل. - والهجرة إلى البلاد الآمنة من أجل إقامة الحق قد وقع. - والتمكين في الأرض للمؤمنين وعودتهم إلى ديارهم منصورين قد تحقق. - وتطبيق الشرع ومعرفة الغاية الكبرى من وجود الدولة المسلمة الصالحة، وفقه الأسس التي تقوم عليها تلك الدولة قد وجد. - والجهاد من أجل إعلاء كلمة الله قد كان.

- فما الذي حدث، حتى عادت الحال إلى ما كانت عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين - رضوان الله عليهم - أو قريباً من ذلك؟! إنَّ الذي حدث فعلاً، هو العودة إلى الصورة الكريمة التي بشَّرت بها الآية، والاقتراب من شروط التمكين في الأرض التي دلَّت عليها الآيات، واستحقاق النصر الذي وعد الله به المؤمنين. كل هذه الأمور وغيرها مِمَّا يؤهل للاستخلاف في الأرض كما وعد الله قد حصل. والله لا يخلف الميعاد، وينصر مَنْ نصر دينه، ويُعْلِي مَنْ أعزَّ عقيدته، وما ذلك على الله بعزيز1.

_ 1 انظر ما سبق ص 42 من هذا البحث. والمقصود: أن معنى الآية الكريمة قد تحقق في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم.

الفصل الثاني: في ماهية الدعائم، وبيان أهميتها

الفصل الثاني: في ماهية الدعائم، وبيان أهميتها مدخل مدخل ... الفصل الثاني: في ماهية الدعائم، وبيان أهميتها وفيه مباحث: الأول: في الدعامة الأولى: (إقام الصلاة) . الثاني: في الدعامة الثانية: (إيتاء الزكاة) . الثالث: في الدعامتين الثالثة والرابعة: (الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر) .

المبحث الأول: في الدعامة الأولى (إقام الصلاة)

المبحث الأول: في الدعامة الأولى (إقام الصلاة) المطلب الأول: ماهية الصلاة ... المبحث الأول: في الدعامة الأولى (إقام الصلاة) : وفيه مطالب: الأول: ماهية الصلاة الثاني: أهميتها. الثالث: في المقصود بإقامة الصلاة على ضوء الآية الكريمة. المطلب الأول: ماهية الصلاة: أولاً: الصلاة في اللغة: اختلف علماء اللغة في أصل الصلاة: فقيل: الصلاة الركوع والسجود. وقيل: أصل الصلاة الدعاء مأخوذة من (صَلَّى) يُصَلِّي إذا دعا. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا دُعِيَ أحدكم فليُجِب، فإن كان صائماً فليُصَلِّ، وإن كان مفطِراً فليَطْعَم" 1. فقوله: (فليُصَلِّ) يعني فليدع لأرباب الطعام بالبركة والخير2. ومنه قوله الأعشى:3

_ 1 رواه مسلم 2/1045 كتاب النكاح، باب الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة. 2 لسان العرب لابن منظور 14/465 3 ديوان الأعشى ص 106 والأعشى هو: ميمون بن قيس البكري، جاهلي قديم، وأحد أصحاب المعلَّقات. ويلقَّب بصناجة العرب؛ لأنَّه كان يتغنى بشعره. رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسلم فصدته قريش عنه. انظر: طبقات الشعراء 1/65، الشعراء 1/257، الأعلام 7/341 الشعر والشعراء ص159

عليك مثل الذي صَلَّيْت فاغتمضي ... نوماً فإن لجنب المرء مضطجعاً أي: عليك مثل دعائك1. وقيل: أصلها التعظيم وسُمِّيَت الصلاة المخصوصة صلاةً لما فيها من تعظيم الرب تعالى2. وقيل: الأصل في الصلاة اللزوم، يقال: قد صَلِىَ واصطلى إذا لزم، ومن هذا مَن يُصْلَى في النار أي يلزم النار3. هذه أشهر الأقوال التي قيلت في أصل الصلاة لغةً 4. ثانياً: الصلاة شرعاً: عرَّفها العلماء بأنها: أقوال وأفعال مخصوصة مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم 5. وأرادوا بالأقوال: القراءة، والتكبير، والتسبيح، والدعاء، ونحوه. وبالأفعال: القيام، والركوع، والسجود، والجلوس، ونحوه6. وإذا نظرنا إلى معنى الصلاة لغةً وشرعاً، وجدنا الصلة بينهما وثيقة؛ فالدعاء، واللزوم، والتعظيم. كلها معانٍ موجودة في الصلاة بمعناها الشرعي، وأُطْلِقَت على الصلاة، كلها من باب تسمية الشيء ببعض أجزائه. وإن كانت

_ 1 لسان العرب 14/466 2 المرجع السابق. 3 المرجع السابق 14/465 4 الصلاة في القرآن مفهومها وفقهها ص 9، والصلاة للطيار ص 11 وقيل: إنَّها من الصَّلْوَيْن، وهما: مكتنفا العصعص. (لسان العرب 14/465) . 5 الروض المربع مع حاشية العنقري 1/118 6 الصلاة في القرآن ص9، والصلاة للطيار ص 11

مأخوذة من "الصَّلْوَين" فهما موضعان في الإنسان يقوم عليهما الركوع والسجود، فلا ركوع ولا سجود بلا تحريك لهما، فأخذ اسم الصلاة منهما، كما أخذ اسم البيع من "الباعين" اللذين يمدهما البائع والمشتري1. ثالثاً: الصلاة في القرآن: لم يقصر القرآن الكريم إطلاق لفظ "الصلاة" على الصلوات الخمس المفروضة؛ بل أطلقه عليها وعلى غيرها، كما لم يقصر التعبير عن الصلاة المفروضة على لفظ "الصلاة" وحدها؛ بل عبَّر عن الصلاة المفروضة بألفاظ أخرى غير لفظ "الصلاة": ففي المجال الأول: جاء لفظ "الصلاة" في القرآن مراداً به عِدَّة معانٍ: الأول: الصلاة بمعنى الدعاء2، -قال تعالى-: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] أي ادع لهم. الثاني: بمعنى الاستغفار3، قال -تعالى-: {وَصَلَوَاتِ الرَّسُول} [التوبة: 99] أي استغفاره لهم. الثالث: بمعنى بيوت الصلاة أو الكنائس4، قال -تعالى-: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} [الحج:40] .

_ 1 الصلاة في القرآن ص10، والصلاة للطيار ص 12 2 بصائر ذوي التمييز للفيروزآبادي 3/437، ومنتخب قرة العيون النواظر ص 161 3 منتخب قرة العيون 3/438، إصلاح الوجوه والنظائر للدامغاني ص 284، وكشف السرائر لابن العماد ص 106 4 المراجع السابقة، ونزهة الأعين النواظر لابن الجوزي ص 395

الرابع: بمعنى الإسلام، قال -تعالى-: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} [القيامة: 31] أي: ولا أسلم1. الخامس: بمعنى الدين2، قال -تعالى-: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ} [هود: 87] . السادس: بمعنى القراءة3، قال -تعالى-: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِك} [الإسراء: 110] أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن4. السابع: بمعنى الصلاة الشرعية5 أو الصلوات الخمس، قال -تعالى-: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [البقرة: 2] . قال ابن الجوزي -رحمه الله- تعالى: "وكذلك كل صلاة قُرِنَت بذكر الزكاة"6. الثامن: الصلاة بمعنى صلاة الأمم الماضية 7، قال -تعالى-: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ} [مريم: 31] . وهذا بالنسبة لإطلاق لفظ الصلاة في القرآن على معانٍ متعددة ومنها المعنى الشرعي. كما عبَّر القرآن عن الصلاة بألفاظٍ أخرى غير لفظ "الصلاة" ومنها: الأول: عبَّر عن صلاة الجمعة بلفظ الذكر8، قال -تعالى-: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] ، وكذلك صلاة العصر على لسان سليمان عليه

_ 1 بصائر ذوي التمييز 3/437، فتح القدير 5/341، وابن كثير 8/307. 2 منتخب قرة العيون، ابن الجوزي ص 161، وكشف السرائر ص 105 3 المعجم الجامع، عبد العزيز السيروان ص 244، وانظر: منتخب قرة العيون ص 161 4 صحيح البخاري في كتاب التفسير، سورة الإسراء، باب 14 ج5/229 5 بصائر ذوي التمييز 3/438، وكشف السرائر ص 106 6 منتخب قرة العيون النواظر ص 106 7 بصائر ذوي التمييز 3/438 8 منتخب قرة العيون ص121، وتحصيل نظائر القرآن للحكيم الترمذي ص52

السلام: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} [ص: 32] ، وعبَّر عن الصلوات الخمس بالذكر أيضاً، قال -تعالى-: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [البقرة: 239] أي: صلوا الصلاة كاملة بدون نقص1. الثاني: التعبير عن الصلاة بلفظ الاستغفار. قال -تعالى-: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18] أي: يصلون؛ لأنَّ في الصلاة سؤال المغفرة2. الثالث: التعبير عن الصلاة بلفظ الركوع3، قال -تعالى-: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] أي: صلوا 4. الرابع: التعبير عن الصلاة بلفظ الإيمان5، قال -تعالى-: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] . الخامس: التعبير عن الصلاة بلفظ الحسنات6، قال -تعالى-: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] أي الصلوات7. تلك بعض المعاني التي يشملها لفظ الصلاة في القرآن، وهذه بعض الألفاظ التي عبر بها القرآن الكريم عن الصلاة. وحين نتأمل في هذا التعبير القرآني ندرك اهتمام القرآن بالصلاة وتفخيمه لشأنها لفظاً ومعنى.

_ 1 الصلاة في القرآن ص 15 2 تحصيل نظائر القرآن ص 118، وابن كثير 7/395، ونسبه إلى مجاهد وغيره. والنكت للماوردي5/366. 3 إصلاح الوجوه للدامغاني ص 210 4 صحيح البخاري، كتاب التفسير، سورة المرسلات 6/77، والصلاة في القرآن ص15 5 كشف السرائر ص 105، بصائر ذوي التمييز 2/105 6 المرجعان السابقان. 7 الصلاة في القرآن مفهومها وفقهها ص17، وجامع البيان لابن جرير15/409، والنكت والعيون للماوردي2/509.

فإذا قيل: علة اهتمام القرآن بأجزاء الصلاة وإطلاقها على كل الصلاة ظاهرة لا تخفى، فما عِلَّة اهتمامه باسم (الصلاة) وإطلاقها على غيرها؟ فالجواب: إنَّ المتأمل في المعاني التي أطلق عليها لفظ الصلاة يجدها لا تعدو أربع حالات: الأولى: استعمال كلمة (الصلاة) في معناها الأصلي (الدعاء) ، ومنه الاستغفار. الثانية: إطلاق الكل على البعض، مثل إطلاق الصلاة على صلاة الخوف. الثالثة: إطلاق الصلاة على بيوت الصلاة. الرابعة: إطلاق لفظ الصلاة على غيرها؛ لإظهار الصلة الوثيقة بين المعنيين وجعل اللفظ (الصلاة) بمثابة الرباط القوي بينهما، الذي يجعلهما – كالشيء الواحد الذي لا ينفصل بعضه عن بعض – كإطلاق لفظ الصلاة على الدين في: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ} 1 أو على الإسلام في: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} 2 أي: ولا أسلم. وفي هذا بلا شك كشف للتلازم بين الصلاة والدين، أو الصلاة والإسلام، أو إطلاقها على المغفرة في قوله -تعالى- {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ} 3، أو على الرحمة في قوله -تعالى-: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَة} 4. وفي هذا إشارة هامة إلى أثرين من آثار الصلاة على العباد، وكأنَّ المغفرة والرحمة لازمتان من لوازم الصلاة المقبولة لا ينفكان عنها. ولذلك ورد في الحديث: " الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن" 5.

_ 1 هود: 87 2 القيامة: 31 3 الأحزاب: 43 4 البقرة: 157 5 صحيح مسلم 1/209

ولو لم يكن في استعمالات القرآن كلها للفظ الصلاة إلاَّ إطلاقه لها على الدين والإسلام لكفى بهما بياناً لمفهوم الصلاة في القرآن الكريم، حيث جعلهما كالشيىء الواحد الذي لا ينفصل بعضه عن بعض. وهذا المعنى ظاهر في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة" 1. وحديث: "إنَّ العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر" 2. فأي تلازم بين الصلاة والإسلام أكثر من هذا؟! وكفى بهذا المفهوم للصلاة في القرآن بياناً3. والذي يهمنا في هذا أنَّ الصلاة أُطْلِقَت في القرآن الكريم على الدين وعلى الإسلام، وعلى الإيمان. وقد جاء في الآية التي هي موضوع البحث {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ ... } الآية. وسبقتها الآية الكريمة: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} وهذا معنى الإيمان. فلو حُمِلَت الصلاة في الآية التي هي موضوع البحث على الإيمان، أو الدين، أو الإسلام، لم يكن في ذلك بُعْد؛ لوجود التلازم بين هذه الأمور في الاصطلاح الشرعي. ولو قيل: إنَّ الصلاة في الشرع من الأمور التي إذا اجتمعت افترقت وإذا افترقت اجتمعت، كالإسلام والإيمان. لم أر في ذلك بعْداً أيضاً. وهذا الأمر هو الذي دعاني لذكر المعاني التي جاء القرآن بها للفظ الصلاة. أو التعبير عن الصلاة بما هو من لوازمها أو ثمراتها.

_ 1 رواه مسلم في كتاب الإيمان، حديث 134 ج1/88 2 رواه النسائي في كتاب الصلاة، باب الحكم في تارك الصلاة 1/231-232 3 الصلاة في القرآن ص 18

فيكون معنى الآية الكريمة: الذين إنْ مكَّناهم في الأرض أقاموا الإسلام، أو أقاموا الدين، أو أقاموا الإيمان. وهذا ما فهمه الصحابة رضي الله عنهم، وكذلك السلف الصالح من بعدهم؛ لأنَّ من لوازم إقامة الصلاة الشرعية العمل بالإسلام. ولأنَّ الإيمان قولٌ وعمل، فالقول وُجِدَ من المهاجرين في مكَّة؛ ولذا قال -تعالى-: {إِلاَّ أَنْ يَقُولُواْ رَبُّنَا الله} . وأمَّا العمل الكامل بالإسلام فلَمَّا مكَّنهم اللهُ في الأرض، أمرهم في مقابل هذا التمكين أن يأتوا بحق الإيمان، وحق الإسلام، وحق الدين كاملاً، وحق الأخوة الإسلامية كاملاً؛ لعدم العذر.

المطلب الثاني: أهمية الصلاة

المطلب الثاني: أهمية الصلاة: 1 - للصلاة منزلة في الإسلام، لا تصل إليها أية عبادة أخرى، فهي عماد الدين الذي لا يقوم إلاَّ به، كما جاء في الحديث: " ... ألا أخبرك برأس الأمر كله وعموده وذروة سنامه؟ " قلت: "بلى يا رسول الله". قال: "رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد ... " 1. 2 - وهي الركن الثاني من أركان الإسلام، بها يفرق بين المسلم والكافر، فهي مظهر للإسلام، وعلامة للإيمان، وقرة عين وراحة ضمير. وتأتي منزلتها بعد الشهادتين، لتكون دليلاً على صحة الاعتقاد وسلامته، وبرهاناً على صدق ما وقر في القلب، وتصديقاً له. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بُنِيَ الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمَّداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت" 2. كما أنَّ الصلاة تتقدم على جميع أركان الإسلام بعد الشهادتين؛ لمكانتها وعظيم شأنها، فهي أول عبادة فرضها الله على عباده في مكَّة، وأول عبادة تكتمل بالمدينة. كما جاء في الحديث: "فرضَ اللهُ الصلاةَ حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأُقِرَّت صلاة السفر وزيد في الحضر" 3. 3 - ومِمَّا يدل على مكانة الصلاة في الإسلام: طريقة فرضيتها؛ إذ أنَّ كُلَّ العبادات تُفْرَض على الأُمَّة بطريق الوحي بواسطة جبريل عليه السلام. أمَّا

_ 1 رواه الترمذي 5/11-12 ح 2616، والمزي: تحفة الأشراف 8/399 ح1137 وقال عنه أبو عيسى: "حديث حسن صحيح". 2 رواه البخاري 1/8 كتاب الإيمان، ومسلم 1/45 ح 31 3 رواه البخاري 1/93 كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلاة.

الصلاة ففُرِضَت بدون واسطة، بل بالإسراء بالرسول صلى الله عليه وسلم نفسه إلى السماوات العلا حين لقي ربه في أسمى منزلة وأعظم لقاء، حيث تلقَّى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من ربه هذا التكليف العظيم. 4 - ومِمَّا يدل على مكانة الصلاة ومنزلتها العظمى: اشتراك الشرائع السماوية فيها. فقد جاءت آيات كثيرة، وفي مواضع متعددة، تدل على أنَّ الصلاة مِمَّا تشترك فيه الشرائع السماوية، ومِمَّا كان يوصي به الله أنبياءه ويوصي به الأنبياءُ أهليهم وأقوامهم. قال الله -تعالى- في شأن إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} 1. ووصف الله إسماعيل عليه السلام بقوله: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} 2. وأمر الله سبحانه نبيه موسى عليه السلام بقوله: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} 3. ووصف الله -سبحانه وتعالى- عبده زكريا بقوله: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَاب} 4. ولقمان عليه السلام يوصي ابنه وصيته الخالدة وفيها: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} 5. بل المساجد الثلاثة تشهد بذلك، فالمسجد الحرام في مكة بناه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. والمسجد الأقصى بناه نبيّ الله سليمان بن داود عليهما السلام بأمرٍ من الله عزَّ وجلَّ6. وبنى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مسجده في المدينة بعد الهجرة. والمساجد إنَّما تبنى للصلاة.

_ 1 إبراهيم: 40 2 مريم: 55 3 طه: 14 4 آل عمران: 39 5 لقمان: 17 6 الصلاة في القرآن ص 22-23، والصلاة للطيار ص 18

إذاً فالصلاة هي القاعدة التي يقوم عليها الدين الذي جاء به الأنبياء عليهم السلام. ألا وهو الدين الإسلامي بمعناه العام. 5 - ومما يدل على مكانة الصلاة - أيضاً - أنَّها لا تسقط بحال، وإنَّما تخفف أركانها وعدد ركعاتها على العبد*، وكذلك النداء لها بنداء خاص أصبح شعيرة من شعائر الإسلام، وعلامة مميزة للمسلمين. وهو الأذان. 6 - وكذلك الطهارة للصلاة والأمر ببناء المساجد لها، مِمَّا يدل على مكانة الصلاة وعظم شأنها، فدوام الصلاة واطرادها على اختلاف الأحوال والأزمنة صفة تميزها عن غيرها من التكاليف العملية. فعامَّة التكاليف غير التعبدية - كالصلاة والصوم والحج* - منوطة بمصالح معينة تدور معها، فتثبت برجاء المصلحة، وترتفع بانتفائها أو نفادها. وأمَّا أركان الإسلام المتقدمة فهي واجبات عينية، وحقوق لله لا تتخلف؛ ولكن الصلاة من بين تلك الأركان تتميز بصفة الدوام؛ لأنَّ الصوم لا يجب إلاَّ على المستطيع. والحج لا يلزم إلاَّ على من وجد إليه سبيلاً. والزكاة لا يخرجها إلاَّ مَنْ ملك النصاب. أمَّا الصلاة فلا تسقطها أعذار الطاقة، وإنَّما تخفف أركانها لرفع الحرج، ويبقى أصلها لئلا تتخلَّف معانيها الجليلة1. 7 - والصلاة تكاد أن تكون جماعاً لأركان الإسلام؛ وذلك لاشتمالها على الشهادتين في التشهد الأول والأخير. والصلاة زكاة يومية، فالمصلي يبذل من وقته لأداء الصلاة، في حين يحتاج إلى هذا الوقت لأداء عمل يستفيد منه في تحصيل المال الذي سيزكي عنه. فعندما يصلي ينفق من وقته الذي هو أصل المال. فكما أنَّ الزكاة طهرة للمال، فكذا الصلاة طهرة للأوقات، وطهرة

_ * أي في حال الرخصة تخفف أركانها وعدد ركعاتها فقط بخلاف غيرها كالصوم. 1 الصلاة للطيار ص 19-20، والصلاة عماد الدين ص:54 * أي أن غير الأمور التعبدية في الشرع تدور مع مصلحتها في الغالب، المرجع السابق ص:20.

للإنسان مِمَّا يرتكبه من معاصي في أوقاته: " أرأيتم لو أنَّ نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمساً، ما تقول ذلك يبقى من درنه؟ ". قالوا: "لا يبقى من درنه شيئاً" قال: "فكذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا" 1. بل تتعدى الصلاة هذا المعنى لتكون تمهيداً للنفس وإعداداً لها لتتخلَّص من البخل والأنانية، فالصلاة2 وما فيها من إقرار لله بالربوبية*، وما تشتمل عليه من خضوع لله، وقيام وركوع وسجود. هي ترويض للنفس، وإذلال كبريائها، وجعلها طيعة لقبول الأوامر الإلهية والعمل بها. ومن هنا نلمح اقتران ذكر الصلاة بالزكاة في أكثر الآيات التي أمرت بالزكاة. ويأتي الأمر بالزكاة بعد الأمر بالصلاة، قال الله -تعالى-: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 3، {وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} 4، {وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ} 5. والصلاة بعد ذلك أقوالٌ وأفعالٌ مخصوصة، تصوم فيها نفس الإنسان وجوارحه عن جميع المخالفات التي تفسد تمامها وكمالها. ويتوجه المصلي في صلاته شطر المسجد الحرام، قال -تعالى-: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} 6. وهو في أداء هذا الركن من الصلاة بتوجهه إلى البيت، يشترك مع ركن الإسلام الحج من طرف.

_ 1 رواه البخاري 1/134 كتاب مواقيت الصلاة، باب الصلوات الخمس كفارة. 2 الصلاة عماد الدين، د. حسن الترابي ص 54 3 وردت عِدَّة مرات، منها سورة البقرة الآيات: 43، 83، 110، وغيرها. 4 البقرة: 277 5 الأحزاب: 33 * إنما خص الإقرار بالربوبية دون الألوهية لظهور الألوهية فيها. 6 البقرة: 144

8 - والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فهي تعالج النفس البشرية من نوازع الشر حتى تصفو من الرذائل، ويبتعد صاحبها عن كُلِّ منكر. قال -تعالى-: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} 1. 9 - وللصلاة آثارٌ تربوية، فهي تربي النفس على طاعة الخالق، وتعلِّم العبد آداب العبودية، وواجبات الربوبية، بما تغرسه في قلب صاحبها من قدرة الله وعظمته، وبطشه وشدته، ورحمته ومغفرته.. كما تحليه وتجمله بمكارم الأخلاق لسموها بنفسه عن صفات الخسة والدناءة، فإذا فتَّشْتَ عن آثار الصلاة فيه وجدته صادقاً أميناً متواضعاً عدلاً. ينأى عن الكذب والخيانة والطمع والغدر والكبر والظلم2. وعندما يتجه المصلون في أنحاء الدنيا إلى القبلة، يشعر المسلم بالتآلف والوحدة، ونبذ الفرقة. فكلُّ المسلمين عبيدٌ لله، إلههم واحد، وقبلتهم واحدة، ودينهم واحد. لا فرق بين غني وفقير، وعظيم وحقير. يتوخى المسلم الاستقامة في استقبال بيت الله، فلا يحيد ولا يميل، وبذلك يتربى على العدل في جميع أمور حياته، والحكمة بوضع كل شيىء موضعه. يعيش آلام إخوانه المسلمين جماعة المسجد وآمالهم، فيصبح عنصراً فعالاً في جماعته ومجتمعه، تعوِّده الصلاة على الدقة في الموعد، والحرص على الوقت. تنظم له أوقاته فيتعوَّد على النظام في جميع أموره، ويتبع الإمام، فيتدرَّب على الطاعة والالتزام3. 10 - والصلاة أهم ركن في الإسلام بعد الشهادتين، وأول ما يحاسب عليه العبد. ولهذا نجد القرآن الكريم يصور حال أهل النار عندما يُسْأَلُون عن

_ 1 العنكبوت: 45 2 الصلاة للطيار ص 24، والصلاة في القرآن ص 46 3 المرجع السابق.

سبب ما هم فيه من عذاب فيقولون: لم نكن من المصلين. قال -تعالى-: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ. قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} 1. فالصلاة أول عمل كفر به أولئك المكذبون. وأول ما يندمون على تضييعه يوم القيامة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإنْ صلحت صلح له سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله" 2. ولما للصلاة من الفضل العظيم بعد الشهادتين، كانت آخر وصية أوصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّته، فعن أم سلمة رضي الله عنها3 قالت: "كان من آخر وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم" 4. والصلاة آخر ما يفقد من الدين؛ فإذا ضاعت ضاع الدين كله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة" 5. لهذا ينبغي أن يفقه المسلم مكانة الصلاة في الإسلام، وأن يحرص على أدائها في أوقاتها. كاملةً أركانها وشروطها، وأن يقيمها كما أمر الله بها. وما ذُكِرَ من الأدلة على مكانة الصلاة، إنَّما هو بعض الأدلة، وإلاَّ فمكانة الصلاة في الإسلام لا يمكن الإحاطة بأدلتها ومواضع الاهتمام بها، وبيان آثارها ومزاياها. لأنَّها تشترك مع أصول الدين الإسلامي من حيث تبادل الأسماء، فتارة تطلق الصلاة على الدين، وتارة يطلق الدين على الصلاة، مِمَّا يؤكِّد التلاحم بينهما كأنَّهما شيء واحد.

_ 1 المدثر: 42 - 43 2 مجمع الزوائد: الهيثمي 1/291-292 3 أم سلمة هي: هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر المخزومية، أُم المؤمنين. تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أبي سلمة سنة أربع، وقيل: ثلاث. تقريب التهذيب ص 483 4 رواه أحمد 1/290، الإرواء 7/238 5 رواه مسلم 1/88 ح 82، والصلاة للطيار ص 26-27

المطلب الثالث: في المقصود بإقامة الصلاة على ضوء الآية الكريمة

المطلب الثالث: في المقصود بإقامة الصلاة على ضوء الآية الكريمة ... المطلب الثالث: في المقصود بإقام الصلاة على ضوء الآية الكريمة: قال الراغب الأصفهاني1 في مفرداته: "وإقامة الشيء توفيته حقه" ثُمَّ قال: "ولم يأمر الله تعالى بالصلاة حينما أمر، ولا مدح بها حينما مدح، إلاَّ بلفظ الإقامة تنبيهاً أنَّ المقصود منها توفية شرائطها لا الإتيان بهيئاتها"2. ومن هنا ندرك أنَّ إقامة الصلاة في القرآن أمر زائد على مجرَّد فعل الصلاة. فالصلاة هي حركة الأجساد الخاصة من قيام وقعود وركوع وسجود ودعاء وتسبيح وتكبير وتحميد ونحو ذلك. وبها يعتد في أحكام الدنيا. أمَّا تمامها الذي يحصل به الثواب فهو إقامتها بحضور القلب فيها. ومن هنا يحصل التفاوت بين المصلين مع أنَّ الحركات الظاهرة واحدة شكلاً وزمناً، لكنها تختلف وتتباين في حضور القلب والخشوع. فليس للعبد من صلاته إلاَّ ما عقل منها وحضر قلبه فيها. وهذا ما يؤكد أنَّ حضور القلب في الصلاة هو روحها ولبها، وبقدر حضور القلب فيها تكون إقامتها. فإذا تجرَّدت من حضور القلب لم تقترن في القرآن الكريم بلفظ الإقامة. وقد سبق أنَّ مِمَّا يدل على مكانة الصلاة كونها تأتي بعد الشهادتين. فهي الركن الثاني من أركان الإسلام - كما في الحديث: "بني الإسلام على خمس:

_ 1 هو: الحسين بن محمد بن الفضل - أو المفضل - من أهالي أصبهان، أديب لغوي، مفسر، توفي سنة 502 هـ. الأعلام 2/279، معجم المؤلفين 4/9، البلغة في علوم اللغة ص 153، مقدمة المفردات ص 3 2 المفردات للراغب الأصفهاني ص 429، الصلاة في القرآن ص 54

شهادة أن لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله لمن استطاع إليه سبيلاً" 1. والحكمة من ذلك كونها دليلاً على صحة الاعتقاد وسلامته، وبرهاناً على صدق ما وقر في القلب، وتصديقاً له. وسبق أيضاً أنَّ الصلاة تأتي بمعنى الإيمان، وخاصّةً في الآية التي هي موضوع البحث، وأنَّها تشتمل على الشهادتين في التشهد الأول والأخير، وتطلق على الإسلام، والدين - كما سبق - وأنَّها الفارق بين الإيمان والكفر. وأنَّها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتشتمل على جميع أركان الإسلام الخمسة بطريق التلازم. فإقامتها تعني توفية حقوق هذه المعاني - كما تعنى - أداءها كاملة بأقوالها وأفعالها، في أوقاتها المعينة لها شرعاً. فلو نقص المصلي شيئاً من ذلك لم يكن مقيماً لصلاته وإنْ أتى بهيئاتها الظاهرة. ومِمَّا يدل على ذلك وأنَّها تستلزم الإيمان والزكاة والدين كله: أنَّ الإيمان في الشرع قولٌ باللسان، واعتقادٌ بالجنان، وعملٌ بالأركان. وكذلك الصلاة أقوال واعتقاد وعمل بالأركان. وأمَّا استلزامها للزكاة فقد سبق بيانه، وأنَّ أداء الصلاة كاملة بحقوقها يستلزم أداء الزكاة ودفعها لمستحقيها. وأمَّا كونها تستلزم الدين كله، فلأمور منها: أولاً: أنَّها الفارق بين الكفر والشرك والإيمان: "بين الرجل والشرك والكفر ترك الصلاة" 2.

_ 1 سبق تخريجه ص 59 2 سبق تخريجه ص 56

ثانياً: مشروعيتها في جميع الشرائع - كما سبق - وهذا مِمَّا اتفقت عليه جميع الأديان، فهي بمعنى التوحيد، أو تتضمن معناه. فإقامتها تستلزم إقامة الدين كله، والنقص فيها نقص في الدين. ولَمَّا كان من لوازم إقامتها حضور القلب، والخشوع فيها، وهذا يتطلب أموراً يجب الإتيان بها، فإنَّ من تلك الأمور ما يأتي: الأمر الأول: تحقيق معنى التوحيد الذي دلَّت عليه الصلاة، وهو الهدف العام الذي سبقت الإشارة إليه في هذه الدعامة. الأمر الثاني: معرفة ما تتوقف عليه صحتها. وفيه النقاط التالية: 1 - تأديتها كاملة بأركانها وشروطها وواجباتها وسننها. 2 - إقامة الصلاة بالنهي عن تركها أو التساهل فيها. 3 - إقامة الصلاة بتعيين الأئمة العالمين بما تصح به إقامتها. 4 - إقامتها ببناء مواضعها والمحافظة عليها وتوفير كل ما يلزم لذلك من فرش وتنظيف وتهوية وإنارة وغير ذلك.

المبحث الثاني: في الدعامة الثانية (إيتاء الزكاة)

المبحث الثاني: في الدعامة الثانية (إيتاء الزكاة) المطلب الأول: ماهية الزكاة ... المبحث الثاني: في الدعامة الثانية (إيتاء الزكاة) : وفيه مطالب: الأول: في ماهية الزكاة. الثاني: في أهمية الزكاة. الثالث: في الحكمة من تشريع الزكاة على ضوء الآية الكريمة. المطلب الأول: في ماهية الزكاة: أ - الزكاة في اللغة: الزكاة في اللغة مشتركة بين الطهارة والنماء والبركة والمدح. قال -تعالى-: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا..} [التوبة: 103] ، وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9] ، أي طهرها من الآثام. وفي معنى النماء والبركة جاء قوله -تعالى-: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:39] . ويقال: زكا الزرع يزكو زكاةً إذا نما. وكل شيء ازداد فقد زكا وزكت النفقة إذا بورك فيها، وفلانٌ زاكٍ أي كثير الخير1. وبمعنى المدح جاء قوله -تعالى-: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ... } [النجم: 32] أي فلا تمدحوها على سبيل الفخر والإعجاب.

_ 1 الزكاة وتطبيقاتها للدكتور عبد الله بن محمد الطيار ص 12، لسان العرب 2/236

والزكاة - أيضاً - الصلاح، ومنه قوله -تعالى-: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} [الكهف: 81] . وتطلق الزكاة على معانٍ أخرى منها: النفقة، والعفو، والحق. وهذه المعاني تدور حول الزكاة بمعناها العام. وأمَّا إطلاقها بمعناها الخاص، فهي تأتي بمعنى إعطاء الصدقة. وتطلق على الصدقة نفسها واجبة أو مندوبة1. ب - وفي الشرع: حق واجب في مال مخصوص في وقت مخصوص لتحقيق رضى الرب تعالى. وتزكية النفس والمال والمجتمع2. وهذا التعريف - كما سيأتي - يتضمن أهم أهداف الزكاة. جـ – وإذا نظرنا إلى المعنى اللغوي للزكاة، والمعنى الشرعي لها، وجدنا المناسبة بينهما قوية الصلة موجودة، ذلك أنَّ معاني الزكاة في اللغة وهي: الطهارة، والنماء، والمدح، والصلاح، كلها موجودة في المعنى الشرعي، لأنَّها تطهر مؤديها من الذنوب، ومن صفة البخل، والمال بإنفاق بعضه وتنميته بالخلف، ويمدح بها الفاعل ويثنى عليه بالجميل. قال -تعالى-: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: 39] ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 4] .

_ 1 ينظر: لسان العرب 2/36، القاموس المحيط للفيروزآبادي 4/341، المعجم الوسيط 1/396 2 الزكاة وتطبيقاتها المعاصرة ص 12، شرح منهاج الطالبين لجلال الدين المحلى 2/368، المغني لابن قدامة 2/572

المطلب الثاني: في أهمية الزكاة

المطلب الثاني: في أهمية الزكاة: سبق أنَّ بَيْنَ الصلاة والزكاة تلازماً وثيقاً، حيث قرنت الزكاة بالصلاة في كثيرٍ من النصوص الشرعية، مِمَّا يدل على اتفاقهما وشدة اتحادهما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، حتى أصبحا كالشيىء الواحد الذي لا ينفك بعضه عن بعض، وذلك لاتحاد هذين الركنين العظيمين من أركان الإسلام، في الأهداف والغايات السامية التي جمعت بينهما. وقبل أن نبين أهمية الزكاة ومكانتها في الإسلام، لابُدَّ أن نشير إلى أنَّ الإنسان قد عرف الفقر والحرمان منذ زمن بعيد1. وذلك لحكمة يعلمها الله تعالى، حيث لم يسوِّ بين خلقه في الرزق، فهناك الغني والفقير، ولم يفلح الداعون لعلاج هذه المشكلة في مختلف العصور لانتشال الفقراء من وضعهم، كما لم يفلحوا في كسب عطف الأغنياء وبذلهم على الفقراء بدون مَنٍّ أو فضل. وبالرجوع إلى القرآن وحديثه عن الشرائع السابقة على الإسلام، نجد أنَّها دعت إلى البر بالفقراء، والعطف على الضعفاء، والإحسان إليهم والأخذ بأيديهم2. قال تعالى في شأن إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 73] . وقال عن إسماعيل عليه السلام: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً. وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} [مريم: 54-55] .

_ 1 الزكاة للطيار ص 12 2 الزكاة وتطبيقاتها المعاصرة للطيار ص 14

وقال عن ميثاق بني إسرائيل: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} [البقرة: 83] . وقال في شأن أهل الكتاب عامَّة1: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة} [البينة: 5] . وبالنظر في هذه الآيات التي تتحدث عن عناية الشرائع السابقة في علاجها لمشكلة الفقر، ومكانة الزكاة في تلك الشرائع - كوسيلة من وسائل العلاج الناجع - يظهر لنا عدة أمور: الأمر الأول: أنَّ الآيات السابقة لا تعدو أن تكون ترغيباً في الإحسان والعطف، وترهيباً من الأنانية والبخل، ودعوة صريحة إلى التصدق عن طواعية واختيار، وليس فيها إلزام بحيث يشعر التارك للزكاة بأنَّه محاسب ومعاقب في الدنيا والآخرة. الأمر الثاني: لم تحدد النصوص الأموال التي تجب فيها الزكاة، ولا شروط الزكاة، ولا مَنْ تُدفع إليه الزكاة، بل أبهمت ذلك كله مِمَّا يتعذَّر معه جباية الزكاة وتوزيعها. الأمر الثالث: وكلت النصوص السابقة موضوع الزكاة إلى الأفراد، ولم تلزم الدولة بجبايتها وتوزيعها على مستحقيها. الأمر الرابع: لا يفهم من النصوص السابقة حل مشكلة الفقر حلاًّ جذرياً والقضاء عليه والأخذ بيد الضعفاء والمحتاجين إلى حد الاكتفاء، بحيث لا يمدون يد الحاجة إلى الأغنياء، بل يفهم منها التخفيف من ويلات الفقراء والتقليل من بؤسهم مع بقاء المشكلة.

_ 1 تفسير ابن كثير 4/537، 538.

وهذا يعني بقاء الضعفاء والمحتاجين تحت رحمة الأغنياء ومِنَّتهم - إذا حرَّكهم حب الله والآخرة أو الثناء الدنيوي جادوا بشيءٍ ولو قليل - على ذوي الحاجة والفقر، فهم أصحاب الفضل والمِنَّة. وإذا غلب عليهم الشح وحب المال - ضاع الفقراء وافترستهم الفاقة - ولم يجدوا من يدافع عنهم أو يطلب لهم حقّاً. إذ لم يكن لهم حق معلوم، وهذا هو خطر الإحسان الموكول إلى الأفراد1.* فلمَّا جاءت الرسالة الخاتمة، والرحمة العامَّة، والهداية التامَّة، على يد محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، اعتنت بعلاج مشكلة الفقر، ورعاية الفقراء والمحتاجين، ولم تكتف بسد عوزهم وانتشالهم من فقرهم، بل قرنت ذلك تماماً بالتربية والتوجيه والتأكيد على أنَّ ما يدفعه الغني حق واجب عليه، وما يأخذه الفقير ملك له ليس عليه فيه غضاضة. وبهذه المبادئ السامية، قضى الإسلام على مشكلة الفقر، وأراح الفقراء وأخذ بأيديهم لِمَا فيه خيرهم في عاجلهم وآجل أمرهم. وهذا ما سوف يتَّضِح إن شاء الله تعالى من الأهداف التي شُرِعَت من أجلها الزكاة في الإسلام. أهداف الزكاة: للزكاة أهداف إنسانية جليلة، ومُثُل أخلاقية رفيعة، وقِيَم روحية عالية. وكلها قصد الإسلام إلى تحقيقها وتثبيتها حين فرض الزكاة، قال -تعالى-: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] .

_ 1 فقه الزكاة 1/52، الزكاة للطيار ص 16- 17.* ولا يفهم مما سبق أن ذلك حال المسلمين في الشريعة المحمدية. بل ذلك مفروض في الشرائع التي ترك أمر إخراج الزكاة فيها إلى صاحب المال: لأن الفقر والغنى في الإسلام كله بمشيئة الله تعالى وله فيه حكم لا يمكن الإحاطة بها.

وحين طبَّق المسلمون فريضة الزكاة -في عصورهم الزاهية- كما شرعها الله، تحققت أهدافها الجليلة، وبرزت آثارها العظيمة في حياة الفرد والمجتمع، ومن أبرز تلك الأهداف ما يلي: 1 - الزكاة عبادة مالية: لأنَّ أداءها استجابة لأمر الله ووفاءً بعهده، يرجو فاعلها حسن الجزاء في الآخرة ونماء المال والبركة فيه في الدنيا. 2 - في الزكاة طهارة من البخل والشح والطمع: والإسلام يقدر غريزة حب المال، ويقرر أن الشح حاضر في النفس الإنسانية، فيعالج ذلك كله علاجاً نفسياً بالترغيب والترهيب، حتى يتم له ما يريد، فيطلب من هذه النفس الشحيحة أن تجود بما هو حبيب إليها، عزيز عليها. {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] . 3 - في الزكاة إعانة للضعفاء وكفاية لأصحاب الحاجة1: والمسلم عندما يدفع زكاة ماله يشعر بمسئوليته عن مجتمعه وعن تكافله مع المحتاجين فيه، فتغمره السعادة عندما يؤدي الأمانة ويأخذ بيد أخيه المعدم، ويرتفع به من ويلاتٍ حلَّت به فأفقرته وهو في هذا كله يستشعر قوله -تعالى-: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 24-25] . 4 - الزكاة تنمي الروح الاجتماعية بين أفراد المجتمع: لأنَّ المسلم حين يدفع الزكاة يشعر بعضويته الكاملة في الجماعة، فهو يشترك في واجباتها وينهض بأعبائها، فيتحول المجتمع إلى أسرةٍ واحدة يسودها

_ 1 الزكاة للطيار ص24

التعاون والتكامل والتواد، ويتحقق فيها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" 1. والزكاة تعبير عملي عن أخوة الإسلام، وتطبيق واقعي لأخلاق المسلم من جانب المزكي، وهي - أيضاً - تجعل الفقير يعيش في المجتمع المسلم خالية نفسه من أي حقد أو حسد، ذلك لأنَّ حقه محفوظ في مال الغني، فنجده يحبه ويدعو له بالبركة وكثرة المال، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً"2. 5 - الزكاة امتحان للعبد من الله: لأنَّ أداءها فيه امتحان لإيمان العبد بربه، وذلك لأنَّ المال محبوب لكل الناس، ودليل الإيمان الصادق مفارقة المحبوب والجود به "وشرط تمام الوفاء بالتوحيد أن لا يبقى للموحِّد محبوبٌ سوى الواحد الفرد الصمد، فإنَّ المحبة لا تقبل الشركة، والتوحيد باللسان قليل الجدوى، وإنَّ مِمَّا يمتحن به درجة الحب مفارقة المحبوب، والأموال محبوبة عند الناس؛ لأنَّها آلة تمتعهم بالدنيا، وبسببها يأنسون بهذا العالم، وينفرون عن الموت مع أنَّ فيه لقاء المحبوب، فامتحنوا بتصديق دعواهم في المحبوب، واستنزلوا عن المال الذي هو مرغوبهم"3. 6 - الزكاة تكفر الذنوب وتدفع البلاء: وتقع فداء عن المزكي وجالبة له الرحمة من الله تعالى، قال -تعالى-: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ..} [الأعراف: 156] .

_ 1 رواه البخاري ومسلم. صحيح البخاري 8/11، صحيح مسلم 8/20. 2 المصدر السابق، الجزء والصفحة. 3 موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين، لجمال الدين القاسمي 1/47

هذه بعض أهداف الزكاة مختصرة، ولها أهداف كثيرة ماثلة للعيان في كل مجتمع تؤدَّى فيه فريضة الزكاة، وينعم فيه الفقير بأخذ حقه من مال الغني. وهي أهداف روحية وخلقية ومعنوية للفرد والجماعة. وفيها أهداف اجتماعية واقتصادية كثيرة للمجتمع المسلم بأسره1.

_ 1 فقه الزكاة للقرضاوي 2/851، الزكاة لمحي الدين مستو ص 47، الزكاة للطيار ص 23-27

المطلب الثالث: في الحكمة من تشريع الزكاة على ضوء الآية الكريمة

المطلب الثالث: في الحكمة من تشريع الزكاة على ضوء الآية الكريمة: سبق بعض أهداف الزكاة في الإسلام، وهي سر من أسرار تشريعها، وغاية سامية مقصودة من فرضيتها. فالله جلَّ وعلا فرض الزكاة؛ لأنَّها تطهر المزكي من الشح والبخل وأرجاس الذنوب والخطايا، وتدرب المسلم على البذل والإنفاق في سبيل الله. ولأنَّ في أدائها شكراً لله على ما أسبغ من نعمه الظاهرة والباطنة، ولأنَّها تنمي شخصية الغني، وذلك باستشعاره أنَّه تغلب على شحه وهواه، كما أنَّها تكوِّن بين الغني والفقير حقيقة المحبة والأخوة الإسلامية، وتربط بين أفراد المجتمع بوشائج الصلة والقربى والتكامل1. وبهذا يتضح أنَّ هناك أسراراً عظيمة يرمي إليها الإسلام من وراء تشريعه للزكاة، ولعلَّ من أبلغ وأسمى الأهداف التي تتحقق من أداء الزكاة أنَّ المسلم لا يقتصر نفعه على نفسه وحسب، بل إنَّه مطالب بحكم الشرع أن يمد يد العون إلى أخيه المسلم؛ لأنَّ إيمانه لا يكمل وعقيدته لا تتم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" 2. ولأنَّه قد سبق أنَّ الحقَّ لا يكفيه كونه حقّاً فقط، بل لابُدَّ له من دافع ومدافع تحقيقاً لقوله –تعالى-: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُه} [الحج: 40] ،

_ 1 الزكاة وتطبيقاتها المعاصرة ص 29 2 متفق عليه. رواه البخاري ومسلم (كتاب الإيمان) . ورواه الإمام أحمد في مواضع منها 3/176-177

وقوله -تعالى-: {وَالْعَصْرِ. إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3] . ومن يتتبع آيات القرآن الكريم يجد أنَّ الزكاة قُرِنَت بالصلاة في ثمانيةٍ وعشرين موضعاً1، وهذا دليل على كمال الاتصال بينهما. ثُمَّ إنَّ ذكر الصلاة في كثيرٍ من الآيات يجيء مقروناً بالإيمان أولاً، وبالزكاة ثانياً، وقد يقرن الثلاثة بالعمل الصالح. وهو ترتيب منطقي، فالإيمان أساس وهو عمل القلب*، والعمل الصالح من حيث الجملة دليل صدق الإيمان، وهو عمل الحس، وأول عمل يطالب به المؤمن الصلاة، وهي عبادة بدنية، ثُمَّ الزكاة وهي عبادة مالية. ومِمَّا يدل على تلازم الزكاة والصلاة أنَّه لَمَّا توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفر مَنْ كفر من العرب بمنع الزكاة، استشار أبو بكر2 رضي الله عنه الصحابةَ رضي الله عنهم، في قتالهم. فقال عمر3 رضي الله عنه: "كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُمِرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أنَّه لا إله إلاَّ الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلاَّ بحقه، وحسابه على الله؟! " فقال أبو بكر رضي الله عنه: "والله

_ 1 الزكاة وتطبيقاتها المعاصرة ص 34، تيسير فقه فريضة الزكاة للميداني ص7. 2 هو: عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن مرة التيمي، أبو بكر بن قحافة (الصديق) ، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مناقبه كثيرة، مات في جمادى الأولى سنة 13هـ وعمره ثلاث وستون سنة، ومدة خلافته سنتان وشهر. تقريب التهذيب ص181، شذرات الذهب 1/24 * ليس المراد تعريف الإيمان عند السلف. وإنما المراد ترتيب الأهم فالمهم فإن الإيمان قد يوجد بدون العمل، ويعتد به، ولا يعتد بالعمل دون الإيمان. 3 هو: عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى العدوي. لُقِّبَ بالفاروق، وبأمير المؤمنين. وهو ثاني الخلفاء الراشدين. ومناقبه جمة مشهورة، استشهد في ذي الحجة سنة 23 هـ، ومدة خلافته عشر سنوات ونصف. تقريب التهذيب ص 53، شذرات الذهب 1/33، الإصابة 2/588

لأقاتلن مَنْ فَرَّق بين الصلاة والزكاة، فإنَّ الزكاة حق المال. والله لو منعوني عَناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه". قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "فوالله ما هو إلاَّ أنْ قد شرح الله صدر أبي بكر، فعرفت أنَّه الحق"1. فهذه النصوص وغيرها كثير تدل دلالة قاطعة على أنَّ الزكاة أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام، الذي لا يتم إسلام إلاَّ بأدائها. فإنْ أدَّاها عن طواعية واختيار فبها، وإلاَّ وجب على ولي الأمر أخذها منه وإيصالها إلى مستحقيها، وتأديب مانعها بما يراه مناسباً2. وهذا مِمَّا تفارق به مشروعية الزكاة في الإسلام غيرها من الشرائع، إذ سبق أنَّه لا إلزام في الشرائع السابقة على أداء الزكاة، ولذلك لم تحل مشكلة الفقراء، أمَّا في الرسالة التي اختارها الله خاتمةً للشرائع، فإنَّ الزكاة حين طبقت في العصور الإسلامية السالفة3 لم يبق فقير تصرف إليه الزكاة. وكان الساعي يدور بها فلم يجد من يأخذها، فحُلَّت مشكلة الفقراء، وقام التكافل الاجتماعي، ونُزِعَ من القلوب حقد الفقراء على الأغنياء، وقلَّت الجرائم؛ فلا سرقة، ولا غصب، ولا اختلاس، ولا نهب؛ بل أمن واستقرار ومحبة وإخاء، ومجتمع يسود فيه مبدأ التعاون والتعاطف، فهل يعي المسلمون ذلك ويسارعون إلى تطبيق شرع الله في كل شئونهم؟ ‍ ومن ذلك شريعة الزكاة لينعموا بالحياة الآمنة والثواب الجزيل من رب العالمين. ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} 4 [الحج: 41] .

_ 1 رواه البخاري 2/91 2 الزكاة للطيار ص 36 3 ملامح الانقلاب الإسلامي في سيرة عمر بن عبد العزيز، للدكتور عماد الدين خليل ص140، الزكاة للطيار ص 51 4 المرجعان السابقان.

وقد سبق أنَّ إقامة الصلاة وهي الدعامة الأولى، تعني فيما تعنيه توفية الإسلام، أو الإيمان، أو الدين، حقه كاملاً. وعطف عليها في الآية الأمر بإيتاء الزكاة، وهو داخل فيما سبق، فهل ذلك تكرار، أو لأنَّ الأمر بإيتاء الزكاة يعني شيئاً آخر لم يسبق التعرض لحكمه؟ إنَّ الذي يبدو من الآية وهي ترسم الإطار العام أن يدل العطف فيها على معنى جديد، وهو أنَّ مَنْ مكَّنه الله في الأرض يجب عليه أن لا يقتصر نفعه على نفسه وحسب. بل يجب عليه أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه؛ لأنَّ إيمانه لا يتم ولا يكمل إلاَّ بذلك. وقد سبق أنَّ الحق لا يكفيه كونه حقّاً فقط1، بل لابُدَّ له من دافع ومدافع، كما قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40] . وهذا لا يعني أنَّ الآية لا يجوز حملها على المعنى الخاص، وهو دفع الزكاة الخاصة إلى مستحقيها - كما سبق - إلاَّ أنَّ الهدف العام الذي ترمي إليه الآية الكريمة، وهو تكاتف المجتمع المسلم، وتواصي أفراده على فعل الخيرات، والاعتصام بحبل الله، وعدم التفرق، والالتفاف حول المنهج، وتنفيذ أحكامه، يجعل حمل الآية على المعنى الأول أولى، والله تعالى أعلم. والسبب في ذلك أنَّ الآية الكريمة تركز على أهداف وأسس سامية منها: 1 - وجوب تطبيق المنهج (الذي تُعَبِّرُ عنه الدعامة الأولى) (إقام الصلاة) (توفية الإسلام، أو الإيمان، أو الدين، حقه كاملاً) على من مكنه الله في الأرض، وحصلت له الولاية على الخلق.

_ 1 انظر ص 45 من البحث.

2 - وجوب الالتفاف حول ذلك المنهج والتكاتف على تطبيقه، لا على النفس فقط، بل على جميع أفراد المجتمع المسلم التعاون على ذلك وتطبيقه في أنفسهم وعلى غيرهم؛ لأنَّ الله -تعالى- تفضَّل به عليهم فأصبحوا بسببه كالجسد الواحد، قال -تعالى- {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران: 103] . وتحقيقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة" - قالها ثلاثاً - قلنا: "لمن يا رسول الله؟ " قال: "لله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامَّتهم" 1. ولقوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم ... " *. الأمر الثالث: الذي تركز عليه الآية - كما سيأتي - عالمية المنهج ووجوب المحافظة عليه بما يجعله سالماً معافى، والدعوة إلى نشره، والدخول تحت لوائه ومظلته - بحسب الاستطاعة – "بلِّغوا عني ولو آية" 2. و" مَنْ رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان "3.

_ 1 رواه مسلم في كتاب الإيمان 23، باب بيان أنَّ الدين النصيحة، حديث (55) ، وأبو داود، أدب، حديث (4944) ، وأحمد (4/102-103) . * رواه الإمام أحمد من حديث جبير بن مطعم عن أبيه 4،80،83،والترمذي كتاب العلم باب ما جاء في تبليغ العلم حديث رقم 2656. 2 رواه مسلم، كتاب الأنبياء (50) ، وأحمد 3/159، 302، 314، والترمذي كتاب العلم 13 من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بلغوا عني ولو آية وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج". 3 أخرجه الإمام مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان (1/69 رقم 46) ، وأبو داود، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، رقم (4340) .

المبحث الثالث: في الدعامة الثالثة والرابعة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)

المبحث الثالث: في الدعامة الثالثة والرابعة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) المطلب الأول: في ماهيتهما ... المبحث الثالث: في الدعامة الثالثة والرابعة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) : وفيه مطالب: الأول: في ماهيتهما. الثاني: في أهميتهما. الثالث: في الحكمة من مشروعيتهما على ضوء الآية الكريمة. المطلب الأول: في ماهية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أ - تعريف المعروف في اللغة والاصطلاح: 1 - المعنى اللغوي: يدور معنى المعروف في اللغة غالباً على ما تعارف عليه الناس وعلموه ولم ينكروه1. وقال ابن فارس: "العين والراء والفاء أصل صحيح يدل على معانٍ منها: السكون، والطمأنينة إلى الشيء، يقال: هذا أمر معروف، أي أنَّ النفس تألفه وتسكن إليه"2. وجاء في المعجم الوسيط: العرف، المعروف وهو خلاف المنكر. وما تعارف عليه الناس في عاداتهم ومعاملاتهم3.

_ 1 القول البين الأظهر في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص8 والقاموس المحيط 3/251-252 2 معجم مقاييس اللغة لابن فارس 4/281 3 المعجم الوسيط، لإبراهيم مصطفى وآخرين 2/601

2 - وفي الاصطلاح: المعروف هو كل ما يعرفه الشرع ويأمر به ويمدحه ويثني على أهله، ويدخل في ذلك: جميع الطاعات، وفي مقدمتها توحيد الله عزَّ وجلَّ والإيمان به1. ب - معنى المنكر لغةً واصطلاحاً: 1 - تدور مادة المنكر في اللغة غالباً على ما جهله الناس واستنكروه وجحدوه2. جاء في القاموس المحيط وغيره: النكر بالضم، وبضمتين المنكر - النكراء، والأمر الشديد، والنكرة خلاف المعرفة، وتناكر تجاهل، والقوم تعادوا، ونكر فلان الأمرَ وتناكره، نكراً ونكوراً جهله، والمنكر ضد المعروف، ويقال: نكر الشيىء وأنكره: لم يقبله ولم يعترف به لسانه3. 2 - والمنكر في الاصطلاح: هو كل ما ينكره الشرع وينهى عنه ويذمه ويذم أهله. ويدخل في ذلك جميع المعاصي والبدع، وفي مقدمتها: الشرك بالله عزَّ وجلَّ، وإنكار وحدانيته، أو ربوبيته، أو أسمائه، أو صفاته4. والمنكر هو كل فعل تحكم العقول الصحيحة بقبحه، أو تتوقف في استباحته واستحسانه العقول، فتحكم الشريعة بقبحه5. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وإذا كان جماع الدين وجميع الولايات هو أمر ونهي، فالأمر الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم هو الأمر بالمعروف والنهي الذي بعثه به هو النهي عن المنكر"6.

_ 1 القول البين الأظهر ص 10، والتعريفات ص 275 2 القول البين الأظهر في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص8 3 القاموس المحيط للفيروزآبادي 2/208، معجم مقاييس اللغة 4/281 4 القول البين الأظهر ص 10، التعريفات للجرجاني ص 290، من فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمحمد عبد الله الخطيب ص 13، حقيقة الأمر بالمعروف ص12 5 المفردات للراغب ص 505 6 مجموع الفتاوى لابن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم 28/65، 28/122، وتفسير ابن سعدي 2/77

وقال أيضاً: "وتحريم الخبائث مِمَّا يندرج في معنى النهي عن المنكر، كما أنَّ إحلال الطيبات يندرج في الأمر بالمعروف؛ لأنَّ تحريم الطيبات مِمَّا نهى الله عنه"1. وإذا أطلق الأمر بالمعروف يدخل فيه النهي عن المنكر، وذلك لأنَّ ترك المنهيات من المعروف، ولأنَّه لا يتم فعل الخير إلاَّ بترك الشر. قال -تعالى-: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاس} [النساء:114] . وكذلك إذا أطلق النهي عن المنكر يدخل فيه الأمر بالمعروف؛ لأنَّ ترك المعروف من المنكر، ولأنَّه لا يتم ترك الشر إلاَّ بفعل الخير. -قال تعالى-: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} [الأعراف: 165] . فإنَّ نهيهم عن السوء يتضمن أمرهم بالخير. وأمَّا عند اقتران كل منهما بالآخر، فيفسر المعروف بفعل الأوامر، ويفسر المنكر بترك النواهي. وأمثلة ذلك كثيرة منها، قوله -تعالى-: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71] . ولعموم موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمكن القول: أنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يدخل تحتهما الدين كله؛ فكل ما أوجبت الشريعة عمله أو حببت للناس فعله من صلاة وصيام، وحج، وتوحيد، وغير ذلك، فهو معروف، وكل ما خالف الشريعة من أفعال وعقائد فهو منكر، فيدخل تحته النهي عن التثليث، والقول بصلب المسيح وقتله عليه السلام، ويدخل أيضاً فيه النهي عن الترهُّب وعن شرب الخمر وعن أكل لحم الخنزير، وغير ذلك مِمَّا تخالف فيه الشريعة الشرائع السابقة2.

_ 1 المرجعان السابقان. 2 انظر: التشريع الجنائي في الإسلام 1/497، الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه ص46

المطلب الثاني: أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

المطلب الثاني: أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، أصل عظيم من آكد الأصول الإسلامية وأوجبها وألزمها. حتى ألحقه بعض العلماء بالأركان التي لا يقوم بناء الإسلام إلاَّ عليها. وإنَّما أُرْسِلَت الرسل وأُنْزِلَت الكتب للأمر بالمعروف الذي رأسه وأصله التوحيد، وللنهي عن المنكر الذي رأسه وأصله الشرك والعمل لغير الله. وشرع الجهاد لأجل ذلك، وإن كان الجهاد قدراً زائداً على مجرد الأمر والنهي. إذ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، يتوقف قيام الدين، فلولاه ما قام الإسلام، ولا ظهر دين الله، ولا علت كلمته. ويتوقف - أيضاً - قيام الدولة الإسلامية واستقامتها وصلاحها على القيام به. كما أنَّ صلاح العباد متوقف على القيام به1. وبيان ذلك: أنَّ جماع الدين وجميع الولايات هو أمر ونهي، والأمر الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم هو الأمر بالمعروف. والنهي الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم هو النهي عن المنكر. وبهذا نعت الله تعالى النبيَّ والمؤمنين فقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَه} [التوبة: 71] . وجميع الولايات الإسلامية، كولاية الحكم، وولاية الحرب، وولاية المال، وولاية الحسبة، وغيرها، إنَّما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر2.

_ 1 القول البين الأظهر في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص12-13 2 المرجع السابق ص 13

وولي الأمر إنَّما نُصِّبَ ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهذا هو مقصود الولاية. بل إنَّ صلاح العباد جميعهم يكون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ إذ أنَّ صلاح العباد في معاشهم ومعادهم في طاعة الله ورسوله، ولا يتم ذلك إلاَّ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وبه صارت هذه الأُمَّة خير أمَّةٍ أُخرجَت للناس، كما قال -تعالى-: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه} [آل عمران: 110] . ومما يدل على عظم شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تقديمه على الإيمان الذي هو أصل العقيدة ولا يتقدمه شيىء، لكن في هذه الآية قُدِّمَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان. ولا نعلم السر في هذا التقديم إلاَّ عِظَم شأن هذا الواجب، وما يترتب عليه من المصالح العظيمة العامَّة، ولعلَّ التلازم بين الإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الذي سوغ هذا التقديم1. فالأمر والنهي لا يكونان إلاَّ حيث يكون الإيمان، وليس الإيمان إلاَّ عقيدةً وسلوكاً في بضعٍ وسبعين شعبة من أخلاق الإسلام، كلها تعمل في سبيل إرساء قواعد أمَّة الإسلام على أسس من الأصالة والثبات والحياة السعيدة؛ لأنَّ هذه الشعب الإيمانية تشمل كل النشاطات الإنسانية من جهة العقيدة، ومن جهة الذات، ومن جهة ارتباط الإنسان بالإنسان، والتزامه بغيره. والأمَّة التي تسودها شعب الإيمان تهب إلى الأمر بها، والنهي عمَّا يضادها، حرصاً على مميزان أخلاق الإيمان وأثرها في سعادة الإنسان، وفي قوة الأُمَّة

_ 1 وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ص 6

كلها. ومن هنا لا يوجد إيمان إلاَّ كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لازماً له، وخاصّةً من خواصّه لا ينفك عنه1. وقد اتفقت الأُمَّة الإسلامية على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يخالف في ذلك إلاَّ مَنْ شَذَّ2. كما اعتبره الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه شرطاً رئيساً في الانتماء إلى صفوف هذه الأُمَّة، فقد قرأ قول الله -تعالى-: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 3. ثُمَّ قال: "أيها الناس! مَنْ سرَّه أن يكون من تلك الأُمَّة فليؤدّ شرط الله فيها"4. - وقد أكَّد الله فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كتابه العزيز، وبيَّنه الرسول صلى الله عليه وسلم في أخبارٍ متواترة، وأجمع سلف الأُمَّة وفقهاء الأمصار - رحمهم الله - على وجوبه5. وقال الغزالي6: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين"7.

_ 1 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأبي بكر أحمد بن محمد الخلال ص 42 دراسة وتحقيق عبد القادر أحمد عطا. 2 الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم، تحقيق د. محمد نصر، ود. عبد الرحمن عميرة. 3 آل عمران: 110 4 فتح القدير للشوكاني، تحقيق د. عبد الرحمن عميرة 1/453، جامع البيان للطبري 4/43 5 أحكام القرآن للجصاص 2/486، مناهج العلماء في الأمر بالمعروف ص 54 6 هو محمد بن محمد بن محمد الغزالي، حجة الإسلام، أصولي، فقيه، فيلسوف، متصوف، وُلِدَ عام 450هـ، وتوفي سنة 505هـ. طبقات السبكي 6/191، تبيين كذب المفتري ص 291 7 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للغزالي، تحقيق سيد إبراهيم ص 5

وقال النووي1: "قد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتاب والسُنَّة وإجماع الأُمَّة، وهو أيضاً من النصيحة التي هي من الدين"2. وقال الشوكاني3: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم واجبات الشريعة المطهرة، وأصل عظيم من أصولها، وركن مشيد من أركانها، وبه يكمل نظامها ويرتفع سنامها"4. وهذا غيض من فيض من الأمور التي تدل على أهمية هذه الدعامة من دعائم الإسلام ومبانيه العظام5. وسيأتي بعض حكمه وأسراره في المطلب الثالث إن شاء الله تعالى.

_ 1 هو الإمام محي الدين أبو زكريا يحي بن شرف بن مُرِّي النووي الدمشقي، عالم مشهور، اعتنى بالحديث والفقه، شَرَحَ صحيح مسلم. وُلِدَ عام 631 وتوفي سنة 676هـ. المنهج السوي للسيوطي ص 25-26، البداية والنهاية 13/294، طبقات الشافعية 8/395-397 2 شرح النووي على صحيح مسلم 2/22 3 هو: أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد الشوكاني الخولاني، ثُمَّ الصنعاني، عالم بالحديث والتفسير والأصول. وُلِدَ ونشأ في صنعاء، وبها توفي سنة 1250هـ. من مؤلَّفاته: فتح القدير في التفسير، وإرشاد الفحول في الأصول وغيرهما. أبجد العلوم 3/201، الأعلام 6/298، معجم المؤلفين 11/53 4 فتح القدير للشوكاني، تحقيق د. عبد الرحمن عميرة 1/450 5 حقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأركانه ومجالاته ص 40

المطلب الثالث: في الحكمة من مشروعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ضوء الآية الكريمة

المطلب الثالث: في الحكمة من مشروعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ضوء الآية الكريمة: سبق في الكلام على الدعامة الأولى (إقام الصلاة) أنَّ معنى الآية والهدف العام منها هو توفية الإسلام أو الإيمان أو الدين حقه من الأقوال والاعتقادات والأعمال على مَنْ مكَّنه الله في الأرض. وهذه هي القاعدة الأولى في حياة الأمة، وهي تقوى الله، والالتزام بشريعته ومنهجه الذي رضيه، وما رضيه الله لها ديناً فلن يسخط عليه. كما مرَّ في الدعامة الثانية (إيتاء الزكاة) أنَّ الهدف العام منها هو أن لا يقتصر نفع المؤمن على نفسه، بل إنَّه مطالب أن يمد يد العون إلى أخيه المسلم؛ لأنَّ إيمانه لا يكمل إلاَّ بذلك، وأنَّ التفاف الأمة حول المنهج والتعاون على الخير وتحقيق معنى الأخوة الإسلامية والاعتصام بالكتاب والسُنَّة وعدم التفرق - حتى يصبح المجتمع المسلم كالجسد الواحد، وكالبنيان يشد بعضه بعضاً، وتنعدم فيه الأنانية والبغضاء - هو من أهداف القاعدة الثانية أيضاً. ثُمَّ تأتي القاعدة الثالثة والرابعة [الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر] وهي صمام الأمان لسلامة الأمة المسلمة واستمرار صلاحها. فالحكمة من مشروعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ضوء الآية الكريمة حينئذٍ أنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الحارس الأمين الدائم الذي يراقب المجتمع المسلم. فيسد نوافذ الشر والبدع - حتى لا تصل إلى ذلك التجمع الذي مكنه الله في الأرض وأسبغ عليه نعمه وأنقذه من هوة الشرك إلى نور الإسلام. ومن الاضطراب والفرقة إلى التماسك والوئام والمحبة في الله ومن أجل الله.

ولك أن تتصور - أخي الكريم - مجتمعاً - توافرت فيه هذه الأُسس: القيام بتوفية الدين حقه من الأقوال والأعمال والاعتقادات، وتواصي أهله بإيصال كل حق إلى مَنْ يستحقه. ولم يقتصر نفع أفراده على أنفسهم وحسب، بل أحب كل فرد فيه لأخيه ما يحبه لنفسه، وتلاشت بينهم الفروق التي تُسَبِّب العداوة والافتراق، وحلَّت بدلها الألفة والوئام، وأخوة الإسلام. ثُمَّ جاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كالسياج الواقي من الأشرار، والدرع الحامي من الأخطار، والمعلم الدائم الاستمرار، الحاث على خير الأعمال، الناهي عن قبح القول والأعمال، فهل ترى أخي القارئ لذلك المجتمع من مثال؟ أو تتوقع أين يوجد ما هو أفضل منه مِمَّن يستحق الوعد بالنصر والتمكين على الأعداء؟! كلا. لقول الله -تعالى-: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُِمُورِ} . وقوله جلَّ وعلا: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} .

الفصل الثالث: في اهتمام ولاة الأمر في المملكة العربية السعودية بدعائم التمكين والأسس وتطبيقها على أنفسهم ورعيتهم

الفصل الثالث: في اهتمام ولاة الأمر في المملكة العربية السعودية بدعائم التمكين والأسس وتطبيقها على أنفسهم ورعيتهم مدخل مدخل ... الفصل الثالث: في اهتمام ولاة الأمر في المملكة العربية السعودية بدعائم التمكين والأسس وتطبيقها على أنفسهم ورعيتهم وفيه مباحث: الأول: في اهتمام المؤسس الأول الملك عبد العزيز بتلك الدعائم. الثاني: في جهود أبنائه من بعده في ترسيخ وتطبيق تلك الدعائم. الثالث: في ثمرات تطبيق تلك الدعائم.

المبحث الأول: في اهتمام المؤسس الأول الملك عبد العزيز بتلك الدعائم

المبحث الأول: في اهتمام المؤسس الأول الملك عبد العزيز بتلك الدعائم مدخل ... المبحث الأول: في اهتمام المؤسس الأول الملك عبد العزيز بتلك الدعائم: وفيه تمهيد وأربعة مطالب: التمهيد: في ترجمة الملك عبد العزيز ونشأته وأهم صفاته. المطلب الأول: في تقرير الملك عبد العزيز للهدف العام من الدعامة الأولى وهو العقيدة. المطلب الثاني: عناية الملك عبد العزيز بالهدف الخاص وهو (إقامة الصلاة) . المطلب الثالث: اهتمام الملك عبد العزيز بالدعامة الثانية (إيتاء الزكاة) وفيه مسألتان: الأولى: اهتمامه بالهدف العام لهذه الدعامة وهو (تحقيق الأخوة الإسلامية) . الثانية: اهتمامه بالهدف الخاص وهو (إيتاء الزكاة لمستحقيها) . المطلب الرابع: اهتمام الملك عبد العزيز بالدعامتين الثالثة والرابعة: (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) .

تمهيد

تمهيد: وُلِدَ الملك الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود - رحمه الله تعالى - في قَصْر الإمارة في مدينة الرياض في اليوم التاسع عشر من ذي الحجة سنة 1293هـ، وقيل: سنة 1297هـ، ونشأ في أسرة آل سعود التي عُرِفَت منذ نشأتها بالتمسك بالإيمان العميق، والتحلِّي بالتوحيد الخالص، والتمسك بكتاب الله وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد اهتم الإمام عبد الرحمن بن فيصل آل سعود بتربية ابنه عبد العزيز تربية دينية مشتملة على دراسة القرآن الكريم والعلوم الشرعية إلى جانب تطبيق هذه التعاليم تطبيقاً عملياً. وقد عوَّده أبوه أن يستيقظ قبل الفجر، وبدأ يصوم وهو في العاشرة من عمره1. وكان يحفظ أجزاءً من القرآن، ويحفظ الرحبية في الفرائض، وتعلَّم زاد المستقنع في الفقه، ويحفظ من كتب الأحاديث (الأربعين النووية) ، و (بلوغ المرام) . وكان يحب قراءة (البداية والنهاية) لابن كثير، و (تاريخ الرسل والملوك) للطبري، و (السيرة) لابن هشام، و (المغني والشرح الكبير) لابن قدامة، و (الإنصاف) للمرداوي، وتفسير ابن كثير، والبغوي. وكان يحب من الشعر ما تميز منه بالطابع الإسلامي والنصائح2. وكان له وِرْد خاص يقرأه يومياً عن ظهر قلب3 معظمه من الآيات القرآنية

_ 1 الدكتور سعود بن سعد الدريب، الملك عبد العزيز ووضع قواعد التنظيم القضائي في المملكة ص 9 2 فؤاد حمزة، البلاد العربية السعودية ص 30، مطبعة دار المطبوعات الحديثة، ط 1 سنة 1408 هـ، والمرجع السابق ص 9 3 الدعوة في عهد الملك عبد العزيز ص:1/ 56

والأحاديث الصحيحة، وقد طُبِعَ أكثر من مرَّة، ويشتمل على (116صفحة) 1. وقد أجاد استعمال السيف والبندقية وركوب الخيل في سِنٍّ مبكرة، وكان حاد الطبع دائم الحركة، لا يستقر في مكانٍ واحدٍ فترة طويلة2. وقد حباه الله ببنية قوية، وقامة مديدة، فكان يفوق أقرانه ويتفوق عليهم. واجتمع له مع قوة الجسم سلامة الرأي، فكان يشارك في الصلح بين القبائل وهو في الثالثة عشرة من عمره3. وقد كان للنشأة الدينية القويمة التي عاشها الملك عبد العزيز رحمه الله أثرٌ واضح، ونتائج ملموسة، فنراه يتمسَّك بالعقيدة، ويحض على التمسك بها في كل مناسبة، ويحافظ على أداء الفرائض قبل أن يحث غيره على التمسك بها، ويقرأ القرآن الكريم، ويستشهد بآياته، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وأقوال السلف الصالح، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويرغب في فضائل الأعمال ومكارم الأخلاق، ويلزم بها نفسه قبل أن يطالب بها غيره ليكون قدوة لغيره، ولذا وفَّقه الله، وآزره فيما سعى إليه4. وقد كان لمعايشته بعض الظروف التي مرَّت بأسرته وسقوط دولة آبائه آثار على نفسه منذ صغره حيث شحذت همته على استيعابها والاستفادة منها. جاء في معرض خطبته عام 1358هـ وهو يتحدث عن أسباب سقوط الدولة السعودية الثانية، قوله:

_ 1 المرجع السابق ص 56 مع الحاشية. 2 الملك الراشد ص 322، لعبد المنعم الغلامي، دار اللواء، الرياض، 1400هـ، والزركلي: شبه الجزيرة 1/57 3 د. سعود الدريب، مصدر سابق ص 10 4 الدعوة في عهد الملك عبد العزيز ص 1/60، والزركلي في مقدمة كتابه شبه الجزيرة 1/21

"كل أمة تريد أن تنهض لابُدَّ لكل فرد فيها من أن يقوم بواجباتٍ ثلاثة: أولها: واجباته نحو الله والدين. وثانيها: واجباته في حفظ أمجاد أجداده وبلاده. وثالثها: واجباته نحو شرفه الشخصي"1. فقد وعى هذا الدرس جيداً، وعمل على تلافي أسبابه ودواعيه. كما كان لسكناه في البادية مع آل مرة والعجمان آثار إيجابية أكسبته صلابة العود مبكراً، واستوعب فنون القتال والفروسية، وأجاد الكر والغزو والمواهب القتالية، وكان يقول: "أنا ترعرعت في البادية فلا أعرف التلاعب بالكلام وتزويقه، ولكني أعرف الحقيقة عارية عن كل تزويق". كما كان لإقامته في الكويت على مقربة من موقع المسئولية وصنع القرار الإداري والسياسي أثر كذلك، إذ أتاح له المقام بالكويت الاطلاع على كيفية إدارة شئون الدولة، وأكسبته الخبرة والحنكة السياسية. وراقب بعينٍ بصيرة صراعات الدول الكبرى ومناوراتها على المستوى المحلي والعالمي. وعرف كيف يتعامل بمهارة مع تلك السياسات عندما أصبح في موقع المسؤلية إبان تأسيس الدولة السعودية الثالثة، فحظي باحترام زعماء العالم المعاصرين له2. كما كان لصفاته الشخصية وسجاياه الجليلة من قوة التدين والإيمان الخالص، والكرم والشجاعة والفراسة والحكمة والأناة في معالجة الأمور، والتواضع وحسن الخلق، والقدرة على كتمان السر، آثار إيجابية وطأت له

_ 1 تاريخ نجد ص 110، والزركلي: شبه الجزيرة 2/792 2 الزركلي: شبه الجزيرة 2/794، عبد العزيز والشخصية الإسلامية، لعبد العزيز شرف ومحمد إبراهيم شعبان ص 170، الدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/ 62

أسباب التمكين في الأرض وحب الناس له. وكان بروحه المؤمنة الصادقة قد أتاح للجزيرة عهداً سعيداً عامراً بالأمن، والرخاء، ورغد العيش. فكان عهده مذكراً لجميع المسلمين بعهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، إذ حاول قدر جهده أن يسير على دربهم، ويحتذي حذوهم، فصدق فيه قوله -تعالى-: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْض} 1، وقوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} 2. وقد بنى الملك عبد العزيز دولته وأقام نظامه في الجزيرة التي بُعِثَ فيها الرسول صلى الله عليه وسلم ونَزَل عليه الوحي فيها، وجاهد فيها، وأقام دولته فيها. وهو المكان الذي شهد الدولة الإسلامية للخلفاء الراشدين رضي الله عنهم جميعاً. وإن كان المؤرخون يقسمون تاريخ الدولة السعودية إلى ثلاثة عهود، فإنَّ وجه الشبه بين هذه العهود هو حرص الحكام والعلماء في العهود الثلاثة على الأُسُس والمبادئ الإسلامية، وتقديم التضحيات في سبيل نشر الدعوة السلفية، واتخاذ الشريعة الغرَّاء منهجاً للبلاد. حيث كانت أحكام الشريعة غير مطبقة تطبيقاً سليماً أو غير مطبقة بالمرة، واستبدل بها أحكام جرت مجرى العرف، وكان التمسك بها شديداً؛ لأنَّها من وضع سلفهم، ولأنَّ الخلف وجدوا آباءهم معتزين بها، ومطبقين لها، وهذا مما يجعل تغير هذه الأوضاع البعيدة عن الإسلام من الصعوبة بمكان.

_ 1 القصص: 5 - 6 2 محمد: 7

وعندما شرع الملك عبد العزيز في تأسيس دولته على الدين الحنيف، كانت صورة الحكم الإسلامي مهتزة في أذهان بعض الناس؛ لأنَّهم نظروا إلى الإسلام من خلال واقع المسلمين وأعمالهم، وما ارتكبوه من أخطاء. أمَّا الملك عبد العزيز فلم يصغ إلى ذلك الوهم؛ لأنَّه يؤمن بالإسلام عقيدة وشريعة ونظاماً للحياة. وأنَّ التمسك بالإسلام يعصم من الضلال، فسارع في إنفاذ الشريعة وتطبيق أحكامها، "ولم يتعلل بعدم وجود فقه تفصيلي، ولم يَخَفْ من نتائج تطبيق الشريعة؛ لأنَّه لا يخاف من هذه النتائج إلاَّ من نوى الظلم والفساد في الأرض. والملك عبد العزيز قد عرف من سيرته بأنَّه محب للعدل، مقيم له، كاره للفساد مقاومٌ له"1. فلم يبتدع نظاماً، ولم يشرع قانوناً، بل ما عمله في هذا السبيل هو أنَّه أحيا سًنَّة القرآن الكريم، وأيقظ في النفوس وازع الإيمان، ففجر فيها القوة في التضحية والانضباط في التزام ما شرعه الله لعباده2. وقد أطلنا في هذا التمهيد الذي يتقدم جهود الملك عبد العزيز - رحمه الله - في تقرير العقيدة الإسلامية، وهو الهدف العام من الدعامة الأولى من دعائم التمكين (إقام الصلاة) كما سبق. لكن المقام يتطلَّب هذه الإشارات للربط بين أجزاء الموضوع.

_ 1 المنهج القويم في الفكر والعمل ص 42 2 الدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/197

المطلب الأول: تقرير الملك عبد العزيز للهدف العام من الدعامة الأولى للتمكين، وهو (العقيدة)

المطلب الأول: تقرير الملك عبد العزيز للهدف العام من الدعامة الأولى للتمكين، وهو (العقيدة) : سلك الملك عبد العزيز - رحمه الله - منهجاً قويماً في ترسيخ العقيدة الصحيحة في البلاد مكَّنه هذا المنهج من إحلال الأمن والاستقرار وتحقيق الرخاء في البلاد. يقوم هذا المنهج على ثلاث دعائم: 1 – توحيد الله تعالى وعبادته. 2 - تطبيق الشريعة الإسلامية. 3 – السعي إلى وحدة الأمَّة. {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92] . وامتداداً لجهود الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والإمام محمد بن سعود رحمهما الله. قام الملك عبد العزيز بجهودٍ عظيمة في تقرير العقيدة الصحيحة ونشرها والذَبّ عن حياضها. ومن تتبع الأسباب التي حملت الشيخ محمد بن عبد الوهاب على القيام بدعوته، ثُمَّ تناول الكتب والرسائل التي كتبها الشيخ، أو كتبها أولاده وأحفاده وتلاميذهم، يلاحظ أنَّ دعوته ركَّزت على ناحيتين: الأولى: دعوة الناس إلى تجريد العبادة لله وحده؛ بحيث لا يَعْبُد مخلوقٌ مخلوقاً مثله من دون الله أو مع الله، وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث لا يقدم قولاً أو رأياً على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. الثانية: دعوة الناس، وخصوصاً الحكام إلى تحكيم شريعة الله وحدها، وهذا يعني أنَّ دعوة الشيخ كانت تحارب جاهليتين شركيتين:

الأولى: جاهلية عبادة المخلوق لمخلوق مثله، بدعوى حب الصالحين، أو التوسل بهم، والذي يشبه قول المشركين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 31] . والثانية: جاهلية الحكم بغير ما أنزل الله. وبناءً على هذه الأُسُس للدعوة السلفية قام الملك عبد العزيز رحمه الله، بجهود عديدة في تقرير العقيدة الصحيحة منها: أ - تمسكه بالعقيدة الصحيحة في خاصَة نفسه. ب - جهوده في تقرير العقيدة الصحيحة في داخل المملكة. جـ - جهوده في تقرير العقيدة الصحيحة في خارج المملكة. أ - تمسك الملك عبد العزيز - رحمه الله - بعقيدة التوحيد: كان الملك عبد العزيز يتمسك بعقيدة التوحيد، وبنى على هذا الأساس كل قراراته وتصرفاته. فالصفة الأكثر أهمية ووزناً وعمقاً في شخصية الملك عبد العزيز أنَّه رجل عقيدة قبل كل شيء، ومؤدَّى ذلك أنَّ الخصائص الأخرى تستمد من العقيدة قوتها وأثرها وظهورها1. وقد علم من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيرة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، والحكام الصالحين أنَّ أصل الأصول في الدولة الإسلامية هو: عقيدة التوحيد. والملك عبد العزيز - رحمه الله - رجل موحّد خالص التوحيد في خاصة نفسه، ملتزم بمنهج السلف الصالح في توحيد الألوهية والربوبية والأسماء والصفات، لا يدعو غير الله، ولا يشرع ما لم يأذن به الله2.

_ 1 جهود الملك عبد العزيز في خدمة العقيدة ص 2 لعبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ. 2 المنهج القويم في الفكر والعمل ص 44

والأدلة على هذا كثيرة من أقواله وأفعاله رحمه الله. فمن أقواله في هذا الشأن ما يلي: 1 - عبارته المشهورة: "كلمة التوحيد لا إله إلاَّ الله محمد رسول الله إني والله، وبالله، وتالله، أقدِّم دمي ودم أولادي وكل آل سعود فداءً لهذه الكلمة لا أضن بها"1. 2 - وقال -رحمه الله-: "أمَّا العبادة فلا تصرف إلاَّ لله وحده لا لِمَلَكٍ مقرَّب، ولا لنبي مرسل، ولا تخفى عليكم الآية الكريمة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] . ومعنى يعبدون: يوحدون، فالتوحيد خاص بالله تعالى، والعبادة لا تصرف إلاَّ إليه، والرجاء والخوف والأمل كله بالله ولله، وما بعث محمد ولا أرسل الرسل ولا جاهد المجاهدون إلاَّ لتوحيد الله تعالى"2. 3 - وقال -رحمه الله-: "إني أفضل أن أكون على رأس جبل آكل من عشب الأرض أعبد الله وحده، على أن أكون ملكاً على سائر الدنيا وهي على حالتها من الكفر والضلال. اللهم إنَّك تعلم أني أحب من تحب وأبغض من تبغض. إنَّا لا يهمنا الأسماء ولا الألقاب، وإنَّما يهمنا القيام بحق واجب كلمة التوحيد"3.

_ 1 محمد حامد الفقي: أثر الدعوة الوهابية في الإصلاح العمراني والديني في جزيرة العرب وغيرها ص 110-111، والدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/138، 262 2 من خطبة الملك عبد العزيز رحمه الله في المأدبة الكبرى لضيوف الرحمن والمنشورة بجريدة أم القرى بعددها (989) الصادر في 6 من ذي الحجة 1363هـ، والدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/265 3 د. عبد الله بن عبد المحسن التركي: منهج الملك عبد العزيز في السياسة الدولية وأثره في العلاقات السعودية المصرية ص 38

4 - وقال -رحمه الله-: "أنا داعية أدعو إلى عقيدة السلف الصالح، وهي التمسك بكتاب الله وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم وما جاء عن الخلفاء الراشدين"1. 5 - وأوصى رحمه الله وليّ عهده فقال: "تعقد نيتك على ثلاثة أمور: أولاً: نية صالحة، وعزم على أن تكون حياتك وأن يكون دينك إعلاء كلمة التوحيد. ثانياً: عليك أن تجتهد في النظر في شئون الذين سيوليك الله أمرهم بالنصح سرّاً وعلانية، والعدل في المحب والمبغض، وتحكيم الشريعة في الدقيق والجليل والقيام بخدمتها باطناً وظاهراً. ثالثاً: عليك أن تنظر في أمر المسلمين عامَّة"2. ومن أفعاله ما يلي: 1 - اختيار الشهادتين شعاراً لرايته وعلماً لمملكته وشارةً لبلاده. 2 - اعتباره التوحيد القاعدة الرئيسة في حياة المسلمين - راعٍ ورعية، إمام ومأمومين - وإذ يقيم الملك عبد العزيز قلبه على توحيد الله فإنَّه في اللحظة ذاتها يُلْزِم من يلي أمرهم بتوحيد الله جلَّ شأنه3. 3 - من فرط إحساسه بمعاني التوحيد أنَّه كان يقظاً لكل لفظ يجرح هذا التوحيد. التقى يوماً بزعيمٍ عربي، وفي أثناء الحديث أراد الزعيم توكيد مسألة معيَّنة فقال - مخاطباً الملك عبد العزيز -: وحياة رأسك. فرمقه الملك عبد العزيز بنظرة موحدة وقال له: "قل: والله"4.

_ 1 أم القرى، العدد (434) سنة 1351هـ، والدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/264 2 الزركلي: الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز ص 159 3 المنهج القويم للتركي ص 44-47. 4 المرجع السابق 44.

وسمع شاعراً ذات يوم يلقي قصيدة أمامه بعد أن استأذن في إلقائها: أنت أملنا وفيك الرجاء ... ... ... ... ... ... فصاح الملك عبد العزيز قائلاً: "تخسأ. تخسأ". ولمح في المجلس أحد طلبة العلم فقال: "علِّمه التوحيد"1. فهو يدرك أنَّ هذه الألفاظ من معاني توحيد الألوهية لا يجوز صرف شيء منها لغير الله2. فالملك عبد العزيز كان داعية للتوحيد بقوله وفعله، وقد اقتدى به عدد كبير من دعاة التوحيد في العالم العربي والإسلامي، ومِمَّا يدل على ذلك أنَّ دعاة التوحيد في العالم الإسلامي كانوا يأتون ويجلسون إليه ويأخذون من أقواله ونصائحه ما يعزز نشاطهم ويحسن أساليبهم في الدعوة إلى التوحيد3. ولم يقتصر الأمر على مجرَّد النصائح، بل تعداه إلى الدعم المادي والمعنوي لهؤلاء الدعاة بغرض نصرة عقيدة التوحيد4. وهكذا نجد الملك عبد العزيز يقرر عقيدة السلف الصالح بأقواله وأفعاله، ويُلْزِم مَنْ يلي أمرهم بذلك. وهي طريقة في الانتصار للعقيدة لا يستخدمها إلاَّ داعية موحد لا يقايض على التوحيد بشيء. ولا غرابة في ذلك فقد عرف عن

_ 1 الملك عبد العزيز ووضع قواعد التنظيم القضائي في المملكة ص 23 2 الدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/263 3 المهندس / سليمان علي الشائع: الملك عبد العزيز وأثره في التاريخ المعاصر ص36 4 الدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/263 ومن هؤلاء الدعاة: الشيخ محمد رشيد رضا - مؤسس مجلة المنار - التي نشرت مقالات التوحيد ومحاربة الشركيات. والشيخ محمد حامد الفقي، والشيخ محمود الألوسي، وغيرهم كثير.

الملك عبد العزيز - رحمه الله - بأنَّه داعية عقيدة ومنفّذ شريعة1 - حتى وُصِفَ بأنَّه: "الإسلامي الداعية إلى الحل الإسلامي"2. ب - جهود الملك عبد العزيز في تقرير العقيدة الصحيحة داخل المملكة. عندما بدأ الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود بفتح الرياض عام 1319هـ، وبدأ تأسيس الدولة السعودية الثالثة، لم تكن العقيدة الصحيحة التي نادى بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود، وأبناؤهما وأحفادهما من بعدهما، على ما كانت عليه من الصفاء والنقاء الذي وصلت إليه على يد الأمير سعود الكبير حفيد الإمام محمد بن سعود رحمهما الله، بل كثرت الدعاية السيئة ضد الدعوة السلفية في البلاد الإسلامية. وأخذ أعداء الدعوة يذيعون أنَّ أنصار الدعوة السلفية لا يحبون أهل البيت ولا يحفظون للأولياء حقّاً ولا حرمة. كما وصفوا الدعوة السلفية بأنَّها مذهب خامس، وأُلِّفَت الكتب التي ترمي أنصار الدعوة بكبيرات الأمور. ولم يقف الأمر على مجرَّد الدعاية، بل أرسلوا الجيوش لمحاربة هذه الدعوة وإضعافها3. فعادت مظاهر الشرك من جديد وكثر الاعتقاد في الأشجار والأحجار، والبناء على القبور، والتبرك بها، والنذر لها. وغير ذلك من مظاهر الشرك الأصغر والأكبر4.

_ 1 الملك عبد العزيز ووضع قواعد التنظيم القضائي في المملكة ص 17 2 وصفه بهذه العبارة محمد جلال كشك في كتابه (السعوديون والحل الإسلامي) ص32، والدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/267 3 عبد الله القصيمي: الثورة الوهابية ص 28 4 الدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/270

فلمَّا حمل الملك عبد العزيز راية الدعوة أدرك أنَّ هذه الشركيات قد تغلغلت جذورها في النفوس وترسَّخت مفاسد وأدران الوثنية بسبب الجهل، فشرع يخطط لإصلاح هذه النفوس وتطهيرها. وجعل التوحيد قضيته المنهجية الأولى. ونجح في إزالة مظاهر الشرك والقضاء على ما ينافي عقيدة التوحيد أو يوهن من كمالها. والأدلة على جهود الملك عبد العزيز في نشر العقيدة داخل المملكة حاضرة وبادية عديدة، اكتفي منها بما يلي: 1 - يقول الملك عبد العزيز رحمه الله: "إنَّ سبيل رقي المسلمين هو التوحيد الخالص، والخروج من أسر البدع والضلالات والاعتصام بما جاء في كتاب الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم"1. 2 - يقول الدكتور عبد الله التركي: "لما ظهر الملك عبد العزيز بدعوة التوحيد ودين الحق، استطاع بعون الله ثُمَّ بوسيلة الشوكة والسلطان أن يحمي التوحيد من كل ما يخالفه ويزاحمه من عقائد وعادات وأعراف ومظاهر وأساليب"2. 3 - جمع علماء مكَّة بعلماء نجد ليتباحثوا في مسائل الشرع، فاجتمعوا في جمادى الأول عام 1343هـ، وأصدروا بياناً جاء فيه: "قد حصل الاتفاق بيننا وبين علماء نجد في مسائل أصولية منها: أ - أنَّ مَنْ جعل بينه وبين الله وسائط من خلقه يدعوهم ويرجوهم في جلب نفع أو دفع ضر فهو كافر حلال الدم والمال. ب - أنَّ البناء على القبور واتخاذ السرج عليها وإقامة الصلاة فيها بدعة محرمة في الشريعة الإسلامية.

_ 1 أم القرى، العدد (333) الصادر في ذي الحجة 1349هـ. 2 المنهج القويم ص 66

جـ - مَنْ سأل الله بجاه أحد من خلقه فهو مبتدع مرتكب محرماً". واتفق العلماء على نشر هذا البيان الذي من خلاله اتضحت وحدة العقيدة في أنحاء المملكة1. 4 - تطبيقاً لقوله -تعالى-: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 2. حرص الملك عبد العزيز على إلغاء جميع القوانين التي كانت موجودة من بقايا الدول السابقة، وكان يُعْمَل بها في بعض مناطق المملكة، وحثَّ العلماء على إصدار فتوى بذلك، وقد أصدروا فتوى بتاريخ 8 شعبان 1345هـ ومِمَّا جاء فيها: "وأمَّا القوانين فإن كان موجوداً منها شيء فيزال فوراً ولا يحكم إلاَّ بالشرع المطهَّر"3. 5 - حماية المملكة من أن يتسلل إليها شيء من عقائد الكفار من نصارى وشيوعيين وغيرهم، وتحريم دخول المنصرين إلى المملكة، أو وجود صلبان أو غير ذلك من شعارات الكفار. 6 - أبطل التحاكم إلى العوائد والسلوم4 المخالفة للشريعة، وأن لا يتحاكم إلاَّ إلى أحكام الشريعة فقط. جـ – جهود الملك عبد العزيز في نشر الدعوة للعقيدة خارج المملكة: التوحيد عقيدة عالمية، قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] فالخطاب موجه إلى الناس

_ 1 الدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/275 2 المائدة: 44 3 الدرر السنية 5/319 4 يراد بها الأعراف التي كانت سائدة في الجزيرة العربية التي تخالف الشرع. مثل نار الملحس التي يزعمون أنها تدل على السارق. وقانون أبي نمى وحماية الدخيل ولو كان مجرماً تعسيم القريبة وجعلها في الوجه عن الخاطب.

كافَّة - النداء للناس كافة، والأمر للبشر جميعاً - إنَّه نداء إلى الناس كلهم بأن يوحدوا الله بالعبادة دون سواه. ومعلوم أنَّ المدعوين للدعوة مسلمون وغير مسلمين، فالدعوة تشملهما. ولما تولَّى الملك عبد العزيز شئون البلاد، وانطلاقاً من أنَّ مِن وظائف الحكومة الإسلامية نشر الدعوة الإسلامية بالحوار والحسنى، كما قال الله -تعالى-: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَر} [الحج:41] . وانطلاقاً من ذلك سعى الملك عبد العزيز يدعو إلى العقيدة الصحيحة عالمياً عن طريق استغلال مواسم الحج في الدعوة، أو إيصال العقيدة النقية إلى البلدان المختلفة عن طريق نشر الكتب وتوزيعها في البلاد المختلفة مجاناً. فمن سعة أفق الملك عبد العزيز أنَّه كان يستغل مواسم الحج في الدعوة إلى تصحيح العقيدة وكانت له - رحمه الله - مأدبة كبرى يلتقي فيها بعلماء الدول والحجاج يدعوهم فيها إلى الله وإخلاص العبودية له. خطب - رحمه الله - في جمعٍ غفير من ضيوف الرحمن فقال: "المسلم لا يكون مسلماً صحيحاً إلاَّ إذا أخلص العبادة لله وحده. يجب أن يتدبر المسلمون معنى (لا إله إلاَّ الله) . يجب على الإنسان أن لا يشرك مع الله في عبادته نبياً مرسلاً ولا ملكاً مقرّباً. يجب أن يتبع المسلمون القول بالعمل أمَّا القول المجرد فلا يفيد. ما فائدة رجل يقول: (لا إله إلاَّ الله) ولكن يشرك ما دون الله في عبادته؟؟ {إنَّ الله إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} [النساء: 48] . إنَّ الإشراك مع عبادة الله كفر، وليس بعد الكفر ذنب. إنَّ دين الله ظاهر كالشمس، لا لبس فيه ولا تعقيد".

ثُمَّ أضاف - رحمه الله -: "إنَّ من أعظم الأوامر توحيد الله جلَّ وعلا توحيداً منزهاً عن الشرك"1. وخطب - رحمه الله - في حُجَّاج الهند فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: "إنَّ أول ما يلزمنا من الإسلام هو كلمة الشهادتين، ومعنى الشهادة (لا إله إلاَّ الله) أنَّها تفيد إثبات وحدانية الله سبحانه وتعالى. لا يوجد إنسان غير مذنب؛ لأنَّ العصمة لله وحده، لكن الذنوب على درجات، منها ما لا يمكن معه صفح أو غفران، وهو الشرك بالله"2. ويقول - رحمه الله -: "الإسلام عزيز عليَّ، ورهبته في قلوب أعدائه كبيرة، فواجب المسلم أن يقوم بالدعوة إلى عبادة الله خالصة"3. ويقول - رحمه الله -: "إنَّ الذي يجمع شملنا ويوحد بيننا هو: الالتفاف حول كلمة التوحيد والعمل بما أمر الله به ورسوله"4. ومن المجالات التي نشط الملك عبد العزيز في تقرير ونشر العقيدة الصحيحة عن طريقها عالمياً: اخراج المؤلفات القيمة التي تهتم بنشر العقيدة السلفية الصحيحة، وتطهير العقيدة من أدران الشرك، لا سيما كتب الشيخ ابن تيمية وابن قيم الجوزية، وكتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب، حيث طبعت كتب هؤلاء العلماء السلفيين، ووصلت إلى أيدي الناس في مختلف البلدان ووزِّعت مجاناً. فقرأها الناس وانتفعوا بها، وأيقظت في نفوسهم الفطرة الأصيلة لتوحيد الله عزَّ وجلَّ، وخدمت هذه الكتب العقيدة السلفية أفضل خدمة. فجزى الله الملك عبد العزيز خيراً على هذه الجهود القيمة في تقريره ونشره لعقيدة السلف الصالح.

_ 1 نشر هذا الخطاب بجريرة أم القرى، عدد (857) في 11 ذي الحجة سنة 1355هـ. 2 نشر هذا الخطاب بجريرة أم القرى، الصادر في يوم الاثنين في 11 ذي الحجة سنة 1355هـ. 3 نشر هذا الخطاب بجريرة أم القرى، عدد (434) في 11 ذي الحجة سنة 1351هـ. 4 الدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/282

المطلب الثاني: عناية الملك عبد العزيز بالهدف الخاص للدعامة الأولى (إقام الصلاة)

المطلب الثاني: عناية الملك عبد العزيز بالهدف الخاص للدعامة الأولى (إقام الصلاة) : سبق أنَّ الهدف الخاص للدعامة الأولى من دعائم التمكين في الأرض هو أداء الصلاة المعروفة كاملة بأركانها وشروطها وواجباتها وسننها، وأنَّ (إقام الصلاة) قدر زائد على الإتيان بهيئاتها الظاهرة، وإن كان ذلك تسقط به أحكام الدنيا. لكن إقامة الشيء - كما سبق - هو: (توفيته حقه كاملاً) وأنَّ الله سبحانه وتعالى لم يأمر بالصلاة حينما أمر ولا مدح حينما مدح إلاَّ بلفظ "الإقامة" تنبيهاً أنَّ المقصود منها توفية شرائطها لا الإتيان بهيئاتها1. وأنَّه ليس للعبد من صلاته إلاَّ ما عقل، وحضر قلبه فيها، وأنَّ لب الصلاة وروحها الخشوع فيها لله تعالى. ومن هنا سيكون الحديث إن شاء الله تعالى في هذا المطلب عن الأمور التالية: الأمر الأول: اهتمام الملك عبد العزيز بأداء الصلاة. الأمر الثاني: عنايته بإقامة الصلاة، وفيه النقاط التالية: 1 - إقامة الصلاة بالنهي عن تركها. وهذا سيأتي في الدعامة الثالثة. 2 - إقامة الصلاة بتعيين الأئمة العالمين بأحكامها وما تصح به. 3 - إقامة الصلاة بالاعتناء بمواضع الصلاة. 4 - إقامة الصلاة بتهيئة كل ما يؤدي إلى الخشوع فيها، من فرش المساجد، وتهويتها، وتكييفها، وتنظيفها، وغير ذلك.

_ 1 المفردات في غريب القرآن ص 429

الأمر الأول: اهتمام الملك عبد العزيز بأداء الصلاة: كان الملك عبد العزيز منذ صباه ملتزماً بالتعاليم والآداب الشرعية، متمسكاً بكتاب الله، وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، محكماً كتاب الله في كل أموره. فلم يعرف عنه في شبابه رغم أنَّه عاش في أول شبابه في بلادٍ كان فيها نوعٌ من التساهل. وفي الحديث: "إنَّ الله ليعجب من الشاب ليس له صبوة" 1. أمَّا صلته بالله عزَّ وجلَّ فنحسب أنَّها لم تكن مقرونة برغبة دنيوية، فعقيدته خالصة، لذلك نجد التوفيق حليفه في أعماله. وكان من أهم المزايا التي يتصف بها قوة الإيمان بالله تعالى، فمنذ نشأته لم يضعف إيمانه بالله أو يشك في ثقته بنصره2. وقد وضع لحياته نظاماً دقيقاً، أعطى الجانب الديني منه نصيباً وافراً، على الرغم من كثرة مشاغله ومسئولياته. فهو غالباً لا ينام أكثر من ست ساعات في اليوم، على ثلاث فترات، منها أربع ساعات في الليل، يصحو قبيل الفجر فيتوضأ ويصلّي ركعتين، ويقرأ بعضاً من القرآن إلى أن يحين الفجر، فيصلي ثُمَّ ينام ساعة، ثُمَّ يقوم بعدها ليرعى مصالح الدولة. وساعة أخرى بعد الغداء، ثُمَّ المجلس الديني عقب صلاة المغرب3. وبهذا استطاع أن يجمع بين ما نشأ عليه من تعاليم دينية وبين إدارته لأمور الدولة عندما أصبح في موقع المسئولية4.

_ 1 الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده 4/151 عن عقبة بن عامر. قال في مجمع الزوائد 10/270: "إسناده حسن". 2 الأحيدب: من حياة الملك عبد العزيز ص 37-43 3 الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز ص 25، المنهج القويم في الفكر والعمل ص 31، الملك الراشد ص 322 4 الدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/57

ومن أهم ثمرات تدين الملك عبد العزيز - رحمه الله - أخذه بمبدأ الشورى، فلا يعرف الاستقلال بالرأي، ولكن كانت المشورة الدائمة والاسترشاد بآراء العلماء دأبه ومنهجه1. الأمر الثاني: عناية الملك عبد العزيز بإقام الصلاة: سبق أنَّ (إقام الصلاة) قدر زائد على الإتيان بهيئاتها الظاهرة، وأنَّ من (إقام الصلاة) وتوفية حقها النهي عن التساهل فيها، أو تركها، وهذا سيأتي في الكلام عن الدعامتين الثالثة والرابعة. كما أنَّ من (إقام الصلاة) العناية بمواضعها التي أمر الله أن تقام فيها. وأنَّ من (إقام الصلاة) تعيين الأئمة الذين يعلمون ما تصح به الصلاة، كما أنَّ من إقامتها كل ما يدعو إلى الاطمئنان والخشوع فيها الذي هو لب الصلاة وروحها. كتهوية المساجد، وفرشها، وتنظيفها، وغير ذلك مِمَّا يساعد على الخشوع وحضور القلب. وهذا يدعونا إلى بيان جهود الملك عبد العزيز رحمه الله في هذه الأمور مرتبةً، فنقول وبالله التوفيق: أولاً: جهوده في بناء المساجد: المساجد جمع مسجَد - بفتح الجيم وكسرها - فالمسجَد - بالفتح - الجهة من الوجه، حيث تكون ندب السجود. والمساجِدُ من بدن الإنسان الأعضاء التي يسجد عليها، وهي: الجبهة، والأنف، والبدن، والركبتان والقدمان. والمسجِدُ: بالكسر، كل موضع يتعبَّد فيه المسلمون بالصلاة2. يشهد لذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "جُعِلَت لي الأرض مسجداً وطهوراً" 3

_ 1 الدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/65 2 لسان العرب / مادة (سجد) 3/204 3 رواه البخاري، كتاب التيمم 1/436، مع فتح الباري من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.

وقد عظَّم الله تعالى مكانة المسجد، ورفع من شأنه في آياتٍ كثيرة منها قوله -تعالى-: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} . [النور آية:36] . ولَمَّا كان نور الإيمان والقرآن أكثر وقوع أسبابه في المساجد، ذكرها منوهاً بها فقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ....} : أي يتعبد لله {فِي بُيُوتٍ} : عظيمة فاضلة هي أحب البقاع إليه وهي المساجد. {أَذِنَ اللَّهُ} : أي أمر ووصَّى {أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} : يدخل في ذلك الصلاة كلها، فرضها ونفلها، وقراءة القرآن، والتسبيح، والتحميد، وغير ذلك من أنواع الذكر وتعلم العلم وتعليمه والمذاكرة فيها والاعتكاف وغير ذلك من العبادات التي تفعل في المساجد، ثُمَّ مدح الله عمَّارها فقال: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاة} 1: فهؤلاء الرجال - وإن اتجروا وباعوا واشتروا فإنَّ ذلك لا محذور فيه، لا تلهيهم تلك بأن يقدموها ويؤثروها على ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، بل جعلوا طاعة الله وعبادته غاية مرادهم ونهاية مقصدهم، فما حال بينهم وبينها رفضوه. وسبق أنَّ من الأمور الدالة على مكانة الصلاة في الإسلام المواضع التي تقام فيها لما لها من آثار اجتماعية كثيرة منها إيجاد التكافل الاجتماعي بين المسلمين، فالمسجد وسيلة التعارف اليومي، ثُمَّ يتحول التعارف مع مرور الأيام إلى تآلف ومنه تنشأ أواصر الأخوة الإسلامية في الله. والغاية من ذلك كله هو وجود مجتمع مترابط منسجم كالأسرة الواحدة2.

_ 1 وأول الآية قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال} . 2 الدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/354-355

وقد عني المسلمون في عصورهم المتتابعة بالمساجد لما لها من دور هام في الإسلام، وكونها الجامعات الأولى في التعليم العام. ولمَّا وصل الدور إلى الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، ونظراً لاستقرار دواعي الأمن في ربوع البلاد على يد الملك عبد العزيز والعناية والاهتمام براحة الحجاج، فقد زاد عدد الوافدين لأداء فريضة الحج من البلاد العربية والإسلامية. وكانت الزيادة في اطراد مستمر عاماً بعد آخر - حتى ضاق المسجد الحرام عن استيعابهم، وصار تزاحمهم يمثل مشكلة كبيرة - فوجَّه الملك عبد العزيز بدراسة مشروع لتوسعة المسجد الحرام على أكبر مساحة ممكنة1. وكانت مساحة المسجد في ذلك الوقت حوالي (000ر30) متراً مربعاً، فعملت الدراسة وبُدِئ في تنفيذ هذا المشروع في 23/8/1375 هـ في عهد الملك سعود - يرحمه الله - وكان يعتبر في وقته أكبر مشروع عمل لتوسعة المسجد الحرام، حيث تمت توسعته بأكبر من ضعف مساحته التي كان عليها في السابق، وعملت حوله ساحات وميادين واسعة وشوارع فسيحة، وخدمات متعددة، كتنظيم مياه زمزم، وتوافر دورات مياه، وغير ذلك.

_ 1 أعلن الملك عبد العزيز عام 1368هـ على العالم الإسلامي اعتزامه توسعة المسجد الحرام، والمسجد النبوي، وبدأت الدراسة في مشروع توسعة المسجد الحرام، وبُدِئَ في التنفيذ بعد وفاته - يرحمه الله -. عن كتاب إعلامي بعنوان (المملكة العربية السعودية) صدر عن وزارة المالية بمناسبة صدور ميزانية الدولة للعام المالي 1382/1383هـ وقال إنَّ تكاليف توسعة المسجد الحرام بلغت (700) مليون ريال سعودي. وانظر: التطبيقات العملية للحسبة في المملكة العربية السعودية من عام 1351-1408هـ للدكتور / طامي بن هديف معيض البقمي.

كما تمَّ تنظيم المشاعر والمناسك الأخرى، لتستوعب أكبر عدد ممكن من الحجاج وضيوف الرحمن. وبالنسبة للمسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة، فقد أجريت في عام 1375هـ أول توسعة كبيرة، وكانت المساحة الإجمالية للمسجد قبل التوسعة (303ر10) متراً مربعاً، فأصبحت بعد التوسعة (500ر16) متراً مربعاً. ونظراً لأهمية المساجد ودورها الهام في الإسلام، فقد اهتمت المملكة بإنشاء المساجد وتعميرها في مختلف مناطق المملكة منذ زمنٍ بعيد، وزاد هذا الاهتمام في العصر الحاضر نظراً لما أفاء الله به على هذه البلاد من خير وفير، وُجِّه قسط كبير منه لخدمة الإسلام بصفة عامَّة، وبمشاريع وأساليب متنوعة. وكان لإنشاء المساجد وتعميرها نصيب وافر من ذلك الاهتمام حتى بلغ عدد المساجد التي قامت وزارة الحج والأوقاف بإنشائها أو تعميرها (204ر30) مسجداً في عام 1410هـ1 ثانياً: عناية الملك عبد العزيز -رحمه الله- بتعيين الأئمة العالمين بأمور الصلاة: من أهمية المسجد تنبثق أهمية الإمامة فيه، فهي مسئولية كبرى أولاها الإسلام عناية فائقة دلَّ على ذلك الشروط التي أفاض الفقهاء في شرحها وذهبوا إلى وجوب توافرها في الإمام. ولا شك أنَّ وجود الإمام الصالح الحافظ لكتاب الله، الفاهم للإسلام والشريعة وقضاياها فهماً صحيحاً يسهم في خدمة الدعوة إلى الله. ونظراً لأهمية الإمامة، فإنَّ الدولة السعودية ومنذ نشأتها كانت حريصة على تدعيم هذا المرفق الهام، فقد اهتمت بتعيين الأئمة والخطباء فكانوا رجالها في مجال نشر الدعوة السلفية وتثبيت أركانها في المجتمع.

_ 1 المرجع السابق.

ومع إشراقة الدولة السعودية الثالثة على يد الملك عبد العزيز - يرحمه الله - كان أغلب المساجد بدون أئمة لقلة الدعاة، وازدادت حِدَّة المشكلة مع توالي الفتوح وتوحيد البلاد، واتسعت رقعة الدولة، وازداد عدد المساجد بالإضافة إلى مساجد الهجر الجديدة، فكان على الملك عبد العزيز أن يواجه هذه المشكلة. وقد انتهج في هذا المجال عدة تدابير منها: 1 - شغل المساجد الكبرى بأئمة وخطباء غير متفرغين مِمَّن كانوا يشغلون مناصب القضاء والتدريس وغير ذلك لما كان يتمتع به شاغلو هذه المناصب من درجة كبيرة في العلم. 2 - إنشاء المؤسسات التعليمية التي تكون نواة لتخريج أئمة مؤهلين مثل: إنشاء دار التوحيد في الطائف سنة (1364هـ) . 3 - أسند إلى رئاسة القضاء الشرعي المهام المتعلقة بالمدرسين في المساجد حيث نص نظام تركيز مسئوليات القضاء الشرعي على ما يلي: "جميع المدرسين الرسميين في المساجد يكون تعيينهم وفصلهم وتنقلاتهم وغير ذلك من اختصاص رئاسة القضاء" 1. 4 - توجيه الاهتمام بالأئمة. ونظراً لتطور الظروف المعيشية، وجب أن يمنح القائمون بوظيفة الإمامة والخطابة والدعوة إلى الله الحقوق المادية التي تؤهلهم للتفرغ الكامل لوظائفهم وتضمن لهم المعيشة الكريمة الهادئة فلا يشغلون بمعاشهم ومعاش أسرهم عن التفرغ لمهماتهم2.

_ 1 أبو راس الديب: الملك عبد العزيز والتعليم ص 204، وبيان إحصائية بالجوامع والمساجد بالمملكة والمرفق بخطاب سعادة وكيل وزارة الحج والأوقاف لشئون المساجد رقم 272 وتاريخ 19/10/1410 هـ، والتطبيقات العملية للحسبة في المملكة ص 233 مع الحاشية. 2 الدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/381، 2/601، 639

والمتأمل في سيرة العلماء الذين جعلهم الملك عبد العزيز أئمة في المساجد يجد أنَّ معظمهم قضوا حياتهم في نفع العباد ونشر العلم لوجه الله منهم: الشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ، فقد عينه الملك عبد العزيز إماماً في مسجد والده الإمام عبد الرحمن آل فيصل فاستمر إماماً وواعظاً ومدرساً في هذا المسجد، وقام بذلك خير قيام1. ثُمَّ جعله إماماً وخطيباً في المسجد الحرام سنة 1344هـ، كما أسند إليه تعيين الأئمة في المساجد واختيارهم. وعين الملك عبد العزيز الشيخ سعد بن عتيق إماماً في المسجد الكبير في الرياض، وفي هذا المسجد الواسع عقد له حلقتين2 للتدريس إحداهما بعد طلوع الشمس حتى امتداد النهار، والثانية بعد صلاة الظهر. وكان حريصاً على ما يلقيه من الدروس شديد التثبت لمعنى ما يقرأ عليه فلا يلقى درسه ولا يسمعه3 من الطالب حتى يراجع فيه شروحه وحواشيه، وما قاله العلماء فيه، وضبطه لغةً ونحواً وصرفاً حتى يحرر الدرس تحريراً بالغاً، لذا أقبل عليه الطلاب، واستفادوا منه فوائد جليلة. وهذا يدل على العناية باختيار أئمة المساجد من الملك عبد العزيز - رحمه الله - لأهمية وظيفة الإمام في الإسلام. وَلَمَّا كان من الأمور التي تسهل على الإمام مهمته في كل الصلوات وفي الحر والبرد، وجود دار يسكنه بجوار المسجد، واقتداءً بالرسول صلى الله عليه وسلم حيث كانت حجرات نسائه ملاصقة للمسجد، وأبوابها مشرعة إليه، فقد تنبه الملك

_ 1 المرجع السابق 1/379 2 المراد مجلسين للتدريس. 3 أي لا يقبل من الطالب قراءة الدرس حتى يحضره. لأن بعض المعلمين يطلبون من الدارس قراءة الدرس قبل الشرح وتسميعه أولاً.

لهذا الأمر. فلمَّا ازدادت موارد الدولة بعد تدفق البترول شرع يخصص راتب للأئمة ويشتري لهم البيوت. وتوجد مخطوطة في دارة الملك عبد العزيز تحت رقم (719) تتضمن خطاباً من الملك عبد العزيز إلى الشيخ حمد بن عبد المحسن التويجري يكلفه بشراء بيوت للأئمة والمؤذنين1. ومن اهتمام الملك عبد العزيز بالأئمة وتعينهم بصفة دائمة ما ورد في أحد كتبه: "من عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل. إلى عبد الله بن ناصر. توكل على الله وانحر 2 3. إخوانك ابن ضنمة وجماعته وأقم عندهم تصلي بهم وتعلمهم أمر دينهم". وقد كان الملك عبد العزيز - رحمه الله - يختار لكل عمل أفضل من يراه لذلك العمل، فإن لم يجد الأفضل انتقل إلى مَن هو دونه. وبناءً على ذلك فقد اختار للإمامة في المسجد الحرام، والمسجد النبوي أفضل من كان معروفاً بالعلم بأحكام الصلاة، ومن كان مشهوراً بالتدريس. ففي عام 1344هـ قدم مكة في صحبة الشيخ محمد رشيد رضا كل من الشيخين: 1) عبد الظاهر أبي السمح. 2) والشيخ محمد عبد الرزاق حمزة. فرشحهما السيد رضا لدى الملك عبد العزيز للإمامة والخطابة في الحرمين الشريفين فاختار الملك عبد العزيز - الشيخ عبد الظاهر أبا السمح لإمامة الحرم المكي وخطابته، واختار الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة لخطابة المسجد النبوي

_ 1 المخطوطة في دارة الملك عبد العزيز برقم (719) ، والدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/382 2 كان تاريخ هذا الخطاب في 28/1/1342 وهو من وثائق الملك عبد العزيز ص 9 3 ومعنى: "وانحر اخوانك"، توجه إليهم، وهي لغة دارجة في الجزيرة.

وإمامته، ومراقبة الدروس بالمسجد النبوي بالإضافة إلى رئاسة هيئة الأمر بالمعروف بالمدينة1. وهكذا كان للملك عبد العزيز يد طولى في تنظيم تنصيب الأئمة والخطباء للوعظ والإرشاد وإمامة الناس في الصلاة. وقد أصبحت الإمامة وظيفة ثابتة لها مخصصات وعليها واجبات، مِمَّا مكَّن من تحقيق أهداف المسجد وأهمها الدعوة إلى الله تعالى بالعبادة والتوجيه في عصرٍ أصبح لا يكفي فيه الاعتماد على الأعمال التطوعية2. والمهم هو عبادة الله على الوجه الذي شرعه الله حتى تتحقَّق الغاية التي من أجلها شُرِعَت، ولن يكون ذلك إلاَّ مِمَّن علم ما تصح به، وما هو روحها ولبها3. ولا شكَّ أنَّ هذه الأمور التي قام بها الملك عبد العزيز، مِمَّا يساعد على حضور قلوب المصلين وخشوعهم في صلاتهم، وقد قال الله -تعالى-: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1-2] .

_ 1 الدعوة في عهد الملك عبد العزيز 2/795-796 2 الدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/385، 2/635-650 3 الخشوع في الصلاة لابن رجب الحنبلي ص 10-11، و 30

المطلب الثالث: اهتمامه بالدعامة الثانية (إيتاء الزكاة)

المطلب الثالث: اهتمامه بالدعامة الثانية (إيتاء الزكاة) : وفيه مسألتان: المسألة الأولى: اهتمامه بالهدف العام لهذه الدعامة، وهو تحقيق الأخوة الإسلامية: من الأمور التي يتميز بها الملك عبد العزيز - رحمه الله - أنَّه يسير على منهج واضح مبني على أصول ثابتة مستمدة من كتاب الله وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم وما فهمه السَّلف الصالح منهما. وقد وصف الملك عبد العزيز بأنَّه داعية عقيدة ومنفذ شريعة. وقد سبق أنَّ من أهداف الدعامة الثانية للتمكين في الأرض وهي (إيتاء الزكاة) الاعتصام والالتفاف حول المنهج أو حول الإسلام الذي تضمنته الدعامة الأولى (إقام الصلاة) وأن لا يكون نفع المؤمن مقصوراً على نفسه وحسب. وكل مؤرخ منصف أمين راسخ في العلم في التاريخ الحديث والمعاصر لا يستطيع أن يصف الملك عبد العزيز إلاَّ أنَّه من أعظم دعاة الوحدة التي دعا إليها الإسلام. ومن أعظم محققيها في العصر الحديث. وكما أنَّه استمد منهج العقيدة والشريعة من الإسلام، فكذلك استمد منهج الوحدة من الإسلام. إذ كان يسترشد ويستضيء - وهو يرسي دعائم وبناء الوحدة الإسلامية - بالآيات القرآنية الداعية إلى الاعتصام بحبل الله. قال -تعالى-: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92] ، وقال -تعالى-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} [الحجرات: 10] ، وقال -تعالى-: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً

فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103] . وكان الملك عبد العزيز ينظر إلى العقيدة والشريعة نظرة منهجية متكاملة. فالعقيدة عنده هي توحيد الله، ثُمَّ اجتماع المؤمنين في ذات الله1. والشريعة عنده هي النظام الذي يأتلف المسلمون على طاعته وموالاته، ويتحد صفهم تحت لوائه. ومن العقيدة الموحدة والشريعة المنظمة تنبثق الوحدة، فما ينبغي لمجتمع اتحد في العقيدة والشريعة أن يتفرق اجتماعياً أو سياسياً أو جغرافياً. ويبين الملك عبد العزيز منهجه في الوحدة فيقول: "نحن دعاة إلى العروة الوثقى التي لا انفصام لها". وسبق أنَّه قال في العقيدة: "نحن دعاة إلى العقيدة السلفية"2. وصيغ التعبير تكاد أن تكون متطابقة في المجالين، مِمَّا يدل على وضوح المنهج وترابطه لدى الملك عبد العزيز. ويقول في الوحدة أيضاً: "إني أعتبر كبيركم بمنزلة الوالد، وأوسطكم أخاً، وصغيركم ابناً، فكونوا يداً واحدة، وألِّفُوا بين قلوبكم لتساعدوني على المهمة الملقاة على عاتقنا"3. ويقول: "يجب أن تحرصوا على العمل، والعمل لا يكون إلاَّ بالتساند والتعاضد"4.

_ 1 المراد من أجل الله. وانظر المنهج القويم في الفكر والعمل للدكتور التركي ص51. 2 المرجع السابق ص51. 3 من شيم الملك عبد العزيز 3/130 4 الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز ص 207

ويقول: "أنا مسلم وأحب جمع الكلمة، وتوحيد الصف، وليس هناك ما هو أحب إليَّ من تحقيق الوحدة"1. وما قاله الملك عبد العزيز في المنهج طبَّقه بالفعل والإنجاز وما فكَّر فيه من الوحدة حقَّقه في الواقع، كأعظم ما يكون من تحقيق الوحدة، إنَّ المملكة العربية شبه قارَّة. لكن عزيمة الملك عبد العزيز كانت أقوى من المثبطات والصعوبات التي كانت تقف في سبيل التوحيد، حيث مضى يوحد البلاد، ويرصها صفّاً واحداً، تحت رايةٍ واحدة، وخلف قيادة واحدة، في وطنٍ واحدٍ كبيرٍ، في ضوء منهجٍ جامعٍ قويم. لأنَّه يعلم ويؤمن أنَّ أمَّةً تعتنق عقيدة التوحيد وتلتزم شريعة الإسلام لا يحل لها - بحالٍ من الأحوال - أن تتفرَّق وتتشتت؛ لأنَّ ذلك مخالفة جسيمة للعقيدة والشريعة. ومن هنا يعلم أنَّ العزم على رد الأمة إلى العقيدة والشريعة هو عزم - في الوقت نفسه - إلى ردها إلى الوحدة. كما سبق في الآيات الكريمة التي تلوناها، وكما مرَّ في تقرير الملك عبد العزيز رحمه الله للعقيدة عالمياً. المسألة الثانية: اهتمامه بالهدف الخاص للدعامة الثانية: وهو (إيتاء الزكاة) بمعناها المعروف، أي دفعها إلى مستحقيها كما أمر الله بذلك ورسوله صلى الله عليه وسلم. والزكاة أحد أركان الإسلام الخمسة، وقد سبق الكلام على أهميتها في الإسلام. والمنافع التي تعود على المزكِّي والمجتمع والآخذ للزكاة كثيرة، وفيها معنى التعبُّد - كما قال -تعالى-: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] .

_ 1 المصدر السابق ص 216، المنهج القويم في الفكر والعمل ص 51

وليس على المسلم في ماله حق سواها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس في المال حق سوى الزكاة" 1. وقد حدَّد الرسول صلى الله عليه وسلم الأموال التي تجب فيها الزكاة، ومقدار الواجب فيها، والشروط التي يجب توفرها ... وكان الرسولُ صلى الله عليه وسلم مثلاً رائعاً لكل المسلمين في زهده، وعفته، وكرمه، فأقبل الناس على إخراج زكاة أموالهم، مِمَّا أشاع المساواة والعدالة في جوانب الجزيرة القاحلة التي كانت قبل الإسلام تتسم بمظاهر الفوارق والأنانية والسلب والنهب.. لقد اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم بفريضة الزكاة، فبعث السعاة لجمعها وتوزيعها على مستحقيها، وكان هديه صلى الله عليه وسلم انتقاء هؤلاء السعاة وإصدار التعليمات إليهم في معاملة أصحاب الأموال معاملة فيها رفق وتيسير، مع عدم التهاون في حق الله، وكان يحذر هؤلاء السعاة من الغلول ويحاسبهم على التقصير. وكذلك سار على هديه خلفاؤه من بعده رضي الله عنهم. لكن العلماء اختلفوا في الزكاة التي يليها الأئمة ما هي: قال الماوردي2 في الباب الحادي عشر من كتابه (الأحكام السلطانية) : "والأموال المزكاة ضربان: ظاهرة، وباطنة:

_ 1 رواه ابن ماجه في كتاب الزكاة، حديث رقم (1789) من حديث فاطمة بنت قيس أنَّها سَمِعَت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس في المال حق سوى الزكاة". وضعفَّه الألباني في ضعيف الجامع الصغير وزيادته، وأورد عن فاطمة رضي الله عنها: "إنَّ في المال لحق سوى الزكاة". مشكاة المصابيح، حديث رقم (1914) . ويجمع بينهما بأن المنفي الوجوب، والمثبت الندب. وانظر كتاب الماوردي الباب الحادي عشر. وقارن بالتطبيق المعاصر للزكاة ص13. 2 الماوردي: هو علي بن محمد بن حبيب البصري، المعروف بالماوردي، فقيه شافعي، وكنيته أبو الحسن. وُلِدَ بالبصرة سنة (364هـ) . من شيوخه: الحسن بن علي الحنبلي، ومحمد بن عدي المقرئ، وأبو حامد الاسفراييني. ومن تلاميذه: أبو بكر الخطيب، وأبو العينين كادش. ومن مؤلفات: الحاوي في الفقه، ودلائل النبوة في الحديث، والأحكام السلطانية في السياسة. الفتح المبين 1/240، شذرات الذهب 3/286، طبقات الشافعية للسبكي 3/303

فالظاهرة ما لا يمكن إخفاؤه - كالزرع والثمار والمواشي. والباطنة ما يمكن إخفاؤه من الذهب والفضة وعروض التجارة. وليس لولي الصدقات نظر في زكاة المال الباطن، وأربابه أحق بإخراج زكاته منه، إلاَّ أن يبذلها أرباب الأموال طوعاً يتقبلها منهم ويكون في تفريقها عوناً لهم. ونظرهُ مختص بزكاة الأموال الظاهرة يؤمر أرباب الأموال بدفعها إليه وفي هذا الأمر إذا كان عادلاً قولان: أحدهما: أنَّه محمول على الإيجاب، وليس لهم التفرد بإخراجها ولا تجزئهم إن أخرجوها. والقول الثاني: أنَّه محمول على الاستحباب إظهاراً للطاعة، وإن تفردوا بإخراجها أجزأتهم. وله على القولين معاً أن يقاتلهم عليها إذا امتنعوا من دفعها - كما قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة - لأنَّهم يصيرون بالامتناع من طاعة ولاة الأمر بغاة"1. وهذا ما ذهب إليه واختاره أبو عبيد2 في كتاب الأموال. وقال عنه: "هو قول أهل السنَّة والعلم من أهل الحجاز والعراق وغيرهم - في الصامت -؛ لأنَّ المسلمين مؤتمنون عليه كما ائتمنوا على الصلاة. وأمَّا المواشي والحب والثمار فلا يليها إلاَّ الأئمة، وليس لربها أن يغيبها عنهم، وإن هو فرَّقها ووضعها مواضعها فليست كافية عنه، وعليه إعادتها إليهم. فرَّقت بين ذلك السُنَّة والأثر"3.

_ 1 الأحكام السلطانية للماوردي، طبعة نهضة الوطن بمصر، سنة 1298 هـ ص 108، وانظر التطبيق المعاصر للزكاة ص12 للدكتور شوقي إسماعيل. 2 أبو عبيد: القاسم بن سلام. البغدادي، الفقيه الأديب صاحب المصنفات الكثيرة في القرآن والفقه والشعر. توفي سنة 244هـ. مقدمة كتاب الأموال بتحقيق محمد خليل هراس ص5. 3 المراد بالسنة: سنة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، والأثر: آثار الصحابة والتابعين. انظر التطبيق المعاصر للزكاة ص12.

ويقول: "ألا ترى أنَّ أبا بكر الصديق إنَّما قاتل أهل الردة في المهاجرين والأنصار على منع صدقة المواشي، ولم يفعل ذلك في الذهب والفضة"1. والملك عبد العزيز - يرحمه الله - كما سبق - هو داعية عقيدة ومنفذ شريعة، ومتبع لسنة السلف الصالح. فجهوده - بلا شك - ستكون على هذا النحو الذي هو عمل الرسول صلى الله عليه وسلم وعمل خلفائه من بعده. ثُمَّ السلف الصالح. حيث كان يبعث السعاة كل عام لجلب الزكاة من الأموال التي تجب فيها الزكاة وصرفها على مصارفها الشرعية. وكان يحث على أداء الزكاة في المناسبات، ويأمر رجال هيئة الأمر بالمعروف والأئمة والخطباء بتوضيح أحكام الزكاة وبيان مصارفها. ولمَّا توسعت الدولة وكثرت الوزارات والهيئات الحكومية والإدارات والمصالح خصصت للزكاة مصلحة خاصة تقوم على شئونها وتنظيمها وجمعها ثُمَّ تفريقها على مستحقيها، حتى وصل الأمر في الأيام الأخيرة إلى تشجيع أهل الأموال على أداء زكاة أموالهم وذلك بإعطائهم بروات2 تسهل لهم الحصول على الإعانات الحكومية التي تدفعها الحكومة للمواشي والمزارع وغيرها. مِمَّا جعل صاحب المال هو الذي يبحث عن الساعي بعد أن كان الساعي هو الذي يأتي إليه. وقد أدَّى ذلك إلى الاجتهاد في إحصاء الأموال الزكوية ودفع زكاتها بنفسٍ رضية، فجزى الله ولاة الأمر عن ذلك خير الجزاء؛ لأنَّ فيه تعاوناً على البر والتقوى - فضلاً - على أنَّه واجب من واجبات المسلم فرداً كان أو والياً من ولاة الأمر.

_ 1 الأموال لأبي عبيد ص 567، طبعة المكتبة التجارية، سنة 1355هـ. 2 البروات: وثائق تدل على دفع الزكاة.

المطلب الرابع: في جهود الملك عبد العزيز واهتمامه بالدعامتين الثالثة والرابعة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)

المطلب الرابع: في جهود الملك عبد العزيز واهتمامه بالدعامتين الثالثة والرابعة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) : سبق أنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعناهما العام يتناولان الإسلام كله؛ لأنَّه إمَّا أمر بمعروف أو نهي عن منكر. أمَّا بالمعنى الخاص لهما على ضوء الآية الكريمة موضوع البحث، فهما بمعنى السياج الواقي والدرع الحامي والمعلم المستمر الذي يتعاهد شجرة الإيمان بالسقيا ويذود عنها عوادي الأيام من البدع وغيرها. وهما سفينة النجاة التي تسير بهذا الشرع إلى أنحاء المعمورة في صورته العملية النقية وتطبيقاته الجلية. والكلام عن جهود الملك عبد العزيز - رحمه الله - في هذه الدوائر الواسعة من الصعوبة بمكان. ولكن سوف نقتصر على إشارات تضيء، وتنبه المُطَّلِع إلى ما لم يذكر مِمَّا هو في المعنى كالمذكور فنقول: سبق أنَّ كثيراً من المفسرين جعلوا الآية - موضوع البحث - وهي قوله -تعالى-: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41] . أقول: جعلوها متضمنة للغاية الكبرى من وجود الدولة المسلمة، وأنَّ وظيفة الدولة المسلمة تدور حول هذه الدعائم الأربع ومدى تطبيقها على الوالي والرعية.

وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -1: "صلاح أمر السلطان بتجريد المتابعة لكتاب الله وسُنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم، وحمل الناس على ذلك. فالله سبحانه وتعالى جعل صلاح أهل التمكين في أربعة أشياء: 1 - إقام الصلاة. 2 - وإيتاء الزكاة. 3 - والأمر بالمعروف. 4 - والنهي عن المنكر. فإذا أقام الصلاة في مواقيتها جماعة هو وحاشيته وأهل طاعته، وأمر بذلك جميع الرعية، وعاقب من تهاون في ذلك العقوبة التي شرعها الله، فقد تَمَّ هذا الأصل. ثُمَّ كل نفع وخير يوصله إلى الخلق هو من جنس الزكاة، فمن أعظم العبادات: سد الفاقات، وقضاء الحاجات، ونصرة المظلوم، وإغاثة الملهوف. والأمر بالمعروف: هو الأمر بما أمر الله به ورسوله من العدل والإحسان، وأمر نواب البلاد وولاة الأمر باتباع حكم الكتاب والسُنَّة واجتناب حرمات الله. والنهي عن المنكر: هو النهي عما نهى الله عنه. وإذا تقدَّم السلطان بذاك في عامَّة بلاد الإسلام كان فيه من صلاح الدنيا والآخرة، وله وللمسلمين ما لا يعلمه إلاَّ الله، والله يوفقه لما يحبه ويرضاه"2. والملك عبد العزيز نحسبه من هؤلاء الذين عناهم شيخ الإسلام ابن تيمية بهذا الكلام.

_ 1 هو: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام، شيخ الإسلام ابن تيمية، ناصر السُنَّة وقامع البدعة، وُلِدَ سنة 661هـ، مجتهد في جميع الفنون، وقد بذل نفسه وماله من أجل نصرة الإسلام. آثاره كثيرة، من أعظمها مجموع الفتاوى، ودرء تعارض النقل والعقل. توفي سنة 728هـ. شذرات الذهب 1/43، الأعلام 1/55، طبقات الأصوليين 2/139 2 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 28/242، الدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/205-206

ومن الأدلة على جهوده في هذا الباب ما بذله في ولاية الحسبة وهي ولاية شرعية اهتم بها الملك عبد العزيز اهتماماً ملحوظاً وأولاها عناية خاصة وإن كانت أخص من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكنها باب من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واسع ومهم. وقد عني بهذا المسلمون في مختلف العصور لأهميتها. وكان الملك عبد العزيز أول مَنْ أسَّس هيئة رسمية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمكَّة المكرمة بعد فتح الحجاز سنة (1344هـ) 1 تتولى أمر الاحتساب في المملكة العربية السعودية، وكان تسميتها بـ (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) تسمية طبيعية حيث تسعى هذه الهيئة إلى إقامة صرح هذه الولاية الدينية المهمة (ولاية الحسبة) . وقد جاء في قرار إنشائها أنَّ أهدافها هي الأهداف الخمسة الآتية: 1 - تتبع المعاملات والعادات، فما وافق الشرع منها تقره، وما خالفه تزيله. 2 - منع البذاءة اللسانية التي تعودها السوقة. 3 - حث الناس على أداء الصلوات الخمس جماعة. 4 - مراقبة المساجد من جهة أئمتها ومؤذنيها ومواظبتهم، وحضور الناس بها، وغير ذلك من دواعي الإصلاح. 5 - أن تتخذ في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جميع الوسائل الموصلة إلى ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة، وإذا أعياها أمر من الأمور رفعت مذكرة إلى ولي الأمر لإجراء اللازم"2.

_ 1 الدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/315 2 لمحات من الإصلاحات الدينية والاجتماعية في عهد صقر الجزيرة، بحث ودراسة تاريخية من إعداد إبراهيم محمد سرسيق 1407هـ، والدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/329-330

ثُمَّ تطورت مهام الهيئة وإجراءاتها فيما بعد. واتسعت دائرة المهام الموكلة إليها. "ومع أنَّه لا يمكن إغفال الأثر الذي ترتب على تأسيس هذه الهيئة، إلاَّ أنَّه لا ينكر - أيضاً - الجهد الذي قام به الملك عبد العزيز شخصياً في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والمتمثل في رسائله ومناصحته للأمراء وعامَّة الناس بوجوب التزام الطاعات والانتهاء عن المنكرات، حيث عرف عن الملك عبد العزيز - رحمه الله - أنَّه آمر بالمعروف، ناهٍ عن المنكر، متمسك بأحكام الشريعة الإسلامية قولاً وعملاً في كافة المجالات، عاملٌ بما يحقق المصلحة لبلاده وشعبه، محباً للعلماء، كثير التوجيه والنصح والإرشاد لهم إيماناً بأنَّ محبة الخير لإخوانه كمحبته لنفسه"1. قال الملك عبد العزيز - رحمه الله - في اجتماع له بموظفي الدولة: "نحن وضعنا جماعة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فبلاغاتها ومقرراتها تشمل الجميع على السواء، وأنتم يا جماعة الموظفين أحق الناس باتباع أوامرها واجتناب منهياتها، فإنَّكم أنتم المكلفون بتنفيذها، فإذا كنتم لا تبدأون بأنفسكم وتكونون قدوة صالحة للناس يصعب تطبيقها وتنفيذها". وقد أمر -رحمه الله- بعض منسوبي الاحتساب2 بأمور: أولها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا - كما يقول الملك عبد العزيز - هو رأس المال. ثانيها: سعة الصدر مع الناس بحيث يعطي كل ذي حق حقه بالشرع، ولا يتعدى أمر الشرع3.

_ 1 جريدة أم القرى، عدد (142) الصادر في يوم الجمعة 6 ربيع الأول سنة 1346 هـ. 2 هما: محمد بن طرمان، ومحمد بن مرضي. الدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/332 3 الرسالة مخطوطة بدارة الملك عبد العزيز تحت رقم (1979) .

والمحلل لعبارات الملك عبد العزيز السابقة يجد فيها من حرص الملك عبد العزيز إيمانه بضرورة الحسبة وأهميتها، حيث يلاحظ ما يلي: أ - تقديم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الأمور التي وصى بها. ب - وصفه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأنَّه (رأس المال) أي أنَّه أساس لابُدَّ من المحافظة عليه1. 2 - وفي عام 1355هـ عقد اجتماعاً عامّاً من الرؤساء وأهل الحل والعقد، وكان مِمَّا قاله في هذا الاجتماع ما يلي: "يجب أن ننظر في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تنفيذاً لأمر الله وحفظاً له، ويجب أن ننظف أنفسنا من الأدران ونطهرها من كل الأمور المخالفة، وندنو إلى ما يرضي الله ونخاف عقوبته، إذ ليست هناك عقوبة أشد من عقوبة الله جلَّ وعلا. وهذه البلاد يجب أن تكون قدوة صالحة للمسلمين في كل عمل من أعمالها، ونحن نطلب المساعدة في هذا الشأن منكم ومن الأهلين، ونريد أن تكونوا عوناً للحكومة في هذا الأمر؛ لأنَّه إذا كان الجميع اتفقوا على درء المفاسد، سهل العمل. أمَّا إذا كانت إجبارية صعب حلّها وطال أمرها، وإنَّ المساعدة التي نطلبها هي: أولاً: مساعدة الأهالي. ثانياً: ترتيب طريقة لدرء المفاسد، والحيلولة دون الفساد، لنتمكن من إقامة الشرع الشريف، فإذا عملنا هذا قمنا باللازم، وهذا أهم ما يجب العناية به؛ لأنَّ الدنيا إذا كثرت خيراتها وأُهْمِلَ الدين فلا فائدة ترجى منها.

_ 1 الدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/333

أمَّا إذا عُمِّرَ الدين ونُفِّذَت أوامره واجتنبت محارمه، صلُحَت الدنيا، فأنا أرجو أن تفكروا في طاعة الله ومخافته، واتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأرجو أن تهتموا بالأمر اهتماماً شديداً، فبإصلاح هذه المسألة يصلح كل شيء"1. وجهود الملك عبد العزيز في هذا المجال جليلة وعظيمة، وأقواله وأفعاله في هذا الباب تدل على أنَّه منفذ شريعة حقاً، وهي كثيرة، وما ذُكِرَ إنَّما هو نماذج منها فقط للتدليل على جهود الملك عبد العزيز في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر2.

_ 1 الملك عبد العزيز ووضع قواعد التنظيم القضائي في المملكة ص 25-26 2 الدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/299-301. وفي هذه الصفحات خطبة مفيدة وطويلة، ولولا أنَّ المقام لا يحتمل التطويل لنقلتها.

المبحث الثاني: في جهود أبناء الملك عبد العزيز –رحمه الله– في ترسيخ تلك الدعائم والأسس

المبحث الثاني: في جهود أبناء الملك عبد العزيز –رحمه الله– في ترسيخ تلك الدعائم والأُسس المبحث الثاني: في جهود أبناء الملك عبد العزيز –رحمه الله– في ترسيخ تلك الدعائم والأُسس ... المبحث الثاني: في جهود أبناء الملك عبد العزيز –رحمه الله– في ترسيخ تلك الدعائم والأُسُس: لقد كان للمنهج القويم الذي سار عليه الملك عبد العزيز -رحمه الله-، آثار وثمار طيبة آتت أكلها بإذن ربها. فالملك عبد العزيز ارتفق منهجاً واضحاً أساسه العقيدة الصافية، ولحمته الشريعة الكاملة المنظِّمَة لجميع شئون الحياة في الدنيا والآخرة. وهدفه وغايته تحقيق الأخوة الإسلامية كما أرادها الله تعالى، ثُمَّ رضى الرب سبحانه وتعالى الذي وعد بالنصر والتمكين لمن ينصره، قال -تعالى-: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40] ، وقال -تعالى-: {الذين إنْ مكّنَّاهم في الأرض الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 41] . وقد سبقت جهود الملك عبد العزيز في تحقيق وتطبيق هذه الأسس والدعائم. فكان من ثمار تلك الجهود المباركة أن أسس الملك عبد العزيز الدولة وأقام الوحدة، وأكسب بلاده احتراماً ووزناً بين الدول، إلى غير ذلك من الأمجاد التي لا يتسع المقام لحصرها. فلمَّا توفاه الله إلى جواره - قام أبناؤه من بعده - وهم من ثمار منهجه وخريجي سياسته الحكيمة -بالمحافظة على تلك الأسس والدعائم- بكل أمانة وعزم وهمة وشموخ1. وهذا وفاء كريم لوالد كثير العطاء متتابع الإنجاز موفور الأمجاد. إنَّ الكيان الذي بناه الملك عبد العزيز قد ازداد - في عهد أبنائه - عمقاً وتنوعاً وازدهاراً مع المحافظة على الأساس والغاية والهدف الذي كان الملك

_ 1المنهج القويم في الفكر والعمل ص 114

عبد العزيز - رحمه الله - يسعى إليه؛ لأنَّ المنهج الذي كان الملك عبد العزيز يسير عليه في جميع شئونه ليس منهجاً (اجتهادياً) من حيث الأصول والأسس، يطرأ عليه من التبديل والتغيير والتعديل أو التحوير والنقص ما يطرأ على كل المناهج الأخرى التي ليست لها قداسة المصدر، ولا معجزة حفظ النص، ولا خصيصة الخلود، ولا ميزة الشمول والتنوع. نعم إنَّ المنهج القويم الذي جاهد الملك عبد العزيز زمناً طويلاً في سبيله باقٍ مستمر بإذن الله وتوفيقه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ لأنَّه عقيدة الأمة وشريعتها، وقوام وحدتها. ولأنَّ تطبيقه آية إيمانها الكامل بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. ولأنَّها تعرف مصدره ونصوصه ولغته. ولأنَّها تتعامل معه في حياتها اليومية، في الصلاة، وقراءة القرآن، وفي الحلال والحرام، في المطعومات والمشروبات، وفي الزواج والطلاق، وتسمية الأولاد، وفي بر الوالدين، وصلة الأرحام، وغير ذلك مما يعتبر - وحده - منهجاً متكاملاً للحياة منبثقاً من المنهج العام1. ولأنَّه منهج تفرَّعت عنه سائر الأنظمة التي تنظم حياة المجتمع وشئون الدولة2. إنَّ الذين وسعوا وعمَّقوا وأضافوا - مع المحافظة على عدم المساس بالأصل، هم خريجو مدرسة الملك عبد العزيز، هم أبناؤه الأوفياء الأمناء الأقوياء، الذين تولوا قيادة سفينة النجاة من بعده، وهم الملك سعود، والملك فيصل، والملك خالد -رحم الله الجميع- حتى وصلت القيادة إلى يد خادم

_ 1 المرجع السابق ص 110 2 الملك عبد العزيز والمنهج القويم في الفكر والعمل ص 109، 115 مع بعض التصرف.

الحرمين الشريفين -حفظه الله تعالى- وأطال في عمره؛ فكانوا خير خلف لخير سلف. وقبل أن نذكر الشواهد والدلائل على تقرير أبناء الملك عبد العزيز وترسيخهم لدعائم التمكين نستمع أولاً إلى ما يقوله خادم الحرمين الشريفين في بيان السياسة الشرعية التي اتبعها آل سعود، حيث يقول: "لقد قامت السياسة الشرعية التي انتهجها آل سعود على الأسس الآتية: أولاً: عقيدة التوحيد التي تجعل الناس يخلصون العبادة لله وحده لا شريك له، ويعيشون أعِزَّة مكرمين. ثانياً: شريعة الإسلام التي تحفظ الحقوق والدماء وتنظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وتضبط التعامل بين أفراد المجتمع، وتصون الأمن العام. ثالثاً: حمل الدعوة الإسلامية ونشرها حيث إنَّ الدعوة إلى الله من أعظم وظائف الدولة الإسلامية وأهمها. رابعاً: إيجاد بيئة عامَّة صالحة مجردة من المنكرات والانحرافات تعين على الاستقامة والصلاح، وهذه المهمة منوطة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. خامساً: تحقيق الوحدة الإيمانية التي هي أساس الوحدة السياسية والاجتماعية والجغرافية. سادساً: الأخذ بأسباب التقدم وتحقيق النهضة الشاملة التي تيسر حياة الناس ومعاشهم وتراعي مصالحهم في ضوء هدي الإسلام ومقاييسه. سابعاً: تحقيق الشورى التي أمر الإسلام بها ومدح من يأخذ بها، إذ جعلها من صفات المؤمنين. ثامناً: الدفاع عن الدين، والمقدسات، والوطن، والمواطنين، والدولة. هذه هي الأصول الكبرى التي قامت عليها الدولة السعودية1.

_ 1 كلمة لخادم الحرمين الشريفين ألقاها بمناسبة صدور النظام الأساسي للحكم في الدولة السعودية. انظر نص الخطاب في جريدة الجزيرة، عدد (7095) في يوم الاثنين 28/8/1412هـ. والدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/113

ومن يتأمَّل هذه الأُسس التي جاءت في كلمة خادم الحرمين الشريفين التي ألقاها بمناسبة صدور النظام الأساسي للحكم في الدولة السعودية، يجدها قد تضمنت أسس ودعائم التمكين التي ذُكِرَت في الآية موضوع البحث، وقررت ذلك أيما تقرير مِمَّا يدل دلالة واضحة أنَّ أسرة آل سعود تسير في جميع عهودها على ضوء تلك الدعائم الأربع المذكورة في الآية. يقول الدكتور صالح بن عبد الله العبود - مدير الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية -: "لمَّا توفي الملك عبد العزيز - رحمه الله - تولَّى بعده الملك سعود - رحمه الله - وفي عهده تمَّ فتح الجامعة الإسلامية، وتوسعة الحرم المكي والمسجد النبوي الشريف - كما سبق - وكان في المناسبات يشكر الله على ما حبا به الشعب السعودي من نعمة التمسك بكتاب الله وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم في السمع والطاعة ولزوم طريق أهل السُنَّة والجماعة. ويذكر أنَّ أول ما يهم الجميع هو الاعتصام بحبل الله المتين، واتخاذ الوسائل التي تمكن روح التوحيد الخالص في قلوب أفراد الشعب كافة حتى يخلص الجميع العبادة لله وحده، والسير في ذلك بهدي الكتاب والسُنَّة في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة في كل مجال، وعلى الأخص في المدارس. ومراقبة ذلك وحثّ الناس على كل ما يأمر به الشرع الإسلامي ومنعهم من كل ما ينهى عنه؛ لأنَّ في ذلك خيري الدنيا والآخرة. ولأنّه ليس شيء من الخير إلاَ أمر به الإسلام، وليس شيء من الشرّ إلاَّ ينهى عنه الإسلام"1. وهكذا نرى أنَّ المنهج الذي يترسمه ويهتدي بضوئه أبناء الملك عبد العزيز هو نفس المنهج الذي تبناه وجاهد من أجله المؤسس الأول. وهو تحقيق

_ 1 انظر: تاريخ الدولة السعودية، عهد سعود بن عبد العزيز. تأليف أمين سعد 3/17-18، وعقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي ص 611

وترسيخ عقيدة السلف الصالح وتطبيق الشريعة الإسلامية في جميع شئون الحياة على كافة أفراد الشعب يستوي في ذلك الراعي والرعية. وهذا مثال على جهود أبناء الملك عبد العزيز في ترسيخ وتقرير الدعامة الأولى من دعائم التمكين، وهو تحقيق العقيدة وتنفيذ الشريعة. أمَّا الدعامة الثانية للتمكين فنذكر لها مثالاً في الهدف العام منها وهو تحقيق الأخوة الإسلامية والوحدة الإيمانية. جهود الملك فيصل بن عبد العزيز -رحمه الله- رائد التضامن الإسلامي، ذي الجهد الصادق المشكور، الذي بذل كل ما في وسعه من أجل جمع كلمة المسلمين وتضامنهم تحت راية التوحيد، عملاً بقوله -تعالى-: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] . وقوله -تعالى-: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92] . وحيث إنَّ العالم يتعرَّض لهجمات سياسية وفكرية من أعدائهم، فكل ذلك يحتم على المسلمين أن يتضامنوا ويتحدوا تحت عقيدة واحدة وراية واحدة، كما أمرهم ربهم، ولا سيما في مقابل تضامن أعدائهم عليهم. إنَّ جَمْعَ أكثر من ستمائة مليون مسلم على الشعور بالرابطة الإسلامية وتوحيدهم بذلك كفيل بالوقوف أمام أعدائهم أن يستبيحوا بيضتهم ويتسلطوا على ديارهم ومقدساتهم في فلسطين وغيرها. ولهذا تبنى الملك فيصل -رحمه الله- الدعوة إلى مؤتمر القمة الإسلامي في الرباط بالمغرب، عام 1389هـ، ثُمَّ تلته مؤتمرات أخرى. وكان مِمَّا قاله في خطاب له ألقاه في موسم الحج يدعو فيه إلى تضامن المسلمين: "أيها الأخوة.. إنَّ الإسلام هو دين المحبة، دين الأخوة، دين السلام، دين القوة، دين العلم، دين البناء، دين التقدم، دين الفضيلة ... لم يبق فضيلة ولا مكرمة إلاَّ دعا إليها، ولم يبق رذيلة إلاَّ حذَّر منها، فحينما نقوم

بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وإلى اتباع ما جاء به في كتابه وسنة نبيه.. فإنَّما تؤدون1 واجباً مفروضاً عليكم تجاه ربكم ودينكم وتجاه أنفسكم.. وإنَّ واجب المسلمين أن يتكاتفوا ويثبتوا لما يصيبهم من مكاره وما يعترض سبيلهم من صعاب، وعليهم أن يسعوا إلى ما يؤلف قلوبهم ويقرب بينهم، ويبذر بذور المحبة والأخوة والتعاون فيما يصلح دينهم ودنياهم" 2. وقال وهو يتحدث عن تحرير المسجد الأقصى: "أيها الأخوة المسلمون. نريدها غضبة ونهضة إسلامية، لا تدخلها قومية ولا عنصرية ولا حزبية، إنَّما دعوة إسلامية، دعوة إلى الجهاد في سبيل الله، في سبيل ديننا وعقيدتنا دفاعاً عن مقدساتنا وحرماتنا، وأرجو الله سبحانه وتعالى أنَّه إذا كتب لي الموت أن يكتب لي الموت شهيداً في سبيل الله". ونرجو أن يكون قد نال الشهادة التي تمناها3. ومن كلمات الملك فيصل رحمه الله: "إنَّ غيرنا من الحكام مقلدون وليسوا مبتكرين، ونحن لسنا في حاجة إلى استيراد تقاليدنا من الخارج، وقد كان لنا تاريخ مجيد، وقدنا العالم، نحن لنا أجداد وأمجاد وتاريخ وتراث. فلماذا نتنصل من هذا ونلتفت يميناً وشمالاً نتلمس الطريق، ونتلمس المبادئ؟! تراثنا أشرف تراث، وتاريخنا أشرف تاريخ، وأمتنا خير أمة أخرجت للناس. ونحن لا نقبل أبداً أن يقال عن ديننا وعن شريعتنا إنَّه دين التأخر والجمود. نحن نريد لأمتنا أن تكون قائدة لا مقودة، وأن تكون في المقدمة لا في

_ 1 التفات من التكلم إلى الخطاب. لأنه كان يتكلم بضمير المخاطب نقول، ثم بضمير الخطاب تؤدون. 2 تاريخ المملكة العربية السعودية للصف الثالث المتوسط، ط 1 عام 1394هـ ص 291 3 عالم جهبذ وملك فذ، بقلم عبد المحسن العباد ص 26-27

المؤخرة، وبإمكاننا أن نتقدم ونمسك الأمر إذا اتبعنا كتاب الله وسُنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم"1. ومن كلمة له ارتجلها في الحفل الذي أقامته الجامعة الإسلامية بمناسبة زيارته لها: "أيها الأخوة.. إنَّ المسئولية الملقاة على عواتقكم وعواتق الجميع مسئولية عظيمة، فاسعوا إلى التفقه في دينكم ومعرفة كل ما يمكن معرفته لتكونوا مسلحين بسلاح العلم وسلاح الفقه وبسلاح المعرفة حتى تكونوا مستعدين لما يجابهكم من صعاب ومن دعوات مضللة ومن مجهودات يرغب ويأمل أصحابها أن يأخذوا من هذا الدين وأن يحطوا من قدره وأن يهاجموه بكل ما أوتوا من قوة. وإنَّني لأرجو الله مخلصاً أن يهبكم الصبر والشجاعة والقوة لتكافحوا في سبيل هذا الدين ولتبصروا الناس بما يحتويه هذا الدين، وما تحتويه هذه الدعوة والشريعة من مزايا ومن مكارم ومن أسس هي أصلح ما يكون للبناء الذي يهدف إلى صالح البشر وإلى خير الأُمَّة، ولا يهدف إلى التزوير وإلى البدع والمضللات وإلى هدم الكيانات البشرية وإلى هدم الأخلاق وكل ما هو كريم في بني الإنسان"2. ومن هذا نعلم عظم الجهود التي بذلها الملك فيصل رحمه الله في ترسيخ عقيدة السلف الصالح وتوطيد وحدة الأُمَّة والعمل على تضامن المسلمين، حيث قام برحلات عديدة إلى الأقطار الأفريقية والآسيوية وبعض الدول الأوربية لشرح وجهة نظر المملكة من منطلق إسلامي تجاه الخطر الصهيوني على العرب والمسلمين.

_ 1 تاريخ المملكة العربية السعودية للصف الثالث المتوسط ص 289-290 2 عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأثرها في العالم الإسلامي ص 618

وقبل أن ينتقل الحديث عن هذا الموضوع، أحب أن أشير إلى أنَّ الملك فيصل -رحمه الله- خلال زيارته للجامعة الإسلامية زار كلية الشريعة ودخل على فضيلة الشيخ محمد الأمين -صاحب أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن- رحمه الله- وكان مِمَّا شرحه الشيخ أمام الملك فيصل -رحمه الله- الآية الكريمة موضوع البحث {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} فأعجب بما قاله الشيخ محمد الأمين في تفسيرها وشكره على ذلك. وأمَّا جهود أبناء الملك عبد العزيز -رحمه الله- في ترسيخ وتطبيق الدعامتين الثالثة والرابعة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) : فقد تقدَّم أنَّ المبدأ والأساس لم يتغير، وإنَّما حدث توسيع في الوسائل وتطور في التنظيم، لما توفرت المادة التي ساعدت على ذلك، والآلة التي سهلت توصيل الدعوة إلى الناس. وقد مرَّ أنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل مسلم بقدر الاستطاعة "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" 1. ومرَّ أيضاً أنَّ من وظائف الدولة المسلمة التي دلَّت عليها الآية موضوع البحث وغيرها من أدلة الشرع (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) . وأنَّ ذلك يشمل الدين كله؛ لأنَّه إمَّا أمر أو نهي 2. ولأهمية هذا الأمر -كما سبق- كان الملك عبد العزيز -حمه الله- وأبناؤه من بعده يحرصون على تنفيذ هذا المبدأ ويقومون بالأمر بالمعروف والنهي

_ 1 سبق تخريجه ص 83 2 انظر مبحث أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص 87

عن المنكر بأنفسهم، ويحثون من يلون أمرهم بذلك، كما أسندت مهمته إلى هيئة خاصة هي هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو ما يعرف بـ (ولاية الحسبة) في الإسلام. وهي من باب الدعوة إلى الله تعالى، وإن كانت أخص من الدعوة. وحيث إنَّ المقام لا يتسع لذكر ما يتعلَّق بهاتين الدعامتين (الأمر بالمعروف والنهي بالمنكر) وكذلك الدعوة إلى الله في عهود أبناء الملك عبد العزيز -رحمه الله-، فسأقتصر على الوسائل التي تقوم بهذه المهمة: 1 - وسائل أصلية بمعنى أنَّها كانت معروفة من زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وعبر العصور المتتالية في تبليغ الدعوة إلى الله. 2 - وسائل إعلامية حديثة- أي: لم تعرف إلاَّ حديثاً– كالصحافة والإذاعة. فمن النوع الأول ما يلي: 1) هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد سبق الكلام عليها وبيان وظائفها. 2) تعيين القضاة والمفتين، فإنَّ ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 3) التعليم في المساجد. 4) تعيين الأئمة والخطباء في المساجد للدعوة. 5) إرسال العلماء والدعاة إلى البادية والهجر. وكان ذلك في عهد الملك عبد العزيز، أمَّا اليوم فقد تجاوز إرسال الدعاة إلى خارج المملكة، وهناك وزارة خاصة بالأوقاف والدعوة والإرشاد، بلغ عدد دعاتها خارج المملكة أكثر من (2000) داعية. 6) رسائل العلماء ومكاتباتهم.

7) استقبال الوفود. وقد سبق أنَّ الملك عبد العزيز -رحمه الله- قد استغل هذه الوسيلة في نشر الدعوة السلفية خارج المملكة. 8) إنشاء المدارس. 9) إقامة الجهاد. كل هذه وسائل تستخدمها الدولة المسلمة في تبليغ الدعوة إلى الله، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وحيث إنَّ المملكة العربية السعودية قد التزمت بتطبيق الشريعة الإسلامية، فقد انعكس أثر ذلك على الأجهزة والقطاعات والمرافق التي أنشئت لتصريف دفة الحكم والقيام بمسيرة الحياة العملية لكيان الدولة. وذلك بأن تتوافق في نشأتها وحركتها مع مبادئ وتعاليم الإسلام. وإنَّه مهما توسعت تلك القطاعات أو تفرعت؛ فإنَّها تلتزم بالسير وفق تلك المبادئ الإسلامية. وبالتالي فإنَّ جهودها تلتقي في النهاية لخدمة الإسلام والمسلمين. وإنْ كان بعض الأجهزة يظهر فيها ذلك بشكل أوضح، فإنَّما يعود لكونها أجهزة تقوم بدور أساس في هذا الجانب بينما غيرها يقوم بدور مساعد، لكنها في النهاية تخدم دولة التزمت بتطبيق الشريعة وخدمة الإسلام، فانسحب ذلك الدور على كافة الأجهزة1. وما ذكر إنَّما هو للتمثيل وبيان للأجهزة الحكومية التي تقوم بدور أساس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتبليغ الدعوة إلى الله بالوسائل الأصلية. أمَّا القسم الثاني الوسائل الإعلامية الحديثة فمنها: 1 - الصحافة بأنواعها. 2 - الإذاعة والتلفاز. 3 - طباعة الكتب الإسلامية ونشرها.

_ 1 التطبيقات العملية للحسبة ص 201

والمقام لا يتسع لإعطاء فكرة أولية عن أهمية هذه الوسائل وما تقوم به في سبيل الدعوة، فضلاً عن تفصيل الأعمال المشكورة التي قامت بها أو تقوم بها هذه الوسائل في سبيل نشر العقيدة السلفية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لكن نشير هنا إلى أهم الجهود التي حدثت في عهد أبناء الملك عبد العزيز رحمه الله في أهم هذه الجوانب، ونحيل على ما سبق الكلام عليه، ومن ذلك ما يلي: 2 - جهود أبناء الملك عبد العزيز في بناء المساجد وعمارتها: نظراً لما للمسجد من مكانة في قلوب المسلمين، وما له من دور في نشر الدعوة إلى الله، فقد اهتم به المسلمون عبر العصور، وسبق ما بذله الملك عبد العزيز من الأمر بتوسعة الحرمين الشريفين لَمَّا ضاقا عن اتساع الوافدين للحج أو العمرة. ولكن أكبر توسعة شهدها الحرمان الشريفان هي التوسعة التي تمَّت على يد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز -أطال الله في عمره- فقد وجه حفظه الله بإجراء توسعة للحرم المكي الشريف، وذلك بإضافة جزء جديد إلى مبنى الحرم، وتبلغ مساحته (000ر76 متراً مربعاً) تستوعب (000ر65) مصلٍّ. وبهذه التوسعة تصل مساحة الحرم الإجمالية (000ر309 متراً مربعاً) تتسع لـ (000ر695) مصلٍّ. وفي صفر عام 1405هـ تمَّ وضع حجر الأساس لتوسعة المسجد النبوي الشريف، وقد تضمن المشروع إضافة مبنى جديد إلى مبنى المسجد الحالي بمساحته الحالية، وعلى أن يتصل به من الشمال، والشرق، والغرب، لتصبح المساحة الإجمالية بالدور الأرضي للمسجد (500ر98 متراً مربعاً) وعلى أن يستفاد من سطح التوسعة، وهي مساحة (000ر67) متراً تستوعب (90) ألف مصل، وبذلك يتسع المسجد النبوي بعد التوسعة لأكثر من (257) ألف

مصلّ1، عدا الساحات المحيطة به، وقد واكبت هذه التوسعة العملاقة التي كانت محل إعجاب جميع المسلمين أعمال أخرى مشكورة، ومنها: 1 - إقامة محطة للتبريد والتهوية على مسافة سبعة كيلومترات من المسجد. 2 - تزويد المسجد بكل ما يحتاجه من كهرباء وماء وفرش فاخر وماء بارد وغير ذلك مما يهيئ الجو المناسب ويساعد على إقامة الصلاة في هذه الأماكن وخشوع القلوب لمرتاديها. 3 - مشروع خادم الحرمين لطباعة مصحف المدينة النبوية وتزويد المساجد داخل المملكة وخارجها بما تحتاجه من هذه المصاحف التي طُبِعَت على أعلى المستويات، وتمَّت مراجعتها على أيدي علماء أجِلاَّء متمكنين في هذا المجال، وذلك لأول مرة في تاريخ طباعة المصحف الشريف. 4 - ولم تقتصر عناية خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله تعالى- على بناء المساجد وعمارتها وتوسيعها في داخل المملكة العربية السعودية؛ بل امتدت جهوده الطيبة إلى جميع أقطار العالم، فوصلت إلى كل مكان يوجد فيه مسلمون أو أقليات إسلامية، حيث أمر ببناء المراكز الإسلامية والثقافية، وتشييد المساجد فيها نظراً لأهمية المسجد وما له من مكانة عالية في الإسلام.. وما مسجد خادم الحرمين الشريفين في جبل طارق عنا ببعيد، حيث افتتح في العام الماضي.. وإنَّك أيها القارئ الكريم أينما ذهبت في هذه المعمورة في قاراتها وعواصم دولها، لتجد هذه المراكز منتشرة فيها لتقوم بدور الدعوة إلى الله تعالى

_ 1 انظر كتيب (الحَرَمَان الشريفان) إعداد وزارة الإعلام. الأهلية للأوفست بالرياض، وملف موجود بمكتب المؤسسة التي قامت بتنفيذ المشروع وهي مؤسسة بن لادن، وبلغت هذه التكلفة حوالي 6 بليون ريال. وانظر: التطبيقات العملية للحسبة ص232

ونشر العقيدة السلفية الصالحة، فجزى الله خادم الحرمين الشريفين عن هذه الجهود وجعلها في موازين حسناته. 2 - طباعة الكتب الإسلامية ونشرها: نظراً لأهمية الكتب والمخطوطات في نشر الدعوة إلى الله تعالى، فقد اتجه الملك عبد العزيز رحمه الله إلى طبع نفائس من كتب التراث المخطوطة، ومن كتب العلم المهمة، مما يتصل بالدعوة، وكذلك الكتب الأدبية، وغيرهما مما يجد في نشرها خدمة للدعوة السلفية، أو تشجيع المؤلفين والناشرين، وكانت سياسته في طبع الكتب والمخطوطات أنَّه يأخذ بما يشير به العلماء1. ولذلك كانت الكتب التي أسهم في طبعها تضم: 1 - كتب الدعوة المعتمدة. 2 - كتب التفاسير المعتبرة. 3 - كتب في الحديث والفقه الإسلامي في موسوعاته الكبرى. 4 - كتب تاريخية عظيمة الفائدة. 5 - كتب في الأدب ودواوين بعض الشعراء2. ولم يقتصر على طبع الكتب باللغة العربية، بل هناك كتب نشرها الملك عبد العزيز باللغة الجاوية، والهندية، لتعميم الفائدة، ونشر الدعوة في الأقطار الإسلامية. ومما هو جدير بالذكر أنَّ جهود الملك عبد العزيز وأبنائه من بعده في مجال الكتب اتخذت ثلاثة مسارات: أ - تمويل طباعة الكتب الإسلامية.

_ 1 الدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/503 2 المرجع السابق 1/ 505

ب - دعم ناشري الكتب قبل الطبع وبعده. جـ- شراء كميات من الكتب بقصد التوزيع والتشجيع1. ومن أهم الكتب التي طُبِعَت على نفقة الملك عبد العزيز أو أحد أبنائه ما يلي: 1 - تفسير ابن كثير، والبغوي. 2 - البداية والنهاية لابن كثير. 3 - مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، لجماعة من علماء نجد. 4 - المغني والشرح الكبير لابن قدامة المقدسي في الفقه. 5 - روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه. 6 - جامع الأصول لابن الأثير في الحديث، ومعالم السنن للخطابي. 7 - الآداب الشرعية لابن مفلح في الأدب. 8 - شرح العقيدة الطحاوية في العقيدة السلفية، لأبي العز الحنفي. 9 - مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم في العقيدة. 10- درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية. 11- الفتاوى لابن تيمية. 12- مختار الصحاح للجوهري. 13- مسند الإمام أحمد. وغير ذلك كثير. ومن عرض هذه الكتب التي طبعت على نفقة الملك عبد العزيز أو أحد أبنائه، يتأكد لنا أنَّها تخدم العقيدة الإسلامية، ومن ثم كان لها الأثر الكبير في نشر الدعوة السلفية في مختلف البلدان، وبخاصة أنَّ هذه المطبوعات تضمنت العديد من الكتب التي تذب عن الدعوة الإسلامية والعقيدة السلفية النقية2، فجزى الله كل من أسهم في ذلك خير الجزاء.

_ 1 المرجع السابق ص 505 2 المرجع السابق 1/ 517

المبحث الثالث: في ثمرات تطبيق تلك الدعائم

المبحث الثالث: في ثمرات تطبيق تلك الدعائم المبحث الثالث: في ثمرات تطبيق تلك الدعائم ... المبحث الثالث: في ثمرات تطبيق تلك الدعائم: يجب على كل مسلم آمن بالله رباً، وبرسوله محمد –صلى الله عليه وسلم- رسولاً مبلغاً أميناً، وبالإسلام ديناً كاملاً صالحاً لكل زمان ومكان، أن لا يعتريه شك في حصول الثمار المرتبة على تطبيق دعائم التمكين في الأرض التي تضمنتها الآية الكريمة التي هي موضوع البحث؛ لأنَّ الله -سبحانه وتعالى- هو الذي أخبر بذلك ووعد بالنصر والعاقبة الحميدة لمن عمل بتلك الدعائم وخبر الله ووعده لا يتخلف متى ما توفرت فيه الشروط، وانتفت الموانع. والمسلمون عامّة - والعرب منهم خاصة - مرهون عزهم ومكانتهم بمدى تطبيقهم للإسلام، كما قال -تعالى- في شأن الرسول –صلى الله عليه وسلم- وقومه: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلون} [الزخرف: 44] . وكما قال الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "نحن أمة أعزها الله بالإسلام، فإذا ابتغينا العزة من غيره أذلنا الله"1. ولك أن تتخيَّل -أيها القارئ الكريم- أمَّةً قد قامت بشرع الله وطبَّقته على نفسها، ولم تكتف بهيئات التطبيق الظاهري، وإنَّما أوفته حقه كاملاً كما أمر الله بذلك. ثُمَّ توحدت قلوب أفرادها حول هذا الدين الكامل، فأصبحوا أخوة متحابين في الله، ومن أجل الله، وتواصوا بالحق وبالصبر عليه. ولم يقتصر نفعهم على أنفسهم وحسب. بل تعدَّى ذلك إلى غيرهم مِمَّن هو بمنزلة النفس في تشريعات الإسلام.

_ 1 ينظر تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص174، وتاريخ الدعوة د. جمعة على الخولي2/109، دار الطباعة المحمدية الطبعة الأولى 1405هـ.

وبعد ذلك كله قد أقامت هذه الأمة المؤمنة المتحابة المطبقة لتعاليم الإسلام -على نفسها- رقيباً منها يتعهد أفرادها وجماعاتها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بحيث لا يدع مجالاً يدخل منه ما يفسد البنيان الواحد الذي يشد بعضه بعضاً، ويتألَّم لآلام بعضه الآخر، ويراقب بعضه أعمال بعض، فيثبت ما فيها من خير، ويعمل على تقويته وزيادته، ويدفع عنها الشر ويعمل على منعه ويسد منافذه. إنَّ أمّةً تكون بهذه الصورة لا شكَّ أنَّها تستحقق النصر والتمكين في الأرض، ويتحقّق فيها ما وعد الله عليه بالنصر والعاقبة الحميدة وهي أقرب ما تكون إلى مَنْ قال الله -تعالى- فيهم: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] ، وقوله -تعالى-: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26-27] . وقد سبق أنَّ تطبيق دعائم التمكين قد تحققت في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه من بعده، وهي ثمار ونتائج لم تتحدد بزمان أو مكان، وإنَّما علقت بوجود شروطها، فمتى توافرت الشروط ترتبت عليها الثمار، وتحقق الوعد بالتمكين في الأرض. ومن خلال دراسة هذا الموضوع وبيان جهود الملك عبد العزيز -رحمه الله- وأبنائه من بعده في تقرير وتطبيق دعائم التمكين في الأرض على أنفسهم ورعيتهم، نحسب أنَّ أولئك الحكَّام المسلمين الذين مكَّن الله لهم في الأرض يدخلون فيمن عناهم الله -تعالى- بقوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41] . ذلك أنَّ أسرة آل سعود منذ وجودها قد ارتفقت منهجاً إسلامياً يقوم على تطبيق دعائم التمكين التي جاءت في الآية الكريمة موضوع البحث، فكان من ثمار ذلك -وخاصَّة في عهد الملك عبد العزيز وأبنائه من بعده- ما يلي:

1 - قيام دولة إسلامية كبرى، هي المملكة العربية السعودية1. مملكة العقيدة المنجية، ومملكة الشريعة المنظمة، ومملكة الوحدة الراسخة، ومملكة الأمن المكين الواعد، ومملكة البناء والعمران، مملكة القوة والسلام، ومملكة الوزن الدولي المؤثر والموقر. هذا أثر واحد من تطبيق تلك الدعائم. وهناك آثار أخرى وهي آثار طبيعية لما سبق، ومنها: 2 - أنَّ الملك عبد العزيز قد أقام مؤسسات دولته على ضوء تلك الدعائم وجعلها محكومة بها وخادمة لها، فكان من ثمار ذلك ما يلي: -وهو مثال للتطبيق لا للتفصيل والحصر- فقد وضع الملك عبد العزيز نواة التعليم المنظم، فإذا هو اليوم ثمان جامعات عملاقة، ورئاسة عامة وكبيرة للبنات، وعشرات الكليات والمعاهد، وألوف المدارس، وملايين من الطلاب والطالبات. ووضع نواة الزراعة، فإذا الزراعة اليوم اكتفاء ذاتي من القمح والخضروات، بل تصدير للفائض من ذلك كله2. ووضع أسس الأمن، فإذا الأمن اليوم أجهزة متطورة، وطاقة بشرية متعلمة ومدربة وكثيفة قادرة على توطيد الأمن على الرغم من التعقيد الذي حصل في الحياة. وعلى الرغم من الانفتاح والتدفق البشري الغادي والرائح. ووضع قواعد سياسة جيش قوي، فإذا بالقوات المسلحة السعودية اليوم قوة ضاربة تحرس السلم وتردع العدوان. ووضع قواعد بناء الحرس الوطني؛ فإذا بالحرس الوطني اليوم من أكبر المؤسسات العسكرية والحضارية التي تسهم في بناء المجتمع وحمايته.

_ 1 المنهج القويم في الفكر والعمل ص 29 2 المرجع السابق ص 115

ووضع مبادئ السياسة الخارجية، فإذا الوزن الخارجي للمملكة اليوم ملء السمع والبصر، وموضع التقدير والثقة والمهابة في الوطن العربي، والعالم الإسلامي، والمحيط الدولي. واعتنى بالحرمين الشريفين -توسعةً وصيانةً- فإذا التوسعة التي قام بها اليوم خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- تفوق التوسعات التي حدثت في التاريخ الإسلامي كله 1. وكان الملك عبد العزيز يتمنى أن تُعَبَّد الطرق وتختصر المسافات بين جده والمدينة، فإذا الطرق السريعة التي تربط بين أجزاء المملكة تحقق الأمنية في زمنٍ وجيزٍ2. وهذا -كما سبقت الإشارة- إنَّما هو على سبيل التمثيل لما تحقق من تطبيق لدعائم التمكين، وأمَّا تفصيل ثمار التطبيق فمن الصعوبة بمكان الإحاطة به.

_ 1 المرجع السابق ص 115 2 المرجع السابق ص 115

مصادر ومراجع

مصادر ومراجع ... فهرس المراجع أولاً: القرآن وعلومه: 1 - أحكام القرآن: للجصاص، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان. 2 - أحكام القرآن: لابن العربي، تحقيق علي محمد البجاوي، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه. 3 - إصلاح الوجوه والنظائر: للدامغاني، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الثالثة، 1980م. 4 - أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير: لأبي بكر جابر الجزائري، الطبعة الثانية، 1407هـ. 5 - بصائر ذوي التمييز: للفيروزآبادي، تحقيق محمد علي النجار، لجنة إحياء التراث الإسلامي بمصر، الطبعة الثانية، 1406هـ. 6 - تحصيل نظائر القرآن: للترمذي، تحقيق حسني نصر زيدان، مطبعة السعادة بمصر. 7 - تفسير ابن جرير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) الطبعة الثالثة، 1388هـ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر. 8 - التفسير الحديث: لمحمد عزة دروزة، طبعة 1383هـ، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه. 9 - تفسير ابن سعدي: مؤسسة مكة للطباعة والإعلام، 1398هـ. 10- التفسير القرآني للقرآن: لعبد الكريم الخطيب، دار الفكر العربي. 11- تفسير ابن كثير: مكتبة النهضة الحديثة بمصر، الطبعة الأولى، 1384هـ. 12- تفسير النووي: لمراح لبيد، دار إحياء الكتب العربية، الطبعة الأولى، 1402هـ.

13- التفسير الواضح: للدكتور محمد محمود حجازي، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان. 14- توفيق الرحمن في دروس القرآن: للشيخ فيصل بن عبد العزيز آل مبارك، الطبعة الأولى، المكتبة الأهلية، بالرياض. 15- التيسير في أحاديث التفسير: للشيخ محمد المكي الناصري. ط. أولى. دار الغرب- بيروت 16- زاد المسير في علم التفسير: لابن الجوزي، المكتب الإسلامي للطباعة والنشر. 17- صفوة التفاسير: للصابوني، دار الفكر، بيروت، لبنان. 18- فتح القدير: للشوكاني، الطبعة الثانية، 1383هـ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر. 19- في ظلال القرآن: لسيد قطب، الطبعة السابعة، 1391هـ، دار إحياء التراث العربي، لبنان. 20- كشف السرائر: لابن العماد، تحقيق الدكتور فؤاد عبد المنعم، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية. 21- منتخب قرة العيون الناظر في الوجوه والنظائر في القرآن: لابن الجوزي، تحقيق محمد الطنطاوي والدكتور فؤاد عبد المنعم، منشاة المعارف، الإسكندرية. 22- نزهة الأعين النواظر: لابن الجوزي، تحقيق محمد عبد الكريم كاظم، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1404هـ. ثانياً: الحديث وعلومه: 1 - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل: لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1399هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 2 - تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف: للمزي، جمع محمد عبد القادر عطا، الطبعة الأولى،1410هـ، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت. 3 - سنن الترمذي: تحقيق أحمد محمد شاكر، الطبعة الثانية، 1398هـ مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.

4 - سنن أبي داود: تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، دار إحياء السنة النبوية. 5 - سنن ابن ماجه: دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية. 6 - صحيح البخاري: دار الدعوة. 7 - صحيح ابن حيان (الإحسان في ترتيب صحيح ابن حبان) ، ط. دار الفكر. 8 - صحيح مسلم: دار الدعوة. 9 - ضعيف الجامع الصغير وزيادته (الفتح الكبير) : للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الثانية، 1399هـ، المكتب الإسلامي بيروت. 10- مجمع الزوائد: للهيثمي، الطبعة الثانية، 1402هـ، دار الكتاب العربي، بيروت. 11- مسند الإمام أحمد بن حنبل: المكتب الإسلامي، دار صادر، بيروت. 12- مشكاة المصابيح: للتبريزي، تحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1381هـ، المكتب الإسلامي، بيروت. 13- موارد الظمآن لدروس الزمان: لعبد العزيز أحمد السلمان، الطبعة الثانية، 1413 هـ. ثالثاً: الفقه والدعوة والأمر بالمعروف والسياسة السلطانية: 1 - أثر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: للغزالي، تحقيق سيد إبراهيم. 2 - أثر الدعوة الوهابية في الإصلاح العمراني والديني في جزيرة العرب وغيرها: لمحمد حامد الفقي. 3 - الأحكام السلطانية: للماوردي، مطبعة النهضة الوطنية، بمصر، سنة 1298هـ. 4 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: لأبي بكر الخلال، تحقيق عبد القادر عطار، دار الاعتصام، مصر، الطبعة الأولى، سنة1395هـ. 5 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: لخالد بن عثمان السبت، المنتدى الإسلامي، لندن، الطبعة الأولى، سنة 1415هـ.

6 - الأموال: لأبي عبيد القاسم بن سلام، المجلد الأول، المكتبة التجارية، سنة 1355هـ. 7 - البحر المحيط في أصول الفقه: للزركشي، قام بتحريره. عمر سليمان الأشقر، الطبعة الأولى، سنة 1409هـ، دار الصفوة للطباعة والنشر والتوزيع بالغردقة. 8 - التطبيقات العملية للحسبة في المملكة العربية السعودية: د. طامي بن هديف البقمي، الطبعة الأولى، 1415هـ، مطابع الفرزدق التجارية. 9 - التطبيق المعاصر للزكاة: للدكتور شوقي إسماعيل شحاتة، الطبعة الأولى، 1397هـ، دار الشروق جده. 10 - الثورة الوهابية لعبد الله القصيمي: المطبعة الرحمانية بمصر، الطبعة الأولى، سنة 1354هـ. 11 - جهود الملك عبد العزيز في خدمة العقيدة: لعبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، طبع جامعة الإمام محمد بن سعود، عام 1406 هـ. 12 - حقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأركانه ومجالاته: للدكتور حمد بن ناصر بن عبد الرحمن العمار، الطبعة الأولى، 1417هـ، مركز الدراسات والإعلام، دار اشبيلية، الرياض. 13 - الخشوع في الصلاة: لابن رجب الحنبلي، تحقيق عادل أبو المعاطي الطبعة الأولى، 1408هـ، دار المشرق العربي، القاهرة. 14 - الدرر السنية في الأجوبة النجدية: جمع عبد الرحمن القحطاني النجدي، الطبعة الثانية، 1402هـ، الدار العربية للطباعة والنشر، بيروت. 15 - الدعوة في عهد الملك عبد العزيز: لمحمد بن ناصر الشثري، الطبعة الأولى، 1417هـ. 16 - الروض المربع: لمنصور بن يوسف البهوتي، مع حاشية العنقري، مكتبة الرياض الحديثة الرياض، 1390هـ. 17 - الزكاة: لمحي الدين مستو، الطبعة الرابعة.

18 - الزكاة وتطبيقاتها المعاصرة: أ. د. عبد الله بن محمد الطيار، الطبعة الثانية، 1414 هـ، مكتبة التوبة، الرياض. 19 - شرح منهاج الطالبين: لجلال الدين المحلى. 20 - الصلاة: أ. د. عبد الله بن محمد الطيار، الطبعة الأولى، 1416هـ، دار الوطن، الرياض. 21 - الصلاة عماد الدين: للدكتور حسن الترابي. 22 - الصلاة في القرآن مفهومها وفقهها: د. فهد بن عبد الرحمن بن سلمان الرومي، الطبعة الأولى، سنة 1409 هـ. 23 - عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها على العالم الإسلامي: للدكتور صالح بن عبد الله العبود، الطبعة الأولى، دار إحياء التراث الإسلامي. 24 - الفصل في الملل والأهواء والنحل: لابن حزم، تحقيق د. محمد نصير، والدكتور عبد الرحمن عميرة. 25 - فقه الزكاة: للشيخ يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة. 26 - الفواكه العذاب في معتقد الشيخ محمد بن عبد الوهاب (في الصفات) : للشيخ حمد بن ناصر آل معمر، تحقيق عبد الرحمن بن عبد الله التركي، الطبعة الثانية، 1416هـ، مؤسسة الرسالة بيروت. 27 - القول البين الأظهر في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: للشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي، الطبعة الأولى 1412هـ، مكتبة دار السلام. 28 - لمحات من الإصلاحات الدينة والاجتماعية في عهد صقر الجزيرة: إعداد إبراهيم محمد سرسيق، أمين بحوث ندوة العلاقات المصرية السعودية، 1407هـ، الزقازيق، مصر. 29 - مجموع فتاوى ابن تيمية: جمع عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد، مطابع الرياض، الطبعة الأولى، 1381هـ.

30 - مجمل اعتقاد أئمة السلف: للدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، الطبعة الثانية، 1417هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت. 31 - المغني: لابن قدامة، تحقيق د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، ود. عبد الفتاح محمد الحلو، الطبعة الأولى، 1408 هـ، هجر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة. 32 - ملامح الانقلاب الإسلامي في سيرة عمر بن عبد العزيز: للدكتور عماد الدين خليل. 33 - الملك عبد العزيز ووضع قواعد التنظيم القضائي في المملكة: للدكتور سعود بن سعد الدريب، الطبعة الأولى، 1408هـ، دار المطبوعات الحديثة. 34 - الملك عبد العزيز والمملكة العربية السعودية المنهج القويم في الفكر والعمل: للدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، الطبعة الثانية، 1409هـ، الزهراء للإعلام العربي. 35 - من فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: لمحمد عبد الله الخطيب. 36 - مناهج العلماء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: لفاروق عبد المجيد حمود السامرائي، مكتبة دار الوفاء، جدة. 37 - منهج الملك عبد العزيز في السياسة الدولية وأثره على العلاقات السعودية المصرية: للدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، بحث مقدم في ندوة العلاقات المصرية السعودية بجامعة الزقازيق بمصر، سنة 1407 هـ. 38 - موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين: لجمال الدين القاسمي. 39 - وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، الطبعة الأولى، 1412هـ، دار العاصمة، الرياض. 40 - الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز: لخير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الثانية، 1392 هـ.

رابعاً: كتب التراجم والتاريخ: 1 - الاستيعاب في معرفة الأصحاب: لابن عبد البر أبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، الطبعة الأولى. 2 - الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه: للأستاذ عبد القادر عودة. 3 - الإصابة في تمييز الصحابة: لابن حجر العسقلاني، تحقيق علي محمد البجاوي، طبعة دار نهضة مصر، القاهرة، 1358 هـ. 4 - الأعلام: لخير الدين الزركلي، الطبعة السادسة، 1984م، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان. 5 - البداية والنهاية: لابن كثير، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1405هـ. 6 - البلاد العربية: لفؤاد حمزة، دار المطبوعات الحديثة. 7 - تاريخ الدولة السعودية: لأمين سعد. 8 - تاريخ المملكة: لسيد محمد إبراهيم. 9 - تاريخ المملكة العربية السعودية: للصف الثالث المتوسط، الطبعة الأولى، 1394هـ. 10- تاريخ نجد ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية: تعريب عمر الديراوي، نشر المكتبة الأهلية، بيروت. 11- تبيين كذب المفتري: لابن عبد البر الدمشقي، دار الكتاب العربي بيروت، 1399هـ. 12- التعريفات: للجرجاني، الطبعة الأولى، 1403هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 13- تقريب التهذيب: لابن حجر العسقلاني، الطبعة الأولى، 1393هـ دار نشر الكتب الإسلامية، باكستان. 14- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة: لابن حجر العسقلاني، الطبعة الثانية، حيدر آباد الدكن، الهند، 1392هـ.

15- سير أعلام النبلاء: للإمام شمس الدين الذهبي، الطبعة الأولى، 1401هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان. 16- شبه جزيرة العرب: للزركلي، الطبعة الثالثة، دار الملايين، بيروت. 17- شذرات الذهب: لابن العماد الحنبلي، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 18- طبقات السبكي: الطبعة الثانية، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان. 19- طبقات ابن سعد: دراسة وتحقيق زياد محمد منصور، الطبعة الأولى 1403هـ، من مطبوعات المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. 20- طبقات ابن سلام الجمحي: شرح محمود محمد شاكر، مطبعة المدني بالقاهرة، 1974م. 21- طبقات المفسرين: للداودي، الطبعة الأولى، 1403هـ، دار الكتب العلمية، بيروت. 22- طبقات المفسرين: للسيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1983م. 23- عالم جهبذ وملك فذ: للشيخ عبد المحسن بن حمد العباد. 24- عبد العزيز والشخصية الإسلامية: لعبد العزيز شرف، ومحمد إبراهيم شعبان، الطبعة الأولى، 1403هـ، القاهرة. 25- الفتح المبين في طبقات الأصوليين: للمراغي، الطبعة الثانية، 1394هـ، الناشر محمد أمين دمج وشركاه، بيروت، لبنان. 26- معجم المؤلفين: لرضا كحالة، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان. 27- الملك الراشد: لعبد المنعم الغلامي، الطبعة الثانية، 1400هـ، دار اللواء، الرياض. 28- الملك عبد العزيز وأثره في التاريخ المعاصر: للمهندس سليمان الشائع، بحث ماجستير مقدم لكلية القيادة والأركان بوزارة الدفاع السعودية، 1405هـ. 29- الملك عبد العزيز والتعليم: تأليف بدر الدين أبو رأس، الطبعة الأولى، 1407هـ، مكتبة العبيكان للطباعة والنشر، الرياض.

30- من حياة الملك عبد العزيز: للأحيدب، الطبعة الأولى، 1399هـ الرياض. 31- من شيم الملك عبد العزيز: لفهد المارك، الطبعة الأولى، 1398هـ، بيروت. 32- المنهج السوي في ترجمة الإمام النووي: للسيوطي، تحقيق الدكتور محمد العيد الخطراوي، الطبعة الأولى، 1409هـ، مكتبة دار التراث المدينة المنورة. 33- وفيات الأعيان: لابن خلكان، مطبعة بولاق. خامساً: اللغة والشعر: 1 - البلغة في أصول اللغة: للقنوجي، تحقيق نذير مكتبي، الطبعة الأولى 1418هـ دار البشائر الإسلامية، بيروت. 2 - ديوان الأعشى: دار صادر، بيروت، 1966م. 3 - ديوان النابغة الذبياني: 4 - الشعر والشعراء: لابن قتيبة، الطبعة الأولى، 1404هـ، دار إحياء العلوم، بيروت، لبنان. 5 - لسان العرب المحيط: لابن منظور، أعاد بناءه على الحرف الأول يوسف خياط، دار الجيل، بيروت، دار لسان العرب، بيروت. 6 - المعجم الوسيط: مجموعة من المؤلفين، الطبعة الثانية. 7 - المفردات في غريب القرآن: للراغب الأصفهاني، المطبعة الميمنية بمصر. 8 - مقاييس اللغة: لابن فارس، تحقيق عبد السلام هارون، الطبعة الثانية، مطبعة البابي الحلبي.

§1/1