دستور الأخلاق في القرآن

محمد بن عبد الله دراز

مقدمة

مقدمة ... تقديم الكتاب: للأستاذ الدكتور السيد محمد بدوي عشت مع هذه الرسالة الجامعية مرتين: مرة أثناء تأليفها, ومرة أثناء ترجمتها. أما عن تأليفها, فقد كان ذلك في أوائل الأربعينات, وكانت الحرب العالمية الثانية قد بدأت تشتد وطأتها في أوروبا بعد هزيمة فرنسا وصحوة الحلفاء لوقف طغيان النازي. وكنت مع الطلبة العرب في باريس نلتمس في رحاب الأستاذ الجليل ما نحتاج إليه من رعاية في وقت الشدة, وكان هو يجمعنا في منزله في المناسبات الدينية والقومية ليشعرنا بما افتقدناه من جو عائلي بسبب بعدنا عن الأوطان. وكنا نجد عنده كرم الضيافة العربية, ونستمتع بأحاديثه ومناقشاته في شئون الدين والعلم والسياسة. وكان رحمه الله لا يضيق بما نثيره من آراء متطرفة أحيانًا, بل يفندها بروح العالم المستنير, وفي سماحة ورحابة صدر, ولا يزال بنا حتى يقنعنا بوجهة نظره المستندة إلى البرهان العلمي والمنطقي. ثم حظيت بشرف مصاهرته, فازدادت صلتي به وثوقًا, ولمست عن

كثب الجهود والخطط التي رسمها منذ أمدٍ بعيد لنشر رسالة الإسلام في العالم الغربي. فعرفت أنه كان قد أتقن الفرنسية إبان طلبه للعلم في الأزهر الشريف استعدادًا لذلك اليوم الذي يقوم فيه بواجبه العلمي والديني. فما إن وطئت قدمه أرض فرنسا حتى بدأ في تحقيق خطته؛ ولم ينتهج الطريق السهلة التي انتهجها غيره بالشروع في تحضير رسالة الدكتوراه رأسًا, بل فضل أن يسير في الطريق الأكاديمي من بدايته, ويفعل ما يفعله طلاب العلم من الفرنسيين الذين يعدون أنفسهم إعدادًا أكاديميًّا رصينًا. فالتحق بالسوربون للتحضير لدرجة الليسانس, ودرس الفلسفة, والمنطق, والأخلاق, وعلم النفس, وعلم الاجتماع على أيدي أساتذة السوربون والكوليج دي فرانس من أمثال ماسينيون, وليفي بروفنسال, ولوسن, وفالون, وفوكونيه. ونجد أثر هذا التكوين العلمي الرصين في رسالته, حيث لم يكتفِ بتوضيح وجهة النظر الإسلامية, بل كان يجليها بمقارنتها بآراء المفكرين والفلاسفة, وكان لا يترك مناسبة إلا استعرض فيها رأي عالم من علماء الغرب, أو نظرية من النظريات السائدة, ثم يبين ما في هذه النظرية أو في ذلك الرأي من تصور أو خطأ, ويعقب ذلك ببيان كمال النظرية الأخلاقية في القرآن الكريم. وقد استغرقت كتابة هذه الرسالة ما يقرب من ست سنوات. ويبدو أن العالم الجليل قد شرع فيها في عام 1941 بعد أن انتهت حملة فرنسا, وعاد إلى باريس بعد سنة أمضاها في بوردو "بجنوب غرب فرنسا" حين اقتربت الجيوش النازية من العاصمة الفرنسية وأصبح سقوطها وشيكًا, وإذا أضفنا إلى هذه السنوات الست خمس سنوات قبلها أمضاها الأستاذ في التعرف على مناهج العلوم في الغرب وتحضير درجة الليسانس, فإنه يكون قد أمضى ما بين إعداد العدة وتنفيذ مشروعه حوالي أحد عشر عامًا. ولم تكن هذه بالفترة الطويلة إذا قدرنا ما اكتنفها من سنوات الحرب العصيبة, وما أثارته هذه الحرب من مشكلات مادية ونفسية كان الأستاذ يتحمل عبئها, ويحاول

إبعادها عن أسرته الكبيرة التي صحبته في غربته. وأذكر أنه اضطر -أثناء هجوم الحلفاء لتحرير فرنسا- لقضاء أيام طويلة مع أسرته في مخبأ تحت الأرض, كان يجمع فيه أوراقه التي يحرص عليها ويشتغل وسط القنابل التي كانت تدوي من حوله, على ضوء شمعة أو مصباح خافت. وتمت مناقشة الرسالة أمام لجنة مكونة من خمسة من أساتذة السوربون والكوليج دي فرانس في 15/ 12/ 1947. وظل جمهور المثقفين من العرب والمسلمين يسمعون عن هذا العمل القيم دون أن يستطيعوا قراءته والاستفادة منه, حتى قيض الله له أستاذًا شابًّا من خيرة شباب العرب والمسلمين هو الدكتور عبد الصبور شاهين, الذي ندب نفسه طيلة أعوام ثلاثة لترجمة النص الفرنسي إلى العربية. وقد جمع صفات وميزات قلما تتوافر لمن يتصدى لمثل هذا العمل الضخم, فهو إلى جانب تكوينه وثقافته الدينية العميقة أستاذ للغة العربية؛ كما أنه يتقن اللغة الفرنسية التي درسها دراسة جادَّة, وترجم منها إلى العربية عدة كتب لعدد من العلماء والفلاسفة. ولم يألُ المترجم جهدًا في أن يضع في خدمة النص كل ما يستطيع من أساليب التوثيق والإيضاح التي تخدم قارئ العربية وتعمق ثقافته الدينية. من ذلك أنه لم يكتف -كما فعل المؤلف- بالإشارة إلى الآيات القرآنية في الهامش بذكر رقم الآية والسورة, بل أخذ على عاتقه كتابة الآيات الكريمة كاملة وإدماجها في النص نفسه, وبذلك كفى القارئ مئونة البحث في المصحف الشريف عن تلك التي لا غنًى عنها لتدعيم الفكرة التي يشرحها المؤلف. ومن ذلك أيضا ما قام به من الرجوع إلى كتب الفقه والحديث والتفسير وعلم الكلام لتوثيق بعض النصوص التي لخصها المؤلف بالفرنسية, وحرص المترجم على وضعها في نصها الأصلي الذي ورد في كتب التراث

الإسلامي. وفي بعض المواضع التي كان المؤلف يكتفي فيها بالإشارة إلى واقعة ما, كان المترجم يجهد نفسه للبحث عن ظروف هذه الواقعة, ويثبتها كاملة. وأشهد أنه قد بذل في الترجمة نفسها جهدًا كبيرًا؛ وذلك لصعوبة النص في بعض المواضع, ودقة الأفكار الفلسفية التي تعرض لها. ولا بد أنه قد وقف -مثلما وقفت عند مراجعة الترجمة- ساعات طويلة أمام عبارة من العبارات, حتى يطمئن إلى دقة الترجمة وإلى التعبير عن المعنى الذي قصد إليه المؤلف. وقد أسهمت في هذا الجهد بقدر ما أستطيع, معتمدًا على خبرتي بما عرفته من أسلوب المؤلف وطريقة تفكيره, ودقته في اختيار اللفظ الذي يعبر عن الفكرة. وأدى هذا التعاون الوثيق بيني وبين المترجم إلى خروج الترجمة على الصورة التي نرضاها لها, والتي نضعها اليوم بين يدي القارئ العربي آملين في حسن تقديره. والآن هل يسمح لنا القارئ بأن نقدم له خلاصة سريعة للأفكار الرئيسية في الكتاب؟ إن الهدف الرئيسي من هذا البحث هو إبراز الطابع العام للأخلاق التي تستمد من كتاب الله الحكيم, وذلك من الناحيتين النظرية والعملية. أما عن البحث في الأسس النظرية التي تقوم عليها المبادئ الأخلاقية في القرآن الكريم, فإن المؤلف يعبر لنا, دون مواربة, عن شعوره بأنه كان يضع قدميه لأول مرة على أرض لم تطأها قدم من قبل. لكن وعورة المسالك التي عزم -بمشيئة الله- على الخوض فيها لم تضعف من عزيمته, بل كانت حافزًا له على تحدي الصعاب في سبيل خدمة دين الله الحنيف.

إضافات لا تقوم بذاتها, وإنما بالاستناد إلى المبدأ الأول وهو العمل من أجل إرضاء الله. وكانت آخر مسألة عالجها المؤلف في الفصل الخامس من الكتاب هي تحليل طبيعة "الجهد" الإنساني الذي يأمر به القرآن الكريم, ودرجة هذا الجهد, وقيمته في اكتساب الثواب. وقد عالج المؤلف العلاقة بين الجهد والانبعاث التلقائي من ناحية, وبين الجهد وروح التيسير من ناحية أخرى. ووضح أن القرآن الكريم قد وازن بين كلٍّ من الطرفين المتعارضين, ودمج بينهما في تركيب يجمع بين الكمال والحكمة. وناقش فكرة المتشددين الذين يرفضون التلقائية في الفعل الأخلاقي, ولا يمنحون السلوك أية قيمة إلا إذا كان نتيجة لجهد أو معاناة كبيرين. فإذا صحَّ ما يدَّعي هؤلاء, فإن النفس المتحررة من شهواتها لا تكتسب ثوابًا على ما تقوم به من أفعال خيِّرة, ولا تستحق هذا الثواب إلا إذا كانت فريسة لانفعالات متسلطة عليها, وتكافح من أجل التغلب عليها. أو بمعنى آخر: كلما اقتربنا من المثال الأعلى في الانبعاث التلقائي لفعل الخير, فقد العمل جزءًا من قيمته. وواضح ما في هذا الرأي من منافاة لكل منطق, إذ بمقتضاه يكون الشرير الذي يحاول جاهدًا التخلص من نزعاته الشريرة أعلى درجة في السلم الأخلاقي من القديس الذي يمارس الفضيلة في يسر وبدون جهد يذكر. إن الوقوع في هذا التناقض قد نجم عن الاعتقاد الخاطئ بأن الحياة الأخلاقية يجب أن تكون حربًا لا هوادة فيها ضد نزعات كامنة في الإنسان, هذا الإنسان الذي يرى بعضهم أنه شرير بطبعه, وأنه لا يستطيع أن يتحرر من طبيعته الشريرة, وأن القداسة فكرة وهمية ليس لها مكان على الأرض. إن موقف القرآن الكريم من هذه المسألة يختلف تمامًا عن هذا الموقف المتشدد المتشائم, وينزع إلى نظرة أكثر رحابة وأكثر تفاؤلًا. لقد كان هناك

ففي تقرير المنظمة الدولية العربية للدفاع الاجتماعي, التابعة للجامعة العربية: أن معدل الجرائم ضد الأموال في ارتفاع, مع عملية التنمية الاقتصادية, إذ تزداد فرص الاعتداء على الأموال عندما يصبح المجتمع أكثر إنتاجًا وتعقيدًا, وتحضرًا وتصنيعًا, ومن ثم نجد أن نسبة عالية من جرائم الأحداث والشباب, في غالبية البلاد ذات طابع اقتصادي, مثل السرقة, والاختلاس, واقتحام المنازل, والسرقة بالإكراه. وقد صاحب مرحلة التنمية الاقتصادية السريعة خلال السنوات العشر السابقة, في مصر, زيادة في عدد الجرائم صد الأموال, وبخاصة الأموال العامة, وأصبح لهذا الاعتداء صور متعددة ومستحدثة, كجرائم الرشوة والاختلاس, وتزييف الأوراق الرسمية, وتزييف العملة, أو المسكوكات, وتهريب النقد, وسرقة الكابلات, وتهريب المخدرات, والخطف لطلب الفدية "وهو اعتداء على الأشخاص والأموال في آنٍ". وثمة صور مستحدثة من الجرائم الاقتصادية, بزغت مع تطبيق النظام التعاوني الزراعي, حيث لُوحِظَ تفشي السرقات من المحاصيل الزراعية, التي تودع في الجمعيات التعاونية الزراعية, قبل شحنها إلى مناطق التخزين العامة, وجرائم الغش والاختلاس باغتصاب خامات ومحاصيل زراعية جيدة النوع بأخرى رديئة, أو التلاعب في الأوراق الرسمية بالحصول على توقيعات من المنتفعين, باستغلال جهلهم بالقراءة والكتابة, وجرائم الرشوة "النقدية أو العينية" لتوريد سلف غير مستحقة للمنتفعين, أو للتغاضي عن مخالفات ارتكبها الزراع أثناء ري الأراضي, أو مقاومة الآفات, أو لعدم الالتزام بتطبيق المخطط الزراعي للدورات الزراعية, وجرائم السوق السوداء في مجال بيع الأسمدة الكيماوية والمبيدات, واختلاس جزء منها, وبيعها مغشوشة1.

_ 1 أعد هذا التقرير الدكتور محمود عبد القادر, رئيس وحدة بحوث الأسر بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بالقاهرة - ص43 وما بعدها.

لم يكن عمر وحده في هذا الموقف، بل كانت الأمة كلها تواجهه بشجاعة، وصبر، ومعالجة، حتى انجلت الأزمة، واستغنى الناس عن ربط الحجارة على البطون، ولم يسجل التاريخ حالة تذمر واحدة، أو حتى نكتة واحدة تشنع بسياسة الدولة، أو شكوى واحدة من اختفاء الخبز أو الإدام، بل إن الناس لم يزدادوا مع الأزمة إلا استمساكًا بأخلاقهم, وحرصًا على أداء واجباتهم، وصبرًا في البأساء والضراء وحين البأس. ولقد أوقف عمر -رضي الله عنه-, فيما يذكر التاريخ، تطبيق حد السرقة آنذاك، ترفقًا بالمضطرين إليها من أجل الإبقاء على حياتهم، ومع ذلك لم يذكر التاريخ أن الجائعين تحولوا إلى لصوص، أو أن القادرين أصبحوا مستغلين أو محتكرين، فقد كانت أخلاق الجماعة الإسلامية أقوى من قَرص الجوع، وأمنع من أن تزلزلها أزمة تموينية. في هذا الضوء الرباني نستطيع أن نقرر حاجة مجتمعنا العربي إلى ثورة أخلاقية تدعم الثورة الاشتراكية، وتعالج ما أحدثت من مشكلات اجتماعية؛ نتيجة عدم التوازن في حركة الإصلاح الذي تم حتى الآن. إن أكبر خطأ وقع فيه دعاة الثورة الاشتراكية في الوطن العربي أنهم تصوروا الثورة وصفة طبية، تقتبس من أصحابها؛ ليتعاطاها المجتمع المريض في أي زمان ومكان؛ فإذا بكثير من الثوريين المتفلسفين يعكفون على استملاء التجارب والأدوية من الكتابات والمؤلفات الجاهزة، وتدور المطابع، وتكثر الكتابات الثورية، حافلة بالتنفخ والادعاء، ولو جاز تطبيق حد السرقة على اللصوص، لكان أول من يحق عليهم حدها أولئك السرقة الكاتبون، والمقتبسون، دون تمييز، الآكلون أفكار الناس بالخطف والتقليد!! والحق أن الإصلاح الثوري نبات لا بد أن يتفجر من باطن الأرض

مقدمة

مقدمة مدخل ... مقدمة: "لا يؤلف أحد كتابًا إلا في أحد أقسام سبعة، ولا يمكن التأليف في غيرها، وهي: إما أن يؤلف من شيء لم يسبق إليه يخترعه، أو شيء ناقص يتممه، أو شيء مستغلق يشرحه، أو طويل يختصره، دون أن يخل بشيء في معانيه، أو شيء مختلط يرتبه، أو شيء أخطأ فيه مصنفه يبينه، أو شيء مفرق يجمعه"1. هذه القاعدة الرشيدة التي قالها عالم أزهري، من علماء القرن السابع عشر الميلادي، تحتفظ دائمًا بقيمتها، وهي تدعو دائمًا كل كاتب أن يسير على نهجها. ولسوف يكون لدى قارئنا الواعي فرصة أن يقدر إلى أي مدى يوفي كتابنا -الذي نقدمه اليوم إليه- بهذه الشرائط؛ فلم يكن شروعنا في هذا المؤلف الجديد عن القرآن، عبثًا نضيع فيه وقتنا، ونثقل به على قرائنا، ونزحم به مكتباتنا، فإذا لم يأتِ عملنا هذا بشيء جديد في عالم الشرق أو الغرب، فلن يكون سوى مضيعة وزحمة وإثقال.

_ 1 شمس الدين البابلي المتوفى سنة 1077 هجرية، ذكره مُلا المحبي، محمد أمين بن فضل الله، في خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر 4/ 1 4 "ط القاهرة 1284هـ".

الوضع السابق للمشكلة

1- الوضع السابق للمشكلة: إن نظرة سريعة نلقيها على مؤلفات علم الأخلاق العام -التي كتبها علماء غربيون- كافية لنلحظ فيها فراغًا هائلًا وعميقًا, نشأ عن صمتهم المطلق عن علم الأخلاق القرآني. والواقع أن هذه المؤلفات تذكر لنا باختصار، أو بإفاضة، المبادئ الأخلاقية، كما ارتأتها الوثنية الإغريقية، ثم أديان اليهودية والمسيحية. ولكنها حين تنتهي من عرض هذه المراحل الثلاثة، نجدها تنقلنا بغتة إلى العصور الحديثة، في أوروبا، مغفلة كل ما يمس الدستور الأخلاقي في الإسلام. وبرغم هذا، فإن الإضافة القرآنية في هذا الباب ذات قيمة لا تقدر، ولسوف يفيد منها تاريخ النظريات الأخلاقية سعةً، وعمقًا، وتوافقًا، كما تفيد المشكلة الأخلاقية ذاتها منها، في حل مصاعبها، سواء في ذلك المصاعب المتجددة والدائمة. أليست إذن خسارة ضخمة أن يغفل أمر نظرية كهذه، وأن يلفها الصمت؟ والحق أنه لو أننا -بدلًا من أن نبحث في هذه المؤلفات عن علم الأخلاق العام- لجأنا إلى الكتب الأوروبية، التي تعالج مسائل الإسلام بخاصة، فسوف نجد أن محاولات قد تمت خلال القرن التاسع عشر، من أجل استخراج المبادئ الأخلاقية من القرآن، بيد أن إطار هذه المحاولات، كان في الغالب محدودًا، كما كان مضمونها بعيدًا عن المطابقة الدقيقة للنظرية القرآنية الحقة.

فمن حيث الإطار نجدهم أغفلوا الجانب النظري من المسألة: فليس هنالك عالم أوروبي واحد حاول أن يستخلص من القرآن مبادئه الأخلاقية العامة، وفضلًا عن ذلك، فلم يكن لدى أيٍّ من بينهم اهتمام بأن يصوغ قواعده العملية، ويقدمها في صورة دستور كامل. وإنما انحصرت كل جهودهم في أن جمعوا عددًا، قليلًا أو كثيرًا، من الآيات القرآنية المتعلقة بالعبادة، أو بالسلوك، وترجموها ترجمة حرفية. ويبدو لنا، أن الذي استهل هذه المجموعة من النصوص المختارة من القرآن كان المستشرق جارسان دي تاسي Garcin de tassy، فقد قدم لنا مؤلفًا صغيرًا بعنوان: "القرآن: مبادئه وواجباته" "باريس 1840م". وتبعه المستشرق لوفيفر lefevre، الذي نشر عام 1850م قطعًا مختارة من ترجمة سفري savary، بعنوان: "محمد: قوانين أخلاقية، ومدنية، ودينية". ثم جاء من بعدهما بارثلمي سانت هيلير Barthelemy, s. hilaire في كتابه: "محمد والقرآن" "باريس، نشر ديدييه didier 1865م". هذا من حيث الإطار الذي سيقت في داخله بحوث ذلك العهد. وأما من حيث عيوب المضمون فمرجعها إما إلى ترجمات غير صحيحة، وإما إلى تلخيص سيئ، وإما إلى الأمرين معًا، وهو ما نجده واضحًا لدى المستشرق جول لا بوم jules la beaume في كتابه: "تحليل آيات القرآن"koran analyse "باريس maisonneuve 1878م". وهو مع ذلك أقل الأعمال التحليلية في هذا المجال بعدًا عن التمام1.

_ 1 بيد أنه إلى جانب تكرار الآيات تحت عناوين مترادفة، وبرغم الأخطاء المختلفة عن ترجمة كازيمرسكي kasimirski -التي اضطر جول لا بوم أن يستخدمها لجهله بالعربية- فإن العناوين التي أراد بها تلخيص الآيات لا تتفق مع النصوص التي يقلب معناها أحيانًا، ويحس المرء في بعض المواضع أن القرآن يدفع الناس إلى الأنانية، وإلى الثأر، وأنه قد أباح لهم الغدر، والخيانة، والحنث في اليمين, إلى غير ذلك مما يعنينا حصره.

ولذلك بدا لنا من الضروري أن نتناول الموضوع من جديد، وأن نعالجه تبعًا لمنهج أكثر سلامة، من أجل تصحيح هذه الأخطاء، وملء هذه الفجوة في المكتبة الأوروبية1، وحتى نُرِيَ علماء الغرب الوجه الحقيقي للأخلاق القرآنية، وذلكم في الواقع هو هدفنا الأساسي من عملنا هذا. بيد أننا بالرجوع إلى مكتبتنا الإسلامية نفسها، لاحظنا أنها لم تعرف حتى الآن سوى نوعين من التعاليم الأخلاقية: فهي إما نصالح عملية، هدفها تقويم أخلاق الشباب، حين توحي إليهم الاقتناع بالقيمة العليا للفضيلة2، وإما وصف لطبيعة النفس وملكاتها، ثم تعريف للفضيلة وتقسيم لها، مرتب في غالب الأمر بحسب النموذج الأفلاطوني، أو الأرسطي3، وكثيرًا ما نرى المنهجين يتعاقبان في قلم كاتب واحد4، وإذن فلم يكن هنالك سوى كتب إنسانية محضة، أجهد مؤلفوها أنفسهم، فاستودعوها ثمرات تأملاتهم، ودراساتهم الفلسفية، ولم يظهر فيها النص القرآني كلية، أو هو لا يكاد يظهر إلا بصفة ثانوية. فلم تكن الأخلاق القرآنية إذن الموضوع الرئيسي للدراسة، والتقنين، لدى المسلمين أو المستشرقين، لا من الناحية النظرية، ولا من الناحية العملية.

_ 1 سوف يتبين بعد ذلك أن الكتاب قد ملأ هذه الفجوة في المكتبة العربية أيضًا، حين وفق الله إلى تعريبه، على نحو ما يلمس القارئ، "المعرب". 2 نذكر من خير الكتب التي من هذا النوع رسالة ابن حزم "مداواة النفوس" طبعة أدهم بالقاهرة. 3 خير كتاب تبع هذا النظام، وأشهره هو كتاب ابن مسكويه: "تهذيب الأخلاق" -المؤلف-, وقد نشرته الجامعة الأمريكية ببيروت عام 1966، بتحقيق الأستاذ قسطنطين زريق. "المعرب". 4 يظهر هذا لدى الأصفهاني في "الذريعة"، وبصورة أكثر كمالًا وامتدادًا لدى الغزالي في كثير من كتبه، وبخاصة موسوعته الإسلامية: "إحياء علوم الدين".

ونحسب أن من الواجب أن نضيف بعض التحديد إلى هذا التأكيد المزدوج؛ ليصبح أكثر دقة، ويخلص من كل لبس أو غموض. ولسنا ندعي ابتداء، أن بحوثنا في المجال النظري تخوض في أرض لم يرتدها أحد قبلنا، فإن العلماء المسلمين قد أعملوا قرائحهم منذ عهد مبكر في هذا الموضوع: علماء الكلام، وعلماء الأصول، فكروا جميعًا في مقياس الخير والشر، "أو بحسب تعبيرهم: مسألة الحسن والقبح"، وفكر الفقهاء في شروط المسئولية، وفكر الأخلاقيون والصوفية في فاعلية الجهد، وإخلاص النية والقصد. ولكنّا إذا صرفنا النظر عن أن هذه الأفكار قد بقيت متناثرة في مختلف المذاهب التي تمس الأخلاقية من قريب أو من بعيد، والتي لم تعنَ دائمًا بوجهة النظر الأخلاقية بمفهومها الخاص -فإن النظرية الأخلاقية التي يقدمها هؤلاء تصدر في جانب كبير منها -على الأقل- عن روح المذهب الذي ينتمي إليه مؤلفوها، إن لم تكن من محض نظراتهم الشخصية؛ لأن القرآن لا يرد ذكره فيها إلا بصفة مكملة، شاهدًا أو برهانًا على فكرة أو أخرى سبق الأخذ بها. وأما في المجال العملي فمن الحق أن الغزالي -كما نعلم- قد حاول في كتابه "جواهر القرآن" أن يحلل جوهر القرآن، وأن يرده إلى عنصرين أساسين، يتصل أحدهما بالمعرفة، ويتصل الآخر بالسلوك. وانتهى إلى أن حصر في القرآن من النوع الأول سبعمائة وثلاثًا وستين آية؛ كما حصر من النوع الثاني سبعمائة وإحدى وأربعين آية1.

_ 1 فمجموع هذه الآيات يربي على ألف وخمسمائة آية، تمثل أقل من ربع القرآن بقليل، وما عدا ذلك لا يعالج في رأيه سوى مسائل تكميلية، وشأنها -على ما قال- شأن الصدفة التي تغطي المادة الثمينة في الكتاب، وقد دخل هذا العمل القديم مع بعض تعديلات يسيرة إلى اللغة الفرنسية، على يد كاتب تركي، هو الجنرال محمود مختار كتير جوغلو، في كتاب بعنوان: "الحكمة القرآنية -آيات مختارة- la sagesse koranique. versets choisies" "باريس geuthmer 1935". وقد نشر المؤلف على هذه الصورة كتاب الغزالي مختصرًا "ألفًا ومائتي آية، بدلًا من ألف وخمسمائة آية"، بعد أن خلط خلطًا تامًّا كلا عنصريه بالآخر، حتى إنه ألغى عناوين السور، وقد كانت من قبل متميزة.

ومن المؤسف أن هذا النوع من الحصر والتصنيف، الذي يعد خطوة أولى في سبيل إعداد المواد للتشييد -لم يعقبه ما يقتضيه من عمل ضروري يهدف إلى إعلاء البناء. ومع ذلك، يجب أن نعترف بأن اختيار المواد في العمل قد تمَّ بوجه عام تبعًا لقاعدة، وأن الآيات المختارة في القسم العملي تتوافق غالبًا مع موضوع دراستنا. وليس الأمر على هذا النحو بالنسبة إلى ما استخرجه القاضي أبو بكر الجصاص الحنفي "المتوفى عام 370هـ"1، في كتابه: "أحكام القرآن"، "طبعة أسطنبول 1338هـ"، وإلى ما استخرجه القاضي أبو بكر بن العربي، المالكي، "المتوفى عام 542هـ"2 في كتابه المعنون أيضًا باسم: "أحكام القرآن" "نشر مطبعة السعادة بالقاهرة: 1331هـ". وكذلك بالنسبة إلى ما استخرجه ملا أحمد جيون الهندي الحنفي، "المتوفى عام 1130" في كتابه "التفسيرات الأحمدية في بيان الآيات الشرعية" "بومباي 1327هـ". ولم يقتصر الأمر في هذه الكتب على أن نجد النصوص القرآنية ذات المغزى الأخلاقي، وقد غرقت بطريقة غامضة وسط نصوص تتصل بموضوعات

_ 1 أحمد بن علي الرازي، أبو بكر الجصاص، فاضل، من أهل الري، سكن بغداد، ومات فيها، انتهت إليه رياسة الحنفية، وخوطب في أن يلي القضاء فامتنع، وألف كتاب "أحكام القرآن"، وكتابًا في "أصول الفقه". المعرب 2 محمد بن عبد الله بن محمد المعافري، الأشبيلي المالكي، أبو بكر بن العربي، قاض من حفاظ الحديث، رحل إلى المشرق، وبرع في الأدب، وبلغ رتبة الاجتهاد في الدين، وصنف كتبًا في الحديث والفقه والأصول والتفسير والأدب والتاريخ، وولي قضاء أشبيلية، ومات بقرب فارس، ومن مشهور كتبه: "العواصم من القواصم"، و"عارضة الأحوذي في شرح الترمذي" و"أحكام القرآن". المعرب

فقهية، أو أصولية، أو كلامية، أو كونية، أو غيرها. بل لقد رأينا لدى القاضيين آيات مذكورة بمناسبة مسائل، لا يتصل النص بها إلا من بعيد، وقد اعتبرت هذه المسائل ببساطة مناسبة لذكرها. وعلى كل حال، فإن جميع المؤلفين، بما فيهم الغزالي، وقد جمعوا بطريقتهم الآيات القرآنية بترتيب السور -جعلوا من مختاراتهم مجرد جمع لمواد متفرقة، لا تربط بينها روح قرابة، ولا يظهر فيها أي تسلسل للأفكار. ولذلك، فعندما فقدت الوحدة الأولى لكل سورة لم يستطيعوا أن يكملوا عملهم بإيجاد وحدة منطقية، تربط بين الأجزاء المختارة، أو تصنيف منهجي تقتضيه قاعدة التعليم. وقد وجدنا هذا النظام المنطقي لدى بعض العلماء الشيعة، من مثل: الشيخ أحمد بن محمد الأردبيلي "المتوفى عام 993هـ"، في كتابه: "درة البيان في آيات الأحكام"1، ومن مثل الشيخ أحمد بن إسماعيل الجزائري النجفي "المتوفى عام 1150هـ" في كتابه: "قلائد الدرر في بيان أحكام الآيات بالأثر"2، غير أن هذين الكتابين3 اللذين يمكن أن يعدا فهرسًا

_ 1 أحمد بن محمد الأردبيلي, فاضل من فقهاء الإمامية وزهادهم، نسبته إلى أردبيل بآذربيجان، ووفاته بكربلاء، ومن كتبه: "مجمع الفوائد والبرهان في إرشاد الأذهان" و"زبدة البيان في شرح آيات أحكام القرآن". وهو ما نقل المؤلف عنوانه مختلفًا ومختصرًا. "المعرب". 2 أحمد بن إسماعيل الجزائري النجفي، فاضل إمامي، أصله من جزائر خوزستان، واشتهر في النجف، وتوفي فيه، ومن كتبه: "قلائد الدرر في بيان أحكام الآيات بالأثر". "المعرب". 3 الكتابان مطبوعان في فارس، وقد رتبت موضوعاتهما تبعًا للنظام المعتاد لكتب الفقه، وتوجد منهما نسخة لدى صديقنا وزميلنا القاضي الشيخ أحمد محمد شاكر, بالقاهرة.

لنصوص القرآن المتعلقة بالفقه الإسلامي -لا يعالجان الأوامر الأخلاقية إلا نادرًا. وهكذا لم ينهض أحد -فما نعلم- حتى الآن باستخلاص الشريعة الأخلاقية من القرآن في مجموعه، ولم يحاول أحد أن يقدم لنا مبادئها، وقواعدها في صورة بناء متماسك مستقل عن كل ما يربطه بالمجالات القريبة منه، وتلكم هي المهمة التي انتدبنا للوفاء بها هنا، بقدر ما تطيقه وسائلنا.

تقسيم ومنهج

تقسيم ومنهج مدخل ... 2- تقسيم ومنهج: نحن نميز تحت لفظة "القانون الأخلاقي" -كما يميز جميع الباحثين تحت اسم الجنس- فرعين مختلفين هما: النظرية والتطبيق. والواقع أن دراستنا للنص القرآني قد أوحت إلينا، لا بوجود هذين الفرعين لعلم الأخلاق في القرآن -فحسب، بل لقد كشفت لنا عن أن الصورة التي جاءت بها بلغت درجة من الكمال لا يُبتغى وراءها شيء.

الجانب العملي

الجانب العملي: وقد بحثنا في رسالة حديثة النشر, الأخلاقية العملية في القرآن، في علاقتها بالحكمة القديمة، واستطعنا أن نكشف فيها عن ثلاث خصائص نوجزها فيما يلي: فالقرآن -من حيث كون حافظًا لما سبقه، واستمرارًا له- قد تميز عنه بذلك الامتداد الرحب الذي ضم فيه جوهر القانون الأخلاقي كله، وهو الذي ظل متفرقًا في تعاليم القديسين والحكماء، من المؤسسين والمصلحين، الذين تباعد بعضهم عن بعض، زمانًا ومكانًا، وربما لم يترك بعضهم أثرًا من بعده يحفظ تعاليمه. ولعل هذا الجانب هو السمة البارزة من سمات القرآن، وإن لم تكن أثمن سماته، ولا أصلها.

وإنما تبدو أصالة هذا التعليم الأخلاقي في أجلى صورها، في طريقته التي سلكها لتقديم تلك الدروس المختلفة عن الماضين، وتقريبها، بحيث يصوغ تنوعها في وحدة لا تقبل الانفصام، ويسوقها على اختلافها في إطار من الاتفاق التام؛ وذلك لأنه بدأ بأن نزع عن الشرائع السابقة كل ما كان في ظاهر الأمر إفراطًا أو تفريطًا، وبعد أن حقق وضع التعادل في ميزانها، الذي كان يميل تارة إلى جانب، وأخرى إلى جانب آخر -دفعها جميعها في اتجاه واحد، ثم نفخ فيها من روح واحدة، بحيث صار حقًّا أن ينسب إليه بخاصة مجموع هذه الأخلاق. وأعجب من ذلك وأعظم أصالة جانبه الخلاق، فليس يكفي -في الواقع- لكي نصف أخلاق القرآن, أن نقول: إنها حفظت تراث الأسلاف ودعمته، وإنها وفقت بين الآراء المختلفة التي فرقت أخلافهم، بل ينبغي أن نضيف أن الأخلاق القرآنية قد رفعت ذلكم البناء المقدس، وجملته، حين ضمت إليه فصولًا كاملة الجدة، رائعة التقدم، ختمت إلى الأبد العمل الأخلاقي1. ولسوف يكون علينا في هذه الدراسة أن نعالج الأحكام العملية التي جاء بها القرآن في ذاتها، وفي مرحلتها النهائية من تطورها، وحسب القارئ بعد ذلك أن يتصفح النصوص التي نوردها في نهاية هذا الكتاب؛ ليدرك رحابة هذا النظام وجماله. ولسوف يختلف منهجنا كثيرًا في عرض هذا الجانب عن المنهج الذي اتبعه سابقونا. فلما كنا -أولًا- لا نرى من اللازم أن نستوعب النصوص والآيات ذات الاتصال بالموضوع، فقد اكتفينا بأن سقنا بعضًا منها؛ ذا دلالة كافية

_ 1 انظر كتابنا "المدخل إلى القرآن - "initiation du koran القسم الثاني- الفصل الثاني، وسوف تجد هنالك أمثلة عديدة مادية، تشهد بوجود هذه الجوانب الثلاثة فيما أضافه القرآن: إجمال لما سبق، وتوفيق بين وجهات مختلفة فيه، وإكمال لجوانب ناقصة.

على القواعد المختلفة للسلوك، ثم حاولنا من بعد ذلك أن نتجنب التكرار بقدر الإمكان. واتبعنا أخيرًا نظامًا منطقيًّا بدلًا من التزام نظام السور "الذي تبعه الإمام الغزالي"؛ أو النظام الأبجدي للمفاهيم "كما فعل جول لا بوم". فالنصوص في عملنا هذا مجمعة في فصول، بحسب نوع العلاقة التي سيقت القاعدة لتنظيمها، وقد ميزت في داخل كل طائفة عدة مجموعات صغيرة من النصوص، وضعنا لها عنوانًا فرعيًّا يوجز التعليم الخاص الذي يستقي منها، بحيث يتاح للقارئ أن يجد الحكم الذي يبحث عنه بكل سهولة. وتنظيم النصوص بمجموعها على هذا الوجه يبني لنا منهجًا كاملًا للحياة العملية كما رسمها القرآن: كيف ينبغي على الإنسان أن يسلك مع نفسه، وفي أسرته، ومع الناس أجمعين؟ وما المبادئ التي يجب أن تحكم العلاقات بين الحاكمين والمحكومين، وبين الدول أو المجتمعات؟ وكيف يؤدي الإنسان العبادة لله؟ وكل ذلك قد قيل بطريقة واضحة ومحددة. هذا الطابع الإجمالي يجد ما يكمله في طابع آخر، يمنحه قيمته العليا، ذلك أن القرآن -بعد أن رسم لكل مجال من مجالات الحياة خط سلوكه- يقدم لنا أُطُرًا معدّة على هيئة دوائر مشتركة المركز، كل واحدة منها قابلة لأن تتسع، وتنكمش، في توافق مع المجموع. بل لقد تتداخل هذه الدوائر بالتبادل، دون أن تطغى إحداها على الأخرى. كيف استطاع القرآن أن يحدث هذا الأثر المعجز؟ لقد كان منهجه غاية في البساطة، حين تخير لبيان قواعده أقوالًا ذات تأثير خاص، وهي أقوال تقف دائمًا في منتصف الطريق، بين المجرد: غامضه ومبهمه، وبين الحسي المفرط في الشكلية. وكذلك نجد أن الأطر التي يبنيها صارمة ومرنة في آن.

فمن حيث وضوح المضمون نجد أن وضوح كل قاعدة يوجد نوعًا من الحجاز، يقف في مواجهة الفوضى، وجموح الهوى؛ ولكنها من حيث عدم تحديد هذا المضمون تترك لكل فرد حرية اختيار الشكل الذي يكيف في نطاقه مثله الأعلى؛ طبقًا للشروط التي تمليها التجربة، كما يختار الشكل الذي يوائم به بين الواجب العاجل والمقتضيات الأخرى التي تمليها الأخلاقية. فهما أمران: تكييف ومواءمة، ينبغي أن يتما بوساطة جهد راشد، بعيد عن الإرخاء، وعن الغلواء، التي لا ضابط معها. وبهذه الطريقة استطاعت الشريعة القرآنية أن تبلغ كمالًا مزدوجًا، لا يمكن لغيرها أن يحقق التوافق بين شقيه: لطف في حزم، وتقدم في ثبات، وتنوع في وحدة. وبهذه الطريقة أيضًا، أتاحت الشريعة القرآنية للنفس الإنسانية أن تطمئن إلى سعادة مزدوجة، تجمع أيضًا بين النقيضين: خضوع في الحرية، ويسر في المجاهدة، ومبادأة في الاستمرار، وقليل من فهم تلك الحكمة الرفيعة. ومن ثَمَّ أخذ بعضهم على الإسلام أنه لم يحدد مثلًا الطريقة التي يستشار بها الشعب في القضايا العامة، ولم يحدد شكل الدولة المسلمة، وطريقة اختيار رئيسها: أهي اقتراع شامل، أم مقتصر على الصفوة؟ وهل هي جمهورية، أم ملكية؟ ... إلخ. هذا البحث المفرط في التحديد القانوني، يمكن أن يظهر لدى أولئك الذين يضعون القانون، أو أولئك الذين يخضعون له. ففي الحالة الأولى يفرض القانون ويحتمه نوع من الحذر لدى المشرعين، إزاء الأفراد الذين يناط بهم تطبيقه؛ ومع ذلك فهو يتجه إلى إلغاء كل مبادأة، وإلى أن يجعل الحياة المشتركة رتيبة لا تطاق، وإلى أن يجعل من أعضاء المجتمع ما يشبه النسخ المكررة من نموذج آلي واحد.

لكنا قد نصادف بين المحكومين أنفسهم أناسًا يودون أن يتولى المشرع بنفسه تحديد كل شيء وتقنينه، فإذا افترضنا أن هذا المشروع يمكن أن يتحقق، فكيف نفسر اقتضاءً من هذا القبيل بالغًا أقصى مداه، إلا بأنه تلمس لأدنى جهد عقلي وأخلاقي؟ إن لم نقل: إنه تنازل محض وبسيط عن الشخصية!! إن القرآن لا ينقض ذلك الاتجاه إلى حصر كل القواعد، كما لا ينقض الاتجاه المضاد، فهل كان هذا التصرف الحكيم، وذاك الموقف الوسط الذي يقف فيه الفرد دائمًا بمعزل عن طرفي نقيض -مجرد اتفاق؟ أو تحكمًا واعتسافًا؟ أو أن له غاية معينة؟ إننا لكي نقتنع بأن القرآن في إيجازه، وفي تفصيله، يهدف إلى تلك الحكمة التشريعية المنزهة -حسبنا أن نتذكر الواقعة التالية: "فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا أيها الناس، إن الله قد فرض عليكم الحج، فحجوا" فقال رجل: أكلَّ عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال، رسول الله, صلى الله عليه وسلم: " لو قلت: نعم، لَوَجَبَتْ، ولَمَا استطعتم؛ ثم قال: ذروني ما تركتكم 1، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه" 2 وفي رواية أخرى أكثر تصريحًا، رواها ابن جرير موقوفة عن أبي ثعلبة الخشني، ورُويت مرفوعة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت

_ 1 يريد أن يقول: لا تستثيروا الوحي، ولا تفتشوا عن شرائع لتضعوها حين لا تجدوها. 2 رواه مسلم, وورد بمعناه في ابن حبان - ذكره السيوطي في الدرِّ المنثور 2/ 335.

عن أشياء رحمة لكم، غير نسيان، فلا تبحثوا عنها" 1، ويذكر ابن حبان أن ظروفًا كهذه الظروف كانت مناسبة لنزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ، قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} 2. هذا الاستبعاد للمبالغة والإفراط في "كيف؟ وكم؟ " من القواعد القرآنية -إجراءٌ اتُّخذ صراحة، كيما يتسنى لكل فرد أن يمارس طاقته العقلية والجسمية والخلقية، بطريقة تختلف عن غيره. فهذا هو ما يتصل بالأخلاق العملية، والسمات العامة التي تحددها؛ فلنمض إلى الأخلاق النظرية:

_ 1 حديث حسن رواه الدارقطني وغيره، وللمؤلف هنا طريق أخرى "المعرب". 2 المائدة: 101- 102.

الجانب النظري

الجانب النظري: وهنا يفارق منهجنا أيضًا المنهج العام؛ ذلك أن ما يهم غالبية علمائنا في المقام الأول هو الجانب الاقتصادي، أو الشرعي، ونحن بادئ ذي بدء، نركز اهتمامنا على المجال الأخلاقي؛ واضعين كل مسألة في المصطلحات التي تُصاغ بها لدى الأخلاقيين المحدثين. ونحن من ناحية أخرى نتخذ من القرآن ذاته نقطة انطلاق، بحيث كان دأبنا الدائب أن نستخرج منه الإجابة عن كل مسألة، بالرجوع المباشر إلى النص. وهنا تكمن الصعوبة؛ فإن النصوص المتعلقة بالنظرية الأخلاقية ليست بالكثرة والوضوح اللذين تمتاز بهما الأحكام العملية، غير أن هنا سؤالًا مسبقًا ينبغي أن يطرح: هل القرآن كتاب نظري؟ أم هل يمكن أن يلتمس فيه ما يلتمس، من المؤلفات والأعمال الفلسفية؟

إن الفلسفة بالمعنى المألوف للكلمة هي عمل فكر منطقي، معتمد على مجرد ومضات الذهن الطبيعي، ينتقل فيه المفكر من حكم إلى آخر، بمنهج معين؛ للتوصل إلى إقرار نظام معين، قادر على تفسير الأشياء في عمومها، أو تفسير وضع معين لأحد هذه الأشياء. وبدهي أن هذا الجهد العقلي؛ وهذه الخطوة التدريجية -لا يتناسبان مع ضوء وحي، يغمر النفس دون بحث أو توقع، ويقدم لها على حين فجأة جملة من المعرفة، لا تسبق فيها المقدمات نتيجتها، ولا المقدم تاليه. فليس القرآن إذن عملًا فلسفيًّا، بمعنى أنه ليس ثمرة فلسفة، وهو لا يستخدم طرق الاكتساب الفلسفي، بالإضافة إلى أنه لا يتبع كذلك طرق التعليم التي يتبعها الفلاسفة، وهي طرائق المنهج العقلي، التي تقوم على: "التعريف، والتقسيم، والبرهنة، والاعتراضات، والإجابات"؛ وهي كلها أمور متلاحمة دون جدال، ولكنها لا تؤثر إلا على جانب واحد من النفس، وهو الجانب العقلي، على حسين أن للقرآن منهجه الذي يتوجه إلى النفس بأكملها؛ فهو يقدم إليها غذاء كاملًا، يستمد منه العقل والقلب كلاهما, نصيبًا متساويًا. وهكذا يفارق التعليمُ القرآنيُّ التعليمَ الفلسفيَّ، سواء في المصادر، أو في المناهج. فهل هما يتفارقان كذلك في موضوعهما؟ وفي هدفهما؟ إن القول بهذا معناه أننا نقرر -بعلم أو بلا شعور- أن القرآن ليس كتاب دين؛ ذلك أنه مهما تكن الفروق بين الفلسفة والدين -والتي تتمثل في أن الأولى، تستمد منبعها من ارتياب العقل، على حين أن الدين يستمده من الضوء الكامل للوحي؛ أو أن كليهما قد ينقاد أحيانًا1 وراء سراب

_ 1 نحن نتحدث هنا عن الدين بعامة، لا عن الأديان المنزلة.

التخيل، وأن أحدهما "وهو الفلسفة" ليس سوى معرفة محضة وبسيطة، والآخر اقتناع عميق، ومؤثر، وأخّاذ- مهما تكن الفروق بينهما فإن للفلسفة في جانبها الأسمى، وللدين في جميع أشكاله، موضوعًا مزدوجًا مشتركًا، هو: حل مشكلة الوجود؛ أصله ومصيره، وتحديد الطريقة الحكيمة والمثلى للسلوك، ولتحصيل السعادة. بيد أن أفضل ما يدل على التشابه بين المادة القرآنية بخاصة، وبين الفلسفة -أن نلحظ أن القرآن حين يعرض نظريته عن الحق، وعن الفضيلة لا يكتفي دائمًا بأن يذكر بهما العقل، ويثير أمرهما باستمرار أمام التفكر والتأمل، وإنما يتولى هو بنفسه التدليل على ما يقدم، ويتولى تسويغه. وفضلًا عن ذلك، فإن طبيعة استدلالاته، والطريقة التي يسوق بها الدليل؛ قد اختيرت كلتاهما على وجه يفحم أعظم الفلاسفة دقة، وأشد المناطقة صرامة، في الوقت الذي تُلبى فيه أكثر المطالب واقعية، كما تروق أرقى الأذواق الشعرية وأرقها، وأبسط المدارك وأقلها. فليس يكفي إذن أن نقول: إن القرآن لا ينكر الفلسفة الحقة، وليدة التفكير الناضج، وعاشقة اليقين؛ ولا يكفي كذلك أن تقول: إنه يوافقها ويشجعها، وإنه يرتضي بحثها المنصف، بل ينبغي أن نضيف إلى ذلك: أنه يمدها بمادة غزيرة في الموضوعات، وفي الاستدلالات. ولا ريب أن القرآن لا يقدم إلينا هذه الحقائق الأساسية مجتمعة، في صورة نظام موحد. بيد أننا نتساءل: إذا كان نظام كهذا لم يوجد كاملًا، أفلا يوجد في هذا الكتاب جميع العناصر الضرورية، والكافية لبنائه؟ الحق أنه لا مراء في أن القرآن مشتمل على جميع العناصر الأساسية للفلسفة الدينية: أصل الإنسان، ومصيره، وأصل العالم ومصيره، ومبادئ السبب والغاية، وأفكار عن النفس، وعن الله ... إلخ. وإن دراسة مثل هذا الموضوع لجديرة أن يخصص لها عمل مستقل.

فأما أن يكون ذلك الكتاب قد تحدث في الوقت نفسه عن أسس النظرية الأخلاقية -فذلكم هو السؤال الأول الذي طرحناه في دراستنا هذه، والذي خصصناه بأعظم قدر من جهدنا. وإنا لنعتقد أن بوسعنا أن نعلن منذ الآن أننا قد وجدنا لهذا السؤال إجابة واضحة، وإيجابية تمامًا. إن القرآن لا يكتفي في الواقع بأن يضع قاعدة السلوك، على وجه أكثر شمولًا وتفصيلًا، كما لم يفعله أي تعليم عملي، فقد وجدناه يرسي تحت هذا البناء الضخم قواعد من المعرفة النظرية أعظم متانة وأشد صلابة. ولتطرح عليه مثلًا السؤال التالي: على أي أساس ترتكز شريعة الواجب القرآني؟ ومن أي معين تستقي سلطانها؟ ولسوف يجيبك: بأن التمييز بين الخير والشر هو إلهام داخلي مركوز في النفس الإنسانية، قبل أن يكون شرعة سماوية؛ وبأن الفضيلة -في نهاية المطاف- إنما تتخذ مرقاتها من طبيعتها الخاصة، ومن قيمتها الذاتية، وبأن العقل والوحي -على هذا- ليسا سوى ضوء هادٍ، مزدوج لموضوع واحد، وترجمة مزدوجة لواقع واحد أصيل، تمتد جذوره في أعماق الأشياء. واسأله بعد ذلك: عن صفات هذه الشريعة، وامتداد سلطانها؟ ولسوف يقول لك: إنها شريعة عامة، وأبدية، تكفل للبشرية مطامحها المشروعة، ولكنها تعترض بكل وضوح وتأكيد على شهواتها الجامحة، والمتحكمة. وزد في سؤاله عن المسئولية الإنسانية، وعن شروطها، وحدودها، وعن الوسيلة الناجعة لكسب الفضيلة، وعن المبدأ الأسمى الذي ينبغي أن يحد الإرادة عن العمل؟

أو سله عن أي مبدأ عام لا يملك أي أخلاقي بصير بعمله أن يغفله؟ ولسوف تجد فيه لكل سؤال حكمًا محددًا وقاطعًا، يفرض نفسه إجابة فريدة، من شأنها أن تؤلف بين أكثر المشاعر نباهة واتزانًا. والذي استولى في النهاية على إعجابنا، هو ما رأينا من التباين المذهل بين الطريقة التي يقدم بها القرآن إجاباته على هذه الأسئلة، وطريقة غيره. فعلى حين أن هذه الحقائق الأساسية قد برزت إلى الوجود في ضوء القرآن اللامع، منذ أربعة عشر قرنًا، نجد أن مجتهدي المفكرين ممن يبحثون عن هذه الحقائق خارج ضوء القرآن يصدرون دائمًا عن تردد وارتياب، ولا يصلون إلى أبعاض منها إلا بعد جهد جهيد، دون أن يتوقَّوا الوقوع في أخطاء فادحة.

دراسة مقارنة

3- دراسة مقارنة: ويجب أن نعترف بأن تصورنا للخطة الأولية لهذا العمل كانت في شكل محدود، بحيث لم نكن نتصور شيئًا سوى عرض القانون الأخلاقي المستمد من القرآن، وربما من تعليم النبي -صلى الله عليه وسلم- المبيّن الأول، الثقة. غير أن الأستاذ لويس ماسينيون m. Louis massignon -الأستاذ في الكوليج دي فرانس، في معهد الدراسات العليا بباريس- قد أبدى لنا رغبة في أن يرى هذه الدراسة تتناول في نفس الوقت بعض نظريات المدارس الإسلامية المشهورة، وهو في سبيل هذا الهدف قد مكننا مما ضمت مكتبته من مؤلفات نادرة وثمينة، مخطوطة، أو مطبوعة. كما أن الأستاذ رينيه لوسن m. Rene le senne -الأستاذ بكلية الآداب، بجامعة باريس- قد اقترح علينا أن نقارن النظرية الأخلاقية المستمدة من

القرآن ببعض النظريات الغربية. وقد استجبنا بحمد الله لما أبديا من مقترحات موفقة، يبدو عملنا اليوم بفضلها أرحب مدًى، وأعظم توفيقًا. فعملنا على هذا النحو نوع من التأليف، تلتقي فيه الأفكار الأخلاقية، من الشرق بنظيرتها من الغرب، في مقارنة واعية، محايدة، بريئة من كل فكرة مسبقة، ومن كل هوًى متعصب لمدرسة بعينها، رائدها الوحيد في كل مناقشة أن تحتكم إلى العقل، الذي يستهدي بالأسانيد الوثيقة. ترى هل يكون هذا التقارب بين مختلف الثقافات استهلالًا في المجال العملي، يعقبه فهم أرحب مجالًا، ونزوع إلى الإنسانية أكثر امتدادًا، حيث تتجمع القلوب، من هنا وهناك، وتتشابك الأيدي لخير بني الإنسان؟!! باريس في 8 يونيو 1947 محمد دراز

النظرية الأخلاقية كما يمكن استخلاصها من القرآن

النظرية الأخلاقية كما يمكن استخلاصها من القرآن الفصل الأول: الإلزام مدخل ... النظرية الأخلاقية كما يمكن استخلاصها من القرآن: الفصل الأول: الإلزام يستند أي مذهب أخلاقي جدير بهذا الاسم -في نهاية الأمر- على فكرة الإلزام l'obligation، فهو القاعدة الأساسية، والمدار، والعنصر النووي الذي يدور حوله كل النظام الأخلاقي، والذي يؤدي فقده إلى سحق جوهر الحكمة العملية ذاته؛ وفناء ماهيتها؛ ذلك أنه إذا لم يعد هناك إلزام فلن تكون هناك مسئولية، وإذا عدمت المسئولية، فلا يمكن أن تعود العدالة؛ وحينئذ تتفشى الفوضى، ويفسد النظام، وتعم الهمجية، لا في مجال الواقع فحسب، بل في مجال القانون أيضًا، وطبقًا لما يسمى بالمبدأ الأخلاقي. ومن هنا نرى إلى أي اتجاه يريد أن يقودنا بعض أصحاب النظريات المحدثين1. ومن ناحية أخرى، كيف نتصور قاعدة أخلاقية بدون إلزام؟ أليس هذا تناقضًا في الحدود؟ أم أننا نجعل من الضمير مجرد أداة للتقدير الفني؟ ولكن، أليس بدهيًّا أن علم الأخلاق وعلم الجمال -أمران مختلفان؟ وبمعنى أكثر عمقًا، إذا كان حقًّا أن كل ما هو خير فهو جميل، فهل العكس أيضًا صحيح؟ إن مما لا ريب فيه أن لفكرة الفضيلة جمالها الذاتي، الذي تتذوقه

_ 1 ومن أمثلتهم: جييو Guyau في كتابه: "نحو أخلاقية بلا إلزام ولا جزاء"- Esquisse d'une morale sans obligation. Ni Sanction.

الأنفس، حتى عندما لا تستبى الأعين، لكن هنالك أيضًا أشياء أكثر من هذا، فالفضيلة بطبيعتها عاملة ومحركة، فهي تستحثنا أن نعمل كيما نجعل منها واقعًا ملموسًا، على حين لا نرى للإحساس بالجمال، إذا ما رددناه إلى أبسط صوره، أية علاقة بالعمل، وبخاصة عندما لا يكون موضوعه متصلًا بإرادتنا. ومن ذلك أن إعجابنا بالقدرة الإلهية، أو بعظمة القبة السماوية لا يحملنا على أن نخلق أمثالهما. وشبيه بهذا ما يحدث للفنان عندما يتخيل فكرة عمل يمكن تحقيقه، فإن هذه الفكرة لا تقهره مطلقًا على أن ينفذها، ولكنها تدعوه برفق أن يحققها حين يريد، ومتى أتيح له وقت فراغ. ولو أنها فرضت نفسها على بعضهم، فإنها لا تفرض نفسها على الآخرين بنفس القدر من الضرورة، وهي في كل حال تعبر عن الإحساسات، دون أن تصادمها. أضف إلى ذلك أن أي نقص يرتكب في عمل فني -قد يصدم الحواس، ولكنه لا يثير الضمائر، ولا يقال: أن مرتكبه قد أحدث عملًا غير أخلاقي. أما الخير الأخلاقي فبعكس ذلك يتميز بتلك السلطة الآمرة تجاه الجميع، بتلك الضرورة التي يستشعرها كل فرد، أن ينفذ نفس الأمر، أية كانت الحال الراهنة لشعوره، وهي ضرورة تجعل من العصيان أمرًا مقيتًا ومستهجنًا. ولسوف نرى1 في أي صورة ساق القرآن هذه الضرورة التي يسميها: أمرًا = imperatif، وكتابة = prescription، وفريضة = devoir. فإذا ما عرّفنا مبدأ الإلزام, وطرحناه على هذا الوجه -وجب علينا الآن أن نتغلغل أكثر، في معرفة طبيعته، دارسين مصادره، وخصائصه، ومناقضاته.

_ 1 انظر فيما بعد، في نفس الفصل, الفقرة الثانية.

مصادر الإلزام الأخلاقي

مصادر الإلزام الأخلاقي مدخل ... 1- مصادر الإلزام الأخلاقي: استطاع الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون، في تحليله العميق لقضية الإلزام الأخلاقي أن يكشف له عن مصدرين: أحدهما: قوة الضعظ الاجتماعي, والآخر: قوة الجذب ذي الرحابة الإنسانية المستمدة من العون الإلهي، وهي قوة أوسع مدى من سابقتها. وقد فسر ذلك قائلًا: إننا نؤدي الدور الذي عينه لنا المجتمع، ونتبع الطريق التي رسمها لنا، ثم نسلم قيادنا لهذه الطريق، نترسمها كل يوم، بنوع من العادة لا يكاد يخالطه تفكير، أشبه شيء بغريزة النحلة أو النملة. وذلكم هو ما يُسمى عادة: بالوفاء بالواجب. ولو أننا قاومنا ذلك لحظة، أو حاولنا أن نعدل من سيره فإننا لا نلبث أن نرتد إليه، شئنا أو أبينا، بفضل تلك القوة القاهرة للحياة الجماعية. هذا الدور يختلف اختلافًا كاملًا في وجهه الآخر، فعلى حين أن أخلاق الكافة أثر ناشئ عن نوع من القهر الجماعي، نجد أن أخلاق الممتازين منهم هي طموح إلى المثل الأعلى، فهي نقلة على جناح الحب المبدع، الذي ينزع لا إلى توجيه سلوك الفرد وجهة أفضل فحسب، بل إلى جذب المجتمع معه، وقيادته، بدلًا من أن يكون مقودًا له1.

_ 1 انظر: Bergson. Les deux sources de la morale et de la religion: ch. 1. "مصدرا الأخلاق والدين - الفصل الأول".

فإذا نظرنا إلى عرض برجسون هذا -على أنه وصف وتحليل لواقع معين نجده في التجربة- أمكن القول بأنه لم يغفل كثيرًا من الأساس. وأما إذا تناولناه -على أنه نظرية في الإلزام الأخلاقي- فإن تحليله يحمل بعض الصعوبات، وشيئًا من الانحراف عن الجادة، بالنسبة إلى وجهة النظر القرآنية. فمن حيث كونه وصفًا يمكن أن نتساءل -ما دام الأمر أمر تعيين لكل القوى المؤثرة على الإرادة-: لماذا لم يشر برجسون إلى عامل ثالث، أكثر قدمًا، وأعمق جذورًا في الفطرة الإنسانية، أعني: العنصر الفردي l'individuel، أو الحيوي le vital؟؟ ذلك أن ما يهم كل مواطن ليس فقط أن يخضع لقيود المجتمع، ويسلك في داخل الكيان الاجتماعي مسلك خلية في مركَّب عضوي، ولكنه كذلك أن يبحث بخاصة عن المحافظة على ذاته، مستقلًّا عن المجموعة التي ينتمي إليها، إن لم يكن على حسابها. وأخطر من ذلك أن مصطلحي "إلزام obligation" و"أخلاق morale" -الواردين في هذا التحليل- يبدوان لنا متنافيين، يناقض أحدهما الآخر، فمتى أصبح الإلزام قهرًا شبه غرزي فإنه يفقد بذلك صفته الأخلاقية، وعكس ذلك: أن تلقائية الحب هي نقيض الإلزام. والحق أن الأخلاقية الصحيحة لا تجد هنا مجالها، في إحدى الحالتين أو في الأخرى، فالإنسان قد صور لنا على أنه لعبة في يد قوة، أية كانت، فهو تارة مدفوع بالغريزة، وأخرى محمول بالعاطفة، ولكنه لم يكن مطلقًا شخصية مستقلة، قادرة على المقارنة، والتقويم، والاختيار. وإذن، فلكي تكون لدينا أخلاقية لا يكفي أن يتمثل لنا المثل الأعلى

على أنه هدف لطموح متوثب محلق، ولا على أنه أمر البيئة، وكأنه ضريبة استبدادية، بل يجب أن يمر كلاهما في الضمير؛ ويتعرض لعملية إنضاج حقيقية، يخرج منها بمظهر جديد، قائم على مبادئ قانونية، يقويها ويفرضها العقل. فما دامت جاذبية المثل الأعلى ليست لها صبغة الأمر الصادر عن العقل، وحتى لو لم تكن نوعًا من ملاحقة السراب، أو حلمًا واهمًا؛ فإنها تظل محكومة بنوع من الإحساس بالجمال, ولكن هذا الإحساس بالجمال، مهما بلغ من النبل، فلن يكون مبدأ أخلاقيًّا. وكذلك الحال في كل خضوع لا مسوغ له، إلا أن يكون صادرًا عن نوع من الإرهاب الجماعي. ومن هنا نرى القرآن يقف دائمًا أمام هذين العدوين للأخلاقية: اتباع الهوى دون تفكير: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ} 1. {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} 2، والانقياد الأعمى: {قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونََ} 3. فهل يقدم الذين يريدون السير على سُنة أسلافهم على الانقياد لهم دون تمييز، حتى ولو {كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} 4؟ ففي الفرد إذن -من حيث كونه فاعلًا- عنصر عقلي، أعني: عنصرًا أخلاقيًّا، بالمعنى الحق، وفي الأمر الخلقي عنصر آخر هو: العقل، والحرية، والمشروعية؛ وتلكم هي العوامل الأساسية، التي أدى إغفالها إلى نقص كبير في تحليل برجسون. ولقد يستطيع من شاء أن يقلل من شأن "الملكية الفكرية"، وما لها من دور في تصور الأمور والحكم عليها، باعتبارها الأخيرة من حيث تاريخ

_ 1 ص: 26. 2 المائدة: 135. 3 الزخرف: 22. 4 البقرة: 170.

ظهورها، ويستطيع أن يصر على أن تأثيرها ضئيل في مقاومة الشهوات، ولكن يبقى شيء لا شك فيه، هو أن جوهر الأخلاقية ذاته يكمن في نشاط ذاتنا المفكرة. وقد أحسن "كانت" صنعًا -برغم بعض النقص في طريقة تقديمه لنظريته- حين أكد أنه كشف عن مصدر الإلزام الأخلاقي، في تلك الملكة العليا في النفس الإنسانية، والتي توجد مستقلة عن الشهوة، وعن العالم الخارجي معًا، إذ يقول: "أيها الواجب، أيها الاسم الأسمى العظيم ... أي مصدر جدير بك؟ وأين نجد جذر ساقك النبيلة؟.. لعله لا يكون -على الأقل- سوى ذلك الذي يرفع الإنسان فوق ذاته ... والذي يشده إلى نظام للأشياء، لا يمكن لقوة أن تتصوره سوى قوة الإدراك"1. فالإنسان بانتمائه في وقت واحد إلى عالم الإدراك، وعالم الحس -ذو طبيعتين، تسيطر أشرفهما، وهي "العقل" على دنياهما، وهي "حب الذات غير المشروع" وهذا الصوت العقلي واضح تمام الوضوح، "شديد التأثير" قابل لأن يدركه حتى السذج من الناس ... والحدود التي تفصل الأخلاقية عن حب الذات مميزة بكثير من الوضوح والضبط، حتى إن النظرة العادية لا تعجز عن تمييز ما يتصف به أحدهما، دون الآخر" 2. فإذا ما رددنا نظرية "كانت" إلى أبسط تعبير عنها، وخلصناها من جميع مظاهر الدقة الشكلية، ونزعة التسامي، ونقيناها أيضًا من نزعة التشاؤم، التي اتسمت بها؛ ومن بعض ما شابها من البرود العاطفي -فهي بعد هذا

_ 1 انظر: Kant. Critique de la Raison Pratique, p. 91. 2 المرجع السابق ص35-36.

لا تعد من المسلمات فحسب، بل إنها لتتفق تمامًا -فيما نرى- مع النظرية المستخلصة من القرآن. لقد علمنا هذا الكتاب أن النفس الإنسانية قد تلقت في تكوينها الأولي الإحساس بالخير وبالشر: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} 1. وكما وهب الإنسان ملكة اللغة، والحواس الظاهرة، فإنه زود أيضًا ببصيرة أخلاقية: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} 2. ولقد هُدي الإنسان طريقي الفضيلة والرذيلة: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ، وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} 3، حقًّا {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} 4. ولكن الإنسان قادر على أن يحكم أهواءه: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} 5. وإذا لم يكن كل الناس يمارسون هذا التأثير على أنفسهم فإن منهم من يفعله بتوفيق الله له، وهو ما قرره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "إذا أراد الله بعبد خيرًا جعل له واعظًا من نفسه، يأمره وينهاه" 6. ففي الإنسان إذن قوة باطنة، لا تقتصر على نصحه، وهدايته وحسب، بل إنها توجه إليه بالمعنى الصريح أوامر بأن يفعل، أو لا يفعل. فماذا تكون تلك السلطة الخاصة، التي تدعي السيطرة على قدراتنا الدنيا، إن لم تكن ذلك الجانب الوضيء من النفس، والذي هو العقل؟

_ 1 الشمس: 7و 8. 2 القيامة: 14. 3 البلد: 8-10. 4 يوسف: 53. 5 النازعات: 40. 6 الديلمي - مسند الفردوس، صحيح من طريق أم سلمة، ذكره السيوطي في الجامع الصغير 1/ 17.

ذلكم أيضًا هو ما عبر عنه القرآن بألفاظه الخاصة، حين صور حال الكافرين بين أمرين، فقال تعالى: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} 1؟ فها هو ذا مبدأ الطرف الثالث المستبعد من الأخلاق قد استبان ووضح، إذ ليس وراء أمر العقل وقيادته قاعدة أخرى -سائغة- للسلوك، فهو وحده إذن السلطة الشرعية. في هذه الظروف نستطيع أن نقول مع "كانت": إننا مشرعون ورعايا في آن، وإن التجربة الأخلاقية للندم لتؤكد هذا الازدواج، فنحن عندما نقصر في واجبنا نحسّ أننا قد هبطنا إلى مستوى غير خليق بنا، ونعترف ضمنًا بأننا مخلوق نبيل قد زلَّ؛ ولا يزال القرآن يوقظ فينا هذا الشعور بكرامتنا الأصلية، ويؤصله، فهو لا يقرر فقط أن الله كرم الإنسان، وبسط سلطانه على الأرض، وعلى البحار: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} 2, ولم يقتصر فضل الله سبحانه على أن أمر الملائكة أن تسجد أمام أبينا: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} 3، وهي درجة رفيعة، كثيرًا ما يذكرنا القرآن بها في مثل قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} 4. ليس هذا فحسب، ولكنّا، إذا ما نحينا جانبًا تلك الإشارات الخارجية إلى الكرامة الإنسانية، وإذا ما وقفنا أمام القيمة الأخلاقية فإنه يبدو لنا أن القرآن لا ينظر إلى الطبيعة الإنسانية على أنها شريرة في أصلها، ولا على أنها فاسدة فسادًا عضالًا، بل على العكس من

_ 1 الطور: 32. 2 الإسراء: 70. 3 البقرة: 34. 4 الأعراف: 11، وأيضًا الحجر: 29، وطه: 116، وص: 72 ... إلخ.

ذلك: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} 1. ولم يهلك من الناس بعد هذا سوى الجاحدين، والذين لا يؤدون شعائر دينهم: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} 2، وفي آية أخرى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا، إِلَّا الْمُصَلِّينَ} 3 لم يهلك إلا الذين: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 4. فالأمر إذن أمر اختيار حر دنيوي، لا علوي، وهو يرجع إلى استخدامنا الحسن أو السيئ لملكاتنا العليا، وهي ملكات يزكي تثقيفها النفسَ، كما يدسيها ويطمسها إهمالها: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 5. والحق أن القرآن لم يقتصر على الملكات العقلية وحدها، فلقد عنى في الوقت نفسه عناية كبيرة بإيقاظ أشرف مشاعرنا وأزكاها، بيد أنه لم يحرك هذه المشاعر إلا تحت رقابة عقلنا، فهو يتوجه إلينا دائمًا، أعني: يتوجه إلى ذلك الجانب المضيء من أنفسنا؛ إلى ملكتنا القادرة على أن تفهم، وأن تقدر في كل شيء ما يضر وما ينفع، وأن تقوم القيم المختلفة. ومن المشاعر السامية التي حركها القرآن فينا -نذكر على سبيل المثال6 ما جاء فيه دعمًا لسائر واجباتنا الاجتماعية، بالمعنى الأوسع لكلمة: "مجتمع"، ألا وهو الشعور بالأخوة الإنسانية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ

_ 1 التين: 4. 2 التين: 5، 6. 3 المعارج: 9-12. 4 الأعراف: 179. 5 الشمس 9-10. 6 لمن أراد معرفة أوسع أن يرجع إلى الفصل المعنون "نظام التوجيه القرآني" - المبحث الثالث من الفصل الثالث- م.

ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} 1، {اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} 2. ولقد تجلى هذا الشعور حين قدم لنا القرآن في صورة عاطفية مؤثرة مشهد الفزع الذي ينبغي أن يزعنا عن اغتياب الآخرين، فشبه المغتاب بمن {يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} , ثم يضيف: {فَكَرِهْتُمُوهُ} 3 كلكم أجمعون. وإذا كان الأمر كذلك، ألا يمكن أن نستخلص منه أن الإنسان يملك في غيبة أي تعليم إيجابي -جميع الوسائل الضرورية، العقلية والعاطفية، لكي يميز ما يفعل مما يدع؟، وعلى ذلك ألا يكون التشريع للخير وللشر أحد شئوننا نحن؟ وينبغي للإجابة عن هذا السؤال أن نحدد معنى هذه الدعوى، وأهميتها. هل نريد أن نقتصر على وجهة النظر الإنسانية، ونهتم بخاصة بالضمير الفردي، أم أننا نريد أن نتناول وجهة الشيء في ذاته؟ فإذا كانت فكرة الخير والشر قد حددت عقلًا على أنها: "صفة كمال أو نقص، موافق للطبع أو مخالف، مستحق للمدح أو الذم" -فإن المتكلمين المسلمين لم يجدوا صعوبة في أن يقرروا صلاحية الإنسان للتشريع من هذه الناحية، ولكن هل كل ما نرى أنه حسن، أو قبيح، بحسب عقولنا، هو في ذاته كذلك بالضرورة؟ وبعبارة أخرى: هل هو كذلك في نظر العقل الإلهي؟ وهل نحن على ذلك مدينون أمام الله سبحانه، حق قبل أن نتلقى أوامره بوساطة رسله؟ لقد دارت مناقشاتهم حول هذه النقطة المحددة، وتنوعت إجاباتهم التي

_ 1 الحجرات: 13. 2 النساء: 1. 3 الحجرات: 12.

قدموها لنا، ابتداء من العقليين "المعتزلة والشيعة" الذين يؤكدون ذلك الرأي بصورة عامة، حتى الأشاعرة الذين ينكرونه إنكارًا مطلقًا، وبين هؤلاء وأولئك الماتريدية الذين يسلمون به في حدود الواجبات الأولية. ولكن من ذا الذي لا يرى أن العقليين من المتكلمين عندنا قد تغالوا في اعتقادهم بعصمة العقل الإنساني؟ وأليس هذا على الأقل مجالًا عصيًّا على إدراكنا؟ وخذ مثلًا: الطريقة التي يؤدي بها المرء عبادته لخالقه، فلو ترك لكل امرئ أن ينظم هذه العبادة فلن يخلو الأمر من احتمالين: فإما أن يبقى متحيرًا لا يفعل شيئًا، وإما أن يلجأ إلى كل ضرب من ضروب التخيل والاعتساف. وحتى بالنسبة إلى جميع المجالات الأخرى -يجب أن نعترف بأن هذا النور الفطري الذي يغلفه الهوى، وتفسده العادات، ينبغي أن يتعرض لنوع من الكبح، وأن يظفر بجملة من التوجيهات، تختلف باختلاف الزمان والمكان، والأمزجة، وإلا، فإن اليقين الأخلاقي -بصرف النظر عن بعض الواجبات الأساسية المعترف بها لدى جميع الضمائر السوية- سوف يخلي مكانة تدريجيًّا للأوهام، وضروب الشك، وصنوف الضلال. فمثلًا، ما واجبنا حيال طبيعتنا العاطفية؟ أمن الواجب ألا نستجيب لشيء من شهواتنا، وأن نفرض على أنفسنا الآلام، وألوان القهر والتقشف، وأن نمضي في هذه الطريق مع البوذية، حتى نبلغ مرحلة "النرفانا"1؛ أو درجة الامّحاء والفناء؟ أم أنه يكفي أن نتظاهر -كما يفعل الرواقيون- بنوع من اللامبالاة تجاه كل ضروب الخير والشر في هذا العالم، وإن كنا نفضل بعضها على بعض؟ أم أنه يجب علينا أخيرًا أن نستمتع بكل ملذات

_ 1 النرفانا، في فلسفة الهنود تعني امّحاء الذات في الشكل "المعرب".

الحياة، سواء أكان ذلك في حكمة وانتقاء، كما يعلمنا النفعيون، أما كان بلا قاعدة أو منهج، على طريقة أريستيب1 aristippe والشعراء في كل زمان؟ ومع ذلك فكل هذه ضروب من الإدراك تؤكد أننا قد رجعنا في أمرها إلى الفطرة الإنسانية، وأتحنا لكل منها الوسيلة الفريدة التي تجعل صاحبها يسلك سلوكًا مطابقًا لتلك الفطرة، بقدر الإمكان. وكذلك الحال في علاقاتنا بأقراننا، فإن الاهتداء إلى السلوك المناسب لا يقل صعوبة بسبب ما يواجهنا من اختلاف في الرأي. ونسوق هنا مثالًا طالما قوبل من قبل بآراء متعارضة: فهل يجب على من لحقته إهانة أن يقتص، أو أن يعفو، أو أن له الخيار؟ وهل يجب علينا أن نعامل أخواتنا بتحفظ، أو بقساوة، أو نكشف لهن عن حبنا الأخوي؟ وهل ينبغي أن نساعد الآخرين ليعيشوا أعفاء، أو نتركهم لوسائلهم الخاصة؟ ... إلخ ... ؟؟ فلو أننا أردنا أن ننزل إلى تفاصيل الحياة اليومية من: بيع، وربا، وخمر، وزواج، وزنا، فإن الخطايا سوف تعظم أبدًا، ولسوف تقاوم العقول دائمًا بعقول، كما تقاوم العواطف بعواطف. لقد أبصر "كانت" الصخرة التي تصطدم بها الأخلاق القائمة على الضمير الفردي، والواقع أنه من المستحيل عند بلوغ درجة معينة أن نسن قانونًا يفرض باعتباره ضرورة على كل الضمائر، فلماذا أضحي باقتناعي من أجل اقتناعك؟ إن من الضروري إذن أن نلجأ إلى سلطة عليا لحسم الخلاف؛ ولن يكون الحل بكل تأكيد أن نعترف بهذه السلطة للمجتمع، إذا كان الأمر أمر

_ 1 أريستيب: فيلسوف إغريقي، ولد في القرن الرابع قبل الميلاد. وهو تلميذ لسقراط، وصاحب مدرسة كانت تبني السعادة على أساس الملذات. "المعرب".

أخلافية moralite، لا أمر شرعية legalite. وهنا نلمح الدافع السليم الذي حدا بكانت أن يلتمس هذا التشريع من سلطة أعلى، تتوفر لها صفتا: الأخلاقية والشمول، وأعتقد أنه واجدها في العقل نفسه، في صورته الأكثر صفاء وتجريدًا، والذي يحكم جميع الأشياء بقانون عدم التناقض la loi de la non - contradiction، ولسوف تتاح لنا الفرصة لنلاحظ إفلاس مثل هذا المعيار1. ونلاحظ أن "كانت" نفسه يعترف بعجز نقده عن تحديد الواجبات الإنسانية بخاصة، وهي الواجبات التي يعد تقسيمها من مهمة نظام العلم، لا من مهمة نظام نقد العقل بعامة، فإن هذا النظام لا يستتبع أي رجوع إلى الفطرة الإنسانية2. وإذن، فالناس محتاجون على وجه التحديد إلى قاعدة صالحة للتطبيق على فطرتهم؛ ويستطيع كل منهم في الحالات السهلة أن يجد تلك القاعدة مسجلة بصورة ما في ضميره, أي: إن الشخص لا يحتاج إلى ذلك الكيان الشكلي المجرد، وهو إن احتاج إليه فإن هذه الفكرة الفارغة لا تفيدنا شيئًا محددًا. لا بد إذن من أن نتوجه وجهة أخرى، فأين نفتش عن ذلكم النور البديع لنهدي ضمائرنا، عندما لا تجد حيثما توجهت غير الظلام؟ وأين نجد ذلك المخلص الذي تعلقت به أنفسنا وقد تفاذفتها الشكوك؟ ليس لدينا أمام هذه الأسئلة سوى إجابة واحدة تفرض نفسها، إذ لا أحد يعرف جوهر النفس، وشريعة سعادتها وكمالها، مع الصلاحية الكاملة،

_ 1 انظر فيما بعد: المبحثين الثاني والثالث. 2 انظر: Kant, Crit. De La R. Part, Preface, P. 6

والبصيرة النافذة -غير خالق وجودها ذاته: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 1؟ فمن ذلكم النور اللانهائي يجب أن أقتبس نوري، وإلى ذلكم الضمير الأخلاقي المطلق يجب أن أتوجه لهداية ضميري: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 2. فبدلًا من أن نقول: "العقل المحض Raison transcendentale" -يجب أن نقول: "العقل العلوي raison transcendante"، وبدلًا من الاستناد إلى تجريد تصوري ذهني -يجب أن نلجأ إلى ذلكم الواقع المحس، الحي، العليم، الذي هو "العقل الإلهي", فنور الوحي وحده هو الذي يمكن أن يحل محل النور الفطري؛ ذلك أن الشرع الإلهي الإيجابي هو الذي يجب أن يستمر، ويكمل الشرع الأخلاقي الفطري. وفي القرآن يسير العقل والنقل معًا، جنبًا إلى جنب، وهو ما يفهم من قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} 3. وفي قلب المؤمن يستقر نوران، على حين لا يجد الملحد سوى نور واحد، وهذا هو معنى رمز النور المزدوج في قوله تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} 4. هل معنى ذلك أن علينا أن نفرق بين مصدرين مختلفين للإلزام الأخلاقي؟ كلا ... فنحن بالآحرى نراهما مستويين لمصدر واحد، أقربهما إلى الناس هو أقلهما نقاء، وذلك أن هذا النور المكمل ليس قريب المنال، ولا سلطان له

_ 1 الملك: 14. 2 البقرة: 216. 3 الملك: 10. 4 النور: 25.

علينا، وليس له معنى أخلاقي إلا من خلال ضميرنا الفردي، وشريطة أن يعترف به، فمن يد هذا الضمير الفردي نتلقى في كل حال الأمر المباشر، وعقلنا الإنساني هو الذي يأمرنا أن نخضع للعقل الإلهي. ومن هنا استطاع الغزالي أن يقول: "وقول القائل: صار واجبًا بالإيجاب حديث محض، فإن ما لا غرض لنا آجلًا وعاجلًا في فعله وتركه؛ فلا معنى لاشتغالنا به، أوجبه علينا غيرنا أو لم يوجبه"1. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى: عندما أسال نفسي، وقد استسلمت لأنواري الفطرية قبل أن أخوض عملًا ما -لكي أعرف واجبي، في موقف يتسم بالوضوح نسبيًّا, فإن إشارة ضميري لن يكون لها في نظري قيمة القاعدة الأخلاقية إلا إذا اعتقدت أنها تعبر عن الحقيقة الأخلاقية في ذاتها، لا عن حقيقة نسبية بالنظر إلى مشاعري. وكل جهودي في التأمل تهدف إلى مطالعة هذه الحقيقة التي أعتقد أنها مطبوعة في أعماقي، وفي جوهر كل كائن عاقل. فإذا ما قيل لنا: إننا نحن الذين نشرع لأنفسنا، بوصفنا أعضاء في عالم عقلي، وجب علينا أن نتفق على ذلك الاستقلال الذي خص به العقل. ماذا تعني في الواقع هذه القولة: "العقل يمنح نفسه قانونه"؟ هل يبدع العقل القانون؟ أم أنه يتلقاه معدًّا، على أنه جزء من كيانه؛ كيما يفرضه على الإرادة؟ ذلك لأنه إذا كان العقل مبدع القانون فإنه سوف يصبح السيد المطلق، فيبقي عليه أو يبطله، تبعًا لمشيئته، فإذا لم يستطع ذلك فلأنه قانون سبق في وضعه وجود العقل، وأن صانع العقل قد طبعه فيه، كفكرة فطرية, لا يمكن الفكاك منها.

_ 1 إحياء علوم الدين 4/ 4 - طبعة الحلبي.

وحينئذ يكون معنى أن يستنصح المرء عقله: أنه يقرأ في كتاب فطرته النقية، والإنسانية بصفة نوعية -ما سبق أن فطرها الله عليه. وبعبارة أخرى: عندما يرجع أشد الناس إلحادًا إلى سلطة العقل فإنه لا يفعل في الواقع سوى الإنصات إلى ذلكم الصوت الإلهي، الذي يتكلم في داخل كل منا، دون أن يذكر اسمه، وهو ينطق به صراحة عندما يتحدث إلى المؤمن. ولكن، إذا كان النوران: الفطري والموحى -ينبثقان من مصدر واحد فحسب، فيجب أن نخرج أخيرًا بأن الله سبحانه هو الذي يرشدنا دائمًا إلى واجبنا، ما ظهر منه وما بطن. وهكذا نصل إلى علاج الإلزام الأخلاقي في الإسلام، في صورته، كقانون إيجابي loi positive. وينبغي علينا في مواجهتنا لهذا المجال الجديد أن نسأل أنفسنا عما إذا كان للشريعة الإسلامية مصدر واحد، أو عدّة مصادر؟ ذلك لأن الفقهاء قد حددوا لها بعامة أربعة مصادر، هي: القرآن، أو "كلمة الله"، والسنة، أو "ما نقل عن الرسول"، والإجماع، أو "الحكم المجتمع عليه في الأمة", وأخيرًا: القياس أو "الحكم بطريق التناظر". وإذا كان التحليل الذي قدمنا صحيحًا -باستثناء بعض التحديدات التي يجب أن نضيفها إلى هذا القول- فلا ينبغي أن يكون لدينا سوى سلطة تشريعية واحدة، بالمعنى الصحيح. والقرآن ذاته لا يفتأ يؤكد لنا هذه الفكرة في كثير من آياته، قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} 1، و {أَلا لَهُ الْحُكْمُ} 2، و {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} 3.

_ 1 الأنعام: 57، ويوسف: 40. 2 الأنعام: 62. 3 الرعد: 41.

وقد بعث الله سبحانه فينا رسوله، لا ليكون مجرد خاضع لشرع الله فحسب، بل ليكون أول خاضع له: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} 1. وإذن, فماذا يقصد بذلك المبدأ الرباعي ... ؟

_ 1 الأنعام: 162.

أولا: القرآن

أولًا: القرآن لما كان القرآن -في نظر المسلمين- كلمة الله ذاته، فقد أصبح مستوفيًا لشرائطه تلقائيًّا؛ لكي يعبر عن الإرادة الإلهية. ولكن، ألا ينبغي أن يعد منذئذ المصدر الوحيد للشريعة الإسلامية؟ ثم ألا يكون إقرار مصدر آخر للتكليف الأخلاقي المباشر والواقعي، بجانب القرآن -معناه: اشتراك بصائر أخرى مع الله، لها نفس الحق المقدس في إصدار الأحكام؟ فَلْنَرَ إلى أي مدى بلغت في الواقع السلطة المخولة للمبادئ الأخرى.

ثانيا: السنة

ثانيًا: السُّنة والحق أن جميع العلماء متفقون على أن يروا في تعاليم السُّنة العملية، أو مأثور النبي, صلى الله عليه وسلم1 -مصدرًا ثانيًا، عظيم الأهمية، للشريعة الإسلامية بعد القرآن، كلمة الله. والقرآن نفسه قد طلب إلى المؤمنين أن ينقادوا، دون حرج، لجميع أوامر النبي -صلى الله عليه وسلم- متى أخذوا أنفسهم بالإيمان به، ومن ذلك قوله: {فَلا وَرَبِّكَ

_ 1 نقصد بهذا مجموع أقواله وأفعاله، وتقريراته، وجميع مواقفه الضمنية، استحسانًا، أو رفضًا.

لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 1، وقوله {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 2، وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} 3، وقوله: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 4. غير أننا إذا ما نظرنا إلى حقيقة الأمر نجد أن جميع الأوامر النبوية لا تفرض تكليفًا نهائيًّا، مهما يكن شأنه، شرعيًّا أو دينيًّا، إلا بقدَرٍ, وبشرط أن ترتدي الفكرة التي يشتمل عليها صفة الوحي، صراحة أو ضمنًا. فإذا عدمت هذه الصفة الإلهية لم يعد للدرس أو المثال الذي قاله "الإنسان" سلطان على أحد. وقد وردت هذه التفرقة مشارًا إليها في النص القرآني، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} 5. على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي قرر ذلك بأوضح وجه وأصرحه، حين قال: "إذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئًا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله" 6. ولم يكتف النبي -صلى الله عليه وسلم- بإعلان أن آراءه حول أمور الدنيا ليست معصومة

_ 1 النساء: 65. 2 النساء: 80. 3 الحشر: 7. 4 النور: 56. 5 الأنفال: 24. 6 رواه مسلم - كتاب الفضائل - باب 38، والفقرة الأولى من النص الذي ذكره المؤلف من حديث عن رافع بن خديج -رضي الله عنه- والفقرة الثانية من حديث عن طلحة بن عبيد الله، وكلاهما وارد بمناسبة حادثة تأبير النخل: "المعرب".

من الخطأ، من حيث كانت خارج نطاق رسالته، وهو في ذلك يقول لصحابته ولأمته: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" 1 -وإنما أضاف إلى ذلك أنه ربما يقع في أخطاء، صغيرة أو كبيرة، حين يتعرض لموضوع من موضوعات رسالته الإلهية نفسها، أعني: النظام الأخلاقي، أو التشريعي، أو العبادي, ما لم يكن مؤيدًا بالوحي. وهكذا وجدنا القرآن يعاتبه في مواقف كثيرة؛ لأنه رق لحال المشركين، فوقف منهم موقفًا يتسم بالرحمة، حيث كان ينبغي أن يكون أكثر تشددًا: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} 2. ويخاطبه في موقف آخر: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} 3. وفي موقف ثالث: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} 4. ومن أمثلة ذلك أيضًا موقفه في إحدى حالات السرقة التي رفعت إليه، على ما ورد في القرآن، فكاد يخدع في حكمه، ولولا مساعدة الوحي له لأدان البريء، وبرّأ المذنب، وفي ذلك يقول القرآن: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} 5

_ 1 مسلم, السابق. 2 الأنفال: 67. 3 التوبة: 43. 4 التوبة 113. 5 النساء: آيات 106-113، وقد ذكر الواحدي في أسباب النزول - 120 مناسبة نزول هذه الآيات، وذلك أن رجلًا من الأنصار يقال له: طعمة بن أبيرق، أحد بني ظفر بن الحارث سرق درعًا من جار له يقال له: قتادة بن النعمان، وكانت الدرع في جراب فيه دقيق، فجعل الدقيق ينتثر من خرق في الجراب، حتى انتهى إلى الدار، وفيها أثر الدقيق، ثم خبأها عند رجل من اليهود يقال له: زيد بن السمين، فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد عنده، وحلف لهم: والله ما أخذها وما له به من علم، فقال أصحاب الدرع: بلى, والله قد أولج علينا فأخذها، وطلبنا أثره حتى دخل داره فرأينا أثر الدقيق، فلما أن حلف تركوه، واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهوا إلى منزل اليهودي فأخذوه، فقال: دفعها إليّ طعمة بن أبيرق، وشهد له أناس من اليهود على ذلك. فقالت بنو ظفر، وهم قوم طعمة: انطلقوا بنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فكلموه في ذلك، فسألوه أن يجادل عن صاحبهم، وقالوا: إن لم تفعل هلك صاحبنا وافتضح، وبرئ اليهودي، فهمّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يفعل، وكان هواه معهم، وأن يعاقب اليهودي، حتى أنزل الله تعالى الآيات. اهـ. "المعرب".

وليس يخرج عن هذا السياق تلك العظة البليغة التي وجهها النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم إلى متخاصمين قبل أن يفصل بينهما، قال -صلوات الله عليه- فيما روي عن أم سلمة: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار" 1. وفضلًا عن ذلك كان يحدث له أحيانًا، وهو يؤم صلاة الجماعة أن ينسى، أو يزيد فيها بعض التفاصيل، مما يخالف صحتها. وفي ذلك يروي البخاري: فلما سَلَّمَ قيل له: يا رسول الله، أحدَث في الصلاة شيء؟ قال: "وما ذاك"؟ قالوا: صليت كذا وكذا، فثنى رجليه واستقبل القبلة، وسجد سجدتين، ثم سلم، فلما أقبل علينا بوجهه قال: "إنه لو حدث في الصلاة شيء لنبأتكم به، ولكن إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون, فإذا نسيت فذكروني" 2 ... إلخ. فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يعلن في موقف معين أنه معصوم، حين يكون مبلغًا -كما رأينا- أمرًا، بوصفه رسول الله، فإذا ما بلغ رسالته، وبينها للناس واستودعها ذاكرة الجماعة، فإن النقص الفطري الذي لا يفتأ يصيب انتباه الإنسان مهما يكن عقله قويًّا ذكيًّا -قد يجوز أن يظهر أحيانًا عنده، ولكن مع فارق هام هو: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يمكن أن يستمر مطلقًا على رأي خاطئ وإذا لم يعد إلى الصواب بالطريق المعتادة فإن الوحي يتدخل حتمًا لتصحيح خطئه، وإقامته على الصراط المستقيم، وإلا وقعت الجماعة كلها في الخطأ، والتزمت باتباعه في طريق الضلال. والله سبحانه يقول: {وَمَا كَانَ اللَّهُ

_ 1البخاري, كتاب الأحكام, باب 19. 2 البخاري, من حديث في كتاب الصلاة, باب 31.

لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُون} 1. فلولا هذا التقويم المستمر لنجم عن تخلفه أن تصبح كل أوامر النبي وأحكامه التي لم يقومها الوحي -موافقًا عليها ضمنًا، ولتلقاها الناس، ومعهم الحجة البالغة، على أنها أحكام إلهية. وقس على ذلك سائر أحواله, حين يعمل، فهي معدودة من حيث المبدأ أمثلة يُقتدى بها، وينظم المسلمون على أساسها سلوكهم، ما لم يصدر عنه ما ينقضها. وموجز القول: أن كل حديث صحيح لم يرد ما ينسخه، وكان موضوعه جزءًا من رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- بحيث أصبح في نهاية الأمر تعبيرًا عن الإرادة الإلهية -هذا الحديث له في نظر المسلمين نفس السلطة الأخلاقية التي للنص القرآني. ولو اشتمل الحديث علاوة على ذلك، تفصيلات وتحديدات، أكثر مما اشتمل عليه النص القرآني -فإن هذا الحديث هو الذي يحكم النص القرآني2 فهو يفسره، ويحدد أهميته، ويبين نماذج تطبيقه.

_ 1 التوبة: 115. 2 "السُّنة قاضية على الكتاب" - نص حديث أورده الدارمي في السُّنة - المقدمة - باب 48. بيد أن أحمد بن حنبل حين سئل عن هذا الحديث قال: "لا أجرؤ أن أقول هذا, وإنما أقول: إن السُّنة تفسر القرآن وتبينه"، ولا شك أنه يريد بهذا أن يقول: إذا كان راوي الحديث قد أورد الفكرة الأساسية فإنه قد استخدم تعبيرًا غريبًا، أو جريئًا بعض الشيء، بحيث يبدو أنه يقلب الترتيب المعتاد بين السُّنة والقرآن، والواقع أنه لو حدث أن رويت عبارة منسوبة إلى النبي، وكانت غير متفقة مع مبدأ مقرر في القرآن، فإننا نرفض هذه العبارة وجوبًا، على أنها غير صحيحة. ومن ذلك عبارة: "إن الميت يعذب ببكاء أهله" - فقد ردتها عائشة، ذاهبة إلى أنها يجب أن تكون رواية مشوهة محرفة؛ نظرًا لتعارضها مع الآية القرآنية: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] التي تضع مبدأ هو: أن أحدًا لا يمكن أن يتحمل وزر غيره. "البخاري, كتاب الجنائز, باب 32".

ثالثا: الإجماع

ثالثًا: الإجماع وهكذا رأينا من كل وجه، في أي ظرف، يمكن لسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تكون مبدأ للإلزام، فما الظن إذن بتلك السلطة الرفيعة التي خص بها المصدر الآخر للتشريع، والمسمى بالإجماع، أو الحكم المجتمع عليه في الأمة..؟ الحق أن سلطة الإجماع يمكن أن تستقى من بعض النصوص القرآنية، مثل قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 1. وليس يهمنا أن يقال: إن هذه الآية موجهة إلى الأمة المحمدية بعامة، أو هي موجهة إلى الجيل الأول الذي شهد الوحي، وهو قول أكثر احتمالًا، فهناك دائمًا، أنى توجهنا، جماعة من الناس، رأيهم مجتمع، وقد يصدقه الكتاب الكريم، ليصبح رأيًا منزهًا من الناحية الأخلاقية، يجل عن أن يرضى شرًّا، أو يمنع خيرًا. وهناك استدلال مماثل يفيد مزية الإجماع، ويمكن أن يستقى من آية أخرى، فبعد أن قرر القرآن لأولي الأمر من المسلمين نفس حق الطاعة الذي قرره لله ورسوله -نجده يضيف مباشرة تحفظًا، هو أنه في حال النزاع يجب الرجوع إلى السلطتين الرئيسيتين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} 2. ومن هذا النص يؤخذ أنه طالما

_ 1 آل عمران: 110. 2 النساء: 59.

وُجد اتفاق مشترك فلن يكون هنالك مقتض للجوء إلى أي معيار آخر، لإقرار العدالة، فيما يواجه أولي الأمر من ظروف. فإذا ما رجعنا إلى الوثائق التي ترويها السُّنة فسوف نرى أن هذا الامتياز غير مقتصر مطلقًا على عصر الصحابة، على ما قد يفهم من هذه النصوص القرآنية، ولكنه ممتد بلا نهاية إلى جميع الأجيال المسلمة. وحسبنا هنا أن نذكر نصًّا منها، معترفًا بصحته، وهو غاية في الصراحة في هذا الصدد، قوله, صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون" وفي رواية: "حتى تقوم الساعة" 1. وإذا كانت عصبة الحق لا تزال باقية في العالم الإسلامي فإن فكرة الاتفاق الإجماعي على الضلالة سوف تكون إذن مستبعدة، على أنها أمر محال من الوجهة العملية في العالم الإسلامي. فقد انتهى الرأي إلى اعتبار الإجماع في أي عصر سلطة عليا لا معقب لها، وهي تستطيع أن تحكم على نصوص القرآن والحديث ذاتها، ولا يمكن أن تحكم بهما، ولا أن تبطل برأي آخر، سابق أو لاحق. وعامة المسلمين يخضعون في الواقع لهذه السلطة دون مناقشة، اللهم فيما خلا بعض الخوارج والمعتزلة والشيعة. ولكن، كيف نوفق بين موقف كهذا وبين الخضوع المطلق، والولاء العميق الذي يضمره المسلم لله، ولكتابه، ولرسوله الذي هو المبلغ عن الله،

_ 1 البخاري, كتاب الاعتصام, باب 10. وقد فسر البخاري هذا الحديث ذاهبًا إلى أن الطائفة المذكورة في النص "هم أهل العلم".

والمبين لكتابه؟ وكيف يمكن أن يكون هذا الموقف بخاصة متوافقًا مع منطق الإسلام، الذي يبغض أشد البغض كل انقياد أعمى، ولا يفتأ يمجد العقل، والرأي الناضج، حتى في عقائده الأساسية؟ من هنا نفهم إلى أي حد أثارت هذه النظرية رجلًا من العقليين، هو النَّظَّام، فدفعته إلى أن يعلن أن: "الإجماع عبارة عن كل قول قامت حجته، وإن كان قول واحد"1، ولا قيمة لإجماع لا يقوم على حجة. فإذا تأملنا من قريب رأي النظام فسوف نجد أنه لم يكن مصيبًا مطلقًا، ولا مخطئًا مطلقًا، فهو محق لأنه يدافع عن مبدأ سام اعترف به القرآن، ولكنه أخطأ حين اعتقد أنه كشف عن شرط أولي جهله كل الناس قبله. فلا بد إذن من إيضاح لتحديد هذا الإجماع، الذي يمكن أن يعتمد عليه المسلم، كسلطة تشريعية مؤكدة، ومعتمدة عند القضاء. فكلمة "إجماع" تترجم عمومًا بكلمة consensus 2, consensus، ominium، وهي ترجمة غير كاملة تمامًا والواقع أنه لا يجب أن نتصور هذا الاتفاق على طريقة تصويت شامل، ناشئ عن استفتاء مفروض على شعب بأكمله، أو على جميع الشعوب الإسلامية، بحيث يشترك فيه أجهل الناس وغير المختصين، على قدم المساواة مع أعلم الناس. كما لا يجب أن نتمثل المجموعة المقترعة على هيئة مجمع ديني، أو جمعية عامة، أعضاؤها منتخبون أو معينون، تجتمع تحت سقف واحد لمناقشة بعض المسائل العقيدية، أو الاقتصادية، أو السياسية، فالإجماع لا يشبه شيئًا من هذه المنظمات الغربية، لا في شكله، ولا في موضوعه.

_ 1 انظر: الغزالي في المستصفى 1/ 173. 2 كلمة لاتينية معناها: الاتفاق بين عدة أشخاص، أو عدة هيئات. "المعرب".

أما من ناحية الموضوع فإن دور الإجماع هو حسم مشكلة جديدة1, ذات طابع أخلاقي أو فقهي، أو عبادي، دون أن يكون من شأنه أن ينظر في مسائل الحياة التطبيقية، أو في مسائل الدين النظرية. فأما الحياة المادية فلأن أي نص لا يعصمنا من أن نرتكب خطأ يتوقع أن يحدث في أي قرار مشترك بهذا الصدد، وأما المسألة الاعتقادية فلسبب يختلف عن هذا، والواقع أنه إذا كان احتمال خطأ الأمة بأسرها في موضوع ديني، ذي طابع عملي -أمرًا ينبغي أن يستبعد من الافتراض، فمن الأولى أن يستبعد ذلك فيما يتعلق بموضوع الإيمان. وغاية الأمر أن يقال: إن الرجوع إلى الإجماع في هذا المجال لا تلتقي عنده بالرضى كل المشاعر والقلوب2. وإذا كان بعضهم قد أجازه في المسائل الثانوية، فإن أحدًا لم يوافق عليه فيما يتصل بالعقائد الأساسية، فليس لمسلم الحق مطلقًا في أن يلجأ إلى سلطة الآخرين ليؤسس إيمانه، فإن بناء الدين على أساس لا يوضع إلا بوساطة الدين نفسه هو أشبه بالدوران في حلقة مفرغة. وأما من حيث الشروط التي ينبغي أن يتم بها التصويت لإنشاء سلطة تشريعية قطعية الأحكام -فإن القاعدة الثابتة تبدي إلحاحًا شديدًا على جوهر الموضوع، وإن ظلت غير عابئة مطلقًا بالشكل الخارجي، الذي

_ 1- نقول: "جديدة"؛ لأنه إذا كانت المشكلة قد درست من قبل فلذلك حالتان: أن تكون المناقشة قد انتهت إلى اتفاق أو اختلاف, ففي حالة الاتفاق لا تكون إعادة دراستها عديمة الجدوى فحسب، بل ينبغي ألا يكون لها موضع, وهي أشبه بما إذا كانت المشكلة قد حلت بوساطة الوحي المباشر، وفي حالة الاختلاف سوف يكون لحصول على اتفاق لاحق بعض الفائدة بلا شك، ولكنه لن ينشئ إجماعًا مؤكدًا وحاسمًا؛ لأن الرأي -تبعًا لكثير من الأصوليين- لا يموت بموت أصحابه, وبذلك لن يكون الاتفاق إجماعيًّا. 2 انظر: ابن عبد الشكور في "مسلم الثبوت" 2/ 246 هامش المستصفى.

يمكن أن يتولاه تنظيم الهيئة المقترعة. وكون الأعضاء معينين أو غير معينين بوساطة الدولة، منتخبين أو غير منتخبين بوساطة الشعب، واجتماعهم في جلسة عامة، أو تفرقهم في أنحاء الأرض -كل ذلك لا يؤثر في شيء على قيمة النتيجة، بشرط أن تكون صادرة في دقة وإحكام. فجوهر القضية أن يكون كل عضو مدركًا لاستقلاله الأدبي، ولمسئوليته الأخلاقية، وأن يعبر عن رأيه في حرية، بعد تأمل ناضج في المشكلة المعروضة. بيد أن الأمر الجدير حقًّا بأن يشد اهتمامنا هو: أن أحدًا لا يمكن أن يعتبر عضوًا في هذه الجماعة إلا إذا حاز من قبل صفة العالم المتخصص في المادة، أعني: أن يحقق الشروط المطلوبة فيمن يكون له حق الرجوع مباشرة إلى المصادر؛ ليستقي منها الأحكام على منهج العلماء. وبعبارة أخرى: يجب ألا يقتصر جهد جميع الأعضاء على أن يضعوا تحت أيديهم الوثائق اللازمة لحل هذه المشكلة أو تلك، بل يلزمهم أيضًا أن يكونوا متمرسين بنقد النصوص التي تحتاج إلى إثبات، عندما لا يكون لديهم نقد موثق. ويلزمهم بعد ذلك أن يعرفوا اللغة معرفة عميقة، في أسلوبها الحقيقي، وفي أسلوبها المجازي، وأن يحسنوا إدراك الأفكار الأساسية، والأفكار الثانوية، سواء أكانت هذه الأفكار ملفوظة أم ملحوظة، ويلزمهم فضلًا عن ذلك أن يكونوا على قدم راسخة في تاريخ التشريع الإسلامي للمسألة، وأن يحيطوا بأسباب النزول، وبالناسخ والمنسوخ إن وجد. وأخيرًا: يجب أن يتعمقوا روح الشرع، وغاياته التي يهدف إليها، من خلال تطبيقاته على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته. فالإجماع على هذا أبعد شيء عن أن يكون تلفيقًا لآراء متعسفة، ذاتية، طائشة، ناتجة آليًّا عن التقليد، أو مدفوعة بروح المحاباة المغرضة. إنه

يتجلى لأعيننا على أنه وحدة اليقين الراسخ وحقيقته، اليقين الذي تفرضه حقيقة الأشياء على كل الأنفس المستنيرة. وإنا لنعلم كم تفرق الظروف الذاتية آراءنا الشخصية، وندرك إلى أي مدى تعمل هذه الظروف على تفرقها واختلافها غالبًا. وعلى هذا، فلو حدث في ظروف كهذه، يبذل فيها كل فرد جهده العقلي، تبعًا لطريقته الخاصة في التفكير، ومستقلًّا عن كل تأثير خارجي -لو حدث أن انتهى هذا الجهد إلى نفس الحل الذي انتهت إليه جهود الآخرين. فما ذلك إلا لأن هذا الحل قد تجلى من خلال الضمائر كلها في وضوح وصدق لا يقبلان المناقشة. فعصمة الإجماع، التي هي موضوعنا هنا، ليست في حقيقة الأمر منسوبة إلى المفكرين أنفسهم، ولا إلى هذا النص الخاص، أو ذاك، مما يمكن أن ترفض صحته، أو يختلف تأويله وتفسيره، ولكنها تكمن في ذلك الرجوع إلى مجموع الوثائق القرآنية والنبوية الصحيحة، ودراستها دراسة ناضجة، وبناء عليها يؤسس مفكرونا ما يصدرون من أحكام.

رابعا: القياس

رابعًا: القياس على حين آمنت المدرسة الظاهرية، أو التفسيرية، بوجوب الاقتصار على المصادر الثلاثة السابقة: "الكتاب، والسُّنة، والإجماع" -فقد مضت المذاهب الأخرى -استنادًا إلى ما فعله صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- وإلى رأي أكثر تابعيهم- إلى مصدر رابع وأخير، أطلق عليه: القياس. أيجب أن نعتقد أن نظريتهم هذه تنزع إلى أن تخلع على هذا النوع من التشريع صفة الاستقلال العقلي الذي سبق أن رفضناه بالنسبة إلى القرار الإجماعي، وبالنسبة إلى النبي نفسه؟ كلا ... فهذا الاستدلال بمقتضى تعريفه نفسه يفترض وجود حالة نقيس عليها، تمثل بها الحالة الجديدة، وعليه فالحالة النموذج ينبغي أن يسبق ذكرها في القرآن، أو في الحديث، أو في الإجماع. وفضلًا عن ذلك

فإن الطابع المشترك بين الحالتين يجب: إما أن ينشئ1 علة التشريع، وإما أن ينطوي2 عليها. والمراد بالعلة: السبب الذي من أجله طبق حل الحالة الأولى. وبناء على ذلك فإذا كان هذا الطابع المشترك قد عين صراحة في النص، أو اعترف به الإجماع، على أنه سبب وجود الحل الأصلي, فليس هنالك أية صعوبة، حتى من قبل المدرسة الظاهرية؛ لكي نجعل هذا الطابع دليلًا، بل شرطًا ضروريًّا وكافيًا للحكم الصادر من قبل، ومن ثم لا صعوبة أيضًا في تعميم هذا الحكم وتطبيقه أينما توفرت العلة الثابتة. بيد أنه في الحال التي لا يمكن فيها استخراج هذا التعليل، أو هذه العلاقة السببية، إلا بواسطة جهد دقيق في البرهنة، قل أو كثر -أيجب في هذه الحال أن نعتد هذا التعليل بما يستقى منه من نتائج, مما تقتضيه روح الشريعة المنزلة؟ في رأينا أن الإجابة عن هذا السؤال ينبغي أن تشتمل درجات، ولكن سكوت المدرسة الظاهرية عنه لا يعد على الأقل مانعًا من إساءة استعمال بعض الفقهاء للحرية العقلية. وبعكس ذلك مذهب المالكية، الذي مضى إلى ما هو أبعد من ذلك في الاتجاه المتحرر، مستندًا إلى ما حدث من أمثلة على عهد المسلمين الأوائل. فالإمام مالك يوافق على هذه البرهنة القياسية، لا استنادًا إلى نص محدد فحسب، يضع نفس الحل لمشكلة محددة مماثلة للمشكلة المدروسة، بل كذلك استنادًا إلى الطرق العامة التي لجأت إليها الشريعة في مواضع لا تحصى، أقل شبهًا أو أكثر بما نحن بصدده، والتي تستخرج من مجموعها تلك الفكرة الثابتة التي تقول: إن هذا النوع من الخير هدف جوهري يسعى الشرع لتحقيقه بكل الوسائل الممكنة. فالحالة الجديدة حينئذ لا تقدم لنا سوى

_ 1 انظر: قياس العلة. 2 انظر: قياس الشبه.

وسيلة أخرى يجب أن تستخدم عندما تفرض بدورها نفسها؛ لتحقيق هذا الخيرالنوعي الذي يسميه مالك: المصلحة المرسلة. وبفضل هذا المبدأ، استطاع هذا الفقيه أن يحل عددًا من مشكلات الأخلاق والشريعة في اتجاه جد أصيل، وإن اصطدم حينًا بنصوص الشريعة1

_ 1 لنأخذ على ذلك المثال التالي: هل يجوز في حال الحرب أن نضرب في اتجاه جنودنا الذين أسرهم العدو، واستتر خلفهم ليضربنا ويحتل أرضنا؟ أم أن من الواجب -على عكس ذلك- أن نمسك عن الضرب رعاية للشرع الصريح الذي يمنعنا أن نستبيح دم بريء؟ والله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151] . يجيب الإمام مالك عن هذا السؤال مرجحًا الأخذ بأخف الضررين، ويعلل لذلك بأننا لو بقينا دون عمل، احترامًا لهذا العدد القليل من جنودنا، الذين جعلهم سوء الحظ درعًا للعدو. فإن بقية الجيش وهي الكثرة الكاثرة منه، قد تتعرض للهلاك، ثم لن ينجو أيضًا أسرانا من نفس المصير بعد ذلك. ولا ريب إذن في أن الشرع الإسلامي يقدم دائمًا إنقاذ الجماعة، ومصلحتها المشتركة والدائمة، على حياة الأفراد ومصالحهم العاجلة. ويختم حديثه بقوله: إننا مع احتياطنا للحفاظ على رجالنا -لا ينبغي أن نوقف الحرب, بل يجب أن نواصلها ولو أصيبوا من جرائها. وإليك مثالًا آخر ذا طابع فقهي: هل للقاضي الحق في أن يأمر بحبس متهم في سرقة، دون أن يجد ضده دليلًا ماديًّا، أو شهادة، أو اعترافًا، على حين قد يكون في هذه الظروف غير مذنب؟ إن نص الشرع -كما نعلم- يمنع من الإضرار باليأس في أشخاصهم، أو أموالهم، أو أعراضهم، ما داموا لم يستحلوا حرامًا. ففي مسلم, كتاب البر, باب 10: "كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه". وفي البخاري, كتاب الحج, باب 126: "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام". بيد أن الإمام مالكًا يعلل ذلك على الوجه التالي: بما أن من النادر أن يقر مجرم بجرمه، أو أن يرتكبه أمام شهود، أو أن يؤخذ في حال اقترافه للجريمة، فإن أكثر الجرائم سوف تمضي دون عقاب، إذا ما تمسكنا بهذه الأدلة الكاملة. وعليه، فمن المعلوم لنا أن الشرع قد عني عناية كبيرة بإقرار النظام الاجتماعي والحفاظ عليه، وأن يعمل بكل وسيلة على أن يؤمن لكل فرد مقدرته على أن يمارس حقوقه، على ملكيته. فلا بد لنا إذن من أن نلجأ إلى إجراءات أقل تشددًا، يخضع لها المتهم، لا لكي نغتصب منه مطلقًا اعترافًا بما لم يفعل، مجردًا من أية صحة، من حيث صادرًا عن إكراه, بل بأمل أن نحمل هذا المتهم على أن يرشدنا إلى دليل واضح. وجدير بالذكر في هذا المقام أن هذه المدرسة, ترى أيضًا أن مثل هذه الإجراءات لا تكون شرعية إلا بشرط أن تكون بداية هذا الدليل قد كشفت من قبل ضد المتهم.

على أننا مهما تعمقنا في مختلف تيارات الفكر التشريعي في الإسلام, فإن حقيقة معينة تظل ثابتة لا تقبل جدلًا، هي أن الغاية النهائية، وراء كل جهود الفقهاء ليست إلا التوصل إلى ذلكم المنبع الوحيد الذي يجب أن يستقي منه الناس جميعًا، من قريب، أو من بعيد: حكم الله، وهو الحكم الذي يسجله القرآن في المقام الأول مباشرة، ثم يأتي الحديث ليبينه ويحدده. وإذا لم يرد الحكم في نص الكتاب أو السُّنة فإن القياس يحاول أن يكشف عنه في روحهما، وفي مفهومهما العميق. ويأتي أخيرًا دور الإجماع، محاولًا إدراك هذا الحكم في فحوى مجموعهما. فالله سبحانه وحده هو إذن المشرع، وليس الآخرون سوى مقررين لأمره، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. بيد أننا لم نمس بعد أعمق الجذور في الإلزام الأخلاقي في القرآن، فنحن لم نفعل حتى الآن سوى أن نرد الشرع الأخلاقي الفطري إلى نوع من الشرع الإلهي المتضمن في كيان العقل الإنساني ذاته. ولقد سبق أن أشرنا إلى قصور هذا النور الجزئي "أي: نور العقل" عن أن يقدم شرعًا تتوفر فيه -في وقت واحد- صفات: الحسية، والكمال، والشمول. كما أشرنا إلى ضرورة اللجوء إلى سلطة أخرى من أجل الحصول على هذه الصفات الثلاثة، وهي سلطة تستطيع أن تنير للناس طريقهم على خير وجه، بوساطة تعليم إيجابي محدد، وإن كانت ذات طبيعة علوية. هذه السلطة التي يجب أن تكون ذات علم مطلق، ونور أبدي -لا يمكن أن تكون شيئًا آخر سوى الوجود الكامل l'etre parfait. ولقد انتهينا أخيرًا إلى أن رددنا جميع مصادر هذا الشرع الإيجابي إلى مصدر وحيد، وقصرنا جميع الأوامر إلى أمر واحد، ظاهر أو باطن، هو أمر الله.

على أن القرآن لا يقدم لنا هذا الأمر الإلهي على أنه سلطة مطلقة، مكتفية بنفسها لكي تكون في أعيننا أساسًا لسلطان الواجب، بل إن مما يثير العبرة في هذا المقام أن نلحظ -على العكس- العناية الفائقة التي التزمها هذا الكتاب في غالب الأحيان، حين قرن كل حكم في الشريعة بما يسوغه، وحين ربط كل تعليم من تعاليمه بالقيمة الأخلاقية التي تعد أساسه. ومن ذلك أنه عندما يدعونا أن نتقبل من أهلينا كل تسوية للصلح، حتى لو كانت في غير صالحنا يؤيد دعوته بتلك الحكمة: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} 1، وعندما يأمرنا أن نوفي الكيل، ونزن بالقسطاس المستقيم يعقب على هذا الأمر بقوله {ذَلِكَ خَيْر} 2. ولكي يسوغ قاعدة الحياء، التي تطلب من الرجال أن يغضوا أبصارهم، ويحفظوا فروجهم -نجده يسوق هذا التفسير: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} 3، وبعد أن يأمرنا بتبين السبب قبل أن نصدر حكمًا يقول: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} 4. وكذلك نجد الأمر الذي يقتضينا أن نكتب ديوننا، وآجال أدائها -مفسرًا بقوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} 5. وإنه ليكفينا عن تعداد أمثلة الأوامر الخاصة، أن نرى الطريقة التي يدفعنا بها إلى التماس القيم الروحية، وكيفية توجيهه بصفة عامة, فضلًا عن عدد هذه الأوامر. قال تعالى: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} 6. وقال: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى

_ 1 النساء: 128. 2 الإسراء: 35. 3 النور: 30. 4 الحجرات: 6. 5 البقرة: 282. 6 المائدة: 100.

ذَلِكَ خَيْرٌ} 1. وقال: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} 2. وإنه ليشهدنا كذلك على المبدأ الأساسي الذي صدرت عنه الشريعة الإلهية كلها، حين صاغه فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} 3. وقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} 4. وهكذا، فإن ما كنا نعتقد أنه الحلقة الأخيرة في سلسلة المراجع، لم يثبت أنه الأخير. فالعقل الإلهي، في هذا المجال، أكثر تشددًا من العقل الإنساني. فهو لا يريد أن يتمسك بشكل حكمه، ويجعل منه المبدأ الأول للإلزام الأخلاقي، وإنما هو يلجأ بدوره إلى معيار آخر فيحيلنا إلى جوهر الواجب ذاته، إلى كيفية العمل، وإلى قيمته الذاتية. فالأمر الإلهي يسوغ في نظرنا بتطابقه مع تلك الحقيقة الموضوعية، وهو بهذا التطابق يستحوذ على قبولنا؛ كما أنه يقيم على هذا القبول سلطانه الأخلاقي. بيد أن هذا الطابع العميق الذي يؤلف جوهر العدل، والخير في ذاته لا يتسنى لنا أن نميزه بأنفسنا، دائمًا، وحيثما وجد فشأنه شأن كل جوهر، لا نراه مباشرة في حالة كماله، وإنما نلمحه لمحًا، بفضل ذلك الجزء من النور، المحدود في امتداده، وفي قوته، والذي نستمده من فطرتنا. ليس هنالك إذن سوى نور واحد محض، وغير محدود، هو الذي يستطيع أن يضم هذا الجوهر كاملًا، وفي ثقة تامة؛ ولذا كان من حق المؤمنين أن يتخذوا من العقل الإلهي وسيلة الهداية الأخلاقية الكاملة، وإذن ففي فكرة القيمة يكمن المنبع الحق للإلزام، فهي عقل العقل، وهي المرجع الأخير للحاسة الخلقية.

_ 1 الأعراف: 26. 2 البقرة: 269. 3 الأعراف: 28. 4 النحل: 90.

خصائص التكليف الأخلاقي

خصائص التكليف الأخلاقي مدخل ... 2- خصائص التكليف الأخلاقي: كل قانون "مادي، أو اجتماعي، أو منطقي، أو غير ذلك"، يحكم بالضرورة جميع الأفراد الخاضعين له، على نسق واحد، كما يحكم الفرد الواحد في مختلف ظروفه. وإلا فلن يكون القانون قانونًا, أعني: قاعدة عامة وثابتة. وقانون الواجب، وإن كان ذا طابع جد فردي فإنه لا يتخلى عن هذا الطابع المشترك: إنه شامل، وضروري، ويتجلى طابع الشمول في القانون الأخلاقي، في القرآن، بوضوح لا ريبة معه، لا لأن مجموع أوامره يتوجه في جملته إلى الإنسانية جمعاء فحسب، وهو ما يقرره قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} 1. وقوله: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} 2. وقوله: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} 3، وهو ما قد يحمل على معنى توزيعي. بل إن القاعدة الواحدة، ولتكن قاعدة العدالة، أو الفضيلة بعامة، يجب على كل فرد أن يطبقها على نسق واحد، سواء أكان تطبيقه لها على نفسه، أم على الآخرين: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} 4. {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} 5. {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا

_ 1 الأعراف: 158. 2 الأنعام: 19. 3 الفرقان: 1. 4 البقرة: 44. 5 البقرة: 267.

عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} 1. وسواء أكان هذا التطبيق على أقربائه، أم على البعداء، على الأغنياء، أم على الفقراء: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا} 2. وسواء أكان خارج الجماعة أم داخلها: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} 3. على الأصدقاء أم على الأعداء: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} 4. بل إنه، حتى في الحالة التي لا يشتمل نص التشريع فيها على لفظ عام، وحتى لو كان منزلًا بمناسبة ظرف فردي -فإنه يعتبر من حيث المبدأ قابلًا للشمول، أعني أن من الممكن أن ينطبق على جميع الحالات المماثلة، ومن ذلك ما أعلنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "إني لا أصافح النساء، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة" 5. وقد ذهب الجمهور إلى أن الحكم الوارد بشأن فرد واحد ينطبق على جميع الناس، ما دام القياس واضحًا بدرجة تقترب من التماثل. أعني: ما دامت الحالتان لا تفترقان إلا في صفات فردية يمكن التسامح فيها "بأن تختلفا في الأفراد، أو الزمان، أو المكان". وأعتى خصوم القياس هجومًا عليه، من أمثال ابن جزم، يؤيدون

_ 1 المطففين: 1-3. 2 النساء: 135. 3 آل عمران: 75-76. 4 المائدة: 2 و8. 5 موطأ مالك 3/ 147, باب البيعة. وفي رواية: "مثل قولي لامرأة واحدة" "المعرب".

شمول الحكم ويدافعون عنه بقوة، باعتباره نتيجة ضرورية لشمول رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتساوي الجميع أمام الشريعة. وإنما كان مبدأ التعليل بالقياس موضع خلاف بين فقهاء المسلمين في موقف واحد، كما رأينا، عندما تكون الصفة المشتركة بين الحالتين غير محسوسة، ويحتاج استنباطها إلى إعمال العقل بطريقة أقل أو أكثر ذكاء، وهي حالة جزئية لا تحمل أدنى مساس بالمبدأ العام. بيد أن شمول الواجب لا يعني امتداده إلى جميع الأفراد فحسب، ولكنه يستتبع كذلك تطبيقه على مختلف الظروف التي يمكن أن يوجد فيها فرد معين، وهذا النوع من الشمول هو ما يطلق عليه اصطلاحًا: الضرورة المطلقة -NECESSITE ABSOLUE. ولسوف نرى فيما بعد أن هذا الوصف غير صالح لتطبيقه بدقة على فكرة الواجب القرآني؛ فالواجب -على ما قرره القرآن- لا يفرض على الإنسان إلا عندما يكون ممكنًا، ولكنه ضروري بمعنى أنه لا ينبغي أن ينحني أمام حالاتنا الذاتية، ولا أمام مصالحنا الشخصية. ومن الارتياب، أو مرض القلوب -كما حدثنا القرآن- ألا نذعن للقانون إلا حين نفيد منه، على حين يخضع له المؤمنون دون قيد أو شرط: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ، وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ، أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} 1. والقرآن لا يعظم فحسب الإنفاق الذي يحدث على نسق واحد، في السراء والضراء: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} 2، ولا يمتدح فقط

_ 1النور: 48-51. 2 آل عمران: 134.

الشجاعة التي تتحدى الجوع والعطش والنصَب: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئًا يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} 1. ليس ذلك فحسب، وإنما هو يندد في قسوة بأولئك المرضى المنحرفين، الذين تمنعهم مثل هذه الحالات من أداء الواجب: {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} 2. وحين يتكلم الشرع الإلهي فلا كلام لأحد. يقول الله سبحانه في كلمات صريحة: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} 3. أيمكن أن نجد تعبيرًا أعظم قوة من هذا؛ لإثبات الضرورة التي يفرض بها الواجب؟ ومع ذلك فلا ينبغي أن يلتبس هذا التعبير في أذهاننا باستعمالين آخرين لكلمة "الضرورة". فإن الضرورة الأخلاقية تفترق في وقت واحد عن "الضرورة المادة LA NECESSITE PHYSIQUE، وعن "الضرورة المنطقية -LA NECESSITE LOGIQUE". فللقانون المادي على أجسامنا ضغط نتحمله مكرهين، دون أن نملك تحاشيه، وأما القانون الأخلاقي فهو بعكس ذلك يفترض حرية الاختيار، فهو يكلفنا، ولكنه لا يقهرنا قهرًا ماديًّا. إنه يدع لنا أولًا إمكان مراعاته، أو مخالفته "ودعك من مقوامته آخر الأمر"، وتلك هي القاعدة الأصلية التي لا يفتأ القرآن يعلنها، سواء فيما يتعلق بواجب الإيمان، أو بواجب الفضيلة العملية، واقرأ إن شئت هذه الآيات الكريمة: {وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا

_ 1 التوبة: 120. 2 التوبة: 81. 3 الأحزاب: 36.

أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} 1. {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} 2. {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} 3. {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} 4. {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 5. وهكذا يكون للفرد أمام الواجب الاختيار بحسب الواقع، ولكنه لا يملك هذا الاختيار شرعًا. فالضرورة الأخلاقية ليست إذن ضرورة وجودية، بل هي ضرورة مثالية. ومع ذلك يجب ألا نلبسها بالضرورة المنطقية، فكل ما هو ضروري منطقيًّا يفرض نفسه على العقل مسلمة من المسلمات، إذ ليس بوسع المرء ألا يرى ما رآه جليًّا، وكل ما هو ملزم أخلاقيًّا يفرض نفسه على الإرادة على أنه شيء لَمَّا يكن، ولكن يجب أن يكون. وهو ينتج من حكم على قيمة، لا من حكم على واقع. وهكذا يتمثل سلطان الواجب بطابعه الخاص الأصيل، فهو لا يقهر الجوارح، ولا يُكْرِه المدارك، ولكن يفرض نفسه بخاصة على الضمير. ومع ذلك اعتقد "كانت" أنه يستطيع أن يرد اللاأخلاقي L ' IMMORAL إلى ما ينافي المنطق L' ABSURDE، وإلى اللاعقلي L' IRRATIONNEL. وكان من قوله: "إن أي مبدأ خاطئ لا يمكن أن يقوم على هيئة قانون شامل دون أن يؤدي إلى تناقض، سواء في مفهومه ذاته، أو في الإرادة التي تريد رفعه إلى مرتبة الشمول"6.

_ 1 النساء: 80. 2 البقرة: 256. 3 الغاشية: 22. 4 يونس: 99. 5 النور: 54. 6 Kant: fondement De La metaphysique des moeurs, P. 142:

لقد نظر برجسون في بعض الأمثلة التي رأي الفيلسوف الألماني أن يستشهد بها على نظريته، ثم أعلن أنه لا يستطيع أن يوافقه على رأيه إلا بشرط أن يفهم هذا المعنى أو ذاك، لا في تعريفه المادي البسيط، بل بما يشمل طابعه الإلزامي، وجميع شروط الأخلاقية. وفسر ذلك بأنه ربما يكون من باب التناقض أن نجد من ائتمن على وديعة، مع تعهده بردها صراحة أو ضمنًا، يتملكها، فهو حين يفعل ذلك لا تصبح الوديعة وديعة1. ولكن، أليس واضحًا أن نظرية "كانت" -حتى مع هذا التقييد- تظل دائمًا غير مثبتة؟ بل نقول: إنها غير قابلة للإثبات أيضًا، مهما تكن قوة الجدل التي يمكن استخدامها؛ ذلك أنه حين يسحب اليوم تعهد أخذ بالأمس فإن الناتج عن ذلك يعد تباينًا "CONTRASTE" بين موقفين متقابلين، ولكنه ليس مطلقًا تناقضًا CONTRADICTION بالمعنى الصحيح. "فهذا التعهد يجب أن يلتزم". هذه قضية قانون، "ولكنه لم يلتزم" -وتلك قضية واقع. أية استحالة داخلية في هذين التقريرين؟ فما دام وجها التقابل غير صادرين من نفس المصدر، ولا يعودان إلى نفس المراجع، وما دام الإثبات والنفي لا يقعان معًا على نفس الشيء، وفي نفس الظروف -فلا يمكن أن يكون هنالك أي تناقض منطقي، دون أن نخترع مصطلحًا جديدًا. "فالعقل يتقاضانا أمرًا". نعم، وهو لا يفتأ يفعله ... "والشعور يقبل أو يرفض". واأسفًا.. لكن ذلك هو قانونه. ذلكم هو الصراع الخالد بين المثل الأعلى والواقع، بين شريعة الأخلاق، وشريعة الفطرة، وخير دليل على عدم تناقضهما أنهما تعملان معًا؛ على حين أن المنتناقض هو الشيء المطرود من حظيرة الواقع بداهة.

_ 1 Bergson, Les deux sources de la Morale et de la religion, p. 86.

فبدلًا من القول "بالتناقض" نجد أن بعض من يرى تسمية الأشياء بأسمائها يقول فقط: إنه "تعويق", أو "إخفاق" فهو تعويق للمثل الأعلى الذي ينزع إلى التدخل في الواقع، ولكنه يجد نفسه ممنوعًا منه، وهو إخفاق للضمائر الأخلاقية في انتظارها للقيمة. لسنا نريد أن نتلعب بالكلمات، وليطلقوا ما يشاءون على هذا العمل، الذي لم تعد به الوديعة وديعة، فإن ما يثبت أن الخطأ الأخلاقي لا يكمن في هذا التبديل البسيط هو أنه يكفي أن يغير صفته أحد العوامل الأخلاقية "كأن يتنازل المالك عن حقه للمستودَع" لكي يصبح غير مستحق للوم. فلننظر الآن. لا أقول: في واقعة رفض إنسان للتكليف الأخلاقي بالتزام كلمته بعد قبوله، ولكن في مبدأ شخص كهذا يسمح لنفسه في حال حاجته، أن يعطي وعدًا كاذبًا، ما الذي يحدث على وجه الدقة إذا ما حولنا هذا المبدأ إلى قانون شامل؟ لا شك أن الارتقاء -إلى هذا المستوى- بالعمل الذي يسمح الإنسان به لكل فرد أن يخدع الآخرين -سوف يعرض للضرر من لم يكن يريد له هذا الإنسان أن يخدع به. ومنذئذ يبدو التعارض، وقد انتقل إلى الصعيد التشريعي ذاته. ولكن هل يستتبع هذا التنازع في الواقع تناقضًا: إنه يريد، ولا يريد -أن يكون مخدوعًا؟ إننا نعتقد أن هذا التعارض الظاهر لم ينشأ إلا عن غموض في معنى اللفظ "يريد"، الذي يؤدي هنا دورًا مزدوجًا، عمليًّا ACTIF، وعاطفيًّا AFFECTIF. فالواقع أن "إرادتنا" بالمعنى الحقيقي للكلمة، وهو أنها القدرة على اتخاذ قرار -تستطيع تمامًا -كما يفعل المولع بالمخاطرة - أن تقر نظامًا عامًّا، يكون امتداده قابلًا ليؤثر فيما نطلق عليه اصطلاحًا كلمة "إرادة"، وهي ليست سوى حساسيتنا أو قدرتنا على الرغبة.

وعلى هذا النحو فإن القاضي "يريد"، ويرى عقوبة المذنب عدلًا، بصفة شاملة، وإن كان "لا يحب" أن يكون هو نفسه معاقبًا عند الاقتضاء. وعود إلى مثال الوعد الكاذب لنتساءل: ألا يتضمن السماح للآخرين بأن يخدعوا الناس -أن يدعي الكذاب الداهية أن بوسعه أن يفسد أحابيلهم ويفلت من شراكهم، دون أن يحتاج إلى الخروج على مبدئه؟ ولكن سوف يقال لنا: ألسنا حين ألغينا الثقة في الكلمة المعطاة قد أتحنا لمبدأ الوعد الكاذب أن يدمر فكرة الوعد ذاتها، وهي التي تفترض إمكان الوثوق بالغير؟ إن من السهل أن نكشف عن الحيلة التي تسلك بها في الخفاء أفكار كثيرة في فكرة واحدة. وبرغم كل ذلك فإن فكرة الوعد ليست لأجل هذا متناقضة، لا في جوهرها، ولا في وجودها، ولا في إمكان أن تؤثر على بعض العقول، ما دام في الناس مخدوعون. وإنما يطرأ التناقض في اليقين بنهايتها، فنحن على ذلك بعيدون جدًّا عن آية ضرورة منطقية. إن ما هو ضروري منطقيًّا يتمثل لنا حقيقة تحليلة ساكنة STATIQUE، وذلك هو اتفاق الفكرة مع ذاتها، على حين أن الضرورة الأخلاقية هي بالأحرى ذات طابع تركيبي متحرك DYNAMIQUE، فهي تصف علاقة بين مجالين مختلفين، وذلك هو سعي الفكرة نحو كينونتها كما هي الحال. وليس معنى ذلك مطلقًا أن جوهرها يكفيها في ذاتها لكي توجد في الواقع في فكرة الموجود الكامل عند "ديكارت". إذ إن المفهوم الأخلاقي لا يمكن أن يندمج في الواقع، إلا بوساطة نشاط فاعل مريد وحر، ولكنها "أي: الضرورة الأخلاقية" متصورة بوساطة هذا الفاعل كقيمة جديرة أن تتحقق، وحافظة لإرادته على أن توجدها. وفي كلمة واحدة: فإنها الإلحاح على مثال أعلى عملي يطلب حقه في الوجود الفعلي.

بهذه الفكرة عن القيمة العملية نترك مجال الخصائص العامة المشتركة بين جميع القوانين، لننتقل إلى الخصائص النوعية للقانون الأخلاقي. لقد أدرك "كانت"، بفضل تعمقه الفكري الملحوظ -الاختلاف الكبير الذي يفصل أساسًا القاعدة الأخلاقية عن جميع القواعد الأخرى العملية، ويكمن هذا الاختلاف في الفكرة الأرسطية عن "الغاية" و"الوسيلة"، ويعني الاختلاف بين ما ينبغي أن نسعى إليه "لذاته"، أو "لشيء آخر". وإنها لفكرة خصبة، تلك التي عرف "كانت" كيف يستخدمها لحسن الحظ، والتي نتناولها بدورنا، حين نستخرجها من مذهب "كانت" الشكلي. والواقع أنه على حين أن فن الحياة بما اشتمل من قواعد الحذق والفطنة لا يتطلب نشاطنا بشكل جاد، إلا بناء على هدف محبب، فإن القانون الأخلاقي وحده هو الذي يفرض النشاط لذاته، أعني: بموجب القيمة الذاتية التي يتضمنها. فأمر الواجب هو وحده الذي يمكن أن يسمى "إلزامًا" بالمعنى الحقيقي. أما الأوامر الأخرى فهي ليست سوى نصائح مجردة، تدل على الوسائل لمن أراد أن يبلغ الغاية. ولسوف ندع جانبًا -مؤقتًا- مسألة معرفة ما إذا كان الإنسان قادرًا دائمًا على تصور واجبه في تجرد كهذا. لسنا نتكلم الآن من وجهة نظر الفاعل، ولسوف نناقش فيما بعد1 النظرية التي تجعل من هذا الإخلاص المثالي في نية الإنسان، واجبًا صارمًا. لكنا نؤيد فقط "كانت" فيما ذهب إليه، من أنه لما كان كل اعتبار للنتيجة غريبًا عن فكرة الواجب، فإن القانون الأخلاقي من حيث هو لا حاجة به مطلقًا لأية قيمة خارجة عنه، يسوغ بها أمره. وإنما ينبغي، بل ويكفيه لكي يؤكد سلطته، أن يقدم لنا العمل على أنه إلزامي، وحسن في ذاته، بقطع النظر عن أية نتيجة مستحسنة، أو مستهجنة.

_ 1 انظر فيما بعد الفصل الرابع, الفقرة الثانية, ب.

فإذا ما أحللنا أحد هذه الاعتبارات محل الآخر انقلب نظام الأمور، ولم يعد عملنا ذا صلة بعمل الأخلاقيين. بيد أنه إذا كان حقًّا أن أي نشاط يمكن أن يكون عادلًا، ونافعًا، ومستحسنًا في آن، فليس محظورًا على المشرع أن يضاعف الأسباب المسوغة لنظامه، ولكنه لن يكون حينئذ قد اقتصر على دور الأخلاقي؛ وإنما هو يضيف إلى هذا الدور أشياء أخرى ليست مع ذلك متعارضة. وأي مربٍّ حاذق يجب أن يلجأ إلى هذه الطريقة ليضمن فاعلية تعليمه. ولسوف تزداد مبررات هذه الإضافة كلما اتصلت بتربية المبتدئين، فأما إذا ما حققت الحاسة الخلقية بعض التقدم فإنها تصبح بالتدريج أكثر نقاء؛ لتكتفي في النهاية بذاتها، وبهذا المنهج التدريجي يبدو لنا أن القرآن قد سار في تعليمه الأخلاقي1. ويجب أن نشير إلى أن هذه السمة المميزة للإلزام الأخلاقي من ناحية التشريع، تصاحبها جنبًا إلى جنب، سمة أخرى تتصل بناحية التطبيق. ذلك أن العمل الأخلاقي لا يتمثل أبدًا في واقع مادي: لاشعوري، أو لاإرادي، أو غير مقصود، فعلى حين تقنع الشريعة "بمادة" العمل وحرفيته الجافة، تتطلب الأخلاقية منه "روحه". بل إننا -دون أن نتخذ موقفًا في الجدل المشهور الذي ثار بين فقهاء المسلمين حول الضرورة المطلقة في أن يؤدي المرء واجبه لمجرد كونه واجبًا- نجد أن هنالك واقعًا في الإسلام لا يقبل الشك، هو أن قداسة الواجب تقتضي أن نتأملها -على الأقل- في لحظة العمل، ولا بد أن يتخذ الذهن في تلك اللحظة وضعًا، لا يكون قصوره للعمل خلاله من جانبه المادي وحده، بل تكون له التفاتة إلى طابعه الإلزامي بهذا المعنى دون غيره.

_ 1 انظر فيما بعد: الفصل الثالث, الخاتمة.

وبدون هذا يصبح أكثر الأعمال مطابقة لنص القانون جسدًا ميتًا، وأمرًا دنيويًّا ليست له قيمة أخلاقية1. وهكذا نجد أن ما يتميز به قانون الواجب كونه قانون حرية، وعقل، وقيمته ذاتية، ونشاطه ذو طابع روحي في جوهره. بيد أننا ينبغي أن نعود إلى خصائص القانون الأخلاقي العامة التي يشترك فيها مع سائر القوانين والشرائع، كيما نقدمه في شكله القرآني الخاص. ولقد رأينا كيف ينظر القرآن إلى هذا القانون على أنه ضروري وشامل، ويجب أن نضيف أنه لا يترتب على هذا كونه غير مشروط إطلاقًا، فماذا تكون هذه الشروط؟ لدينا منها أنواع ثلاثة: أحدها ينظر إلى الطبيعة الإنسانية بعامة، والآخر ينظر إلى واقع الحياة المادي، والثالث ينظر إلى تدرج الأعمال.

_ 1 انظر: فيما بعد الفصل الرابع، للفقرة 1- أ.

إمكان العمل

أ- إمكان العمل: ولعل من نافلة القول أن نؤكد فكرة الإمكان المادي للعمل كشرط لا معدى عنه في الإلزام الأخلاقي. فليس الضمير العام هو الذي يعترف وحده بتلك الحقيقة البدهية القائلة بأنه لا يطلب الطيران من النوق. ولكن ذلك هو بذاته ما ورد في كثير من النصوص القرآنية. مثل قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} 1. {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} 2. وقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} 3.

_ 1 الطلاق: 7. 2 الأنعام: 52, والمؤمنون: 62. 3 البقرة: 286.

والظروف التي نزل فيها هذا النص الأخير تعيننا على تحديد معنى هذه الاستحالة، التي تبدو وكأنها غير متفقة مع الإلزام. ففي الآية السابقة عليه يقول الله سبحانه: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} 1. وقد اعتقد صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها تنطبق على كل ما يدور في الضمير: أفكارًا، أو عزائم، أو رغبات، أو هواجس، أو تخيلات ... إلخ, تمسكًا منهم بحرفية هذا النص العام. فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: لما نزلت على رسول الله, صلى الله عليه وسلم: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} , اشتد ذلك على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم جثوا على الركب فقالوا: يا رسول الله، كُلِّفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة، والصوم، والجهاد، والصدقة، وقد أنزل الله هذه الآية، ولا نطيقها، فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} " 2. وهنا نزل هذا النص التفسيري المذكور آنفًا ليقول لهم: "إن التكليف لا يتوجه إلى الإنسان إلا في حدود وسائله، وهكذا أدركوا أن أحوال النفس التي لا تخضع للإرادة ليست في الواقع، ولا يمكن أن تكون موضوعًا مباشرًا للتكليف، فضلًا عن الوساوس، والغرائز والشهوات، والميول الفطرية. ولذا، فإن جميع الأوامر ذات الاتصال بالحب أو البغض، وبالخوف أو الأمل -قد فسرت عقليًّا لدى الشراح على أنها قد جاءت لتحكم عملًا سابقًا نشأت عنه هذه الحالات، أو عملًا مصاحبًا أو لاحقًا، ولكنه لا يمكن أن

_ 1 البقرة: 284. 2 للحديث بقية في مسلم, كتاب الإيمان, باب 56، وقد أخرجه أحمد وأبو داود في ناسخه، والطبري في تفسيره 3/ 97.

يكون من قبيل اللاإرادي. وهكذا نجد أن حب الله، وهو حالة عاطفية ولا إرادية في ذاتها، يمكن أن يكتسب بوساطة عمل إرادي، هو التأمل في رحمة الله التي لا تنتهي، وتذكر فضله الذي لا يفتأ يفيضه علينا؛ ذلك أن الناس جبلوا على حب من يسدي إليهم معروفًا، وبهذا المعنى غير المباشر أصبح حب الله أمرًا في قوله, صلى الله عليه وسلم: "أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمة" 1. وكذلك يمكن أن يكون حب الأقربين أمرًا محتومًا بفضل طرق شبيهة بتلك نسبيًّا، أو بفضل تصرفات عملية أخرى أكثر تقبلًا، وهي ما نجد له مثالًا طيبًا في قول النبي, صلى الله عليه وسلم: "تصافحوا يذهب الغل، وتهادوا تحابوا، وتذهب الشحناء" 2. وفي مقابل ذلك يبدو لنا الأمر: "لا تغضب" 3، مشيرًا إلى آثار هذه العاطفة، أكثر من أن يكون مشيرًا إلى أسبابها، إنه يريد أن يقول إذن: "لا تخلوا بين أنفسكم وبين الانزلاق في نتائج الغضب الطائشة، وقاوموا الحركات التي تسير في اتجاه فاسد بتوجيهها وجهة أخرى"4. بل إن العقيدة نفسها يمكن أن ينظر إليها على أنها إلزام منبثق عن أمر

_ 1 رواه الترمذي، وذكره السيوطي في الجامع الصغير. 2 رواه مالك في الموطأ 3/ 100، وزاد المؤلف "الغل عنكم" وقد يكون معنى: "تصافحوا" من الصفح، أو من المصافحة. "المعرب". 3 البخاري, كتاب الأدب, باب 76. 4 الواقع أننا نجد لهذا الموضوع علاجًا مشارًا إليه في الأحاديث، فقد أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- كل من يتعرض لهذه العاطفة العنيفة أن ينعش وجهه وجوارحه بوضوء: "فإذا غضب أحدكم فليتوضأ". أبو داود, كتاب الأدب, باب 3، ويعتمد علاج آخر على تغيير الوضع المادي: أن يجلس الغاضب إذا كان قائمًا: "إذا غضب أحدكم وهو قائم فليقعد، فإن ذهب عنه الغضب، وإلا فليضطجع" - المرجع السابق. وهنا مجال لمقارنة كل هذه الأساليب الفنية النفسية - العضوية بنظرية ديكارت ومالبرانش، التي قدمها كل منهما عن فن السيطرة على العواطف: -L ' ART DE MAITRISER LES PASSIONS-

واقع، ما دام الإنسان -أمام الوضوح الذي لا يقاوم- لا يملك إلا أن يذعن ويسلم. ولذا نجد القرآن حين يريد أن يوجز وصاياه المتعلقة بالإيمان ينتهي بها إلى وصية واحدة هي التفكر في عزلة، أو في صحبة شخص آخر: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} 1 أي: بعيدًا عن تأثير الجماهير. ومع ذلك فلقد شهد التاريخ الإسلامي جدالًا نشب بين الأشاعرة والمعتزلة حول هذه المسألة: هل الله سبحانه قادر على تكليف الناس بعمل المحال، فضلًا عن أن يكلفهم ما لا يطيقون؟ والغريب أنه على حين نجد المعتزلة -الذين يطلقون أساسًا العنان لعقولهم- يدافعون هنا عن حرفية النص، إذ بالأشاعرة -الذين يرفعون غالبًا لواء التشدد في الدين "دون أن يكونوا خير ممثليه كما يجب أن نعترف"- يدافعون عن القضية العكسية، مقررين أن من الممكن عقلًا وشرعًا لله سبحانه أن يكلفنا ما ليس في وسعنا، وأن يحقق ما لا يقبل التحقق، حتى لو كان محالًا. وعلة هذا الانقلاب في الموقف يسهل كشفها إذا ما وضعنا نقطة الخلاف في مكانها من مجموع كل مذهب. فالمعتزلة يرون أن هذا الموقف مرتبط بنظام عقلي خالص، يزعم التوصل بنور العقل وحده إلى ذات الموجود الأسمى، وإلى الشرائع الأخلاقية التي تحكم أفعاله، كما يتوصل أيضًا إلى الشرائع التي تفرض علينا. وفضلًا عن ذلك فإن الشرائع الإلهية ما إن تعرف حتى تستنبط منها

_ 1 سبأ: 46.

مجموعة من القواعد المحددة، التي لا يقدر الله سبحانه على نقضها. فالله سبحانه طيب، وحكيم، وعدل. وإذن فهم يقررون أما ما لا يتفق في ذاته مع هذه الصفات، بل ما نتصوره نحن من هذا القبيل، لا يقدر الله سبحانه على فعله، ولا يجوز أن يفعله. ومن هنا جاء، فيما جاء عنهم، القواعد الآتية: لا يجوز أن يخلق الله سبحانه شيئًا دون أن يقصد إلى غرض نافع بالنسبة إلى المخلوق، وهو ما يطلقون عليه: "رعاية الصلاح"، كما أنه يجب أن يحقق من بين الخيرين الممكنين أكثرهما نفعًا، وهو عندهم: "رعاية الأصلح". وليس لله سبحانه أن يتدخل في أعمالنا الإرادية، لا من أجل فرضها، ولا من أجل منعها، وفي مقابل ذلك يجب أن يزودنا بقدرة متكافئة لفعل النقيضين، ثم يتركنا نختار اختيارًا حرًّا فيما بينهما، فمن أطاع وجب على الله أن يثيبه، ومن عصا الله دون أن يتوب، وجب على الله أن يعاقبه، دون أن يغفر له، وإلا ارتكب ظلمًا. وسواء أكان الأمر يتعلق بطبيعة واجباتنا نحو الله، أم نحو أنفسنا. أم نحو الآخرين؛ فإن هذه الواجبات تصدر بالضرورة عن طبيعة الخير والشر. ولدينا عن هذه الطبيعة معرفة فطرية تقريبًا. وحتى لو أننا افترضنا أن الله سبحانه لم يكن قد أظهر إرادته في الكتب المنزلة، ولم يوح أوامره إلى الرسل، فمن المؤكد أننا كنا سنعرفها، ثم نكون ملزمين باتباعها، وليس للكتب ولا للرسل من مهمة سوى إثبات آرائنا العقلية وإيضاحها. فمن أجل مقاومة هذا الاغترار الشاطح، وهذه الثقة المتضخمة بالعقل الإنساني، هبَّ الأشاعرة يناهضون أفكار المعتزلة، فكرة فكرة، حتى

وجدنا أن روح المراء قد أدت بهم أحيانًا إلى أن ارتكبوا تطرفًا مضادًّا. فالأشاعرة حين أرادوا أن يقارعوا البراهين بالبراهين، قصروا أولًا عن أن تكون لهم أرضية فلسفية ثابتة، وهي على كل حال أقل خطرًا، أعني هذا الموقف السلبي الذي يقوم على رفض الاحتكام إلى العقل في مثل هذه المشكلات، باعتبار أنه لا يصح قياس العقل المتناهي بالأشياء اللامتناهية. أما في الجانب الإيجابي فإنهم قد أخطئوا حلًّا ليس بأقل حكمة، وهو حل بناء وقرآني بحق، يوفق بين الصفات المتعارضة، دون أن يغفل واحدة منها، أو يغلو في الاعتماد عليها، والأخذ بها. فالقرآن يعلمنا من جانب حقيقةً هي: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} 1، فهل من الممكن أن نفهم هذه العبارة على أنها تحكم واستبداد مطلق؟ على حين يؤكد القرآن لنا من جانب آخر. {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} 2 وما هو ذا نفس التقابل بين الصفات في صورة أخرى. فهو يقول في نص من نصوصه: {عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ} 3، ولكنه يقول في نفس النص: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} 4. ويقول في آية أخرى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} 5. وكذلك الحال حين يعلم أن الله قادر على أن يهلك الناس جميعًا، الطائعين مع المذنبين: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ

_ 1 المائدة: 1. 2 غافر: 20. 3 الأعراف: 156. 4 السابقة. 5 النساء: 147.

الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} 1، أو حين يعلن أيضًا أن شيئًا في هذا الكون لا يستطيع أن يعارض ما فرض علينا من التكاليف الشاقة، ولا ما ابتلانا به من تصاريف مغمة: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأعْنَتَكُمْ} 2. أليس واضحًا أن هذه الصورة الشرطية لم تتغير مطلقًا إلى مضارع الحال؟ ومن الممكن كذلك أن نؤكد أنها لن تتغير أبدًا من حيث إن الله سبحانه قال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} 3. وإذن، فبدلًا من أن يؤكد الأشاعرة القدرة الإلهية الكاملة، التي غاب عن المعتزلة تأكيدها، وبدلًا من أن يجعلوها في مقابل الحكمة التي حاول المعتزلة إبرازها -نجدهم بدافع الحمية، وقلة الحنكة النظرية- قد ألغوا تقريبًا الحكمة من أجل القدرة. بحيث لم يحتفظوا منها إلا بالاسم وحسب. فعندما نجد عملًا محكم التدبير، كامل التنظيم، بحيث يكون لكل جزء وظيفته داخل المجموع، أو عندما نرى أن واقعًا قد انتهى إلى نتائج طيبة، فإن العادة قد جرت على أن نفسر الأمور بعضها ببعض، وأن نحمل هذه العلاقة في المكان، أو في الزمان، وهذا التضامن البنائي، أو هذا التتابع التاريخي، على غاية مقصودة. قال الأشاعرة: هذا تشبيه!! فإن هذا التفسير الإنسان لا يصدق على الأمر الإلهي، حيث لا موضع لافتراض وجود غاية، بحسب مذهبهم، والله يفعل ما يريد، دون أن يقصد إلى أية غاية. ومن عباراتهم في ذلك: "إن الله لا يفعل شيئًا لأجل شيء، ولا بشيء، وإنما اقترن هذا بهذا لإرادته لكليهما، وهو يفعل أحدهما مع صاحبه، لا به، ولا لأجله؛ لأنه خالق كل شيء ومليكه"4.

_ 1 المائدة: 17. 2 البقرة: 220. 3 الأنعام: 12. 4 ابن تيمية, منهاج السُّنة النبوية 1/ 127-128.

ونقول نحن: ليكن هذا، ولكن أليس الأشاعرة مضطرين -على الرغم من هذه الإرادية التي لا تتقيد بغاية، وليس لها ما يقابلها أو يوازيها- إلى أن يعترفوا بأن مجال الإرادة والوجود أكثر تقييدًا من مجال الإمكان، والقدرة المطلقة؟ لا شيء حينئذ سوف يحول دون أن يتفق ما يبدعه الله، أو ما يأمر به، مع مقتضيات العدالة والخير، ولو أنه لن يكون محدودًا بهما. أما فيما يتعلق بهذه الحالة التي تشغلنا فلسوف يرضينا لو استطاعوا أن يؤكدوا لنا أن الله سبحانه لا يكلف الناس إلا وسع قدراتهم، وهو تكليف، إن لم يكن بالشرع، فليكن على الأقل بالواقع، وتبعًا لعرف دائم لا يقبل التغير. لقد فهم أكثر الأشاعرة تعقلًا هذا المعنى1، ولكن الآخرين استهواهم المضي في المراء، فجذبهم إلى بعيد. لقد أجهدوا أنفسهم ليجدوا وسيلة بارعة لإثبات فكرة التكليف بالمحال في ذاته، لا من حيث هو حق القدرة الإلهية فحسب، ولكن باعتباره واقعًا قد حدث فعلًا. ثم نجدهم يدعون في جرأة نموذجية أن لديهم على ذلك أمثلة مادية في القرآن نفسه، وإليك لقطتهم الثمينة. لقد ساقوا مثلًا على ذلك حال بعض الكفار الذين أعلن القرآن أنهم سيموتون في الكفر، من مثل قوله تعالى: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} 2، وقوله: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} 3. ولسوف يكون ذلك مهما بذل في سبيل هدايتهم من جهد: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} 4.

_ 1 المرجع السابق. 2 المسد: 3. 3 المدثر: 26. 4 البقرة: 6.

فهؤلاء الناس لم يكونوا أقل تكليفًا بالاعتقاد في الحقائق المنزلة، بما في ذلك كفرهم الدائم، وهم على ذلك يفعلون المستحيل: أولًا: لأن أمرًا مما علم الله عدم وقوعه، لا يمكن أن يوجد. وثانيًا: لأنه ربما كان من المتناقض أن يؤمنوا بهذا الوحي الخاص، الذي يقرر أنهم لن يؤمنوا أبدًا، وبذلك يكونون في حالتي إيمان، وعدم إيمان. ويقدم فخر الدين الرازي هذا الاستدلال المزدوج، ويضاعف من حوله الأقوال، كأنما هو العقبة الكئود التي لن يستطيع العقليون أن يفلتوا منها أبدًا1. بيد أنه حتى لو افترضنا أن المقدمات صادقة، فلسنا نرى في هذا الاستدلال المزدوج سوى ضروب من القياس الكاذب. وأول الاستدلالات، وهو ما يستمدونه من علم الله السابق -يقوم على نوع من الخلط بين "الممكن" و"الواقع"، بين "الجوهر" و"الوجود" فليس معنى كون الشيء لا يوجد، أو لن يوجد أبدًا -أن يكون مستحيلًا في ذاته. فالعلم لا يغير جوهر الأشياء، فضلًا عن واقعها، إنه يسجل هذا الواقع، ثم يحكيه، ويعبر عنه، ولو كان كل ما علم الله أنه لا يوجد -"مستحيلًا" لوجب القول -لنفس السبب- بأن كل ما علم الله أنه يوجد "ضروري". فماذا بقي في الكون إذن لتتحقق فيه الإرادة الإلهية؟ وأما الاستدلال الثاني: فهو يقوم كذلك على خلط منطقي بين نوعين من القضايا، أحدهما قائم بذاته، والآخر معلق بغيره؛ فالإيمان وعدم الإيمان قضيتان متناقضتان، مفترض أنهما قد استوفتا كل الصفات المطلوبة.

_ 1 التفسير الكبير، للرازي 1/ 185.

ولكن إيمان الفرد، بأنه لن يؤمن أبدًا -حدث واقعي بالنسبة لمن لا يؤمن، ما دام أنه يحسه في نفسه، ويعرفه بالتجربة المباشرة، والشخصية. وحين أخفقت كل محاولات الأشاعرة في هذا المجال القرآني، وجهوا بحوثهم إلى مجال أكثر رحابة، وأعظم اعتمادًا على العقل الخالص، وها هم أولاء يريدون أن يبرهنوا لنا على أن التكليف بالمحال هو من جانب معين قاعدة عامة، أكثر من أن يكون قاعدة خاصة في الشرع الإلهي. ويقف خصومهم المعتزلة ليدافعوا عن الحرية الإنسانية مقدمين إياها على العمل، حين يكون لكل امرئ أن يجرب قدرته المزدوجة على أن يعمل، أو يمتنع عن العمل. ويعترض الأشاعرة على هذا بأن القدرة كانت قبل العمل احتمالًا، والقدرة الفعلية مصاحبة للعمل1، من حيث إنه لا يمكن أن تمارس هذه القدرة تأثيرها على الضدين إلا تباعًا، فإذا ما شغلت بأحدهما بقي الآخر محالًا، ما دام الأول في طريق التحقق، فالذي يخالف الأمر، ويستخدم نشاطه في مناقضته هو حينئذ غير قادر على الطاعة، في حين يمارس المعصية، وهو مع ذلك مكلف في اللحظة ذاتها بأن يؤدي واجبه، وبهذا يكون عدد الحالات الاستثنائية الشاذة -أعني: التي يكون موضوع التكليف فيما أمرًا لا يقبل التحقق- مساويًا على الأقل لعدد الحالات السوية. ولكن من ذا الذي لا يرى في هذا الكلام سفسطة خالصة؟ الواقع أن أحدًا لا يمكن أن يفكر في تفسير الأمر الموجه إلى عاصٍ،

_ 1 قارن هذا بنظرية برجسون عن الحرية، القائمة على عدم القدرة على التنبؤ بالعمل، وعلى ديناميكية الذات الفاعلة.

باعتباره تكليفًا له بأن يطيع، في الوقت الذي يعصي. فقد وضح إذن أن الهدف هو إلزامه بأن يكف عن المقاومة، وأن يتيح لنشاطه بديلًا أخلاقيًّا. فإذا ما أصروا على أن يخلعوا صفة "المحال" على عمل كهذا فلن تكون هذه سوى مشكلة زائفة، وإذا لم يكن الخصمان قد اتفقا على تحديد المراد من الكلمة، فإنهما متفقان بهذا على الوقائع ذاتها، وعلى المبدأ الذي ندافع عنه اتفاقًا كاملًا.

اليسر العملي

ب- اليسر العملي: ها نحن أولاء قد أقصينا من مجال التكليف كل ما لا يمكن أن يخضع خضوعًا مباشرًا، أو غير مباشر، لقدرتنا. ومع ذلك، فهذا الإقصاء لا يمكن أن يكون وقفًا على الأخلاق الإسلامية، بل يجب أن نعتبره السمة المشتركة بين جميع المذاهب الأخلاقية العادلة والمعقولة، ولا سيما الأخلاق الموحاة كلها، من حيث كان بدهيًّا أن عكس هذه الأخلاق غير متوافق مع العدالة والحكمة الإلهية. ومضمون النصوص السالف ذكرها يؤكد هذه الملاحظة، إذ هو يقدم لنا في الواقع هذا الشرط في صورة مؤكدة، شديدة العموم، حتى ليحق لنا أن نفسرها على أنها تعبير عن قانون التزمت به الذات الإلهية نفسها، وهو صادق بالنسبة إلى جميع الناس، في جميع الأزمان. وإليك الآن نصوصًا أخرى لا تقتصر على نفي كل ما هو مستحيل على سبيل الإطلاق -من الأخلاق الإسلامية، وإنما هي تنفي عنها كذلك كل تكليف لا تقر العادة إمكان تحمله، كما تنفي كل مشقة يمكن أن تستنفد قوى الإنسان، حتى لو كانت في حدود طاقتها. يقول الله سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ

الْعُسْرَ} 1، ويقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 2، ويقول: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} 3، ويقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 4. ففي هذه الكلمات نسمع نغمة جديدة تمامًا، إذ إنه على حين أن الشرط الأول، وهو الإمكان، كان يساق على أنه حقيقة أبدية، مستقلة عن المكان وعن الزمان -لا نصادف هنا سوى أقوال مقيدة، تقدم لنا هذا الطابع الثاني: اليسر، على أنه واقعي تاريخي، متصل بالأمة التي يتوجه إليها الخطاب، أعني: أمة الإسلام. فإذا لم يكن المراد ضرورة أن هذا الطابع إسلامي النوع، فلا أقل من أن يوحي إلينا عدم القصد إلى ذكر قول عام في هذا الصدد، فكرة أن هذا الجانب ليس مشتركًا بين جميع الشرائع المنزلة. هذه الفكرة التي يمكن أن نستنتجها هنا من مجرد المقابلة الأسلوبية، جاءت إلينا واضحة تمام الوضوح في آية أخرى هي قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} 5، فقد كان هنالك إذن "إصر" مفروض في شريعة سابقة، ففي أي دين كان؟ وما هو هذا الإصر؟ فأما عن النقطة الثانية، فقد ذكر المفسرون أمثلة كثيرة، لا مجال هنا لتحقيق قيمتها التاريخية. وأما عن النقطة الأولى، فإن العبارات التي استخدمها بعضهم يفهم منها أن ذلك كان في جميع الأديان السابقة، التي باينتها شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- بما يشبه

_ 1 البقرة: 185. 2 الحج: 78. 3 النساء: 28. 4 الأنبياء: 107. 5 البقرة: آخر آية.

المزية الخفية. غير أننا إذ ما تمسكنا بإشارات القرآن نعتقد أن بوسعنا أن نجيب عن هذين السؤالين إجابة قاطعة محددة. ففي الحوار الذي أورده القرآن بين الله عز وجل، وبين موسى، عقب الرجفة التي أخذت السبعين المختارين من قومه في جبل سيناء، نقف أمام آية، لو وضعناها بإزاء الآية التي ذكرناها آنفًا لمنحتها قيمة بيانية، حيث قد استعملت نفس ألفاظها. يقول الله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} 1، فبنو إسرائيل والديانة اليهودية يمكن إذن أن يصبحا عبرة لنا، عبرة توضح النص المذكور. ولكن ما أهمية هذا التوضيح؟ أيجب أن نأخذ النصين على أن كلًّا منهما محدد للآخر؟ أم يجب على العكس أن نمضي صعدًا في التاريخ، وأن نمد فيه العبرة إلى الأديان السابقة، ثم نختم حديثنا بامتياز الشريعة المحمدية في هذه النقطة؟ إننا لا نوافق على الافتراض الأخير؛ لأسباب: أولها: أن من العسير أن نصف دينًا كدين إبراهيم بهذا الوصف، وهو الذي طالما انتسب إليه الإسلام، وخصه القرآن بنفس السمة الرحيمة: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} 2. وثانيها: أن المصاعب التي ذاقها بنو إسرائيل على ما حكى القرآن "كالسبت، وتحريم بعض الطيبات" -لا تبرز أصلًا في ديانته، وإنما هي إجراءات اتخذت فيما بعد عقابًا لهم على سوء عملهم، وهو ما يعبر عنه قوله تعالى: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} 3، وقوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} 4. وقد فصلت هذه الطيبات المحرمة، التي وردت إشارة هنا -في

_ 1 الأعراف: 156-157. 2 الحج: 78. 3 النحل: 124. 4 النساء: 160.

موضع آخر من السورة السادسة "الأنعام"، ثم ختم التفصيل بقوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} 1. فالإسلام لم يفعل إذن سوى أن رد الأمور إلى نصابها، ووضعها موضعها. ومع ذلك فتلك هي الرسالة التي كلف عيسى -عليه السلام- أن يؤدي جانبًا منها على ما حدث القرآن: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} 2. وثالثها: أننا لا نستطيع أن نفهم بسهولة: كيف تريد رحمة الله أن تثبت منذ البداية نظامًا يضغط ضغطًا شديدًا على الإنسان، ذلك المخلوق الضعيف، حتى لتجعله يئن تحت ثقل نيره، على ما تدل عليه كلمة "إصر"؟ أمن الممكن أن نتحدث، إلى حد ما، وتبعًا للمعتقدات، عن مشقة نسبية في بعض الفرائض الواجب أداؤها، أو أن نتحدث عن قدر معين من المشقة يتفاوت في مبلغ امتداده، أمام حرية المبادأة، أو حرية الاختيار؟ أيًّا ما كان الأمر فلا ينبغي أن تتوسع كثيرًا في هذا الموضوع، الذي قد يحتاج إلى دراسة مقارنة أكثر تفصيلًا. ولنعد إلى نقطة بدايتنا، لنرى بما نسوق من أمثلة -بعض مظاهر اليسر العملي الذي خص به القرآن أوامره. والمظهر الأول يكمن في أن القرآن لا يفرض علينا الغلو في تطبيق بعض الأعمال التعبدية، كقيام الليل في الصلاة، وإنما هو ينصحنا بعدم التزام هذا الغلو، ويفصح عن بعض مساوئه. فمن المعلوم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في بداية رسالته مأمورًا أن يقوم شطرًا كبيرًا من الليل في الصلاة، وترتيل القرآن، وهو قوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ

_ 1 الأنعام: 142. 2 آل عمران: 50.

إِلَّا قَلِيلًا، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} 1، وقد سار على هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض صحابته، حيث اعتادوا أن يفعلوا ما يفعل. وها نحن أولاء نقرأ في نهاية السورة ذاتها درسًا موجهًا إلى هذه الطائفة من القائمين بالليل، يلفت أنظارهم إلى أنهم لن يستطيعوا أن يداوموا على هذه الشعيرة في ظروف معينة؛ كالمرض، والسفر، والجهاد. ثم يأمرهم أن يكون قيامهم بالليل بقدر ما تسمح أحوالهم: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} 2. وقد ظهرت هذه الروح -التي ترى الإفراط في التحنث- لدى بعض الصحابة في المدينة -فلم تواجه بأقل مما سبق، باعتبارها انحرافًا مناقضًا لروح الشريعة. وينتج من مجموع النصوص القرآنية والنبوية المتعلقة بهذا الموضوع أن الإسلام يعلق أهمية كبيرة على بعض الأوامر التي لا ينبغي أن يغفل عنها امرؤ تقي، وربما كان إغفالها هو النتيجة الطبيعية لهذا الإفراط. فقد رأينا أن الإنسان ليس عليه فقط أن يتحفظ من إطالة عبادة، ربما تعوقه في أداء الواجبات الأخرى "كالتجارة، والجهاد"، ولكن العمل العبادي نفسه لا ينبغي أن يتحول إلى نوع من الآلية، التي لا يحس المرء معها إحساسًا واضحًا بما يفعل، أو بما يقول: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} 3. ولقد يحدث -كما يلاحظ النبي, صلى الله عليه وسلم- أن ينشأ عن طول القيام والسهر اضطراب في نظام الدماغ، يحدث أخطاء فاحشة في الصلاة، فقد يريد المرء أن يسأل الله المغفرة، فيتفوه بألفاظ من التجديف، أو قد يلعن نفسه، وفي

_ 1 المزمل: 2-4. 2 المزمل: 20. 3 النساء: 43.

ذلك يقول رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "إن أحدكم إذا صلى وهو ناعس، لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه" 1. فلكيلا يبلغ الأمر هذا المبلغ رغب الإسلام في نوع من الاسترخاء البدني، أو الشبع المادي، وهو ما يمنح المرء راحة خلال هذه المهمة التعبدية. واسمع في ذلك قوله, صلى الله عليه وسلم: "ليصل أحدكم نشاطه، فإذا كسل-أو فتر- قعد" 2. فالقيام بأي نشاط تعبدي ينبغي إذن أن يستغرق الزمن الذي يحتفظ فيه القلب بنشاطه وسروره فحسب؛ إذ من الواجب علينا ألا نحول عبادة الله إلى عمل بغيض إلى قلوبنا: "ولا تُبَغِّض إلى نفسك عبادة الله" 3. وملاحظة أخيرة، ولكنها ليست أقل الملاحظات صدقًا، تلك هي أن الذي يخطئ بالإسراف في عمل معين، ينتهي غالبًا إلى أن يخطئ بالتقتير في نفس العمل، بل وقد يعرض عنه إعراضًا نهائيًّا، ومثل هذا الإنسان، في منطق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كمثل فارس منهمك في مضماره, فهو لا يلبث أن يرهق فرسه حتى يقتلها، دون أن يبلغ هدفه: "إن المُنْبَتَّ لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى" 4. وليس الأمر في هذه الأمثلة كلها أمر إزالة عقبة ماثلة، وإنما هو التهيؤ لمواجهة عقبات محتملة، وإن كانت تقريبًا مؤكدة. والحل لا يتدخل لتغيير.

_ 1 رواه مسلم, كتاب الصلاة, باب 139. 2 البخاري, كتاب التهجد, باب 18، ومسلم, كتاب الصلاة, باب 139. 3 مسند أحمد, مسند أنس. 4 المرجع السابق، وقد عثرنا عليه في "فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي" 2/ 544, قال الهيثمي: وفي إسناده يحيى بن المتوكل أبو عقيل، وهو كذاب. "المعرب".

بعض الأشياء في بنية العقل، وإنما هو يتدخل في مدة الفعل؛ ليفرض عليه في اللحظة المناسبة قرارًا منسجمًا مع الإرادة. ولنتناول الآن جانبًا ثانيًا: وتعنينا هنا قضية واجب ثابت في الظروف العادية، أو في ظروف خاصة مناسبة. ولكن ها هي ذي الظروف تتغير، فتجعلنا في موقف يصبح فيه أداء الواجب بمعناه الكامل الذي حدد ابتداء -عسرًا حقيقيًّا- فهل يجب علينا، برغم كل شيء أن نؤديه كما هو؟ وهل يمكن أن تنام عين الله عما نلاقي من مشقة، فلا تهتم بالموقف الجديد؟ كلا ... بلا ريب، ففي هذا الظرف بالذات يظهر بكل وضوح الطابع الرحيم للشريعة القرآنية، فإن الحل سوف يتمثل -في الواقع- في تعديل للواجب تبعًا لظروف الحياة الجديدة، أي: إن العمل سوف يتعرض لنوع من التصرف، أقل أو أكثر عمقًا، وسوف يكون ذلك بحسب مقتضيات الظرف، سواء أكان تغييرًا، أم تخفيفًا، أم تأجيلًا، أم حتى إلغاء. وهذه الاعتبارات ذاتها سوف تنطبق على العمل سواء أكان تغير الموقف نهائيًّا، وإلى الأبد، أم كان نسبيًّا يخض هذه الحالة أو تلك، هذه الطائفة من الناس أو من الأشياء. ولنأخذ على ذلك مثلًا خفف فيه الواجب بصورة نهائية. ونتساءل: ما النسبة العددية التي يجب بمقتضاها على أي شعب مسلم محتل أن يواجه عدوه بمقاومة مسلحة؟ النسبة واحد إلى عشرة، بموجب قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} 1، وذلك هو الحل.

_ 1 الأنفال: 65.

الأول الذي قدمه القرآن إلى الجيش الإسلامي الأول، حين لم يكن به سوى بضع عشرات من الرجال. لكن الغريب أن هذا الشعب، حين يصبح مع الزمن أكثر وأعز نفرًا، وبحيث لن يعود أبدًا إلى الموقف الأول، هذا الشعب الفتيّ الممتلئ حماسًا، يبدو أنه لم تعد لديه نفس الصفات المتدفقة التي كانت لديه من قبل، وهو أمر يمكن تفسيره بأنه نوع من الاسترخاء الطبيعي، الناشئ عن كثرة الجماهير التي تتساعد فيما بينها، والتي يبدو حضورها وكأنما يعفي كل فرد من جزء من جهده. فكيف يمكن في مثل هذه الظروف النفسية، أن نكلف الأمة بأن تقف الموقف البطولي الذي سجله الأولون؟ على أن لدى المجاهد المسلم تفوقًا روحيًّا بفضل الإيمان الذي يحركه، وهو أمر سوف يمنحه دائمًا ميزة على خصمه، وما كان له أن ينزل بمستواه حتى يكون عِدْلَه، ومن هنا يأتي الحل الثاني والأخير الذي تصبح النسبة بموجبه: واحدًا ضد اثنين، وهو قوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} 1. في هذا المثال نجد التشريع لا يتدخل لحل الحالة الصعبة إلا في أعقابها. على أنه في أغلب الأحيان يتدخل في نفس الوقت، فقد نجد أنفسنا في حالة عادية، يملك التشريع فيها ناصية الموقف، ومع ذلك تلمح القاعدة حالة استثنائية فتجد لها مخرجًا. وهذا المخرج يكون تارة: إعفاء كاملًا، كما يُعفى العاجزون من فريضة الجهاد، والله يقول: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} 2.

_ 1 الأنفال: 66. 2 الفتح: 17.

وكما يجوز للمستضعفين في الأرض، ممن ينبغي عليهم أن يبحثوا عن ملجأ آمن يمارسون فيه حرية العقيدة والعبادة -يجوز لهم أن يبقوا حيث هم، ما داموا لا يملكون وسيلة الهجرة، وهو قوله تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا، فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} 1. والمسافر الذي لا يجد ما يتقوت به مما أحل الله، يمكنه بل يجب عليه بنفس القدر، أن يطعم أي شيء، ولا يترك نفسه يهلك جوعًا: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2. وتارة يكون المخرج إعفاء جزئيًّا، ومن ذلك: قصر الصلاة أثناء السفر، فيما قال الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} 3. ومنه: أن الصلاة أثناء المعركة يمكن أداؤها خلال المشي، أو ركوب الفرس، وهو قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} 4. وتارة ثالثة: يكون المخرج مجرد إرجاء، فالمرضى والمسافرون ليسوا ملزمين بالصوم في وقته المحدد، وبوسعهم قضاءه في مقبل الأيام: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} 5. ورابعة: يكون المخرج استبدال عمل يسير بآخر عسير، فالمسافر الذي لا يجد ماء ليتطهر، والمريض الذي لا يطيق استعماله -يجب أن يكتفي كل منهما

_ 1 النساء: 98. 2 المائدة: 3. 3 النساء: 101. 4 البقرة: 239. 5 البقرة: 185.

بعملية رمزية، عبارة عن لمس حجر نظيف أو رمل نظيف، ثم يمسح بيده على وجهه ويديه: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} 1. وجدير بالذكر أن النص في أغلب هذه الأمثلة يبرز جانب اليسر العملي الذي تنطوي عليه، والذي يؤكد رحمة الشرع الإلهي، ففيها إذن الصفة الضرورية للدلالة على أن الأمر ليس أمر بعض العوارض الطارئة، أو حدث ناشيء عن صدفة، وإنما هو مبدأ جوهري يعتبر تطبيقه هدف محاولة دائمة. ولننظر وجهًا آخر للعلاقة بين الواجب والموقف، ولقد وجدنا في الجوانب التي درسناها حتى الآن أن العقبة التي يتنازل أمامها التكليف بعض تنازل كانت عقبة طبيعية، ليست من صنع الإنسان؛ إذ كيف نجعل في الواقع من قبيل الضرورة حالة ميكانيكية ركبها الإنسان بنفسه، ومن ثم فهو قادر على أن يفكها؟ ومع ذلك فهناك حالات يصبح فيها هذا الموقف المصطنع مع طول الزمن أشبه بطبيعة ثانية، متمردة، لا يمكن تذليلها، فهل يجب حينئذ أن نتقهقر أمام هذه الصعوبة، ونعاملها كواقع ليس في طاقة الإنسان أن يتجنبه، بحيث ينبغي أن يقف أمامه موقفًا سلبيًّا في انتظار ما يئول إليه؟ إن الحل الأصيل الذي جاءت به الشريعة الإسلامية مختلف عن ذلك تمامًا، فهو يقوم على التصدي لهذا الموقف، وتناوله بطريقة خاصة، حتى يتاح للإنسان أن يرتقي مرة أخرى، في المنحدر الذي هبط منه، شيئًا فشيئًا، وبحيث يتسنى له -حين يبلغ مستوى معينًا- أن يتقبل النظام الأخلاقي، الذي ظل حتى ذلك الحين معلقًا. ولدينا في هذا المقام مثال واضح الدلالة، يقدمه لنا موقف القرآن في

_ 1 المائدة: 6.

مواجهة إحدى العادات السيئة، التي تنوقلت على مدى الزمن، من جيل إلى جيل، وغرست جذورها عميقة في الجهاز العصبي، بل وفي كيان أولئك الذين مردوا عليها وأدمنوها. نريد أن نتحدث عن ذلكم الخبال، وتلكم الآفة الإنسانية التي هي الخمر. والآيات -التي نجد فيه إشارات إلى حالة السكر، وإلى الأشربة المتخمرة المسكرة- بلغت أربعًا، كانت رابعتها وأخيرتها هي التي نصت على التحريم الصريح لهذه الأشربة. أما الثلاثة الأولى فلم تكن سوى مراحل تدريجية لتهيئة الاستعداد النفسي لدى المؤمنين، حتى يتقبلوا هذا التحريم. وقد تمت الخطوة الأولى في هذه الطريق في كلمة نزلت بمكة، كلمة واحدة مست المسألة مسًّا رفيقًا، فمن بين الخيرات التي استودعها الله سبحانه في الطبيعة، يذكر القرآن: {ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ} ويضيف إليها: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} 2. فهو لم يقصد إلا إلى الموازنة بين "السُّكر"، والثمرات الأخرى التي يصفها بأنها "حسنة"، دون أن يصف هذا السكر نفسه. وبذلك صار لدى المؤمنين دافع إلى الإحساس ببعض التحرج والوسوسة تجاه هذا النوع من الشراب. ولكن ها هم أولاء بعد قليل من وصولهم إلى المدينة يفاجئون مرة أخرى بنص ثان، من شأنه أن يقوي تحرجهم ووسوستهم، وهو يعقد مقارنة موجزة بين منافع الخمر والميسر ومضارهما, ويختم القرآن تلك المقارنة بهذه العبارات: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} 3.

_ 1 النحل: 76. 2 الآية السابقة. 3 البقرة: 219.

فإذا كان حقًّا ألا شيء في هذه الدنيا بخير مطلق، أو شر محض، وأن ما يسمى خيرًا أو شرًّا ليس في جملته إلا ما يحتوي على نسبة أكبر من هذا أو ذاك, فإن النتيجة التي نخلص إليها لا بد أن تكون الإدانة الحقيقية. بيد أن الذي حدث هو أن التحريم لم يكن واضحًا بدرجة كافية لجميع العقول؛ ولذلك ظل عدد من المسلمين يشربون، ولعلهم كانوا هم الغالبية، على حين بدأ آخرون منذ ذلك الوقت الامتناع عن الشرب، ومن ثم كان لازمًا بعض الأوامر الأكثر صراحة؛ كيما تصل جميع العقول إلى الاقتناع الكامل، ومع ذلك فإن هذا كله لم يكن بلا تأثير على جانب اللاشعور في المجتمع، حتى إن بعض ذوي العقول الراجحة كانوا يتوقعون نزول حكم نهائي يؤيد وجهة نظرهم، وقد حدث فعلًا أن نزل حكم، ولكنه لم يكن الحكم النهائي، وإنما سوف نجده يمثل مرحلة وسيطة. في هذه المرحلة الثالثة لم يقل القرآن: "لا تشربوا"، بل قال: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} 1. وهنا نلاحظ التقدم الذي حققته هذه الخطوة، إذا ما ذكرنا أن الصلاة تعتبر الفريضة الأولى في الإسلام، لا لأنها الفريضة الدينية الأولى، التي يجب أداؤها في أوقاتها، ولكن لأنها كذلك المناط الخارجي والعلامة المميزة للمؤمن -هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، يجب أن تقام خمس مرات في اليوم والليلة؛ أربع منها ما بين الظهر إلى الليل، وينتج عن ذلك أن الذي يشرب أثناء هذه الفترات يكاد يخل بالفريضة، بل بأكثر الفرائض قداسة. وهكذا كان هذا التحريم الجزئي غير المباشر منهجًا علميًّا لتوسيع فترات انقطاع التأثير الكحولي، وفي نفس الوقت تقليل رواج الأشربة، وتجريدها

_ 1 المائدة: 43.

من سوقها بالتدريج، دون إحداث أزمة اقتصادية بالتحريم الشامل والمفاجئ. وحين تم هذا، وتخلصت التجارة من تأثيرها لم تبق سوى خطوة واحدة، وهي الخطوة التي أنجزتها الآية الرابعة، والأمر الأخير: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 1. هذا المسلك اليسير المتدرج يدعونا إلى أن نتذكر الطريقة التي يستخدمها الأطباء المهرة لعلاج مرض مزمن، بل أن نتذكر -بصفة عامة- المنهج الذي تلجأ إليه الأمهات لفطام أولادهن الرضع، ذلك أن هذه الوسائل التي خلت من العنف والمفاجأة تدعو الجهاز الهضمي إلى أن يغير نظامه شيئًا فشيئًا، ابتداء من أخف الأطعمة حتى أعسرها، مارًّا بجميع الدرجات الوسيطة، ألا ما أعظم رحمة الله التي ترفقت بالعباد، على نحو لم يبلغه فن العلاج، ولا حنان الأمهات!! هذا الجانب التدريجي الذي درسناه لا يقتصر وجوده على بضعة أمثلة فحسب، بل هو ينطبق أيضًا، وبطريقة جدّ واضحة، على الأخلاق القرآنية في مجموعها، كما ينطبق على النظام الإسلامي بعامة. ومن المعلوم أن القرآن الذي يقوم في هذا النظام بالدور الرئيسي -لم يجئ إلى الناس كتابًا، جملة واحدة، على نحو ما نراه اليوم، فلقد ظهر بعكس ذلك نجومًا تتفاوت في كمها, خلال نيف وعشرين عامًا, تنقسم إلى مرحلتين متساويتين تقريبًا: المرحلة المكية، والمرحلة المدنية. ومن اليسير ملاحظة أن الآيات التي نزلت في المرحلة الأولى كان موضوعها الأساسي دعم الإيمان، وتثبيت المبادئ والقواعد العامة للسلوك، وأن ما سوى تعاليم

_ 1 المائدة: 90.

الصلاة والمعاش، وهو تطبيق هذه القواعد العملية على حلول المشكلات الخاصة، الأخلاقية والشرعية -كان كله تقريبًا مقصورًا على المرحلة الثانية. ومن هذه الوجهة نستطيع أن نقول: إن المرحلة المكية كانت في مجموعها نوعًا من الإعداد، ولكن التطبيقات المقدرة والمحددة لهذه المبادئ العامة قد توزعت بصورة متفاوتة على عشر سنوات. كذلك نستطيع القول بأن كل أمر جديد كان ينشئ في مجال التكليف تقدمًا بالنسبة إلى الحالة السابقة، ونقطة انطلاق بالنسبة إلى الحالة اللاحقة. وإنه ليكفي أن نلاحظ هذه المجموعة من الأوامر، المنفصل بعضها عن بعض، بمراحل تتفاوت طولًا وقصرًا؛ لكي نتفق على أن فيها منهجًا تربويًّا، بلغ الذروة في قيمته، وذلك بغض النظر عن أسباب النزول التي تفسر وتسوغ إقرار كل واجب جديد. وحسبنا أن نتخيل ما كان يمكن أن يحدث لو أن هذه الكثرة من الواجبات المتصلة بجميع مجالات الحياة -قد فرضت مرة واحدة، وبصورة شاملة!! أما وهي قد وزعت على هذا النحو فإن النفوس جميعًا قد تقبلتها بارتياح كامل، حتى كأنها كانت تزداد قوة واستعدادًا كلما كانت تمارس واجبًا منها. لم يفهم الكفار على عهد النبي هذه الحكمة التشريعية السامية؛ ولذلك اعترضوا فقالوا: {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} 1، وترد الآية نفسها على اعتراضهم: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} 2، ثم نقرأ في آية أخرى تفسيرًا ثانيًا: {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} 3.

_ 1 الفرقان: 32. 2 السابقة. 3 الإسراء: 106.

ولقد أدركت عائشة -رضي الله عنها- هذا المعنى، فيما رواه البخاري, قالت: "حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام.. ولو نزل أول شيء: "لا تشربوا الخمر" -لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا"1. وأكد عمر الثاني -بن عبد العزيز- بدوره أهمية هذا المنهج في المجال السياسي، ففيما يحكى عنه أن ابنه عبد الملك قال له: "ما لك لا تنفذ الأمور، فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق؟ ". فقال له عمر: "لا تعجل يا بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة"2.

_ 1 صحيح البخاري, كتاب فضائل القرآن، باب تأليف القرآن. 2 الموافقات، لأبي إسحاق الشاطبي 2/ 93 ط. التجارية.

تحديد الواجبات وتدرجها

جـ- تحديد الواجبات وتدرجها: وهكذا نجد أن الإلزام الأخلاقي قد جاء في القرآن مشروطًا بأمرين: أولهما: أن النشاط الذي يستهدفه يجب أن يكون يسيرًا على الطبيعة الإنسانية بعامة، أي: "خاضعًا لإرادة الإنسان". وثانيهما: أن يكون هذا النشاط ميسرًا في واقع الحياة المحسوسة، أي: "يمكن ممارسته، وغير استبدادي". وليس هذا هو كل شيء؛ إذ إنه لا يكفي، حتى ونحن في نطاق الخير الأخلاقي، أن يوصف نشاط بأنه ممكن وعملي، ليدخل في عداد الواجبات، فسوف نصادف هنا سلمًا من القيم الإيجابية والسلبية، رتبت بعلم، وتنوعت في وفرة.

ولو أننا -بادئ ذي بدء- نحينا جانبًا الواجبات الأولية المحددة التي لا يؤدي تطبيقها إلى أدنى لبس، مثل: "لا تكذب - أد الأمانة - كن في حاجة الآخرين ... " لبقي أمام الفضيلة المبدعة والبناءة ميدان نشاط متراحب، يضم عددًا لا ينتهي من الدرجات، كلها ممكنة وعملية، فهل يجب استيعابها؟ أم أنه يكفي الاجتزاء ببعضها؟ وبعبارة أخرى، هل الخير والواجب فكرتان متطابقتان؟ وهل لا يوجد فوق السلوك الملزم بشكل صارم درجات يتزايد استحقاقها للثواب، ويصح تجاوزها دون ارتكاب موقف غير أخلاقي؟ إن رجوعنا إلى الضمائر الفردية سوف يصطدم بأن كل الناس ليس لديهم نفس القدر من التشدد، ولا نفس الطاقة الأخلاقية، ويترتب على ذلك أن التنوع في الإجابات يرينا كثيرًا من الاتجاهات المتعارضة؛ فعلى حين أن الأنفس ذات العزيمة القوية1 تجعل واجباتها في أعلى درجات الكمال الممكن، وبذلك يتطابق لديها المفهومان "أي: مفهوم الواجب والخير" يتجه الكافة بعكس ذلك إلى ما هو أقل وأدنى؛ ليحددوا الواجب على أنه الحد الأدنى من النزعة الإنسانية وحسن المعاشرة. وعلى الرغم مما يدعيه "كانت" فإننا نتردد في وضعه بين الفلاسفة الذين يؤيدون ارتباط فكرة الإلزام بفكرة الخير؛ بالمعنى الواسع الذي نقصد إليه من هذه الكلمة؛ لأنه لكي يضع فكرة الواجب فوق كل شيء، بدأ بأن استبعد من مجالها علاقات الإنسان بالكائن الأعلى "L' ETRE SUPERIEUR"؛ وبالكائنات الدنيا "LES ETRES INFERIEURS" قاصرًا إياها على الفرد والمجتمع

_ 1 انظر مثلًا الغزالي في الإحياء 4/ 10، وكذلك أبو المعالي، الذي يرى أنه لا توجد خطيئة عرضية، فكل شر أخلاقي هو كبيرة "أبو المعالي بالإرشاد, ذكره الشاطبي في الموافقات 3/ 253".

الإنساني؛ ثم إنه ميّز في هذا المجال المقيد طائفتين من الواجبات يطلق على بعضها؛ كاملة أو جوهرية، وعلى الأخرى؛ ناقصة أو عارضة1. وأخيرًا: نجد أن الواجبات التي أدخلها في هذه الطائفة الأخيرة هي على وجه التحديد ما كان موضوعها تحقيق الكمال للفرد نفسه، وسعادة الغير. أما الواجبات التي يصفها بأنها صارمة STRICTS -فلم تكن في جوهرها سوى واجبات منصبة على التحريم، لا تحط من كرامة الإنسان، ولا تستخدمه مجرد وسيلة. والكمال الوحيد الذي أعلن أنه ملزم على وجه الإطلاق، وهو في الوقت نفسه مستحيل في هذه الحياة هو: النية الأخلاقية التي تنطوي على تأدية الواجب، بدافع الواجب وحده. بيد أننا يمكن أن نسأل أولئك الذين يمدون "الواجب" إلى جميع مجالات الخير، ويريدون في الوقت نفسه أن يعينوا لكل مجال أعلى درجات الكمال الممكن على أنها إلزامية وملحة -نسألهم عما إذا كانوا يرون أن هذه الكمالات جميعًا "واجب" على كل شخص، أو أنهم يتركون لكل أن يختار مجال كماله؟ ومن الواضح أن الافتراض الأول يقتضي شيئًا هو فوق القدرة الإنسانية، أما الثاني فإنه يستحوذ على الإنسان ببعض القيم، ويفرغه لها تمامًا على حساب القيم الأخرى، فهل هذا يشبع الحاجة الأخلاقية؟ إن الكائن الإنساني تركيب من العلاقات: فالعنصر الحيوي، والشخصي، والأسري، والاجتماعي، والإنساني، والإلهي -كل ذلك نظام من العناصر

_ 1 Kant: grit. De la R. prat. P. 168-9.

المترابطة المتواثقة، وكله قابل للتطور والتقدم، وليس من الممكن أن نغفل أي واحد منها دون أن نخلخل هذا التناسب العجيب الذي أبدع فيه الإنسان، أو نشوهه، أو نبتره. والحاسة الخلقية تتطلب ازدهار هذا المجموع ككل، وهو ما لا يمكن إلا بشرط أن نربي -على التوازي- جميع الجوانب إلى مستوى معين، أي: إنه يجب أن تمارس النفس الإنسانية جميع القيم، قبل أن تتخصص في واحدة من بينها، وذلكم هو المفهوم الإسلامي للواجب: "إن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا" وفي رواية: "ولزَوْرِك, فأعط كل ذي حقٍّ حقه" 1. فعن هذه المنافسة في القيم ينتج بالضرورة أن الواجب فرع من فروع الحياة لا ينبغي له أن يشغل سوى امتداد معين من الخير الممكن والميسور في هذا الفرع نفسه، تاركًا المجال للفروع الأخرى كي تشبع احتياجاتها؛ وتحرز نصيبها الشرعي من نشاطنا. وهنالك مقياس تستطيع الضمائر الطاهرة أن تلمح به الحد الأعلى؛ الذي يتحول عنده معنى كل فضيلة إلى نقيضها؛ حين تلحق الضرر بفضيلة أخرى. بيد أن هذا الحد الأعلى؛ الذي يختلف تبعًا لاستعداد كل فرد, وتبعًا للظروف التي يمر بها -لا يحدد ميدان الخير الأخلاقي إلا على نحو جزئي وسلبي؛ إذ لما كان الميدان رحبًا عرف كل فرد فيه درجات مختلفة من الفضل والاستحقاق؛ بحيث يستتبع النقص في درجة أو في أخرى؛ تارة تأنيبًا قاسيًا؛ وأخرى عتبًا رقيقًا، أو عتابًا شديدًا؛ وثالثة لا يثير أدنى رد فعل في الضمير.

_ 1 صحيح البخاري, كتاب الأدب, باب 84-86.

أليس معنى هذا أن الفرد قد عرف ضمنًا أن فكرة الخير يجب أن تتضمن قيمتين مختلفتين: حدًّا أدنى إلزاميًّا، وإضافة أكثر إغراء بالثواب؟ إن الضمائر لا تخطئ في هذا؛ ولكنها تخطئ عندما تريد أحيانًا أن تأخذ الجانب الإلزامي على أنه أدنى الدرجات الممكنة، وهو مقياس لا يجد فيه الناس ما يبلغ رضاهم بصفة عامة. أما أهل الصلاح من الناس فهو أكثر إلحاحًا؛ إنه يقدر لنفسه بطريقة مبهمة -قدرًا وسطًا من الخير لا يستطيع أن يقيسه قياسًا دقيقًا، فكيف نبلغ في الواقع تحديد هذا القدر المتوسط بالنسبة إلى كل واجب من واجباتنا؟ ليس هناك أي مقياس عقلي، وموضوعي يستطيع أن يقدمه العقل الإنساني. فهل نركن إلى الضمير الفردي؟ ليس هناك اتفاق في هذا الصدد، فهل نحاول وضع حد اتفاقي؟ إن هذا يعني اللجوء إلى التحكم والاعتساف. وهكذا نجدنا بحاجة ماسة إلى هذه التحديدات. إن شمولية القانون "L' UNIVERSALITE DE LA LOI" تتطلب قدرًا من التجانس في الأساس، وبغير ذلك ربما لا تبقى لنا أية قاعدة؛ ثم لا يصبح القانون أكثر من كلمة تردد، فارغة من مضمونها. لقد حاولنا أحيانًا أن نحدد تحديدًا عقليًّا واجبنا الدقيق نحو أندادنا، ولكنا لم نستطع أن نقدم سوى جانبه السلبي: ألا نلحق بهم ظلمًا، ومعنى ذلك أن يكون للناس حق في عدالتنا، لا في إحساسنا، وتلكم هي الأنانية شامخة في القانون!!

ثم ... كيف نقدر الحد الأدنى الضروري من واجباتنا نحو الله، ونحو أنفسنا؟ عن هذه النقاط جميعها تقدم الأخلاق الإسلامية إشارات ثمينة. ففيما عدا الواجب المطلق الذي لا يتضمن تقييدًا، ولا تحديدًا، أعني: "الإيمان" -نجد أن هذه الأخلاق تعين في كل عمل يقبل التحديد درجتين من الخير، وتعطي لكل منهما علامات مميزة، ومحددة بدرجة كافية: الحد الأدنى، الذي لا يهبط العمل دونه، إلا إذا أخل بالواجب؛ ثم ما يعلو فوق ذلك دون تجاوز للحد الأقصى؛ وبعبارة أخرى: الخير الإلزامي، والخير المرغوب فيه. ومعنى ذلك بالنسبة إلى ما سبق أن ما وصف بأنه ضرورة صارمة يمثل مشاركة جوهرية في كل قيمة1. وفضلًا عن ذلك، إن القرآن يفتح الطريق في كل مجال إلى مشاركة أكبر، وهو يحث كل إنسان على ألا يقنع بهذه المرحلة المشتركة، وأن يرتفع دائمًا إلى درجات أكثر جدارة, في مثل قوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} 2؛ وقوله: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} 3، وقوله: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} 4، فهو يضع فضيلة "الإسماح - CONDESCENDANCE" فوق "الحق الثابت"، ويلح بخاصة على فضيلة "الإحسان"، واسمع في ذلك قوله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} 5. وإمهال المدين عندما يكون عاجزًا عن الوفاء -واجب، ولكن إعفاءه

_ 1 وعلى سبيل المثال: شهر من الحرمان يفرض على شهواتنا، وعشر من محاصيلنا، وجزء من أربعين جزءًا من أموالنا يواجهها إلى الفقراء، وخمس صلوات في كل يوم ... إلخ. 2 البقرة: 184. 3 البقرة: 219. 4 الفرقان: 64. 5 البقرة: 237.

نهائيًّا من دينه بادرة جديرة بالثناء. {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} 1. والدفاع عن النفس ضد الظلم حق، ولكن التحمل والمغفرة أجمل. {لَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} 1. وأداء الفرائض خير، ولكن {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} 3. في مقابل هذه الدرجات للقيمة الإيجابية، والتي سبق أن ذكرناها في المفهوم الأخلاقي للخير، في القرآن -من اليسير أن نتعرف درجات القيمة السلبية التي وضعها القرآن على النقيض. بيد أن سلم القيم، مع هاتين القائمتين المتوازيتين لما يُستنفد، حتى في سطوره البارزة؛ ذلك أنه سلم ثلاثي، يتقارب فيه هذان الطرفان المتضادان بوساطة حد وسط يربطهما، دون أن ينقطع استمرارهما؛ فبين "القيمة"، و"نقيض القيمة" يقحم القرآن "اللاقيمة"؛ إذ يوجد بين "المفروض" و"المحرم" مكان لـ"المباح". ثم إنه يميز في "المفروض" -أولًا- الواجب الرئيسي، ثم يجيء دور التكاليف الأخرى، ثم أخيرًا الأعمال التي يتصاعد ثوابها. كما أنه يرتب في "المحرم" الكبائر، ثم تأتي السيئات الأخرى، من الفواحش أو اللَّمَم. وكذلك نراه يميز بين درجتين في الأعمال المباحة، ونعني بهما: المسموح به، والمتغاضى عنه. فمن الحق إذن أن نتساءل عما إذا كان أدق العقول وأكثرها إدراكًا للتنوع -يمكنه أن يجد أشياء أخرى يضيفها إلى هذا البناء المتدرج للقيم؟!

_ 1 البقرة: 280. 2 الشورى: 41-42. 3 البقرة: 158.

ولقد حاولنا عبثًا أن نعثر على أية ثغرة تسوغ ما ذهب إليه "جوتييه" من إطلاق تعبير "العقل المولع بالفصل" -على العقل الإسلامي الذي أقر هذا التدرج، وهو بحسب ما اعترف به هذا المفكر سمة إسلامية خالصة1، إذ يقول: "إن وضع الشيء بإزاء نقيضه هو الصيغة التي تتلخص فيها جميع الأشياء في العالم العربي، وبخاصة المسلم، بما في ذلك الدين، والتاريخ ... إلخ" 2. تلك على أية حال ملاحظة عابرة؛ ولنعد إلى عرضنا، إلى النقطة التي تركنا الحديث عندها، لنقول كلمة عن المغزى الحق لهذا التدريج، فيما يتعلق بالمعفو عنه، والمباح القرآني، فلا ريب أن المباح بالمعنى الصحيح إنما يتناول الأعمال التي لا دخل فيها للأخلاق3. أما فيما يتعلق بالمعفو عنه فيجب أولًا أن نبعد الفكرة التي تجعل منه رخصة ببعض ما يمس الأخلاق، رخصة ببعض الميول والأهواء لدى كل فرد. إن ذلك سوف يكون إنكارًا مسبقًا للأخلاق ذاتها، التي هي بحسب التعريف "قاعدة السلوك"، فماذا يكون -على الحقيقة- الالتزام بقاعدة، إن لم يكن التمسك الصارم بها، وعدم الخضوع للمغريات التي تصد عنها؟! ولكن ... ها هو ذا وضع المسألة: فإذا ما وجد نوع من المشقة، ووقف القرآن أمامها صلبًا لا يتزعزع، ثم وجدناه يحثنا على أن ننتصر عليها بأي ثمن -فذلك هو ما يستتبع على وجه التحديد مقاومتنا لميولنا، إذ يجب أن نختار بين طاعة الله، وبين الخضوع للرغبات الجامحة، ومن ثم قال الله

_ 1 Gauthier, Introd. A l'etude de la philos. Musulmanne, p. 125. 2 المرجع السابق ص37. 3 فمثلًا: تناول طعام معين أو غيره -كلاهما صواب، وهما سواء صحة وطهارة.

سبحانه {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 1، وقال: {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} 2, وقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ} 3. فلم يكن المعفو عنه في القرآن -إذن- لكي ننحرف أمام أهوائنا، وإنما هي بكل بساطة وصدق مسألة مراعاة للواقع المحسوس الذي يجري فيه نشاطنا، دون أن نذهب في هذه الطريق إلى أحد إلغاء جهدنا، وإعفاء أنفسنا من واجبها. فقد رأينا -عمومًا- أن القاعدة لا تخضع للموقف بذاتها، وإنما هي تخضع له في خصائصها المكانية - الزمانية - كالكمية، والمدة، والشكل، والتاريخ ... إلخ. فإذا أردنا ألا يكون القانون الأخلاقي حرفًا ميتًا فيجب -في الواقع- أن نجعله في إطار صارم من الزمان، والمكان، والظروف الخارجية المحضة، يجب أن يجد القانون مجال تطبيقه بشكل أو بآخر. ومن الطبيعي والعدل أن تتطلب فاعلية هذا التطبيق مرونة مناسبة، للتكيف مع الواقع المستقل عن إرادتنا؛ وعندما يخضع التكليف للضرورة عند هذا الحد، فيقف أمام عقبة في هذا الواقع لا تقهر، "مثلًا: حالة الإنسان العاجز عن أداء واجبه العسكري، أو المحروم الجائع الذي لا يستطيع أن يمتنع عن الأطعمة النجسة" -هنا تصبح المسألة أساسًا هي تفادي الهلكة، في فضيلة واحدة على حساب فضائل أخرى تعدلها، أو تفوقها أهمية. وهكذا نجد أن لطف الشريعة لم يكن الهدف منه تقليل الجهد، بل إرساءه على أساس عقلي، أي: "عَقْلَنَته" إن صح التعبير. ولسوف نرى فيما بعد4، بأية طريقة حقق القرآن تركيب هاتين الفكرتين، فلنكتف الآن باستخلاص موقف القرآن أمام المشكلات المتعلقة بمفهوم الإلزام في ذاته.

_ 1 ص: 26. 2 النساء: 135. 3 القصص: 50. 4 انظر الفصل الخامس, الفقرة الثالثة.

تنافضات الإلزام

تنافضات الإلزام ... ثالثًا: تناقضات الإلزام الحق أننا بإزاء فكرة الإلزام في ملتقى مجموعة من التناقضات العملية التي يحس كل فكر أخلاقي بأنه محير فيما بينها، والتي ينبغي حيالها أن يتخذ موقفًا، أيًّا كان، ومن بين هذه التناقضات نذكر اثنين رئيسيين: أولًا- وحدة وتنوع: حقيقة لا ريب فيها أنه إذا كانت الأخلاق علمًا فيجب أن تبنى على أساس قوانين شاملة وضرورية، لا أن تقوم على قضايا خاصة وممكنة. وليس بأقل من ذلك صدقًا أنه إذا كانت الأخلاق علمًا معياريًّا، موضوعه تنظيم النشاط الإنساني فيجب أن تتناول الحياة في واقعها المحسوس. ولما كانت الحياة في جوهرها هي التنوع، والتغير، والجدة، فسوف نجد أنفسنا إذن أمام التتابع التالي: فإما أن يكون نموذج السلوك الذي يقدمه لنا هذا العلم قد جاء ليكون ثابتًا وعامًّا. وإما أن يكون قابلًا للتنويع والتعديل. وفي حالة الفرض الأول سوف ترتد الإنسانية إلى نموذج وحيد متماثل مع

نفسه دائمًا، وسوف يختصر المكان إلى نقطة، والزمان إلى برهة، وسوف تتوقف حركة الكون، وسوف تمحى الحياة ذاتها، لتحل محلها فكرة مجردة، لا توجد إلا في تخيل عَالِم الأخلاق LE MORALISTE. ولو أننا -على العكس- أخذنا في اعتبارنا أن العمل المفرد يتصف بالتفرد، ويستعصي على الاندماج في فكرة عامة، وهو خاضع فقط لتأثير الزمان، واختلاف المكان -فلن يكون هناك مجال للحديث عن قاعدة، أو قانون، أو علم ... فماذا تكون في الواقع قاعدة مصيرها إلى الموت بمجرد تخلقها؟ وما حقيقة قانون لن يأمر سوى فرد واحد، بشكل فوري؟ وما كُنْه علم لا يملك أية عمومية؟ وهكذا، إما أن نحافظ على وحدة القانون، أو أن نحترم تنوع الطبيعة المحكومة بهذا القانون. إما أن نبقي على بساطة القاعدة أو أن نخضعها لتعقد الحياة التي تطبق عليها. إما أن نرتقي إلى المثل الأعلى الخالص، والخالد، أو أن نهبط إلى الواقع المتغير إلى أقصى حدود التغير. إما أن ننتصر "للجوهر" أو "للوجود". فهاتان هما نهايتا الطريق التي يجب أن نصعد مرتقاها، وهما النهايتان اللتان لا نستطيع أن نقترب من إحداهما إلا إذا ابتعدنا عن الأخرى. تلكم هي أولى الصعوبات الأخلاقية. ثانيًا- سلطة وحرية: لكن هنالك صعوبة أخرى، وهي مع ذلك ذات علاقة بالأولى؛ فمما لا شك فيه أن العلاقة المعبر عنها بلفظة -الإلزام- هي علاقة تجمع إرادتين مختلفتين، ومدفوعتين بطبيعتهما إلى إظهار اتجاهات متصارعة. "المشرع" الذي يأمر، وهو شديد الحرص على "سلطته"؛ و"الفرد" الذي يعمل، وهو يدافع عن "حريته".

ولما كانت سلطة المشرع تبقى محترمة بقدر ما تحتفظ القواعد التي تسنها بمعناها كاملًا قويًّا، دون مساس -فإن تنوع الظروف لا يتدخل مطلقًا لتحديدها, أو للتخفيف من وطأتها. وفي هذه الحالة يصبح القانون الأخلاقي مماثلًا لأي قانون من قوانين الطبيعة، يخضع له الفرد خضوعًا سلبيًّا، ويطبقه تطبيقًا أعمى. ومعنى ذلك، أن "الإلزام" الصرف يقابله بالضرورة انتفاء للحرية، وخضوع تام. ولكن، ما جدوى هذا الضمير حينئذ؟ الضمير الذي لن يغير حضوره أو عدمه شيئًا في مجرى الأمور؟ وإذا نحن اتجهنا إلى الطرف الآخر، وأرضينا الفرد العامل بمنحه حرية كاملة في الاختيار والتصرف، فستكون النتيجة عكسية، إذ سوف يتحول "الأمر" إلى مجرد "نصيحة" يمكن أن نقبلها أو نرفضها، بحسب تقديراتنا الشخصية. ما الذي يجب علينا أمام هذه الدواعي المتعارضة؟ هل يجب أن ننحاز إلى أحد الجانبين، أو نحاول التوفيق بينهما؟ وإذا تعين الاختيار فأي الاتجاهين نختار؟ وإذا تعين التوفيق فعلى أي أساس يكون؟ تلكم هي المشكلة التي تتطلب حلًّا ولننظر الآن كيف اختلفت حلولها. وفي السطور التالية، حتى نهاية الفصل سوف نهتم ببيان كيف أن الحل القرآني يمكن أن يعتبر توفيقًا منصفًا لجميع الأطراف الحاضرة في القضية، على حين أن لدى النظريات العادية اتجاهًا متفاوتًا في مقداره، نحو اختيار أحد طرفي التعارض، أو الآخر. ولسوف نقصر الفقرة التالية -التي خصصناها للخاتمة- لنقوم بإثبات الشق الأول من هذه الدعوى المزدوجة؛ ونبدأ الآن بالشق الثاني، لنبرز الصعوبات التي تصطدم بها نظريتان سائدتان، نقدمهما هنا مثلين نموذجين، لاتجاهين متطرفين، أحدهما يمثل السلطة الصارمة للواجب العام، والآخر يدافع عن أصالة العامل النفسي ضد فكرة صرامة المنطق: النظرية الكانتية، ونظرية روه "RAUH".

كانت

كانت مدخل ... "كانت": من المعروف أنه -لكي يقاوم هذا الفيلسوف الألماني بعض النظريات روضت الأخلاق حين أخضعتها لجميع مطالب الحياة الدنيوية- لم يكتف الرجل برسم خط فاصل بين فكرة الأخلاق وفكرة الحياة الحسية، بل مضى إلى أبعد من ذلك، وأمعن في البعد، فهو لم يكتف بأن جرد مفهوم الواجب من كل تجربة حسية، وكل واقع مادي يمكن أن ينطبق عليه، بل إنه خلصه أيضًا من صفته الخاصة، من مادته التكوينية التي تظهر في هذه القاعدة أو تلك، فلم يبقِ له سوى صفته الشكلية، وهي أنه قانون شامل صالح لجميع الإرادات، وقد استخلص من ذلك هذا التعريف للواجب، فهو: "كل سلوك يمكن أن يصاغ في قاعدة عامة، دون أن يكون عرضة لنقد العقل أو تسخيفه"1. ولقد اعتقد كانت -اعتمادًا على هذه الصيغة المجردة إلى أقصى حد- أنه يستطيع أن يستنبط علم "الواجبات الأخلاقية LA DEONTOLOGIE ETHIQUE" على ما قاله بنتام BENTHAM؛ أعني: علم الواجبات الحسية الخاص بكل مفهوم عملي، وذلك بتقدير كل سلوك عملي من حيث هو أخلاقي أو غير أخلاقي، عن طريق وزنه بذلك الميزان الوحيد، وهو صلاحيته لأن يصبح قانونًا عامًّا.

_ 1 Toute Action don’t la maxime peut sans absurdite erte universalisee.

أمشروع من هذا القبيل يمكن أن يتحقق فعلًا؟ وهل أساس هذا البناء ذاته متين بحيث يدعمه؟ إليك من وجهة النظر التي تهمنا تخطيطًا للفكر الكانتي، ويمكن القول إجمالًا بأنه يتكون في ثلاث مراحل: أ- إثبات حدث أولي. ب- تحليل يسمح بالارتقاء إلى أعلى درجات العمومية. جـ- هبوط مرة أخرى لوضع القواعد الأساسية للأخلاق الإنسانية. أ- إن نقطة البداية في النظرية الكانتية تنحصر في هذا الواقع المحسوس، الذي يقدمه الضمير مباشرة، أعني أننا في أحكامنا الأخلاقية لا نزن الأعمال مطلقًا بالقياس إلى نتائجها الطيبة، أو السيئة، ولكنا نزنها بالقياس إلى قاعدة عامة صالحة للتطبيق على جميع الأفراد، ومستقلة عن جميع النتائج، وتلك حقيقة لا مجال للطعن فيها. فنحن -بدلًا من أن نجعل البحث عن اللذة، والهروب من الألم مبدأ للتقدير الأخلاقي- نستحسن الأعمال الفاضلة بقدر ما تشق علينا. ونحن نعجب إلى أقصى حد بالنفوس القوية التي تعرف كيف تقاوم كل ضروب الإغراء، وتتخطى جميع العقبات. ونحن -قبل أن نمنح أنفسنا الحق في إخضاع قاعدة سلوكنا الخاص لأحوالنا الشخصية- نعرف أن من واجبنا أن نقيسها على القاعدة التي نتطلبها من الآخرين: "كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضًا بهم"1، ويؤكد القرآن الكريم هذا المعنى بقوله: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ

_ 1 إنجيل متى, القسم, الإصحاح السابع 12.

بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} 1، ويمضي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى حد أن يجعل من هذا الحب المتبادل المتساوي شرطًا للإيمان: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" 2. من هذه الإدانة الكاملة للأنانية في جميع أشكالها استخرج الضمير الإنساني العام مبدأ شمولية الواجب وتبادليته. فلم يفعل "كانت" إذن في البداية سوى أن سجل هذا القانون، ولاحظه كواقع للضمير. ومع أنه قد أوضح نقص هذه الأقوال القديمة، وعجزها عن تقديم القانون الأخلاقي الكامل3 -نجده يبني كل نظامه ابتداء من الفكرة الموحاة في هذه المأثورات. والواقع أنه يعتمد في وضع القاعدة الجوهرية للحكم الخاضع لقوانين العقل العملي المحض -على حكم "الإدراك العادي"، وهي القاعدة التي يصوغها على هذا النحو: "سل نفسك إذا ما كان العمل الذي تهم به يمكن أن يحدث افتراضًا، طبقًا لقانون الطبيعة التي أنت جزء منها -هل تستطيع إرادتك -مع ذلك- أن تقبله على أنه ممكن؟ ". ويستطرد قائلًا على سبيل المثال: "كل منا يعرف جيدًا أنه إذا سمح لنفسه أن يخدع خفية فلن يكون ذلك سببًا في أن يسلك كل الناس نفس السلوك، وإذا ما نظر أحدنا بلامبالاة كاملة إلى بؤس الآخرين, فلن يترتب على ذلك أن يقف الناس جميعًا نفس الموقف من بؤسه"4.

_ 1 البقرة: 267. 2 البخاري, كتاب الإيمان, الباب السادس، ويضيف النسائي: عبارة "من الخير". 3 انظر: Kant: Fondement de la metaphisique des moeurs p 153 4 Kant: Critigre de la R. Pratique, P. 71-2.

ب- ولكن من أين يأتي هذا الطلب الحثيث لعمل مثالي لا يوجد له نموذج في التجارب؟ ويجيب مؤسس مذهب: "الشكلية العمليةformalisme pratique" بقوله: "يأتي ذلك من أن "القانون الأخلاقي" ينقلنا بطريقة مثالية إلى مجال مختلف تمامًا عن مجال "القانون التجريبي", فهو يشركنا في عالم ذهني صرف، حيث يتجلى استقلال الإرادة، لا في نوع من الاستقلال عن قانون الطبيعة المحسوسة وحسب، فذلك ليس سوى وجه سلبي للحرية، ولكن كذلك في أن هذه الإرادة تضع لنفسها قانونها. هذا القانون ينبغي أن يكون قانون عقل محض، أي: بحيث لا يكون متحررًا فقط من تأثير أي ظرف تجريبي، أو حدس intuition، أو أية مادة، بل يكون أيضًا قادرًا على تحديد الإرادة بطريقة قَبْلية apriori، ذلك أن العقل المحض إنما كان كذلك؛ لأن شأنه في استعماله العملي كشأنه في استعماله النظري: "هو عقل واحد، يحكم طبقًا لمبادئ قَبْلية"1. ولما كنا لا نجد غير الشكل المحض لتشريع عام، هو الذي يستطيع أن يحدد الإرادة تحديدًا -وجب لهذا أن يتكيف كل حكم مع هذا الشكل، وإلا أصبح مستحيلًا أخلاقيًّا. وهكذا نجد أنها عمومية، لا تشبه فقط عمومية قانون الطبيعة، الذي ينبغي لأي حكم عادي أن يهتدي به، على أنه صورة مطابقة للعقل المحض، ولكنها أيضًا عمومية مطلقة، تصلح للتطبيق على جميع الكائنات العاقلة، فانية وخالدة، وهي تجد أساسها في حكم جازم، أعني: ضروري وقَبْليّ, صادر عن العقل المحض. ويعلن "كانت" هذا القانون الأساسي للعقل المحض على هذا النحو:

_ 1 kant: crit de la r. Prati. P. 130.

"اسلك بحيث يمكن للقاعدة التي تقبلها إرادتك أن تصلح في الوقت نفسه كمبدأ يتخذ أساسًا لتشريع عام"1. وهنا أيضًا نتعرف على مسلك العقل "المبتذل - triviale"، الذي أراد -كانت- أن يعلو عليه. جـ- وحيث قد وصلنا إلى قمة التجريد بهذه الصيغة التي لا يمكن أن نتصور ما يفوقها في العمومية -فإننا نستطيع أن نعفي أنفسنا من الإشارة إلى المنحدر الذي يجب أن نهبط منه، لنجد تطبيقات هذا القانون العام على الطبيعة الإنسانية. ولنعد الآن مرة أخرى إلى تتبع هذا المذهب في مراحله الثلاث المتعاقبة؛ كيما نسبر غوره.

_ 1 المرجع السابق ص30.

المرحلة الأولى

المرحلة الأولى: - ولنسأل أنفسنا -أولًا- عما إذا كان يوجد في الواقع علاقة ضرورية بين فكرة العموم وفكرة الأخلاق. أصحيح أن إمكان تحول قاعدة إلى قانون عام يعتبر الشرط الضروري والكافي لنخلع عليها الوصف الأخلاقي؟ أصحيح أيضًا "أن القاعدة إذا لم تصمد أمام تجربة التماثل مع القانون الطبيعي عمومًا، فإنها تصبح مستحيلة أخلاقيًّا"1. وعلى حد قول مؤلفنا: إن في هذا المقياس المزدوج -"القانون الذي يسمح بتقدير سلوكنا بعامة"2، والوسيلة إلى أن نتعلم "بأسرع ما يمكن

_ 1 المرجع السابق ص27. 2 fondement de le met. Des moenrs, P. 142.

مع عصمتنا من الخطأ"1، وقال: "وبهذا المقياس في أيدينا يصبح لدينا في جميع الحالات التي تطرأ، كامل الاختصاص لتمييز ما هو خير مما هو شر، ما هو مطابق للواجب مما هو مناقض له"2. ولا يحتاج الأمر إلى كثير من الحصافة لكي نرى كم يضم الجزء الأول من هذا المقياس، تحت نفس المفهوم -قيمًا شديدة الاختلاف فيما بينها، ابتداء من الواجب، حتى نقيضه تمامًا، مارة بالأعمال المحايدة والمشبوهة. والواقع أننا إذا نحينا جانبًا طرق السلوك التي قد يرفض الإنسان التبادل فيها، فإن ما يتبقى يعتبر في نظره سلوكًا لا مؤاخذة فيه، تقبل أحكامه أن تتحول -في رأيه- إلى قانون عام. ونبدأ بقاعدة السلوك التي يتخذها الإنسان المتوسط لنفسه في ناحية من نواحي حياته اليومية: وهي أن يسير وراء أهوائه البريئة التي يجوز الترَخُّص في إرضائها، وحينئذ نجد أن السلوك الحسن أخلاقيًّا، والسلوك المحايد أخلاقيًّا قد أصبحا غير متميزين، بحسب المفهوم الذي يقول: "بإمكان تعميم مثل هذه القاعدة" -ليس هذا فحسب، ولكن الواجب قد هبط إلى مستوى مجرد المباح؛ لأنه شتان بين أن نقول: إن التشريع يجب أن يكون عامًّا، وبين أن نقول: إنه يمكن أن يكون كذلك. ولما كان هذا الاختلاف هو الذي يتميز به السلوك "الملزم" من السلوك "الجائز" فقط، فإن الصيغة الكانتية شأنها شأن الصيغة السوقية -vulgaire- التي تعتري إليها -عاجزة عن تقديمه. ومعلوم من ناحية أخرى بأية عناية ميز "كانت" بين طائفتين من قواعد السلوك التي تدور حول الواجب "كإسداء الخير للغير":

_ 1 المرجع السابق ص104. 2 المرجع السابق ص106.

الطائفة الأولى: تأمر بالامتثال للواجب، لا أكثر, "أي: مهما يكن الدافع: استعداد طيب، أو مزهو، أو ذو مصلحة ... ". والأخرى: تشترط في الوقت نفسه تحديد الواجب بفكرة الواجب. ولما كان واضحًا أن مقياس العمومية، سواء أكان ممكنًا أم ضروريًّا، لا يوضح لنا هذه الفروق الطفيفة مع أهميتها القصوى، فإن التباسًا آخر يحدث هنا ما بين الأخلاقية والشرعية "moralite et legalite". بيد أن الالتباس الأسوأ هو الالتباس الذي يحدثه هذا "المحك" المزعوم في الضمير الفردي، حين يمنحه الحق في أن يطلق وصف "الخير الأخلاقي" على كل سلوك يريد ببساطة رفعه إلى مرتبة القانون العام، حتى لو كان من أكثر الأعمال تهمة، إن لم يكن بحكم الضمير العادي، فعلى الأقل في نظر الحكمة الكانتية ذاتها. فلنختبر، مثلًا، شعور أولئك الذين يرتكبون مخالفات تتفاوت في خطورتها، ضد القانون الأخلاقي: "الطبيب الذي يخدع مريضه ليشفيه، والمحسن الذي يرتكب كذبة بريئة لينقذ حياة، والإنسان المرهف الحس الذي يؤثر أن ينتحر على أن يتحمل عارًا ... " -ألا يعطي هؤلاء لسلوكهم قيمة قانون عام، يجب أن يطبق على جميع الناس الذين يوجدون في نفس الظروف التي وجدوا هم فيها؟ ثم ماذا؟! هذا الإنسان الوقح الذي يرتمي في أحضان الفسق الداعر، هل يحس بأدنى عيب في أن يقتدي الناس به؟ أوَليس هناك بعض الناس يريدون أن يخلعوا صفة القانون العام على العري، وجميع آثاره اللاأخلاقية؟! بيد أن هناك، على عكس ذلك، قواعد للسلوك لا يمكن أن ترتفع إلى درجة العمومية، دون أن تتعارض في ذاتها، أو دون أن تعرض الطبيعة الإنسانية للخطر، ومع ذلك لا نستطيع أن ننسبها إلى اللاأخلاقية.

ولنفترض أن إنسانًا ما جعل موقفه في الحياة أن يبلغ درجة من الكمال لم يبلغها أحد دونه. فليس التعميم وحده هو الذي يهدم هذه الفكرة، بل إن أقل قدر من التوسع فيها يهدمها تمامًا، إذ إن التفوق لن يصبح تفوقًا. فهل من العقل أن نصف هذه الغاية بأنها شر من الناحية الأخلاقية؟ وإليك مثلًا آخر: التبتل عن الزواج ... ولنترك جيلًا إنسانيًّا واحدًا يفرض على نفسه إلزامًا بهذا التبتل ... إن آخر حي من هذا الجيل سوف يشهد حتمًا نهاية الإنسانية، فهل يمكن أن نصف بالإجرام موقف هذا المتبتل، وهو موقف مدحته المسيحية كثيرًا؟ وما رأي "كانت" نفسه في هذا؟ هكذا تبطل المقابلة بين العام والأخلاقي، في وجهها المزدوج، الإيجابي والسلبي، وليس يغض من صدق هذا القول أن هناك علاقة ضرورية بين المُلْزِم والعام، وهي علاقة من طرف واحد، سوف نتولى بعد قليل بيان معناها وأهميتها.

المرحلة الثانية

المرحلة الثانية: بيد أن "كانت" لا يقتصر على تقرير عمومية واجباتنا، كواقع حسي، وتجريبي، واحتمالي. وهو لا يكتفي كذلك بنصف تجريد، يجعل من العقل الإنساني قوة للقانون العام ... إنه يمضي إلى أبعد من ذلك كثيرًا ليصل إلى الجوهر الحقيقي للعقل العملي في ذاته، وهو يقدم لنا القانون الأساسي لهذا العقل المحض، على أنه مطلب لا غنى عنه، ليس لقاعدة أو أخرى "محددة للقيام بأعمال معينة"1 فحسب، بل لتشريع شامل عمومًا. ويؤكد لنا.

_ 1 kant: fondement. P. 103.

أن قانونًا بهذا الشكل، وبهذه الشمولية البالغة التجريد -هو الذي يحقق الصفة الجوهرية للقانون الأخلاقي، ولا يمكن مطلقًا أن تكون له صفات أخرى إذا أريد للواجب ألا يكون "مفهومًا وهميًّا". ويقول لنا "كانت": إنه لم يصل إلى مذهبه الشكلي عن طريق حاجة فلسفية إلى التجريد، أو تقليدًا للشكلية المنطقية لدى أرسطو، وإنما على أساس اعتبارات أخلاقية ذات أهمية بالغة، وعن طريق منطق الأخلاقية ذاته؛ لأنه -كما يقول-: إذا كانت القيمة الأخلاقية للعمل لا تكمن في الآثار التي تنتظر منه، ولا في اتفاقه مع ميولنا، بل في علاقته بالقانون ... وإذا كان هذا القانون -من ناحية أخرى- واقعًا مسلمًا للعقل، باعتباره قوة ذات كيان ذاتي، ومستقل عن قوة الشعور -فيجب أن نستبعد كلًّا من المذهب الإمبيريقي empirisme- الذي يحصر الخير في النتائج النافعة, والنزعة الصوفية mysticisme, التي تتوه في العالم العلوي، ونتمسك بالمنهج العقلي rationalisme، وهو المنهج الوحيد الذي يتناسب مع المفاهيم الأخلاقية1. وإلى هنا نستطيع أن نكون متفقين مع "كانت" ولكنه يضيف قائلًا: "ولما كنت قد جردت الإرادة من جميع الدوافع والنتائج فلم يبق سوى التمسك بالصيغة العامة للقانون في عمومه، فهي وحدها التي تصلح أن تكون مبدأ للإرادة". وبعبارة أخرى: إذا اتخذت المادة موضوعًا للإرادة، وكانت مبدأ محددًا لها، فإن الإرادة سوف تخضع لظرف تجريبي، "ولما كنا قد نزعنا بالتجريد كل مادة، فلم يبق سوى الشكل"2.

_ 1 kant: crit. p. 73 2 المرجع السابق ص26.

وهنا -في رأينا- يكمن اللبس، وتظهر الحاجة إلى الحبكة، وبسببهما أحدث هذا التعليل ثغرة بين المقدمات والنتيجة؛ لأنه عندما استبعدت الدوافع الحسية، والحسابات العملية، فلم تستنفد بذلك جميع الحلول الممكنة للوصول إلى الشكل المحض، ألسنا نرى -في الواقع- وسطًا بين "المادة" المنقوضة و"الشكل" المختار؟ إن هذا الوسط ليس المادة "موضوع الرغبة"، الخاضعة للتجربة، والمتنوعة بالنسبة لكل، ولا الشكل الخالي تمامًا، ولا مضمون له، ولكنه مفهوم قابل للتفكير، موضوع للإدراك، معروف قَبْليًّا، ومفروض على كل الإرادات، بفضل تصور قيمته الذاتية. ألسنا بهذا نتحاشى عيوب المنهج الإمبيريقي، مع تحفظنا الكامل من أن نضيع في المنهج الشكلي؟ والحق أننا بسب نوع من الحاجة المنطقية نفرض بالضرورة على أحكامنا شكلًا عامًّا؛ كيما نجيزها من ناحية القوانين الأخلاقية، فنحن لا نوافق على أن يصبح سلوك ما ملزمًا لبعض الناس، وغير ملزم للآخرين، الذين يماثلونهم في ظروفهم، فذلك أمر يثير العقل. ولكن هذا الارتباط الضروري بين المادة والشكل لا يصح إلا في اتجاه واحد: "فكل واجب عام، ولكن العكس ليس صحيحًا"، فمن أجل تأكيد هذه العلاقة بدأ الحكم الأخلاقي بأن لاحظ في السلوك "قيمة" في ذاتها، تنزع بمنطقها الداخلي إلى أن تنتشر، وهي قيمة ذات صفة من نوع خاص، فهي من الممكن أن تفرض، وهي يسيرة بالنسبة لكل الأفراد. وأية طريقة للسلوك لا تستوفي هذا الشرط المزدوج لا يمكن أن تكون قانونًا أخلاقيًّا ... فلتكن أي شيء، إلا أن تكون واجبًا، ولكنها ليست بالضرورة جريمة؛ لأن من الممكن أن تكون عملًا اختياريًّا "مثل التبتل"، أو عملًا يستحق أعلى درجات التقدير "مثل: البطولة الخارقة لمن هو فوق

البشر"؛ ولهذا لم تكن الفضيلة الإلهية التي هي أسمى القيم الأخلاقية -قانونًا عامًّا بالنسبة إلى جميع الكائنات العاقلة. وما دام الأمر كذلك، أعني: ما دامت جميع القيم ليست لها القدرة على أن تأخذ شكل قانون عام، وما دام يتحتم علينا أن نختار من بينها القيمة التي يمكن بحسب طبيعتها ذاتها أن تتحقق فيها هذه العمومية -فأولى بنا أن نقبل عقلًا أنه ليس من الضروري حين تتخذ أية قاعدة للسلوك هذا الشكل المجرد، أن تزودنا بمقياس للخير الأخلاقي. والنظر بعين الاعتبار إلى "عمومية" قانونٍ ما, لا يعفي مطلقًا من النظر إلى "شرعيته". ولما كنا نزعم أنه حين نقدر شرعية مبدأ معين -لو أننا اكتفينا بأن نلاحظ فيه فكرة القانون المحضة، بصفة عامة، دون نظر إلى مضمونه ومدلوله الخاص- فلسوف يصبح من المستحيل علينا أن نقرر أن هذا المسلك وحده أخلاقي، دون ذاك, كما يصعب علينا تحديد مجال الفضيلة والرذيلة. لقد كان "كانت" يعترف بأن الشيء حين يمكن استعماله حسنًا من وجه، وسيئًا من وجه آخر -ليس حسنًا مطلقًا ... ألا تنطبق هذه الحالة على منهجه الشكلي؟ إن المبدأ الشكلي العام ليس سوى قالب يمكن أن نصب فيه كعكة من عجين، أو حجرًا من طين. وأعظم تناقض في النظرية الكانتية هو أنها تعتبر صفة أساسية ما ليس إلا صفة فرعية؛ ولذلك فإن "كانت" يرى أن القانون الشكلي هو الذي يتخذ أساسًا للخير، وليس الخير هو الذي يتخذ أساسًا للقانون الشكلي. هذا الموقف المعارض لموقف القرآن -كما رأينا- محدد في فكر "كانت"،

بنفس القياس الكاذب parallogisme الذي فندناه، والذي قال فيه: "إذا كان مفهوم الخير لا يتفرع عن قانون سابق، وإنما يتخذ أساسًا لهذا القانون -فلن يمكن حينئذ أن يكون سوى مجرد مفهوم لشيء مرغوب"1. ونحن نعتقد -بعكس ذلك- أن الحكم على قانون بأنه أخلاقي ليس لكونه عامًّا، ولكن تعميم القانون يصبح واجبًا؛ لأنه وضع أولًا على أساس أنه حق، إذ لماذا ننشد سلامًا عالميًّا إن لم يكن لاعتقادنا أنه يمنحنا نموًّا عظيمًا لوجود الإنسانية ذاته؟ ولنفترض بعكس ذلك أنه تقرر وجوب اختفاء الضعفاء ليفسحوا المجال للأصلح من الناس، للحياة!! إن حكمنا سوف يتغير في الحال ليصبح الصراع الشامل هو الرأي الوحيد الذي يعطيناه رجل الأخلاق. إن العمومية لا تفعل أكثر من أن تترجم في عبارات شاملة ما تحصل أولًا في شكل جوهر مفهوم، والذي يحدث هو: أن الضرورة، سواء في النظام الأخلاقي، أو في النظام المنطقي، هي السبب في وجود العمومية، ومن ثم ينبغي أن تسبق هذه الضرورةُ العموميةَ في تفكير المشرع، ومن الواضح أن الضرورة الأخلاقية تنبع من قيمة داخلية، لا من شكل خارجي. هذا الفهم المعكوس لعلاقة الفضيلة بالقانون لا يؤدي إلا إلى تغيير وضع الإرادية الإلهية volontarisme theologique، بنقلها إلى مجال ميتافيزيقي، بحيث يرى أصحاب هذا الاتجاه أن الله لا يأمر بشيء لأنه حق في ذاته، بل إن ما يأمر به الله هو حق؛ لأنه أمر به فحسب. فهناك فقط تغيير في المصطلحات، فحيث يقول رجال اللاهوت: "هذا أمر علوي من الله", يقول كانت: "هذا أمر حتمي من العقل المحض".

_ 1 kant. crit. P. 60

والفرق بينهما، مع ذلك، هو أن رجال اللاهوت يجدون في الكمال الإلهي ضمانًا واقعيًّا ضد الأوامر الظالمة، فأي ضمان نجده في هذا المفهوم التجريدي للعقل المتسامي، اللهم إلا إذا طابقنا بينه وبين العقل الإلهي؟ ولا يخطئنَّ أحد في إدراك فكرتنا، فنحن نميز في الشكلية الكانتية جوانب كثيرة، ما دامت تستخدم قانون العقل المحض في نواح متعددة، فهذا القانون مبدأ موضوعي، يحدد السلوك وموضوعاته: "الخير والشر"، وهو في الوقت ذاته مبدأ شخصي "دافع" يوجه الإرادة نحو الطاعة1. ونحن نميل بالنسبة إلى هذه النقطة الأخيرة إلى ألا نثير أية صعوبة، بل على العكس من ذلك، نحن نعترف بأن الشكل الصرف للقانون قادر قدرة كاملة على أن يؤثر في الضمير الأخلاقي. فأداء المرء للواجب؛ لأنه واجب، دون أن يبالي بالخير الأخلاقي الذي يستهدفه -هو تعريف للإرادة المخلصة بإطلاق. ولسوف نبين2 أن ذلك هو المثل الأعلى للأخلاق القرآنية؛ فالمرء لا يسأل طبيبه الذي يثق به عن أوامره؛ لأن المناقشة هنا هي الارتياب، فهل الأمر كذلك فيما يتصل -لا بالسلوك- بل بالحكم والتقدير، والأمر المفروض؟ وهل يستطيع الشكل الخارجي للقانون بعامة أن يقوم بدور مبدأ تشريع للخير والشر؟ إن القول بأن فكرة الإلزام وحدها تكفي لإعطائنا دليلًا إيجابيًّا على أفضل الطرق للسلوك -قول يدهشنا؛ فإن العقل الذي يأمر بالخضوع لقانون ما- ربما يكون متحكمًا ظالمًا، وما كان له أن يكون عقلًا، إذا لم

_ 1 kant: crit. P 79. 2 انظر فيما بعد: الفصل الرابع، فقرة 2-أ.

يفترض مقدمًا الاتفاق الكامل لهذا القانون مع المثل الأعلى للعدالة. فقد خلط -كانت- إذن، وعالج بطريقة واحدة مرحلتين مختلفتين للضمير الأخلاقي: 1- اللحظة التي ما زال التفكير يجري فيها لوضع القانون. 2- واللحظة التي ينفذ فيها القانون، الذي تم وضعه بالفعل. وفي كلمة واحدة: خلط "كانت" بين "الإلزام" و"النية"، بين علم الأخلاق la morale، وبين السلوك الأخلاقي la moralite.

المرحلة الثالثة

المرحلة الثالثة: والواجب الكلي العام!! فلنقبله، ولكن ينبغي أن نفرق بين درجات كثيرة من العمومية، فإن لها امتدادًا بقدر ما لها من مفاهيم: الواجب الأبوي، والأموي، والزوجي، والبنوي. واجبات الرياسة، والصداقة، والمواطن، والإنسان. واجب العمل، وواجب التفكير، وواجب المحبة. فهل يمكننا بصفة مشروعة أن نعطي لكل هذه التعبيرات نفس الامتداد، على جميع الأشخاص، وعلى كل الموضوعات، بحيث ننفض عنها حدودها الخاصة، ثم نمد بعضها على بعض؟ وهل من حقنا أن نقول لرئيس أن يعامل من هم أعلى منه رتبة معاملته لمرءوسيه؟ وأن نطلب إلى زوج أن يعامل كل نساء الدنيا كما يعامل زوجته، والعكس؟ إن كل واجب، إذا تعدى حدوده الخاصة -قد يتوقف عن أن يكون واجبًا، ولربما يصير جريمة. فالأمر إذن أمر عمومية نسبية، لا يمكن

لامتدادها أن يتحدد إلا تبعًا لطبيعة عناصره التكوينية، وبالقياس إلى مجموعة الظروف المناسبة. وتقسيم الواجبات وتحديدها هو العمل الجوهري لعالم الأخلاق بمعنى الكلمة، فكيف نشرع في هذا العمل؟ أيمكن أن نصل إلى النسبي ابتداء من المطلق، دون أية مساعدة خارجية؟ وكيف نحدد ألوان رسم من الرسوم، وتفاصيله التي يضعها فيه الفنان بالاعتماد على الشكل فقط؟ وكيف يتسنى لنحوي قُحٍّ، من حيث كونه كذلك أن يكون قادرًا على إعطاء المبررات للمعاني العميقة في المقال، وألوان الأسلوب؟ إننا إذا أردنا أن نحول الأخلاق إلى رياضيات، بل وأكثر من رياضيات، فربما أصبح الأمر غريبًا وغير مقبول، ويا لها من أعجوبة!! وإذا كان من المستحيل، واقعًا، أن نستنبط جميع نظريات الهندسة من مبدأ واحد، فكيف نأمل أن نحصل من ذلك على نجاح أكبر في علم السلوك؟ وإذن، ففي حالة نقص الاستنباط الدقيق؛ لأنه مستحيل في هذه الظروف، نشهد لدى "كانت" محاولة للتقريب تتفاوت في براعتها، بين الشكل والمادة؛ نوعًا من التكليف يهدف إلى تسويغ نفس قواعد الأخلاق العامة، بعد قطعها عن روابطها الدينية أو الميتافيزيقية، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى نشهد لديه بعض الآراء الشخصية عن نوع الحياة الفاضلة التي يفضلها الفيلسوف. إن ضمائر كثيرة مخلصة يمكنها أن تجتمع على الطريقة الكانتية، في رؤية المثل الأعلى الأخلاقي؛ وهو أمر لا نناقشه، ولكنا حين نختبر بعض صيغه الفرعية في علاقتها بمبدئه الأول -تبدو لنا، إما دون رباط ضروري، وإما سقيمة التوافق معه.

فأما كونها دون رباط ضروري، فتلك هي حال الصيغة التي تأمر باحترام الإنسانية في شخص الغير، كما نحترمها في أنفسنا، وذلك باعتبار الشخصية الإنسانية غاية في ذاتها. إن من الممكن أن نسأل أنفسنا: لماذا يحس العقل المحض، وهو السيد المستقل، والمطلق، بهذه الضرورة في أن يحترم شيئًا آخر دون ذاته؟ أمن المعقول أن نعتبر غاية ما لا يكونها إلا جزئيًّا، تلك الطبيعة المختلطة، المصنوعة من الشيء ومن الفكر، وهي في أصلها محسوسة أكثر منها معقولة؟ ويبدو أن هذه الملاحظة لم تغب بكاملها عن الفكر الكانتي، وربما كان هذا هو السبب في أنه قيد صيغته، حين طلب معاملة الشخصية الإنسانية على اعتبار أن مفهوم "العناية" لا يقتصر عليها وحدها، بل ينطبق "في الوقت نفسه" على غيرها، ولكن هذه الدقة في التعليل لا تلبث بكل أسف أن تضعف بمجرد أن نصل إلى تحديد الواجب العملي الذي ينبع من هذا الاحترام. وقد كان من الواجب أن يؤدي منطق هذه الثنائية في الطبيعة الإنسانية إلى تأكيد نوع من التفرقة، لا بين الشخصية والفرد فحسب، أي: بين ما آل إلينا على صورة الاشتراك، وما يُعزى إلى كل إنسان بمفرده، ولكن أيضًا بين حقوق العقل وحاجات الجسد. ولكنا نرى "كانت" يدافع مع الجميع عن حق الناس في الأمن، والواجب الصارم ألا يعتدي أحد على أجسامهم وأموالهم، كما يحرم الاسترقاق والسخرة في جميع أشكالها. وإذن، فلم نكن بحاجة إلى كل هذه الدقة في التحليل، لنصل في النهاية، إلى إلى ترديد أمور تافهة، وأعم من أن يتضمنها المبدأ الذي أعلنه. ألسنا نرى هنا أن النتيجة تتضمن أكثر مما في المقدمات؟ وإذا كان الاحترام يمكن أن يمتد إلى العنصر المحسوس في الإنسان، ويجب أن يكون كذلك، فلماذا نرفض امتداده إلى العنصر المحسوس في مجال آخر؟ ولماذا

كان من المسموح به أن نعامل الحيوانات على أنها أشياء، سواء أكنا نستأنسها أم كنا نذبحها دون تحرج؟ وهنا اعتبارات أخرى غريبة عن المنطق المحض، لا مناص من أن تدخل في تفكير المشرع، كيما تطبع نتائجه بذلك الطابع غير المتكافئ، تارة بتوسيعها، وتارة بتضييقها. وأما كون تلك الصيغ الفرعية سقيمة التوافق مع المبدأ، فذلك عندما يحظر علينا هذا المبدأ أن نسمح لأي امرئ أن يمس حقوقنا، فإما أن الكلمات قد فقدت مدلولها، وإما أن أي "حق" من حيث هو هو، لا ينشئ "واجبًا" قِبَلَ من يملكه، بل في مواجهة الغير. فإذا كان هذا فعلًا حقي فأنا حر في أن أستمسك به، أو أتنازل عنه لمن أشاء. ولنقررْ، بنوع من انفصام الذات، أنني باعتباري "فردًا" يجب أن أدافع عن حقي باعتباري "إنسانًا"، أي: باعتباري أمينًا على هذا المبدأ المقدس، مبدأ الإنسانية. لكنا إذا تعدينا واجب "العدالة" فهناك واجب "الرحمة"، ألا يتطلب هذا الواجب أيضًا أن يطبق بصورة شاملة؟ ولما كانت الرحمة تستتبع بالأحرى إغضاء وتسامحًا، فإن الأخلاق المسيحية التي تأمرنا في هذا الصدد بأن نحب حتى أعداءنا -كانت أكثر إخلاصًا لمبدأ الواجب الكلي الشامل من الأخلاق الكانتية. وهنا نشهد اعترافًا ضمنيًّا بأن العمومية لا يمكن أن تتوافق مع واجب إلا إذا قوضت عمومية واجب مناقض له. والحق أن الأمر الحتمي غير المشروط لا يمكن أن يُتَخيّل بالمعنى الدقيق للكلمة، أعني: من وجه مطلق، غير محدود، لا بالتجربة، ولا بالإدراك، إلا إذا قبلنا مبدأ الواجب الوحيد وبما أن هنالك تعددًا في الواجبات، وينبغي أن يوجد هذا التعدد، فإن هناك حالتين ممكنتين:

فإما أن الأمرين سوف يمضيان متوازيين، دون أن يضيق أحدهما بالآخر، وإما أن كلًّا منهما سوف يتجه إلى مناقضة الآخر، لا إلى محايدته فحسب. وفي الحالة الأولى، لا توجد أية صعوبة عملية، فنحن مثلًا ينبغي ألا نكذب، وألا نقتل؛ وهذان واجبان متوافقان تمامًا، ومن الممكن أن يمضيا معًا. ولا ريب أنه ليس من الضروري أن يفرضا دائمًا في وقت واحد؛ لأن أحدهما خاص "بالكلام" والآخر خاص "بالعمل" بيد أن الحدود المرسومة لكل منهما لم تفرض عليه من خارجه، بل بنصه نفسه، ومن تحليل مفهومه الخاص، وهو عمل يتناسب مع ممارسة الإدراك الإنساني، مستقلًّا عن كل عنصر تجريبي. أما في حالة التصادم بين الواجبات، فتتفجر صعوبات عظيمة الخطر، وإليك بعض الأمثلة: يجب أن نقول الحقيقة، وأن نكون مؤدبين تجاه الآخرين. فما العمل حين لا يمكن إعلان الحقيقة القاسية دون حرج؟ يجب أن أمسك عليَّ لساني. ولكن لو أني كشفت أن العون الذي وعدت به سوف يكون لمصلحة ظلم واضح؟ حرام عليّ أن أكذب، وحرام عليّ أيضًا أن أدع للهلاك نفسًا، ربما أستطيع إنقاذها. وما العمل عندما تعرض الحقيقة شخصًا آخر بريئًا للخطر؟ إن قول الحقيقة في هذه الحالة يكون على حساب حياة الغير، فهل مثل هذا العمل من أعمال الكرامة المحمودة، أم هو أنانية مذمومة؟ وإذا سمح المرء لنفسه أن يكذب لإنقاذ حياة إنسان، فهل هذا منه احتقار لذاته؟ أم هو تضحية؟ أم هبة لذاته؟

ومحاولة التوفيق بين اتجاهين باستخدام تعبير غامض ذي معنيين، أهو لحساب الفضيلة، أم هو على العكس يعرضها للخطر؟ ذلك أننا في مواجهة المعتدي سنتمسك معنويًّا بأن نجعله يقتنع بالاتجاه الخاطئ، ونكون حينئذ قد تجنبنا الكذب بحرفيته، وإن كنا قد فارقناه بمعناه. وهكذا نرى أن تعميم أمرين، ولو عقليًّا، يستتبع بالضرورة تجاوزهما للحدود، وتناقضها، وتدمير كل منهما للآخر، ومن ثَمَّ كانت الضرورة المطلقة في تضييق مجال تطبيق أحدهما، لكي يمر الآخر، ولكن أيهما؟ أمن حقنا أن نميز واحدًا منهما، أيًّا كان، على سبيل التحكم؟ وكيف نخولهما حقًّا متساويًا للمرور دون أن يسبق ذلك أن نخصهما بقيمة متساوية؟ على أنه من غير المقبول أن نضع في مستوى واحد: اللازم، والضروري، والزائد الفضلة؟ الأكثر إلحاحًا والأقل، الوجود والكمال. ومهمة عالم الأخلاق لا تنتهي بمجرد أن يضع قائمة بالواجبات، فإن عليه أيضًا أن يقر فيما بينها تدرجًا في القيم، وحتى لو افترضنا أن هذا النظام قد وضع، فلن يكون مطلقًا نظامًا نهائيًّا؛ لأنه في جوهره نسبي, ولأن ما هو لازم محتم في حالة -قد يصبح ثانويًّا في حالة أخرى، وفائضًا زائدًا في حالة ثالثة. ولذلك نجد الإنسان أمام الخطر يضحي بأثمن الطيبات من أجل إنقاذ الحياة، ثم هو يعرض الحياة للأخطار من أجل إنقاذ الشرف. وإنما تتحدد القيمة الجديرة باختيارنا عند الاتصال بالواقع الراهن؛ وليس ممكنًا وضع خط دقيق للتمييز بين الواجبات المختلفة إلا "على الطبيعة"، وهو مع ذلك خط غير ثابت، يخضع دائمًا للتعديل، بحيث إننا لو أردنا تحديد واجب في لحظة معينة، فإن الكلمة الأخيرة سوف تترك لحكم كل فرد، بل ربما تترك لما يمكن أن نسميه "بحاسته السادسة". هكذا نجد أنفسنا وقد تجاوزنا "الكانتية" بمرحلتين، وهذا التجاوز نفسه ينقلنا إلى الطرف الآخر من الطريق.

فردريك روه

"فردريك روه": على الطرف النقيض للنظرية الكانتية التي تجعل السلطة التشريعية كلها من شأن العقل الخالص -تقف نظريات أخرى تدافع عن قضية الحرية التجريبية للذات، ويتجلى هذا التناقض العجيب المثير لدى "جيو guyau" و"نيتشه nietzsche" وهما اللذان قصرا الأخلاقية على الشعور بالجمال، أو على إرادة الحياة، وعلى أساس هذا الرأي الأخير يتقرر أن القيمة الأخلاقية لا توجد مسبقًا في نظام الأشياء الأزلية، بل هي إبداع إنساني يتجاوز الإنسان به نفسه ليصبح فوق الإنسان sur homme. ولم يدفع الفيلسوف الفرنسي "فريدريك روه frederic rauh" هذه الفكرة الثورية إلى نهايتها، وهي التي ترمي إلى أن تلغي إلغاء كاملًا فكرة الإلزام، ومعها الأخلاق نفسها. وهو، وإن كان يعترف بسمو فكرة الواجب بالنسبة إلى الفرد، إلا أنه مع ذلك أراد أن يكون كل فرد هو صاحب مبادئه وأحكامه الخاصة، ومبدعها1. ويمكن أن نقول, دون أن نخشى إغرابًا: إنه على الرغم من المسافة التي تفصل ما بين هذه الفكرة، وفكرة "كانت" -فإنها تلتقي معها وتتوافق في بعض المقاييس؛ ذلك أن كلًّا منهما لا تبقي من فكرة الواجب إلا معناه العام، الذي لا يتضمن أي اتجاه خاص. بيد أن اختلاف الرأيين يبدأ بعد هذا التوافق في نقطة الانطلاق؛ فعلى حين يحلق الفيلسوف الألماني في سماء

_ 1 سبق للفيلسوف الألماني فيخت fichte -أن جعل "الضرورة" التي تواجه كل فرد بأن يعمل طبقًا لاقتناعه, "قاعدة" أساسية للأخلاق، و"حجته": أن الضمير لا يمكن أن يخطئ مطلقًا. ولكن يبدو أن هذا المصطلح لم يكن له في فكر تلميذه "كانت" -هذا- نفس الصراحة التي له في فكر "روه".

المنطق، ولا يهبط نحو المحسوس إلا على مراحل، ومع كثير من التحفظ -نجد أن مؤلف "التجربة الأخلاقية"1 يسرع فجأة على الصعيد النفسي. وقد رأينا، كيف حاول "كانت" -انطلاقًا من الفكرة القائلة بأن جوهر العمل الخير أنه حق بالنسبة إلى جمع الإرادات- أن يولد من هذا المبدأ بعض الصيغ الأقل تجريدًا، ثم من هذه بعض القواعد الأكثر مادية. وأخيرًا، فإنه بمجرد أن كشف عن هذه الصيغ ثبتها إلى الأبد في أطرها الصارمة الثابتة، وأغلق بعضها على بعض، كأنها أعداد ليبنزية2. فمشكلة صراع الواجبات لم تواجهه إذن؛ لأن كل شيء مرّ تحت نظره، كأنه محكوم بصيغة معينة واحدة. ولقد كان "روه" على حق حين أعلن عجز جميع القواعد المجردة عن أن تحكم بنفسها واقعًا ماديًّا، وكما أن من المستحيل أن نحدد نقطة خريطة، دون الرجوع إلى نقط أخرى كثيرة، أو أن نفسر كلمة في نص، دون أن نرعى السياق، أو أن يملك فن العلاج ضمان فاعلية دواء معين، دون أن يلاحظ مزاج المريض، وسائر اتجاهات مرضه -فكذلك رجل الأخلاق، لا يستطيع أن يغفل في السلوك الإنساني عاملي المكان والزمان؛ لأن السلوك في جوهره مكاني - زماني. وسلوكنا خلق واقعي يتجه إلى الاندماج في عالم الواقع، فليس يكفي

_ 1 l'experience morale 2 نسبة إلى الفيلسوف الألماني جوتفريد ليبنز gottfrid leibniz -المولود في ليبزج "1646-1716"، وهو أحد الذين نادوا بالفلسفة المثالية، ويرى أن جميع الكائنات قد نشأت على أساس أعداد يوجد فيما بينها توافق سبق إقراره، وقد انتهى إلى فلسفة تفاؤلية. "المعرب".

إذن أن يكون ممكنًا من الناحية المنطقية، بل يجب أيضًا أن يكون قابلًا للتحقق من الناحية العملية، وأن يجد مكانه وسط الوقائع التي تحوطه، بحيث لا يكون ممنوعًا بواسطة الأحداث التي تسبقه، ولا مدفوعًا بالأحداث التي تلحقه. فلا مناص إذن، قبل أن نتخذ قرارًا معينًا، من أن نحيط علمًا بالواقع الموضوعي، لا في مجرى نموه الراهن فحسب، بل في تاريخه، وفي مصيره. وليس هذا هو كل شيء، بل يجب أن نلاحظ في الوقت نفسه تنوع العوامل النفسانية التي تحدد رد الفعل لدينا على الطبيعة؛ فإذا ضربنا هاتين المجموعتين من العوامل، إحداهما في الأخرى، فإن النتيجة التي نحصل عليها في كل حالة هي دائمًا ثمرة أصيلة. فإذا أضفنا أن الزمن لا يمكن أن يعيد نفسه وصلنا إلى نتيجة قاطعة هي: أن التاريخ لا يمكن أن تتماثل فيه لحظتان أبدًا. وهكذا تبرز في وضوح "الصفة النسبية" للحياة الأخلاقية. على أن فيلسوفنا الذي عرف كيف يتفادى الخطأ الكانتي -لم يستطع أن يعصم نفسه من الوقوع في نقص معاكس، فقد مضى تبعًا لمنهجه في تعليم الأخلاق، وكأنما كانت فكرة عدم التماثل بين لحظتين من لحظات الحياة -تستبعد في نفس الوقت تشابههما، ولا تسمح بأن يكون بينهما أي مقياس مشترك، وكأنما لا يوجد إلى جوار العنصر الفردي أي مكان يتسع لعنصر جنسي أعم وأشمل، وكأنما لا تترك الأشياء التي تمر أثرًا لها، يبقى من بعدها. وبناء على ذلك: يدعونا فيلسوفنا إلى أن نركز انتباهنا على العنصر الوقتي، ويحثنا كذلك بصراحة على أن نتحرر من المبادئ والمثل، ويرى: أنه يجب ألا نكف عن إخضاعها للتجربة والاختبار، بدلًا من أن نخضع لها1

_ 1 انظر: la senne, traite de morale, p. 635- 6.

ولا تقتصر النتيجة حينئذ على إعطاء كل امرئ الحق في أن يشرع لنفسه واجباته، وفق ما يلائم طبعه، واستعداداته، ومطامحه فحسب، بل إن لنفس الشخص أن يضع مبادئه وأحكامه، بصورة مستمرة، تحت الفحص، وأن يهدم في كل لحظة ما بناه في لحظة سابقة. ألسنا نلقي بأنفسنا في غمار الهوى والاعتساف حين نسلمها على هذا النحو لحياة مضاعفة من الفوضى؟ على أن هذه ليست أهم نقطة، بل إن من الواجب أن نسأل أنفسنا عن مبدأ التجربة نفسه، كقوة قادرة على هداية الضمير؟ إن التجربة تعتمد على "الأحداث" ولكن الضمير "يتغذى من القيم"، فبأية عملية سحرية يمكن تحويل جانب إلى آخر؟ ولا بد أن يعرف "روه": أن الحكم "القيمي" لا يمكن أن يخرج من مجرد الحكم "الواقعي"، في أية صورة تمثل هذا الواقع، موضوعيًّا كان أو شخصيًّا، بسيطًا أو مركبًا، ماضيًا، أو حاضرًا، أو مستقبلًا. ففيما يتعلق بالماضي والحاضر -تتلخص كل ثمرة بحثنا التجريبي في هذه الملاحظة البسيطة التي تقرر: أن أي عمل قد صحبه أو لحقه دائمًا أثر معين، فنحن نسجله، ونحيط به علمًا، لا أكثر. ولا شك أننا حين نحكم بأن أثرًا من الآثار حسن أو سيء، فنحن نميل إلى ذلك الحكم، بل ويدعونا إليه العمل الذي هو سبب فيه. ولكن، ما الذي يدفعنا في الواقع إلى أن نحكم على الأثر هكذا؟ إن تجربتنا لو أمكنها أن تنتهي إلى حكم تقديري كهذا، وهي "تنصب" فيه، فإنها ليست على أية حال "منبعه"، بل هي مجرد مناسبة له. فنحن لا نستطيع مطلقًا أن نستنتج من حدوث ظاهرة ما -أن هذا الحدوث في حد ذاته يرضينا أو يغضبنا.

ولنعترف بأن هناك رباطًا طبيعيًّا بين هذين الحكمين، ولكن هذا لا يمنع من أن نحدث هنا تفرقة هامة: فإن حكمنا التقديري نفسه هو واقع ملحوظ، حدث نفساني ينبع من التجربة بما أنه يقع تحت ملاحظتنا الباطنة، ولكن ما ينصب عليه هذا الحكم هو "قيمة" تستعصي بموجب تحديدها على كل تجربة، وتتجاوزها لانهائيًّا. فالتجربة لا تفعل -إن صح هذا التعبير- أكثر من امتياح بئر "القيمة" نقطة بعد نقطة، مع هذا الشعور الغريب بملامحها الخاصة، وبأنها معين لا ينضب. والقيمة ذات طابع مطلق، فهي ليست مسجلة في الزمان، مع أن عنصر الزمان يمكن أن يوحي بها، فلا يصح إذن أن نلجأ في حل لغزها إلى ما هو وقتي. ولسوف يتضاءل دور التجربة أيضًا فيما يختص بالمستقبل، الذي هو المجال الوحيد للعمل الأخلاقي, "فهذا العمل ليس من باب ما هو كائن، بل من باب ما ينبغي أن يكون، ومن المستحيل -من ناحية أخرى- أن نقرر عمل بعض الأشياء في الماضي، أو في نفس اللحظة التي يتم فيها اتخاذ القرار". فمما لا حاجة إلى ذكره ابتداء: أن التجربة بمعناها الصرف ليست هي التي تبيح لي أن أستخلص أن الأشياء إذا ما كانت قد حدثت حتى الآن بطريقة أو بأخرى -سوف تحدث غدًا، ودائمًا بنفس الطريقة. فهذا الاستقراء يجد أساسه المنطقي في اعتقادنا بثبات الطبيعة، والأمر كذلك بالنسبة إلى قانون الأعداد الكبيرة، الذي يجب أن يفترض عدم تدخل الأسباب الجديدة، القادرة على خلخلة المعدل المتوسط لحسابنا. وأخيرًا، فما الذي أحصل عليه من كل رصيدي التجريبي، وما يواكبه

من مسلمات؟ إنني أعلم الإمكان "أو الاستحالة العملية" لتحقيق مشروع معين، أو درجة احتمال ناجحة، ولكن من ذا الذي يخبرني: إن كان ما أشرع فيه خيرًا جديرًا بأن أسعى إليه؟ وإذا كانت أمامي ممكنات كثيرة فما الذي يجعلني أقرر تنفيذ أحدها، وربما كان أقلها صلاحية بطبيعته؟ إن من الواضح أن ما نؤثر به بعض الاتجاهات من تفضيل في نشاطنا، واستبعاد لبعضها -ينبع من مثل أعلى، لا من واقع. وعليه، فإذا لم يكن هذا المثل الأعلى سوى ظهور لذاتنا التجريبية المتقلبة، وإذا لم يكن سوى عطاء لشعورنا الحقيقي أو الافتراضي، فإنه يصبح -هو أيضًا- عطاء عابرًا، وظاهرة مؤقتة. فبأي حق يزعم إذن أنه يحكم عملًا مستقلًّا، على حين أنه قد يكون موجودًا في اللحظة التي سيبدأ فيها العمل؟ وإنما هي إحدى اثنتين: إما أن إرادتنا تستطيع أن تكتفي بمثل أعلى يتلاءم مع العمل، أي: يولد ويموت معه، وتلك هي إرادة العجزة والمجانين. وإما أن تمضي إرادتنا -على العكس- تلتمس في المثل الأعلى صفاته التي تفرضه عليها، سواء بالنسبة إلى المستقبل البعيد أو القريب، أعني: أنها تذهب لتطلب منه بعض الثبات، قبل أن تمنحه الحق في أن يحكمها. بيد أننا حينئذ لن نكون في مجال الذات التجريبية، والتجربة المحضة إذ إن "المثل الأعلى الثابت" هو التعريف نفسه "للقانون الأخلاقي"، ولما لم يكن قانون معين ثمرة لتجربة مطلقًا، بل موضوعًا للبرهنة أو الإيمان، وكانت "التجربة" هي مرجع "الأخلاق" ... أليس هذا تناقضًا في المصطلحات؟!

خاتمة

خاتمة: وضح لنا إذن وضوحًا كاملًا أن كلتا النظريتين لا تظهر من الحقيقة الأخلاقية سوى جانب واحد، وفضلًا عن ذلك يكمن نقصهما المشترك في تعصبهما، وترافضهما، أكثر مما يكمن في جانبهما الإيجابي. وهكذا حدث للفلسفة العملية ما حدث لنظرية المعرفة، فالمثالية، والواقعية، والعقلية التجريبية، وجماعات أخرى فلسفية كثيرة، لم يكن تعارضها إلا لأن كلًّا منها يركز من جانبه على شرط ضروري للمعرفة الإنسانية، معتبرًا أنه هو الشرط الكافي، والسبب الكلي، على حين أنه ليس سوى عنصر واحد بين عناصر أخرى كثيرة. والواقع أنه، لا المفهوم المنطقي، ولا القانون العلمي، ولا مجموع المفاهيم والقوانين المعروفة -بقادرة مطلقًا على أن تؤلف، وتستنفد الموضوع المحسوس، الذي هو نقطة التقائها، ولكنه يتجاوزها بلا حدود، هذا من ناحية. بيد أنه من ناحية أخرى يظل كل موضوع واقعي أجنبيًّا تمامًا، وغير قابل للتمثل، ما لم يوضع في أشكال عقلنا وقوانينه. وبعبارة أخرى: إذا كانت المبادئ الأولى، والقوانين العامة تعفينا

مطلقًا من أن نطابقها مع الواقع، وإذا كان هذا الواقع لا يحتوي شيئًا زائدًا، ولا يقدم لنا جانبًا جديدًا -فإن العالم سوف يبلغ مرحلة المتماثل المبهم، سوف يكون بلا حياة، بلا تاريخ، بلا أبعاد. ولكن في مقابل ذلك، إذا لم يكن هنالك من حقيقة مكتسبة، ولا قانون ثابت، فإن العقل سوف يتوقف عن أن يكون عقلًا، سوف يفقد وحدته البنائية، سوف يئول إلى هباء، ولن تكون له أدنى سيطرة على الطبيعة. وفي مقابل ذلك، من وجهة نظر عملية -لو كان يجب على العالم أن يستأنف دائمًا من البداية، فلن يكون التقدم ممكنًا، ولن يتم مطلقًا بناء صرح الحقيقة. وإنما هو لقاء الفكرة بالموضوع، لقاء الشكل بالمادة، لقاء الفرض بالتجربة؛ لكي تنفجر شرارة المعرفة الحقة. وذلكم هو شأن الأخلاقية ... فلا الصيغة المجردة لقاعدة عامة، ولا التحليل الدقيق للحالة الخاصة -معزولًا كلاهما عن الآخر- يكفي لهداية إرادتنا، وإنما هو كما قررنا منذ قليل -تركيب "المثل" الشامل، القادم من "أعلى" مع الواقع الراهن، الذي ليس سوى إيضاح وبيان، حتى يوجد الدليل الممتاز لضميرنا. فبين المثل الأعلى والواقع، بين المطلق والنسبي، يوجد الضمير الإنساني علامة توحيد، يجب أن يستمر في التقريب بين هذين الطرفين، بأن يؤكد رابطة ما بينهما في صورة العمل الذي يولد من اقترانهما السعيد، ويرتدي هذه الصفة المزدوجة التي يمثلها في وقت واحد: ثبات القانون الأزلي، وجدّة الإبداع الفني. أليس هذا هو نفس إدراك "التكليف" الذي يستخلص من المفاهيم القرآنية؟ ولنستمع إلى القرآن وهو يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} 1،

_ 1 التغابن 16.

ألا نرى فيه من أول وهلة الخط الفاصل الذي يميز هذه الصيغة من الأخريات؟؟ ليست هذه هي الصيغة: "افعلوا ما يبدو لكم حسنًا" تبعًا لإلهام اللحظة. وليست هذه أيضًا صيغة الواجب الصارم على سبيل القهر، دون استثناء أو تعديل. ليست هذه أو تلك، ومع ذلك فهي تتفق معهما في امتدادها العميق. بهذه الكلمات الجامعة البينة يلفت القرآن أنظارنا نحو السماء، وهو يثبتنا على أسس متينة من الواقع، وهكذا نجد طرفي السلسلة وقد اجتمعا: صعود نحو المثل الأعلى، وإنقاذ للفطرة؛ خضوع للقانون، وحرية للذات. ولكن، هل ترون أن هذا ممكن؟! ألا يجوز أن يتنافر هذان الطرفان المتعارضان؟ أم لا لا يجوز لكل فرد، منذ اللحظة التي يصرح له فيها بتحديد واجبه بالنسبة إلى حالته الخاصة -أن يتجاوب مع نوازعه الطارئة، ويطرح بهذا سلطة الأمر؟ هذا ما لا يحدث أبدًا؛ لأن الضمير الذي يخاطبه القرآن ليس ذلك الضمير الفارغ؛ غير المهذب، المتروك دون مرشد غير حالته البدائية، على ما عليه إنسان الطبيعة لدى "روسو". وليس هو أيضًا ضمير ذات مختلقة، كالذات الخالصة moi transcendantal لدى "كانت". إنه ضمير يجمع شرطين لم يجتمعا خارجه قط، فهو أولًا مستنير، بفضل تعليم إيجابي، حددت فيه الواجبات ورتبت بدرجة كافية. وهو فضلًا عن ذلك قائم في مواجهة واقع حي، ومراعى إلى أقصى حد. وباختصار: ذلكم هو ضمير المؤمن، ومن خصائص ضمير كهذا أن يكون لديه، وهو حاضر في ذاته، ومهيأ للتناصح، شخصية مشرعه، فما كان له إذن أن يستسلم لاعتبارات يعلم أنها غير مشروعة في نظر واضع الشرع, بَلْه أن يخون نفسه.

وإليك مثالًا على هذا، فالله سبحانه يقول لي "ما معناه": افعل هذا إلا المحرم، ولا تفعل هذا، إلا إذا كنت مكرهًا بضرورة، ثم إنه يحصنني ضد الدوافع الخفية التي يمكن أن تحملني على مخالفة الأمر، تحت ستار ضرورة زائفة: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1. فهل أستطيع في هذه الظروف أن أبرئ نفسي، وأنا أعتبر مخالفة بسيطة كأنها محرم؟ أم حين أرى التخويف الهين من باب الإكراه، على حين أعلم يقينًا أن هذا ليس ما أراده الله سبحانه بهذه الكلمات؟ ولا ريب أن الله عز وجل لم يجبني دائمًا بصراحة في الحالات المشتبهة، وهو لا يوحي إلينا أيضًا، فأمامنا جميعًا نفس الحل، إيجابًا وسلبًا، ولدي دائمًا فرص لأرتكب خطأ في التفسير، أو في التحديد. وهذه الاحتمالية نتيجة طبيعية لظرفي الإنساني، وللحرية التي أتاحها لي في هذا الظرف نفسه. والأمر الجوهري بالنسبة لي، كمؤمن، هو أن أبذل جهدي في حال الالتباس، وأن أميز، وأتبع، بأمانة وإخلاص، ما يمكن أن يكون من أمر الله، تبعًا لمجموع تعاليمه. ولو كان الحل الذي اجتهدت فيه واخترته منحرفًا، فلن أكون آثمًا، متى ما بذلت جهدي الضروري، الذي يصدر عني، لإضاءة طريقي، والله يقول: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} 2. فأما أن كل فرد، في الحالات المشتبهة، ملزم بأن يرجع إلى ضميره،

_ 1 المائدة: 3. 2 الأحزاب: 5.

ويلتزم بإجابته بطريقة معينة، فذلك هو ما قاله لنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- مستوحيًا القرآن1، في كلمات معروفة، منها: "الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه" 2. "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة" 3. وحين يسأل النبي عن معنى الخير والشر يجيب: "استفت قلبك، واستفت نفسك، البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك" 4. ولكن، قد يثور اعتراض، إذا ما نظم الشرع -فيما عدا هذه الحالات المشتبهة النادرة نسبيًّا- كل شيء، وهو اعتراض يقول بأن الضمير الفردي لا يقوم بأي دور في تقرير الواجب. ونجيب على هذا: بأن الاعتراض سوف يكون محقًّا، إذا كانت القاعدة قادرة دائمًا على تعيين جميع الأفراد الذين تحكمهم -أولًا-، وعلى التنبؤ بعد ذلك لكل فرد بجميع الحالات التي يتعين عليه حلها، ثم تقدم له أخيرًا في كل حالة، صورة محسوسة لحكمها الإجماعي، متفقًا مع القواعد الأخرى. وبعبارة أخرى، سوف يكون الاعتراض محقًّا لو لم توجد سوى طريقة واحدة لإدراك القاعدة، وطريقة واحدة لتطبيقها، والتوفيق بينها وبين القواعد الأخرى. ولكن الواقع لا يتفق مطلقًا مع هذه النظرة من نواحيها الثلاثة.

_ 1 في قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ، الإسراء: 36. 2 البخاري, كتاب الإيمان, باب 39. 3 البخاري, كتاب البيوع, باب 3. 4 انظر: مسند أحمد من طريق وابصة، وكذلك صحيح مسلم, كتاب البر, باب 5.

ولو افترضنا أن النقطة الأولى قد حلّت فلسوف نعرف ببساطة أن أكثر القواعد التي قد نصوغها تحديدًا، تشتمل بالضرورة على بعض الجوانب غير المحددة، ومن ثم فبين غير المحدد والمحدد يوجد كل التأثير الممكن، لا بالنسبة إلى الاختيار الحر لضمير نفسي فحسب، وإنما أيضًا بالنسبة إلى التقدير الذكي للضمير الأخلاقي. ذلك أن الخصائص المميزة للعمل الفرد لا يمكن تجاهلها كلها، كما لا يمكن تقديرها كلها، وهي كذلك تحمل في أغلب الأحيان هذه الصفة المزدوجة, سواء أكان ذلك على التوالي, بحسب الحالات, أم في الآن نفسه بحسب الرأي الذي نأخذ به. وإذن فلا بد من جهد فردي، وبصيرة خاصة لتقديرها بقيمتها الحقيقية، وليختار منها ما يفرض منطقه أكثر. هذا اللجوء إلى الجهد الفردي لتحديد واجب الفرد في علاقته بالواقع الموضوعي، هو واجب شامل يقع على عاتق الإنسان صاحب الدنيا، وصاحب الدين، وذلك بصرف النظر عن إيجاد امتياز مقصور على المتخصصين القادرين على التشريع. فهناك ضرورة تواجه كل فرد متى ما أريد الانتقال من المفهوم الأخلاقي إلى العمل الأخلاقي. وكما أن القاضي يجب عليه أن يمحص كل حالة؛ ليتحقق جيدًا من أنها فعلًا الحالة المنصوص عليها في صيغة هذا القانون، أو ذاك الحكم فإن كلًّا منّا ملزم بأن يفتي لنفسه، إذا ما كان الوجه الذي يزمع تحقيقه موافقًا فعلًا لشرائط القاعدة1. ولنأخذ على ذلك مثلًا، القاعدة الأخلاقية التي تأمرنا بأن نرعى حاجات اليتامى، فهذه القاعدة لا تشير بالنسبة إلى كل ظرف -إلى وزنه، ودرجته، ونوعه، وصفته الكافية، والمناسبة. وكذلك نجد أن القاعدة التعبدية التي تأمر المؤمن بأن يتوجه إلى وجهة

_ 1 انظر: المستصفى للغزالي، جـ2 ص230-231، والشاطبي في الموافقات جـ4 ص89-105.

معينة في أثناء صلاته، لم تعن بأن ترسم له في كل موقع سهمًا يعدل من اتجاهه تبعًا له. والقاعدة القانونية التي تطلب إلى القاضي ألا يقبل من الشهود سوى الأشخاص العدول، ذوي المروءة، فهي لا تلقنه عدالة رجل معين أو نزاهته. هذا البعد عن التحديد الصارم، وهذا الصمت الملازم لكل قاعدة وهذه المسافة الممتدة بين المفهوم والواقع، ذلك كله أبلغ دعوة موجهة إلى ضميرنا؛ ليستمر العمل التشريعي الذي بدأته القاعدة، وعلينا أن نتابع هذا العمل إلى أن يزول كل غموض، وبحيث يستطيع كل فرد أن يقول لنفسه: واجبي هنا فعلًا، وفي هذا العمل الفرد، لا غير. فهناك إذن، حيث تنتهي المهمة المحددة للقاعدة، وينتهي معها إكراه سلطتها -يبدأ نشاط الفرد في ممارسة حريته. ونستطيع أن نمضي إلى أبعد من ذلك، حين نواجه القاعدة من جهة تحديدها، إذ ينبغي أن نعلم أن قاعدة ما -لم توضع مطلقًا لتقييد حريتنا، بل لتنميتها بطريقة معينة. وفائدة القاعدة المقررة أنها أولًا توفر ترددنا، وتقلل بذلك من فرص أخطائنا، بدلًا من أن يترك تفكيرنا موزعًا في كل الاتجاهات الممكنة، بحثًا عن أحكام صائبة. ثم إنها حين تحصر مجال ناشطنا لا تعني إلا تقوية هذا النشاط وزيادة فاعليته، شأن تيار الماء، يحفر له مجراه، وتدعم ضفتاه. فما سوف تفقده حريتنا في الامتداد، سوف تكسبه في العمق، في بحثها عن أفضل الطرق لأداء الواجب. ومن ناحية أخرى لا يمكن القول: أن هناك واجبًا واحدًا فحسب. فهناك فوق تركب ظروف الحياة، وتغيرها الدائم -كثرة الأوامر الأخلاقية وتداخلها، ومن تقابل هاتين المجموعتين ينفتح أمام حريتنا أرحب المجالات امتدادًا، ولكي نقتنع بذلك نسمح لأنفسنا باستعارة مثال من قواعد اللعب. فمن المعلوم في لعبة الشطرنج مثلًا أن سير كل قطعة أمر بسيط، وهو يتبع قاعدة محددة على وجه الدقة. ومع ذلك هل يمكن القول بأن دقة القاعدة

تجمد حرية اللاعب؟ ... الواقع المعلوم -على العكس- هو أن كل لاعب شطرنج يمكنه أن يمارس تفريع عملياته إلى ما لا نهاية له، حتى إن ترتيب اللعب في دورين لم يحدث أن تماثل مطلقًا. بيد أن أكثر الملاحظات أهمية في هذه المقارنة هي أن أصالة كل لاعب لا تكمن في طريقة تطبيقه للقاعدة وطريقة تحريكه لكل قطعة، بقدر ما تكمن في طريقته التي يوجه بها الضربات، وينسق بين الحركات، ويجمع القوى المختلفة. هنا تتجلى عبقرية اللاعب، في حدسه الذي يكشف به من خلال هذا التيه -أقصر الطرق وآمنها لبلوغ النتيجة. مثل هذا يحدث في النظام الأخلاقي: فإن من بين المهام التي يتعين علي أداؤها ما يفرض نفسه علي كل يوم، ومنها ما هو دوري، أو ظرفي, ومنها أخيرًا ما لن تسنح فرصته سوى مرة واحدة في الحياة. وكل من جسمي، وعقلي، وأسرتي، ووطني، وسائر أعبائي، يطلب نشاطًا محددًا بوساطة قاعدة. ومع ذلك، فحين أستيقظ في الصباح أستطيع بطرق شتى أن أقر جدول أعمالي، وأسطر القائمة التي سوف أتبعها في تنفيذها، ويمكنني في فترة معينة من الزمن أداء عدد من الأعمال الحسنة، فأضيف من الكمال لبعضها مالا أضيفه للأخرى، وأقدم عملًا وأؤخر غيره -بقدر الإمكان، وأكتفي بأشكال عادية من الإحسان، أو أبلغ الجهد في خلق شكل جديد، ذي قيمة أكبر. بل لقد يبلغ الأمر إلى حد أن مجرد إشارة أو لفتة واحدة يجب أن تعتبر تركيبًا ينطوي على كثير أو قليل من الحذق في التوليف بين مجموعة من الواجبات. وهكذا يستطيع كل فرد أن يؤلف بكل حرية صفحة أصيلة من حياته الأخلاقية، وإن كان يحترم القواعد العامة لهذا الفن الإنساني. وكيف نطالب بقدر أكبر من الحرية، تستهدف تفجير هذه الأطر، دون أن ننحدر إلى الفساد أو إلى الجنون؟ إن ذلك هو ما يجب أن تجنبنا إياه كل حكمة

تشريعية، جديرة باسمها، حين ترسم لنا الخطوط العريضة لسلوكنا. أما ما لا يجب أن تفعله، مخافة أن تنتهك حقنا الطبيعي، وتردنا إلى الخضوع الذليل والآلي -فهو أن تقحم نفسها في تفصيل أعمالنا، التي نأتيها بفطرتنا، كل على هواه. فالجانب الذي يخصنا من تشريع تكاليفنا هو -منذئذ- محدد تمامًا. نحن لا نوجد قواعد الشريعة، وإنما نتناولها جاهزة، صراحة، أو ضمنًا، من يدي مشرعنا. أما تحديد واجباتنا المادية فنحن نقوم به ابتداء من هذه المثل العليا، بقدر وسعنا. ذلكم هو الوضع المعقول والميسر الذي يتخذه، كما نرى، التكليف الأخلاقي في القرآن. فهو يضع الإنسان في مكانه الصحيح، وفي الظروف التي تناسبه على وجه التحديد، ما بين الفطرة والعقل المحض. وحين كان برجسون يعتقد أنه كشف نوعين للأخلاق, أحدهما: ذو طابع إلزامي، والآخر: ذو طابع إبداعي، فإنه لم يزد على أن أحدث فصلًا مصطنعًا بين عنصرين لا ينفصمان لحقيقة واحدة في كلتا الحالين. إن الأخلاقية الحقة ليست خضوعًا محضًا، ولا ابتكارًا مطلقًا، هي هذا وذاك في وقت واحد. والموقف ليس موقف عبد مسترق، ولا موقف سيد مطلق، بل هو موقف مواطن يشارك بقدر معين في السلطة التشريعية بالاختيار، والمبادرة التي يملكها. فمن ذا الذي يستطيع أن يضيف إلى ذلك، أو يقتطع منه شيئًا دون أن يخطئ بالزيادة أو بالنقص؟ إننا حتى الآن قد أرسينا بين المشرع والإنسان العامل نوعًا من التعاقد، يقدم كل منهما بموجبه جزءًا من تحديد الواجب الحسي، واشتراك الفرد في السلطة التشريعية يتمثل إذن على أنه نوع من التعاون، أساسه تقسيم العمل،

وهو تعاون يتكامل فيه الجانبان دون أن يتداخلا، وبحيث يبقى الشريكان مستقلين، أحدهما عن الآخر، فلا يلتقيان إلا في منتصف الطريق. وهناك في الواقع ما هو أكثر وأفضل، فحين نلتحم بالقانون المقدس يتمثله ضميرنا، ويحميه، ويجعله نفسه، حتى كأنما كان يسهم في خلق الحقائق الأزلية، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، إننا بتركيبنا لمختلف القواعد المقررة، وضبطها على موقفنا -لا نفعل ذلك في غيبة المولى، بل تحت سلطانه، ورعايته، ورقابته. فنحن نستلهمه دائمًا، كما لو كان يواصل في أعماقنا دوره كمشرع، حتى في أدق التفاصيل. وبذلك نستطيع القول بأنه ليس بين العامل وواضع الشرع "مشاركة" فقط، بل اتحاد، أو قل: هو "اندماج" بين إرادتين. فأية فلسفة من الفسلفات الأرضية، استطاعت أن تحدث هذه المصالحة الوثيقة بين مطالب متعارضة على وجه الإطلاق؟ إنه لن يفي بهذه المهمة -في رأينا- سوى الأخلاق الدينية، وهو ما نهضت به بحق الأخلاق القرآنية، على وجه الكمال.

الفصل الثاني: المسئولية

الفصل الثاني: المسئولية مدخل ... الفصل الثاني: المسئولية يرتبط بفكرة الإلزام، ناتجان يستلزم أحدهما الآخر بدوره، ويؤيده، ويدعمه، هما: فكرة المسئولية، وفكرة الجزاء. والواقع أن هذه الأفكار الثلاثة يأخذ بعضها بحجز بعض، ولا تقبل الانفصام، فإذا ما وجدت الأولى تتابعت الأخريان على إثرها؛ وإذا اختفت، ذهبتا على الفور في أعقابها. فالإلزام بلا مسئولية يعني القول بوجود إلزام بلا فرد ملزم، وليس بأقل استحالة من ذلك أن نفترض كائنًا ملزمًا ومسئولًا، بدون أن تجد هذه الصفات ترجمتها وتحققها في "جزاء" مناسب، فإن معنى ذلك تعرية الكلمات من معانيها. والمسئولية المتولدة عن الإلزام، هي نفسها نوع خاص من الإلزام. وإذا عمدنا إلى الجانب الاشتقاقي وجدنا أن عبارة "كونه مسئولًا etre responsable" تعني: "كون الفرد مكلفًا بأن يقوم ببعض الأشياء، وبأن يقدم عنها حسابًا إلى زيد من الناس". ولا ريب أننا نتكلم عن المسئولية بالمعنى الحقيقي، الذي قد يتفاوت في قوته، وقد يحدث أن يستخدم هذا الاصطلاح بتوسيع دلالته أو إضعافها.

ليدل على مجرد تبني العمل. ولو لم يوجد إلزام، ولا إمكانية سؤال أو إجابة فمنذ كان الخالق وحده في هذا العالم، "إلهًا متفردًا"، يتصرف فيه متحكمًا، فإنه بهذا الاعتبار هو الصانع المسئول عن أعماله، بأكمل معاني الكلمة، سبحانه وتعالى. فلنقتصر إذن على مفهوم المسئولية الإنسانية، التي إن لم تفترض سلفًا فكرة إلزام صارم، فعلى الأقل: الفكرة المعادلة لمثل أعلى، اصطلح عليه مقدمًا، بحيث يرى الإنسان أنه مسئول عنه أمام نفسه. وفي الدراسة التالية، سوف نبحث أولًا الصفات العامة التي تنبع من تحليل هذه الفكرة، ثم شروطها من الوجهة المزدوجة: الأخلاقية، والدينية، وأخيرًا جانبها الاجتماعي.

تحليل الفكرة العامة للمسئولية

1- تحليل الفكرة العامة للمسئولية: ينتج عن التحديد الاشتقاقي الذي رأيناه -أن هذه الفكرة تشتمل على علاقة مزدوجة من ناحية الفرد المسئول: علاقته بأعماله، وعلاقته بمن يحكمون على هذه الأعمال. فأما من ناحية العمل، فإن مصطلح "المسئولية"، بعكس ما كان يعتقد، لا يدل ابتداء على علاقة واقع، بل على علاقة حق يقره، ويجب أن يسبقه في أحكامنا الخاصة. والمسئولية قبل كل شيء استعداد فطري، إنها هذه المقدرة على أن يلزم المرء نفسه أولًا، والقدرة على أن يفي بعد ذلك بالتزامه بوساطة جهوده الخاصة. فإذا أخذت المسئولية بهذا المعنى الرحب، والأَوْلى -فلن تكون سوى سمة من السمات المميزة التي يأخذها الإنسان من جوهره ذاته. ولو أننا تتبعنا الأشياء في مجراها العادي "بما في ذلك الإنسان الفيزيقي

والنفسي" لوجدناها في الواقع تؤدي دورها الذي عينه لها قانون الطبيعة، بطريقة قدرية، وعلى نسق واحد. فليس هنالك أدنى تدخل ممكن لمبادرتها الخاصة، لا من أجل صيانة النظام الثابت، ولا من أجل تغييره، أو تعديله في أي صورة ما كان، وإذن فلا مسئولية مطلقًا. أما في النظام الأخلاقي فالأمر بالعكس، حيث يواجه الفاعل إمكانات متعددة، يستطيع أن يختار من بينها واحدة، توافق هواه، سواء احترم القاعدة، أو اخترمها. "فالإمكان" و"الضرورة" هما الصفتان اللتان تكونان مجالي المسئولية وعدم المسئولية، كل على حدة، والجانب الأول هو الذي رصد له الإنسان استعداده. هذا التباين الذي يضع الكائن العاقل ضد الكائنات غير المزودة بالعقل، من حيث مقدرتها الأخلاقية -يبدو لنا أن القرآن قد أبرزه في هذه الجملة الإلهية القصيرة: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهولًا} 1 "لأنه قد انتهكها"2.

_ 1 الأحزاب: 72. 2 هذا أحد الوجوه التي ردّ إليها أكثر المفسرين معنى النص، ولكن الفعل "حمل" مستعمل هنا استعمالًا مزدوجًا في القرآن، فهو أحيانًا يعني تحمل التكليف في مثل قوله: {عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} [النور: 54] , وقوله: {حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ} [الجمعة: 5] , وهو أحيانًا بمعنى "تحميل الخطأ" في قوله تعالى: {يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا} [طه: 100] , وقوله: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه: 111] . واستنادًا إلى هذا المعنى المزدوج للفظ، حمله بعض المفسرين على معناه الثاني، وهاك معنى النص تبعًا لما ذهبوا إليه, ومع أن المخلوقات الأخرى قد وفّت بمهمتها، حين خضعت لقانون "الطبيعة" دون مقاومة {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] , فإن الإنسان الذي لم يطع القانون "الأخلاقي" يبقى محملًا به، {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} [التكوير: 23] , فالأمر لا يتعلق إذن بالإنسان بعامة، بل بالكفار والعصاة وحدهم، وهو تفسير -لا ريب- معقول، في ذاته، ولكنه فضلًا عن ذلك التقييد الذي يفرضه على مفهوم "الإنسان" الذي جاء غير محدد في النص، فهو لا يحقق على وجه الدقة التطابق المطلوب بن الضمائر والأسماء التي تتعلق بها، إذ لم تعد الأمانات المعروضة على الإنسان، وغيره من المخلوقات -كما هي، وصار من اللازم أن يكتفى بالتقائها في الفكرة العامة للأمانة، كما أصبح لازمًا اللجوء إلى فكرة مجازية، حتى نقرر للطبيعة نوعًا من الالتزام تجاه القانون.

بيد أن هذا ليس سوى وجه كامن، يعبر عن استعداد بعيد الأصول، لتحمل المسئولية بالفعل، فهذه لن تبدأ إلا عندما تتحقق بعض الشروط: "كالسن، والصحة مثلًا"، كيما تخلع مغزاها الأخلاقي على تعهداتنا والتزاماتنا. كذلك لا يكفي أن تجتمع هذه الشروط العامة لنصبح فعلًا مسئولين، بل يجب أيضًا أن تنضاف إليها ظروف مادية، تدعونا إلى أن ندخل نشاطنا في نسيج الأحداث. والحق أن هذه الظروف لا تتخلف أبدًا، فلكل منّا بالضرورة بعض العلاقات، وهو يشغل مكانًا معينًا، ويمارس بعض الوظائف في جهاز المجتمع؛ فالأب مسئول عن رفاهية أولاده المادية والأخلاقية، والمربي مسئول عن الثقافة الأخلاقية والعقلية للشباب، والعامل عن تنفيذ عمله وكماله، والقاضي عن توزيع العدالة، والشرطي عن الأمن العام، والجندي عن حفظ الوطن. كذلك نحن -فرادى- مسئولون عن طهارة قلوبنا، واستقامة أفكارنا، كما أننا مسئولون عن حماية صحتنا وحياتنا. حتى إننا نستطيع أن نجد في كل لحظة من لحظات الحياة الإنسانية بعض المسئوليات، وهي ليست افتراضية فحسب، بل حاضرة وواقعية، متى ما تحققت لها الشروط العامة. ثم إن اختلاف المواقف لا يتدخل إلا من أجل تخصيص وتحديد موضوع هذه المسئولية. على أننا لا ينبغي أن نخلط هنا معنيين متميزين تمامًا للمسئولية، فعلى قدر ما تكف الاعتبارات الخاصة عن التدخل "وهي من نوع ما سنراه بعد" نبقى في مرحلة المسئولية الطبيعية، التي هي مجرد طلب لموقف، وكونك مسئولًا لا يعني هنا سوى كونك جديرًا بأن تكون هذا المسئول فحسب. فالإنسان مسئول طبيعيًّا من قبل أن يجعل نفسه مسئولًا، ومن قبل أن يعتبر مسئولًا أخلاقيًّا.

والآن، إذا كان حقًّا أن مسئوليتنا لصيقة بنا دائمًا، بوجه أو بآخر، فإن ذلك لا يترتب عليه أن نكون دائمًا على وفاق معها، وحتى بعد أن نحمل التزاماتنا صراحة فإن لدينا الخيار أن نبقى مخلصين لها، أو نخل بحقها، تبعًا لما إذا كنا سوف نوجه جهدنا في نفس الاتجاه، أو ندع أنفسنا لتأثير عوامل مضادة. ومن هنا كانت مرحلة جديدة من المسئولية، فبمجرد أن نتخذ قرارنا لمصلحة جانب أو آخر لم تعد المسئولية التي نتحملها بهذا العمل موجهة نحو المستقبل، بل هي مرتدة نحو الماضي، فنحن منذئذ مسئولون، لا باعتبارنا قادرين على العمل، بل باعتبارنا فاعلي فعل تام، أي: إن المسئولية تصبح تحملًا لناتج الفعل. وهكذا نصل إلى حدود العنصر الثاني للفكرة. فعندما ينهي المرء مهمته لا بد أن يقدم تقاريره. إن اللحظة الأولى من لحظات المسئولية تلهمنا الإحساس بقوتنا، فهذه "قدرة" و"استطاعة" أما في اللحظة الثانية فإننا نتخذ -على العكس- موقف خفض الجناح والخضوع، فهذا "واجب". وإنا لنقرر أن كون المرء مسئولًا يدعوه إلى أن يقدم حسابًا ببعض الأشياء إلى بعض الناس، فلمن يقدم؟ ... وماذا يقدم؟ وما دمنا قد اتفقنا على أن المسئولية تفترض الإلزام سلفًا، فإن ذلك ينتج عنه، من ناحية، أن الحساب يجب أن يكون موضوعه الطريقة التي تم بها أداء عملي إلزامي، أو إهماله, ومن ناحية أخرى: أن القاضي الذي سوف يمثل المرء أمامه ليس سوى السلطة التي يصدر عنها التكليف. وعليه، فنحن نعرف من هذه السلطة ثلاثة أنواع: فمن الممكن أن يخضع المرء لتكليف يلزم به نفسه، أو يتلقاه عن أناس آخرين، أو عن سلطة أعلى فعلًا. وفي الحالة

الأولى تأتينا المسئولية من داخلنا، فالمرء يجعل من نفسه مسئولًا عن عمل لم يكلفه به أحد. أما في الحالتين الأخريين فنحن نتلقى المسئولية من خارجنا. ولكن سواء أكان المرء مسئولًا أمام نفسه، أم أمام الإنسان، أم أمام الله سبحانه فإن حكم المسئولية يصدر دائمًا بوساطة نفس السلطة التي أصدرت الأمر أولًا. ومن هنا نجد ثلاثة أنواع من المسئولية: المسئولية الدينية، والمسئولية الاجتماعية، والمسئولية الأخلاقية المحضة. وإن القرآن ليذكر هذه الثلاثة مجتمعة في هذا النظام في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1. ونستطيع أن نقول، بمعنى معين: إن كل مسئولية هي مسئولية أخلاقية، متى ارتضيناها؛ فالمسئولية التي يحملنا إياها غيرنا تصبح بمجرد قبولنا لها مطلبًا صادرًا عن شخصنا. وإذن فليس من المستغرب أن نرى القرآن يقدم لنا المسئولية الدينية ذاتها في صورة مسئولية أخلاقية محضة، حين يقول بمناسبة بعض التعاليم المتعلقة بالصوم المفروض، وقد تحايل بعض الناس على التخلص منه سرًّا: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} 2. وفي كثير من الأحيان لا يكتفي الكتاب، حين يستحث المؤمنين إلى الطاعة، بأن يذكرهم بالأمر الإلهي، بل يذكرهم، في الوقت نفسه، بالعهد الذي قطعوه على أنفسهم بأن يطيعوا هذا الأمر: {وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} 3، {إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} 4. فعلى حين نستطيع أن نتصور بالنسبة إلى غير المؤمن مسئولية تفرض عليه

_ 1 الأنفال: 27. 2 البقرة: 187. 3 الحديد: 8. 4 المائدة: 7.

من خارج ذاته دون أن تكون لديه مسئولية أخرى صادرة عن ضميره الخاص، نجد المؤمن -على العكس- لا يمكن أن توجد إحدى المسئوليتين لديه دون الأخرى؛ لأن العمل الأول للإيمان يستلزم معرفة الله، الجدير بالطاعة والذي هو في الوقت نفسه محبوب ومعبود. ولكن في اتجاه آخر, يمكن القول بأنه في سبيل تحقيق أخلاق كأخلاق القرآن يجب أن تنتهي كل مسئولية إلى نوع من المسئولية الدينية أو على الأقل تتبعها. هذه الأخلاق ترى في الواقع، أنه لا الالتزامات الفردية، ولا المؤسسات الاجتماعية، بقادرة على أن تكون مصادر للتكليف، والمسئولية، إلا بواسطة نوع من تفويض السلطة الإلهية. ولنأخذ أولًا المسئولية التي توجدها مبادرتنا الفردية، فلا ريب أن الإسلام يحلها مكانًا فسيحًا، ويدمجها في مجالات كثيرة بالمسئولية التي أقرتها قواعد الشرع المنزل. ومثال ذلك أن المحسن الذي يوقع بإمضائه طوعًا، وبمحض اختياره -لا يمكن شرعًا أن يسحب توقيعه, والشخص الثالث الذي يضمن دينًا على سبيل المروءة يصبح مدينًا بدوره, والتقي الذي يعزم على أداء نافلة, وهو يشهد الله على إقراره-يصبح منذئذ أمام تكليف ملزم, وفي كلمة واحدة، أيما امرئ يعطي كلمة لإنسان بعمل مشروع، حتى لو كان لقاء، يصبح بموجب كلمته مسئولًا مسئولية صارمة، وذلك هو قول الحق سبحانه: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا} 1. ويقول رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان" 2. وهو درس يجد أصله في القرآن في قوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} 3.

_ 1 الإسراء: 34. 2 صحيح البخاري, كتاب الإيمان, باب 24. 3 التوبة, آيات: 75-77.

ومن البيّن في الأمثلة السابقة أن الإنسان هو الذي يجعل نفسه مسئولًا بتدخل إرادي، لو لم يكن لبقي حرًّا، أن يفعل أو لا يفعل، والمسئولية التي يتحملها حينئذ، أمام الله -كما رأينا- ليست بأقل من المسئولية التي تقع على كاهله، أن يقوم بالواجبات الجوهرية. ومع ذلك، فمن المستحيل أن نقرر مبدأ "الإلزام الذاتي" هذا -دون قيد أو تحفظ، فلكي تكون وعودنا ورغباتنا صحيحة، قادرة على أن تحدد مسئوليتنا يجب على الأقل أن يكون موضوع تحقيقها نوعًا من الخير الذي سبق إقراره شرعًا. ولذلك يقول الرسول على سبيل الشرط فيما روته عائشة, رضي الله عنها: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه" 1. وكذلك الحال بالنسبة إلى مسئوليتنا عن تكاليفنا التي نتحملها تجاه الآخرين، مستقلة عن إرادتنا الفردية. ومثال ذلك أنه لا أحد ينازع حق الوالدين المقدس في احترام أولادهم وخضوعهم لهم، والله يقول: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} 2. بيد أن هذا الحق -على ما جاء في القرآن- لا يخولهما سوى سلطة محدودة ومشروطة، ذلك أن هذه السلطة لا تتوقف فقط عندما يطلبان منّا أن نخون الإيمان، أو نرتكب ظلمًا أيًّا كان: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} 3.

_ 1 البخاري: كتاب النذور، باب 27، وقد صدر البخاري الباب بقوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} "المعرب". 2 الإسراء: 23-24. 3 العنكبوت: 8.

بل إن الوضع ينقلب عندما يرتكبان ظلمًا، وحينئذ يجب على الأولاد دعوتهما إلى الواجب، وبوسعهم أيضًا أن يوقفوهما أمام القضاء. ألا ما أعظم ما يشعر به المسلم نحو أبويه من احترام، وما أعمق ما يكنه لهما من حب، لا سيما1 إذا كانوا على دين واحد، ولكن حبه للحق، واحترامه للعدالة يجب أن يرجح عنده. وعلى حين يحرم قانون نابليون على الابن أن يشهد ضد أبيه وأمه في قضية مدنية أو جنائية2، نجد أن القرآن يقول بعكس ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} 3. وعلينا كذلك أن نطيع ولاة أمورنا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} 4، ولكن بشرط أن يكون ما يصدرون من الأمر مشروعًا، فإذا كانت هذه المشروعية موضع نزاع وجب أن نحتكم في خلافنا إلى كتاب الله، وسُنة رسوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} 5, اللهم إلا إذا كان الأمر مخالفة واضحة للقاعدة، فإنه لا يستحق منّا إلا الرفض الصريح المجرد. يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه عبد الله بن مسعود, رضي الله عنه: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما

_ 1 قلنا "لا سيما", ولم نقل "وبخاصة"، والواقع أن القرآن يعلمنا أن اختلاف الرأي الديني لا يعفي الأولاد مطلقًا من أن يسلكوا مع أبويهم بعدل واحترام ومودة، وفي آية لقمان 15: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} ولم يرد القرآن بذلك أن يجعل من هذا الواجب الإنساني امتيازًا مقصورًا على الأبوين، فهو يعلمنا بعكس ذلك أن الناس جميعًا -بقطع النظر عن عقائدهم- يجب أن يتمتعوا بعدالتنا وبرّنا: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8] . 2 انظر: code napoleon, livre i, Tur 21. 3 النساء: 135. 4 النساء: 59. 5 النساء: 59.

أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" 1. ومن الواجب علينا أخيرًا الوفاء بالعقود والالتزامات تجاه إخواننا، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِْ} 2. ويقول الرسول: "المسلمون عند شروطهم" 3، بيد أنه: "ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل" 4، "الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا حرم حلالًا، أو أحل حرامًا" 5. فمن حيث المبدأ، ليس يوجد، ولا يمكن أن يوجد، في الأخلاق الإسلامية، تصادم بين واجب المواطن الصالح، وواجب المسلم الصالح، فكلا الأمرين يتبع نفس القانون، الذي يأتي من مصدر تشريعي واحد، بيد أنه من المحتمل أن نواجه بعض المطالب الجامحة من الرؤساء، والتي قد تخلق هذا التصادم، ومع ذلك فالقاعدة جد بسيطة، لخصها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كلمة صارت مثلًا: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" 6.

_ 1 البخاري: كتاب الأحكام، باب 3: "وروى البخاري عن علي, رضي الله عنه، قال: بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- سرية، وأمّر عليهم رجلًا من الأنصار، وأمرهم أن يطيعوه فغضب عليهم وقال: أليس قد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: عزمت عليكم لما جمعتم حطبًا وأوقدتم نارًا، ثم دخلتم فيها، فجمعوا حطبًا فأوقدوا، فلما هموا بالدخول فقام ينظر بعضهم إلى بعض. قال بعضهم: إنما تبعنا النبي -صلى الله عليه وسلم- فرارًا من النار، أفندخلها؟! فبينما هم كذلك، إذ خمدت النار، وسكن غضبه، فذكر للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "لو دخلوها ما خرجوا منها أبدًا، إنما الطاعة في المعروف". "المعرب". 2 المائدة: 1. 3 البخاري, كتاب الإجارة, باب 14. 4 المرجع السابق, كتاب الشروط, باب 12. 5 ابن ماجه، كتاب الأحكام, باب 23. 6 مسند أحمد 5/66 عن عمران بن حصين.

ولنفترض الآن أن هذه الأوامر على تنوعها متوافقة، وأن الواجب الذي نفرضه نحن، أو تفرضه سلطة إنسانية، مطابق للقاعدة القرآنية -حينئذ سوف تتعلق حالتنا بالمجالات الثلاثة للمسئولية, أي: أننا سنكون مسئولين أخلاقيًّا، واجتماعيًّا، ودينيًّا، فهل معنى ذلك أن هذه الدرجات الثلاثة في الحكم تندمج معًا أو تتوافق تمامًا؟ كلا، فكل نوع من المسئولية سوف يحتفظ دائمًا بصفاته وشروطه الخاصة، ولن يكون تمايزها فقط من حيث إن المسئولية الأخلاقية تمارس على الفور، وبطريقة ثابتة، على حين أن المسئولية الاجتماعية لا تقوم بوظيفتها إلا خلال آجال تتفاوت طولًا وقصرًا، والمسئولية الدينية لا تظهر واضحة إلا يوم الدين، كذلك لن يكون هذا التمايز فقط من حيث إن الجزاء الأخلاقي يتم بخاصة داخلنا، والجزاء الاجتماعي يلمس مباشرة أجسامنا، وأموالنا، وحقوقنا المدنية، وهو لا يؤثر في شخصنا إلا بواسطة هذه الأحداث الخارجية، على حين أن الجزاء الإلهي يلمس النفس، والجسم معًا، بعقوبة رهيبة أو بجزاء حسن في حياة خالدة. ليس هذا كله فحسب، ولكن ما هو أكثر من ذلك أن الشروط التي تستقر فيها -من ناحية- مسئوليتنا الأخلاقية والدينية، ومن ناحية أخرى مسئوليتنا الاجتماعية، ليس لها نفس الامتداد في التشريع الإسلامي. ونبدأ ببحث شروط المسئولية الأخلاقية والدينية التي استفاضت بها نصوص القرآن، بيد أننا ينبغي أن نؤكد أولًا على طابع الشمول في مبدأ المسئولية، الذي بسطه الكتاب على جميع المخلوقات العاقلة، دون تفرقة بين عقل إنساني، وعقل فوق - إنساني، بل دون أدنى تفرقة بين عامة الناس، والصالحين منهم، ولنستمع إلى قول الله تبارك وتعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} 1، وقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2، وقوله: {فَلَنَسْأَلَنَّ

_ 1 مريم: 93. 2 النحل: 92-93.

الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} 1، ولا ريب أن المقصود في هذه النصوص هو المسئولية أمام الله، في يوم الفصل الأخير. ولكن لننظر في الآيات الآتية المكان الذي خص به القرآن المسئولية الأخلاقية، وكيف أنه حتى في هذه اللحظة الحاسمة، يقدم محكمة الضمير، كيما يعد الحكم الأعلى، ويسوغه، يقول الله سبحانه: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا، اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} 2، ويقول: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} 3, {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَت} 4. هذه الشمولية من ناحية الفرد تتضاعف من ناحية أخرى، ناحية الموضوع، ففي تلك اللحظة، سوف تحضر جميع الأعمال التي حدثت، في الحياة الدنيا، في أذهان أصحابها: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا، وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} 5. بل إن الحساب لن يطلب عن جميع الأعمال الظاهرة والخفية، فحسب، {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} 6، وإنما سوف يقدم حساب عن مجموع استخدامنا لملكاتنا وقدراتنا، وكل مال طبيعي، موروث أو مكتسب: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ

_ 1 الأعراف: 6. 2 الإسراء: 14-15. 3 التكوير: 14. 4 الانفطار: 5. 5 الكهف: 47-49. 6 البقرة: 284.

أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} 1. {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} 2، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يعطينا فكرة عن هذه المسألة فيقول: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتي يسأل عن عمره فيم أفناه؟ وعن عمله فيم فعل؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟ " 3. ولو أردنا أن نصوغ قولة تلخص هذه الصفة الشمولية في جانبيها، فلن نجد خيرًا من تلك الكلمة المعروفة التي شبه فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كل فرد من بعض وجوهه بالحارس، أو المدير المسئول عن خير العاملين معه: "كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته؛ الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته" 4 فكل فرد في مجاله مسئول عن حسن سير الأمور، العامة والخاصة، التي وكّلت إليه. بيد أنه إذا كانت المسئولية الأخلاقية شاملة، فهي مع ذلك، ليست خالية من الشروط، فما تكون إذن شروطها؟ يقدم القرآن هذه الشروط بتفاصيلها، وهي التي سوف نخصص لها الفقرة التالية:

_ 1 الإسراء: 36. 2 التكاثر: 8. 3 الترمذي, كتاب صفات القيامة, باب1. 4 البخاري, كتاب الوصية, باب 9.

شروط المسئولية الأخلاقية والدينية

شروط المسئولية الأخلاقية والدينية الطابع الشخصي للمسئولية ... 2- شروط المسئولية الأخلاقية والدينية: أ- الطابع الشخصي للمسئولية: أول ما يجب ذكره هو أن المسئولية الأخلاقية والدينية شخصية محضة, ولسوف يكون من باب الإطالة أن نذكر جميع النصوص القرآنية التي تقر

هذا المبدأ الأساسي، ولذا نجتزئ بعضها، وهي التي تنص على هذه الحقيقة في ألفاظ تامة الوضوح، قوله تعالى في آيات: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَت} 1, {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} 2, {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 3, {لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} 4، {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} 5، {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} 6، {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} 7. وينتج من هذا كله، بوضوح، أن الثواب والعقاب لا يمكن أن يتأتى فيهما أي تحويل، أو امتداد، أو اشتراك، أو التباس، حتى بين الآباء والأبناء, وإذا كان آباؤنا وأجدادنا مسئولين مثلًا عن الأمثلة التي لقنوها لنا، والعادات التي أخذناها عنهم. وإذا كنا مسئولين عن الطريقة التي استعملنا بها هذه التركة، فلا يجب مطلقًا أن نتحمل معهم وزر ما عملوا: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 8. وهكذا محيت بجرة قلم صعوبة الخطيئة الأصلية. فالقرآن لم يرفض فقط أن تنسحب خطيئة الإنسان الأول على كل الناس، ولكن هذه الخطيئة -في القرآن- لا ترتدي هذه الصفة الدنيوية، التي تخصها بها الديانة المسيحية. فإن آدم لم ينقد للخطيئة لخبث في طبيعته، أو سوء في إرادته وليس يكفي أيضًا أن يقال: إنه انقاد لإغراء قوي، بل يجب أن نضيف -تبعًا

_ 1 البقرة: 286. 2 النساء: 111. 3 الإسراء: 15. 4 لقمان: 33. 5 غافر: 17. 6 الأحقاف: 19. 7 النجم: 39. 8 البقرة: 134 و141.

للقرآن- أن هذا الإغراء لم يكن في جوهره ذا طابع مادي، فإن جدّنا الأول قد خدعته كلمات عدو أقسم له تأكيدًا لكلامه. وزعم أنه ينصحه، فاعتقد بسذاجته أن حين يأكل الفاكهة المحرمة فربما يصبح نقيًّا كنقاء الملائكة، خالدًا كخلود الإله: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} 1، {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} 2، ويا لها من غلطة نبيلة!! فمن ذا يطيق ألا يبالي بمثل هذا إذا كان ملتزمًا بأوامر الضمير؟ ولكنه الوهم الكاذب الذي زينه لعينيه ذلك الناصح المنافق. وعلى الرغم من أنه كان منذ البداية محصنًا ضد المكائد المحتملة من عدوه، فقد نسي الإنسان الأول، وجاءت اللحظة التي لم يجد لنفسه فيها إرادة صامدة: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} 3. ومع ذلك فهذا النسيان لا يعتبر بالنسبة إليه عذرًا مقبولًا، كما أن النية الطيبة لا تشفع له كذلك؛ لأن النسيان لم يكن للأمر في ذاته، بل للهدف منه، وأيًّا ما كانت الدوافع النبيلة وراء المخالفة، فإنها لا يمكن أن تعرينا من التزام مطلق واضح المعالم والحدود. وفي هذا النوع من الأمر الحتمي تظهر بوضوح متانة الصرامة "الكانتية" التي لا تسمح بأي استثناء يرد على القاعدة الأخلاقية. فخطيئة آدم كانت إذن أثرًا من آثار ضعف عارض، وجهد قاصر في مراعاة الواجب. ومن هنا لم تفسد فطرة الإنسان الأول، بحيث تستلزم تدخل "مخلص" غيره نفسه، إذ كان يكفيه أن يعترف بخطيئته، ويظهر ندمه، لا ليغسل دنسه، وتعود إليه سريرته النقية، كما كانت فحسب، ولكن

_ 1 الأعراف: 21. 2 الأعراف: 20. 3 طه: 115.

ليربي هذا التائب الجديد، ويرفع إلى درجة المصطفين الأخيار، {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} 1. والفطرة الإنسانية ليست على خلاف ذلك، بصفة عامة، حتى إن القرآن يصفها فيقول: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} 2. وإن القرآن ليصور لنا أخذ البريء بالمذنب، لا على أنه مضاد للشريعة فحسب، بل هو كذلك غير متوافق مع الفكرة الأساسية للعدالة الإنسانية: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} 3. ومع ذلك فإن في الكتاب حالتين يبدو أنهما قد خرجتا على مبدأ المسئولية الفردية، فقد قيل -من جانب- عن بعض المذنبين: إنهم {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِم} 4. وقيل من جانب آخر: إن ذريات المؤمنين سوف يعاملون كما يعامل أجدادهم، بشرط أن يكونوا مؤمنين، وذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْء} 5. وإذن فلن يكون الثواب والعقاب تبعًا للجهد الفردي فحسب، بل قد ينشأ كذلك من عمل الآخرين. ولا شك أن هذين المثالين جديران في نظرنا بالدراسة، حتى نرى إلى أي مدى يمكن أن يضعفا أو يدعما المبدأ العام.

_ 1 طه: 122. 2 التين: 4-6. 3 يوسف: 79. 4 العنكبوت: 13. 5 الطور: 21.

وأول ما نبدأ به أن نزيح فكرة معينة، هي أنه ليست المسألة هنا مسألة تحويل كلي يحرم به الفرد الرئيسي في المسئولية من ثمرة جهوده، أو يبرأ من نتائج عمله السيئ، هيهات أن يحدث هذا. والنصوص التي عالجت هاتين الحالتين لم تكف عن تأكيد هذا الواقع. إن ثواب صاحب العمل وعقابه لا يمكن أن ينقص بهذا: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} 1، {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ} 2. فالمسئوليات الفردية تبقى إذن كاملة، وتلك نقطة مفروغ منها. وكل ما في الأمر أن تذييلًا للثواب والعقاب يأتي -فيما يبدو- من خارج فضلًا عما ينتج من العمل الفردي. ولكن برغم تحديد المسألة على هذا النحو، فلا يزال هناك نوع من التعارض، مع النصوص الكثيرة التي تنكر -فيما رأينا- إنكارًا مطلقًا، أن ينسب للإنسان ما ليس من عمله. فما وجه الحقيقة في هذه المسألة؟ وقبل ذلك، ما هذا الثقل الإضافي الذي ينضاف إلى حساب الظالمين؟ ولئن كان النص المذكور آنفًا لم يذكر الظروف التي تتم فيها هذه الإضافة، فإن نصًّا آخر يخصصه ببعض المتكبرين الذين أداروا ظهورهم للهدي الإلهي، وسعوا في إضلال الآخرين. وهؤلاء الأشخاص -فيما يحدث القرآن- سوف يتحملون المسئولية الكاملة عن أعمالهم الخاصة، ويشاركون في مسئولية هؤلاء الذين أضلوهم: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ

_ 1 الطور: 21. 2 العنكبوت: 12.

أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ} 1. فما معنى هذا، إن لم يكن أنهم مسئولون عن الجرائم التي دعوا إليها، مسئوليتهم عما ارتكبوا؟ ونكرر كذلك أن ضحاياهم لن يعفوا مطلقًا من خطيئتهم، التي هي استسلامهم للضلال. وقد أنذرنا القرآن في مواضع كثيرة بأن عبء الأتباع لن يصير أقل ثقلًا، وهو يعبر عن هذه الحقيقة في شكل مناقشة تنشب يوم القيامة بين طائفتي المذنبين، وهي مناقشة يبقى مبدؤها وحلها دائمًا ثابتًا لا يتغير: فالضعفاء الذين يريدون أن يتبرءوا من خطاياهم يلقونها على هؤلاء الذين أوقعوهم في الضلال، على حين أن هؤلاء يبتعدون عنها ويتنصلون منها، وتنتهي المناقشة دائمًا بإدانة الطرفين2. ولكن بما أن الرعاة -فضلًا عن مسلكهم الشخصي- قد أسهموا بقدر معين في معصية القطيع، فإنهم يجدون أنفسهم ذوي مسئولية إضافية، ناشئة عن علاقة السببية التي يتحملونها بالنسبة إلى جرائم أخرى غير جرائمهم. فهم مسئولون من وجهين؛ لأنهم كذلك مذنبون من وجهين، والمجرم الذي يقترف كثيرًا من الفواحش لا يمكن بداهة أن يعامل بنفس الطريقة التي يعامل بها من لم يرتكب سوى واحدة، والله يقول: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَْ} 3. وفي مقابل ذلك، كلما عدمت علاقة السببية أو التوسط بين مسئولين كثيرين وجدنا المسئولية تنكمش، وتتفرد، بالمعنى الدقيق للكلمة، وهو قوله

_ 1 النحل: 25. 2 انظر الآيات 166-167 من البقرة، و 38-39 من الأعراف، و 31-32 من سبأ، و 36 -39 من الزخرف. 3 النحل: 88.

تعالى: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} 1، وقوله: {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} 2، وقوله: {قُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} 3. وإذا كان الأمر كذلك فليس هناك أثر من التعارض، حتى ولا الاستثناء، الذي يرد على القاعدة العامة. ولسوف تقدم لنا دراسة هذه الحالة الأولى -بالعكس- بعض التحديد للطريقة التي يتصور بها الإسلام المسئولية الفردية. إنها فكرة واسعة جدًّا، أكثر اتساعًا من جميع النصوص التي تثيرها, فالإنسان ليس مسئولًا فقط عن الأعمال التي يدعو إليها في صورة تدخل إيجابي ومباشر لدى الآخرين، حين يصدر إليهم أوامر، أو نصائح، أو إيحاءات، وليست المسئولية فقط هي مسئولية القدوة التي تأتي من أعلى لتنتشر بين الجماهير، بفضل مهابة صاحبها وحدها، بل إن كل مبادرة، حسنة أو سيئة، من أية جهة كانت، سيكون لها أهمية لا تتوقف حدودها عند واقعها، أو نتائجها المباشرة، ما دامت صالحة لأن يقتدي بها الآخرون. ولقد أعلن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن مسئولية صاحب العمل المبتدع سوف تتضاعف بقدر ما يحتذي الناس مثاله خلال القرون المقبلة، إلى يوم القيامة، قال: "من سن في الإسلام سُنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سَن في الإسلام سُنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء" 4.

_ 1 الشورى: 15. 2 هود: 35. 3 سبأ: 25. 4 مختصر صحيح مسلم للحافظ المنذري, حديث 533, نشر إدارة الشئون الإسلامية بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت.

وكذلك قال فيما رواه عبد الله بن مسعود: "ليس من نفس تقتل ظلمًا، إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها" 1. وذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوله تعالى مؤكدًا هذا المعنى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} 2. بل إن الأمر ليذهب إلى أبعد من هذا!! فلن نسأل عما قدمت أيدينا فحسب، بل سوف نسأل أيضًا بصورة ما عن تصرفات الآخرين، فنحن مسئولون عن انحراف مسلك أقراننا، حين نتركهم يسيئون دون أن نتدخل بجميع الوسائل المشروعة التي نطبقها, لنمنعهم من الإساءة. وشبيه بهذا أن العمل الاجتماعي السلبي، أو عدم المبالاة -تجرم بنفس درجة العمل الإيجابي فالامتناع هو المشاركة السلبية في الجريمة. وإن القرآن ليحدثنا أن شعبًا قديمًا قد تعرض للعنة على ألسنة الأنبياء، وكان كل ذنبه -حتى يستحق هذه اللعنة- أن المجتمع لم ينكر على بعض أعضائه فعلهم للشر. فقال {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} 3. وبهذا نرى أن المسئولية الفردية، على هذه الدرجة من الامتداد، تتاخم، بل وتكاد تندمج في المسئولية الجماعية، ولكنها ليست هي على وجه التحديد؛ لأن الجماعة هنا ليست سوى جملة من الضمائر الفردية المعنية، تعلم

_ 1 البخاري, كتاب الاعتصام, باب 15. 2 المائدة: 32. 3 المائدة: 79.

القاعدة الأخلاقية، وتدرك في الوقت نفسه الأعمال التي انتهكت بها هذه القاعدة، فهي تترك المذنبين من أعضائها مطمئنين، أي: إنها لا تبالي حتى بأن تتخذ حيالهم موقف اللوم الصريح. وبعكس ذلك هؤلاء الذين يقومون بأقل جهد، سواء بتذكير المذنب بواجبه، أو بمقاطعته، فأولئك سوف ينجون: {هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} 1، {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} 2. وليس هذا هو كل شيء، فليست الأعمال الواعية التي نثيرها في المجتمع بسلوكنا فحسب، ولكن نتائجها الطبيعية البعيدة سوف تدخل فيها، وتضخم معناها. إن السعادة أو الشقاء الذين يمكن أن يصيبا الإنسانية من عمل يتم عن غير قصد، بل وقد لا يراه صاحبه مفصلًا، ولا يقدره قدره -سوف يضمان إلى الرصيد الإيجابي أو السلبي لصاحبهما، حتى لو لم يحدثا إلا بعد موته، والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث؛ صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" 3. وهنا نصل إلى الحالة الثانية، التي تظل عصية على كل هذه التفسيرات، ذلك أننا قد نفهم -إذا لزم الأمر- أن أولادنا، لما كانوا أعمالنا، فإن نشاطهم يستمر ويكمل نشاطنا، ومن ثم كانوا مضافين إلى حسابنا، ولكن كيف نسوغ القضية العكسية؟ لسوف يكون خطأ زمنيًّا أن ننسب هنا علاقة سببية تشركهم في أعمال تمت قبل ميلادهم، وهي تشرع مساواتهم مع أسلافهم أمام العدالة العلوية. ومع ذلك فلسنا ندري كيف نوفق بين النص الذي يبدو أنه يعلن هذه المساواة، وهو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ

_ 1 الأنعام: 47. 2 الأعراف: 165. 3 صحيح مسلم، كتاب الوصية، باب 3.

مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} 1، وبين النصوص الأخرى، وبخاصة قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} 3، وهي تقرر العكس تمامًا. واقرأ الحديث المشهور عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه" 4. لقد قال المفسرون، كيما يتخلصوا من هذا التعارض، إن آية الطور الأولى لا تتعلق مطلقًا بمجازاة، ولكنه محض فضل يسبغه الله عليهم، غير الجزاء المستحق لهم، وعليهم فهم يضيفون أن فضلًا من هذا القبيل لا يصح أن يخضع لقاعدة. وكل ما تريده الأخلاق هو ألا يحرم شخص من حقوقه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} 5, {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} 6، فإذا ما قدمت العدالة المطلقة لكل إنسان حقه فلا شيء يحول دون أن ينعم الله على من يشاء بأكثر مما يستحق. ولقد نستطيع أن نعترض أولًا بأن مجرد رفع المقصر إلى درجة يستحقها المتقدم ربما يخلق لدى هذا الأخير نوعًا من المساس بكرامته، إن صح التعبير، قد يتحرك في نفسه غضب مشروع، حين يرى نفسه متساويًا مع آخر أدنى منه أخلاقيًّا.

_ 1 الطور: 21. 2 البقرة: 134. 3 لقمان: 33. 4 صحيح مسلم، كتاب الذكر، باب 11. 5 الزلزلة 7-8. 6 الأنبياء: 47.

والحق أن الاعتراض من هذا الجانب العاطفي ليس دقيقًا؛ لأنه ليس عسيرًا أن نجيب عليه بأن مسألة المنافسة لا موضع لها في جنة الله. وقلوب السعداء منزوع منها كل حقد، أو تحاسد فيما بينها: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} 1، وبأنه، حتى في هذه الحياة، يجب استبعاد كل أثرة بين السلف والخلف، وبخاصة من ناحية الأولين؛ فإن الآباء يشهدون دائمًا أنهم لا يجدون سوى الرضا الكامل، حين يرون أولادهم يتمتعون بمثل ما ذاقوا من سعادة، إن لم يكن بأكثر منه. ولكن، لنفترض أن العالم كله قد حصل على هذا الرضا، أفترضى العدالة في ذاتها بهذا؟ ولماذا الإحسان إلى بعض الناس، وعدم الإحسان إلى الآخرين بنفس القدر؟ ألم يكن للكرم أيضًا حق في عدم المحاباة؟ لقد كان هدف جميع محاولات المفسرين أن يسوغوا الحكم الإلهي الذي يسوي "في الواقع" بين طرفين غير متساويين "في الحق" بحسب طبيعتهما الخاصة، وبدا لنا أكثر مشروعية -قبل أن نحاول تقديم تسويغ- أن نسأل أنفسنا أولًا عما إذا كانت مساواة من هذا القبيل مستفادة من النص المذكور. إننا حين نرجع إلى النص العربي نلاحظ أن كلمة "ألحق" يمكن أن تفسر بمعنى "شبه" أو بمعنى "أتبع وضم"، فإذا لم يكن في السياق شيء يحتم أحد هذين المعنيين، فإن هناك مع ذلك عدة اعتبارات لغوية وأخرى ذات طابع عقلي، تدفعنا إلى أن نختار المعنى الأخير. ومن المقرر، كقاعدة عامة، فيما يتعلق بتفسير الألفاظ الملتبسة، أنه يجب أن نحملها بقدر الإمكان على المعنى الحقيقي، وهو أقل التباسًا. فإذا كان حقًّا أن أحد المعنيين مادي محسوس، والآخر مجرد، ذو طابع أخلاقي، وهو لا يكون غالبًا إلا بوساطة القياس، فإن المعنى الأولي بأن نأخذ به.

_ 1 الحجر: 47.

في حالتنا سوف يكون هو "الضم"، وهو في الوقت نفسه، أكثر تأكدًا بما أن التفسيرين يتفقان في مضمونه، على حين أن معنى التشبيه لا يحتمل سوى شيء واحد. بيد أن لدينا من وراء هذه الاعتبارات العامة -نصوصًا تعالج حالات شبيهة، ولم يحدث أن تعرضت لذكر المعاملة على قدم المساواة، وإنما ذكرت مجرد الاشتراك المعبر عنه بلفظة "مع"، وقد ورد هذا في القرآن: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} 1، كما ورد في كثير من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي يقرر أن المتحابين في الله سوف يجتمعان في الجنة: "أنت مع من أحببت" و "المرء مع من أحب" 2. فنحن نرى إذن أن المثال الذي نتناوله بالبحث ليس سوى حالة خاصة لهذا المفهوم العام، الذي هو الحب في الله، فهؤلاء الأولاد الذين لا يكتفون ببنوتهم الطبيعية، حتى يضيفوا إليها بنوة روحية، لماذا لا يستطيعون أن يعملوا على تحقيق مثلهم الأعلى باجتماعهم في الله، كيما يحرزوا حق الاجتماع في نفس المنزلة مع من اتخذوهم قدوة، حين اتبعوهم في الواقع بصورة تتفاوت في درجة كمالها؟ أليس فصلهم عنهم إنكارًا لقيمة هذا الحب؟ وعليه، فإن هذا الاتحاد في جنة الله لا ينفي مطلقًا التدرج في الجزاء. ولا يستتبع بالضرورة اختلاطًا في القيم؛ فنحن ندرك جيدًا أن أعضاء جمعية واحدة متدرجون في مناصبهم، مختلفون في وظائفهم، متفاوتون في استحقاقهم، شأن القطار الذي يقل مجموعة مختلفة من طوائف المسافرين. فإذا فسرنا الآية على هذا النحو، وقابلناها كما ينبغي بمجموع النصوص الأخرى، فإنها لا تحتوي أدنى تضارب مع المبدأ العام، مبدأ المسئولية التي تظل فردية، على وجه الخصوص.

_ 1 النساء: 69. 2 البخاري, كتاب الأدب, باب 96.

وهنالك اعتراض أخير، قد يثار ضد هذا المبدأ، وهو ما يمكن أن يستقى من فكرة "الشفاعة" بمعنى "التوسط عند الله يوم القيامة، سواء من ناحية الملائكة، أو الأنبياء، من أجل الصالحين، أو من ناحية المؤمنين من أجل إخوانهم". وهي فكرة نجد أصلها في كثير من الأحاديث التي عرفت بأنها صحيحة. فما دور هذا التدخل، وما أهميته؟ إذا حكمنا عليه قياسًا على ما يحدث أمامنا في هذه الدنيا فسوف نقول بأن مصير المشفوع له يمكن أن يتعرض لتغيير جذري أو لتعديل، تحت إلحاح الشفيع، أو ضغطه. وأن هذا المصير سوف يكون شيئًا آخر غير ما يستحق، وغير ما كان قد قدر بدون هذا التدخل. وإذن فهو فضل غير مستحق، أو جزاء يأتي من خارج. وفكرة الشفاعة بهذه الصورة تتضمن أخطاء فادحة، إنها من صميم الوثنية العربية التي كانت مهمة الإسلام الأولى أن يجاهدها، والتي وقف القرآن ضدها من أوله إلى آخره. واقرأ معي هذه الآيات الكريمة: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 1، {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} 2، {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} 3، {لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} 4، {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} 5، {وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} 6، {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 7، {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} 8، {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 9، {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} 10، {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} 11. ومجموع هذه النصوص يستخلص منه

_ 1 البقرة: 225. 2 يونس: 3. 3 الرعد: 41. 4 طه: 109. 5 الأنبياء: 28. 6 المؤمنون: 88. 7 سبأ: 23. 8 الزمر: 44. 9 الزخرف: 86. 10 النجم: 26. 11 النبأ 38.

تعريف يحدد مفهوم الشفاعة، الذي يختلف كثيرًا عن المفهوم الذي ذكرنا آنفًا. فللشفاعة في هذه النصوص ثلاثة شروط: 1- أن الشفيع لا يقترح التدخل، ولا يسمح لنفسه بأن يتدخل من تلقاء نفسه، وإنما الله هو الذي بيده الأمر، فهو الذي يأذن له بالكلام. 2- أن الشفيع لا يتدخل إلا من أجل من يرتضي الله سبحانه قبوله. 3- أن الشفيع لا يتصرف على أساس جاهه عند الحاكم الأعلى، بل إنه يدافع عن المشفوع له متوسلًا ببعض فضائله، وهو توسل ينبغي أن يطابق الواقع، فها نحن أولاء نرى أن دور الشفيع لا يعدو أن يكون دور شاهد نفي، أو مِدْرَه موثوق به، مهمته إكمال جهاز العدالة المعقد، وعمل الشفيع في هذه المهمة الجليلة أن يعلن الصفات والحسنات الصالحة التي تعوض سيئات المؤمنين، وأن يبرر العفو عنهم، أو استحقاقهم للمثوبة. وهكذا نرى أن الشفاعة بهذا المعنى، تسبغ شرفًا مزدوجًا على المدافع والمدافع عنه. ولكن هيهات أن تكون القضية دائمًا رابحة؛ ذلك أن أحاديث الشفاعة نفسها تذكر لنا حالات أخطأ فيها الشفيع في صحة الوقائع المروية، وحينئذ ينسحب الدفاع، ويتنازل عن مسعاه بمجرد علمه بالحقيقة. وهذا هو ما قاله الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن نفسه من أنه في ذلك اليوم سوف يطلب تبرئة بعض الناس الذين يعرفهم كأصحابه؛ خلال حياته في الدنيا، فيقال له: "إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك"، فيقول: "سحقًا سحقًا" 1. وهكذا نجد أن الحكم يصدر دائمًا تبعًا لفضائل المحكوم عليه، لا على أساس التوسلات. ومهما بذلنا من جهود مضاعفة، ودعوات ورجوات من

_ 1 البخاري, كتاب الفتن، باب 1.

أجل من نحبهم، أو نعطف عليهم، فلا يعدو ذلك أن يكون لفتة جميلة، وهو واجب علينا، ولكن ليس هذا هو الذي سينقذهم. فإذا ما بلغت جهودنا غايتها، واستجيبت دعواتنا، فذلك لأنهم يستحقون رضا الله، تبعًا لشرائعه، ولم تكن دعواتنا سوى فرصة تتجلى فيها الإرادة المقدسة، التي كانت حتى ذلك الحين محتجبة. ولسنا نجد في أي مكان في القرآن الكريم ثوابًا مستعارًا، أو زينة مزيفة، أو عنوانًا على فراغ جواني، فليس ثوابًا إلا من كان ثمرة ناضجة لموقفنا المتعاطف تجاه شرع الله. ومع ذلك فلا ننس أن هذا الموقف قائم على الكيف، أكثر منه على الكم، فالله يقول: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} 1، ولما كانت هذه القيمة الكيفية متعلقة بألف شرط، فإن العمل الجواني بخاصة هو الذي يصل إلى أعلى درجاتها، ولذلك قال الرسول: "التقوى ههنا"، وهو يشير بإصبعه إلى قلبه2، ومن أجل هذا لا نملك القول مسبقًا بأن عملًا معينًا ستكون له هذه الميزة التي تجبُّ خطأ معينًا، إذ لما كنا لا نتصرف في نظام الموازين والمقاييس الذي سيزن الله سبحانه به القلوب، فنحن عاجزون عن أن نحكم على الناس بنفس الطريقة التي سوف يحكم الله بها عليهم، عجزنا عن أن نحكم على أنفسنا بأنفسنا، {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} 3. بيد أن جهلنا بالتفاصيل لا يمتد إلى المبدأ الذي يجعل من السلوك الفردي الأساسي الوحيد للتقدير الأخلاقي وما يتبعه من أنواع الجزاء: فالله سبحانه يقول: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} 4.

_ 1 المائدة: 100. 2 مسلم، كتاب البر, باب 7. 3 النجم: 32. 4 النجم: 39.

ولا يقولن أحد: إننا بهذه الطريقة ننظم الكرم العلوي على نحو صارم، فلسنا نحن, ولكن القرآن الذي يقول ذلك، حين يفرق في الحقيقة بين نوعين من الفضل، أحدهما عام، والآخر محدود. وحين يتحدث القرآن عن النوع الأول يستعمل الفعل في الماضي: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} 1، وهو يقدمها واقعًا ضم جميع الأشياء في الدنيا، ولذا فإن الناس جميعًا يتمتعون بها بنفس القدر، الطيبون منهم والأشرار. هذا الفضل العام يتبع نظام الوجود، وهو شرط في المسئولية، وبمقتضاه يملك كل إنسان، من الناحيتين الأخلاقية والمادية، الوسائل الضرورية لفهم الشرع والخضوع له. ولكن القرآن حين يتحدث عن النوع الثاني يتناوله في المستقبل: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ} 2، إنه يتبع نظام القيم، وهو ثمن للمسئولية، فينبغي أن يضمن إذن لأولئك الذين رعوا تكاليفهم بإخلاص، وهو أمر طبيعي. وعلى هذا المبدأ تعتمد الحكمة القرآنية المشهورة: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 3.

_ 1 الأعراف: 156. 2 الأعراف السابقة. 3 الحجرات: 13.

الأساس القانوني

ب- الأساس القانوني: هذا هو الشرط الثاني للمسئولية، فالقرآن يعلمنا أن أحدًا لن يحاسب على أفعاله دون أن يكون قد أعلم مسبقًا بأحكامها. وهذا الإعلام يأتي من طريقين مختلفتين: داخلية، وخارجية، فقواعد القانون الأخلاقي في أكثر صورها شمولًا مسجلة بشكل ما في أنفسنا، وليس علينا لكي ندرك مغزاها، سوى أن نستخدم قدراتنا وملكاتنا الفطرية: فنستشير عقلنا، ونستبطن قلبنا، أو نتبع غرائزنا الخيرة. ولما كانت معرفة هذا القانون الفطري في وسع كل إنسان، على تفاوت بين الأفراد،

فإن هذه المعرفة تكفي قطعًا لتأكيد مسئوليتنا نحو أنفسنا. ولم تنازع أكثر المدارس الإسلامية تشددًا في أن هنالك نوعًا من المسئولية الشاملة القائمة على هذا التكليف الفطري، فهل يكفي هذا أيضًا لإقرار مسئوليتنا عند الله؟ هنا تفترق المدارس. فعلى حين أن المعتزلة يرون ذلك ويقرونه بلا استثناء، وعلى حين أن الماتريدية يوافقون عليه جزئيًا "فيما يتعلق بالواجبات الأولية"، فإن أكثر مدارس أهل السنة ينكرونه مطلقًا. ويقولون: إننا لسنا مسئولين أمام الله، حتى عن واجباتنا الأساسية إلا إذا أعلمنا بواجباتنا، هو نفسه، وبطريقة خاصة وإيجابية. وهؤلاء المفكرون يتمسكون بحرفية القرآن حيث يقول: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} 1، {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} 2، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} 3. ومن المفيد جدًّا أن نبحث عن الأسباب في أن القرآن يضع هذه الشروط المفيدة، فلماذا أوجب الله مطلقًا على نفسه أن يعلم الشعوب بواجباتها بوساطة الرسل، الوسطاء بينه وبينهم؟ ولماذا لم يتركهم لنورهم الفطري وحده؟ والجواب كما يبينه القرآن: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 4. والواقع أن أكثرية الناس ينتمون إلى إحدى فئتين: فإما أنهم رجال أعمال مشغولون بلقمة العيش، أو يكونون فارغين عاكفين على ملذاتهم. وعليه، أفلا يكون من النادر إلى أقصى حد أن تسنح لحظات يخطر لهؤلاء وهؤلاء فيها أن يرفعوا أبصارهم نحو السماء، أو أن يحولوها

_ 1 التوبة: 115. 2 الإسراء: 15. 3 القصص: 59. 4 النساء: 165.

نحو أنفسهم؟ كم رجلًا منّا يسائل نفسه عن خير الوسائل لتثقيف الروح، وتغذية القلب، بله أن يشرع لها؟؟ وهذه الآلاف المؤلفة من شواغل الحياة اليومية التي تصرفنا عن هذه الأمور العلوية أليست عذرًا بالنسبة لنا؟ إن هذه الحجة سوف تكون أكثر قبولًا إذا ما استشهدت بضعف سلطاننا الأخلاقي. وهل كانت العقائد الزائفة، والعادات السيئة الموروثة سوى طبقات سميكة تغلف، وتحجب بصائرنا؟ فمن أجل استباق هذا الاعتراض المزدوج أراد الله سبحانه أن يقوي أنوارنا الفطرية بأنوار الوحي المنزل: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} 1. والحقيقة أن الله سبحانه أوجب على نفسه أن يعلم الناس قبل أن يحملهم مسئوليتهم؛ لأنه يرى من الظلم تعذيب القرى التي تغفل عن واجباتها؛ لأنها لم تعرفها: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} 2، {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ، ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} 3. ولكن إذا كان الأمر كذلك، أعني إذا كان يكفي مجرد الغفلة الطارئة، سواء أكانت نقص انتباه، أو استعصاء عادات، لكي نعلن عدم مسئولية أناس أسوياء بصورة كاملة، وإذا كانت العدالة الإلهية قد التزمت بإيقاظهم أولًا من سباتهم بوساطة تعليم إيجابي، فما القول إذن في الضمائر التي ما زالت غائبة أو محجوبة كلية بحوادث طبيعية؟ ألا يجدر بالأحرى أن ننتظر انتباهها أو يقظتها العادية، كيما تكون بحيث تعلم الشريعة المقررة؟ إن هذا بداهة

_ 1 الأعراف: 172-173. 2 الأنعام: 131. 3 الشعراء: 208-209.

هو ما يريده منطق هذا البيان القرآني. فليس يكفي إذن أن يصوغ الشارع شرائع، ويكلف رسله بإبلاغها، بل يجب أن يصل هذا التعليم إلى الناس، وأن يكون هؤلاء الناس على علم به. وهكذا تحتوي الشرعية جزأين، ثانيهما موجود ضمنًا في المبدأ الذي ينشئ الأول. وقد أكملت السُّنة النبوية لحسن الحظ هذا الإيجاز في النص، واستخرجت منه صراحة نتائجه، فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى "المجنون" حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر" يحتلم1. وربما لزمنا هذا أن ننبه القارئ ضد تفسير خاطئ، قد يقع فيه، إذ لا ينبغي أن نستخلص من تشبيه الصبيان بالطائفتين الأخريين، من حيث عدم مسئوليتهما -أنهم جزء مهمل، أو يجوز إغفاله في المجتمع الإسلامي، فللطفل المسلم نظامه الكامل، تمامًا كنظام الرجل البالغ، وحسبنا أن نفتح أي كتاب في الفقه السلفي لنرى ما يخصه في كل فصل من فصوله، بل إنه من الوجه الأخلاقية وحدها، فإن الاستطراد الذي يمكن أن نتطرق إليه، لنوضح ما يجب أن يطلب من الطفل، وما يمكن أن يتسامح فيه، قد يكون أطول من اللازم. ولكن بالرغم من أن سلوك الأطفال منظم في الشريعة الإسلامية، حتى في أدق تفاصيله، فإن الشرع غير متوجه إليهم، بل إلى آبائهم، وإلى الحكام،

_ 1 أبو داود, كتاب الحدود, باب 17، وصحيح البخاري, كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة, باب7، وقد ذكره البخاري على هذا النحو: "باب لا يرجم المجنون والمجنونة, وقال علي لعمر: أما علمت أن القلم رفع عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يدرك، وعن النائم حتى يستيقظ؟ " "المعرب".

والأساتذة، والرؤساء، أي: إلى الأمة بأكملها، فهي التي على كاهلها تقع مهمة تربيتهم، وتقويمهم، حتى تظفر منهم بأقصى درجات التوافق مع القاعدة. وإذن، فإذا كانت مسئوليتهم قد تخففت، فما ذلك إلا لترتبط مسئوليتنا تجاههم. وحسبنا هنا أن نقدم ثلاثة أمثلة لنبين أن الإنسان المسلم الصغير، يجب أن يتعود -منذ حداثته- على ما يقرب من سلوك الرجل الناضج، في سلوكه الشخصي، وفي علاقته بالآخرين، وفي علاقته بالله سبحانه. المثال الأول: نحن نعرف قواعد الأدب والحياء التي فرضها القرآن على كل فرد، ألا يدخل بيوت الآخرين دون أن يستأذن، ويسلم عليهم في أدب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} 1، أما فيما يتعلق بخدمنا وأطفالنا فإن القرآن يمنحهم نوعًا من التساهل في بعض القيود، لا على سبيل الإعفاء منها، فهو يقيد وجوب هذه الأوامر بأوقات الراحة حين نكون غالبًا مستترين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} 2. المثال الثاني: إن الإسلام في دعوته الأطفال لأداء شعائرهم الدينية لا ينتظر بلوغهم، بل يجب علينا أن نشجعهم متى بلغوا سن السابعة، على أن يؤدوا الصلاة دون إكراه، فإذا بلغوا العاشرة ولم يطيعوا أدبناهم عليها

_ 1 النور: 27. 2 النور: 58.

أدبًا مترفقًا، وفي هذا السن يجب أن نفرق بينهم في فرشهم، ومن قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك: "مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، وإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها"، وفي رواية: "مروا أولادكم ... وفرقوا بينهم في المضاجع" 1. المثال الثالث: إننا ملزمون بألا ندع أطفالنا منذ طفولتهم الأولى، يأكلون، أو يستعملون من الأشياء ما ليس لهم. ونحن نعرف ما كان سائدًا على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- من أن الصدقات نقدية أو عينية والتي كانت مخصصة للتوزيع على الفقراء وأشباههم، كانت تجمع أولًا في المسجد، أو في أحد البيوت المجاورة، الخاصة بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وذات يوم لمح النبي، وهو عائد إلى بيته، تمرة من تمر الصدقة، أخذها حفيده الحسن، فجعلها في فيه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- بالفارسية "كخ! كخ! ارم بها، أما تعرف أنَّا آل محمد لا تحل لنا الصدقة؟ " 2. ولنقف عند هذا الحد من الاستطراد، ولنعد إلى مبدأ العلم بالشرع، وهو الشرط الضروري للمسئولية، لنسأل أنفسنا عن المعنى المحدد الذي ينبغي أن نحمله عليه، فإن في ذلك مشكلة ذات أهمية قصوى، أهو العلم الجماعي، أم الفردي؟ نحن نعرف مبدأ القانون الفرنسي القائل "بأن أحدًا لا يعد جاهلًا بالقانون"، وفي الشريعة الإسلامية صيغة مثل هذه تقول: "لا عذر لأحد بالجهل في دار الإسلام"، فهل يكفي إذن أن يكون القانون منشورًا ومعلومًا في وسط

_ 1 انظر، أبو داود، كتاب الصلاة "باب متى يؤمر الغلام بالصلاة". 2 البخاري، كتاب الزكاة، زكاة العشر، باب 6، وكتاب الجهاد باب 176.

معين لكي تثبت مسئولية كل من يعيشون في هذا الوسط، على الرغم من جهل بعضهم؟ والحق أن الفقهاء قد قيدوا مدى تطبيق هذا المبدأ؛ لأنه لا ينطبق -من ناحية- إلا على المسلمين بالميلاد، ممن يعيشون في مجتمع يمارس واجباته الدينية "أي: إن من يعتنق الإسلام حديثًا معذور في الجهل بالقانون". وهو لا يصدق -من ناحية أخرى- إلا على القواعد العامة، ذات الوضوح المؤكد، بعامة، لا على التفاصيل التي قد تفوت غير المتخصصين. بيد أن هذه التحفظات جميعها لا تقدم لنا سوى احتمال كبير، وقرينة قوية على علم كل فرد، دون أن تفيدنا يقينًا، ويبقى دائمًا أن نسأل: على أي مبدأ من مبادئ العدالة تقوم مسئولية من يجهل فعلًا واجبه، في حالة معينة، حتى ولو عرفه كل الناس في مكانه؟ لا شك أن من الأمور الملزمة بالنسبة لي أن أنور ضميري وأن أستعلم عن واجباتي كلما جهلتها ولا يتحتم لهذا أن أواجه مشكلة بعينها. ولكن هناك حالات أعتقد فيها، بكل صدق، أن العمل الذي ألزم نفسي به، أو أمتنع عنه ليس سوى عمل فطري طبيعي لا ينشأ عن أي تحريم، أو تكليف، وذلك باستثناء حالة الجهل الإرادي الخاطئ الذي يقدم عليه الفاسق، الذي يتحدث عنه أرسطو1

_ 1 يبدو لنا أن يسكال pascal في هجماته على اليسوعيين، قد غلا في كلام أرسطو، حين ذكر أنه قال: إن جميع الأشرار يجهلون ما يجب أن يفعلوه، وما يحب أن يهجروه وحسب ما يرى بسكال فإن أرسطو كان يفرق أساسًا جهل الواقع "أي ظروف الحدث"، عن جهل القانون "أي: الخير والشر في العمل" فالأول وحده يعذر فيه الفاعل, "provinciales 4 e lettre" على أن هذا التخصيص لا يبدو لنا أرسطيًّا؛ لأن أرسطو -نفسه- يجعل من بين الحالات الجديرة بالمغفرة والرحمة -حالة أخيل، eschyle، في إفشائه الأسرار، دون أن يعرف أن ذلك محرم ethique, debut du livre iii، هذا إلى أننا إذا أخذنا برأي بسكال فقد تلتبس نظرية أرسطو بنظرية أفلاطون، وسقراط التي ترى أن نوفق بين الفضيلة وعلم الخير والشر.

فكيف أكون في هذه الظروف مسئولًا دون أن أدري، وكيف تقع المسئولية إذا لم يكن مبعثها تنبيه ضميري؟ الحق أن هذا المبدأ لا يعبر إلا عن نوع من العدالة القانونية، التي ترى الناس من خارج، وتحكم عليهم موضوعيًّا، وإحصائيًّا، تبعًا لسلوك متوسطهم. ولا شك أن من المفيد واللازم لحفظ النظام في المجتمع -أن ننظر إلى الأمور من هذه الزاوية, وإلا فإن الباب قد يتسع كثيرًا، بالنسبة إلى جميع مخالفات القانون، بحجة الجهل بالقانون. أما فيما يتعلق بالمسئولية الأخلاقية والدينية التي نعالجها الآن، فلا ينبغي أن تقوم إلا على الحالة الواقعية لضميرنا، مع تحفظ واحد هو ألا يزيغ هذا الضمير مختارًا عن الهدى الذي يقدم إليه، بل يحاول أن يبحث عنه عند الحاجة، والله يقول: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} 1. فليس يكفي إذن، في نظرنا، أن يحمل القانون إلى علم الناس بعامة، وأن أكون بحيث أستقبله، بل ينبغي أن نضيف ضرورة إبلاغه إلى علمي، أنا نفسي، سواء أكان ذلك بوساطة التربية، أو النشر، أو الصدفة، أم كان بطلبي إياه في سعيي وبحثي. وقد رأينا -في الواقع- كيف أن القرآن حرص على أن يثبت، على سبيل الحقيقة التاريخية -إن لم يكن على سبيل القانون الثابت- أن التعليم الإلهي الذي خُوطبت به الشعوب القديمة كان يصل دائمًا إلى المعنيين به، قبل أن يلزموا بمسئوليتهم. هذه الحقيقة نفسها يجب أن تنطبق على التعليم القرآني، وإنها لكذلك، فقد قرر القرآن: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} 2.

_ 1 الزخرف: 36. 2 هود: 19.

وليس هذا هو كل شيء، فلنفترض أن القاعدة قد تقررت بالنسبة إلى الناس، وأني تلقيتها، ولكن ها أنذا، لدى ممارستي للعمل، يغيب عني هذا التعليم، يفلت مني كلية، لقد نسيته بكل بساطة. بل إنني قد أكون في حالة تسمح لي بتذكره، عندما أسأل عنه، ولكني لا أتذكر في الحال، بل أكاد لا أشعر بمجرد وجوده، وسواء كان هذا النسيان مجرد ذهول سطحي وعارض، أو نسيان عميق ودائم، مرضي أو عادي -فإن موقفي هو الاستعداد دائمًا أن أكف عن عملي المخالف، أو أوقف نشاطي الذي بدأته، بمجرد أن يذكرني أحد من الناس بالقانون. فكيف أكون مسئولًا عن عمل تم في مثل هذه الظروف؟ عندما يكون النسيان ظاهرة طبيعية، لا تصدر عن إرادتي، ولا ترجع إلى الخطأ من ناحيتي، فهل يكون من المقبول في منطق العدالة المطلقة، القائمة على واقع الأشياء، لا على التخمينات، أو اعتبارات المنفعة -أن أعد مسئولًا عن عمل كهذا، مع ملاحظة صفته القهرية؟ تعالى الله عن ظلم كهذا. ومن ثم نجد أن القرآن، حينما أنطق المؤمنين بهذا الدعاء: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} 1, لم يلبث النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أضاف إليه هذا التعليق المطمئن: "قال -الله- قد فعلت" 2.

_ 1 البقرة: الآية الأخيرة. 2 صحيح مسلم: كتاب الإيمان, باب 54.

العنصر الجوهري في العمل

ج- العنصر الجوهري في العمل: لقد تحدثنا حتى الآن عن العلاقة التي تربط الفرد المسئول بالقانون، وقد رأينا أن المسئولية لا يمكن أن تثبت أو تسوغ في نظر القرآن إلا بشرط أن

تذيع شريعة الواجب، ويعرفها كل ذي علاقة بها، وأن تكون حاضرة في عقله لحظة العمل. ولكنّا، فضلًا عن علاقتنا بالشريعة، لنا علاقة أخرى بالعمل، فالأولى "علاقة معرفة"، وهذه "علاقة إرادة". والضمير الكلي للفرد الأخلاقي يحتوي هذه العلاقة المزدوجة في آن، ومثله كمثل الفنان الذي يرسم لوحته، وهو ينظر إلى النموذج، سواء في مطابقته له، أو في استقلاله عن قواعده. وعليه، فإن المحكمة التي تهتم بأن تنسب أعمالًا إلى أشخاص لا تستطيع أن تصدر في هذا حكمًا عادلًا دون أن تلاحظ الطريقة التي تقع بها أعمالنا، وعلاقتها بشخصنا. فالعمل اللاإرادي يجب أن يستبعد -بادئ ذي بدء- من مجال المسئولية، من حيث كان ينقصه مطلقًا هذا العنصر التكويني للشخصية. أعني: الإرادة، فالذي يكبو في سيره -مثلًا- لا يمكن أن يعتبر مسئولًا، لا عن سقوطه، ولا عن نتائجه المكدرة أو المستطابة، بالنسبة إليه أو إلى الآخرين. والعمل اللاإرادي من الناحية الإنسانية هو "حادث"، وإن كانوا يطلقون عليه اصطلاحًا: "عمل" لأنه -حين نستخدم التعبير القرآني- لن يكون بعض ما تكتسبه أنفسنا1. فهل نقول إذن -على النقيض-: إنه يكفي أن يكون العمل مرادًا لنا ليحمل علينا.؟ ... نعم ... و ... لا ... نعم ... إذا كان يراد بالحمل "سببية" على نحو ما، ولا ... إذا كان الحمل مرادف "المسئولية الأخلاقية"؛ لأن هذه المسئولية ليست مجرد

_ 1 من قوله تعالى في آخر البقرة {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} .

نسبة العمل إلى الإنسان بصفة عامة، بل لا بد من وجود صفة مميزة، وهي أن هذا العمل يؤدي إلى استحقاق من الثواب أو العقاب. وعليه، فمن الضروري لكي نخلع على أي عمل هذه الصفة، أن يكون هذا العمل الإرادي متصورًا من ناحية صاحبه بنفس الطريقة التي تصوره بها المشرع. وكما أنه في المنطق لا يوجد تماثل أو تعارض إلا إذا أخذ الطرفان المتماثلان، أو القضيتان المتعارضتان في ظروف واحدة، فكذلك الحال في علم الأخلاق، لا يوجد طاعة أو عقوق إلا إذا كان هناك توافق كامل بين العمل باعتباره مأمورًا به أو محرمًا، وبين ذاته باعتباره قد حدث فعلًا. ولنأخذ على ذلك مثلًا، أنك تخرج لممارسة القنص في إحدى الغابات، أو الصيد في إحدى البحيرات، وتعتقد أنك قد صوبت سلاحك نحو صيد، على حين أنك فعلًا أطلقت النار على إنسان، وتريد أن تصطاد سمكة، فيكون ما أخرجته طفلًا غريقًا يفجؤك. فمع أن التماثل حادث في هذه الأعمال من "الناحية المادية" مع الأعمال التي تشكل موضوع القانون، نجد أنها غير متماثلة من "الناحية الكيفية"، فقد أردت عملًا مباحًا أو محايدًا، على حين أن القانون قد رسم عملًا ملزمًا أو محرمًا. لقد كان موضوع تنظيم القانون هو حياة الكائن الإنساني، ولكنك لم تقصد إلى إنقاذ حياة كائن إنساني أو إنهائها، فليس ما أزمعت تحقيقه هو العمل المستحق للثواب أو العقاب. وإذن فإن الاستحسان الأخلاقي، أو الاستهجان كلاهما حكم يقوم على الصفة المحددة التي تصورتها القاعدة. فأي انحراف بريء للإرادة يرى الأشياء بصورة مختلفة -لا يقع مطلقًا تحت طائلة القانون. وعندما يقول القرآن: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} 1 -نتساءل: ماذا يقصد بهذه الأيمان؟

_ 1 البقرة: 225 والمائدة 89.

أما المفسرون فقد جاءوا في هذا الصدد بتعريفين مختلفين تمامًا، يقول ابن عباس في جمهرة من المفسرين: "هو ما يجري على اللسان في درج الكلام والاستعمال، لا والله، وبلى والله، من غير قصد لليمين"، ولكنّ مالكًا يرى أن التفسير الأفضل الذي تمسك به دائمًا هو الذي يحدد هذا النوع من الأيمان على أنه: "حلف الإنسان على الشيء يستيقن أنه كذلك، ثم يوجد على غير ذلك، فهو اللغو"1. ولسنا نريد أن نختار أحد هذين التعريفين، فنحن نعتبرهما كليهما حالتين خاصتين، في نطاق القانون العام لعدم المسئولية، ولو أننا قابلناهما بالنص لوجدنا أن التعريف الأول يتفق بصورة أفضل مع آية سورة المائدة، حيث توضع الأيمان الخفيفة في مقابل الأيمان المؤكدة: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} ، على حين أنها في سورة البقرة تقابل الأيمان التي ينشئ الحنث فيها ضررًا متعمدًا: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} . وهكذا ينتج من مجموع النصين أن العمل "الإرادي"، الذي "انعقدت عليه النية" وحده هو الذي يستتبع مسئوليتنا. بيد أن هذه الصفة الثانية تستحق أن نركز عليها ونحددها أكثر. ذلك أن هناك ضربًا من الخطأ، لا ينصب على موضوع نشاطنا، بل على قيمته ومغزاه الأخلاقي، فقد يخطئ المرء، لا في العمل الذي يؤديه، بل في نظامه، أعني في علاقته بالقانون، فخطئي ليس ناشئًا عن الجهل؛ لأني مدرك لموقفي مدرك في الوقت نفسه للمبدأ الذي كان من الواجب أن يخضع له هذا الموقف، وكل ما في الأمر أني أرى الأشياء من زاوية تجعل سلوكي لا مؤاخذة عليه في نظري، فموقفي شبيه بموقف القاضي، الذي يسأل نفسه في مواجهة حالة

_ 1 انظر الموطأ للإمام مالك, كتاب الأيمان والنذور, وانظر في المشكلة كلها تفسير البحر المحيط 2/ 179. وقد أثبت آراء أخرى لكل من ابن عباس ومالك. "المعرب".

معينة عن المادة التي تنطبق عليها بشكل أفضل, أو ما التفسير الأحسن لتلك المادة؟ أو ما درجة امتدادها؟ وهل من الممكن أن تنطبق على الحالة المنظورة، ولكن القاضي -مع هذا كله- ينتهي مع شديد الأسف إلى تبني حكم خاطئ. ولنأخذ مثالًا آخر، يتعلق بالمقاتل، وهو مثال نأخذه من القرآن، فقد ألاحق عدوًّا شرسًا، فأضطره إلى السقوط والعجز، فيطلب السلام، ويضع السلاح، وأسأل نفسي إذا كان هذا فعلًا طلبًا مخلصًا، أو هو مجرد حيلة إستراتيجية، ثم إنني أحكم تبعًا لماضيه القريب، وصفته الحاقدة، وأفترض أنه لا يمكن أن يكون قد تغير فجأة، فأقرر قتله، وأقتله. فالعمل الذي تم على هذا النحو هو عمل إرادي ومقصود، ولكنه ليس مقصودًا بالمعنى الكامل، وهو مقصود بوصفه الطبيعي، لا بوصفه الأخلاقي، لقد كان لدي القصد إلى أن أقتل إنسانًا، ولكن لم يكن لدي القصد إلى مخالفة القانون؛ لأني بدأت بافتراض أنه خارج على القانون. والعمل الذي يتم بهذا اللون من النية يصفونه بعامة بأنه "عمد بشبهة"، أو "عمد بتأويل"، وهو في مقابل "العمد بغير شبهة"، من ناحية، و"الخطأ" من ناحية أخرى. وبعد هذا لتقسيم الثلاثي نأخذ العمل "العمد بشبهة" لنميز فيه نوعين من التفسير المسوغ، أحدهما "ذو التأويل القريب" وهو الذي يعذر، والآخر "ذو التأويل البعيد" وهو الذي يدين. هنا أيضًا، يجب أن ننتقد هذا المسلك المغالي في الموضوعية، والاهتمام بالصفة القانونية التي تملي تفرقة كهذه، فأصحاب هذا الاتجاه يريدون: أن يحكموا على الناس، لا تبعًا لحالة ضميرهم الفعلية، ولكن تبعًا للحالة التي يزعمون أننا نصادفها لدى الغالبية من الأفراد الأسوياء، ثم بنوع من الاستقراء الناقص، دون أن نفتش عما يحدث فعلًا لدى شخص أو آخر.

هذه الفكرة المجردة، التي تصبح فيها الذات وحدة حسابية، والتي تختفي فيها كل أصالة فردية -تتفق تمامًا مع حاجات الحياة الاجتماعية، بيد أن الأخلاقية ليست مطلقًا أمرًا استقرائيًّا، كما أن المسئولية الأخلاقية لا يمكن أن ترتبط إلا بشخص مادي، ولما كان واضحًا بدهيًّا أن المسئول على بعد يمكن أن يصدق، فإن التأويل البعيد ليس هو الباطل. ومن هنا كان على علم الأخلاق أن يدع هذه التفرقة لعالم الاجتماع، وأن يستبدلها بأخرى تناسبه، وبدلًا من أن تخضع الشرعية للتأويل القريب، يجدر بنا أن نميز المخلص من غير المخلص. ولقد يحدث -في الواقع- ألا تكون نيتي غير العدائية سوى نية موجهة، مصطنعة تجيء بعد فوات الأوان؛ لتسويغ نية أخرى أبعد غورًا، وتأصلًا في نفسي، وهذه النية الأخيرة لا يمكن تسويغها، وهي فعلًا غير سائغة في نظري، بشرط أن أقوم فقط بتحليلها لنفسي بنفسي، وأن تكون لدي الشجاعة لمواجهة الدوافع الحقيقية لعملي. في هذه الحالة، لا شك أن نيتي الثانية لا قيمة لها، وهي عاجزة من كل وجه عن أن تخلصني من المسئولية الأخلاقية، مع أنها قادرة على أن تبرأني قانونًا. ولقد نجد مثالًا على هذا القصد المشتبه في الحالة السابق ذكرها، وهي الخاصة بملاحقة العدو الجانح للسلم، الذي تحدث عنه القرآن والحديث: القرآن في قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} 1، والحديث في قوله -صلى الله عليه وسلم- للصحابي:

_ 1 النساء: 94.

"أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله" 1. ولكن حين تكون نيتي خاضعة تمامًا لوجهة نظري، وأكون مقتنعًا بأني لا أنتهك الشرع -"ما خلا الحالة التي ارتاب فيها في جهلي، ثم لا أبحث عن مخرج منه"- فإن أحدًا لا يستطيع أن يلومني على مثل هذا الموقف المتسم بالإخلاص، حتى لو كان منحرفًا؛ ذلك أن كل امرئ منا يُحكَم عليه تبعًا لما في نفسه مهما يكن الأمر، والله يقول: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} 2. أما فيما يتعلق بالتعارض المنهجي الذي جعلوه بين العمل الذي يتم "بحسن نية"، والآخر الذي يتم "بغير قصد"، فهذا التعارض صحيح إذا كان يراد بكلمة غير المقصود ما لا تتجه إليه الإرادة مطلقًا، كليًّا أو جزئيًّا. ولكن التعارض لن يكون ذا موضوع إذا كان المراد القول -على العكس- بأن "الخطأ" هو ما ليس مقصودًا أخلاقيًّا على وجه الكمال، ذلك أن العمل الذي يتم بحسن نية حينئذ لن يكون سوى حالة خاصة من العمل غير المقصود "الخطأ" بعامة. وهذه الخاصة التي لا تنشئ سوى فرق في الدرجة بينه وبين العمل اللاإرادي، المحض -ما كان لها أن تعدل شيئًا من صفته البريئة، ومن ثم- غير المسئولة.

_ 1 البخاري, كتاب الديات، باب1، والحديث كما رواه البخاري عن أسامة بن زيد بن حارثة -رضي الله عنهما- يحدث قال: بعثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الحرَقة من جهينة قال: فصبحنا القوم فهزمناهم، قال: ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلًا منهم. قال: فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، قال: فكف عنه الأنصاري فطعنته برمحي حتى قتلته، قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-, قال: فقال لي: "يا أسامة، أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟ " قال: قلت: يا رسول الله، إنما كان متعوذًا، قال: "أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله"، فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم. "المعرب". 2 الإسراء: 25.

وإذن، فإذا أردنا أن نصوغ الشرط الثالث للمسئولية الأخلاقية قلنا: إن العمل المنوط بالمسئولية هو العمل الذي يكون القصد إليه كاملًا، أعني: أنه العمل الذي تهدف فيه الإرادة، لا إلى الصفات الطبيعية لموضوعه فحسب، وإنما كذلك إلى صفاته الأخلاقية على نحو ما أدركها المشرع. ويجب أن يكون العمل متصورًا لدى فاعله على النحو الذي أجيز به، أو حرم، أو أمر به، ومن حيث هو كذلك. وأي اختلاف في الرأي، أو انحراف في القصد، في صفة أو أخرى، يخرج العمل من دائرة الملاحقة بنص الشرع؛ لأنه إذا كان العمل الذي تقرر حكمه في الشرع غير العمل الذي وقع -لم يكن لهذا الذي وقع أن يكون له إذن نفس الحكم، فهو في افتراضنا حدث حتمه خطأ لاإرادي. وعليه، فحين نؤكد أن خطأ من هذا القبيل لا يمكن أن يكون محسوبًا فلسنا نفعل سوى تفسير القول العام الذي جاء به القرآن نفسه، حين يعلن: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} 1، وكذا قوله: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَاْ} بتفسيره الذي ذكرناه آنفًا. وقد يقال: إذا كانت هذه هي الأهمية التي تخص بها النية أو القصد، وإذا كانت المسئولية الأخلاقية دائمًا ذات ارتباط بهذه النية أو القصدية، أفلا يستتبع ذلك أن تصبح "النية" في رأيك هي كل "الأخلاقية"، أو كما يعبر "كانت": "إن الشيء الوحيد في العالم الذي هو خير في ذاته هو الإرادة الطيبة"؟ هيهات أن يكون ذاك، لا لأن من التناقض أن نضع الخير المطلق في حالة

_ 1 الأحزاب: 5.

شخصية تناسب ضمير كل فرد1؛ لأن النسبية الوجودية لهذه الحالة لا تحول دون أن تكون لها قيمة أخلاقية مطلقة. ولكن ما يدفعنا إلى رفض هذه النظرية هو أنها أولًا تجرد السلوك من كل قيمة خاصة، ثم هي بعد ذلك -حين تغالي في تقدير النية في العمل- تقع في ذلك التناقض الذي يجعل كل شيء حسنًا ما دمت تصطحب في فعله نية أن يكون حسنًا، حتى ما كان من الأعمال غريبًا أو مستحيلًا. وأخيرًا، فإن هذه النظرية، حين تكون منطقية مع نفسها بكل دقة، تؤدي إلى إلغاء كل تقدم، وإزالة كل تفاوت في القيمة الأخلاقية. فإذا كانت النية الحسنة هي كل الأخلاقية فيجب أن نعامل على قدم المساواة -ضمائر وأعمالًا جد متباعدة على سلم القيم. ومن ذلك أن أكثر الناس جهلًا، وأكثرهم تعصبًا، حين يقع فريسة وهم عضال، فيعتقد أن يماثل إرادته بالشرع -هذا الرجل يحق له -استنادًا إلى هذا المنطق- أن يحظى بنفس التقدير الذي يستحقه في نظرنا أكثر الناس حكمه، وأعظمهم استنارة. بيد أن "كانت" لم يدخل في اعتباره كل هذه الصعوبات؛ لأنه -على وجه التحديد- يلتزم بسلم مجرد، تصبح فيه الفكرة العامة للواجب وحدة دون تنوع، وهو لا يريد أن يكلف نفسه عنت تصور الضمير في واقعه المتعدد، والمحسوس. أي: إن "كانت" لا يأخذ من العنصر الثلاثي للضمير الأخلاقي، وهو: "المعرفة"، و"الإرادة"، و"العمل" -سوى جانب واحد هو: الإرادة. ونحن متفقون تمامًا مع "كانت" فيما يقرره من أن أكثر الأعمال نفعًا، وكذلك أكثرها نزاهة، ليست له قيمة أخلاقية إذا لم تصحبه، بل إذا لم

_ 1 انظر: paul janet, la morale, L. I, p. 42.

تحدده إرادة الخضوع للقانون، وأن أسوأ الأعمال لا يستتبع مسئولية إذا لم يكن قد خالف القانون عن عمد. ولكن شتان بين هذا وبين أن نقول في حالة العكس: إن أكثر الأعمال ضلالًا مع النية الحسنة يسترد كل قيمته، ويصبح قدوة للسلوك الأخلاقي. فإذا كانت النية الطيبة تعذر صاحبها، فإن ذلك لا يستتبع أن تنزل منزلة مبدأ مطلق للقيمة الأخلاقية وعلى سبيل الإيجاز، ولكي نعطي لتفكيرنا شكلًا أكثر وضوحًا وتحديدًا، نقول: إن النية شرط ضروري للأخلاقية، وهي على ذلك شرط للمسئولية، ولكنها ليست بأي حال شرطًا كافيًا لهذه أو تلك. وهذه هي رؤيتنا لدور النية في الأخلاق الإسلامية، والنص المشهور الذي يجعل منها محكًّا للأخلاقية لا يتيح لها أن تستوعب وتمتص قيمة العمل كلها، بل يجعلها شرطًا لصحة هذا العمل.

الحرية

د- الحرية: عندما يكون المرء قد عرف الشريعة، وعمل بإرادة، وعلى بصيرة من الأمر فليس معنى ذلك أنه يكون قد جمع كل شروط المسئولية، فأنا أعرف جيدًا أن هذا العمل محرم علي، ولست أخطئ طبيعته المادية، أو طبيعته الأخلاقية، وحين يتحتم على إرادتي أن تتدخل فإنها تتناوله من نفس الجانب الذي صار به محرمًا. فهو إذن عمل شعوري منبعث عن نية مزدوجة. بيد أنه إذا لم تكن إرادتي وحدها هي التي تحدثه، وإذا لم يكن مجال اختياري الحر خاليًا, كصفحة بيضاء, وكان مشغولًا بقوى أخرى هي التي حددت اختياري في اتجاه معين دون أي اتجاه آخر، وإذا لم يكن لإرادتي -وهي تواجه هذا التداخل غير أن تتبع تيارًا سبق أن خط لها- فكيف أنسب إلى نفسي عملًا كهذا، لم تسهم فيه شخصيتي إلا في جانب معين؟

ألا يجب علينا -بالإضافة إلى ما قررناه من أهمية ملكات "المعرفة" و"الإرادة" أن نبحث أهمية "قدرتنا" وأن نقرر "أن فاعلية جهدنا"، أي: "حريتنا"، شرط "رابع" في المسئولية؟ إن مبدأ التناسب بين المسئولية والحرية تمتد جذوره بعمق في الضمير الإنساني، بحيث لا يمكن تجاهله دون أن يبدو في موقفنا شيء من الإجحاف فإلى أي حد إذن -إذا أخذنا الإنسان كما هو، يمكن أن نتحدث عن مسئولية مشروعة؟ إنا لنعلم أن مشكلة الحرية قد أثارت منذ الأزل نظريتين متعارضتين إلى أقصى حد، على الصعيد المجرد على الأقل: الحتمية، واللاحتمية. فإذا أصغينا إلى ما يقوله بعض المفكرين فلن يكون مجال مطلقًا لإرادة إنسانية حرة، بالمعنى الصحيح، ولقد كتب شوبنهور schopenhouer يقول: "هناك أناس طيبون، وآخرون خبثاء، وذلك مثلما يوجد حملان، ونمور. فالأولون يولدون بمشاعر إنسانية، والآخرون يولدون بمشاعر أنانية، وعلم الأخلاق يصف أخلاق الناس، مثلما يصف التاريخ الطبيعي خصائص الحيوانات". ويذهب سبينوزا spinoza إلى حد القول بأن الأعمال الإنسانية، شأن جميع ظواهر الكون، تنتج، وتستنبط بنفس الضرورة المنطقية التي يستنتج بها من جوهر المثلث أن زواياه الثلاث تساوي قائمتين. وهذا "كانت" بطل الحرية، الذي جعل منها المسلمة الأساسية للحاسة الأخلاقية، يعلمنا نوعًا من الحتمية الإنسانية، التي لا يحول طابعها المطلق والميتافيزيقي، من أن تتعلق بالصرامة العلمية، إذ يؤكد أننا لو كنا نعرف جميع الظروف والسوابق، فإن أعمال الإنسان يمكن التنبؤ بها بنفس الدقة.

التي يحدد بها كسوف الشمس. وقد كان عليه، لكي ينقذ الحرية، ومعها المسئولية -أن يخرجهما كلية من مجال التجربة، ومن عالم الظواهر، ليحبسهما في عالم مجهول، يراه غير قابل للمعرفة، وهو ما يتساوى عمليًّا مع إنكار واقعهما الراهن، حتى لا يبقى منه سوى تذكار دارس، وامل ملتبس. ولم يتردد هوم hume في أن يقول هذا بألفاظ مباشرة: "إن شعورنا بالحرية ليس إلا وهمًا". بيد أن مسئوليتنا عن كل عمل مقصود -على ما يعتقد أنصار الاختيار الحر- هي أمر قطعي، وفي رأيهم: أن الإرادة والحرية مترادفان1. وعلى أية حال، فإن هاتين الفكرتين تغطيان على وجه التحديد نفس المجال. ولا يتعلق الأمر، بطبيعة الحال، أن ننسب إلى الإنسان القدرة الكلية على تنفيذ قراراته بحرية، برغم جميع العقبات المادية، وضد قوانين الطبيعة الصارمة. إذ يجب أن نكون قد فقدنا كل تفكير متزن حين نؤكد أننا نستطيع دائمًا أن نفعل ما نريد. وذلك بالرغم من حقيقة ما يقال -في الظروف العادية للحياة العملية، ومع تنحية الأعمال التي تحظرها قوة قاهرة-: إن "الإرادة هي القدرة"، بيد أن المعنى الحقيقي للفظ، وهو الذي يريد المدافعون عن الاختيار الحر أن يثبتوه شرطًا متحققًا للمسئولية -ليس هو "حرية التنفيذ" "التي يدركون نسبيتها وارتباطها بألف ظرف خارجي"، بقدر ما هو "حرية التقرير"، التي يعلنون أنها لا تنفصم عن كل ضمير إنساني. ولا أحد يضارع مطلقًا "ديكارت"، الذي مد حدود نشاطنا الحر إلى أبعد مدى، لا في مجال العمل فحسب، بل في مجال المعرفة أيضًا. فإرادتنا هي التي تحكم أو تمتنع، هي التي تثبت أو تنكر. وتتجلى هذه الحرية أولًا

_ 1 قال ديكارت في "الإجابات على الاعتراضات الثالثة": "إن الإرادة والحرية ليستا سوى شيء واحد".

في الشك المنهجي، أي: في القدرة التي نملكها على الرفض الإرادي لجميع أحكامنا المسبقة، وجميع معارفنا السابقة، الناتجة من حواسنا، أو من استخلاص قياسنا، سواء أكان هذا الشك لكي نصدر على إثره -حكمًا بصدقها أو كذبها النهائي، أم لكي نعلق حكمنا عليها تعليقًا محضًا مجردًا1. لكن هذا النشاط يبدو بشكل موضوعي في أحكامنا العادية، وهذه الأحكام لا يرفضها إدراكنا، بل قد تسبق هذا الإدراك وتتجاوزه، وكما يحدث في جميع الحالات التي نرتكب فيها خطأ نظريًّا، لا يكون هذا الخطأ سوى حكم إرادي، أصدرناه على الأشياء التي نعتقد أننا ندركها، على حين أننا لا ندركها في الواقع2. وحتى عندما نلجأ إلى البداهة فإننا نفعل ذلك بحرية أيضًا؛ لأننا كنا نستطيع أن نقاومها، ولا نقرها، "بشرط وحيد هو أن نرى من الخير أن نؤكد بهذا حقيقة اختيارنا الكامل"3. ولنقف عند المشكلة الأخلاقية. أنحن في سعينا إلى الخير، والشر مصدر أحكامنا، أنحن علتها؟ أم أنها الثمرة المحتومة لطبيعتنا الثابتة، أو النتيجة الضرورية لحالات ضميرنا السابقة: الأفكار أو العواطف؟ أولع الحتميون بأن يقدموا لنا الطابع الفطري في إطار صارم إلى أقصى حد، لا يحتوي أية ليونة، أو مرونة، فالميول الطيبة أو الخبيثة التي نجتلبها معنا عند الولادة -هي فطرتنا، فكيف نكون مسئولين عن فطرة ليست صنعتنا، وهي على كل حال ليست صنعتنا الشعورية4؟ بيد أنهم لم يبرهنوا أولًا على هذا الطابع الثابت والمقرر لغرائزنا، ويبدو

_ 1 انظر descartes. Premiere meditation 2 المرجع السابق: reponses aux 5 es objections 3 المرجع السابق: lettres au pere mersenne. lettre 47 4 ليفي بريل la responsabilite, chap. III & II

أن علم النفس المقارن يثبت على العكس أن الغرائز الإنسانية أقل صرامة، وأكثر قابلية للتغيير والتربية، يؤثر بعضها في بعض أكثر من غريزة الحيوان بسبب عددها الكبير، وتعقدها البالغ. وإذا كان إنسان قد باشر -منذ الأول- سلطانه على الصفات الطبيعية للحيوانات غير المستأنسة، التي أصبحت بالترويض طيعة مستأنسة، بعد أن كانت متوحشة متمردة، فكيف لا يكون لدينا سلطان مباشر أو غير مباشر على طباعنا الخاصة، كيما نغيرها إلى خير أو شر؟ ألا تنطوي أعماق هذا الحكم المتشائم على مقدمة متسرعة، ودليل بليد؟ فقد اعتقد العقلاء، في كل زمان -على عكس ذلك- في فاعلية الجهد الذي نستطيع أن نمارسه على ذواتنا، ويبدو أيضًا أن التجربة تؤكد إمكان التحويل، المتفاوت في درجة عمقه. ويبدو كذلك أن القرآن يعترف من جانبه بهذه القدرة المزدوجة، التي أوتيها الإنسان، على أن يطهر كيانه الجواني ويحسنه، أو يعميه ويفسده، يقول الحق سبحانه: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 1. ولنكن أقل طموحًا، ولنقرر -في الحقيقة- أن بعض عناصر طبعنا الأخلاقي تعصى على كل تطور أو تقدم، بيد أن هذا الجزء، ما كان له بداهة، أن يكون موضوع التكليف، أو المسئولية. فقد يكون المرء -بطبيعته- حزينًا أو فرحًا، متشائمًا أو متفائلًا، بليدًا أو حساسًا، دون أن يكون -لهذا- لاأخلاقيًّا. والإنسان ليس مسئولًا عن شذوذه النفساني، أكثر من مسئولية العليل عن عيوبه الجسمية.

_ 1 الشمس 7-10.

وأخيرًا، وفي نطاق الفرض القائل بأن جزءًا من طبيعتنا يظل -مطلقًا- عصيًّا على كل تعديل -يجب أن نفرق بين المطالب التي توحي بها ميولنا الفطرية، والتي لا نملك شيئًا لمقاومتها، وبين علاقات هذه المطالب بإرادتنا. ولسنا هنا نزعم أن الإرادة نظام منعزل، يعمل مستقلًّا عن بقية كياننا، فمع أنها تجد في ذاتها القوة الكافية، أو كما يقال في الفلسفة المدرسية "العلة الفاعلة" لأفعالها, فإنها بحاجة إلى أن تبحث خارجها عن دوافعها، وعلتها الغائية، التي لن تجد منبعها إلا في الجانب الأدنى، أو في الجانب الأعلى: الغريزة، أو العقل. ولكل عمل شعوري وإرادي دائمًا علة، وتتحدد ماهية هذه العلة تبعًا لما إذا كان الإنسان يسعى إلى الخير الحقيقي، أو المنفعة، أو المتعة، فيقول: لأن ذلك أفضل، أو أنفع، أو لأنه يمتعني أكثر. فالمستبد الذي يتخذ على وجه التعسف قراراته، دون أن يتردد أو يستشير، ثم يقول: "أريد لأني أريد" -هذا المستبد يخضع في الواقع لنوع من السبب الخفي، لا يعدو أن يكون الحاجة إلى أن يظهر استقلاله. وعندما يتردد المرء في لحظة معينة بين أمرين يريد أن يعزم على أحدهما، دون أن يجد مطلقًا أدنى سبب يفرضه، بل ولا أقل سمة من سمات التفضيل، ثم هو يعزم أخيرًا على أحدهما، لمجرد إلحاح ضرورة حسم الموقف، ولأنه كان لابد أن ينتهي منه -فذلك لأنه افترض فيما وقع عليه اختياره أسبابًا تتساوى على الأقل مع أسباب ما عدل عنه. إن مشكلة تحديد الإرادة بوساطة دوافع أو علل أية كانت -قد أثارت في الفلسفة الإسلامية ثلاث تيارات مختلفة، هي التي نجدها لدى الأخلاقيين الأوربيين، وهي التي تستنفد كل الحلول الممكنة. ففي المقام الأول توجد نظرية جمهور أهل السنة، ومعهم قليل من المعتزلة، ويرى هؤلاء المفكرون أنه لكي يمكن اختيار أحد النقيضين اختيارًا نهائيًّا،

وتحقيقه، يجب مطلقًا أن تتوفر فيه بعض الشروط الخاصة، وأن تكون له علة تقتضيه اقتضاء تامًّا، يجعل من المستحيل أن يختار النقيض، وإذا عدم هذا ظل الجانب المختار في حالة الإمكان، دون أن يبلغ مطلقًا درجة الفعل1. وتأتي بعد ذلك نظرية الخوارزمي والزمخشري، وقد اكتفيا ببعض الأسباب المرجحة، بدلًا من اشتراط ضرورة علة موجبة2. ثم تأتي أخيرًا نظرية أكثرية المعتزلة، وهم يرون أن الاختيار الإرادي لا يتطلب وجود شيء سوى ذاته، وفي رأيهم أن الفاعل المختار لا يمكن تحديده أو تميزه عن الموجب بالذات إلا بقدرته المزدوجة على الفعل أو الترك، بحسب إرادته وحدها، وبنفس الإمكان، دون أن يخضع أو يستمال ببعض الأمور الخارجة عن اندفاعه الخاص. ومن المألوف في هذا الصدد مثال الإنسان الذي يواجه عدوه، فيأخذ في الهرب، ويجد نفسه في مفترق طرق، فيختار أي الطريقين المفتوحين أمامه، ولقد تردد الرازي وبعض الأشاعرة بين النظريتين المتطرفتين3.

_ 1 انظر: منهاج السنة، لابن تيمية، جـ1 ص110. 2 المرجع السابق 2/ 5، قال ابن تيمية: "وهو باطل، فإنه إذا لم ينته إلى حد الوجوب كان ممكنًا فيحتاج إلى مرجح، فما ثم إلا واجب أو ممكن، والممكن يقبل الوجود والعدم". "المعرب". 3 منهاج السنة 1/ 111، وقد صور ابن تيمية تردد هؤلاء على هذا النحو، قال: كانوا "إذا ناظروا المعتزلة في مسائل القدر أبطلوا هذا الأصل، وبينوا أن الفعل يجب وجوده عند وجود المرجح التام، وأنه يمتنع فعله بدون المرجح التام، وينصرون أن القادر المختار لا يرجح أحد مقدوريه على الآخر إلا بالمرجح التام، وإذا ناظروا الفلاسفة في مسألة حدوث العالم وإثبات الفاعل المختار. وإبطال قولهم بالموجب بالذات سلكوا مسلك المعتزلة والجهمية في القول بأن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح، وعامة الذين سلكوا مسلك أبي عبد الله بن الخطيب وأمثاله تجدهم يتناقضون هذا التناقض". "المعرب".

ولقد سبق أن قررنا أننا لا نميل إلى الفكرة الشائعة لدى المعتزلة، فهذا النوع من الاختيار المتعسف يجب في كل حال أن يستبعد في موضوعنا؛ لا لأنه أدنى درجات الحرية فحسب، على ما قال ديكارت، ولكن لأننا نرى أن الإرادة اللامبالية هي إرادة ناقصة، فهي ليست سوى نصف إرادة، والنصف الآخر آلية وصدفة. فأنا عندما أقف في الصباح أمام أزياء كثيرة، كلها لائق، ومناسب للموسم -أجدني في لحظة اختيار محير، ولكني تحت ضغط ساعة الرحيل أعزم على اختيار واحد، أيًّا كان, إن إرادتي لم تتصور هذا الزي إلا مع غض النظر عن خصائصه، ناظرة إليه على أنه نموذج لفكرة عامة لم تحرم منها النماذج الأخرى. إن كل ما أحرص عليه هو أن آخذ زينتي باحتشام قبل الخروج، وهذا الجانب من عملي هو بكل تأكيد إرادي، وله علته. ولكني من الناحية التفصيلية عندما أقول: "سواء على هذا أو ذاك" أرفع يدي تلقائيًّا، ولا يكون موضوع الاختيار هو ما أضعه أمامي. ويختلف الأمر عن ذلك في مجال الأخلاق، ففي هذا المجال تكون الإرادة دائمًا مانعة. فهي سلبية وإيجابية في آن واحد. إذ إنني حين أرغب في هذا لا أرغب في ذاك، وهو ما يقطع أساسًا بافتراض باعث، أيًّا كان: "منفعة" أو "واجب". والأمر كذلك في كل اختيار إرادي بالمعنى الصحيح. ولقد فطرت النفس على ألا تتم أي اختيار دون أن تجد فيه تناسبًا معينًا بين الإجراء الذي تتخذه، والهدف الذي تبلغه، "فالإرادة" بحسب تعريفها، "هي السعي وراء الغاية". إن اعتبار الاستقلال خاصة مميزة للإرادة الإنسانية ليس إذن تخصيصًا لها بالقدرة على أن تمارس ذاتها دون دافع، أو غاية، وعلى أن تقطع صلاتها بجميع قوى الطبيعة الأخرى؛ بل إن هذا الاستقلال لا يصح أن يتخذ ذريعة لقطع منابع هذه القوى، أو إسكات الأصوات التي تحفز الإرادة، وإنما يعنينا فقط أن نثبت أن الصلة بين إرادتنا الخاصة ومزاجنا أو الطريقة التي تعودناها

في التفكير أو الشعور -لا تنبثق مطلقًا من ضرورة حقيقية، مهما يكن ما نقصد بكلمة "ضروري". فأنا لست أميل إلى هذا الفريق. أو ذاك بفعل الضرورة المنطقية، على طريقة سبينوزا "علاقة اتحاد أو التحام" مع دام الحل العكسي لا يستلزم تناقضًا. ولست أفعل ذلك أيضًا خضوعًا لضرورة تجريبية "علاقة سببية أو تسلسل أو علاقة تضامن وثيق لا ينفصم". فليس حقًّا، على الرغم مما يقوله سقراط وأفلاطون، أن العلم بالخير الحقيقي يحتم إرادة فعل الخير؛ لأن من الممكن فعل الشر، بسبب الضعف، مثلما يمكن تمامًا فعله بسبب الجهل. وليس حقًّا كذلك، مهما يقل ليبنز: إن الخير الذي أدركه بذاتي يمنعني مطلقًا من أن أفضل خيرًا أتخيله فحسب، فقد أفعل ما أكره، وأحرم نفسي مما أحب، وذلك مثلما أقبل مشروبًا مرًّا على أمل بعيد في صحة أفضل. ويصف لنا ستيوات ميل s. mill، على أساس من العنصر المشترك بين رأيي أفلاطون وليبنز، يصف لنا حدث الإرادة، كسائر أحداث الضمير الراهنة، على أنها محتومة بوساطة الحالات السابقة، وعلى طريقة كرة البليارد، التي تتحرك عندما تتلقى صدمة الكرة الأخرى، في الاتجاه الذي تدفعها إليه. فذاتنا قد تشهد هذا المنظر بطريقة سلبية، أو بالأحرى: هذه الذات لا توجد من وجود خاص، إذ ليس في هذا العالم سوى مجموعة من الظواهر يسود بينها قانون الأقوى. ولكن إذا لم يكن حدث الإرادة سوى نتيجة طبيعية للأحداث السابقة، فيجب أن يكون ممكنًا تحسبه والتنبؤ به، لا أقول: بالنسبة إلى المشاهد

اليقظ، بل بالنسبة إلى الشخص ذاته، بنفس اليقين الذي نتنبأ به بظاهرة طبيعية. غير أن هذا التنبؤ لا يكذبه لدينا فقط واقع تقديرنا للقرار الواجب اتخاذه، وهو ما يبدو عديم الجدوى إذا ظهر أمامنا اتجاه متوقع الحدوث، بل إن القرآن يعلن إلينا أن هذا التنبؤ مستحيل على الفكر الإنساني: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} 1. ولا ريب أن من الممكن أن نخاطر بفرض حول احتمال حدوث حدث ما، وأن نصوغ حكمًا بالاحتمال على أساس سلوكنا السابق، غير أن هذا الحكم سوف يكون حظ إثباته بوساطة الأحداث بقدر ما تستهوينا عاداتنا، ولا يكون قط بقدر ما نلجأ إلى الاستخدام المتنوع لحريتنا. هذا الإدراك الميكانيكي للحالات النفسية، تعارضه معارضة قوية نظرية الحرية عند برجسون. فأفعال الضمير -كما يقول برجسون- لا توجد متفاصلة، ولا تبقى برانية، بعضها بالنسبة إلى بعض. فمتى ما بلغت عمقًا معينًا تتداخل، وتمتزج، وكل منها يعكس النفس بأكملها. فمن المستحيل إذن أن نطبق عليها مبدأ السببية، الذي يفترض وجود حدين متميزين، هما السبب والنتيجة. ومن ناحية أخرى: هذه الأفعال الجوانية لا تظل مماثلة لذواتها، فمجرد بقائها وحده يعني أنها تتغير، وتتطور كأي كائن حي، ولا ترجع بعد إلى وضعها الأول. وعلى هذا النحو فإن نفس السبب، إن وجد سبب، لا يمكن أن يظهر مرات عديدة، وإذا كان يعطي نتيجته مرة واحدة، فلن يعيدها بعد ذلك أبدًا. بيد أن لنا ملاحظة، هي أن هذه النظرية لم تستطع تخليص إراداتنا من

_ لقمان: الآية الأخيرة.

ربقة السببية الميكانيكية إلا بشرط إخضاعها لسببية ديناميكية. والحق أنها تقر التفسيرين معًا، وترسم لكل منهما مجاله الخاص، محتفظة للأول بنصيب الأسد. ويقول برجسون: إننا طالما بقينا على اتصال بالعالم الخارجي، وطالما التزمنا أوامر المجتمع، فإن حالات ضميرنا تظل متقاربة على سطح ذاتنا، ولا تندمج في كتلة الذات. ومن هنا كان إمكان أن تتداعى هذه الحالات، بحيث يدعو حضور إحداها الأخرى. ولذلك، فنحن نؤدي في أغلب الأوقات أعمالنا في حالة من الوعي الآلي، وهي الأعمال التي تنطبق عليها النظرية الميكانيكية. فأما إذا حدث أن انتزعنا أنفسنا من العالم الخارجي لكي نصبح وقد استرددنا ذاتنا، وأن عدنا من المكان إلى الزمان، ومن اللغة إلى الفكر المحض، ومن المشاعر المتلقاة إلى اقتناعنا الشخصي -إذا حدث هذا -وهو أمر نادر جدًّا- فإننا نعود للارتباط في الوقت نفسه بذاتنا الأساسية، ولسوف تكون أعمالنا الحرة هي تلك التي تصدر عن هذه الذات، والتي تلخصها، "وتنتزع منها كما تنتزع ثمرة ناضجة". فمن الممكن إذن أن نتساءل: أليست الحرية، في تعريفها على هذا النحو، هي في جوهرها حتمية الطبع؟ أما برجسون فلا يخفي هذا، وهو يقول: "عبثًا ما ندعيه: إننا نخضع حينئذ لتأثيرطبعنا، فطبعنا هو أيضًا ذاتنا"1. وإذا كان الأمر كذلك.

_ 1 انظر: Bergson, Essai Sur Les donnees Immediates de la conscience. Ch. III p. 129.

فإن مشكلة الحرية لا يبدو أنها تتقدم كثيرًا، فإن العبد إذا ما غير سيده لم يخرج عن كونه عبدًا. لقد كانت نظريات تداعي المعاني تقدم لنا تفاعل أفكارنا بشكل ما -على أنه مباراة لكرة القدم، تشتجر فيها قوى متضادة، موجودة في داخلنا على هيئة ذات معزولة، لا ينتصر منها إلا أقواها. أما ديناميكية برجسون -فعلى الرغم من التنازلات الكبيرة، التي منحتها لخصومها- فهي تعتقد أنها تكشف عن عدد من الحالات، ينبثق قرارنا فيها عن قوة واحدة، بالغة العمق، وهي تنمو وتزدهر، بلا توقف، كأنها نار مستمرة. ولكن مهما يكن ما نذهب إليه بشأن هذه القوة: واحدة أو متعددة، عميقة أو سطحية، فإن الميكانيكية والديناميكية تتفقان في الرجوع إلى طبيعة يستحيل علينا أن نغير اتجاهها، أو أن نوقف حركتها، ومهما تكلمت الديناميكية عن "الحرية" وعن "الاحتمال" فإنها تقرر أيضًا "الضرورة" و"الحتمية" أو إذا كان هناك احتمال فإنه احتمال تقول به "ذات لاشعورية"، تختار من بين إمكانات منطقية كثيرة -طريقة نموها، اختيارًا أعمى، وعلى غير هدى. وهكذا يلتقي من طريق أخرى "برجسون" مع "كانت"، فكلاهما يقرر عجز ذاتنا التجريبية والشعورية عن أن تفعل شيئًا سوى تلقي عملها جاهزًا من ذات أخرى، أطلق عليها أحدهما: الذات الأساسية، وأطق عليها الآخر: الذات الماهية المعقولة moi noumenal وكل ما يفرق بينهما في هذا المجال أن برجسون يضع هذه القدرة في واقع محسوس، وقد كان بحكم إخلاصه لنزعته البيولوجية يدافع عن تلقائية "الدفعة الحيوية" في نموها الطبيعي، الذي تتحدى به جميع التدبيرات المحسوبة. غير أن هذه ليست أيضًا الحرية بالمعنى الذي يشغلنا، فهي بدلًا من أن

تدعم مسئوليتنا الأخلاقية، لا تفعل -على العكس- سوى أن تقوضها فإذا كانت إرادتنا تنبثق من طبعنا، وكان طبعنا مفروضًا علينا قدرًا مقدورًا، فإننا نظل في حلقة مقفلة: لا أحد يقدر أن يكون سوى ذاته. إن الحرية التي تقوم كشرط لمسئوليتنا يجب أن نبحث عنها في مجال آخر غير الطبيعة الواقعية أو المحتملة "الكائنة"، أو التي في طريقها إلى التكوين. يجب أن تكون هذه الحرية ذات طابع يسيطر على الطبيعة ولا يخضع لسيطرتها، أو تكون -كما قال سبينوزا "طبيعة فاعلة" لا "طبيعة منفعلة"1. والواقع أننا عندما نجيب بالإيجاب على هذا السؤال: "هل ما نزال "أحرارًا" في قراراتنا، مع وجود أمزجتنا، وعاداتنا، وأفكارنا، وعواطفنا الراهنة؟ " -فإننا نعلن بذلك أننا شيء مختلف، أكثر من مجموع هذه المعطيات، وأننا ما زلنا نملك فوق كل هذه الأنشطة الخاصة نشاطًا آخر أسمى، هو نشاط ذات محسوسة وكلية، قادرة على أن تنظم نفسها بألف طريقة مختلفة. ونزيد الأمر تأكيدًا فنقول: إن إعلان هذا النشاط ليس مع ذلك إدعاء لقدرة خيالية ووهمية، وليس الأمر مطلقًا أمر نقض كامل لعالم جواني، ثم إعادة صنعه على حالة أخرى لم يكن عليها. وليس الأمر بالنسبة إلينا أن لدينا قدرة مطلقة على اختلاس عنصر، أو مجموعة عناصر من كياننا، أو منع حركتها، أو عزل إرادتنا عن هذا المجموع، لكي نمارسها في فراغ، بلا دافع، وبلا غاية. وليس المراد هو مواجهة الطبيعة، من حيث ما فيها من عنصر جوهري، وحتمي، بل مواجهتها من حيث ما فيها من عنصر مرن قابل للتشكيل. ومما نعترف بضرورته إطلاقًا أن كل نشاط إرادي يفترض وجود دافع

_ 1 تعبيره بالفرنسية هو: une nature naturante, et non pas une nature nature.

يحركه، وأن كل حركة تستهدف غاية تبلغها. بيد أن هذا الدافع، وهذه الغاية ليسا وحيدين في الطبيعة، ولا سيما عند اتخاذ قرار فيه قدر من التدبر وإعمال العقل. إن ضلال الحتمية "ميكانيكية وديناميكية" لا يكمن في أنها تستدعي صورة توازن في الدوافع، أو صورة دفعة من المزاج، فأي إنسان يرقب أحواله بانتباه يفطن إلى هذا التناوب في الأهداف التي تتبدى له مع الأسباب التي تؤيدها، بصورة تتفاوت في درجة اختلاطها كما يحس في نفسه نوعًا من التردد الذي لا يتوقف إلا بعد اتخاذ القرار. ولكن خطأ كل نظرية طبيعية يكمن في أنها تغفل "حدثًا وسيطًا" يعتبر هو اللحظة الحاسمة في تخلق القرار"، وذلك حين تصور لنا الإرادة على أنها نتيجة مباشرة لهذه الحالات الخاصة، أو على أنها ازدهار تلقائي لجذورها العميقة. فالمرء لا يحمل على اتخاذ القرار بنفس الطريقة التي تجعله يرفع يده "ليهرش" في المكان الذي يحتاج فيه إلى "الهرش"، حتى لو كان نائمًا. إن الإرادة ليست نتيجة مباشرة لتكون الأفكار إلا في حالة وحيدة، هي على وجه التحديد حين لا توجد "مسئولية" ولا "حرية"، وتلك هي حالة الاضطراب العقلي، التي ما تكاد تظهر فيها فكرة وحيدة، تسبق غيرها، حتى تقتحم الطريق على الملكات الأخرى، وهو ما يكفي لتحريك نشاطها الضروري لتحقيق هذه الفكرة، بطريقة الفعل المنعكس، دون أن تترك لها وقتًا تكبح فيه جماحها. أما في الحالات العادية السوية التي تزعم النظريات الحتمية أنها تقوم عليها -فإن هناك دائمًا مسافة بين فعل الطبيعة، ورد فعلنا الإرادي عليه، وتبدو هذه الفترة ضرورية -أولًا- لأن الموجود ليس فكرة وحيدة، بل فكرتان متضادتان، تعرضان لاختيارنا، وتطلبان حقهما في أن تتحولا إلى واقع.

ولقد يحدث تارة أن تكون الأهمية التي نعلقها على عرضهما متساوية تقريبًا بما أننا نجد بعد التدقيق أن النقص في جانب تعوضه الزيادة في الجانب الآخر، وهكذا يتضح توازنهما على مسرح الضمير، وغالبًا ما تتجدد عودتنا إلى نفس نقطة التفكير ومعاودة النفس. وعلى هذا النحو نظل مترددين للحظة في اختيارنا بين مشروع جميل جدًّا، قليل التكاليف، ولكنه هش، ومشروع آخر أقل جمالًا، وفادح التكاليف، ولكنه متين. وهذا الموقف المتحير القلق يصيبنا، عندما يطلب منا أن نختار بين عمل أكثر فائدة ولياقة، وآخر أكثر فضلًا، وأعظم ثوابًا. ولقد يحدث تارة أخرى أن يبدو أحد الحلين في صورة أفضل، وأعظم تقبلًا بالنسبة لما ألفنا من عادات، واستعدادات، ويبدو الحل الآخر مردودًا بنفس الوسائل، ولكنه ليس بأقل منه في نظر العقل، وهو بذلك يعتبر عائقًا بالنسبة إلى الأول، يحول بينه وبين أن يتحول تلقائيًّا إلى حيز الفعل. بيد أن المسافة التي تفصل حدث الإرادة عن أحداث الضمير الأخرى، تتميز باختلاف طبيعتها بخاصة، فبين هذه الأحداث وحدث الإرادة تنافر أساسي، وانقطاع للاستمرار، فالمرء لا ينتقل من هذه الحالات إلى هذا الفعل، على سواء. فمن فكرة معينة تولد طبيعيًّا نتيجة، ومن اتجاه رغبة، ومن عاطفة حالة للنفس مناسبة، ومن خليط هذه كلها، أو من اندماجها يولد حدث مركب، ليس هو الإرادة بعد، وإن أقرب الحالات إلى الإرادة هي الرغبة، ولكن، "من الرغبة إلى الإرادة توجد كل المسافة التي تفصل الدعوة عن الاستجابة". إن الإرادة ليس معناها أن نصوغ "طلبًا" بل أن نصدر "مرسومًا"، إنها لا تعني أن نمد يد سائل، بل هي التقدم بخطوة فاتح، والإرادة ليست "امتدادًا" لسلسلة في سلسلة معطاة، بل هي "بدء" سلسلة أخرى ينبغي

أن تعطى. والواقع أن للسببية الإنسانية طابعها الخاص الذي لا يئول إلى غيره. فقبل أن ترتضي الإرادة دافعًا معينًا أو حافزًا، تخلع عليهما أولًا نوعًا من التلوين، وتحولهما إلى صيغة عقلية، حين تلصق عليهما هذا العنوان: "إني أعتنق هذا المبدأ كقاعدة سلوك". وحاشانا أن نقلل من أهمية نوازعنا العميقة، وعواطفنا القوية، وأفكارنا الواضحة -في صوغ أحكامنا، فذهننا يقترح علينا حلًا معينًا، وإحساسنا يستحثنا إلى آخر. وربما كان يكمن في الغضون الخفية لضميرنا سبب يوجهنا إلى حل ثالث. ولكن هذه القوى مجتمعة، بما فيها آخرها، وأكثرها مباشرة، لا تستطيع أن تفسر وحدها عمل الإرادة الحاسم، فهي سببه الكامن, ولكنها ليست السبب الكامل, ويتمثل عملها في كونها نوعًا من الدفع والتحريض، أكثر من كونها نوعًا من التسبيب. ولا ريب أنها ببراهينها المقنعة، أو نداءاتها العاطفية، تتوق إلى أن تنتزع منّا قرارًا، ولكنها لا تبلغ أن تكر هنا من أجل الحصول عليه، فكأن دورها مقتصر بطبعه على إعداد السجل، والدفاع عن القضية. وقد يبلغ وزن تأثيرها علينا بهذه الوسيلة أن تميل بنا إلى هذا الحل أو ذاك، ولكن المنحنى الذي ترسمه لنا بهذا التأثير لا يكون حلقة محكمة، وعلينا نحن، إما أن نقوم هذا المنحنى، أو نستمر في حركته التي بدأت كيما ننهيه, "أو بالأحرى نتقدمه لنقابله في منتصف الطريق". وعلى ذلك، فبهذه العوامل وحدها يبقى عمل الإرادة، وكذلك موضوعها في عالم الممكن، فمن أجل أن نحقق وجود ممكن واحد، من بين ممكنات كثيرة يلزم "عامل جديد"، ضغطة إبهام تفتح له الطريق إلى عالم الواقع. هذا العامل الجديد هو تدخل "ذاتنا الكلية" بنشاطها "التركيبي"، لتحسم المناقشة، وتصدر حكمها النهائي، الذي لا قيمة لسواه، وفي ثناياه كل

النتائج الأخلاقية. والواقع أن ذاتنا غير المنقسمة هي التي تتركز جملة في القرار، في هذه اللحظة الحاسمة، فهي التي تحكم نهائيًّا على قيمة هذا الهدف أو ذاك، وهي التي ترجح دافعًا على آخر. وليس من النادر بالنسبة إلى الجانب الأضعف سلاحًا خلال المداولة -أن يحرز قصب السبق في القضية، بفضل معروف يريد قاضينا أن يسديه إليه في النهاية. وإذن فهذه الذات العليا ترقب دائمًا التأثير الطبيعي لملكاتها وقواها، وموضعها منها كموضع سائق القطار خلف ماكينته، أوتي القدرة على أن يتدخل في كل لحظة لإيقافها، أو تغيير سرعتها، أو اتجاهها. وهكذا نستطيع أن نوجه اختيارنا، بأعظم ما نريد له من تنوع، دون أن ننتهك قوانين الطبيعة الظاهرة أو الباطنة، بل وبمساعدة هذه القوانين. نستطيع مثلًا أن نحرك خيالنا ليمثل لنا بصورة أوضح وأدق -موضوع العمل الذي أحالته العادة أو الغريزة إلى مخطط غامض مختلط، ونستطيع أن نقرب من بؤرة شعورنا ما سبق أن رفضه في خلفيته، وأن نركز فيه انتباهنا، وأن نقوم أسبابه، وإذا لم نكشف لصالحه قيمًا داخلية أوردنا له قيمًا أخرى، شخصية محضة، وألححنا بكل ثقلنا، بحيث نحول إرادتنا عن مجراها الحالي لتختار طريقًا جديدة. وهي حتمية أيضًا، لو أردنا1، ولكن بشرط أن تكون "محدَّدة"، لا "محدِّدة" "محكومة لا حاكمة، مقضية لا قاضية"، إنها ليست النير الذي نتحمله بخضوع يشبه خضوع الرهابنة، ولكنها آلة ذات حدين، نستطيع أن نمسك بها من كلا طرفيها،

_ 1 وأقول: لو أردنا ... إذ الواقع أن الملكات الأخرى المسخرة لا تحدد بذاتها وحدها الإرادة مطلقًا. بل كل دورها أنها تيسر لها الممارسة، وتتيح لها فرصة أكبر كي تستعلن وبالرغم من كل شيء أستطيع أن أقول: نعم، ولكن لا أريد. ولكي أحافظ على وضعي. وأبقى ممتنعًا أمام جميع المثيرات، سوف يكون أمامي دائمًا فرصة لأستعمل هذه الوسيلة الفعالة للمقاومة، التي تتمثل في أن أحول عنها نظراتي، وأفكر في أشياء أخرى.

كيما نضبطها بوساطة نوع من التكييف المبدع، الذي يتوافق مع أي هدف من أهدافنا المتعارضة. وحيث قد اشتملت هذه الحتمية، على تحديدات كثيرة، فإنها على هذا النحو هي ذاتها غير محددة. وإذا كانت إرادة الإنسان الفاضل، وإرادة المجرم لا تمارسان غالبًا إلا في اتجاه وحيد، فمعنى ذلك أن كلًّا منهما بدأ بأن شد إرادته إلى محرك خاص، مع احتفاظه بحريته في أن يأخذ، ويدع، ويتفنن، كيفما شاء. إننا مهما صعدنا إلى أعلى الدرجات في سلم الفضيلة، أو هبطنا متردين في منحدر الرذيلة، فإن أحكم الناس كأشدهم فسقًا، كلاهما يستشعر في نفسه القدرة على أن يتوقف، أو ينكص على عقبية، أو يعاود الكر. وإذا كانا لا يفعلان ذلك فلأنهما لا يريدانه؛ لا لأنهما لا يقدران عليه. فهما يستطيعان أن يقدما دليلًا مرئيًّا وملموسًا على هذه القدرة العملية، في مواجهة الخصم، الذي ربما كان ينكر قدرتهما على أن يفعلا ما لم يتعوداه. بل لقد سبق لكل منا أن قدم هذا الدليل، غاية ما هنالك أننا لما كنا مزيجًا من الميزات والعيوب فإن الفرق بين الأشخاص لم يعد أن يكون مسألة نسبية. ولا ريب أن فوق هذه الحرية الطبيعية، التي هي "قدرة مزدوجة" حرية أخرى أخلاقية بنوع خاص، هي "الواجب بالمعنى الدقيق". فالحرية الأولى: هي القدرة التي نختار بها أيًّا من النقيضين، والثانية: هي "حسن استعمال" الأولى. فهي التخلي النهائي عن الشر، والاختيار الفعلي للأفضل. بيد أن الحرية هنا ليست حرية الخلاص، تلك التي تبرئ مسئوليتنا، ولكنها الحرية التي تشترط المسئولية وتقوم أساسًا لها. والمهم هو معرفة ما إذا كنا في جميع الأعمال الإرادية نملك فعلًا هذه القدرة على النقيضين، أي: إذا كنا، رغم ضغط طبيعتنا، وضغط الطبيعة الخارجية في جانب حل

معين "وحينما لا يستهدف هذا الضغط إلغاء إرادتنا كلية، كما في حالة التنويم أو الجنون" -نستطيع أيضًا، وبكل حرية، أن نختار، دون إكراه أو اضطرار؟ ولكي نزيد الأمر تحديدًا: فإن الأمر يتصل بمعرفة ما إذا ما كنا، ونحن نختار الشر في ظروف ترجح جانبه -نستطيع أن نختار الخير "والعكس". وفي كلمة واحدة: هل نحن حقًّا -تبعًا للخيار الذي نقوم به- صناع لثوابنا، أو شركاء في شقائنا الأخلاقي؟ إننا لا نمضي إلى حد الإدعاء بأن لدى جميع الناس قوة متساوية على فعل الخير والشر، وبأن هذه القوة توجد عند الفرد الواحد، في مختلف الظروف. فالهبوط أيسر من الصعود، سواء بالمعنى المادي، أو بالمعنى الأخلاقي. ومن الممكن أن نقول: إن لدى الإرادة بعامة ميلًا إلى متابعة الخير المحسوس، العاجل، أكثر من الخير الروحي أو الآجل، ذلك أنها قد تشعر بالكثير من الصعوبة في أن تتبع أوامر العقل، أكثر مما تجده في السير وراء الميول الفطرية، والعادات الموروثة أو المكتسبة. وربما كان أكثر دقة أن نقول: إن جميع الأشخاص لا يجدون نفس اللذة بالنسبة إلى كل الرذائل، فلكل إنسان نقطة ضعفه الصغيرة، ومن هنا يقاوم بعض الغوايات بصورة أقل شدة مما يقاوم به بعضها الآخر. وكل ما في الأمر أننا ينبغي ألا نضخم هذه الصعوبة، إلى حد أن نجعل منها نوعًا من الاستحالة. ولعل ليبنز leibniz يقول لنا: "أليس قانونًا شاملًا أن كل قوة تعمل حيث تجد مزيدًا من اليسر، وقليلًا من المقاومة؟ ... فلماذا تريدون أن تجعلوا من القوة الأخلاقية استثناء من القاعدة؟ ".

إن التفكير على هذا النحو هو سفسطائية صارخة، حين نضع المصطلحين للمقارنة في ظروف غير متساوية، فإن ما يصدق على قوة عمياء، مستسلمة لذاتها، لا تملك غير معطياتها الراهنة، لا يكون كذلك عندما نجعل خلف جهازها صانعًا ماهرًا، يكفيها تبعًا لحاجاته، مستخدمًا الإمكانات التي تنطوي عليها. ولسوف يبدع هذا الصانع الماهر بحيلة مناسبة ضروبًا أخرى من اليسر، ومن المقاومة. ثم يعمل بحيث يجعل الجسم الذي يسقط، إما أن يتوقف عن السقوط، أو يحمل في الهواء وبحيث يجعل الماء الذي يصب في الوادي يعاود الصعود إلى السفح. ونضع أنفسنا في نفس الظروف، وحينئذ لن تكون القوة الأخلاقية بحيث تقدم أي استثناء. والواقع أنه عندما تجعل الذات اختيارها في الجانب الذي ينطوي على مقاومة أكبر "ولنفترض أن ذلك حيث تأتمر بأمر الشرع أو القانون" فإنها تدعو من أجل هذا احتياطاتها من الطاقات القوية، حتى تعوض نقص القوى الموجودة. فتارة يكون هذا المدد ذا طابع "فكري"، حيث يكون التعليل العقلي من أجل معادلة ثقل الغريزة الهادئة، أو العادة الجامدة. وتارة أخرى ذا طابع "مادي" سواء لتحاشي موقف مثير، أو لتحويل تيار عرم، لانفعال يرفض المناقشة والتفاهم. وهكذا لا يدرك القرار الأخلاقي في هذه الحالات إلا بواسطة جهد من المقاومة جديد، وهو جهد يتضاعف أثره حين لا يقتصر على إعادة إقرار التوازن المتخلخل فحسب، بل حين يهيئ قلب النظام المبدئي للثقل، ويرجح الميزان إلى الناحية المقابلة. ولكي تكون لدينا صورة تقريبية للصعوبات التي تلقاها إرادتنا في استعداداتنا الموروثة أو المكتسبة -يكفي أن نتصور إنسانًا غارقًا في نوم عميق، وهو يسمع رنين ساعة منبهة، إننا نخلط بين نظامين مختلفين تمامًا حين نقول: إن قانون الطبيعة الذي يضغط على البدن، ويشل حركته،

يعوق بنفس القدر إرادة الاستيقاظ. فالحقيقة أنه يكفي أن تمتد اليقظة لبضع لحظات كافية لتحريك الشعور، وتضمن عدم سعادة النوم في الحال -فإن هذه الحالة الطبيعية تترك أمام الإرادة ثلاثة مواقف ممكنة للاختيار على سواء: فقد يقول المرء لنفسه، وجسمه لا يزال في حالة خمود: "يجب أن أواصل راحتي"، أو "أرجو أن أستيقظ، ولكني لا أستطيع أن أعزم"، أو "يجب أن أنهض للعمل". ومن الواضح أن الموقف الأول المعادي للواجب في إصرار، لا يمكن أن يكون مما تفرضه الطبيعة، إذ إن المرء يستطيع، دون أي تغيير في الوضع المادي -أن يتخذ الموقف الأوسط الذي ينطوي على إرادة ضعيفة، وهذه الإرادة هي المعادل العملي للهروب. وعليه، فمتى ما بلغ المرء مرحلة اختيار هذا الحل الوسط أصبح من اليسير أن يتحقق من صحة هذا الحكم الذي نصدره مسبقًا عن عجز إرادتنا. وبحسبنا أن نشرع في محاولة، مجرد انتفاضة مصطنعة، حتى نسقط كل وهم عن حقيقة حريتنا. نعم، إنه مع قليل من التوتر، ومع شيء من الحماس ينهض أكثر الناس نعاسًا، ويمضي في عزمه1. ولقد أثبتت التجربة في الواقع أن أكثر الإرادات اعتدالًا تحس في غمار عملها، وأمام التحدي، بأنها قادرة على أن تقاوم مقاومة عنيفة تأثير الغرائز

_ 1 هذه الفكرة التي عالجناها هنا أشار إليها حديث معروف، يتعلق على وجه التحديد بمقاومة هذا الميل الضعيف إلى الاستيقاظ. وتتألف الطريقة المأمور بها من مراحل متعددة، تهدف إلى تحطيم هذه القيود المادية المفروضة على الإرادة -بعضها في إثر بعض: انطق كلمة تذكرك بالواجب، قم، اغسل وجهك وأعضاءك بالماء ... إلخ. فإذا كان الجسد قد انتعش على هذا النحو بقدر ضئيل من الجهد المؤلم في البداية، فإنه سوف يرد إلى النفس بعد ذلك راحتها ومسرتها. "انظر البخاري, التهجد, باب 12" اهـ. "المؤلف". ونص الحديث كما ورد في البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب كل عقدة عليك ليل طويل فارقد. فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فأصبح نشيطًا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان". "المعرب".

الأولية، ونوازع التسلط، وتهديدات الظروف الخطرة، راضية أن تصحي بأغلى ما تملك، وليس يصدق هذا بالنسبة إلى الشهداء فحسب، وهم الذين يضحون مختارين بحياتهم من أجل مثلهم الأعلى، ولكنه يصدق أيضًا على أكثر الجنود تواضعًا، وهم الذين يرسلون إلى الحرب، فيخوضونها دون أن يعرفوا لماذا؟ بل لمجرد أن يطيعوا رؤساءهم. وربما تقول لي: إنني أبذل كل ما في وسعي ولا أصل. وليس هذا صحيحًا بإطلاق، فإذا كان قلبك، تلك الطبيعة الصغيرة -لا يقدر على شيء يقاوم به الزحف الكاسح للطبيعة الكبيرة، وإذا كان لا بد لجاذبية بعض الشر، وكراهية بعض الخير، أن تحدث أثرها على هذا الجزء المنفعل من كونك، فلم لا ترثي لهذه الحال؟ ولماذا لا تحتقر هذه الطبيعة في ذاتك، بناء على نصيحة العقل؟ ولماذ تضرب عن هذا كله، وتضع نفسك من هذا الجزء بمثابة القاضي الأعلى، والحكم الأخير؟ ولماذا لا تكتفي بتقبل هذا الوضع، والاغتباط به، فإذا بك تصدر أوامرك إلى قواك التنفيذية لكي تجعل نفسها في خدمته؟ في هذا الوضع بالتحديد تكمن اللاأخلاقية، وفي محاولة التغلب عليه تبدأ المسئولية. وليست هذه المحاولة كامنة في مادية الحدث، ولا يرجع إخفاقها إلى عجز حساسيتك، ولكن حسم الموقف يكمن في الزيادة التي تضيفها إليه، في آخر تلوين تطبعه به، وفي خاتم سلطتك الذي تضعه عليه. ومرة أخرى، إذا كان الشر ينزع حقًّا إلى أن يحدث لا محالة، على الرغم منك، فلماذا إذن تستقبله، وتسارع إليه؟ ابق إذن على الأقل في مكانك، ودع الطبيعة تعمل، ولن تفعل الطبيعة شيئًا بدونك، اللهم إلا إذا صار العمل اندفاعيًّا، أعني لا إراديًّا، ولا تبعة فيه ولا مسئولية. وهكذا تتحدد المسئولية الأخلاقية، تلك التي رأى دعاة الحتمية أنها

غير موجودة عند الإنسان من كل وجه، فإذا هي على العكس تثبتها آراء خصومهم في كل مكان، حيثما وجد قرار تنعقد عليه النية، ومهما يكن من إكراه الطبيعة، الذي لا يقاوم في الظاهر، سواء أكان إكراهًا ماديًّا، أم اجتماعيًّا، أم نفسيًّا. فما موقف القرآن الآن في مواجهة المشكلة؟ لنذكر أولًا عنصرين جوهريين للإجابة، صادفناهما في النص، أثناء هذا العرض: 1- غيبية أفعالنا المستقبلة: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} 1. 2- قدرة الإنسان على أن يحسن أو يفسد كيانه الجواني: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 2. ونضيف الآن عنصرين آخرين: 3- عجز جميع المثيرات عن أن تمارس إكراهًا واقعيًّا على قراراتنا. والواقع أن القرآن يذكرنا في مواضع كثيرة بهذه الحقيقة، فإن أكثر نصائح الحكمة إقناعًا، وأقوى دعوات الشر إغراء -لا تحدث أدنى تأثير في سلوكنا، دون أن يكون لإرادتنا انبعاث حر، لتقبلهما أو لرفضهما. والقرآن يقرر على لسان الشيطان: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} 3. ويقول: {نَذِيرًا لِلْبَشَرِ، لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} 4. 4- الإدانة القاسية للأعمال الناشئة عن الهوى، أو التقليد الأعمى، يقول القرآن: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} 5. ويقول: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ، فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} 6.

_ 1 لقمان: 34. 2 الشمس: 9-10. 3 إبراهيم: 22. 4 المدثر: 37-38. 5 الأعراف: 176. 6 الصافات: 69-70.

وهي أعمال غالبًا ما يمنحها الضمير العام صفة عدم المسئولية، أو يدمغها بمسئولية مخففة. ألسنا نرى أن هذه الصيغ، في تعددها، لا يستطيع أحد من أنصار الحتمية أن يقبلها، ولا يتردد أصلب المدافعين عن الاختيار الحر في أن يتقبلها؟ ولكن من الغريب أن هذا التشدد في حكم المسئولية، وهو الذي لا يريد أن يستخرج أي عذر صحيح من مصاعب أحوالنا الجوانية -سوف يفسح المجال منذ الآن لقدر كبير من التجاوز والعفو، عندما يحدث إكراه مادي، سواء أكان طارئًا من الخارج، كتهديد معتد، أم من كياننا العضوي ذاته، كضرورة الجوع. ولهذا، لا يعتبر من باب الخطأ ما يقع فيه مؤمن متعرض لتعذيب الكفار، إذا ما وجد نفسه مضطرًّا إلى أن يكفر، حتى يتخلص من عدوانهم يقول تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1. وذلك أيضًا هو الشأن حين تحمل ضرورة الجوع جائعًا على أن يأكل طعامًا محرمًا: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2. وكذلك يعفى عن الدعارة الشائنة، إذا أكره المرأة عليها مولى مستبد: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا

_ 1 النحل: 106. 2 المائدة: 3.

عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌْ} 1. والحق أن هذا الترفق لا يبلغ حد العفو عن القتل، والسرقة، وهتك العرض بالإكراه الخارجي، فهذه جرائم لا تقبل العفو، حتى لو ارتكبت تحت التهديد بموت مرتكبها. وليس لأحد حق في أن يستبيح حياة بريء لينقذ حياته، وأن يسرق أمواله، أو ينتهك حرمته، حتى لو اشترى امتناعه بدفع حياته. ولكن إذا كان من المقنع أن يجب الإكراه الفواحش، كالزنا والكفر، فإن أمامنا مجالًا لنتساءل: لماذا هذا التغيير المفاجئ في الموقف، الذي يسلم للإكراه المادي أو العضوي بما رفض التسليم به للطبيعة النفسانية؟ علام إذن يعتمد هذا؟ وهل نحن أكثر سيطرة على حالات أنفسنا من سيطرتنا على قوانا المادية؟ أم ليس العكس أكثر احتمالًا؟ ألا يتطلب تقويم الطبع، والسيطرة على الهوى جهدًا لدى الغالبية من الناس أكبر مما يتطلب تحمل الجوع والألم؟ هذا فرض أول ينبغي استبعاده. وكذلك فإن أحدًا لا يستطيع مطلقًا أن يفسر عدم المسئولية عن هذه الأعمال بسبب طبيعتها اللاإرادية، التي تجعلنا نفترض فيها إكراهًا مطلقًا، يضع الفاعل في حالة استحالة مادية لا تمكنه من أن يختار اتجاهًا آخر غير الذي يحمل عليه، إذ لو كان الأمر كذلك لما كان للرحمة التي تتحدث عنها النصوص معنى: فلا يغفر لأحد عمل لم يرتكبه هو، وإنما ارتكبه رجل آخر، مستخدمًا جسم الأول على أنه آلة، والحقيقة أن الأمر على عكس ذلك تمامًا: فإذا لم يكن الفعل قد حدث بموافقة الفاعل ولا لمجرد المتعة في مخالفة القاعدة، فإنه بالرغم من ذلك فعل إرادي ومقصود.

_ 1 النور: 33.

والعقبة التي نصادفها، هيهات أن تخمد انتباهنا الأخلاقي، بل هي توقظ تفكيرنا، وتنشط إداركنا، وكل ما في الأمر أنها حين ترينا النتائج الشاقة التي تنتظرنا على طريق الواجب تحيد بنا لنتحاشى الخطر. وإنا لنعتقد أننا نلمس هنا التفسير الحقيقي. فإن التفرقة بين مقاومة الأهواء وبين المنع الناشئ عن التهديد بالإكراه لا تستند فقط إلى أن الصعوبات هنا صعوبات ملموسة واضحة، أي: إن حدوثها وتضييقها لا يحتويان أدنى وهم، ولا يفترضان وجود أدنى مشاركة من جانبنا، كما هي أكثر الحالات وقوعًا في الأعذار الخلقية؛ ولكن هذه التفرقة تقوم بخاصة على أساس أن العاطفة والعادة تشدان إليهما الإرادة بكل بساطة دون مناقشة، أو تعليل، وإذا حدث تعليل فإنها لا تذكر سوى بواعث الاهتمام، والقيم الشخصية، وهي لا تذكر مطلقًا أسبابًا يعرفها القانون، على حين أن المرء أمام التهديد يتوقف، ويتردد، ويتأمل، من أجل الكشف عن حل. وعندما يخضع نهائيًّا، فهو لا يفعل ذلك إلا لأسباب أخلاقية أيضًا. أليس السبب في ذلك -حقيقة- هو أن حياتنا هي التي تواجه الخطر، مباشرًا أو غير مباشر؟ ومن ثم كان حفظ الحياة مطلبًا لغرائزنا، وأمرًا من أوامر الشرع الأخلاقي في آن. وإذن، فإن الذي يخل بواجب، خضوعًا لضرورة حيوية -يؤدي واجبًا آخر يصل في أهميته إلى أنه شرط لجميع الواجبات. على أننا لا نخفي الطابع المبسط لتفسيرنا: أولًا؛ لأن المقاصة لا تفهم إلا بين واجبات ذوات قيم متساوية، ومع أن الحياة هي الشرط في جميع الواجبات، فإنها لا تحتل القمة، بل هناك ما هو أعلى أو أدنى منها، وإذا كانت بلا أدنى جدال، أثمن من طعام محرم، فهل يمكن أن تكون كذلك إذا ما قورنت بصدق الإيمان، والإخلاص للعقيدة؟

إن بذل الرخيص من أجل الغالي واجب، ومن ثم فهو موضع للتقدير، ولكن فعل العكس مناقضة أخلاقية، وهو إذن مسئولية عن فعل الشر بشكل ما. ولفظة "عدم المسئولية" في كلتا الحالتين ليست هي الكلمة المناسبة. ومن ناحية أخرى: إن الإنسان الذي يتقهقر أمام الخطر ليس متأكدًا دائمًا أن الإقدام قد يكلفه حياته، فقد يكون مبالغًا في توهم الخطر الذي يتعرض له، أو يكون قد أخطأ في تصور الباعث الحقيقي لعمله، وحتى لو افترضنا أن أصل قراره هو خطر محقق، فلعله بمجرد أن شرع في العمل ألفى نفسه فيه، واستمتع به في لذة لم يكن يدركها من قبل. فالواقع إذن أشد تعقيدًا من أن يطبق عليه إبراء خالص وبسيط, والحكم بعدم المسئولية لا ينبغي إذن أن يعني هنا البراءة، ولكنه رخصة. وبذلك ندرك عمق تعبير القرآن، عندما يتحدث في موضوع العفو والرحمة، ولكي يؤكد المفسرون هذا المعنى ذكروا أن التحمل والتضحية أجمل وأكرم، فقالوا: "والصبر أجمل"، كما يقول لنا القرآن الكريم: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْل} 1. وكذلك يجب أن نستثني حالات لا تتسع سلطة الواجب فيها لأي عفو، وحيث ينبغي أن تتصدى حرية الإرادة لأي إكراه حتى لو كان تهديدًا بالموت، ومن ذلك حالة الإنسان الذي يجبر على أن يقتل، أو يقتل، أو حالة ذلك الذي أشرف على الهلاك من مخمصة، فلم يجد وسيلة، للحياة، غير أن يقتل شخصًا آخر ليقتات بلحمه، "وقد اعتمدت المالكية في قتل المكره على القتل بالقتل، بإجماعهم على أنه لو أشرف على الهلاك لم يكن له أن يقتل إنسانًا فيأكله"2. ذلك أن إنهاء حياة بريء أمر مقيت، لا يصلح التعلل بالمحافظة على حياتنا لإباحته؛ فلأن نموت خير من أن نقتل.

_ 1 البقرة: 217. 2 ابن رشد, البداية 2/ 431.

وهكذا تبدو لنا الإرادة الإنسانية في علاقتها بأحداث الفطرة الداخلية، أو الطبيعة الخارجية -من خلال القرآن، حرة مستقلة. فهل يترتب على ذلك استقلالها المطلب ضرورة؟ وهل إذا جاز لنا أن نقول: إن أي مخلوق ليست لديه قدرة تكرهه، هو نفسه -أيجب أن نستنتج من هذا أن خالق الطبيعة ذاته لا وجود له في نشاطنا؟ إن هذا السؤال يعني أن المشكلة الميتافيزيقية أو بالأحرى: الإلهية، للقضاء الأزلي، تطرح أمامنا كاملة. لقد قدمنا في مؤلف نشر من قبل بالعربية1، لمحة تاريخية عن هذا الموضوع، وحاولنا أن نعطي تمحيصًا نقديًّا لمختلف الأفكار التي اصطرعت في الفكر الإسلامي، وحسبنا أن نعيد هنا الخطوط البارزة لما عرض آنذاك. ونشير أولًا إلى غموض مصطلح "القدرية predestinationisme" الذي قد يقصد به معنيان مختلفان، فهو بالمعنى المحدد الدقيق -النظرية التي تلغي إلغاء تامًّا كل نشاط إرادي فعلًا، يقوم به الإنسان. ولكن القدرية، بمعنى أوسع، تعني سبق العلم الإلهي فحسب. فإن الله قد خلق كل طاقات الكون وقواه، طبقًا لتدبير سابق، بما في ذلك ملكة إرادتنا, وهو يعلم مسبقًا كيف ستعمل كل من هذه القوى, وما الأحداث التي ستنتج عن نوع عملها، ولكن لم يقل لنا -إيجابًا أو سلبًا- إذا كان الله سبحانه يتدخل في تسيير هذه القوى كلها بمجرد أن توضع في إطار الحركة، وبهذا المعنى الثاني فقط يمكننا القول بأن الفكر العربي كله فكر قدري، ما خلا بعض الاستثناءات. والواقع أننا لا نرى أثرًا للفكرة العكسية "التي تجرد أعمالنا من العلم الإلهي المسبق" في المرحلة السابقة على الإسلام، ولا بعد ظهور الإسلام؛ حتى

_ 1 المختار, نشر بالقاهرة عام 1932.

بداية العصر الأموي. وفي عام 80 للهجرة، اتهم بالبصرة، رجل يقال له: "معبد"، كان يعتنق هذه الفكرة المتطرفة عن الحرية الإنسانية، وأعدم الرجل كمرتد، في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان، ولم تلبث نظريته أن تبعته دون عودة، بيد أن هذه الحادثة قد أيقظت التفكير الفلسفي على المشكلة. ولم نلبث أن رأينا منذ بداية القرن الثاني الهجري ظهور فرقة المعتزلة "مع ظهور واصل بن عطاء، المتوفى عام 131 هـ"، وهي التي أخذت، ولو بطريقة مخففة نفس اللقب: "القدرية"1، الذي كان يقصد به النظرية القديمة المطرحة. وترى هذه الفرقة أن الله يعلم يقينًا في أي أمر سوف يستخدم الإنسان ملكاته، وقدرته الكاملة التي منحه إياها، وهو مع ذلك يتركه يفعل، تحت مسئوليته الكاملة، وهو ما اعترضت عليه فرقة القدرية، التي كان صاحبها "جهم بن صفوان"، من "ترمذ" فقد كان يرى أن العمل الإرادي لا يختلف عن العمل اللاإرادي إلا في الظاهر، ذلك أن الإنسان عاجز عن أن ينشئ أقل حركة، فهو بين يدي الله "كريشة تصرفها الريح". ومع ذلك، فإن الفرقتين تنتميان إلى جانب المتشددين المسلمين وتستشهدان لدعم آرائهما بمجموعة من النصوص القرآنية. والحق أننا نجد في أصل هذه المناقشة تناقضًا أساسيًّا في فهم الصفات الإلهية، التي لا يتم كمال إحداها إلا على حساب كمال الأخرى. ذلك أن القرآن يعلن من ناحية: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء} 1، وإذا كان الحديث مطلقًا على هذا النحو، فليس أمام الإنسان سوى أحد أمرين، فإما أن يقنع بدور الآلة، وإما أن يمنح صفة شريك لله. ولكن ها هي ذي نصوص أخرى ليست أقل تأكيدًا، وهو تعلن أن الله

_ 1 ربما كان إطلاق وصف "القدرية" على المعتزلة يعني النقيض، أي: من لا يقولون بالقدر، كما أطلق لقب "المحكمة" على رافضي التحكيم. "المعرب". 2 الزمر: 62.

سبحانه هو الموجود العادل بحق: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} 1، {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} 2. وفي هذه الظروف، لا يستطيع أحد أن يتصور أن الله سبحانه قد أقر شريعة الواجب الإنساني بما تستتبعه من مسئولية وجزاء -دون أن يكون قد ذود الإنسان من قبل بوسائل العمل، الضرورية لأدائه. والحق أن القدريين -حين أرادوا أن ينقذوا مبدأ وحدانية الخالق- لم يصلوا إلى حد إنكار الشريعة الأخلاقية، أو أن يعزوا إلى من وضع هذه الشريعة بعض الظلم. ولكنهم كانوا يتصورون هذه الشريعة الآمرة على أنها رمز لقانون وصفي محض، ويتصورون الجزاء على أنه الأثر الطبيعي الناشئ عن نظام الأشياء. أما الأحرار الحريصون على الدفاع عن العدالة الإلهية -فإنهم -على العكس - لم يريدوا أن يرفعوا الإنسان إلى مرتبة الله، ولكن كان عليهم أن يقولوا بنوع من الاستثناء في فعل الخالق. ومن قبل قيد المنطق مدى هذه القضية: "كل ما يوجد مخلوق لله" علمًا بأن الله يوجد، ولا يمكن أن يكون مخلوقًا لنفسه. فلماذا لم يحدث منطق التجربة -هو أيضًا- قيدًا آخر باستثناء الأفعال الإنسانية؟ فإذا ما دفعنا هذين التعليلين إلى أقصى مدى انتهينا -بعكس ما هو مشاهد- إما إلى إلغاء الإرادة الإنسانية، ومعها واقع الواجب، وإما إلى تحديد مجال فعل الإرادة الإلهية تحديدًا كبيرًا. وقد حاولت مدارس أهل السنة -فيما بعد- وبفضل مبدأ الاشتراك، الذي قالوا به، أن توفق بين هذين المفهومين المتعارضين، فلا الإرادة الإنسانية، ولا الإرادة الإلهية، كلتاهما لا يمكن أن تتوقف في الأعمال

_ 1 النساء: 40. 2 يونس: 44.

الإنسانية الموصوفة بأنها إرادية. إن الإرادتين تعملان في وقت واحد، وتشتركان في إنتاج أفعالنا، ولكن بطريقة مختلفة، ففعل الله فعل خالق، على حين أن الإنسان وهو يسخر قواه ويحشدها لا يفعل أكثر من أنه يتفتح للفعل الإلهي، حتى يتلقى منه العمل كاملًا. لقد دارت المناقشة في النظريات التي ترفض كل ما عداها -كما نرى- حول الأعمال الظاهرة. وقد كان السؤال هو أن نعرف من هو خالق حركاتنا الخارجية، التي تسمى: الإرادية؟ -"إنه نحن"- كما أكده بعضهم، دون تدخل من الله. -"إنه الله"- كما قال آخرون، دون مشاركة منا. وكانت المدرسة الثالثة تعتقد أنها تمسك بطرفي السلسلة، حين تقول: "إنه الله، مع تدخل إرادتنا" بيد أن القائلين بهذا الحكم لم يلبثوا أن ميزوا الجانب الحقيقي في المشكلة، ووضعوه في المصطلحات التي تناسبه. فقد لاحظوا أن ممارسة الإرادة هو نفسه -حدث يقتضي بيانًا، فتساءلوا على الفور: من ذا الذي يوجه ويدبر إرادتنا؟ ولكي يجيبوا عن السؤال بهذه الصورة انقسموا إلى طائفتين: القائلين بسبق القضاء، وهم تلاميذ أبي الحسن الأشعري "المتوفى في بغداد عام 324 هـ"، وخصومهم تلاميذ أبي منصور الماتريدي من بخارى "توفي عام 303هـ في سمرقند". وهكذا عادت النظريات الجديدة إلى نفس الموقف المضاد، الذي تجادل حوله سابقوهم، بعد أن نقلوه إلى مجال الفعل الجواني فقط، وهنا أيضًا لم تقصر البراهين القرآنية من جانب وآخر. فعلى حين نجد القرآن في بعض المواضع ينسب إلى الإنسان القدرة على نفسه، ليتغير إلى شر، أو إلى خير،

نجد أننا إذا أخذنا بعض المواضع بحروفها فإنها تقر أن إرادتنا تشبه تمامًا قلبنا، وذكاءنا، فهذه كلها ليست سوى أدوات بين يدي الله، نوعًا من اللجام الذي يقودنا به كما يشاء، واقرأ في هذا قوله تعالى: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} 1، وقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} 2، وقوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 3، وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} 4. ولا ريب أننا نستطيع أن نحاول تركيبًا في هذا المجال الجديد، والقرآن نفسه يقدم لنا مبدأ هذا التركيب، حين يعلن: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} 5. فهو إذن حين يقرر أن الله هو الذي يحكم إرادتنا لا ينجم عن ذلك إبراء ساحتنا؛ لأن الله لا يفعل ذلك ابتداء مطلقًا، وإنما هو يجريه كنوع من الإجراء المقابل، أي: كرد على بعض الأشياء من جانبنا. وإذن، فسواء شعر قلبنا بالفرح أو بالانقباض لمعرفة الحقيقة، أو لممارسة الفضيلة، وسواء ضل عقلنا أو اهتدى، توجهت أحكامنا نحو الخير، أو نحو الشر -فإننا حين نقرر أن جميع هذه الآثار تحدث فينا بوساطة قوة عليا، وفوق الطبيعة، نجد أن سوابقها تصدر عن إرادتنا فنحن الذين بدأنا، بأن انفتحنا على النور، أو بأن تحولنا عنه: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} 6. نحن الذين بدأنا بأن أضأنا عقلنا أو طمسناه: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 7، حكمنا أهواءنا أو اتبعناها: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} 8.

_ 1 الأنعام: 108. 2 الأنعام: 125. 3 الدهر: آخر آية. 4 الأنفال: 24. 5 الرعد: 11. 6 الزخرف: 36. 7 المطففين: 14. 8 الأعراف: 176.

بيد أن الصعوبة إذا ارتدت إلى الوراء على هذا النحو لا تصبح ملغاة نهائيًّا؛ لأنه كلما ارتقينا في مراتب أعمالنا الجوانية يجب علينا أن نتوقف في كل خطوة لنسأل أنفسنا عما إذا كان هذا العمل إنسانيًّا محضًا, فهو إذن يتضمن حدًّا للفعل الإلهي، أو هو من خلق الله، فهو إذن لا يرجع إلى أي خطأ من جانبا. ولو أننا فهمنا جيدًا موقف القرآن من مشكلة الاختيار الحر لوجدناه مناقضًا لموقف "كانت" على خط مستقيم. فالقرآن يضع مقابل حتمية "كانت" في نظام الظواهر -استقلال إرادتنا الكامل بالنسبة إلى أحداث الطبيعة. أما في النظام الماهي المعقول l' ordre - noumenal، فإن هذا الاستقلال على العكس سوف يفسح المجال لتبعية مزدوجة، بل مثلثة، للإرادة الإلهية. فإرادتنا فيما يتعلق بفاعليتها -لا تصدر عن مساعدة العناية الإلهية فحسب، لكي تبلغ جهودنا غايتها، أو تقطعها عن آثارها. فالزوج الذي يودع جرثومة ولده الحيوية لا يكمل له خلقه، ولا ينفخ فيه الحياة: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} 1، والزارع الذي يجهز أرضه، ويبذرها لا يفلق الحب، ولا ينضره: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} 2. وإرادتنا فيما يتعلق بوجودها في حيز القوة، كملكة اختيار بعامة، لا تصدر فقط عن الفعل الخالق الأولي، الذي ليس فعلنا -ليس ذلك كله فحسب، ولكن الطريقة الخاصة التي تحقق بها كل إرادة إنسانية ذاتها فعلًا -تخضع من وجوه كثيرة لسلطان الخالق، ولو أنها أوتيت الوسيلة التي تتخلص

_ 1 الواقعة: 58-59. 2 الواقعة: 63-64.

بها من علم الله، وقدرته العلوية، لأصبح في ملك الله ممالك بقدر ما يوجد في العالم من كائنات عاقلة. إن وحدة الكون تتطلب وحدة التدبير، وتبرهن عليها، ولن يأذن الله لمخلوقه أن ينقلب ضده، فكل ما يجري على عينه خاضع لرقابته. ولئن كان الشر الأخلاقي لا يتفق مع إرادته التشريعية، فما كان له أن يقف في وجه إرادته الخالقة، فيجب إذن على الأقل، ألا يصادف عمل إرادتنا عائقًا فوق الطبيعة؛ أي: إنه يجب أن يحصل من السماء على نوع من الإجازة والرضا، وذلك هو ما تفيده الآية الكريمة: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} 1، والآية: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 2. وهذا الكلام لا ينازع فيه أي إنسان يؤمن بوجود عناية إلهية. فلنتجاوز هذا الحد. إن الله تعالى سبحانه -فضلًا عن هذه المساعدة السلبية بعدم الاعتراض- قد حاط "قدرتنا على الاختيار" بجهاز قوي ومعقد، تتفرع عنه كل قراراتنا،؛ وهذا الجهاز يتألف من العقل، والحواس، والنزعات، والجاذبية الحسية، والقيم الروحية، كما تتضمن تلك الرؤية الجوانية التي هي الضمير، وذلك النور البراني الذي هو التعليم الموحى أو غير الموحى. فكل قرار، حسنًا كان أو قبيحًا، أو أشبه بعملية إنفاق من ذلكم الكنز العظيم الذي أودعه الخالق رهن تصرفنا في الفطرة، جوانية وبرانية، والاتفاق على هذا الكلام أيضًا إجماعي. ولكن ألا توجد، فضلًا عن هذا الجهاز العام الذي جعله الخالق في متناول كل إنسان -مساعدة خاصة يمنحها الله لبعض العباد، ويحرم منها الآخرين؟ وهل يتمتع الطيبون، والصالحون، والمصطفون من بين الناس بامتياز، أو

_ 1 الأنعام: 112. 2 الدهر: 30. 3 والتكوير: 29.

مساعدة مكملة لاختيارهم الحسن، على حين ترك الآخرون لمواردهم العامة؟ هنا يبدأ النقاش بين أهل السُّنة الذين يثبتون هذه المساعدة، والقدرية "معتزلة وشيعة" الذين ينكرونها مطلقًا. ويرى هؤلاء الأخيرون أن مثل هذا الامتياز سوف لا يكون متفقًا مع العدالة الإلهية، إذ لماذا نزن بوزنين؟ فكل ما يلزم للحكم الصحيح. والاتجاه الصائب يجب أن يكون، في وسع كل فرد، وعلى كل فرد أن ينظم هذه الثروة المشتركة، وأن يستغلها إلى أقصى حد، تحت مسئوليته الكاملة، ولخيره أو شره. هذه الطريقة في النظر لها أساس من الحق، والواقع أننا لكي نصون عدالة السماء، يبدو لازمًا أن نقرر حدًّا أدنى من القدرة الإنسانية، الضرورية، والكافية لأداء واجبنا، وإثبات مسئوليتنا على أن يكون ذلك الحد الأدنى شاملًا، وموزعًا على سواء، ولكن لماذا نقف ضد البداهة باسم هذا المبدأ العام، وندعي أن الخالق قد خلق كل الناس في نفس الظروف المناسبة كيما يريدوا الخير، ويقصدوا إلى الحق؟ لا داعي لن نذكر بتنوع الصفات الوراثية، وآثارها المختلفة على أحكامنا وقراراتنا، وهو ما يستفاد أيضًا من قوله, صلى الله عليه وسلم: "الناس معادن، كمعادن الذهب والفضة" 1. وقوله: "إن فيك خصلتين ... جبلك الله عليهما" 2. ولكن القرآن يصنف الناس بصفة عامة، في آيات كثيرة، إلى طائفتين: الضالين، والمهتدين، وهو يضيف أن كلا الفريقين مدين بحالته الخاصة لمشيئة

_ 1 وفي رواية للبخاري: كتاب بدء الخلق, باب 25، "قال: فعن معادن العرب تسألون، خيارهم في الجاهلية، خيارهم في الإسلام إذا فقهوا". "المعرب". 2 ورواية مسلم: كتاب الإيمان, باب 7: "وقال صلى الله عليه وسلم للأشج -أشج عبد القيس، واسمه المنذر بن عائذ-: "إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة". "المعرب".

الله: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} 1. {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} 2. ولنذكر بخاصة أن القرآن ينص على أن الله يتدخل بطريقة إيجابية ومادية لدى عباده، في اللحظات الحاسمة، لكي يصرف عنهم الإغراءات السيئة: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} 3؛ وحتى يجنبهم السقوط في الفاحشة: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} 4، ولكي يقوي إرادتهم المترددة: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} 5. في هذه اللحظات الصعبة يفجر الله في أعينهم نورًا باهرًا يحمل إليهم مزيدًا من الوضوح: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} 6، فهو يزرع الثبات في القلب: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} 7، {لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 8، ويجعل الإيمان أجمل في أعينهم، وأحب إلى قلوبهم: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} 9، ويكره إليهم {الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} 10. وقد لجأ المعتزلة لتفسير هذه النصوص إلى وسائل متعسفة ومتعثرة؛ لأنه إما أن يكون هذا التخصيص لا يعني شيئًا، أو أنه يعني أن العناية الخاصة التي يكلأ الله بها أصفياءه ليست هي نفسها، بل هي شيء آخر يختلف كمًّا

_ 1 الحجرات: 17. 2 المائدة: 41. 3 يوسف: 34. 4 يوسف: 24. 5 الإسراء: 74. 6 يوسف: 24. 7 الفتح: 26. 8 القصص: 10. 9 الحجرات: 7. 10 الآية السابقة.

وكيفًا عن تلك الوسائل العامة التي يتخذها ليعلم الناس جميعًا واجباتهم، ويجعلها ميسرة بالنسبة إليهم. وشبيه بهذا موقفك من رجلين يسألانك عن الطريق، فتعطي لأحدهما بيانًا بالطريق ليتبعه، وتركب الآخر في سيارتك. وكما قيل في الإنجيل: "إن كثيرين يدعون، وقليلين ينتخبون"1، فنحن نقرأ في القرآن أن الدعوةإلى دار السلام عامة، ولكن الهدى مقصور على أولئك الذين يشاء الله لهم الهدى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2. من أجل هذا عرفت الأنفس الكبيرة في كل زمان أن كل ما تفعله من الحسن ومن الأحسن، فهو من فضل الله، وأن عليها أن تلجأ دائمًا إلى مساعدته حتى يثبتها على هذه الطريق. وانظروا إلى موقف إبراهيم، وإسماعيل، وسليمان، وعيسى، وموقف أولئك الراسخين في العلم، إبراهيم وإسماعيل يقولان: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} 3، و {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} 4، وسليمان يقول: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} 5, وعيسى يقول: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} 6، والراسخون في العلم يقولون: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} 7. ولهذا تثق هذه الأنفس الكبيرة بفضل الله العلي، أكثر مما تثق بقواها.

_ 1 إنجيل متى، الإصحاح 22، جملة 14. 2 يونس: 25. 3 البقرة: 128. 4 إبراهيم: 40. 5 النمل: 19. 6 مريم: 32. 7 آل عمران 7.

الخاصة: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} 1، {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} 2، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ، إِلَهِ النَّاسِ، مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ} 3، ومن الدعاء المأثور: "الله رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، إنك إن تكلني إلى نفسي تكلني إلى ضعف وعورة، وذنب وخطيئة، وتقربني من الشر، وتباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك". ولذلك أخيرًا كانت صيغة، الدعاءالتي يدعو بها المسلمون ربهم في كل يوم، ومرات كثيرة في اليوم الواحد، منحصرة في أنهم -بعد أن يظهروا جهدهم الإنساني، ليخضعوه لإرادة الله وحده جل جلاله- يلتمسون معونته على الفور، ليهدي خطاهم على الصراط المستقيم: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} 4. وإذن فمن الممكن أن نؤكد أن النصوص القرآنية تلتقي لتؤيد نظرية أهل السُّنة، التي تقرر أن هناك درجة أخرى من التبعية التي تتصف بها إرادتنا بالنسبة إلى إرادة الخالق، ومع ذلك فلسنا قادرين على أن نفعل ذلك إلا إذا صغنا على الأقل تحفظين أوحى إلينا بهما القرآن. التحفظ الأول: أن هذا الفضل الذي يمنحه الله سبحانه لبعض العباد، ويمنعه من دونهم لا يمكن أن يشتمل على محاباة، أو اعتساف، وعلى الرغم من أن بعض النصوص شديدة الإيجاز تنم إحيانًا عن نوع من الإرادية المفرطة:

_ 1 يوسف: 33. 2 يوسف: 53. 3 الناس: 1-4. 4 الفاتحة: 4-5.

{يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 1 -فإن الإرادة الإلهية تبدو منظمة في ذاتها، تبعًا لما يتطلبه علم وعدالة معصومين، فهي تتدخل لصالح من يستحق التدخل: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} 2، ولصالح من يعترف بالفضل: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِين} 3، والذي يتعطش لتلقيه، فيبدو قلبه أهلًا لاستقباله: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} 4. أما الذين هم بعكس ذلك، قد أغلقوا الأعين عن النور، وسدوا آذانهم عن النصيحة الطيبة، فإن الله يذرهم في عماهم وصممهم؛ لأن القادر المقتدر لا يتدخل عبثًا مطلقًا: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِين} 5، {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} 6. وموجز القول، أن الله لا يضل إلا الأشرار، {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} 7، ولا يهدي غير من يرجع إليه: {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيب} 8. والتحفظ الثاني: أنه في كل هذه الظروف الإيجابية والسلبية لم يقل: إن الإرادة الإلهية تؤثر مباشرة على فعلنا الأخلاقي، وإنها تقيد الإرادة الإنسانية، أو تحل محلها، ذلك أن المنح الإيجابية لفضل الله تحتوي -بداهة- من المساندة قدرًا يحفظ جهدنا. إنها الأجنحة التي تساعد أنفسنا على التحليق. ذلك أن الله عز وجل ييسر لعباده المختارين المهمة تيسيرًا واضحًا، حين

_ 1 النحل: 93، وفاطر: 8. 2 الفتح: 26. 3 الأنعام: 53. 4 الفتح: 18. 5 الزخرف: 36. 6 الأنفال: 23. 7 البقرة: 26. 8 غافر: 13.

يريهم الأمور على ما هي عليه، وحين يحبب إلى قلوبهم الحقيقة، والفضيلة، ولكنه لا يؤدي المهمة بالنيابة عنهم؛ لأن الكلمة الأخيرة المنوطة بإرادتهم لم تصدر بعد. وكذلك الحال حين يذر الله الظالمين يتخبطون في الظلماء، وهم في قبضة بعض الصعوبات، وذلك ليبحثوا عن المخرج منها بمجهوداتهم الخاصة، ولم يقل أحد: إن الله يقهر إرادتهم بالضرورة على أن تختار الجانب الأسهل. والمسألة التي يبقى علينا أن نعرفها، والتي تفرقت المدارس الإسلامية بصددها بطريقة واضحة هي: عندما يطلب الله منا أن نستخدم قدرتنا على الاختيار، بعد أن يكون قد وضع رهن تصرفنا هذه الموارد العامة والخاصة -هل يتخلى الله عنا تمامًا؟ ألا يتدخل لمصلحة أي جانب؟ أم أنه يدخل هنا -دون علم منا- دافعًا معينًا علويًّا، ومباشرًا، وفوريًّا، في صورة مساعدة، أو ترك، أو دعم، أو قدر ضئيل من الطاقة، أو فعل لا يقاوم من باب الفضل أو الابتلاء، يوجه -على تنوع- مؤشر نشاطنا، ويحدد حركته في اتجاه أو آخر، دون أن نحدس به مطلقًا؟ تلكم هي المسألة التي لم يفصح فيها القرآن عن نفسه بطريقة واضحة، وكافية، بل يبدو أنه قد التزم من هذا الجانب نوعًا من الحذر المقصود، ذكر له الإجابة فيما بعد: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِين} . ولهذا لم يقف المسلمون الأولون من السلف، والمعتدلون من الخلف، عند بحث كهذا، إذا يعدونه غير رشيد ولا مفيد، ويبدو لنا في الواقع أن المشكلة بهذه الصورة لا يمكن أن تحل حلًّا واضحًا بأية وسيلة من وسائلنا العادية، وبأنوار العقل وحدها، إذ كان من الواجب دائمًا أن نتذكر التناقض المذكور آنفًا، بين العدالة والقدرة الإلهية المطلقة. ولن تحلها كذلك التعاليم

الموحاة، بقدر ما تكون صامتة، أو محتملة لتفسيرين؛ ولن تحلها التجربة، إذ كان أحد طرفي العلاقة لا سلطان لنا عليه. كيف نسوغ مسئوليتنا على فرض غير مستبعد نهائيًّا، وهو الفرض القائل بوجود نوع من التحديد، يتجاوز إرادتنا، مهما كانت درجة فاعليتها؟ إن كل ما يمكن قوله هو: أن الالتجاء إلى هذا التحديد واتخاذ وسيلة للتخلص من المسئولية لا يفيد في شيء، إذ إننا لا نعلم وجوده، ولا في أي جانب يتحقق إن وجد. والحق أن مسألة الحتمية العلوية لا تطرح إلا لأجل نوع من الفضول العقلي، وبوساطته، وما ينشأ عنه لا يهم الجانب الأخلاقي، ولا الإيمان ولا التقوى. فإما فيما يتعلق بالجانب الأخلاقي بخاصة -وهو موضوع دارستنا- فإن ما تهم معرفته ليس هو ما يقع في الحقيقة، من مؤثرات تؤدي إلى حدوث الفعل، بل هو الطريقة التي يتصور بها الإنسان عمله، والعنوان الذي يعمل تحته، وفي كلمة واحدة: نيته وقصده. فلنفحص إذن ضميرنا في لحظة اتخاذ القرار. ألدينا في هذه اللحظة بعض هم بمعرفة ما إذا كان شعورنا الذي لا يتزعزع بحريتنا العملية يطابق واقعًا مطلقًا أو لا يطابقه؟ إن الاهتمام الذي نوجهه إلى موضوع عملنا لا يمتصنا امتصاصًا كاملًا فحسب، بحيث لا يدع مجالًا لأي هم من هذا القبيل، وكذلك المسألة المطروحة، قد لا يقتصر أثرها فقط على أن تجعلنا غير مبالين، وقد لا تغير شيئًا من موقفنا -ليس هذا فحسب، ولكن حتى لو ثبت الطابع الوهمي لإحساسنا، فلا بد أن يكون لنا شأن في القضية المقررة، فهل يكون القرار الذي اتخذناه غريبًا عنا في الواقع؟ وهل يكون هذا القرار موحى به أم مملى علينا، أو

مفروضًا بوساطة قوة مختفية لا نستطيع تحديد كنهها؟ وهل الله هو محركها الأول. لا أهمية لكل هذه التساؤلات إذ إننا بمجرد ما نلجأ -في لحظة ثانية، وبنية ثانية- إلى تبني القرار واعتماد تنفيذه، فإننا نصبح بهذا متضامنين مع فاعله الحقيقي. فإذا لم نكن السبب الأخلاقي للعمل في ذاته، جوهرًا، وصفة، فنحن هذا السبب على الأقل من حيث تكييف هذه الصفة؛ فليس بسبب أن الله قد "أراد" لنا أن "نريد" هذا أو ذاك، إننا قد أردناه في واقع الأمر؛ لأننا لا نقصد مطلقًا، أثناء عملنا، إلى أن يتخذنا الله سبحانه أداة لإنجاز إرادته المقدسة، ما دمنا لا ندري شيئًا عن هذه الإرادة الإلهية مقدمًا. ولكنا -بغض النظر عن أي اعتبار آخر- نرتضي فقط، وبكل بساطة أن تكون تلك الإرادة في حسابنا الخاص، ونوقع بهذا التزامنا. وهكذا يصبح الإنسان مسئولًا، وهو يحقق ذاته بنفسه، كما يصبح مدينًا منذ جعل من نفسه كفيلًا. وهكذا نفهم أن القرآن قد التزم أن يعلن مسئوليتنا أمام الله، في نفس الآيات التي يبدو فيها أنه يلحق الإرادة الإنسانية بالإرادة الإلهية بصورة كاملة. قال تعالى: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 1. وإذن، فإن مبدأ المسئولية يظل في جميع الفروض مبدأ صحيحًا دون مساس.

_ 1 النحل: 93.

الجانب الاجتماعي للمسئولية

3- الجانب الاجتماعي للمسئولية: وإذن، فالشروط الضرورية، والكافية لمسئوليتنا أمام الله، وأمام أنفسنا هي: أن يكون العمل شخصيًّا، إراديًّا، تم أداؤه بحرية "أقصد دون إكراه"، وأن نكون على وعي كامل، وعلى معرفة بالشرع، أو القانون، فهل تظل هذه الشروط صادقة مقبولة بالنسبة إلى مسئوليتنا أمام المجتمع الإسلامي، الذي نظمه القرآن؟ لسوف نرى كيف يتجه الموقف القرآني إلى أن يتغير تغيرًا محسوسًا متى كان موضوعه المسئولية نحو الناس، وليس معنى هذا أن أي إنسان يستطيع أن يكون مسئولًا عن أي شيء، ولكن العلاقة بين الواقع الخاضع للحكم، والفرد المسئول تفقد هذه الدقة في التحديد على الفور، فلا تعود تقتضي هذه المجموعة من الشروط. ومع ذلك، فإن علينا أن نفرق في المجال القانوني بين المسئولية الإصلاحية "المعروفة بالمدنية"، والمسئولية الجزائية "أو العقابية" فهذه الأخيرة تظل وثيقة الصلة بالمسئولية الأخلاقية بتحديدها وقصرها على الإنسان البالغ السوي، عندما يعمل عن قصد ونية. لقد حاول بول فوكونيه paul fauconnet في دراسته الاجتماعية عن المسئولية, أن يبين أن هذا التحديد الدقيق الذي نجده في المجتمعات الأوروبية المعاصرة -هو من الناحية التاريخية ذو أصل قريب. وقد بحث المؤلف أولًا الظروف التي يمكن لفرد أن يعد فيها مسئولًا على سبيل الافتراض، فأثبت بالوقائع "المأخوذة لا عن الشعوب البدائية فحسب، بل عن مجتمعات أكثر ارتقاء في التنظيم، وحتى وقت قريب من عصرنا" -

أثبت أن الأطفال والمعتوهين، وحتى الحيوانات والأشياء، كانت تعامل غالبًا على أنها مسئولة عقابيًّا، وكانت تدان بهذه الصفة. وكتب المؤلف يقول: "فمسئولية الحيوان العقابية ليست ظاهرة بدائية، قد تمَّحي أمام الحضارة، بل إن العكس تقريبًا هو الصحيح، ولقد نجد هذه المسئولية في المجتمعات الثلاثة التي خرجت منها حضارتنا، في بني إسرائيل، واليونان، وروما"1؛ ولذلك وجدنا طبقًا لأوامر التوراة أن الثور القاتل يرجم، ولا يؤكل لحمه، وهذا الإجراء مطبق حتى لو أقر المالك بأنه مذنب، وعوقب بالموت2. وقال لنا أفلاطون في "القوانين les lois ": "لو أن حيوانًا يقتل إنسانًا فإنه يقتل، ويرمى خارج الحدود، ولو أن شيئًا من الجماد يقتل إنسانًا فإنه يرمى كذلك خارج الحدود"3. والأمر كذلك في روما ما قبل التاريخ، فقد كان الجزاء المعدل لنقل حدود الحقول واجب التطبيق على الثور، في الوقت الذي يطبق فيه على الإنسان4. ولم يبلغ الجزاء العقابي للحيوان أقصى مداه إلا في أوروبا المسيحية بخاصة، حين ظهرت الدعاوى ضد الحيوانات -أولًا- في فرنسا، في القرن الثالث

_ 1 انظر: Fauconnet, la Responsabilite, Etude de socio-logie, p. 59. 2 المرجع السابق. 3 المرجع السابق ص60-61. 4 المرجع السابق ص61.

عشر، ثم تفشت كبقعة زيت في وسط أوربا واستمرت حتى القرن الثامن عشر، بل حتى القرن التاسع عشر عند السلافيين في الجنوب1. أما فيما يتعلق بالأطفال2 والمجانين3، فإن الضمير الإنساني لم ينظر إليهم دائمًا نظرة ظلم، بإخضاعهم لجزاء يتفاوت في خطورته، لا سيما في حالة قتل الإنسان أو الثأر الخاص الذي يستهدف أسرة بعينها. ففي قانون الألواح الاثني عشر4 نجد أن مسئولية الطفل غير البالغ مخففة بالنسبة إلى بعض الجنايات، ولكنها ليست باطلة مطلقًا5، وقد وضع جميع الذين لم يبلغوا الحلم في هذا القانون على قدم المساواة، أما بعد الألواح الاثني عشر، فقد حدث تطور أعفى الأطفال الصغار، ولكن هذا التطور متأخر، وربما كان معاصرًا لهادريان hadrien6. وفي القرن الثامن عشر أيضًا أعدم طفل في الثامنة من عمره في إنجلترا، من أجل القتل أو الحريق7. وقد كان على القضاة في فرنسا أن يصدروا العقوبة العادية ضد المجنون, ثم يختص البرلمان بتخفيف هذه العقوبة، أو إلغائها، أما فيما يتعلق بجريمة الاعتداء على الذات الملكية فلا تخفيف فيها8. ومن هنا كانت النتيجة الأولى القائلة: بأن قصر العقوبة على الإنسان البالغ السوي يبدو نهاية ما بلغته حقبة من التطور، أخذت المسئولية خلالها تنحسر شيئًا فشيئًا9.

_ 1 المرجع السابق 63. 2 المرجع السابق 31. 3 المرجع السابق 41. 4 أول شريعة مكتوبة لدى الرومان، وضعها الحكام العشرة، الذين سنوا شرائع الرومان خلال القرن الخامس قبل الميلاد "450"، وقد نقشوها على اثني عشر لوحًا من البرونز. "المعرب". 5 المرجع السابق 34. 6 المرجع السابق 35، وهادريان إمبراطور روماني، ولد في إيطاليا "76-138م" وقد شجع الآداب والفنون، وأصلح الإدارة. واتجه إلى توحيد التشريع. "المعرب". 7 المرجع السابق 37. 8 المرجع السابق 42. 9 المرجع السابق 30.

ثم يمضي المؤلف بعد ذلك يبحث، في مجتمعات مختلفة، الظروف التي تتولد عنها المسئولية العقابية من حيث الواقع -فيعرض أمامنا تطورًا تاريخيًّا ثانيًا لهذه الفكرة عن المسئولية التي تحولت من كونها فكرة موضوعية في البداية، إلى فكرة ذاتية أكثر فأكثر. ثم نجده يختم بحثه قائلًا -بعد أن صاغ عدة تحفظات فرضتها الأحداث الملحوظة-: عندما يحتفظ الجزاء بصفات القصاص، أي: عندما يكون قودًا منظمًا أو بصفات الدية "wergeld"1، أو بصفات كفارة دينية. في هذه الظروف كلها يكفي العمل المادي الخاطئ وحده في خلق مسئولية المتهم الذي يتحملها، حتى لو كان ناشئًا عن إهمال، أو كان ذا صبغة عرضية عن طريق الصدفة المحضة. ولا ريب أن مؤلفنا لكي ينتهي إلى هذه النتيجة العامة -كان عليه أن يدرس النظام العقابي خلال حقبة من التاريخ، وعلى جزء من سطح الأرض رحب الامتداد، يضم مجتمعات ذات تكوين متنوع إلى أقصى حد، ابتداء من القبائل الأسترالية، وقبائل شمالي إفريقية، حتى أوربا الحديثة، مارًّا بالصين، والهند البرهمية، وفارس، وبني إسرائيل، واليونان، والجرمانيين، والرومان، ومجموعة الشعوب المسيحية، حتى ليقول المؤلف: ولذلك وجدنا في نظام دراكون2 الذي بقي في أثينا حتى الغزو الروماني -أن عقوبة القتل الخطأ "اللاإرادي" كان النفي المؤقت3. أما في أقدم القوانين الرومانية "قانون الألواح الاثنى عشر" فإن الضحية،

_ 1 المرجع السابق ص117. 2 دراكون: مشرع في أثينا، في القرن السابع قبل الميلاد، وقد اشتهر القانون الذي وضعه بصرامة عقوباته. "المعرب". 3 المرجع السابق 110.

الذي يبتر له عضو من أعضائه، على إثر جناية غير متعمدة، كان يستطيع أن يجري القصاص، إذا لم يقبل1الدية: وفي القانون الصيني كان القاتل بطريق السهو أو الصدفة يعاقب بالجلد مائة جلدة، وبالنفي2. وفي التوراة عوقب القاتل غير العامد بنوع من النفي، ومن الممكن شرعًا لصاحب الدم أن يقتله لو أنه غادر منفاه قبل المدة المحددة3. وفي القانون الكنسي كانت الكفارات القاسية تفرض خلال سنوات كثيرة للتكفير عن خطايا لا إرادية، ارتكبت بسبب الجهل4. وفي إنجلترا، حتى أوائل القرن التاسع عشر لم يكن القاتل غير المتعمد يفلت من الإدانة -علاوة على مصادرة أمواله- إلا بفضل رحمة الأمير، ويبرز هذا الوضع الأخير أيضًا في القانون الفرنسي القديم5. بيد أننا حين نستعرض دراسة على هذا القدر من الرحابة "لا تهتم بتحديد زمني، أو جغرافي، أو عنصري" -تبدو لنا ملاحظة تفرض نفسها علينا، فنتساءل: ما الفكرة التي سيطرت على هذا الاختيار للوثائق؟ ولماذا كان الاختيار لمجتمع دون آخر، ولعصر دون آخر, ولجزء من مقاطعة معينة دون آخر؟ وهل كان من عمل الصدفة أن نختار فارس، لا مصر وجزيرة العرب مثلًا؟ ولماذا اختيرت الهند البرهمية، دون غيرها؟ ويجيب المؤلف في مقدمته بأنه حدد حقل ملاحظاته، بحيث لا يشمل سوى مجتمعات أمكنه بالنسبة إليها أن يؤيد الأحداث بالوثائق المؤكدة.

_ 1 المرجع السابق 113. 2 المرجع السابق 130. 3 المرجع السابق 107. 4 المرجع السابق 133. 5 المرجع السابق 35-136.

ولكن، هل نحن أكثر اطمئنانًا لوثائقنا عن القواعد العرفية لقبائل إفريقية الشمالية منا عن النظم المكتوبة لمواطنيهم؟ وعن القبائل الأسترالية منا عن جيرانهم في جزر الهند الشرقية "أندونسيا"؟، وعن "الأفستا" أو "الفيدا"، أو قانون حمورابي منا عن القرآن؟، والحق أننا مندهشون مما حدث، من أن المؤلف على طول مسيرته من الصين إلى مراكش، ومنذ القرن السابع حتى الآن، قد سار في كل خطوة بمحاذاة مجتمعات إسلامية، دون أن يقف عندها، فكان كل همه أن يدور حولها ويتجاوزها. ومع ذلك، فإن دراسة هذه المجتمعات، التي لا تمثل عددًا يمكن تجاهله على سطح الكرة الأرضية، لا تحمل كثيرًا من الصعوبات أو التعقيدات، إنهم عدة مئات من ملايين الناس، لديهم توافق معين فيما يتعلق بقانونهم الأساسي، ويعيشوت تحت أعيننا، وقد عقدت أوروبا معهم علاقات اقتصادية وسياسية دائمة. وربما كان "فوكونيه fauconnet" شخصيًّا على جهل بما يأمر به الشرع الإسلامي في هذا الموضوع، على الرغم من أنه أشار إليه إشارة غير مباشرة1. وقليلًا ما يهمنا أن نعرف الدافع الذي حتم هذا الإغفال المقصود، لكنا نلاحظ فحسب أن النقص الخطير الذي نشأ عن هذا الإغفال يقدم إلينا النتيجتين اللتين أراد المؤلف تقديمهما في صورة قانون عام -على أنهما صادرتان عن استقراء غير كامل. والواقع -من ناحية- أن قصر الجزاء العقابي على الإنسان البالغ السوي ليس ذا أصل حديث مطلقًا في العالم الإسلامي، فهو قديم منذ أكثر من

_ 1 المرجع السابق 122, هامش1. 2 سبق ذكرنا لهذا الحديث.

ثلاثة عشر قرنًا، ولم يتحرك قيد أنملة منذ إقراره، فقد قال مؤسس الإسلام, صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر" 1، أي: إن الأطفال ليسوا مطلقًا مسئولين حتى يبلغوا سن الزواج، وكذلك المجانين حتى يستردوا عقولهم، فمن باب أولى الحيوانات التي قال فيها رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "العجماء جُبارٌ" 2. بل إن المدرسة الظاهرية لتمضي إلى ما هو أبعد من ذلك في تفسير هذه النصوص، فهي تتجه لا إلى تخليص هذه الكائنات من العقوبة المؤلمة فحسب، ولكن أيضًا إلى إعفاء مالك الحيوان من كل غرم على سبيل الجزاء، وكذلك من يحملون هم الأطفال، والمعتوهين3. ومن ناحية أخرى، نجد أن تعميم صيغة فوكونيه الثانية -على الرغم من كل القيود التي أوردها- يبدو منهارًا أمام الشرع القرآني؛ لأن القرآن حين يأمر بالدية والكفارة في حالة القتل الخطأ -إنما يحمي القاتل الذي لا إرادة له من أية عقوبة بدنية. وبصرف النظر عن القانون الروماني، الذي يبدو أن تطوره قد تحقق في هذا الاتجاه، ألم يكن من الواجب على الأقل أن يستثني المؤلف ذلك النظام الإسلامي الذي استبعد بضربة واحدة، وبدون تردد أو تحرج، جميع الضلالات المذكورة حول المسئولية العقابية؟ إن صياغة هذا التحفظ حول نتيجتي فوكونيه، المعممتين -معناه في نفس الوقت أننا نعترف للشريعة الإسلامية بصفتها الثورية، التي لا تدع نفسها للتفسير الطبيعي بوساطة السوابق التاريخية، اللهم إلا إذا افترضنا بلا داع

_ 1 سبق ذكرنا لهذا الحديث. 2 انظر البخاري, كتاب المساقاة, باب 4، وكتاب الديات, باب 28. وفي صحيح مسلم, كتاب تحريم الدماء وذكر القصاص والدية: "العجماء جرحها جُبارٌ". 3 انظر ص191.

-في التاريخ العربي القديم، الذي لا ندري عنه شيئًا- تطورًا معينًا، كان الإسلام غايته: وهو ما يؤدي إلى تلك المناقضة القائلة بأن الصحراء العربية كانت متميزة بالطبيعة وأنها بدأت، وأنهت تقدمها الاجتماعي قبل الأوان، متقدمة في ذلك على بقية أجزاء الكرة الأرضية. ولقد قلنا دائمًا من وجهة نظر الشريعة الإسلامية: إن المسئولية العقابية تبقى شبيهة بالمسئولية الأخلاقية، وهو قول صحيح في كثير من الوجوه، ومع ذلك فهي تتميز عنها بسمات جوهرية. وأولها: أنه بالرغم من أن العمل الداخلي، والواقع الخارجي مختلطان في العقل بطريقة لا تنفصم، فيما يتعلق بأي حكم بالمسئولية، سواء أكانت أخلاقية أم عقابية، إلا أن العنصر المتحكم، أو مركز الثقل يغير مكانه تبعًا لوجهة النظر التي يؤخذ بها. فحركة الضمير هي التي تهمنا بصفة أساسية في مجال المسئولية الأخلاقية، وهي لازمة لها بصورة مطلقة. فالعمل البدني المحض لا يمكن مطلقًا أن ينشئ مسئولية أخلاقية، والعمل الإرادي لا يمكن أن ينشئها إلا متجاوبًا مع نيته. وبعكس ذلك نجد أن العقوبة تعترض مقدمًا واقعًا خارجيًّا، وتستهدفه دائمًا. ذلك أن أشد النوايا سوادًا، كأشدها نقاء، كلاهما عاجز عن أن يفرض حكمًا بالمسئولية القانونية حين يكون مفردًا، غير مصحوب بتعبيره المادي. وقد حدث في الحالات القصوى، أن العنصر المتفوق يمكن أن يصبح العنصر الوحيد، وهو أمر لا ريبة معه في الإطار الأخلاقي، وإذا ما اقتضى الأمر هنا إظهار الإرادة، فليس معنى ذلك أن القرار الذي اتخذ داخليًّا قرار قاصر في ذاته عن أن ينشئ الواقع الأخلاقي، ولكن، بما أن التنفيذ لا يحقق إلا امتداد القرار، والإبقاء عليه، وتعزيزه "كما يقيس من وجهة نظر

المشاهد درجة التصميم والفاعلية". فإن هذا التنفيذ يسبب بذلك مسئوليات جديدة، أو على وجه الدقة يدعم، ويفخم المسئولية المقررة من قبل1. فهل نجد ما يقابل ذلك في الإسلام؟ وهل يمكن الحدث الموضوعي الخالص أن يستتبع العقوبة؟ لا شك أن الحكم العقابي -كما رأينا من قبل- يحتاج دائمًا أن يستند إلى عمل الإرادة المضاد للقانون، كيما يسوغ صفته الجزائية. ولكن هل لنا أن نفحص الأمر بنظرة أكثر دقة؟ حنيئذ سنجد أن القاضي عندما يستند إلى العنصر الشخصي باعتباره شرطًا ضروريًّا للإدانة -فإنه لا يفعل في الواقع سوى أن يفترض سوء النية لدى المتهم، مستنبطًا إياه من بعض الأمارات الخارجية، ومتخذًا لنفسه دائمًا وجهة نظر موضوعية، ذلك أن القاضي، حتى لو كان رسولًا، لا يدعي مطلقًا أنه يدرك أسرار الضمير مباشرة، وهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار" 2 وأخيرًا، فإن نوعي المسئولية "العقابية والأخلاقية" يختلفان كذلك، بصورة أوضح في آثارهما، أكثر مما يختلفان في نقطة انطلاقهما. وإذا كان

_ 1 لنذكر هنا فقط أنه في مجال الجزاء الإلهي يبدو أن الأخلاق الإسلامية تفرق هنا بين الفعل الحسن والفعل القبيح، فعلى حين يزيد تنفيذ الإرادة الطيبة في أجرها، ويضاعف لها المكافأة، نجد أن لحظتي الخطيئة لا تعدان عند الله سوى وجهين لعمل واحد فقط، قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام: 160] ، وروى البخاري في كتاب الرقاق، باب 30 "فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه". وانظر أيضًا في تفسير هذا الحديث, إحياء علوم الدين, للغزالي, جـ3 ص39 وما بعدها. 2 انظر حديث البخاري, كتاب الأحكام، باب 19.

الشر يكمن أساسًا في مبدأ الإرادة، فمن البدهي أن المذنب ينبغي أن تبرأ ساحته بمجرد تغييره لموقفه من القانون، ولسوف يكون بالفعل بريئًا في نظر الحكم الأعظم. ولقد أفاض القرآن وعودًا جميلة لأولئك الذين يرجعون عن ذنوبهم، فهل الأمر كذلك بالنسبة إلى الحدود التي تفرض في الحياة الدنيا؟ هل تكفي التوبة، والندم، والعدول عن الذنب لتخليص المذنب من العقوبة التي كان يجب أن يتعرض لها؟ لقد واجه القرآن بالنسبة إلى حالة واحدة هذا السؤال، وأجاب عنه بالإيجاب، وتلك هي حالة التمرد على العدالة بالقوة السافرة "الحرابة"، فتبعًا لخطورة الحالة -وقد ترك القرآن للقاضي أو المشرع أمر تقديرها- يستحق المحاربون حد الموت، أو تقطيع الأعضاء، أو النفي: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1 ولكن يجب أن نلاحظ أن هذه هي الحالة الوحيدة في الشريعة الإسلامية، برغم النقاش الذي أثاره هذا النص بين الفقهاء2، فيما يتعلق بتحديد الحقوق التي تسقط بهذا الإعفاء.

_ 1 المائدة: 33-34. 2 على حين مد بعضهم هذا الإبطال إلى جميع الجزاءات المتعلقة بالحقوق العامة، التي ينتهكها العصاة المحاربون، بصرف النظر عن رد الأشياء التي ما زالت في أيديهم -يستثني آخرون أيضًا القاتل الذي لم تعف عنه أسرة الضحايا، وفريق ثالث يتحفظ أيضًا بالنسبة إلى جميع الأضرار التي لم يتنازل عنها أصحاب الحق فيها. وفريق رابع، ومنهم الإمام مالك، لا يخلعون على هذه التوبة سوى أهمية ضئيلة، ويعلقون بخاصة على أن هناك نوعية واستثناء في جزاء المحاربين "أعني تطبيقه على قطاع الطرق غير القتلة، أو اللصوص"، وترى هذه المدرسة الأخيرة أن المحاربين الذين يعودون إلى كنف المجتمع باختيارهم يستحقون أيضًا جميع العقوبات المتصلة بالحق العام العادي، وكذلك بالأحوال الشخصية، التي يطلق عليها: حق الله، ومثال ذلك عقوبة الخمر. "المؤلف". وقد اعتمد المؤلف في تعديد هذه الأقوال على ما ذكره ابن رشد في "البداية 2/ 497"=

وقد لاحظ ابن حزم بحق أن الإمام الشافعي في مذهبه القديم الذي كان يعلمه في العراق -كان يعتقد أنه يستطيع تعميم هذه الحالة الخاصة، وأن يجعلها مبدأ عامًّا يقرر أن التوبة تجب الحدود، ولكنه حين جاء إلى مصر وأقام بها، وعرف من السنة قدرًا أفضل من ذي قبل تخلى عن هذه الفكرة، فعاد في مذهبه الجديد إلى النظرية العامة، التي تميز في هذا الصدد نوعين من المسئولية، تابعتين، كل على حدة، لنظامين إسلاميين مختلفين: أحدهما ينظم الحياة الدنيا، والآخر يخص الحكم العلوي في الآخرة. وبذلك تظل فاعلية التوبة في الإطار الديني، دون أن تتجاوزها بالضرورة إلى المجال الاجتماعي1.

_ =قال: "وأما ما تسقط عنه التوبة فاختلفوا في ذلك على أربعة أقوال، أحدها: أن التوبة إنما تسقط عنه حد الحرابة فقط، ويؤخذ بما سوى ذلك من حقوق الله، وحقوق الآدميين، وهو قول مالك. والقول الثاني: أن التوبة تسقط عنه حد الحرابة، وجميع حقوق الله من الزنا, والشراب، والقطع في السرقة، ويتبع بحقوق الناس، من الأموال والدماء، إلا أن يعفو أولياء المقتول. والثالث: أن التوبة ترفع جميع حقوق الله، ويؤخذ بالدماء، وفي الأموال بما وجد. والقول الرابع: أن التوبة تسقط جميع حقوق الله، وحقوق الآدميين من مال ودم، إلا ما كان من الأموال قائم العين بيده"، وبذلك يتضح أن المؤلف قد خالف فقط في ترتيب الآراء المختلفة، مع أنه قد أحال قارئه إلى نفس المرجع. "المعرب". 1 نص هذا الموضوع كما جاء في المحلى لابن حزم 11/ 152-158, بتصحيح من خليل الهراس: "قال أبو محمد: قال قوم: إن الحدود كلها تسقط بالتوبة، وهذه رواية رواها أبو عبد الرحمن الأشعري عن الشافعي، قالها بالعراق، ورجع عنها بمصر. ثم نظرنا أيضًا في احتجاجهم على هؤلاء المذكورين بأنهم قد أجمعوا على أن التوبة تسقط عذاب الآخرة، وهذا العذاب الأكبر، فأحرى وأوجب أن تسقط العذاب الأقل، الذي هو الحد في الدنيا. وعذاب الآخرة غير عذاب الدنيا، وليس إذا سقط أحدهما وجب أن يسقط الآخر، إذ لم يوجب ذلك نص قرآن، ولا سنة، ولا إجماع، وكثير من المعاصي ليس فيها في الدنيا حد، كالغصب، ومن قال لآخر: يا كافر، وكأكل لحم الخنزير، وعقوق الوالدين، وغير ذلك، وليس ذلك بموجب أن يكون فيها في الآخرة عقاب، بل فيها أعظم العقاب في الآخرة، فصح أن أحكام الدنيا غير متعلقة بأحكام الآخرة". وبذلك نرى أن المؤلف لخص وجهة نظر الفقه الظاهري في المشكلة، كما زاد كلام ابن حزم تفسيرًا". "المعرب".

والواقع أن السنة تقدم لنا حالات زنا، يتقدم المذنبون فيها ليقروا تلقائيًّا بجريمتهم، وليطلبوا بإلحاح تطبيق العقوبة عليهم، وعليه فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- مع علمه بعظمة هذه اللمحة منهم، وروعة القيمة في توبتهم -لم يتردد في أن يوقع عليهم الجزاء المنصوص عليه في الشرع، وكذلك الحال في كل اعتداء يرتكب ضد شخص الغير، أو ماله، أو عرضه، ثم يتوب المعتدي قبل أن يعاقب. فالموقف الداخلي الذي كان يعتمد عليه في تجريم الفعل لا قيمة له إذن حين يكون المطلوب إيقاف الآثار السيئة التي حدثت من قبل، إذ تتدخل هنا بالذات اعتبارات مختلفة، فوق الاعتبارات الشخصية extra - personnelles هي التي تفرض الجزاء، أما الندم، والتوبة، والإرادة الطيبة التي عادت مرة أخرى، فربما تكفي لتحسين حال المذنب، وتأكيد احترامه للقانون، ولكنها لا تكفي لتهدئة المشاعر الأليمة التي أثارها المذنب لدى الأشخاص الذين انتهك حقهم المقدس في الحياة، وفي الأمن. سوف تضمن لنا هذه المعاني -على الأكثر- أنه لن يعود إلى الجريمة، ولكنها لا تستطيع أن تضمن أنه لن يكون قدوة تحتذى من أولئك الذين يعملون على اتباعه، وإذن فإن هناك ضرورة مزدوجة، خارج الأمر الأخلاقي، أو مبدأ العدالة المجرد، هذه الضرورة تفرض نفسها على أنها محتومة، وهي تنظر إلى الماضي وإلى المستقبل معًا وتتطلب تطبيق العقوبة، حتى عندما يصبح جانب المبدأ الأخلاقي مستوفى راضيًا بطريقة أخرى. هذه الضرورة المزدوجة هي -من ناحية- اقتضاء شرعي من الأفراد ذوي الشأن في العمل، وهم الذين أهينت مشاعرهم نتيجة الشر الحادث، وهي من ناحية أخرى: حفاظًا على النظام العام، وصيانة للمجتمع ضد العدوى الأخلاقية، حين لا يعاقب الشر بمثله، وتوقيًا من تشجيع الشر، إذا ما بقي المذنب دون عقاب.

بيد أن البون بين الجانب الأخلاقي، والجانب القانوني -يصبح شاسعًا، بمجرد انتقالنا من المسئولية العقابية إلى المسئولية المدنية. ولا شك أن ذلك غير ناشئ عن أن الطابع الشخصي قد اختفى تمامًا، ولا عن أن النشاط الإرادي لم يعد شرطًا ضروريًّا في المسئولية، ليس هذا مطلقًا هو الموقف في الشريعة الإسلامية، ولا ينبغي أن يعترض علينا بمثال المغتصب الذي يستحل شيئًا لا يخصه ويستخدمه مخالفًا بذلك القانون، ثم يعتبر مسئولًا عن كل ما يحدث لهذا الشيء، حتى لو كان طارئًا، ووقع بمحض الصدفة. ذلك أن عمله الأولي -ما دام قد اتسم بسمة العدوان وسوء النية. فمن العادي جدًّا أن تكون جميع نتائجه الطبيعية داخلة فيه. ولكن إذا ما نحينا هذه الحالة جانبًا، فإن كل مسئولية مباشرة تتطلب من جهة صاحبها تدخلًا إراديًّا معينًا فيما يسبب من ضرر. ولا فرق حتى الآن بين شروط المسئولية الإصلاحية المدنية، وشروط المسئولية الجزائية العقابية، فالحادثة التي تقع بواسطتنا، ولكن مستقلة عن إرادتنا، وبموجب قوة قاهرة "في مثل ما قد يحدث من تصادم سفينتين بسبب الريح، أو سقوط لاعب حتمه انقطاع الحبل الذي كان يمسك به مع رفيقه" -مثل هذه الحادثة لا يمكن أن تنشئ ضدنا أي إجراء تأديبي أو تعويضي، وحدث من هذا النوع يصبح هدرًا1. وهكذا نجد أن الخلط الذي أشار إليه فوكونيه fauconnet في الشرائع الإغريقية والرومانية والعبرية ... إلخ, بين الحالة العارضة، وحالة الخطأ بحسن نية -هذا الخلط لا موضع له في الشريعة الإسلامية، بل الأمر، على ما ذكرنا آنفًا, هو أن العمل الإرادي، ليس من الضروري أن يكون مقصودًا.

_ 1 انظر: الأمير, المجموع جـ2 ص358.

وإذن، فعلى حين تفترض المسئولية العقابية النية المضادة للقانون، تمامًا كالمسئولية الأخلاقية، نجد أن المسئولية المدنية، سوف تكتفي بمجرد وجود الإرادة. وهنا يكمن أحد الفروق الرئيسية بين هذه المجالات المختلفة، فإذا كان الضرر الناتج عن الخطأ، أو الغفلة، أو عدم الحذق -لا يحتم أن يعزر صاحبه، فإنه يخضعه في مقابل ذلك لتكليف مالي لمصلحة الضحية. وقد وضع القرآن التشريع الأساسي للقتل الناشئ عن الخطأ، فقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطًَا وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطًَا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} 1. وقد مثلت السُّنة بهذا كل ضرر يرتكب عن غفلة، ضد نفس الغير، أو ماله. يقول ابن حزم: "ولا يختلف اثنان من الأمة في أن من رمى سهمًا يريد صيدًا، فأصاب إنسانًا، أو مالًا، فأتلفه، فإنه يضمن، ولو أنه صادف حمار وحشي يجري، فقتل إنسانًا، أو سقط الحمار إذ أصابه السهم، فقتل إنسانًا، فإنه لا يضمن شيئًا"2. ومن هنا كانت المسئولية المدنية على الطبيب، أو كما يعبر حديث لرسول الله, صلى الله عليه وسلم -مسئولية من يمارس الطب ولم يكن من قبل معروفًا أنه طبيب، فقال: "من تطبب، ولم يعلم منه قبل ذلك الطب فهو ضامن" 3. ومن هنا أيضًا -تبعًا لأغلب المذاهب- كانت مسئولية مالك الماشية الذي يهمل في حبس قطيعه أو حفظه، حين ينتج عن هذا الإهمال أن تهرب.

_ 1 النساء: 92. 2 المحلى 11/ 3. 3 البداية, لابن رشد 2/ 454 ط مكتبة الكليات الأزهرية 1966, قال: وقد ورد في ذلك مع الإجماع حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال ... وذكر الحديث.

الحيوانات، وتتلف حقول الجيران، وهي حالة معروفة كذلك في تاريخ ما قبل الإسلام، وأشار إليها القرآن في قوله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ، فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} 1. أما مذهب الظاهرية، فيرى أن المسئولية التي تقع على عاتق الإنسان في حالة كهذه -هي ذات طابع أخلاقي- على وجه الخصوص، فهي تنحصر أولًا في تربية من لا عقل له، وترويضه، ثم في إجراءات للحماية، ذات فاعلية أكثر، بحيث تمنع عودة الأحداث المسببة للضرر2. فهذه المدرسة تستبعد بصورة منهجية كل مسئولية قانونية غير مباشرة، سواء أكانت ناشئة عن فعل تلقائي، لكائنات غير مسئولة، "كالأطفال، والمجانين، والحيوانات"، ما دمنا لم نحرضهم على القيام به أم عن فعل الغير، حتى لو كنا رغبنا إليه أن يفعله، دون أن نكرهه عليه. ومهما تكن نتيجة هذا النقاش الثانوي، فإنه يكفي -لكي نكشف عن عنصر موضوعي في المسئولية المدنية، في الشريعة الإسلامية- أن نلاحظ أن

_ 1 الأنبياء: 78-79. 2 عولجت هذه المسألة في المحلى في موضعين، أحدهما: عند الحديث عن القتل الخطأ، والضمان في الجزء العاشر 416 وما بعدها، والآخر: في الجزء الحادي عشر 7 و8 قال ابن حزم: "والقول عندنا في هذا أن الحيوان، أي حيوان كان، إذا أضر في إفساد الزرع أو الثمار فإن صاحبه يؤدب بالسوط، ويسجن إن أهمله، فإن ثقفه فقد أدى ما عليه، وإن عاد إلى إهماله بيع عليه ولا بد، أو ذبح وبيع لحمه، أي: ذلك كان أعود عليه، أنفذ عليه ذلك". فقد شملت الإجراءات، على هذا النحو الأطراف الثلاثة: الإنسان الذي وقع به الضرر، والآخر مالك الحيوان، والحيوان أخيرًا، ومع ذلك فقد روعي جانب مالك الحيوان من حيث توفير أقصى النفع عند اتخاذ إجراءات التأديب والحماية، بعيدًا عن روح الانتقام. "المعرب".

الإنسان البالغ السوي "الطبيب مثلًا" مسئول ماليًّا عن الضرر الذي يحدثه مباشرة بوساطة نشاطه الإرادي، بشرط أن يكون مقصودًا، على أنه لا يتحمل من أجل هذا، لا تعزيرًا إنسانيًّا، ولا عقابًا إلهيًّا. ولا شك أن المسئولية الأخلاقية ليست مستبعدة هنا تمامًا، فإن الإهمال هو فعلًا نقص في الانتباه، وينبغي أن يعتد خطأ، أو نصف خطأ. كيف نفسر من وجه آخر الكفارات التي أمر بها القرآن في حالة القتل اللاإرادي، أعني القتل الخطأ؟ 1.

_ 1 لا ريب أننا نستطيع أن نفترض عند هذا الحد، وهذا الحد فقط -حالات يخطئ فيها القاتل طبيعة هدفه، على الرغم من كل الاحتياطات والجهود التي يستخدمها لتمييزه، وفي هذه الحالات. التي لا يفسر فيها الخطأ بالإهمال. لا يبقى في وسعنا أن نعتبر الجزاء كفارة خطأ، جسيم أو ضئيل، وحينئذ، نعتقد أن من الممكن تفسيره على أنه احتياط يستهدف المستقبل بدلًا من أن نعطفه نحو الماضي. والخطأ منبع للشر، ولا ينبغي للشر أن ينتصر. والخطأ يولد في المجال الأخلاقي الرذيلة، كما يؤدي في المجال العقلي إلى التزييف، والرذيلة والتزييف هما النقيصتان اللتان تدنسان النفس، وتقللان طاقتها وطهارتها. ولا ريب أن الخطأ حين يحدث لا يوجد شيء يمكن أن يفعل ضده، وعندما لا يكون قد حدث بعد فلا شيء يمكن أن يفعل لاستباقه، وخاصة حين نفترض أننا فعلنا كل ممكن إنسانيًّا لتفاديه، وإذن، فليس اقتدارنا على الصراع ضد الخطأ من حيث كونه حدثًا قد تم فعلًا. أو واقعًا تاريخيًّا عرضيًّا، ولكن إذا ظللنا ساكتين في مواجهة الشر الذي يحدثه الخطأ، فإن الشر سوف يعيد نفسه، ويتمادى، ثم هو بفضل العادة قد يوقظ فينا ميولًا سيئة، كانت حتى ذلك الحين نائمة. وهكذا يمكن أن يتحول العمل الذي تم من قبل على أساس من الغفلة، ليصبح عملًا حرًّا وإراديًّا. وإذن, فإذا كان للخطأ واقعه، فإن له كذلك غايته، فلم يوجد الخطأ من أجل أن يفرض نفسه علينا فرضًا استبداديًّا، ثم يحملها نتائجه المقدورة، وإنما وجد كيما يحرك فضولنا العقلي، وطاقتنا الأخلاقية، حتى نتجنب آثاره السيئة. وإذا كنا لا نستطيع أن ننفي الخطأ في ذاته. فإن لدينا مع ذلك الوسائل التي نحتاط بها من الاتجاهات الشريرة التي يعمل على خلقها، وكذلك من تكرار الغلطة على نحو كثير، وهو أمر قد يحدث في غيبة أي فعل مضاد. إن رد فعلنا سوف يكون مؤثرًا بقدر ما يتمثل في أفعال إرادية قادرة على أن تلمس حساسيتنا، وأن تثبت في ذاكرتنا، وأن تحرك من جديد همنا الأخلاقي، وليس فيما يبدو من ندم عابر، أو اتهام رفيق بأنفسنا. وتلكم هي الحسنات التي ننتظرها من تضحية نرتضيها بحرية على إثر غلطة لم نتعمدها، في الحالات المحددة.

إن المسلم الذي كان سببًا غير متعمد في هلاك أخ له -يجب أن يعتق أخًا آخر رقيقًا، فضلًا عن التعويض المستحق لأولياء الدم. فإذا كان أحد الناس قد مات موتًا طبيعيًّا، فإنه سوف يأتي بمن يعوضه حين يدخل شخصًا آخر في الحياة الأخلاقية. فإن عدم لزمه أن يصوم شهرين متتابعين، والله سبحانه وتعالى يقول في هذا: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} 1. بيد أن هذه الغلطة السلبية، في الانتباه لا تؤدي إلى التجريم الإيجابي، والعقابي للعمل الخارجي، الذي تكفي صفته الموضوعية الغالبة لفرض الجزاء المدني. وهذه حالة أخرى للخروج على المبادئ المقررة، وهو خروج ينهي التباين بين المسئولية المدنية، والأنواع الأخرى من المسئولية: فعلى حين تحتفظ هذه الأنواع دائمًا بصفتها الفردية الدقيقة، نلمح فجأة عنصرًا يظهر في تعويض الأضرار الناجمة عن الخطأ وهو عنصر جماعي شديد القوة، يعمل على امتصاص الجانب الفردي. فهذا المسكين الذي تسبب في موت آخر، أو بتر عضو من أعضائه، أو جرحه، دون أن يريد ذلك،

_ 1 النساء: 92.

هذا المسكين لا يفلت فقط من كل أنواع القود، بل إن التعويضات التي تقتضيها منه الضحايا لا يتحمل هو منها سوى جزء جد ضئيل؛ لأن هذه التعويضات سوف توزع -في الواقع- على مجموعة كبيرة من الناس، البالغين الأسوياء1، الذين يرتبطون معه عادة برباط من التعاون الطبيعي، أو الاتفاقي، والذين يشترك معهم كواحد منهم. فإذا عدمت هذه المجموعة التي تؤمن له راحة حقيقية من هذا الثقل، وجب على الدولة أن تفي بدلًا منه بهذه التعويضات. ولقد نظن، من أول وهلة، أننا نشهد في هذا النوع من المسئولية مخالفات متكدسة، لكنا لو تأملناها من قريب للمحنا أن الجانب الجماعي لا يتدخل هنا إلا لكي يقلل إلى أدنى حد مساوئ موضوعية واقعية، ولو كان ذلك بتحديدها أو تخفيفها. إن الطبيعة المركبة للعمل الخاطئ غير المتعمد تضعه -كما رأينا- وسطًا بين حالتين متطرفتين, هما: العمل المقصود، والحادث الذي يقع بطريق الصدفة المحضة، فإذا كان يشبه كلًّا منهما من جانب، فإنه يختلف عنه من جانب آخر. وإذن، فهو لا يحمل على جانب واحد أو آخر، ولا يمكن أن يعامل بنفس الطريقة، ونتيجة لهذا لا يصح أن يظفر بلا مسئولية كاملة، ولا أن يكون موضوع مسئولية كلية. فواقع الأمر أن النية السيئة معدومة، ومن العدالة أن يعفى من العقوبة. ومع ذلك، فإن وجود خطأ معين يميزه كثيرًا عن الحادث الاتفاقي "الذي وقع عرضًا وبطريق الصدفة"، "حيث لا مجال في الواقع إلا لمؤاخذة الطبيعة"، وهو ما يؤكد ضرورة نوع من الإصلاح الإنساني. ولكن، ممن نقتضي هذا الإصلاح؟ أنفرضه كليًّا على الفرد؟

_ 1 يطلق الفقهاء على من يتحمل الدية في هذه الحال اسم "العاقلة". "المعرب".

أليس معنى هذا أننا نوقع عقوبة مقصودة على خطأ غير مقصود، وبذلك توسع المسافة بين المسئولية الاجتماعية والمبدأ الأخلاقي؟ لقد كانت مشاركة الجماعة جد ملائمة حتى تهدأ ثورة الضمير. وليس هذا في الواقع نوعًا من بعثرة مسئولية وحيدة، فإن المجتمع لا يمكن أن يوصف حقًّا بأنه متعاون، على أساس عمل تم بدون علمه، بل أن نسبته إلى الفرد أمر عسير، وهو "أي: المجتمع" على أية حال لم يشارك فيه بوصفه مجتمعًا. ولكن نصف المسئولية الذي يقع على كاهل الفرد، يتولد عنه بالنسبة إليه موقف تعيس لا يستحقه. ولما كان المجتمع مسئولًا عن الرفاهية النسبية لأعضائه، فما كان له أن يدع هؤلاء الأعضاء عرضة لبؤس غير متوقع، وهم الذين لم يكونوا صناعًا مريدين لبؤسهم الخاص. ولهذا يخصص باب من نفقات الدولة الإسلامية لأداء ديون الأفراد، حيث جعل هؤلاء المدينون من مصارف الزكاة، فقال تعالى: {وَالْغَارِمِين} 1. وإذن فالتضامن الذي نراه هنا هو نوع من التعاون الخير، الذي يجب أن يتم في مواجهة الصعوبات، على سبيل التبادل بين الناس في المجتمع الواحد. ثم إن توزيع التعويضات أو الغرامات المذكورة لا يحدث بصورة ميكانيكية، على أساس التساوي العددي بين أنصباء المسهمين، بل يجب على العكس من ذلك أن نأخذ في اعتبارنا إمكانات كل فرد، لنفرض عليه نتيجة لذلك نصيبًا من شأنه ألا يرهقه2

_ 1 التوبة: 60. 2 الأمير, المجموع 2/ 372.

خاتمة

خاتمة: حين ندني مختلف العناصر التي استخلصناها أثناء هذا التحليل، بعضها من بعض، يصبح من السهل كثيرًا أن نعيد بناء الفكرة القرآنية عن المسئولية. لقد تولى القرآن بصفة جوهرية وجهة النظر الأخلاقية، وراح يقر في هذا الصدد الشروط التي تتفق تمامًا مع المقتضيات المشروعة لأعظم الضمائر استنارة، واهتمامًا بالعدالة. دون أن ينتظر النضج البطيئ، المتردد، عبر الأفكار القديمة والحديثة لكي ينتهي إلى هذا الوضع الواضح القويم. فالمسئولية ترتبط ارتباطًا وظيفيًّا بالشخصية؛ ولذلك لا يطيقها غير الإنسان البالغ العاقل، الواعي بتكاليفها، وبحيث يتمثلها أمام ناظره في لحظة العمل. فإذا ما تحددت صفات الشخص تعين، بعد ذلك، أن يكون مسئولًا عن الأفعال التي يأتيها بإرادته الحرة. وإذن فالإرادة والحرية هما من الناحية العملية مترادفان، وليس لأية قوة في الطبيعة، باطنة أو ظاهرة، سلطة كافية لكي تحرك أو توقف النشاط الجواني لإرادتنا. وقد تستطيع الطبيعة أن تحرمنا بعض الظروف المادية اللازمة لتنفيذ قراراتنا، وقد تستطيع أن تخلع عنا بعض الصفات الدمثة الرقيقة، التي تجعل قراراتنا الخيرة أكثر يسرًا ومودة، ولكنها لا تستطيع أن تمس فينا القدرة

على هذه الحمية الجريئة التي نقدر على إتيانها رغم كل شيء، مضحين بمسراتنا، وكذلك عندما يخضع المرء لإكراه خارجي، أو لضرورة حيوية، فإنه يفعل ذلك بحرية، وهو يوازن بين الأدلة والبواعث المتناقضة، ثم يختار ما يبدو له أكثر تناسبًا، وعلى أساس من هذا الاختيار يكون حسابه، أحسن أو أساء. وأخيرًا، فإن المبدأ القرآني للمسئولية هو مبدأ فردي، يستبعد كل مسئولية موروثة، أو جماعية بالمعنى الحقيقي للكلمة. هذه المبادئ التي تتبعناها على وجه الدقة، والتي استخرجنا منها أدق النتائج في الميدان الأخلاقي، والديني, قد ورد عليها -ولا ريب- استثناءات، في الميدان الفقهي، ومع ذلك لم نغفل كثيرًا من مسائلها الجوهرية. ويبقى العمل الإرادي للفرد الإنساني المزود بالعقل، الموضوع الدائم والوحيد للمسئولية، وتبقى أيضًا نية فعل الشر شرطًا ضروريًّا للعقاب. وعندما حدثت للمرة الوحيدة "في المسئولية المدنية" مخالفة لهذه القاعدة الأخيرة، كيما ترضى مطالب أخرى ليست بأقل شرعية -لم نقعد عن إلحاقها بمخالفة أخرى من شأنها تخفيف آثار الأولى. بحيث إن الشارع الإسلامي -بعيدًا عن المجال الأخلاقي المحض، ومع تغليب المصالح العاجلة- لم يتجاهل المبادئ الأساسية للتجريم الحقيقي.

الفصل الثالث: الجزاء

الفصل الثالث: الجزاء مدخل ... الفصل الثالث: الجزاء تتمثل العلاقة بين الإنسان والقانون لأعيننا في شكل حركة إقبال وإدبار، مكونة من ثلاثة أزمنة، ولقد كنا مع فكرة الإلزام ما نزال في نقطة البداية، ولكنا مع فكرة الجزاء، نجد أن دائرة هذه العلاقة الجدلية سوف تقفل، فهي الوحدة الأخيرة في ثالوث، وهي أشبه بالكلمة الأخيرة في حوار. فالقانون يبدأ بأن يوجه دعوته إلى إرادتنا الطيبة: فهو "يلزمنا" بأن نستجيب لتلك الدعوة، وبعد ذلك وبمجرد ما نجيب بكلمة "نعم" أو "لا" -نتحمل بذلك "مسئوليتنا"، وأخيرًا وعلى إثر هذه الاستجابة يُقوِّم القانون موقفنا حياله، فهو يجازيه. فالجزاء إذن هو رد فعل القانون على موقف الأشخاص الخاضعين لهذا القانون، وقد رأينا أن القانون الأخلاقي مطلب لا يقاوم لأنفسنا، وفرض صارم لضميرنا الجماعي، وهو في الوقت نفسه أمر مقدس لضمير الفرد في أكمل صوره وأقدسها، فمن هنا كان هذا الشكل المثلث للمسئولية، التي فرغنا من بحثها. ومن هنا أيضًا كان للجزاء ثلاثة ميادين، سوف ندرسها في هذا الفصل: الجزاء الأخلاقي، والجزاء القانوني، والجزاء الإلهي.

الجزاء الأخلاقي

1- الجزاء الأخلاقي: كثيرًا ما يتساءل المرء عما إذا كان هناك "جزاء أخلاقي"، أو عن

إمكان وجود مثل هذا الجزاء، أليس هذان اللفظان متنافرين تمامًا؟ أليس إنكارًا لطبيعة القانون الأخلاقي المنزهة على الإطلاق -أن نقترح للنشاط الإنساني غاية أخرى، غير أداء الواجب لذاته؟ في رأينا، أن الاعتراض يقوم على نوع من الخلط المؤسف بين علم الأخلاق والنزعة الأخلاقية، بين مقتضى العدالة في ذاتها، والأهداف التي تنشدها الإرادة؛ وهما أمران متمايزان تمامًا، دون أن يتوازيا بالضرورة. ولسنا نرى في الواقع أية إحالة في أن يكون لقانون معين جزاء صارم دون أن يدعونا أن نتخذ من جزاءاته حافزًا لجهدنا، والقانون الفيزيولوجي "العضوي" يقدم لنا مثالًا على هذه الحقيقة: أليس جزاء الظروف الصحية التي أعيش فيها -موجودًا آليًّا في الصحة والمرض اللذين تسببهما، حتى عندما لا أفكر قط في هذه النتائج؟ فلماذا يكون الأمر على خلاف ذلك في القانون الأخلاقي؟ سوف تقول لي: إنه يُحرِّم عليك أن توجه نظرك إلى شيء آخر غير أمره المهيب -ليكن!! ولكن ذلك لا يمنع أنه يستطيع، بل ويجب، أن يحفظني من النتائج المختلفة، المنوعة التطبيق, حسب ما إذا كنت ألتزمه على تقوى، أو أرفض الخضوع له في نزق وطيش. نعم، إن جزاء ضروريًّا، ومحددًا ينبغي أن يطبق في فكرة القانون ذاتها، وإذا كان القانون الأخلاقي لا يتضمن تنفيذه أو انتهاكه أية نتيجة لصالح الفرد الذي يفرض عليه أو ضده، فإن هذا القانون لا يكون باطل الأثر فحسب، بل متعسفًا وغير معقول؛ بل إنه لن يكون ملزمًا، أي: لن يكون هو ذاته. فكل ما في الأمر هو أن نعرف فِيمَ يتمثل هذا الجزاء، الذي نصفه بأنه أخلاقي؟ ويجب بداهة أن نستبعد كل فكرة للثواب أو العقاب تؤثر في حواسنا الخارجية، إذ إن مثل هذه الجزاءات، فضلًا عن أنها لا يمكن أن

تسمَّى "أخلاقية", فإنها كذلك ليست ضرورية، اللهم إلا إذا رجعنا بالفكر إلى عالم آخر، يصبح فيه السعادة والشقاء -كل على حدة- على توافق تام مع الخير والشر. ولكن ما دمنا بعيدين عن مجال الدين، فإن فكرة عالم كهذا غريبة عن الأخلاق الطبيعية، على وجه الإطلاق، وهي الأخلاق التي لا تتجاوز حدودها مجال الضمير الحالي، وعليه فكم من رذائل في هذه الدنيا توّجت بالنجاح!! وكم من فضائل رازحة تحت ضروب البؤس!! ولدينا من ذلك في كل يوم مزيد. هل يجب أن نستبعد أيضًا، كما قد قيل -فكرة اللذة والألم، الباطنية المحضة؟ وهل ندم الضمير ورضاه من المشاعر الغريبة أيضًا عن الحياة الأخلاقية؟ أليس لهما أي حق في الوجود بقوة القانون؟ لقد قيل لنا: إن هذه المشاعر ليست -احتمالًا- سوى بقايا مصفاة لفكرة موضوعية عن المسئولية، وإذا لم يكن الندم خوفًا مبهمًا من العقاب، فإنه التوقع أو الرجاء1. وإليك البرهان المقنع الذي روَّجوا له ضد هذه الاحتمالات، من أجل نفيها نهائيًّا من الميدان الأخلاقي، فإن هذه الحالات لا تتنوع بصورة ملحوظة من إنسان لآخر فحسب، بل إنها قد تختفي اختفاءً كاملًا في بعض حالات الفسق، فهي ليست إذن نتائج ضرورية للخضوع للواجب، أو لمخالفته، ومن ثَمَّ استنتجوا استحالة الجزاء الأخلاقي بالمعنى الصحيح. ولكن، هل نحن متفقون على معنى الكلمات؟ إذا كان المراد بعبارة "القانون الأخلاقي" -هو الواجب في ذاته، القانون الموضوعي الذي يفرض على جميع الناس، مستقلًّا عن حالات ضميرهم، فمن الحق أن قانونًا

_ 1 انظر: levy Bruhl. L'idee de la responsabilite, d III S I

كهذا يمكن أن يوجد، دون أن يؤدي في جميع الأنفس إلى هذه الحالات من الشعور بالراحة أو الألم، من الفرح أو الندم. غير أن إلغاء هذه الحالات الخاصة لا يؤدي إلى القضاء على جميع الحالات الداخلية التي يثيرها أداء الواجب أو انتهاكه. ولسوف نرى قريبًا أن كل سلوك، حسنًا كان أو سيئًا، ينشئ حالة داخلية تتناسب معه، وتكون عامة وضرورية. فأما إذا كان المقصود بكلمة "قانون"، قاعدة يعرفها ويحس بها الإنسان، قانونًا يتصل بمعارفنا ومشاعرنا، فمن الواضح أنه بعد أن يباشر عمله لا يمكن لفكرة الواجب أن تظهر مرة أخرى على مسرح الضمير، دون أن تحدث فيه أصداء، تختلف في درجة عمقها، تعبر عن الرضا في حالة النجاح، وعن الألم في حالة الفشل. وإذا حدث على سبيل الافتراض أن الإنسان الذي فسدت أخلاقه لم يستشعر شيئًا من هذا، وإذا كان قد فقد معنى الخير والشر تمامًا، فماذا يمكن أن يقال سوى أن القانون لا يوجد بالنسبة إليه؟ وهكذا يمضي اللفظان معًا دائمًا؛ لأنهما لا ينفصمان إيجابًا وسلبًا. هل معنى ذلك أننا نقف إلى جوار النظرية العامة، التي ترى في ندم الضمير ورضاه عقوبة أو مكافأة كافية للقانون الأخلاقي؟ هيهات، فإذا كان كل ما ننتظره من القانون كجزاء على موقفنا نحوه -هو أن يمتعنا أو يؤلمنا فيا له من مشروع صبياني!! إن المتعة والألم اللذين نحس بهما بعد أن نفعل خيرًا أو شرًّا، هما مع ذلك رد فعل لضميرنا على ذاته، أكثر من أن يكونا رد فعل للقانون علينا، فهما تعبيران طبيعيان عن هذا اللقاء، بين شعورين متلاقيين في ذوقنا الخاص، أو متضادين، أي: إننا تبعًا لتوافق شعورنا بالواقع أو تضاربه مع شعورنا بالمثل الأعلى -إما أن نتمتع بحالة من السلام والدعة, ناشئة عن هذا التوازن الداخلي, أي: عن اتفاقنا مع ذواتنا، لا سيما ونحن على وعي بهذه القوة التي منحت لنا كيما ندمج

أفكارنا في الأحداث؛ وإما أن نتألم لهذا التناقض، وذلك الضعف في قوانا -تألمنا من تمزق في كياننا. هذا التفسير النفسي الخالص لانفعالاتنا الأخلاقية يسير في انسجام مع النصوص، فالواقع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ينظر إلى حالات النفس هذه على أنها ثواب يقتضيه سلوكنا، وإنما رأى فيها -عوضًا عن ذلك- ترجمة وتحديدًا للإيمان "الأخلاقي"، فقد روى أحمد في مسنده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا ساءتك سيئتك، وسرتك حسنتك, فأنت مؤمن" 1. وفي حديث آخر -أن درجة شدة هذا اللوم الباطن تعكس صدق إيماننا، وتقيس درجته قياسًا دقيقًا، فنحن نشعر فعلًا بجسامة ذنبنا وخطورته على نحو متفاوت، تبعًا لدرجة شعورنا الحي بالتكليف، وهو قول رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "المؤمن يرى ذنبه فوقه كالجبل يخاف أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنبه كذباب مر على أنفه فأطاره" 2. ولكن، إذا كان الندم لا ينشئ جزءًا ثوابيًّا، ألا يمكن أن يعد بمنزلة جزاء إصلاحي؟ لا يحظى هذا الرأي بأكثر مما حظي به سابقه، فإن ما يعيد تثبيت القانون المنتهك ليس شعورًا معينًا، ولكن موقف جديد للإرادة: هو "التوبة". والندم ليس هو التوبة، بل هو تمهيد لها وإعداد فحسب، فعندما تخضع النفس للشر، يحدث فيها نوع من الصدع، وهي تجد -دون ريب- في حرارة الندم المؤلمة وسيلتها لتلتئم، وتقف من جديد مستجمعة، وتحمل

_ 1 مسند أحمد عن طريق أبي أمامة 5/ 251، و252, و256، وهو أيضًا في المسند1/ 18 و26 من حديث عمر بن الخطاب، وهو في المسند 3/ 446 من حديث عامر بن ربيعة. "المعرب". 2 انظر: الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب 49.

منذئذ أمانتها، مع مزيد من الطاقة والحماس. ومن المؤسف أننا لا نستغل دائمًا هذه الإمكانية المتاحة لنا. فليس من النادر، بل كثيرًا ما يحدث، أن تهبط هذه الهزة العابرة فجأة إلى درجة الصفر، وأن تخبو النار التي اشتعلت في بعض اللحظات بسرعة، فتصبح دون أثر في الإرادة، ودون غد في السلوك. وإذن فليست التوبة ثمرة ضرورية للندم، وهو لا يستتبعها كنتيجة مبدئية. إن الندم أثر طبيعي للصراع، ولكنه ليس جزاء، أما التوبة فهي على عكس ذلك تمامًا: إنها ليست أثر طبيعيًّا، بل هي جزاء، وجزاء أخلاقي بالمعنى الحقيقي، يفترض تدخل الجهد، إنها واجب جديد يفرضه الشرع علينا، على إثر تقصير في الواجب الأولي: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 1، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} 2، وهي واجب ملح، وعاجل، حتى إنه لا يصادف إرجاء إلا عرضه لخطر زوال فائدته. وأول الأخطار يتمثل في أن استمرار الإرادة في موقفها الخاطئ ينشئ في كل لحظة خطأ جديدًا، والله يقول في صفة المتقين: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} 3، ورغبة الإنسان في أن يغتنم في حاضره كل الشهوات المتاحة، وأن يؤجل محو كل ذنوبه إلى أن يتوب توبة صادقة مع النزع الأخير -ليست سوى وهم باطل، فإن القرآن يؤكد: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} 4. وبين التوبة العاجلة، والتشبث بالموقف المذنب هنالك الحل البليد، الذي

_ 1 النور: 31. 2 التحريم: 8. 3 آل عمران: 135. 4 النساء: 18.

يتمثل في أن يأسف الإنسان على الماضي، ثم يؤخر إصلاحه إلى حين، وهنا مكمن الخطر؛ لأن القرآن ينص على أن مغفرة الذنب ليست إلا لمن يتوبون من فورهم، أو بعد قليل: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} 1 {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} 2. والحق أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد فسر هذا النص بحيث يوافق أجل التوبة فسحة الحياة، فقال: "إن الله عز وجل ليقبل توبة العبد ما لم يغرغر" 3. ولكن إذا كان أجل الحياة مجهولًا لنا، وهو غالبًا ما يحين، على حين غرة، فمن الحكمة أن نستبق الساعة، أعني: أن نكون دائمًا على أهبة السفر، وأن نحسب باستمرار حسابه، وفي ذلك يقول الإمام الغزالي: "فمهما وقع العبد في ذنب، فصار الذنب نقدًا، والتوبة نسيئة، كان هذا من علامات الخذلان"4. ونحن نقول: إن التوبة جزاء إصلاحي، ولكن، كيف نتصور أن موقفًا لاحقًا يمكن أن يصلح موقفًا في الماضي؟ إن كل شيء يتوقف على التحديد الذي نعطيه للكلمات، فإذا كانت الكلمة "يتوب" تعني: يأسف على الشر الذي اقترفه، ويعزم ألا يعود إليه -فإن ذلك لا يكفي بداهة لرفع آثار العمل المقترف، وعليه، فإن التوبة بهذا المعنى لا تؤدي وظيفتها الإصلاحية، في الأخلاق الإسلامية، ففي هذه الأخلاق يقصد "بالتوبة" في الواقع موقف للإرادة أكثر تعقيدًا، موقف.

_ 1 النساء: 17. 2 آل عمران: 125. 3 مسلم, كتاب التوبة, باب 5. 4 الإحياء 4/ 45.

ينظر إلى الماضي، والحاضر، والمستقبل، ويتجلى في الأفعال، لا في اتخاذ خط سلوك جديد فحسب، ولكن أيضًا في إعادة تجديد البناء الذي تهدم, بصورة منهجية. وتعبير القرآن تعبير بناء جدًّا في هذا الصدد، فهو يضيف دائمًا إلى كلمة "تاب" كلمات أخرى مثل: {وَأَصْلَحَ} أو {وَأَصْلَحُوا} 1 أو قوله: {ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} 2؛ فهو مجموع من الشروط التي جعلها ضرورية لكسب الغفران الموعود. وأول دليل على التوبة النصوح، هو الواجب الآنيّ المعجل، الذي بدونه تصبح فكرة التوبة متناقضة. هذا الواجب ينحصر في العدول السريع عن الذنب، أعني: إيقاف الشر الذي كان المذنب يوشك أن يجترحه. ثم تأتي من بعد ذلك عمليتان إيجابيتان تكملان هذا الدليل، هما: إصلاح الماضي، وتنظيم مستقبل أفضل. وفكرة "الإصلاح" هي وحدها التي تبقى غامضة، لا يستطاع تحديدها كمفهوم له معنى وحيد، وهي تبدو لنا -في الواقع- تغير من طبيعتها تبعًا لنوع الخطأ الواجب إصلاحه. فإذا كان الخطأ في واجب أهمل، وما زال الأمر به قائمًا، فإن الإصلاح ينبغي أن يتمثل في قضاء حقيقي، ذي طابع أخلاقي، فكلمة "أصلح" هنا تعني "تدارك" فالعمل الناقص يجب أن يعاد، ويؤدى بطريقة مناسبة، آجلًا أو عاجلًا، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيت} 3، ويقول: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} 4، ولكن حين تكون الحالة شرًّا إيجابيًّا حدث فعلًا، فكيف نصلح ما لا يقبل الإصلاح؟ هنا يظهر معنى آخر للكلمة، فإن "أصلح" لن تعني "أعاد"، بل "عَوَّضَ"

_ 1 البقرة: 160 والأنعام: 54، والنحل: 119. 2 المائدة: 93. 3 الكهف: 24. 4 البقرة: 185.

وإذا كان مستحيلًا أن نبطل الخطأ في ذاته، فمن الممكن على الأقل أن نمحو آثاره، بأداء أفعال ذات طبيعة مناقضة، وها هو القرآن يعلمنا أن: {الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} 1، وأن أولئك الذين {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} 2. ومع ذلك، إن السُّنة قد ميزت هنا نوعين من الخطأ الواجب إزالته: الأخطاء التي تنتهك واجبًا شخصيًّا، ويطلق عليه: حق الله، وذلك كأن يعكف المرء على شهواته، عصيانًا لخالقه, والأخطاء التي تضر بحق الغير، ويطلق عليه: حق العباد، وفي الحقيقة: إن حق الله يوجد في جميع واجباتنا، إما في حالة خالصة، وإما مختلطًا بحق آخر إنساني. وعلى ذلك فإن جميع أشكال التوبة، على ما علمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي المشار إليها حتى الآن، ليست قادرة على محو كبائرنا، إلا من حيث هي انتهاك لتلك الشريعة المقدسة، فإذا استتبعت الجريمة -فضلًا عن ذلك- أضرارًا تلحق بإخواننا، فلن يتم إصلاحها إلا بإدخال عنصر جديد. لقد أسفنا على ما اقترفنا من شر، ودعونا الله أن يغفره لنا، وعزمنا ألا نعود إليه، واستفرغنا طاقتنا في مقابلة الفعل السيئ بأعمال طيبة، كل هذا جميل، ومأمور به، وحبيب إلى الله، ولكنه يظل عاجزًا عن أن ينشئ توبة كاملة، إذ يجب أن نحصل على إبراء صريح ومحدود من أولئك الذين أسأنا إليهم، فضلًا عن الندم، والاهتداء. والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من كانت له مظلمة لأحد، من عرضه أو شيء، فليتحلله منه اليوم، قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته،

_ 1 هود: 114. 2 التوبة: 102-103.

وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه" 1. فابتداء من الكذاب حتى القاتل، كل إنسان مذنب في حق الغير يجب أن يعترف، ويستسلم لضحاياه، ويخضع لأحكامهم، فإذا لم يستبرئهم في هذه الدنيا وجب أن ينتظر مقاصة ثقيلة، يقتضونها منه في الآخرة، كما أخبرنا رسول الله، وهي مقاصة ذات طابع أخلاقي، تتمثل في أن ينقل إلى حسابهم جزء من حسنات ظالمهم، فإذا انتهت حسناته قبل أن يستوفوا ما لهم، وهو "الإفلاس" كما عبر الرسول، فإن عملية عكسية تبدأ: يؤخذ من سيئاتهم فيوضع على كاهله. وذلكم أيضًا هو قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أبو هريرة: "أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار" 2. ولكي ندرك الأهمية الخاصة التي نعت بها الإسلام الإخلال بواجباتنا الاجتماعية، حسبنا أن نقرأ الحديث الذي يقسم الذنوب ثلاثة أقسام؛ فعن عائشة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "الدواوين ثلاثة: ديوان يغفر، وديوان لا يغفر، وديوان لا يترك، فالديوان الذي يغفر ذنوب العباد بينهم وبين الله، والديوان الذي لا يغفر الشرك، والديوان الذي لا يترك مظالم العباد" 3.

_ 1 البخاري, كتاب المظالم, باب10، وكتاب الرقاق, باب القصاص. 2 مسلم, كتاب البر والصلة, باب 15. 3 مسند أحمد 6/ 240 من طريق عائشة، ونصه: "الدواوين عند الله عز وجل ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئًا. وديوان لا يترك الله منه شيئًا، وديوان لا يغفره الله؛ فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله. قال الله عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} . وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئًا فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه، من صوم يوم تركه، أو صلاة تركها. فإن الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئًا فظلم العباد بعضهم بعضًا، القصاص لا محالة". "المعرب".

وقبل أن نترك مفهوم التوبة يبقى علينا أن نضيف ملاحظتين نجدهما في القرآن، أولاهما، أن الكفار الذين يدخلون في الدين الحق معفون من كل إجراء إصلاحي للماضي، كأنما كان لهذا التحول إلى الإيمان فضل تطهيرهم من جميع الذنوب التي سلفت، قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} 1. وثانيتهما: أن تأثير التوبة النصوح، التي تحدث بشروطها المطلوبة، ما كان لينهار بسبب العودة المحتملة إلى الذنب، "وهو أمر ممكن، حتى مع العزم الشديد الآن"، فهي حالة عارضة، وعلينا أن نكرر جهودنا للإصلاح، دون أن نيأس أبدًا، والله سبحانه يقول: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} 2، ويقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} 3، ويقول: {وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} 4. والأحاديث أكثر صراحة في هذا الباب. ولنقرأ هذا الحوار الذي ورد به الحديث القدسي: "قال الشيطان: وعزتك يا رب، لا أزال أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، قال الله: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني" 5. ولكن، في أي صورة ما تمثلت التوبة، بالمعنى المركب الذي صورناها به، فإنها لا تنشئ سوى جزاء إصلاحي، يتطلبه منا الشرع، أفلا يوجد

_ 1 الأنفال: 38. 2 الأنفال: 33. 3 الزمر: 53-54. 4 الشورى: 25. 5 مسند أحمد من طريق أبي سعيد الخدري، ونصه: قال النبي, صلى الله عليه وسلم: "قال إبليس: أي رب، لا أزال أغوي بني آدم ما دامت أرواحهم في أجسادهم. قال: فقال الرب عز وجل: لا أزال أغفر لهم ما استغفروني". "المعرب".

أيضًا جزاء أخلاقي ثوابي، يمارسه فينا تلقائيًّا، على إثر الموقف الذي نتخذه منه؟ بلى؛ وهو سابق على الجزاء التكليفي الذي لا يفرضه علينا إلا لكي يوقف أثر هذا الجزاء العاجل، فإما ألا يكون للتكليف الأخلاقي معنى، أو يكون لممارسة الفضيلة، وهجر الرذيلة بعض الأثر الواقعي، الشعوري أو اللاشعوري, لصالحنا، أو ضد صالحنا؛ وبغير ذلك يصبح خضوعنا للشرع عملًا بلا جدوى، أمرًا من سيد مستبد، يدفعنا إلى أن نعمل من أجل الاستمتاع فقط بأنه يدفعنا إلى العمل. ولو كان الأثر المؤجل لطريقتنا في الحياة ينتهي إلى أن يمس حساسيتنا، برفق أو بقسوة، دون أن يغير ملكاتنا العليا تغييرًا عميقًا، فإن ذلك يكون أشبه بحال صاحب العمل، الذي يشغل ألف عامل، ثم لا يدفع إلا لأقلهم ذكاء!! كلا فإن هذا الأمر الداخلي الذي لا يقاوم، والذي يريد أن يسخر كل شيء فينا لطاعته: جسدًا، وروحًا، وملكات بالإدراك والتسليم، وقدرة على القيادة والتنفيذ، والذي يريد أن ينظم كل شيء، وأن يهدي كل شيء بطريقة معينة، دون أخرى -هذا الأمر إذا لم يكن مجرد نزوة- فيجب أن يستهدف أكبر خير في وجودنا بأكمله، وأن يكون شرطًا فيه. وإنا لنتساءل: هل خلق الإنسان من أجل القانون أو أن القانون هو الذي خلق من أجل الإنسان؟ وقد يجاب عن ذلك تارة بالرأي الأول، وتارة بالرأي الثاني، وفي رأينا أن كلا الرأيين يعبر عن جانب من الحقيقة، ونحن نصادف، هذه القولة، أو تلك في القرآن، فالله سبحانه يعلن من ناحية، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 1. ويؤكد من ناحية أخرى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ

_ 1 الذاريات: 56.

وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} 1, {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} 2, {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} 3, {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} 4. فلنقرب ما بين هذين القولين، بحقيقتهما النسبية، ولسوف نحصل على الحقيقة المطلقة، فالإنسان وجد من أجل تنفيذ الشرع "الذي هو عبادة الله" ولما كان الشرع قد وجد من أجل الإنسان، إذن فالإنسان قد وجد من أجل نفسه، والشرع غاية، ولكنه ليس الغاية الأخيرة، إنه ليس سوى حد وسط بين الإنسان، كما هو، ناشئًا يتطلع إلى الحياة الأخلاقية، ومصارعًا من أجل كماله، وبين الإنسان كما ينبغي أن يكون، في قبضة الفضيلة الكاملة. أي: إنه حد وسط بين الإنسان العادي والقديس، بين الجندي والبطل. والشرع أشبه بقنطرة بين شاطئين، نحن نقطة بدايته، ونقطة نهايته، أو هو أشبه بسلم درجاته مستقرة على الأرض، ولكن يعد من يريدون تسلقه أن يرفعهم إلى السماء. ولنقتبس من القرآن صورته الديناميكية، فهذا أفضل من تلك الصور الساكنة والميكانيكية، فالقرآن في رمزين مشهورين يشبه الحق والباطل بشجرتين، فيقول: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} 5 -هذا التشبيه ينطبق على الصدق والكذب العمليين، كما ينطبق عليهما نظريين،

_ 1 المائدة: 6. 2 الإسراء: 15. 3 العنكبوت: 6. 4 فاطر: 18. 5 الرعد: 29-31.

فالفضيلة المؤثرة خصبة نافعة، تنمي قيمتنا وترفعنا من عالٍ إلى أعلى، والرذيلة قبيحة وبلا غد، تجعلنا سطحيين، مبتذلين، بل إنها تنزعنا من الإنسانية. هل نريد بعض أمثلة، مما ساقه القرآن، وأثبت به أن ممارسة الخير والشر في مختلف صورهما تحدث أثرها في النفس الإنسانية؟ ها هي ذي عينة: محاسن الفضيلة: 1- الصلاة: وهي بالنسبة إلى أولئك الذين يؤدونها بروحها ذات وظيفتين أخلاقيتين: فهي لا تقتصر على كونها: {تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} ، ولكن {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} 1، فهي تجعلنا روحيًّا على اتصال بالمنبع الشامل لجميع الكمالات. 2- الصدقة: ولها أيضًا أثر مزدوج الفائدة: فهي "تطهر" النفس، حين تصرفها عن حرصها الزائد على الكسب، وهي "تزكي" نضارتها؛ {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} 2. 3- والصوم، وللصوم كذلك دور تجنيبي: فهو يحفظنا من الشر، ويدفع عنا شرة الجوارح، ويجعلنا أقدر على أن نحترم القانون، وهو وسيلة إلى بلوغ "التقوى" {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} 3. 4- الممارسة والحكمة: إن الأداء الدائم للأفعال الفاضلة يجعل الإنسان حكيمًا، شجاعًا في خصومته، كريمًا في رخائه: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ

_ 1 العنكبوت: 45. 2 التوبة: 103. 3 البقرة: 183.

هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا، إِلَّا الْمُصَلِّينَ} 1. قبح الرذيلة: 1- السكر: يقدم لنا القرآن الخمر، والميسر بقبح مزدوج، أعني أنهما يزرعان البغضاء والعداوة بين الناس، ويمنعان من ذكر الله، فقال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} 2، وهكذا أثبت الإسلام أن الخمر "أم الخبائث"3 و"مفتاح الشرور"4، والواقع أنه إذا ذهب العقل فأية سيطرة تكون لنا على أنفسنا؟ 2- الكذب: وإذا كان هناك فضائل ورذائل خصبة في الخير، وفي الشر الأخلاقي، بحيث تولد الفضائل الأخرى، والرذائل الأخرى بدورها، فيجب أن نحسب في هذا العدد: الصدق والكذب، وقد قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقًا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابًا" 5، والله سبحانه يقول: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ} 6. والقرآن يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك؛ فهو لا يكتفي بأن يخبرنا أن الكذب هو رأس الفساد, بل يقدمه لنا على أنه صفة النفس الكافرة، من حيث كان متنافرًا مع الإيمان "الأخلاقي". يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من

_ 1 المعارج 19 - 24. 2 المائدة: 91. 3 انظر: جامع السيوطي 2/ 13. 4 ابن ماجه, كتاب الأشربة. 5 البخاري, كتاب الأدب, باب 69. 6 النحل: 105.

حديث عن أبي هريرة: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن" 1. فهو -صلى الله عليه وسلم- يمد هذا التنافر إلى جميع الكبائر والمحرمات الرئيسية، وعلى الأقل في لحظة ارتكابها، ففي هذه اللحظة يؤكد الرسول أن الإيمان يخرج من أعماق القلب، فلا يبقى منه لدى المجرم أو الفاسق سوى فكرة غائمة، كأنها ظل يحوم فوق رأسه: "إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان، وكان على رأسه كالظلة، فإذا نزع عاد إليه الإيمان" 2. ولكن لا داعي للإكثار من نصوص السُّنة، فإنها تمضي بنا بعيدًا، ولنعد إلى نص القرآن. 3- السلوك، والقدرات العقلية: ليس يكفي أن يقال: إن الخير "يطهر" القلب، ويقوي الإرادة الطيبة ويدعمها، وإن الشر "يفسد" النفس، ويدنسها، ذلك أن أثرهما يذهب إلى ما هو أبعد، بما لهما من انعكاسات وأصداء، حتى في الذكاء. إن اضطراب الهوى يصدئ مرآة الفكر، ويشوه إدراكها للحقيقة: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 3، على حين أن التوازن الناشئ عن الصلاح يجعل الإنسان قادرًا على تمييز الحق والباطل، والخير والشر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} 4. 4- النفس بأكملها: وهكذا تتلقى كل قوة من قوانا نصيبها من الجزاء الأخلاقي، فنفسنا بأكملها إذن هي التي نعمل على أن ننقذها، ونكملها، أو

_ 1 البخاري, كتاب الحدود, باب 1. 2 الترمذي: ذكره ابن الربيع الشيباني في التيسير، كتاب اللواحق، باب 1. 3 المطففين: 14. 4 الأنفال: 29.

نضللها ونجردها: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 1. ولكي نقول ذلك كله في كلمة واحدة: إن الجزاء الأخلاقي الثوابي يتمثل في الحسنة والسيئة، أي: في كسب القيمة أو خسارتها: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} ... {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّين} 2.

_ 1 الشمس: 7-10. 2 المطففين: 7 و18.

الجزاء القانوني

2- الجزاء القانوني: حين ننتقل من الناحية الأخلاقية إلى الناحية القانونية، يكون الجزاء الثوابي قد فقد نصف معناه، فهو لا يحتفظ من طابعه المزدوج، الثوابي والعقابي، سوى بالطابع الثاني. و"الجزاء sanction" هنا يعني أساسًا "العقوبة" بالمعنى الواسع للكلمة، الذي يضم الإجراءات التأديبية، والإجراءات العقابية بالمعنى الصحيح على السواء. والمجتمع الإسلامي، كسائر الأمم المتحضرة، لم يحرص على أن يمنح جوائز مادية لأولئك الذين يؤدون واجباتهم أداء كاملًا، فهؤلاء سوف يقنعون أولًا بنوع من الجزاء السلبي، الذي يتمثل في استظلالهم بحماية القانون، ليأمنوا على حياتهم، وأبدانهم، وأموالهم، وأعراضهم، من أي مساس بها. ثم هم بعد ذلك يقنعون بجزاء شامل من الرأي العام، الذي سوف يعاملهم بما يستحقون من الرعاية، والتقدير، والإطراء، وأخيرًا فهم سوف يتمتعون بتلك المقدرة الممتازة، التي تجلب وحدها الحياة الصحيحة، الشريفة، اللائقة بالإنسان، وتتيح له أن يؤدي دورًا ناشطًا في توجيه الشئون العامة، وفي توزيع العدل الاجتماعي، ذلك أن التشريع الإسلامي، يرى أن فساد الخلق

ليس هو السبب الوحيد الذي ترد به شهادة الرجل في المنازعات، بل إن مسلكًا طائشًا، أو زيًّا يخرج عن الاحتشام، أو انهماكًا في الملذات، حتى ما كان منها مباحًا -كل ذلك من شأنه أن يرد شهادة الرجل، ويجعله غير أهل لوظيفة القاضي، وبالأحرى غير أهل لوظيفة رئيس الدولة. ولو أننا تناولنا بالدراسة النظام العقابي في التشريع الإسلامي فلا مناص من أن نميز فيه مرتبتين مختلفتين: فهناك الجزاءات التي حددها الشرع بدقة وصرامة، وهي التي تسمى "بالحدود"، وهناك جزاءات أخرى، تسمى "التعزيرات"، وهي متروكة لتقدير القاضي. فالمرتبة الأولى، تتكفل بمجازاة عدد قليل من الجرائم1، هي "الحرابة" والسرقة، وشرب الخمر، والزنا، والقذف، أما الجرائم الأخرى فتتبع المرتبة الثانية. وليس أهم ما يميز الطائفة الأولى -أن العقوبة فيها محددة تحديدًا دقيقًا،

_ 1 ألا ينتمي القتل العمد إلى نفس المجموعة؟ يقول أكثر الفقهاء: لا، وحجتهم في ذلك أن حق أولياء القتيل يغلب هنا على الحق الجماعي، وحتى لو كانت القضية قد قدمت للقضاء فإن عفو هؤلاء الأولياء عن القاتل يكفي لسحب القضية من يدي السلطة العامة التي لن يكون لها حينئذ أن تدعي شيئًا ضد المعتدي. أما المالكية فتذهب إلى عكس ذلك، مستندة إلى بعض الأحاديث، التي كانت موضع جدل، وهي تقرر أن عفو أسرة الميت يكفي لتخفيف العقوبة، لا لإلغائها، والمجرم في هذه الحالة سوف يُعفى من عقوبة الموت، ولكن لا ينبغي أن يمضي مطلقًا بلا عقاب، ويرون من الخير أن يجلد مائة جلدة، ويقضي عامًا في السجن، أو التغريب، وذلك لتقليل فرصة عودته إلى الجريمة، وفي الوقت ذاته لتقليل الأثر المصاحب المعدي لهذا المثل السيئ. ولنذكر مع ذلك أن هذا الخلاف لا موضع له إلا في حالة القتل العادي، الذي يحدث في مشاجرة، مثلًا، أما حالات القتل البشعة، أو المتعمدة، مثل: الاغتيال، أو القتل غدرًا، والإيقاع في كمين ... إلخ, فإن كل المذاهب مجمعة على أن عفو الأفراد قاصر مطلقًا في هذا الصدد. وأن من الواجب تطبيق عقوبة الإعدام على القاتل.

كيفًا وكمًّا. ولكنها فضلًا عن ذلك ذات صبغة مطلقة، وهي بهذا المعنى لا يتوقف تطبيقها، لا على حالة المذنب، "ذا سوابق أو لا، قابلًا للإصلاح أو غير قابل، يخيف الناس أو لا يخيفهم"، ولا على مشاعر الضحايا. صحيح أن لهؤلاء الحق في ألا يلاحقوا المجرم أمام القضاء، سواء بأن يعفوا عن عمله العدواني عفوًا تامًّا، أو بأن يصطلحوا متراضين معه، وحينئذ لا يكون للجزاء الشرعي مجال. ولكن متى صارت الجريمة عامة، أعني متى اتصلت بعلم السلطة المختصة -فإن أصحاب الحق يكونون بذلك قد تنازلوا عن حقهم، وبذلك يصبح الجزاء في هذه الحالة، البتة، من شأن الصالح العام، ويجب أن يطبق بلا هوادة أو رأفة. إن الصرامة في هذا الصدد لا تجعل مجالًا أمام أي تنازل أو حل وسط، ولا شك أننا نعرف قصة السرقة التي ارتكبتها امرأة تنتمي إلى طبقة الأشراف العربية، والتي أعلن النبي -صلى الله عليه وسلم- بمناسبتها، وفي كلمات بلغت غاية القوة، مبدأ مساواة الجميع أمام القانون، فحين تشفع لديه في هذا لموضوع واحد من خيرة أصحابه، قام وخطب في الناس هذه الخطبة القصيرة: "أيها الناس، إنما أضل من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها" 1. وهذه حالة أخرى تزيدنا علمًا، ذلك أن صفوان بن أمية، حين أجاب دعوة النبي التي أمر به المسلمين المضطهدين خارج المدينة أن يجيئوا ليستقروا في هذه العاصمة الإسلامية، وقيل له: إنه إن لم يهاجر هلك، غادر مكة، مسقط رأسه، وجاء ليستقر بجوار قائده الروحي، وما كاد يصل حتى رغب

_ 1 انظر: البخاري, كتاب الحدود, باب 12.

في أن يستريح في المسجد هنيهة، فنام في المسجد، وتوسد رداءه، فجاء سارق فأخذ رداءه، فأخذ صفوان السارق فجاء به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تقطع يده. فقال له صفوان: إني لم أرد هذا يا رسول الله، هو عليه صدقة, فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "فهلا قبل أن تأتيني به" 1. وهكذا نجد أن العفو عن هذا النوع من الأخطاء غير صحيح إلا إذا كان في المجال الخاص، فمتى علمت السلطة العامة بالجريمة يصبح تطبيق الجزاء "الحد" أمرًا جازمًا لا رجعة فيه. وقد ورد بذلك نص آخر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو قوله: "تعافوا الحدود بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب" 2. فالسرقة -إذن- تحتم في الشريعة الإسلامية، قطع يد السارق، بنص القرآن: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 3. والحرابة عقوبتها، إما الموت، وإما تقطيع الأيدي والأرجل، وإما النفي: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} 4. والعقوبة المنصوص عليها في القرآن للزاني، هي مائة جلدة: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 5، ولكن يجب أن نضيف إلى هذه العقوبة، تبعًا للأحاديث: "تغريبًا عامًّا". وعلى أية حال، فإن عقوبة الموت يجب أن تستبعد من هذا المجال، إذا

_ 1 مالك بن أنس: الموطأ، كتاب الحدود, باب 9. 2 أبو داود: ذكره السيوطي في الجامع. 3 المائدة: 38. 4 المائدة: 33. 5 النور: 2.

ما التزمنا حرفية النص القرآني، الذي ذكرناه آنفًا، والذي لا يفرق بين المحصن وغير المحصن، أي: بين البكر والمتزوج، ولكن المأثور عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته قد أثبت هذا الفرق، وبمقتضاه يستحق الأشخاص المحصنون، الذين تثبت عليهم جريمة الزنا -عقوبة الموت كأشنع ما يكون. ولنذكر أن تعبير القرآني -مع ذلك- يبدو أنه يفتح الباب لهذا الإجراء، على أنه غاية التطور التشريعي في هذا الموضوع، والواقع أن الجزاء المنصوص في القرآن، بالنسبة إلى النسوة الزانيات، كان في البداية الحبس: {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} 1. وبدلًا من أن يفرض هذه السبيل جاء النص النبوي اللاحق، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم- مبينًا لها: "خذوا عني، فقد جعل الله لهن سبيلًا، الثيب بالثيب، والبكر بالبكر، الثيب جلد مائة، ثم رجم بالحجارة، والبكر جلد مائة، ثم نفي سنة" 2. وأخيرًا نجد أن القاذف يستحق تقريبًا نفس العقوبة، ما دام قد افترى على الآخرين كذبًا، واستحل لحمهم، فله ثمانون جلدة، بدلًا من مائة: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} 3. أما فيما يتعلق بعقوبة تعاطي الخمر، فليس في القرآن، أو في كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نص يذكرها، بيد أنه على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جرت العادة أن يجتمع نفر من المؤمنين حول ذلك الذي عاقر الخمر، فيسمونه ضرب العصا، والنعال ... إلخ. وبعد وفاة الرسول جمع الخليفة الأول كبار الصحابة، واستشارهم في الأمر، ليتذكروا العدد التقريبي الذي كان يُضربه السكارى،

_ 1 النساء: 15. 2 صحيح مسلم: كتاب الحدود, باب 3. 3 النور: 4.

فقدروه بأربعين "ضربة بزوج من النعال"، وفي عهد عمر -رضي الله عنه- استشارهم مرة أخرى، وانتهى الأمر إلى ثمانين جلدة، "مستبدلًا بكل ضربة نعل ضربة سوط"، وقد كان بين أعضاء المشورة علي كرم الله وجهه، فعللها على النحو التالي: "إنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فأرى عليه حد المفترين"1. أما عبد الرحمن بن عوف، فقد كان يرى في هذا العدد أقل حل يمكن أن يتصور، من حيث كان أدنى عقوبة عرفها القرآن، وفي الحديث: "أخف الحدود ثمانون" 2. وبهذا الطريق المزدوج، العقلي والنقلي، بلغ صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- نفس النتيجة، فأخذ قرارهم المشترك كقاعدة -قوة القانون. ونحن نعترف الآن، بأنه -فيما عدا الإجراءات الاستثنائية التي اتبعت ضد "الحرابة"- نجد أن الضمير المعاصر قد أجفل فعلًا من هذه الإجراءات البالغة القسوة، والتي يقصد الإسلام بها أن يعالج بعض الاضطراب في السلوك الإنساني، وبعض جرائم القانون العام. وفي هذا العصر الذي بلغت فيه رقة مشاعرنا درجة، نكره معها -أكثر فأكثر- أن نعرض المجرمين الشواذ للألم البدني -كيف نستطيع أن نتقبل هذه الآلام الرهيبة التي يراد أن يتعرض لها ضعاف الإرادة، عندما يزلون في حياتهم الخاصة أو العامة؟ كيف نتقبل ذلك دون أن نرتعد؟ وهكذا

_ 1 موطأ مالك: كتاب الأشربة, باب 1، ولم ترد جملة "فأرى عليه حد المفترين" في الموطأ. "المعرب". 2 الترمذي: كتاب الحدود, باب 14.

ضربت مجتمعات إسلامية كثيرة -صفحًا عن تطبيق هذه الأشكال من العقوبات، منذ زمن طويل، بفعل صلاتها بالعالم الأوروبي. لكنها مسألة أن نعرف، ما إذا كان لهذه الانفعالات السريعة أسس متينة في العقل، أو في المصلحة الواقعية للأفراد، أو الجماعة؟ ومع ذلك ماذا يعني تحرجنا أمام عقوبة؟ ألا يعني هذا -في حالة النزاع بين الشرع المنتهك، وحق الفرد الذي خالفه- أننا نخص حق هذا الفرد بأهمية كبرى، وفي الوقت نفسه نعطي للشرع قيمة أقل من قيمة الفرد؟ ولماذا لا نتحرج، حين نكون محتلين بعدو، خارجي أو داخلي، من أن نوجه إليه أقسى الضربات، وأن نعد له ردعًا رهيبًا، بما في ذلك حرمانه من الحياة؟ ذلك لأن غريزة المحافظة على النفس، التي تحتل من أنفسنا مكانة متميزة -تكبت حينئذ مشاعرنا العادية، المنطوية على المودة، والأخوة الإنسانية، تكبتها وتدفعها إلى وراء. ثم إن رد فعلنا تجاه جزاء معين يقيس -بالضبط- الفعل الذي تمارسه علينا فكرة الواجب ذي الجزاء، وهكذا فإن الضمير العام الذي لا يتحرج قط من أن يضرب انحراف أعضائه بقسوة، لا يدل من ذلك الجانب على عدم إحساس بالألم الإنساني، بقدر ما يدل على إجلال عميق، واحترام ديني "بحرفية هذه الكلمة" للقانون المنهار. ذلك هو المقياس الذي يجب أن نقيس به المسافة التي تفصل المفهوم الأخلاقي المعاصر، عن مفهوم المجتمع الإسلامي الأول. فإلى أي مدى كان هذا المجتمع يشعر بعمق صفة القداسة في الإخلاص الزوجي!! وبأي استهجان كان يقوم في وجه خيانة الزوجين، أحدهما بالنسبة للآخر؟! وبأي احتقار كان ينظر إلى مهانة اللص، وخبال المخمور، ودناءة النمام؟ َ!

الحق أن تلكم الأمة لم تكن ينقصها العطف والرحمة الإنسانية، ولكنها كان يجب أن تسكت هذه الرقة المصطنعة، وتتجاوزها بروح النظام والطاعة، وصدق الله: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} 1. أما فيما يتعلق باحترام شخص الإنسان، وحق الفرد في الأمن، فمن البدهي أنهما ما كانا لينشدهما إلا أولئك الذين يعرفون كيف يحافظون على كرامة الإنسان. وليس يقتصر أثر الزلل على أنه يفقد الفرد قيمته فحسب، بل إنه يجعله عرضة للتجريح، وهو لا يلوم إلا نفسه إذا أصابه هذا التجريح؛ لأنه هو نفسه الذي مزق أستاره الواقية. واستمعوا إلى هذا التأمل العميق لشاعر عربي: يد بخمس مئين عسجد وديت ... ما بالها قطعت في ربع دينار عز الأمانة أغلاها، وأرخصها ... ذل الخيانة، فافهم حكمة الباري على أننا ينبغي أن نذكر أن هذه القسوة ضد اللصوص ليست سوى قسوة ظاهرة، وفي نطاق النظرية، أما من الناحية العملية، فكلما كانت العقوبة أشد تنكيلًا قل غالبًا تطبيقها، فعظم الجزاء يجعل مخالفته أدنى إغراء وأقل إغواء، فلا يجد النظام أمامه عقبات كبيرة يتعين عليه اجتيازها كيما يسيطر سيطرة كاملة. وما علينا لكي نقتنع بهذا إلا أن نرجع إلى السجلات القضائية في البلاد التي تعاقب على السرقة بالغرامة، والتعويض، أو الحبس، وفي بلد آخر كالعربية السعودية، حيث ما زال الجزاء القرآني معمولًا به، هنالك سوف نجد أعدادًا لا حصر لها من الرجال الذين لا يرجى صلاحهم، وهنا يكاد

_ 1 النور: 2.

الناس يكونون معصومين. ولربما قيل: إنه فرق في الطبيعة، ولقد زرت بنفسي الحجاز؛ في أوائل عام 1936م فأذهلني أني حيثما وجهت وجدت تباينًا كاملًا بين بلادنا وهذا البلد، فإن السرقة لم تختفي من المدن فحسب، بل إنها لم تلحظ حتى في الجبل، والصحراء، بل لم يشك في حدوثها، أو يظن. حتى إن حقيبة ضائعة ملقاة على الطريق غير المأهولة، والتي لا يمكن أن تصبح مأهولة، يحتمل أن تبقى في مكانها إلى ما لا نهاية، دون أن يجرؤ امرؤ على لمسها، ولو بدافع الفضول. ومع ذلك فكل شيء هنالك كان يغري بها: الفقر المدقع بين سكان الجبال، وثراء السياح والحجاج، وندرة وسائل المواصلات، وعدم وجود الشرطة، تقريبًا، على مسافة بعيدة. ولكن كان حسب ابن سعود، في مستهل ارتقائه السلطة، بضعة أمثلة واعظة، وإن كانت عنيفة، حتى يقضي مرة واحدة، وفي كل مكان على كل محاولة للسرقة، والاختلاس في مملكته الواسعة، وكأنما كانت معجزة. ويبقى بعد ذلك أنه على الرغم من فداحة الجرم الذي اقترفه الزاني، فإن الطريقة التي قصدت السُّنة أن تعاقبه بها لا تفتأ تروعنا، وهي رجم كائن إنساني وكأنه كلب مسعور!! ومع ذلك، إن بضع ملاحظات هنا من شأنها أن تخفف هذه الصفة التي تصدمنا. ذلك أن القرآن من أول وهلة قد أحاط تشريع هتك العرض بعامة بعدة احتياطات تجعل إثبات الجريمة أمرًا في غاية العسر، إن لم يكن مستحيلًا من الناحية العملية، فالمبلغ الذي لا يعتمد في تبليغه على شهادة أربعة رجال عدول صادقين، يشهدون، لا على معاشرة امرأة لرجل أجنبي في حجرة واحدة فحسب، بل على وصف الواقع المحدد -هذا المبلغ ما لم يكن كذلك يعاقب هو نفسه بثمانين جلدة، بتهمة البلاغ الكاذب. ثم ترد منذئذ شهادته أمام القضاء، والله يقول: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ

الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 1. كذلك لسنا نجد في السُّنة مثالًا واحدًا قامت فيه الإدانة بالزنا على الشهادة، بل إن الحكم صدر على أساس من الإقرار التلقائي للمذنب نفسه. وحتى هذا الإقرار التلقائي -وهو النقطة الثانية- لا يكفي في ذاته لكي يفرض إدانة، بل يجب التأكد من أن المعترف يدرك تمامًا ما يقول "أعني أن الأمر بالنسبة إليه لا يعني مطلقًا تعبيرًا مجازيًّا. زنا بالقلب، أو بالعين ... إلخ, أو فعلًا زوجيًّا محرمًا في لحظة معينة، كفترة الصوم مثلًا ... " ويجب أيضًا أن يصر على هذا الإقرار حتى النهاية، وألا يكذبه مطلقًا بإنكار لاحق، صريح أو ضمني. وهناك أيضًا نجد أن كثير من الفقهاء الذين جعلوا من حالة "ماعز" قاعدة عامة، لا يرتبون على هذا الإقرار أثرًا إلا بشرط أن يتكرر أربع مرات، في موضع الشهود الأربعة2. وأيًّا ما كان أمر هذا التفصيل، فإن قاعدة في الإجراءات العامة تظل دون مراء مسلمًا بها، هي: أن براءة كل فرد هي الأساس الأول. والواقع أن التشريع الإسلامي يجعل من حياة الإنسان، وبدنه، وماله، وعرضه -أشياء مقدسة، أو حرمات، وهو ما قرره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "إن دماءكم وأموالكم، وأعراضكم -وفي رواية: وأبشاركم- بينكم حرام كحرمة يومكم هذا" 3.

_ 1 النور: 4. 2 انظر صحيح البخاري: كتاب الحدود, باب 14. 3 البخاري: كتاب العلم, باب 9.

وإذن فلسنا نستطيع أن نخرج من هذا اليقين الأولي إلا بيقين عكسي، أي: إنه يجب أن نستنفد كل الفروض المعقولة لمصلحة المتهم، وألا ندينه هكذا اعتباطًا، على حين يمكن أن تثبت براءته بسبب صحيح1. وإليك الملاحظة الثالثة والأخيرة، التي تمس أساس المشكلة ذاته، فنحن إذا أكدنا أن التشريع الإسلامي لا يسعى إلى كشف الجرائم الخاصة، وأنه لا يلزم أحدًا، ولا يدعوه أن يعترف بها -لم يكن هذا القول كافيًا، فالحقيقة هي أن المصدرين الرئيسين للتشريع الإسلامي لا يكتفيان هنا بمجرد الامتناع، وإنما يتخذان موقفًا واضحًا وصريحًا. فالقرآن يحرم علينا صراحة أن نستطلع أسرار إخواننا، فقال سبحانه وتعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا} 2، وهكذا يقطع نصف الطريق على الواشين. وليس يخضع للقضاء سوى الرذيلة التي تتفشى، وتعرض نفسها، وتتحدى، أما حالة الإنسان الذي يستتر، وترتعد فرائصه حين يخضع لأهوائه، وهو الواقع الذي لا ينكشف لنا، لا بذاته، ولا بوساطة صاحبه فإنه سوف يكون من اختصاص محكمة أخرى غير محكمة البشر، والطريقة التي سوف يحاكم بها تتجاوز معرفتنا الراهنة، والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ومن أصاب من ذلك شيئًا ثم ستره الله فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه" 3، وحتى لو أنني فاجأت أحدًا من

_ 1 ونقول "صحيح"؛ لأن أي افتراض وهمي، أو معارض بالوقائع لن يقوى -كما بين ابن حزم في كتابه "المحلى" جـ11 ص243- على أن يفرض إدانة، أو يؤسس براءة، وإذن فمن الواجب ألا نحمل القولة القانونية المشهورة: "ادرءوا الحدود بالشبهات" -على معنى شامل غير مسلم به، وهي قولة معدودة غالبًا على أنها حديث، مع أن أصلها في الواقع لا يرقى إلى أكثر من الجيل الثاني من المسلمين، ولكن حين قيدت القولة على هذا النحو وفسرت كما هو مطلوب، أصبح ممكنًا قبولها، بل قبلت فعلًا من الجميع. ومع ذلك يروي الترمذي قولة أخرى شبيهة بهذه، ويرفعها إلى النبي, صلى الله عليه وسلم: "ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم". 2 الحجرات: 12. 3 من حديث في البخاري, كتاب الإيمان, باب 10، وهو نص مبايعة النبي -صلى الله عليه وسلم- لجماعة من أصحابه منهم عبادة بن الصامت. "المعرب".

الناس -دون قصد مني- وكان يحاول أن يسرقني، أو يرتكب خطأ أخلاقيًّا شخصيًّا، بل لو قبضت عليه متلبسًا بجرمه، فلست ملزمًا بأن أقدمه للعدالة، وقد كان من توجيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما روي عن سعيد بن المسيب أنه قال: بلغني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لرجل من أسلم، يقال له: هزال: "يا هزال، لو سترته بردائك لكان خيرًا لك" 1 -أي: إننا في تقديمنا إياه إلى العدالة يجب أن نكون -في غالب الأمر- على بصيرة بأمره، ومراعاة لجميع الظروف التي أقدم فيها على فعلته، فعلى حين أن من الأفضل لخير الناس جميعًا أن يسلم محترف الجريمة الشرير إلى السلطة الشرعية، نجد أن المسكين الذي ربما أخطأ صدفة، وبتأثير الضعف -قد يستحق أن يشمله عفونا2. ومن ناحية أخرى كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستهجن ذلك الميل الخطير لدى بعض الناس، الذين يقعون في الحرام خفية، ثم إذا بهم يثرثرون بما فعلوا، وينشرون قصة مغامرتهم هذه، فرحين غير مبالين، يقول الرسول: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجانة أن يعمل الرجل بالليل عملًا، ثم

_ 1 الموطأ, كتاب الحدود, باب 1. 2 قال ابن حزم في المحلى 11/ 185: "فنظرنا في ذلك فوجدنا قد صح بالبراهين التي قد أوردنا قبل، أن الحد لا يجب إلا بعد بلوغه إلى الإمام، وصحته عنده، فإذ الأمر كذلك فالترك لطلب صاحبه قبل ذلك مباح؛ لأنه لم يجب عليه فيما فعل حد بعد، ورفعه أيضًا مباح، إذ لم يمنع من ذلك نص، ولا إجماع، فإذ كلا الأمرين مباح فالأحب إلينا، دون أن يفتى به، أن يعفى عنه ما كان وهلة ومستورًا، فإن آذى صاحبه وجاهر فرفعه أحب إلينا"، وغرض الظاهرية من هذا الموقف أن يرجح دائمًا الجانب الذي يحقق مصلحة الجماعة والفرد معًا، فإن تعارضت المصلحتان قدمت مصلحة الجماعة وأدب الفرد تأديبًا بقدر ما يستحق بانحرافه، وفي ذلك أيضًا تربية لمن تقع له عورة مسلم، أن يسترها، إيثارًا وترفعًا عن التعرض لأعراض الناس، حتى من يقعون تحت طائلة القانون. فأين هذا ممن يلغون في أعراض الأبرياء، ومن حرفتهم تلفيق التهم للعباد ونشر الأكاذيب لتدمير أخلاقيات المجتمع، وهدم سمعة الأفراد؟! "المعرب".

يصبح وقد ستره الله فيقول: عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه" 1. ما الفائدة التي يجنيها امرؤ في الواقع من أن يجعل الآخرين شهودًا على سقوطه؟ ولماذا يضم إلى فساده ومجونه وقاحة الاستعلان به، بدلًا من أن يستره حياء، كما يستر عورته؟ وأي جنون أن يجلب امرؤ على نفسه احتقار الناس، فضلًا عن احتقار الله له، واحتقار ضميره ذاته؟ وأي جنون أن يضيف في النهاية إلى شقائه الأخلاقي شرًّا ماديًّا على جانب من القساوة كبير؟ ومع ذلك فهناك من يفعلون ذلك قصدًا، وهم على بصيرة من الأمر، هناك من يجيئون يطلبون عقابهم، كيما يشبعوا حاجة ظاهرة إلى التوبة، ويتحملون في ثبات أشد الآلام فظاعة، دون أن يجدوا في ذلك شقاء، بل إنهم يستشعرون فيه سعادة عميقة وشافية، ويرونه وسيلة إلى أن يتخلصوا نهائيًّا من دنسهم الأخلاقي. إننا نتخذ تجاه هؤلاء -على العكس- موقفًا فيه الكثير من التعاطف معهم، ونستشعر إعجابًا عميقًا بلمحتهم البطولية. بل إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- على الرغم من أنه تباطأ -ابتداء- في تقبل اعتراف ماعز، لم يكتف -انتهاء- بالنزول على إلحاحه، ولكنه أكبر شجاعته، وعرف لرجوعه إلى الله قيمته العليا، فقال, صلى الله عليه وسلم: "لقد تاب توبة لو قسمت على أمة لوسعتها" 2، وأثنى كذلك على ما قاسته المرأة

_ 1 انظر: البخاري, كتاب الأدب، باب ستر المؤمن على نفسه. 2 انظر: صحيح مسلم, كتاب الحدود, باب 51.

الجهينية فقال: "لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله؟ " 1. وإذن فليس لنا أن نلوم الشرع، بل إنه الفرد، في نهاية الأمر، الذي ربما يعد قاسيًا، أو متهاونًا في حق نفسه. فإذا ما نحينا جانبًا تلك الجرائم والجنايات التي أتينا على ذكرها فإن ما تبقى من مخالفات للقانون الأخلاقي، أو القانون الاجتماعي يستوجب عقوبة تأديبية متنوعة، ولكن الشريعة الإسلامية لم تقدم لهذه العقوبات التأديبية جدولًا يختلف باختلافها، ولم تحرص على تقديمه. ولا ريب أن عقوبتي الموت والقطع -من حيث الشعور العام- مستبعدتان من الجزاء التأديبي، فالأولى خاصة بالقتلة، والزناة، والثانية خاصة بالسرقة وقطاع الطرق، بيد أنه فيما خلا هذا التحديد السلبي ليس هناك أي تحديد إيجابي للإجراء الذي يتخذ بالنسبة إلى كل حالة نوعية ولا بالنسبة إلى كل حالة خاصة. فعلى حين أنه بالنسبة إلى الجزاء المحدد "أو إقامة الحدود" تكون مهمة العدالة محددة تحديدًا دقيقًا، بإثبات الوقائع، التي متى اتضحت تستدعي بصورة ما -عقوباتها تلقائيًّا، فإن اهتمام المحكمة هنا يتجه بعد ذلك إلى مرحلة ثانية ليست بأقل أهمية: هي اختيار العقوبة التي ينبغي تطبيقها، وفي هذا الاختيار سوف يتحرك ذكاء القاضي وفطنته -في الظاهر- حركة بالغة الحرية، ولكن هذه الحرية في الواقع ليست سوى مرادف للمسئولية الثقيلة. إذ لما كان هنالك اعتبارات مختلفة تجب مراعاتها، وكان على عنصر النسبية أن يتدخل فإن القاضي سوي يؤدي هنا دور الطبيب المعالج تمامًا، فكما أن الطبيب يجب أن يرعى مزاج المريض، والخصائص النفسية الكيمائية

_ 1 المرجع السابق.

للدواء، والظروف الزمانية والمكانية للعلاج. قبل أن يصف الدواء الأكثر فاعلية والأقل إزعاجًا، في كل حالة تعرض عليه؛ فكذلك الأمر هنا، تتأثر العقوبة تبعًا لثقل الواجب المختان، وطبيعة المجرم، والظروف التي خالف فيها القاعدة، ومشاعر أصحاب الحق "حين تتصل الجريمة بأضرار ترتكب في حق الغير"، إن العقوبة حينئذ يجب أن تتنوع بدقة، ابتداء، من مجرد التأنيب على انفراد، أو التعنيف أمام العامة، على تفاوت في قساوته، حتى السجن، زمنًا يطول أو يقصر؛ والجلد، عددًا يقل أو يكثر، ولكنه لا يصح بعامة أن يبلغ عدد الجلد المنصوص عليه في الحدود "وهذه النقطة موضع خلاف". هذه الطرق في العقوبة لا تقتصر على كونها قابلة لمختلف الأشكال المخففة على تفاوت تبعًا للحالة المعروضة، بل إن التعنيف ذاته يمكن أن يهبط إلى درجة نصيحة خيرة، أو تعليم خالص منزه، ليس هذا فحسب، بل إن من حق القاضي، وربما من واجبه -أن يغضي بكل بساطة عن بعض الأخطاء القليلة حين تقع من إنسان ذي خلق، وقد ورد في ذلك أثر منسوب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ولكنه لا يرقى إلى مرتبة الصحة العالية، قال: "أقيلوا ذوي الهيئات" -أو ذوي الصلاح- "عثراتهم، إلا الحدود " 1.

_ 1 انظر: أبو داود، ذكره السيوطي في الجامع الصغير1/ 48، طـ دار الكاتب العربي، والحديث مروي عن عائشة في مسند أحمد.

نظام التوجيه القرآني ومكان الجزاء الإلهي

نظام التوجيه القرآني ومكان الجزاء الإلهي مدخل ... 3- نظام التوجيه القرآني، ومكان الجزاء الإلهي: لقد تناولنا حتى الآن التشريع القرآني في الجزاء الأخلاقي، والجزاء الشرعي، وعلى الرغم من اختلاف طبيعتها، وتعارض مجالات تأثيرهما، ومناهجهما، وأهدافهما، حيث يؤثر أحدهما مباشرة على النفس الإنسانية،

ويستهدف المطلق، على حين لا يبلغ الآخر مباشرة سوى الحواس الظاهرة، ولا يرى أمامه سوى النظام الاجتماعي. على الرغم من هذا كله، فإن بين نوعي الجزاء اللذين درسناهما آنفًا حظًّا مشتركًا، هو أنها ينتميان إلى مجال الواقع، وأنهما يمارسان في هذه الدنيا. وعلينا أن ندرس الآن طبيعة الجزاء الإلهي، وامتداده، ثم نحدد مكانته في نظام التربية الأخلاقية القرآنية. إن في العالم غير الإسلامي فكرة ذائعة تقول بأن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- لم يلق عنتًا في هداية الشعب العربي؛ لأن الحرارة المحرقة، وظروف الحياة القاسية كانا لديه وسيلتين مؤثرتين لاجتذاب قومه، ودعوتهم إلى حياة أفضل، لقد قال لهم: افعلوا ما آمركم به، ولسوف يعطيكم الله أنهارًا وجنات، تأكلون فيها وتشربون ما تشاءون. ولم يكن من شأن الأدب الشعبي وحده أن يدور حول هذه الفكرة: "جنة محمد". ولكن مؤرخين وفلاسفة كثيرين1 قد رددوا نفس المقالة، ولم يتخلصوا من تأثير هذه الأفكار الجارية، المقتبسة عن أفكار سابقة، هي في أغلب الأحيان منقولة سماعًا. إن أولئك الذين ألفوا دراسة التاريخ العربي الإسلامي يدهشون من هذه الطريقة في تصور الأمور، ويستطيعون، على الأقل أن يقولوا: أنها تستند إلى معطيات مبتورة، فالصورة التي يقدمونها إليهم، وهم يصفون الشعب العربي في هذا الضوء المادي المسرف -تبتعد فعلًا عن الواقع نهارًا جهارًا،

_ 1 انظر في ذلك مثلًا: Kant, Critique De La Raison Pratique, P. 130. G.-Demombynes, Institution Musulmanes, P. 62-3.

حتى إنها تتجاهل السمة الجوهرية لهذا الشعب، الذي عرف في كل زمان بزهده وقناعته المفرطة، كما عرف بروحه الأبية والشعرية المتحمسة، وإن ما تقدمه هذه الصورة من المثالية الإسلامية، ورؤاها المنزهة -لجد قليل. أما نحن، فلسنا نريد أن نتوقف عند اعتبارات عامة على هذا النحو، معتقدين أن الفصل في هذه المسألة يقتضي في أبسط حالاته وأعدلها، أن نرجع بها إلى النص ذاته. والواقع أننا حين نقرأ القرآن ندرك جيدًا الطريقة التي يفرض بها تكليفه الأخلاقي، ونقتنع بأن القول الذي يصدر عنه هذا التكليف هو أشد تركيبًا من أن ينتهي إلى هذه الصورة الفجة، التي يريد بعض الناس أن يعطيناها. بيد أننا لو قمنا قبل ذلك بمقارنة مع بعض نصوص الكتاب المقدس الذي استطاع التراث المسيحي أن يستبقيه لنا، فإن ذلك سوف يكون مفيدًا، إذ يعين على استخراج المفهوم القرآني في هذا الموضوع، بما يتميز به من تركيب وغناء.

طرق التوجيه الكتابية

طرق التوجيه الكتابية: ولنرجع أولًا إلى العهد القديم، ولننظر نوع العقوبات والمكافآت التي أقرت فيه جزاء على الوصايا الإلهية1، ولننح جانبًا بعض الفقرات النادرة جدًّا، والتي نجد فيها إشارة إلى الخير الأخلاقي لذاته، ثم ننظر إلى الكيفية التي كان بها تعليل الأوامر:

_ 1 في مثل: "وإنه يكون لنا بر إذا حفظنا جميع هذه الوصايا" "سفر التثنية, إصحاح 6, جملة 25". ومثل: "احترز من أن تسوء عينك بأخيك الفقير. فتكون عليك خطية" "سفر التثنية, إصحاح 15, جملة 9".

فحين توجه الله سبحانه إلى الأسرة الإنسانية الأولى بشأن الفاكهة المحرمة، قال: "وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله: لا تأكلا منه، ولا تمساه، لئلا تموتا"1، وحين خاطب ولدها الأكبر قابيل قاتل أخيه هابيل قال: "فالآن ملعون أنت من الأرض ... متى عملت الأرض لا تعود تعطيك قوتها"2. وعندما فسدت الأرض بعد ذلك بحين من الدهر فعوقبت بالطوفان بارك الله نوحًا وبنيه فقال: "أثمروا واكثروا، واملئوا الأرض"3. وهل قوبل إذعان إبراهيم للإرادة الإلهية بغير الخيرات الأرضية على سبيل الثواب؟ "بذاتي أقسمت، يقول الرب: إني من أجل أنك فعلت هذا الأمر، ولم تمسك ابنك وحيدك أباركك مباركة، وأكثر نسلك تكثيرًا كنجوم السماء، وكالرمل الذي على شاطئ البحر، ويرث نسلك باب أعدائه"4، ومنذ ذلك الحين أصبحت هذه الأفكار، مألوفة لدى ذرية إبراهيم فهي تعد جوهر صيغة السلام والمباركة، فإن إسحاق يبارك يعقوب بهذه الكلمات: "فليعطك الله من ندى السماء، ومن دسم الأرض وكثرة حنطة وخمر. ليستعبد لك شعوب، وتسجد لك قبائل"5. ويقول الرب أيضًا لإسرائيل "يعقوب" "اثمر واكثر، أمة

_ 1 التكوين, الإصحاح الثالث، جملة 3، وقارن ذلك بما ورد في القرآن، البقرة: 35 والأعراف: 19 من قوله تعالى: {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِين} . 2 المرجع السابق 4/ 11-12. 3 المرجع السابق 9/ 1. 4 المرجع السابق 22/ 16-17. 5 سفر التكوين, إصحاح 27، جملة 28-29.

وجماعة أمم تكون منك، وملوك سيخرجون من صلبك، والأرض التي أعطيت إبراهيم وإسحاق لك أعطيها، ولنسلك من بعدك أعطي الأرض"1. ونصل أخيرًا إلى موسى، الذي لن يفعل سوى تنمية نفس الهدف ليعظ أبناء إسرائيل وهو ينقل إليهم هذه الدعوة الإلهية: "وتعبدون الرب إلهكم، فيبارك خبزك وماءك، وأزيل المرض من بينكم، لا تكون مسقطة ولا عاقر في أرضك، وأكمل عدد أيامك، أرسل هيبتي أمامك، وأزعج جميع الشعوب الذين تأتي عليهم ... "2. ثم يقول بعد ذلك، في مرحلة أخرى: "إذا سلكتم في فرائضي، وحفظتم وصاياي، وعملتم بها، أعطي مطركم في حينه، وتعطي الأرض غلتها، وتعطي أشجار الحقل أثمارها، ويلحق دراسكم بالقطاف، ويلحق القطاف بالزرع، فتأكلون خبزكم للشبع، وتسكنون في أرضكم آمنين، وأجعل سلامًا في الأرض فتنامون، وليس من يزعجكم، وأبيد الوحوش الرديئة من الأرض، ولا يعبر سيف في أرضكم، وتطردون أعداءكم فيسقطون أمامكم بالسيف ... لكن إن لم تسمعوا لي، ولم تعملوا كل هذه الوصايا ... فإني أعمل هذه بكم، أسلط عليكم رعبًا, وسِلًّا، وحمى ... وتزرعون باطلًا زرعكم، فيأكله أعداؤكم، وأجعل وجهي ضدكم فتنهزمون أمام أعدائكم"3. ويقول في موضع آخر كذلك: "ومن أجل أنكم تسمعون هذه الأحكام، وتحفظون، وتعملونها يحفظ لك الرب إلهك العهد والإحسان، اللذين أقسم لآبائك، ويحبك، ويباركك، ويكثرك ... لا يكون عقيم ولا عاقر فيك،

_ 1 المرجع السابق 35/ 11-12. 2 سفر الخروج 23/ 25-27. 3 سفر الأحبار اللاويين 26/ 3-17.

ولا في بهائمك، ويرد الرب عنك كل مرض ... وتأكل كل الشعوب الذين الرب إلهك يدفع إليك"1. ولنا أن نتساءل -أمام غزارة هذا الأمر ذي الفكرة الوحيدة- عما إذا كان موسى وهو يصرخ بترتيله: "ترشد برأفتك الشعب الذي فديته ... تهديه بقوتك إلى مسكن قدسك"2 -قد قصد أصلًا بهذا "المسكن" شيئًا آخر غير الأرض الموعودة وراء نهر الأردن، بلد الكنعانيين ... إلخ. ومع ذلك فهذا هو التفسير الذي تقدمه لنا الفقرة الأخرى: "سكناه تطلبون، وإلى هناك تأتون، وتقدمون إلى هناك محترقاتكم، وذبائحكم، وعشوركم"3. وهكذا لا نصادف منذ آدم حتى موسى، إلى آخر عهده، أية إشارة في أي مكان, إلى حياة بعد الموت، كأنما لم يكن لعقيدة الحياة الأخرى مكان في أديانهم4. ولكن لنقلب الصفحات، ولنصل بطفرة واحدة إلى "العهد الجديد"، ولسوف نستمع هنا إلى نغمة جديدة كل الجدة، هنا يحس المرء بشعور جلي

_ 1 سفر التثنية, الإصحاح السابع 12-16، وانظر كذلك الإصحاح الحادي عشر 13 وما بعدها. 2 الخروج 15-13. 3 التثنية 21/ 5-6. 4 هذا بخلاف ما يقوله لنا القرآن عنهم في سورة الشعراء 87: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُون} ، وفي الأعراف 156: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} .

بأنه قد انتقل من طرف إلى أقصى طرف مقابل له، إن صلاتنا بالعالم الراهن بكل ما فيها من غنى وعظمة سوف تتقطع، فهي بالنسبة إلينا قيود ينبغي أن نتحرر منها، نظراتنا لا تعود مثبتة على الأرض، بل إنها دائمًا موجهة إلى السماء، لقد كان من قول يسوع المسيح لأحد المؤمنين الجدد: "إن أردت أن تكون كاملًا فاذهب وبع أملاكك, وأعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء، وتعال اتبعني"1، وقال لتلاميذه: "فلا تطلبوا أنتم ما تأكلون، وما تشربون، ولا تقلقوا، فإن هذه كلها تطلبها أمم العالم. وأما أنتم فأبوكم يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه، بل اطلبوا ملكوت الله، وهذه كلها تزاد لكم ... بيعوا ما لكم وأعطوا صدقة، اعملوا لكم أكياسًا لا تفنى، وكنزًا لا ينفد في السموات ... لأنه حيث يكون كنزكم هناك يكون قلبكم أيضًا"2. هذه التعاليم ذاتها سوف يقدمها كذلك تلاميذ المسيح، كتب القديس بولس في رسالته إلى تيموثاوس: "أوص الأغنياء في الدهر الحاضر ألا يستكبروا، ولا يلقوا رجاءهم على غير يقينية الغنى، بل على الله الحي، الذي يمنحنا كل شيء بغنى للتمتع ... مدخرين لأنفسهم أساسًا حسنًا للمستقبل لكي يمسكوا بالحياة الأبدية"3، "لا تحبوا العالم، ولا الأشياء التي في العالم ... وهذا هو الوعد الذي وعدنا هو به، الحياة الأبدية"4. وهكذا نجد أن الأمل الإنجيلي مكانه دائمًا هو الآخرة، في حياة ما بعد

_ 1 إنجيل متى 19/ 21 ومرقص 10/ 21. 2 إنجيل لوقا 12/ 29-34. 3 رسالة بولس الرسول الأولى إلى ثيموتاوس 6/ 17-19. 4 رسالة يوحنا الرسول الأولى 2/ 15 و25.

الموت، اللهم فيما عدا موضعًا واحدًا1، وعد فيه المسيح بمكافأة مزدوجة: في الحياة المقبلة، وفي هذه الحياة "وهي إضافة نجدها في إنجيل مرقص، الإصحاح العاشر الجملة 30، ولكنها غير موجودة في إنجيل متى، الإصحاح التاسع عشر 29".

_ 1 ربما كان من المناسب أن نستثني أيضًا بعض الفقرات في رسائل القديس بولس، حيث وعد الأولاد المطيعين بالأعمار الطوال على الأرض "رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس - 3"، ووعد عامة الناس بأن يزيدهم الله كل نعمة "مادية" لكي يكونوا ولهم كل اكتفاء، كل حين، في كل شيء، يزدادون في كل عمل صالح، فيعطوا المساكين، "رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس، الإصحاح التاسع 8-11"، وحيث يفسر كثرة الوفيات والعدد الكبير من المرضى والضعفاء بالإخلال ببعض الواجب الديني، "انظر رسالته الأولى إلى كورنثوس، الإصحاح الحادي عشر29-30".

نظام التوجيه القرآني

نظام التوجيه القرآني: نحن الآن في موقف نستطيع أن نواجه من خلاله بطريقة أفضل -دراسة التبليغ القرآني، وأن نثبت علاقته بتبشير الكتاب المقدس، ولسوف نرى أن النظرية اليهودية، ونقيضتها المسيحية تتصالحان في تركيب متوافق، ليس هذا فحسب، بل سوف نرى فضلًا عن ذلك أن عناصر جديدة تندمج في هذا التركيب؛ لتزيده غنى ورحابة. لقد قمنا بنوع من الإحصاء العام1، فأدهشتنا ندرة التعاليم القرآنية التي اقتصرت في تعليل حكمتها على سلطة الأمر وحده، فهذه الصيغة الكانتية التي تقيم الإلزام على أساس "شكله المحض"، المجرد عن مادته: "افعل

_ 1 في نهاية كل مجموعة نرجع إليها من الآيات التي تعبر عن فكرة واحدة سوف نضيف حرف "أ" لتعيين النصوص المكية، وحرف "ب" لتعيين النصوص المدنية.

هذا؛ لأنه هكذا فرض" -ليست مألوفة كثيرًا في كتاب الإسلام المقدس. ومع ذلك نجدها في عشر آيات، كلها بعد الهجرة "= 10 ب"1. بيد أن عدم وجود علة مصرح بها لا ينفي بالضرورة وجود مضمون لها. والحق أن الإيمان يقتضي خضوعًا غير مشروط للأوامر الإلهية، مهما بدا ذلك غاية في القسوة والتحكم، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} 2، ويقول: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} 3. ومع ذلك فباسم هذا الإيمان نفسه، نستطيع أن نستشف سببًا مختفيًّا تحت هذا المظهر، ونسلم ببعض الآثار الطيبة، وإن كانت قليلة التحديد: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُم ... } 4. والأمر الإلهي غير المسبب لا يأخذ في أعيننا نغمة تحكمية أو ديكتاتورية، بل يتمثل لنا بصفات من العلم والحكمة، جد مقنعة، حتى تبلغ الرضا الكلي لضميرنا5. فإذا نحينا هذا النوع من الأوامر المطلقة جانبًا فسوف نرى أن الوصايا القرآنية تقوم على أسس مختلفة، ولكنها يمكن أن ترتد إلى ثلاث مجموعات

_ 1 البقرة: 275، والنساء: 7 و11 و12 و24 -مكررة- و103، والتوبة: 60، والمجادلة: 3، والممتحنة: 10. " فهذه عشر آيات مدنية - "ب 10"". 2 الأحزاب: 36. 3 النساء: 66. 4 السابقة. 5 انظر بخاصة "النساء: 11 و12 و24، والتوبة: 60، والممتحنة: 10".

كبيرة هي: المسوغات الباطنة, واعتبارات الظروف المحيطة وموقف الإنسان، واعتبارات النتائج المترتبة على العمل. فلنبحث على التوالي هذه الطوائف الثلاث، ولنحاول أن نرى فيم تتمثل، وما المكان الذي تحتله كل منها في المجموع؟ أ- المسوغات الباطنة: وأقصد بعبارة "المسوغات الباطنة" -الرجوع في دعم التكليف عقليًّا إلى قيمة أخلاقية مرتبطة بهذا التكليف، وهي قيمة "إيجابية" حين تدل على أمر، والعمل به، و"سلبية" حين تتصل بنهي أو عصيان. وهي قيمة موضوعية، كالحق والباطل، والعدل والظلم في ذاته، أو قيمة ذاتية كبصر القلوب وعماها، وطهارتها ودنسها. ولدينا ثلاثة نماذج ممكنة لهذا الارتباط بين القيمة والموضوع، ولن يكون من العسير أن نتعرف في العمل على الجانب الذي يرجع إلى كل منها، في الأسانيد التي سوف نجمعها تحت هذا العنوان، فإما أن يأخذ الموضوع هذه القيمة من طبيعته الخاصة، وأما أن يستقيها من حالة سابقة هو أثر لها، أو حالة لاحقة هو سبب فيها. وبعبارة أخرى، نحن نقدر الموضوع، ونخصه بثمن معين، سواء أكان ذلك بسبب ما يحتوي من قيم تتصل بمعناه الخاص، أم بسبب القيم التي يعكسها حين نتذكر أصله، أم بسبب القيم التي يأتي بها ويحققها. والواقع أننا نستطيع -بفضل ما نقوم به من تحليل في العمق، وفي الامتداد، لكلا الجانبين- أن نحكم على قيمة فعل، أو قاعدة، أو موقف،

أو نظرية، فتارة ننظر إلى الشيء في حالته الراهنة، وفي معناه المحدد، وتارة ننظر إليه مترقين في مجرى نشوئه وتكونه، وتارة هابطين إلى آثاره القريبة أو البعيدة، ولما كان المرد هنا في جميع الحالات هو التوصل إلى حكم أخلاقي، فيجب -من ناحية- أن تكون للقيمة الملتمسة نفس الصفة، ومن ناحية أخرى أن تبدو رابطتها بالموضوع في صورة علاقة طبيعية، وأوشك أن أقول: تحليلية، لا أن تكون علاقة اصطلاحية، يقدمها التشريع. والنصوص التي سوف نرجع إليها الآن مختارة بطريقة تجيب عن هذا الشرط المزدوج، فهي تكون القسط الأوفى والأكثر تجردًا وتنزهًا عن الغرض، في المنهج التبليغي للقرآن، ففيها إلحاح على النزعة الأخلاقية، بوسائل أخلاقية، ومن أجل غايات أخلاقية، بل إن هذه النصوص لا تشير إلى ما نجده في مواضع أخرى من أن الباطل والشر يمران، وينتهيان إلى عدم، وأن الحق والخير يبقيان، ويحملان ثمرات خالدة، لا تفنى، وذلك كما ورد في قوله تعالى على سبيل الرمز: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَال} 1، وقوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} 2. فقد جذب الانتباه هنا أساسًا، إلى الصفات الذاتية بخاصة، من حيث هي. ولولا أننا قد أجرينا اختيارًا دقيقًا، لكان في وسعنا تطويل قائمة أسانيدنا،

_ 1 الرعد: 17. 2 إبراهيم: 24-26.

ولذلك ألزمنا أنفسنا -أولًا- ألا نختار من القرآن سوى ما يتصل بالتعليم القرآني، بالمعنى الدقيق للكلمة، أعني: مستقلًّا عن التعاليم السابقة عليه، والمذكورة فيه1, ثم إننا لم نقف إلا عند النصوص التي لا تحمل في نظرنا أدنى لبس أو غموض2. وأخيرًا، عندما يكون المسوغ الباطن غير مانع للاعتبارات الأخرى، فإننا لم نقبل سوى النصوص التي يحتل فيها العنصر الباطن المكان الأول. وغالبًا ما نجد أن المبادئ المسوغة التي ذكر القرآن أنه يعتمد عليها -مستعملة في صورة تفسير، وأحيانًا تكون هي موضوع الأمر، حتى إننا لو دعونا الأشياء بأسمائها لقلنا: إنها تستعمل كعلة، وكأمر معلول. والآن بعد هذا التوضيح لننظر أولًا كيف أن القرآن، وهو يوجه نظريته العامة، يحرص هنا على أن يرينا ما تكون هذه النظرية، وما لا تكون في ذاتها، وأن ينفي عنها النقائص التي تعيب كل نظرية باطلة أو ذات غرض، وأن يثبت لها الصفات الخاصة القادرة على إقناع العقول المغرمة بالحقيقة. إنه يعلن أنه ليس بقضية تكسب، ولا هو بنظام يبتغي مؤسسه أن

_ 1 لنذكر على هامش الحديث أن القرآن لم يقصر عن تقديم ما سبقه من الوحي، بنفس النغمة النزيهة، وهو وحي لا يدعي القرآن إلا أنه جاء مصدقًا له، ومكملًا. 2 ولكي نتجنب شكًّا كهذا استبعدنا من هذه الطائفة جميع الأحكام التي تشتمل على القول: "ذلك خير لكم"، وهو تعبير يقبل تفسيرين مختلفين، فإما أن يكون: ذلك أكثر نفعًا لكم، بما في ذلك المكافأة، وإما أن في ذلك خيرًا كبيرًا لأنفسكم، من أجل اكتمال وجودكم الخاص. ولهذا السبب أغفلنا من بين الأحكام التي تدين ظلم الإنسان لنفسه -الأحكام التي لا يتجه سياقها إلى تفسير تدنيسه لها. وإفسادها أخلاقيًّا، فحسب، ولكن كذلك الأحكام التي يفسر سياقها تعريض المرء نفسه للعقاب.

ينال عليه أجرًا، ففي الأنعام 90: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} 1. ويعلن أنه ليس أيضًا نظامًا يفرض نفسه بالإكراه، ولكنه رسالة للبلاغ، وتعليم يعرض على أساس الموافقة الحرة: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} ، {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} 2. ثم إنه ليس بقول شاعر, أو كاهن, أو حالم: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} , {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ, أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} 3. وهو ليس الجنون: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ

_ 1 درج المؤلف في الأصل على ذكر المعنى المراد، والإشارة إلى الآيات بأرقامها في الهامش، وقد رأينا عونًا للقارئ على متابعة الفكرة -أن نورد آية منها، ونشير إلى الباقي بالأرقام. وانظر في هذا المعنى: 12/ 104 و23/ 72 و38/ 86 و42/ 23 و52/ 40 و68/ 46 = "فهذه سبع آيات مدنية أ". 2 2/ 256 و3/ 20، وانظر كذلك: 5/ 92 و99 و 6/ 90 و10/ 99 و108 و13/ 40 و16/ 82 و38/ 87 و39/ 41 و42/ 48 و43/ 44 و64/ 12 و73/ 52 و69/ 48 و74/ 54 و76/ 29 و80/ 11 و81/ 27 و88/ 21-22. "= 17 مدنية ب و4 مكية أ". 3 21/ 5 و26/ 224 و36/ 69 و37/ 36 و69/ 41 و52/ 30 - 52/ 29 و69/ 42 - 21/ 5. "= 9آيات أ".

إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِين} 1. وليس إلهامًا شيطانيًّا: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِين} 2. ولا اختراعًا كذبًا: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} 3. ولا تعبيرًا عن الهوى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} 4. إنه النور الإلهي: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} 5. النور الذي يريكم وجة الخير: {هُدًى لِلْمُتَّقِين} 6.

_ 1 7/ 184 و23/ 70 و34/ 8 و46 و37/ 36 و44/ 14 و52/ 29 و68/ 2 و51 و81/ 22 "= 10 آيات أ". 2 26/ 210 و81/ 25 "= آيتان أ". 3 7/ 203 و10/ 15 و37 و38 و11/ 13 و35 و12/ 3 و16/ 101 و21/ 5 و25/ 4 و32/ 3 و34/ 8 و43 و42/ 24 و46/ 8 و52/ 33 و69/ 44. "= 17 آية أ". 4 53/ 3 "= آية واحدة أ". 5 4/ 174 و5/ 15 و6/ 104 و122 و7/ 157 و203 و13/ 16 و14/ 1 و24/ 35 و40 و33/ 46 و35/ 20 و39/ 22 و42/ 52 و45/ 20 و62/ 9 و64/ 8. "= 12 أو5 ب". 6 2/2 و5 و97 و137 و150 و3/ 20 و103 و138 و6/ 157 و7/ 52 و158 و203 و9/ 18 و33 و10/ 57 و108 و12/ 111 و16/ 64 و89 و102 و20/ 135 و24/ 54 و27/ 2 و77 و28/ 49 و85 و31/ 3 و5 و32/ 3 و33/ 4 و34/ 24 و39/ 18 و41/ 44 و43/ 24 و45/ 11 و20 و48/ 28 و53/ 2 و23 و30 و61/ 9 و68/ 7 و93/ 7 و96/ 11 "= 30 أو14 ب".

ويضعكم على أقوم صراط: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} 1. إنه خيرحديث: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيث} 2. وهو الفقه الثابت: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} 3. ذو الوزن الثقيل: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلً} . والحكم الفاصل: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ، وَمَا هُوَ بِالْهَزْل} 4. الموافق للفطرة: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} ، {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} 5. وهو الوجه الصحيحة: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيل} 6.

_ 1 1/ 5 و2/ 256 و3/ 101 و4/ 46 و6/ 39 و126 و153 و161 و16/ 76 17/ 9 و18/ 1 و20/ 135 و22/ 67 و23/ 73 و24/ 46 و30/ 30 و36/ 4 و61 و39/ 28 و42/ 52 و43/ 43 و61 و46/ 30 و67/ 22 و72/ 2 و81/ 28 و98/ 2 و3". "= 20 أو6 ب". 2 39/ 23 "= 1 أ". 3 14/ 27 "= 1 أ". 4 78/ 5 و86/ 13 و14 "= 3 أ". 5 30/ 30 "= 1 أ". 6 16/ 9 "= 1 أ".

إنه يواصل أداء رسالة ملة الخير، ويؤكدها: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} 1. وهو العدل: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} 2. وهو الحق: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} 3. والوضوح البين: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} 4. والعلم: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة} 5. وهو الحكمة6، وهو العروة الوثقى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا} 7.

_ 1 2/ 135 و3/ 95 و4/ 26 و6/ 90 و16/ 123 و21/ 92 و23/ 52 و37/ 37 و42/ 13. "= 6 أو3 ب". 2 6/ 115 و16/ 76 "= 2 أ". 3 2/ 26 و91 و109 و119 و213 و3/ 60 و62 و108 و4/ 105 و170 و5/ 48 و83 و84 و6/ 5 و66 و114 و115 و7/ 181 و8/ 6 و7 و8 و9/ 33 و10/ 35 و53 و94 و108 و11/ 17 و102 و13/ 1 و19 و16/ 102 و17/ 81 و105 و18/ 29 و56 و19/ 34 و21/ 18 و22/ 6 و62 و23/ 70 و90 و28/ 48 و53 و31/ 30 و32/ 3 و33/ 4 و34/ 6 و48 و49 و35/ 24 و31 و37/ 37 و39/ 2 و41 و40/ 5 و41/ 42 و53 و42/ 17 و24 و43/ 30 و78 و45/ 6 و46/ 7 و30 و47/ 2 و3 و48/ 28 و50/ 5 و51/ 23 و61/ 9 و69/ 51 "= 47 أو23 ب". 4 6/ 57 و157 و11/ 17 و27/ 79 و29/ 49 و40/ 66 و47/ 14 و57/ 9 و65/ 11 و98/ 1 و4 "= 7 أو4 ب". 5 2/ 129 و151 و282 و3/ 164 و4/ 113 و166 و11/ 14 و20/ 114 و67/ 2. "= 2 أو7 ب". 6 2/ 129 و151 و231 و269 و3/ 164 و4/ 113 و10/ 1 و17/ 39 و31/ 2 و33/ 34 و43/ 4 و54/ 5 و62/ 2 "= 5 أو8 ب". 7 2/ 256 و31/ 22 "= 1 أو1 ب".

وهو شفاء القلوب: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} 1. وزكاة الأنفس {وَيُزَكِّيهِم} 2 وهو يمنح الحياة، بالمعنى العلوي للكلمة: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} 3. فها هي ذه "= 209 أو80 ب" وموضوعها هو السمات المميزة للنظرية العامة. فإذا انتقلنا الآن من المجموع إلى التفصيل، ومن النظرية العامة إلى الأحكام، فلسوف نجد أيضًا الفضائل الرئيسية العملية، سواء أكانت مأمورًا بها لذاتها "وهو الغالب دون تعليق آخر" أم أنها أقرت كغاية تستهدفها الأفعال الخاصة، أم كانت منبعًا للقيم المسوقة إلى النفس الإنسانية. أما الأوامر الإيجابية التي تعبر عن هذه الظروف فإننا نجدها على الأقل في الآيات الآتية، التي تأمر، أو تدعو إلى: - الاهتمام بأن يتعلم المرء واجباته، وتعليم الآخرين واجباتهم: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا

_ 1 10/ 57 و17/ 82 و41/ 44. "= 3 أ". 2 2/ 129 و151 و3/ 164 و42/ 2 و80/ 3 و91/ 9. "= 2 أو4 ب". 3 6/ 122 و8/ 24 و25/ 22. "= 2 أو1 ب".

قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} 1. - الجهد الأخلاقي: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} 2. - اتباع القدوة الحسنة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} 3. - الأفعال المتعادلة "التي تلتزم بالوسط العادل": {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} 4. - الاستقامة: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} 5. - التنافس في فعل الخير، والأفضل، {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات} 6.

_ 1 9/ 122 و16/ 43 و21/ 7 "= 2 أو1 ب". 2 40/ 11-17 "= 1 أ". 3 33/ 21 و46/ 35 و60/ 4 و61/ 14 "1 أو 3 ب". 4 17/ 110 و25/ 67 "= 2 أ"، وقد نقرأ في نفس نظام الأفكار: 5/ 87 و6/ 141 و7/ 31، بيد أن الأحكام هنا متبوعة بتعليق ديني، يحدد أن الله سبحانه لا يحب الإسراف، وهكذا يصبح المبدأ الأخلاقي الذي وضع أولًا كقيمة في ذاته -محكومًا ومقومًا بهذه السلطة العليا، فكان علينا أن نغفل هذه الآيات، من حيث لا تتصل بالمجموعة التي تهمنا الآن، ولكن لما كانت بالأحرى من مجال الجزاء الإلهي فإننا سوف ندرسها فيما بعد. 5 42/ 15 "= 1 أ". 6 2/ 148 و3/ 114 و5/ 48 و23/ 61 "= 1 أو3 ب".

- الأعمال الحسنى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} 1. - الأقوال الحسنى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} 2. - الصدق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين} 3. - العفة والاحتشام: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} 4. - استعمال الطيبات: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا} 5. - الشجاعة، والجلد، والثبات: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} 6. - لين الجانب والتواضع: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} 7. - الفطنة والتبصر في الأحكام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} 8.

_ 1 11/ 7 و18/ 7 و67/ 2 "=3 أ". 2 17/ 53 "= 1 أ". 3 4/ 171 و9/ 119 و39/ 33 "= 1 أو2 ب". 4 24/ 30 و31 و33 و33/ 32 و33 و70/ 29-30 و74/ 4 "2 أو5 ب". 5 2/ 168 و172 و5/ 4 و5 و16/ 114 "= 1 أو4 ب". 6 2/ 177 و18/ 28 و74/ 7 "= 2 أو1 ب". 7 25/ 63 "= 1 أ". 8 4/ 94 و49/ 6 و12 "= 3 ب".

- الإحسان العام: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} 1. - الإحسان إلى الوالدين بخاصة: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} 2. - ومع تشريفهما، وطاعتهما، والرقة لهما، وخفض الجناح: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} 3. - المعاملة الحسنة للزوجات: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} 4. - التعامل الإنساني معهن، والتشاور المتبادل، {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} 5. - المساعدة في حاجة أسرنا، بقدر مواردنا: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} 6. - تعويض الزوجات في حالة الطلاق: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِين} 7.

_ 1 16/ 90 "= 1 أ"، وتأتي كلمة "إحسان" من الفعل المتعدي "أحسن" بمعنى: فعل الخير، أو أتقن، أو تأتي من غير المتعدي "أحسن إليه" بمعنى: رحمه. 2 6/ 151 و17/ 23 و29/ 8 و46/ 15 "= 4 أ". 3 17/ 23-24 "= 1 أ". 4 2/ 229 و231 و4/ 19 و65/ 2 "= 4 ب". 5 2/ 233 و65/ 6 "= 2 ب". 6 2/ 233 و236 و65/ 7 "= 3 ب". 7 2/ 229 و236 و241 و38/ 49 "= 4 ب".

- المعونة الواجبة لذوي القربى، والجيران الأقربين، والأبعدين، ولأبناء السبيل، وللمحروم من الإرث بصفة عامة، وهي معونة تقتطع سلفًا -وكما ينبغي- من الأشياء المفضلة لدينا، ومن طيبات كسبنا: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} ، {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} ، {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُوم} 1. - مؤازرة الفقراء، واليتامى في حالة المجاعة: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَة} 2. - تحرير الأرقاء: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَة} 3. - الأمانة وطهارة الذيل: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} 4. - السخاء: {وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً} 5. - العدل: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} 6، وهو صورة الميزان الرأسي "الذي لا يميل من جانب أو آخر" {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} 7.

_ 1 2/ 177 و16/ 90 و17/ 26 و4/ 36 و2/ 177 و9/ 60 و17/ 26 و2/ 177 و4/ 36 و9/ 60 و17/ 26 و70/ 24-25 و2/ 267 و3/ 92. ملحوظة "تكرار الأرقام يعني تكرار الاستخدام". "=5 أو9 ب". 2 90/ 14-16 "= 1 أ". 3 2/ 177 و9/ 60 و90/ 13 "= 1 أو2 ب". 4 2/ 282 و6/ 152 و17/ 35 "= 2 أو1 ب". 5 13/ 22 "= 1 أ". 6 2/ 282 مكرر و4/ 58 و127 و135 و5/ 8 و6/ 152 و7/ 29 و16/ 90 و42/ 15 و57/ 25 "= 5 أو6 ب". 7 17/ 35 و55/ 7-9 "= 2 أ".

- الأداء الصادق لكل شهادة حين تطلب: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} 1، حتى لو كان الصدق على حساب أقربائنا أو أنفسنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} 2. - أداء الأمانة لصاحبها: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} 3. - الوفاء بالوعود المقطوعة، بالكلمة المعطاة، باليمين المقدمة: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} 4. - القرى والإيثار: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} 5. - التسامح والكرم مع الجاهلين: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين} 6.

_ 1 2/ 282 و283 و65/ 2 "= 3 ب". 2 4/ 135 و6/ 152 "= 1 أو1 ب". 3 2/ 283 و4/ 58 و70/ 32 "= 1 أو2 ب". 4 2/ 177 و5/ 1 و13/ 20 و70/ 32 "= 2 أو2 ب". ويلاحظ على وجه خاص التركيز والتحديد اللذين أعلن بهما القرآن هذا الواجب في العلاقات الدولية: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون} [النحل: 92] . فهذه التعبيرات -كما نرى- ذات واقع مضطرم، ألا تحسون هنا أنكم تقرءون خطبة قصيرة، متقدة الجذوة، في المشكلة الكبرى لعصرنا؟ وهل يمكن أن نوجزها أفضل من ذلك، مع فضح الأسباب الحقيقية للصراع العالي، الأسباب التي تعيث فسادًا -أكثر من أي وقت مضى- في قرننا العشرين؟ 5 59/ 9 "= 1 ب". 6 7/ 199 و24/ 22 و25/ 63 و72 "= 3 أو1 ب".

- رد الشر بالخير: {وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} 1. - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 2. - وفي ذلك كان المؤمنون متآزرين: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} 3. - تشجيع الصلح: {أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاس} 4، والإحسان: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} 5. - تعاون الجميع لتسود الفضيلة، ويعم النظام: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} 6. - التواصي بالصبر وبالرحمة: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} 7. - الاعتصام بالوحدة المباركة: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} 8. - توثيق روابطنا المقدسة: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} 9. - الانعطاف نحو الأخوة الروحية: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} ، والدعوة لها "وهي روح الجماعة": {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} 10.

_ 1 13/ 22 و23/ 96 "= 2 أ". 2 3/ 104 و110 و114 و7/ 157 و199 "= 2 أو3 ب". 3 9/ 71 "= 1 ب". 4 4/ 114 "= 1 ب". 5 السابق "= 1 ب". 6 5/ 2 "= 1 ب". 7 90/ 17 "= 1 أ". 8 3/ 103 "= 1 ب". 9 13/ 21 "= 1 أ". 10 59/ 9 "=1 ب".

- أحكم الطرق وأصدقها للدعوة إلى الحق: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} 1. - وبالجملة، جميع طرق العمل المعترف بها والمسلمة "بالعقل والنقل"2. ولماذا لا نذكر في نفس المجموعة بعض أمثلة فقط لواجباتنا نحو الله؟ - الإيمان بالله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} 3. - طاعته: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولََ} 4. - التفكر في أقواله وأفعاله: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} 5. - استدامة ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} 6. - الاعتراف بفضله: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} 7. - الاعتماد عليه: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} 8. - إسناد كل شيء لإرادته: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 9. - حبه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} 10. - عبادته: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 11.

_ 1 16/ 125 "= 1 أ". 2 2/ 228 و232 و233 و234 و235 و240 و263 و4/ 5 و8 و114 و33/ 32. "= 11 ب". 3 2/ 177 و6/ 136 "= 1 أو1 ب". 4 24/ 54 "= 1 ب". 5 7/ 185 و30/ 8 و38/ 29 "= 3 أ". 6 38/ 41 "= 1 ب". 7 16/ 78 و28/ 73 و43/ 12-14 و56/ 63-64 "=4 أ". 8 9/ 129 و39/ 38 "= 1 أو1 ب". 9 18/ 23 "=1 أ". 10 2/ 165 و5/ 54 "= 2 ب". 11 2/ 21 و51/ 56 "= 1 أو1 ب".

وجميع هذه الأمور مسوغة بوساطة نصها ذاته "= 67 أو91 ب". وإليك المحاسن الأخلاقية، وألقاب الشرف، إن صح التعبير، التي يبني بها القرآن تفسيراته، ويصوغ مدحه لشعيرة معينة، أو قاعدة يريد بوساطتها أن يخلق للإرادة طاقة قوية، بحصرها داخل الفعل ذاته، ودون أن يفتح لها أبوابًا أخرى أو توقعات: - فالعمل الطيب ينطوي على مثل هذه الصفات: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} ، {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَن تَأْوِيلًا} 1. - وهو خير كثير: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} 2. - وهو واقع "على الرغم من المشاعر المناقضة": {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} 3. - وهو أحسن: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} 4. - وهو أعدل: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّه} 5. - وهو أعظم قيمة: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَر} 6. - وهو مناط التقوى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون} 7. - وهو مقتضى الإحسان: {مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِين} 8.

_ 1 2/ 263 و4/ 58 و59 و128 و7/ 26 و9/ 120 و17/ 35 "= 2 أو6 ب". 2 2/ 177 و189 و269 و3/ 92 "= 4 ب". 3 2/ 221 و4/ 19 "= 2 ب". 4 4/ 125 و5/ 50 و41/ 33 "1 أو2 ب". 5 2/ 282 و33/ 5 "=2 ب". 6 29/ 45 "= 1 أ". 7 2/ 177 و22/ 32 و39/ 33 و49/ 3 "= 1 أو3 ب". 8 2/ 236 "= 1 ب".

- ومقتضى التقوى: {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِين} 1. - وهو مقتضى الشكر: {رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} ، {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} 2. - وهو مقتضى العزم والجلد: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} 3. - وهو مقتضى الانتصار للضعفاء: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ} 4. - وهو مقتضى الاهتمام والإشفاق على البائسين، الذين نتعاطف معهم، سواء بأن يضعنا في مكانهم: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} 5، أو بأن يذكرنا بماضينا الخاص، عندما كنا معذبين، أو جاهلين، أو ضالين: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا} 6، أو بأن يرعى حالتنا كبشر، علينا أن نفزع إلى مغفرة الله ورحمته: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} 7. - وهو يطهر قلوبنا ويزكيها: {ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَر} 8. - وهو يشرح النفس، ويعينها على زيادة قدرتها: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} 9، أو على أن تعبر عن فكرتها تعبيرًا مباشرًا، بحيث يصل أكثر تأثيرًا في القلب: {إِنَّ نَاشِئَةَ

_ 1 2/ 180 و241 "= 2 ب". 2 3/ 123 و17/ 24 و46/ 15 و56/ 70 و106/ 3-4 "د 4 أو1 ب". 3 3/ 186 و42/ 43 و46/ 35 "= 2 أو1 ب". 4 4/ 75 "= 1 ب". 5 4/ 9 "= 1 ب". 6 4/ 94 و93/ 6-11 "= 1 أو1 ب". 7 24/ 22 "= 1 ب". 8 2/ 232 و5/ 6 و9/ 103 و33/ 33 و53 و58/ 12 "= 6 ب". 9 2/ 232 و9/ 103 و24/ 28 و30 و92/ 18 "= 1 أو4 ب".

اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} 1. - وهو تثبيت للنفس وتقوية لها: {ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} 2. - وهو يجلب للنفس الطمأنينة: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} 3. - وينزع عنها الريب: {وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} 4. - ويبعد عن الفساد: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} 5، ويعطي التقوى، أو يدني المرء منها: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} 6. - وهو يجنب المرء أن يقع في ظلم لا إرادي، مع ما يتبعه من ندم: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} 7. - وهو يعيد صلتنا بالله: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} 8. وخلاصة القول: أن العمل الطيب هو الكيف الذي يمنح قيمة قد لا تتناسب أحيانًا مع الكم: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} 9.

_ 1 73/ 6 "= 1 أ". 2 2/ 265 و4/ 66 "= 2 ب". 3 13/ 28 و39/ 23 "= 2 أ". 4 2/ 282 "= 1 ب". 5 29/ 45 "= 1 أ". 6 2/ 183 و187 و237 و5/ 8 "= 4 ب". 7 49/ 6 "= 1 ب". 8 25/ 71 "= 1 أ". 9 5/ 100 "= 1 ب".

ولقد يحدث أن يدفع القرآن تحليله إلى أبعد من ذلك فلا يكتفي بأن يعالج العناصر الأخلاقية منفصلة عن العناصر العقلية أو الروحية. فهو -في أوج تماسك هذه العناصر في أنفسنا، وفي قمة انعكاساتها المتبادلة- لا يتردد في أن يشرح صفاتنا، ومفاهيمنا، وعقائدنا، وطرائق عملنا، وأن يقيم بعضها ببعض. ولذلك نرى بعض الفضائل العملية تستمد قيمتها جزئيًّا من أنها تعكس الإيمان، وتبرهن على صدقه: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} ... {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} ... إلخ1. والإيمان، بدوره، يأخذ قدره من حيث هو صفة القلوب الخاشعة المتصدعة: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} 2. وهذه الحالة النفسية، وذاك الموقف الروحي يستمد قيمته من حيث إنه شيمة العلماء: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} 3. وتستمد التعاليم القرآنية قيمتها بصفة عامة، من حيث إنها موجهة إلى من يملك من الناس عقلًا راجحًا -فهو قادر على أن يتعلم، ويتأمل، ويتعمق: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} 4.

_ 1 2/ 177 و8/ 74 و9/ 44 و24/ 62 و29/ 3 و11 و49/ 15 و58/ 22 و59/ 8 "= 2 أو7 ب". 2 5/ 82 و83 و32/ 15 "= 1 أو2 ب". 3 3/ 7 و4/ 162 و13/ 43 و29/ 43 و49 و30/ 22 و34/ 6 و35/ 28 و39/ 9 "= 7 أو2 ب". 4 2/ 164 و269 و3/ 7 و6/ 97 و98 و105 و151 و152 و7/ 32 و9/ 2 و10/ 5 و24 و13/ 3 و4 و9 و16/ 11 و12 و13 و67 و69 و30/ 21 و23 و24 و28 و38/ 29 و39/ 9 و18 و21 و42 و45/ 5 "= 26 أو4 ب".

ففتح الآذان لنذير القرآن هو إذن أول أمارات الحياة: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِين} 1. ولكن التزام تعاليمه يدل على البصيرة: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} 2. كما يدل على نضج العقل: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} 3. وأخيرًا، فإننا حين نعيشها كما عاشها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتلكم هي العظمة الأخلاقية: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} 4. فإذا عملت بها جماعة فإن معنى ذلك أن نجعل من هذه الجماعة خير أمم بني الإنسان: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 5. فهذه هي صيغ المدح الأخلاقي: "= 64 أو66 ب". هذه الطريقة في تعليم الفضيلة بذاتها، دون تسويغ آخر سوى ما ينتج من المبدأ الأخلاقي، ومن تحليل صفاته الذاتية -نجدها أيضًا في الواجبات التي نصفها بأنها سلبية، وهي التي تحرم الأفعال السيئة، أو التي تعلن عن طابعها الزري. ولنرجع أولًا إلى النصوص التي تذكر النهي. فمن ذلك تحريم:

_ 1 36/ 70 "= 1 أ". 2 6/ 50 و104 و11/ 24 و12/ 108 و13/ 16 و24/ 44 و35/ 19 و40/ 8 "= 7 أو1 ب". 3 2/ 186 و49/ 7 و72 14 "= 1 أو2 ب". 4 68/ 4 "= 1 أ". 5 3/ 110 و48/ 7 "= 2 ب".

- قتل الإنسان نفسه: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} 1. - هتك العرض أو الانصراف إلى الأفعال الممهدة له: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} 2. - ممارسة البغاء والمخادنة: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} 3، أو أي فساد من نفس النوع، ظاهرًا أو خفيًّا: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} 4. - التلفظ بالكذب: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّور} 5. - مدح المرء نفسه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} 6. - اتباع الأهواء الجامحة: {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} 7. - التشبه بالكفار: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا} 8. - الطمع في متاع الآخرين: {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} 9. - جمع المال، والمبالغة في حب الثروة: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} 10.

_ 1 4/ 29 "= 1 ب". 2 4/ 24 و25 و5/ 5 و17/ 32 و25/ 68 "= 2 أو3 ب". 3 4/ 25 و5/ 5 و24/ 33 "= 3 ب". 4 6/ 151 و7/ 33 و16/ 90 "= 3 أ". 5 22/ 30 "= 1 ب". 6 4/ 49 و53/ 32 "= 1 أو1 ب". 7 4/ 135 "= 1 ب". 8 3/ 156 و8/ 47 و33/ 69 "= 3 ب". 9 4/ 32 و15/ 88 و18/ 28 "= 2 أو1 ب". 10 89/ 19-20 "= 1 أ".

- مشية الخيلاء: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} 1. - لباس الخلاعة "للنساء": {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ....} 2. - الإفادة من الكسب الخبيث، واستعمال أي شيء نجس "حقيقة ومجازًا": {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} ، {وَالرُّجْزَ فَاهْجُر} 3. - قتل الأولاد: "حتى لو كان بدافع الفقر المدقع، واقعًا أو محتملًا مخوفًا": {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاق} 4. - ارتكاب أدنى خروج على الأدب في حق الكبار من آبائنا: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} 5. - سوء معاملة زوجاتنا "بالظلم، والغضب، والحرمان": {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} 6. - إراقة دم الإنسان إلا بالحق: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} 7.

_ 1 17/ 37 "= 1 أ". 2 24/ 31 و60 و33/ 33 "= 3 ب". 3 4/ 2 و74/ 5 "=1 أو1 ب". 4 6/ 151 و17/ 31 "2 أ". 5 17/ 23 "= 1 أ". 6 2/ 229 و231 و232 و233 و4/ 19 و65/ 6 "= 6 ب". 7 6/ 151 و17/ 33 و25/ 68 "= 3 أ".

- التسبب في الضرر، أو الفساد في الأرض: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} 1. - أن يكون المرء عدوانيًّا، حتى تجاه أعدائه: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} 2. - استخدام مال الغير دون رضاه "وتملكه من باب أولى": {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 3. - المساس بمال اليتامى، إلا بالتي هي أحسن "بهدف إنمائها": {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} 4. - رد اليتيم بجفوة: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} 5. - قهر اليتيم وإعناته: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَر} 6. - الاستخفاف به في المعاملة: {كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيم} 7. - إهمال الفقير: {وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِين} 8. - تعنيف السائل: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَر} 9. - اختيار خبائث الكسب لإعطائها وإنفاقها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} 10.

_ 1 2/ 11 و7/ 65 "= 1 أو1 ب". 2 5/ 2 و7/ 33 و16/ 90 "= 2 أو1 ب". 3 2/ 188 و4/ 29 "= 2 ب". 4 4/ 6 و6/ 152 و17/ 34 "= 2 أو1 ب". 5 107/ 2 "= 1 أ". 6 93/ 9 "= 1 أ". 7 89/ 17 "= 1 أ". 8 89/ 18 و107/ 3 "= 2 أ". 9 93/ 10 "= 1 أ". 10 2/ 267 "= 1 ب".

- أن يهب شيئًا على سبيل المن: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِر} 1. - أن يريد بإحسانه ثناء الآخرين: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا ... } 2. - أن يشهد زورًا: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} 3. - أن يرتكب خيانة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} 4. - أن يدخل بيوت الآخرين دون استئذانهم والتسليم عليهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} 5. - أن يترك جماعة دون أن يأذن له أميرها: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} 6. - أن نغتاب إخواننا: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} 7. أن نتتبع أسرارهم: {وَلا تَجَسَّسُوا} 8. أن نشنع بهم، أو نسخر منهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ ... } 9. أن نطلق عليهم ألقابًا لإهانتهم: {وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَاب} 10.

_ 1 74/ 6 "= 1 أ". 2 49/ 17 "= 1 ب". 3 25/ 72 "= 1 أ". 4 8/ 27 "= 1 ب". 5 24/ 27-28 و58-59 و61 "= 3 ب". 6 24/ 62 "= 1 ب". 7 49/ 2 "= 1 ب". 8 السابقة. 9 49/ 11 "= 1 ب". 10 السابقة.

- التآمر ظلمًا وعدوانًا: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} 1. - أن نقطع علاقاتنا المقدسة، وأن نحدث فرقة وتمزقًا: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} 2. - أن ننسى الله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} 3. - ضعف الإيمان به: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا ... } 4. - أن نعصي الله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِم} 5. - الإشراك به، مهما يكن الشريك: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون} 6. - تعريض اسمه لما لا يليق: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} 7. وهذه المنهيات جميعًا سبق تسويغها بخصائصها الذاتية "= 33 أو47 ب". ولكن ها نحن أولاء في النهاية نبين كيف أن القرآن يعطيها التسويغ الصريح، ولسوف نجد أنه يبرز هنا في مقابل القيم الموضوعية التي تشتمل عليها الفضيلة -نقيض القيمة الذي تنطوي عليه الرذيلة. ذلك أن أي سلوك

_ 1 5/ 2 "= 1 ب". 2 3/ 103 "= 1 ب". 3 59/ 19 "= 1 ب". 4 4/ 136 "= 1 ا". 5 33/ 36 "= 1 ا". 6 2/ 22 و 18/ 110 "= 1 و 1 ب". 7 2/ 224 و 89 و 6/ 108 "= 1 او 2 ب".

عكس القاعدة المقررة، أو أي نقص في الإيمان بالحقائق العليا -سوف يدان؛ لا لأنه يؤدي إلى ضياع موضوعها؛ بل لأنه يستتبع أو يستصحب النقائص الآتية: - الضلال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِين} 1. - الغفلة: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 2. - الخبط في الظلمات: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} 3. - الميل والانحراف عن الصراط: {وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} 4.

_ 1 1/ 7 و 2/ 16 و 108 و 175 و 3/ 90 و 164 و 4/ 44 و 60 و 116 و 136 و 167 و 176 و 5/ 12 و 6/ 39 و 56 و 116 و 119 و 140 و 144 و 7/ 179 و 10/ 45 و 108 و 14/ 3 و 18/ 104 و 19/ 38 و 22/ 4 و 12 و 25/ 42 و 44/ 28/ 50 و 85 و 30/ 29 و 31/ 11 و 33/ 36 و 34/ 24 و 36/ 62 و 39/ 22 و 41/ 52 و 42/ 18 و 43/ 40 و 44/ 5 و 32 و 53/ 30 و 54/ 47 و 60/ 1 و 62/ 2 و 67/ 29 و 68/ 07 "= 31 او 17 ب". 2 7/ 17 و 205 "= 2 ا". 3 2/ 17 و 6/ 39 و 122 و 13/ 16 و 14/ 1 و 24/ 40 و 35/ 20 و 57/ 9 و 65/ 2 "= 7 او 2 ب". 4 4/ 27 و 135 و 23/ 74 و 27/ 60 "= 2 او 2 ب".

- السبيل السيئ: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} 1. - انقلاب القيم: {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} 2. - المشي المنقلب: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 3. - السقوط والهُوِيّ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} 4. - اتباع الهوى الأعمى: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} 5. - عبادة الهوى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} 6. - الشراء البئيس: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} 7. - اختيار صاحب ملعون: {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} 8.

_ 1 4/ 22 و17/ 32 "= 1 أو1 ب". 2 9/ 37 و18/ 104 و35/ 8 و43/ 37 و47/ 14 و49/ 11 "= 3 أو3 ب". 3 67/ 22 "= 1 أ". 4 22/ 31 "= 1 ب". 5 6/ 119 و7/ 176 و18/ 28 و28/ 50 و30/ 29 و42/ 15 و47/ 14 و16 "= 6 أو2 ب". 6 25/ 43 و45/ 23 "= 2 أ". 7 2/ 90 و102 و3/ 187 و18/ 50 "= 1 أو3 ب". 8 4/ 38 و17/ 27 و22/ 13 "= 1 أو2 ب".

- مشي المرء خلف عدوه، وتحالفه معه: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُون} 1. - اللقب السيئ: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} 2. - التشبه بالظالمين: {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} 3. - مماثلة بعض ما هو دنيء: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} 4. - مماثلة بعض ما هو مقيت مشمئز: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} 5. - العمى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} 6. - الصمم: {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُون} 7. - الجهل: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} 8.

_ 1 2/ 168 و208 و7/ 27 و18/ 50 و35/ 6 "= 3 أو2 ب". 2 49/ 11 "= 1 ب". 3 4/ 140 و5/ 51 "= 2 ب". 4 7/ 176 و177 و179 و25/ 44 و67/ 5 "=5 أ". 5 49/ 12 "= 1 ب". 6 2/ 17 و18 و171 و6/ 50 و104 و11/ 24 و13/ 16 و19 و22/ 46 و27/ 81 و28/ 72 و30/ 53 و32/ 27 و35/ 19 و40/ 58 و41/ 44 و43/ 40 "= 13 أو4 ب". 7 2/ 18 و171 و6/ 39 و7/ 100 و179 و8/ 22 و10/ 42 و11/ 24 و21/ 45 و25/ 44 و27/ 80 و28/ 71 و30/ 52 و41/ 4 و44 و43/ 40 "= 13 أو3 ب". 8 2/ 102 و103 و6/ 35 و37 و111 و16/ 101 و21/ 24 و27/ 61 و28/ 58 و30/ 30 و59 و31/ 25 و34/ 28 و36 و39/ 9 و29 و49 و64 و40/ 57 و45/ 26 و63/ 8 "= 18 أو3 ب".

- غيبة العقل، أو سوء استعماله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُون} ، {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} 1. - العلم القاصر: {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْم} 2. - المعرفة السطحية: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 3. - رفض ما لم يعرف معرفة عميقة: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} 4. - المجادلة بلا علم ولا هدى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} 5. - الدفاع عن قضية بلا يقين: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ} 6. ولا برهان: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا

_ 1 2/ 44 و171 و3/ 65 و4/ 78 و5/ 58 و103 و7/ 179 و8/ 22 و9/ 127 و23/ 80 و25/ 44 و29/ 63 و36 و62 و49 و59 و13 و14 و63 و57 "= أو13 ب". 2 53/ 30 "= 1 أ". 3 30/ 7 "= 1 أ". 4 10/ 39 و27/ 84 "= 2 أ". 5 3/ 66 و22/ 3 و8 و31/ 20 "= 1 أو3 ب". 6 2/ 80 و169 و4/ 157 و6/ 100 و108 و119 و140 و143 و144 و148 و7/ 28 و33 و10/ 68 و18/ 5 و22/ 71 و24/ 15 و30/ 29 و31/ 6 و43/ 20 و45/ 24 و46/ 4 و53/ 28. "= 17 أو5 ب".

بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} 1، ولا تجربة: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} 2. - الحكم السيئ: {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} 3. - حجة منهارة: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} 4. - انعدام الأساس: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} 5. - الضعف والانهيار: {أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} 6. - الوهن البالغ: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون} 7.

_ 1 3/ 151 و7/ 33 و21/ 24 و22/ 71 و27/ 64 و37/ 156 و40/ 35 و53/ 23 "= 6 أو2 ب". 2 18/ 51 و37/ 150 و43/ 19 "= 3 أ". 3 6/ 136 و16/ 59 "= 2 أ". 4 42/ 16 "1 أ". 5 5/ 68 "= 1 ب". 6 9/ 109 "= 1 ب". 7 29/ 41 "= 1 أ".

- تقليد الجاهلين الضالين من الآباء: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُون} 1. - اتباع الظن: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} 2. - الباطل: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} 3. - الوهم الذي لا واقع له: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} 4. - مجرد أسماء: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} 5. - اختلاق كذب: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُون} 6. - عمل الشيطان: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} 7.

_ 1 2/ 170 و3/ 154 و5/ 77 و104 و9/ 30 و33/ 33 و37/ 69 و70 و43/ 22 "= 2 أو6 ب". 2 2/ 78 و4/ 157 و6/ 116 و148 و10/ 36 و66 و43/ 20 و45/ 24 و32 و53/ 23 و28 "= 9 أو2 ب". 3 8/ 8 و16/ 72 و17/ 81 و18/ 56 و21/ 18 و22/ 62 و25/ 4 و29/ 67 و31/ 30 و34/ 49 و40/ 5 و42/ 24 و47/ 3 و58/ 2 "= 10 أو4 ب". 4 10/ 66 و29/ 42 "= 2 أ". 5 9/ 30 و 13/ 33 و33/ 4 و53/ 23 و27 "= 3 أو2 ب". 6 3/ 75 و78 و4/ 50 و5/ 103 و6/ 112 و137 و140 و18/ 5 و23/ 90 و29/ 3 و12 و17 و37/ 86 و151 و152 "= 11 أو4 ب". 7 5/ 90 "= 1 ب".

- الغي: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} 1. - السفاهة: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} 2. - الغلو وتجاوز الحدود: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} 3. - فعل السوء: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} 4. - فعل الفحشاء: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} 5. - فعل المنكر: {وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} 6. - فعل المقت "الذي يجعلنا محتقرين في نظر أنفسنا": {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} 7. - الفسق والشذوذ والضياع: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُون} 8.

_ 1 2/ 256 و48/ 6 "= 1 أو1 ب". 2 2/ 13 و130 و6/ 140"= 1 أو2 ب". 3 4/ 171 و5/ 77 و6/ 108 و11/ 112 و16/ 9 و18/ 28 و23/ 7 و70/ 31 و72/ 4 "= 7 أو2 ب". 4 2/ 169 و5/ 62 و63 و79 و9/ 9 و17/ 38 و63/ 2 "= 1 أو6 ب". 5 2/ 169 و268 و4/ 22 و7/ 28 و17/ 32 و24/ 21 "= 2 أو4 ب". 6 9/ 67 و24/ 21 و58/ 2 "= 3 ب". 7 4/ 22 و40/ 10 "= 1 أو1 ب". 8 2/ 282 و3/ 82 و5/ 3 و59 و81 و6/ 121 و145 و9/ 8 و67 و24/ 4 و55 و57/ 16 و26 و27 و59/ 19 "= 5 أو10 ب".

- الظلم: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} 1. - ظلم المرء نفسه: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} 2. - فداحة الخطأ: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْل} ، {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} 3. - جرم، وكبيرة: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} 4. - إثم القلب: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} 5. - خداع النفس: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ... } 6. - دنس القلب: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} 7.

_ 1 2/ 140 و145 و229 و254 و3/ 94 و5/ 107 و6/ 21 و52 و93 و144 و157 و7/ 37 و9/ 23 و10/ 17 و106 و11/ 18 و18/ 50 و57 و19/ 38 و24/ 50 و25/ 4 و29/ 49 و68 و30/ 29 و31/ 11 و32/ 22 و39/ 32 و49/ 11 و60/ 9 و61/ 7 "= 19 أو11 ب". 2 2/ 231 و4/ 97 و7/ 177 و10/ 23 و44 و35/ 32 و65/ 1 "= 4 أو3 ب". 3 2/ 217 و17/ 40 و18/ 5 و19/ 89 و24/ 15 و33/ 53 "= 3 أو3 ب". 4 2/ 188 و4/ 2 و20 و48 و50 و112 و5/ 106 و17/ 31 و33/ 58 و49/ 12 "= 2 أو8 ب". 5 2/ 283 "= 1 ب". 6 2/ 187 "= 1 ب". 7 5/ 41 "= 1 ب".

- النجاسة الأخلاقية: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَْ} 1. - الضعف أمام الإغراء: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} 2. - الريبة والشك: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} 3. - الانتهازية: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا، وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} 4. - اتباع المنفعة: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ، وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} 5. - قساوة القلب: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} 6. - استكبار لا مسوغ له: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} 7.

_ 1 5/ 90 و9/ 28 و95/ 125 "= 4 ب". 2 20/ 115 "= 1 أ". 3 9/ 45 و110 و24/ 50 "= 3 ب". 4 4/ 72-73 "= 1 ب". 5 24/ 48-49 "= 1 ب". 6 2/ 74 و6/ 43 و22/ 53 و57/ 16 "= 2 أو2 ب". 7 25/ 21 و40/ 56 "= 2 أ".

- اهتمام خاطئ، وغرام شديد بكل شيء، {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} 1. - قول تنقضه الأفعال: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} 2. - الارتباط بالأرض: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} 3. - الابتعاد عن الله: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} 4. فأية نتيجة طبيعية نستخلصها من هذا الحشد من النقائص، أكثر من أن نقول مع القرآن: إنها لا تنتج إظلام النفس وخسرانها فحسب، {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 5 ولا مرض القلب وسقمه فحسب، {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} 6، بل هو موت الروح {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} 7. أما أولئك الذين اختاروا لأنفسهم الكفر بلا رجعة فإن القرآن يراهم شر الأنواع، وأسفل المخلوقات على هذه الأرض: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} 8. فها نحن أولاء نجد ما يكفي من طرق التأنيب والترهيب "= 247 أ

_ 1 26/ 225 "= 1 أ". 2 26/ 226 "= 1 أ". 3 7/ 176 "= 1 أ". 4 5/ 91 "= 1 ب". 5 83/ 14 و91/ 10 "= 2 أ". 6 2/ 10 و5/ 52 و9/ 125 و22/ 53 و24/ 50 و47/ 20 "= 6 ب". 7 6/ 122 و27/ 80 و30/ 52 و35/ 22 "= 4 أ". 8 8/ 22 و55 و95/ 6 و98/ 6 "= 1 أو3 ب".

و171 ب". وبهذه الاعتبارات الأخلاقية المحضة شرع القرآن في أداء عمله التربوي، بصورة جوهرية، وهي اعتبارات ترى في سردها ثروة من الألفاظ، يكرم بها القرآن الفضيلة، ويصم الرذيلة. ويكون مجموع هذه البراهين، صريحة وضمنية -المجموعة الأولى من التوجيهات القرآنية. فلننظر الآن في المجموعة الثانية. ب: "اعتبارات الظروف المحيطة وموقف الإنسان": وننتقل الآن من المسوغات الباطنة إلى الجزاءات الظاهرة، مستطردين في منطقة وسيطة، تعتبر بصورة ما فترة انتظار تسبق هذه الجزاءات، ولكنها لا تعد واحدًا منها، بل هي على الأكثر تشعر بها إشعارًا غامضًا، بعيدًا عن التحديد. ولنؤكد بادئ ذي بدء أننا لا نفكر هنا في الرأي العام، إذ إن "القيل والقال" حين يكون غير مشروع، لا ينبغي مطلقًا أن يقلق مؤمنًا حقًّا يمضي في حياته على مثل أعلى يتخذه قاعدة ونموذجًا للسلوك وهو المثل الأعلى الذي مضى عليه المؤمنون: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} 1, {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} 2, فالمؤمن الحق، متى دخل حظيرة الإيمان، لا يعبأ إلا بالأساس الذي قام عليه إيمانه، ومع ذلك فإلى أي مدى يمتد السلطان الذي يمارسه اعتبار الرأي العام على الإرادة الفردية،

_ 1 الأحزاب: 39. 2 المائدة: 54.

والرأي العام هو: ذلك الشعورالذي نجده حين نظن أن إخواننا قد يحسون نحونا بإحساس طيب أو رديء، وأننا سنكون موضع إعجابهم أو احتقارهم؟ إن من الواضح جدًّا أن هذه الاعتبارات لا تؤثر فينا تأثيرًا فعالًا إلى حين نكون على اتصال بالمجتمع، أو على الأقل حين يخيل إلينا أن سلوكنا ربما ينكشف له فيما بعد. ولكن في حالة العزلة ... عندما لا يكون أحد هناك ولا يطلع أحد على سلوكنا قد يهون الأمر، حين تنتهي المثل العليا الراسخة في قلوبنا بالتربية -إلى خلق عادات طيبة، تمتد جذورها فينا امتدادًا عميقًا فنؤدي واجباتنا اليومية بأمانة، وانبعاث، دون أن نبالي بالناظرين. لقد كان على روبنسون كروزو حين ألقي في جزيرته القاحلة أن يمتنع عن الشرب، تمامًا كما لو كان في وطنه، ولكن لو حدث أن تعقد الموقف، وهاج الشر، وأصبح الإغراء قويًّا، وأمن الإنسان في الوقت نفسه أن سره لن يكشف أبدًا، حينئذ لن يكون "المشاهد المحايد" الذي قال به آدم سميث ADAM SMITH ولا "الأنا الاجتماعية LE MOI SOCIAL" التي قال بها برجسون، ولا كل أشباح هذا المجتمع الإنساني -لن يكون هذا كله سوى مدد في حدود الكفاف. إن القرآن يريد أن يضعنا في وسط مغاير لذلك تمامًا وأمام واقع حي، حاضر في أنفسنا، في كل مكان وزمان. ولست أريد الحديث عن هذه الكوكبة النبيلة التي أكد القرآن وجودها المهيب اللامرئي، هذه الجماعة من الملائكة الحفظة الذين يرافقون الإنسان: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} 1.

_ 1 الرعد: 11.

ولا أريد أيضًا الحديث عن هذا الفريق الدائم من الكرام الكاتبين، وهو فريق: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌْ} 1، مكلف بأن يراقب أفعال الإنسان، بحيث: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} 1. وإنما أريد الحديث عن ذلكم الذي قال عن نفسه: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَار} 2. ذلكم الذي خاطبنا بقوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} 3. ذلكم الذي: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} 4. ذلكم الذي تحدث فقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} 5.

_ 1 ق: 17-18. 2 الرعد: 10. 3 يونس: 61. 4 المجادلة: 7. 5 ق: 16.

فالله سبحانه: {يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُون} 1, و {يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُم} 2، و {أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} 3, و {شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُون} 4, وهو الذي أكد: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} 5 فـ" ... يرى" "يسمع" "يعلم" تلك هي -بصفة عامة- الأقوال التي سوف نصادفها في هذا الباب. ولكن، هل يحاول القرآن، وهو يذكرنا بهذه الحقائق، أن يوقظ فينا الخوف من بعض العقاب، أو الأمل في بعض الثواب؟ إننا في اختيارنا للنصوص قد نحينا جانبًا6 كل تنبيه من هذا النوع، الذي يعبر عن جزاء معين، كيما نحتفظ به في المجموعة الثالثة. ومع ذلك فلا شيء يمنع قارئ القرآن وهو يجتهد في تفهم الأفكار التي تضمنتها الآيات -من أن يتأثر بها، تبعًا للحالات التي تتحدث عنها أولًا، وتبعًا لرقة مشاعره ثانيًا، وتبعًا للون الأسلوب، أخيرًا. ولسوف يجد -في مجرد التنبيه الهادئ لوجود جزاء معين- مجالات تُستقى منها تنبيهات كثيرة، متفاوتة القيمة، مشوبة بالوعيد.

_ 1 الشورى: 25. 2 الأحزاب: 51. 3 الطلاق: 12. 4 يونس: 46. 5 طه: 46. 6 تجنبنا في الوقت نفسه: أولًا: الآيات التي تؤدي فيها هذه الأقوال دورًا عقديًّا أكثر منه أخلاقيًّا، أي: تلك الآيات التي تركز على الجانب الإلهي "كصفات" أكثر مما تركز على الجانب الإنساني "كحث ودفع إلى العمل". وهذه الآيات جد كثيرة. وثانيًا: النصوص التي تستدعي واقعًا مضى، فهي لا يمكن بناء على ذلك أن تعتبر مدعمة للإرادة بالنظر إلى الفعل المذكور، ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَاد} [آل عمران: 12] وكذلك الآيتان 153 و154, والآية 9 من سورة الأحزاب. وثالثًا: وأخيرًا بعض المواضع التي يقل فيها أن يكون هدف الأقوال تحذيرنا من الغفلة، وإنما هي تذكرنا باختصاص الله سبحانه بما ينبغي أن نلتمسه عنده: ادع الله، استعذ به ... إنه يسمع ويرى "انظر الآيات 61 من الأنفال، و56 من غافر، و36 من فصلت".

فإذا ما جزنا فعلًا بهذه المنطقة الوسيطة فسوف نمر بالتدريج بكل هذه الدرجات المتواصلة، دون أي انقطاع في صورتها المستمرة. ومع ذلك فسوف نبذل قصارانا لنرسم فيها أربع مراحل رئيسية، تتوافق مع مختلف المواقف التي نفترض وجودها لدى الأشخاص الذين تتوجه إليهم الكلمات. أولًا: موقف التقبل الواضح، المتجاوب مع الأمر والنظام، مع أنه صالح لدرجات مختلفة، وهو موقف يناسبه قول لطيف مشجع يحرص على ذكر هذه الإرادة الطيبة التي توشك أن تظهر في حيز الوجود، دون أن يشير أدنى إشارة إلى أي ضعف ممكن. بيد أنه لا يفتأ يثير انتباهنا إلى حضور الله، وعلمه المحيط: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا} ، {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} 1. لماذا؟ السر في ذلك أن المؤمن الصادق يجد في هذه الفكرة ما يحفزه حقًّا لدعم جهوده، وتغذية طاقته، وترقية نفسه، ومضاعفة ما يقتضيه من ذاته، لا أقول: من أجل أن يتشبث دائمًا بالاتجاه الذي اختاره بنفسه -فحسب، ولكن كذلك من أجل المحافظة على جودة أعماله، وطهارة نواياه، إن لم يكن ذلك من أجل أن يأتي دائمًا بالجديد، وبالأفضل. ولا ريب أن واقع التفكير في الله لحظة العمل هو معين لا ينضب من الطاقة للمؤمنين، له تأثيره على إرادتهم، وهو يضاعف من حماسهم، كيما يكملوا أعمالهم، وليكتملوا هم أنفسهم بل إن من الممكن أن نؤكد أن هذه الفكرة هي آمن وسيلة، وأقصر طريق للوصول إلى هذا الثبات، وتحقيق تقدم مطرد.

_ 1 2/ 215 و256 و271 و3/ 92 و4/ 35 و127 و128 و26/ 218 و52/ 48 "= 2 أو7 ب".

ولقد بلغ الأمر بالرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يجعل منها تحديدًا للكمال ذاته؛ فقد سئل: ما الإحسان؟ فأجاب: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" 1. إن الشعور الذي تثيره هذه الطريقة في التوجيه، هو على هذا النحو شعور بالارتياح، وبالقوة البناءة، فهو جاذبية الحب. ثانيًا: موقف التجاوب عمومًا لأحكام الشرع، ولكنه لا يستبعد إمكان الخطأ. وهنا لا نعود نشهد منظر عمل صالح يحدث، ويجب أن نشجعه، ولسنا كذلك أمام شر يهدد، إنما نحن في موقع ما قبل العمل، في ظروف عادية. ولما كنا نرى أمام الإرادة إمكانتين فإن الأمر يصدر في صورة مجردة بعض الشيء، أي: لا تبالي مطلقًا باختيارنا المقبل. وليس للقول التوجيهي إلا أن يرتدي نفس الطابع، أي: إنه لا يكون تحريضًا على عمل الخير صراحة، ولا دفعًا عن اتجاهات الشر، بل يبقى غامضًا، وكأنه حالة بين حالتين، فهي كلتاهما في وقت واحد. ولن نقرأ بعد ما معناه: إن الله يرى الخير الذي تفعلون، ولن نقرأ كذلك: حاذروا أن تفعلوا الشر, بل سوف نقرأ: هذا هو الواجب، وسيرى الله ما تفعلون، في مثل قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2.

_ 1 انظر: صحيح البخاري, كتاب الإيمان, باب 38. 2 2/ 149 و233 و234 و237 و244 و4/ 1 و33 و58 و5/ 7 و8 و8/ 39 و72 و9/ 16 و105 و11/ 123 و24/ 28 و29 و30 و60 و25/ 20 و29/ 45 و33/ 34 و54 و55 و58/ 3 و13 و59/ 18 و63/ 11 "= 3 أو25 ب".

وهكذا تتغير نغمة الخطاب كله، فوجهه الأليف الباسم يصبح ذا رزانة، ولكنه ليس قاسيًا، ولما كان لاحتمالي القرار، حظ متساوٍ في الظاهر، فإنهما قد طبعا الكلام من كلا جانبيه بصبغة محايدة ومتحفظة. وهذا الازدواج بدوره سوف يجد صداه في ازدواج المشاعر التي سوف يتقاسم بينها المخاطبون، أو أنه سوف يتمخض بالأحرى عن شعور مركب، بين الحماس والرهبة، وعن خليط من الاحترام والاحتشام، وما لا أدري أيضًا. ثالثًا: موقف طائع من حيث المبدأ، ولكن لما كان وجود بعض الظروف الخاصة قد يقحم فيه بعض التغييرات, فإن النغمة تبدأ في أن تصبح أكثر صرامة. والحق أن موضوع التفسير يبقى ثابتًا لا يتغير، فهو يحتفظ بالصيغة المجردة كما كان في المرحلة السابقة، ولكنا نرى عبارة التكليف تلح بخاصة على جانب التحريم، كأنما كان هنالك ملامح نزوع إلى نقض القاعدة. ومن الطبيعي جدًّا حينئذ أن يزداد وضوح التنبيه الذي يدعم القاعدة, وأن يغير معناه على الفور، وألا تظل كمية الطاقات التي يحتويها بنفس النسبة التي كانت منذ قليل، وأن يتغلب عنصر "المنع" منذئذ على عنصر "الدفع": {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} 1. ومن هنا كان عدم التناسب في المشاعر الموقظة، التي يغلب عليها بلا شك شعور الحياء، والواقع أن فكرة كوننا أمام الله لا يمكن أن تحتل عقولنا عندما نتخيل بعض المشروعات الخبيثة، إلا إذا مارسنا ضد هذه الخبائث كبحًا، يتفاوت في درجة قوته، وإذا سيطرت هذه الفكرة على عقولنا "أي: فكرة مثولنا أمام الله" فإننا نخاف أن نرتكب أمرًا، مهما صغر، يجعلنا نحمرُّ خجلًا أمام عظمة الله، واقرأ في ذلك ما رواه ابن مسعود أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "استحيوا من الله حق الحياء" قلنا: إنا نستحي من الله يا رسول الله، والحمد لله، قال: "ليس ذلك، ولكن الاستحياء من الله

_ 1 2/ 181 و224 و227 و231 و282 و283 و3/ 156 و4/ 94 و135 و148 و11/ 112 و16/ 91 و33/ 1 و2 و52 و49/ 1. "= 2 أو14 ب".

حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، وآثر الآخرة على الأولى، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء" 1. فإذا أخطأ المرء أو ضعف فلأنه -قطعًا- قد غابت عنه في غمرة الحياة ولهوها تلك الفكر الهادية، التي أدركت يوسف من قبل حين {رَأى بُرْهَانَ رَبِّه} 2. ولكن ذكر الله سرعان ما يخالط شغافنا، ليثير فينا حاجة عارمة إلى أن نبكي على تلك الغفلة الشائنة، وبهذا وحده يسترد المرء مكانه في المجتمع الإلهي، وصدق الله العظيم: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ، أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ... } 3. ولقد رأينا في هذه المراحل الثلاث أن الأمر أمر تربية أخلاقية على أساس من المشاعر الدينية، وهي بحكم طبيعتها قلما يكون لها تأثير أبعد منها ذاتها، ففي المرحلة الأولى يوقظ التوجيه الإلهي شعورنا بالحب، ذلك المحرك الممتاز، كيما يدفعنا قدمًا في طريق تحقيق القيم الإيجابية، وفي المرحلة الثالثة يمس شعورنا بالحياء، وهو لجام طيب، حتى يحفظنا من السقوط، ويوقفنا أمام الخطر، أما في المرحلة الثانية فإننا نأخذ حذرنا بفضل تعادل القوتين، فتستمر خطانا على صراط مستقيم. رابعًا: وأخيرًا الموقف المتمرد المجاهر، لغير المؤمنين، وهو -على نقيض الحالة الأولى- لا يقتصر فيه الأمر على بعض قرارات خاصة منافية للشرع،

_ 1 رواه الترمذي، وذكره ابن الديبع الشيباني في تيسير الوصول, كتاب الحياء, باب 1, نشر الشيخ حامد الفقي 2/ 23. "المعرب". 2 يوسف: 24. 3 آل عمران: 135.

وإنما هو موقف ضد الشرع صراحة، وتسبق الأقوال المعتادة -هذه المرة- بعض النصوص على الجرائم المقترفة، بحيث يستحيل أن يخطئ المرء ما تتسم به من طابع الوعيد: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُون} 1. فما الشعور الذي تراد إثارته لدى الكافرين بهذه الوسيلة، وعلى وجه التحديد ... ؟ أهو الخوف من العقاب ... ؟ ولكن أي تأثير لإنذار كهذا في ضمير مغلق كضمير هؤلاء الجاحدين؟ إن الناظر الذي يعي خطورة حالهم قد يخشى عليهم العقاب، أما بالنسبة لهم فهل يوجد هناك شيء آخر سوى إثبات عقوقهم؟ ... سوى نوع من الحكم المسبق؟ سوى أمارة تشعر بإدانتهم الفعلية؟ نعم، فليس من الممكن أن يتوجه تحذير من هذا النوع إلى الجاحدين من أجل منفعتهم المباشرة، وإنما هي دعوة موجهة من بعيد إلى الإنسان العاقل المستكن فيهم، فربما أدى إدمان الطرق إلى أن ينفتح الباب، أن تنطلق الروح، أن يبعث الميت. أما الآن، فذلك موضوع من موضوعات التفكر يقدم إليهم، فإن كانت لديهم فرصة للتفكير فسوف يرون بلا ريب فيه نذيرًا بالطامة الكبرى التي تنتظرهم، والتي يدل كل شيء على وقوعها. ما هي طبيعة

_ 1 2/ 74 و77 و140 و144 و3/ 63 و98 و99 و167 و4/ 63 و108 و5/ 61 و71 و8/ 47 و9/ 78 و10/ 36 و11/ 5 و17/ 47 و21/ 4 و23/ 96 و24/ 53 و25/ 58 و27/ 93 و29/ 10 و35/ 8 و36/ 76 و42/ 6 و46/ 8 و49/ 18 و90/ 7 "= 13 أو16 ب".

هذه الطامة؟ ومتى تقع؟ وكيف؟ لم يذكر شيء من هذا الشأن حتى الآن. وهكذا تنتهي المنطقة الوسيطة "= 20 أو62 ب". وبهذه المرحلة الأخيرة نصبح على عتبة الجزاء بالمعنى الصحيح. جـ: "اعتبارات النتائج المترتبة على العمل": نتائج طبيعية: إذا نظرنا إلى هذه المجموعة الأخيرة نلاحظ أولًا قلة نسبية في النصوص التي تهتم بما نطلق عليه عمومًا: "الجزاءات الطبيعية" أي: النتائج النافعة أو الضارة التي تصدر في الأحوال العادية دائمًا عن سلوكنا الأخلاقي، كالصحة والمرض في نظام حياتنا المادية، دون تدخل ظاهر من الإرادة العليا التي تحكم الطبيعة. ولقد استطعنا في نسق هذه الأفكار أن نميز نوعين من الأسباب المسوغة: فردية، أو عامة. فأما ما كان من الوصايا معللًا بالخير الفردي، ناتجًا عن العمل بها، فلم نجد منه سوى أربعة نصوص، هي قوله تعالى1: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} 2.

_ 1 ربما أضفنا إليها نصًّا خامسًا إذا ما تمسكنا من بعض التفسيرات بالبرهان الذي جاء به القرآن لصالح إفراد الزوجة، ومنع التعدد. قوله تعالى في سورة [النساء: 3] {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} والواقع أن عددًا قليلًا من المفسرين يرون في هذا النص أسبابًا اقتصادية, "أي: تحاشوا أي عبء أسري"، ولكن أكثرية المفسرين، وأصحاب الرأي منهم يرون أنها أسباب أخلاقية "ابتعدوا ما أمكن عن أن تتركبوا ظلمًا"، وهذه الطريقة في التفسير أكثر دقة؛ لأنها أكثر احترامًا لقواعد التراكيب، فكلمة "تعولوا" لا تقبل المعنى الأول إلا بشرط أن تتضمن مفعولًا به مباشرًا، وهو غير موجود في النص. 2 النساء: 5 "= 1 ب".

- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} 1. - {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} 2. - وأخيرًا تنحصر إدانة البخل والتبذير في أنهما معًا يعرضان صاحبهما للوم والعسر، {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} 3. ولكن الأوامر التي يأتي تسويغها بالخير العام الذي تؤدي إليه فهي أكثر عددًا، هي قوله تعالى: - {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم} 4. - {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} 5. - وعقاب القاتل يجب أن يستهدف المذنبين وحدهم: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} 6.

_ 1 المائدة: 101 "= 1 ب". 2 الأحزاب: 59 "= 1 ب". 3 الإسراء: 29 "= 1 أ". 4 فصلت: 34 "=1 أ". 5 المائدة: 91 "= 1 ب". 6 البقرة: 79 "= 1 ب".

- والنزاع الذي يتفشى في جيش أو في شعب يستتبع ضياعه واضمحلال قوته: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} 1. - وتسليح الجيش في زمن السلم يستهدف إرهاب العدو: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُم} 2. وفي حالة الحرب يجب أن نأخذ حذرنا، وألا نضع أسلحتنا، حتى في أثناء الصلاة، وهو واجب كإجراء وقاية، توقعًا لهجوم مفاجئ: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} 3. - ولكن، لماذا نقاتل؟ وبدهي أننا نقاتل "في سبيل الله"، ولكي نبلغ هذه الغاية الأخيرة رسمت لنا النصوص أهدافًا كثيرة وسيطة هي: أ- إيقاف بأس الكافرين، وكسر قوتهم العدوانية: {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} 4. ب- منع الفساد والفوضى أن ينتشرا في الأرض: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} 5.

_ 1 الأنفال: 46 "= 1 ب". 2 الأنفال: 60 "= 1 ب". 3 النساء: 102 "= 1 ب". 4 النساء: 84 "= 1 ب". 5 البقرة: 251 "= 1 ب ".

جـ- إنقاذ المؤسسات الدينية من أن تهدم: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ} 1. د- وأخيرًا معاقبة المعتدين، وكشف الكرب عن المؤمنين: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} 2. وهذا هو كل ما وجدناه مرجعًا للجزاءات الطبيعية3. "= 2 أو12 ب".

_ 1 الحج: 40 "= 1 ب". 2 التوبة: 14 "= 1 ب". 3 لسنا هنا نتحدث طبعًا عن النتائج التي يقال إنها لازمة. فهي حين التصقت بالموضوع نفسه أضافت إليه أو حذفت منه بعض القيم، دون اعتبار لانعكاساتها على الفرد. وفي القرآن موضوعان يقدران هذا النوع من الغاية الطبيعية، فالمقارنة المعروفة بين الشجرة الطيبة، والشجرة الخبيثة. مع إبراز الصفات الأخلاقية للحق والباطل "طيب وخبيث، قوي وضعيف ... إلخ" هذه المقارنة تؤكد في الوقت نفسه أهدافها الوجودية: قابلية الحياة أو الزوال. "انظر سورة إبراهيم آيتي: 24 و26" ومن هذا القبيل الموازنة بين الزبد الذي يختفي ويتلاشى، والماء الذي يبقى "الرعد: 17". ومع ذلك إن هذه النصوص ليست في مكانها هنا إلا من حيث كون دوام الحقيقة وإثمارها يمكن أن تتكفل بتحقيقهما شريعة الفطرة. ولا ريب أن من العسير أن تثبت على سبيل القطع أن الحقيقة في غنى عن أن تكون معروفة، ومنشورة بقدر كاف، لتكون معترفًا بها، ومدافعًا عنها، ومع أنها قد اضطهدت طويلًا، وأزهقت كثيرًا، فإنها سوف تجد في النهاية تاريخًا منصفًا يرد إليها اعتبارها، وأرواحًا طاهرة تعتنقها. ومن الممكن أيضًا أن نقول: إن نجاح الكذب، وحياته المؤقتة إنما يدين بهما دائمًا؛ لأنه يتقمص شرائع الحق. وفي نفس النظام الفكري الذي تفيده هذه الموازنات يمكن أن نذكر كثيرًا من النصوص ينحصر استهزاؤها بالوثنية والشرك في أنهما يتوسلان إلى ذوات فانية: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] وهي ذوات عاجزة عن أن تضر أو تنفع، عاجزة عن أن تمنع ما يريد الله أن يكون "5/ 76 و6/ 17 و46 و62 و71 و192-198 و10/ 18 و106 و13/ 14 و16 و17/ 56 و67 و21/ 42 و43 و22/ 12 و13 و25/ 3 و55 و28/ 71 و72 و30/ 30 و35/ 2 و3 و14 و36/ 75 و39/ 38 و46/ 5 و67/ 20 و21 و30"، وواضح أن الأمر في هذا كله أمر وصف لواقع راهن، وليس أمر إخبار بنتيجة مستقبلة. ولنلاحظ من ناحية أخرى أن عبادة هذه الذوات لا تستتبع هنا نتيجة طبيعية إيجابية، بل هي تستتبع مناقضة.

وها نحن أولاء نجد أنفسنا بعيدين عن مستوى الحسن الأخلاقي الذي هو غاية في ذاته، حيث كانت الواجبات تمتدح وتقدر تبعًا لطبيعتها الخاصة، وحين تدخلت المشاعر الدينية بعد ذلك لتحفز من جانبها إلى إيقاظ هذا الحس كنا لا نزال في مجال عناصر تنتمي إلى أسرة واحدة. أما الآن فإن لنا شأنًا مع طرف ثالث ليس من الأسرة، وحاشاه أن يكون البحث عن اللذة، أو الطمع في الكسب، أو تدبيرًا ماهرًا لإجراءات محترسة لمداراة الرذائل. ولكنه العقل الرشيد العملي، وغريزة المحافظة على النفس، وشعور مشروع بحب الذات، واهتمام طيب بخلق روابط من الصداقة المتبادلة بين الناس. ومع ذلك. فسواء أكان هذا عامًّا أم فرديًّا، مشروعًا أو حتى جديرًا بالثناء -أوَليس هو دائمًا المنفعة التي لا شك فيها، تدافع -هذه المرة- عن قضية القانون الأخلاقي؟ فهل يخصص القرآن -حينئذ- جانبًا، ولو صغيرًا، للأخلاق السوقية، حتى ما كان منها -على هذا النحو- نقيًّا بريئًا؟ ولنتذكر هنا الفرق الذي ذكرناه في مستهل هذا الفصل، ما بين إخبار بوجوب استعمال العقل، وبين هدف مقترح للإرادة، ولسوف تكون لدينا فرصة التوسع في دراسة هذا الفرق في الفصل التالي.

ولكن لماذا نصر على إحداث هذه التفرقة الأساسية للضمير الإنساني الذي لا يقبل الانفصام؟ إنني أفهم جيدًا أن من الواجب عليَّ، عند اصطدام الواجب بالمنفعة، أن أضحي لأجل الأمر العلوي لواجبي، لا برغباتي فحسب، بل بغرائزي الأولية، بما في ذلك حياتي. ولكن، حين لا يكون اصطدام، أيمكن ألا يبالي المرء حقًّا بذاته؛ أن يتأفف من مقتضيات فطرته العميقة. إن الحكيم الرواقي لا يجد بدًّا من الاعتراف بأنه إذا لم يكن هذا بالنسبة إليه ضرورة، فإنه على الأقل ترجيح وتفصيل. ومع ذلك فهل يمكن لأحد أن يتأثر بروح الزهد أكثر من المسيح؟ ألم يبتعد عن المكان حين عرف أن الفريسيين تشاوروا عليه لكي يهلكوه؟ ... 1 وحين أحس بالخيانة تقترب ألم يلجأ إلى الله، يدعوه أن يجنبه هذه الكأس, "وقال: يا أبا الآب، كل شيء مستطاع لك، فأجز عني هذه الكأس، ولكن ليكن، لا ما أريد أنا، بل ما تريد أنت"؟ 2. عندما أرى الغريزة والذكاء، الإيمان والعقل، واجبي ومصلحتي -كل ذلك يتجه نحو نقطة واحدة، وعندما أسمع من كل جوانحي نفس الصيحة، نفس النداء، نفس الأمر, فهل من حقي أن أقول -مفتخرًا-: إني لم أستجب إلا لصوت وحيد، وإني لم أتحرك إلا بدافع الواجب وحده، وإن العوامل الأخرى لم تؤد أي دور، أساسي أو ثانوي، في قراري؟ كيف أتحقق من هذا؟ ألم يعترف الفيلسوف "كانت" هو أيضًا، بالرغم من طابع مذهبه المتشدد لشخص الإنسان بحق الدفاع عن نفسه باعتبار أنه حق لا يمكن انتهاكه, لا بوساطة الغير، ولا بوساطة الإنسان نفسه؟

_ 1 إنجيل متى 12/ 15. 2 إنجيل مرقص 14/ 36.

وعليه، فمتى ما حُدِّد للإرادة موضوع، وبمجرد أن يتضمن الشكل موضوعًا طيبًا -يصبح من العسير أن نفصل الشكل عن الموضوع، أو نخفي الموضوع عن رؤية العقل. وهل لجهد الإرادة تلك القدرة السحرية على أن يمحو ذكرياتنا بضربة واحدة، وهل بوسعه أن يطفئ أنوار عقولنا بنفخة واحدة؟ إن علينا أن نركز انتباهنا على الغلاف: فإذا تحققنا أن محتواه ثمين فسيزيد ذلك لا محالة من وزنه، وسيغلي من قيمته، ولسوف يشق في النهاية القشرة ليلمس إدراكنا وحساسيتنا. وحينئذ لن نستطيع أبدًا أن نمنع هذا العنصر الجديد من أن ينشئ لنا، لا أقول: هدفًا آخر نسعى إليه، أو سيدًا آخر نخدمه، فتلك تكون ردة عن الواجب، وإنما هو ينشئ لنا تكملة من القوة والحماس في سيرنا المنتصر، إلى نفس الهدف، ولن يعود الواجب آنذاك محترمًا فحسب، بل سوف يكون هوانا الذي يمتزج بدمنا. أليس تطلب النزاهة الكلية في مجال ضروراتنا الجوهرية -إنكارًا لضعفنا الإنساني؟ لقد وصم "بسكال"1 هذا الغرور وندد به تنديدًا كافيًا. إننا لا ننكر إمكان موقف كهذا بالنسبة إلى بعض المتميزين في قمة تقدمهم،

_ 1 بسكال: رياضي فيزيائي فيلسوف كاتب فرنسي، "1623-1662" اهتم منذ نعومة أظفاره بالعلوم وابتكر في سن الثامنة عشرة ماكينة حاسبة وإليه يرجع الفضل في الكشف عن بعض قوانين الضغط الجوي والمائي وتوازن السوائل، وباسمه المثلث المعروف "مثلث بسكال" "والذي ثبت فيما بعد أنه أخذه عن رياضي مسلم هو الكرجي". اعتنق المسيحية ثم بدأ يكتب عنها مؤلفًا مات قبل إتمامه ونشرت بعض أجزائه بعنوان: "أفكار" وقد أدت أعماله في المجال الأخلاقي إلى توجيه فكر عصره نحو دراسة النقائص والرذائل التي ألصقتها الطبيعة بالنفس والعقل الإنساني، ومن هنا يعتبر من واضعي الكلاسيكية. "المعرب".

ولكن هل يكون منهجًا حكيمًا أن ندعو إلى الأخلاق فنبدأ بقطع قنطرتها خلف الأبطال، بقطع الأسباب بين المرء وماضيه، وبذلك لا ندع للإنسانية سوى يأس مطلق؟ وكيف تقنع بالواجب إنسانًا مستغرقًا في شئونه، أو آخر مستسلمًا لشهواته، إذا كنت تطلب منه أن ينقطع تمامًا عن ماضيه كله على صورة تحول عنيف، وأن يخضع نفسه لقاعدة جافة لم يدرك بعد ملاءمتها؟ وإذا كنت فضلًا عن ذلك تعمد إلى منعه من أن يلقي نظرة واحدة على أي شيء من شأنه أن يسوغ في نظره أمرك إياه، وإلا أصبح عديم الأخلاق، فأية نتيجة يمكن أن تحصل عليها من هذه التربية، إن لم تكن أن تفقد تلميذك كل ثقة بنفسه، وإلى الأبد؟ ألم يكن أكثر تعقلًا وإنسانية، لكي تلقن تلميذك أوليات الحياة الأخلاقية، أن تبدأ بوضع نفسك مكانه، وتنظر من الزاوية التي ينظر منها؟ وأن تحاول أن تعطيه بدل ما تريد أن تسحبه منه، وأن تريه أن طريق الواجب هي في الوقت نفسه طريق الذكاء، والذوق الحسن، طريق الأمن، والمجد؟ إنه كلما عرف بطريقة أفضل فائدة الاستقامة، شيئًا فشيئًا، وكلما استبدل بفورة العاطفة اتزان العقل، فلسوف يتسنى له أن يتذوق حلاوة الخير، وسحر الفضيلة، وعظمة البطولة. ولسوف تتخلق بالتدريج في نفسه مواءمة مع الخير، نوع من التماثل بين إرادته والقاعدة الأخلاقية. وربما استطاع عند بلوغ هذا الحد أن ينفصل تمامًا عن كل مؤثر أجنبي، كيما يستسلم استسلامًا كاملًا للواجب من أجل الواجب, دون أن تقلقه عواطفه الذاتية, أو يؤثر عليه ما قد تدخره له تصاريف الطبيعة من نجاح أو إخفاق. لقد اضطر إلى الاعتراف بهذه الطريقة في تصور التربية الأخلاقية أعظم الفلاسفة الغربيين تشددًا بين المحدثين منهم ونعني به "كانت"، فكتب يقول: "لقد يكون من المفيد أن نربط هذا

التوقع لحياة سعيدة ورغدة بذلك الدافع العلوي: "أن يحترم المرء القانون، وأن يحترم ذاته" ... ولكن ذلك فقط لموازنة المغريات التي لا تفتأ الحياة تخادعنا بها على الجانب الآخر، لا من أجل أن نضع فيه القدرة المحركة بالمعنى الصحيح ... "1. ونقرأ بعد ذلك في نفس الكتاب: "بيد أن هذا الفصل لمبدأ السعادة عن مبدأ الحس الأخلاقي ليس من باب التعارض، والعقل العملي الخالص لا يرى أن يتخلى المرء عن كل دعاوي السعادة، بل ربما كان واجبًا في بعض المجالات أن يهتم المرء بسعادته؛ لأن السعادة تقدم له من ناحية وسائل أداء واجبه، ولأن الحرمان من السعادة, من ناحية أخرى -"في حالة الفقر مثلًا"- يجلب معه إلى الإنسان إغراءات بانتهاك واجبه. على أن يكون مفهومًا أن عمل المرء لسعادته فحسب، لا يمكن أن يكون واجبًا، أبدًا، وأقل من ذلك أن نجعل منه مبدأ كل واجب"2. وقال بطريقة أكثر صراحة: "لا شك أن أحدًا لا يستطيع أن ينكر أنه لكي نقود عقلًا مجدبًا، أو حتى فاسدًا إلى طريق الخير الأخلاقي -فإننا نحتاج إلى بعض التدريبات الإعدادية لترغيبه عن طريق ما يحقق من نفع ذاتي، أو ترهيبه بالخوف من بعض الخسائر. ولكن متى ما حققت هذه الآلية "الميكانيكية" وهذا الانقياد، بعض الآثار فيجب أن نقدم إلى النفس المبدأ الأخلاقي في صورته المحضة، أي: في صورة الالتزام بالواجب3. وهكذا تستهل الحياة الأخلاقية بإدخال العنصرالمثالي، "المثل الأعلى"،

_ 1 KANT. CRIT. DE LA R. PRATS P. 93. 2 السابق ص99. 3 السابق 162.

في مجال كان من قبل محتلًّا بالعنصر الطبيعي، والحق أن هذا المثل الأعلى يسعى دائمًا إلى أن يكسب أرضًا، ويختلس فيها مكان شاغلها الأول. فهو لا يكف عن المطالبة بوجوب أن يكون سيد الضمير الأوحد، وأنه لا يريد أي اختلاط أو التباس به، ولكن أهذا ممكن؟ وهل له حق فيه؟ وهل يصل إليه؟ كل ذلك خارج عن المسألة التي تشغلنا الآن، أعني أنه على الرغم من كل شيء، فإن أمر الطبيعة، مستقلًّا عن نوايانا، يختلط غالبًا بقضايانا الأخلاقية، شئنا أو لم نشأ، وهو يقاومها، ويستخرج منها نتائج، لا تفتأ تمس أعماقنا قليلًا أو كثيرًا. وتلكم هي الحقيقة الفعلية التي حرص القرآن على إبرازها بالأمثلة العديدة التي ذكرناها آنفًا، وكما يروى عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أنه قال: "إن للحسنة لنورًا في القلب، وضياء في الوجه، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة لسوادًا في الوجه، وظلمة في القلب، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبغضًا في قلوب الخلق"1.

_ 1 ابن تيمية، منهاج السُّنة 1/ 269.

النتائج غير الطبيعية أو الجزاء الإلهي

النتائج غير الطبيعية "أو الجزاء الإلهي": بيد أن الجزاءات الطبيعية ليست شاملة وعامة، وليس بلازم أن نذهب إلى حد القول دون تحفظ مع فيكتور كوزان VICTOR COUSIN بأن: "الفضيلة والسعادة من جانب، والشقاء والرذيلة من جانب آخر، على توافق ضروري، لا في نظر الضمير فحسب، بل على مسرح الحياة والتاريخ، فليس هناك عمل، أو فكرة، أو رغبة، أو شعور مرذول، إلا وينال عقابه، آجلًا أو عاجلًا، وبطريقة مباشرة على الدوام تقريبًا، وبمعياره الدقيق، والعكس صحيح في

كل عمل، أو فكرة، أو قرار، أو شعور فاضل، فكل تضحية تستتبع مكافأتها"1، كما أننا لا نريد أن نذهب مع تيودور جوفروي TH. JOUFFROY في قوله: "عندما نبتعد -متذرعين بحريتنا- عن السعي إلى غايتنا الحقة فإننا لا نفتأ نرد إليها بفضل العقوبات التي يفرضها النظام الطبيعي للأشياء، وهو النظام الذي دعينا إلى أن نعيش في كنفه، فهو يفرض عقوباته على من يترك طريقه، ليسلك طريقًا ليست له"2. كلا ... لسنا ملزمين بالمضي مع هذين الرأيين، فإذا كان قانون الطبيعة المادية، أو الاجتماعية، قد استطاع أن يضع جزاء لبعض الواجبات في صورة سعادة ملائمة، وأن يجازي الوحدة بالقوة، والإخلاص بالتقدير، كما يجازي بعض الانحرافات، كالسكر، والفسق، بما هي قمينة به من بؤس، فليست كل الفضائل، والرذائل بواجدة حسابها مسوى في النظام الطبيعي للأشياء ... وهيهات. ولقد كان "كانت" على حق حين أعلن أنه ليس بين الفضيلة والسعادة ارتباط تحليلي، شريطة ألا يقصد بالسعادة تلك المسرة الخاصة المتصلة بالممارسة الأخلاقية، والتي قال عنها أرسطو: "إنها تنضاف إلى الفعل كما تنضاف إلى الشباب نضرته" وإنما يقصد بها المتع اللاحقة، المنفصلة عن الفعل، والمختلفة عنه من حيث طبيعتها. وإنا لنمضي إلى ما هو أبعد من "كانت" فإن هذا الفيلسوف العظيم، حين لم ير أن هذا الارتباط يوجد لاحقًا في التجربة الراهنة، جعل منه مبدأ مسلمًا للقانون الأخلاقي، واجب الوجود في عالم مقبل، تتوافق فيه

_ 1 انظر: V. cousin, Introd. A l'hist. de la philo. 9e lecon. 2 انظر: Uffroy, cours de Droit Natural. Lecon.

قوانين الطبيعة مع قوانين الإحسان الإلهي. وموجز رأيه: أن هذا الرباط رباط تركيبي مسبق. أما نحن، فنرى أنها علاقة تركيبية فعلًا، ولكنها ليست مسبقة. ذلك أننا -إذا نحينا التعاليم الدينية جانبًا- نتصور أي قانون أخلاقي قانونًا كامل العدالة، يستهدف في كل ما يمنحه أشياعه من مكافآت -أن يكسبهم ما يستحقون من الاحترام، والكرامة، وهو في كلمة واحدة: يمنحهم أجرهم، دون أن يتيح لهم وجودًا بعد الموت، بل دون أن يضمن لهم حياة دائمة السعادة. فهذه الأفكار كلها غريبة تمامًا عن فكرة القانون الأخلاقي، العقلية المحضة، وهي أيضًا غريبة أكثر من ذلك عن أخلاق شكلية بدأت بتقسيم الإنسان إلى قسمين، متعاديين على سبيل الإطلاق. فإذا كنا قد أبعدنا الجانب الحسي من المجال الأخلاقي بلا أدنى شفقة، فباسم أي مبدأ نسمح لأنفسنا في النهاية أن نشفق على مصيره؟ ولماذا ندخله من الشباك بعد أن طردناه من الباب، ثم نمنحه حق الإقامة المشروعة؟ فإذا ما أصر بعض الناس مدعيًا أن فوق هذه العدالة التي تتم داخل القانون الأخلاقي عدالة أخرى أعلى درجة، تجعل نظامي الإرادة والحس متناظرين، فإننا نستطيع أن نقبل ذلك إذا لزم الأمر، دون أن يعني ذلك قبول تلك المسلمات القائلة بارتباط العمل الأخلاقي بحياة ثانية، وسعادة مستقبلة. فالعملية من أبسط الأمور، وما علينا إلا أن نقلب صيغة هذا التتابع لنجد أنفسنا مكتفين بما نؤدي من واجب. أفننتظر أن يكافئنا المجتمع على أمانتنا في الأداء العادي لواجباتنا نحوه؟ أو لسنا مدينين له بأكثر مما هو مدين به لنا؟ إذن، فماذا نقول عن خالق الكون الذي يدين له الأفراد، والمجتمعات بكل شيء؟ من منا لم ينل مقدمًا من يد الله: وجوده، وقدراته، وطاقاته، وإمكاناته،

ونعمه المادية والروحية؟ ولكن ألم يكن من الواجب حينئذ، بدلًا من أن نطمح إلى ثواب، أن نبتغي بسلوكنا الطيب أن يكون وفاء لدين، وشاهد عرفان بتلك النعم التي لا تحصى، والتي أنعم الخالق بها علينا، حتى من قبل أن نسأله إياها؟ وهكذا نجد أن كل رد فعل مستقبل، لا ينتج طبيعيًّا وتلقائيًّا؛ من طريقتنا في العمل -لا يمكن أن نقيم عليه برهانًا، أو أن نفرضه مقدمًا على أنه بدهي في ذاته، أو على أنه ضروري لإثبات الحقيقة الأخلاقية، وأقصى ما يمكن أن يبلغه هذا التعليل المسبق إذا ما طبق على فكرة العقاب أن تكون له بعض الصحة، وربما استعمله القرآن بهذه المناسبة أحيانًا. وإنه لحق -في الواقع- أن المذنبين الذين يشعرون الآن بأنهم سعداء لن يظلوا دون عقوبة أبدًا، فإما أن يكون الخلق عبثًا، وإما أن تكون هنالك بكل تأكيد "رجعة" للعدالة: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} 1, {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} 2. بيد أنه لما كانت فكرة السعادة المستقبلة غير ذات ارتباط داخلي بفكرة الفضيلة، ولما لم يكن هناك مبدأ عقلي يحتم توافقهما، فإنهما منفصلان في عقولنا، ولسوف يظلان كذلك طالما لم يتدخل مشرع حر، إنساني أو علوي، بمبادرته الذاتية؛ كيما يوفق بينهما، ويقر ما بينهما التركيب المراد. ومع ذلك, إن الأخلاق القرآنية كسائر الأخلاقيات الدينية -لم تقع في هذا التناقض الفلسفي، الذي يعزل عزلًا مطلقًا العنصر الأخلاقي عن العنصر الحسي، ثم يعود بعد ذلك إلى التوفيق بينهما ولكن متأخرًا جدًّا.

_ 1 المؤمنون: 115. 2 القيامة: 36.

إنها أخلاق تتصور الإنسان، من أول لحظة، في كيانه المتكامل، الذي لا يتوقف فيه القلب والعقل عن التعاون مع الإرادة. وهذه الأخلاق ترى فضلًا عن ذلك أن خلود النفس، ووجود الله ليسا من الفروض المسلمة، بل هما نقطة انطلاق. إنهما عقيدتان أساسيتان في ذاتهما أولًا، وتؤسسان بدورهما نظام الجزاءات. إن إله القرآن وجميع الكتب المنزلة ليس خالقًا ومشرعًا فحسب، وإنما هو في الوقت نفسه مكافئ عادل. وإذن فمن الواضح الجلي أن مثل هذه المفاهيم يجد فيها التفكير في أشكال الجزاء نموًّا أكثر تماسكًا، كما أنها تقدم إليه إجابات دقيقة لمختلف المقتضيات والمطالب. فإذا كان الإنسان الذي يستسلم لأفعاله بأكملها يتحمل نتائجها بأكملها، فأي شيء أكثر عدلًا من هذا؟ ومن ناحية أخرى, نجد أن الفعل الإرادي الذي أقر الله -سبحانه- به شريعة الواجب، يسير في نفس الفكرة الإلهية مع الفعل الذي وضع الله به المبدأ العام للمجازاة، جنبًا إلى جنب، واقرأ إن شئت قوله تبارك وتعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} 1. بل إن هذا الارتباط بين الفضيلة والسعادة، وبين الرذيلة والعقوبة، وهذا الفصل بين الأبرار والأشرار، والذي بدا هنا كواقع، أو كوعد، أو كأمر تنفيذي، يأتي أحيانًا كنتيجة ضرورية لحجة استنباطية، نابعة من مفهوم

_ 1 3/ 144 و145 و6/ 120 و138 و11/ 3 و111 و12/ 110 و32/ 22 و45/ 22 و46/ 19 و53/ 31 و41 "= 11 أو2 ب".

"أو مبدأ" إله حكيم، عدل؛ يقول القرآن: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} 1، {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} 2, {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِين، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُون} 3. ومن الطبيعي أن هذا الاستنباط، لكي يكون ضروريًّا، يجب أن يقتصر على الفكرة العامة للمجازاة، وألا يزعم أنه يحدد أشكالها. أمن الممكن -مثلًا- وضع علاقة عقلية بين العمل الوقتي للإرادة الإنسانية، أو حتى الجهد الدائم في هذه الحياة الفانية، وبين مكافأة باقية في حياة خالدة؟ 4. ولكن، إذا كانت مكافأة كهذه ليست، ولا يمكن أن تكون نظيرًا لأعمالنا -إذا نظرنا إليها في ذاتها- فإنها منذئذ تصبح موضوعًا لوعد، أو التزام. هي العوض في عقد مبرم بين الله والإنسان: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّة} 5، بشرط أن تبلغ أعمالنا -على الأقل- قدر الأعمال العظيمة، وأن تكون طاهرة، غير

_ 1 الجاثية: 21. 2 ص: 28. 3 ن: 35-36. 4 على أكثر تقدير نستطيع أن نتصور هذا التعادل حين نأخذ معيارًا للمقارنة، ليس العمل الخاص، المؤرخ والمحدد، بل العمل الكلي الذي تتخذه الإرادة -في ذاتها- قاعدة للسلوك، موافقة أو مخالفة للقاعدة الأخلاقية, فالواقع أن الضمير -على هذا المستوى- ينشد المطلق ويستهدفه، ويود أن يتمسك بموقفه إلى الأبد، لو أُوتيَ الإنسان الخلود في هذه الحياة. 5 التوبة: 111.

ناقصة، وأن تستوفي -في جملتها- الشروط المطلوبة، حتى يتقبلها الله، وهو ما يستحيل، في الحالة التي نحن عليها، أن نحكم به على يقين. وفَسِّرْ لنفسك بهذه الألوان والظلال حالة التباين الظاهري بين القول النبوي، الذي يرى أن قبول الصالحين في الجنة ليس إلا منحة من فضل الله، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم- فيما روي عن أبي هريرة, رضي الله عنه: "لن يُدْخِلَ أحدًا عملُه الجنةَ"، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة" 1, وبين الأقوال القرآنية التي تتحدث عن ذلك الميراث السماوي، باعتباره ثمنًا مترتبًا على أعمالنا من مثل قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 2، وقوله: {سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 3.

_ 1 انظر صحيح البخاري، كتاب المرضى، باب 19. 2 الزخرف: 72. 3 النحل: 32.

الجزاء الإلهي

الجزاء الإلهي مدخل ... 4- الجزاء الإلهي: طبيعة الجزاء الإلهي، وأشكاله: لقد آن لنا أن نسأل أنفسنا عن طبيعة الجزاء الإلهي ومجاله، على ما وصفه القرآن. فعلى حين تجعل التوراة السعادة الموعودة في طيبات هذا العالم، ويحصرها الإنجيل تقريبًا في السماء، نجد أن القرآن -كما سبق أن وضحنا- يريد أن يجمع هذين المفهومين، وأن يوفق بينهما. والحق، أن الأمر بالنسبة إلى القرآن أمر مصالحة وتوفيق، فهو يريد أن يثبت في وحدتهما الأولية عنصرين متكاملين لواقع واحد، عمل الشراح

الكتابيون بصورة ما على شطره، حين ألح كل فريق من جانبه، إلحاحًا شديدًا على الجانب الذي تركه الآخر في كنف الغموض. ومع ذلك، فلو كان الأمر أمر توفيق أو مصالحة فقط لما نهض هذا الجمع بين النظامين مطلقًا بتفسير النظام القرآني؛ لأن مبدأ هذا التركيب حين وضع، زاد القرآن في تحديده وأثراه، حين أدخل فيه كثيرًا من العناصر الجديدة. ولنذكر أولًا الآيات التي يكتفي القرآن فيها بإقرار هذا المبدأ على وجه الإيجاز، إنه يعلن أن الجزاء الإلهي -دون أن يحدد طبيعته- سوف يحدث في موعدين، يستوي في ذلك الصالحون، والطالحون؛ وفي الصالحين يقول الله سبحانه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} 1، وفي الطالحين يقول سبحانه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} 2. ولئن كانت الآيات التي أشرنا إليها آنفًا لا تحدد طبيعة الجزاء الإلهي، فإن النصوص في مواضع أخرى تحدثنا عن طبيعته على نحو يتفاوت في تفاصيله. ومع أنه يشق في بعض الحالات أن نقرر عن أي الحياتين يتحدث، في مثل قوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} 3 -فلسوف نحاول أن نبحث على حدة كلاًّ من لحظتي هذا الجزاء الإلهي: في العاجلة، وفي الحياة الأخرى الآجلة.

_ 1 بالنسبة إلى الخير: 2/ 201 و3/ 148 و4/ 134 و12/ 56 و57 و16/ 30 و41 و97 و122 و29/ 27 و41/ 31 "= 8 أو3 ب". 2 وبالنسبة إلى الشر: 2/ 85 و114 و3/ 12 و56 و5/ 41 و9/ 74 و17/ 75 و22/ 9 و11 و24/ 19 و32/ 21 و39/ 26 و40 و41/ 16 و71/ 25 "= 6 أو9 ب". 3 البقرة: 276.

الجزاء الإلهي في العاجلة

أ- الجزاء الإلهي في العاجلة: هذا الوعد بالجزاء الإلهي هو في جانب كبير منه ذو طابع أخلاقي: عقلي أو روحي، فالطابع المادي الخالص يمثل هنا، على نقيض المنهج العبراني، نسبة تافهة، إن لم يكن كمية سلبية، وسنرى الآن أي اعتدال يتفرد به القرآن وهو يعبر عن هذا النوع من الخير العاجل. 1- الجانب المادي: والموضع الوحيد الذي ينشئ وعدًا ببعض الخير العاجل -فيما عدا العبارات الموجزة التي ذكرناها آنفًا، والتي تعلن ببساطة أن الفضيلة سوف تحصل على نصيب من ثوابها في هذه الحياة، وعلى جزء آخر "وهو الأفضل" فيما بعد -فيما عدا هذا فإن الموضع الوحيد الذي يحتوي في الظاهر عنصرًا ماديًّا قد جاء على هذا النحو في قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} 1 "= 1 ب". والقول الثاني في نفس السورة أقل من هذا تحديدًا -أعني تضمنًا للجانب المادي، وهو قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} 2.

_ 1 الطلاق: 2-3. 2 الطلاق: 4.

وفي آية أخرى لا يشتمل التعبير على معنى وحيد، إذ قد يكون له تأويل يحمل عليه، قوله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} 1، فقد يكون معناه: "يجد في الأرض حرية ورخاء"، وقد يكون معناه: "يجد في الأرض منجاة من أعدائه، ويؤدي عمله في أوسع مجال"، وهذا التفسير الأخير يتفق مع السياق: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ... } 2. وإنا لنلمح نفس الغموض في العبارة التي تعد هؤلاء المهاجرين بقوله تعالى: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ} 3. وفكرة الخير الموعود في هذه الحياة لأهل الخير هي فكرة أكثر عمومًا، فالحق سبحانه يقول: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} 4. وأخيرًا ترتدي السعادة المعلنة صفة سلبية شاملة، في ذلك الخطاب للكافرين: {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} 5. أما بقية النصوص فليست وعودًا، ولا إنذارات مباشرة، ولكنها أنباء تاريخية، قديمة أو معاصرة للوحي، تفسرها علاقاتها بالأحداث الأخلاقية، وأكثر النصوص تلح بخاصة على الجانب العقابي أو السالب من الجزاء. فبلد معين، أو مجموعة معينة كانت تعيش في بحبوحة، تجد نفسها في أمن ودعة، حتى ذلك اليوم الذي توعدها الله فيه بالرعب والمسغبة، فضربها الله بمصيبة تهلك حرثها وثمراتها، وتنزف منابعها.

_ 1 النساء: 100. 2 النساء: 97. 3 النحل: 41. 4 الزمر: 10. 5 هود: 3.

وفي بعض الآيات ينسب القرآن هذا البلاء، وهذا التحول في المصير -إلى نقص الإيمان بالله، وجحود فضله، ومن ذلك قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} 1، {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا} 2. وفي مواضع أخرى يفسر القرآن ذلك التحول في المصير إما لفرط الطمأنينة التي يحس بها الناس تجاه مستقبلهم "ناسين قدرة الله"، وفي ذلك يقول سبحانه: {قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا، وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} ... {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} 3، وإما أن يكون العقاب بسبب إخلال الناس بواجباتهم الاجتماعية، وعدم إحساسهم ببؤس إخوانهم، مثل قوله تعالى: { ... إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} ... {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} .... {أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} ... {كَذَلِكَ الْعَذَاب} 4. وجملة القول أن القرآن يفسر التحول بالكبائر الإنسانية: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} 5, {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} 6, {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} 7.

_ 1 النحل: 112. 2 سبأ: 17. 3 18/ 35-42. 4 68/ 17-33. 5 الروم: 40. 6 الأنعام: 93. 7 المائدة: 66.

وأخيرًا: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا، لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} 1. وهذا النص الأخير -فضلًا عن ذلك- لا يقدم هذا الإحسان الموعود على أنه مكافأة، بل هو اختبار وفتنة. ففي الحالات الشديدة الخطر يدفع المتمردون من حياتهم، لا من أموالهم، أما حالة الفساد العام فإن الله سبحانه يقابلها بتدمير الشعب كله وإهلاكه: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} 2, {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} 3. وهذا طبعًا باستثناء أولئك الذين يبرهنون على إحسانهم وطاعتهم، فهؤلاء ينجيهم الله من وقع ضرباته: {نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} ... {كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَر} 4, {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين} 5. وهكذا يستخدم القرآن بلا توقف تاريخ الأمم القديمة العاصية، حتى يكون لدى الظالمين الذين يخلفونهم على الأرض مثل أسلافهم، متمثلًا دائمًا في أذهانهم، ولا سيما الكافرين على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- الذين لم يكونوا خيرًا ولا أشد قوة من الأقدمين: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ} 6،

_ 1 الجن: 16. 2 هود: 102. 3 الإسراء: 16. 4 القمر: 34 و35. 5الصافات: 80. 6 القمر: 43.

بل على العكس: {مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} 1. وإذن، فالخونة جميعًا عرضة للمؤاخذة، تؤهلهم ذنوبهم لأن يعاقبوا بقسوة، وليس في طاقة أحد أن يؤمن العصاة من أن تحل بهم مصيبة، في البر أو في البحر، على حين غفلة: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} ... {أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى} 2, أو تصيبهم قارعة وهم نائمون، أو وهم يلعبون: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ، أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} 3، أو يكون ذلك خلال سفرهم: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِين} 4، أو يكون صاعقة سماوية: {يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} 5، أو خسفًا: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ} 6, أو بأية وسيلة أخرى لا يعلمونها: {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} 7, وعلى كل حال فسيان أن يكون ذلك إهلاكًا شاملًا عاجلًا، أو إفناء بطيئًا: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّف} 8. ومن الواضح في كل ذلك أن الأمر لا يتصل مطلقًا بعقوبة مقدرة بقدرها، بل بدرس يستخلص من التاريخ الإنساني، ومن القانون الكوني، فالمهم هو إثارة الانتباه لدى الأغنياء والأقوياء، ليروا أن أمنهم وترفهم بمكان من الوهم والبطلان.

_ 1 6/ 6 و30/ 9 و35/ 44 و40/ 21 و82 و46/ 26. 2 الإسراء: 68-69. 3 الأعراف: 97-98. 4 النحل: 46. 5 17/ 68 و67/ 17. 6 16/ 45 و67/ 16. 7 النحل: 45. 8 النحل: 47.

ب- عنصر يتصل بأتييد جماعة المؤمنين: هنالك فوق الحياة البدنية والمادية المحضة مجال آخر تعز فيه الهموم على الناس وتغلو، أعني: مجال مصير مثلهم العليا، ومجال مشاعرهم الجماعية، وبهذا الملحظ نجد أن الوعود على العكس أكثر عددًا، ومباشرة، وصراحة. فقد حدث أثناء المعارضة الضارية التي هبت ضد النبي وصحابته أن تحالف الكفار والمنافقون، فلم يكتف القرآن بأن ساق إلى المؤمنين هذا العزاء الذي يقول لهم: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} 1، ولم يقتصر على قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} 2، ولكن يعدهم بتأييده الإيجابي: {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِين} 3، {مَعَ الْمُتَّقِين} 4، {مَعَ الصَّابِرِين} 5، وهو {وَلِيُّ الْمُؤْمِنِين} 6، و {مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} 7، {فَنِعْمَ الْمَوْلَى} 8. وإذا كانت القدرة مما تفرد به الله، فإنه يعطي بعضها لأوليائه: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} 9، {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُون} 10، والله سبحانه يتيح لهذا الحزب المساعدة والنصر: {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيب} 11، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُه} 12، {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ

_ 1 آل عمران: 120 "= 1 ب". 2 الحج: 38 "= 1 ب". 3 الأنفال: 19 "= 1 ب". 4 2/ 194 و9/ 36 و123 "= 3 ب". 5 2/ 152 و8/ 46 و66. 6 و7 و8 3/ 68 ومحمد: 11 والحج: 38 "= 3 ب". 9 المنافقون: 8 "= 1 ب". 10 المائدة: 56 "= 1 ب". 11 الصف: 3 "= 1 ب". 12 الحج: 40 "= 1 ب".

وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} 1, {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِين} 2، {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} 3، {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} 4، {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 5. أما خصومهم فعلى العكس من ذلك مسوقون إلى الهزيمة، وإلى العذاب: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} 6، وهم موعودون بالذل: {أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّين} 7، مشمولون بالخزي: {وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} 8، {وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} 9، ولسوف تحطم قوتهم: {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} 10، ولا ريب: {إِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} 11، ولكن: {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} 12، {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ

_ 1 محمد: 7 "= 1 ب". 2 الروم: 47 "= 1 أ". 3 الصافات: 171-173 "= 1 أ". 4 المجادلة: 21 "= 1 ب". 5 آل عمران: 193 "= 1 ب". 6 آل عمران: 12 والأنفال: 36 والقمر: 45 "= 1 أو2 ب". 7 المجادلة: 30 "= 1 ب". 8 التوبة: 2. 9 الحشر: 5 "= 2 ب". 10 محمد: 11 "= 1 ب". 11 الجاثية: 19. 12 محمد: 11 "= 1 ب".

بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} 1, {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} 2. ويمضي أحد النصوص في هذه الطريقة إلى أقصى غاية، فإن الأفق الذي يفتحه أمام المؤمنين الصالحين لا يقتصر على انتصار قضيتهم العادلة، وانتصارالذائدين عنها، وإنما هو الحكم في هذه الدنيا: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} 3. وإنا لنعلم أن ذلك كان خلال عدة قرون، ولكنه يبقى ما بقيت شروطه متحققة، فإذا كان بعض الأمور قد اختلف، فإنما قد كان طبقًا لنفس القانون؛ لأن من المكتوب الإلهي: {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} 4. وأهم الفضائل المطلوبة لأهلية الحكم الفضيلة الاجتماعية، فمن المشاهد أن حكمًا علمانيًّا يمكن أن يستمر ويزدهر بالاتحاد والعدالة أكثر من حكم أدعياء الإيمان، إذا ما ركنوا إلى الأخلاق المنحلة، وإلى الفوضى والعصيان، ولقد أعلن القرآن هذه الحقيقة في قوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} 5. فهذه فيما يتعلق بالجانب الجماعي "= 4 أو31 ب".

_ 1 التوبة: 32-33, والفتح: 28, والصف: 8 و9 "= 3 ب". 2 الروم: 4-5 "= 1 أ". 3 النور: 55 "= 1 ب". 4 الأنبياء: 105. 5 محمد: آخر آية "= 1 ب".

جـ- "الجانب العقلي والأخلاقي": بيد أن الجزاء الإلهي لا يتوقف عند هذا الحد، فهو لا يقتصر على تثبيت أقدام المؤمنين أمام عقبات الحياة المادية، أو إشباع مطامحهم الجماعية إلى السلام والرفعة، وإنما هو يتعمق أكثر، حتى يصل إلى أعمق ملكاتنا، وأكثرها رقيًّا، ليصبح بذلك مكملًا ضروريًّا للجزاء الأخلاقي الحق. والواقع أننا عندما قلنا آنفًا: إن الخير ينير النفس، ويزكي القلب، ويقوي الإرادة الخيرة، وإن الشر يدنس, ويعمي، ويفسد -فقد كانت تلك إشارة إلى اتجاه، أكثر منه واقعًا، وإلى نواة، أكثر منها كائنًا مصورًا، وإلى مرحلة أولى في تاريخ طويل، وإلى حالة نشأت حافلة بإمكانات عديدة، قابلة للإيقاف، والتحول، للتقدم والنكوص، إلى ما لا نهاية. ولكي نضع هذه الحالة الناشئة على إحدى الطرق المفتوحة أمامها يلزمنا مبدأ فعال، قادر على توجيهها في هذا الاتجاه أو ذاك. وإذن ... فهاكم ذلكم المبدأ الفعال!! إن خالق الفطرة ذاته هو الذي أوجب على نفسه هنا أن يهدي هذه الفطرة إلى الغاية التي تتجه إليها. فالله سبحانه سوف يرشد أولئك الذين يعملون له -إلى الطرق التي تهدي إليه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} 1، وسوف يهدي قلوب الذين يؤمنون به: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} 2, وسوف يبدد ظلماتهم، ويوصلهم إلى النور: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} 3.

_ 1 العنكبوت: 69 "= 1 أ". 2 التغابن: 11 "= 1 أ". 3 2/ 257 و5/ 16 و33/ 43 و65/ 11 "= 4 ب".

وسوف يرشدهم إلى الطريق المستقيمة: {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} 1. والذين يلزمون الصدق والاستقامة في أقوالهم يصلح الله لهم نقائص أفعالهم: {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} 2. والذين يراعون أوامره على تقوى سوف يمنحهم القوة على تمييز الحق من الباطل، والخير من الشر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} 3. وسوف يقدم إليهم نورًا هاديًا: {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِه} 4. وسوف يصلح نوايا الذين آمنوا وعملوا الصالحات: {وَأَصْلَحَ بَالَهُم} 5. والذين اختاروا الاتجاه الحميد "أو يعملون على أن يتجهوا وجهة الخير" -سوف يزيدهم الله نورًا، ويهدي خطاهم على دروب مستقيمة: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} 6. وهو ينزل في قلوبهم الطمأنينة التي لا قلق معها، كيما يدعم إيمانهم: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} 7. أما الكافرون، الظالمون، المتكبرون، المعتدون، الجاحدون، المرتابون، المستبدون، الكاذبون، الحانثون، المفرطون، المنحرفون، وكل أولئك الذين اختاروا نهائيًّا أن يكونوا ضد الشرع -فإن الله سبحانه لا يقتصر على عدم هدايتهم، وهو القائل: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ

_ 1 4/ 68 و175 و5/ 16 و10/ 10 و22/ 54 "= 1 أو4 ب". 2 33/ 71 "= 1 ب". 3 الأنفال: 29 "= 1 ب". 4 الحديد: 28 "= 1 أ". 5 محمد: 2 "= 1 ب". 6 21/ 76 و47/ 17 "= 1 أو1 ب". 7 48/ 4 و18 "= 2 ب".

اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1. بل إنه يبقي على ضلالهم، ويزيده: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِين} 2، وهو يقسي قلوبهم: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} 3، ويختم على قلوبهم وآذانهم وأعينهم: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} 4. وهو يصمهم ويعميهم: {فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} 5، ويزيد مرضهم: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} 6، ويطيل زمن ضلالهم وعماهم: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ} 7، ويصيبهم بالنفاق: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِم} 8، وينسيهم أنفسهم حين نسوا الله: {فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} 9، ويتركهم للشيطان: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} 10، ويقودهم في الظلمات: {يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} 11. ولكن الظالمين ليسوا وحدهم الذين يلقون هذا الإذلال، فالمؤمنون أنفسهم يجب أن يذكروا أن نورهم وإلهامهم ليسا سوى هبة من فضل الله، يمكن أن تسحب، إذا ما غيروا موقفهم: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} 12، وهكذا تبلغ النصوص التي تصور هذه الحالة من ردود الفعل الأخلاقية العاجلة "= 23 أو40 ب ".

_ 1 16/ 104 و3/ 86 و5/ 51 و6/ 144 و9/ 19 و100 و46/ 10 و61/ 7 و62/ 5 و5/108 و9/ 24 و80 و63/ 6 و61/ 5 و5/ 67 و9/ 37 و16/ 107 و39/ 3 و40/ 28 "= 6 أو13 ب". 2 14/ 27 و40/ 34 و45/ 23 و61/ 5 "= 3 أو1 ب". 3 5/ 13 "= 1 ب". 4 2/ 7 و4/ 155 و7/ 101 و9/ 87 و93 و10/ 74 و16/ 108 و18/ 57 و40/ 35 و45/ 23 و63/ 3 "= 6 أو5 ب". 5 47/ 23 "= 1 ب". 6 2/ 10 "= 1 ب". 7 2/ 15 "= 1 ب". 8 9/ 77 "= 1 ب". 9 59/ 19 "= 1 ب". 10 43/ 36 "= 1 أ". 11 2/ 257 "= 1 ب". 12 17/ 86 و42/ 24 "= 2 أ".

د- الجانب الروحي: وفي الجزاء الإلهي العاجل عنصر أخير، يتمثل في التعديل الذي تحتمه أفعالنا في علاقاتنا مع الله. وليس ما يهمنا الآن هو هذه العلاقة الخارجية على نحو ما، علاقة المشرع بالمشرع له، أو علاقة القاضي بالمقضى فيه، وهي العلاقة التي تتجلى في نوع من إطلاق السراح أو الإدانة، وتتيح لنا أن ننال مكافأة، أو نتعرض لعقاب، وإنما يهمنا علاقة أخرى أكثر عمقًا، وخصوصية، كل ما عداها ليس إلا رمزًا تختلف درجة كماله، هذه العلاقة، حتى في حالة عدم وجود أي تعبير إيجابي عنها، تحتفظ بكل قيمتها العاطفية، وهي أسبق في الوجود، وفي الأهمية. ذلك أن موقفنا في مواجهة الشريعة يجد إجابته العاجلة عند الله، في قبوله أو رده، قبل أن يحدث أي رد فعل خارجي، فموقفنا هو الذي يجعلنا مرضيين أو مردودين في عينه، وهو الذي يكسبنا أو يفقدنا حبه؛ الشيء الجدير بأن نلتمسه عنده. ولسوف يبرز القرآن الآن هذا الجانب الخاص، ليؤكده من خلال تعبيره الشفاف: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين} 1، {يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 2، {يُحِبُّ الصَّابِرِين} 3، {يُحِبُّ الْمُتَّقِين} 4، {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين} 5، {يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين} 6، {فَاتَّبِعُونِي

_ 1 2/ 193 و3/ 134 و148 و5/ 93 "= 4 ب". 2 5/ 42 و49/ 9 و60/ 8 "= 3 ب". 3 3/ 146 "= 1 ب". 4 3/ 31 و9/ 4 و7 "= 3 ب". 5 2/ 222 و9/ 108 "= 2 ب". 6 3/ 159 "= 1 ب".

يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 1، {يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} 2، {يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} 3، وهو يذكر من يذكره: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} 4، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 5، والصابرون: {عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} 6، و {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} 7. {اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّه} 8 -أو- اتبعوا، {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} 9. والذين لا يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أقرباءهم -أولئك {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} 10. وهو الذي {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} 11. والله مع الذين يخشونه فلا يفعلون الشر: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} 12, {وَهُوَ يَتَوَلَّى

_ 1 3/ 31 "= 1 ب". 2 61/ 4 "= 1 ب". 3 22/ 37 "= 1 ب". 4 2/ 152 "= 1 ب". 5 35/ 10 "= 1 أ". 6 2/ 157 "= 1 ب". 7 48/ 18 "= 1 ب". 8 3/ 162 و174 "= 2 ب". 9 39/ 7 "= 1 أ". 10 58/ 22 "= 1 ب". 11 السابقة "= 1 ب". 12 16/ 128 و29/ 69 "= 2 أ".

الصَّالِحِين} ، وهو {وَلِيُّ الْمُتَّقِين} 1. وأخيرًا، فكلما وقف الناس موقفًا يحترم أوامره كسبوا لديه تقديرًا أكثر: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 2. ونقيض هذه المذكورات كلها قلما يغيب عن أعيننا، فابتعادنا عن الإيمان أو عن القاعدة يحدث انقطاعًا متفاوت القوة في علاقاتنا بالله، قد يمكن إصلاحه، وقد يعسر. إن الإنسان حينئذ -بدلًا من أن يستحق محبته- يستوجب غضبه، ونقمته، ولعناته، فضلًا عن إجراءات النكال الإيجابي، التي سوف نشرحها حسب تصنيفها: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} 3، والله {لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} و {لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِين} 4 و {لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِين} 5, "وهم أولئك الذين يبدءون الهجوم أو يتمادون في القتال بلا مبرر". و {لا يُحِبُّ الظَّالِمِين} 6، و {لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِين} 7،

_ 1 7/ 196 و45/ 19 "= 2 أ" -ولاحظوا أن هذه الوحدة، وهذا الحلف والولاية- الذي يمكن أن تحدده السور المدنية، على أنه إمداد عسكري يستهدف الدفاع على المؤمنين وحمايتهم من ضربات أعدائهم -ينبغي أن يمتدا أكثر من ذلك في اتجاه العزاء الروحي، إذ لم يكن القتال مأمور به، ولا موافقًا عليه إلا متأخرًا جدًّا، بعد نزول هذه الآيات المكية، بل إنه حتى في السور المدنية توجد آيات تعطي تحديدًا أخلاقيًّا صرفًا لهذه الولاية الإلهية للمؤمنين، وذلك مثل قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257] "= 1 ب". 2 49/ 23 "= 1 ب". 3 17/ 38 "= 1 أ". 4 2/ 205 و5/ 64 "= 2 ب". 5 2/ 190. 6 3/ 57 و140 و42/ 40 "= 1 أو2 ب". 7 6/ 141 و7/ 31 "= 2 أ".

و {لا يُحِبُّ الْخَائِنِين} 1، و {لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِين} 2، و {لا يُحِبُّ الْكَافِرِين} 3، {لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} 4، و {لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيم} 5، و {لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} 6، {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْر} 7، و {لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِين} 8، و {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} 9. والله يمقت الأقوال تكذبها الأفعال: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} 10, {وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا} 11، ويزيدهم كذلك مقتًا جدالهم في آيات الله على غير أساس: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا} 12. ولكن غضب الله العلي ولعنته ليسا وقفًا على هؤلاء المجادلين المعاندين: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} 13. بل إنهما يلحقان المرتدين: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ}

_ 1 8/ 58 "= 1 ب". 2 16/ 23 "= 1 أ". 3 3/ 32 و30/ 45 "= 1 أو1 ب". 4 4/ 36 و57/ 23 "= 1 أو1 ب". 5 2/ 276 "= 1 ب". 6 4/ 107 "= 1 ب". 7 39/ 7 "= 1 أ". 8 9/ 96 "= 1 ب". 9 4/ 148 "= 1 ب". 10 61/ 3 "= 1 ب". 11 35/ 39 "= 1 أ". 12 40/ 35 "= 1 أ". 13 42/ 16 "= 1 أ".

{أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ} 1، ويلحقان الكافرين بعامة: {لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِم} 2، وهما أيضًا جزاء القتلة: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} 3. والناكثين بعهد الله: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ} ... {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَة} 4، والطاعنين في الأعراض المحصنة: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} ... {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} 5، والهاربين يوم الزحف: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} 6، وأدعياء الإيمان الذين يتجاوزون أمتهم، ليبحثوا عن ولاء لهم لدى الكافرين، دون أن يكونوا مضطرين إليه دفاعًا عن أنفسهم -فهؤلاء الأدعياء يقطعون صلتهم بالله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} 7. فالنصوص المتعلقة بالجزاءات الروحية العاجلة تبلغ في جملتها إذن "= 20 أو58 ب". "قصورالجزاء العاجل": وهكذا نجد -ابتداء من هذه الحياة- إجابة إلهية على طرقنا في العمل، حسنة كانت أو سيئة، وهي إجابة تأتي على المستوى المادي، والعقلي،

_ 1 3/ 86-87 و16/ 106 "= 1 أو1 ب". 2 2/ 88 و89 و90 و159 و161 و3/ 162 و4/ 52 و5/ 80 و33/ 57 و61 و64 و40/ 52 و47/ 23 و48/ 6 "= 1 أو13 ب". 3 4/ 93 "= 1 ب". 4 13/ 25 "= 1 أ". 5 24/ 23 "= 1 ب". 6 8/ 16 "= 1 ب". 7 3/ 28 "= 1 ب".

والأخلاقي، والروحي، سواء في ذلك الفرد أو الأمة. ولكن هذا كله يبدو في عيني العدالة السماوية غير كاف. أولًا: لأن هذه كلها عينات ومقدمات للعدالة الكلية، فالجزاءات الإلهية التي تبرز لنا في هذا العالم ليست شاملة، ولا كاملة، وهي ليست في ذلك أكثر من الجزاءات الطبيعية، والجزاءات الإنسانية. فإما أنها ليست شاملة فالله يقول: {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} 1، وأما أنها ليست كاملة، فالله يقول: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة} 2. وبعد ذلك؛ لأن السعادة وضروب التعاسة مختلطة بعضها ببعض، في هذه الدنيا، فالصالحون يدفعون في الواقع ثمن أخطائهم، حق ما كان منها لممًا، من آلامهم، وما يلقون من عقبات في هذه الدنيا، والله يقول: {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ} 3، ويقول: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} 4، {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} 5 -هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى إن أحلك القلوب ظلمة، وأشد النفوس سوادًا لا تعدم أن تفعل بعض الخير، ولقد تكون هذه الأفعال مغرضة، أو عفوية، أعني: غاب فيها الإيمان بسلطة الأمر. ومع ذلك فإن هؤلاء لن يحرموا حرمانًا كاملًا من أجرهم، بل إن لهم على العكس مكافأة مضمونة، تدفع لهم فورًا، من طيبات هذه الدنيا. بحيث تبقى جرائمهم دون مقاصة، تنتظر الفصل يوم الدين، فـ {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ

_ 1 الشورى: 30. 2 آل عمران: 185. 3 آل عمران: 153. 4 آل عمران: 165. 5 النساء: 79.

إِلَّا النَّار وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1، وعليه فلن يبقى من هذا الاختلاط أي أثر ليوم الجزاء، فمتى ما استقر كل معسكر في مقامه الأبدي، فلن يكون هنالك سوى التهنئة الخالصة بالنسبة إلى بعضهم: {لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} 2، {وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ} 3، وسوى الفزع الدائم بلا انقطاع للآخرين، بحيث: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} 4. وأخيرًا؛ لأن ما يحدث لنا من خير وشر خلال حياتنا الدنيا، لا ينبغي أن يتصور على حدة، على أنه ثواب أو تكفير عن أعمالنا التي قمنا بها، بل على أنه ابتلاء، ومحرك لجهدنا: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} 5. فمن هذا الاعتبار الثلاثي تنبع ضرورة جزاء، لا يقتصر على كونه كاملًا وخالصًا فحسب، ولكن يكون حسابيًّا محضًا، لا وقائيًّا، فهو ثمرة نهائية للجهد، وليس حثًّا على بذل المزيد منه. وهكذا ينبغي أن يقابل هذا العالم الحافل بالتكاليف المتكاثرة دائمًا -عالم من المحاسبات، نتصوره على هذا النحو فحسب. فكيف سلك القرآن ليؤدي هذا التحذير؟ ذلكم هو ما سنمضي في دراسته الآن، حتى نهاية الفصل.

_ 1 11/ 15-16، وانظر أيضًا: 17/ 18 و42/ 20 و46/ 20. 2 18/ 108. 3 35/ 30. 4 35/ 36. 5 2/ 214 و3/ 140 و141 و142 و152 و166 و9/ 16 و21/ 35 و29/ 2 و3 و30/ 41 و32/ 21 و47/ 31.

الجزاء الإلهي في الحياة الأخرى

ب- الجزاء الإلهي في الحياة الأخرى: والآيات القرآنية لا تعالج كلها هذه الفكرة بنفس الطريقة، فبعضها لا يعطينا منها سوى فكرة عامة غير محددة، والآخر يمنحها تحديدًا يتفاوت في درجة دقته، وقد يكون سلبيًّا أو إيجابيًّا، ماديًّا، أو روحيًّا. وعلينا إذن أن نميز هنا نماذج عدة: أ- لنذكر أولًا الآيات التي تكتفي -لكي تعين للصالحين والعاصين مصائرهم الخاصة- بذكر الاسم النوعي لمقامهم الأبدي، جنة أو نار1، دون أن تذكر لهما أية تفاصيل: "= 80 أو58 ب".

_ 1 الجنة: 2/ 82 و3/ 185 و4/ 124 و9/ 21 و111 و11/ 23 و108 و18/ 107 و22/ 5-6 و23/ 22 و25/ 15 و26/ 90 و31/ 8 و32/ 19 و39/ 73 و40/ 8 و41/ 30 و42/ 7 و46/ 14 و16 و47/ 6 و50/ 31 و59/ 20 و68/ 34 و79/ 41 و81/ 13 و89/ 30 "= 19 أو8 ب". النار: 2/ 39 و81 و167 و206 و217 و257 و275 و3/ 12 و116 و131 و151 و162 و196 و4/ 10 و14 و30 و93 و97 و115 و121 و140 و169 و5/ 10 و37 و72 و86 و6/ 128 و7/ 18 و36 و8/ 14 و16 و36 و37 و9/ 17 و49 و63 و68 و73 و95 و113 و10/ 8 و11/ 16 و17 و98 و113 و119 و13/ 18 و35 و14/ 29 و30 و16/ 29 و62 و17/ 63 و18/ 100 و102 و106 و19/ 72 و86 و21/ 29 و22/ 4 و51 و72 و24/ 57 و25/ 65 و26/ 91 و29/ 25 و68 و32/ 13 و33/ 64 و34/ 42 و36/ 63 و38/ 27 و85 و39/ 8 و19 و32 و60 و71 و72 و40/ 6 و8 و76 و41/ 19 و24 و28 و42/ 7 و43/ 74 و45/ 34 و46/ 24 و47/ 12 و48/ 6 و13 و50/ 24 و51/ 13 و57/ 15 و19 و58/ 8 و59/ 3 و64/ 10 و66/ 9 و10 و72/ 23 و79/ 39 و81/ 12 و82/ 14 و83/ 16 و84/ 12 و87/ 12 و92/ 14 و98/ 6 و111/ 3 "= 61 أو50 ب".

ب- وفي مجموعة أخرى من الآيات لم يصرح باسم الدار الآخرة، كما أن المصير الذي تعلنه خاصًّا بكلٍّ، قد جاء في صورة تتفاوت في غموضها. فقد أعلن للصالحين: - البشرى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} 1. - الأمل والرجاء: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} 2 - الوعد الحسن: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} . - الفوز: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} 4. - الفضل الكبير: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} 5. - عملهم لا يضيع: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} 6. - عملهم لا ينكر: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} 7.

_ 1 2/ 97 و223 و9/ 112 و10/ 64 و22/ 34 و37 و27/ 2 و39/ 17 و46/ 12 "= 4 أو5 ب". 2 4/ 104 و18/ 46 و35/ 2 و29 "= أو1 ب". 3 4/ 95 و28/ 61 "= 1 أو1 ب". 4 23/ 111 و24/ 52 و33/ 71 و40/ 51 "=2 أو2 ب". 5 33/ 47 "= 1 ب". 6 2/ 143 و3/ 171 و193 "= 3 ب". 7 3/ 115 و21/ 94 "= 1 أو1 ب".

- ولهم على الله أن يشكرهم: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} 1. - وهم المفلحون: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} 2. - ولهم حسن المآب: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} 3. - وهو خير لهم: {ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّه} 4. - ولسوف يجد المحسنون ما يقدمون: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} 5. - ولسوف يكون عملهم أكثر حسنًا: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} 6. - ثم يستردونه كاملًا: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} 7.

_ 1 2/ 158 و4/ 147 و17/ 19 و42/ 23 و64/ 17 "= 2 أو3 ب". 2 2/ 5 و189 و3/ 104 و130 و5/ 90 و7/ 8 و157 و8/ 45 و22/ 77 و23/ 1 و102 و24/ 31 و51 و28/ 67 و30/ 38 و31/ 5 و59/ 9 و62/ 10 و64/ 16 و87/ 14 و91/ 9 "= 9 أو12 ب". 3 3/ 14 و4/ 59 و11/ 49 و13/ 29 و17/ 35 و19/ 76 و 20/ 132 و28/ 83 و43/ 35 "= 7 أو2 ب". 4 2/ 184 مكررة و197 و271 و280 و3/ 110 و4/ 25 و46 و170 و9/ 3 و41 و74 و16/ 126 و18/ 46 و19/ 76 و22/ 30 و24/ 27 و60 و29/ 16 و30/ 38 و47/ 21 و64/ 16 "= 5 أو17 ب". 5 2/ 110 و3/ 30 و99/ 7 "= 1 أو2 ب". 6 42/ 23 و73/ 20 "= 1 أو1 ب". 7 2/ 272 و3/ 57 و4/ 173 و8/ 60 و20/ 112 و35/ 30 و39/ 10 و49/ 14 و72/ 13 "= 4 أو6 ب".

- وسيكون مضاعفًا: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} 1. - تبعًا لأفضل أعمالهم: {بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون} 2. - بل ولهم زيادة عليه: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 3. - والله ضامن أجرهم: {وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّه} 4. - وهو أجر عظيم: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} 5. - خير مما فعلوا: {فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} 6. - وهو أجر كريم: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} 7. - لا انقطاع له: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} 8.

_ 1 2/ 245 و261 و276 و4/ 40 و30/ 39 و34/ 37 و57/ 18 و64/ 17 "= 3 أو5 ب". 2 16/ 96-97 و24/ 38 "= 1 أو1 ب". 3 4/ 40 و173 و10/ 26 و30/ 45 و42/ 26 "= 3 أو2 ب". 4 2/ 61 و112 و262 و274 و277 و3/ 199 و4/ 100 و152 و7/ 170 و9/ 120 و11/ 115 و42/ 40 و47/ 36 و57/ 19 "= 4 أو10 ب". 5 3/ 172 و179 و4/ 67 و74 و114 و146 و162 و17/ 9 و18/ 2 و22/ 58 و33/ 29 و35 و44 و35/ 7 و48/ 10 و16 و29 و49/ 3 و62/ 7 و65/ 5 و67/ 12 "= 5 أو16 ب". 6 2/ 103 و27/ 89 و28/ 84 "= 2 أو1 ب". 7 8/ 4 و74 و22/ 50 و24/ 26 و33/ 31 و44 و34/ 4 و36/ 11 و57/ 18 "= 3 أو6 ب". 8 4/ 8 و58/ 3 و84/ 25 و45/ 6 "= 4 أ".

- ولهم المقام الشريف المرضي: {وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ} 1. - ولهم عيشة راضية: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَة} 2. - وهي عيشة النعيم: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} 3. وقد بلغت الوعود بالسعادة على هذا النحو "= 66 أو100 ب". كذلك نجد أن الوعيد المقابل لهذا الوعود كثيرًا ما يتردد، ولكنه أقل تنوعًا، فإذا لم تكن صيغة الوعيد شديدة الغموض، كقوله تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} 4 -فإنه "الوعيد" ينحصر في القول بأن فاعلي الشر سوف يرد لهم نظيره، فالله سبحانه يدخر للكافرين، والظالمين، والمنافقين، والمستكبرين، والمجرمين, والعاصين بعامة -عقوبة قاسية، وعذابًا أليمًا، مخزيًا، خالدًا "94 أو66 ب"5.

_ 1 4/ 31 و22/ 59 "= 2 ب". 2 101/ 7 "= 1 أ". 3 82/ 13 "= 1 أ". 4 مثلًا: 26/ 227 و28/ 61 و43/ 83 و46/ 12 و50/ 45 و99/ 8. 5- 2/ 7 و10 و79 و85 و90 و96 و104 و114 و162 و165 و174 و178 و196 و211 و3/ 4 و21 و56 و77 و88 و91 و105 و106 و176 و177 و178 و188 و4/ 18 و37 و102 و138 و151 و161 و173 و5/ 2 و32 و36 و73 و80 و94 و95 و6/ 49 و93 و147 و157 و160 و8/ 25 و9/ 3 و61 و74 و79 و90 و101 و10/ 15 و27 و52 و70 و11/ 3 و12/ 110 و13/ 25 و34 و14/ 2 و22 و16/ 63 و88 و94 و104 و106 و117 و17/ 10 و18/ 2 و19/ 37 و79 و20/ 127 و22/ 18 و25 و57 و24/ 11. و19 و23 و63 و25/ 19 و27 و69 و26/ 213 و27/ 5 و28/ 64 و84 و29/ 23 و30/ 16 و31/ 6 و7 و24 و32/ 22 و33/ 8 و30 و57 و73 و34/ 5 و8 و38 و35/ 7 و10 و37/ 33 و38 و38/ 26 و39/ 13 و26 و47 و54 و55 و41/ 6 و27 و50 و42/ 16 و21 و26 و42 و45 و43/ 39 و65 و45/ 7 و8/ و9 و10 و11 و46/ 20 و48/ 16 و17 و51/ 60 و52/ 7 و45 و57/ 13 و20 و58/ 4 و5 و15 و16 و59/ 4 و7 و15 و64/ 5 و65/ 10 و67/ 28 و68/ 33 و70/ 1 و72/ 17 و76/ 31 و77/ 15 و19 و24 و28 و34 و37 و40 و45 و47 و49 و83/ 1 و84/ 24 و88/ 24 و107/ 4 ".

جـ- ما الجنة، وما الجحيم في المفهوم القرآني؟ وما طبيعة هذا الثواب، وذاك العقاب؟ إننا حتى الآن لا ندري شيئًا عنهما، وقد قدمهما لنا القرآن في الموضوعات السابقة بشكل مزدوج، روحي ومادي، يحتوي تارة طابعًا إيجابيًّا، وتارة طابعًا سلبيًّا. ولسوف ندرس كلا هذين الجانبين من الحياة الآخرة، كلًّا على حدة، بقدر ما يتسنى ذلك، ولكن لنقل ابتداء، كلمة عن مرحلة الانتقال بين الحياتين. تذوق أولي للمصير: يتلقى الصالحون منذ اللحظة التي تدعى فيها أنفسهم إلى بارئها، البشرى التي تنتظرهم، وتتلقاهم الملائكة بالتحية، وفي ذلك يقول القرآن: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون} 1، ويكون الشهداء بخاصة:

_ 1 النحل: 32.

{فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 1. أما الهالكون فإنهم يبدءون مع الخفقة الأخيرة من حياتهم في مواجهة الواقع المرير: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} 2، {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} 3. أما فيما يتعلق بالفترة التي تفصل الموت عن البعث، فإن القرآن لا يعطي تفاصيل عنها، وإنما قال فقط بصدد حديثه عن قوم نوح: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} 4، وبمناسبة الحديث عن فرعون وقومه: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} 5. ولكن السُّنة تتحدث أيضًا عن تلك الضربات المروعة التي يوجهها الملائكة إلى الكافرين، كأنما هم يعذبونهم، على إثر سؤال يتعرضون له بعد أن يدفنوا في القبور. والسُّنة تقرر بصفة عامة أن الموتى في أجداثهم يشعرون بالفرح وبالحزن، وهم يرون ما أعد لهم في الدار الآخرة، حين يعرض عليهم بكرة وأصيلًا،

_ 1 آل عمران: 170. 2 الأنعام: 93. 3 الأنفال: 50، وانظر 47/ 27. 4 نوح: 25. 5 غافر: 46.

وقد روى البخاري عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا مات أحدكم فإنه يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي، فإن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار" 1. بيد أن القرآن يصف بالتفصيل حياة أهل الجنة، وأهل النار بعد البعث، ولسوف نرى في هذا الوصف كيف يسير العنصر الأخلاقي، والعنصر المادي معًا دائمًا، جنبًا إلى جنب، ولسوف نتناول بالتحليل والتصنيف الآيات القرآنية تحت العنوانين التاليين، وهي الآيات الخاصة بالنهاية السعيدة لضيوف السماء، وبالمصائر المتعلقة بحظ الهالكين التعيس. الجنة: المتع الروحية: يتحدد الجانب الروحي من السعادة العلوية -أولًا- بصورة سلبية بوساطة الوعود التالية: - بالأمن وعدم الخوف: {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} 2. - فلا حزن: {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 3.

_ 1 صحيح البخاري, كتاب بدء الخلق، باب 7. 2 2/ 38 و62 و112 و262 و274 و277 و3/ 170 و5/ 69 و6/ 48 و7/ 35 و49 و10/ 62 و15/ 46 و27/ 89 و34/ 37 و41/ 30 و40 و43/ 63 و44/ 55 و46/ 13 "= 12 أو8 ب". 3 2/ 38 و62 و112 و262 و274 و277 و3/ 70 و5/ 69 و6/ 48 و7/ 35 و49 و10/ 62 و21/ 103 و35/ 34 و39/ 81 و41/ 30 و43/ 68 و46/ 3 "= 10 أو8 ب".

- ولا خزي: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} 1. - تكفير السيئات، ومغفرة الذنوب: {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} ، {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} 2. - الرحمة "حين3 تتجلى في دفع الشرور عمن يحبهم الله": {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 4. بيد أن الفرح الروحي الإيجابي أكثر تنوعًا، فحياة السعداء هي حياة: - أخوة وحب متبادل: "مبرأ من كل غل أو حسد": {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} 5.

_ 1 66/ 8 "= 1 ب". 2 2/ 268 و271 و3/ 133 و136 و157 و195 و4/ 31 و129 و5/ 9 و65 و8/ 4 و29 و74 و11/ 11 و24/ 22 و26 و29/ 7 و33/ 35 و71 و34/ 4 و35/ 7 و36/ 11 و39/ 35 و40/ 7 و42/ 25 و46/ 16 و31 و47/ 2 و48/ 5 و29 و49/ 3 و57/ 20 و21 و28 و59/ 12 و64/ 9 و17 و65/ 5 و66/ 8 و67/ 12 "= 16 أو24 ب". 3 بلغت مرونة بعض الألفاظ العربية إلى حد أن مدلول الكلمة الواحدة يتسع، ويضيق، ويتلون في صور مختلفة تبعًا لكونه وحده، أو مصحوبًا بهذا اللفظ أو ذاك، مما له صلة به، ومن هذا العدد يمكن أن نعد كلمة "رحمة"، فهي إذا قرنت بكلمة "رأفة" تؤدي وظيفة إيجابية، وتعني "الكرم"، ولكنها حين تشترك مع كلمة "فضل" تؤدي دورًا أكثر سلبية، وتعني آنذاك التخليص من العقوبة، والحفظ من الشرور. وأخيرًا حين تكون وحدها، فإنها قد تؤدي المعنيين مرة واحدة، وهكذا يوجد عنصر الحماية في الحالتين الأخيرتين، {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} , {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} الآيتان: [الأنعام: 16] , و [غافر: 9] . 4 2/ 218 و3/ 107 و132 و157 و4/ 129 و175 و6/ 155 و7/ 57 و204 و9/ 21 و71 و99 و10/ 58 و19/ 85 و24/ 56 و27/ 46 و36/ 58 و42/ 8 و43/ 32 و45/ 30 و49/ 10 و57/ 13 و76/ 31 "= 12 أو11 ب". 5 7/ 43 و15/ 47 و19/ 96 و43/ 67 "= 4 أ".

- وتأمل في الجمال الإلهي: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 1. - وحبور واستبشار: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} ، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ، ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} 2. - وشرف ورفعة: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} 3. - ولسوف تضيء السعادة وجوهم: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ} 4. - ولسوف يشعرون بتفوقهم على خصومهم: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 5. - وهم في مسعاهم إلى الجنة سوف يحوطهم النور: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} 6. - ولسوف يكونون: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} 7.

_ 1 75/ 23 "= 1 أ". 2 30/ 15 و34/ 70 و76/ 11 و80/ 39 و84/ 9 "= 5 أ". 3 17/ 79 و37/ 42 و70/ 35 "= 3 أ". 4 3/ 106 و75/ 22 و76/ 2 و80/ 38 و83/ 24 و88/ 8 "= 5 أو1 ب". 5 2/ 212 و83/ 29 "= 1 أو1 ب". 6 57/ 12 و19 و66/ 8 "= 2 أو1 ب". 7 4/ 69 و29/ 9 و89/ 29 "= 2 أو1 ب".

- وفي صحبة أسرهم وأصدقائهم: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} 1. - وحين يصلون تستقبلهم الملائكة، يحيونهم، ويقولون: {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُون} 2. - فإذا ما استقروا زارتهم الملائكة الذين: {يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} بكل تهنئة، وأماني سلام: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} 3. - وإذا استقبلهم الرحيم فإن لهم: {قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِم} 4. - و {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} ، {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيم} 5. - وسوف يقربهم إليه: {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُون} 6. - ويجعلهم في أعلى عليين: {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً} 7.

_ 1 13/ 23 و36/ 56 و40/ 8 و43/ 70 و52/ 21 "= 5 أ". 2 21/ 103 و39/ 73 "= 2 أ". 3 13/ 23 و24 "= 2 أ". 4 10/ 2 "= 1 أ". 5 33/ 44 و36/ 58 "= 1 أو1 ب". 6 56/ 11 "= 1 أ". 7 4/ 96 و8/ 4 و9/ 20 و58/ 11 "= 4 ب".

- فمكانهم هو أعظم مكان لدى القادر المقتدر: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} 1. - ومنالهم هو رضوانه: {وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} 2. - وكما يرضى الله عنهم يرضون عنه، فهو رضا متبادل: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} 3. - فسعادتهم مزدوجة؛ لأنهم يكونون فرحين بما قدموا، راضين عن أنفسهم: {لِسَعْيِهَا رَاضِيَة} 4. - وكما يكونون راضين عن مصيرهم، فإنهم يرددون دائمًا حمدًا لله على ما هداههم، وعلى أن وهبهم ما وعدهم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} ، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} 5. - ولا وجود لأحاديث اللغو، والباطل، والإثم، والاتهام بالإثم؛ لأنهم: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا} 6. - بل هو السلام المتبادل: {إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} 7. - وتسبيح الله الأعلى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} 8.

_ 1 54/ 55 "= 1 أ". 2 3/ 15 و57/ 20 "= 1 أو1 ب". 3 5/ 119 و9/ 100 و58/ 22 و89/ 28 و92/ 21 و98/ 8 "= 2 أو4 ب". 4 88/ 9"= 1 أ". 5 7/ 43 و44 و39/ 74 "= 3 أ". 6 19/ 62 و56/ 25 و88/ 11 "= 3 أ". 7 10/ 10 و14/ 23 و19/ 62 و25/ 75 و56/ 26 "= 5 أ". 8 10/ 10 "= 1 أ".

وهكذا نجد أن النصوص التي تذكر المتعة الروحية في السماء قد بلغت عددًا "= 102 أو70 ب". السعادة الحسية: وإنها لمسألة أن نعرف ما إذا كان للنفس أن تقدر على التمتع الكامل الحر، بسعادتها الذاتية، عندما تتحد ببدن معذب، أو محروم محارب في حاجاته، أو حتى مصدوم في أذواقه الجمالية. ألا تستطيع قرصة ذبابة، أو ضوضاء محرك، ورائحة قوية، وحرارة زائدة، وبرد شديد -أن تبعثر الانتباه المكب على أمور مجردة، بصورة تتفاوت عمقًا، متى ما أحسن المرء بها؟ ألا يعني تجنيب البدن هذه المكاره، وتوفير هدوء كامل بقدر الإمكان له -أننا في نفس الوقت نحرر الروح، ونتيح لها أعظم حالات الازدهار؟ حسبنا أن نقول هذا كيما نسوغ اهتمامنا بصحتنا، وبراحتنا، وابتعادنا عن الألم، وعن الموت، وحتى نقيم ذلك كله على أساس أخلاقي. وانطلاقًا من هذا الرأي نقرر أن أي نظام للثواب الأخلاقي لا يلبي هذه المطالب الأولية للحياة المادية -سوف يكون بكل جلاء نظامًا أبتر مشوهًا. وما كان هذا النقص بالذي يمكن أن نلحظه في النظام القرآني؛ ذلك أنه لا يقتصر على أن يضمن للصالحين في الدار الآخرة عدم الموت فحسب، وهو قوله تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ} 1، أو الحماية من الشرور. وهو قوله: {لا يَمَسُّهُمُ السُّوء} 2، بل إنه يضمن أيضًا إبعادهم عن أماكن العذاب، {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ، لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} 3، ويضمن لهم الراحة {فَرَوْحٌ

_ 1 44/ 56. 2 39/ 61 و40/ 7 و9 و44/ 56 و46/ 31 و52/ 18 و27 و59/ 10 و66/ 6 و76/ 11 و92/ 17. 3 21/ 101 و102.

وَرَيْحَانٌ} ، {لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَب} 1، وبمنتهى الإيجاز: يضمن لهم السلام: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِين} 2 وللجنة في لغة القرآن مرادف هو {دَارُ السَّلامِ} 3. لكن ذلك ليس إلا جانبًا سلبيًّا، والناس لا يبدو عليهم الرضا الكامل لمجرد أنهم لا يتألمون فعلًا، فلقد أظهرت الإنسانية في كل زمان اتجاهها الطبيعي إلى أن توفر لنفسها نسبة معينة من الرفاهية الإيجابية، وإلى أن تحسن ظروف حياتها. وليس للعلم أو الصناعة من غاية في سعيهما غير هذه الغاية، وهو أمر يمكن تسويغه من جانب آخر، إذا ما لاحظنا أن كل تحسين يطرأ يجب أن يكون ادخارًا لجهد مادي وفرصة إضافية لازدهار الروح في آن واحد. ومن أسف أن الصراع من أجل رفاهية الحياة ليس قريبًا من النهاية -على الرغم من تقدم العلم، وإبداع الفن، بل وربما كان ذلك بسبب هذا التقدم، وذلك الإبداع!! فالصراع يزداد على العكس بنسبة التقدم والإبداع، وكلما كسب الإنسان نقطة أثارت شهيته إلى درجة أرقى، ولكي يبلغها يجب أن يلجأ إلى نظام للآلة، يزداد كل حين تعقيدًا. ومن هنا كانت ضرورة الأبحاث الجديدة، والجهود المتجددة، وهكذا إلى ما لا نهاية له. والأمر كذلك إذا ما أريد الإبقاء على الأشياء في الحال التي بلغتها، فمن الضروري أن نرقبها ببذل مزيد من الجهد في المحافظة عليها دائمًا، حتى نمنع تركيبنا الصناعي من التفسخ، فتعود عناصره إلى حالتها البدائية؛ بحيث

_ 1 15/ 48 و35/ 35 و56/ 89. 2 15/ 46 و50/ 34 و56/ 91. 3 6/ 127 و10/ 25.

نستطيع أن نقول: إننا ننهمك في البحث عن راحتنا وقتًا أطول عمومًا من تمتعنا بها، حتى لقد أصبح ما كان مجرد وسيلة وقد بلغ في جهودنا مبلغ غاية حقيقية لكثرة ما شغلنا به. أما أننا يجب أن نرى في هذا البحث الجامع عن السعادة المادية انحرافًا في الضمير المعاصر، فنحن نسلم بذلك، ولكن الدفعة الأولية تأتي من اتجاه أعمق من أن ننكره، وإن أسينا له. ألم يكن مما يتمناه في الواقع كل ضمير مرهف أن يصبح الإنسان مستغنيًا عن كل هذه الضرورات المادية، حتى يعكف على اهتمامات أكثر نبلًا، وأكثر اتفاقًا مع النزعة الإنسانية؟ إن هناك وسيلتين أمام العاقل كيلا تستهويه مطلقًا هذه الميول الحسية، الأولى: أن يقاوم هذه الاتجاهات، وأن يردها إلى حال من الجمود، وهي محاولات شرسة مصطنعة، تنتهي إلى الإخفاق في الظروف الطبيعية المتاحة. والوسيلة الأخرى إشباعها في اعتدال وتناسب، كلما ظهرت، وبشرط ألا يتطلب هذا الإشباع منه تضحية بوقت، أو قوة لازمة لتهذيب الروح. ويبقى من المسلم في حالة العكس أن من الأفضل أن نمر بها مرور الكرام، فلا نبحث فيها إلا عن الحد الأدنى الضروري للحياة. وإذن فسواء أكانت جهودنا في هذا الاتجاه كبيرة أم صغيرة، فإنها لا تجلب لنا سوى سعادة محدودة، بل إنها في الوقت نفسه تهدد طهارة حياة الروح وكمالها. ولنفرض على العكس أن جميع المتع المرغوبة والمشروعة، روحية ومادية،

قد قدمت إلينا، وأننا لم نعد في حاجة إلى السعي وراءها ألا نكون بذلك قد كسبنا كل شيء دون أن نخسر شيئًا؟ أليس هذا هو المثل الأعلى؟ وإذا كان هذا المثل الأعلى لا يمكن أن يتحقق في دنيا الابتلاء هذه، فما الذي يمنع أن يتحقق في عالم الجزاء؟ ولماذا يريد البعض أن يكون الأمر غير ذلك؟ لماذا يريدون بأي ثمن إقصاء كل عنصر حسي وإيجابي من السعادة السماوية؟ هل يضر نظام الطبيعة وجمالها بنظام الروح وجمالها؟ أليسا غالبًا قوامها وعمادها؟ ... لا ريب أن العاقل حين يعلم قدرهما الزهيد لن يلتمسهما لذاتهما، كما أنه لن يرفضهما إذا ما أتيحا له. أمن حقنا أن نرفض يدًا تمتد إلينا في صداقة لتقدم إلينا هدية، أو لتعلق على صدرنا حلية؟ إن قيمة هذه الأشياء تكمن أقل ما تكون في مادتها، عنها في معناها ومدلولها، إنها رموز وشواهد على الرضا، الذي لا يمكن أن نرفضه في مواجهة مهديها، إلا إذا أخللنا بالذوق الأخلاقي. من هذه الزاوية يجب في رأينا أن نتصور وصف القرآن للجنة، وهو وصف قلما ينافي فيه سرور القلب جاذبية الإطار الشعري الذي يظهر فيه. ولقد سبق أن استخرجنا الجانب الروحي من السعادة العلوية في مظهرها المزدوج، الإيجابي والسلبي، ورأينا المظهر المادي السلبي من الإسلام، فلنر الآن بأي جمال حسي يقدم القرآن لنا "الملك الكبير" في السماء، وهو

المشار إليه في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} 1. تصور أولًا جنة رحيبة، رحيبة لدرجة أن: {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} 2، فكل من فيها يتمتع بحرية التنقل، والاستقرار حيثما يريد: {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} 3. جنة ذات {ظِلٍّ مَمْدُود} 4, دائمًا، وذات مناخ معتدل، لا يفسده حر شمس، ولا قسوة برد: {لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا} 5. فهو مقام سعيد للابتراد: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} 6، ومجال تخترقه الأنهار: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} 7، وهي: {أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} 8. وفي الجنة تتفجر الينابيع: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُون} 9، وهي العيون ذات العطور المختلفة التي تمزج بها الخمر اللذيذة: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} ، {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا

_ 1 76/ 20. 2 3/ 133 و57/ 21 "= 1 أو1 ب". 3 39/ 70 "= 1 أ". 4 4/ 57 و13/ 35 و36/ 56 و56/ 30 و76/ 14 و77/ 41 "= 5 أو1 ب". 5 76/ 31 "= 1 أ". 6 25/ 24 "= 1 أ". 7 54/ 54 "= 1 أ". 8 47/ 15 "= 1 أ". 9 15/ 45 و44/ 52 و55/ 50 و66 و56/ 31 و77/ 41 و88/ 12 "= 7 أ".

زَنْجَبِيلًا} 1. وفي تلك البقاع المباركة: {فَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} 2، تدنو منهم لتصبح على أفرعها في متناول أيديهم؛ لأن {قُطُوفُهَا دَانِيَة} 3، وهي فاكهة {لا مَقْطُوعَةٍ} 4, {وَلا مَمْنُوعَةٍ} 5. وتصور بعد ذلك أن هذا البساط الرحيب الأخضر، المحلى بخيوط الفضة قد برزت فيه {مَسَاكِنَ طَيِّبَةً} 6، وفي هذه المساكن {غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} ، {فِي جَنَّةٍ عَالِيَة} 7، وهي على شاطئ الماء، أو بعبارة أخرى: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} 8، وهي معدة إعدادًا رائعًا: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَة} 9 و {سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} 10, نسجها من الذهب والأحجار الكريمة، محلاة بفرش {بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} 11، وفيها كذلك: {وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ، وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ، وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَة} 12.

_ 1 76/ 5 و17 و83/ 27 "= 3 أ". 2 36/ 57 و47/ 15 و55/ 68 و77/ 42 و78/ 32 و43/ 73 و55/ 52 و56/ 32 "= 7 أو1 ب". 3 55/ 54 و69/ 23 و76/ 14 "= 3 أ". 4 13/ 35 و56/ 33 "= 2 أ". 5 56/ 33 "= 1 أ". 6 9/ 72 و61/ 12 "= 2 ب". 7 25/ 75 و29/ 58 و34/ 37 و39/ 20 و69/ 22 و88/ 10 "= 6 أ". 8 2/ 25 و3/ 15 و136 و195 و198 و4/ 13 و57 و122 و5/ 85 و7/ 43 و9/ 72 و89 و10/ 9 و14/ 22 و16/ 31 و18/ 31 و22/ 14 و23 و39/ 58 و47/ 12 و48/ 5 و17 و57/ 12 و58/ 22 و61/ 12 و64/ 9 و65/ 11 و85/ 11 و98/ 8 "= 9 أو20 ب". 9 56/ 34 و88/ 13 "= 2 أ". 10 56/ 15 "= 1 أ". 11 55/ 54 "= 1 أ". 12 88/ 14-16 "= 1 أ".

وتصور أخيرًا هذه القصور الفخمة، الحافلة بنوع من الحياة الملكية، على مستوى عظيم، خلال أمسية باهرة: جماعة ملتئمة من الرجال والنساء والأولاد، أقارب وأحباب، {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} 1. ولكل منهم زينته وحليته: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ} 2. وكسوة الحرير: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِير} 3، ذو لون مريح: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا} 4، وقد استندوا في مقاعدهم: {مُتَّكِئِين} 5, {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض} في مودة وحب؛ لأنهم يجلسون: {مُتَقَابِلِين} 6، يتحادثون في سرور، ويستدعون ذكرياتهم البعيدة، وهم: {يَتَسَاءَلُونَ} 7، مستغرقين في سعادتهم؛ لأنهم: {فِي شُغُلٍ فَاكِهُون} 8. وليس عليهم إلا أن يأمروا بما يشاءون: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} 9، فإن في طاعتهم غلمانًا يطوفون عليهم، وهم: {مُخَلَّدُون إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا} 10، يحملون في أيديهم صحافًا: {مِنْ ذَهَب

_ 1 13/ 23 و36/ 56 و40/ 8 و43/ 70 و52/ 21 "= 5 أ". 2 18/ 31 و22/ 23 و35/ 33 و76/ 21 "= 3 أو1 ب". 3 نفس الآيات و44/ 53 "= 1 أ". 4 18/ 31 و76/ 21 "= 2 أ". 5 15/ 47 و18/ 31 و36/ 56 و37/ 44 و38/ 51 و52/ 20 و76/ 13 و83/ 12 "= 8 أ". 6 15/ 47 و37/ 44 و44/ 53 و56/ 6 "= 4 أ". 7 37/ 50 و52/ 25 و74/ 40 "= 3 أ". 8 36/ 55 "= 1 أ". 9 36/ 57 و38/ 51 و44/ 55 "= 3 أ". 10 52/ 24 و56/ 17 و86/ 19 "= 3 أ".

وَأَكْوَاب} 1، {وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِين} 2، وأواني أخرى من فضة: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ} 3، وكل ذلك مع: {رِزْقٌ مَعْلُومٌ} 4، {بُكْرَةً وَعَشِيًّا} 5. وهنالك يسارع الغلمان بأن يقدموا إليهم ما يشتهون من: {شَرَاب} 6، {وَلَحْمِ طَيْر} 7، {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} 8. مجموع هذه التفاصيل: "= 97 أو27 ب". وفي كلمة واحدة: كل {مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} 9، سوف يكون في حوزة عباد الله المخلصين، و {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} 10 بل وأكثر: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} 11. وهكذا يكتمل القول في: "=4 أ". اجمع الخطوط الثلاثة التي رسمناها عن الأرض، والمبنى، والسكان، وضعها على الأساس الأخلاقي والروحي الذي عرضناه من قبل، وحينئذ سوف تجد بين يديك اللوحة القرآنية، عن حياة الفردوس، بقدر ما تطيقه لغة الفانين، ومداركهم.

_ 1 43/ 7 "= 1 أ". 2 56/ 18 "= 1 أ". 3 76/ 15 "= 1 أ". 4 37/ 41 "= 1 أ". 5 19/ 62 "= 1 أ". 6 37/ 45 و52/ 23 و56/ 18 و76/ 17 و78/ 34 و83/ 25 "= 6 أ". 7 52/ 22 و56/ 21 "= 2 أ". 8 2/ 25 و52/ 22 و56/ 20 "= 2 أو1 ب". 9 43/ 71 "= 1 أ". 10 16/ 31 و39/ 34 "= 2 أ". 11 50/ 35 "= 1 أ".

على أن هنالك بعض الملاحظات الجديرة بالذكر قبل أن ندع مقام السعداء: أولًا: أن القرآن لا يكتفي بأن يعدد هذه المتع المختلفة: الأخلاقية والمادية، التي توجد في الجنة، فلقد أثبت أن بينها تدرجًا في القيم، بحيث إنه يحتفظ للأشياء الروحية بأعلى درجة، وهو يعلمنا أن بين جميع أشكال النعيم التي تقدمها السماء نعيمًا واحدًا لا يمكن تقدير قيمته، وهو رضا الله تبارك وتعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} 1. إن رحمة الله وفضله بصفة عامة هما بالنسبة إلى القرآن أثمن الأهداف، وأقدرها على تحقيق فرح الإنسان: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} ، {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} 2. وإذا كان المثل العربي يقول: "الجار قبل الدار" -أوَليست هذه الفكرة ذاتها هي التي يوحي إلينا بها القرآن عندما وجدناه -وهو يجمع بين نوعي السعادة التي وعدت بها الأنفس المطمئة- يسمح أولًا بدخولها العظيم في المجتمع الإلهي، ثم يرد ذكر الجنة بطريقة ثانوية، وفي المكان الأخير: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي} 3؟ ثانيًا: وإذا كانت ضرورة التحليل، وسهولة الإحصاء قد اضطرانا إلى أن نفرد العنصرين المكونين للحياة السعيدة، وأن نبني كلًّا منهما على حدة، فإن الأمر لا يجري على هذا النحو في النص، فليس في القرآن هذا الفصل المقصود، بل إن الصورة التي كوناها آنفًا لكل منهما لا توجد فيها، في أي

_ 1 9/ 72. 2 10/ 58 و43/ 32. 3 89/ 29-30.

مكان، كاملة على هذا النحو، إنها فيه مجزأة، موزعة على سور كثيرة، بحيث لا نعثر في أغلب الأحيان، في كل مكان، إلا على بعض السطور القليلة، كأنما هي موجزة تذكر في أثناء الحديث. ولهذا المسلك في نظرنا مدلول مزدوج: إنه لا يحرص كثيرًا على أن يحدث في الروح هذا الأثر المضلل الناشئ عن صورة محدودة منتهية، لكي يكون بمنأى عن أن يثير الحس، أو يستنفد الفضول أو يشبعه. وإذا كان يلمس القلب فإنما يلمسه بحكمة واعتدال، ولكنه من ناحية أخرى لا يكشف لنا عن نفسه على أنه ثمرة علم بلغ هدفه منذ البداية، ولا على أنه ثمرة خيال جامح, كما افترضه بعضهم، لدى الإنسان الذي أبلغنا إياه، وإنما هو ثمرة تعليم منزه متدفق، يبدو مع ذلك أنه متصل بخطة توقيفية، لا تجارب فيها ولا تنقيحات. ثالثًا: وأبرز ملامح السعادة الحسية، أعني: أكثرها ذكرًا، موجود -كما رأينا- في تلك الإشارة إلى جنة {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} . وكل منا استطاع أن يجرب تلك اللذة التي يثيرها منظر الماء الجاري حين ينظر إليه من عل، وزد على ذلك أن في هذا دون شك أنزه ما يلذ النظر وأطهره، والقرآن يومئ إلينا منه بمعنى أكثر عمقًا، وبسعادة أحلى مذاقًا، ليس هو مطلقًا ذلكم الموقف الذي يثير الأحلام، ويلهم الشعر، ولكنه واقع أخلاقي في جوهره، هو: نسيان كل حزن، وذهاب كل حقد من القلوب: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} 1. رابعًا: أما فيما يتعلق بطعام الجنة اللذيذ، فإن التفسير يحدد بمقتضى تعبير الآية: {فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُون} أن ضيوف السماء سوف

_ 1 الأعراف: 43.

يتعاطونه لمجرد السرور والابتهاج، وليس حاجة إلى حفظ حياتهم أو صحتهم، ذلك أنهم لما كانوا قد منّ الله عليهم بأبدان لا تقبل الفساد -لم تعد بهم حاجة إلى أي وقاية1. خامسًا: وأكثر ما تنبغي ملاحظته تلك العناية التي يبديها القرآن، عندما يتحدث عن شراب السماء, فهو ينفي عنه صفة الاغتيال التي تتصف بها عادة المشروبات المعروفة في الحياة الدنيا، ويقول القرآن في ذلك: إن الصالحين سوف يسقون: {شَرَابًا طَهُورًا} 2. ولن تغشي لذة الكأس على العقل؛ لأنها: {لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} 3، ولن يصيبهم منها صداع ولا وصب: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} 4، ولن يصحبها كذب ولا ثرثرة: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا} 5، ولن تؤدي بهم إلى إثم؛ لأنها: {لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} 6. سادسًا: نلاحظ نفس الاهتمام بموضوع الأزواج، الذي تعد مرات ذكره -مع ذلك- قليلة نسبيًّا. فالقرآن لم ترد فيه أية إشارة إلى معاشرة الرجال للنساء "في الجنة"، ليس ذلك فحسب، بل إنه -بعد أن حدد أن النساء سوف يكن أبكارًا {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} 7، وسوف يظللن كذلك أبدًا- قال: إن الحياة معهن ستكون حياة حب متبادل؛ لأنهن سيكن

_ 1 انظر: جلال الدين، تفسير الآية المذكورة, الصافات: 42. 2 الإنسان: 21. 3 الصافات: 47. 4 الواقعة: 19. 5 النبأ: 35. 6 الطور: 33. 7 الواقعة: 36.

{عُرُبًا} 1، وهو حب بين شباب من سن واحدة: {وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا} 2. أيجب أن ندهش لهذة اللغة النبيلة من كتاب يرى أن خير الزواج في حياتنا الدنيا هو قبل كل شيء في تلك السكينة الباطنة التي يشعر بها الرجل لدى رفيقة مشتقة من نفسه، وهو في المودة والحنان الذي أودعه الله بينهما: {خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} 3؟؟ ونلاحظ من ناحية أخرى أن الصفات الأخلاقية تزاحم الصفات المادية في نعت هؤلاء الرفيقات العلويات، ليس ذلك فحسب، ولكن العنصر الأخلاقي يتقدم على المادي، ومن ثم وجدنا: {أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَة} 4، و {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ} -أولًا- {حِسَانٌ} 5، و {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} -أولًا- {عِينٌ} 6، {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} 7، وهن {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَام} 8, لا يبرحنها. هذه الصفات الأخلاقية ذاتها هي التي أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نبني عليها اختيارنا الزوجي فقال: "تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها،

_ 1 الواقعة: 37، وهو جمع مفرده "عروب" وهي المرأة المتحببة إلى زوجها. 2 النبأ: 33, والكواعب جمع مفرده كاعب، وكعاب: ناهدة الثدي. 3 الروم: 21. 4 البقرة: 25، وآل عمران: 15, والنساء: 57. 5 الرحمن: 70. 6 الصافات: 48. 7 ص: 52. 8 الرحمن: 72

وجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك"1. سابعًا: وأخيرًا، عندما يتحدث القرآن عن أمور السماء لا ينبغي أن ننسى أنه يقصد إنشاءها خلقًا جديدًا، له أصالته المجهولة: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} ، {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} 2. والواقع أنه ما من إنسان يعلم ما أعد للمتواضعين، والمحسنين، والذاكرين الله في غالب أحوالهم، من مفاجآت جميلة، وإنعام يفوق خيالهم وقد حدث القرآن عن ذلك فقال: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} 3، وقال الله تعالى في حديث قدسي: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" 4، مما جعل ابن عباس يقول: وهو من أصوب المفسرين رأيًا بين صحابة النبي, صلى الله عليه وسلم: "ليس في الدنيا من الجنة شيء إلا الأسماء"5. بيد أنه لا يبدو أن هذه الأصالة تبلغ حد التخلص من الواقع المحسوس، فالنصوص تتجه إلى إقرار فرق في الدرجة بين الحياتين، أكثر من كونه فرقًا في الطبيعة. النار: هل نريد الآن صورة كاملة بقدر الإمكان عن مقام الهالكين، وما سوف يسامون من عذاب؟

_ 1 انظر: البخاري، كتاب النكاح, باب 16. 2 الواقعة: 35 و61. 3 السجدة: 17. 4 البخاري, كتاب التفسير, باب 30. 5 تفسير الطبري 1/ 174 ط. الحلبي 1954.

إن هذه المقابلة بين مقام الطائعين ومقام العاصين جلية لدرجة أن من الممكن أن نكون هذه الصورة بأن نتتبع السطور التي خططناها، فنضع في مكانها معطيات نقائضها، نقطة بنقطة، ولكن ليست بنا من حاجة أن نلجأ إلى هذا المنهج المسبق، فلنترك القرآن يتحدث، فذلك أولى بنا وأجدر. عقوبات أخلاقية سلبية: إن الجانب السلبي، أو بالأحرى: الحرماني، من العقوبة الأخلاقية المرصودة للظالمين ينحصر في الأحداث التالية: - حبوط أعمالهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} 1. - خيبة أملهم في الأوثان التي أشركوها مع الله: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ} 2. - يأسهم من رحمة الله: {أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي} 3. - ومن مغفرته: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} 4.

_ 1 2/ 217 و264 و266 و276 و3/ 22 و117 و5/ 5 و53 و7/ 147 و9/ 17 و52 و53 و69 و11/ 16 و14/ 18 و18/ 105 و24/ 39 و25/ 23 و33/ 19 و39/ 65 و47/ 9 و28 و32 و49/ 2 "= 6 أو18 ب". 2 6/ 94 و11/ 21 و16/ 87 و28/ 75 و35/ 14 و40/ 74 و41/ 84 و46/ 28 "= 8 أ". 3 29/ 23 "= 1 أ". 4 4/ 137 و168 و47/ 34 "= 3 ب".

- ومن رؤيته: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُون} 1. - ومن نظره وتزكيته: {وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ} 2. - حرمانهم من النور "الذي يبحثون عنه لدى المؤمنين بلا جدوى": {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} 3. - ومن السمع، والبصر، والكلام "لحظة البعث": {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} 4. - ومن كل اشتهاءاتهم: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} 5. - بأسهم من الحياة الآخرة: {قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ} 6. - حيث لا نصيب لهم فيها: {أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} 7. - ويخذلون: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} 8. - وحيث ينسون: {الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} 9.

_ 1 83/ 15 "= 1 أ". 2 2/ 174 و3/ 77 "= 2 ب". 3 57/ 13 "= 1 أ". وهذا قريب مما جاء في إنجيل متى، الإصحاح الخامس والعشرين 1-12, حيث يشبه ملكوت السموات بعشر عذارى، أخذن مصابيحهن وكان خمس منهن حكيمات أخذن زيتًا في آنيتهن مع مصابيحهن، وخمس جاهلات أخذن مصابيحهن ولم يأخذن زيتًا معهن ... إلخ. القصة. 4 17/ 72 و97 و20/ 124 "= 3 أ". 5 34/ 54 "= 1 ب". 6 60/ 13 "= 1 ب". 7 2/ 102 و3/ 77 و176 و42/ 20 "= 1 أو3 ب". 8 7/ 51 و45/ 34 "= 2 أ". 9 17/ 22 "= 1 أ".

- ويبعدون: {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} 1. - ولا مولى لهم ولا ناصر: {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} 2. - ولن تفتح لهم أبواب السماء: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} 3. - ولن يقبل منهم دفاع عن أنفسهم: {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُون} 4. - وفي كلمة واحدة: إخفاقهم: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} 5. - وخسرانهم: {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون} 6. عقوبات أخلاقية إيجابية: - ويوم البعث يمثل الأشرار أمام الله منكسي الرءوس: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ} 7.

_ 1 17/ 18 و39 "= 2 أ". 2 42/ 8 "= 1 أ". 3 7/ 40 "= 1 أ". 4 16/ 84 و77/ 35 و36 "= 3 أ". 5 6/ 21 و135 و10/ 17 و70 و16/ 117 و20/ 111 و23/ 117 و28/ 37 و91/ 10 "= 9 أ". 6 2/ 27 و121 و3/ 85 و149 و4/ 119 و5/ 5 و52 و6/ 31 و140 و7/ 9 و53 و178 و9/ 69 و10/ 45 و95 و11/ 21 و16/ 109 و22/ 11 و23/ 104 و29/ 52 و35/ 39 و39/ 15 و63 و65 و41/ 23 و25 و45/ 27 و46/ 18 و58/ 19 و63/ 9 و103/ 2 "= 22 أو9 ب". 7 32/ 12 و42/ 45 و68/ 43 و70/ 44 و88/ 2 "= 5 أ".

- سود الوجوه: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} 1. - عابسة كالحة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} 2. - تعلوها ظلمة وغبار: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ، تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} 3. - إنهم في ذلك اليوم سوف يودون أن يباعد الله بينهم وبين أعمالهم السيئة: {وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} 4. - ولكن الكتاب هنالك، أحصيت فيه الأعمال على كل إنسان، حتى أتفه تفاصيلها, ويقولون: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} 5. - وأكثر من ذلك هنالك، في أبدانهم، وحواسهم، شهود يشهدون ضدهم: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون} 6. - فهم: {يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} 7.

_ 1 3/ 106 و39/ 60 "= 2 أ". 2 75/ 24 "= 1 أ". 3 10/ 27 و80/ 40 و41 "= 3 أ". 4 3/ 30 "= 1 ب". 5 18/ 49 "= 1 أ". 6 24/ 24 و36/ 65 و41/ 20 "= 2 أو1 ب". 7 6/ 31 و20/ 101 "= 2 أ".

- وهم: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 1. - وهم مذمومون: {جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} 2. - وملومون: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} 3. - وممقوتون: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} 4. - ويجللهم الخزي والعار: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ} 5. - ولسوف يعرضون أمام الله، فيراهم الأشهاد ويشيرون إليهم باحتقار: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} 6. - فإذا ما عرفوا حسابهم تمنوا أن لم يكونوا قد عرفوه، وأن لو كان الموت عدمًا حقًّا لهم: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ، وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ، يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} 7.

_ 1 3/ 180 "= 1 ب". 2 17/ 18 و22 "= 2 أ". 3 السابقة 39 "= 1 أ". 4 40/ 10 "= 1 أ". 5 6/ 124 و10/ 27 و16/ 27 و22/ 18 و25/ 69 و37/ 18 و40/ 60 "= 6 أو1 ب". 6 11/ 18 "=1 أ". 7 69/ 25 و26 و27 و78/ 40.

- ويرون أخيرًا العذاب الأليم يقترب: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} 1. - ويحسون تقطع كل العلائق التي تربطهم بسادتهم، وأتباعهم: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَاب} 2. - ويجدون أنفسهم عاجزين عن أن يرجعوا مجرى الزمن، ويعودوا إلى الأرض: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} 3. - فليس أمامهم إلا أن يعضوا أصابعهم مع زفرات الأسى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا، يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا، لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} 4. فهذه هي الآيات المتعلقة بالعقاب الأخلاقي "= 101 أو41 ب". عقوبات بدنية: من الممكن -أولًا- أن نقدم الآلام البدنية التي سوف يتعرض لها الظالمون بعد الحساب الأخير -في صورة سلبية تنحصر في الحرمان من الحاجات الجوهرية، فهم جياع عطاش، ولن يجدوا شيئًا يهدئ عطشهم وجوعهم: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا، إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} ، {لَيْسَ

_ 1 10/ 54 و21/ 97 و34/ 33 "= 3 أ". 2 2/ 166 "= 1 ب". 3 6/ 27 و26/ 102 و89/ 24 "= 3 أ". 4 25/ 27-29 "= 1 أ".

لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ، لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} 1. بيد أن الآيات القرآنية التي تحدد تحديدًا موضوعيًّا عذابهم قد جاءت بوفرة كثيرة. - إن مسكن المعذبين هو -على نقيض مقام الطائعين- سجن: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} 2. - وهو ذو أبواب كثيرة، كل باب يخص طائفة بعينها: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} 3. - سجن زبانيته من الملائكة الأشداء القساة: {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} 4. - ولكنه سجن تحت الأرض مقسم إلى سراديب مظلمة كثيرة، بعضها تحت بعض: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} 5. - وهي نار محكمة الانسداد عليهم: {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} 6. - وهي حفرة مملوءة نارًا: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} 7.

_ 1 7/ 50 و78/ 24 و88/ 6 و7. 2 17/ 8 "= 1 أ". 3 15/ 44 "= 1 أ". 4 66/ 6 و74/ 30-31 "= 2 أ". 5 4/ 145 "= 1 ب". 6 90/ 20 و104/ 8 "= 2 أ". 7 3/ 103 "= 1 ب".

- وهي نار متقدة: {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} 1. - يسمع لها من بعيد زمجرة وهدير: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} 2. - حتى كأنها بركان ثائر: {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُور} 3. - فهي تقذف شرارًا كالقصور الكبير: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} 4. - وهم موثوقو القيود: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} 5. - مغلولو الأعناق والأيدي والأقدام: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ, إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} ، {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} 6. - مشدودون إلى سلاسل طويلة: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا} 7. - "يسحبون على وجوههم"، {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} 8. - ثم يطرحون في النار على وجوههم: {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} 9.

_ 1 101/ 9 و11 "= 2 أ". 2 25/ 12 "= 1 أ". 3 67/ 7 "= 1 أ". 4 77/ 32 "= 1 أ". 5 25/ 13 و89/ 26 "= 2 أ". 6 13/ 5 و14/ 49 و34/ 33 و40/ 71 و55/ 41 و69/ 30 و76/ 4 و96/ 15 "= 8 أ". 7 40/ 71 و69/ 32 و67/ 4 "= 3 أ". 8 17/ 97 و25/ 32 و76/ 24 "= 3 أ". 9 27/ 90 "= 1 أ".

- وهم مضطرون إلى مكان ضيق: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا} 1. - ليذوقوا عذابًا لا نظير له يومئذ: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ} 2. - يتعرضون فيه لعقاب الإحراق: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيق} 3. - فهم غذاء جهنم: {فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} 4. - وكلما أحس العصاة بالعذاب والألم حاولوا الهروب منه، فتدفعهم الزبانية في النار، يضربونهم بهراوات من الحديد: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ، كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} 5. - ويحيط بهم النكال من كل صوب: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} 6. - وسيضرب اللهيب وجوههم: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ} 7. - وسيسلخ جلدهم: {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} 8. - وسيحرق لحمهم: {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَر} 9. - ويصل إلى قلوبهم: {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} 10.

_ 1 25/ 13 "= 1 أ". 2 89/ 25 "= 1 أ". 3 8/ 50 و22/ 9 و22 و85/ 10 "= 1 أو3 ب". 4 2/ 24 و21/ 98 و66/ 6 و72/ 15 "= 2 أو3 ب". 5 22/ 21-22 و32/ 20 "= 1 أو1 ب". 6 7/ 41 و18/ 29 و29/ 54-55 و39/ 16 "= 4 أ". 7 14/ 50 و23/ 104 و33/ 66 "= 2 أو1 ب". 8 70/ 16 "= 1 أ". 9 74/ 29 "= 1 أ". 10 104/ 7 "= 1 أ".

- أما الذهب الذي يجمعه البخلاء فسوف يُحمى في النار، ثم تكوى به الجباه، والجنوب، والظهور: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} 1. - هنالك ستكون صرخات ألم وتوسلات: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} 2. - وستكون لهم فيها زفرات وشهقات: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} 3. - وكلما ذابت جلودهم كان لهم غيرها، حتى يذيقهم الله العذاب مضاعفًا، وهكذا إلى الأبد: {سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} 4. - ولن يقتصر أمرهم على عذاب الحريق، بل سيكونون كذلك في عذاب الحميم، يغمسون في هذا الماء المغلي، ثم يقذفون في النار، وهكذا دواليك: {يُسْحَبُونَ, فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} 5. - ويصب هذا الماء الحميم على رءوسهم، فيذيب جلودهم، وأحشاءهم: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ، يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} 6. - فإذا شربوا منه انشوت وجوههم، وتمزقت أمعاؤهم: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} ، {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} 7.

_ 1 9/ 35 "= 1 ب". 2 23/ 107 و35/ 36 و40/ 49 و43/ 77 "= 4 أ". 3 11/ 106 و21/ 100 "= 2 أ". 4 4/ 56 "= 1 ب". 5 40/ 71-72 و55/ 44 "= 2 أ". 6 22/ 19 و20 و44/ 48 "= 1 أو2 ب". 7 6/ 70 و10/ 4 و18/ 29 و37/ 67 و38/ 57 و47/ 15 و56/ 54-55 و78/ 25 و88/ 5 "= 10 أو1 ب".

- ولسوف يسقون شرابًا آخر أكثر تقيحًا، لا يطيقون إساغته: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ، يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ} 1. - وهنالك أيضًا طعام الزقوم، يغلي في بطونهم كرصاص يذاب: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ، طَعَامُ الْأَثِيمِ، كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ، كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} 2. - وأطعمة أخرى ذات غصة، وعذاب كله ألم: {وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} 3. - من صنوفه الريح المحرقة: {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} 4. - وظل من دخان خادع: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} 5. - وكذلك حين تتوالى على المعذبين أقصى حالات البرودة، وأقصى حالات الحرارة -على ما قاله بعض المفسرين في كلمة "غساق": {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} 6. - وموجز القول: أنهم سوف يلقون عقوبات، وآلامًا دائمة لا انقطاع لها: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ، عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} 7. فالنصوص التي تعدد العقاب البدني تبلغ على هذا النحو "= 74 أو15 ب".

_ 1 14/ 17-18 و69/ 36 "= 2 أ". 2 37/ 66 و44/ 43-46 و56/ 52-53 "= 2 أ". 3 73/ 12-13 "= 1 أ". 4 56/ 42 "= 1 أ". 5 56/ 43-44 و77/ 30 "= 2 أ". 6 38/ 57-58 و78/ 25 "= 2 أ". 7 88/ 3 "= 1 أ".

على أننا لا ينبغي أن نعتبر كل هذه العقوبات المادية غاية، بل هي وسيلة لإيلامهم أخلاقيًّا، فالغرض الجوهري من الاندحار في هذا المأوى البشع ليس النار، بقدر ما هو الخزي الذي تعنيه: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} 1. ومما يزيد في شقائهم أنهم في هذه الآلام الأخلاقية والمادية لن يجدوا من حولهم قلبًا عطوفًا معزيًا، بل إن روابط الصداقة التي كانت لهم في الماضي، والتي ستكون قد تقطعت يومئذ، هذه الروابط سيحل في مكانها جوار سيئ لهؤلاء الأصدقاء القدامى أنفسهم، فلن يكون بينهم منذئذ سوى الخصام: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّار} 2. والبغض: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِين} 3. والتلاعن: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} 4، {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} 5. ولقد أردنا بهذا التصنيف، وهذه النصوص المحددة أن نعطي للقارئ إحساسًا دقيقًا بمنهج التبليغ الذي اتبعه القرآن، وبالنسبة التي يمثلها كل طريق من طرقه في المجموع.

_ 1 3/ 191 و9/ 63 و11/ 60. 2 38/ 64. 3 43/ 67. 4 7/ 38. 5 29/ 25.

ولسنا ندعي، نظرًا إلى غنى الأسلوب القرآني، أننا قدمنا إحصاءً منزهًا عن الخطأ، ولكنَّا على الأقل قدمنا الأحداث الرئيسية في جداول، كل في إطاره الخاص، ونحسب أن إدخال أي تعديل إليها سوف يكون قليل الأهمية، ولكنا كي نبرز نتيجة هذه الدراسة نعتقد أن من المفيد تلخيصها في جدول إجمالي، على النحو التالي:

قائمة ورود الطرق المختلفة للتوجيه: الحث على الواجب أب المجموع بسلطانه الشكلي 10 10 بقيمه الداخلية 620 455 1075 بالمشاعر الدينية "حب, حياء ... إلخ" 20 62 82 بالنتائج الطبيعية 2 12 14 بالجزاءات الإلهية: 1- مبدأ الجزاء بعامة 11 2 13 2- مبدأ الجزاء على مرحلتين 14 12 26 3- الجزاء الإلهي في العاجلة: أ- ذو طابع مادي 1 1 ب- ذو طابع دنيوي 5 31 36 جـ- ذو طابع عقلي وأخلاقي 23 40 63 د- ذو طابع روحي 20 58 78

4- الجزاء الإلهي في الآخرة: أ- اسم عام للدار الآخرة: الجنة 19 8 27 : النار 61 50 111 ب- إعلان ثواب أو عقاب غير محدد: ثواب 66 100 166 عقاب 94 66 160 جـ- تحديد "ثواب أو عقاب": سعادة روحية 102 70 172 سعادة حسية 97 27 124 صيغة كاملة 4 4 عقوبات أخلاقية 101 41 142 عقوبات مادية 74 15 89

خاتمة

خاتمة: فتلك إذن أرقام تتحدث ببلاغة أكثر من أي تعليل نظري. وأخطر الاعتراضات التي تثار غالبًا ضد الأخلاق الدينية بعامة ينحصر في القول بأنها تضرب صفحًا عن الضمير، فرديًّا كان أو جماعيًّا، وأنها تستمد كل قوتها، وكل سلطانها من إرادة علوية، خارجة عن طبيعة الأشياء، وأنها تفرض نفسها بخاصة عن طريق الترغيب في الثواب، والخوف من العقاب الذي قررته تلك الإرادة العليا1. ونحن ندرك الآن أن هذا النقص -في أية حالة من حالاته- لا يمس الأخلاق الإسلامية، فالقرآن -كما رأينا- يعلن أن النفس الإنسانية مستودع قانون أخلاقي فطري، نفخ فيها منذ الخلق، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يأمر كلًّا منا أن يستفتي قلبه، كيما يعرف ما يأخذ وما يدع. بل إن أكثر المذاهب الإسلامية محافظة تتفق على أن تسلم للعقل الإنساني بمجال خاص في التقدير والتشريع، حين يكون تحديد الخير والشر مرجعه العقل، سواء أكان كمالًا أم نقصًا، وسواء أكان موافقًا أم مخالفًا للفطرة.

_ 1 انظر: Boutteville, La Morale de l'eglise, et la morale naturelle, p. 445.

والمشكلة التي أثارت اختلاف المذاهب في هذه النقطة كانت فقط هي: أيجب أن نأخذ أمر العقل أمرًا نهائيًّا؟ وهل هو يتفق دائمًا، أينما كان، مع واقع الأشياء؟ وهل هو يتوافق بخاصة مع العقل الإلهي؟ فأما أن الضمير مزود -بطريقة كافية- بسلطة لتأكيد مسئوليتنا أمام أنفسنا، فأمر لا يماري فيه أحد، ولكن هل لديه من هذه السلطة ما يكفي لإثبات مسئوليتنا أمام الله؟ على هذه المسألة المحددة دار النقاش. وعلى هذا، أليس واضحًا ما يحدث لنا غالبًا من أن تُعْمِيَ العاداتُ ضميرنا، أو تضلله الأوهام، أو تتسلط عليه المنفعة، وأن تتحدث إلينا العاطفة أحيانًا متخفية في ثوب العقل، ومتقلدة بلغته؟ ... بل إننا قد نميل إلى القول بأن العقل في هذه الحالات هو الذي يتحدث إلينا، لكنه عقل ساقط فاسد؛ لكثرة ما سخر نفسه لخدمة الغريزة البهيمية، فإذا ما بلغ هذا الحد من الضلال فإنه يزعم أن دوره الرئيسي أن يكشف عن وسائل إشباع منافعنا العاجلة، وأن يحاول إنجاحها. ولكن عجبًا!! إننا حين يتعارض العقل والمشاعر على نحو سافر، وذلك ما يحدث في أكثر الحالات، نسلم بانتظام للعقل بحقه في السيطرة على المشاعر، فهل نحن بهذا في موقف محايد؟ وحين يستأثر العقل في زهو بسلطة حسم النقاش ألا يجعل من نفسه بذلك حكمًا وخصمًا في آن؟ فإذا ما أمضينا هذا الاستدلال إلى غايته حق لنا أن نتساءل عما إذا كان خالق هذه الفطرة البالغة التنوع يرضى فعلًا أن يضحي بالجانب الأكبر والأقدم من صنعه، في سبيل آخر قادم، ما الذي يدل في الواقع على أن الله قد أمر بهذه التضحية؟

وأين هو التوكيل الذي بمقتضاه يتحدث جزء واحد فقط من الخلق باسم الخالق؟ وما الذي يهدينا في هذه الدعوى؟ أهو غريزة الصدق أم هو الكبرياء والزهو بالذكاء؟ ولا ريب أن الإرادة العاقلة هي أثمن جزء في وجودنا، فهي التي نتميز بها، على حين أن ما تبقى مشترك بيننا وبين الكائنات الدنيا. إنها الملكة القادرة على أن تركزنا في ذواتنا، على حين أن الحواس والغرائز تبعثرنا خارجها. فهي إذن مخصصة ليمنحها الخالق حق السيادة، ودور المبدأ المنظم. ولكن، هل يكون عدلًا أن يحكم سيد رعاياه دون استشارتهم؟ أليس من الواجب أن يبذل كل طاقته ليضمن لهم النمو الذي يقدرون عليه؟ أين ينتهي العمل الديموقراطي، وأين يبدأ الطغيان والاستبداد في هذا التنظيم؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يرسم هذا الخط الفاصل على أساس من الحياد؟ لقد أدرك ذلك الفقهاء المسلمون، فيما خلا عددًا قليلًا من المعتزلة وأشباههم. وقد قرر هؤلاء الفقهاء أنه لإيجاب مسئولياتنا أمام الله لا بد من شريعة تأتي من عند الله بطريقة إيجابية وصريحة، في مقابل ذلك القانون الضمني المستودع ابتداء في فطرتنا. ولن يكون دور هذه الشريعة الجديدة -بلا ريب- أن تبطل قانون الفطرة؛ لأنهما حقيقتان، ما كان لهما أن تتعارضا، ولكن دور الشريعة الإلهية أن تثبت قانون الفطرة، وأن تمنحه سندًا متينًا، وذلك بعد أن تستخلصه بكل نقائه وطهارته. ويجب أن يبدأ مشروع هذا التطهير المسبق -بداهة- بمنع ضلالات العقل المزعوم قبل وقوعها، وبإيقاظ الضمير النائم تحت أنقاض الأوهام. يقول تقي الدين ابن تيمية: "إن الرسل إنما بعثت بتكميل الفطرة، لا بتغيير

الفطرة"1، وانطلاقًا من هذه الفكرة يمكن القول بأن الأطر التي سوف تثبتها هذه الشريعة الإيجابية حتى تتيح للضمير الفردي أن يمارس حقه بطريقة حرة ومشروعة -هذه الأطر سوف تكون منطلقًا، لا لما هو من باب الحلال والحرام فحسب، بل وفي الوقت نفسه لما هو معقول حقًّا وما ليس كذلك. فما يضاد النقل سيكون كذلك مضادًّا للعقل، وكما قال ابن تيمية: "وكل ضلالة فهي مخالفة للعقل، كما هي مخالفة للشرع"2. وعلى هذا النحو، فإن هذه الشرعية الدينية لم تأتِ لتحل محل الأخلاقية ولا لتضادها، بل هي تفترضها، وترجع إليها دائمًا. ولقد رأينا في الواقع مدى العناية التي يلتزم بها القرآن، وهو يصوغ أوامره، فهو يحرص على مطابقتها للعقل، وللحكمة، وللحقيقة، وللعدالة، وللاستقامة، إلى جانب قيم أخرى، يتكون منها بناء الضمير الأخلاقي ذاته. ورأينا كيف يقدم القرآن النتائج التي تحدث في النفس من اتصالها بالفضيلة، والتأثر الذي يمارسه الفعل على القلب والروح، وأهمية الندم والتوبة. وهذا كله يتصل بالضمير الفردي. بيد أن الإنسان، وهو كائن عاقل، هو في نفس الوقت كائن اجتماعي؛ إنه في ملتقى قوتين؛ باطنة وظاهرة، يتلقى منهما معًا أو على التوالي، أوامره. وقد يجوز لنا أن نقول: إن الجانب الأكبر من الغذاء الروحي، وأغلب المثل العليا، بالنسبة إلى كل إنسان يعيش في المجتمع -إنما تأتيه أولًا

_ 1 انظر منهاج السنة، لابن تيمية 1/ 82، هكذا وردت فيه، وذكر المؤلف أن النص: "لتكميل الفطرة لا لتغيير الفطرة" باللام بدل الباء, وهو خطأ. "المعرب". 2 المرجع السابق: 1/ 81، وبدء العبارة "وفرعوا في صفات الله وأفعاله ما هو بدعة مخالفة للشرع، وكل بدعة ضلالة ... ". "المعرب".

من خارج، وهو مختار، بعد أن يعيد التفكر فيها ويجترها، أن يتمثلها كاملة أو يرفضها، ويستبدل بها خيرًا منها. فما الجانب الذي يعود إلى الأمة الإسلامية في السلطة الأخلاقية؟ هذا الجانب على الرغم من كونه محدودًا، إلا أنه من أهم الجوانب؛ لأن حدوده ليست سوى الحدود التي تفرضها العدالة الفطرية، والقواعد العامة للعدالة المنزلة. إننا لا ندين بالاحترام والطاعة ولاء للإجماع فحسب، وهو القرار الإجماعي للهيئة التشريعية المختصة، ولا لكل صيغة صادرة عن السلطة التنفيذية، من أجل إقرار النظام، وتوفير الخير العام فحسب، بل إن كل تفصيل إرادي تافه في ذاته، ولكنه يعتبر موضوعًا لأمر شرعي -ينال بهذه الصفة قوة القانون الأخلاقي. ولكي نبرهن على أن الضمير العام ليس في الإسلام وهمًا، بل ولا نسخة من الضمير الفردي -لا نجد خيرًا مما سبق أن ذكرناه، أعني: تكليف الأمراء أن يطبقوا الجزاءات الشرعية على من يستحقونها، حتى بعد توبتهم، وهدايتهم التامة. قد يخطر لنا أن نتساءل: أليس في تغيير المذنب لموقفه، والتزامه طريقًا من السلوك المرضي، ما قد يرضي الأخلاقية إرضاء كاملًا؟ ومن وجهة نظر الإيمان، أليس مكفولًا العفو عن ذنوب الذين يعودون إلى الإيمان في طهارة وعزم؟ ومع ذلك، يبقى علينا أن نطهر جوًّا دنسته الجريمة، وأن نأسو جراح الضمير العام الذي صدم بها، وأن نتدارك تقليد المثل السيئ، الذي قدمته. وتلكم هي الاعتبارات، ذات الطابع الاجتماعي المحض، التي حتمت هذا الإجراء البالغ القسوة، الذي يعاقب إنسانًا صلح حاله، وصفت سريرته.

ولنذكر واقعًا اجتماعيًّا آخر، يتصل، هذه المرة، بالعلاقة بين الأفراد، فلقد رأينا في الواقع صفة القداسة التي يضفيها الإسلام على حق الغير، بحيث أن أي ضرر يحدث لإخواننا، حتى في حال عدم علمهم، يظل على عاتق من تسبب فيه، إلى أن يعترف لضحاياه، فينال منهم عفوًا صريحًا وواعيًا. وهكذا نرى أن انتهاك الحق العام، يقتضي من الناحة الأخلاقية، جزاءات أخرى، أكثر من مجرد الندم، والتوبة، والصلاح الشخصي، جزاءات تصل في مداها إلى ما هو أبعد من الرضا الإلهي. إن من وراء أوامر الضمير الفردي، والضمير العام نظامًا أكثر صلابة منهما، هو نظام الفطرة الكونية الشاملة، بقانون سببيته الذي لا يعرف الهوادة، فهذه طريقة في العمل تؤدي إلى نهاية حسنة، وتلك طريقة أخرى تعود ضد صاحبها، ولذلك تنصحنا الفطنة الحكيمة بأن نحسب حساب النتائج قبل الشروع في أي عمل. على أن هذه الاعتبارات الغائية لا يمكن من وجهة النظر الأخلاقية أن تنال صفة الشرعية إلا حين لا تحيد عن الواجب، بل تمضي بالأحرى متوافقة معه، طالبة منه المزيد. وبهذه الشروط، أليس من حق أية تربية حسنة أن تلجأ إلى مثل هذا الأسلوب أحيانًا، لدعم تعليمها؟ على هذا النحو، جرى القرآن في كل حال، وهو يذكرنا، بعدد قليل من الأمثلة، بالنتائج الطبيعية لسلوكنا، وهي نتائج مختارة من بين أكثرها عمومًا، وأكثرها واقعية وبقاء. إن المنابع العقلية التي يستقي منها الأخلاقيون عادة، كل بحسب هواه، برهانهم لوضع أسس التكليف الأخلاقي -هي: الاقتضاء الأخلاقي المحض، والضرورة الاجتماعية في جوهرها، والعقل الراشد العملي، وتلكم هي المنابع مجتمعة.

وهنا تتوقف الأخلاق العلمانية، ولكن الأخلاق القرآنية لا تقتصر على هذه الاعتبارات، بل هي تشملها، وتتجاوزها، وتكملها لحسن الحظ بمبدأ سام من جانب آخر، هو الإيمان بوجود سيد مشرع، له سلطته العلوية الضرورية للتصديق على كل قرار يتخذ من جهة أخرى، واعتماده. ولقد رأينا على هذه الأرض الجديدة أن أمر القرآن تقوم دعائمه على ثلاثة أسباب مختلفة: أولًا: على أن السلطة التشريعية وحدها، لمن قرر الأمر؛ والله سبحانه جدير أن تكون كلمة أمره مطاعة دون شرط، ودون ما حاجة إلى أي سر آخر: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى} 1، كما أنه صوت الحقيقة والعدل ذاته: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} 2. ثانيًا: على الشعور بمعيته الحبيبة المهيبة، وهذا الشعور من شأنه أن يحرك شجاعتنا إلى فعل الخير، وإلى أن نفعله على خير وجه، كما أنه قادر على أن يدفع دفعًا رقيقًا كل ميولنا السيئة. ثالثًا: على توقع إجراءات الجزاء التي قررها الله سبحانه. وإذا وصلنا إلى هذه النقطة، فقد بدا لنا منهج التعليم القرآني مرة أخرى في صورة مركبة، مزدوجة في تركيبها؛ إذ تستهدف الحياة الدنيا والحياة الأخرى معًا، وتعلن للإنسان بأن عليه أن يتقبل في كلتا الحياتين الثمن الأخلاقي، والبدني، والروحي لأفعاله. لقد أثرنا من قبل مسألة معرفة ما إذا كان تغير الوسط الجغرافي، والظروف الاجتماعية -قد استطاع أن يفرض بعض التعديلات في المفهوم القرآني عن الحياة الآخرة.

_ 1 المدثر: 56. 2 الأنعام: 115.

ولقد لزمنا -لكي نجيب عن هذه المسألة- أن نعود مرة أخرى إلى النصوص نستشيرها، ونميز فيها مجموعتين، تبعًا لنزول الوحي بها قبل الهجرة أو بعدها. وهنا نلاحظ: وجود نوعين من السعادة "الروحية والحسية" في المرحلتين، مصحوبين بتفاصيل عديدة. ومع ذلك، فقد لاحظنا قلة عددية، تكاد تبلغ أحيانًا حد الندرة، في الآيات المدنية، المتعلقة بالجنة أو النار، حتى في جانبهما الروحي. فإذا ما وسعنا نطاق البحث وجدنا أيضًا أن مراجع القيم الباطنة من النصوص كثيرة جدًّا، في المرحلتين، وكأنها متناسبة مع زمانها الخاص، ومع حجم الحديث المطابق لها1. وفي مقابل ذلك نجد أنه على حين يبدأ الحديث الأخروي يقل في المدينة -يظهر اتجاه معاكس له في إطار الاعتبارات الأخرى، فمن الآن فصاعدًا يفسح التبليغ مكانًا أرحب للشعور بالحضور الإلهي، وللنتائج العاجلة، ذات الطابع الأخلاقي، والاجتماعي، والروحي. ونرى أيضًا مجموعة جديدة تظهر، يفرض الواجب فيها بسلطانه الشكلي المحض، وكل هذا يسمح لنا أن نرى، أن العالم الإسلامي قد شهد مع الهجرة تقدمًا للأفكار الأخلاقية، لا تخلفًا كما كان يقال غالبًا. وأيًّا ما كان الأمر، فإذا كنا قد عرفنا -هكذا- الوسائل الكثيرة التي يستخدمها القرآن لتسويغ أمره، والجانب الذي فسحه للدوافع الأخلاقية السامية، بما في ذلك التجرد المطلق، والخضوع للشرع لمجرد احترام الشرع -إذا عرفنا ذلك يصبح من الظلم بداهة أن نتهم الأخلاق القرآنية بأنها أخلاق نفعية.

_ 1 من المعلوم أن النصوص المنزلة بعد الهجرة تكاد تشغل ثلث القرآن.

إن أكثر ما نملك هو أن نتطلب لأخلاق محضة جزاء أخلاقيًّا لا غير، وبذلك يمكن أن ننكر على هذه الأخلاق أن تكون مختلطة. وربما كان هذا الجهاز المادي للثواب والعقاب الأخروي -على الرغم من أنه ليس الوحيد في المواجهة- من الأمور التي نود ألا تكون، حتى نرد إلى الجزاء الإلهي قيمته الكبرى. ولنلاحظ أولًا أن هذا المفهوم عن الجزاء الأخروي، وهو مفهوم مادي جزئيًّا، ليس إسلامي النوع؛ فهو يعتبر عنصرًا مشتركًا بين جميع الأخلاق الدينية، التي تعترف للناس بحياة أخرى، سوف يجتمع فيها البدن والروح من جديد، بعد أن يكونا قد انفصلا مؤقتًا بالموت، يجتمعان ليلتقيا معًا ثوابًا خالدًا، أو عقابًا أبديًّا. ولا ريب أن هذه هي حال الأخلاق المسيحية، فلقد أجمع الآباء، وفقهاء الكنيسة على أن يعلموا عقيدة بعث الجسد، وعقيدة اشتراكه مع الروح في الجزاء1، وهما عقيدتان قائمتان على أساس متين من تعليم السيد المسيح والدعاة، فقد قال يسوع لحوارييه: "لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد، ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها، بل خافوا بالحري من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم"2. وقال أيضًا: "يرسل ابن الإنسان ملائكته، فيجمعون من ملكوته جميع المعاثر وفاعلي الإثم، ويطرحونهم في أتون النار، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان"3. وكثيرًا ما صورت جهنم على أنها "النار التي لا تطفأ، حيث دودهم لا

_ 1 انظر: A. boulanger; Doctrine Catholique, lere part P. 231-233. 2 إنجيل متى 10/ 28. 3 المرجع السابق 13/ 43.

يموت والنار لا تطفأ"1، ويصرخ الغني الخبيث الذي كان يلبس الأرجوان والبز مترفهًا، ولم يكن يعطي المسكين لعازر حتى مات جوعًا، يصرخ وهو في عذاب الهاوية قائلًا: "يا أبي إبراهيم، ارحمني، وأرسل لعازر ليبل طرف إصبعه بماء، ويبرد لساني؛ لأني معذب في هذا اللهيب"2، ونقرأ في رؤيا القديس يوحنا اللاهوتي: "وأما الخائفون، وغير المؤمنين، والرجسون، والقاتلون، والزناة، والسحرة، وعبدة الأوثان، وجميع الكذبة فنصيبهم في البحيرة المتقدة بنار وكبريت"3. وعلى الرغم من أن الكنيسة لم تقل شيئًا عن طبيعة النار، فإنها تقرر أنها نار واقعية، لها سماتها من: اللهب، والجمر، والأوار الذي لا يخمد ... إلخ. وإذن، فقد كان ديكارت على حق حين اعترض على نظرية بعض اللاهوتيين الذي كانوا يقولون: "إن الله يخيب أمل المعذبين عندما يقر في أذهانهم أنهم يرون ويستشعرون نار الجحيم التي تحرقهم، وإن لم يكن موجودًا منها شيء في الواقع"، ويرد ديكارت على ذلك بقوله: "إن الله لا يمكن أن يكون خادعًا، إذ كيف يمكن أن نؤمن بأمور أوحاها الله إلينا إذا كنا نظن أنه يخدعنا أحيانًا؟ إن شعور المعذبين ليس خيبة أمل، بل هم معذبون حقًّا بالنار؛ لأن الله قادر على أن يجعل الروح تذوق آلام النار المادية بعد الموت، كما كانت تحس بها قبله"4. ومع أن الإشارة إلى الجنة كانت أقل ترددًا في العهد الجديد من موضوع النار، فإنها تحمل كثيرًا طابع السعادة الحسية، بجانب السعادة الروحية.

_ 1 إنجيل مرقص 9/ 43-48 نفس العبارة مكررة. 2 إنجيل لوقا 16/ 24. 3 رؤيا يوحنا اللاهوتي 21/ 8. 4 ديكارت reponses aux 5emes opjections.

ولقد رأينا آنفًا توسلات الغني الخبيث، يلتمس قليلًا من الماء ليبل لسانه. ولذلك يقرر يسوع في أكثر العبارات صراحة، وعمومًا: "وأنا أجعل لكم كما جعل لي أبي ملكوتًا، لتأكلوا، وتشربوا على مائدتي في ملكوتي، وتجلسوا على كراسيٍّ تدينون أسباط إسرائيل الاثنى عشر"1، وقال أيضًا للذي دعاه: "إذا صنعت غداء أو عشاء ... فادع المساكين، الجدع، العرج، العمي، فيكون لك الطوبى، إذ ليس لهم حتى يكافئوك؛ لأنك تكافَى في قيامة الأبرار"2، وأكثر من ذلك تحديدًا أيضًا قوله في آخر اجتماع له مع حوارييه: "وأقول لكم: إني من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة، هذا إلى ذلك اليوم، حينما أشربه معكم جديدًا في ملكوت أبي"3، وقد عبر عن فكرة مماثلة لهذه بمناسبة تناول القربان المقدس، قال: "شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم؛ لأن أقول لكم: إني لا آكل منه بعد، حتى يكمل في ملكوت الله ... "4. بيد أن الجانب الحسي من نعيم الجنة أكثر ظهورًا في رؤيا القديس يوحنا: "من يغلب فسأعطيه أن يأكل من شجرة الحياة التي في وسط فردوس الله،5 من المن المُخفى6 من يغلب فذلك سيلبس ثيابًا بيضًا7، أنا أعطي العطشان من ينبوع ماء الحياة مجانًا8، لن يجوعوا بعد، ولن يعطشوا بعد، ولا تقع عليهم الشمس، ولا شيء من الحر"9. واقرءوا وصف القدس الجديدة لنفس المؤلف، كتب يقول: "والمدينة ذهب نقي شبه زجاج نقي، وأساسات سور المدينة مزينة

_ 1 إنجيل لوقا 22/ 29-30. 2 السابق 14/ 12-14. 3 إنجيل متى 26/ 29 ومرقص 14/ 25 ولوقا 22/ 18. 4 انظر: لوقا 22/ 15 و16. 5 رؤيا يوحنا اللاهوتي 2/ 7. 6 السابق: 2/ 17. 7 السابق: 3/ 5. 8 السابق: 21/ 6. 9 السابق: 7/ 17.

بكل حجر كريم"1. "ومن هناك شجرة حياة تصنع اثنتي عشرة ثمرة، وتعطي كل شهر ثمرها ... "2 إلخ. هل يقال: إن هذه رؤيا قديس شجعته في ذلك العصر التعاليم الأخروية التي قالت بها اليهودية؟ ... 3... هذا ممكن، ولكنه أحد أمرين: إما أن الرؤيا وهم شعري، ومحض خيال حالم، وإما أنها تطابق مع شيء من الواقع، لا أقول: إنها أدركت كل شيء، ولكن أقول: إنها تقترب وتوجز؛ لأنه كما قيل: "إن الأشياء التي أعدها الله لمن يحبونه أشياء لم ترها العين، ولا سمعتها أذن، ولا خطرت على قلب إنسان"4. فهي إذن أشياء سوف تراها العين، وتسمعها الأذن، وسوف تمس القلب. والحق أنه لا يوجد نص يؤكد تشابه الحياتين، ولكن لا يوجد نص يمنع إمكان نوع من الاستمرار بينهما، بل إننا نقول: إن هذا الاستمرار شرط في تيسير إدراكهما على نحو بالغ. ولكن إذا كان العالم الذي وعدنا به عالمًا جديدًا على وجه الإطلاق، لا يرى، ولا يمس، ولا مثال له في عالمنا الحاضر، فأي سلطان سيكون له علينا؟ وأي اضطراب سوف يلقى حينئذ في أذهاننا؟ أنكون إذن بحيث يتعرف بعضنا على بعض، ونحس بنفس القدر من البساطة أنه لم تمضِ سوى ساعة بين الموت والبعث؟ 5 ... ثم تجربتنا الراهنة لجميع الملذات

_ 1 رؤيا يوحنا اللاهوتي 21/ 19-20. 2 المرجع السابق: 22/ 1. 3 انظر: Fillion, Vie de N. S. Jesus T. III p. 4 انظر st. paul corin ii p. 9. 5 مصداقًا لقوله تعالى 10/ 45: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُم} .

والآلام البدنية والأخلاقية، أتصلح بحسبانها شيئًا ذا قيمة كبيرة؟ ألا يتمثل سبب وجودها، في جانب كبير منه، في أنها تعرفنا بأوليات هذه الحياة الجديدة، وتقدمها إلينا على سبيل الإيجاز، والتشويق؟ إني لأعرف التأويل الذي أمكن أن يوضع لكلمات المسيح، إنهم لكي يتقوا هجمات العقليين، وهم في الوقت نفسه يسلمون نصًّا بما أعد للمعذبين من آلام بدنية بالغة القسوة, يريدون أن يعتبروا النصوص الإنجيلية المتعلقة بالمائدة الطيبة التي أعلنت للسعداء من قبيل الرموز، على حين لا مجال هنا، ولا أثر لأي مقارنة. فهذه النصوص قد تناولها المسيحيون الأوائل تناولًا حرفيًّا، كما كان يفعل آباء الكنيسة السريانية1، وكما يفعله حتى الآن البروتستانت في القدس الجديدة2. وإني لأعرف أيضًا أن هذا التأويل يمكن أن نواجهه عند نظرنا في النصوص القرآنية، بل وربما كان على جانب أكبر من الصواب؛ لأن هذا التعليم يجيء في مواضع كثيرة على أنه "مثل" أو رمز "مثل الجنة ... "3. بيد أنه، على الرغم من أن كلمة "مثل" تعني "الوصف"، كما تعني "المقارنة" فمن الصعب أمام كثرة الآيات الأخرى التي لا تظهر فيها هذه الكلمة -أن نعريها من معناها الحقيقي، وأن نتناولها على أنها مجرد رموز. ولا ريب أن القرآن -فيما يبدو- يؤكد لنا أن ملذات الجنة ذات شبه بأحوال الأرض وأشيائها، دون أن يكون بينهما تماثل جوهري؛ {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} 4، وقد استطاع ابن عباس أن يقول: إنها ليس لها منها

_ 1 انظر: T. Andrae. Mohammed, Sa vie et sa Doctrine p. 87. 2 انظر: Tassy, les lois de Mohomet, P. 132. 3 13/ 35 و47/ 15. 4 2/ 25.

سوى الاسم. ولكن، إلى أي حد سيكونان متمايزين؟ أهو تمايز المعقول من المحسوس؟ أم أن أشياء الجنة سوف تحتفظ ببعض التماثل الطبيعي مع أشياء الأرض؟ ومع ذلك، إذا لم يكن الجسد المبعوث سيتقاسم مع النفس كل متعها المشروعة ألا يكون بعثه عبثًا، والجزاء على كل حال ناقصًا؟ ذلك أنه على حين أن الجزاء القانوني والجزاء الأخلاقي، بطبيعتهما، لا يؤثر كل منهما مباشرة إلا على عنصر مختلف من الشخص "الحاسة، أو الضمير" -فإن ما يميز الجزاء الإلهي هو أنه يجب أن يكون كليًّا وكاملًا، فطبيعة هذا الجزاء المركبة ليست عيبًا، ولكنها فيما يبدو لنا بعكس ذلك، شرط في كماله، من حيث هي متفقة مع تركيب الطبيعة الإنسانية، على النحو الذي نعرفه اليوم، ويبدو أن هذه الطبيعة ستظل -إلى أن يثبت العكس- محتفظة بهويتها هذه, أعني: بهذا الارتباط الوثيق بين الجانب البدني، والجانب الأخلاقي. وهكذا نرى الآن رحابة الفكرة القرآنية عن الجزاء. إنها ليست نزعات خاصة لإنسان، ولا آراء شخصية لفيلسوف ولا رأيًا شائعًا في عصر، أي عصر، سواء أكان معاصرًا للإسلام، أم سابقًا عليه، أم لاحقًا به، ليس ذلك كله هو ما تعبر عنه هذه النظرية، إذ إنها لما كانت شاملة بفضل غايتها أرادت أن تكون كذلك شاملة بفضل منهجها، ومن ثم فإن ما تركه الحكماء الأقدمون منذ سقراط وإيبيكتيت epictete، وما كتبه فلاسفة العصر الحديث حتى "كانت" و"ميل" وما جاء به القديسون، والأنبياء، منذ بدء الزمن، حتى موسى وعيسى -كل مذهب من هذه المذاهب لا بد أن يجد في النظرية القرآنية إحدى الصيغ التي يوافق عليها. وما ذلك إلا لأنها تستهدف النفس الإنسانية بكل قواها وفي كل أعماقها، ولأنها تدعو جميع الناس، في جميع الطبقات، ومن جميع درجات العقل.

وليس عدلًا في ذاته فحسب أن تتساوى المكافأة مع الجهد المكافَأ، من حيث التركيب والغناء، ولكن من حكمة المنهج أن يكون التعليم الشامل مزودًا بنظام للبرهنة يتساوى في تنوعه مع تنوع الاتجاهات، والأمزجة، والعقول، لدى من يتوجه إليهم، بحيث يستطيع كل منهم، تبعًا لطريقته في التفكير، أن يرى فيه أمورًا صالحة لإقناعه. فيجب أن يجد الأمر بالواجب تسويغه في الحقيقة، بأية صورة تمثلت، ويجب أن يكون قادرًا على ممارسة تأثيره في النفس، بأية عين تأملته، وذلكم هو ما يقدمه لنا القرآن. إن جلال الأمر الإلهي، ومطابقته للحكمة، وتوافقه مع الخير في ذاته، والرضا الذي يمنحه لأشرف المشاعر وأرقها، والقيم الأخلاقية التي يؤدي تطبيقه إلى تحقيقها، والغايات العظمى في هذه الدنيا، وفي الأخرى ... كل ذلك يسهم في دعم سلطان الواجب القرآني. بيد أن خاتمتنا هذه، بدلًا من أن تذلل جميع الصعوبات، يبدو أنها أثارت صعوبة جديدة؛ ذلك أن جميع الطاقات حين تسخر على هذا النحو، وإذا ما توترت كل القوى ونشطت، وإذا ما تهيأت كل الوسائل واستعدت، فلا يبقى سوى أن تتحرك تحت عصا الإرادة -فهل سيكون من حق هذه الإرادة أن تستعير دوافعها من مجالات جدّ مختلفة؟ وهل يمكن أن يقوم أي شيء، في نظر القرآن على أنه حافز على العمل؟ وبعد أن وفقت الأخلاق القرآنية بين الاختلافات، وأجابت عن جميع المقتضيات المشروعة، على صعيد الجزاء -هل تبدو هذه الأخلاق لامبالية في مجال "النية" وذلك من وجهة نظر عرضنا للموضوع؟ أتكفيها المطابقة المادية، أيًّا كان المبدأ الذي يلهمها، أو حتى في غيبة الشعور بالواجب كلية؟ ... تلكم هي المسألة التي تواجهنا الآن بإلحاح، وهي ما خصصنا له الفصل التالي.

الفصل الرابع: النية والدوافع

الفصل الرابع: النية والدوافع مدخل ... الفصل الرابع: النية والدوافع "النية" l'intention بالمعنى الواسع للكلمة: حركة تنزع بها الإرادة نحو شيء معين، سواء "لتحقيقه"، أو "لإحرازه". والموضوع المباشر للإرادة الفاعلة هو "العمل" الذي تشرع في أدائه، ولكن هذا المشروع لا يكون ممكنًا كمشروع إرادي على وجه الكمال، إلا حين يلمح الإنسان في صميم العمل ومن ورائه شيئًا من الخير، أيًّا كان، يزكيه في نظره، وينشئ له سبب كينونته. وفي هذا يكمن الموضوع غير المباشر، أو الغاية الأخيرة التي يقصد إليها الجهد العاقل، الواعي، والتي يتطلع إلى بلوغها. وتطلق كلمة "غاية" FIN أو "هدف" BUT على ذلك الموضوع البعيد، من حيث هو حقيقة مستقبلة يتعين السعي وراءها وبلوغها، ولكنه من حيث هو مبدأ أو فكرة، تحفز النشاط الإرادي، وتمهد له، يطلق عليه "باعث" motif أو "دافع" mobile, فهما كلمتان معتبرتان بعامة مترادفتين تمامًا، على حين أنهما تشتملان على قدر كافٍ من الألوان الدلالية، يحدد لتصوراتنا دورًا مختلفًا في هذا الإعداد للعمل. فباعتبار أنها "باعث" تصور فكرة الخير الأسمى حالة عقلية صرفة، تستخدم في تسويغ العمل المعتزم، وجعله معقولًا، وبيان مطابقته للقانون أو الشرع. بيد أننا حين نتجاوز هذه المرحلة العقلية نجد أن فكرة الهدف تتمثل

لنا كقوة محركة تدفع نشاطنا، وحين ننظر إليها من وجهة هذا التأثير على الإرادة فإننا نطلق عليها اسم الدافع mobile. ويمضي "كانت" إلى ما هو أبعد من ذلك في هذه التفرقة، حين يطلق كلمة "دافع mobile" إطلاقًا نوعيًّا على الغايات الذاتية، الصادقة بالنسبة إلى الشخص فحسب، على حين يطلق "البواعث motifs" مرادًا بها عنده الغايات الموضوعية، الصادقة بالنسبة إلى جميع الكائنات العاقلة1. وأيًّا ما كان أمر هذه الألوان الدلالية، فإن نقطة انطلاقنا في هذا الفصل هي التفرقة الواضحة بين نوعين من مطالب الإرادة هما: الماهية le quoi، والسبب le pour quoi. فمن المسلم لدينا في الواقع أنه في أي قرار عادي يتخذ بعد تأمل كافٍ -لا بد للإرادة من نظرتين: إحداهما تنصبّ على العمل، والأخرى على الغاية وهذه العين الغائية للإرادة قد تغض الطرف، ولكنها لا تكون مغلقة بصورة كاملة مطلقًا، ولقد يبتعد الموضوع الذي تتأمله من مجال الشعور الواضح، ولكن لن يقلل ذلك من حقيقة حضوره فيما تحت الشعور، أو في اللاشعور، وهو أكثر عمقًا وخصوصية. بل إن هذا الموضوع هو المبدأ الأول الذي يلهم الإرادة ويحدد حركتها نحو العمل. هاتان النظرتان للإرادة هما موضوعان مختلفان من موضوعات الدراسة في العلم. فعلى حين أن النية الغائية يكثر تناولها بخاصة لدى الأخلاقيين، نجد أن علماء النفس والقضاة مشغولون أكثر بدراسة النية بمعناه العام، والموضوعي بعامة، بحيث يجوز لنا أن نفرق بين هذين النوعين من النية، بأن نطلق

_ 1 انظر: Kant, Fondement de la meta. Des Moeurs, 2 section, p. 148.

عليهما، كل على حدة: النية الأخلاقية، والنية النفسية، "أو السيكولوجية" لا لأن الأخلاقية لا تهتم باختيار الموضوع المباشر "فهذا الاختيار بعكس ذلك هو شرطها الأولي"، ولكن لأن الفعل الذي يفقد فقدانًا كاملًا هذه النية الأولى -لا يدخل في مجال الأخلاق amorale1، أعني يكون محايدًا؛ على حين أن الإرادة التي تسعى وراء غايات غير مشروعة هي إرادة ضد الأخلاق immorale، أعني: آثمة. أما النية النفسية، فإنها لا تفعل أكثر من أن تمنح العمل حق الحياة، إنها تجعله صحيحًا، يعتمد عليه، والنية الحسنة أخلاقيًّا تجلب إليه ما يناسبه من القيمة. ولقد كان من المستحسن دون شك أن يحدد هذان النوعان في اللغة الشائعة بتسميتين مختلفتين، ولكن لم يحدث من ذلك شيء، بكل أسف، بل لقد خلطت اللغة بينهما دائمًا في لفظ واحد، تاركة لنا مهمة تمييز المعنى الدقيق المراد منه، بحسب السياقات، أو الظروف التي يستعمل فيها. أما الذين يولعون بالوضوح والتحديد، فينبغي عليهم إذن أن يلجئوا إلى صفات مميزة، مثل: الأولى، أو الثانية، المباشرة أو غير المباشرة، النفسية أو الأخلاقية، الموضوعية أو الغائية. ومع ذلك، فإن بعض الأخلاقيين يحتفظون باسم "نية intention" للمعنى الذي يرتبط بالعمل، وباسم "القصدية intentionnalite" للمعنى الذي ينصرف إلى الغاية، حتى يبددوا هذا الغموض، ويختصروا الكلام في نفس الوقت. أما نحن، فسوف نعنون هاتين الدراستين بكلمتي: "النية intention" و"الدوافع mobiles" -من أجل مزيد من الوضوح.

_ 1 يقصد بهذه الكلمة أنه ليست فيه فكرة الأوامر الأخلاقية، فلا علاقة له بها. "المعرب".

النية

النية مدخل ... النية: سوف نفترض الآن أن الإرادة أمكنها أن تحصر نفسها في العمل، وأنها قد امتصت فيه امتصاصًا كاملًا، دون هدف آخر، أو نية مستترة، وأنها قد قطعت كل صلة لها بالأسباب العميقة التي تحفزها إلى ذلك العمل. إن اتجاهها المسدد على هذا النحو، إلى العمل الذي تنتجه، أو هي بصدد إنتاجه، يطلق عليه: "قصد، أو نية -intention"، فعلى أهبة القيام بالعمل تعني كلمة "intention" قرارًا يتفاوت في ثباته؛ فهو "القصد" و"العزم"، فأما حين يتزامن مع العمل -وتلك هي الحالة التي تكون فيها كلمة "نية" هي اللفظة المناسبة- فهو الشعور النفسي الذي يصحب العمل، أعني أنه موقف عقل يقظ, حاضر فيما يؤديه. بيد أن فكرة "القصد، أو النية" في كلتا الحالين؛ ولأنها تتصل بواجب عمل -ينبغي أن تنطوي عنه على ثلاثة عناصر تكوينية، وثلاثة فحسب، هي: 1- تصور المرء لما يعمله. 2- إرادة إحداثه.

3- إرادته بالتحديد، على أنه شيء مأمور به، أو مفروض. فهذه الفكرة إذن هي الشعور الذي يتحقق لدينا من نشاطنا الإرادي، سواء حين يكون هذا النشاط على وشك أن يمارس، أو خلال ممارسته، مع معرفتنا أننا نسعى بذلك إلى أداء واجب ملزم. فإذا حددنا هذه الفكرة على هذا النحو فإنها سوف تقدم لبحثنا عددًا من المشكلات التي تطلب حلًّا: ما الذي يحدث إذا ما غابت النية كليًّا، أو جزئيًّا؟ وإلى أي حد يمكن للنية أن تغير طبيعة العمل؟ وهل تكون الغلبة في الفعل الأخلاقي التام، للعمل أو للنية؟ وإلى أي حد تستطيع النية بمفردها أن تقوم بدور واجب كامل؟

النية كشرط للتصديق على الفعل

أ- النية كشرط للتصديق على الفعل: أما بالنسبة إلى المسألة الأولى، وهي المسألة التي تتصل بغيبة النية، فلكي نزيدها تحديدًا يجب أن نتذكر أولًا ما سبق أن قيل في موضوع المسئولية. ولقد رأينا1 كيف أن الشرع الإسلامي يضرب صفحًا عن أي عمل ينقصه أحد العنصرين النفسانيين: المعرفة، والإرادة. فالعمل اللاشعوري، أو الحدث المادي الصرف، الذي يحدث عن طريقنا، دون أن نشعر به، بأن نكون نائمين مثلًا، هذا العمل لا يمكن أن يوصف بحسن أو قبح، ما دام لا يمكن أن نحاسب عليه. ومن هذا القبيل العمل الشعوري, حين يكون غير إرادي، إنه حدث يتم بعلمنا، ولكن مستقلًّا عن إرادتنا، في صورة طارئ نتعرض له، صادر عن قوة لا تقاوم، وذلك كحادث أو تصادم. ولقد كنا نقول حتى الآن: إن المبادئ القانونية، والمبادئ الأخلاقية تسير جنبًا إلى جنب. بيد أنها تبدأ في الافتراق منذ أن يصبح الأمر متعلقًا.

_ 1 انظر فيما مضي ص334.

بعمل شعوري وإرادي، ولكن يفتقر إلى النية؛ أي: حين يدور القانون على جانب منه، وتدور الإرادة على جانب آخر، بحيث إنه، على الرغم من كونه من الناحية المادية يمكن اعتباره متفقًا مع القانون، أو مخالفًا له، فإنه لا يمكن أن يكون كذلك من حيث الروح التي تم بها، وتلك هي حالة القتل الخطأ، أو أي حدث يتم بنية حسنة، ولكنه يسبب أضرارًا للآخرين. فعلى حين يعلن القانون الأخلاقي، كما يعلن قانون العقوبات من جانب آخر: أن أعمالنا لا تنسب إلينا إلا بقدر النية التي نؤديها بها، فإن القانون المدني يحاول أن ينفذ هنا نوعًا من الحل الوسط: فهو، وإن كان يبرئ الشخص، يستخدم جزءًا من ثروته لإصلاح الضرر الذي تسبب فيه. هذه الاعتبارات التي قدمناها من وجهة نظر المسئولية والجزاء، يجب أن نعيد تناولها هنا من وجهة نظر التصديق على الفعل، فمن هذه الزاوية الأخيرة يبدو أن ما وصلنا إليه من نتائج يتعرض للنقض أو الهجوم، في مواضع مختلفة، حيث يظهر الشرع الإسلامي قانعًا بما حصل من نتيجة، حتى لو كانت تحدث ضد نيتنا، أو حتى دون علمنا. ويمكن تشبيه ذلك بسداد دين معين عن طريق طرف ثالث، دون أن يقوم هذا الأخير بإخطار المدين، أو يسترجع ماله منه. وحتى لو أن الدائن لجأ إلى تصرفات قاسية، فبلغ به الأمر أن ينتزع حقه انتزاعًا، فلن يعود له شيء يطالب به. ومن الممكن أن يتم أداء الأمانة، والمساعدة المادية للمعوزين، في نفس الظروف, حتى إنه في حالة رفض الأغنياء أن يدفعوا زكاة العشر، فإن الحكومة تستطيع، بل يجب عليها، أن تتصرف بكل أنواع الضغط على

الأغنياء، حتى تضمن للفقراء حقهم. ولا شك أننا نعرف خبر المعركة القاسية التي خاضها الخليفة الأول أبو بكر -رضي الله عنه- في هذا الشأن1. بيد أن جميع الحالات التي ذكرناها لا تمثل صعوبات خطيرة، ولا هي بحيث تحير الأخلاقي. غير أن الحقيقة -في واقع الأمر- أننا لا نعفى إعفاء كاملًا من واجباتنا نتيجة حدث يقع مستقلًّا عنا، أو رغم إرادتنا. ويجب في الأمثلة السابقة أن نميز بين جانبين مختلفين للواجب، ذلك أنه إذا كانت العدالة تقتضي أن يتملك كل إنسان من الطيبات ما له فيه حق -فإن ذلك ينتج عنه تكليف مزدوج: أولًا: على من يحوز الشيء مناقضًا في حيازته الشرع أن يرده إلى مالكه، وثانيًا: على الأمة أن تحرص على ألا تضيع حقوق أصحاب الحقوق أو تهضم، فإذا لم يتم الأداء بوساطة الحائز لزم التدخل لإقرار النظام. وليست الدولة وحدها، وهي الهيئة العليا التي تمثل المجتمع في هذه المهمة العامة -هي التي يجب أن تعمل لكي تسود العدالة بين الناس، بل إن كل عضو في الجماعة خاضع لهذه الضرورة الأخلاقية، في حدود وسائله المشروعة، بحيث يترتب على ترك الرذيلة تستشري، والعدالة مختلة -أن يصبح التقصير جريمة شاملة. وإذن فإن أولئك الذين يؤدون واجباتي الاجتماعية، بدلًا مني، أو أولئك الذين يحملونني على أدائها على الرغم مني -هؤلاء وأولئك لا يفعلون ما يفعلون من أجلي، بل من أجلهم هم، بمقتضى واجب آخر، فليقم من شاء بهذا

_ 1 كان ذلك من أسباب حروب الردة، وقد قال أبو بكر -رضي الله عنه- آنذاك: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم على منعها". البخاري, باب وجوب الزكاة. "المعرب".

إن على الأمة وحدها يقع عبء حفظ النظام العام، والدفاع عن الحق المشترك، ومنع الظلم الظاهر, وعلى كل منا أن يراقب موقفه الباطني، وأن يتحقق من توافقه مع روح الشريعة. ولكن، ألا يجب منذئذ، ومن وجهة النظر التي نقول بها الآن، أن ننتهي إلى "الموضوعية المحضة" في التشريع الاجتماعي الإسلامي؟ الواقع أن المبدأ الذي يستخلص من هذا البحث مختلف اختلافًا تامًّا عن المبدأ الذي رأيناه حتى الآن. فعلى حين قد رأينا أن "الأخلاقية" و"المشروعية" لم تكونا تفترقان من حيث المسئولية والجزاء إلا في منتصف الطريق، إذ بنا نشهد الآن انفصالًا أساسيًّا من حيث قبول الفعل، بين القانون الأخلاقي، والقانون الاجتماعي، منذ البداية. فمن الناحية الأخلاقية لا يمكن أن ندخل في باب الأخلاق أي عمل إذا لم يكن شعوريًّا، وإراديًّا، وانعقدت عليه النية في آن واحد. ولا شيء من هذه الشروط بضروري للنهوض بالتكليف الاجتماعي، وإنما يجب، ويكفي، أن يستوفي العمل بعض الشروط الموضوعية المحضة، المتعلقة بالمكان، وبالزمان، وبالكم، وبالكيف، حتى لو تحققت الصور الواقعية منه وحدها، دون علم، ودون إرادة، وسواء أكان نتيجة إكراه، أو صدفة. ولا ريب أن الرأي العام لا يرضى تمامًا بهذا، فهو يرفض قطعًا أن يمنح تقديره للأحداث التي تقع في ظروف كهذه، بيد أن وجهة النظر التي يتخذها في هذا التقدير ذات طابع أخلاقي خالص. وربما كان أخطر الاعتراضات هو أن نكشف عن وجود أفعال أخلاقية

إن على الأمة وحدها يقع عبء حفظ النظام العام، والدفاع عن الحق المشترك، ومنع الظلم الظاهر, وعلى كل منا أن يراقب موقفه الباطني، وأن يتحقق من توافقه مع روح الشريعة. ولكن، ألا يجب منذئذ، ومن وجهة النظر التي نقول بها الآن، أن ننتهي إلى "الموضوعية المحضة" في التشريع الاجتماعي الإسلامي؟ الواقع أن المبدأ الذي يستخلص من هذا البحث مختلف اختلافًا تامًّا عن المبدأ الذي رأيناه حتى الآن. فعلى حين قد رأينا أن "الأخلاقية" و"المشروعية" لم تكونا تفترقان من حيث المسئولية والجزاء إلا في منتصف الطريق، إذ بنا نشهد الآن انفصالًا أساسيًّا من حيث قبول الفعل، بين القانون الأخلاقي، والقانون الاجتماعي، منذ البداية. فمن الناحية الأخلاقية لا يمكن أن ندخل في باب الأخلاق أي عمل إذا لم يكن شعوريًّا، وإراديًّا، وانعقدت عليه النية في آن واحد. ولا شيء من هذه الشروط بضروري للنهوض بالتكليف الاجتماعي، وإنما يجب، ويكفي، أن يستوفي العمل بعض الشروط الموضوعية المحضة، المتعلقة بالمكان، وبالزمان، وبالكم، وبالكيف، حتى لو تحققت الصور الواقعية منه وحدها، دون علم، ودون إرادة، وسواء أكان نتيجة إكراه، أو صدفة. ولا ريب أن الرأي العام لا يرضى تمامًا بهذا، فهو يرفض قطعًا أن يمنح تقديره للأحداث التي تقع في ظروف كهذه، بيد أن وجهة النظر التي يتخذها في هذا التقدير ذات طابع أخلاقي خالص. وربما كان أخطر الاعتراضات هو أن نكشف عن وجود أفعال أخلاقية

لا علاقة لها بالحياة الاجتماعية، وهي أفعال قد يقنع القانون فيها، سواء بالتعبير المادي عن الواجب في غيبة واقعه النفسي، أو بمجرد حضور هذا الواقع النفسي، دون أن يتطلب منه واقعًا أخلاقيًّا, وهو الواقع الذي تؤلف فكرة الواجب فيه جزءًا جوهريًّا من العمل الشعوري المقبول بحرية تامة. إن أفعالًا كهذه لا ينبغي أن توجد من حيث المبدأ: أولًا: لأن القرآن يتطلب منا الشعور النفسي، وحضور الذهن فيما نقول، وفيما نفعل، وذلك حين يمنعنا من أن نتصور أداء واجباتنا المقدسة ونحن في حال شرود، أو إغماء، أو سكر: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} 1. ثم هو يتطلب منا بعد ذلك الضمير الأخلاقي، بالمفهوم الأسمى لهذه الكلمة: رضا القلب، وتلقائية الفعل، والسرور، والهمة التي يؤدى بها الواجب. تلكم هي الصفات التي تجعل أعمالنا مقبولة عند الله. وهذا هو السبب فيما أعلنه القرآن من أن أولئك الذي يقدمون بعض الصدقات، أو بعض شعائر التقوى، كسالى مرغمين -لن تقبل أعمالهم عند الله أبدًا: {وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} 2. وهو أيضًا السبب في أنه وصف هؤلاء الناس الذين لا إيمان لهم، ولا شجاعة عندهم، والذين يتظاهرون جبنًا بالإيمان المنافق، عن خوف، لا عن اقتناع -وصفهم بأنهم ليسوا مطلقًا في عداد المؤمنين: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُون} 3. والشرط الصريح للأخلاقية "وللإيمان ذاته" يتمثل، كما حدث القرآن،

_ 1 النساء: 43. 2 التوبة: 54. 3 التوبة: 56.

في أن يقبل المرء مختارًا جميع أوامر الشريعة، وأن يخضع نفسه لها كلية، لدرجة ألا يجد شيئًا يتردد في نفسه {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 1. بيد أننا لكي نقدم للقارئ قولة عامة تلخص وتستوعب بلا حدود هذه الأمثلة القرآنية -لا نجد خيرًا من أن نذكر تلك القولة المحمدية التي جعلها البخاري في صدر صحيحه من الحديث الشريف: "إنما الأعمال بالنيات"، وهذه القولة التي يتجرمونها عادة بمعنى: "إن الأعمال لا قيمة لها إلا بنواياها"، -هي في الواقع أكثر مضمونًا ووضوحًا من ترجمتها؛ إنها تقول بالحرف: "إن الأعمال لا توجد "أخلاقيًّا" إلا بالنوايا". ومع ذلك فقد توجد بعض الواجبات الفردية، وبتعبير أدق: بعض الشعائر الدينية، تغاضى الفقهاء المسلمون بشأنها عن غيبة النية، وهو موقف عام لهم، إن لم يكن إجماعًا بينهم. ومثال ذلك حالة الاستبراء والتطهر، وسائر مقدمات الصلاة، فمن المعروف أن على كل مسلم إذا أراد أداء الصلاة أن يمر قبلها بنوع من مرحلة الانتقال، وهو الانتقال من العالم المدنس للحياة الأرضية، إلى العالم المقدس للحياة الروحية، فيجب أولًا أن يزيل النجاسات والوساخات من مكان عبادته، كما يزيلها من بدنه، وملابسه، وهي الملابس التي ينبغي أن تكون ذات هيئة محتشمة. ويجب فضلًا عن ذلك أن يقوم، تبعًا للحالة، بتوضؤ جزئي "فيغسل الوجه, واليدين, والقدمين, ويمسح شعره", أو بتوضؤ كلي "بأن يغتسل اغتسالًا كاملًا". ويجب أخيرًا

_ 1 النساء: 65.

أن يولي وجهه شطر الكعبة1 في مكة، وأن يظل على هذا الوضع طوال الصلاة. وإذن، فقد انعقد الإجماع تقريبًا، فيما يتعلق بالتوجه، واللباس، والنظافة الطبيعية -على أنه لا يلزم أن يكون أداؤها عن نية وإرادة، أما فيما يتعلق بالنظافة الدينية المحضة "الوضوء والغسل"، فقد اختلفت المذاهب: فعلى حين تشترط لها مذاهب أهل الحجاز ومصر "المالكية، والشافعية والحنابلة" -وجود النية، على أساس أنها واجب بالنظر إلى الصلاة، يكتفي مذهب أهل العراق "الحنفي" بالواقع الموضوعي، متى التزم في دقة، حتى لو كان عن غير نية. وقد ثار خلاف كهذا حول الوقوف على جبل عرفات، أثناء أداء الحج بمكة. فكيف إذن نفسر هذه الاستثناءات التي تؤدي إلى تقويض المبدأ العام، مبدأ النية، الذي أعلن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه لازم لا ينفصل عن كل نشاط أخلاقي؟ حاول أتباع الفقه العراقي لذلك تفسيرين، فبدءوا بتبني التأويل الشائع للحديث عن النية، وأن بطلان العمل غير المصحوب بالنية هو وجه من وجوه الكلام فحسب، فالنية شرط ضروري، لا لوجود العمل الأخلاقي في ذاته، أي: صحته، بل لكماله، واستيفائه قيمته الكاملة. وهكذا يقررون مع خصومهم في الرأي أن الواجب الذي لا يؤدى بحضورالقلب، بل باعتباره أمرًا -لن تكون له قيمة إيجابية، ولن يستوجب أية مكافأة، ولكنهم

_ 1 أكد القرآن أنها أقدم مكان للعبادة وجد على الأرض {أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاس} [آل عمران: 96] .

لا يرونه باطلًا مطلقًا، أو ذنبًا، وحسبه أنه يكفي لإبراء صاحبه من التكليف بإعادته مع النية. فإذا أتى هؤلاء الشراح إلى افتراض أن الحديث ينص على الإبطال الكلي للعمل غير المصحوب بالنية، التزموا بتقييده، حيث يطبقونه فقط على الواجبات الأساسية، التي يؤمر بها لذاتها، لا لغيرها من الواجبات الأخرى. ومن ثم تفيد أشكال الطهارة من هذا التجاوز؛ لأنها لم يؤمر بها إلا كمقدمات للصلاة، التي تعتبر هنا الواجب الأول. هذا التفسير المزدوج لا يبدو لأعيننا كافيًا؛ لأنه في جزئه الأول يهمل المعنى الحقيقي للكلمات دون ضرورة ظاهرة، وهو في جانبه الثاني يستبعد جميع الواجبات المساعدة بصورة منهجية، على حين أن من بينها واجبات ينبغي أن تؤدى صراحة -تبعًا لنفس المذهب- باعتبارها واجبات: "ومن ذلك الطهارة الرمزية التي يطلق عليها: التيمم". ولسوف نحاول من جانبنا أن نستخلص السبب الحقيقي في هذا التجاوز، لدى هؤلاء وهؤلاء. وفي رأينا أن جميع الحالات المتجاوز عنها لا تمثل تقييدًا يرد على مبدأ النية، وإنما هو مجرد اختلاف في فهم الموضوع الذي تستهدفه قاعدة أو أخرى من القواعد العملية. وهذا الاختلاف ينحصر في كلمتين: "العمل"، و"الكينونة"، والواقع أنه طالما كان الأمر أمر نشاط تجب ممارسته، فإن هذا النشاط لا يمكن أن يكون إلا إراديًّا، ولن تكون له الصفة الأخلاقية، إلا إذا كانت الإرادة قائمة على الطابع التكليفي لهذا النشاط. فالأخلاقية والنية صنوان لا ينفصمان. فأما إذا كان الأمر بالعكس, مجرد حالة حدوث، فهنا لا تهم كثيرًا

الطريقة التي تحدث بها هذه الحالة، بل لا ينبغي أن يستثنى من ذلك أن تحدث بوساطة الصدفة، أو المعجزة. ومن الواضح في هذه الظروف أن النتيجة التي يحصل عليها بأية وسيلة، سوف تعفينا مطلقًا من تكاليفنا، حيث كان الواجب أن يكون شيء فحسب، ولقد كان. وعلى ذلك, فإننا نعتقد أن هذه الاستثناءات كلها تقوم على سبب عميق هو أننا ندرك أحيانًا من وراء الواجب الإيجابي الفعَّال الذي يقتضي بالإجماع حركية الإرادة -ضرورة أخرى سلبية أو منفعلة، أي: واجبًا ساكنًا1 "غير حركي" إن صح التعبير. ولقد نتصور بعض القوانين على أنها لا تستوجب فحسب نشاطًا من جانبنا، ولكنها تستوجب كذلك نتيجة ينبغي بلوغها بأي ثمن، بل وقد لا تستهدف غير هذه النتيجة. وأما مسألة معرفة ما إذا كان هذا القانون أو ذاك له فعلًا أهداف كهذه -فهي مسألة تفاصيل، تهم أكثر ما تهم حالات التطبيق، ونحن لا يعنينا سوى أن نستخرج وجهة النظر العامة، التي تحكم كل هذه الترخصات. وقد ميز علم أصول الشريعة الإسلامية في شرح القانون بين ضربين: أولهما: خطاب تكليف، وهو الذي يقوم على فعل شيء أو تركه. وثانيهما: خطاب وضع، ويراد به وضع الشروط والأسباب، وبيان حال الصحة وعدمها2.

_ 1 عبارة "حركية الإرادة" هي ترجمة لعبارة le dynamisme وعبارة "واجبًا ساكنًا" ترجمة لعبارة un devoir statique -وهما متقابلتان. "المعرب". 2 انظر في هذا الموافقات للشاطبي 1/ 287. "المعرب".

ومن الثابت في هذا العلم أن الأفراد الذين يعجزون عن أن يكونوا موضع تكليف ليسوا بأقل أهلية لأن تتوجه إليهم الأوامر الوضعية. ولذلك يفرض في مال الصبية والمجانين ما يفرض في مال الآخرين من أفراد الجماعة، ومتى ما أديت هذه الفرائض في أوانها أصبحت الشريعة مستوفاة استيفاء كاملًا، بمعنى أن هؤلاء الأفراد القاصرين عندما يبلغون، أو يستردون شخصيتهم الأخلاقية لن يلزمهم أن يدفعوا مرة أخرى بالنسبة إلى الماضي، دفعًا مقرونًا بالنية. وها نحن أولاء من خلال التفرقة التي أجريناها بين "واجب العمل" و"واجب الكينونة" -قد أبرزنا فائدة تلك الفكرة القانونية القديمة، بل جعلناها أكثر وضوحًا، وأشد بساطة، وبسطنا امتدادها إلى الأفعال الأخلاقية. أما وقد بسطت ووسعت هذه الفكرة على هذا النحو، فإنها تصبح قادرة على أن تحل مباشرة المجموعتين من الصعوبات التي صادفناها آنفًا، ولن يكون من العسير أن نتحقق من صدقها في جميع الحالات المذكورة من قبل؛ فردية أو اجتماعية، والتي كان فيها للفعل الذي تم عن جهل، أو بالإكراه -نصيب من القبول والموافقة. هل نحن بحاجة إلى القول بأن كل هذه المحاولات ليس الهدف منها أن نرد إلى الموضوعية في الأخلاق اعتبارها، وأن نخلع بعض القيمة على العمل غير المصحوب بالنية؟! من البداهة بمكان أن فعلًا كهذا لا يمكن أن ينسب إلى أحد من الناس، فهو عمل يبدو وكأنه لا يحمل اسمًا، ولا يعقب أدنى فضل للفرد. ولقد رأينا كيف أن المدرسة العراقية، وهي أقل المدارس اقتضاء في موضوع النية كشرط "لصحة الفعل" تنضم إلى المدارس الأخرى في حتمية وجود

النية كشرط "لقيمة الفعل"، أي: شرط كمال، وإذن، فإن الإجماع في هذه النقطة أمر حاصل ويتعين، على العكس، أن نعثر على هذا الإجماع في النصف الثاني من المسألة، أعني أن نبين أنه طالما كان الأمر متعلقًا "بواجب حقيقي إيجابي" -فإن أي مذهب إسلامي -فيما نعلم- لم يسلم بالصحة الأخلاقية لأي عمل موضوعي تنعدم فيه فكرة الواجب من الضمير. ولقد رأينا فعلًا أنه حيثما توفرت هذه الصحة للفعل أحيانًا أمكن تصور القانون في صورة "عدالة محايدة"، و"غير شخصية"، تستهدف الشيء، لا الشخص، حتى كأن الصيغة لم تكن في هذا الصدد: "يجب أن تفعلوا" ... ولكن: "من الضروري أن يكون هذا"، أي: إنهم بدءوا بإلغاء فكرة التكليف، في حالة معينة، بالمعنى الأخلاقي للكلمة. وهكذا نجد أن الارتباط العام والضروري الذي أقره الحديث بين "العمل" و"النية" محترم بالإجماع.

النية وطبيعة العمل الأخلاقي

ب- النية وطبيعة العمل الأخلاقي: لقد أتاح بحث المسألة الأولى، الخاصة بغيبة النية، أن نثبت مبدأ النية، كشرط صحة أخلاقية في كل عمل. فالحدث اللاشعوري، والحدث اللاإرادي، بل والعمل الشعوري الإرادي الذي لا يتصور على أنه خضوع "أو إخلال" بتكليف، وإنما يؤتى من جانبه الطبيعي الدنيوي -هذا كله عاجز عن الوفاء بواجبنا، عندما يجب. ولنبحث الآن الدور الإيجابي للنية، أعني: درجة فاعلية وجودها. وأول ما نبحثه هو مسألة معرفة ما إذا كان لها أن تحدث تعديلًا عميقًا في طبيعة العمل ذاتها، وبعبارة أخرى: ما إذا كان العمل السيئ الذي وقع

بحسن نية يكتسب بذلك قيمة أخلاقية، ويصبح على هذا النحو عملًا فاضلًا، وفي الحالة المضادة هل يكون عكس هذه الحالة صحيحًا؟ وقبل أن نجيب عن هذه المسألة نعتقد أن من الواجب أن نتذكر معنى المصلحات التي تصاغ بها. فما المراد بعبارة: نية حسنة أو سيئة؟ إننا ما زلنا نفترض أن الإرادة حبيسة في أعمالها، وكيفيات هذه الأعمال، بصرف النظر عن جميع الدوافع التي قد تحملها عليها. ومن ثم، فإن حسن النية لا يمكن أن يتمثل هنا في شرف الغايات التي قد تتحرك بها الإرادة. ومع أن دراسة هذه الفكرة الغائية يجب أن نستبقيها للقسم الثاني من هذا الفصل، فإن قيمة النية تنبع هنا فقط من الطريقة التي نحكم بها على مشروعاتنا، من حيث اتفاقها أو اختلافها مع القانون. ولما كانت أحكامنا الأخلاقية لا تتوافق بالضرورة مع واقع الأشياء، فقد يكون بينها وبين الإرادة فاصل، حين تسعى الإرادة إلى بعض الأمور على أنها مطابقة أو مناقضة للواجب، ولكنها لا تكون كذلك في الواقع. والمسألة، في الحقيقة، هي في محاولة معرفة ما إذا كان يكفي أن نحكم بصدق على عمل ما بأنه مباح أو ممنوع، وأن نتابعه بهذا الاعتبار، لكي يكتسب الصفة التي أسبغناها عليه، إن لم يكن في ذاته، فعلى الأقل بالنسبة إلينا. وتلك مسألة يصعب علينا إلى أقصى حد أن نعطي عنها إجابة قاطعة، بالإيجاب أو بالنفي. ذلك أننا، من ناحية، لو التزمنا بدقة التعبير، وأخذنا بالفكرة القائلة بأن النية الحسنة هي في ذاتها الخير الأخلاقي: "الخير المطلق بلا قيود"،

"الخير الوحيد في العالم، بل وفيما وراء العالم"1 فلسوف يقودنا ذلك منطقيًّا، لا إلى تسويغ جميع الأخطاء، والضلالات، التي تحدث للضمير فحسب، بل إلى أن نتخذ منها قيمًا مطلقة، ونماذج كاملة من نماذج الفضيلة، ولسوف يكون محاولة مخفقة أن نرجو إبعاد هذه الحالات على أنها: "أعمال مناقضة للواجب" -كما حاول "كانت" بعد ذلك بقليل أن يفعل؛ لأن الحالات المذكورة على وجه التحديد يفترض صاحبها أنها مطابقة للقاعدة. ولو عنَّ لإنسان أن يتطلب خارج مجال النية مطابقة مادية للقانون، على ما هو عليه في ذاته فلن يعدو الأمر حينئذ أن يهدم ما هو بسبيل بنائه، حيث يرجع بهذه الطريقة عن مبدأ القيمة المطلقة للإرادة الطيبة، الذي يريد اتخاذه كأساس. هذا من ناحية, ومن ناحية أخرى، لو أننا اعتبرنا توجيهات الضمير عاجزة عن تغيير أي شيء في طبيعة العمل، فإن أكثر الطوايا إثمًا، وأشد النوايا سوادًا ينبغي أن تتقبل في نطاق الأخلاقية كما تتقبل أكثر النوايا استنادًا للمسوغات الطيبة، بشرط واحد هو أن تبدو مادة العمل دون أي مأخذ عليها في نظر الشرعية. وهكذا نحن عاجزون عن الإجابة بنعم، أو بلا، إجابة قاطعة، فالمشكلة تضعنا أمام مأزق يبدو من الصعب الوصول إلى مخرج منه. ومع ذلك فإن هذه الصعوبة المزدوجة تتعلق تعلقًا واضحًا بتطلب للمطلق، زائد عن الحد، وهو تطلب لا يجد هنا أدنى صدى في الضمائر النزيهة، والواقع أننا لا نستطيع في تقديراتنا الأخلاقية أن نقرر أن آراءنا الباطنة لا تأثير لها في أعمالنا الظاهرة، ولكنا لا نذهب في هذه الطريق إلى حد إلغاء قيمة هذه الأعمال. فمهمة الفلسفة الأخلاقية التي تريد أن تبقى قريبًا من

_ 1 انظر: Kant, Fondements., lere phrase de la lere section

"أحداث الضمير" الذي تفسره -سوف تنحصر إذن في استخلاص ألوان هذا الشعور العادل، وإبرازها -بالرغم مما يشوب هذا الشعور من غموض- ثم ترسم لها الحدود بقدر ما تستطيع من دقة. فكيف حاول كبار الأخلاقيين المسلمين أن ينهضوا بهذه المهمة؟ وبم يتعلق الأمر أخيرًا؟ إن هناك بالنسبة إلى من يتخذ قرارًا أخلاقيًّا أربع حالات ممكنة: فهل هو يريد أن يعمل طبقًا للقانون، أو على الرغم منه؟ وفي كلتا الحالين، هل طريقته في العمل ذاتها موافقة لما يأمر به القانون؟ أم هي عكس ما يأمر به؟ فلنترك جانبًا الحالات التي ينفق فيها حكمه مع الواقع، إذ لا توجد في هذا الفرض أية صعوبة تواجه الأخلاقي. ولنقف عند الحالات التي يتباين1 فيها الذاتي من الموضوعي، فأي الرأيين يجب أن نتخذ منه مقياسًا للتقدير؟ أهو طريقتنا في تصور هذا العمل، أو ذاك، ووجه حكمنا على اتفاقه أو تعارضه مع القاعدة، التي تقرر نهائيًّا قيمة سلوكنا، والتي تطبع عليه طابعها الأخلاقي؟ ... تلكم هي المسألة. وإنا لنلاحظ في هذا الصدد أن إجابة الأخلاقيين المسلمين لا تتبع دائمًا خطًّا متوازيًا: فتارة يكون العامل الحاسم في حكمهم باللوم هو النية، وتارة

_ 1 سوف نعالج فيما بعد نوعًا آخر من الانحراف الذي يتمثل، لا في جهل الصفة الشرعية للعمل في ذاتها بل على وجه التحديد في إرادة استعمال هذه الشرعية حرفيًّا لإخفاء عملية أخرى يحرمها الشرع. وتلك هي الحيل التي يستعملها بعض رجال الأعمال. من أجل أن يحللوا الربا والغش فيما أحل الله. ففي هذه الطريقة في النظر نجد أن الاختلاف لا ينصب على الموضوع المباشر، بل على غاياته، وإنا لنرجئ دراسته إلى القسم الثاني من هذا الفصل، حيث سيكون موضوع بحثنا أن نتناول نيتين، تتبع إحداهما الأخرى "انظر فيما بعد 2، 5، 3".

جرم العمل، والحالة الأولى هي حالة عمل مطابق للشرع مع نية مخالفة، والحالة الثانية عكس الحالة الأولى. 1- فعندما يخطئ من يقوم بعمل ما في حقيقة الطبيعة الأخلاقية لهذا العمل، ثم ينفذه مع تصوره أن مشروعه يسير ضد القاعدة، وهو ينوي مخالفة الواجب -فليس من شك في أنه يدين نفسه بهذه الطريقة في السلوك. هنا نجد أن "مادة العمل ليست بشيء، وأن النية هي كل شيء"، وذلك هو الحكم الصريح لفقهاء المسلمين بإجماع. والأمثلة التالية ترينا بصورة كافية كيف أنهم يمدون هذا الحكم إلى كل مجالات الواجب، ومن ذلك أن يستولي رجل على مالٍ يعتقد أنه لغيره، ولكنه في الواقع ماله الخاص. وآخر: يخطئ الحكم على عصير فاكهة قدم له، فيأخذه على أنه خمر، ويشربه بهذه النية، على حين أنه غير محرم فعلًا. وثالث: يعتقد أنه سوف يموت في ساعة معينة، ومن ثَمَّ يجد نفسه مضطرًّا إلى أن يصلي مقدمًا، دون أن يؤدي هذه الصلاة في وقتها، مع أن مخاوفه لو تبددت لأداها في أوقاتها العادية. وعلى سبيل الإيجاز: إن كل من يشرع في عمل خاطئ في نظره، وإن كان مشروعًا في ذاته، يرتكب بهذه النية الآثمة جريمة في حق الشرع الأخلاقي، على الرغم من هذه المطابقة المادية، التي تنجيه قطعًا من الجزاء الشرعي. 2- أيكون الأمر على هذا النحو في الحالة المناقضة؟ وهل للنية الحسنة هذه القوة المغيرة التي تجعل الشر خيرًا؟ وإليك مثالًا: فنحن نعلم أن كثيرين من الناس شديدو التأثر والحساسية تجاه مقدساتهم، لدرجة أن أية إساءة توجه إلى آلهتهم الزائفة، التي يعبدونها -قد تستدعي من جانبهم أن يجدفوا في حق الله المعبود بحق؛ ومن ثم نهى

القرآن الكريم عن هذه الإثارة فقال: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} 1. ولكن، لو أن مؤمنًا غيورًا دفعته حرارة إيمانه إلى أن يعبر -دون تعقل- عن احتقاره للأصنام، دون أن يفكر في ردود الفعل المحتملة على هذا النحو، أفلن يكون معذورًا بنزاهة قصده؟ ومثال آخر: إن الأخلاق القرآنية تذم المجدفين والمغتابين: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} 2، بالقدر الذي تذم به الذين يسمعون لهم دون اعتراض، فيصيرون بذلك شركاءهم {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} 3، ولكن إذا لم أرد شرًّا قط بشخص المفترى عليه، وإذا كنت أعتقد فقط في وجوب أن أكون على علاقة طيبة بكل الناس، فلا أسيء إلى أحد، أو أظلم أحدًا، أفلا أستطيع مع محافظتي على مشاعري الخاصة، أن أدع المغتاب وشأنه، وربما كنت أكن له بعض الاحترام؟ وأليس من حقي أن أقول في نفسي إن التصرف على هذا النحو تصرف حميد؟ وحالة ثالثة: في الحق أن نشر العلم الحقيقي واجب على كل فرد بحسب وسائله، أي: على قدر الاستطاعة. فمن الواجب علينا أن نتقاسم مع الآخرين ما لدنيا من حقائق، وليس أقل من ذلك وجوبًا أن يكون عملنا هذا قائمًا.

_ 1 الأنعام: 108. 2 الحجرات: 12. 3 النساء: 140, والأنعام: 68.

على بصيرة. والعلم سلاح ذو حدين، يمكن أن يكون في خدمة العدالة، كما قد يصبح في خدمة الهوى. وإذن، فهل لأولئك الذي يحملهم المزاج، أو المنفعة، أو العادة على أن يسيئوا استخدام العلم -هل لهم حق في معارفنا، ولكن إذا لم يكن في نيتي أن أساعدهم على الإساءة، وإذا كنت أريد أن أنورهم، فقط، وبكل طيبة، ثم أدعم وشأنهم، يتصرفون على مسئوليتهم الكاملة -أليست هذه من جانبي لفتة كريمة، تستحق الثناء؟ كلا ... هكذا يؤكد أخلاقيونا، فإن الشر لا يمكن أن يصبح خيرًا بفضل كيمياء الإرادة، وبهذا النوع من سذاجة الضمير الذي أخطأ طريقه1. وليس لدى أخطائنا الموهبة السحرية القادرة على تطهير الدنس، بل إن هذا الخلط والتلون الذي نلجأ إليه يعتبر في أقوال الغزالي إثمًا آخر، قال: "بل قصده الخير بالشر على خلاف مقتضى الشرع شر آخر، فإن عرفه فهو معاند للشرع، وإن جهله فهو عاص بجهله "فجهله مزدوج؛ لأنه يجهل الشرع، ويجهل أنه يجهله، وقد قيل: أشد من الجهل الجهل بالجهل" إذ طلب العلم فريضة على كل مسلم، والخيرات إنما يعرف كونها خيرات بالشرع، فكيف يمكن أن يكون الخير شرًّا؟! ... هيهات ... ثم يقول: من قصد الخير بمعصية عن جهل فهو غير معذور2، إلا إذا كان قريب العهد بالإسلام ولم يجد بعد

_ 1 بهذا نرى أن الشر الأخلاقي لا يأتي هنا من أن الإرادة اتجهت إلى عمل مستهدفة عملًا آخر، وإنما هو يأتي بعكس ذلك تمامًا نتيجة هذا النوع من قصور الضمير، الذي لا يرى أبعد من العمل المباشر العاجل. 2 إذا كانت النية الحسنة "التي عرفت على أنها خطأ في الشعور بالصفة الأخلاقية للعمل نفسه" منكرة إلى هذا الحد, فما القول حينئذ في الحالة الأخرى التي يطلق عليها بنفس القدر من الابتذال: نية حسنة، وذلك عندما يعتقد الفاعل -مع أنه يرى في شغله خطأ جوهريًّا- أنه يحلله، ويضفي عليه صفة الشرعية، حين يريد به أن يسهم في عمل خير؟ وهكذا يفعل المزيفون من الوعاظ والدعاة إلى الإيمان، فهم بعد أن يخترعوا كلمات وعظية معسولة، يضعونها على لسان النبي، حتى يحثوا الناس -كما يزعمون- على الفضيلة، ومثلهم المجددون في طقوس العبادة، بزعم تمجيد الله. ويحشر في زمرة هؤلاء أصحاب المطامع السياسية، الذين يبيدون خصومهم الأبرياء بدعوى خدمة الوطن -إنهم جميعًا يذكروننا بالقصة المروية منذ قديم، قصة المرأة الفاجرة التي أرادت أن تتصدق بكسبها الخبيث!! كلا ... فإن أجمل الغايات وأعدلها في ذاتها لا يسوغ الوسائل التي لا يقرها القانون الأخلاقي على أنها وسائل مشروعة.

مهلة للتعلم"1. ومع ذلك، فإننا نضيف أنه إذا كان الجهل عذرًا فهل بوسعه أن يرقى بالنية الخاطئة إلى مرتبة مبدأ من مبادئ الأخلاقية؟ إذا كان الأمر كذلك فلماذا كان من الضروري أن يخرج المرء من هذا الجهل، وأن يرجع عن أخطائه؟ إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقصد بقوله: "إنما الأعمال بالنيات" 2 أن الأعمال لا تقوم، ولا توجد إلا بالنيات فحسب، بل قال أيضًا عن عائشة, رضي الله عنها: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد" 3، أليس هذا هو أفضل برهان على أن المسلك الحسن لا ينحصر في حسن النية وحده، ولا في دقة العمل وحدها، بل في مجموع من الشكل، والمادة، بحيث لا يمكن أن يستغني أحدهما عن الآخر؟ وإنا لنجد القولة الكاملة عن الواجب في الحديث المشهور: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" 4,

_ 1 الغزالي, إحياء علوم الدين 4/ 357-358, ط. الحلبي. 2 البخاري: الحديث الأول. 3 مسلم: كتاب الأقضية, باب 8. 4 مسلم: كتاب اللباس, باب10.

وفي الحديث الآخر: "لا يقبل الله قولًا إلا بعمل، ولا يقبل قولًا ولا عملًا إلا بنية"1. ولقد تناول الحسن البصري، وسعيد بن جبير -رضي الله عنهما- هذا الحديث، فكان من قولهما: "لا يصلح قول وعمل إلا بنية، ولا يصلح قول وعمل، ونية إلا بموافقة السُّنة"2. ومع ذلك، إن هذين الشرطين لا يمضيان دون شرط ثالث يستتبعانه، فليس يكفي أن يتوافق العمل مع القاعدة، وهو أمر قلناه دائمًا، بل يجب أن يكون هذا التوافق أو التطابق مرادًا، ومرضيًا بكل حرية. وإذن، فلكي يمكن أن تكون قاعدة معينة ملتزمة عن إرادة يجب أن تكون معلومة من قبل، ولذلك قسم النبي -صلى الله عليه وسلم- القضاة إلى ثلاث طوائف: واحدة منها هي الناجية، فقال: "قاضيان في النار، وقاض في الجنة، فالذي في الجنة رجل عرف الحق فقضى به، والذي في النار رجل قضى للناس على جهل، ورجل عرف الحق فقضى بخلافه" 3. ويجب أن نعترف بأن هذه الأقوال توقظ فينا أعمق ألوان القلق على أنفسنا، وإذا كان التحديد السليم للأخلاقية ينحصر في هذه المطالب الثلاثة، فما الذي يضمن لنا أننا سنسير طبقًا له؟ وما الذي يضمن لنا أننا -في حالة معينة سوف نعرف، ونتبع الشرع الموضوعي الذي يحكم هذه الحالة في الواقع؟ وإذا كان من واجب النية القلقة أن تجرم وتتهم النفس الأمارة

_ 1 انظر: أبو طالب، قوت القلوب: 2/ 326، والحسبة لابن تيمية 92. 2 انظر: ابن تيمية, الحسبة 92، وهذه رواية الحسن، ورواية سعيد "لا يقبل" مكان "يصلح". "المعرب". 3 انظر: الترمذي, كتاب الأحكام, باب 1.

المتمردة، فبأي حق يستطيع الانحراف اللاإرادي أن يبطل أعمالنا، على حين أنه ليس بيدنا أن نتجنب الخطأ؟ وإذا كنا -من ناحية أخرى- نريد الخير، ونقع بجهلنا في الشر، ثم لا تكفي نيتنا الحسنة لتبرئتنا، ولا تبلغ على وجه الدقة سوى عفو متسامح، فهل تكون جهودنا التي نبذلها في البحث عن الحقيقة -إذن- باطلة، بلا قيمة، وبلا جزاء، بحكم إخفاقها؟ إننا لكي نبدد هذا القلب ينبغي أن نذكر القانون العلوي للأخلاق القرآنية: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} . فإن ما يجب علينا ليس هو عدم الوقوع في خطأ، وليس هو أن نبلغ في جميع الظروف الصيغة الدقيقة للواجب في ذاته، وإنما هو أن نبذل جهدًا دائبًا، حتى نزداد معرفة بهذا القانون الموضوعي، ونهتدي بنوره. ولكن شتان ما بين الرغبة الحارة في أن نكون على الحق، والاعتقاد التلقائي بأننا نسير في طريقه، في الواقع، وما بين استخدام جميع الوسائل التي في قدرتنا لكي نصل إلى الحق. فارتكاب خطأ بسيط، مقرونًا بحسن النية، لا ينتج سوى العفو، وهو أمر لا يفتأ القرآن يردده، وليس معنى ذلك أن الاجتهاد الذي يصحب هذا الخطأ، ويسوغه بصورة معينة -لا وزن له في الميزان الأخلاقي. فلقد ساق إلينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا العزاء فيما رواه عمرو بن العاص, رضي الله عنه: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" 1. إن في أيدينا الآن العناصر الضرورية لتفسير التناقض الذي ذكرناه في بداية هذه الفقرة. فإذا كنا قد خصصنا النية السيئة بدرجة من التأثير

_ 1 البخاري, كتاب الاعتصام, باب 21.

والفاعلية لم نخص بها الإرادة الطيبة، فقد يعتقد أن لنا شأنًا في مفهومين مختلفين لقيمة العامل الباطني، الذي يبرز أحيانًا وينزوي أحيانًا أمام العنصر المادي, وإنا لنعرف الآن أن هذين الحكمين لا يصدران إلا عن مبدأ أخلاقي واحد، أعني: إن كان اقتضاء الشكل والمادة معًا. فإذا ما نقص أحد هذين العنصرين فإنه يظهر فاعليته بالفراغ الذي يتركه خلفه في العمل الأخلاقي، وفي عجز العنصر الآخر المتبقي، عن أن ينشئ وحده الفضيلة الكاملة. والواقع أن الخير الأخلاقي، في مجموعه، لا ينحصر في حالة باطنية محضة، ولا في حالة ظاهرية محضة، بل هو ينحصر في الانتقال من إحداهما إلى الأخرى، وهو انتقال، لكي يكون جديرًا باسمه، يجب أن يضم كلا العنصرين على سواء، ولا حاجة لأن نؤكد عجز العنصر المادي، ذلك أن العمل الظاهري الخالص، وهو عمل يليق بإنسان غبي كالآلة، قد يؤدي خدمات مفيدة للمجتمع، ولكنه سوف يظل دون علاقة بشخصيتنا. ولقد يستطيع فعلًا -على حسب تعبير كانت- أن يوفر لنفسه الشرعية، ولكنه لن يستطيع مطلقًا أن يضمن الأخلاقية. بيد أن البرهنة على القضية الأخرى تبدو مهمة عسيرة، أليس العنصر الروحي هو العنصر الجوهري في الواجب، إن لم يكن هو كل الواجب؟ إن هذه الفكرة مسلمة عمومًا، حتى إنه يبدو من باب التطاول أن نشكك فيها، أو أن نضع لها بعض القيود, ومع ذلك فإنها تحتاج إلى بعض التحديدات الضرورية. وأول هذه التحديدات: أن فكرة "الإرادة" لا تشتمل فحسب على فكرة "القدرة" من حيث المبدأ أو الافتراض "فعمل الإرادة مستحيل في حال اليأس الواقعي والكلي"؛ ولكن من حيث كون "الإرادة" و"العزم" يتميزان، كما يتميز الحاضر من المستقبل، فالإرادة تفترض -كنتيجة مباشرة- نشاطًا خارجيًّا معينًا، لا يلبث أن يتحد معها خلال الزمن. والواقع أن

العنصرين متضامنان تضامنًا وثيقًا في شعورنا كما يتضامن عضوان في كياننا. وكما أنه في الأحوال العادية، لا تعمل الخلية مطلقًا وحدها، ولحسابها الخاص، فكذلك قدرتنا على القرار قلما تدعي أنها تضع اللمسة الأخيرة في المشروع العملي؛ فهي تعترف لنفسها بالنسبة إلى قدرتنا على التنفيذ، بمكان الرائد الذي يمهد الطريق للجندي الحقيقي. وهي لا توقف خطة العمل من أجل أن تتوقف فيه لحظة واحدة، بل من أجل أن تمضيه صراحة إلى مجال التنفيذ مباشرة، وهو وحده موجد الخير الموضوعي المقصود. وثاني التحديدات: أنه ما دام العمل الباطني لا يشتمل على بداية للفعل ولو في صورة هزة عضلية، أو مخية -فمن الممكن شرعًا أن نسأل أنفسنا عما إذا كان قد تجاوز نهائيًّا مرحلة تكون الأفكار النظرية، ومرحلة التأمل الجمالي، ليدخل إلى مجال الممارسة الأخلاقية، أو حتى مجال الممارسة وحدها، أعني: مجال الإرادة، والله يقول: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّة} 1، ذلك أن الإرادة هي، بالمعنى الحقيقي، أن نتحرك حركة انتشارية، تنطلق من الفكرة، متجهة نحو العمل. والإرادة هي التوجه من المثالي إلى الواقعي، وعلى هذه المسيرة من الباطن إلى الظاهر، ومن الشعور إلى التجربة، يوجد الفعل الإخلاقي. هذا الفعل ليس حالة سكونية "ستاتيكية" عبادة في خلوة، حبيسة في دير القلب، إنه وثبة حية، وحركة ذات انتشار، نقطة انطلاقها في الداخل، ونقطة انتهائها في الخارج. وهكذا نجد أن النية لا تقتصر على أنها تدعو لعمل، وتتوقع أن يتبعها فحسب، بل إنها تحتويه كنطفة، إن لم يكن وليدًا.

_ 1 التوبة: 49.

ولنمضِ إلى ما هو أبعد. تصور عالمًا يكون الإنسان فيه منطويًا على نفسه، مقتصرًا على تغذية آماله، وصوغ مشروعات، أو حتى بذل جهود يائسة، وافترض أنه قضى عليه أن يدور في هذه الحلقة، دون نظر أو قدرة على الواقع -فأية غاية عقلية يمكن أن نعزوها إلى خلق آلة كهذه من الأفكار غير المؤثرة، والمشروعات المبتورة، والمحاولات المخفقة؟ أيكون هذا حقًّا هو النموذج المثالي لطبيعة عاقلة؟ إنا لنعتقد على خلاف ذلك بأن كل كائن مزود بعقل، مهمته على الأرض أن يخلق فيها وقائع موضوعية ممكنة، ودوره الأخلاقي أن يطوع هذا الخلق لفكرة الخير، حتى يجعل الدنيا من مرحلة إلى أخرى -أكثر كمالًا. ومما لا شك فيه أن هذه المهمة المزدوجة، من العزم، والتحقيق، والتي ينظر إليها عمومًا على أنها مقسمة بين سلطتين متميزتين في الإنسان، يحتم الضمير الأخلاقي الذي لا يقبل الانقسام وجودها في وحدة شاملة. وحتى لو صادف جهدنا في التنفيذ تعويقًا، أو اعترضته عقبات لا يستطاع تذليلها، فإننا لا نتخلى عن الإحساس بهذه الضرورة المزدوجة الداخلية. والحق أنه ينبغي أن نفرق هنا بين حالتين ممكنتين: فإما أن يبدو لنا توقع هذه العقبات العصية في اللحظة التي تتحفز فيها الإرادة نحو التنفيذ، وبذلك يختنق عمل الإرادة في المهد، إذ إنه من التناقض أن نريد ما لا يمكن إرادته. وإما أن تفاجئنا هذه الاستحالة بعد أن اتخذنا القرار، وحينئذ، يا لها من خيبة أمل يشعر بها الإنسان الفاضل في انتظاره للقيمة الموضوعية التي جد في طلبها!! ... إن هذا "الدش" البارد الذي يتعرض له حماسه أمام مشهد

شر يريد منعه، أو مشهد خير يرجو صنعه -سوف يكون مؤلمًا، بقدر ما كان اهتمامه بتحقيق مثله الأعلى عظيمًا، وبقدر ما كانت الحفاوة التي أعدها له حارة. ماذا يمكن أن يقال غير أن الضمير الأخلاقي في هذه الظروف يعتبر أن مهمته لما تنته؟ ومهما يكن عدلًا ذلك العفو الذي يمنحه إياه مشاهد محايد، يراعي القدرة المحدودة للطبيعة الإنسانية، فإن الأسى الذي يشعر به الإنسان في دخيلة نفسه هو وثيقة اتهام ضد ذاته. إن ذلك يعني في نظره أن الجهد الذي بذله ما زالت فيه نقائص، وكأنما كان بوسعه أن يبذل أقصى جهده كيما يبلغ هدفه. ولكن مهما يكن الافتراض، وحتى في الحالة التي ينبغي فيها أن نعذر الإرادة الطيبة المعوقة -هل يكون لنا الحق في أن نرى في هذه الحالة العاجزة نموذج العمل الأخلاقي الكامل؟ الحق أنه يجب علينا من وجهة نظر حق العفو أن نثبت فرقًا في الدرجة بين ضرورة العنصر الباطني، وضرورة التعبير المادي عنه، ذلك أن رضا الإرادة شرط لازم للأخلاقية، بحيث إن أقل تمرد باطني يكفي، لا لينزع عن أصح الأعمال كل قيمة فحسب، بل ليجعله إجراميًّا. فتلك ضرورة مطلقة وباطنة، على حين أن عدم التنفيذ، أو عدم المطابقة الظاهرية، على الرغم من أنهما يبتران العمل الأخلاقي، وينتقصان الفعل الذي تم بحسن نية، فإنهما لا يدينانه إلا حين تكون هنالك استحالة مادية، أو جهالة لا تدفع، وحينئذ يمكن أن يطلق عليها: ضرورة كمال مطلقة، أو ضرورة شرطية لاستكمال مطلب الأخلاق.

لكن هذه ليست سوى وجهة نظر إضافية، فإن الوضع المبدئي للواجب يقتضي عملًا كاملًا، يلتزم به الإنسان بكليته، ويمتزج فيه العنصر الأخلاقي بالمادي، والملكة التي تبدع وتنظم بالقوة التي تحقق، ويتلاقى فيه العقل الذي يفكر، والقلب الذي يخلص، واليد التي تعمل. ولم يبقَ بعد ذلك كله سوى مسألة تفرض نفسها من هذه الوجهة، وهي أن نعرف إذا ما كان هذا الاقتضاء المزدوج يخص قيمة مساوية، أو غير مساوية لهذين الجزأين المكونيين للعمل الأخلاقي الكلي، وذلك هو ما تجيب عنه الفقرة التالية:

فضل النية على العمل

جـ- فضل النية على العمل: ها نحن أولاء، قد قمنا -إن صح هذا التعبير- بتشريح العمل القائم على النية، وميزنا فيه بين طبقتين: باطنة وظاهرة, "النية والتنفيذ", ثم إننا غيرنا شروط كلا العنصرين، كل بدوره، حتى ندرك درجة أهميته الخاصة في البناء الأساسي للواجب. وقد استدعى هذا التعديل انهيارًا كليًّا أو جزئيًّا في صرح الواجب، وانتهينا إلى ضرورة وجود هذه الشروط لبناء عمل أخلاقي كامل. بيد أن هذه الطريقة، التي هي نوع من الاستدلال بالمحال، مع الاستعانة بتحليل للتجربة الأخلاقية -تقدم لنا بالأحرى جانبًا سلبيًّا من المشكلة، حين ترينا الآثار السيئة، التي قد يحدثها غياب أحد الجزأين أو انحرافه. إنها لا تفيدنا شيئًا من العلم بطبيعة إسهامه الإيجابي في تحقيق الخير. ومن أجل هذا الغرض سوف نعيد الآن وضع الأمور في تركيبها البدائي، ولسوف نحاول -من خلال ملاحظتنا لهذه الطبيعة المزدوجة للعمل الأخلاقي أثناء

نشاطه- أن نقدر بقيمتها الحقة مختلف ضروب الخير التي يتعين على العمل الأخلاقي أن يوجدها في العالم أو في أنفسنا. ومن المقرر عمومًا تقسيم الواجبات إلى: واجبات نحو النفس، وواجبات نحو الغير، "والواجبات نحو الله ليست في نهاية الأمر سوى واجبات نحو أنفسنا، فطاعتنا أو معصيتنا لا يمكن أن تزيدا أو تنقصا شيئًا من العظمة الإلهية وقداستها". ولما كان هناك نوع من التقارب بين مفهوم النية، ومفهوم الواجب الشخصي، كما يوجد ارتباط واضح بين العمل الظاهر وعلاقاتنا الاجتماعية -فإن من الممكن بادئ ذي بدء أن نقوم بنوع من توزيع الخصائص، بأن نعين لهذين العاملين؛ الداخلي والخارجي، منطقتين مختلفتين من مناطق التأثير، ومن ثم تخرج إلى قيمة مساوية تقريبًا، للنية, وللعمل، وإن كان ذلك من وجهتي نظر مختلفتين: فللنية دورها في إثبات وتأكيد طهارة القلب، وشرف النفس، وفي كلمة واحدة: كمال الذات. وللعمل غايته في تأمين العيش الرغيد لإخواننا، وتنميته. هذه الطريقة في النظر ربما تكون خاطئة من ناحيتين، فهي تعني من ناحية، أننا ننسى أن واجباتنا الاجتماعية لا تنحصر فقط في الأعمال الظاهرة, كما أن واجباتنا الشخصية، هي الأخرى لا تنحصر في الأعمال الباطنة؛ فإن علينا أن نحب جارنا، وألا نحسده، أو نحتقره ... وعلينا أن نحفظ حياتنا، وأن نكسب عيشنا اليومي بشرف، وأن ننظم نفقاتنا تنظيمًا عقليًّا، دون سرف أو شح ... ومن ناحية أخرى سوف يكون هذا إنكارًا للتماسك الذي أثبتناه بين النية والعمل في جميع الظروف، وبمناسبة كل واجب، أيًّا كان، روحيًّا أو بدنيًّا. والواقع أنه يجب علينا, حتى عندما نبذل جهدًا لأنفسنا، من أجل تحسين صفتنا الأخلاقية الخاصة -أن نميز بين لحظتين مختلفتين: لحظة القرار

بالشروع في تلك المهمة، باعتبارها أمرًا من الشرع، ولحظة وضع هذا القرار موضع التنفيذ. ولذلك لا يصح أن تقتصر أية دراسة كاملة لدور النية الإيجابي على مقارنة العنصر النفسي بالعنصر البدني، مقارنة النفس بالبدن، على ما جرت به العادة، بل يجب أن نتصور العلاقة بين ملكة اتخاذ القرار، وبين القدرة على التنفيذ في كلا جانبيها الباطني والظاهري. وكلما كان الأمر يتعلق بمقارنة عمل القلب وحركة البدن، فلا ريب في أن الأخلاق الإسلامية تغلب الواقع القلبي على تعبيره الحسي. والحق أن القرآن يلح غالبًا على دور العاملين معًا، في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا} 1, وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا} 2, وقوله: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} 3, وقوله: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} 4, وقوله: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} 5. ولكن، على حين لا نجد القرآن مطلقًا يمدح عملًا حسنًا لا يستمد منبعه من أعماق النفس -فكثيرًا ما نجده يبرز بخاصة عمل القلب وحده، سواء باعتباره قيمة في ذاته: {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} 6، {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوب} 7، أو باعتباره شرطًا جوهريًّا للسلام النهائي: {وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} 8، {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} 9. وإنا لنجد هذه الميزة وقد فاضت على الموقف الباطني في الحديث الشريف

_ 1 2/ 62. 2 2/ 218. 3 6/ 120. 4 6/ 151. 5 17/ 19. 6 49/ 3. 7 22/ 33. 8 50/ 33. 9 36/ 89.

بخاصة، وفي نصوص المفسرين، وهي في هذا المجال أكثر صراحة. ولنأخذ على سبيل المثال فكرة: "تقوى الله" التي تكاثرت حولها جميع الأحكام القرآنية تقريبًا، والتي ورد ذكرها أكثر من مائتين وعشرين مرة في القرآن. إن القرآن يعني بهذه اللفظة موقفًا طائعًا يحترم الأمر الإلهي، وإن هذا الأمر مسموع ملبًّى على أوسع معانيه: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} 1، وبخاصة حين يقترن بالأمر التحريمي، في مقابل "البر": {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} 2. وهو في كلتا الحالين يبدو غالبًا أنه يستهدف طاعة كاملة، تشترك فيها القوتان: البدنية والأخلاقية، ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد ركز بكل وضوح على العامل القلبي، الذي يُعيِّنه على أنه جوهر الفضيلة ذاته، فقال: "إن التقوى ههنا" 3، وأشار إلى صدره، مكررًا قولته ثلاثًا. فحين جاء من بعد ذلك مجموعة من الأخلاقيين، مثل: الحكيم الترمذي، والغزالي -ساروا على نهجه، وجعلوا من هذا العنصر الباطني التحديد الدقيق للتقوى، فكتب الحكيم الترمذي يقول: "التقوى طهارة القلب، وطهارة الصدر مما ذكرنا بدءًا من الإزراء بالخلق، والاحتقار لهم، وقلة العطف عليهم والاحتياط لأحوالهم، ومنح النصيحة لهم، والعون لهم على عبوديتهم لله، وأن يحدوهم على الخيرات ولا يدعوهم إليها، فصاحب التقوى بمنزلة رجل خرج من الحمام وقد تطهر من الأدناس، والأوساخ، ولبس ثيابًا بيضًا، فإذا رأى غبارًا، أو هاجت رياح، توقى على رأسه ولحيته وثيابه أشد التوقي"4.

_ 1 2/ 189. 2 5/ 2. 3 صحيح مسلم, كتاب البر, باب 7. 4 الترمذي الحكيم: الأكياس والمغترين, ص99-100 من المخطوطة 104 تصوف, بالمكتبة الظاهرية بدمشق، وقد نقل المؤلف النص بمعناه، ورجعنا إلى الأصل فنقلناه بحرفه، وربما التبست عبارة الترمذي: "وأن يحدوهم على الخيرات ولا يدعوهم إليها" -على فهم القارئ، ولعل المراد: أن التقي يحمل الناس على الخيرات حملًا بفعله، ويدفعهم إليها، ولا يكتفي بمجرد الدعوة اللسانية, والله أعلم. "المعرب".

ويقول الإمام الغزالي: "التقوى صفة قلب مال عن حب الدنيا، وبذلها إيثارًا لوجه الله تعالى"1. ولقد يبدو غريبًا أن نخص بالصدارة جانبًا ذاتيًّا من الواجب، وهو جانب لا يعتبر سوى مرحلة بعيدة من مراحل الخير الفعلي. والواقع أنني لا أستطيع أن أنقذ حياة جاري، أو أوفر له حقه في العيش الرغيد لمجرد حبي الباطني له. هذا صحيح, ولكن، يجب -أولًا- ألا نبالغ إلى غيرما حد, في دور النتيجة النهائية في أداء الواجب. فمن المعلوم أن هذه النتيجة النهائية لا تصدر فقط عن جهدنا الأخلاقي، ولا عن نشاطنا البدني، ولكنها تتطلب تعاون مجموعة كبيرة من الظروف الطبيعية، وحتى ما فوق الطبيعية. وحينئذ يصبح واجبنا محصورًا في أضيق الحدود، فهو يقتصر على استعمال الوسائل التي في حوزتنا، وليس عليه أن يوصلها إلى غايتها. ومن ثم فإن العقل، والقلب، والبدن، تبدو لنا كلها أسبابًا، يتفاوت بعدها أو قربها بالنسبة إلى المرحلة النهائية، التي يتمثل فيها الخير الموضوعي. والحق أن النشاط المادي يمكن أن يعتبر أقرب مراحل هذه الفترة في النظام الزمني. بيد أن هذا القرب الزمني على وجه التحديد لا يؤدي أي دور في تقديرنا الأخلاقي، اللهم إلا البرهنة على أنه يتمتع بسببية مستقلة، بالنسبة إلى فترة سابقة. أما في حالة العكس، فيجب أن يختلف تقديرنا، حتى يكون مرتبطًا بهذه السابقة التي أشهرت وجود هذه المجموعة كلها من السببية. وبعبارة أخرى: إذا كان العنصر الأخلاقي يؤثر تأثيرًا فعالًا بالخير وبالشر، على العنصر المادي، فإن تأثيره يجب أن يقدمه على هذا الأخير، وإن كان

_ 1 الإحياء, الغزالي 4/ 357.

أكثر منه اتصالًا مباشرًا فيما يتعلق بالنتيجة، وهذه فعلًا هي الطريقة التي ينظر بها إلى الأشياء في الأخلاق الإسلامية. والواقع أن لحظتي نشاطنا لا تمثلان داخل هذا النشاط مجرد علاقة تتابع في الزمن، بل ينظر إليها على أنهما مرتبطتان ارتباط السبب بالنتيجة، وقصار النظر وحدهم -أي: أولئك الذين لا يمتد نظرهم إلى أبعد من السبب المباشر- هم الذين يعزون إلى أقرب الأسباب كل الفضل في إحداث النتيجة, ولكن أيكون المرء مصيبًا إذا هو غلا في تقدير دور الآلة في الحضارة الحديثة، حتى ليقدمها على العقل الذي أبدعها، والذراع التي تديرها, والإرادة التي تنظمها، وتكيفها تبعًا للحالات؟ على هذا القياس فاحكم على دور الآلة البشرية التي تتكون من اللحم والعظم، فإن صحة القلب تؤمِّن صحة البدن، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سواء في جانبه المادي، أو في جانبه الأخلاقي، قال فيما رواه النعمان بن بشير: "ألا وإن في الجسد مضغةً، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد، ألا وهي القلب" 1. وقال أيضًا: "القلب مَلِك، وله جنود، "أو الجوارح جنوده"، فإذا صلح الملك صلحت جنوده، وإذا فسد الملك فسدت جنوده"2. وقد علق حكيم ترمذ على هذا فكتب يقول: "فكذلك القلب إذا فسد، لا يغرنك صلاته وصومه، وعمل جوارحه، فلو أن جميع

_ 1 صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب 39. 2 البيهقي, ذكره السيوطي في الجامع 2/ 89, والرواية المذكورة هي رواية السيوطي. "المعرب".

جوارحه تزينت بجميع الطاعات، ثم دامت تلك الطاعات على الجوارح، وامتدت المدة في ذلك، فقرّت الجوارح على الطاعات، ولم يكن في قلبه من الغنى ما يمد الجوارح -بقيت الجوارح معطلة، والقلب مغتر، فماذا أغنى هذا الظاهر على الجوارح، وإذا كان القلب غنيًّا، والجوارح معطلة، ففي أدنى حركة من القلب يوسِع الجوارح خيرًا وبرًّا"1. ذلكم هو الجانب الذي يعود إلى العمل الباطني في تحقيق الخير الموضوعي، فهو ليس شرطًا ضروريًّا فيه وحسب، ولكنه سبب مؤثر بوساطة العمل الظاهري، الذي ليس سوى "مكمل وانعكاس" للأول. أضف إلى ذلك أن أوامر القانون الأخلاقي ليس هدفها الوحيد أن تثبت العدالة في الدنيا، وإنما هدفها كذلك تقويم شخصنا، بأن ترفعنا فوق الأشياء الأرضية، والحياة الحيوانية. والعمل الباطني من وجهة النظر العامة لم يكن سوى وسيلة بعيدة، وسبب غير مباشر. وهو من هذه الوجهة الجديدة إما أن يكون غاية في ذاته، وإما أن يكون المرحلة الأخيرة في السلسلة السببية، فهو يتصل بالغاية النهائية التي يتحقق بها هدف الواجب على وجه الكمال. وليس معنى هذا أن النشاط المادي تتوقف الحاجة إليه عند هذه النقطة، ولكنه يغير دوره فحسب، أو بعبارة أدق: يصبح دوره مزدوجًا: فبدلًا من أن يجنح بنتائجه إلى الخارج فقط، يستدير في الوقت نفسه إلى الداخل، ليقوي استعداداتنا الفطرية، ويزيد في تأصيلها.

_ 1 الترمذي: جواب المسائل ص195-196, وقد نقل المؤلف موجز النص بمعناه. "المعرب".

ألم يؤكد القرآن أن الإحسان يثبت النفس، فقال جل ذكره: {يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} 1, ويطهر الإنسان، ويزيد في قيمته: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} 1. وهذا هو شأن الأعمال الصالحة كلها، كما قال الإمام الغزالي، فالهدف منها أساسًا تغيير صفات أنفسنا: "فلا تظنن أن في وضع الجبهة على الأرض غرضًا، من حيث إنه جمع بين الجبهة والأرض، بل من حيث إنه بحكم العادة يؤكد صفة التواضع في القلب، فإن من يجد في نفسه تواضعًا، فإذا استكان بأعضائه، وصوره بصورة التواضع تأكد تواضعه, ومن وجد في قلبه رقة على يتيم فإذا مسح رأسه وقبله تأكدت الرقة في قلبه". ويقول قبل ذلك الموضع: "وإذا حصل أصل الميل بالمعرفة فإنما يقوى بالعمل بمقتضى الميل والمواظبة عليه، فإن المواظبة على مقتضى صفات القلب، وإرادتها بالعمل تجري مجرى الغذاء والقوت لتلك الصفة، حتى تترشح الصفة، وتقوى بسببها، وإن خالف مقتضى ميله، ضعف ميله وانكسر، وربما زال وانمحق، بل الذي ينظر إلى وجه حسن مثلًا، فيميل إليه طبعًا ميلًا ضعيفًا، لو تبعه وعمل بمقتضاه، فداوم على النظر والمجالسة، والمخالطة والمحاورة، تأكد ميله، حتى يخرج أمره عن اختياره، فلا يقدر على النزوع عنه، ولو فطم نفسه ابتداء، وخالف مقتضى ميله لكان كقطع القوت والغذاء عن صفة الميل، ولن يتأكد ذلك إلا بالمواظبة على أعمال الطاعة، وترك المعاصي بالجوارح؛ لأن بين الجوارح وبين القلب علاقة، حتى إنه يتأثر كل واحد منهما بالآخر، فالقلب هو المقصود، والأعضاء آلات موصلة إلى المقصود"2. فهذا تحليل سريع للمفهوم الإسلامي للعلاقة بين العنصر الباطن، والعنصر الظاهر، ودور كل منهما في أي فعل أخلاقي تام. وقد استطعنا خلال هذا

_ 1 البقرة: 265. 2 الإحياء 4/ 356-357 ط الحلبي.

التحليل أن نشهد نوعًا من الحركة الدائرية، التي تصعد أولًا من المركز إلى المحيط، لتتجلى في صورة خير موضوعي، ثم تهبط بعد ذلك من المحيط إلى المركز لتتحول إلى خير شخصي. ولكن، قد يقال لنا: بما أن "الفعل" و"رد الفعل" يتقاصان بالتبادل على هذا النحو، وإن اختلفت نقطتا بدئهما، فلماذا إذن هذا التميز الذي تريد أن تخص به منهجيًّا العمل الباطني؟ ونجيب عن ذلك: بأن الدورين ليسا متشابهين قط. إذ إن العامل الباطني يصل في أهميته إلى درجة يصبح معها التحقق المادي للعمل مدينًا له مطلقًا بوجوده الأخلاقي, على حين أن الأثر الذي يمارسه الجانب المادي على الأخلاقي ليس إلا مكملًا له، ودعامة يمكنه أن يستغني عنها إذا لزم الأمر. فالعمل الباطني يمكنه أن يكتفي بنفسه إلى حد كبير. وهناك فرق آخر ليس بأقل أهمية، هو أن نشاطنا الظاهر، الذي هو مرحلة وسيطة بيننا وبين الناس -قلما يتجاوز دوره كوسيلة للوصول إلى شيء آخر، في الخارج، أو في الداخل. على حين أن عمل القلب، الذي يستطيع أن يكون وسيلة ذات فاعلية من أجل خير الناس -هو في الوقت نفسه، وفي كل حال، إما "غاية في ذاته" وإما السبب المباشر، والموصل لهذه الغاية من حيث إنه يعتبر جوهر خيرنا الشخصي. وبذلك نرى عيب جميع النظريات الأخرى، التي ترى أن العمل الأخلاقي من شأنه أن يتوجه إلى هدف معين خاص، سواء بأن يحبس الإنسان في داخل نفسه، أو بأن يستخدمه فقط لغايات خارجية غريبة عنه. لقد بدأنا بأن ميزنا في الفعل الأخلاقي الكامل بين لحظتين: لحظة النية، ولحظة العمل، وميزنا في هذه بين: العمل الباطني، والعمل الظاهري.

ولقد ذكرنا حتى الآن ما تخص به الأخلاق الإسلامية النشاط الأخلاقي الباطني من تفوق، وكانت مهمتنا ميسرة نسبيًّا، لوفرة النصوص التي تقرر هذه الحقيقة، ولطبيعة الموضوع ذاتها، والقصد الآن أن نعرف إن كانت توجد علاقة رتيبة في الأخلاق الإسلامية بين "النية" و"العمل بعامة". فأن تكون للنية قيمة امتياز بالنسبة إلى العمل الظاهر، فذلك ما يستخرج منطقيًّا من التدرج الذي سبق إقراره بين القلب والجسد، ولكن أيمكن أن يكون هذا الامتياز ثابتًا لها في مواجهة العمل الباطني؟ ليس لدينا في هذا الصدد سوى نص وحيد، هو حديث مشهور، على الرغم من أن السند الذي يعتمد عليه الطبراني1 والبيهقي، ليصلا بالنص إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس قويًّا، والحديث هو: "نية المؤمن خير من عمله، وعمل المنافق خير من نيته"2 وبعد أن ذكر أبو طالب المكي هذا النص قال: إنه فسر بعشرة أوجه، كلها مقبول، ويتناول الغزالي في "إحيائه" أكثر هذه التفسيرات، فيرفضها جميعًا، ما عدا واحدًا، يعتبره الوحيد الذي يتفق مع الهدف الحقيقي للشرع الإسلامي. وكان من بين ما رفضه من الآراء أن قال: "وقد يقال: إن النية بمجردها خير من العمل بمجرده دون النية، وهو كذلك، ولكنه بعيد أن يكون هو المراد، إذ العمل بلا نية، أو على الغفلة لا خير فيه، والنية بمجردها خير". واستطرد يقول: "بل المعنى به أن كل طاعة تنتظم بنية وعمل، وكانت النية من جملة الخيرات، وكان العمل من جملة الخيرات، ولكن النية من جملة الطاعة خير من العمل،

_ 1 رواية الطبراني هذه عن سهل بن سعد الساعدي مرفوعًا. "المعرب". 2 انظر: كشف الخفاء ومزيل الإلباس، عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس, للمحدث العجلوني 2/ 324, مكتبة القدسي. "المعرب".

أي: لكل واحد منهما أثر في المقصود، وأثر النية أكثر من أثر العمل، فمعناه: نية المؤمن من جملة طاعته خير من عمله الذي هو من جملة طاعته"1. وإنا لمتفقون مع الغزالي على قوة هذا التفسير، ولكنا حين تابعنا تعليله لم نتقدم في حل المشكلة التي تشغلنا، فهو يقتصر في الواقع على هذا الاعتبار المشترك، المسلم به من وجهة نظر معينة، أعني أن الغاية الأخيرة التي يقصدها الشرع الإسلامي هي صحة النفس، وما تبقى ليس سوى وسائل لبلوغ هذا الهدف. ونحن نقول: ليكن!! ولكن هذا الرجحان لو صح بالنسبة إلى الأعمال البدنية، وهو صحيح، فهل يكون كذلك في مواجهة العمل القلبي؟ وهل النية خير من الجهد الباطي ذاته أم لا؟ ولماذا هذه الأفضلية؟ ذلك ما لم يقله. وعلى الرغم مما يبدو من تناقض في تأكيد هذا الرأي، فإننا نرى مع ذلك، أنه مما يمكن إثباته، أولًا؛ لأن الشراح قد حملونا على الظن بأن هذه هي وجهة نظر الفقه الإسلامي، لا بالرجوع إلى هذا النص الذي ضعف سنده إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فحسب، ولكن إلى القولة الأخرى الأكثر شهرة، والأقوى إثباتًا، وهو قوله, صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات"، قالوا: إن كل الأعمال، أقوالها وأفعالها، فرضها ونفلها، قليلها وكثيرها، الصادرة من المكلفين المؤمنين، صحيحة أو مجزئة بالنيات ... فلا عمل إلا بنية ... إلا ما يستحيل دخولها فيه كالنية، ومعرفة الله تعالى، فإن النية فيهما محال. وربما أطلق "العمل" على حركة النفس، فعلى هذا يقال: "العمل إحداث أمر قولًا كان أو فعلًا بالجارحة أو بالقلب"2.

_ 1 انظر الإحياء 4/ 355. 2 القسطلاني 1/ 52 و53.

والآن، كيف نسوغ هذا الرأي؟ أوَليس من التناقض أن نثبت في الأخلاق أشياء تتجاوز في قيمتها النشاط الأخلاقي ذاته؟ إن وضع المشكلة على هذا النحو تزييف لها وإحالة. فكل ما ندعيه هو أن في هذا النشاط مجالًا للتفرقة بين مرحلتين مختلفتين، فقبل أن نلتزم بعمل ما ينبغي أن نؤكد له المبدأ، ونضع له الخطة، ونحدد له الوسائل، ونرسم له الهدف. وفي كلمة واحدة: ينبغي قبل التنفيذ أن نصله بالشريعة فالجانب الشرعي يشرط ويسبق جانب التنفيذ، في الأخلاق، أو في السياسة. وإذا كان دور النية الحسنة على وجه التحديد هو اختيار الحل، من حيث هو حسن أخلاقيًّا، فإن معنى ذلك أنها تلتزم بالواجب بوصفه واجبًا، وبهذا الوصف صراحة. إن كل نشاط، حتى أدخله في الطوية، وأكثره تطابقًا مع القاعدة هو في ذاته نشاط محايد، مبهم، يمكن أن يرتدي صفة القداسة أو الدنس، الطاعة أو العصيان، الحسن أو القبح أو اللامبالاة، تبعًا للطريقة التي يتصور بها. ولقد طالما ألح الأخلاقيون المسلمون، حتى فقهاء العبادات -على هذه الفكرة، كما أن القولة المتواترة بلا شك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس لها من معنى غير هذا. وعليه، فإن ما يصدق على التباس الأعمال الظاهرة يصدق تمامًا على جهودنا الباطنة. فعندما يغفل الإنسان عن أمر الشرع، ثم هو يحس تلقائيًّا أنه مدفوع إلى أن يتطلب من نفسه تجردًا عن المنافع الأنانية في هذه الدنيا، وحبًّا للأقربين، وكرمًا، وإخلاصًا للإنسانية، فيجب ألا ينخدع بهذه المشاعر النبيلة؛ لأن هذا الاقتضاء الذي نشعر به، من رغبة في تحسين صفتنا، ربما كان مفروضًا علينا بتأثير نوع من النداء الفطري، أو بتذوقنا للكمال، أو بمجرد الرغبة في ممارسة قدراتنا الخلاقة، أو لكي ننال لأنفسنا نوعًا من

التطابق النزيه في سلوكنا الظاهري، وبذلك نطمئن إلى أننا لن نتعثر أمام الناس، أو لأسباب أخرى أقل أو أكثر تسويغًا. والنية التي أصطحبها في أدائي لهذه المهمة هي التي تعطي لجهدي الباطن معنى، وهي التي تطبعه بصفته النوعية، وتسمه بسمتها المميزة. إنها عصبه، وحياته، وهي أشبه بروح الروح.

هل تكتفي النية بنفسها

د- هل تكتفي النية بنفسها؟: لقد عالجنا على التوالي ثلاث حالات: في الحالة الأولى: كان العمل يحدث بلا نية -وهي حالة "البطلان الأخلاقي". وفي الحالة الثانية: كان العمل والنية حاضرين، ولكن يعتورهما بعض النقص فإما أن تكون النية سيئة -وهي حالة "اللاأخلاقية"، وإما أن يكون العمل غير مطابق للنية -وهي حالة "الانحراف" الذي يحتمل الإدانة أو العفو. وفي الحالة الثالثة: كان العمل والنية حاضرين، ومتطابقين، وهي "الأخلاقية الكاملة" مع أفضلية النية. والحالة التي بقي علينا أن نبحثها هي مقابل الحالة الأولى، وهي التي تكون فيها النية الأخلاقية وحدها، غير مترجمة إلى عمل، ونتساءل إذا ما كان للنية في هذه الحال أن تكتفي بنفسها، أعني: إن كانت تستطيع أن تؤدي دور فعل أخلاقي متكامل. ولنذكر أولًا المعنيين الذين تنطوي عليها كلمة "نية" "INTENTION"، وهما المعنيان اللذان اهتم أخلاقيونا بالتمييز بينهما. فقد تعني هذه الكلمة أحيانًا

العزم الثابت، الذي لا يتوقف إلا أمام عقبة واقعية كئود، ولكن الغالب أن يقصد بها مشروع في مرحلة التدبر والتردد؛ رغبة، أو ميل1. ولا حاجة بنا أن نمضي إلى تقويم المعنى الثاني، فإن الإنسان المشدود إلى عادته اللينة، والذي لا يحاول تحطيم العقبات التي تعترض كل جهد جاد، الإنسان الذي يجعل من كل ما يقلق الراحة عائقًا -هذا الإنسان لا حق له بداهة في أن يفيد من تعاطفه مع الأعمال الطيبة كصفة أخلاقية حميدة، أو كاعتذار مقبول عن ضعفه. ولنستفد في هذه النقطة من الطريقة التي حكم بها القرآن على بعض المتخلفين عن الهجرة من مكة، فقد دعي هؤلاء إلى أن يتركوا بلدهم، حيث كان العدو مسيطرًا، ويلحقوا بإخوانهم الذين هاجروا إلى المدينة، ولكنهم لم يستجيبوا للدعوة، وظلوا على مقامهم بحجة أنهم كانوا "مستضعفين في الأرض" ولكن القرآن يعقب على ذلك بقوله: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} ، ثم يستثني منهم: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا، فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} 2. كما أن أحاديث النفس، والميل الطبيعي الذي يشعر به المرء تجاه لذة

_ 1 ذكر المحاسبي في كتابه "الرعاية لحقوق الله" تحقيق الدكتور عبد الحليم محمود وطه عبد الباقي سرور أن النية على وجهين: "أحدهما قد نويت أن تخلص وأن لا تريد بشيء مما تفعله إلا الله وحده ونويت أن تقوم فتصلي وأن تصبح صائمًا وأن لا تعصي الله عز وجل، وإن عرضت لك معصية تركتها من خوف الله عز وجل. فتلك الإرادة التي هي نية لك هي نية الله عز وجل. ومعنى آخر تريد أو تحب أن تكون مخلصًا، وأنت مضيع للإخلاص، وتحب أن تكون صائمًا ومن نيتك الإفطار، وتحب أن تكون مصلِّيًا وأنت كسلان عنها، أو مؤثر عليها الشغل بالدنيا وتحب أن تدع المعاصي من خوف الله عز وجل والنفس لا تسخو بالتوبة، فتلك إرادة محبة منك للشيء". "المعرب". 2 النساء: 97-99.

معينة، حسية أو خيالية، ليست أكثر حظًّا من النية الحسنة البليدة، فهي كلها لا تنشئ بالنسبة إلينا عملًا نحاسب عليه، ما دامت الإرادة لم تعزم عليه والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول فيما رواه أبو هريرة: "إن الله تجاوز لي عن أمتي، ما وسوست به صدورها، ما لم تعمل به أو تكلم" 1. أما فيما يتعلق بالنية، بالمعنى الدقيق للكلمة، وهي التي لم تترجم إلى عمل؛ لأن الأحداث خالفتها، فليست المسألة أن نعرف إن كانت لها وحدها قيمة أخلاقية، أو إن كانت كافية لتستوجب المثوبة أو العقوبة. فلا ريب مطلقًا في أن المسئولية الأخلاقية تكون كاملة متى ما اتخذ القرار، وذلك قوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} 2. وحتى لو أننا رجعنا في قرارنا، وأخذنا بعكسه تماما -فإن النية الأولى تكون قد أنتجت آثارها الأخلاقية، اللهم إلا إذا قابلناها بعزم مضاد. ولكن المسألة الحقيقية هي أن نعرف إذا ما كان لقرار يتحقق كاملًا، ولقرار آخر حيل بينه وبين التحقق -نفس القيمة الأخلاقية تمامًا؟ ولنترك جانبًا الحالة التي تكون فيها هذه الحيلولة نتيجة عجز من جانبنا؛ نتيجة ضعف الجهد، وقصور العزم. ومن الواضح في هذه الظروف، أن النية لا ينبغي أن تعتبر بالقياس إلى الفعل في نفس الدرجة. ولننظر في الحالة التي يفترض فيها أن طالبي الأخلاقية يستعملان استعمالًا كاملًا سببيتهما الإنسانية، وأنهما لا يهملان أية وسيلة في طاقتهما لتحقيق عمل إرادتهما. ولما كان نجاح أحدهما، وإخفاق الآخر

_ 1 انظر: البخاري, كتاب العتق, باب 5. وفي الأصل اختلاف عن هذا, قال: "تجاوز لأمتي عما وسوست ... أو تتكلم". "المعرب". 2 الإسراء: 36.

لا يمكن أن يعزى إلا إلى فرصة خارجية، مستقلة عن إرادتهما -فمن الممكن أن نقر بلا ريب فيما بينهما تماثلًا كاملًا. بيد أننا لا نستطيع من ناحية أخرى أن ننكر ما قد تؤدي إليه ممارسة قدرتنا التنفيذية من قيم إيجابية أو سلبية، في العالم من حولنا، وفي أنفسنا. ومهما قلنا: إن هذه الممارسة قد حظيت بظروف خارجية، فإن الواقع أمامنا يؤكد: أنها على الرغم من أنها أصبحت ممكنة بفضل الطبيعة، فإنها ما زالت ممارستنا نحن؛ لأنها تمت بإرادتنا، وقد كان من المحتمل أن نغفل الاستفادة من هذه الإمكانية، ولكن النتائج التي كسبناها بجهدنا المنفذ، والتي جعلت حقيقتنا أكثر امتلاء وغنى مما كانت عليه من قبل -هذه النتائج هي إبداعنا، ومن ثم يجب أن تضاف إلى رصيدنا. فكيف بنا إذن نضع الحالتين على قدم المساواة؟ ومع ذلك، إذا أخذنا أقوال الأخلاقيين المسلمين على حرفيتها لكان الأمر هكذا، إذ يبدو أن رأيهم لا يقوم في أساسه على اعتبارات عقلية, ولكن على نصوص كثيرة مروية عن الرسول, صلى الله عليه وسلم. فلنقف إذن على هذه الأرض، ولنذكر أولًا أقوى هذه النصوص التي استندوا إليها، فمن ذلك ما رواه الأحنف بن قيس عن أبي بكرة، أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار". فقلت: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: "إنه كان حريصًا على قتل صاحبه" 1. وفي حديث آخر يشبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحاب الأعذار القاهرة بالمجاهدين معه: "إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا، إلا كانوا معكم ... حبسهم العذر ".

_ 1 البخاري: كتاب الإيمان, باب 23.

وخير من ذلك!.. "أن الفقراء الذين يغبطون1 المتصدقين سوف ينالون نفس الثواب عند الله، في مقابل أولئك الذين يفتن أبصارهم ما عليه شرار الأغنياء من ترف وسرف، فيتمنون أن يحوزوا مال الدنيا حتى ينعموا مثلهم، فهؤلاء لهم نفس العقاب"2. هذه النصوص التي لا شك في صحتها لدى نقاد الحديث، لا تتمثل لأعيننا في شكل مجموعة منسجمة، بل يبدو لنا على العكس، أن كلًّا منها يجيب عن طافئة مختلفة، ولذلك نستطيع أن نضعها في ثلاث مجموعات: 1- نية مع محاولة التنفيذ. 2- نية منعت محاولتها منعًا طارئًا عرضيًّا. 3- نية فرضية. وعلى ذلك، فإن الطائفة الأولى التي مثل لها برجلين يقتتلان، لا تدخل مطلقًا في موضوعنا، الذي هو نية بلا عمل، وليس من الصعب أن نتصور في هذا المثال أن يعامل المنهزم بنفس القسوة التي يعامل بها المنتصر، لا لأنه كان يتحرك بروح الحقد والعدوان ذاتها فحسب؛ بل لأنه غارق إلى أذنيه في الصراع، مسخر كل قواه أيضًا في خدمة نيته الشريرة، ولا فرق بينهما إلا في نتيجة جهودهما. وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى الطائفتين الأخريين، حيث كانت النية

_ 1 الغبطة أن يتمنى المرء أن يكون له مثل ما لغيره حتى يفعل الخير مثله. 2 انظر في ذلك: الترمذي, كتاب الزهد, باب 17 حديث 2325 ط. الحلبي، وجاء فيه: "وعبد لم يرزقه الله مالًا ولا علمًا، فهو يقول: لو أن لي مالًا لعملت فيه بعمل فلان، فهو نيته, فوزرهما سواء" قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.

متهمة ببقائها في حيز الأفكار، مع وجود بعض الحالات التي تجعلها تتفاوت بعدًا أو قربًا من العمل. والواقع أننا قد نفترض أنه في إحدى الحالات يطرأ التعويق بعد عقد النية، وبعد شيء من الاستعداد في طريق تنفيذها، أو حتى بعد عدد من التجارب التي صادفت نجاحًا من قبل، ولكن ربما تنقطع السلسلة بحادث غير متوقع؛ على حين أنه في الحالة الأخرى تكون العقبة موجودة فعلًا، لتجعل من المستحيل أن يوجد أي عزم، ولتحيل النية إلى مجرد رغبة شرطية، كأن يقول الإنسان: لو كنت غنيًّا لتصدقت، أو لاستمتعت بكل مباهج الحياة على أكمل وجه. وهكذا توجد حالتان متطرفتان، وحالة وسيطة. فبين النية الفاعلة، والنية الفرضية، العاجزة توجد النية المعطلة، الممنوعة منعًا عارضًا. وإذا كان العقل يميل إلى أن يحكم على الأوليين حكمًا مختلفًا، فإن الثالثة تعتبر بالنسبة إلى الحكم العقلي حالة ملتبسة، من حيث كانت تجمع بين صفات الحالتين المتعارضتين. ومع ذلك فإن النصوص فيما يبدو لا تفرق بين هذه الطوائف المختلفة, فهل يجب أن نتناولها على أنها ذات تماثل مطلق ... ؟ ليس ذلك رأينا، فنحن نعتقد أن التماثل هو في الطبيعة، لا في الدرجة. وأيًّا ما كان الأمر فإن للنية دائمًا أجرها، ولكنها كلما اقتربت من العمل غنيت بالقيم، بحيث لا تبلغ قيمتها إلا في العمل التام. هذا التدرج مقبول من الناحية العقلية، ولكنه عندما يصبح متعلقًا بجزاء إلهي فربما نجد من الجرأة أن نريد تحديد فضل الله، وأن نجعله خاضعًا لمقاييسنا، التي ثبت أنها معيبة غالبًا.

إن من المستبعد أن نحكم على هذه الأمور الإلهية بأنوارنا الفطرية وحدها، فنحن نعلم أنه في مجال الحقائق المنزلة يجب أن نطبق منهجًا مناسبًا، بأن نلجأ إلى النصوص التي أوحت إلينا هذه الحقائق، وكل ما نملك من أن نحسن الاختيار من بين هذه النصوص. وإذن، فإن لدينا -أولًا- أصلًا من المبدأ القرآني، ينبغي أن يؤدي دوره في تفسير جميع النصوص الخاصة، فالعدالة الإلهية، التي يعبر عنها القرآن لا تحكم على الأشياء جملة، أو بصفة تقريبية، وإنما هي تزن ميزانًا دقيقًا كل درجة من درجات الجهد: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} 1، حتى لو كان في وزن الذرة: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} 2, {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} 3. فإذا كان الجهد الباطن يستغرق الأجر كله فكم من الذرات يضيع!! وإنه لجدير بنا أن نقول: إن لفضل الله مطلق الحق في أن يتقبل هذا العمل أو ذاك بإحسان أكثر، وأن يخصه بأجر أكرم مما يستحق في ذاته، ومن ثم يرتقي بالنية إلى مستوى العمل، وذلك كله بعد أن يكون قد أعطى كلاًّ بحسب أعماله -نعم، ولكن شريطة ألا تستتبع هذه الترقية اضطرابًا في السلم كله، وهو ما سوف يحدث لا محالة، فإن جميع الدرجات العلى يجب حينئذ أن تتطلع إلى ارتقاء آخر، يجعلها أكثر علوًّا مما كانت. وإذن، فلن يعدو الأمر أحد احتمالين: إما ألا يجاب مطلبها، ويصطرع الكرم مع العدالة المنزهة؛ وإما أن تمنح كسبًا جديدًا، وحينئذ تكون النسبة مراعاة، ويستقر التدرج مرة أخرى. ولدينا -بعد هذا المبدأ العام- نصوص محددة، تؤكد صراحة هذا الفرق في الدرجة بين النية المتحققة، والنية المخفقة:

_ 1 الأحقاف: 19. 2 يونس: 61. 3 الزلزلة: 7-8.

أولًا: الحديث القدسي، المروي لدى اثنين من أكابر السلف، وأوثقهم سندًا، هما: البخاري ومسلم، وهو الحديث الذي يقرر أن النية الحسنة التي لم تعقب أثرًا تكتب حسنة، على حين أنها تحتسب عشر حسنات لو تحققت, قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يروي عن ربه عز وجل: قال: "إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة" 1. ثانيًا: وليس أقل من ذلك دلالة ما أثبته القرآن من فرق بين المجاهدين وغير المجاهدين، وفي هؤلاء بين الضعفاء والأصحاء2، والحق أنهم جميعًا قد وضعوا تحت عنوان "المؤمنين"، وأنهم موعودون أجمعين بالنعيم الأخروي ولكنهم ليسوا جميعًا في درجة واحدة. ومن ثم لم يقل القرآن جملة: إن أولئك الذين يجاهدون فعلًا هم أسمى من الآخرين، ولكنه يلون هذا السمو تبعًا للحالة: فتارة تكون "درجات كثيرة" "بالنسبة إلى الأصحاء من المؤمنين"، وتارة هي "درجة واحدة" "يفضلون بها الضعفاء". وهنا يكمن برهاننا، إذ من أين تأتي درجة هذه الرفعة، أو درجاتها ما لم تكن من ذلك الفرق بين الجهود المبذولة، والتضحيات السخية، بين الذين يجاهدون بنياتهم فحسب، وأولئك الذين يبذلون "أموالهم وأنفسهم"؟ ذلكم هو ما يقوله لنا النص هنا أيضًا، قوله تعالى: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا،

_ 1 البخاري, كتاب الرقاق, باب 30، ومسلم, كتاب الإيمان, باب 57. 2 قال المفسرون: يجب أن يقصد بهم فقط أولئك الذين لا يلزم حضورهم على خط القتال، من أجل الدفاع المشترك.

دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً} 1، وهو ما يقرره نص آخر بقدر من التحديد أكبر: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئًا يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2. إن النية خير، والعمل القائم على نية الخير خير أرفع؛ لأنه العمل الأخلاقي الكامل.

_ 1 النساء: 95-96. 2 التوبة: 120-121.

دوافع العمل

دوافع العمل مدخل ... دوافع العمل: كان الجزء الأول من هذا الفصل مخصصًا لدراسة النية، من حيث هي "علاقة بين الإرادة وموضوعها المباشر"، أعني: العمل نفسه، بصرف النظر عن كل توقع يمكن أن يستثير هذا النشاط. ولقد رأينا: أن هذه الرؤية الداخلية، وهذا الإدراك الشعوري لما يفعله الإنسان وبالوصف الذي يفعله به -يعتبر عنصرًا رئيسيًّا في الأخلاقية "ولكنه ليس كل شيء"، وأن غيبة هذا العنصر تفسد أكثر تصرفات الإنسان دقة، ومطابقة للواجب من الوجهة المادية. وأن كل تحول في النية، أعني: كل خطأ في الوصف الصادق للعمل -إما أن يدين سلوكنا، وإما أنه يكفي فقط ليمنحنا العفو. وأن من بين العنصرين المكونين للحدث الأخلاقي تظفر النية بالأولوية والتقدم على العمل. وأن النية وحدها خير أخلاقي يمكن تقديره، ويكتفي بنفسه عند الاقتضاء، ولكنه على أية حال لا يتساوى في القيمة مع العمل الأخلاقي الكلي.

وعلينا الآن أن نستخرج عنصرًا آخر، ترك حتى الآن دون نظر. "فالجانب الغائي للإرادة"، وهو الذي ضربنا عنه صفحًا خضوعًا لحاجة المنهج -ينبغي منذئذ أن يوضع في دائرة الضوء. فأنا قبل أن أعمل، أعرف ما ينبغي أن أعمل، وبهذا الاعتبار سوف أمضي إلى فعله. وعندما أكون بسبيلي إلى أدائه أعرف أن ذلك هو واجبي، فأفعله عن وعي، وبقصد ونية. ولكن، لماذا أفعل واجبي، وفي سبيل أي هدف؟ هذان السؤالان: ماذا؟ ولماذا؟ لا ينفصلان قط في عمل من أعمال الإرادة يدرك ذاته على سبيل الكمال. ترى، هل تندمج الإجابة عنهما في شيء واحد فحسب؟ إنهما لا يواجهانا بنفس الدرجة من الإلحاح فحسب، ولكن الإجابة التي نعطيها للثاني هي التي تفرض الإجابة عن الأول. أي: إن الغاية تفرض الوسائل "ولا أقول: إنها تسوغها، لو كانت ظالمة في ذاتها". وموضوع دراستنا هذه هو أن نعرف: ما الأهمية التي تلصقها الأخلاق القرآنية بهذه الإجابة؟ هل تبدو هذه الأخلاق لامبالية بكل الغايات التي قد تقصد إليها الإرادة حين تطيع أوامر الأخلاق؟ وفي حالة النفي ما الغايات التي تعتبرها هذه الأخلاق غير مسوغة مطلقًا؟ وما الغايات التي ترتضيها، أو تسمح بها؟ وما المبدأ الأسمى الذي ينبغي أن يلهم أعمالنا؟ وهل هذا المبدأ المثالي مطلوب أيضًا في كل الأعمال؟ أم أن ذلك يتفاوت كثرة وقلة، بحسب ما إذا كان يتعلق بواجب، أو بمجرد طريقة للعيش الفردي، في الظروف العادية جدًّا المتصلة بحياتنا اليومية؟ إننا حين نجيب بطريقة واضحة ومحددة على مثل هذه الأسئلة، وحين لا نتوقف عند العموميات -يمكننا بذلك أن نقدم النظرية الأخلاقية للقرآن في هذا الصدد، تقديمًا دقيقًا.

والواقع أنه لا يكفي أن نلفت النظر إلى أن اللفظ العربي: "الإسلام" يعني: "الانقياد"، أي: الخضوع للإرادة الإلهية، كما يعني في الوقت نفسه: "الإخلاص"، وهو استبعاد أي سلطان آخر على الإرادة الإنسانية. ولا يكفي كذلك أن نقول: كم يؤكد القرآن ضرورة أن يستلهم كل فرد في أعماله النية النقية؟ لأنه يجب أيضًا أن نبين فيم يتمثل هذا النقاء؟ ومتى يتسنى لمزيج من الدواعي والبواعث أن يقوض أركانه، ويزيل بنيانه؟

دور النية في المباشرة وطبيعتها

دور النية في المباشرة وطبيعتها ... أ- دور النية غير المباشرة، وطبيعتها: بيد أننا قبل أن ندخل في هذه التفاصيل ينبغي أن نقول ابتداء: إلى أي مدى تقاس قيمة عمل ما -في الإسلام- بأهدافه البعيدة؟ ونكتفي الآن بقولة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يلخص بمضمونها الكثيف، ويعمم بامتدادها إلى ما لا نهاية -ما لا يحصى من النصوص القرآنية وغيرها، مما سوف نرى منه غير قليل من النماذج خلال دراستنا، وذلكم قوله, عليه الصلاة والسلام: "إنما الأعمال بالنيات" 1. وهذه القولة -التي استخدمناها من قبل لإثبات النية المباشرة، كشرط صحة، أعني: شرط وجود أخلاقي- يمكن أن تساعدنا أيضًا في أن نتناول النية بصورة أعمق، باعتبارها معيارًا للقيمة، وشرطًا أخيرًا للثواب والعقاب. هذا الاستخدام المزدوج للنص، والذي جرى عليه من قبل جميع المفسرين -يجد تسويغه أولًا في اشتقاق الكلمة العربية: نية "= intention ". فهذا اللفظ في الواقع مشتق من جذرين امتزجا معًا بصورة ما: أولهما: ناء بالحمل، أي: نهض به.

_ 1 انظر: البخاري, الحديث الأول.

وثانيهما، نأى، أي: ذهب بعيدًا1. فإذا تذكرنا الأصل المزدوج لهذا المصطلح فإنه يعني إذن نظرتين للحركة الإرادية، تقعان في آن واحد على العمل الماثل، الذي يكلف به الإنسان وعلى غايته البعيدة التي يستهدفها. ومع ذلك، فلا حاجة بنا إلى أن نتمسك بهذه الإشارة الضمنية، ولنفترض أن هذه القولة تقصد بخاصة إلى الجزء الأول، ولا سيما في جانبه السلبي، ولكن لنقرأ بعد ذلك بقية النص، ولسوف نرى فيه المعنى الثاني، يستخرج ويتحرك كلما اطرد الخطاب، وأصبح محسوسًا شيئًا فشيئًا، يقول الرسول, صلى الله عليه وسلم: "وإنما لكل امرئ ما نوى" 2, "في حال عمله" ثم يختم الحديث بهذه الجملة الثالثة والأخيرة: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" 3. ومن الواضح أن هذا الدور العظيم لمبدأ التقدير الأخلاقي ما كان له أن يتعين إلا بنية حقيقية، أصولية، منبثقة من المنبع العميق في أنفسنا، فلم تكن لتعينه بضعة أفكار سطحية، ناشئة عن تكلف لغة باطنية أو منطوقة.

_ 1 يريد المؤلف أن مادة الفعلين واحدة، هي "ن، ء، ا"، وإن اختلف الترتيب في الأول عن الثاني، وهو ما عرف لدى الاشتقاقيين باسم "الاشتقاق الكبير"، ويعنون به أن بعض المجموعات الثلاثية ترتبط ببعض المعاني ارتباطًا غير مقيد بترتيب أصواتها، وهي فكرة صادقة في بعض الأصول، دون أن تصدق في كل أصل، وقد ضرب ابن جني مثلًا على ذلك بمجموعة "الجيم والباء والراء" وهي مهما اختلف ترتيبها تعبر عن القوة والشدة ... إلى آخر ما قال، وشركه في الرأي أبو منصور الثعالبي صاحب "فقه اللغة". انظر: من أسرار اللغة 49 وما بعدها للأستاذ الدكتور إبراهيم أنيس. "المعرب". 2 المرجع السابق. 3 المرجع السابق.

فهذه النية الزائفة قد تستر إلى حين الانطلاقة الواقعية لدوافعنا، ولكنها لا تبلغ قط أن تغيرها. وعندما أعمل، في الحرب، تحت سلطان الكراهية، وبروح الثأر، لا يفيدني في شيء أن أبعد تفكيري عن هذا الهدف بأن أقول لنفسي: سوف أدافع لا عن مصلحتي، بل عن حقيقة مقدسة. فنحن لا نلغي وجود العالم بإغلاق أعيننا كيلا نرى شيئًا، وسد آذاننا كيلا نسمع شيئًا. وليس بوسعنا أن نتملك الفضيلة بمجرد تفكيرنا فيها، أو حتى نطقنا باسمها، فالرجل العاقل لا يرى في هذه الشكلية سوى ستار جد رقيق لا تلبث أن تنكشف وراءه الحقيقة. لسنا ننكر في بعض الحالات صعوبة تبين الدوافع الخفية لأعمالنا. ولسنا نذهب إلى حد تأييد "كانت" فيما ذهب إليه من الاستحالة المطلقة لاستكناهها1، فهذه الفكرة على ما لاحظه "دلبوس delbos"2 تبدو لدى "كانت" متصلة بنظريته التي تقول باحتمال وجود إرادة إنسانية علوية، تجري اختيارها خارج الزمان، ومن ثم لا تستجيب لأي معرفة تجريبية.

_ 1 انظر: Kant. Fondement. Meta, 2 Section, 2. Alinea 2 فيكتور دلبوس, فيلسوف فرنسي "ولد في فيجاك عام 1862، وتوفي في باريس عام 1916"، كان أستاذًا في السوربون، وقد كتب جملة من المؤلفات، منها: Le probleme moral dans la philosophie de Spinoza et dans I'histoire du spinozisme. المشكلة الأخلاقية في فلسفة سبينوزا، وفي تاريخ الأسبينوزية, وكانت رسالته: Essai sur la formation de la philosophie pratique de Kant دراسة في تكوين الفلسفة العملية عند كانت. وقد ترجم إلى الفرنسية: أسس ميتافيزيقا الأخلاق لكانت ... إلخ. واختير عضوًا في أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية عام 1911 "انظر: Grand Larousse T. 3)) "المعرب".

بيد أننا ما دمنا في نطاق ما يقبل المعرفة -ندرك أن الصعوبات التي تثيرها دوافعنا العميقة كثيرة، وحتى لو افترضنا أن هذه الدوافع الحقيقية قد كشفت، فإنها ليست سهلة المراس بحيث يمكن إقصاؤها وشغل مكانها بمجرد صارف من صوارف الفكر، كيفما أردنا. بل قد يجوز لنا أن نتساءل: إذا ما كانت النية بعامة يمكن أن تكون موجهة؟ يرى الإمام الغزالي أن الإنسان لا سلطان له مباشرة على هذا التوجيه، وفي ذلك يقول: "إنما النية انبعاث النفس وتوجهها، وميلها إلى ما ظهر لها أن فيه غرضها، إما عاجلًا، وإما آجلًا، والميل إذا لم يكن لا يمكن اختراعه، واكتسابه بمجرد الإرادة، بل ذلك كقول الشبعان: نويت أن أشتهي الطعام وأميل إليه، أو قول الفارغ: نويت أن أعشق فلانًا وأحبه وأعظمه بقلبي، فذلك محال، بل لا طريق إلى اكتساب صرف القلب إلى الشيء وميله إليه، وتوجهه نحوه إلا باكتساب أسبابه، وذلك مما قد يقدر عليه، وقد لا يقدر عليه، وإنما تنبعث النفس إلى الفعل إجابة للغرض الباعث، الموافق للنفس، الملائم لها، وما لم يعتقد الإنسان أن غرضه منوط بفعل من الأفعال فلا يتوجه نحوه قصده، وذلك مما لا يقدر على اعتقاده من كل حين، وإذا اعتقد فإنما يتوجه القلب إذا كان فارغًا غير مصروف عنه بغرض شاغل أقوى منه، وذلك لا يمكن في كل وقت، والدواعي والصوارف لها أسباب كثيرة، بها تجتمع، ويختلف ذلك بالأشخاص، وبالأحوال، وبالأعمال، ويضرب الغزالي لذلك مثالًا فيقول: "فإذا غلبت شهوة النكاح مثلًا، ولم يعتقد غرضًا صحيحًا في الولد، دينًا ولا دنيا، لا يمكن أن يواقع على نية الولد، بل لا يمكن إلا على نية قضاء الشهوة، إذ النية هي إجابة الباعث، ولا باعث إلا بالشهوة، فكيف ينوي الولد، وإذا لم يغلب على قلبه أن إقامة سنة النكاح اتباعًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعظم فضلها، لا يمكن أن

ينوي بالنكاح اتباع السُّنة، إلا أن يقول ذلك بلسانه وقلبه، وهو حديث محض ليس بنية. نعم طريق اكتساب هذه النية مثلًا أن يقوي أولًا إيمانه بالشرع، ويقوي إيمانه بعظم ثواب من سعى في تكثير أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- ويدفع عن نفسه جميع المنفرات عن الولد، من ثقل المؤنة، وطول التعب وغيره. فإذا فعل ذلك ربما انبعث من قلبه رغبة إلى تحصيل الولد للثواب، فتحركه تلك الرغبة، وتتحرك أعضاؤه لمباشرة العقد، فإذا انتهضت القدرة المحركة للسان بقبول العقد، طاعة لهذا الباعث الغالب على القلب كان ناويًا، فإن لم يكن كذلك فما يقدره في نفسه، ويردده في قلبه من قصد الولد -وسواس وهذيان"1. وقد نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك؛ لأننا لو افترضنا أن هذا العلاج الأخلاقي قد استمر ونجح، لبقي أن الفطرة الحسية لم تنعدم لذلك. فهذا القدر الكبير من الأفكار، ومن المطامح، ومن العادات التي اكتسبت من جديد -يمكنه فعلًا أن يحد من سلطان ميولنا الغريزية، أو يخففها، ومع ذلك فإن هذه الميول تظل ماثلة، ولا يختنق صوتها قط اختناقًا كاملًا، بل إن الأمر ليصل أحيانًا، عندما يتزامن أمر العقل مع دافع الأنانية، أننا لا ندري -على وجه القطع- لأي الأمرين خضعنا. ويجب أن نلاحظ جيدًا أن الذين قد يتسلط عليهم هذا الشك ليسوا هم العامة من الناس، أولئك الذين يطلقون العنان لأهوائهم، وليسوا أيضًا هم حديثو العهد بالدين، فهم قلما يتنبهون إليه. فمن الواضح أنهم لما كانت مبادئهم حتى الآن متفردة، لا تزاحمها مبادئ أخرى مضادة، فلا مجال لأن يخطئوا تبين المبدأ الواقعي الذي يلهم أعمالهم، ولن يكونوا بحيث يفسرون نواياهم الخاصة بتشابه الأقوال أو الصور، عندما تبدو لهم مظلمة أو غامضة.

_ 1 الإحياء 4/ 362 ط. الحلبي، وقد نقلنا هذا النص بصورة أوفى مما في الأصل.

وإنما يقع في هذا الصالحون من الناس، أولئك الذين قد يجدون بحق، كل عناء في تمييز دوافعهم الحقيقية، وفي تهدئة وساوسهم في هذا الموضوع. وبالرغم مما يبدو في هذا من تناقض، فمن الممكن القول بأنه على قدر ما يحققون من تقدم أخلاقي يجب أن تزداد مخاوفهم من ألا تسترهم في نظر أنفسهم تلك الطبقة السميكة من مكتسباتهم الجديدة، فتدفعهم إلى الاعتقاد بأنهم إنما يعملون دائمًا حبًّا في الفضيلة. ألا يحدث في الواقع أن يكتشفوا أحيانًا، وبعد فوات الأوان، أنهم كانوا في ذلك مخدوعين، وأنهم إنما كانوا يعملون في هذه المناسبة أو تلك لإرضاء النزعة الخفية من طبيعتهم؟ ولكن هل يمكن لهذه الأسرار العميقة، التي تنزع غالبًا إلى أن تختفي عن أكثر الاختبارات دقة -أيمكن أن تغيب عن رقابة الله الذي هو {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} 1, {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير} 2. ولهذا نجد في الأخلاق الدينية -أكثر من أية أخلاق أخرى- ضرورة تفرض نفسها على كل فرد، هي أن يستعمل الدقة وعمق النظر في اختبار ضميره، بقدر ما يمارس من جهد شجاع لتحرير نفسه من كل تأثير، سوى التأثير الذي يفرضه الشرع، ويرضاه. والحق أنه لا يوجد شرع عادل يكلفنا بأن نحمل أكثر مما تطيق فطرتنا، حتى ندرك ما لا نستطيع إدراكه، أو نجاهد ما لا نطيق هزيمته. ولكنا عندما توقفنا قوة هذه الفطرة، قبل أن نصل إلى نهاية الطريق، "فعند نقطة

_ 1 المائدة: 7. 2 الملك: 14.

الإيقاف هذه يختلف موقف الضمير الذي يخضع لقانون العقل وحده، عن موقف من يخضع لقانون الجلال والفضل الإلهي، وإليكم نقط الخلاف هذه ": فمن الناحية العقلية، تبعًا لوجهة النظر التي نأخذ بها، وتبعًا لمزاجنا أيضًا -نرى أن العجز عن "فعل الأحسن" الذي نجد أنفسنا فيه لا بد أن يترجم في ضميرنا بشعورين متناقضين، ينتهي كل منهما إلى نتيجة لا ترضى النزعة الأخلاقية؛ إذ إننا من الناحية القانونية نعتبر أنفسنا قد أدينا ما علينا، ما دمنا غير ملزمين مطلقًا بعمل المستحيل. بيد أن ملاحظة نقصنا الأساسي "الجواني"، وليكن اضطراريًّا، يجب أن تثير فينا شعورًا باحتقار أنفسنا، فلسنا نملك ألا ندين هذه الفطرة العقيمة إدانة لا نقض فيها ولا إبرام؛ لأنها غير جديرة بمطامحنا الأخلاقية. وهكذا نجد أن الاعتبار الأول، وهو اعتبار منطقي، لا حرارة فيه، يمنح نشاطنا وهمتنا إجازة، ويدعونا إلى أن نستريح في هدوء على هذا الحد، كأنه لا يقبل التجاوز بحال. فإذا ما ارتضينا هذه الوقفة، واستطالت قليلًا فسرعان ما تتحول إلى تقهقر تدريجي. وإذا كانت ملاحظة هذا البون ما بين واقعنا ومثلنا تشعل -بالعكس- النار في قلوبنا، وتجعلنا ثائرين ضد أنفسنا، فقلما يكون ذلك من أجل إصلاح فطرتنا، وهو أمر نعتبره -على سبيل الفرض- مستحيلًا، بل هو من أجل أن ننقم على ظرفنا التعيس. هذه الكراهية التي لا جدوى من ورائها، والتي تسمى "اليأس"، تقود الإنسان حتمًا إلى نفس الوقفة أولًا، ثم إلى التقهقر الذي أشرنا إليه منذ قليل. وذلكم هو الإنسان، طالما اعتمد على قواه، وأنواره الخاصة. هذا كله في مقابل نفس مغذوة بالإيمان، مملوءة بالثقة في هذه الحقيقة

الحية والعلوية، هذه الحقيقة التي لا حدود لخيرها ولا لقوتها، والتي هي موضوع حبنا واحترامنا ونطلق عليها: الله. إن النفس التي تثق في هذه الحقيقة لا ترتد أبدًا إلى ذلك اليأس القاتل، ولا إلى ذلك التساهل البليد نحو الذات. ذلك أن فكرة لطف الشرع الإلهي الذي لا يأمرنا بأن نخرج من فطرتنا، يقابلها في ضميرنا فكرة العلم الشامل العلوي لخالق هذا الشرع. هذا العلم الشامل وحده، الذي يطلع على أعماق قلوبنا، والذي يقيس قياسًا دقيقًا حدود قدرتنا -هو الذي يستطيع أن يحكم بحق إن كنا لا نزال نطيق أن نبذل جهدًا، لكشف نقائصنا المستورة، نقائص سلوكنا الباطني، وتصحيحها -هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، إن فكرة وجود الله ذي الجلال في كل مكان، تلك الفكرة التي تملأ نفوسنا اهتمامًا بالأخلاق، وبالصرامة نحو أنفسنا -هذه الفكرة يخففها بدورها فكرة الرحمة التي تمد يدها دائمًا إلينا، لا من أجل أن تتلقى أولئك الذي يرجعون من غفلتهم، ويحاولون أن ينهضوا من كبوتهم فحسب، ولكن من أجل أن تساعدهم، وتمدهم بقوة يتراحب مداها دائمًا. في هذا الضوء يصف لنا القرآن حالة نفس المؤمن، فهي ليست يائسة من روح الله: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} 1، ولا هي آمنة من مكره: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} 2 وإنما هي دائمًا في منتصف طريق، بين الأمل والخوف، أو بالأحرى، تغذي كلا الشعورين في وقت واحد: {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} 3. وإذن، فهو حوار حي، بين لطف وهمة، وشجاعة وأمل، وهو حوار يتعهد شعلتنا، دون أن يحرقنا بها، ويرطب قلوبنا دون أن يسلبها حميتها،

_ 1 يوسف: 87. 2 الأعراف: 99. 3 الزمر: 9.

فكل شيء متوازن، ومتناسب، وهذا هو مجموع الشروط الضرورية، والكافية لبناء عمل دائم وخصب، فهل تستطيع النزعة الأخلاقية أن تجد في غيره بيانًا أفضل؟ والآن، إذا كنا قد أثبتنا مبدأ النية العام، وبعد أن حددنا أنه لا يمكن أن يعني مطلقًا نية سطحية، أو مصطنعة، بل لا مناص من دوافع حقيقية تتعمق في أنفسنا، كيما تجد فيها جذورها العميقة، وتطهرها -نستطيع الآن أن نشارف الموضوع الرئيسي في هذا القسم، ألا وهو دراسة المجموعات المختلفة لهذه الدوافع، وتمحيص نظمها في الأخلاق الإسلامية، كل على حدة. وفي أثناء هذه الدراسة للنية الغائية، سوف نصادف كل نوع منها، ابتداء من أجدرها بالمدح، حتى أحقها بالذم، مارين بمنطقة وسيطة، في مستوى عادي، يمكن أن توصف باللامبالية، ولو لم يرق ذلك في نظر بعض الأخلاقيين والمتصوفة المسلمين؛ إذ كيف نجمع في حكم واحد رفضًا لمبدأين متباعدين، أحدهما عن الآخر، المبدأ الذي يقف ضد الشرع، والآخر الذي يمكن برغم كل شيء أن يجعل الشرع أكثر فاعلية؟ ألم يعلمنا القرآن والسُّنة بطريقتهما في تقدير الأمور -أن بين الطرفين من "الخير والشر"- مكانًا للفظ وسط، وأن بين "المأمور به" و"المنهي عنه" يوجد المسموح به أو "المباح"؟ إن في القرآن ثلاثة تعبيرات هي: "كتب عليكم, حرم عليكم, وأحل لكم"، وهي أكثر التعبيرات شيوعًا، والقرآن يعين بها المجموعات المختلفة في تشريعه، فلماذا لا يطبق نفس التقسيم الثلاثي على الروح "أي: الدوافع" التي تحرك أنواع السلوك المختلفة؟

وإذن، فلكي نحكم بأن نية معينة هي طيبة، أو خبيثة، أو جائزة فحسب -لا يكفي دائمًا أن ننظر فيها إلى المفهوم المجرد، بل يجب في الوقت نفسه أن نحسب حساب عاملين آخرين، قد يعدل تدخلهما حكمنا تعديلًا عميقًا: الأول: نوع العمل الذي نقصد إلى ممارسته، لتحقيق غاية معينة؛ لأنه إذا كانت الأشياء ذات القيمة المادية، يمكن أن تستعمل وسيلة للتوصل إلى غايات هذه الدنيا، فليس الأمر كذلك بالنسبة إلى واجب مقدس، ينبغي أن يتصور لذاته، أو لغايات أسمى. والثاني: الدور الذي يناط بباعث أو آخر ليؤديه في بناء قوتنا المحركة، تبعًا لما إذا كان وحده، أو مشتركًا مع باعث آخر، وفي هذه الحالة الأخيرة حسبما إذا كان يكون في هذه الشركة عنصرًا رئيسيًّا، أو ثانويًّا؛ لأنه في أي خليط من الدوافع المختلفة لا يجب أن ننظر إلى طبيعة كل عنصر مضاف فحسب، بل ننظر كذلك إلى الأهمية النسبية التي نعلقها على كل من هذه العناصر في المجموع. وإذا كان الإنسان ذاته خليطًا فكيف لا نبالي بالعمل الذي يدل على طبيعته بصورة أفضل؟ إن من المناسب فقط أن نحكم عليه تبعًا للتفضيل الذي يمنحه لهذه الغاية على تلك الغاية الأخرى، ومعنى النسبة يقتضيه، كما يقتضيه المبدأ القرآني، الذي سوف توزن طبقًا له أعمالنا، حتى لو كانت في وزن الذرة. وعلى هذا النحو نجد أن خطة هذه الدراسة قد تحددت بالفعل، رغم أنها شديدة التعقيد، والتداخل, ولسوف نعرض على التوالي نظرية هذه الأشكال الثلاثة من النية، على أن نفترض أن كل واحدة منها هي صاحبة السيطرة على الضمير، ثم نشرح في النهاية مختلف الطرق التي يمكن أن تمتزج بها الدوافع الكثيرة، لكي تسهم في تحديد اختيار إرادتنا.

النية الحسنة

ب- النية الحسنة: من المعلوم، في الأخلاق العقلانية أن أكثر النظريات تشددًا، وهي نظرية "كانت"، تجعل المبدأ المحدد للإرادة الطيبة في الفكرة المجردة للواجب، باعتباره القانون الشكلي للعقل. ولقد يجوز لنا أن نعتبر هذه النظرية مجرد بديل ميتافيزيقي للنظرية القرآنية. ولا ريب أن القرآن يقدم الأشياء في ضوء مختلف؛ لأنه يملأ هذا الشكل الفارغ للواجب بمادة مناسبة، ويعين لممارسة هذا الأمر السامي سلطة أكثر ارتفاعًا بصورة أخرى. فالمؤمن لا يذعن للواجب "كفكرة" أو "ككائن عقلي"؛ ولكنه يذعن له باعتباره متصلًا بحقيقة أساسية، ومن حيث هو صادر عن الموجود الأسمى الذي زودنا بهذا العقل، وأودع فيه الحقائق الأولى؛ بما في ذلك الحقيقة الأخلاقية في المقام الأول. بيد أننا إذا نحينا هذه الفروق النظرية جانبًا، فسوف نلاحظ تماثل النظريتين فيما قامتا عليه أساس من اقتضاء عملي. فالقرآن يعلمنا أن الرسالة الوحيدة للإسلام، الرسالة التي من أجلها خلق الإنسان، بل خلقت جميع الكائنات العاقلة، مرئية وغير مرئية، "إنسًا وجنًّا" -هذه الرسالة تنحصر في العبادة والخضوع للخالق جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون} . وتأتي آيات كثيرة لتكمل هذا الإعلان بأقوال أكثر تحديدًا، ومن ألفاظ هذه الأقوال نجد أن خضوع النفس لأمر الله يجب أن يكون خالصًا، دون شرك: {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} 1، {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 2، {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} 3.

_ 1 2/ 139. 2 7/ 29. 3 39/ 2.

ولكي نفهم جيدًا ما يقصده القرآن بهذا الإخلاص ينبغي أن نضيف مجموعتين أخريين من الآيات التي قدم لنا بها تحديدًا -هو في الحقيقة سلبي- ولكنه يعبر أصدق تعبير عن هذا الخضوع الخالص. ففي المجموعة الأولى يلح القرآن على نقطة هي: أن سيطرة أهوائنا يجب أن تنتفي من أحكامنا، فهي شر وثن يتبع: {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} 1، {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} 2, {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 3. وفي المجموعة الأخرى يريد القرآن أن يحرر أنفسنا من تأثير العالم الخارجي، فهو يمنعنا من أن نلتمس طاقتنا الأخلاقية في آراء الناس عنا، أو في المواقف التي يمكن أن يتخذوها حيالنا، فرضاهم وسخطهم، ومهابتهم وقدرتهم -يجب ألا نعبأ بها أو نبالي، وحسبنا في ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} 4، وقوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} 5 -في مقابل قوله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} 6، وقوله: {يُرَاؤُونَ النَّاسَ} 7, ويريد القرآن أيضًا ألا نبالي بجزاء الناس أو عرفانهم: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} 8، ومن

_ 1 4/ 135. 2 28/ 50. 3 38/ 26. 4 الأحزاب: 39. 5 المائدة: 54. 6 النساء: 108. 7 النساء: 142. 8 الدهر: 9.

قبل كان من الأوامر الجوهرية الموجهة إلى النبي في بداية الوحي هذا الأمر الموجز المحكم: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِر} 1. فأين يقع إذن المبدأ المحدد للإرادة إذا كانت قد قطعت هكذا عن كل هذه الدوافع؟ إن القرآن يدلنا عليه في هذا التحديد الذي يصف به الإنسان التقي، فيقول: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى، وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى، إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} 2. وإن القرآن ليمضي في هذا الاتجاه إل حد القول بأن الذي يأخذ الصدقة ليس هو، الفقير، ولكنه الله سبحانه: {هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} 3، وللنبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا المقام تعبير رائع، حيث قال: "من تصدق بصدقة بصدقة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا طيبًا، كان إنما يضعها في كف الرحمن، يربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله، حتى تكون مثل الجبل" 4. فمن مجموع هذه النصوص يستنتج تحديد كامل للنية الحسنة، طبقًا لمفهوم القرآن، فهي حركة تعدل بها الإرادة الطائعة عن كل شيء، طوعًا أوكرهًا،

_ 1 المدثر: 6. وقد توسع كثير من المفسرين في هذا المنع، حين حملوا هذا النص على معناه الأوسع، فجعلوه شاملًا لكل حركة في النفس، مهما قل غرضها الدنيوي، حتى ولو كان ذلك انتظارها لجزاء الله الواسع. ولسوف نناقش فيما بعد كون هذا التوسع في مفهوم الأمر يتضمن تحريمًا دقيقًا، ومطلقًا، أو توجيهًا إلى الأمثل. 2 الليل: 17-20. 3 التوبة: 104. 4 الموطأ: كتاب الترغيب في الصدقة, باب 1.

ظاهرًا أو باطنًا، كيما تتوجه نحو الجانب الذي تتلقى منه الأمر، إنها انفصال عن الناس، وعن أنفسنا، واتصال بالمثل الأعلى، والأزكى، والأكمل: الله جل وعلا. والقرآن لا يقتصر على النصوص المحددة، التي غالبًا ما تأتي في ألفاظ مستوعبة، لتقدم لنا المثل الأعلى على أنه الموضوع الوحيد الذي يجب أن يضعه الإنسان نصب عينيه وهو يعمل: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} 1، {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} 2، {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} 3، {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُون} 4 ... إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة, ولكن القرآن من أوله إلى آخره يوجهنا نحو هذا الهدف. إنه مشروع عظيم ينتزع الأنفس من هذا الجو الأرضي، ويجذب أنظارها إلى السموات، بحيث يمكن القول بأن سيطرة هذه الفكرة الإلهية هي التي تحكم الخطاب القرآني. ولكي نقتنع بذلك ما علينا إلا أن نفتح هذا الكتاب كيفما اتفق، لا أقول: إنه لا توجد صفحة واحدة فحسب، بل إنه لا يوجد سطر واحد، في المتوسط، لا نجد فيه ذكر الله، سواء باسمه، أو بضميره، أو ببعض صفاته5.

_ 1 البقرة: 272. 2 النساء: 114. 3 طه: 14. 4 الروم: 39. 5 الواقع أن هذا الكتاب في صفحاته الخمسمائة التي يتألف منها عادة -بلغت القائمة التي أحصيناها لذكر الله فيه عددًا: "10620" مرة، أي: إن الله مذكور في الصفحة المكونة من 15 سطرًا عشرين مرة في المتوسط، وليس سوى "32" صفحة يقل في كل منها ذكر الله عن عشر مرات.

وإذن، فليس هناك بالنسبة إلى نفس قارئ القرآن إمكانية النسيان العميق، أو حتى الغفلة الطويلة، ما دامت دقات هذا العالم الروحي ترن في أذنيه وتعاوده بلا انقطاع، كيما ترده إلى النبع الأول للقوة والنور، ولا نظن أن هناك تدريبًا أبلغ تأثيرًا من هذا، حتى نبقي على انتباهنا يقظًا، وحتى نجعل نيتنا طاهرة ونزيهة. ومع ذلك، فمما تجدر ملاحظته أن هذا القرآن لا يخلط مطلقًا في موضوع التنزه عن الغرض ما بين النية والعمل. فالقرآن، على الرغم من أنه وصم أشياء هذه الدنيا بالانحطاط، لم يرد فيه أي توجيه أو وعظ يوجب على معتنقيه أن يتنازلوا عن الحياة زهدًا وتقشفًا. إنه بكل تأكيد يذم التطرف في كل شيء، ولكنه لا يحرم مطلقًا الرفاهية الفردية، ولا الازدهار الجماعي. ففيما يتعلق بالرفاهية الشخصية نجده يقول في كلمات صريحة: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} 1. وفيما يتعلق بنمو الزراعة، والتجارة، والصناعة، وتطور الكشف والحضارة بعامة -نجده يدعونا دائمًا إلى تحقيقه، دون أن يمنع شيئًا منه. ولا حاجة قط إلى تكرار النصوص في هذا الموضوع، بل يكفي أن نعطي منها نصًّا واحدًا، ذا أهمية لا حد لها، وذا ألفاظ تجعل من كل ما يوجد في الأرض، وعليها، وكل ما يوجد في البحر، وفي الهواء، مسخرًا للناس

_ 1 الأعراف: 31-32.

من لدن العناية الإلهية، قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} 1. وكل ما في الأمر أن القرآن قد أخضع اكتساب هذه الموارد، وتوزيعها، واستعمالها لبعض القواعد العامة التي تكفل خير الجميع في عدالة، وجعل -فيما عدا ذلك- من هذا العالم معبرًا، ومنزلًا مؤقتًا: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} 2. وهو لم يجعل من اهتمامات الدنيا كلها، ومن متعها، غاية، بل وسيلة لبلوغ أشياء أخرى، يقول القرآن: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ، لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} 3. وإذن، ففيم تنحصر النزاهة التي علمنا إياها القرآن، إن لم تكن في الفكر، وفي النية؟ ذلك أنه إذا كان الشر الأخلاقي لا يمكن في الممارسة المادية لنشاط معين، يستهدف إنتاج الطيبات، وحيازتها، فلا يمكن أن يوجد إلا في الروح التي تملي هذه الممارسة. وما علينا إلا أن نستنبط، ثم نصوغ رأي الأخلاق الإسلامية في هذا الصدد، مميزين ست حالات، تختلف قيمتها أحيانًا اختلاف الليل والنهار:

_ 1 الجاثية: 13. 2 آل عمران: 14. 3 الزخرف: 12-13.

أولًا: الحالة الأولى، التي تصف اللاأخلاقية الصريحة، وهي الحالة التي يكب الإنسان فيها على الاستيلاء على المادة، بدافع من حب التملك الغريزي الغشوم، دون تمييز أو تحرج، وبدهي أن هذه هي الحالة التي يكون الإنسان فيها مذنبًا، قانونًا وأخلاقًا، وهي ما يطلق عليه صراحة: "عبادة الهوى" في قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا، أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} 1. ثانيًا: بيد أن الذنب الأخلاقي لن يكون أدنى، إذا كان الجهد الذي يبذل لتحاشي هذه الطريقة المنحرفة أو تلك مفروضًا فقط؛ بالإكراه أو بالإرهاب، يمارسه الآخرون ضدنا، وبحيث إنه لولا وجود هذا المنع الخارجي لكنا قد تجاوزنا الحد، وخالفنا الشرع بإتيان هذه الطريقة، على الرغم من كونها منكرة. ففي هذه الحالة أيضًا يكون المرء تحت حكم الهوى، ما دام يخضع مكرهًا لتنفيذ حرفية الشرع، والقرآن يسجل من هذا النوع مواقف، في قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِر} 2، وقوله: {وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} 3. ثالثًا: لنفترض الآن أن هذا الخبث الروحي غير موجود، ولكن ها هو ذا رجل توفر له مهنته العادية أن يعيش شريفًا أمينًا، فلنفترض أن ارتباط هذا الرجل بنوع حياته كان بحيث يستشعر كراهية عميقة لكل كسب خبيث، لا لأنه يعتبره مذمومًا من الناحية الأخلاقية؛ لأن مسألة من هذا القبيل لم تخطر له قط, ولكن لأنه ضد مزاجه، أو عاداته. فهذه الحالة المسالمة التي

_ 1 الفرقان: 43-44. 2 التوبة: 98. 3 التوبة: 54.

لا تضر، هذه الغيبة التلقائية للشر -إنما تنشئ براءة الغريزة الصبيانية، لا انتصار الإرادة العاقلة1. وإنما تبدأ الحياة الأخلاقية عندما يكون سعينا إلى العيش المشروع نتيجة اختيار واع، منطلقه التمييز بين الخير والشر، وقاعدته الامتناع عما هو محرم، والالتزام باستعمال المباح وحده. ومع ذلك فهذه ليست سوى بداية؛ لأنه إذا كان مستحبًّا بلا ريب أن يمتنع المرء إراديًّا عن الشر عندما يعرض له، فليس الأمر كذلك حين يبيح لنفسه استعمال شيء لم يذمه القانون الأخلاقي، فالإباحة ليست الوصية، وهذه أدنى من التكلف. إن الإباحة بالمعنى الواسع للكلمة هي عدم التعارض مع الشرع، ولكنها بالمعنى الدقيق الذي نريده هنا هي: الإمكان الأخلاقي للعمل أو عدم العمل، غير أن الممكن لا يحمل في ذاته كل سبب وجوده. فهو وإن كان "شرطًا ضروريًّا" لكل وجود, إلا أنه ليس "بالشرط الكافي". وإذن يجب أن نبحث في مكان آخر عن المبدأ الذي يضطرنا إلى استعمال حقنا بدلًا من أن نهمله، ففي هذا المبدأ تكمن قيمة اختيارنا. فماذا يكون هذا المبدأ؟ إن الحالات الثلاث الآتية تجيب عن هذا السؤال. رابعًا: عندما نسأل أنفسنا: لماذا نبحث عن رفاهيتنا المشروعة؟ فإننا نقتصر أحيانًا على أن نقول لأنفسنا: لأنه غير محرم، دون اعتبار للبواعث الأخرى المكملة.

_ 1 تشبه حال هذا الرجل حال من يقاتل في صفوف المؤمنين، مدفوعًا بعاطفة الشجاعة وحدها، أو بدافع "الوطنية" المحدودة، وهو الذي لا يستحق مطلقًا لقب "المجاهد في سبيل الله". انظر البخاري, كتاب الجهاد, باب 15 "الرجل يقاتل شجاعة والرجل يقاتل حمية", فهؤلاء الرجال يبقون على هامش الأخلاقية.

فقد رأينا في هذه الحالة أن الدافع الحقيقي لعملنا لا يمكن أن يكون هو القانون من حيث هو قانون؛ لأن هذا القانون يصلح للنقيضين على سواء، ومن ثَمَّ فهو عاجز عن تفسير أيهما. ولما لم يكن وراء "القانون"، و"المنفعة" بالمعنى العام مبدأ آخر محتم للإرادة, فإن الدافع الحقيقي لعملنا هنا هو إذن وبالضرورة "الهوى" الذي نجده لإشباع حاجاتنا الفطرية. ولا ريب أنه ليس الهوى الأعمى المستبعد للعاطفة، ولكنه هوى مستنير خاضع للعقل. ولكن ما أهمية ذلك، إذ إن المصلحة دائمًا، لا القانون، تظل في هذه الحالة أساس اختيارنا الخاص؟! وقد كان دور القانون أن يزيح العقبة أمام طريق مزدوج، ولكن الفطرة هي التي أعطت الأمر بألا يُختار سوى واحد منهما، كما لو كانت هذه الفطرة تترقب هذه اللحظة المواتية، التي بدا لها فيها أن القانون لا يبالي، فاختارت ما تفضله عليه. إن توقع الاختيار العام، والخضوع له، أمران لهما قيمة ثمينة، ولكن الاختيار الخاص لا معنى له من الناحية الأخلاقية، فهو ليس جديرًا بذم أو بمدح من حيث هو في ذاته، وذلكم هو الموقف الذي أطلقنا عليه "الموقف السطحي"، والذي يعبر في هذا المجال عن أدنى درجة في سلم الأخلاقية. خامسًا: إننا لم نواجه حتى الآن الحالات التي تستحق أن تذكر على سبيل الاستحسان. فالنية الحسنة ليست هي النية التي تكتفي بتحذيرنا من المحرمات، وإخضاع رغباتنا لما هو مباح، إنها أكثر اقتضاءً، ويجب فضلًا عن ذلك أن تتوفر لها اعتبارات أخلاقية إيجابية، صالحة لتسويغ اختيارها للموضوع المرغوب. وهكذا نجد أن كسب الإنسان عيشه، وأكله حتى يشبع جوعه، وارتداءه لباسًا نظيفًا، واستخدامه للرفاهية، ومسامراته البريئة -كل ذلك وغيره من الأعمال الكثيرة المماثلة, خالٍ مطلقًا من أي معنًى أخلاقي ما دام

هدفه الوحيد -أن يمتعنا متاعًا حسنًا بالحياة، حتى ولو لم نقع في الإفراط المعيب. وإذا كنا نقضي عمرنا في هذا -وهذه بكل أسف حالة الجمهرة من الصالحين- فإن جملة متاعنا سوف تكون بلا وزن ولا قيمة، ولن يكون لنا أي رصيد أخلاقي، كما أن وجودنا الثاني سوف يكون مفتقرًا بنفس النسبة. في حين أن هذه الأعمال ذاتها يمكن أن تصير ثروات أخلاقية، إذا ما تدخلت أسباب شرعية مرضية لتسد النقص في وجهتها، مثلًا، حين أحافظ على بدني، من أجل أن أطيق بشجاعة تحمل الواجبات التي كلفت بها، وحين أقصد بأحاديثي العادية المحضة أن أوثق صداقة نزيهة مع إخواني، وحين أمارس نشاطي في الميدان الاقتصادي فأتصور شيئًا آخر غير مجرد المتعة بالتملك، سواء أكنت أريد أن أجنب أسرتي، أو أجنب نفسي مغبة العيش عالة على المجتمع، أم كنت أحب أن أنشر السعادة بين هؤلاء الذين هم أقل حظًّا، أن أتيح لجماعات من الناس أن يكسبوا عيشهم بشرف، أن أزيد في ازدهار بلدي، أو أزيد في قيمة هذا الصنع الإلهي بصورة أعم، هذه الكرة الأرضية التي استخلفنا الله فيها، كما يتيح لجميع المخلوقات التي تسكنها أن تعيش، وتتنعم، وتمجد خالقها. وهكذا نجد أن الحكمة الإسلامية لم تعين حدًّا إجباريًّا لكسبنا الشريف، وإنما فرضت على عقلنا تلك الطريقة في رؤية أعراض هذه الدنيا على أنها غير جديرة بأن نطلبها، لا من أجل ذاتها، ولا من أجل ما قد تجلبه لنا من متعة، ولكن نطلبها لغايات معقولة، تصبح بها الأشياء المباحة مستحبة أخلاقيًّا، أو مأمورًا بها. ولذلك فإن الحكماء المسلمين لم يتميزوا بنوع خاص من الحياة، وإنما تجدهم يبرزون في كل مكان، وفرصة ظهورهم في الحقل، والمصنع، والدكان، لا تقل عن فرصة ظهورهم في خلوة الزهاد، وصومعة الرهبان.

سادسًا: والواقع أن هنالك أمثلة نلمس فيها أجمل الشواهد على البعد عن الغرض، وهي أمثلة لا يهتم أصحابها بالحياة المادية، إلا لمامًا، وفي مناسبات نادرة، بقدر ما يصلح للقيام بحاجاتهم العاجلة، دون الاحتفاظ بشيء إلا ما يكفي للفترة ما بين عملين. هناك رجال خلوا من أعبائهم الأسرية فعكفوا عكوفًا كاملًا على تثقيف قلوبهم، وعقولهم. ومع أنهم كانوا ملتزمين في الوقت نفسه بخدمة الدولة، في الجهاد العام، وكانوا بذلك في كفالة الأمة -فإنهم لم يكونوا يلمسون من عطائها غير القوت الضروري الذي يضمن بقاءهم، ثم يهبون كل فائض بعد ذلك. كانت هذه حال جماعة معروفة باسم "أهل الصفة"، الذين أشار إليهم القرآن في قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} 1، ومن الحالات النموذجية بين هؤلاء حالة أبي هريرة. وقد كان منهم أيضًا من تتاح لهم فرصة الحصول على نصيبهم في توزيع عام، وهم الذين يقومون بتوزيعه، ولكن عدم الاهتمام بمثل هذه الأشياء جعلهم ينسون أنفسهم، وهو ما حدث مع عائشة أم المؤمنين. وكان منهم أخيرًا أناس لم يترددوا، وهم على علم تام بنتيجة عملهم، أن يهبوا إخوانهم ما كانوا هم بحاجة إليه، ونزل فيهم قوله تبارك وتعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} 2، وقد

_ 1البقرة: 273. 2 الحشر: 9.

قدمت لنا أيضًا عائشة مثالًا رائعًا على هذا الإيثار، وهذه الغيرية، فيما رواه مالك في موطئه قال: "بلغني عن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أن مسكينًا سألها وهي صائمة، وليس في بيتها إلا رغيف، فقالت لمولاة لها: أعطيه إياه، فقالت: ليس لك ما تفطرين عليه، فقالت: أعطيه إياه، قالت: ففعلت ... إلخ"1. وبذلك نرى ما كانت تستهدفه هذه الأنفس الشريفة، فما كان لإغراء المنافع المشروعة في الحياة المادية، أن يستميلهم، ويضطرهم إلى طلبها، أو استعمالها عندما تكون في متناول أيديهم. لقد اقتعدوا قمة السلم الأخلاقي، بحيث ما كان لأمر ينشأ عن ذلك الهم المادي أن يحملهم على الهبوط منها، حتى لو كان في صورة موافقة، أو دعوة إلى الخير الأخلاقي الشائع المفضل, اللهم إلا أن تصبح هذه الدعوة تكليفًا، بمعنى أن يكون أمرها أمر حفاظ على الحياة بالمعنى الدقيق للكلمة، فحينئذ يكون لهم فضل النزول في النهاية، ولكن بقدر ما يؤدون هذا الواجب المحدد، الملح إلى أقصى حد، ثم يصدعون مرة أخرى إلى مكانهم الأثير. وليس يعوزنا أن نقدم في الجانب المضاد أمثلة أخرى من بين صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنظير حالة أبي هريرة، يمكن أن نضع حالة رجل من أغنياء الصحابة كابن عوف. والحق أن الزهادة يمكن أن ينظر إليها على أنها كانت استثناء في العالم الإسلامي، ولم تكن القاعدة العامة، فإذا اعتبرناها من وجهة نظر مجردة فلسوف نعترف بأن تعميمها من أضر الأمور بحسن سير الحياة الإنسانية، لا من الوجهة المادية فحسب، بل من الوجهة الأخلاقية أيضًا.

_ 1 الموطأ, جـ3, باب الترغيب في الصدقة.

والواقع أنه يجب أن يوجد في المجتمع أناس يكسبون فائضًا، ليجد آخرون قوتهم الضروري، ويجب أن يكون لكل إنسان حد أدنى من الفائض، لا لكي ينتج بصورة أفضل، ومستمرة فحسب، بل لكي يضمن لنفسه أيضًا ما هو ضروري، بما أنه ليس بين المفهومين خط فاصل، يفرق بينهما تفرقة واضحة في الواقع الملموس. بل إن من الممكن أيضًا أن يقال: إن هؤلاء الذين يبقون عمدًا على هامش النشاط الاجتماعي يختارون، طبقًا لاعتبار معين، أقل المهمات الأخلاقية مشقة، متحاشين بذلك كثيرًا من الصدمات، وصنوف البلبلة، والإغراء. ولا ريب أن عليهم أولًا أن يبذلوا بعض الجهد حتى يحملوا أنفسهم على ارتضاء هذا الانزواء، ولكن متى ما تمت الخطوة الأولى، فإن كل شيء سيسير تلقائيًّا. ومما لا شك فيه أن قوة ملكاتنا العليا لا تمتحن إلا في تشابك الاهتمامات وتعقدها. وتمكين الفضل في معرفة كيف نتوقى الاحتراق ونحن وسط النار؟ وكيف نكسب السماء ونحن مهتمون بشئون الأرض؟ إن حل مشكلات من هذا القبيل هو الذي يكشف عن نور روحنا، وصلابة إرادتنا، وطهارة قلبنا. بيد أن هذه الاعتبارات الأخيرة لا تطعن، في صورته المجردة، في أهمية سلم القيم الذي أشرنا إليه، والذي نلخصه في الجدول الآتي:

وفي هاتين الدرجتين الأخيرتين تتجلى النية الأخلاقية بالمعنى الدقيق للكلمة، أعني: الإرادة الجديرة بالثناء وبالأجر. فهي التي لا تكب على عمل مباح فقط، دون أن تلمس فيه خيرًا أخلاقيًّا، جديرًا بأن يلتمس وهي تتابع وتستهدف دائمًا تنفيذ الأمر، سواء أكان أمر واجب جوهري، أم أمر كمال. هذا على حين أن الطيبة بالمعنى الأخلاقي الأعم تنحصر في حرصنا على ألا نخالف الشرع، وأن نطيع أوامره بعامة، سواء بإرادة تنفيذ ما يأمر به، أو بأن نبيح لأنفسنا ما يبيحه. بيد أن هذه المطابقة الباطنية، حتى تلك التي توجد في أعلى درجات السلم، فيما يتعلق بالهدف المباشر -هذه المطابقة تشتمل أيضًا على نماذج كثيرة من الوجهة الغائية؛ فقد كان لدى أخلاقيينا اهتمام بالتفرقة هنا بين الدوافع الممكنة المختلفة، وحاول بعضهم أن يرتبها في سلم تدرجي. فعندما يكون المرء في طريقه لأداء واجبه، فيتساءل: لماذا أفعل هذا؟ -يكتفي أحيانًا بأن يقول لنفسه: لأن هذا هو واجبي. وإذا لم تكن هذه

الإجابة منطوقة، وإذا كانت دقيقة وصادقة، فإنها كذلك غامضة بحيث يمكن أن تستحيل إلى مجموعة من الأسباب، متعاقبة أو متصاحبة. وإذن، فإن علينا أن نغوص في ثنايا ضميرنا وطواياه، وأن نلح في تساؤلنا: ولكن لماذا نؤدي هذا الواجب؟ ... فربما تعرفنا بهذه الطريقة على الدافع الخاص الذي يدفعنا إلى طاعته والخضوع له. ولنسلم بأن تحركنا لم يكن إكراهًا، ولا ميلًا غريزيًّا، أو عادة مكتسبة، وإنما هو الشرع المقدس الذي يفرض علينا هذه الطريقة أو تلك من طرق العمل. ويبقى إذن أن نعرف على وجه التحديد كيف تأثرنا بهذا الشرع؟ ... أهو إجلال لله، أم حب له؟ أخوف من عقابه أم طمع في ثوابه؟ أحرص على تحقيق الخير الذي يستهدفه الشرع، أم مجرد خضوع للأمر الصريح، دون نظر حتى إلى علة هذا الأمر؟ لقد عدد أبو طالب المكي هذه الحالات المختلفة للنفس، وهي الحالات التي يمكن أن تؤثر على المؤمن، وتدفعه إلى أداء واجبه. ومع أنه أدرجها جميعًا تحت عنوان واحد هو: "من أجل الله" فإنه يعترف بسلم معين فيما بينها، ولكنه لم يقل: كيف ينتوي أن يرتب درجاته؟ 1، ولا شك أنه يفترض أن هذا التدرج معروف من قبل بملامحه البارزة على الأقل. والواقع أننا -فضلًا عن النصوص القرآنية المذكورة في بداية هذه الفقرة- نجد المبدأ الأساسي للواجب واردًا في هذا التعبير الجميل من تعبيرات الكتاب الكريم. {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى} 2، ونجد تعبيرًا آخر أكثر دلالة في الحديث الشريف الذي يمتدح فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- خلق: "سالم" مولى "أبي حذيفة" حين قال: "إن سالمًا شديد الحب لله، لو كان لا يخاف الله ما عصاه".

_ 1 انظر: قوت القلوب, المطبعة المصرية, القاهرة, 4/ 40. 2 المدثر: 46.

هذا الثناء الموجز ذو معنى كبير؛ لأنه قد أرسى المعالم الأولى في سلم التدرج الذي سوف ينمو بعد ذلك وينمو، بفضل الأخلاقيين المسلمين. فالحكيم الترمذي يلح بخاصة في كتابه "مسائل وأجوبتها" على إحساس الإجلال والتوقير أمام العظمة الإلهية، وهو يعظم دور هذا الإحساس الفعال، لا ضد النزعات الشريرة، باطنة وظاهرة فحسب، وإنما كذلك ضد الغفلة، وذهول النفس. ولكي يبلغ الناس هذا الهدف يقول الترمذي: "والعباد محتاجون في انقطاع الوسوسة إلى الخوف، لا خوف العقاب، ولكن خوف العظمة، حتى تذهل النفس وتنقطع وسوستها"1. وحين جاءه أحد تلاميذه يشكو إليه عجزه عن تركيز فكره أثناء الصلاة, أجابه الحكيم بطريقة الرمز فقال على سبيل الإيجاز: "ما تقول لو أن دارًا فيها غرف وقصور، وألوان الأغاني والسرور، فبينا هم في فرح ذلك السرور والطرب إذ دخل داخل، فقال: جاء الأمير -أليس تخمد تلك الأصوات، ويذهل أولئك القوم عن جميع ما هم فيه لهول مجيئه وهيبته؟.. قال: نعم، قلت: فكذلك هذا الصدر الذي فيه ألوان السرور، بما يتعاطى من أحوال الدنيا، ويتقلب فيه من درك المنى، فيفرح القلب به، وينتشر في الصدر دخانه، وتشره فيه نفسه، فتلك الأحاديث كائنة فيه، فإذا ولج القلب باب الملكوت فعاين من عظمة الله تعالى وجلاله وكبريائه ذهلت نفسه عن كل شهوة وذبلت، وانخشع القلب ... "2. وفي رسالة أخرى أضاف بعد أن عرف الطريقة التي ينبغي على المؤمن أن يلتزمها حين يقرض الله قرضًا حسنًا، بإعطاء ماله للمحتاجين، وأنه لا يصح

_ 1 مسائل وأجوبتها ص268 من المجموع. "المعرب". 2 مسائل وأجوبتها ص276 من مجموع الترمذي. "المعرب".

أن ينتظر بهذا الإعطاء أجرًا من صاحب المنة، إن كان قد أخرج الإعطاء من قلبه، "ولم تبغِ نفسه ثوابها، فكأنه من القبيح أن يقول: يا رب، أي شيء تعطينا بهذا؟ "1. أما الغزالي فسيكون أشد وضوحًا، ومباشرة وهو يقول: "وأما الطاعة على نية إجلال الله تعالى؛ لاستحقاقه الطاعة والعبودية فلا تتيسر للراغب في الدنيا، وهذه أعز النيات وأعلاها، ويعز على بسيط الأرض من يفهمها، فضلًا عمن يتعاطاها"2. وهو حين يتحدث عن شعور الحب يبدو أنه يجعله في سمو شعور الإجلال؛ لأنه يعتبره من صفات ذوي الألباب، من كبار الأتقياء. ويقول: إن هؤلاء الأتقياء لا يطمعون إلا في التقرب إلى الله، ورؤيته، والاستماع إليه، ومعرفته بحق، وهم بهذه المعرفة سوف يعرفون حقيقة كل شيء، أما هم فإن "عبادتهم لا تجاوز ذكر الله تعالى، والفكر فيه، حبًّا لجماله وجلاله"3. أما فيما يتعلق برأيه في مشاعر المؤمنين, بالخوف من العقاب، أو الطمع في الثواب، فلسوف نراه فيما بعد. بيد أن أحدًا -فيما نعلم- لم يتوج هذا التدرج قبل الشاطبي "المتوفى عام 790هـ"، فلقد تولاه بالبحث الدقيق للمقارنة الأخيرة، وهي المقارنة التي تحاول معرفة ما إذا كان من حقنا، ونحن نؤدي واجبنا، أن ننظر إلى المسببات التي يفترض أن تنتج عنه، والتي نعلم من جانب آخر أن الشرع يستهدف تحقيقها، أو أن الأمر على عكس ذلك، فيجب أن تقتصر أنظارنا على العمل ذاته، دون أن نشغل أنفسنا بأي شيء يسفر عنه، وبعبارة أخرى، على

_ 1 جواب المسائل ص210 من المجموع. 2 الإحياء 4/ 363. 3 الإحياء 4/ 363 ط. الحلبي.

ما عبر به المؤلف نفسه: إذا قيل لك: لِمَ تكتسب لمعاشك بالزراعة أو بالتجارة أو بغيرها؟ قلت: لأقيم صُلْبي، وأقوم في حياة نفسي وأهلي، أو لغير ذلك من المصالح التي توجد عن السبب, أو قلت: لأن الشارع ندبني إلى تلك الأعمال، فإنا أعمل على مقتضى ما أمرت به، كما أنه أمرني أن أصلي، وأصوم، وأزكي، وأحج, إلى غير ذلك من الأعمال التي كلفني بها، فإن قيل لك: إن الشارع أمر ونهى لأجل المصالح، قلت: نعم، وذلك إلى الله، لا إليَّ1. ولقد بحث المؤلف هذه القضية ونقيضها، في صفحات جميلة، وطويلة من موافقاته2، ذاكرًا على التوالي الأسباب التي تساق لتأييد كل منهما، ثم يختم بحثه بقوله بأن الحل الأخير يتصل بعوامل كثيرة، وينبغي أن يختلف باختلاف الحالة، "وهذان القسمان على ضربين: أحدهما: ما شأنه ذلك بإطلاق، بمعنى أنه يقوي السبب أو يضعفه، بالنسبة إلى كل مكلف، وبالنسبة إلى كل زمان، وبالنسبة إلى كل حال يكون عليها المكلف. والثاني: ما شأنه ذلك، لا بإطلاق، بل بالنسبة إلى بعض المكلفين دون بعض، أو بالنسبة إلى بعض الأزمنة دون بعض، أو بالنسبة إلى بعض أحوال المكلف دون بعض"3. وإن أهمية المشكلة، وعمق تحليلها، ليبيحان لنا أن نطيل الحديث قليلًا في تلك الفكرة الجدلية، حتى نعطي للقارئ بيانًا واضحًا وكاملًا بقدر الإمكان، على أن نسمح لأنفسنا فيما بعد بتعديل الصيغة أو إكمالها. وحسبنا أن ننظر نظرة كمية إلى تحليله المزدوج لنستطيع القول -على الفور- بأن النظرية التي تنتصر لها أكثر الأسباب الأخلاقية هي النظرية التي تتطلب

_ 1 الموافقات 1/ 196 و198. 2 انظر صفحات 193-237. 3 الموافقات 1/ 235.

قصر النية المطلق على العمل، بحيث تمزج "ماهية" الإرادة "بعلتها"، فتجعلهما شيئًا واحدًا لا غير. ويستطرد الشاطبي ليقول بأن هذه الطريقة في تصور الواجب تتفق اتفاقًا تامًّا مع حالتنا البشرية، كخاضعين للشرع، لا كأصحاب حقوق على الشارع، يطالبون بها. يقول: "ومن الأمور التي تنبني على ما تقدم: أن الفاعل للسبب، عالمًا بأن المسبب ليس إليه، إذا وكله إلى فاعله، وصرف نظره عنه -كان أقرب إلى الإخلاص، والتفويض والتوكل على الله تعالى، والصبر على الدخول في الأسباب المأمور بها، والخروج عن الأسباب المحظورة، والشكر، وغير ذلك من المقامات السنية، والأحوال المرضية، ويتبين ذلك بذكر البعض على أنه ظاهر. أما الإخلاص، فلأن المكلف إذا لبى الأمر والنهي في السبب، من غير نظر إلى ما سوى الأمر والنهي -خارج عن حظوظه، قائم بحقوق ربه، واقف موقف العبودية، بخلاف ما إذا التفت إلى المسبب وراعاه، فإنه عند الالتفات إليه متوجه شطره، فصار توجهه إلى ربه بالسبب، بواسطة التوجه إلى المسبب، ولا شك في تفاوت ما بين الرتبتين في الإخلاص. وأما التفويض فلأنه إذا علم أن المسبب ليس بداخل تحت ما كلف به، ولا هو من نمط مقدوراته كان راجعًا بقلبه إلى من إليه ذلك، وهو الله سبحانه، فصار متوكلًا ومفوضًا. هذا في عموم التكاليف العادية والعبادية، ويزيد بالنسبة إلى العبادية أنه لا يزال بعد التسبب خائفًا، وراجيًا، فإن كان ممن يلتفت إلى المسبب بالدخول في السبب، صار مترقبًا له، ناظرًا إلى ما يئول إليه تسببه، وربما كان ذلك سببًا إلى إعراضه عن تكميل السبب، استعجالًا لما ينتجه، فيصير توجهه إلى ما ليس له، وقد ترك التوجه إلى ما طلب بالتوجه إليه.

وهنا تساق لنا حكاية التقي المخدوع الذي "سمع: أن من أخلص الله أربعين صباحًا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه"، فأخذ -بزعمه- في الإخلاص لينال الحكمة، فتم الأمد، ولم تأته الحكمة، فسأل عن ذلك فقيل له: إنما أخلصت للحكمة، ولم تخلص لله"1. هذا إلى جانب أن الإنسان يبرهن بالانقطاع الذهني بين العمل ونتائجه على أنه يؤمن بالله أعظم من إيمانه بنفسه؛ لأنه حين يفصل السبب عن نتيجته فلن يرى بعد ذلك هذه النتيجة شيئًا بدهيًّا، لوجود سببها، بل سيراها صادرة عن إرادة الخالق وحدها. ولسوف تكون محاسن هذا الموقف العاقل مضاعفة: فتبدو أولًا، وبشكل مباشر، على ذواتنا، ثم في طريقة أدائنا لواجبنا، ثم يكون لها انعكاسات على موقفنا في المستقبل. وحسبنا لكي نقدر الحالة النفسية حق قدرها، لدى من يؤدي واجبه؛ لأنه واجبه ليس غير -أن ننظر إلى أي حد يؤدي انتظار النتائج، إلى إقلاق الروح، وخلق الكثير من الهموم. فالمرء يسأل نفسه قبل حدوث أي شيء: ترى هل سيتم جهدي أو يخفق؟ وإلى أية درجة سوف يعرف النجاح؟ وبعد حدوث الفعل، يسأل نفسه، تبعًا لكفاية النتيجة: لو كنت فعلت أفضل أما كنت كسبت أكثر؟ أو يقول حين يحكم بأن تصرفاته كانت غاية في السلامة: يا لظلم القدر!!

_ 1 الموافقات 1/ 219-220. والأثر أخرجه أبو نعيم في الحلية عن أبي أيوب 5/ 189، وقد أورده ابن الجوزي في الموضوعات، وضعفه الحافظ العراقي في تخريج الإحياء، "انظر: فيض القدير 6/ 44". "المعرب".

فهذا التمزق، والتبعثر، وذاك القلق، والغم، وذلك التمرد، والسخط على القضاء -كل ذلك نتيجة نظرة متبجحة ألقيناها على السر المستكن في ضمير الغد ... فلنسدل إذن ستارًا كثيفًا بين الحاضر والمستقبل، ولنقم حجازًا فاصلًا بين العمل وآثاره، فبذلك نتخلص من هذا الموكب الحزين. وحينئذ لا نواجه سوى هم واحد، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو هم تنفيذ واجبنا الماثل، فلنقبل على العمل إقبالًا كاملًا، ولنكل أمر الباقي إلى الله، فهو الذي يحمله عنا، أفضل منا قطعًا. يقول الرسول: "من جعل الهموم همًّا واحدًا كفاه الله ما أهمه من أمر الدنيا والآخرة، ومن تشاعبت به الهموم لم يبال الله في أي أودية الدنيا هلك"1. وهكذا نجد أن بساطة الهدف، وتركيز الجهد، والأمن النفسي -هذه كلها هي المحاسن التي تجلبها النزاهة الكاملة إلى النفس المخلصة. فأما العمل فلسوف يكسب على هذا النحو ثباتًا واستقامة وكمالًا، فلقد يحدث في الواقع أن تنسينا عجلتنا في جني ثمرات جهودنا -أن نلتفت إلى تفصيل ضروري، أو أن تحملنا على تعديل طرائقنا، حتى نطوعها للهدف المقترح. وهل كان لخداع العمال، وللغش التجاري مصدر سوى هذا البحث عن النتيجة؟ أليست النتائج التي يصل إليها عالم، والتخاذل الذي يصاب به بطل، والتراخي الذي يقع فيه مؤمن غيور -أوليست هذه كلها أبلغ أمثلة في هذا المجال؟ فأما إذا كان الأمر بالعكس، فاقتصرنا على مراعاة قاعدة الواجب،

_ 1 الترمذي: كتاب صفة القيامة, باب 30.

واتباع النموذج الذي تدلنا عليه, فإن العناية الخاصة التي نضفيها على العمل لإكماله، والمثابرة التي نؤديه بها -كل ذلك سوف يجعل هذا العمل في نظرنا نموذجًا فنيًّا جديرًا بالتقدير في ذاته، لا باعتبار الثمرة التي يحتمل أن تنتج عنه. وأخيرًا، فإن هذه الطريقة في النظر إلى الأشياء سوف تزودنا بفضيلتين ضروريتين، لمواجهة جميع الاحتمالات، التي قد تنتج عن أعمالنا. فإذا لم تؤت جهودنا ثمرتها، فقد كنا من قبل هيأنا أنفسنا تقريبًا لذلك، ولن تكون المفاجأة كبيرة. بل سوف نتحمل أكثر النتائج سوءًا بمزيد من الشجاعة، يعدل ما توقعنا من شر، وحسبنا أننا -على الأقل- لم نعلق عليهما أملًا كبيرًا. أما إذا أسفرت جهودنا -على العكس- عن نتائج طيبة، فهي بالنسبة إلينا، مفاجأة جميلة، ما كان لنا أن نطيق شكر المنعم بآثارها، على إحسانه إلينا, أبدًا. فهذه بينات كافية لتأييد النظرية، التي ترى أن إخلاص النية ينحصر في أن يستغرق الإنسان استغراقًا مطلقًا في العمل التكليفي، منقطعًا عن أية نتيجة. أما النظرية المعارضة، فليست هي الأخرى أقل استنادًا إلى أسبابها الخاصة. ونبادر إلى القول بأنها لا تزعم أنها تضع في مكان هذا المبدأ مبدأ آخر أثمن منه، وإنما هي تنازع فقط في حق هذا المفهوم، أن يستأثر بكل القيمة، بحيث توصم كل إضافة ذات اعتبار آخر باللاأخلاقية. أي: إن هذه النظرية تريد أن ترينا عجز فكرة "العمل التكليفي، أو التحريمي" عن أن تنشئ القوة اللازمة للعمل، أو الامتناع عنه، والضرورة الأخلاقية لأن يضاف إليها وجهتا النظر الآتيتان:

أولًا: من حيث الثمرات الطبيعية التي تحدد مضمون العمل وأهميته. وثانيًا: من حيث الأثر الذي تتمثله الإرادة لنفسها، والذي يسوغ في نظرها, التكليف الأخلاقي بالبدء في العمل. وفي الواقع، لنا أن نتساءل من هذه الوجهة الثانية: كيف نمنع البطل الذي يدافع عن وطنه، والمصلح الذي يبتغي إنهاض أمته، من أن يكون لهما أدنى تطلع إلى الهدف من نشاطهما، ومن أن يكون لهما أي اهتمام ببلوغ الغاية من أعمالهما؟! إن إرادة قصر نظر هذين الرجلين الصالحين على العمل، من حيث مضمونه العاجل والمباشر، والرغبة في أن نفرض عليهما هذه الغشاوة القاسية التي تحول بينهما وبين أن ينظرا إلى بعيد، ألا يعني كل ذلك حرمانهما من منبع حماسهما ذاته؟ أليس معناه أننا نكلفهما ألا يباليا بأمن أمتهما، وتقدمها؟ ومن هو ذلك الرجل ذو النشاط الوافر الذي يقنع تمام القناعة، بمجرد أن يسير نظام قيادته "وإستراتيجيته"؟ إن لنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدوة حسنة في هذا المجال، فكلنا نعلم كم كان حريصًا على نجاح رسالته، وكم كان يدعو الله أن يمنح أمته الإيمان ويهديها سواء السبيل، هذا الحرص الذي نجده لدى كل رجال ماضي العزيمة، لا ينبغي، في الحقيقة، أن يتحول إلى وسوسة مريضة، كما لا ينبغي أن يبلغ درجة البرود واللامبالاة. وقد كان دور القرآن على وجه التحديد أن يضبط هذا الحرص الشديد لدى النبي، وأن يسكب في قلبه القلق هذا العزاء، وتلك السكينة، حتى يبلغ به درجة الاعتدال، ولذلك كان من آيات

القرآن قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} 1. وقوله: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} 2. وقوله: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِير} 3. أما فيما يتعلق بالثمرات الطبيعية للعمل فحسبنا أن نتأمل حالة الرجل الذي يهم بعمل خبيث، ونتأمل الفرق في ضميره بين ثقل الشر الموجود في موضوع نشاطه المباشر وبين الخطر الأخلاقي لهذا الشر نفسه، عندما يكون قد تأمل امتداده، سواء من خلال انعكاساته القريبة والبعيدة، أو بفعل انتشار القدوة السيئة، التي سوف يعطيها للآخرين. إن الذنوب التي قد تبدو لنا من أول وهلة -ذات أهمية ضئيلة، لا تلبث- بعد أن نتناولها من هذه الزاوية -أن تكشف لنا عن شناعة، وأن تجعلنا نقيس المسئولية التي تصدر عنها على أوسع مدى، بحيث يمكن أن يقال: إن الأخلاقية تزداد هنا عمقًا، كلما كسب أفق العمل مجالًا متسعًا. إن هذا المبدأ هو الذي يسوغ قولنا: إن ترويج درهم زائف أشد خطرًا من سرقة مائة درهم، نظرًا إلى استمرار الغش الذي يحتمه هذا العمل في تداول النقود، فعلى المروج وزرها، بعد موته، إلى أن يفنى ذلك الدرهم. وقد استطاع الغزالي استنادًا إلى هذا المبدأ أن يقول: "ومن نظر إلى

_ 1 الكهف: 6. 2 النحل: 127. 3 هود: 12.

وجه غيرالمحرم فقد كفر نعمة العين، ونعمة الشمس، إذ الإبصار يتم بهما, وإنما خلقتا ليبصر بهما ما ينفعه في دينه ودنياه، ويتقي بهما ما يضره فيهما، فقد استعملهما في غير ما أريدتا به، وهذا لأن المراد من خلق الخلق، وخلق الدنيا وأسبابها -أن يستعين الخلق بهما على الوصول إلى الله تعالى، ولا وصول إليه إلا بمحبته والأنس به في الدنيا، والتجافي عن غرور الدنيا، ولا أنس إلا بدوام الذكر، ولا محبة إلا بالمعرفة الحاصلة بدوام الفكر، ولا يمكن الدوام على الذكر والفكر إلا بدوام البدن، ولا يبقى البدن إلا بالغذاء، ولا يتم الغذاء إلا بالأرض والماء والهواء ولا يتم ذلك إلا بخلق السماء والأرض، وخلق سائر الأعضاء ظاهرًا وباطنًا، فكل ذلك لأجل البدن، والبدن مطية النفس، والراجع إلى الله تعالى هي النفس المطمئنة بطول العبادة والمعرفة؛ فلذلك قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ....} الآية، فكل من استعمل شيئًا في غير طاعة الله فقد كفر نعمة الله في جميع الأسباب التي لا بد منها، لإقدامه على تلك المعصية"1. وقد استخلص الشاطبي من هذا التنازع بين الأدلة المتعارضة النتيجة الآتية: أنه لا ينبغي إذن أن نرفض جملة، أو نقبل قبولًا عامًّا كل ما يترتب على النظر في المسببات، ولكن ضابطه أنه إن كان الالتفات إلى المسبب من شأنه التقوية للسبب، والتكملة له، والتحريض على المبالغة في إكماله، فهو الذي يجلب المصلحة، وإن كان من شأنه أن يكر على السبب بالإبطال، أو بالإضعاف، أو بالتهاون به، فهو الذي يجلب المفسدة2. ومع اعترافنا بضرورة التفرقة بين الاعتبارين، فإن صياغتنا للفكرة سوف تكون مختلفة اختلافًا يسيرًا.

_ 1 الإحياء 4/ 88. 2 الموافقات 1/ 235.

هنالك أولًا حالات تصلح فيها هذه الطريقة في تقدير الأعمال بنتائجها الموضوعية، التي يمكن أن تستتبعها، لا في رفع درجة تشددنا الأخلاقي فحسب، أو في النظر بعين الخطورة إلى أخطاء كنا من قبل نعتبرها أقل خطرًا، بل إن هذه الطريقة قد تصلح أحيانًا في تغيير طبيعة أحكامنا ذاتها، المتعلقة بهذا العمل أو ذاك. فهل هناك ما هو أكثر منافاة للقانون من ترك الجريمة دون عقاب، وترك الباطل يغتصب مكان الحق، وترك الظلم يتسلط؟؟ ولكن، إذا كان اللوم الذي يوجه ضد خطأ معين يثير من الأخطاء ما هو أشد خطرًا، وإذا كان التشهير بالباطل يستتبع إظلام الحقيقة، وإذا كان التمرد على الطاغية، مع العجز عن إقرار النظام، لا يؤدي إلا إلى إراقة دماء الأبرياء، وجعل الاستبداد أشد تحكمًا، كما لم يكن -إذا كان ذلك جائز الحدوث، أوليس هذا هو موضع تطبيق المبدأ المشهور: "تجنب أسوأ الشرين، وتقبل أخفهما"؟؟ وسوف لا يقتصر الأمر على أن نقول: إنه "من الممكن"، بل "من الواجب" أن نعتبر مقدمًا جميع النتائج التي يمكن التنبؤ بها، والتي يمكن أن يؤثر اعتبارها من قريب، أو من بعيد, على تنظيم الواجب الحسي، وتحديده بذاته. والشاطبي، والحق يقال، يعترف بذلك في مواضع أخرى. ولقد نلاحظ حقًّا في هذه الحالات، أن النظر الذي نوجهه إلى الأثر أو المسبب لا يزودنا "بدافع للعمل" ولكنه يزودنا على الأصح، بشرط أو "مسوغ للتشريع" أي: إن فائدة هذا النظر في دفع الإرادة أقل من فائدته في إضاءة الطريق أمام فهم الواجب، طالما أنه ينبغي أن يتم، من قبل أن

يصبح أمر الواجب مفروضًا على الإرادة. والواقع أن السير الطبيعي يقتضي أن يكون الضمير واعيًا أولًا، بالشروط الكاملة للعمل الذي نؤديه، وقد يؤدي هذا الوعي إلى اعتبار العمل تكليفًا مطلقًا، دون اللجوء إلى اعتبارات أخرى، أو قد يتبلور في صورة تطمئننا مسبقًا إلى أن الخير الذي بدأناه لا يستتبع شرًّا أكبر منه، أو أن الواجب الذي نتصوره لا يبطله واجب آخر أكثر جوهرية. وحين يتم إقرار نظام العمل على هذا النحو، حينئذ فقط، يمكن للنتائج المتوقعة من هذا العمل أن تصبح غايات تعتمد عليها الإرادة في التنفيذ. إن هذه الملاحظة حكيمة، وليس بوسعنا سوى أن نسلم بها، ونتفق معها. فلنترك إذن جانبًا الأمثلة التي ذكرنا آنفًا، ولنقتصر على بحث القيمة الأخلاقية لاعتبار النتيجة، لا كإسهام في تحديد الواجب، بل كمحرك للإرادة، التي وعت وعيًا كافيًا موضوع نشاطها. وهنا أيضًا نلاحظ أن جميع النتائج لا يمكن أن تعامل على قدم المساواة، فهناك نتائج يمكن أن تستخدم "كغايات موضوعية"، ذات قيمة أخلاقية لا جدال فيها، وهناك نتائج أخرى ليست سوى "غايات ذاتية" يمكن أن تكون "مشروعيتها" مجالًا للجدل؛ ونتائج ثالثة "ذاتية أيضًا"، ولكن بالمعنى الأدنى لكلمة "الذاتية" الذي يعني "الأنانية المذمومة"، ويمكن أن يقال عمومًا: "إن هذه الأنواع الثلاثة من الغايات توافق الطبقات الثلاث للنية، التي نحن بسبيل عرضها". وأقصد بعبارة "غاية موضوعية" تلك الغاية التي يرى الضمير مكانها خارج الذات أساسًا، وأن فائدتها التي تستطيع الذات أن تجنيها منها لن تكون في حساب الإرادة، من حيث هي موضوعية، مع أن بوسع هذه

الفائدة: إما أن تتحقق في نفس الوقت بمفردها، وإما أن تكون هدفًا لحركة أخرى من حركات الإرادة. والغاية الذاتية هي -بعكس ذلك- النتيجة التي تنتظرها الذات من نشاطها، "من حيث هو نافع لها". إن "المبدأ الأسمى" للأخلاقية يجب أن يلتمس في "موضوع النية"، والإرادة التي يمكن أن توصف بأنها "طيبة" ليست هي الإرادة التي تطلب، أو تتلمس، أجر جهدها، ولكنها التي تقدم نفسها، وتستفرغ جهدها، وتستنفد كل ما في طاقتها، دون حساب، إنها هي التي "تنسى ذاتها في سبيل مثلها الأعلى". ولقد وجدنا أن هذا المثل الأعلى يتقدم إلينا في شكلين مختلفين، كلاهما يعرضه علينا القرآن. ففي الشكل الأول تقف النية عند صورة الواجب المجردة، وتحركها فكرة وحيدة، هي أنه يجب أن ينفذ الأمر، من حيث هو أمر علوي: أطع الله لأنه حقيق أن يطاع، بهدف أن تمتثل لأمره، وأن تنال رضاه، دون أن تحاول أن تفهم: لماذا أعطى هذا الأمر، وبغض النظر عن الأسباب الصالحة لتسويغه. فذلكم هو الشكل الأول للإخلاص. بيد أن هناك شكلًا آخر أقل تجريدًا لهذا المثل الأعلى، الذي ينبغي أن نخلص له، فبدلًا من أن نتوقف عند الشكل، ننفذ إلى المعنى العميق للأمر، ونحاول أن نوفق هدفنا الخاص مع هدف الشارع. فنحن نهتم بإرساء قواعد النظام، والعدالة، والحق، ونستهدف في كلمة واحدة تحقيق الخير الذي نعرف أنه مقصود الشرع، أو نحدس بأنه كذلك مسبقًا. وكما رأينا فإن القرآن الكريم يقدم غالبًا، في الصورة الأولى، هدف الإرادة الطيبة، ولكن على الرغم من كونها قليلة العدد فإن النصوص التي

تجعل من الخير في ذاته مثلًا أعلى للنية -قد جاءت صريحة، وهكذا يحض القرآن المؤمنين على جهاد أعدائهم، لا طاعة لله فحسب، ولكن لينقذوا المستضعفين: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} 1، وليضعوا حدًّا للمحن القاسية التي يتحملها هؤلاء، وضروب الإغراء التي يعرضها الكفار عليهم كيما يفتنوهم عن الدين: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} 2. ومع ذلك، فما هو هذا الجهاد في سبيل الله؟ إن النبي -صلى الله عليه وسلم- يحدده لنا في هذه الكلمات: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" 3. فأي هذين الموقفين أسمى أخلاقيًّا؟ في رأينا أن الإجابة التي تقدم عن هذا السؤال ينبغي أن تختلف، تبعًا للأولوية التي تعطى للإيمان، أو للعقل. والحق أنه لن يكون مقبولًا لدى أهل العقل أن نضع في أعلى درجات السلم ثقة معصوبة العينين، ثم نخفض إلى المرتبة الثانية -الضمير المستنير الذكي. فالإنسان الذي يطيع أمرًا، دون أن يحاول فهم أسبابه، خاضع للصفة الآمرة في الحكم فحسب، على حين أن من يطيعه مدركًا أنه عدل، ومعقول، يشعر تجاه الشرع بالمزيد من الإعجاب والاحترام. وكذلك النية التي تستهدف إدراك المعنى العميق للحكم، فإلى جانب أنها لا تنقص من جمال

_ 1 النساء: 75. 2 البقرة: 193.

الإيمان مهما بلغ، تزيده بما يدعمه ويحصنه، فلا يتزلزل أمام عوادي الزمن. أما أهل الإيمان, فيرى أن الإيمان الذي يحتبس في حدود الذكاء إيمان مقيد مبتور، إن لم نقل: إنه غير موجود، وهو يشهد، في الواقع، بأن ثقتنا في موضوع تصديقنا أدنى من ثقتنا في أنفسنا، أعني: في أنوارنا الجزئية. وإذن، فلا إيمان بالمعنى الصحيح، إلا حيث تنقطع هذه الأنوار، وإلا حيث لا نلجأ إلى أي دليل خاص ومناسب؛ لكي ندعم صدق قضية معينة وعدالتها، بل نلجأ إلى سبب شديد العموم يشيع في كل شيء ولا يكمن في القضية المطروحة، وإنما في السلطة التي تطرحها. ويضيف أهل الإيمان إلى ذلك أن من يعتمد على أنواره الخاصة، كيما يوفق بين نيته وأهداف التشريع الإلهي، يظل دائمًا دون المثل الأعلى الكامل، مهما يكن نزيهًا في غرضه، ومهما سما هدفه. إذ إن الفكر مهما كان نزيهًا، ومهما سيطر عليه الاهتمام بإقرار نظام عالمي عادل ونزيه، لا يظل مقيدًا بالمخلوق دون أن يحقق الارتفاع إلى الخالق فحسب -بل إن أي جهد عقلي لا يستطيع مطلقًا أن يطمئن إلى قدرته على أن يكشف حِكَم الله في هذا النظام أو ذاك، وأن يحيط بها علمًا. وإذن فلا شيء من هذه الأهداف التي تتجه إليها جهودنا سوف يكون مساويًا في القدر أو الرفعة لما يقوم برضا العقل الإلهي، وهو رضا لا ينال كاملًا إلا حين نريد ما يريد ذلكم العقل وبسبب العلل المعروفة، والمجهولة التي يمكن أن يدركها. وهنا نقطة الذروة التي تحكم كل القيم، والتي لا يوجد فوقها أي هدف ممكن لأكمل النوايا.

ولا شك أن مقارنة هذين الهدفين لا ينبغي أن تفرض فيما بينهما خيارًا يستبعد أحدهما، ولا أن تدعهما يتعاقبان أمام الإرادة، إذ إنهما بالأحرى، عنصران مكملان، يؤدي التنوع في القيمة الواقعية إلى جعلهما لازمين لكمال المثل الأعلى، بل إننا نستطيع أن نؤكد أيضًا أنهما يتعايشان فعلًا في الأنفس المطمئنة، مع قدر من التنوع يغلب أحدهما تارة، والآخر تارة أخرى، في الضمير المستنير. ذلك أن المؤمن الذي يطيع أكثر الأوامر غموضًا، حتى ما يبدو منها قاسيًا، قلما يقصد أن يخضع نفسه لنزوة، أو اعتساف. فهو حتى حين لا يرى تلك الأوامر ومضة عقل، لا يقلل ذلك من اعتقاده الجازم بأن هناك أوامر أخرى مفعمة بالحكمة، وهو يخضع لها ضمنًا، ويسعى في تحقيقها دون أن يفقه طبيعتها، وذلك هو ما تحدث عنه القرآن في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} 1 -هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، إن الاهتمام بتحقيق الخير الأخلاقي الذي يدرك دون كبير عناء في أكثر الأوامر الواضحة عدلًا -لا ينفصل مطلقًا في ضمير المؤمن عن شعور يجده في نفسه، يتفاوت في درجة غموضه، ولكنه يحمل في طياته رضاه العام، وغير المشروط، بكل القواعد الأخرى، وبدون هذا الرضا لن يكون جديرًا بلقب "المؤمن": {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 2. وهكذا نجد أن وجهتي النظر بالنسبة إلى الأخلاق الدينية متعاضدتان،

_ 1 النساء: 66. 2 النساء: 65.

وتتضمن إحداهما الأخرى. ومع ذلك فليس ينقص من الحقيقة أن أسمى الوجهتين، وأرحبهما أفقًا، هي وجهة نظر الإيمان المطمئن، والخضوع المطلق، فهي التي تستلزم بالضرورة الوجهة الأخرى، دون أن تكون مستلزمة لها بنفس القدر من الضرورة. فقد يجوز في الواقع -وهو ما يحدث غالبًا بالنسبة إلى الملاحدة- أن يكون السعي في سبيل الخير العام من حيث هو صادر عن نوع من الاستعداد الفطري الخير، الذي يحبب إليهم الإحسان، ويزين لأعينهم العدالة لذاتهما، بمعزل عن أوامر الشرع ووصاياه. ولقد رأينا أن هذا النوع من التلقائية ليست له قيمة أخلاقية, على حين أن فكرة طاعة الله لا تخلو مطلقًا من إدراك أوامره على أنها أحكم الوسائل التي تهدف إلى تحقيق أعظم الخير للإنسان، وللكون أجمع. فإذا كان طول النظر، وعمق التأمل، شرطًا في صيرورة هذا المفهوم واضحًا غير ملتبس, راسخًا غير مهتز, وإذا كان توفر درجة أسمى من درجات التقدم الأخلاقي شرطًا في بلوغ هذا المفهوم مركز الصدارة من أفق الضمير، فإن ذلك لا يحول دون أن يكون متضمنًا في عقيدة الإيمان، وهو موجود فعلًا؛ على الرغم من أنه قد يكون غامضًا، على نحو ما, في نفس كل مؤمن، حتى لو كان من أوساط المثقفين. فلنمسك الآن عن القول في هذه الدرجات المتنوعة من المثل الأعلى الأخلاقي، كيما نلخص الحديث عن الصيغة الأساسية الصالحة لمختلف الدرجات. هذه الصيغة هي: توحيد موضوع الإرادة مع موضوع الشرع، سواء توقفنا عند شكله، أو تغلغلنا في جوهره. ولو أن المرء ثبت نظره على هذا الموضوع فسيجد فيه "الموضوعية" التي تعرف بها شجاعة النفس وشرفها، سواء حين يقف بعيدًا عنه، إجلالًا لمشرع، أو حين يقترب منه بجاذبية الحب، وبدافع العرفان.

فمتى ما تركنا هذه الذروة، هبطنا على الفور إلى مستوى الغايات الذاتية أعني: "المنفعة". وليس هنالك وسيلة أمام إرادة ملتزمة حقًّا, للخروج من هذه المعضلة: فإما أن تكون في خدمة الشرع أو الخير في ذاته، وإما أن تمضي للبحث عن الخير الشخصي. فهل لنا أن نقول: إن هذين النوعين من الخير يمكن أن يتطابقا تطابقًا كاملًا، بل يمكن أن يصلا إلى حد الامتزاج؟ لا مانع عندي من الموافقة على أن الخير العام قد يكون في نفس الوقت خيرنا الخاص؛ ولكن قد يتساءل المرء، من وجهة نظر الذات الفاعلة: إذا ما كان بوسع الذات، بحركة واحدة لا غير، أن تفيض خارجها فتهتم بالشرع، ثم تستدير إلى نفسها، مدفوعة بالأنانية؟ وحتى لو افترضنا أن هذا الأمر ممكن فإن هذا الهدف المزدوج يرجع -على كل حال- إلى نوعين من "الدوافع"، ينبغي أن ندرسهما الآن، كلٌّ على حدة1. والمسألة الآن هي أن نعرف قيمة هذه الدوافع الذاتية. هل يجب أن نؤثم كل اهتمام بالخير الشخصي، حتى لو كان من أكثر أنواع الخير مشروعية باعتباره متنافرًا مع شرط العباد المخلصين، وباعتبارنا مكلفين بأن نكرس كل عمل من أعمالنا لله؟ هذا هو الرأي الذي أيده أكثر الأخلاقيين المسلمين حماسًا وغيرة، حتى إن صرامة "كانت" ليست بشيء إلى جانب صرامتهم، وهم يرون أن واجب كل فرد ليس تقييد رغباته فحسب، وإخضاعها للقاعدة، بل إنه يجب ألا يكون له رغبة أخرى غير رغبة البذل. ذلك أن تخصيص بعض الجهد لإشباع الفطرة، من حيث هي، معناه أننا نقيم إلهًا آخر غير الله. وهذا

_ 1 أخرنا اختلاط الدوافع إلى الفقرة الخامسة والأخيرة.

هو المبدأ "الثالث المستبعد في الأخلاق", فليس بين الفضيلة والرذيلة من حد وسط، فحيثما لا يكون فكرنا موصولًا بالله فإنه ينقلب ضده. وما هكذا يفكر المعتدلون الذين هم الأغلبية، ولسوف نرى أن اعتدالهم ينتهي في آخر المطاف إلى ما نطلق عليه: الصرامة الكانتية. لقد تساءلوا أولًا عما إذا كان هذا التجرد المطلق حيال الفطرة ممكن الوقوع عمليًّا، أو حتى إذا ما كان ممكنًا إنسانيًّا؟ فمن منا يستطيع أن يتباهى بأنه لا يعرف الاهتمام بشخصه، وبأنه يطيق أن يستغني عن كل نتيجة، أخلاقية أو مادية، قد ينتجها نشاطه؟ من ذا يستطيع أن يدعي أن الصحة، والحياة، والرفاهية، والسلام، والصداقة مع الجار، وحتى العلم، والذكاء، وكيفيات القلب، والعقل، هي في نظره أشياء لا قيمة لها، وليس لها قط جاذبية، أو سلطان عليه؟ لقد استطاع أبو بكر الباقلاني أن يصف أنصار هذا التجرد المطلق وصفًا قاسيًا، فقضى بتكفير من يدعي البراءة من الحظوظ، وقال: هذا من صفات الإلهية، وحاول أيضًا أن يرد عليهم أدلتهم الدينية. لقد كانوا يريدون في الواقع بهذه الطهارة المزعومة للنية أن يجنبوا المؤمنين أن يقعوا في هذا النوع من الشرك، الذي هو عبادة المنفعة، لقد أرادوا البراءة عما يسميه الناس حظوظًا، ولكن الباقلاني يلاحظ أنهم بهذه القرينة يقعون في الشر الذي أرادوا أن يتجنبوه؛ لأنهم لم يفعلوا سوى أن ألهوا الإنسان، حين خصوه بدرجة من الكمال، هي في الحق صفة من صفات الله1. وبدون أن نذهب إلى حد الزعم بأن الإنسان لا يتحرك إلا لحظ ومنفعة،

_ 1 الباقلاني: ذكره الغزالي في الإحياء 4/ 369، وأيده.

هل يمكن أن نقرر عقلًا أن أحدًا من الناس لا يسمح له في أية حالة أن يبحث عن خيره الشخصي من حيث هو؟ وهل يمكن مثلًا أن نحرم على إنسان مهدد بالجوع والعطش أن يعمل "أعني: أن يأكل ويشرب"، تحت سلطان هذه الضرورة الفطرية؟ وهل ينبغي إذن أن ينتظر بضع لحظات كيما يستحضر أولًا أمر الواجب، فلا يعمل إلا بهذا الأمر، حتى لو كان هذا الانتظار يجعل أية محاولة للإسعاف غير مفيدة؟ إن هذا المثال وحده كافٍ لنعترف بقساوة وسخف هذا الرفض المنهجي لحق الإنسان في أن يسمع لصوت فطرته، ويستجيب لندائها البريء، وكل ما يجب علينا ألا ننساه هو: أن المسألة ليست مطلقًا أن نجعل من المنفعة المقبولة عقلًا مبدأ ثانيًا من مبادئ الأخلاقية، فشتان ما بين المنفعة والمبدأ والناس، كل الناس، في كلا المذهبين، متفقون على أن الأخلاقية "واحدة"، وعلى أنه لا توجد خارج إرادة الطاعة "بوجهيها" أية قيمة أخلاقية، "موضوعية" في أي مكان. أما المعتدلون فيحاولون ببساطة أن يزيلوا هذه اللعنة التي أراد بعض الصوفية أن يصموا بها دون تمييز كل سعي ذي غاية ذاتية، مهما كان. أي: إنهم، بعبارة أخرى، يودون أن يجعلوا في مكان هذا التقسيم الثنائي تقسيمًا ثلاثيًّا، يصح بمقتضاه أن نجعل بين "الثواب" و"العقاب" مجرد "البراءة"، وبين اكتساب القيمة وفقدانها, نضع "اللاقيمة" la non- valeur، وبين مستوجب الثناء ومستوجب الذم مجرد "المشروع", وبين التكليف والتحريم الإباحة. هذه التفرقة ذات الطابع الثلاثي لا تمثل جميع نواحي التشريع القرآني فحسب، ولكنا نجدها عند الحديث عن النية، على وجه التحديد، معبرًا عنها بصورة واضحة في حديث مشهور، رواه مالك، والبخاري، ومسلم، وجميع المحدثين، وفي ألفاظ هذا الحديث أن واقع تربية الخيل والاعتناء بها

ينظر إليه تبعًا للنوايا، فهو تارة عمل يثاب عليه، جدير بالأجر الإلهي، وأخرى إثم، وثالثة ليس هذا ولا ذاك, واقع يثاب عليه ذلك الذي يمسكها دائمًا بأمر الله، وفي سبيل الله، وواقع آثم لمن يمسكها تظاهرًا، وتفاخرًا، ولمن يتخذ منها أداة عدوان ضد المؤمنين. ولكن، لننظر كيف يضع النبي -صلى الله عليه وسلم- بين الحالتين حالة أخرى، لا يطيق أحد أن يأتي بأدق منها: حالة الرجل الذي يهتم بالخيل، من أجل حاجاته الخاصة، دون أن يغفل واجباته الدقيقة، فهذا الرجل لن يستحق ثوابًا، ولا عقابًا، وإنما يكون على وجه الدقة "ناجيًا" وكل ذلك في قوله, صلى الله عليه وسلم: "الخيل لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر ... " 1. وليس لدينا أوضح ولا أدق من هذا لدعم رأينا، الذي هو أيضًا رأي الجمهور. وهكذا تستأثر الإرادة المخلصة بكل القيمة الإيجابية، أما الإرادة الذاتية فهي جديرة بالتقديرين الآخرين. ولسوف يوصف البحث عن هذه المنفعة الشخصية أو تلك، بوساطة هذا العمل أو ذاك: إما "مقبول" أو "مباح"، وإما "مرذول" أو "مؤثم"، تبعًا للشروط المعقدة التي سوف نعرضها متتابعة في الفقرتين التاليتين:

_ 1 انظر: مالك في الموطأ, كتاب الجهاد، باب1، والبخاري, كتاب المساقاة، باب 13، ومسلم، كتاب الزكاة, باب 6.

براءة النية

جـ- براءة النية: وأقصد "ببراءة" النية في عمل ما، أيًّا كان، الصفة التي تكتسبها الإرادة عندما تتحاشى أن تسعى بهذا العمل إلى غايات دنيئة، ثم هي في الوقت نفسه لا ترقى إلى مستوى شرف الإخلاص، المنزه عن الغرض، وإنما

تقنع بموقف وسط، يتمثل في انقيادها "لمنفعة مشروعة"، يقر لها القانون بحقها فيها. وجميع الحالات التي يمكن أن تندرج تحت هذا العنوان هي من الناحية الشرعية صحيحة، لا غبار عليها، ولكن قيمتها من الناحية الأخلاقية "صفر"، تبعًا لأكثر النظريات الإسلامية تسامحًا. ومعنى كونها صفرًا: أنها لا تستحق مدحًا أو ذمًّا، ولا تستتبع لصاحبها ثوابًا ولا عقابًا. وهو موقف يعد بلا شك "نقصًا" أو عدم كمال، فمن المؤسف أن يقنع امرؤ بأن يبرئ ذمته، على حين كان يستطيع أن يزيد من قيمته، ولكن هذا يتيح له أن يكون "ناجيًا". ولدخول الأعمال في هذه المجموعة شرطان: أحدهما يتوخى الغاية، والآخر الوسيلة. فأما الذي يتوخى الغاية فغني عن البيان أنه ينبغي أولًا أن يكون عملًا جائزًا في الشرع، ومعروفًا بصفته هذه للذات، وذلك هو تعريف هذه المجموعة الثانية، أو منطوقها نفسه، "في مقابل المجموعة الثالثة بخاصة". ولكن يجب علاوة على هذا أن يكون الوعي بهذا الجواز شرطًا "يكيف" حركة الإرادة نحو الغاية، لا أن "يصاحبها" فحسب. ويجب في هذا التطابق بين الهوى والقاعدة -أن تقيد القاعدة تأثير الهوى، وأن يكون هذا التقييد مرضيًا دون إكراه، وهنا نجد لونًا يكاد يهرب أمام أعيننا، ولكن من الضروري بصفة مطلقة أن نحسب حسابه قبل العمل، مخافة أن يرى المرء براءته تتحول إلى معصية. ومن أجل هذه الضرورة القصوى، نجد أن القرآن عندما ينظم بعض حالات الخروج على تحريم معين، يؤكد تكليف من يريد استعمال هذا الحق -بأن يطمئن إلى أن استعماله لا يفرضه في الواقع ميل إلى الموضوع المحرم الذي

أبيح، وهو قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1. كيف نميز، في حالة كهذه، الأصل من التبع المقيد؟ هاكم طريقة على الأقل، يستطيع كل إنسان أن يتصرف فيها، على تفاوت في فاعليتها، وذلك بأن يغير المرء شروط تجربته، ولو ذهنيًّا، فيسأل نفسه عما قد يفعله لو أن القاعدة كانت تحرم منفعة كهذه. ولسوف يكون حظ الإجابة التي نحصل عليها في إعلامنا بدافعنا الحقيقي، بقدر حظنا من التجارب فيما مضى، عن درجة الحذر الذي نستخدمه في سلوكنا لمواجهة واجباتنا الدقيقة، فإذا كنت في حالة المنع قد كسبت قدرًا من الانتظام في الرقابة على شهواتي وضبطها، فإني أستطيع أن أحكم بقدر من الاحتمال: بأن اعتبار القانون في حالة الإباحة هو الذي يحكم سلوكي، ويقيد حاجاتي؛ وأما إذا كنت، في حالة الصراع بين الواجب والهوى، أعترف بأن الهوى هو الذي يتسلط غالبًا، فلسوف يثبت لي أنه في حالة اتفاقهما -ستكون الطبيعة أيضًا هي التي تحكم لدي، وتمضي كلمتها. ولقد وصف القرآن على نحو كاف هذا الموقف المضطرب وفضحه، وهو الموقف الذي يغير وجهه غالبًا أمام الشرع، فتارة يخضع له، وأخرى يفارقه، تبعًا لما يجد، أو يفتقد، من إشباع حاجاته الأنانية، فقال سبحانه: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ، وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ، أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 2.

_ 1 المائدة: 3. 2 النور: 47-50.

كلا ... فسلطة الواجب بالنسبة إلى شهواتنا يجب أن تكون مطلقة غير مشروطة، وليس أمامنا إلا أن نذعن لها طوعًا أو كرهًا: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} 1. وذلكم هو شعار المؤمنين الثابت أمام الأوامر المختلفة، لله ورسوله: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} . وفي احترام هذه العلاقة المتدرجة، أو عكسها بتقديم ما ينبغي أن يتأخر، تكمن السمة التي يتميز بها الهوى المستنير، الذي يعتبر إشباعه طبيعيًّا ومباحًا -عن الهوى الأعمى الذي لا يفتأ القرآن يحذرنا منه. بيد أنه لا يكفي أن يكون الهدف الذي يتوخاه المرء من بين المباح، في ذاته، بل يجب أيضًا، بموجب الشرط الثاني -أن يكون العمل الذي يستهدفه من شأنه أن يستخدم أخلاقيًّا، كوسيلة لبلوغ هذه الغاية. وهنا تتدخل فكرة "الغائية" بكل تعقيداتها2، فإن أهدافنا من هذا العمل أو ذاك لن تقوم في ذاتها فحسب، بل باعتبار اتفاقها أو اختلافها مع أهداف الشرع من هذه الأعمال. هل يوجد -مثلًا- بالنسبة للإنسان، اهتمامات أكثر طبيعية من اهتمامه بأن يعيش دون مفاجآت كبيرة، وبأن يخلق صداقات متينة مع إخوانه؟ بيد أن الإنسان لكي يبلغ هذه الغايات يملك طريقًا طبيعية جدًّا، لا معابة

_ 1النور: 51. 2 سوف نرى أنها معقدة تعقيدًا مضاعفًا، إذ يجب أن ننظر في العمل الواحد إلى غايات المشرع، وغايات الذات، أساسية كانت أو ثانوية.

فيها، ولا ملامة. فلكي يعيش ماديًّا، ما عليه إلا أن يبذل جهوده في الإنتاج، أو في المبادلات، أو في بعض المهام الشريفة والمنتجة، أو لكي يكسب مودة أصدقائه حسبه أن يتصرف حيالهم بأكثر الطرق مجاملة، وأقلها طلبًا، وأعظمها سماحة بقدر ما يطيق. وعلى أية حال، فليست طقوس العبادة، ومآثر الإحسان بالتي نستحق أن نطمح بها إلى تقدير الناس، أو نؤمل مساعدتهم، فإذا اتخذ المرء هذه الأعمال لغايات دنيوية كهذه، على حين أنها أعمال لا ينبغي أن يستهدف بها سوى قداسة الواجب، فتلك هي النية الآثمة الدنسة. ولكن، إذا كان جرمًا أن يستعمل الإنسان الفضيلة بنية تحصيل بعض الميزات الإنسانية، فهل يعد جريمة أيضًا أن يؤديها المرء على أمل الحصول على ثواب الله، أو خوفًا من عقابه؟ هذا سؤال أثار مناقشة من أعظم المناقشات بين الأخلاقيين المسلمين. وإنا لنعرف البرهان الأساسي للمتشددين، وهو برهان جد بسيط، مستمد مباشرة من القرآن: فلقد خلق الإنسان من أجل طاعة الله فحسب، ومن أجل التوجه إليه بنية نقية، فإذا سمح لنفسه أن يتطلع ببصره إلى النتائج المناسبة، أو غير المناسبة لأعماله، فإن معنى ذلك قلب نظام الغائية؛ لأن الواجب حينئذ سيصير مجرد وسيلة، وستصبح المنفعة هي الغاية الأخيرة والموضوع الحقيقي للعبادة. ولقد كان على خصومهم في الرأي أن يقوموا بجهد في التعليل الدقيق حتى يتخلصوا من هذا البرهان. والواقع أن هؤلاء الخصوم قد حاولوا من ناحية أن يثبتوا للخلق غاية مزدوجة يستهدفها، وأرادوا من ناحية أخرى أن

يؤكدوا أن متابعة غايات ثانوية يمكن أن يحدث دون الإضرار بالغاية الأساسية. ثم يفسرون ذلك بقولهم: والحق أن الإنسان باعتباره ذاتًا مكلفة لا دور له إلا أن يؤدي مهمته أداء دقيقًا في وقته، وأيما امرئ مال إلى هجر واجبه رد إليه بمختلف الجزاءات، ليس هذا فحسب، بل إن من يدخل أداء واجبه في مجال العبادة، فلن يستحق بهذه الصفة أدنى شيء يطلبه لدى الناس، أو من الله. فأما لدى الناس: فقد وضحناه فيما سبق، وإنا لنعرف أن الشريعة الإسلامية تحرم على العلماء والقضاة أن يمسوا شيئًا من عامة الناس. وأما من الله: فلأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لن يدخل أحدًا عمله الجنة" 1. وهو يقصد بذلك أن العمل وحده لا يكفي. وليس ينقص من صدق هذه الحقيقة أن الإنسان بوصفه موضوعًا للإحسان والعدل الإلهي سوف، يدعى إلى أن يجني ثمرات عمله، فعندما يجيء الإنسان ليطلب، لا أقول: "مستحقه"، ولكن: ما "وعد به"، فهل يكون هذا الطلب منه سوى اتفاق مع مشيئة الله المجازي، إن لم يكن مع مشيئة الله المشرع؟ ولنذكر إلى جانب ذلك حقيقتين لا يستطيع أن ينكرهما أحد، حتى من وجهة نظر التشريع، "أولهما": أن هذين الصنوين المتشابهين: الخوف والرجاء، هما في نظر الدين صفتان جديرتان أن يقصدا لذاتهما، فهما أشبه بجناحين لازمين لتحليق الإيمان والتقوى، وارتقائهما.

_ 1 النظر: البخاري، كتاب المرضى, باب 19.

وكذلك نجد أن فظاظة القلب وقساوته تعدان في نظر كل الناس داء يصيب الأنفس الجاحدة، ولقد أفاض القرآن في هذا المعنى، شأنه شأن جميع الكتب المقدسة. "والحقيقة الثانية": أن هذه المشاعر الدينية نفسها يمكن شرعًا أن تستخدم دوافع لأعمال تتناسب معها. ولا أحد ينازع في أن الآلام التي يحسها المؤمن أو يخشاها تفرض عليه -عادة- هذا الموقف الصوفي الذي يكل فيه كل أموره إلى الله، طالبًا عونه، ملتمسًا إحسانه، وها هو ذا القرآن يدعونا صراحة بقوله: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} 1، وقوله: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} 2، والسُّنة تعلمنا أيضًا: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا حزبه أمر فرغ إلى الصلاة"3. فإذا سلمنا بهاتين النقطتين كان في ذلك حصر للمجال المتطرف. وفي مقابل ذلك يفسح له المجال المقابل -في نقطة مهمة حين يحدد دور المشاعر المذكورة آنفًا. ذلك أن المبدأ العام وإن كان يعترف بقيمتها الذاتية، ويعلن أن الهروب من الألم، والبحث عن السعادة بوسائل صالحة إنما ينبثق عن اتجاهات جد مشروعة، فليس بوسعه أن يذهب إلى حد منحها جزاء أخلاقيًّا عندما تؤدي في الضمير دور المحرك الأول إلى الواجب؛ لأن ذلك معناه سن أمور لا يزكيها شيء في القرآن. وهنا نقطة لا نغلو في الإلحاح عليها، وهي نقطة ألقى إغفالها قدرًا من الاختلاط المؤسف في كثير من الأذهان، بين فكرتين متميزتين تمام التميز في التعاليم القرآنية: بين "النية"، وهي موقف الفاعل الأخلاقي و"الجزاء"،

_ 1 البقرة: 45 و153. 2 الأعراف: 56. 3 انظر: مسند أحمد 5/ 388 من طريق حذيفة بن اليمان, والعبارة: "كان إذا حزبه أمر صلى". "المعرب".

وهو رد الفعل من المشرع، ولقد أثبت القرآن الواجبات من جهة، وأثبت نتائجها الجزائية من جهة أخرى، فإذا شرفت الفضيلة وأثيبت وإذا ما استنكرت الرذيلة وعوقبت، فهل في ذلك غير العدالة؟ ولكن شتان ما بين أن نعين لأعمالنا عاقبتها، وأن نقترح على الإرادة مبدأ يلهمها، وذلكم هو ما صاغه القرآن في مواضع كثيرة، فهذا المبدأ مختلف تمامًا، إذ هو المثل الأعلى، والإنسان الذي يؤدي واجبه بالخوف أو بالرجاء، والذي يتخذ من توقع مصيره في الحياة الآخرة قوة محركة لإرادته الطائعة، هذا الإنسان لا يقتصر عمله على خلط وتوحيد نوعين مختلفين من الغائية: الغاية الوجودية "الثمرة"، والغاية الأخلاقية "الهدف"، ولكنه أيضًا يغفل شرطًا جوهريًّا عن العاقبة الموعودة؛ لأن القرآن خط له طريقًا يتبعه، وأثبت له سعيًا يقوم به، من أجل أن ينتهي إلى هذه الحياة السعيدة: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} 1، وليست الجنة إلا للقلوب السليمة، {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} 2، والقلوب الراجعة إلى الله: {وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيب} 3. ولكن إذا كان التقارب قد تم على هذا النحو بين المذاهب المتعارضة، فهل يؤدي ذلك إلى اندماجها؟ ليس بشكل تام برغم هذا، فإن النقطة المتنازع عليها تظل كل هي. فعلى حين أن النظرية المتشددة تحكم دائمًا بالكدرة والدنس على كل ما ليس طاهرًا نقيًّا إلى الحد الوارد في قوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} 4 -ترى النظرية المتسامحة أن بين الطهارة المطلقة، التي هي موضوع الثناء والثواب، والدنس الصارخ، الذي دحر وذم كثيرًا في النصوص.

_ 1 الإسراء: 19. 2 الشعراء: 89. 3 ق: 33. 4 البقرة: 272.

-توجد تلك الطهارة النسبية، الوسط، التي لم يذكرها القرآن صراحة بالموافقة أو بالرفض، وهو موقف يدعو إلى اعتبارها لا تستحق مدحًا ولا ذمًّا، وإنما هي مباحة فحسب. ويمكننا كذلك القول بأن القرآن قد ارتضى هذا الموقف الانتفاعي، إن لم يكن شجعه على نحو ما بمجرد التبشير بالمجازاة. ولا ريب أنه لم يقل مطلقًا: أدوا واجباتكم، ناظرين إلى سعادتكم الأخروية، ولكنه قال: أدوها لله، وحين تؤدونها بهذه النية سوف تكونون سعداء. وإذا كانت هذه الصورة قد غابت حتى عن بعض الفلاسفة فبوسعنا أن نحكم بصعوبة إدراكها على عامة المؤمنين. فالإنسان الوسط سوف يحفظ دائمًا منها صورة الوعود الجميلة للصالحين "والنذر المخوفة للأشرار"، ولما كان هذا الإنسان ضعيفًا وحساسًا بطبيعته، وعلى افتراض أنه مؤمن، فإنه سوف ينقاد بفطرته إلى التعلل بالآمال "والإحساس بالمخاوف" إلى جانب شعوره بالواجب. وإذن، فعندما يجتمع الشعور بالواجب مع الحاجة إلى الأمن، ويتسايران في الضمير دون افتراق -فلا قوة على وجه الأرض، متى تحركت الفطرة تستطيع أن تمنع آثار هذا الاتصال الدائم؛ إذ كيف يستطيع تشريع عادل أن يحرم ثمرة أودعت بذرتها في القلب؟ ولكن، لنتناول الأمر تناولًا عقليًّا. قد: يقال إن العمل بدافع الخوف من العقاب هو أبعد شيء عن أن يكون مبدأ ذا قيمة أخلاقية، ونحن أول من يوافق على هذا الرأي. ولكن هل هو دافع يتساوى في حقارته مع الخديعة، والصلف، والمداهنة والتباهي؟ وهل

من الممكن أن نضع شعور الخوف من الله في مستوى الخوف من الناس؟ أليس من الواجب أن نعترف على الأقل بأن بين هذين الخوفين فرقًا هو: أن الخوف من الناس يعلمنا النفاق والجبن، ويحملنا على خرق القانون حين يكون موضوع هذا الخوف عاجزًا على أن ينالنا؟ أما فيما يتعلق بالأمل في السعادة المقبلة: فقد تقولون: إنها قضية ارتزاق وطمع في الأجر. نعم، بداهة، نظرًا إلى الحب الخالص، الذي يصد عن كل ما سوى المحبوب ذاته. ومع ذلك فمن ذا الذي لا يرى أن مجرد قبول هذه الصفقة والتنازل هكذا عن مال ملموس، مؤكد، مستحق فورًا، نظير سعادة غير محددة، غير مؤكدة على المستوى الفردي، بعيدة ساحقة البعد، لدرجة أنها تقتضي الموت، والعودة إلى الحياة مرة أخرى. قبل لمسها ... أقول: من ذا الذي لا يرى في كل هذا ارتفاعًا فوق الغريزة الحيوانية المرتبطة بالحاضر، إلى مستوى الآجلة، وبرهانًا على الصفات العليا من الصبر، والسيطرة على النفس، وسعة العقل، وفي كلمة واحدة: برهانًا على نوع من المثالية؟ قد يقال: إنها بصيرة مضارب. ولكن، يا لها من مضاربة عجيبة! ما كان لأي حساب احتمالي أن يسوغها، دون تدخل من الإيمان. وإذن، فما هو ذلكم الإيمان، أم لم يكن الاعتقاد فيمن ليس بالنسبة إلينا مدركًا بحواسنا، ولا قابلًا للإثبات بعقلنا وحده؟ فهو حساب إذن، إن وجد، ولكنه أرفع قدرًا وأقل غرضًا من حساب المضاربين جميعًا، إذ إن مخاطره في نظر العقل العملي السليم أكبر بكثير من فرص نجاحه، غير أن الإنسان يوافق عليها، ويرتضيها إلى حد التضحية العليا، بفضل الثقة وحدها.

وقد يلح بعضهم أيضًا بإدعاء المساوئ الأخلاقية التي قد تنتج من قلب العلاقة بين الغاية والوسيلة. وهنا لا بد من وضع الأمر في نصابه: ما مقياس هذا القلب؟ إنه -كما رأينا- الاستقلال الذي يمنح للمنفعة على حساب الواجب، ولنسأل إذن أي مؤمن: إذا كانت هذه يمكن أن تكون حالته في أية لحظة أو فليلق على نفسه -بالحري- الأسئلة الآتية: لو أني تصورت المحال، لأرى أن العمل بالشرع ليست له أية مكافأة، فهل أفكر حينئذ في أن أطلب عليه بعض الأجر؟ وإذا كان انتهاك الوابجب لا يستتبع أية عقوبة فهل يضعف بسبب ذلك، تمسكي بطاعته؟ وإذا كنت لسبب ما مطمئنًا إلى أن جميع ذنوبي سوف تغفر فهل تكون هذه بالنسبة إلي فرصة لارتكابها؟ ألا يكون كل هذا بالأحرى سببًا إضافيًّا لكي أثبت كما قال الرسول, صلى الله عليه وسلم: "إني عبد شكور" 1, واستمع إلى هذا التأمل من الشاعر: هب البعث لم تأتنا رسله ... وجاحمة النار لم تضرم أليس من الواجب المستحق ... ثناء العباد على المنعم؟! وهكذا نجد أن الأهمية التي يعلقها مؤمن صحيح الإيمان على السعادة لا تمثل سوى منفعة فرعية، ثانوية، أو زيادة يمكن أن يستغني عنها عند اللزوم، حين توشك أن تهدد أعظم هدف جوهري في نظره وهو: إرضاء الله. وهذا الموقف العاقل، النبيل، الذي يرى بنظرة واحدة المثل الأعلى

_ 1 البخاري, كتاب التهجد, باب 6: "أفلا أكون عبدًا شكورًا".

الخالص، وضعف الفطرة المجردة -هذا الموقف متمثل بأكمل صورة في دعاء جميل للنبي -صلى الله عليه وسلم- فحين كفر القوم به، وجحدوا الحق الذي أنزل معه، وعرضوه لأشد ألوان الاضطهاد -نادى ربه: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، إلى من تكلني، إلى عدو يتجهمني، أم إلى قريب ملكته أمري، إن لم تكن ساخطًا علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي"1. فلنمض إلى ما هو أعمق، ولنسأل أنفسنا عن درجة هذا الطموح إلى السعادة المقبلة، وعن أهميته، حتى نعرف إذا كان من الممكن أن ينشئ لدى المؤمن دافعًا مستقلًّا، وصالحًا ليقود إرادته بمفرده. فأما من الوجه الذي يصوغ به القرآن وعوده فلا بد من شرطين لاستحقاق السعادة الأبدية: طهارة القلب، والإيمان الدائم، حتى الموت، وبالأخص في نهاية العمر. فمن ذلك الإنسان، الذي يدعي بيقين أنه استوفى هذين الشرطين، حتى أشد الناس طاعة وخضوعًا؟ وهل تكون المكافأة العظيمة التي يمكن تصورها من القوة بحيث تحرك هذه النفس القلقة، نفس المؤمن؟ إن هذا القلق تعبر عنه أصدق تعبير الآيتان الكريمتان: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} 2, {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} 3.

_ 1 انظر: الطبراني, وقد ذكره السيوطي في الجامع الصغير 1/ 57 وهو النص الذي اخترناه. "المعرب". 2 الأحقاف: 9. 3 المؤمنون: 60.

بيد أن فاعلية الشعور المضاد ليست بأقل إثارة للجدل، فهل توقع العقاب في الحياة الأخرى، مهما يكن فظيعًا، يكفي حقًّا لقهر الإغراء الحاضر للشر، وتحويل الإرادة عنه؟ إن لنا الحق أن نشك في هذا، بقدر ما نضع في مواجهة ذلك الإنذار سعة الرحمة الإلهية. وإذن، فلا يصح من الناحية العامة أن تطغى إحدى هاتين الفكرتين بمفردها، على ضمائر المؤمنين، وذلك ما تنبغي ملاحظته في وصف القرآن للأنفس الصالحة، فهو يقدمها إلينا في الواقع متأثرة بالحالتين المتعارضتين في وقت واحد: الخوف والرجاء، وانظر مثلًا قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} 1، وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} 2، وقوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} 3. أية نتيجة يمكن أن نحصل عليها من خلط هذين العنصرين المتضادين، اللذين يبطل كل منهما أثر الآخر، أو كما يمكن أن يقال: من خلط نصفي الشعور هذين، إن لم تكن النتيجة استشعارًا غامضًا، لا يمكن تصويره، وترجمة في لغة عاطفية للإرادة المستسلمة، الخاضعة باختيارها لأوامر الواجب، مهما كانت النتائج؟ "افعل ما يجب، وليكن ما يكون"، ذلك في آخر الأمر هو الموقف الذي تؤدي إليه حالة الشك، التي تزلزل قلب المؤمن.

_ 1 الأعراف: 55, 56. 2 الإسراء: 57. 3 الزمر: 9.

فإذا أردنا أن نطلق على هذا الوليد اسمًا -بأي ثمن فلسنا نجد خيرًا من أن نطلق عليه: "شعور الحياء"، وهو حالة مخففة تقع بين انفعالين قويين كما أنه أقرب شيء إلى "شعور الاحترام" ويمكن تعريف هذا الشعور بأنه: "مفارقة المرء للشر، مخافة أن يتدنس، أو يحمر خجلًا أمام نفسه، وأمام الله". وإنها لصدفة سعيدة أن نجد لدى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا المفهوم نفسه على أنه السمة التي تميز الأخلاق الإسلامية، فيقول: "لكل دين خلق، وخلق الإسلام الحياء" 1 وفي رواية: "إن لكل دين خلقًا ... " 2. وقد جرى العرف باعتماد الأخلاق اليهودية على أنها "شريعة الخوف"، والأخلاق المسيحية على أنها "شريعة الحب". ولكن مؤلفًا -فيما نعلم- لم يحاول حتى الآن أن يستخلص -على هذا النسق من الأفكار- العنصر الغالب على الأخلاق الإسلامية، فها نحن أولاء قد أوردناه من حديث مؤسس هذه الأخلاق -ذاته، وهو ما يفسر، مرة أخرى، الفكرة المركزية لهذه الدراسة، أعني: أن النظرية الإسلامية تجمع مختلف المبادئ اللازمة للحياة الأخلاقية في تركيب منسجم، بحيث تجعلها جميعًا تتجه نحو الوسط العادل. ولنعد إلى موضوعنا، ولنفترض أن شعورًا واضحًا بالخوف أو بالرجاء يمكن أن يولد لدى المؤمن طاعة نفعية، عن طريق توقع السلام الموعود. فلسوف نقول إذن بأن ما تقوم به الإرادة لتحويل هذه الغاية الوجودية إلى غاية إرادية، أي: لتجعل منها دافعًا للعمل -هذا التحويل يخلق بلا شك علاقة جديرة، أو مسافة معينة بين وجهة نظر المشرع، ووجهة نظر الذات.

_ 1 انظر موطأ مالك، كتاب جامع، باب 11. 2 ابن ماجه، كتاب الزهد, باب 17, وكذا في الجامع الصغير 1/ 97 عن النعمان بن بشير.

ولما كانت هذه المسافة لا يمكن تجنبها تقريبًا في الأنفس الضعيفة، فإنها لا يمكن أن تنشئ جريمة أخلاقية، وإنما هي من قبيل اللمم الذي يغفره أي شرع عادل، وإن كان يعريه من أية قيمة إيجابية. ولقد رأينا كيف يعرف الغزالي "النية الحسنة" بالمعنى الرفيع للكلمة، ثم هو يتحدث بعد ذلك عن هؤلاء الذين يدفعهم إلى الطاعة خوف العقاب، أو إغراء الثواب، فيقول: "الحقيقة ألا يراد بالعمل إلا وجه الله تعالى، وهو إشارة إلى إخلاص الصديقين، وهو الإخلاص المطلق، فأما من يعمل لرجاء الجنة، وخوف النار فهو مخلص، بالإضافة إلى الحظوظ العاجلة، وإلا فهو في طلب حظ البطن والفرج، وإنما المطلوب الحق لذوي الألباب وجه الله تعالى فقط"1. إن البحث عن السعادة المقبلة ليس سوى حالة خاصة لمفهوم أكثر عمومًا، هو السعي إلى غايات ذاتية، وصفناها بأنها مشروعة، ولكنها مبتذلة، وقلنا: إن الشرط في هذا التقدير "الوسط" ألا تكون الإرادة مدفوعة إلى الموضوع المراد، مستقلة عن الشرع، بل بناء على موافقة ضمنية على الأقل بأن تتابع السعي في هذا الموضوع، بهذا العمل أو ذاك. ولنضف هنا شرطًا آخر يظل خفيًّا بعض الشيء، وغير محدد بصورة كافية. فلكي نستحق هذا التقدير "الوسط" يجب كذلك أن يكون التأثير الذي يمارسه القانون الأخلاقي على هذه الإرادة النفعية ذا طابع "مقيد ومحدد" لا أكثر ومعنى هذا: أنه يمنعها من أن تمضي إلى ما وراء الغاية المقصودة، ولكنه لا يقدم لها أي سبب صالح لتشجيعها على العمل، وإلا

_ 1 الإحياء 4/ 369.

فإن الإرادة تسترد اعتبارها، كما ينظر إلى النية على أنها حسنة من الناحية الأخلاقية. والواقع أنه ما دامت الإرادة لا تمسك من الموضوع المراد سوى كونه مباحًا، فكيف يتسنى لها أن تتجه نحو هذا الموضوع، بله أن تتجه إلى عكسه "الذي هو أيضًا مباح افتراضًا"، لو لم تكن مدفوعة بأشياء خارج الشرع، كالميل، أو العادة؟ إن الشهوة، حتى لو كانت مقيدة بالقاعدة، هي دائمًا شهوة، ولذلك نعد من باب التافه المبتذل ذلك السعي إلى الخير الشخصي، عاجله وآجله، بل هو فقط من باب المباح. ولن يكون الأمر كذلك حين تكشف الإرادة من وراء اللامبالاة الظاهرية التي يبديها القانون، أسبابًا إيجابية "تجعل العمل أفضل من الامتناع, من الناحية الأخلاقية" فتسعى هذه الإرادة إلى الموضوع، لا من حيث هو مشبع لشهوة، بل من حيث إن هذا الإشباع سوف يكون فرصة لخير أخلاقي ندب إليه الشرع. وإليكم أمثلة مستقاة من السُّنة النبوية: 1- الكسب: وذلك أن النشاط المنظم في اكتساب خيرات الأرض تتغير قيمته، تبعًا للهدف الجوهري الذي يختطه لنفسه، وتبعًا للروح التي تحركه. فإذا كان الهدف هو الفرح بالتملك، وإمكانية التمتع بالحياة دون تعثر، فإنه يظل متوجهًا إلى الفطرة، ولا يستحق أكثر من أن يوصف بأنه

"لا بأس به". ومن هذا الباب قوله, صلى الله عليه وسلم: "لا بأس بالغنى لمن اتقى" 1. فأما إذا كان في مصدر هذا النشاط نظرة نزيهة، وإذا كان العامل يتحرك متطلعًا إلى نظام أفضل في توزيع السعادة العامة، وهو نظام يرجو أن يسهم فيه بهذا النشاط، سواء بأن ينسى نفسه، أو بأن يعتبرها فردًا في هذا النظام الشامل، حينئذ تصبح النية جديرة بالتقدير والثناء، بعد أن كانت نية مبتذلة، وفي ذلك يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أبو سعيد الخدري: "فنعم صاحب المسلم، ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل" 2. ولعلنا نتذكر هنا ما سبق من قوله -عليه الصلاة والسلام- بشأن الخيل أنها: "لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر" 3. 2- الكماليات: وهذه القيمة ذاتها يمكن أن يوصف بها الاستعمال المعتدل لأدوات الترف والرفاهية بعامة4، وذلك إذا كنا لا نتصور هذه الكماليات على أنها تجيب عن تطلعنا، وتشبع حاجتنا الفطرية، بل بحسبانها إحسانًا ترتضيه العناية الإلهية، إلى جانب أن الرضا بها يجعلنا موافقين لمشيئتها: "إن الله جميل يحب الجمال" 5، ومعترفين -في الوقت نفسه- بفضلها: "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده" 6.

_ 1 انظر: ابن ماجه, كتاب التجارة, باب 1. 2 البخاري, كتاب الزكاة, باب 49. 3 انظر: ص407. 4 من أمثلة ذلك الالتزام بحسن الهندام، والنعال، وقد ورد هذان المثالان نصًّا في استفسار يجيب عنه الحديث الوارد في سياق الكلام. 5 صحيح مسلم, كتاب الإيمان, باب الكبر. 6 الترمذي, كتاب الأدب, باب 53.

فإذا أخذت المسألة على هذا النحو لم يكن الاستمتاع المعتدل بما وهبنا الخالق من عناصر الطبيعة -مباحًا فقط، ولكنه يصبح مندوبًا إليه، من حيث إنه يتيح لنا أن نبرهن على شكرنا للمنعم المتفضل. 3- الاستثناءات: فالحرمان الإرادي مما مكننا الله منه يشبه إذن أن يكون اعتراضًا سيئًا وغير مهذب على على مقاصد الفضل الإلهي، ويصدق، هذا بخاصة على الحالات الاستثنائية التي يريد الشرع أن يوفر علينا فيها مواجهة بعض الصعوبات، فهو يحدث بعض الاستثناءات للقاعدة العامة: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه" "أو" "كما يكره أن تؤتى معصيته" 1. فمن استعمل هذه الاستثناءات، بروح النظام والموافقة الكلية، لا على سبيل الترف والتفريط -فإنه يرتقي إلى ما فوق مرحلة براءة العوام، وهو يبرهن بذلك على تواضعه، وخشوعه أمام الله، حين يقر بعدالة كل إجراء رحيم، من لدنه، باعتباره تلطفًا إلهيًّا بضعفنا الإنساني. وبعكس ذلك، فإن من يزعم لنفسه القوة على تحمل المشقة، وعلى التزام الإجراء الصارم، الذي يتقرر في الظروف العادية أوشك أن يقول لله: "إنني أستطيع أن أستغني عن رحمتك". 4- اللعب: هل هناك ما هو أكثر ابتذالًا وتفاهة في نظر الحكمة القرآنية من اللعب

_ 1 والحديث بالرواية الأولى، أخرجه البزار عن ابن عباس، كما في التغريب، والترهيب للحافظ المنذري 2/ 92، وبالثانية رواه أحمد عن ابن عمر, حديث رقم 5866 و5873. "المعرب".

واللهو؟ وكلما أراد القرآن أن يضع من شأن الحياة الدنيوية، وأن يحقرها -هل استعمل في ذلك سوى أن يصفها بهذين اللفظين: لعب ولهو؟ ومع ذلك، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- يتحدث عن بعض الألعاب الرياضية "كالرمي، وتربية الخيل"، وهي ألعاب ذات قيمة، فقال عن عثمان, رضي الله عنه: "كل شيء ليس من ذكر الله فهو لعب ولهو، إلا أن يكون أربعة: ملاعبة الرجل امرأته، وتأديب الرجل فرسه، ومشي الرجل بين الغرضين، وتعليم الرجل السباحة" 1. وكما قال بعض الصحابة: من حكم علي, رضي الله عنه: "روحوا القلوب؛ فإنها إذا أكرهت عميت"، ومن أقوال أبي الدرداء: "إني لأستجم نفسي بشيء من اللهو، فيكون ذلك عونًا لي على الحق"2. لقد كانوا يرون أن من الخير أحيانًا أن يريحوا أنفسهم ببعض اللهو، حتى يشحذوا أذهانهم، ويستردوا طاقاتهم اللازمة لاستئناف النشاط الأخلاقي بالمعنى الصحيح. من هذا كله تنبع نتيجتان واضحتان في الأخلاق الإسلامية: الأولى: أن في هذه الأخلاق منطقة وسطى، بين الحسن والقبيح. والثانية: أن تدخل النية الحسنة يجعل الأعمال المباحة أو المسموح بها فقط، أو حتى الأعمال التي قلما ندب إليها الشرع بعامة -يجعلها حسنة وجديرة بالثناء.

_ 1 الجامع الصغير للسيوطي 2/ 93, وروى النسائي "وليس اللهو إلا في ثلاثة: تأديب الرجل فرسه، وملاعبته امرأته، ورميه بقوسه ونبله". 6/ 185، ط. الحلبي. "المعرب". 2 الإحياء 4/ 364.

ولكن إذا كان الأمر كذلك فكيف نفسر هذه الصرامة التي لجأ إليها أكثر الحكماء والنساك في الإسلام؛ ليحرموا على أتباعهم، وأحيانًا على أنفسهم، أن يقبلوا على عمل من قبيل المباح فقط، أو ينتفعوا برخصة، وأن يتخلوا عن نزعاتهم حتى ما كان منها أكثر اتصالًا بالشرع، اللهم إلا في حالة الضرورة القصوى، التي يفرضها الحفاظ على الحياة؟ كيف نفسر هذا؟ والواقع أن منهجهم يتطلب أن يستشير كل فرد هواه، لا لكي يتبعه، بل لكي يأخذ جانب المعارضة منه تمامًا1، وهم يعلنون ضرورة أن يشغل المرء نفسه بواجب جوهري، هو "الواجب"، أو بواجب كمال هو "المندوب"، وهم يرون صراحة أن الإنسان مكلف بأن يقف في مواجهة الأشياء المباحة: "المباحات" -تمامًا كما يقف من الأشياء المحرمات. أليس في هذا خلط لنظامين اهتمت النظرية اهتمامًا كبيرًا بالتفرقة بينهما؟ وهل من المستطاع أن نوفق بين هذا الرأي، وتعاليم القرآن والحديث؟ أما فيما يتعلق بطريقتهم في صوغ تلاميذهم فإن لنا إجابة نستقيها من تعاليم الشيوخ أنفسهم، فهذه الصرامة في النظام، كما يقولون، ليست إلا نوعًا من العلاج يجب أن يفرضه المنتسبون على أنفسهم في مرحلة انتقال، تختلف طولًا وقصرًا، وهي طريقة لتحطيم قوة الشهوة الحسية في أنفسهم، التي تعتبر أقدم النزعات وأرسخها جذورًا في الفطرة الإنسانية، وبذلك يتم التمهيد لسيطرة العقل. وكلنا يعرف التأثير المشئوم الذي يحدثه في النفس تعود التساهل، فلكي يتم استئصال هذه الرذيلة من أنفس المبتدئين يجب أن يتعاطوا أولًا دواء على

_ 1 انظر الحكيم الترمذي, كتاب الرياضة, ص345 و348 من المجموع. "المعرب".

هذا النحو من القسوة. فهم يبرئون المتطرف بالنقيض المتطرف، حتى يعود المرء بعد ذلك إلى الوضع العادي، ومتى ما انطرحت عن نفسه أثقال هذه القوى المناهضة للأخلاق سمح لها بإرخاء العنان لجوارحها شيئًا فشيئًا، إذ كانت مطمئنة منذئذ إلى قدر من النور في القلب، يعصمها من الوقوع في ظلمات الحواس بسهولة. هذه الطريقة في معالجة نفس المبتدئين في الطريق بقسوة لا تبدو لنا مع ذلك إبداعًا أو ابتكارًا، حين نضعها في مجموع النظم الإنسانية المناظرة لها، فلقد اتبع الناس في كل عصر نفس المنهج كلما أرادوا أن يحدثوا تغييرًا ذا طابع عميق، وهكذا تصنع الأم لتفطم ولدها، كما يفعل المروض ليستأنس الوحوش، ويدرب جوارح الصيد1. أما فيما يتعلق بالنساك أنفسهم، فلما كان سعيهم إلى اكتساب التطهر بالجهد والجهاد، فليس من المستبعد أنهم قد فرضوا على أنفسهم هذه القساوة في بداية2 مضمارهم. لكنهم إذا تخطوا هذه المرحلة التعليمية يتبعون بصفة عامة المسيرة العادية، ولا يلجئون من بعد إلى هذا التكلف.

_ 1 انظر: كتاب الرعاية للمحاسبي ص79-80، وأيضًا كتاب الرياضة للحكيم الترمذي ص375 من المجموع, قال: فكذلك النفس إنما تجيب ربها -عز وجل- فيما أمرها بعد فطامها عن عادات الأمور التي اشتهت ولذت، فإذا فطمتها ألزمتها الدعاء، وثناء الرب ومدائحه ونجوه، حتى يأنس بذلك، ويألف الذكر، حتى ينكشف الغطاء بعد ذلك فيألف ربه -عز وجل- وكذلك تجد الصبي قد ألف ثدي أمه، حتى لا يكاد يصبر عنه ساعة، فإذا فطمته اشتد على الصبي وبكى وقلق، فإذا دام الفطم نسيه وأقبل على الطعام والشراب، فكلما وجد حلاوة الأطعمة والأشربة هجر الثدي، وعاف ذلك اللبن، وكذلك الدابة ... إلخ. وضرب الترمذي قبل هذا النص مثلًا بالبازي يربى ويدرب حتى يأنس بصاحبه ويألفه إذا دعاه. "المعرب". 2 وذلك كأن نجد سهل بن علي المروزي وقد تعود حينًا ألا يمر بالسوق إلا مغضيًا بصره، وسادًّا أذنيه بقطع من القطن، وفي نفس هذه المرحلة من الزمن كان يأمر أخت زوجته أن تستتر دونه، ولكنه بعد ذلك هجر كل هذه الاحتياطات. وهناك شخصية أخرى، لم يذكر اسمها، من جيل التابعين، فرضت على نفسها الصمت المطلق لسنوات عديدة، وقد وضع الرجل في فيه دائمًا حصاة، لم يكن يخرجها إلا لحظة الصلاة، والطعام. "المؤلف". انظر: كتاب الرياضة للحكيم الترمذي, ص375-376 من المجموع. "المعرب".

وإذا كنا أحيانًا نراهم في أثناء مرحلتهم النهائية يمتنعون عن عمل مباح فلا ينبغي أن نرى بالضرورة في هذا الامتناع حرمانًا مفروضًا، أو تحريمًا إراديًّا لما يجيزه الشرع؛ وذلك لأن لدينا تفسيرين لتزكية سلوكهم: فإما أنهم لم يشعروا بحاجتهم إلى استعماله، فهم يختارون أحد النقيضين المباحين على سواء، وإما أنهم لانشغالهم بمراقبة حركة القلب، وتوجيهها إلى خير نية ممكنة -يسقطون العمل الذي تحركهم إليه نية مبتذلة، مؤثرين عليه عملًا آخر، لا يرتابون في قيمته الأخلاقية، على ما ذكره الغزالي: "من حضرت له نية في مباح ولم تحضر في فضيلة فالمباح أولى، وانتقلت الفضيلة إليه، وصارت الفضيلة في حقه نقيصه؛ لأن الأعمال بالنيات، وذلك مثل العفو، فإنه أفضل من الانتصار في الظلم، وربما تحضره نية في الانتصار دون العفو فيكون ذلك أفضل"1، أي: إن اختيارهم قد يختلف من حالة إلى أخرى، تبعًا للجهة التي تملي عليهم بالفعل دافعًا أرقى، وهو موقف شريف، ومعقول تمامًا، حينما تكون هنالك فرصة للعمل، ولكنه لا يكون كذلك حين تقتضي الظروف عملًا سريعًا؛ لأنه حينئذ يجب أن نميز بين واجبين أداء: أن نعمل، وأن نكون على نية حسنة، فإذا لم يبلغ المرء أن يحقق الثانية،

_ 1 الإحياء 4/ 364.

فهل من سبب يدعوه إلى إهمال كل شيء؟ 1. وإذن فإن حكماءنا، في انتظارهم وبحثهم عن القيمة العليا، لم يذهبوا مطلقًا إلى حد اللامعقول. أليس من التناقض الأخلاقي في الواقع أن نترك الشر يستشري، في انتظار المثل الأعلى؟ لا شك أن من الشجاعة، والشهامة والرجولة، أن نتحمل -كما ينبغي- ضراوة الجوع عندما تفرضها علينا ضرورة أخلاقية أو طبيعية، ومن الجميل والجليل أن يعاني المرء تجربة العزوبة العفة؛ فذلك أحرى من أن يوقعه الزواج في سوء أخلاقي. وإن القرآن ليدعونا إلى هذا الجلد والتحمل والمصابرة، حتى في الآيات التي يمنحنا فيها الرخص. ولكن للامتناع حدودًا يصبح التصلب والمكابرة من ورائها، لا أقول: نكالًا يرفضه الشرع فحسب، بل أمرًا ضد إرادة الله ورضاه. ومن المفيد أن نرى كيف تتعاقب هذه الأفكار الثلاثة في نفس الفقرة القرآنية: 1- الإباحة2- النصيحة بالصبر والجلد 3- استبقاء الرفق،

_ 1 انظر: المحاسبي -كتاب الرعاية, 169, قال: إن إبليس "يدعوك إلى الحذر من الرياء بترك العمل، ولما لم تطعه في ترك العمل دعاك إلى الرياء ليحبط عملك، فلما لم تطعه ولم تجبه إلى ذلك حذرك الرياء بترك العمل، فقال: إنك مراء، فدع العمل، فردك إلى ما أرادك عليه، من ترك العمل أولًا، فلما لم تجبه إلى تحذيره ورثك أمنه، فأمنته، إذ لم تفطن أنه إنما أراد أن يحرمك ثواب العمل إذ عرض لك بتحذير الضرر، وأنك تريد بذلك الإخلاص، فلم تخلص لله -عز وجل- شيئًا حين تركت العمل؛ لأن الإخلاص أن تعمل، وتحذر الرياء، وتنفيه عن عملك، فيخلص لك عند ربك -عز وجل- وليس الإخلاص أن تترك العمل، فلا يخلص لك -عز وجل- عملك. فعلى المريد الإخلاص في عمله، فإن ترك العمل إرادة الإخلاص فلم يخلص لله -عز وجل- عمله ولكن تركه". "المعرب".

وذلك في قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .... {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} .... {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} 1 وقوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ} ... {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} ... {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} 2. والحكيم المسلم لا يستطيع أن ينكر هذه الدرجات، وإذن، فهو عندما ينظر إلى درجة من الأخلاقية أرفع، على أنها واجب حتم، يعلم علم اليقين أن دونها مكانًا يجوز له أن ينزل إليه، ويجب عليه أن يلجه عند الضرورة؛ لأن التصلب العنيد الذي يقف ضد الفطرة حتى النهاية هو بلا ريب جريمة ولذلك قال مسروق: "ومن اضطر إلى شيء مما حرم الله عليه، فلم يأكل، ولم يشرب حتى مات دخل النار"3. إننا لا نملك مطلقًا أنفسنا؛ لا نملك أن ننفقها، ولا نملك أن ندخرها، وحينما يطلب الشرع الأخلاقي منا تضحية معينة يجب علينا قبولها عن طواعية ورضاء، فلماذا نكون ملكيين أكثر من الملك حين يعفينا منها؟ إن الامتثال لأمر الفطرة بوساطة أمر الشرع الأخلاقي هو الذي يؤدي قطعًا إلى النية الباسلة، ولكن لا حرج علينا أن نمتثل لهذا الأمر بموجب الرحمة لذاتها، حين يبيح لنا الشرع ذلك. وكل ما يمكن أن يؤخذ على هذا السعي إلى غايات ذاتية مشروعة هو أنه ليس فيه من الأخلاقية سوى طابعها السلبي. ولكن، قد يقال لنا: إنك قسمت غايات الإرادة إلى مجموعتين: موضوعية، وذاتية، وبعد أن قصرت القيمة الأخلاقية على الإرادة التي يكون هدفها غاية موضوعية، قسمت الغايات الذاتية إلى مشروعة، وغير مشروعة،

_ 1 البقرة: 184-185. 2 النساء: 25-28. 3 الموافقات 1/ 206, وقد عالج الشاطبي في الصفحات من 205-211 مسألة "لا يطلب من المكلف ترك الأسباب المباحة". "المعرب".

ومن ثم ينتج أن أفضل ما ترتضيه لنية ذاتية هو أن تكون بريئة، أو جائزة. أفلا توجد إذن غايات تتصف بكونها ذاتية، وهي إلى جانب ذلك ذات قيمة باعتبارها ذاتية؟ وألا يقلل هذا دائمًا من قيمة كل منفعة شخصية، فينحط بها إلى أدنى درجات الأخلاقية، إن لم يجعلها موضع الاتهام العقيم، وبحيث لا تستطيع على كل حال أن تنشئ دافعًا صالحًا؟ أما فيما يتعلق بالنفع الحسي، الذي لا يتصل بوصفه كذلك بالأخلاقية إلا من بعيد فإني أوافق على أن يوصم بهذا النقص، ولكن هنالك أيضًا نفعي الأخلاقي، بالمعنى الصحيح، فهل ترى أن تحمله قدر الخير الحسي نفسه، فتقصيه أيضًا من مجال المبادئ المحددة للإرادة على وجه مقبول؟ وإذا كنت أهتدي، حين أقبل على أعمالي الفاضلة، برغبتي في أن أكتسب الصفات الراسخة لنفسي: طهارة قلبي ونور عقلي، وقوة إرادتي -فهل يمكن القول دون تعارض في الحدود بأن الإرادة التي تسعى إلى خيرها الأخلاقي لا تتحرك بنية أخلاقية حسنة؟ ونجيب عن ذلك: بأنه يجب أن نعلم أن الأخلاق العقلية، كأخلاق قدماء الإغريق، والرواقيين منهم بخاصة، ترى في نية كهذه أنها ليست حسنة، فحسب، بل هي أفضل ما يمكن تحقيقه، وإذا كان جوهر النفس هو معرفة الحقيقة، وملازمة الفضيلة، وإذا كان أكمل الأعمال في كل شيء -من ناحية أخرى- هو العمل الذي يهدف إلى تحقيق كمال جوهره -فيجب أن نستنتج من ذلك أن المبدأ الأخير في الأخلاقية لا يمكن أن يكون غير البحث عن هذا الكمال. ويجب أن نؤكد فضلًا عن ذلك أن من المستحيل من وجهة نظر الأخلاق القرآنية أن نقابل بين هذين النوعين من الخير الشخصي؛ لأنه على حين يقدم القرآن لنا مسألة البحث عن الرفاهية المادية على أنها مجرد أمر مباح، فإنه

لا يقتصر على أن يجعل من طهارة القلب شرطًا للسلام والسعادة الأبدية فحسب، ولكن عنوانًا ذا قيمة للاكتساب، والاجتهاد الذي لا يفتأ يستثير جهدنا إليه، واقرأ إن شئت قوله تعالى تعبيرًا عن المعنى الأول: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} 1، وقوله: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} 2 -ثم اقرأ عن المعنى الثاني قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} 3، وقوله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} 4، وقوله: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} 5. وإذن، أليس من الواجب أن نجعل من هذا النوع من الخير الشخصي استثناء من القاعدة العامة؟ ومع ذلك، فعلى الرغم من كل الاعتبارات التي تنتصر لمصلحة هذا الاستنتاج -فإنا نعتقد أن في مبدأ "الكمال" غموضًا، ومن ثم، عجزًا عن أن يكون في ذاته، وبمفرده، الباعث الأخلاقي الأسمى. والواقع أنه يحدث غالبًا أن ننشد الكمال في صفاتنا العليا، العقلية والأخلاقية، لا ننشدها لذاتها، بل لكي نحصل بكمالها على شيء من المرونة، وسرعة العمل، وعلى كفاءة أحسن، دون أن نتطلب من أجل هذا أن تخضع ممارستها لقاعدة الواجب خضوعًا دقيقًا، وفي هذه الحالة لا يعتبر.

_ 1 الشعراء: 89. 2 ق: 33. 3 التوبة: 103. 4 الأحزاب: 33. 5 الأحزاب: 53.

الكمال في نظرنا غاية في الواقع، بل وسيلة لبلوغ غايات أخرى، يجب أن ينظر إليها بدورها بعين الاعتبار، حتى نحسن الحكم على قيمتها، تبعًا للمقياس الأخلاقي. وحتى عندما نرى في هذا الكمال غاية أخيرة، بقطع النظر عن كل ما تبقى، فهل يكون عملنا حينئذ سوى إشباع هذا الميل الفطري الذي يقضي بأن على كل كائن أن يحقق كمال جوهره؟ وهذا الجوهر المثالي، النقي أكمل ما يكون النقاء، والذي نتخذه نموذجًا هل يمثل بالنسبة إلينا شيئًا آخر سوى أنه موضوع اهتمام فني؟ وليس بخاف أنه لا الغريزة، ولا ذوق الفن، من مبادئ الأخلاق، ولا يمكن أن تكون كذلك، وأقصى ما يمكن أن تبلغه هو أن نظل معها في مستوى البراءة. ولن يكون الأمر على هذه الحال لو أننا تصورنا هذا الكمال في النفس والعقل، لا كتلبية لحاجاتنا أو أذواقنا، بل في علاقته بالقاعدة الأخلاقية، سواء من حيث هو أداء لواجب، أو من حيث هو كفاءة كبرى على أدائه. وهكذا نستطيع أن نستنتج، برغم التناقض الذي نواجهه في إثبات الاستنتاج -أن جميع الغايات الذاتية المشروعة، مهما اختلفت في ذاتها، لا تختلف بوصفها كذلك، على صعيد النية. ولما كانت قيمتها من هذه الناحية نسبية ومشروطة، فإن المبدأ الأخير للأخلاقية يجب أن يبحث عنه في غاية موضوعية ثابتة، تخضع لها الإرادة دائمًا وتخلص. من أجل هذا لا نجد في الآيات التي يمجد القرآن بها صنائع الإحسان، يؤديها المتصدقون، بنية تثبيت أنفسهم -لا نجد هذا الهدف المذكور إلا في المحل الثاني، وبوصفه عنوانًا فرعيًّا؛ إذ كانت النية الأساسية ابتغاء وجه الله، وكسبًا لمرضاته، ولاحظ ذلك في قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ

أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} 1. لقد كان المكي إذن على حق في قوله، وإن كان حديثه عابرًا، ولم يكن فيه ملحًّا على مضمونه، قال: "فتكون نيته في ذلك صلاحًا لقلبه، وإسكان نفسه، واستقامة حاله، وذلك كله لأجل الدين، وعدة الآخرة، وشكرًا لربه تعالى، ودخولًا فيما أحل له، واعترافًا بما أنعم عليه، واتباعًا لسنة نبيه فيه، ولا يكون واقفًا مع طبع، ولا جاريًا على العادة"2. فلنتناول الآن دراسة المجموعة الثالثة.

_ 1 البقرة: 265. 2 قوت القلوب، للمكي 2/ 336 ط الحلبي.

النيات السيئة

د- النيات السيئة: كما أنه لا يمكن أن يكون بين نقطتي المكان الإقليدي1 "سوى خط مستقيم واحد"، فكذلك الحال في علاقة ذات التكليف بموضوعه، بوساطة النية -لا يمكن أن "توجد سوى طريق واحد للفضيلة"، هي الطريق التي تبدو فيها نية الذات كاملة، بمعنى أن تكون متطابقة مع قصد المشرع، فإن كانت مطابقة لقصد أمره "أي بدافع الواجب" فهي نية حسنة، وإن كانت مطابقة فقط لقصد عفوه "أي: بالإفادة من هذه الرخصة" -فهي نية مقبولة. وأي انحراف شعوري وإرادي عن الطريق المرسومة على هذا النحو،

_ 1 إقليدس رياضي إغريقي, كان يعلم في مدرسة الإسكندرية على عهد بطليموس الأول، "في القرن الثالث قبل الميلاد". "المعرب".

يقضي بالضرورة إلى نية آثمة. ومع ذلك فما أكثر ما نجد خارج هذه الطريق المستقيمة، ما لا نهاية له من الاتجاهات، والمنعطفات، والغوايات!! وهكذا تقف وحدة مبدأ الأخلاقية في مواجهة مبادئ مناقضة لها، لا تحصى كثرتها، وهو ما أشار إليه القرآن في قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} 1. وإذن فلسوف يكون من المجازفة والتخبط أن نشرع في إحصاء كامل لكل الانحرافات، أو حتى أن نجري تصنيفًا عامًّا لمختلف أنواع هذه المجموعة. ولما كانت طبيعة الموضوع لا تقبل تنظيمًا دقيقًا على هذا النحو، فإننا نقتصر على إبراز الحالات الواضحة، التي ركز عليها القرآن والحديث تركيزًا خاصًّا، وهي: نية الإضرار، ونية التهرب من الواجب، ونية الحصول على كسب غير مشروع، ونية إرضاء الناس "الرياء". 1- نية الإضرار: من المعروف، على الصعيد الاجتماعي، أن الشريعة الإسلامية قد اتخذت مجموعة من الإجراءات، التي لو طبقت تطبيقًا أمينًا لأدت -دون أي تقصير- إلى خلق مجتمع قوي وسعيد متضامن ومزدهر، تحكمه العدالة والرحمة في آنٍ. ولكنا نعلم من ناحية أخرى أن أفضل شرائع العالم تصبح عاجزة، إذا فقدت الإرادة الطيبة لدى الناس، الذين تنطبق عليهم، أو الذين دعوا إلى تطبيقها.

_ 1 الأنعام: 153.

إن أفظع طريقة لتخريب أية شريعة لا تتمثل في أن تواجهها مقاومة شرسة، أو أن يغفل العمل بها: فلقد يكون هذا طريقة أخرى لاحترام قداستها، بألا تدنس طهارتها النظرية، وبحصر العمل بها في أكثر الأيدي نزاهة، وهو فضلًا عن ذلك يتركها للزمن، ليبرهن على إحكامها، عندما يسمح بتطبيقها. ولكن أسوأ المواقف وأضرها بشريعة ما -هو أن نتظاهر في مواجهتها بمظهر الورع، محترمين حروفها بكل عناية، وإن كنا نتفق على تغيير هدفها فنجعلها ظالمة مقيتة، بعد أن كانت محسنة ذات فضل على الناس. فذلك هو ما أطلق عليه القرآن، بمناسبة بعض المصالحات الزوجية التي يلفها سوء النية -أنه: "اتخاذ آيات الله هزوًا"1. وإليك الحالة: فنحن نعلم كم يحاول القرآن بكل الوسائل المعقولة أن يبقي على هذا الرباط المقدس بين الزوجين، وأن يوثقه. فهو أولًا يوصي الرجال بأن يعاملوا النساء معاملة إنسانية متى شعروا نحوهن بالنفرة: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} 2. ثم هو ينصح الزوجات بأن يطعن أزواجهن، حتى لو اقتضى ذلك بعض التنازلات: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} 3. ثم هو أخيرًا يدعو الطرفين

_ 1 من قوله تعالى في [البقرة: 231] {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} ، وقد نزلت الآية بسبب مضارة الزوجات بالارتجاع ألا ترى بعده زوجًا آخر. "المعرب". 2 النساء: 19. 3 النساء: 128.

-في حال عجزهما عن إقرار أمرهما فيما بينهما- إلى أن يعرضا النزاع على التحكيم، لدى أعضاء من أسرتيهما، حتى يحاولا تحقيق مصالحة بين الزوجين: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} 1. وأكثر من ذلك، أنه إذا أخففت كل هذه الجهود المصلحة، وأصبح الطلاق أمرًا مقررًا -يمنح القرآن الزوج مهلة، يعيد خلالها تدبر الأمر: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} 2، فإذا ما نشب نزاع للمرة الثانية، ووقع فيها طلاق ثانٍ، فإن القرآن يمنح الزوج مرة أخرى فترة مماثلة للأولى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} 3، وبحيث لا يصبح الافتراق نهائيًّا إلا في الطلاق الثالث. وينبغي أن نعترف بأن روح الحرص على الرباط الزوجي لا يمكن أن تكون أكثر تصلبًا إلا إذا ضادت الفطرة وناهضتها، وعليه فإن كل هذه المحاولات لتدارك الرباط الزوجي، ورأب صدعه، ليس الهدف منها توحيد عنصرين متنافرين بأي ثمن، على حين أنهما لا يتقاربان إلا ليتعارضا. وإنما هي على العكس، تفترض إمكان قيام حياة أسرية تأخذ مجراها العادي، بعد أن انتهى العارض، وهدأت الخواطر. والقرآن يشترط صراحة للعودة إلى الاتحاد الزوجي أن يكون كل من الزوجين آملًا أن يؤدي واجباته بأمانة: {إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} ، و {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} 4. ومع ذلك فإن خبث الرجال الحاقدين يبغي أن يسيء استخدام هذا

_ 1 النساء: 35. 2 البقرة: 228. 3 البقرة: 229. 4 البقرة: 230.

الحق، الممنوح لهم، فيجعلوا منه أداة إعنات وظلم لأزواجهم، فهم بتأخيرهم اختيارهم خلال المدة المخصصة لهم، وبعدم نطقهم إلا في اللحظة الأخيرة، يعودون في نهاية الأمر إلى نسائهم، لا على أساس نسيان الماضي، ولا بنية خلق جوٍّ صحي، لحب جديد، بل بقصد تطليقهن من جديد، ثم إمساكهن معلقات على هذا النحو، لا لشيء إلا لإطالة قيود سراحهن، فيمنعونهن بهذا القيد الظاهر من أن ينشئن زواجًا آخر، قد يجلب لهن قدرًا أكبر من السعادة والقرار. في مواجهة هذه النيات الآثمة يحذر القرآن الرجال، في مواضع كثيرة وأحيانًا يستخدم ألفاظًا عنيفة، مثل قوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} 1. وقد وجه القرآن إنذارًا مماثلًا إلى الموصين الذين يقصدون بمساعدة المنتفعين بوصاياهم، أن يحرموا وارثيهم الشرعيين، فقال: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارّ} 2. فمن هذه الأمثلة القرآنية، التي تشركها أمثلة أخرى كثيرة3، استنبط النبي, صلى الله عليه وسلم -دون ريب- هذه القاعدة الشاملة، التي أثبت بها تكليف كل مسلم، بأنه: "لا ضرر ولا ضرار" 4. 2- "نية التهرب من الواجب": بيد أن هناك طريقة أخرى للتحايل على الشرع، وذلك بأن نضيع شروط تطبيقه، عندما نثير مفاجأة يحتمل أن تغير المغزى الشرعي للظروف، وهكذا لاتدخل تحت القاعدة.

_ 1 البقرة: 231. 2 النساء: 12. 3 انظر مثلًا الآيات: 233 و282 من البقرة، و6 من الطلاق. 4 موطأ مالك, كتاب الأقضية، باب 26.

هنا لا تكون نية المثير أساسًا عدوانية، حتى لو نتج عن هذه الحيلة بعض الأضرار بالنسبة إلى الآخرين، فهو لم يسع في ضررهم، بل سعى إلى فائدته الخاصة. هذه الأنانية التي يفرضها على الناس حبهم المفرط للأعراض الدنيوية -قد تبدو في صروتين، إحداهما: يمكن أن تكون "سكونية" "إستاتيكية" أو "محافظة"، والأخرى "حركية" "ديناميكية" أو "محتكرة". وأقل أنواع الأنانية نشاطًا هي تلك التي تحمل الإنسان على أن ينطوي على نفسه، فتجعله قليل الإيثار، قليل الإحسان، ضنينًا بما يملك؛ على حين أن الأنانية الجشعة الجامحة لا تقنع بوضعي سلبي، وإنما تمعن في جمع المكاسب والمنافع بكل وسيلة. والحيل في الصورة الأولى معروفة جيدًا في الشريعة الإسلامية، كما عرفت نظمها، وإنا لنجدها مستفيضة في باب فريضة الزكاة، ومن الوسائل البسيطة للتهرب بالخديعة من هذا الواجب المقدس، عند اقتراب موعد جباية الأموال، أن يمزق المالك رأس ماله بالمصروفات، والقروض، والاتفاقات والعقود، بحيث يجعله أقل من الحد الأدنى للنصاب المفروض. فماذا يكون رد فعل الشرع في مواجهة مثل هذه العمليات؟ هذا يتوقف على النية التي يعمل بها المالك، فإن كان يصدر في هذه التصرفات عما تقتضيه الحاجة الواقعية، أو تحت ضغط ظروف غير مستثارة -فلا لوم عليه من الناحية الأخلاقية، وليس ذلك فحسب، بل هو من الناحية الشرعية بريء معفو عنه. وأما إذا كان يفعل ذلك صراحة ليهرب من التكليف بدفع زكاته، فالناتج عكس ذلك. وغني عن البيان أن الذي يتحايل على الشريعة على هذا النحو، فيقتل

روحها -يرتكب دون ريب عملًا من الأعمال المنافية للأخلاق، ولكنه في الوقت نفسه يخطئ الحساب، حين يظن أنه يستطيع أن يهرب بهذه الحيلة من التكليف الشرعي. وجميع الفقهاء متفقون في الرأي حين يظهر سوء النية في أحداث واضحة، هي عود الظروف العادية بمجرد مضي الحول. أما في حالة العكس، أعني: إذا لم تعد الأموال المتصرف فيها إلى ملكيته، فهل نؤثمه، أو نبرئه؟ مسألة فيها نظر، فعلى حين يعفيه "اللخمي" و"أبو حنيفة" من الزكاة، بتفسير حالة الشك لمصلحته، وترجيح براءته ابتداء -يرى الآخرون في هذا التوافق بين العملية وحول الزكاة دليلًا كافيًا على الغش والخداع. وعلى هذا النسق نجد حيلة أخرى، تتمثل في تجميع رءوس أموال كثيرة، أو قطعان تخص أشخاصًا مختلفين، "وقد تكون الحيلة متمثلة، وفقًا لأفضل المنافع، في فضل رأس مال مشترك" بقصد تجنيب كل منهم إلزامًا ثقيلًا. ولقد حرم الحديث الشريف صراحة هذه الطريقة في الزيغ عن القاعدة وتنكبها، فعن أنس, رضي الله عنه: "أن أبا بكر كتب له فريضة الصدقة التي فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع، خشية الصدقة"1. وبقيت بعض المنافذ التي يمكن أن يتصورها، وينجح فيها أولئك الأغنياء

_ 1 انظر البخاري, كتاب الحيل, باب 3.

قساة القلوب، حتى يتهربوا من العدالة الإنسانية، فهل بوسعهم أن يكونوا مطمئنين إلى الهروب بهذه الوسائل من العدالة الأبدية؟ لقد ساق القرآن لنا في هذا الموضوع عبرة: فإن أصحاب الجنة أقسموا عشية الحصاد أن يذهبوا إليها مبكرين، خفية، حتى لا يلفتوا إليهم انتباه المساكين، وبذلك يطرحون عن كاهلهم عبء اقتطاع جزء محتمل من ثرواتهم، ويا لها من مفاجأة سيئة طالعتهم حين وصلوا إلى جنتهم، لقد طاف على ثمراتها جميعًا طائف العذاب الرباني، فدمرها وهم نائمون1. 3- "نية الحصول على كسب غير مشروع": ويكثر استعمال هذه الوسائل المنحرفة بصورتها الثانية، في الحياة اليومية لبعض رجال الأعمال، المهتمين بإنقاذ مظهر الشرعية. ولسنا مهتمين هنا بذكر المناهج الخادعة التي يستخدمها صناع وتجار دون تحرج، حتى يخفوا معايب سلعهم، ويرفعوها إلى ما ليست به في الواقع، فتلك مفاسد كبيرة، ذكرت كثيرًا في الأحاديث، ويكفي أن يعارضها الأمر الصريح في القرآن، وهو الأمر الذي يتطلب في كل اتفاق توفر الرضا الكامل لدى الطرفين. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} 2.

_ 1 القصة في سورة ن "17-33" قال الشاطبي "الموافقات 1/ 289": "تضمنت الأخبار بعقابهم على قصد التحيل، لإسقاط حق المساكين، بتحريهم المانع من إتيانهم، وهو وقت الصبح، الذي لا يبكر في مثله المساكين عادة". "المعرب". 2 النساء: 29.

وهذا التراضي يفترض، في الواقع، أن يكون كل شيء في القضايا مستمدًّا من الشرع صراحة. وبهذه الشرعية في كل شيء, وتجاه كل شيء -يحدد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معنى الإيمان في قوله: "الدين النصيحة، لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم" 1. وأكثر تحايلًا من ذلك، تلك الطرق التي يصطنعها لأنفسهم أولئك المثقفون ثقافة قانونية، فهم على الرغم من تكلفهم احترام الشريعة، وحرصهم على أن لا يصادموا حروفها -يحاولون أن يجدوا فيها مخرجًا جانبيًّا يشبع أنانيتهم، ولقد أشار الحكيم الترمذي في كتاب "الأكياس والمغترين" إلى عدد من هذه الحيل: منها: القاضي الذي يتقبل بعض الأشياء من أطراف النزاع على أنها "هدية" على حين لم يؤتها إلا بوصفه قاضيًا، ولم تقدم إليه إلا كرشوة. ومنها: المدين الذي يرجو دائنه أن يعطيه مخالصة عامة من كل ما يمكن أن يحاسبه عليه، دون تحديد "تاركًا الأمر في نطاق الغموض، ولكن المخالصة التي يظفر بها لا صحة لها أبدًا عند الله". ومنها: الزوج الذي تنازل له امرأته عن جزء من مالها، كيما تتفادى سوء المعاملة من ناحية زوجها، "فهذا الصنيع لا يمكن أن يعتبر بالاختيار الكامل، بل هو أدنى من أن يكون عطية عن طيب نفس، على ما اختار القرآن أن يعبر به على وجه الاشتراط، في قوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} "2.

_ 1 انظر: البخاري, كتاب الإيمان, باب 43، وقد ذكر المؤلف في نصه: "ولخاصة المسلمين وعامتهم", وما نقلناه هو المنصوص عليه من حيث أشار المؤلف. "المعرب". 2 النساء: 4, وانظر كتاب: الأكياس والمغترين, للحكيم الترمذي ص51 من المجموع، قال: "وقال الله تعالى في تنزيله في شأن المهر: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} , فهذا يأخذ منها على كره ووعيد وتعذب وإلحاح "إشارة إلى من يكره امرأته بسوء العشرة على هبته حقها", يقول: قد برأتني منه، ووهبته مني، فأين شرط الله الذي شرطه من طيب النفس، حيث قال: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} , فإنما أباح له من مهرها ما أخذه بطيب نفسها". وللمؤلف ملاحظة: أن الله قال: نفسًا، ولم يقل: قلبًا. "المعرب".

وينبغي أن نوغل في التاريخ إلى العصر اليهودي لنجد حالات نموذجية من هذه الحيل الملتوية، التي تذهب، في سبيل ضمان انتظام السلوك، إلى حد أن تبدأ بتحريف القاعدة ذاتها، وتشويهها، وطيها بطريقة أو بأخرى، حسب الشهوات، ولقد أشار القرآن إلى بعض هذه الألاعيب التي حاول بنو إسرائيل أن يعثروا عليها حتى يستبيحوا الصيد، يوم السبت، دون أن يرتكبوا إثمًا، وهو قوله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} 1. ويحكي لنا الحديث قصة أخرى، هي قصة الشحم الذي كان محرمًا عليهم، فامتنعوا عنه قاعدة، وباعوه تجارة، قال عطاء: سمعت جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- يقول: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "قاتل الله اليهود، لما حرم الله عليهم شحومها، جملوه ثم باعوه، فأكلوها" 2. ولنا أن نستنتج من ذلك أنه عندما يحرم الله شيئًا فإنه يحرم في نفس الوقت تملك ثمنه، ولذلك ذم الإسلام كسب السحرة والكهنة، والفواجر، ففي صحيح البخاري: "وكره إبراهيم أجر النائحة والمغنية" وقول الله تعالى: {ولا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} -فتياتكم: إماؤكم- وعن ابن مسعود الأنصاري, رضي الله عنه "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن3.

_ 1 الأعراف: 163. 2 البخاري, تفسير سورة الأنعام, باب 6. 3 البخاري, كتاب الإجارة, باب كسب البغي والإماء 20.

وهناك حالات كثيرة أخرى تعاطاها الناس على رغم الشرع، في المجتمعات الإسلامية، وهي مدروسة في كتب الشريعة الإسلامية، تبعًا لمختلف المذاهب. وإذا كان من الواجب أن نعترف بأنه إن كان الفقهاء لم يجمعوا على عدم شرعية هذه الحيل، فيجب ألا ننسى أيضًا أن الذين أقروها لم يكن هدفهم أن يثبتوا لها الطابع الإخلاقي، وينفوا بذلك الشكوك عن فاعليها. ولنأخذ -أو بالحري: لنعد إلى- مثال عقد المخاطرة: أو بيع العينة، وهو تلك الحيلة المعروفة التي يحاول بها إخفاء وجه الربا القبيح، والتي نعى باسكال PASCAL على اليسوعيين أن يستبيحوها "حتى حين تكون نيتهم الأساسية توخي الكسب"1. ونحن نعلم أن القرآن يحرم الربا تحريمًا قاطعًا مطلقًا، لا بالمعنى الحديث والمقيد فقط، "وهو الفائدة التي تتجاوز سعرًا معينًا"، بل بالمعنى الأقدم والأوسع للكلمة: وهو كل منفعة مادية أو غير مادية، تؤخذ ممن يقرضون، فالإقراض ليس متاجرة، بل هو معاونة، والعون يجب أن يكون نزيهًا نزاهة مطلقة ويقول تعالى في ذلك: {فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} 2. وإذن، فالهدف من عقد المخاطرة تقديم النقود المقترضة في صورة ثمن بيع، وهاكم وصف العملية: فالمقرض يقدم أولًا لمستقرضه سلعة يبيعه إياها بثمن مؤجل أعلى، ثم هو بعد ذلك يشتريها منه نقدًا وبثمن أدنى، بحيث نجدنا -في نهاية العملتين- في نفس حالة الربا الصريح، فالمستقرض يقبض

_ 1 Pascal, Les provincials. VIII, letter. 2 البقرة: 279.

نقودًا الآن، ويتعهد بأن يرد فيما بعد أكثر مما قبض، وقد استعمل خروج السلعة ودخولها، لتغطية وتلطيف الوقع الحاد للكسب غير المشروع. ما قيمة هذه السوق في الفقه الإسلامي؟ إن الأمور إذا سارت علنية على نحو ما وصفنا، أعني: إذا كان من المتفق عليه مسبقًا بين الطرفين إعادة بيع ما سبق شراؤه لنفس الشخص فإن اتفاق الفقهاء إجماعي على إبطال هذا العقد، باعتباره عقدًا ربويًّا، ولكن إذا كنا أمام عمليتين متتابعتين، دون أن نلاحظ فيهما توطؤًا، فهل يجب أن نعتبر العمليتين وحدة واحدة؟ أليس من الممكن أن تكون هناك سوقان منفصلتان، يجوز أن تكون ثانيتهما مفروضة, على إثر رجوع المشتري عن رأيه فجأة، بعد فوات الأوان، ندمًا على إبرامه الأولى؟ إن من الصعب أن نحكم بيقين على النية العميقة لدى الناس، ولكن كيف نحكم على قضية من هذا القبيل؟ أما المالكية فيرون أن هذا الكسب غير مشروع، وهو ربًا. وأما الشافعية فيبيحونه، ويقرونه شرعًا. فهما حكمان متعارضان، ولكنهما في الحقيقة لا يحكمان في حالة واحدة، في نفس الظروف. والواقع أنه لو كان ممكنًا أن نكشف ما يجري في فكر المتعاقدين فلربما لم نشهد هذا الخلاف، ذلك أن مالكًا من ناحيته لا يمنع في الظروف العادية أن يبيع المرء مرة أخرى نقدًا، وبسعر أقل، ما سبق أن اشتراه غاليًا وبأجل، والشافعي من جانبه لا يوافق على أن يجعل المرء من هاتين العمليتين مجموعًا يستهدف به الربح الدنس قصدًا ونية.

والمشكلة التي طرحوها كانت على هذا النحو فحسب: لو أننا علمنا أن أجلي "العمليتين الحاصلتين على وجه الانفصال -لا غبار عليهما، ولكن جمعهما هو الذي يثير الاتهام بأن لدى صاحبيهما هدفًا غير مشروع، فهل يجب أن نحكم ببطلان عقد كهذا، كأنما سوء النية ثابت فيه؟ فالشافعية يرون أنه لا يجوز حمل الناس على التهم1، ولما كانت البراءة هي الأصل، فيجب التمسك بها، إلى أن يثبت العكس، وهو ما رده المالكية فقالوا: ليس الأمر هنا أمر تهمة مطلقًا، ولكنه أمر ملاحظة وإدراك للواقع في مدلولها العقلي، وهو المدلول الذي يصير أيضًا أشد وضوحًا حين يتعلق بما هو من "أهل العينة"2. وهكذا تدل الطريقة التي يدور بها النقاش، دلالة واضحة على أن موضوعه لم يكن عملًا افترضت فيه نية الربح عمومًا، وأن المسألة رغم ذلك تنحصر في التسويغ أو التأثيم -ولكن الموضوع انحصر في حالة ملتبسة، بتعين تفسيرها، لنعرف إن كانت تخفي أو لا تخفي هذه النية الآثمة، "وبعبارة أدق: إن كان يجب أن نعاملها على هذا النحو أو لا". فالخلاف كله إذن يدور في خاتمة المطاف حول حكم وجود، لا حكم قيمة، فإن هذا الحكم الأخير لا يرتاب فيه أحد، ولم يكن كذلك، مما يدخل في اختصاص القضاء. وإليك مثالًا آخر من الأمثلة التي كانت موضوع نقاش من هذا القبيل، ولسوف يكشف لنا الاتجاه العميق الذي أدى إلى هذا الخلاف في النظر وذلك هو الوجه الذي يجب أن نفسر به يمينًا ذات معان كثيرة. فبأي.

_ 1 بداية المجتهد, لابن رشد 2/ 153. 2 المرجع السابق، ويقصد به الذي يداين الناس؛ لأنه عنده ذريعة لسلف في أكثر منه، يتوصلان إليه بما أظهرا من البيع، من غير أن تكون له حقيقة. "المعرب".

مقياس، يتعين علينا، أن نحكم على كذب يمين أو صدقها، أقصد اليمين التي تأتي ضمن رغبة، أو قرار شخصي، بأن يقوم الحالف بفعل شيء، أو تركه لا اليمين التي أديت أمام القضاة1، ولا التي وردت في وعد خاص، حيث يشبهها عدد من الفقهاء، بيمين القضاء؟ أما المالكية فيعتبرون أولًا نية الحالف، في الأيمان التي لا يقضي على حالفها بموجبها، فإن لم يتضح المعنى الدقيق الذي صاغ به الحالف رغبته، أو اتخذ به قراره -وجب الرجوع إلى المعنى الذي يعطيه العرف لهذه الصيغة، في بيئة الحالف، وهم يأخذون الصيغة بمعناها العادي الأكثر شيوعًا، وبذلك يحاولون، من ناحية إلى أخرى، أن يتعرفوا على نية الحالف بكل الوسائل المحتملة، ليحكموا عليه نتيجة هذا التعرف، وهم لا ينتقلون إلى مرحلة أبعد إلا عند استحالة الوقوف عند أخرى أقرب2.

_ 1 استثنينا اليمين المؤداة أمام المحكمة؛ لأنها كما قال ابن رشد في "البداية 1/ 428" من أنهم اتفقوا على أن "اليمين على المستحلف" في الدعاوى وهو مقياس ثابت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وبموجبه يصبح من العبث اللجوء إلى ألفاظ غامضة، أو إلى قيود ذات وجهين، لتحاشي الكذب الصريح. والواقع أن اليمين يجب أن تحمل على المعنى الذي يقصده الطرف الذي يطلبه، فإلى جانب الحديث: "اليمين على نية المستحلف"، وقد رواه "مسلم في كتاب اليمين, باب 4"، نجد حديثًا آخر في نفس المرجع "يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك" فإذا تكلمت بلغة الآخرين، وقصدت بكلامك معنى آخر، فمعنى ذلك أنك تغشهم، وتغالطهم، وحرام كما قال الغزالي: أن تلبس في أمر الدنيا، حتى لو قضى دين جماعة، وخيل للناس أنه متبرع عليهم ليعتقدوا سخاوته أثم، لما فيه من التلبيس وتملك القلوب بالخداع والمكر "الإحياء 3/ 293" ومع ذلك فقد يعفى عن استخدام هذه المعاريض في حالة ضرورة إنقاذ المرء نفسه من ملاحقة ظالمة. 2 ذكر أبو الوليد ابن رشد في البداية 1/ 428 قوله في هذا الصدد: "وأما مالك فالمشهور من مذهبه أن المعتبر أولًا عنده في الأيمان التي لا يقضي على حالفها بموجبها هو النية، فإن عدمت فقرينة الحال، فإن عدمت فعرف اللفظ، فإن عدم فدلالة اللغة. وقيل: لا يراعى إلا النية، أو ظاهر اللفظ اللغوي فقط. وقيل: يراعى النية، وبساط الحال، ولا يراعى العرف". وقد ذكرنا هذا النص ليتضح أن المؤلف اجتزأ في تقديم رأي المالكية ببعض ما تذرعوا به إلى معرفة حقيقة اليمين، ليمكن إصدار حكم معين على أساس نية الحالف، وهذا في غير أيمان القضاء. "المعرب".

ويأتي الأحناف والشافعية على النقيض من ذلك تمامًا، فهم قلما يعنون بمثل هذا التفتيش عن المعنى، الذي لا بد أن الحالف أراد أن يعبر عنه، وإنما يدخلون مباشرة في الكلمات المنطوقة، ويتمسكون بمعناها الحرفي، ومن ثم كان على الأحناف أن يصوبوا شرعًا جميع المنافذ والحيل، ما دامت لا تصطدم بحرفية أقوالنا. الأمر الذي جعل ابن حنبل، إمام المذهب السلفي المتشدد، يقول فيهم قولته المشهورة: "عجبت مما يقولون في الحيل والأيمان، يبطلون الأيمان بالحيل"1. بيد أن أكثر ما يدهش في موقف الأحناف هو أنه قليلًا ما يتسق مع نظريتهم العامة، الكثيرة الاعتماد على العقل. ونحن نعلم كيف كانوا في مواجهة النصوص المقدسة يمتازون بثاقب الفكر، محاولين دائمًا أن يدركوا علتها، ومستعملين غالبًا التعليل بالقياس، وربما أفرطوا في استعماله. ولكنهم حين يتعرضون لتفسير عقد، أو نذر، وبصفة عامة كل ما يقتضي جزاء أو كفارة، فإنهم كانوا يمسكون عن كل تفسير، ويقبلون جميع الوسائل الملتوية، بشرط واحد فقط، هو ألا تتعارض هذه الوسائل مع النص الجامد للقاعدة المقررة. ومن هنا نفهم الحدة والقسوة لدى أحد علماء المدرسة الظاهرية وهو ابن حزم، حين ذهب إلى حد اتهام أتباع المذهب الحنفي بأنهم لا يشجعون بطريقهم هذه على الرذيلة فحسب، بل إنهم يعلمون المجرمين كيف يرتكبون كل ما يريدون، من السرقة، وهتك الأعراض، والإرهاب، وقتل النفس، وهم آمنون من إقامة الحد عليهم، حتى لو أنهم أخذوا في حالة تلبس2.

_ 1 الموافقات الشاطبي 1/ 290. 2 يحسن بنا أن نورد هنا حديث ابن حزم في هذا الموضوع بنصه، فهو معبر عن أقصى درجات القسوة في تناوله لمسائل الفقه وخلافياته، فكأنه ممسك بسوط، يهوي به على ظهور السابقين عليه من الفقهاء الأجلاء. حتى ليبلغ أحيانًا درجة الإسفاف في نعتهم، وتلك هي=

ولكي ننصف هذا الفقه، الذي هوجم بشدة -نلاحظ أولًا أن يقوم على وجهة نظر شرعية خالصة. والواقع أن ابن حزم في حدة اعتراضاته لم يمض إلى حد اتهام الحنفية بالرغبة في تسويغ تحايل متعمد على الشرع، فكل ما يأخذه عليهم هو أنهم يفوتون بعض الوقائع الإجرامية دون عقاب، حيث لا وجود -في رأيهم- لبعض شروط العقوبة، وأما كون هذا النقص قد حدث بطريقة طبيعية أو صناعية فشيء لا دليل عليه بداهة، والحنفية لا يريدون أن يفتشوا عنه, وربما كانت هذه نقطة ضعفهم.

_ =في رأينا نقطة الضعف في فقهه، على الرغم من فقهه، قال "المحلى 11/ 303": "وأما الحنفيون، المقلدون لأبي حنيفة في هذا، فمن عجائب الدنيا التي لا يكاد يوجد لها نظير، أن يقلدوا عمر في إسقاط الحد ههنا، بأن ثلاث حثيات من تمر مهر، وقد خالفوا هذه القضية بعينها، فلم يجيزوها في النكاح الصحيح مثل هذا وأضعافه مهرًا، بل منعوا من أقل من عشرة دراهم في ذلك. فهذا هو الاستخفاف حقًّا، والأخذ بما اشتهوا من قول الصاحب حيث اشتهوا، وتركوا ما اشتهوا من قول الصاحب إذا اشتهوا. فما أسوأ هذا دينًا، وأف لهذا عملًا، إذ يرون المهر في الحلال لا يكون إلا عشرة دراهم لا أقل، ويرون الدرهم فأقل مهرًا في الحرام، ألا إن هذا هو التطريق إلى الزنا، وإباحة الفروج المحرمة، وعون لإبليس على تسهيل الكبائر، وعلى هذا لا يشاء زان ولا زانية أن يزنيا علانية إلا فعلا، وهما في أمن من الحد، بأن يعطيها درهمًا يستأجرها به للزنا، فقد علموا الفساق حيلة في قطع الطريق، بأن يحضروا مع أنفسهم امرأة سوء زانية، وصبيًّا بغاء، ثم يقتلوا المسلمين كيف شاءوا، ولا قتل عليهم، من أجل المرأة الزانية، والصبي البغاء، فكلما استوقروا من الفسق خفت أوزارهم، وسقط الخزي والعذاب عنهم، ثم علموهم وجه الحيلة في الزنا، وذلك أن يستأجرها بتمرتين وكسرة خبز ليزني بها، ثم يزنيان في أمن وذمام من العذاب بالحد الذي افترضه الله تعالى، ثم علموهم الحيلة في وطء الأمهات والبنات، بأن يعقدوا معهن نكاحًا، ثم يطئونهن علانية، آمنين من الحدود، ثم علموهم الحيلة في السرقة، أن ينقب أحدهم نقبًا في الحائط، ويقف الواحد داخل الدار، والآخر خارج الدار, ثم يأخذ كل ما في الدار، فيضعه في النقب، ثم يأخذه الآخر من النقب، ويخرجان آمنين من القطع، ثم علموهم الحيلة في قتل النفس المحرمة، بأن يأخذ عودًا صحيحًا فيكسر به رأس من أحب، حتى يسيل دماغه ويموت، ويمضي آمنًا من القود، ومن غرم الدية من ماله، ونحن نبرأ إلى الله تعالى من هذه الأقوال الملعونة ... إلخ", ولا شك أن حديث المؤلف يوضح موقف الأحناف دون تحامل. "المعرب".

بيد أن هذا الرفق فيما يتعلق بتطبيق الجزاءات، في الحالات المشتبهة، يتضح مع ذلك بسهولة، من خلال الشريعة الإسلامية ذاتها. ألم يحرم النبي -صلى الله عليه وسلم- انتهاك الحق المقدس لكل امرئ في الأمن، إلا بسبب صحيح, وكان من قوله فيما رواه ابن عباس, رضي الله عنهما: "فإن دماءكم وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرام" 1 وإذا كانت هذه المدرسة الحنفية قد شجعها شعور إسلامي عارم، باحترام شخص الإنسان، فقد أرادت إذن أن تلتزم بالبراءة الظاهرة، تاركة مسألة الباطن إلى الضمير الفردي. أليس كل ما يؤخذ على موقفها هذا هو أنها تمنح مزيدًا من الحرية إلى أولئك الذين لا يحسنون استعمالها؟ 4- نية إرضاء الناس "الرياء": بقي أمامنا أن نصف نوعًا آخر من الدوافع الأنانية، سيكون بالنسبة إلينا آخر ما نتحدث عنه، إنه نموذج آخر من الأنانية الجشعة، ولكن هذه الأنانية ليست معتدية، ولا جاحدة، ولا مادية، فهي أكثر نعومة وألفة. إنها تنبع من "حب الذات"، ذلك الإحساس الطبيعي، الذي يكون في بعض الظروف مشروعًا؛ على تفاوت في قدر هذه المشروعية، ولكن عيبه هنا هو أنه لا يفرض واجبًا، ومن ثم كان في غير محله. وإنما تتفاوت مشروعيته في ذاته؛ لأن من الضروري، لكي يعيش الإنسان في مجتمع، أن يطمئن إلى حد أدنى من محبة قلوب الآخرين، حد أدنى من الاعتبار في نظرهم، بقدر ما هو ضروري أن يتنفس لكي يعيش بدنيًّا.

_ 1 البخاري, كتاب الحج, باب 132.

أليس من المسموح به، بل من الموافق للسُّنة الحسنة أن يكون المرء أكثر حرصًا على هيئته الظاهرة، وطريقة لباسه في المجتمع، من حرصه على ذلك مع من يألفهم، وهو أمر أكدته السُّنة، فلقد "كان -صلى الله عليه وسلم- يلبس رداء إذا خرج"1 كما ينبغي على المرء أن يكون أحرص على ذلك في المجتمعات منه في العمل، وهي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي قال: "ما على أحدكم لو اتخذ ثوبين لجمعته، سوى ثوبي مهنته" 2. ولكن أداء المرء لواجبه نحو الله، ونحو الأقربين، بنية أن يكون شخصًا بارزًا في الناس، ينظرون إليه بإعجاب، ويقولون فيه خيرًا -فتلكم هي الأنانية المنكرة، وإن ارتدت ثوبًا مفرطًا في الرقة. وليس المرائي، كما ينبغي أن نوضح، من يتخذ هيئة متكلفة، ويقوم بحركات ظاهرة لا تتفق مع ما في قلبه وفكره، وباختصار: من يظهر خلاف ما يبطن، ليخدع الناس، ففي هذه الحالة يتخذ الرياء اسمًا آخر أكثر إجرامًا هو "النفاق" والنية السيئة التي تحركه أكثر عمقًا، هي تلون المنافقين. فرذيلة "النفاق" مركبة؛ أما رذيلة "الرياء" فبسيطة. فالمرائي يبسط للناس مفاخره، دون تلبيس لفكره، أو إخفاء لمشاعره الخاصة تحت ظواهر خادعة، إنه يبسطها حتى يراها الناس، ويعجبوا بها؛ فهو يشعر بالحاجة إلى

_ 1 البخاري, كتاب اللباس, باب 7، ونص رواية البخاري: أن حسين بن علي أخبر أن عليًّا -رضي الله عنه- قال: "فدعا النبي -صلى الله عليه وسلم- بردائه، ثم انطلق يمشي ... إلخ" ومفهوم ذلك أنه كان إذا خرج يلبس رداءه. "المعرب". 2 الموطأ 1/ 133.

تشجيع خارجي يستثير جهوده، وهو لا يجد لديه من القوة الخاصة المحركة ما يكفي لحفزه إلى أداء واجباته، ولا يجد هذا الحافز إلا حيث يوجد الاستحسان، والإعجاب، والمدح، والتصفيق، وسائر ردود الفعل المماثلة، التي يتنفس بعدها الصعداء. هذا النوع من التطفل الأخلاقي، لا ينبغي أن نتوقع له شيئًا من الإغضاء، على الرغم من مظهره الوادع؛ ولقد حكم القرآن على الأنفس التي تنشد ثمن الفضيلة في تقدير الناس حكمًا قاسيًا، غاية في القسوة، فأعلن أن أعمالهم هباء وباطل. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} 1، فهم {لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} 2، وأعلن أن أشخاصهم مستحقون للويل: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ} 3. ويعد الحديث بين أوائل من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة: أولهم: "رجل استشهد، فأتي به، فعرفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار". وثانيهم: "رجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به، فعرفه نعمه، فعرفها، قال: فما فعلت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار".

_ 1 البقرة: 264. 2 الآية السابقة. 3 الماعون: 4-6.

وثالثهم: "رجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن يُنفَق فيها، إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أُمِرَ به فسحب على وجهه، ثم أُلقي في النار، أولئك أول خلق الله تسعر بهم نار جهنم" 1. ومن الواضح أن الناس، في هذه النيات الخربة، قد أصبحوا موضوع عبادة مشترك مع الله سبحانه، وقد شبه الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذه الرذيلة بعبادة الأوثان، وأسماها: "الشرك الأصغر"2. وقد خصص الأخلاقيون المسلمون، وبخاصة المحاسبي, والغزالي فصولًا ممتازة لبحث منابع هذا الفساد القلبي، وأشكاله، وأدويته. ولما كان هدفنا الجوهري أن نستنبط المبادئ العامة الموجودة في القرآن, فإننا نحيل القارئ إلى هذين المؤلفين بالنسبة إلى كل المسائل التفصيلية.

_ 1 صحيح مسلم, كتاب الجهاد وكتاب الإمارة, باب 43. 2 مسند أحمد 5/ 428-429 من حديث محمود بن لبيد بن عقبة بن رافع الأوسي الأشهلي. "المعرب".

إخلاص النية واختلاط البواعث

هـ- إخلاص النية واختلاط البواعث: وإذن، فالنية توصف بأنها حسنة، أو عادية، أو سيئة، تبعًا لما إذا كانت طاعة الإنسان من أجل ذاته، أو كانت ذات هدف نفعي، مشروع، أو غير مشروع. هذا التشريع يفترض أن تحكم الإرادة بمبدأ وحيد، صحيح، أو غير صحيح، وليس بوسعنا أن ننكر الإمكان النظري لهذا الإفراد، ولكن أدنى ما يمكن أن نقوله هو أنه نادر إلى أقصى حد.

وأكثر الحالات ورودًا هي الحالة التي تصطرع فيها أسباب كثيرة لصالح قرارنا، فماذا يمكن -تبعًا للمبادئ القرآنية- أن تكون القيمة الأخلاقية لقرار معين تشترك فيه مجموعة من البواعث؟ لنذكر أولًا النصوص التي سبق ذِكْرُنَاهَا1، والتي لا يمجد القرآن فيها فحسب، بل يطلب منا بقوة، أن يكون لنا قلب خالص من تأثير الدنيا، ومن أهوائه الخاصة، قلب يتخذ من الله -عز وجل- الهدف الوحيد لأعماله. وهذا هو مجموع الشروط التي تتحدد بها صفة "الخضوع الخالص" والتي قال الله عنها بأن وجود الإنسان على الأرض ليس له من سبب آخر سواها2. ولقد يحاول امرؤ أن يبدو مترددًا بصدد المدلول الحقيقي لهذه الأقوال، فيقول لنا: ربما كان الغرض إقصاء الوثنية السفيهة، التي هي إدخال بعض المخلوقات هدفًا للتعبد في العمل العبادي، وهو ما لا يستتبع بالضرورة إدانة هذا الانحراف الدقيق للإرادة، الذي يتمثل في خليط من الدوافع إلى طاعة الله. ولسوف نجيب عن ذلك بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- بوصفه المفسر الأول للقرآن، قد فهم النصوص المذكورة على التحديد، بمعناها الشامل، وتدل الظروف التي بدأ فيها نزول بعض الآيات -أيضًا- على أن الاهتمام كان في المقام الأول بهذا الخليط من الدوافع، أكثر من أي شيء آخر. وتلك هي الحالة التي نزل بمناسبتها آخر آية من سورة الكهف، وإليك القصة: أخرج ابن أبي حاتم وابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص عن طاوس

_ 1 انظر فيما سبق 2، ب. 2 إشارة إلى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون} [الذاريات: 56] .

قال: قال رجل: "يا رسول الله، إني أقف أريد وجه الله، وأحب أن يرى موطني"1، فلم يرد عليه شيئًا حتى نزلت هذه الآية: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} 2. فإذا تركنا تفسير القرآن، إلى أقوال النبي -صلى الله عليه وسلم- وجدنا الكثير من هذه الأقوال، فقد روى البخاري ومسلم، واللفظ له عن أبي موسى الأشعري, رضي الله عنه: أن رجلًا أعرابيًّا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله, الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "من قاتل لتكون كلمة الله أعلى فهو في سبيل الله" , وفي رواية: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" 3. قال المحاسبي: "وأكثر العلماء يرون أنه أشد الحديث، إذ لم يجعل في سبيل الله إلا من أخلص، لتعلو الكلمة وحدها، ولم يضم إليها إرادة غيرها"4. وروى النسائي عن أبي أمامة الباهلي, قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: أرأيت رجلًا غزا يلتمس الأجر والذكر, ما له؟ فقال صلى الله عليه وسلم:

_ 1 مرسل، أخرجه الحاكم في المستدرك موصولًا، انظر: السيوطي, لباب النقول في أسباب النزول 146. 2 الكهف: آخر آية. 3 البخاري ومسلم, كتاب الجهاد؛ ومسلم, كتاب الإمارة, باب 42. 4 الرعاية لحقوق الله: 197، وفيه فيما يبدو خطأ مطبعي في قوله: "إذا لم يجعل" وما ذكرناه أنسب لأنه تعليل. "المعرب".

"لا شيء له"، ثم قال: "إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصًا، وابتُغي به وجهه" 1. وأكثر من ذلك صراحة أيضًا ذلك الإعلان الإلهي الذي نقرؤه في حديث قدسي، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه" 2. وهكذا نرى تبعًا لهذه النصوص أن جميع البواعث التي تنضاف إلى إرادة الطاعة تعرض قيمة العمل للخطر، وتحرمه من رضا الله تبارك وتعالى. بيد أننا ينبغي أن نسأل أنفسنا إذا كانت النفس حين تواجه هكذا بأشكال مختلفة من الواجب، فتنقاد لسلطان الأمر ولنهزته معًا -أتكون مستحقة للذم شأن النفس الخاضعة لأهوائها خضوعًا محضًا ومجردًا؟ إن هنالك حالة، مجمعًا عليها، لا يقلل تدخل الشعور الحسي فيها من قيمة الإرادة في شيء، وذلك عندما يكون القرار قد اتخذ بمقتضى الشرع، ولكنا على إثر استحسان غيرنا له نرتضيه أكثر، فالفائدة التي ننالها حينئذ في رأينا ليست السبب في عملنا، بل هي نتيجة له بصورة ما. وتلك هي الحالة الواردة في الحديث، حالة الرجل الذي قال: "يا رسول الله، أسر العمل، لا أحب أن يطلع عليه، فيطلع عليه، فيسرني ذلك". لقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- عن هذا الرجل: "له أجران؛ أجر السر، وأجر العلانية" 3.

_ 1 النسائي, كتاب الجهاد, باب من غزا يلتمس الأجر والذكر. 2 انظر مسلم, كتاب الزهد, باب 5، ونقله المؤلف: "تركته وشريكه" وهو مخالف لنص مسلم كما حققناه. "المعرب". 3 الترمذي, كتاب الزهد، باب أعمال السر، وذكره المحاسبي في الرعاية 192, تحقيق الدكتور عبد الحليم محمود وطه سرور.

إن المفسرين متفقون على أن هذا القول يصدق في حالة افتراض أن انكشاف السر لم يحدث إلا بعد أن تم العمل، فهل يصدق أيضًا في حالة ما إذا فوجئ الإنسان، وهو يؤديه؟ لقد أراد المحاسبي -بعد أن ذكر الخلاف في هذه النقطة- أن يحسم النقاش، فأحدث تفرقة نوافقه عليها، فهو يلاحظ في الواقع أن السرور الذي يحس به المرء حين يرى في طريق الخير، قد تكون له أسباب مختلفة، ليس لها كلها نفس القيمة، فمثلًا: قد يكون منبعًا للسرور الأخلاقي الحقيقي أن يعطي المرء القدوة الصالحة من نفسه للآخرين، لا لكي ينال الحظوة عندهم، بل لكي تجد الفضيلة بهذه الوسيلة أكبر عدد من المشايعين لها، والعاملين بها. ولكنه ليس محظورًا أن يرتضي المرء هذا الانكشاف غير المتوقع، والذي لم يحاوله، حين يرى فيه نوعًا من الأجر الإلهي، أو دليلًا على أن مآثره الصالحة أهل لاستحقاق رضوان الله. أما فيما يتعلق بسرور الإنسان الطبيعي بأن يكون مقدرًا في الناس، فذلك معدود دائمًا نقصًا بالنسبة إلينا، ولكنه لا يعتبر محرمًا إلا إذا توقفنا عنده وقنعنا به، فإذا ما اختزل إلى شعور لاإرادي، وعابر، ترددنا في المبالغة في خطورته، وهو ما لم يمنع الأنفس الكبيرة من أن تتألم منه، وتود لو أفلتت من إساره تمامًا1. فإذا ما نحيت هذه الحالات، فإن المشكلة الحقيقية تكون حين تسبق النظرات النفعية العمل، ثم تصبح إلى حد معين من بين الأسباب التي تفرضه، فذلك هو ما يطلق عليه بالمعنى الصحيح: "اختلاط البواعث".

_ 1 ومن ثم نقرأ في دعاء من أدعية السُّنة: "وأستغفرك لكل خير أردت به وجهك فخالطني فيه ما ليس لك".

ولقد سبق أن قلنا: إن النية المسبقة يجب أساسًا أن تكون خالصة، ليصدق عليها أنها حسنة. ولكن أهذا الصفاء المطلق واجب محتم، لا يتضمن درجات، ويعتبر إهماله حرامًا يتساوى في خطورته مع السعي الخالص والمجرد إلى المنفعة؟ ثم نسأل أولًا: هل الفطرة الإنسانية قادرة دائمًا على نوع من التجرد كهذا، وهل هي تضحي بنفسها تضحية كاملة من أجل مثلها الأعلى، دون أن تجد فيه في الوقت نفسه ما يجذبها إليه؟ وأيًّا ما كانت الطريقة التي سوف يجاب بها عن هذا السؤال، فإننا نبادر إلى القول بأننا نعتقد أن المبادئ القرآنية تدعونا إلى أن نكون أقل تشددًا بالنسبة إلى المواقف المتوسطة، منا بالنسبة إلى الطرف المقابل. والواقع أنه إذا لم يكن الشيء داخلًا في نطاق قدرة النفس، وإذا كان من المقرر الثابت -من ناحية أخرى- أنه لا أحد يمكن أن يكلف إلا في حدود وسائله، فيجب بداهة أن نفسر جميع الأقوال التي تتطلب هذا الإخلاص المطلق على أنها بناء لنقطة الذروة في القيمة، التي يجب أن تسعى جهودنا نحوها، دون أن تبلغها أبدًا. ولسوف يكون الابتعاد عن هذا المثل الأعلى بلا شك "عيبًا"، ولكنه لن يكون "ذنبًا"، سوف يكون نقصًا ولكنه لن يكون فسادًا وخروجًا عن الأخلاق. ولا حاجة مطلقًا إلى أن نكره النصوص لتفسيرها على هذا النحو، إذ يكفي أن ننظر إلى الفروق في اللهجة التي يصدر بها الحكم بسوء النية، والحكم بالنية المختلطة. فمتى ما بدا اختلاط البواعث، لاحظنا الاختفاء المنهجي لذلك النذير بالعقاب، الذي تستتبعه النوايا الآثمة، ورأينا النصوص تقتصر على القول بأن ذلك لا يستحق أن يوصف بأنه "في سبيل الله"، أو أنه

"لا يرضي الله"، أو أنه "لا يستحق لديه أجرًا"، أو أن "الله غني عنه" ... إلخ. وما أشبه ذلك من الصيغ المخففة، التي لا تثبت للعمل صفة الإثم، وإن كانت قد خلعت عنه القيمة الإيجابية. فأما إذا ثبت أن الفكرة المحضة للواجب تستطيع أن تتقدم وحدها في قراراتنا، على جميع الأفكار سواء أكان ذلك بنوع من الاستعداد الفطري، أما كان بوساطة تكرار الجهد، وإذا ثبت أن كل تشويه يخالط نقاءها لا ينتج إلا عن إهمال ناشئ عن خطأ -فهذه نقطة يجب أن تؤخذ حينئذ في الاعتبار، ويتعين أن ننظر في درجة الذنب. كيف لا نفرق -في الواقع- في حكمنا على نفس حالكة السواد، شديدة الفساد، وأخرى تحاول في صراعها مع الإغراءات الخاصة -أن تخفف، أو توازن، أو تمحو الشر بالخير؟ أوَلم يحدثنا القرآن عن أولئك الذين {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} 1؟ والحق أن هذه الآية تتحدث عن عملين منفصلين، أو لهما سيئ، والثاني، وهو الذي يتمثل بخاصة في الاعتراف بالذنب، وفي التوبة عنه؛ وظيفته أن يكفر عنه، على حين أن الحالة التي تشغلنا هنا، كما يجب أن نعترف، مختلفة عن ذلك: فهي لا تتصل إلا بعمل وحيد، هو نفس العمل، مدفوعًا بنية مختلطة، تأخذ من الحسن والقبح معًا. لكن ذلك فيما نعتقد ليس سوى تفصيل، فالتماثل جوهري بين الحالين، بحيث توجد فيهما دائمًا عناصر متنافرة في مجموع العمل، وبحيث إن وجود بعض الأشياء المقبولة بين هذه العناصر يجعلنا نأمل في رد فعل أكثر رحمة، لدى الحكم الأعظم، عز وجل. وأما أن يظهر هذا الاختلاط في جزء واحد، أو في أجزاء مختلفة فقليلًا ما

_ 1 التوبة: 102.

يهم: ذلك أن التحليل الدقيق الذي يقوم به الحكم لن يكون أكثر تدقيقًا في حالة منه في حالة أخرى، لكي يميز فيها الظروف المخففة أو الملطفة. فإن القرآن يؤكد لنا في مواضع كثيرة أن الحكم الأخير سوف يصدر في ظروف توزن فيها أقل التفاصيل التي للإنسان أو عليه، أي: إن شيئًا مما يكون في صالحنا لن يضيع، حتى لو كان مثقال ذرة. ولقد استطاع الغزالي، انطلاقًا من هذا المبدأ القرآني أن يضع في هذا الموضوع نظرية راعت إلى حد كبير تنوع المواقف، وهي جديرة أن يوقف عندها. يرى هذا المؤلف أن من الواجب أن ندرس درجة تأثير كل عنصر من هذا الخليط، مأخوذًا أولًا على حدة، كما لو كان موجودًا وحده في مجال الضمير، ثم يؤخذ بعد ذلك في علاقته بالعنصر الآخر، ومن هذا الدرس، وتلك المقارنة تنتج ثلاث حالات ممكنة: فإما أن يكون كل من الباعثين قويًّا، حتى ليستطيع أن يدفعنا إلى العمل لو كان منفردًا1، وإما أنهما لا يكسبان هذه القوة إلا باجتماعهما، وإما أن أحدهما فقط يملك هذه الطاقة، والآخر ليس سوى قوة مكملة، عاضدة ومعاونة، تجعل مهمة الأول أكثر يسرًا. ويمضي في تصوير هذه الحالات، بتسمية الحالة الأولى: مرافقة، والثانية: مشاركة، والثالثة: معاونة. وعلى الرغم من اختلاف هذه الحالات في طبيعتها، فإن الأولى والثانية يجب أن يندرجا في مجموعة واحدة، هي: حالة المساواة "سواء أكانت مساواة في الفعل أم في الترك". وبعكس ذلك تنقسم الحالة الثالثة إلى نوعين

_ 1 أو بتعبير الغزالي: "بحيث لو انفرد لكان مليًّا بإنهاض القدرة" الإحياء 4/ 354.

مختلفين، تبعًا لما إذا كانت السيطرة والتفوق من حظ القوة الأخلاقية، أو من حظ قوة الهوى والعاطفة، فلم يبق للحكم على هذه المجموعات الثلاث، بعد تحديدها سوى أن ننصب الميزان، ثم نرى أي الكفتين سوف يرجح. ومثال ذلك -على ما ذكر هذا الأخلاقي- أن زيدًا من الناس سألك حاجه، ولنفترض أنه يستحقها بوصفين: الفقر الذي أصابه، ووشيجة القرابة التي تربطه بك، فقضيت حاجته. فلكي تقيس قيمة عملك ليس أمامك سوى أن ترجع إلى التجربة التي تجريها على نفسك، فإن كنت متأكدًا أنك حين يتقدم إليك أجنبي في حال الفقر ذاتها، أو حين يتقدم إليك أحد أقربائك الموسرين -يسألك نفس الحاجة، فإنك تحس نفس الهزة والأريحية، ففي هذه الظروف نحكم بأن في كل من الباعثين، إذ انفرد، سلطة متساوية على نفسك، وقد اجتمعا جميعًا، فأقدمت على الفعل، وكان الباعث الثاني رفيق الأول1. وكذلك الأمر في حالة العكس، حين لا يظفر الأجنبي الفقير، ولا القريب الغني بإحسانك، فإن الأسباب المنفردة تكون عديمة الفاعلية بدرجة متساوية. فأما إذا كنت تعرف مثلًا أن فكرة شقاء الغير تكفي -منفصلة عن أي اعتبار- لغرض إحسانك، وأن رباط القرابة لا أثر له سوى تسريع حركتك، دون أن يطيق إثارتها وتفجيرها -حينئذ تجب التفرقة بين جانبين

_ 1 قدم الغزالي مثالًا آخر من ترافق البواعث بالصورة التي حددها، فقال: "وكذلك من أمره الطبيب بترك الطعام، ودخل عليه يوم عرفة فصام، وهو يعلم أنه لو لم يكن يوم عرفة لكان يترك الطعام حمية، ولولا الحمية لكان يتركه لأجل أنه يوم عرفة، وقد اجتمعا جميعًا، فأقدم على الفعل ... " انظر: الإحياء 4/ 354. "المعرب".

في نيتك، جانب رئيسي متغلب متفوق، وجانب آخر مساعد، خاضع له. ومن البديهي أنه في حالات تساوي التأثير بين الواجب والمنفعة يجب أن ينظر إلى العمل على أنه باطل، فالخير والشر يتقاصان، ويتزايلان، فإذا رجح الباعث الأخلاقي كان له أجر، ولكنه نظير فضل من القوة، بالنسبة إلى دافع الهوى. وبعكس ذلك لو أن باعث الهوى كان أقوى من باعث الواجب، فإن العمل يكون مستحقًّا للعقوبة، ولكنها أقل مما إذا كان مفروضًا بسبب خبيث. ذلك أنه كما أن أصغر كمية من الغذاء، أو الدواء، لا بد أن تحدث تأثيرها الطيب، أو السيئ، على أبداننا، فكذلك لا بد أن يضفي أقل ميل للإرادة، وأخف اتصال لها بالخير أو الشر، على أنفسنا قدرًا مساويًا من النور أو الظلام، من القرب أو البعد عن الله. ويتساوى في ضعف الاحتمال أن تسحق كثرة الشر سحقًا كاملًا قلة الخير، أو أن تمحو قلة الشر محوًا كاملًا كثرة الخير، إذ لو حدث هذا لوضعنا الشرع في مأزق حرج، ولحرمنا من كل أمل ولن تستطيع النفس الإنسانية أن تفلت من هذا الخليط إلا في ظروف نادرة1. ولكي ندعم هذه النظرية، يمكن أن نستمد دليلًا إيجابيًّا من القرآن الكريم، عندما يبيح للحجيج أن يشتغلوا بحياتهم المادية، خلال سفرهم

_ 1 هذا الظرف النادر هو حالة الإخلاص الكامل لوجه الله تعالى، وهي حالة التجرد المطلق من كل البواعث الدنيوية، يقول الغزالي "الإحياء 4/ 368": والإنسان مرتبط في حظوظه، منغمس في شهواته، قلما ينفك فعل من أفعاله، وعبادة من عباداته عن حظوظ وأغراض عاجلة ... حتى قيل: "من سلم له من عمره لحظة واحدة خالصة لوجه الله نجا، وذلك لعزة الإخلاص". "المعرب".

"بالتجارة مثلًا"، إلى جانب اشتغالهم بواجباتهم الروحية، وذلك قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} 1، ولكن على شرط أن تكون الواجبات الروحية هي المحرك الأول2. أما فيما يتعلق بالنصوص التي عرفناها من قبل، والتي تحكم بالبطلان على كل شرك في البواعث -فيجب، كما ذكر الغزالي، أن نقيدها بالحالة التي تبدو فيها هذه البواعث متساوية، كما تدل عليه كلمة "شرك" عادة3. والغزالي -على الرغم من الطابع العقلي والنقلي معًا لهذا التصنيف، والذي يبدو لنا عند التجريد ذا سمات صحيحه منزهة- لا يدعي بتقديمه أنه قد وجد الحل العملي النهائي للمشكلة، والمقياس الصحيح الذي يمكننا من الحكم على أنفسنا بأنفسنا، على طمأنينة. بل إنه -على العكس- يحذرنا من "الخطر العظيم" في أن نركن إلى أحكامنا الخاصة، التي قد تجعل هذا العنصر أو ذاك أغلب على قصدنا بين مجموع البواعث. ثم يقول: "نعم، الإنسان فيه على خطر عظيم؛ لأنه ربما يظن أن الباعث الأقوى هو قصد التقرب إلى الله، ويكون الأغلب على سره الحظ النفسي، وذلك مما يخفى غاية الخفاء، فلا يحصل الأجر إلا بالإخلاص، والإخلاص قلما يستيقنه العبد من نفسه، وإن بالغ في الاحتياط"4.

_ 1 البقرة: 198. 2 ربما ذكرنا في هذا الصدد أيضًا قوله تعالى في سورة [الحج: 27-28] : {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} وإن لحظنا تقدم الجانب المادي على الجانب الروحي في نسق الآية. "المعرب". 3 انظر: الإحياء 4/ 368. 4 الإحياء 4/ 374.

وقد سبق هذا الشك أيضًا لدى المحاسبي، ولكن بصورة تذكرنا بالنظرية الديكارتية عن الدليل النظري، فهو مع اعتقاده أنه من الممكن، بل مما تفرضه الضرورة الأخلاقية -ألا نبدأ عملًا إلا عن يقين بأننا نقصد به وجه الله وحده، إلا أنه يرى أن انقضاء بعض الوقت قد يتيح الفرصة للنسيان أو الغفلة، مما يستوجب خوفنا من تسرب بواعث أخرى إلى نفوسنا لا نكون متنبهين لها1، كالارتياح والسرور باطلاع الناس على أعمالنا، أو ركون القلب إلى شيء من ذلك مما لا يلتفت إليه، ثم لا نزال حذرين حتى نفرغ، ثم نمسك عن إظهارها، يقول المحاسبي: "فإذا مضى عليه وقت من الأوقات، ولو كان كطرف العين، مما يمكن المخلوق فيه النسيان والسهو، فالخوف أولى به؛ لأنه لا يدري لعله قد خطرت خطرة بقلبه: رياء أو عجب، أو كبر، أو غيره، فقبلها وهو ناسٍ، لا يذكر أنها رياء، فيكون مشفقًا، خائفًا، فالخوف على عمله، والوجل والإشفاق من أجل ذلك، بل الأمل والرجاء أغلب وأكثر؛ لأنه قد استيقن أنه قد دخله بالإخلاص لله وحده، ولم يستيقن أنه راءى بشيء منه، فالإخلاص عنده يقين، والرياء هو منه في شك، فخوفه إن كان قد خالطه رياء كان ذلك الخوف مما يرجو أن يصفيه الله له، لإشفاقه على ما لا يعلم فيه، فبذلك يعظم رجاؤه، وإن لم يكن خالطه رياء فذلك زيادة على عمله، وعبادة منه، وكلما أشفق ازداد نعيمًا بالطاعة، وأملًا في الله عز وجل، إذا أيقن أنه دخله بالإخلاص، وختمه بالإشفاق والوجل من علم الله عز وجل، فبذلك يعظم رجاؤه وأمله، ويتنعم بطاعة ربه عز وجل"2.

_ 1 ومع ذلك فلا يبدو المحاسبي متشددًا في مسألة معرفة ما إذا كان يجب أن يكون لكل عمل نية جديدة. مؤكدة الإخلاص، فعلى الرغم من أنه يفضل أن يكون ذلك كذلك -يكفي، كما يؤكد، أن يصدق المرء في نية العامة، بألا يطيع الله إلا لذاته، ومتى شعر بسيطرة فكرة أخرى وجب أن يدفعها بازدراء، مجددًا نيته في ألا يعمل إلا لله. "المحاسبي, الرعاية 200". 2 السابق 198 و199.

خاتمة

خاتمة: إن المسألة التي وضعناها أمام أنفسنا في نهاية الفصل السابق -قد وجدت هنا إجابتها، بأكثر الطرق تفصيلًا وتحديدًا. وليس يكفي أن نقول: إن الأخلاق الإسلامية لا تقيم وزنًا مطلقًا لعمل مقتصر على تعبيره المادي المحض، حيث ينعدم وعي الضمير به انعدامًا تامًّا. وليس يكفي كذلك أن يكون لعمل ما حقيقة نفسية مزدوجة، أعني أن يكون شعوريًّا وإراديًّا معًا، لكي يثبت وجوده أخلاقيًّا. فهذا الوجود يفترض أن يدخل في الضمير عامل جديد تمام الجدة. فمتى ما كان المرء أمام واجب عمل، فإن العمل المطلوب "يجب أن يتصور في علاقته بقانون"، ومن حيث هو مطابق لقاعدة ما، يجب أن تدخل فكرة الواجب في فلك الضمير، وأن تكون جزءًا من هدفه. وأي تصور لها على غير هذا النحو، أعني أن تتصور من جانبها العادي، وفي تحديدها المادي، فذلك معناه أن العمل يبقى خارج مجال الأخلاقية، فهو حدث "دنيوي". هذه النظرة العقلية إلى الطابع الأخلاقي للعمل ليست فقط ضرورية

لتخصيصه بصفته الأخلاقية بعامة، ولكن هذه الصفات الأخلاقية سوف يحكم عليها فعلًا بالطريقة الدقيقة التي نقدر بها غالبًا مشروعاتنا. ولا ريب أن الأخلاق الإسلامية لا تذهب إلى حد أن تتخذ من مفاهيمنا الأخلاقية معيارًا وحيدًا، يعفينا من مطابقتها للشريعة الموضوعية في ذاتها، ولكنا نجد، من ناحية، أن نيتنا الحسنة يمكن أن تعذرنا في حالة الجهل الذي لا يدفع، ومن ناحية أخرى، حين تتعارض المطابقة الواقعية مع مفهومنا الذاتي، أعني حين نؤدي عملًا نعتقد خطأ أنه غير مشروع، فإن هذه النية السيئة تكفي لإدانة سلوكنا، الذي هو غاية في الصواب في الواقع. على ذلك انعقد "الإجماع"، ولا حاجة بنا إلى مزيد من القول لإثبات تفوق النية على العمل. وهكذا نجد أن الشرط الأولي للفعل الأخلاقي هو وجود إرادة تشرع في العمل في علاقته بالقاعدة، وبهذه الصفة على وجه التحديد. ولكن، إذا كان هذا الإدراك شرطًا ضروريًّا فإنه ليس الشرط الكافي لتوفير نية حسنة من الناحية الأخلاقية، فإن هناك، فوق الاختيار الأخلاقي للموضوع المباشر "وهو العمل"، اختيار الهدف البعيد "الغاية" وفي هذا الاختيار تتمثل النية الأخلاقية بأخص معانيها. فما القاعدة التي يجب أن تسيطر على هذا الاختيار؟ لقد رأينا كيف استخدم القرآن، خلال تعليمه الأخلاقي جميع وسائل الإقناع القادرة على أن تكسبه كل العقول وقلنا: "إن جلال الأمر الإلهي، ومطابقته للحكمة، وتوافق موضوعه مع الخير في ذاته، والرضا الذي يمنحه لأشرف المشاعر وأرقها، والقيم الأخلاقية التي يؤدي تطبيقه إلى إضفائها على

النفس، والغايات العظيمة في هذه الدنيا، وفي الأخرى ... كل ذلك يسهم في دعم سلطان الواجب القرآني"1. هذه الطريقة في تصوير الشرع لا تحسم مسألة معرفة ما إذا كانت البواعث التي استخدمها الشارع لتسويغ أوامره يمكن بطريقة صحيحة أن تكون للإنسان بمثابة مبدأ يحكم إرادته للطاعة. فهل من حقه عندما يواجه حالة اتخاذ قرار أخلاقي أن يستقي دوافعه من أي مصدر من هذه المصادر بلا تمييز، إن لم يكن من غيرها أيضًا؟ ذلكم هو السؤال الذي طرحناه من قبل، والذي خصصنا لحله هذا الفصل. وبوسعنا الآن أن نقول، والنصوص في يدنا: ماذا يكون الحل؟ فإن القرآن لم يبق من كل البينات المطروحة أمام العقل إلا على نقطة واحدة، يفرضها على الإرادة الطائعة، باعتبارها الهدف المفرد الصحيح، والمبدأ الوحيد الذي يجب أن تستلهمه في العمل: "اعمل وغايتك الله وحده"، وتلكم هي القضية التي لا يفتأ القرآن يرددها في مواضع مختلفة، وبنفس الألفاظ تقريبًا. فلم يرد في القرآن مطلقًا هذا التعبير الغائي: "افعل هذا من أجل ذاك"، مما موضوعه المباشر منفعة شخصية أو عامة، حسية أو معنوية. أما الخير المحسوس فليس هناك نص يقترحه، لا هدفًا مبدئيًّا، ولا تكميليًّا. بل إن مما يزيدنا إعجابًا أن الخير الأخلاقي، الذي ينشده الحكماء بوصفه أعلى الدرجات، وذلك مثل الكمال الذاتي، والتضحية من أجل الآخرين، هذا الخير الأخلاقي لا يبرز في القرآن على مستوى النية إلا كقيمة من الدرجة

_ 1 سبق هذا القول في ص323 من الأصل مع اختلافات يسيرة، راعيناها التزامًا بطريقة تعبير المؤلف. "المعرب".

الثانية، كإضافة خاضعة للمبدأ الأسمى، ألا وهو: رضوان الله العلي الأعلى. وإذن، فماذا يبقى لكي نخص به الفطرة، على صعيد القيم الأخلاقية؟ لا شيء. ألا يوجد استثناء من أجل البحث عن السلام، وعن السعادة الموعودة؟ لا. ولكن، فيم إذن الخلاف في هذا الصدد بين المتطرفين والمعتدلين؟ هذا الخلاف لا ينصب إلا على طرف جانبي من المسألة، ولا يقلل صرامة النتيجة التي انتهينا إليها في شيء، فبعضهم يرى أن ما سوى المبدأ الأسمى ذل ودناءة، وضياع للقيمة، وآخرون يرون أنه تفاهة ونفي للقيمة. فالذين يبحثون عن القيم العليا الخالدة، مفضلين إياها على الملذات العابرة، يعرفون بكل تأكيد، الشروط الواجب توفرها لهذا الاختبار، فإن المقاعد محجوزة للقلوب المخلصة، المتوجهة إلى الله. فليس يكفي إذن أن يكون للإنسان نشاط مستنير، واعٍ بذاته، وبعلاقته بالشرع، يقظ للأمر الإلهي كنموذج يتبع، وإن انقاد لمبدأ آخر غريب عنه، بل يجب أن يكون هذا النشاط متحركًا، مهتديًا، متأثرًا بهذا الأمر العظيم ذاته. يجب أن يصبح هذا الأمر، للنظر المتأمل محركًا. يجب أن يتحول هذا النور إلى قوة. يجب أن يكون الموضوع المباشر، في نفس الوقت الغاية الأخيرة.

وإنا لنستطيع بفكرة الواجب، من حيث هي موضوع مباشر، أن نستهل الحياة الأخلاقية: "مرحلة الصحة". ونستطيع بها، من حيث هي "غاية أخيرة"، أن نبلغ ذروة "القيمة". ولقد كان "كانت" على صواب في هذه النقطة، ولكنه لم يفعل سوى أن قلد وجهة نظر الأخلاق الدينية، وإن عراها من جوهرها الحيوي.

الفصل الخامس: الجهد

الفصل الخامس: الجهد مدخل ... الفصل الخامس: الجهد الآن وقد ميزنا بصورة كافية، بين عنصرين متميزين في البناء الأخلاقي، هما: "النية" و"العمل"، وبعد أن حددنا الدور المزدوج "للنية"1 يبقى علينا أن نجلو الأهمية الفائقة للعنصر الثاني: "العمل"، وهو السلاح الوحيد، الهجومي والدفاعي، في معركة الفضيلة. والواقع أن المدد الوحيد في يد الإنسان لكي يصل إلى غاياته، وواجبه الوحيد في الوقت نفسه -منحصر في أن يستعمل قواه المعنوية والمادية، القادرة على هدايته إليها، سواء أكانت الغاية أن يتخذ قرارًا أخلاقيًّا، أو أن ينفذه، وسواء أكان يريد إصلاح خلة باطنية، أو تزكية نية. وربما كان من غير المفيد، وغير المعقول، على سواء، أن يمارس الإنسان نشاطًا، أيًّا كان، لكي يكسب الفضيلة، لو كانت النفس الإنسانية ذات طبيعة كاملة مكملة، أو إذا كانت هذه الطبيعة برغم ما فيها من نقص، غير قادرة على التطور. فضرورة تدخلنا المؤثر تنطوي إذن على مسلم مزدوج، هو أن الكائن الأخلاقي قد خلق ناقصًا، وقابلًا للكمال في آن. فهو بذرة تنطوي على جميع عناصر الكائن بأكمله، وتشتمل تقديرًا، وفي حيز القوة، على شروط نموها.

_ 1 من حيث هي شرط صحة، وشرط قيمة للسلوك.

كلها، ولكنها في انتظار ظهور عمل حر وإرادي، حتى تحول هذه الشروط التقديرية إلى واقع فعلي. فأما أن هذا فعلًا هي حالة الكائن الأخلاقي فذلك هو ما يبدو أن القرآن قد دل عليه دلالة كافية بالآيات الآتية: فمع أن الإنسان -من ناحية- قد ولد محرومًا من جميع المعارف العقلية والحسية، فإنه قد زود بملكات قادرة على أن تقدم له ما يتمنى من هذه المعارف: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} 1. ومتى ما صاغ الله نفس الإنسان وسواها استودعها فكرتي الخير والشر: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} 2. فذلكم هو مجموع الوسائل التي تتصرف فيها كل نفس إنسانية، وبفضلها تستطيع أن تتصور مباشرة المثل الأعلى الذي تسعى إليه، وأن تشعر بالرغبة في بلوغه، وأن تلتزم بتحقيقه بذاتها. وليس ينقص من صدق هذا القول -من ناحية أخرى- أن النفس الإنسانية، على الرغم من وجود استعدادها بكل هذا الجهاز، تظل دائمًا قابلة للترقي، والتردي، للازدهار والذبول، بتأثير إرادتها الخاصة: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 3. ومن ثم تنبع الضرورة الأخلاقية، أن يعمل الإنسان، وأن يتحمل مسئوليته: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ

_ 1 النحل: 78. 2 الشمس: 7 و8. 3 الشمس: 9 و10.

وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 1. بيد أن مفهوم "الجهد" لا يتحدد بوساطة "العمل بعامة"، بل "بالعمل المؤثر الفعال" بخاصة، الذي موضوعه: "مقاومة قوة، أو قهر مقاومة"2، وهو تعريف متوافق ابتداء مع المعنى المادي، ولكنه يجب أن يتوافق أيضًا مع المعنى الأخلاقي. والتماثل بين المجالين واضح جلي؛ فعلى صعيد الإبداع الخيِّر يصادف الفكر غالبًا في الموضوع، وفي نفسه، عقبتين ينبغي أن يتخطاهما: خمود المادة التي يجب تحويلها، ونقص الهمة في الإرادة الفاعلة. والأمر كذلك عندما يجب الامتناع عن الشر، في مواجهة القوى التي تدفعنا إليه. ففي هذه الحالات جميعًا لا يكفي أن "نعمل"، بل يجب أن "نجاهد بقوة وإصرار". لقد كان وجودنا العضوي والمادي صراعًا مستمرًّا ضد جميع أنواع الشرور، التي نلقاها عن طريق الحياة، حتى الموت3، ولا يفتأ القرآن يذكرنا بهذا الظرف الملازم للطبيعة الإنسانية، في مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} 4. ولكن فوق هذا الجهد "الطبيعي" الذي تفرضه الغريزة جهدًا آخر، يقتضيه "العقل"، ويجب أن يسخر لخدمة "المثل الأعلى". هذا النوع من الجهد، هو الذي نزمع دراسته في الأخلاق الإسلامية.

_ 1 التوبة: 105. 2 dictionnaire littre. article: effort. 3 اقرأ: le philosophie de l'effort: sabatier. 4 الانشقاق: 6.

وأول ما نقوله هو: أن المطالبة باستخدام الطاقة الأخلاقية قد ترددت كثيرًا في القرآن، ففي كل موضع منه نستمع إلى دعوة إلى هذا الجهاد الثابت المستمر، سواء من أجل فعل الخير، ومقاومة الهوى، أو لاحتمال الشرور، وكظم الغضب، أو لأداء واجباتنا الدينية. والحق أن الله سبحانه وتعالى لا يفرض علينا أي تكليف فوق وسائلنا، ولكن ذلك لا يمنع أنه يحثنا على طاعته "بكل" ما نملك من "قوانا": {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} 1. والقرآن يدعو إلى أن نبذل هذا النشاط ونمده على طريق التقدم الأخلاقي الصاعد، وهي دعوة يصوغها في تشبيه مجازي جميل، وهو يقول: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} ، ثم يبين حقيقتها: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ، ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} 2. ولم يكتف القرآن بأن يستثير الناس إلى تحقيق هذا الاقتحام الساعد، بل مضى إلى حد أن أدخل فكرة هذا الجهد في تحديد الإيمان الصادق نفسه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 3. فهل بوسع أحد أن يضع الجهد الأخلاقي وضعًا أسمى من هذا؟ ومع ذلك فلسنا نستطيع أن نكتفي بهذه العموميات، فإن فكرًا

_ 1 التغابن: 16. 2 البلد: 11-17. 3 الحجرات: 15.

جدليًّا مولعًا بالوضوح، وبالدقة لا يمكن أن يتوقف عند تأكيد مطلق كهذا، دون أن يبحث له عن بعض ما ينقضه، ودون أن يحاول توفيقًا يضع الأمور موضعها الصحيح. ومن أجل هذا سوف نخضع النقاط الآتية لبحثنا: 1- هل يجب أن تنفي قيمة الجهد قيمة الانبعاث التلقائي؟ وبأي شرط؟ 2- ما نصيب الجهد العضوي في هذه القيمة؟ 3- أليس للجهد حين يفرض نفسه حد يقف عنده؟

جهد وانبعاث تلقائي

جهد وانبعاث تلقائي مدخل ... 1- جهد وانبعاث تلقائي: كان "سيجور" يقول: إن الإنسان "يفخر بكل ما هو جهد"1. هذا الاتجاه الفطري إلى تمجيد روح الكفاح والتضحية -وهو اتجاه مشروع في بعض الظروف، إلى درجة معينة- قد يصل أحيانًا إلى حد أن يجعل من هذه الروح غاية أخيرة، وقيمة في ذاتها. فهل بنا من حاجة إلى أن نؤكد رفض هذه الطريقة في النظر؟ إن النشاط الذي لا يبذل إلا من أجل أن يبذل -هو اللعب بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة. وكل جهد جاد يفترض أن يكون له موضوع متميز عنه، يخصه بقيمة معينة، ويعزم أن يسعى إليه، بسبب هذه القيمة التي خصه بها.

_ 1 segur, hist. nap. viii, ii. a. te par littre, art, offort.

ومن خلال علاقته مع "الموضوع المنشود" "يكتسب الجهد قيمته" التي تعتبر ذريعته و"واسطته". بل إن الجهد ليست له على الأخص قيمة أخلاقية إلا من حيث هو وسيلة لتحقيق بعض الخير الأخلاقي. فالشعار الذي يمجد الجهد في ذاته، دون نظر إلى متعلقه؛ الجهد باعتباره تعبيبرًا عن الديناميكية الحيوية، التي تصلح للضر والنفع، على حد قول الشاعر: إذا أنت لم تنفع فضر فإنما ... يرجى الفتى كيما يضر وينفع هو شعار تمليه الغريزة العمياء، لا الضمير الواعي المستنير. ولو كان من الممكن -يومًا- أن نقدر جهد المجرم تقديرًا أخلاقيًّا، كمنبع للخلق والإبداع، فلن يكون ذلك إلا إذا ضربنا صفحًا عن الموضوع الذي يقارفه فعلًا، ثم نظرنا إلى ما لديه من إمكان أن يباشر موضوعًا آخر، أعني أن يسخر نفسه لخدمة الفضيلة. هناك "موقفان فلسفيان" صرحا بميلهما إلى المبالغة في تقدير هذا الجهد الأخلاقي، وهما، وإن لم يستلهما المبدأ الذي رفضناه قبل، أعني: مبدأ الجهد -بوصفه قيمة في ذاته، فقد جعلا له على الأقل معادلًا عمليًّا. أما الموقف الأول: فيتحدث على مستوى الوجود، وهو يتمثل في القول بأن النفس الإنسانية عاجزة عن الخضوع للقانون الأخلاقي برضاها الكامل، وبدافع الحب. ولما كان الانتصار على الشر، يكلفنا دائمًا تضحية، ويفرض إكراهًا على ذات الإنسان، فإن الكفاح يصبح في كل مكان وزمان شرطًا في الفضيلة، والوسيلة الوحيدة لاكتساب السلوك الحسن. وقد راق "كانت" أن يكرر في كتاب "دين في حدود العقل"1،

_ 1 religion dans les limites de Ia raison.

كلمة القديس بولس في رسالته إلى أهل رومية: "كما هو مكتوب، أنه ليس بار، ولا واحد"1. وتبرز بعض الأقوال في كتابه "نقد العقل العملي" هذه التشاؤمية ذاتها، فهو يقول: إن الدرجة الأخلاقية التي وضع فيها الإنسان ... هي احترام القانون الأخلاقي، والحالة الأخلاقية التي يمكن أن يكون فيها دائمًا هي الفضيلة، أعني: النية الأخلاقية: "للكفاح"، لا تملك القداسة، وربما كان من تفاهة التفكير والسطحية وشطحات الخيال، أن نخص الروح "بطيبة تلقائية، لا تحتاج إلى محرك يحثها، أو إلى لجام يكبحها"2. ومع ذلك، فقد تكشف بعض التعبيرات عنده عن نوع من الشك، أقل صرامة، وأكثر تعقلًا، فهو ينكر فقط: "أن يكون في قدرة مخلوق أن ينفذ جميع القوانين، على وجه من الاختيار لا يجد معه في نفسه إمكان شهوة تحثه على مخالفتها، ولو مرة واحدة"3. ويبدو أنه يوافق أيضًا على إمكان "أن يتحول الخوف الاحترامي إلى ميل، والاحترام إلى حب، وذلك على الأقل هو كمال النية التي تقدس القانون، لو كان في طاقة مخلوق، أن يبلغها، أبدًا"4. وأما "الموقف الفلسفي" الثاني فلن يذهب إلى حد الإنكار المطلق لقدرة الإنسان على أن يؤدي واجبًا معينًا، عن طواعية وهمة. ولكن العمل المؤدى في هذه الظروف قليل القيمة والثواب في نظره.

_ 1 الإصحاح الثالث 10. 2.kant, crit. de la raison pratique. p, 89 3 المرجع السابق 88. 4 المرجع السابق 88.

وإذن، فإن بين مصطلحي "الجهد، والقيمة الأخلاقية" علاقة ثابتة، لدرجة أن دقة قياس أحدهما بالآخر يمكن أن تذكر في صورة معادلة: فوجود أحدهما أو عدمه، وزيادته أو نقصه قد تستتبع نفس الأثر في الآخر، بصورة لا يمكن تحاشيها، وبنفس النسبة. وبقدر ما يكون التزام القاعدة أمرًا لا يمكن تحقيقه إلا ببذل مجهود من الإرادة تتفاوت درجته، فمما لا شك فيه أن كل جهد يدخر يعادل خسارة، بنفس النسبة، في الجزاء. فهل الأمر كذلك في حالة العكس، وهي الحالة التي تسمح فيها القوة الأخلاقية للذات بأن تنهض بتكاليفها دون جهد؟ هذه المسألة موضع خلاف بين الأخلاقيين المسلمين، ومن الذين أدلوا برأيهم بالموافقة، نذكر أصحاب أبي سليمان الداراني، على حين أن علماء البصرة قد أيدوا الرأي المعارض تمامًا1. ولو أننا رجعنا إلى الضمير العام، فلن نعدم أن نلاحظ نفس التعارض، ونفس التردد. ألا تنطوي هذه الحيرة على تناقض في الفكر الأخلاقي ذاته، وهو تناقض بين طريقتين في التقويم، كلتاهما مشروعة على سبيل الاحتمال؟ أليست العبقرية، وشرف الخلق، والعظمة، وطهارة النفس، كلها موضوع تقدير وإعجاب لدى كل الناس؟

_ 1 ونص هذه المسألة كما وردت في إحياء علوم الدين 4/ 41, قال الإمام الغزالي: "فإن قلت: إذا فرضنا تائبين، أحدهما سكنت نفسه عن النزوع إلى الذنب، والآخر بقي في نفسه نزوع إليه، وهو يجاهدها ويمنعها، فأيهما أفضل؟ فاعلم أن هذا مما اختلف العلماء فيه، فقال أحمد بن أبي الحواري، وأصحاب أبي سليمان الداراني: إن المجاهد أفضل؛ لأن له مع التوبة فضل الجهاد. وقال علماء البصرة: ذلك الآخر أفضل؛ لأنه لو فتر في توبته كان أقرب إلى السلامة من المجاهد، الذي هو في عرضة الفتور عن المجاهدة. وما قاله كل واحد من الفريقين لا يخلو عن حق، وعن قصور عن كمال الحقيقة ... إلخ". "المعرب".

فإذا قارنا هذه الصفات الفطرية بتلك التي تكتسب بالعمل فهل فعلنا سوى أن قابلنا الصلب بالهش، والدائم بالمؤقت؟ من ذا الذي يتردد في أن يقول: أين يضع ثقته؟ إننا لو خيرنا بين فنانين، أحدهما يؤدي حركاته برشاقة وتلقائية، والآخر لا يستطيع أن يؤدي نفس الحركة إلا بعناء وعرق متصبب، فمن الواضح أن نميز التفوق عن التوسط، ونفضل دائمًا المطبوع على المصنوع. بيد أننا من ناحية أخرى ننظر إلى القولة المشهورة: "لكل بحسب أعماله" لا على أنها عادلة فحسب، بل على أنها هي العدالة ذاتها بحدها. وإذن، فمن ذا الذي لا يرى أن الصفات الفطرية التي منحتناها الطبيعة ليست من عملنا؟ أليس من واجبنا -إذا قسنا الأمور بهذا المقياس- أن نحتفظ للجهد بكل القيمة، وأن نستبعد من حساب القيمة كل ما كان تلقائيًّا؟ ثم ... أفلا يترتب على هذا المنطق أن تحتل نفس القديس حينئذ أدنى الدرجات في سلم الجزاء؟ من الذي يسلم بقبول ذلك؟ هل يجب أن ننحاز إلى جانب، في مواجهة هذا التناقض؟ أم أن نبحث عن حل وسط؟ والحق أن الفضيلة في أية مرحلة من مراحل الحياة الأخلاقية ليست ثمرة خالصة من ثمرات الطبيعة المحضة، كما أنها ليست نتيجة الاكتساب المطلق؛ ذلك أن أسوأ الناس، وأكثرهم شرًّا، لا يخلو أن تكون في نفسه بذرة طيبة يستطيع استخدامها في صراعه ضد خلقه الخبيث، كما أن أطهر الأنفس لا تستغني مطلقًا عن بعد الجهد، كيما ترتقي في مراتب الجزاء. ولقد أثبتت اللغة الفرنسية هذا المقياس المزدوج للقيمة، حين أطلقت كلمة

"merite" على كل صفة فطرية أو مكتسبة، جديرة بالتقدير، حتى لو كانت الجمال، أو الغنى. وإنما يجب فقط أن نعترف بأن لدى الناس اختلافًا في نصيب كل منهم من عاملي الفضيلة؛ ويجب أن نلاحظ في الوقت نفسه أن الناس لا يتساوون دائمًا لا في موضوع الكفاح ولا في الشكل الذي ينبغي أن يبدو فيه جهدهم الأخلاقي. وهنا نجد من المناسب أن نتعمق أكثر، لنكشف عن صيغة التوفيق بين أحكامنا الأخلاقية. وإنا لنعتقد أننا نستطيع العثور على مفتاح الحل في التفرقة التي أثبتها القرآن بين نوعين من الجهد، أحدهما قد يطلق عليه "جهد المدافعة" effort eliminatoire والآخر هو "الجهد المبدع" EFFORT CREATEUR.

جهد المدافعة

أ- جهد المدافعة: ونقصد بعبارة "جهد المدافعة" تلك العملية التي نضع فيها في مواجهة الميول الخبيثة التي تحثنا على الشر قوة مقاومة قادرة على دفع تأثيرها. ولا أحد يستطيع أن ينازع في ضرورة عملية كهذه، كلما وجدنا أنفسنا أمام قوة معادية تريد أن تتغلب، فواجبنا الأول في هذه اللحظة، ومهمتنا العاجلة الملحة هي أن نسكت سورتها. ولقد رأينا أن القرآن لا يفتأ في كثير من المواضع يطالبنا بهذه المقاومة، وهو يعد أولئك الذين يعرفون كيف يقهرون شهواتهم بأعظم الغايات، يقول تبارك وتعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى، يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى، فَأَمَّا مَنْ طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا،

فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} 1. ومما يذكر هنا كحكم عملي، من أحكام كثيرة: الصوم المطلق، الذي يفرضه القرآن، من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، في الجزء الثاني عشر من السَّنة، وفي أحوال كثيرة غير هذه الفترة المفروضة. إن في ذلك بلا ريب تدريبًا عظيمًا، لحطم عبودية الجوارح. ولكن، هل هذا الانتصار باهظ دائمًا، وفي كل مكان، لدرجة أنه يقتضينا تضحية مرهقة؟ إنه على الرغم من التشاؤمية المفرطة، التي تنظر إلى الحياة الأخلاقية من خلال منظار أسود، والتي ترى أن الشر قانون الطبيعة الذي لا يرحم -فإننا نجيب عن هذا السؤال بأنه ليس الأمر هكذا دائمًا. وبدهي أننا لا نريد أن نتكلم عن فطرة ملائكيه، لم تطرح بالنسبة إليها مشكلة الشر مطلقًا، من حيث كان محالًا على مثل هذه الفطرة أن تفعل غير الخير. ولسنا نتكلم أيضًا عن مريض، ربما تنقصه كلية الطاقة العضوية، ليأتي شرًّا ما، وربما ينقصه الذوق العادي ليسيغ لذة معينة. فهاتان الحالتان، ما فوق الأخلاقية SUPRAMORAL، والحياد الأخلاقي AMORAL، هما خارج القضية سواء. ولكنا وإن بقينا في مجال الفطرة الإنسانية الكاملة، المزودة بالغرائز وبالعقل -نلاحظ لدى كثير من الأشخاص قدرًا من الانبعاث التلقائي فيما

_ 1 النازعات: 34-41.

يصدرون من قرارات خيرة، وهو انبعاث ذو درجات لا تحصى، تصعد إلى أعلى درجة، وتهبط إلى أدناها، بحيث إن هذه القرارات لا تجد ما يقاومها حسيًّا من النزعات المضادة. ولا يقتصر الأمر على حالة اتخاذ قرار عادي أو تافه فحسب، بل حتى في حالة اتخاذ قرار عظيم الخطر، نجد أن هذه العزيمة التي لا يحصل عليها الرجل العادي إلا بمجهود شاقّ، تتحقق لدى هؤلاء الأشخاص بطريقة أكثر يسرًا وطواعية. وهذه الحالة الشبه تلقائية يمكن أن تحدث بطريقتين: فإما أن تكون منحة، بفضل استعداد فطري، وإما أن تكون "ثمرة جهد"، بعد فترة تتفاوت في طولها وفيما تخللها من معاناة. ففي الحالة الأولى، حين تكبت الأهواء إلى مستوى لا يكاد يدركه الشعور، وتحتل فكرة الخير في النفس مكانًا سَنِيًّا، يصبح العمل الصالح موضوع حب ومتعة. وهذه الحال العلوية التي تستهدفها الحاسة الأخلاقية هي حال كبار الصالحين، التي فطرهم الخالق عليها، وبخاصة الرسل، الذين اصطفاهم الله منذ البدء، لتبليغ الرسالة الإلهية، و {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} 1. وفي الحالة الثانية لا تمضي الأمور هكذا إلا إلى حد معين، وبفضل كفاح شخصي متجدد غالبًا. وليس قانونًا فقط أن نقول: إن استخدام ملكة ما في اتجاه معين يغذي بنفس القدر هذه الملكة المستخدمة، ولكن الله سبحانه يتدخل بمعونة إيجابية لهداية من يبحث عن الطريق الصحيح، بحثًا جادًّا، والقرآن الكريم يعلن: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا،

_ 1 الأنعام: 124.

وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} 1، وفي الحديث القدسي عن رب العزة تبارك وتعالى: "وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت، وأنا أكره مساءته" 2. ولكن، إذا نزلنا أكثر من هذا، إلى مستوى الإنسان الوسط، ألا نلاحظ حالة شبيهة بهذه، شبهًا جزئيًّا؟ فحين نألف أن نقف أمام شهوة معينة، سواء لنفكر في صفتها التي لا تليق بكائن عاقل، أو لنحدس بنتائجها المخوفة، وحين تبلغ هذه التوقعات أو تلك القيم أن تملك علينا غالبًا تصورنا، وأن تنفذ إلى قلوبنا -ألا نحس في أنفسنا بقوة معينة نابضة، كانت إلى ذلك الحين غير محسة، وهي منذئذ تيسر أمر ابتعادنا عن الشر؟ وعليه، فإذا كان القديس مدفوعًا "بالحب"، والرجل الوسط مؤيدًا "بالعقل"، والعامي مقيدًا "بالخوف"، أو منجذبًا "بالرجاء" فإن المنهاج دائمًا هو هو، بصرف النظر عن ذلك الفرق النوعي بين الأفكار، والمشاعر، المتفاوتة في قدرها وشرفها. فالإرادة في هذه الحالة أو في تلك، مزودة بمحركات أخرى تساعد على انطلاقها، وحينئذ يصبح القرار أسرع وأيسر، ويقل الجهد بنفس النسبة. ليس المراد من ذلك أن نقول: إنه لم يعد هناك صراع، وإنما نستطيع

_ 1 العنكبوت: 69. 2 البخاري, كتاب الرقاق, باب 37. والمؤلف مجتزئ في الأصل ببعض جمل الحديث، وآثرنا إيراده كاملًا. "المعرب".

القول بأنه موجود، حتى في الحالة الحدِّية، التي لا يمكن تجاوزها، وذلك على الأقل ما يتضح من مجموع النصوص التي سوف نراها. إن القوتين اللتين نواجههما هنا ليستا مسلحتين على قدم المساواة. والقاعدة العامة هي ما قال القرآن: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} 1، والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول فيما روي عن ابن مسعود, رضي الله عنه: "ما منكم من أحد إلا وقد وُكِّل به قرينه من الجن". قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: "وإياي، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير" 2، وتلك هي حال عباد الله الصادقين، فليس للشيطان عليهم سلطان: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} 3، {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَان} 4. وإن التأثير الذي تتعرض له فطرتهم الحساسة من هذا العمل الشيطاني لهو أقل ثباتًا ودوامًا من التأثير الذي يمارس على عامة الناس، فهو مجرد ظلام خفيف ناشئ عن ظل سحابة عابرة، لا تلبث أن تتقشع: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} 5. والصدمة التي يحدثها التماس الشر في أنفسهم لا تتجاوز كثيرًا شكة الإبرة في بناء صلب: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 6.

_ 1 يوسف: 53. 2 صحيح مسلم، كتاب صفة القيامة، والنص الذي ذكره المؤلف: "نعم ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم" هو من رواية عائشة -رضي الله عنها- ولكن بقية السياق تدل على أن المراد ما ذكرناه. "المعرب". 3 النحل: 99. 4 الإسراء: 65. 5 الأعراف: 201. 6 الأعراف: 200.

وليس يغض من صدق هذا القول أن نجد أكثر الناس صلاحًا هم كذلك أناس متمتعون بفطرتهم الكاملة. وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول عن نفسه: "إنما أنا بشر، أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر" 1. والواقع أن "الرجل الصالح في الإسلام" لا ينبغي أن يتصور على مثال "الحكيم البوذي" المجرد من الشهوة، ولا على مثال الحكيم الرواقي الذي لا يبالي بالألم. بل الأمر بعكس ذلك، فبعض الأشياء يروق الرجل الصالح، وبعضها يكرهه، وما دام هواه الفطري أو الذي اعتاده لا يتعارض مع واجب، فهو في كلتا الحالين لا يحاول أن يقاومه. ومن هذا القبيل ما روته السنة عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحب الحلواء والعسل"2. وما روي عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- من أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يكره الثوم والبصل، وأنه قال: "من أكل ثومًا أو بصلًا فليعتزلنا، أو ليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته" 3. وما روي عن خالد بن الوليد بن المغيرة أنه دخل مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيت ميمونة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- فأتي بضب محنوذ، فأهوى إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده، فقال بعض النسوة اللاتي في بيت ميمونة: أخبروا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما يريد أن يأكل منه، فقيل: هو ضب يا رسول الله، فرفع يده، فقلت: أحرام هو يا رسول الله؟ فقال: "لا؛ ولكنه لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه". قال خالد: فاجتررته فأكلته، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينظر4.

_ 1 صحيح مسلم, كتاب البر, باب 25. 2 صحيح البخاري, كتاب الأطعمة, باب 32. 3 صحيح البخاري, كتاب الاعتصام, باب 24. 4 الموطأ 3/ 137.

ولقد "كان صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقًّا"1، وروى البخاري عن أسامة بن زيد قال: كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فأرسلت إليه إحدى بناته، تدعوه وتخبره، أن صبيًّا لها، أو ابنًا لها في الموت، فقال للرسول: "ارجع إليها فأخبرها أن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب" فعاد الرسول فقال: إنها قد أقسمت لتأتينها، قال: فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- وقام معه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وانطلقت معهم، فرفع الصبي، ونفسه تقعقع، كأنها في شنة2، ففاضت عيناه, فقال سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: "هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء" 3. وهذه الظاهرة نفسها حدثت عندما: "اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعوده مع عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، فلما دخل عليه وجده في غشية، فقال: "أقد قضى؟ " قالوا: لا يا رسول الله، فبكى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما رأى القوم بكاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكوا، فقال: "ألا تسمعون، إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا " وأشار إلى لسانه "أو يرحم" 4. ومع ذلك فإن أحيا المشاعر وأعمقها لا تتفجر عنده في هذه المواقف العادية المألوفة، فلقد كان لاهتمامه بنجاة الناس، والآلام التي يحسها حين يرى

_ 1 الترمذي، كتاب البر, باب المزاح. 2 قوله: تقعقع، حكاية صوت نزع الروح، والشنة: القربة البالية، أي: كأن روحه تتقلب في جسد ممزق، لا تستقر في مكان منه. "المعرب". 3 مسلم, كتاب الجنائز, باب 6. 4 مسلم, المرجع السابق.

ضلالهم، كان لذلك تأثير موجع على نفسه، والقرآن يخاطبه بقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} 1. وكما تتجه عواطفه الرقيقة نحو هذه القيم العليا، نجدها تتجه وجهة أخرى، فيما حدثنا عن نفسه: "وجعلت قرة عيني في الصلاة" 2. فالقداسة الإسلامية لا تتمثل إذن في لامبالاة مطلقة حيال الفطرة، ولكن في تفضيل مؤكد بصفة خاصة للقيم الروحية. ولذلك نجد أن القرآن حين يصف المؤمنين الصادقين لا يقول: إنهم لا يحبون إلا الله، ولكن يقول: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} 3. وإذن، فلكي نطرح مشكلة الجهد والانبعاث التلقائي لسنا بحاجة إلى أن نفترض حالة تكون فيها القوى المناهضة للواجب منعدمة تمامًا، بل حسبنا أن ننطلق من واقع عدم التساوي بين القوى المتصارعة؛ لأن أدنى تفوق للشعور الخير يجب أن يخفف بنفس النسبة من ثقل التكليف، ومن التضحية التي تفرضها المقاومة، ولقد ذكر القرآن هذه الملاحظة، فبعد أن أوصى بأن نستعين بالصبر والصلاة قال: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} 4. وليس من العسير أن نرى -في الواقع- من خلال النزاع الذي يقابل بين قوى متنافرة على هذا النحو -انتصارًا يبدو، أو يتجلى في خطوطه العريضة، ونقول فقط: "في خطوطه العريضة" لأننا لسنا بصدد عمل خاص تبلور بصورة ما، ويقبل عليه الإنسان عند الاقتضاء بطريقة مباشرة وآلية، بل

_ 1 الشعراء: 3. 2 النسائي, كتاب عشرة النساء, باب 1, ونص الحديث: عن أنس قال: قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "حبب إلي من الدنيا النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة". "المعرب". 3 البقرة: 165. 4 البقرة: 45.

هو مجرد وجهة يدل عليها بصورة إجمالية مبسطة, الاتجاه الأكثر نضجًا وتطورًا. والآن، ما قيمة العمل الذي يؤدى في الظروف التي وصفناها؟ إنه عمل، لا هو بالتلقائي المحض، ولا هو بالكسبي الكامل، فهو ثمرة قوتين متضافرتين: الفطرة والشخص، كما هي الحال في كل عمل إنساني آخر، مع مقادير مختلفة، ولكن ألا ينبغي أن ينقص الثواب الشخصي كلما زاد إسهام الفطرة؟ هذا هو السؤال. إن هناك أولًا حالة تبدو فيها -بداهة- استحالة القول بالإيجاب، وهي حالة الرجل الوسط الذي يحرز التقدم، وتعتبر هذه المرونة الفطرية بالنسبة إليه كسبًا للإرادة، فلنقف الآن أمام هذه الحالة. أليس بخسنا للعمل الأخلاقي الذي أصبح ميسورًا نسبيًّا، معناه أننا ننكر الجهد ذاته، في خير نتائجه؟ لقد طالما ذكرنا أن الغاية من الصراع لا تكمن في الصراع نفسه، بل في النصر الذي يسفر عنه. ومع ذلك فلا ينبغي لهذا النصر أن يحمل على معنى عرضي أو صدفي، فإذا كنت للمرة الأولى أصارع ضد إغراء معين، واستطعت أن أفلت منه فليس ذلك سببًا كافيًا لأن أمنح لقب المنتصر، فمن ذا الذي يدري ماذا كنت أكون لو أن الصدفة لم تسهم بجانب من العمل، صغر أو كبر؟ ولقد قيل في المثل: إن عندليبًا واحدًا لا يصنع الربيع1.

_ 1 هذا المثال بالفرنسية هو: "UNE HIRONDELLE NE FAIT PAS LE PRINTEMPS" والمراد به أن عملًا واحدًا لا ينهض مطلقًا بتقييم الإنسان والحكم عليه، كما أن وجود طائر واحد من هذا النوع لا يسوغ الحكم بأن الدنيا ربيع، أي: إنه لا بد من كثرة الأعمال، كما لا بد من آلاف من العندليب للتبشير بالربيع. "المعرب".

ولا شك أن هذا هو السبب في أن أرسطو قد وضع الفضيلة في طائفة العادات. فنترك إذن الظروف تتغير، ولندع الفرصة تسنح في أشكال مختلفة، فإذا ما حصلت على نفس النصر، فحينئذ أستطيع أن أنشرح له، ولكنه ليس انشراحًا كاملًا أيضًا. ذلك أنه، إذا كنت في كل مناسبة ينبغي أن ألجأ إلى نفس مصادر الدعم، وأن أعاني نفس المصاعب، حتى أضمن لنفسي المطابقة الأخلاقية في سلوكي، فإني أؤكد بذلك أن صفة التمرد في فطرتي تبقى كاملة، إن لم أقل: إنها بدت عاجزة عن أن تتطور. ولعل المثال الكلاسيكي عن الطفل الذي يحاول أن يغرق كرته في الماء دون جدوى -يعطينا صورة كاملة عن هذه المحاولات المتماثلة دائمًا، دون أن تحرز تقدمًا. لسوف يبذل المسكين قصاراه ليغرق كرته، ولسوف تثب كرته وتطفو كلما تركها، إلا أن يخرقها، أو يربط فيها ثقلًا. ولسنا نغالي مطلقًا، حين نؤكد أن كل الاهتمام الأخلاقي، كما وصفه المتصوفة المسلمون، كان موضوعه على وجه التحديد أن يوقف ضرورة هذا الانهماك في المقاومة، وأن يحقق نوعًا من التوازن الداخلي، أو يقترب منه بقدر الإمكان. وهاك مثالًا من بين ألف أخرى تصدق هذه الحقيقة، وقد سيق إلينا في القصة التالية التي يستبطن فيها أبو محمد المرتعش ذاته: فلقد كان من عادة هذه الصوفي أثناء حجه السنوي أن يفرض على نفسه كل أنواع المشتقات، كان يحتمل الجوع والتعب، دون أن يشعر بأي اعتراض في نفسه، حتى ظن أنه قد أصبح متحكمًا في ميوله الغريزية، إلى أن وقع حدث تافه فتح له عينيه، ولنتركه يتحدث، قال: "وذلك أن والدتي

سألتني يومًا أن أستقي لها جرة ماء، فثقل ذلك على نفسي، فعلمت أن مطاوعة نفسي في الحجات كانت لحظ، وشوب لنفسي، إذ لو كانت نفسي فانية لم يصعب عليها ما هو حق في الشرع"1، وما لبث صاحبنا في استعادته لما قام به أن أدان كل أعماله السابقة، وأدرك أن مهمته لما تكن قد بلغت غايتها. "فالهدف من الجهد إذن هو تقليل الجهد"، وأعظم ميزة نحصل عليها منه هو أن يجعلنا مستقلين عنه شيئًا فشيئًا، وذلك في نفس الوقت الذي يجعلنا فيه أكثر إلفًا للعمل الذي درب عليه. ولا ريب أن ذلك لا يكون نتيجة عادة نتصورها في شكلها الإستاتيكي الخالي من أية محاولة، بل من حيث هي منبع ديناميكي ينمو بالتطبيق، ويعدل نفسه بتعديل موضوعه، وهو يتيح لنا السيطرة على الموقف، في أكثر الظروف تنوعًا، ومفاجأة. يجب أن يتعمق الصراع، ويتأصل، ويتحول إلى طبع خاص، فيصبح وكأنه فطرة ثانية، وبهذا وحده يمكن للمرء أن يتحدث عن أخلاق متحققة، لا عن أخلاق منشودة. ويجب أن نذكر أن هاتين المرحلتين، من الصراع، والانتصار، أو بصفة

_ 1 الرسالة القشيرية 49 ط. 1957، وأخبار أبي محمد المرتعش ورد بعضها متناثرًا في هذه "الرسالة". وجاءت مجموعة في "طبقات الصوفية" لابن عبد الرحمن السلمي ص349 وما بعدها، بتحقيق الشيخ نور الدين شريبة، وفي الطبقات الكبرى للشعراني 1/ 106 ط. الحلبي، وقد كان رضوان الله عليه شديدًا على نفسه، كثير الشك في عمله، وكان يقول: "سكون القلب إلى غير الله عقوبة عجلها الله للعبد في الدنيا"، وروي أنه اعتكف مرة في العشر الأخير من رمضان فرأى المتعبدين يتهجدون, والقراء يقرءون، فقطع الاعتكاف, وخرج، فقيل له في ذلك، فقال: لما رأيت تعظيمهم لطاعتهم، واعتمادهم على عبادتهم لم يسعني إلا الخروج، خوفًا من نزول البلاء عليهم. "المعرب".

أعم، هاتين المرحلتين من الإضافة الخارجية، والتقدم التلقائي قد صيغتا في اللغة العربية بصيغتين مختلفتين، ومعبرتين خير تعبير، رغم أنهما من أصل واحد: خلق، وتخلق، فكلمة "خلق، أو أخلاقية" بالمعنى الصحيح تعني تلك القدرة الفطرية أو المكتسبة، التي ينبثق عنها السلوك تلقائيًّا وبعبارة أخرى: الخلق هو الشكل الثابت لوجودنا الباطني، في مقابل الخلق، وهو الشكل الظاهري الذي وهبه الله لكل مخلوق. وطالما لم نحصل على هذا الثبات الذي بفضله تفيض الأعمال، في دفعة كريمة وتلقائية فإننا نظل في حالة التخلق، أعني حالة الاختبار والمحاولة، من أجل نسلك بطريقة أو بأخرى. ويستعمل اللفظ غالبًا في هذه الصيغة بمعنى محقر، يقترب من التصنع والتظاهر. وهكذا يكفي أن نتأمل تعريفات الألفاظ، حتى نعرف في أي جانب نضع القيم العليا. وشأن العمل، كشأن المعرفة: فلكي "نعمل" كما هي الحال حين "نحكم"، كلا الأمرين يستوجب "رأس مال" يقتطع منه. وإذا لم يكن في يد الباحث عن الحقيقة نظام من المبادئ الأولية، ومن القوانين العامة، وما دام لا يستطيع أن يحدس بالوجهة التي يوجه إليها بحوثه -فإن عمله يصبح من أطول الأعمال وأشقها. أمن حقنا أن نقول: إن الإنسان يكون عالمًا بقدر ما يزداد بطؤه في التوصل إلى الحقيقة؟ إني أتوقع أن أحدًا لن يوافقني على هذا القول، ولكن، ألا يجب علينا أيضًا، منذئذ، أن نحدد الإنسان الصالح بأنه ذلك الذي يجد رهن تصرفه

مجموعة من الوسائل الخاصة القادرة على إسكات صوت الهوى سريعًا، وجعل القرار الحسن أسرع وآكد؟ إن الأخذ بالرأي المقابل، الذي يحدد العمل الأخلاقي بأنه الذي يؤدي مع أكبر قدر من المقاومة -معناه الإصرار الغريب على أن يظل الإنسان في المرحلة البدائية، حيث يكون عرضة لحشد من المشاعر الشرسة، غير المستأنسة، التي لا يستطيع مقاومتها إلا إذا استدعى جهد أكثر المقاتلين يأسًا. هذه المرحلة البدائية التي لم ير فيها أكثر فلاسفتنا الأخلاقيين حرصًا1 سوى حالة عابرة، قابلة لأن تجتاز، وتستبدل بعكسها -ما كان لها بداهة أن تكون "قانونًا"، أو "نظامًا شاملًا" للقيم. ذلك، أن الحياة الأخلاقية المثلى -على هذا الرأي- لن تكون فقط حياة المبتدئين، والتلامذة، بل ستكون بالحري، حياة الأشرار والفاسدين. ولسوف يكون نموذجنا هو الإنسان الذي لا يستطيع أن يعزم على أن يسير في الحياة بشرف إلا إذا فرض على فطرته نوعًا من العنف المؤلم، وإلا إذا أتى بعض الحركات القاسية راغمًا. ومع ذلك فإن وجهة النظر هذه هي عكس ما يبدو لنا من موقف القرآن تمامًا, فلقد رأينا كيف ذم الحق تبارك وتعالى، أولئك الذين لا يؤدون واجبهم بمسرة ونشاط، والذين {لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} 1، ورأينا بأي أسلوب فضحهم وكشف سترهم؟ وكان أرسطو إذن على حق في أن يقول: إن الذي لا يسر لأداء الأعمال الطيبة ليس خيرًا حقًّا.

_ 1 انظر مثلًا: المحاسبي, الرعاية، الفصل 50. 2 التوبة: 54.

لقد تناولنا حتى الآن الحالة التي لا يكون فيها هذا الطبع الكريم، والخير هبة من الطبيعة، بل كسبًا للجهد، والعمل الذي يؤدى بعد هذه الهداية، هو مقابل مقاومة متجمعة، في الماضي، قليلة كانت أو كثيرة، وإن كان أداؤه الآن دون مقاومة كبيرة. وإنا لنؤكد أن العمل الذي يتم في هذه الظروف -يرجع الفضل فيه إلى الكفاءة الشخصية، فالانبعاث الناشئ عن الجهد لا يناقضه، بل يستشعر فيه أنه أصله، فهو استمرار له وتتويج، باعتباره الغاية، والوسيلة. ولقد يعترض علينا، بأننا حين نعلل على هذا النحو، نصور الإرادة الإنسانية، وكأن فيها تلك القوة المطلقة المغيرة للكائن الأخلاقي، بصرف النظر عن جميع القوى الأخرى التي تساعد على تغييره، بل ننظر إلى تلك الإرادة، مستقلة حتى عن الفضل الإلهي؟! وفي إجابتنا على هذا الاعتراض ننكره أشد الإنكار. فمما لا شك فيه أننا نقع في خطأ فادح، حين نرتكب خلطًا كهذا في عرض الأخلاق القرآنية. ولقد آن الأوان لنتحدث صراحة عما تركناه غامضًا في فرضنا. فلنقل إذن في كلمة واحدة: فِيمَ يتمثل تدخل هذا العامل العلوي، الذي يتجلى لنا في القرآن، وفي الحديث؟ وإنه ليتمثل لنا غالبًا، باعتباره يؤدي دورًا محددًا في تكوين الطبع الأخلاقي، فهو يأتي تلبية لجهد إنساني مستهل، أو منجز، وهو يجيء على إثر هذا الجهد، سواء لتغذيته ودعمه، أو لإثرائه، والإفضاء به إلى نتيجته. وفي هذا يقول الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} 1، ويقول: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} 2، ويقول: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} 3.

_ 1 العنكبوت: 69. 2 محمد: 17. 3 يونس: 9.

وإذن، فهناك دائمًا شيء يأتي أولًا من جانبنا، فالإنسان -لكي يتلقى النور- ينبغي أن يطلبه، وأن ينشرح له، ينبغي أن يظهر حاجته إليه، وأن يمد إليه يديه، وأن يخطو خطوات نحوه، وهو قوله, صلى الله عليه وسلم: "ما يكن عندي من خير لا أدخره عنكم، وإنه من يستعف يعفه الله، ومن يتصبر يصبره الله، ومن يستغن يغنه الله، ولن تعطوا عطاء خيرًا وأوسع من الصبر" 1. فالمدد الإلهي مشروط إذن بجهد إنساني، وهذا الجهد مع ذلك يحتفظ بقيمته كاملة، فأما السكينة، والراحة اللتان تعقبانه فإنهما لا تنقصان من أجره شيئًا. والحق أن القرآن لا يذكر في بعض آياته هذه العلاقة، على أنها بين شرط ومشروط، بل إنه أحيانًا لا يشير أدنى إشارة إلى المحاولة الإنسانية، وهو حين يتحدث عن الهداية الكاملة التي يحظى بها الأصفياء، يقدمها على أنها ثمرة إنعام خالص، جاء بفضل الله مباشرة، وهو ما نقرؤه في قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} 2، {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُْ} 3؛ لأنه {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} 4، {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} 5.

_ 1 البخاري, كتاب الرقاق, باب 19. وقد ذكر المؤلف في الهامش "ومن يستعفف". "المعرب". 2 الأنعام: 125. 3 المجادلة: 22. 4 الفتح: 4. 5 الحجرات: 7.

بيد أن ترك الذكر لا يعني بالضرورة النفي، ولو أننا أردنا أن نحكم على هذا الموقف ببعض هذه الآيات نفسها فلسوف يظهر أن هذه المنحة السماوية لم تكن إلا أجرًا على موقف محسن أبداه هؤلاء الناس من قبل: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} 1, {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} 2. فهناك إذن إيمان يحتاج إلى تقوية، ومشاعر جديرة بالإثابة. ولن نمضي -بطبيعة الحال- إلى حد أن ندعي أن العمل الإنساني سابق مطلقًا، فمن البداهة أن وجودنا العضوي، والنفسي، والاجتماعي، سابق على وجودنا الأخلاقي، ثم إن الإمكانات الموجودة بالقوة في باطن هذا الوجود الأخلاقي تسبق النشاط الشعوري، وتعد له. بل إننا لنمضي إلى القول بأن هنالك نوعًا من المدد الإلهي الإيجابي للأنفس ذات الاستعداد الطيب، وزيادة في القوة تغنيها عن مزيد من الجهد في المقاومة، ضد الاتجاهات السيئة. وإنا لنقف أمام هذه الحالة الأخيرة كيما ندفع برهان النظرية المناقضة إلى نهايته. فلنفترض إذن أن النصوص تعني هذه الأنفس المتميزة، وأن هذه القوة التي اكتسبتها ليست في جانب منها نتيجة تدخلها الإرادي والمجاهد. ومع أننا نقرر مع القرآن أن هذه الأنفس باستعدادها الطيب للتقوى: {كَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} 3 -فإننا نسلم أنها استحقت ذلك فعلًا: {فَضْلًا

_ 1 الفتح: 18. 2 الفتح: 4. 3 الفتح: 26.

مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} 1 -حينئذ يثور أمامنا سؤال هو: ماذا بقي إذن لجزائهم؟ وكيف نفسر حقيقة أن القرآن لا يدخر مدحًا إلا وجهه إليهم، ولا وعدًا حسنًا إلا أعده لهم؟ هنا تظهر بكل وضوح "المناقضة" بين "الجهد"، و"الانبعاث التلقائي". فأما القائلون بالقيمة الذاتية وغير المشروطة للجهد فربما أرادوا أن يلطفوا من حدة رأيهم، فيقترحوا علينا صورة من الاحتكام. ويقولون لنا: إن غيبة الجهد في مواجهة شهوة مستبعدة لا يضعف الخلق، بشرط أن يبقى هذا الجهد في حالة تحفز وحركة لمجاهدة شهوات أخرى باقية، ولا يحدث إلا في الحالة القصوى -عندما تقهر جميع الأهواء الفاسدة- أن تصبح "الأخلاقية" غير ذات موضوع؛ لأنها سوف تخلي مكانها حينئذ "للقداسة". هذا الحل لا يبدو لنا مقنعًا: أولًا: لأن النصوص لا تفرق بين نفس أعفيت من هذا الصراع إعفاء كليًّا، وأخرى أعفيت منه جزئيًّا، وليس هذا فحسب، بل يبدو أنها تضفي أعلى القيم على النفس التي تبغض الرذائل كلها وتمقتها: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} 2. ومن ناحية أخرى فإن الصيغة، على الرغم من تلطيفها، قد اقتبست كثيرًا من المبدأ المتناقض، الذي بنيت عليه الصيغة القديمة، فهي تنظر دائمًا إلى الجانب "غير المهذب" من النفس؛ فلا خلق إلا بقدر ما يكون هناك من شرور، يجب مجاهدتها، فبين الأخلاقية والجهد "الدفاعي" علاقة وثيقة إن لم يكونا شيئًا واحدًا.

_ 1 الحجرات: 8. 2 الحجرات: 7.

وأما حلنا فشيء آخر تمامًا. ذلك أننا -من ناحية- نبقي للنصوص هدفها الشامل، فنحن نرى أن النصر مهما تراحب مداه، وأية كانت علته يمنح النفس المتحررة من أدرانها أجرًا أعلى بالنسبة إلى النصر الذي يظل هدفًا لإغراءات الشر المتحفزة. وبدلًا من أن يسير تقديرنا متوازيًا مع مشقة المقاومة يجب أن يزيد كلما نقصت هذه المشقة. فالقول الحق في نظرنا، هو القول الذي يقرر علاقة عكسية بين القيمة وضرورة الجهد المحارب، فالقيمة مرتبطة بتقهقر هذه الضرورة، لا بتقدمها. ولكنا، في مقابل ذلك، لا نقفل حلقة الأخلاقية بعد هذا الانتصار؛ لأننا بدلًا من أن نوفق بينها وبين جانب واحد من نشاطنا، نحدد لها "مجالين" ثانيهما ليس أزهدهما قيمة، فبعد أن نصارع ضد الظلام، يواجهنا الصراع في النور، وكل شهوة نحكمها هي عقبة نجتازها، ونير ننزعه، ودرجة من الحرية والخصوبة نرتقيها. فمنذ أن تصبح الإرادة الطيبة لا يناوئها عدوها، وحين لا تصبح هنا ضرورة للجهد المكافح، "فإن جهدًا آخر يطرح نفسه، ويفرضها". فالوقت, والقوة اللذان كانا مخصصين لأعمال "الهدم" وإزالة الأنقاض سوف يدخران منذئذ، إلى أن يصبحا أعظم قدرًا، وأكثر استجماعًا، لأعمال "الإنتاج والبناء". لقد عرفت الأخلاقية أحيانًا بأنها: "فن السيطرة على الأهواء"، وهذا التعريف ناقص؛ لأنه لا يعبر إلا عن الجانب السلبي، والوجه الأدنى قيمة من العمل، بل إنه في رأينا مرحلة تمهيدية. فالأخلاق بالمعنى الكامل للكلمة هي أيضًا وبصفة خاصة مشروع لتحقيق القيم الإيجابية، وصيغة أمرها

المبدئي ليست: "كف نفسك عن الشر" بل هي: "افعل الخير". وكل ما في الأمر أننا نجد أنفسنا أحيانًا، وبشكل ضمني، مضطرين إلى أن نوجه هجومنا ضد العدو، الذي يروم تحويل أنظارنا عن هدفنا الأساسي. وحسبنا لكي نقتنع بهذا أن نقرأ هذا التدرج في الوصايا الإسلامية: فعن أبي موسى الأشعري قال: قال النبي, صلى الله عليه وسلم: "على كل مسلم صدقة" , قالوا: فإن لم يجد؟ قال: "فيعمل بيديه، فينفع نفسه ويتصدق". قالوا: فإن لم يستطع، "أو لم يفعل"؟ قال: "فيعين ذا الحاجة الملهوف". قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: "فيأمر بالخير" أو قال: "بالمعروف". قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: "فيمسك عن الشر، فإنه له صدقة" 1. هذا ومن الأمور الشائعة تشبيه الأخلاق بالطب، فأحدهما للنفس من حيث كان الآخر للبدن. وإذا كان فن الطب لا يكتفي بأن يكون موضوعه أن يعالج الحالة المرضية للجسم، كيما يوفر لها الصحة، بل يهتم أيضًا، وبأوفى قدر، بالحالة العادية، من أجل صونها، وتحسينها، فإن مهمة مماثلة ينبغي أن تناط بطب النفوس: فمن واجبه أن يصف لكياننا الجواني نظام التغذية، وطريقة اتباعه لتحقيق أنسب الظروف لتنمية هذا الكيان. وهكذا يأتي "الجهد المبدع" فوق "جهد المدافعة"، وبعد أن حددنا موقف القرآن حيال جهد المدافعة، يجب أن نرى الآن موقفه من جهد الإبداع.

_ 1 هكذا الحديث كما جاء في البخاري, كتاب الأدب, باب 33. وفيما ذكره المؤلف في الهامش بعض اختلافات. "المعرب".

الجهد المبدع

ب- الجهد المبدع: لنفترض الآن أن أحد ميولنا السيئة، أو كثيرًا منها، أو كلها -قد انزاح من وجودنا الأخلاقي، إننا نكون بذلك قد حققنا تقدمًا. وكلما تخلص حقل عملنا من أعشابه الضارة، أصبح أكثر قابلية للزراعة. ومع ذلك يجب ألا نظن أنه قد أصبح -للحال- صالحًا؛ لأن تنحية الاتجاهات الضارة ليس معناها خلق الاتجاهات النافعة بالضرورة. ولذلك يجب ألا نبقى في حالة اللامبالاة، والحياد، حيال ما يجب غرسه، فبعد أن ننزع الأعشاب الضارة يجب علينا أن نبحث عن البذور الجديدة. فأما إذا التزمنا موقفًا محايدًا في هذا الصدد فإن هذا الموقف يكون ضد الأخلاق. ولنفترض كذلك أن بعض الميول الصالحة الراسخة تحتل لدينا الآن المكان الأول، فتلك ولا شك خطوة جديدة، تجعلنا أكثر تأهلًا للأخلاقية، ولكنا لا نكون بعد في صميم أرضها. في هذه المرحلة يتمثل الخير لنا على أنه الأجدر، أو الأفضل، ولكنا لم نترك بعد مجال النزوع. وشتان بين أن "ننزع" إلى شيء، وأن "نريد" هذا الشيء، فالعمل الأخلاقي الأول هو الإرادة، على وجه الخصوص. وليس المراد فقط إرادة "الخير" من حيث هو مفهوم عام, يحوطه الغموض وعدم التحديد، مما تحتويه العموميات، بل هو إرادة هذا الخير، أو ذاك، محددًا معرفًا بكيفه، وكمه، وغايته، ووسائله، ومكانه، وزمانه. ولكن بأي معنى يمكن أن نتحدث هنا عن العمل النشط؟ نستطيع أن نميز "ثلاثة معان": فهو يتمثل "أولًا" في "بحث جاد" مستبعدًا كل تراخ، عن ذلك الحل المعين الذي يجب أن نأخذ به، فما

ينبغي أن نكل أمر تحديد موضوع إرادتنا إلى تصاريف الطبيعة الخارجية، ولا إلى حركات فطرتنا الداخلية. وليس دورنا الأخلاقي أن نقف متفرجين على ما يحدث أمامنا، أو في داخلنا، ولا أن ننقاد انقيادًا آليًّا للحواس، أو العواطف الجامحة. بل ينبغي على العكس أن نسمو فوق جميع الاعتبارات الباطنة والظاهرة، وأن ننظر من عل إلى كل الحلول الممكنة، لنجري اختيارنا واضحًا جليًّا، وذلك في الواقع هو الجانب الذي يختص بشخص الإنسان، كعامل حر، ومستقل، نسبيًّا. وحتى لو أننا اخترنا هذا الحل أو ذاك من الحلول المقترحة دون أن نضيف إليه أي تعديل، فإننا حين نوافق عليه وندمغه بطابع شخصيتنا، أو -في كلمة واحدة- حين نتبناه، حينئذ فقط نستحق أن نعتبر أخلاقيًّا صانعي أعمالنا. والقرآن الكريم، فيما خلا النصوص التي تذكرنا بواجباتنا الخاصة، ما زال يؤكد أهمية هذا الواجب العام الذي يضم كل الواجبات الأخرى، فهو يستثير همتنا دون تحديد، مستعملًا الفعل "عمل" في حالة اللزوم، ويصوغ لذلك أوامر وعظات يكررها، فيقول: {اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} 1, {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِين} 2. إن القدرية الاتكالية هي العدو الأول للأخلاق الإسلامية، ونحن ندعم رأينا في هذا الموضوع، بالواقعة التالية التي رواها أكبر اثنين من المحدثين "هما البخاري ومسلم". فقد روى البخاري عن محمد بن بشار، قال: حدثنا غُنْدر، حدثنا شعبة عن منصور والأعمش سمعا سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن عن علي -رضي الله عنه- عن النبي, صلى الله عليه وسلم: أنه كان في جنازة، فأخذ عودًا، فجعل ينكُت في الأرض، فقال: "ما منكم من أحد إلا كُتِبَ

_ 1 التوبة: 105. 2 آل عمران: 136.

مقعده من النار، أو من الجنة". قالوا: ألا نتكل؟ قال: "اعملوا، فكلٌّ ميسر" 1، ثم تلا قوله تبارك وتعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} 2. هذه الدرجة الأولية من الجهد لا بد منها للأخلاقية، فهي روحها وجوهرها، فمن وضع نفسه في الدرجة الأدنى من ذلك مباشرة، فإنه يتخلى ويتنازل عن كرامته كإنسان. ولكي نستعمل تعبيرًا من تعبيرات النبي -صلى الله عليه وسلم- نقول: إن عدم وجود هذه الدرجة الأولية لا يسمى ضعفًا، بل هو "عجز" حقيقي، وذلك وارد في قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز" 3. بيد أن للجهد المبدع "معنًى ثانيًا"، وهو لا ينحصر في اختيار إرادي، أيًّا كان نوعه، بل في "اختيار صالح". ولا ريب أنه إذا كان بحثنا -على سبيل الافتراض- قد اتجه من قبل نحو الخير، فإن جميع الحلول التي نحصل عليها سوف تبدو لنا صالحة. ومع ذلك فليس كل ما يستهدف خيرًا هو بالضرورة صالح في ذاته، ومشروعية الغاية لا تعفي من مشروعية وسائلها، فلكي يكون الحل المتصور مقبولًا لا يكفي أن يستهدف الخير، بل يجب كذلك أن يستلهم الشرع، وأن يتطابق مع قواعده، في بنائه ذاته. ولقد

_ 1 صحيح البخاري, كتاب التوحيد, باب 31. وفي حديث آخر: "اعملوا, فكل ميسر لما خلق له"، وقد خلط المؤلف بين الحديثين على ما في البخاري وكذا في مسلم, كتاب القدر, باب 1. "المعرب" 2 الليل: 5-10. 3 صحيح مسلم, كتاب القدر, باب 8, ونص الحديث: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان". "المعرب".

يحدث في الواقع أن يكون أحد الحلول كافيًا جدًّا ليوصف بأنه صالح، وأن يكون حل آخر أقل من أن يستحق هذا الوصف. ولنأخذ على ذلك مثال "الصدقة"، فلا شيء أوضح منها، ولا أكثر اشتراكًا بين جميع الضمائر، طالما حملت على معناها العام. ولكن متى طلبنا بدقة ما يريد كل فرد أن يصنعه بصورة حسية في هذا المجال، كيما يفي بتكاليفه -فإننا نقع في أكثر التعريفات تضاربًا؛ ذلك أن المساعدة المالية التي يريد المتصدقون أن يقدموها للفقراء قد تختلف، على ما لا يحصى من الدرجات، تبعًا لكرمهم، وابتداء من الفلس، إلى حد هبة الثروة بأكملها. ولكن الشرع الأخلاقي، على الأقل في لغة الإسلام، لم يدع الأمور تجري في أعنة الفوضى، بل لقد أقر إجراء، وثبت حدودًا. فهو -من ناحية- قد أقر حدًّا أدنى معونة سنوية قدرها 2.5% من الثروة النقدية و5% أو 10% من المحصول "تبعًا لطريقة الري" وهو من ناحية أخرى قد جعل ثلث الثروة الكلية حدًّا أقصى، من حق الإنسان عند الوصية، أن يمنحه لآخر، من غير ورثته الشرعيين. فواجب المؤمن محدد على هذا النحو: أن يتحاشى الطرفين المحرمين، فلا يقنع بقدر من المال أقل من الحد الأدنى الواجب، ولا يتجاوز الحد الأقصى المباح. وإذا كان المجال هنا قد اهتم بالاعتبارات الكمية، فهناك مجالات أخرى تضع في الاعتبار الأمور التي تتصل بالكيفية، وبالهدف، وبالزمان، وبالمكان. وكلها شروط بنائية أو تحتمها الظروف، ويجب أن تتحقق لتنشئ ما قد تعتبره الأخلاق الإسلامية اختيارًا صالحًا. فالعمل الذي ينعدم فيه أحد هذه العناصر الجوهرية يسقط بنفس الأثر في حمأة الشذوذ. ولقد نجد في هذه التنظيمات بعض الجور على الضمائر الفردية، بحيث لا تترك

شيئًا لاختيارها الحر، ولسوف نرى فيما بعد مدى حرية التصرف المتروكة لهذا الاختيار. بيد أنه ليس من الصعب أن نلاحظ أن القاعدة لم تحل كل مشكلة، وهي لا تستطيع مطلقًا أن تحل كل مشكلة، وذلك حين لا نتجاوز الإطار المقيد للحد الأدنى المقبول. ونعود إلى نفس المثال، لنجد أنه يبقى علينا أن نختار الأشخاص الذين لهم الحق كل الحق في مساعدتنا، والطريقة التي نعطيهم بها "وعلى سبيل المثال: سرًّا أو علانية"، وأن نراعي كذلك كيفية عطائنا، وبخاصة حين يكون عينيًّا. وباختصار، كلما خضنا في التجربة الحسية وجدنا أن بديلًا يفرض نفسه دائمًا على اختيارنا، دون أن نخرج -مع ذلك- عن واجبنا الدقيق. وأخيرًا فلنتناول "الدرجة الثالثة" من الجهد، فعندما نريد حل مشكلة أخلاقية يتمثل لأعيننا كثير من الحلول، كلها صالحة على وجه التحقيق, وقد يحدث غالبًا ألا يكون صلاحها بدرجة متساوية، فمنها ما تتوفر فيه الشروط الأولية للواجب، توفرًا كاملًا، ومنها ما هو أكثر أو أقل جدارة. و"البحث عن الأفضل" هو ما ينشده الجهد المبدع في درجته الثالثة، فهل هذا البحث عن "الأفضل" هو أيضًا مما تلح الأخلاق القرآنية في طلبه مثلما تلح في طلب "الخير" دون زيادة؟ من المحال علينا أن نجيب بالنفي، فالقرآن ما يزال في الواقع يدعو معتنقيه إلى هذا النوع من الجهد، ويوصيهم به، ومن ذلك قول الله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ

أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} 1، وقوله: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} 2، وقوله: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} 3، وقوله: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُون} 4. وهي آيات تريد أن تقول: إن الذين كان لهم التفوق الأخلاقي على الأرض سوف يكونون أول من يلقاهم الله يوم القيامة. وأخيرًا, نقرأ في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه القولة الجميلة: "إن الله تعالى يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفسافها" 5. وعلى هذا النسق نجد مثالًا ملموسًا في واقعة تاريخية مشهورة، فنحن نعلم الظروف التي عزم فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته على أن يثأروا من المشركين في مكة لأول مرة، أولئك الذين لم يقتصروا على أن أكرهوا المسلمين على ترك بلدهم، واستولوا على أموالهم وديارهم المهجورة، بل إنهم دأبوا على اضطهاد المستضعفين الذين لم يستطيعوا الهجرة. وقد خطرت للمسلمين المهاجرين إلى المدينة وسيلتان لاستنقاذ إخوانهم المحتجزين بمكة، ولتحطيم كبرياء المعتدين، فإما أن يتصدوا لقافلة تجاراتهم لدى عودتها من الشام، وإما أن يأخذوا بزمام المبادرة فيلاقوا جحافلهم التي تفوق عدد المسلمين ثلاث مرات، والتي توفر لها الكثير من العدة والسلاح، وكانت قد سارت إليهم فعلًا، واستشار النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه، قائلًا: "إن الله وعدني إحدى الطائفتين، العير أو النفير"، وقد مال الاتجاه العام أول

_ 1 الزمر: 17-18. 2 الزمر: 55. 3 المائدة: 48. 4 الواقعة: 10-11. 5 ذكر المؤلف هذا الحديث: "إن الله يحب معالي الأخلاق، ويكره سفسافها" وأحال إلى الجامع الصغير للسيوطي 1/ 75, الذي نقلنا عنه النص كما أثبتناه. "المعرب"

الأمر إلى الحل الأقل خطرًا، والأكثر فائدة، ولكن الله -عز وجل- كان يريد أكثر الحلول تأثيرًا، وأعظمها شرفًا، وأقدرها على حسم النزاع بين الحق والباطل، وقد كان، وهو ما سجلته الآية الكريمة: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} 1. وهكذا يدعو القرآن المؤمنين إلى أن يبتغوا في سلم الأعمال أسماها وأقواها تأثيرًا. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: إلى أي مدى يطلب منا هذا الجهد الأرفع؟ وهل هو يطلب بنفس الصرامة المتمثلة في الدرجتين السابقتين؟ نعم، ولا ريب، عندما تكون إحدى القيم الرفيعة في خطر، ولا يوجد لصونها والمحافظة عليها من وسيلة أمام الإنسان إلا أن يجاهد بكل قواه، ويستنفد كل موارده. وأعظم دلائل الإيمان -كما رأينا- هو التضحية التي يقدمها المؤمن عن طواعية وحرية، وهو بذل النفس -حتى النفس- من أجل المثل العليا التي تعلو عليها. ولكن، هل من الممكن في الظروف العادية أن نجيب بالإيجاب، بكل دقته وصرامته؟ لا نظن ذلك؛ لأن معناه، أولًا، أننا نلغي فكرة الدرجة من تقديراتنا

_ 1 الأنفال: 7-8.

الأخلاقية، وقد يصبح مجال العمل ضيقًا شديد الضيق، إلى حد ألا يسمح إلا بعمل واحد لا يختلف مطلقًا بالزيادة أو النقصان. ولسوف نجد أن الجهد الكريم الذي قد يقف على بعد خطوات دون الغاية المرجوة، سوف يوصم بنفس القدر من اللاأخلاقية التي يوصم بها أي عميل بليد، أو متوسط، أو ضعيف. بل إن الفضيلة نفسها سوف تكون مفهومًا خياليًّا، لا وجود له إلا في عالم الأساطير. ذلك، أنه إذا كان ما ندعوه بالممكن الأفضل يعني هذا الحد المحدود للقدرة الإنسانية فلسوف يختلط لا محالة بما هو فوق الإنساني، أو بالأحرى بما هو لاإنساني. فلكي يتأكد الإنسان من أنه استعمل كل قواه يصبح دليله الوحيد أن ينتحر باستهلاك نفسه. وبهذا نرى إلى أية استحالة يقودنا فرض كهذا. أما موقف القرآن فجد مختلف عن هذا. فهو من ناحية يجعل فكرة "الكمال" ما بين الانهماك غير المعقول، والجهد المتوسط. وهو من ناحية أخرى، مع تشجيعه الناس على أن يطلبوا الأفضل، يزكي ويستر بلطفه أهل الصلاح الطيبين جميعًا، ضعفاء كانوا أو أقوياء. ومن أجل هذا وجدناه بعد أن يقيس المسافة بين المجاهد الذي يبذل نفسه وماله, والخالف الذي يبقى في المؤخرة، وبعد أن يعلن أفضلية المجاهد في قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} 1، إذا به يستدرك قائلًا: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} 2. وهذه المقارنة ذاتها، بل ونفس التقدير، بين منفقَيْن، أحدهما بادر

_ 1 و2 النساء: 95.

بالإنفاق في الظروف الشاقة، على حين جاء الآخر من بعد، عندما تضاءلت المشقات كثيرًا: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} 1. ومن هنا ينبع قانون عام ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير" 2. ومن هنا نفهم بسهولة لماذا تتغير لهجة القرآن، فهو حين يتحدث عن موقف عُدِمت فيه الطاقة كلية، وسيطر عليه تراخٍ عظيم التفريط، يكون التحريم صريحًا، واللوم عنيفًا، فأما إذ كان الأمر هنا أمر إهمال ضئيل وضعف نسبي بسيط, فإن الرحمة تبدو هنا مشروعة، وملائمة. وهذا المبدأ في التدرج، الذي انطوت عليه نصوص لا تحصى، قد هدى العلماء والفقهاء المسلمين إلى ترتيب معاني الخير والشر متدرجة، بحيث أدى ذلك إلى تصنيف كل منهما في طائفتين رئيسيتين، وعلى هذا النحو فإن العمل الصالح يمكن أن يكون: إما تكليفيًّا صارمًا، وإما تفضيليًّا جديرًا بالاختيار، وكذلك في حالة العكس أي: العمل الخبيث، إما أن يكون محرمًا صراحة، وأما معيبًا فقط، غير مستحب. وها نحن أولاء الآن نستطيع أن نجيب عن السؤال المطروح, فنحن باستعمالنا لهذه المصطلحات التي أصبحت مقبولة لدى الجميع نقرر أولًا أن البحث عن الممكن الأفضل، متى تجاوز منطقة محددة بالنسبة إلى كل واجب، والتي تعتبر تكليفًا مطلقًا -فإنه يدخل بذلك في مجموعة الخير النافلة.

_ 1 الحديد: 10. 2 صحيح مسلم, كتاب القدر, باب 8.

ولعلنا نذكر حالة الأعرابي الذي جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثائر الرأس، فقال: يا رسول الله، أخبرني ماذا فرض الله عليَّ من الصلاة؟ فقال: "الصلوات الخمس، إلا أن تطوع شيئًا". فقال: أخبرني بما فرض الله عليَّ من الصيام؟ قال: "شهر رمضان، إلا أن نطوع شيئًا". قال: أخبرني بما فرض الله عليَّ من الزكاة؟ قال: فأخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شرائع الإسلام. قال: والذي أكرمك لا أتطوع شيئًا، ولا أنقص مما فرضه الله عليَّ شيئًا، فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "أفلح إن صدق" 1. ثم إن كلمة "الأفضل" هنا لا ينبغي من ناحية أخرى أن تؤخذ على أساس أنها صيغة الحد الأعلى، بل على أساس المقارنة، فإن المستوى الذي يندب جهد كل إنسان إلى أن يبلغه مباشرة ليس هو الدرجة الحدية التي يتعين الوقوف عندها، بل كل الامتداد الذي يقع فوق التكليف، بالمعنى الدقيق للكلمة. وفي هذا الامتداد المتراحب الذي يتسع لتنافس كل الناس، يدعى كل واحد منهم إلى أن يرتقي بالتدريج، من نقطة إلى أخرى، بحسب قدراته، ومع مراعاة ما بقي من تكاليفه. هاتان الملاحظتان تسهمان من جانبهما في إبراز الصفة الرحيمة في هذه الأخلاق، فهما تضيفان إليها جانبًا جديدًا، فضلًا عن الجانب الذي تناولناه من قبل2. وخلاصة القول: أن العناصر الثلاثة التي يتكون منها الجهد المبدع بأكمل معاني الكلمة هي: "الاختيار الإرادي"، و"الاختيار الصالح"، و"الاختيار الأفضل".

_ 1 البخاري, كتاب الحيل, باب 3. 2 انظر الفصل الأول, فقرة 3 ب.

والعنصر الأول هو روح الأخلاق بعامة، والثاني يقدم إلى كل من الأخلاق الخاصة نوعيتها المختلفة، مع مراعاة القواعد الخاصة بكل نوع، وأما الثالث فهو يصل أخيرًا لإتمام عمل الاثنين وإكماله. وإذا كانت أغلبية المذاهب الأخلاقية تقوم على أساس مبدأ وحيد، هو "الواجب" أو "الخير"، فإن الأخلاق القرآنية هي إذن، وفي نفس الوقت "أخلاق واجب"، و"أخلاق خير". ولو أننا افترضنا أن الجهد بالمعنى الكامل للكلمة في متناول أيدي جميع الناس فإن هذه الأخلاق لا تبدو متشددة إلا بصدد الدرجتين الأوليين، فأما الدرجة العليا فإن اقتضاءها يصبح "نصحًا"، و"تشجيعًا". والآن ندرك كيف يصبح من الممكن أن نقيم بين هذه المراحل الثلاث للجهد المبدع سلمًا من القيم الأخلاقية المتصاعدة. والتوازي "بين قوة الجهد والتصاعد في القيمة" وهو الذي كنا نرفضه بالنسبة إلى جهد المدافعة، نقبله هنا بكل رضًا فيما يتعلق بالجهد المنتج. ولكن لما كانت زيادة هذا الجهد المنتج مستفيدة طبيعيًّا من النقصان المشروع في جهد المدافعة، فإن نتيجتينا تتوافقان، وتؤكد إحداهما الأخرى. فهما في الواقع ليستا سوى ترجمتين لحقيقة واحدة بذاتها. وفائدة هذا المفهوم أنه يعيننا على حل عدد من "المشكلات". فهو يسمح لنا "أولًا" بأن نُرضي الحرص المشروع للنظرية القائلة بأن "الجهد هو شرط كل قيمة أخلاقية". والواقع أن هذه النظرية تجد تسويغها في هذا الشعور بالحيرة الذي يصيب الضمير، حين يراد له أن يسلم للصالحين بثواب على أفعال لم يحققوا فيها جهدًا ولا انتصارًا، والمبدأ الذي تدافع عنه تلك النظرية مبدأ ممتاز، ولكنها فقط تطبقه تطبيقًا سيئًا، ومن ناحية

واحدة: إنها لا ترى أن النقص من ناحية مُعوَّض بالزيادة، وفيض الزيادة من الناحية الأخرى1. والواقع أن هدف جهد القديس أو الصالح ليس: أن يتحاشى الكبائر، ويتحفظ من السقوط في "قاع" الأخلاق، بقدر ما هو: أن يتحاشى التوقف عند درجة من الكمال أية كانت، وأن يصعد دائمًا إلى أعلى، في الطوابق العليا. فالأخلاق عند القديسين ليست حربًا، بل هي بالأحرى حياة، بكل ما تضمه الحياة من صراع في المسيرة وفي التقدم؛ ولذلك يشعرون أثناء فترات راحتهم القصيرة بأنهم منادون إلى أن يبدءوا العمل، وهذا النداء الباطن يرتدي في القرآن شكل دعوة صريحة إلى النبي, صلى الله عليه وسلم: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ، وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} 2. وهكذا يتضح أننا أبعد ما نكون عن القول بأن أي مخلوق، مهما كان, يمكن أن يُعفى نهائيًّا من الكفاح؛ بل إننا نرى كيف ينفتح أفق لا حد لرحابته أمام الأنفس الطاهرة المخلصة كيما تبذل جهدها. فحتى لو انتهت مقاومتنا ضد الأهواء المضادة للشرع، فإن علينا أن نقهر خمود المادة، وأن ننتصر على تثاقل الفطرة؛ كيما نحلِّق في آفاق تزداد على مر الزمن رقيًّا. ومن هنا تنبع هذه النتيجة التي لم يسبق إليها أحد، والتي تبدو في الظاهر متناقضة: إن "القداسة" بدلًا من أن توضع خارج الأخلاق، سوف تكون -بالعكس- "الأخلاقية بأجلى معانيها". وتلك على

_ 1 أدرك القشيري جيدًا فكرة هذا التعويض. "انظر: الرسالة, فصل الإرادة, ص92" ويأتي بعده بزمن طويل ابن عباد ليلاحظ ملاحظة مماثلة، بمناسبة المقارنة بين السالك المجذوب، والمجذوب السالك. "انظر: الرسائل ص40-41". 2 الانشراح: 7-8.

ما نعتقد وجهة نظر القرآن، في قوله مخاطبًا النبي, صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} 1. و"المشكلة الثانية" التي يمكن أن تحل، في ضوء المبدأ نفسه، هي مسألة معرفة ما إذا كانت "القداسة" تنتظم بدورها درجات؟ لا شيء يمنعنا من أن نجيب بالإيجاب، شريطة أن تكون جميع الدرجات داخل إطار الكمال، بأوسع معاني الكلمة. وموقف القرآن واضح كل الوضوح في هذه النقطة، وإليك بعضًا من أقواله: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} 2، {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} 3. ومع ذلك، فلنحذر أن نخلط هنا فكرتين متميزتين تميزًا تامًّا، وإن كانتا متصلتين من بعض الجوانب: "الأقل كمالًا" و"الناقص"، فغالبًا ما ينزلق الفكر تلقائيًّا من إحدى هاتين الفكرتين إلى الأخرى، ويمضي هكذا إلى حد أن يسيء تقدير رجل كامل، بمقارنته برجل أكثر كمالًا. ولقد اعتنى رسول الإسلام -صلى الله عليه وسلم- بتنبيهنا إلى هذا الموقف إزاء رسل الله، وتحذيرنا منه، فقال: "لا تخيِّروني على موسى" 4, وإذا كان القرآن

_ 1 ن: 4. 2 البقرة: 253. 3 الإسراء: 55. 4 انظر البخاري، كتاب الخصومات, باب 1، وفي حديث آخر: "لا تخيروا بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من تنشقُّ عنه الأرض، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق، أم حوسب بصعقته الأولى". وهذا الحديث أوضح بيانًا, وأقل التباسًا من سابقه، في التعبير عن مناط النهي عن التخيير. "المعرب".

قد حكى على لسان المسلمين هذه المقالة الدالة على الإيمان: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} 1 فإن هذا النفي ينبغي ألا يتوجه فقط إلي الفرق المتعلق بحدث الإيمان، أعني "الاعتقاد ببعضهم، والإنكار لآخرين منهم"، كما تدل عليه الآية الكريمة: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا، أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} 2, بل ينبغي أن ينصرف أيضًا إلى كل تفرقة تتجلى في تقدير يضفى على بعضهم، ويحرم منه آخرون. ومن هنا، فيما نعتقد كان موقف القرآن، في أنه لم يتبع الترتيب التاريخي، فهو لا يسير على أي نظام محدد في تعداد الأنبياء، بحيث إن نفس الاسم، المنسوب إلى نفس المجموعة، لا يظهر دائمًا في نفس الموضع، على هذه القائمة. وفي رأينا أننا حين نقرأ أسماءهم في أنساق متنوعة، فإن الهدف من ذلك إزالة الوهم بأن بينهم تدرجًا في المقام ثبت لهم جميعًا مرة واحدة، وقد يعد ذريعة إلى موقف غير مناسب حيال بعض منهم، أيًّا كان. "ومشكلة أخرى أيضًا" هي مشكلة معرفة ما إذا كانت "القداسة" يمكن أن توجد مع "المعصية"؟ عن هذا السؤال يمكن أن نجيب بنعم، وبلا، تبعًا للتعريفات التي تعطى للكلمات. فإذا كان المقصود بكلمة "معصية" معناها العادي، الذي يتمثل في عصيان متعمد، فلا مرية في أنه لا يمكن أن تكون موضوع حديث بالنسبة

_ 1 البقرة: 285. 2 النساء: 149-150.

إلى من كلفتهم السماء بهدايتنا، إن عصمة هؤلاء الرجال، في الواقع، وفي الشرع، يجب ألا تكون موضع شك، لسبب جد بسيط، هو أننا على سبيل الافتراض يجب أن نقتدي بهم، والمعصية التي قد يقعون فيها ربما يقر في أذهاننا حينئذ أنها صارت "واجبًا" ولم تعد من قبيل "المحرم". أما الأصفياء الذين لم يكلفوا برسالة إلى الناس، فعلى الرغم من أن عصمتهم ليست ثابتة "شرعًا" فإنها توجد في "الواقع" بصفة عامة. وإذا كان يحدث لهم أن يذنبوا، فما ذلك إلا على سبيل الندرة والشذوذ، الذي يحدث نتيجة نسيان، أو غفلة، بحيث منع ذلك مؤقتًا ضميرهم من أن يمارس وظيفته العادية، ولكنهم سرعان ما يرجعون إلى صوابهم، وفي ذلك يقول الله سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} 1، {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} 2. فأما إذا أخذنا كلمة "المعصية" بطريقة أخرى، وحملناها على معنى لطيف، لا يعني سوى تأخير قليل، وتوقف مؤقت طارئ، في استيعاب القيم، فإن المعصية بهذا المعنى تتمثل في أن يأخذ القديس بحل حسن، أو حتى ممتاز في نظره، ومع ذلك، فإن هناك حلًّا آخر، ربما كان أفضل في الواقع. وعندما ينكشف له هذا الحل الأفضل أخيرًا، فإن الأسى والندم الذي يجده في نفسه حينئذ، يعدل ما يستشعره الرجل الصالح بعد أن يرتكب كبيرة. وبهذا المعنى، اعتاد المفسرون أن يشرحوا لنا ألفاظًا مثل: "العصيان"

_ 1 آل عمران: 135. 2 النساء: 17.

في قوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ} 1، و"الظلم" في قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ} 2، و"الذنب" في قوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} 3، وهي ألفاظ يصف بها القرآن أحيانًا الأنبياء، ولم ينج منها رسول الإسلام محمد, صلى الله عليه وسلم. وهذه الألفاظ كلها، وهي التي تعني حين يوصف بها عامة الناس أشد الذنوب نكرًا، هي هنا ذات معنى بالغ اللطف، كالنسيان: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} 4، والخطأ: {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} 5، أو حتى مجرد الانعكاس الطبيعي: {إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُون} 6، وهذه كلها أمور لا معنى لها في نظر العامة، ولكنها تتعرض لنوع من التضخيم في ضمير الصفي. ولقد قيل دائمًا بحق: "إن النبل ملزم" "noblesse oblige". والواقع أن القرآن يعملنا أن ذنوب الكبار ضعف ذنوب الآخرين: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} 7، {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} 8، على حين أن الذين يجاهدون حتى لا يقعوا في الكبائر تغفر لهم الصغائر برحمة من الله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} 9، {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} 10.

_ 1 طه: 121. 2 النحل: 11. 3 الفتح: 2. 4 طه: 115. 5 التوبة: 43. 6 النمل: 10. 7 الأحزاب: 30. 8 الأحزاب: 32. 9 النساء: 31. 10 النجم: 32.

وهكذا نجد في القرآن لكل درجة من درجات الدقة مقتضياتها الخاصة، كما نجد فيه -لكي نبلغ مستوى الكمال الكلي- تصاعدًا لا ينتهي. والحق أنه كثيرًا ما يحدث لدى كبار القديسين أن يحكموا على أنفسهم في سلوكهم العادي بأنهم أدنى من المرتبة العليا التي يطمحون إليها، ولما كان ماضيهم بالنسبة إلى حاضرهم كحاضرهم بالنسبة إلى مستقبلهم، ليست هذه كلها سوى مراحل من التقدم المستمر، فإن كل حالة سابقة تتمثل لهم على أنها مما يوجب الحياء حقًّا إذا ما قورنت بما يلحقها، وبهذا المعنى فسر كثير من الشراح الآية القرآنية التي تقول: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} 1، وفسروا بنفس الطريقة ما كان من همة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونشاطه في الصلاة، وما كان من إلحاحه كل يوم، في رجاء عفو الله: "فعن أبي بردة قال: سمعت الأغر، وكان من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحدث ابن عمر، قال: قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "يأيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة" 2. لقد درسنا فيما سبق فكرة القرآن عن الجهد، في جانبيها الدفاعي والهجومي، ورأينا كيف أن الجهد، في شكل أو آخر، وفي جميع الدرجات -هو أداة ضرورية للحياة الأخلاقية، سواء لإزاحة الشر، أو لأداء الخير، أو لبلوغ الكمال. والصراع شرط الإنسان، سواء لكسب الفضيلة، أو لحفظ الحياة: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} 3. ولكن بحثنا حتى الآن قد انصب بصورة جوهرية على الجزء الباطني من الجهد، ويجب علينا الآن أن ندرسه في شكله الحسي. وإذن فماذا تكون القيمة الأخلاقية للجهد البدني في نظر القرآن؟

_ 1 الضحى: 4، وقد ترجم المؤلف هذه الآية على المعنى الذي ساقها دليلًا عليه، فقال ما معناه: "والمستقبل خير لك من الحاضر"، والعبارة الفرنسية هي:"en verite, le future vaut mieux pour toi "o prophete" que le present". وواضح أن الترجمة لم تنقل الآية، وإنما عبرت عن وجهة نظر بعض المفسرين في بيانها. وذلك هو غاية ما يبلغه المترجمون لكتاب الله المعجز بيانه للأولين والآخرين. "المعرب" 2 صحيح مسلم, كتاب الذكر, باب 12. 3 البلد: 4.

الجهد البدني

الجهد البدني مدخل ... 2- الجهد البدني: لنذكر أولًا أنه إذا كانت هنالك أخلاق ترى في الألم النازل بأجسادنا، من حيث هو، قيمة جديرة بأن تطلب لذاتها، أو باعتبارها نظامًا لنجاة النفس -فإن هذه ليست أخلاق القرآن، على وجه التأكيد. ذلك أن هذه الأخلاق لا ترى أن يبحث الإنسان عن الألم البدني صراحة، فضلًا عن أن تأمر به فهي قد فرقت تفرقة واضحة بين الجهد البدني الذي يتضمنه واجب مقرر، أو الذي يصحبه من وجه طبيعي, وبين جهد مندوب، هو إبداع خالص لهوى أنفسنا. إنها ترفض هذا النوع الأخير من الجهد، وتحرمه. ولعلنا نعرف خبر أولئك النفر من المؤمنين الذين اعتقدوا أن قيامهم بواجب العبادة المشكور يقتضي أن يفرضوا على أنفسهم ضروبًا مختلفة من الحرمان والتقشف، وهو أمر أشار إليه القرآن، دامغًا إياه بالإفراط والمخالفة، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} 1. وقد روت السُّنة تفاصيل هذا الموقف فيما روي عن أنس أن نفرًا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- سألوا أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- عن عمله في السر، فقال بعضهم:

_ المائدة: 87-88.

لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فحمد الله وأثنى عليه، فقال: "ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" 1. والواقعة التالية تعطينا مثالًا آخر، من هدي رسول الله، فعن ابن عباس قال: بينا النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب، إذا هو برجل قائم، فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم، ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم، فقال النبي, صلى الله عليه وسلم: "مره فليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتم صومه" 2. ألا يترتب على هذا بداهة أن الجهد البدني في الإسلام لا يمكن أن تكون له قيمة منفصلة عن مضمونه؟ ولهذا، فعندما يكون الأمر بالعكس، أي: عندما لا يكون أداء الواجب إلا مع تحمل بعض المشقة البدنية، فإن القرآن والحديث لا يألوان جهدًا في طلب جهدنا في مختلف صوره: - جهد من أجل المعيشة: {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْض} 3, {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} 4.

_ 1 صحيح مسلم, كتاب النكاح, باب 1. 2 صحيح البخاري, كتاب الأيمان والنذور، باب 30. وقد اختلف النص الذي نقلناه من الصحيح عن نص الأصل في عبارة "مروه" والصواب ما أثبتناه. "المعرب". 3 الجمعة: 10. 4 الملك: 15.

- جهد من أجل اكتساب ما يكون صدقة1. - جهد لأداء العبادة في وقتها المحدد، دون نظر إلى الفصول، وتغير ظروف الجو والمناخ. ولهذا كان من الواجب أداء الصلاة، بطريقة أو بأخرى، متى حان وقتها: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} 2، حتى خلال الحرب: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} 3. والصوم يجب أداؤه، في أطول الأيام، مثلما يؤدى في أقصر الأيام: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهْ} 4. والحج يؤدى، في أي فصل من فصول السنة وقع: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} 5، {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} 6. ومن المعلوم، فيما قبل الإسلام، أن العرب لكي ييسروا تجارتهم في سوقهم السنوية، ولكي يوفقوا بينها وبين هذه العبادة -جعلوها ثابتة في الربيع، واقتضاهم هذا أن يقوموا بعملية تأجيل تسمى "النسيء"، فألغى القرآن هذه العادة حين أثبت "أو بالأحرى أعاد تثبيت" تاريخه القمري المحدد، بحيث يمر على التوالي بجميع فصول السنة، وفي ذلك يقول تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} 7. - وهناك أخيرًا، جهد الدفاع عن الحقيقة المقدسة، وفي هذا يصبح التوجيه أكثر ترديدًا، وأعظم قوة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ

_ 1 انظر ص481 من الأصل: "حديث الصدقة". 2 النساء: 103. 3 البقرة: 239. 4 البقرة: 185. 5 البقرة: 189. 6 البقرة: 197. 7 التوبة: 37.

بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ، إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} 1. وكذلك: {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} 2، {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئًا يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} 3. وهذه الروح القوية في الجهاد لا تظهر فقط من خلال تكرار الأمر بالجهاد في القرآن، بل إن لها صداها في القول الذي كان السابقون إلى الإسلام يبايعون عليه رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "فعن عبادة بن الوليد بن عبادة عن أبيه عن جده قال: بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة، في العسر واليسر،

_ 1 التوبة: 38-42. 2 التوبة: 81. 3 التوبة: 120.

والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم"1. وفي حديث آخر يحدد النبي أن: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" 2. على أننا نعتقد أن من المفيد أن نبين ببعض الأمثلة إلى أي مدى تتغير قيمة الجهد البدني تبعًا لما قد يكون له من علاقة وثيقة أو غير وثيقة مع الخير الذي يستهدفه الواجب. ولسوف نرى في الواقع أن هذه العلاقة تبلغ تارة درجة التماثل مع الجانب الرئيسي للواجب، وتارة تتوافق مع جانب ثانوي في العمل، تتفاوت أهميته بين كثرة وقلة، وثالثة تتضاءل إلى مجرد علاقة مصاحبة. وإليك ثلاثة أمثلة:

_ 1 صحيح مسلم, كتاب الإيمان, باب 8، وقد ذكر المؤلف في نص الحديث "وأن نقول الحق حيثما كنا"، والصواب ما ذكرناه: "وعلى أن نقول بالحق أينما كنا". "المعرب". 2 مسند أحمد 3/ 61.

النجدة

1- النجدة: عندما نقول: يجب أن ننقذ حياة غريق، أو نصون حياة يتيم، وعندما يكون الأمر أمر حفظ الحياة الإنسانية، فعندئذ يماثل القرآن حياة الإنسان الواحد المنقذة بحياة الإنسانية جمعاء: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} 1. فماذا يكون على وجه الدقة واجبنا في ظروف كهذه؟

_ 1 المائدة: 32.

من البدهي أن واجبنا لن يكون أن نطيل فعلًا هذه الحيوات؛ لأنه ليس لنا سلطان مباشر على هذه النتيجة النهائية، مع أن هذا هو "الخير" الحقيقي المراد. إن واجبنا هو أن نقود أنفسنا نحو هذه الغاية، من الطريق المتاحة لنا، وهذه الطريق الوحيدة التي أتاحها الله لنا ليست سوى أن نسخر قوانا، ونوجهها في اتجاه هذا الهدف، وذلك يعني في آخر الأمر أن نمارس بعض الأعمال، وأن نبذل بعض الجهود: جهدًا ذهنيًّا نكشف به الوسيلة، وجهدًا أخلاقيًّا تمليه الإرادة الطيبة لنحمل أنفسنا على استخدام هذه الوسيلة، وجهدًا عضليًّا لتنفيذ قرارنا "وذلك بأن نلقي بأنفسنا -مثلًا- في الميم". والخطوة الأخيرة من كل هذه الخطوات التي يترتب بعضها على بعض -هي التي توصلنا إلى أعلى درجات الخير المتصورة، فهي أقرب سبب لما حققناه، كما أنها الحدث الذي تميز بتضحية كبيرة. والجهد البدني يشكل هنا، كما نرى، جزءًا أساسيًّا، بدونه تظل مهمتنا ناقصة نقصانًا ظاهرًا.

الصلاة

2- الصلاة: أليس في توجه المؤمن إلى الله بفكر خالص مستجمع راحة كبرى لنفسه؟ ولكن اللغة التي تعبر عن هذا الفكر ليست بدون تأثير عليها، فهي تثبتها، وتنيرها، وتعززها. ثم إن خشوع البدن الذي تتجسد فيه الفكرة إطار لهذه الفكرة، وهو في الوقت نفسه غذاء لها. وإذا لم نبلغ المكان الذي تتم فيه هذه "المناجاة الخاصة" إلا بعد أن نتخذ عدة استعدادات شبيهة بما يتخذه المرء قبل زيارة شخصية رفيعة -فإننا بذلك نؤكد تأكيدًا مضاعفًا شعورنا بالاحترام لهذا الاستقبال. والتركيب العضوي لهذه العناصر المختلفة هو نفس تعريف الصلاة، التي أمرنا الإسلام بأدائها عدة مرات في اليوم.

ومع ذلك فإن الجوانب كلها ليست متساوية النصيب في التكليف، ففي ظرف معين يمكن إغفال هذا الجانب، وفي ظرف آخر يمكن إغفال ذاك، وهكذا، ومن الممكن أن نغفلها جميعًا، ما خلا واحدًا على وجه التحديد، هو الأساس والمحور، وسائر العناصر بالنسبة إليه كالقشة بالقياس إلى البذرة، وكالصدقة بالنسبة إلى اللؤلؤة، أعني: عمل القلب. فالمحتضر الذي لا يستطيع أن يأتي أدنى حركة، ولا أن ينبس ببنت شفة -ملزم أن يؤدي صلاته أداء ذهنيًّا، بشرط وجود وعيه وذاكرته. وهكذا نجد أن العمل البدني الذي كان منذ لحظة "فيما يتعلق بالنجدة" في المرتبة الأولى -لا يؤدي هنا سوى دور ثانوي، ومع ذلك فهو يعتبر جزءًا متممًا للواجب1، في الظروف العادية.

_ 1 أي: وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كما تقول القاعدة الأصولية المشهورة. "المعرب"

الصوم

3- الصوم: هنا نقف أمام نوع من المشقة البدنية، التي تحدث خلال أداء الواجب، ولكنها قلما تكون جانبًا منه. فالألم بطبيعته لا يمكن أن يكون موضوع تكليف؛ لأن كل ألم -بمقتضى التعريف- انفعال، وليس عملًا. ولكن قد يقال لنا: إذا لم يكن ممكنًا أن يكون موضوعًا مباشرًا لتكليف، فقد يكونه بوساطة عمل معين، يصلح لإثارته، وإذن فمن الممكن أن يعبر عن الأمر بالصوم في هذه الكلمات: "أذق نفسك ألم الجوع والعطش بامتناعك عن الشراب والطعام، خلال ساعات محددة". ونجيب عن ذلك بأنه لو كان الأمر هكذا فلن تكون هنالك وسيلة

للطاعة، في وسع من لا يحس بهذا الحرمان المحدد، ما دام تطويل الصوم زيادة على ساعاته محرمًا، كتحريم قطعه قبل موعده. وإذا علمنا أن أولئك الذين يرعون القاعدة بإخلاص متساوون في الطاعة، بصرف النظر عن رد الفعل الخاص في أجسامهم، لنتج عن ذلك بداهة ألا يدخل الألم البدني هنا في الحساب، كجزء من الواجب، بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة. والواقع أن الواجب شيء آخر، وقد كان من طريق الصدفة أن وجدت له علاقة بالألم. والجهد الذي نبحثه هنا ذو طابع أخلاقي أساسًا، إنه أولًا، وقبل كل شيء نوع من "التدريب" المفروض على "الإرادة الإنسانية"، حتى نحصل منها على قدر من الانتظام، والثبات، في خضوعها "للإرادة الإلهية". ولما كانت إرادتنا سيدة نفسها، من حيث تسيطر على بدنها، ولكنها نائبة الرئيس -إن صح التعبير- أمام الخالق, فإن مهمتها أن توفق بين هذين الأمرين بإتباع أحدهما للآخر، وخيرها يكمن في التزامها بدور الوسيط الذي يعرف قدر نفسه، وشرها في أن تقلب هذا النظام الأصلي، فتتردى إلى أسفل، وتكون مسترقة للشهوات. ولتيسير هذه المهمة كانت الشعيرة المقترحة غاية في السهولة، نظام غذائي يتبع، شهرًا في كل عام، وهو نظام ينظم الساعات، دون أن يمس كمية الغذاء أو كيفيته: فإذا طلع الفجر أمسك الصائم عن تعاطي أي شيء خلال النهار، وبعد مغرب الشمس يصبح كل شيء مباحًا. وهذا التنظيم نفسه ينطبق على العلاقات الجنسية. وهكذا تتلقى نائبة الرئيس "أي: الإرادة" بمناسبة عمل واحد أمرين متعارضين، في كل يوم مرتين: أحدهما بأن تكف، والآخر بأن تعمل، فإذا ما حرصت إرادتنا على القيام بتنفيذ هذين الأمرين في مجالها الخاص، ومن أن تعيد نفس التدريب خلال الشهر ... فيا له من ترويض لهذه الإرادة!

ذلك أنه كلما كثرت طاعة المرء أصبح طائعًا، كما أنه كلما تمرس بالقيادة يصبح قائدًا. ومع ذلك إن هذا التدريب لم يكن لكي نتوقف عند الموضوع المادي الذي يستخدم فيه، إنه يستهدف مجموع سلوكنا، فمن أقبل خلال صومه على كل آثم من القول أو الفعل -لم يستفد من الدرس، إذ يكون قد فرض على نفسه تضحيات لا جدوى منها، حين حرم نفسه من الأكل والشرب، على حين لم يحقق مقاصد الأمر السماوي، وفي هذا يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أبو هريرة: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" 1. إننا لم نستلهم المغزى الأخلاقي للصوم، على ما حددناه آنفًا، من المسلك العام للتعليم القرآني فحسب، وإنما هو مبسوط في نفس النص الذي يأمر بهذه الشعيرة، وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 2، والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الصوم نصف الصبر"3 ويقول أيضًا: "الصوم جنة" 4. وليس في هذه النصوص، ولا في غيرها5، فيما أعلم، أية إشارة إلى

_ 1 صحيح البخاري, كتاب الصوم, باب 8. 2 البقرة: 79. 3 مسند أحمد 4/ 260. 4 السابق 1/ 195. 5 قد يعترض على هذا بالآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} . فهي تجعل الصيام طريقة للتكفير عن الذنب. بيد أن قراءة النص ذاتها تكفي لبيان أن المراد هو الألم الأخلاقي اللازم للتوبة: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِه} . فالمطلوب هو أن يشعر المخطئ بفداحة عمله الماضي، لا أن يشعر بالحرمان المادي الذي يتحمله الآن. ومع ذلك فكيف نطبق مقصد هذا الألم البدني على طريقة الجزاء الأخرى "القربان والصدقة", وهو ما عبرت عنه الآية الكريمة في نفس الوقت؟

الألم البدني، باعتباره واجبًا، أو نتيجة من نتائج الواجب التي تستهدفها الشريعة. وليس يغض من صدق هذا القول أن من الممكن حدوث هذا الألم، بل إنه نتيجة طبيعية للحرمان، وكثيرًا ما نلاحظ لدى الصائمين، سواء في البداية، أو على مدى الصوم، شعورًا بالضيق، يضعف أو يقوى، وهو ناتج على الأقل عن تغيير النظام، ولكن أمرًا جديدًا يفرض نفسه في هذه الحالة. ذلك أن الواجب ليس أن نعتصم بالصبر، ونتشبث بالكرامة، فقط في مواجهة حدث مغم لا يمكن تفاديه1، من مثل ما تحدث عنه القرآن في قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} 2،

_ 1 ونقول: لا يمكن تفاديه؛ لأن من الواضح أن واجبنا لن يكون نفس الواجب أمام المشاق التي تحدث بطريقة طبيعية، كالأمراض، والحوادث، وهي أمور قابلة للتغيير أو التلطيف، فمثل هذه الشرور لا تحدث لكي نتخذ منها موقفًا سلبيًّا، بل إنها تثير جهودنا وتستحثها إلى مقاومتها، وقهرها، وفي ذلك يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما روي عن أبي هريرة: "ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء" "صحيح البخاري, كتاب الطب, باب 1". ويقول -عليه الصلاة والسلام- فيما روي عن جابر: "لكل داء دواء. فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل" "صحيح مسلم, كتاب السلام, باب 26". ويقول, صلوات الله وسلامه عليه: "فتداووا ولا تداووا بحرام" "أبو داود, كتاب الطب, باب 10". ومن الممكن القول بأن هذه العناية المادية لا تعتبر دائمًا واجبًا لازمًا، وشاملًا. وهؤلاء الذين لديهم من الهموم أعظم مما ينظرون إلى أجسادهم يفضلون أحيانًا أن يتحملوا الأوجاع البدنية بشجاعة عن أن يلجئوا إلى مداواتها، أو إلى تصرفات غير عادية، أو بالغة القسوة، من مثل ما أشار إليه قوله, عليه الصلاة والسلام: "هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون" "صحيح مسلم, كتاب الإيمان, باب 92". 2 البقرة: 150.

بل إن هنالك فرصة ممتازة يجب أن نهتبلها، كيما نتأمل تأملًا سليمًا في طبيعتنا، وعلاقتنا بالله، وبالناس. بأي خشوع -في الواقع- يتعين علينا أن ننظر إلى ضعفنا تحت ضغط الضرورات على أبداننا: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} 1. وأية عظمة، وأي إحسان، نحن مدينون بهما لله، الذي وهبنا هذا النور: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 2. وأخيرًا لنذكر بعض إخواننا الذين يتألمون في حياتهم العادية، دون أن تضطرهم إلى ذلك تكاليف أخلاقية أو ظروف طبيعية عامة. إن مساعدة البائسين، التي أوصى الله سبحانه بها -خاصة- في شهر الصوم، والتي تصبح تكليفًا صريحًا عقب الصوم -هذه المساعدة ليست سوى نتيجة منطقية، ومحصلة لهذه العبادة. وأيًّا ما كان أمر هذه المنافع ذات الطابع الأخلاقي، أو تلك المنافع الأخرى ذات الطابع العضوي "أو الفسيولوجي" فمن الواضح لأعيننا أن الألم البدني الناشئ عن الحرمان ليس من أهداف الشارع الإسلامي. ولئن كان ينجم أحيانًا من أداء واجب أخلاقي فإنه يفرض بدوره واجبات أخرى. بل إن الإمساك المتطاول، على رغم هذا الألم، هو عمل باطني من الناحية الإيجابية، تقاوم به الإرادة مطالب الجسد. والجانب المادي في الإمساك يتمثل في تحمل الآلام أكثر من العمل ضدها، فهو يقتصر على عمل سلبي مجرد، ولا يمكن إذن أن يسمى جهدًا صريحًا.

_ 1 النساء: 28. 2 البقرة: 185.

وهكذا نستطيع أن نحدد في كلمتين موقف القرآن بالنسبة إلى "مشكلة الألم البدني في الأخلاق"، "فليس حتمًا أن نبحث عن هذه التضحية، بحيلة متعسفة، ولا أن نهرب منها حين تفرض ضمن واجب من الواجبات". هاتان القضيتان تستخلصان بوضوح أكثر عندما نتأمل بنظرة فاحصة كيفية تطبيق هذا المبدأ القرآني فيما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- من حلول، في مختلف المسائل الخاصة. وحسبنا أن ندرس في هذا الصدد قضيتين متنافيتين، طالما ناقشهما الأخلاقيون المسلمون، محاولين توضيح بعض جوانبهما:

الصبر والعطاء والعزلة والاختلاط

الصبر والعطاء، والعزلة والاختلاط: 1- صبر وعطاء: هذه هي المشكلة الأولى: فأي الفضيلتين خير من الأخرى: الصبر في البأساء، أو العطاء في الرخاء؟ وربما طرحت هذه المشكلة طرحًا سيئًا إذا ما أريد بها هنا إقرار تدرج ذي طابع عملي، صالح لفرض واجب، أو حتى وصية. ذلك أنه لكي نمارس الفضيلة الأساسية المنافية لوضع معين -فإما أن يكون كافيًا أن نتخذ بطريقة مصطنعة موقف الوضع النقيض، وهو أمر يبدو محالًا غير معقول، وإما أن يلزمنا أن نستبدل بالوضع الراهن الوضع العكسي. ولكن لو افترضنا أن إصلاح وضعنا وإسعاد أنفسنا ماديًّا، أو إفساد هذا الوضع، وتدبير ثرواتنا -كلاهما يتوقف علينا، فهل من واجبنا الملح، كيما ننتقل من حالة إلى أخرى مناقضة لها -أن نغير وضعنا، أو أن نسير بهذه الطريقة أو تلك على حسب الظروف؟ إن الإجابة عن هذا السؤال موجودة أولًا بصورة مجملة في وصية حكيمة،

يدعو فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلًّا منا ألا يدع مجال عمله الذي اعتاده ما لم تنقلب أحوال هذا العمل ضده: "فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا سبب الله لأحدكم رزقًا من وجه فلا يدعه حتى يتغير له، أو يتنكر له"1، فإذا ما نقلنا هذا القول من المجال الاجتماعي إلى المجال الأخلاقي -ألا نستطيع أن نؤكد أن الإنسان حين يكون بحيث يستطيع الوفاء بواجبه الحالي كاملًا، يجب عليه أن يلتزم به، وأن يثبت عليه ولا شيء يضطره إلى أن ينشئ جوًّا مصطنعًا ينهضه إلى واجب مضاد؟ ومع ذلك فلا حاجة بنا أن نلجأ إلى هذا التعليل القياسي، ما دمنا نجد نفس النصيحة في الميدان الأخلاقي، وذلك عندما أراد أهل ضاحية من ضواحي المدينة أن يبيعوا ديارهم ليستقروا بالمدينة قريبًا من المسجد: "فعن جابر بن عبد الله قال: خلت البقاع حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال لهم: "إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد". قالوا: نعم يا رسول الله، قد أردنا ذلك، فقال: " يا بني سلمة، دياركم، تكتب آثاركم، دياركم، تكتب آثاركم" 2. ومن المسلم في بعض الحالات أن الواجب قد لا يتطلب تعديلًا، بل تغييرًا،

_ 1 سنن ابن ماجه, كتاب التجارة, باب 4. 2 صحيح مسلم, كتاب المساجد, باب 50. ونلاحظ في هذا المثال أن أي حل آخر سوف يكون مناقضًا، ذلك أن الضاحية تحمي المدينة بصورة ما، فلو أن الناس جميعًا هجروا الأرباض والضواحي لأصبحت المدينة بلا دفاع، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى. لو أن الناس شجعوا على أن يسرعوا إلى مكان معين لنشب بينهم الخلاف، وفشت الخصومة.

فإذا ما عدنا إلى نص مشكلتنا لقررنا أن الإنسان المعسر يجب عليه أن يبذل كل طاقته كيما يثري، فهل العكس صحيح؟ هل على إنسان موسر إذن أن يصبح معسرًا؟ كلا، فإن الموقف الإسلامي جد واضح في هذا الصدد. فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحث كل إنسان على أن يعمل في كسب معاشه بجهده، وهو القائل: "ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده" 1، وكان يحرم على الأصحاء أن يسألوا الآخرين إحسانهم، وهو القائل: "لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير من أن يسأل أحدًا فيعطيه أو يمنعه" 2 و "لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي" 3. كما كان يحرم على الموسرين أن يعرضوا أنفسهم، أو يعرضوا ذويهم لتلك الحالة المحزنة، سواء بالإسراف، أو بالوصية بالثروة كاملة، وهو القائل لمن أراد أن ينخلع من ماله صدقة إلى الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- رجاء التوبة: "أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك" 4، ولمن أراد أن يوصي بثلثي ماله أو بشطره: "لا، الثلث، والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس" 5، وأيضًا: "يأتي أحدكم بما يملك فيقول: هذه صدقة، يقعد يستكف الناس". "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى" 6.

_ 1 البخاري, كتاب البيوع, باب 15, وذكر المؤلف النص هكذا "خيرًا من كسب يده" والصواب ما أثبتناه. "المعرب". 2 البخاري السابق، وقد نقل المؤلف رواية هذا الحديث عن مسلم, كتاب الزكاة, باب 34: "لأن يغدو أحدكم فيحطب على ظهره فيتصدق به ويستغني ... خير له من أن يسأل". وإن لم يشر إلى المرجع المذكور بدقة. "المعرب". 3 ابن ماجه, كتاب الزكاة, باب 26. "المعرب". 4 البخاري, كتاب وجوب الزكاة, باب 17. 5 صحيح مسلم, كتاب الوصية, باب 2. 6 أبو داود, كتاب الزكاة, باب 38.

لم يكن هذا فحسب، موقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بل لقد قال في كلمات صريحة: "لا بأس بالغنى لمن اتقى" 1، بل لقد قال أيضًا: "فنعم صاحب المسلم، ما أعطى منه المسكين، واليتيم، وابن السبيل" 2. والحق أن القلة التي يصف بها القرآن والسُّنة متاع هذه الدنيا تدعونا إلى أن نزهد ولو قليلًا في هذه المتع الفانية. بيد أن هذه الزهادة التي يمكن أن تفهم عمومًا بمعنى روحي -لا ينبغي أن تفهم ماديًّا إلا في ظروف شديدة الندرة، كحالة إنسان خلي، منقطع، لا يتطلب نشاطه "ولو على سبيل الصدقة" أي تكليف، من قريب أو من بعيد. فمن الأفضل لهذا الرجل -بلا شك- أنه متى ما أشبع حاجاته الخاصة العاجلة ألا يسعى كثيرًا إلى مزيد من الكسب، بل عليه أن يسخر أعظم جهده لتهذيب قلبه وروحه. هذه الظروف هي على وجه التحديد ظروف المتصوفة المسلمين، الذين سبقهم على هذا الدرب عدد من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبخاصة أهل الصفة، لكنه كان واجبًا على كل المسلمين أن يكون لهم موقف روحي متحفظ حيال المتع الأرضية، وقدر من التجرد من هذا الحب الزائد، الذي يسخر "الروح" "للمادة"، والذي يجعل من مجرد "الوسيلة" "غاية" حقيقية. وليس وراء هذين المعنيين أي موقف متنسك مشروع في الإسلام.

_ 1 وبقية الحديث كما جاء في سنن ابن ماجه, كتاب التجارات, باب 1. "والصحة لمن اتقى خير من الغنى، وطيب النفس من النعيم". "المعرب" 2 البخاري, كتاب الزكاة, باب 45. وقد ذكر المؤلف: "صاحب المسلم هو لمن أعطى" والصواب ما أثبتناه.

ومن ثم لا يمكن أن ننصح إنسانًا موسرًا بأن يفتقر باختياره لكي يصير مسلمًا حقًّا، فليس في هذا زهد حقيقي، إذا ما حكمنا عليه بتحديد النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه, الذي يقول: "الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا ألا تكون بما في يدك أوثق مما في يدي الله"1. وكذلك الأمر في حالة العكس، حالة رجل منقطع، يتمتع بالضروري قانعًا متعففًا، ويتمسك بصورة خاصة بالقيم العليا: فلا ينبغي لنا أيضًا أن نغريه بالتخلي عن مثله، من أجل أن يثرى ماديًّا. والحق أن ما ينبغي على المرء أن يفعله، غير ما تفرضه عليه الساعة التي يحياها، هو أن ينوي دائمًا -ولو أن نيته في حيز القوة- أن يغير موقفه متى ما غير الوضع وجهه، أي أن يكون دائمًا مستعدًّا للهجوم، وللدفاع، للعطاء، وللصبر. وإذا كان الأمر كذلك فيجب أن نرى بين هاتين الفضيلتين علاقة مساواة في القيمة، متناسبة مع ظروفهما الخاصة، ولما كان لكل وضع مقتضياته الأخلاقية، فمن الواضح أن من يعرف كيف ينهض به يؤدي واجبه الكامل الذي لا بديل له، لا أقل ولا أكثر. وتلك فيما نعتقد نتيجة تنبع بالضرورة من الفكرة المميزة لهذه الأخلاق، أعني أنها لا ترغب إلينا أن نعمل ضد

_ 1 الترمذي, كتاب الزهد, باب 28، وقد روى هذا الحديث ابن ماجه عن أبي ذر الغفاري، قال: قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "ليس الزهادة بتحريم الحلال، ولا في إضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا ألا تكون بما في يديك أوثق منك بما في يد الله، وأن تكون في ثواب المصيبة، إذا أصبت بها، أرغب منك فيها، لو أنها أبقيت لك". "المعرب"

طبيعة الأشياء، وإنما هي تريد أن نكيف أنفسنا معها، بالمعنى السامي لكلمة "تكيف" الذي يستلزم مركبًا من "الشجاعة"، و"نبل المظهر". وانطلاقًا من هذا المبدأ يمكن أن نثبت أن الموقفين يتساويان في القيمة، من الناحية العملية، حتى ولو لم نملك نصوصًا محددة في هذا الموضوع، فما بالنا وهذه النصوص موجودة. وإليك بعضها: "عن صهيب قال: قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له "1. وأكثر من هذا وضوحًا قوله -عليه الصلاة والسلام- فيما رواه عنه أبو هريرة: "الطاعم الشاكل بمنزلة الصائم الصابر" 2. وهكذا، فإن المشكلة التي تشغلنا الآن، مع أنها لا تحمل أي معنى ذي طابع عملي، أعني أنها لا تتطلب بعض التغيير في واجبنا -ينبغي أن تطرح على بساط البحث عن الخير، وتقديره في ذاته، مستقلًّا عن إمكاناتنا الخاصة. وإذن فإذا ما انتقلت إلى هذا المجال فإن الحل الذي وضعه لها الإسلام يتجه -فيما يبدو لنا- إلى منح الأولوية إلى فضيلة تعميم الخير الإيجابي المشترك، أعني الفضيلة التي تفترض درجة عالية من الرخاء، والرفاهية الطبيعية، لا تلك التي تقصر خيراتها على مالكها، والتي تستتبع الحرمان والألم.

_ 1 صحيح مسلم، كتاب الزهد, باب 13. 2 ابن ماجه, كتاب الصيام, باب 55.

وذلك -على الأقل- هو ما يدل عليه الحوار الذي وقع بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعض صحابته، وإليك النص الذي رواه مسلم عن أبي هريرة: أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلا، والنعيم المقيم، فقال: "وما ذاك؟ " قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "أفلا أعلمكم شيئًا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم، إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "تسبحون، وتكبرون، وتحمدون، دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين مرة" قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله، فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" 1. 2- عزلة واختلاط: والمشكلة الثانية هي مشكة التناقض بين حياة العزلة، والحياة الاجتماعية. وهنا نجد أيضًا نفس التفضيل، بالنسبة إلى الخير الإيجابي المشترك، بيد أن هذه القيمة الإيجابية موجودة هنا من ناحية أكبر قدر من الجهد، وأعظم قدر من التضحية. ولا مرية أنه لا يوجد في هذا الموضوع أي أمر قاطع مؤكد؛ لأن كل شيء يصدر عن الأشخاص والحالات، على ما بينه الغزالي2. وليس أدنى من ذلك تأكيدًا أن العزب الذي يعتزل المجتمع، ظانًّا أنه

_ 1 صحيح مسلم, كتاب الصلاة, باب 79، والبخاري, كتاب الدعوات, باب 17. 2 الإحياء 2/ 222 وما بعدها، ط. الحلبي.

قادر بهذه الطريقة أن يحل بعض الصعوبات الأخلاقية -لا يفعل في الواقع سوى أن يهرب من هذه الصعوبات. فهو لكي يجعل من نفسه إنسانًا طاهرًا عفيفًا يخلق لنفسه عالمًا مصطنعًا، يستطيع أن يهرب فيه من الخطيئة، لا بوساطة قواه الذاتية، بل بقوة الأشياء. وإذن، فما كان له أن يحوز ما حاز غيره من بطولة واستحقاق، غيره الذي يواجه الحياة بشجاعة، على ما هي عليه، وبكل ما تتضمن من مسئولية، ومغامرة، وتضحية، والذي يبذل كل طاقته من أجل أن يتغلب على العقبات. وهكذا نجد النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد استلهم القرآن في قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} 1, وقوله: {ولْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} 2 -فإذا به يستهل نداءه للشباب بأن يوصيهم بالزواج، بشرط واحد، هو أن يكونوا قادرين على النهوض بواجباته الزوجية، فإذا عدمت هذه المسئولية فإنه يوصي الشباب باللجوء إلى الصوم، كوسيلة للدفاع ضد الدوافع الغرزية2: "يا معشر الشباب؛ من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" 3.

_ 1 النور: 32. 2 النور: 33. 3 البخاري, كتاب الصوم, باب 10. نعتقد أن في هذا الحديث أصل منهج التقشف، وشرطه المسوغ له، وهو المنهج الذي امتدحه كثير من الأخلاقيين المسلمين، وغيرهم، فهذا الحرمان والقهر الذي يفرضه المتحذلقون في الأخلاق -غالبًا على أتباعهم- يجب ألا نرى فيه في الواقع هدفًا، بل هو وسيلة لجهاد بعض الفطر المتمردة، التي تحكمها الجوارح، حكمًا متمكنًا. ولا شك أن مراحل هذا الصراع قد تستغرق زمنًا يطول أو يقصر، تبعًا للحالة، ولكن ذلك دائمًا إجراء مؤقت، وليس هو الحالة العادية والدائمة، التي يوصى بها الرجال عمومًا.

وهناك أحاديث أخرى تعبر تعبيرًا أدق عن هذا التدرج، فقد جاء أعرابي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال: "رجل جاهد بنفسه وماله، ورجل في شعب من الشعاب يعبد ربه، ويدع الناس من شره" 1. وخذ كذلك نصًّا آخر متدرجًا، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: مر رجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشعب فيه عيينه من ماء عذبة، فأعجبته لطيبها، فقال: لو اعتزلت الناس فأقمت في هذا الشعب، ولن أفعل حتى أستأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكر ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "لا تفعل، فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عامًا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم، ويدخلكم الجنة، اغزوا في سبيل الله، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة" 2. ولا ريب أن هناك حالات يفرض فيها على العاقل الابتعاد عن الناس, سواء أكان ذلك لأسباب عامة، أم كان لدواع شخصية، وذلك ما يحدث -مثلًا- في فترات الاضطراب الاجتماعي. والواقع أنه عندما يسيطر الغموض والبلبلة سيطرة شاملة على العقول، فإن الصلة بالبيئة تدفع كل فرد، إلى أن ينتحي جانبًا، دون أن يملك لذلك دفعًا، وهذا الاتجاه المحتوم إلى تمزيق الأمة ينتهي غالبًا إلى الحرب الأهلية وهو ما أوصانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نتجنب مغامراته، وأن نلوذ منه بالفرار في أي مكان، فقال فيما روي عن أبي هريرة: "ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، فمن وجد فيها ملجأ أو معاذًا فليعذ به" 3.

_ 1 البخاري, كتاب الرقاق, باب 33. 2 الترمذي, كتاب فضائل الجهاد, باب 17. 3 صحيح البخاري, كتاب الفتن, باب 8.

وتلك أيضًا حالة تناسب شخصًا ذا طبع شديد الحساسية، أو تبلغ به الصرامة إلى الحد الذي لا يستطيع معه أن يعيش على وئام مع إخوانه، وفي مثل هذه الحالة يصبح أفضل ملجأ نلوذ به -بداهة- أن نتبع تلك الوصية الذهبية الإسلامية، من قول رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "ليسعك بيتك، وأمسك عليك لسانك، وابك على خطيئتك" 1. ولكن، هل يمكن أن نقارن الرجل الذي ينطوي على الصمت، ويلتزم الجمود، ليتجنب الصدمات المحزنة، بآخر يضحي براحته، وانفعالاته راضيًا مختارًا، من أجل السلام العام، ومن أجل سعادة الأمة؟ إن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي يقول لنا: "المسلم إذا كان يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم"2. ولقد فهم المجربون الثقات هذا الحديث، وإليك بعضًا من أقوالهم: قال الجنيد: "مكابدة العزلة أيسر من مداراة الخلطة". وقال ذو النون المصري: "ليس من احتجب عن الخلق بالخلوة كمن احتجب عنهم بالله". وقال أبو علي الدقاق: "البس مع الناس ما يلبسون، وتناول مما يأكلون، وانفرد عنهم بالسر"3. ولهذا عرفوا "العارف" بأنه: "كائن بائن" أي: إنه كائن مع الخلق بشواغله العادية، بائن عنهم بالسر وبفكره المتعلق بالله.

_ 1 الترمذي, كتاب الزهد, باب 60. 2 الترمذي, كتاب صفات القيامة, باب 55. 3 الرسالة القشيرية, المجلد الثاني ص139-142.

والشكل الوحيد للعزلة التي يمكن، بل ويجب، أن يعتبر نافعًا، ومرغوبًا فيه بالنسبة إلى كل الناس؛ لأنه يخلق القيم الإيجابية الأساسية هو الابتعاد الجزئي عن الضجيج الدنيوي، بقدر ما يلزم للاستجماع والتأمل الخصب. ولا أحد يماري في فضل هذا النوع من الانطواء، فهو الوسيلة الوحيدة, القادرة على إضاءة أفكارنا، وإعلاء مشاعرنا، وشحذ عزائمنا، ودعم صلاتنا بالقيمة المطلقة. بيد أنه ليس بلازم أن يتم هذا الاعتزال خارج المدينة، وعلى حساب واجباتنا الأسرية والاجتماعية، فبدلًا من أن يعتبر انقطاعًا، ينبغي أن يكون بالأحرى اهتمامًا باسترداد أنفسنا خلال ساعات فراغنا، وبخاصة أثناء الليل، وهو ما يقصد إليه القرآن من قوله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} 1. وفضلًا عن ذلك فنحن نعلم أن هذا النموذج من العزلة الجزئية، والمتقطعة كان من شأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يختار مبعوثًا إلى العالمين، ومنذ ذلك الحين، لم يزل الرسول يفزع إلى هذه العزلة من وقت لآخر، وبخاصة خلال العشر الأواخر من رمضان، وإن كان ذلك في بيته، أو بجوار البيت، في مسجده. ولقد اقتدى كثير من صحابته -رضوان الله عليهم- به في هذا الاعتكاف، وما زال بعض المسلمين الصالحين يقتدون به فيه، حتى يوم الناس هذا.

_ 1 المزمل: 6.

جهد وترفق

3- جهد وترفق: أتاح لنا بحث المشكلتين السابقتين أن نطالع أفق التشريع القرآني، فالجهد المادي لا يزيد عن الجهد الأخلاقي، إذ ليس له في نظر الإسلام سوى قيمة تتناسب مع الخير الذي يستهدفه الشرع. وليس هنالك نص يدعونا إلى التماس

المشقات حين لا يقتضيها الموقف، أو الواجب. فأما حين يكون العكس، وهو أن يشتمل عبء الحياة العادية على ثقله، فليس هناك ما يجيز لنا أن نتملص منه. فهما أمران مرفوضان على سواء: "التعصب" الأعمى، و"التنسك" الغبي الضيق الأفق. فلنتناول الحالة التي يقتضي فيها تحقيق الخير الأخلاقي "بالمعنى الواسع للكلمة" تدخل طاقتنا. فعلينا إذن أن نسأل أنفسنا عن أهمية هذا الاقتضاء، هل هو يتطلب طاقتنا بكمالها، أم أنه يعين لها حدًّا تقف عنده, فإذا تجاوزته أصبح جهد الواجب الأساسي -واجب كمال، "على ما بيناه في دراستنا لدرجات الجهد الإبداعي"، وليس ذلك فحسب، ولكن الاقتضاء الآمر يخلي مكانه لنوع من الإجازة، حتى يبلغ حد التحريم؟ إننا إذا حكمنا على هذه المسألة ببعض النصوص فإن الجهاد يجب أن يستهدف المثل الأعلى، متناسيًا نفسه، وهكذا نقرأ في الآيات الأخيرة من سورة الحج الأوامر الآتية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} 1, وفي سورة آل عمران: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} 2.

_ 1 الحج: 77-78، يجب ألا ننسى أن كلمتي صراع lutte، وجهاد combat في العربية، والفرنسية، هما من الألفاظ الدالة على الجنس، وهما يصدقان على الجهد الأخلاقي أو المادي في جميع المجالات، وفضلًا عن أن السياق لا يتضمن هنا أية إشارة إلى الحرب فيبدو لنا أن هذه الآيات قد نزلت قبل مشروعية هذا النظام. والواقع أن هذه السورة في مجموعها لا ترجع فقط للمرحلة الأولى من الهجرة، بل إنها تشمل بعض الاستثناءات المكية، وعلى ما قرره ابن حزم في كتابه "الناسخ والمنسوخ": إن ما يزيد قليلًا على نصفها الثاني يرجع إلى مكة، وإذن فالنص يحمل الصفة الضرورية التي تجعله يذكر بمناسبة الجهد بمعناه العام، الذي نبحثه هنا، وكما قال النبي, صلى الله عليه وسلم: "المجاهد من جاهد نفسه"، "انظر: الترمذي, كتاب فضائل الجهاد, باب 2". 2 آل عمران: 102.

لكن آيات أخرى كثيرة في القرآن، وأحاديث كثيرة في السنة، تحتفل فيما يبدو بإمكاناتنا الإنسانية، وقد خطا القرآن الكريم الخطوة الأولى، في هذا السبيل، بالآية الكريمة: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} 1، وهي التي نزلت على ما أخبرتنا السنة؛ لتلطيف الحدة الظاهرة في آية آل عمران: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} . والواقع أن قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} يضع حدًّا للعمل، لا بالنسبة إلى ما الله حقيق به، بمقتضى صفاته، بل بالنسبة إلى ما يمكن أن يبلغه الناس، فهو يعفيهم إذن من كل ما يتجاوز مقدرتهم، ولكنه يبدو في الوقت نفسه وهو يلزمهم بأن يسخروا كل قواهم في سبيل هذا المثل الأعلى. فهل تأمر الأخلاق القرآنية إذن بأن نستهلك حياتنا، وأن نضحي بها عن طريق الإرهاق؟ إن هنالك أمرين آخرين يجلوان هذا الغموض، واقرأ في ذلك قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} 2، وقوله: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة} 3, "حقيقة ومجازًا". ولو أننا نزلنا إلى بعض الأحكام الخاصة فسنرى اهتمامًا واضحًا بأن يكون تطبيقها أكثر اتفاقًا مع الإنسانية والعقل. فليس توقع الموت ضنكًا، أو

_ 1 التغابن: 16. 2 النساء: 29. 3 البقرة: 195.

إكراهًا، هو وحده الذي يجعل مخالفة الشرع جائزة، بل لقد رأينا1 المرض، والشيخوخة، والضرورات التي تفرضها العمليات العسكرية، ومتاعب السفر، كل ذلك من الأسباب التي يمكن أن تفرض نوعًا من التقليل، أو التأجيل، أو التعديل في بناء العبادة الدينية. وهنا مناسبة أن نبين معنى وهدف الاهتمام القرآني بتعديل الواجب تبعًا للموقف الذي يؤدى فيه. ونلاحظ أولًا فيما يتعلق بالحالات التي يتعرض فيها الواجب لتعديل مفروض -أنها استثناء، وليست القاعدة. وهي استثنائية من ناحيتين: استثنائية بين الواجبات؛ لأنها تتصل أساسًا بالواجبات الدينية، ولا علاقة لها بتكاليفنا الإنسانية، فليس لواجب الأمانة ألف شكل، ولا لواجب الوفاء بالالتزام، ولو لواجب احترام حياة البريء من الناس، أو احترام ملكيتهم، وشرفهم ... إلخ. وهي استثنائية في تطبيقها؛ لأنها لا تعفي سوى الضعفاء والمعوقين. ثم نذكر بعد ذلك أنه -حتى في هذا المجال المقيد بالواجب الديني- لا علاقة لهذه الحالات بالإيمان القلبي، وهي لا تؤثر إلا في جانب مادي معين من الواجب، مع محافظتها تمامًا على العنصر الجوهري.

_ 1 انظر الفصل الأول, العنوان الفرعي الثاني، الفقرة الثانية. ويمكن أن نضيف إليها بعض الأمثلة، كالإعفاء من الحج، أو الواجب العسكري -لمن لم يستطع إليهما سبيلًا، كالركوبة أو زاد الطريق. واقرأ في ذلك قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] ، وقوله: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُون} [التوبة: 91-92] .

إن أخطر المشقات لا تعفي المؤمنين من أداء صلاتهم، ولا تسمح بأي نسيء لتاريخ الحج، فالتعديل حتى في هذا النطاق، ليس إبطالًا ولا إسقاطًا. وليس يغض من صدق هذا القول أن القرآن والسنة فيما خلا هذه التعديلات المحددة التي أقرتها النصوص والتي لا يحق لنا تعميمها -قد أقرا منهجًا عامًّا هو أن "الضرورة قانون" في قوله تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} 1، وهما يتصوران هذه الضرورة في جانبها الرحب، والإنساني، كيما نوفر جهدًا قاسيًا وضارًّا، في حياتنا العادية، ولا سيما الدينية. وهنالك نصوص كثيرة تلح على هذا الطابع الرحيم في الشرع القرآني. أيجب أن نرى في ذلك تشجيعًا ما على الاعتدال في الجهد؟ إن من المفيد جدًّا أن نتأمل النغمة التي يعبر بها القرآن عن موضوع الرخص، فلقد عالجها بأقصى درجات الحذر والمخافتة، حتى لا نكاد نسمعها. والواقع أنه لا يذهب إلى حد أن يقول: "اعملوا تبعًا لما يقتضيه الموقف"، ولا يقول أيضًا: "يجوز لكم أو يباح أن تعملوا هكذا". بل إننا لو تأملناه من قريب لرأينا أن الضرورة لم تلغ التكليف، وإنما هي ترفع أثر المخالفة فحسب، فمتى وقعت هذه المخالفة عفا الله عنها: {وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2، {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 3.

_ 1 الأنعام: 119. 2 النور: 33. 3 المائدة: 3.

ولكن ما هو جدير بالملاحظة أنه في الحالة التي يسمح بدرجة دنيا من الجهد يستنهض في الحال شجاعتنا؛ لنقاوم إغراء الضعف والفتور، وهو ينصحنا أن نتحمل الآلام التي تنشأ عن هذه المقاومة، وأن نتمسك في شجاعة بالحل الأمثل: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} 1، {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} 2. هذا التوجيه إلى نبل الجهد هو في الواقع لازمة لا يفتأ القرآن يعود إليها في كل مناسبة: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} 3, {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} 4. فهو بصفة عامة يحثنا على أن نختار من بين درجتي الخير الأخلاقي, أكرمهما، وأشرفهما، فالكرم أحرى من العدالة المدنية الدقيقة، والعفو أولى من القصاص، والله يقول: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} 5، ويقول: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} 6، {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} 7. فالقرآن لا يدعونا إذن إلى بذل أقل الجهد، وهو لا يرضى لنا أن نرتدَّ أمام المشقات الأولى "بل إن شعاره دائمًا هو: جاهدوا، اصبروا، صابروا، افعلوا الخير". ومع ذلك, إن القرآن لا يمضي إلى حد الإفراط في هذا التوجيه، فهو يضع حدين أمام جهدنا الخادم المتحمس: أحدهما مادي، والآخر أخلاقي،

_ 1 النساء: 25. 2 البقرة: 184. 3 الأحقاف: آخر آية. 4 الشورى: 43, وآل عمران: 186. 5 البقرة: 280. 6 البقرة: 237. 7 النحل: 126.

فالجسم الذي يتألم من مرض لا يجب عليه أن يؤدي نفس الجهد الذي يؤديه الرجل الصحيح, هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، ليس بواجب في بعض الحالات التي يتعرض لها المرء أن يكب على بعض الشعائر على حساب شعائر أخرى، ومن الآيات ذات الدلالة في هذا قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} 1. فجهدنا يجب أن يتوزع توزعًا عادلًا على مجموع واجباتنا. ولما كان بدننا خادمًا لأنفسنا، فما كان له أن يرهق أو يستهلك في خدمة مثل أعلى محدود النطاق، لدرجة تسلمنا إلى العجز في مجالات الحياة الأخرى، ولقد علمتنا السنة من قول رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "قم ونم، وصم وأفطر، فإن لجسدك عليك حقًّا، وإن لعينك عليك حقًّا, وإن لزورك عليك حقًّا, وإن لزوجك عليك حقًّا" 2، وفي حديث آخر يقول سلمان الفارسي لأبي الدرداء: "إن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، وأهلك عليك حقًّا، فأعط كل ذي حق حقه" , فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر ذلك له، فقال صلى الله عليه وسلم: "صدق سلمان" 3. وكذلك كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مواطن كثيرة، ينصح -تبعًا للحالة- بالإعراض، أو يلوم، أو يذم الإفراط في العبادة، كقيام الليل الطويل، وكصوم الدهر. ومن ذلك أنه رأى في أحد أسفاره زحامًا من الناس حول رجل يظلونه من الشمس, فسأل النبي, صلى الله عليه وسلم: "ما هذا؟ " فقالوا: صائم.

_ 1 المزمل: 20. 2 صحيح البخاري, كتاب الأدب, باب 84. 3 البخاري, كتاب الأدب, باب 86.

فقال: "ليس من البر الصيام في السفر" 1. "يعني في مثل هذا السفر الشاق". وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المدينة إلى مكة، فصام، حتى بلغ عسفان، ثم دعا بماء، فرفعه إلى يديه ليريه الناس، فأفطر حتى قدم مكة، وذلك في رمضان، فكان ابن عباس يقول: "قد صام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأفطر، فمن شاء صام، ومن شاء أفطر"2. ولهذا أيضًا موقف مماثل، ولكن في مجال آخر، "فقد حدث أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى شيخًا يتهادى بين ابنيه "يتوكأ عليهما" قال: "ما بال هذا؟ " قالوا: نذر أن يمشي3، قال: "إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني، وأمره أن يركب" 4. ومع ذلك، فإن هذه السنة نفسها تروي لنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان من عادته أن يبذل جهدًا كبيرًا مماثلًا لما نصح الآخرين بالإعراض عنه، فهو لم ينم ليلة كاملة مطلقًا، وأحيانًا كان يقوم في صلاته، في ناشئة الليل، حتى تتورم قدماه. ولقد كان يقضي الليل كله في العشر الأواخر من رمضان بخاصة، قائمًا يصلي، وكان يأمر أصحابه أن يفعلوا مثل ما يفعل، فعن أبي سعيد الخدري, رضي الله عنه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يعتكف في العشر الأواسط من رمضان، فاعتكف عامًا، حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين، وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه، قال: "من كان اعتكف معي

_ 1 البخاري, كتاب الصوم, باب 35. 2 البخاري, كتاب الصوم, باب 37. 3 يريد أن يحج إلى الكعبة ماشيًا. "المعرب". 4 البخاري, كتاب العمرة, باب 58.

فليعتكف العشر الأواخر" 1. وكثيرًا ما كان يواصل الصوم، ليلًا ونهارًا، خلال أيام كثيرة متوالية، فيقال له في ذلك "إذ كان يفعل ما ينهاهم عن فعله" فيقول: "أفلا أكون عبدًا شكورًا؟ " 2، أو يقول كما في حديث آخر: "لا تواصلوا "، قالوا: إنك تواصل، قال: "إني لست مثلكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني" 3. وهنا ندرك الصفة النسبية للجهد المحمود، فليست القوة المادية، وحدها هي التي لا يتساوى نصيب الناس فيها، بل إن الطاقة الأخلاقية كذلك فما يعد إفراطًا وتعصبًا بالنسبة إلى بعض الناس، ليس كذلك بالضرورة بالنسبة إلى آخرين. وإذا دعم الحب، والخوف، والأمل النفس فإن سائر الآلام والمشقات التي يتعرض لها المرء لا يحس بها، أو تكون على الأقل محتملة، وهي في كل حال أقل إضرارًا. إنها تجلب السرور إلى القلب، والسعادة إلى النفس المخلصة، ولذلك أبدى جمهور من المسلمين الأوائل هذه الروح في التضحية الكريمة، ولم ينكر أحد مآثرهم. وإن القرآن ليشير إلى العمل المستبسل الذي أبداه "صهيب" في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} 4، وذلك أنه حين كان المشركون يقتفون آثار النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الذين أرادوا الهجرة معه -أقبل صهيب مهاجرًا نحو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاتبعه نفر من قريش من المشركين، فنزل عن راحلته، ونثر ما في كنانته، وأخذ قوسه، ثم قال: يا معشر قريش، لقد علمتم أني من أرماكم رجلًا، وايم الله لا تصلون إلي حتى أرمي بما في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثم افعلوا ما شئتم.

_ 1 البخاري, كتاب الاعتكاف, باب 1. 2 المرجع السابق, كتاب التهجد, باب 6. 3 المرجع السابق, كتاب الاعتصام, باب 5. 4 البقرة: 207.

قالوا: دلنا على بيتك ومالك بمكة ونخلي عنك، وعاهدوه إن دلهم أن يدعوه، ففعل. ومن الواضح أن الواجب لم يكن ليقتضي هذا الذي فعل، ولكنها التضحية التي سجلها القرآن في محكم آياته، وهي تضحية مدحها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قدم عليه صهيب بالمدينة وقال: "أبا يحيى، ربح البيع، ربح البيع" 1. ولعلنا نعرف قصة الأخوين الجريحين في غزوة أحد، يحكي أحدهما القصة فيقول: شهدت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنا وأخ لي "أحدًا"، فرجعنا جريحين، فلما أذن مؤذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالخروج في طلب العدو قلت لأخي، أو قال لي: أتفوتنا غزوة مع رسول الله, صلى الله عليه وسلم؟ والله ما لنا من دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكنت أيسر جرحًا منه، فكان إذا غلب حملته عقبة، ومشى عقبة، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون. ولمحة أخرى ذات مغزى، فيما روي عن جندع بن ضمرة أنه كان شيخًا كبيرًا، فلما أمروا بالهجرة، وشدد عليهم فيها، مع علمهم بأن الدين لا حرج فيه، ولا تكليف بما لا يطاق -قال لبنيه: إني أجد حيلة، فلا أعذر، احملوني على سرير، فحملوه، فمات بالتنعيم، وهو يصفق يمينه على شماله، ويقول: هذا لك، وهذا لرسولك2. وإذن، فلم تكن وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- للضعفاء أن يوفروا جهدهم إلا رحمة بهم، فهو يريد أن يتفادوا بعثرة القوة، والجهد الضائع الضار. وهو يقصد

_ 1 أسباب النزول, للواحدي, ط. الحلب, ص39. وورد أيضًا في السيوطي: تفسير الدر المنثور. 2 ذكر المؤلف مغزى القصتين، نقلًا عن الشاطبي في الموافقات 3/ 254، ونقلناهما بنصهما عن نفس المرجع. "المعرب".

إلى أن يتدارك لديهم ردود فعل الإفراط: كالنفرة والتراخي، وتصدع العمل وهجره، وعدم التوازن أو إهمال الواجبات الأخرى التي ليست بأقل أهمية. وهو يستهدف أن يتحاشى التكلف، والأساليب المتجاوزة للحد، التي يبغضها، أولًا وقبل كل شيء، ولقد أمره ربه أن يقول: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِين} 1. بيد أن هذه الرحمة التي يبديها تجاه الناس لا تنفي لديه، أو لدى من يريدون ويستطيعون الاقتداء به التزامًا واضحًا نحو أنفسهم أن يبذلوا أشجع الجهد، ولكنه في الوقت نفسه أعقله وأوفقه. وجملة القول أننا هنا أمام تركيب تلتقي فيه الشدة واللطف، أما وهذا هو الفقه القرآني في هذه المسألة، فلسنا نجد أصدق من أن نقدم بين يدي هذا الفقه شاهدًا من النص ذاته، وهو يجمع هاتين الفكرتين في آية واحدة: يقول تبارك وتعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 2. وكذلك ترد على لسان النبي -صلى الله عليه وسلم- تعبيرات مماثلة، والواقع أنه كان يقرر دائمًا أن أهم سمات النظام الإسلامي أن يضم صفتين معًا في وقت واحد: إنه "متين"، وإنه "يسر"، وذلك قوله, صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق" 3، "ولن يشاد الدين أحدًا إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا" 4.

_ 1 ص: 86. 2 الحج: آخر آية. 3 انظر مسند أحمد, من طريق أنس. 4 البخاري, كتاب الإيمان, باب 29، 3/ 199. "المعرب".

أمن الممكن أن نختط منهجًا قادرًا على أن يحدد مضمون هذا المفهوم المركب عن "الجهد النبيل المعتدل"؟ إذا كنا نقصد بالتعريف صيغة رياضية صحيحة بصورة شاملة، فيجب أن نطرح هذا التعريف جانبًا، سواء نظرنا إلى الشيء المعرف من الخارج أو من الداخل. فلنتناوله أولًا من الخارج. ولا شك أن بوسعنا القول بعامة، بأن جدلية العنصرين اللذين تتكون منهما الفكرة المراد تعريفها يجب أن تؤدي بهما إلى وضع وسط، بين "الخمود" و"الجموح". بيد أن هذا الوضع الوسط لا يمكن تخيله في صورة نقطة هندسية، تبتعد عن الطرفين بمسافة متساوية، ذلك أن الاختلاف البالغ في الظروف الفردية، والذي ينتج عن آلاف الأوضاع التي لا نملك السيطرة عليها -يوجب على العكس أن نتمثل المقياس العام في منطقة مركزية، تتردد هي الأخرى بين قطبين، يميلان تارة إلى جانب، وأخرى إلى جانب آخر، فيحتويان بهذه الصورة على درجات لا تنتهي. ولكي تحدد هذه المنطقة المركزية لن يكون لدى الناظر سوى أن يركن إلى الذوق العام وتقديراته التقريبية المبتسرة، تبعًا للتجارب اليومية. والواقع أننا نعلم متى تفتر الطاقة وتقترب من الخمود، ومتى تصير مفرطة محمومة، فنضع الجهد المعقول بين هذين في درجات مختلفة. ومن هنا نفهم أن القرآن قد التزم باستخدام هذا المقياس العام، وهو يوجه عظاته إلى الناس، ولهذا كان البرد، والحر، والعرق، والتعب، والعطش، والجوع، وما شاكل ذلك من المصاعب التي لا تمنعنا من ممارسة أعمالنا، هذه

كلها لا ينبغي في نظر القرآن أن تعفينا من بذل كل قوانا لأداء واجبنا الأخلاقي. وكما نبذل أحيانًا جهدًا إضافيًّا لكي نوفر حاجات الأفراد الذين نعزهم، ونتكفل بهم، فكذلك ينبغي أن نتحمل أكثر، من أجل واجب أكثر ضرورة، ونتقبل أعظم التضحيات في سبيله: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1، {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} 2. وبالرغم من قلة التحديد الظاهرة في هذا التعريف الخارجي إلا أن له ميزة مزدوجة، هي أنه يتطابق مع المنهج القرآني، ويلبي في الوقت نفسه المطالب الأساسية للأخلاقية. ونلاحظ فيما يتعلق بالقرآن أنه في جميع المواضع التي يتحدث فيها عن الدواعي المعفية من هذه الشعيرة أو تلك -لا يستخدم سوى ألفاظ شائعة في عموم الجنس، مثل "المرضى" "المسافرين" ... إلخ. فهو حين اكتفى بالمعنى القريب الذي يفهم عمومًا من الصعوبة في موقف كهذا -لم يقل مطلقًا أي درجات المرض، ولا أية مسافة أو مدة في السفر. ولذلك فقد اختلفت آراء الفقهاء إلى أقصى حد عندما حاولوا تحديد أدنى مسافة يقطعها المسافر ليسمى مسافرًا، فبعضهم جعلها مئات الفراسخ، وآخرون عشراتها، وغيرهم بعضًا منها. بيد أن عدم التحديد بهذه الصورة كان ضروريًّا في نفس الوقت لإنقاذ

_ 1 التوبة: 40. 2 التوبة: 81.

حرية الضمير الأخلاقي، ولولاه لما بقي للفرد أثر من حرية الاختيار. وبهذه الطريقة التي استخدمها القرآن في التعبير بوضوح ومرونة -استطاع أن ينشئ إطارًا متوافقًا لبناء هذا الوسط الأخلاقي المشترك بين جميع أعضاء الجماعة، ولكنه إطار غني بالألوان يمكن أن نجد في داخله درجات كثيرة من القيمة الأخلاقية. وفي هذا الإطار يدعى كل فرد إلى ممارسة نشاطه، بأن يضع نفسه على درجة مناسبة العلو، في سلم القيم، تبعًا لطاقته المادية، ومطامحه الأخلاقية. وبهذا يتضح معنى ذلك الحديث الصحيح الذي يقرر أن صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- كانوا يسافرون "مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم"1. والقرآن لا يعتمد فقط على الضمير الإنساني حين يغفل تحديد الشروط لهذه الرخصة أو تلك، بل إنه يرجع إليه صراحة في تحديد بعض واجباتنا الأسرية، والاجتماعية، التي يتركها غير محددة من الناحية الكمية، مكتفيًا بالقول بوجوب أدائها في صورة إنسانية وهو يجمل هذه الصورة الإنسانية في كلمة "المعروف": {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} 2، {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} 3، {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ} 4، بل إن القرآن الكريم غالبًا ما يضع أفكار الخير والشر تحت اسم "المعروف، والمنكر".

_ 1 البخاري, كتاب الصوم, باب 36. 2 البقرة: 228. 3 البقرة: 233. 4 البقرة: 236.

بيد أن المقياس الحقيقي للفكرة المركبة التي تشغلنا هنا لا يمكن تحقيقه إلا من الداخل، حيث يجب أن يترك لتقدير كل منا بنفسه، وليس معنى ذلك أن يحدد كل منا مقياسه مرة واحدة، بل يجب أن يتنوع هذا المقياس ليقابل في كل تجربة بين قيمة طاقتنا المتاحة، وأهمية أعبائنا، دون أن نغفل جانب التوافق في مجموع تكاليفنا. ولقد يحدث -دون شك- أن تقود المرء رغبة خفية في التملص من الواجب، فيفيد من هذه المرونة في القاعدة العامة، ليطبقها على حالات مقاربة، من نفس الطبيعة في الظاهر، وفي هذه الحالة ننقذ المظاهر دون أن تكون الأخلاق قد نالت حقها بمثل هذا التصرف. ومن الواضح أنه لا يمكن التحدث عن الأخلاق إلا بقدر ما يكون المرء صادقًا مع نفسه، وهذا هو التحفظ الذي ما زال القرآن ينفثه في آذاننا: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1، {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} 2. وهو يثبت من حيث المبدأ بطلان أي عذر لا يستمد منبعه من الصدق: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} 3. ولقد يحدث أيضًا أن يتخلى المرء عن الجهد قبل أن يصطدم فعلًا بإحدى العقبات، لا بسوء نية، ولكن بنوع من التراخي والإهمال. فهو يتخيل ابتداء أن عقبات سوف تصادفه، فيقول في نفسه: لن أفعل هذا، فقد

_ 1 المائدة: 3. 2 التوبة: 91. 3 القيامة: 14-15.

أمرض، ولن أفعل هذا، فقد يعيبه الناس علي، ولن أعطي الفقراء، فقد أصبح الغداة فقيرًا. وليست هذه في أكثر الأحيان سوى أوهام محضة، أو بلغة القرآن، هي أفكار شيطانية، والله يقول: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} 1. كلا ... فيجب ألا نتقهقر إلا أمام استحالة واضحة لأعيننا، أو على الأقل عرفناها بالتجربة معرفة كافية. يجب أن نبدأ دائمًا بإرادة الطاعة، وأن نشرع في العمل، حتى لو بدت المهمة لنا أكثر مشقة: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} 2 "لأنفسهم". ولقد نصل إلى سد لا نتوهم اجتيازه فييسر الله الخروج منه بفضله، وتجربة الأنفس الكبيرة خير دليل على ذلك، وحسبنا أن نذكر هنا مثال إبراهيم وولده إسماعيل: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ، وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ، وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} ، أو مثال أم موسى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِين} 4. وتلك هي حال من يخضعون لإرادة الله تبارك وتعالى:

_ 1 البقرة: 268. 2 النساء: 66. 3 الصافات: 103-107. 4 القصص: 7.

{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} 1، {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} 2. ولقد يحدث أخيرًا أن يكتفي المرء -وهو يؤدي واجباته الأساسية، ويطرح الذنوب الفاحشة- بهذا المستوى المتواضع للرجل الطيب، ومعنى ذلك أنه بدأ -دون شك- بتثبيت مثله الأعلى عند درجة متوسطة، هي أقصى ما يبلغه الجهد المعتدل، وهو خطأ يختلط به "الهدف" و"العمل". إن اعتدال العمل لا ينبغي أن يتأتى، ولا يمكن أن ينال، إلا على أساس نية تستهدف أعلى قيمة وأسمى درجات الكمال. وأي حد يهبط عن هذا المستوى ستكون له بالضرورة انعكاساته على الإرادة: التوقف، والتناقص والكفاف. والآيات القرآنية التي تأمرنا بأن نجاهد حق الجهاد في سبيل المثل الأعلى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} ، {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} ، دون التفات لإمكانياتنا -هذه الآيات ليس لها من معنى إنساني آخر. فهي حين تعين لنا هذا الهدف الأسمى، وحين تزكي مطامحنا الأخلاقية إلى غيرما حد -تحاول في الواقع أن تدفع جهودنا إلى أعلى درجة ممكنة في توترها. ولقد رأينا إلى أي حد يحث القرآن الناس أن ينشدوا الأفضل، وأن يسابقوا إلى المراتب الأولى. ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعطينا المفتاح، ويحركه بهذا الجهاد النبيل. فهو على حين يأمرنا في نطاق الأشياء المادية أن نقنع بما قسم الله لنا، ناظرين إلى من هم أدنى منا من إخواننا، يوصينا في النطاق الأخلاقي بعكس ذلك، يوصينا بحرارة أن نسمو دائمًا بأنظارنا إلى من هم أسمى منا، وأن نحاول

_ 1 الطلاق: 2. 2 الانشراح: 5-6.

الاقتداء بهم، وفي ذلك يقول, صلى الله عليه وسلم: "خصلتان، من كانتا فيه كتبه الله شاكرًا صابرًا، ومن لم تكونا فيه لم يكتبه الله، لا شاكرًا ولا صابرًا. من نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به، ونظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله على ما فضله به عليه، كتبه الله شاكرًا صابرًا. ومن نظر في دينه إلى من هو دونه, ونظر في دنياه إلى من هو فوقه فأسف على ما فاته منها، لم يكتبه الله شاكرًا ولا صابرًا"1.

_ 1 الترمذي, كتاب صفة القيامة, باب 58.

خاتمة

خاتمة: عرفنا الآن حقيقة الجهد المطلوب، والمحمود في القرآن. إنه أولًا نشاط أخلاقي ومادي يسخر لخدمة الواجب، ويقاس إليه، فكل ما هو "متعسف" لا علاقة له به، ثم هو بعد ذلك نشاط "مبصر" واضح الرؤية من ناحيتين؛ لأن نظراته لا تتجه فقط إلى الطاقات المتاحة، كيما تستخدمها على بصيرة، ولكنها في الوقت نفسه تحتوي في نظرة واحدة مختلف العلاقات بين الفرد من جانب، "وربه، والناس أجمعين، ونفسه من جانب آخر" كيما تتوزع فيما بين هؤلاء جميعًا توزيعًا عادلًا، فتنهض بمختلف تكاليفهم. وهو أخيرًا نشاط "نبيل" "متبصر في العواقب"، فهو لا يريد في الواقع أن يستنفد ويستهلك استهلاكًا وقتيًّا، فيصبح بلا ثمرة،، وبلا غد، بل هو على العكس يتوقع نوعًا من الدوام، والثبات تزداد معهما الغبطة ويتنامى السرور. فإذا ما قصد الجهد إلى هذا المثل الأعلى الواجب، بعناصره الثلاثة: "القوة، والمكان، والزمان" فيجب أن يندفع في طريقه، بحيث يتجنب الإفراط في حال تألقه، ويتجنب التفريط في حال تقاصره.

وإن ذلك ليذكرنا -على الفور- بنظرية "الوسط العادل" التي خصص لها أرسطو مجموعة من الفصول في كتابه: "الأخلاق". ولعل من المفيد أن نسجل تقاربًا بين النظريتين، ولكنا نرى على وجه التحديد أن مسألة معرفة ما إذا كان يوجد، أو لا يوجد بينهما بنوة تاريخية -غير مطروحة؛ فالدنيا كلها تعرف أن القرآن لاحق لنظرية أرسطو، ولكن الدنيا كلها تعرف من ناحية أخرى أن من الخطأ البين تاريخيًّا القول بفرض حدوث استعارة، فإن الصلة بين الفكر الإسلامي، والفلسفة الهلينية لم تبدأ في الواقع إلا بعد قرنين من الإسلام. وإنما الذي نقصده هو أن نحاول أن نرى فقط إلى أي حد بلغ تشابههما، وفيم يتمثل اختلافهما؟ إن فكرة "المقياس" فكرة قديمة، فالفيثاغوريون يرون أن العالم عدد وتناسق، ويعترف أفلاطون في المجال الأخلاقي بوجوب أن يكون تنفيذ كل الأشياء بمقياس، وطبقًا لمقتضيات العقل السليم. وحين أراد أرسطو أن يقدم لنا هذه الفكرة في صورة أقل تجريدًا قال بوجوب التزام الوسط العادل أي: تجنب الإفراط والتفريط، أو الزيادة والنقص. ثم نجد هذا المبدأ العملي نفسه في القرآن، لا بمناسبة جهد التقوى فحسب، كما رأينا آنفًا، بل كذلك بمناسبة "القناعة": {كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} 1، و"العفة": {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} 2، و"الكرم": {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} 3, و"رقة الصوت، ولطف المسلك": {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} 4.

_ 1 الأعراف: 31. 2 المؤمنون: 5-6. 3 الفرقان: 67. 4 لقمان: 19.

وإلى هذا الحد فالتشابه واضح. ولكن ها نحن أولاء أمام أول فرق، فلسنا نجد في كتاب الإسلام المقدس صيغة عامة توحد بين الفضيلة والعمل المتوازن كالذي نجده لدى أرسطو، حين قال، "فالفضيلة إذن هي نوع من التوسط، بما أن الهدف الذي تتوخاه هو نوع من التوازن بين طرفين، فالزيادة، والنقص يشيان بالرذيلة، على حين أن الوسط العادل يطبع الفضيلة"1. أهذا التعريف كامل؟ أهو دقيق؟ أهو قائم على استقراء كامل؟ ثم نتساءل أولًا: هل تسلم كل المبادئ الأخلاقية بهذا الفرق الكمي، بالزيادة، والنقص والمساواة؟ إننا لن نقف أنفسنا عند مثال "الصدق"، الذي ذكروه أحيانًا على أنه استثناء من القاعدة؛ لأننا نميل إلى تعريف الرجل الصادق بأنه الذي يقول الحقيقة كاملة. وعلى ذلك فنقص الصدق يتمثل أحيانًا في أن نذهب وراء هذا المقياس، أو نقبع دونه. والإنسان الذي يضيف إلى الحقيقة بعض المبالغة، والآخر الذي يقتطع منها ما يخفيه -كلاهما في الخطأ سواء. فالاعتراض القائم على مثال الصدق يمكن إذن أن يستبعد. ولكن كيف نثبت هذا التقسيم الثلاثي في عمل أخلاقي جواني لا يقبل القسمة؟ ولنأخذ مثلًا "الأمانة" من حيث هي اتفاق باطني للمرء مع نفسه على موقف معين، ففي هذا المجال فعلًا يبدو لنا مبدأ الطرف الثالث المستبعد مطبقًا بكل قوته؛ لأنه إما أن يكون صادقًا مع نفسه، أو لا يكون كذلك، تمامًا كما يقال: فلان يرى، أو لا يرى.

_ 1 انظر: RISTOTE, ETHIQUE, LIVRE II, CH. VI.

ومع ذلك, فلنضع أنفسنا في الظروف المناسبة لهذا التدرج. هل يجب أن نسلم بأن كل سلوك يستمسك بالوسط هو سلوك فاضل، وبالعكس، كل ما يتجاوز هذا المقياس يرتد بمجرد هذا التجاوز إلى الأعمال الموصومة بالرذيلة؟ إن الحب والبغض، والإثبات والنفي، والعمل الذي ينفع ويبني، والعمل الذي يضر ويهدم -كل هذه أنواع من التطرف، فهل لنا الحق في أن نقرر أن الفضيلة تتمثل هنا بخاصة في "اللامبالاة"، و"الشك"، و"التأمل البليد"؟ ومن ناحية أخرى، عندما تصرح لنا الفلسفة الأثينية بأن الحد الوسط في نظرها هو نقطة التعادل والتساوي، أفلا يخشى ألا تكون الفكرة التي كونتها لنفسها عن الفضيلة طبقًا لهذا المقياس -شيئًا سوى "العدالة الدقيقة"، التي إن لم تتجسد في شريعة القصاص، إذ ينكرها أرسطو فعلى الأقل في شريعة التناسب التي أحلها محلها؟ فماذا بقي منذئذ للإحسان، والإخلاص، والتضحية، تلك الفضائل التي لا تعد ولا تحسب؟ وهكذا يبدو لنا التعريف الأرسطي مخطئًا، تارة "بالزيادة"، حين يضم حالات لا تناسب الشيء المعرف، وتارة "بالنقص" حين لا يشتمل على كل المعرف. فهو كما قيل عند الفلاسفة المدرسيين: ليس جامعًا ولا مانعًا، وبحيث يمكن القول بأن الحكمة القرآنية وهي تتجنب الصيغة الجامعة في هذا الموضوع -قد عرفت كيف تتوقف حيث ينبغي لها أن تتوقف. فلنتقدم أيضًا خطوة، ولننظر إلى الحالة التي تتفق فيها النظريتان على إيصائنا بالاعتدال، ففيم يتمثل هذا الاعتدال؟ هنالك أيضًا تحتوي إجابة كل من النظريتين على اختلافات طفيفة. إذ

يكتفي فيلسوفنا ببعض العموميات المجردة على هذا النحو، والتي يدع لكل منها في النهاية مطلق الاهتمام بتحديد المراد من هذا "الوسط الممتاز". إنه يدلنا فقط على وسائل التحديد، فيقول: "يجب أن نظهر أعمالنا ومشاعرنا في اللحظة المناسبة، بناء على أسباب مقنعة، وحيث يوجد من يستحقها، ولغايات لائقة، وفي ظروف موافقة"1. عظيم جدًّا، ولكن ما هذا "المناسب، المقنع، اللائق"؟ إن الذي يدل عليه بكل تأكيد هو "العقل السليم". وهكذا يبقى معيار الفضيلة عصيًّا على إدراك جمهور الناس، فهو يكمن تمامًا في ذهن الحكيم. ولنأخذ مثال الكرم، حيث يقول أرسطو: "إن الشاق في الأمر هو أن أعرف: لمن يجب أن أعطي؟ وكم؟ ومتى؟ ولماذا؟ وبأية طريقة؟ ولذلك فإن الاستعمال الطيب للمال نادر. ويجب على من يهدف إلى الاعتدال أن يبدأ بالابتعاد عما يبعده عنه, وأن يكتفي بأقل قدر من الشرور"2.. وهذه هي غاية التحديد. أما القرآن، الذي تكمله تعاليم الرسول -صلى الله عليه وسلم- فإنه يقدم على عكس ذلك لكل فضيلة مقياسًا حسيًّا، تسهل معرفته بدرجة كافية، وتنعدم بفضله تقريبًا فرص الخطأ، والالتباس. وحسبنا لكي نقتنع بذلك أن نأخذ مجموعة الأسئلة الأرسطية التي سبق أن ذكرناها، فنطرحها على الشريعة القرآنية، ولسوف نجد فيها إجابة محددة عن كل نقطة استفهام.

_ 1 المرجع السابق, الفصل السادس. 2 المرجع السابق, الفصل التاسع.

بل وأكثر من ذلك، فإن هذه الشريعة -بعد أن وضعت لكل فضيلة مقياسها النوعي- قد دبرت إحكام مجموع الفضائل بالقاعدة العامة التي تأمرنا بالتوفيق بين واجباتنا، بعضها وبعض. وأخيرًا، فإن الاعتدال الذي يمدحه الإسلام، فيما يتعلق بدرجة الجهد، لا يتمثل في "الوسط الحسابي"، ولا في "نقطة الذروة" وهما القولان اللذان يتردد بينهما الفكر الأرسطي، وإنما يتمثل الاعتدال في نبل يقترب بقدر الإمكان من الكمال، مقرونًا بالسرور، وبالأمل، وهو ما يعبر عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في توجيهاته إلى الرفق، ونحو ما هو عدل في ذاته: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا, وقاربوا، وأبشروا" 1.

_ 1 البخاري, كتاب الإيمان, باب 29.

خاتمة عامة

خاتمة عامة: إن تعليم الناس واجباتهم الحسية مهمة عظيمة، قام بها القرآن كاملة على خير وجه. بيد أن هذه المهمة، رغم كونها الهدف الرئيسي من تعليمه، لم تكن فيه الموضوع الوحيد، فلقد اضطلع القرآن إلى جانب هذه المهمة العملية بمهمة أخرى، ذات طابع نظري. لقد قدم لنا كل العناصر الضرورية، كيما تتكون لدينا فكرة دقيقة عن الطريقة التي ينبغي أن نتصور بها معنى الأخلاق, من أين تأتي القاعدة الأخلاقية؟ وبأي الشروط تفرض نفسها؟ وما النتائج التي تترتب على موقفنا منها؟ وما المبدأ الذي يجب أن يلهم سلوكنا؟ وبأية وسيلة تنال الفضيلة؟ والإلزام، والمسئولية، والجزاء، والنية، والجهد، تلكم هي العمد الرئيسية لكل نظرية أخلاقية، راعية بمراميها. ولقد خصصنا أساس هذا البحث في القرآن لدراسة هذه الأجزاء التكوينية للنظرية الأخلاقية. فلنلق الآن نظرة سريعة تضم في رؤية شاملة مجموع النتائج التي انتهت إليها أبحاثنا، ولسوف نرى بعض السمات المميزة لهذه الأخلاق تتجلى لأعيننا، وهي السمات التي سنحاول أن نبرزها في الأسطر التالية.

أولًا: بأي معنى، وإلى أي مدى يمكن أن توصف الأخلاق القرآنية بأنها دينية؟ لا شك أن هذا المعنى لا يرجع فقط إلى أن القواعد التي تقررها هذه الأخلاق موضوعها الوحيد والجوهري -هو تنظيم العلاقات بين الإنسان، وبين الله تبارك وتعالى؛ إذ كان من اليسير التأكد أن وجهًا من وجوه النشاط الإنساني لم يفلت من تقنين تلك الأخلاق1، ومن هذا الجانب لم تعرف الإنسانية أخلاقًا أخرى أكمل من الأخلاق القرآنية. ومن الممكن أيضًا أن نقرر أن الشعائر الدينية المحضة لا تشغل في هذه الأخلاق سوى أقل مكان. والحق أنه يجب أن نفرق هنا بين موقفين مختلفين: الامتداد والعمق، أو الظاهر والباطن. فإذا كان النشاط الذي يمارسه المسلم في كلا الميدانين: الحيوي والاجتماعي، يشغل بعامة -من حيث مظاهره الخارجية- مجالًا أرحب من المجال الذي يشغله بالعبادة, فإن حياته الباطنة تتميز -على العكس- بعمق التدين: فهو يحب الله فوق كل شيء، وهو يخضع كل شيء لإرادته، وهو يستوحي في كل موقف أمر الله ورضاه. وليس ينبغي أن نعتقد أيضًا أن الأخلاق القرآنية أخلاق دينية، بمعنى أن رقابتها توجد فقط في السماء، وأن جزاءها فيما وراء الموت، إذ إنها تخول هذه الصلاحيات في نفس الوقت لقوتين مؤثرتين أيضًا هما: الضمير الأخلاقي، والسلطة الشرعية، وليس ذلك فحسب، بل إنها تكلف كل فرد في الأمة أن يحول بكل الوسائل المشروعة دون انتصار الرذيلة والظلم. وهي أيضًا ليست دينية، بمعنى أنها لا تجد دافعًا إليها إلا في الخوف

_ 1 انظر المختارات القرآنية التي سنصنفها بعد ذلك تحت عنوان: "الأخلاق العملية".

والرجاء، ولا تجد تسويغها إلا في إرادة عليا تملي على وجه الاستعلاء أوامرها، مستقلة عن كل ما يقتضيه العقل، والشعور الإنساني، وهي إرادة يجب على الإنسان أن يطيعها، دون مناقشة، أو فهم. إنها ليست دينية بهذا المعنى؛ لأن القرآن لم يزل يدعو إلى هذه المفاهيم الإنسانية على وجه التحديد؛ لتسويغ أوامره، ومن هذه الوجهة نستطيع أن نقول: إنه قد زود تعليمه الأخلاقي بنظام تربوي غاية في الكمال، بحيث يصلح لجميع مراتب الأخلاقية. فالمبتدئ، والطيب، والحكيم، والقديس، كل هؤلاء يحدون فيه ما يشبع حاجتهم إلى الاقتناع سواء على المستوى العقلي أو العاطفي، الصوفي أو الإنساني، لدرجة أن أكثر أوامره حتمية في الظاهر، وهو الذي نتلقاه دون أن يتضمن سببًا محددًا لتسويغ وضعه -هذا الأمر إنما يقوم في الحقيقة على المفهوم العام للحكمة الإلهية، وعلى مفهوم غير محدد للخير يرمي إليه. ولا ريب أن العنصر الديني يعود في جزء منه، في اعتبار المشرع -إلى هذه العلاقة الثلاثية: سواء باعتباره جانبًا من الحياة الإنسانية يحتاج إلى قاعدة منظمة، أو باعتباره ضمانة كبرى للنجاح في تطبيق القانون، أو باعتباره تسويغًا لهذا التحديد أو ذاك، مما قد يبدو لنا غير ذي أهمية في ذاته، أو قد لا تكفي أنوارنا وبصائرنا للكشف عنه أو تفسيره من الناحية العقلية. بيد أنه في جميع الحالات "لا يتراكب العنصران: الديني والأخلاقي"، ولا يستطيع أحدهما أن يعرف الآخر. ألا يمكن أن نحصل على هذا التراكب من ناحية واحدة على الأقل، حين

ننظر إلى الأخلاق القرآنية من حيث مصدرها التشريعي؟ فهل ينشأ النفوذ الذي يمارسه الواجب على كياننا، من "سلطة دينية محضة" في نظر القرآن؟ إننا نتردد في تأكيد ذلك بشكل قاطع، دون تحفظ، أو تقييد: أولًا: لأن شريعة الضمير -طبقًا للقرآن نفسه- سابقة في الوجود على شريعة الدين الإيجابية، فلقد نفخ الشعور بالخير وبالشر، وبالعدل وبالظلم، في كل نفس إنسانية منذ كان الخلق. أولسنا نشهد في الواقع ظهور الحس الإخلاقي عند الأطفال ابتداء من عمر التمييز، واستمراره خلال جميع الأعمار، حتى لدى الملاحدة؟ ثم ألسنا نشهد بين المذنبين أنفسهم من يعترفون بذنوبهم، ويأسون عليها دون أن يملكوا الشجاعة للتخلص منها، أليس هؤلاء هم الجمهور الغفير؟ وثانيًا: لأن الشريعة الإيجابية لم تأت لنسخ الشريعة الطبيعية، ولكي تعزل السلطة الخاصة التي ثبتت هذه دعائمها. فهي لم تبطل الشريعة القديمة، وإنما صدقتها، ومدت في عمرها، وحددتها. أما فيما يتعلق بالضمير، فهي لا تكتفي بأن تستلزمه فحسب، بل إنها بعد أن تغذيه، وتنوره، تعتمد عليه من جديد لدعم سلطانها الخاص. والواقع أن الشريعة الإيجابية، لا تستطيع أكثر مما تستطيع الشريعة الطبيعية أن تكون إكراهًا يفرض نفسه علينا، دون مراعاة لقبولنا وموافقتنا، فإن الأمر الإلهي لا يمكن أن يصبح بالنسبة إلينا تكليفًا أخلاقيًّا إلا برضانا. ولا يعتبر الإنسان أنه قد أطاع واجبه الديني إذا كان يؤديه دون إيمان بطابعه التكليفي، كأساس في نظام الأشياء الثابتة. "فالواجب الأول هو الإيمان بالواجب"، ويجب أن أتلقى من ذاتي الباطنة الأمر بطاعة هذا الأمر الأعلى.

ولذلك نجد القرآن يذكر المؤمنين بالتزامهم العام، بموجب عقد الإيمان -قبل أن يطلب منهم طاعتهم المخلصة. وهكذا لا تكون الصفة الإلهية للأمر القرآني سوى لحظة وسيطة، بين شعورين إنسانيين يستحثهما دائمًا. فمن الوجهة التحليلية نجد أن "العنصرالديني" و"العنصر الأخلاقي" مفهومان مستقلان، لا رابطة بينهما ضرورية، وهما إجابة عن نوعين من المثل الأعلى مختلفين: أحدهما يتعلق "بالكينونة" والآخر "بالمصير"، ففي المجال الأول يكون المثل الأعلى هو الكائن الكامل، الحق، الجميل في ذاته، وهو موضوع المعرفة، والتأمل، والحب. وفي المجال الثاني يكون المثل الأعلى هو العمل الكامل، الذي نسميه: الفضيلة، موضوع الطموح، والإبداع. وإنما نقرب بين هذين المفهومين نتيجة اتفاق منطقي، وحكم تركيبي -كما يقول كانت- حين نجعل من الله الخالق سيدًا مشرعًا، وحين نتخذ من توجيهه أمرًا أخلاقيًّا. ولكي نبلغ هذه النتيجة يجب أن نمر ضرورة بمجموعة ثالثة من الأفكار الوسيطة. فنحن لا نميز فقط لدى الخالق صفات أخلاقية بوجه خاص: كالعدالة، والحكمة، والكرم، ولكننا أيضًا نتخذ من شرعه "شرعًا لنا"، ونجعل أمره "أمرنا" وبدون ذلك يظل المفهومان بالنسبة إلينا منفصلين لا يمكن وصلهما. وثالثًا وأخيرًا: فإن المتأمل في الأخلاق القرآنية لا يجد فقط أن هنالك واجبات أسرية واجتماعية كثيرة قد تركت دون تحديد من الناحية الكمية، وعهد بها إلى تقدير الضمير المشترك، بل إن كل تكليف قرآني يجعل شرط تطبيقه مجموعة من الاعتبارات، تحترم الوسع الإنساني، وتحسب حساب الواقع المادي، والتوافق بين الواجبات. ومن هنا فهو يخول كل ضمير فردي جزءًا من النشاط التشريعي، وهو جزء ضروري لصوغ واجبه المادي في كل لحظة.

وعندما يعلن القرآن أن قيده لطيف، وحمله خفيف، فإن هذا اللطف يأتي بلا شك في جانب كبير منه نتيجة هذا التدخل الثلاثي للضمير الإنساني، في الاعتراف بالواجب، وتنظيمه. ومن هنا نرى أن هذا التدخل لم يقتصر على أن أحاط بالعامل الديني، حين استبقه وأصحبه، وألحقه بعناصر إنسانية، ولكنه حوله إلى عامل أخلاقي بالمعنى الصحيح. وهكذا لا نستطيع أن نخلع على هذه الأخلاق نعتًا دينيًّا فحسب، سواء من حيث التشريع، أو الجزاء، أو التسويغ، أو المادة التي هي موضوع تعليمها، إذ كان الجانب الديني لا يخالطها دائمًا إلا باعتباره عنصرًا واحدًا، في تركيب كبير جدًّا. ومع ذلك, فهناك نقطة لا يظهر عليها الطابع الديني ويغلب فحسب، بل إنه يحتل كل مجال الضمير، وبهذا يجعل من الممكن، بل من الضروري أن يطلق على هذه النظرية لقب: الأخلاق الدينية. هذه النقطة هي "النية" أو جانب القصد، وفيها ينفرد المعنى الديني حقًّا، دون منازع. إن الهدف الذي ينبغي لنشاط المؤمن الطائع أن يتوخاه وهو يؤدي واجبه لا يكمن في طيبات هذه الدنيا، ولا في السرور والمجد في الأخرى، ولا في إشباع شعوره الخير، بل ولا في إكمال وجوده الباطن. إنه الله، الله الذي يجب أن يكون نصب أعيننا، وأية غاية أخرى تدفع الإنسان للعمل هي في ذاتها انتفاء للقيمة وعدم. ولا مرية في أننا يجب أن نخاف، وأن نرجو، وبوسعنا أن ننشد رفاهتنا المادية والأخلاقية لذاتها، أو لأن هذا هو واجبنا، أو حقنا، ولكن لا لأنه

أجر طاعتنا. فإن ذلك لو حدث يكون على الأقل مخالفة للأخلاقية كما علمناها القرآن، إن لم يكن انتهاكًا، ونقضًا للشريعة. وإذا كانت السمة المميزة لنظرية أخلاقية تنبع من المبدأ الذي تطرحه على الإرادة، كهدف لنشاطها، فإننا نرى الآن في آية أسرة يجب أن ننظم الأخلاق القرآنية. ففي نظر هذه الأخلاق ليست اللذة، ولا المنفعة، ولا السعادة، ولا الكمال -ليست هذه كلها بقادرة في ذاتها على أن تنشئ هذا المبدأ، وكل ذلك يجب أن يكون خاضعًا لسلطان "الواجب"، بأقدس معاني الكلمة، وأكثرها واقعية، وأسماها درجة. ولكن، قد جرى العرف على تسمية القوانين الأخلاقية بحسب العنصر الغالب في مضمونها: فرديًّا، أو اجتماعيًّا، صوفيًّا أو إنسانيًّا، شريعة عدل، أو شريعة رحمة، وهكذا ... وليس شيء من هذه الصفات ذات الجانب الواحد، بمناسب هنا، فيما يبدو لنا. إن هذه شريعة توصي "بالعدل" و"الرحمة" معًا، وتتواثق فيها العناصر "الفردية"، و"الاجتماعية" و"الإنسانية" و"الإلهية" على نحو متين. بيد أننا لو بحثنا في مجال هذا النظام عن فكرة مركزية، عن الفضيلة الأم التي تتكاثف فيها كل الوصايا، فسوف نجدها في مفهوم "التقوى"، وإذن، فما التقوى، إن لم تكن الاحترام البالغ العمق للشرع؟ هكذا نصل إلى فكرة الواجب، مطروحة هذه المرة على الصعيد العاطفي، كمحرك للإرادة. وعلى هذا الصعيد يبدو لنا "الاحترام" في المركز، بين شعورين متطرفين، يركبهما، ويلطفهما: "الحب"، و"الخوف". ولما كان "الاحترام" ناتجًا بصورة ما عن تزاوجهما فإنه يؤدي دورًا مزدوجًا، حين يستخدم كمحرك، ولجام في آن، ويطلق عليه في جانبه الأخير بخاصة:

"الحياء" وبهذا الشعور على وجه الدقة حدد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- روح هذه الأخلاق. وأيًّا ما كانت وجهة البحث فإن المرء يرى أن هذه الأخلاق وهي تستهدف المثل الأعلى -تعمد إلى تجميع كل القوى، وكل أشكال الحياة الأخلاقية، ثم تردها ثانية إلى نقطة توازنها. ونخص بالذكر الطريقة التي استطاعت بها أن توفق بين "حرية" الفرد و"تنظيم" إرادته، لقد حققت هذا التوفيق بفضل طابعها المتوسط بين المرونة والصرامة، والذي بفضله تتكيف تبعًا لأكثر ظروف الحياة اختلافًا، دون أن تتراخى مع ذلك أمام إغراء شهواتنا، وتقلب إحساسنا. والواقع أن هذه الشريعة تميز تمييزًا واضحًا بين الاتجاهات شديدة العمق للنفس الإنسانية، وحاجاتها العابرة، المشروعة أو غير المشروعة؛ كما أنها تفرق بين ما ينبغي أن يترك دون مساس؛ لأنه فريضة ظرف شامل لا يتغير، وبين ما يترك لحكم كل منا؛ لأنه يتغير بتغير الملابسات والظروف، وبين ما ينبغي إصلاحه، أو إسقاطه، باعتباره إضافة زائفة، صدرت عن طبيعة غريبة شريرة. ولذلك أثبت القرآن مراعاة لهذه الأحوال المبدأ الثلاثي المتمثل في: "الفرض"، و"المباح"، و"المحرم". فذلكم هو العامل الأول الذي جعل من هذا المقياس الدقيق للحكمة القرآنية رابطة بين الحرية والتنظيم. وإليك عوامل أخرى. فإذا ثبت مبدأ كل قاعدة، وجوهرها على هذا النحو، وجب أن يظلا ثابتين إلى الأبد، ومقدسين على وجه الشمول. بيد أنه لما لم تكن صيغة بعض

هذه المبادئ أو الجواهر قد حددت تحديدًا ماديًّا، ولما كان تعريفها، وشكل تطبيقها قد تركا صراحة للذوق السليم، فإن القضية تصبح قضية الحكم، والتذوق الشخصي. بل إن بعض واجباتنا التي نالت تحديدًا عدديًّا معينًا -لم تنله إلا من بعيد، وفي خطوط عريضة، وبهذا وضعت بين حدين متباعدين، كيما تتجنب الطرفين المتناقضين فحسب، حين نمارس نشاطنا, أي: تتجنب السقوط أسفل مما تتطلب الفضيلة، أو التبعثر دون جدوى، ومن غير حدود. وبين هذين الطرفين تدعى الحرية الفردية إلى أن تمارس ذاتها في البحث عن درجات، تتزايد رفعة، ولكنها دائمًا متوافقة مع المقتضيات المختلفة للحياة الأخلاقية. هذه الطريقة التي يقدم القرآن لنا بها قاعدة الواجب ليست ميزتها فقط أن تخفف إصر التكليف، وأن تحمي قيمة الشخصية الإنسانية، بدلًا من أن تحولها إلى مجرد آلة. وليست ميزتها فقط أنها قد أتاحت إشباعًا عادلًا ومعقولًا لاتجاهين متعارضين في الإرادة الفردية: أعني حاجتنا المزدوجة إلى المطابقة، والمبادرة -ولكنها ذات أهمية عظمى في المستوى الاجتماعي، فبفضلها استطاع القرآن -كما قلنا- أن يبدع إطارًا متجانسًا بقدر يكفي لتكوين هذا الوسط الأخلاقي، المشترك بين جميع أعضاء الجماعة، ولكنه أيضًا متنوع بقدر يكفي لتدخل في نطاقه درجات كثيرة للقيمة. وأهم العوامل في هذا النجاح يتمثل في أن جميع القواعد أو أغلبها، تشتمل على أمرين: "أداء واجب"، و"تحقيق خير"، أو بالأحرى: أداء "واجب جوهري"، و"واجب كمال". ويبدو القرآن في النقطة الأولى متشددًا، لا يقبل أية مساومة، ولكنه في الثانية تتحول صرامة الأمر إلى حث وتشجيع. وهكذا يجب أن تتضمن أنظمتنا الاجتماعية كلها جانبًا ثابتًا، محافظًا،

يصان عن هوى الناس، وصروف الظروف، وجانبًا ديناميكيًّا، متطورًا، متحررًا. وبذلك تتحقق أحلامنا في "الاستقرار" و"التغيير" وحاجاتنا إلى "النظام"، و"التقدم". ونضيف إلى ذلك أن القرآن يواكب الطريق الذي يبدأ من الواجب المشترك، حتى الواجب الكامل المنوط بمبادرة كل فرد وشجاعته، فيطبع كل مرحلة من الطريق بدرجتها من الثواب. وهو حين يغمر بكرمه مختلف تطبيقات الفضيلة المتدرجة -فإنه يدعو هؤلاء وأولئك من أوليائه أن يرتقوا دائمًا، دائمًا أسمى الدرجات. في هذه الظروف نستطيع أن نختم البحث قائلين: لو افترضنا أن الإنسانية سوف تبقى أبدًا، وأنها سوف تغير ظروف حياتها إلى ما لا نهاية، فإننا نؤمل أن تجد في القرآن أنى توجهت -قاعدة لتنظيم نشاطها أخلاقيًّا ووسيلة لدفع جهدها، ورحمة للضعفاء، ومثلًا أعلى للأقوياء. وأدنى ما يمكن أن نقوله في الأخلاق القرآنية: إنها تكفي نفسها بنفسها على وجه الإطلاق، فهي: "أخلاق متكاملة".

تنبيه

تنبيه: حاولنا خلال هذه الدراسة أن نتوخى الوضوح والدقة، والموضوعية. ولا شك أننا كنا نود أن نضم الجمال إلى الوضوح، والجاذبية إلى الأحكام وكان من المناسب بعد أن زرعنا ثمرات الفكر أن نعنى بأزهار الأسلوب، بيد أنه لما كان هذا الترف غريبًا بعض الشيء عن طريقتنا التي اعتدناها في الكتابة باللغة الفرنسية، فقد كنا نخشى إن بحثنا عن البريق أن نهدد المحكم المتين، فلا يكون إلا التكلف المضحك. فنحن مقتنعون إذن بتقديم أفكارنا، ومصطلحاتنا كيفما جاءت إلى العقل، عارية، بسيطة صادقة. ويبقى أن نقول: إنه لو توسم فينا بعض الناس صفات أخرى مما حاولنا أن نستودعه في هذا الكتاب، فسيكون هذا جزاء عظيمًا على ما بذلنا من جهد.

الأخلاق العملية

الأخلاق العملية مدخل ... الأخلاق العملية: حاولنا في كل ما سبق أن نحدد المفهوم القرآني للحاسة الأخلاقية. فما مصدر الواجب؟ وما أهميته؟ وما هدفه؟ وما مصيره؟ لقد استطعنا أن نجد لكل علامات الاستفهام هذه إجابة في النص محددة بدرجة كافية لإثبات تعريفها. فإذا نظرنا إلى النظرية الأخلاقية للقرآن في مجموعها لأمكن وصفها بأنها "تركيب لتراكيب"، فهي لا تلبي فقط كل المطالب الشرعية، والأخلاقية، والاجتماعية، والدينية، ولكن نجدها، في كل خطوة، وقد تغلغل فيها بعمق روح التوفيق بين شتى النزعات, فهي متحررة ونظامية، عقلية وصوفية، لينة وصلبة، واقعية ومثالية، محافظة وتقدمية -كل ذلك في آن. ولا ينبغي أن نرى في هذه الوحدة بين المختلفات مجرد رصف للمتناقضات، و"إضافة للمضافات"؛ لأنها في هذا التركيب لا تقوم فقط على تقدير الجرعة المناسبة، والتدرج، والتوازن، والانسجام. وهي ليست فقط كمالًا في الجهد المعقول يخدم النزعة الأخلاقية في مختلف علاقاتها، بل إن هنالك ما هو أكثر، وأفضل: إنها بناء عضوي حقيقي تتعاون فيه كل العناصر، وتتساند كل الوظائف، ولقد استطعنا أن نشهد كيف يمتزج المثالي بالواقع العملي الصلد1، وصرامة الإطار تسير مع المرونة في المضمون جنبًا إلى

_ 1 انظر في الفصل الثاني: التحليل العام لفكرة المسئولية ص136.

جنب، فيشتركان معًا في حفظ النظام، وفي تحقيق التقدم1. ورأينا كيف يكتمل العقل بالإيمان2، وكيف يعتمد الإيمان على العقل3. وكيف يراقب الفرد حسن سير الحياة الأخلاقية العامة4، وإن كان مكلفًا بمسئوليته الخاصة. وكيف يشعر المجتمع من ناحية أخرى بسموه، وبحقه المقدس بالنسبة إلى أعضائه5 "دون أن يقتضي منهم مع ذلك تضحيات لا جدوى منها أو مغالية"6، ثم يشعر في الوقت نفسه بالواجب الملح الذي يقع على كاهله، أن يضمن للمحرومين قدرًا مناسبًا من الرفاهة7، وأن يجنبهم كل عبء لا يطيقونه8. هذه الجدلية كلها، هذا المد والجزر يتردد حول المبدأ الوحيد، الذي يقع في قلب النظام، والذي يمكن أن يتلخص في فكرة "التقوى", وهي مفهوم مركب بدوره؛ لأنه يضم أعمق الاحترام للمثل الأعلى، والبحث عن أفضل الظروف التي تفرضها الطبيعة بقدر الإمكان. وفائدة دراسة كهذه هي أنها تشعرنا بكل عمق بما نحن مندوبون إلى أدائه، ثم هي ترينا كيف يستند هذا الأداء إلى أساس متين. لكن هذا كله لا يشبع إلا حاجة عقلية، ولا يعد سوى جانب ثانوي من المشكلة الأخلاقية، فمن الممكن "أن يكون المرء فاضلًا دون أن يستطيع تعريف الفضيلة" فحاجتنا إذن إلى أن نرى الفضيلة أعظم من حاجتنا إلى تعريفها.

_ 1 انظر الفقرة الثانية من الفصل الثاني في تحديد شروط المسئولية الخلقية والدينية ص148. "2، 3، 4، 5، 6، 7، 8" انظر الفصل الثاني.

"ماذا يجب أن أعمل"؟ ذلكم هو أعم الأسئلة وأشدها إلحاحًا، إنه الغذاء اليومي للنفس الإنسانية. ولسوف يكون عملنا هذا ناقصًا بادي النقص لو أنه بعد أن كشف في القرآن عن الأساس النظري، وعن المبادئ العامة للأخلاق، أعرض عن مشاهدة الآثار العظيمة الرائعة للأخلاق التطبيقية، التي قدمها لنا هذا القرآن. فهذا إذن بيان هذه الأخلاق العملية. ولسوف نرى فيها كيف أن نشاطنا في كل ميادين الحياة1، يجد فيها طريقه مرسومًا. وربما كان من المناسب أن نضيف إلى النص بعض الملاحظات المفسرة، أو المقارنة، ولكنا كيلا نضخم كتابنا، الذي تضخم فعلًا، سوف نكتفي بعرض مجرد وبسيط لهذه المقتبسات النصية، إلا في حالة الضرورة، مع العناية بتصنيفها منهجيًّا، تبعًا للمجالات المختلفة التي سبق أن أشرنا إليها.

_ 1 أعني: في سلوكنا الشخصي كما في علاقاتنا مع الآخرين، ومع الله جل وعلا.

الفصل الأول: الأخلاق الفردية

الفصل الأول: الأخلاق الفردية. أولًا: الأوامر. تعليم عام: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 1. تعليم أخلاقي: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} 2. جهد أخلاقي: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيمًا} ... 3. {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} 4. {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} 5. {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى، فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ

_ 1 النحل: 43، والأنبياء: 7. 2 التوبة: 122. 3 البلد: 11-17. 4 العنكبوت: آخر آية. 5 محمد: 17.

بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} 1، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} 2. طهارة النفس: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 3. {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ قَالَ} ... {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} 4. {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ، هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} 5. الاستقامة: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} 6.

_ 1 الليل: 4-10. 2 التوبة: 108. 3 الشمس: 9-10. 4 الشعراء: 87-89. 5 ق: 31-33. 6 فصلت: 6.

{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} 1. العفة, الاحتشام, غض البصر: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ، وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} 2. {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} 3. {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} 4. {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} 5.

_ 1 هود: 112. 2 النور: 30-31. 3 النور: 33. 4 النور: 60. 5 المؤمنون: 1-7.

{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا، وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} 1. التحكم في الأهواء: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} 2. {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 3. {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} 4. الامتناع عن شهوتي البطن والفرج: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْر وَلا يُرِيدَُ

_ 1 الأحزاب: 32-33. 2 النازعات: 40-41. 3 ص: 26. 4 النساء: 135.

بِكُمُ الْعُسْر} 1، {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} 2. {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} 3. كظم الغيظ: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} 4. الصدق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} 5. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} 6. {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} 7. الرقة والتواضع: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} 8.

_ 1 البقرة: 183-185. 2البقرة: 187. 3 البقرة: 222. 4 آل عمران: 134. 5 التوبة: 119. 6 الأحزاب: 70. 7 الزمر: 33. 8 لقمان: 19.

{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} 1. التحفظ في الأحكام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} 2. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} 3. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} 4. اجتناب سوء الظن: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} 5. الثبات والصبر: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} 6. {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} 7.

_ 1 الفرقان: 63. 2 الحجرات: 12. 3 الحجرات: 6. 4 النساء: 94. 5 الإسراء: 36. 6 المدثر: 7. 7 النحل: 127.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} 1. {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} 2. {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِين} 3. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} 4. {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} 5. {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} 6. القدوة الحسنة: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} 7. {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} 8. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} 9.

_ 1 آل عمران: آخر آية. 2 البقرة: 214. 3 العنكبوت: 1-3. 4 العنكبوت: 10. 5 آل عمران: 186. 6 البقرة: 155. 7 الأحقاف: آخر آية. 8 الأحزاب: 21. 9 الصف: آخر آية.

الاعتدال: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} 1. {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ ... وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} 2. {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِْ} 3. {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} 4. الأعمال الصالحة: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} 5. {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} 6. {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} 7. التنافس: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} 8.

_ 1 الإسراء: 110. 2 الفرقان: 67. 3 الإسراء: 29. 4 الرحمن: 7-9. 5 هود: 7. 6 الكهف: 7. 7 الملك: 2. 8 البقرة: 148.

{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} 1. حسن الاستماع والاتباع: {فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} 2. إخلاص السرائر: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} 3. {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} 4.

_ 1 المائدة: 48. 2 الزمر: 17-18. 3 البقرة: 272. 4 النساء: 114.

ثانيا: النواهي

ثانيًا: النواهي انتحار الإنسان، وبتره لعضو من أعضائه، وتشويهه: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} 1. {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} 2. {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه} 3.

_ 1 البقرة: 195. 2 النساء: 29. 3 الروم: 30.

{وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} 1. الكذب: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّور} 2. {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُون} 3. النفاق: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} 4. أفعال تناقض الأقوال: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} 5. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} 6. البخل: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} 7.

_ 1 النساء: 119. 2 الحج: 30. 3 النحل: 105. 4 البقرة: 204-206. 5 البقرة: 44. 6 الصف: 2-3. 7 الحشر: 9.

{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} 1. {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا، الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} 2. الإسراف: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا، إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} 3. الرياء: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا.... الَّذِينَ.... وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ} 4. {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُون} 5. الاختيال: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور} 6. {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا، إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} 7.

_ 1 البقرة: 268. 2 النساء: 37. 3 الإسراء: 26-27. 4 النساء: 38. 5 الماعون: 4-7. 6 لقمان: 18. 7 الإسراء: 37.

الكبر، والعُجْب، والتنفخ: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} 1. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} 2. {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} 3. التفاخر بالقدرة والعلم: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا، كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا، وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا، وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا، وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا، قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا، لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا، وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا، فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا، أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا، وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} 4. {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} 5.

_ 1 النحل: 23. 2 النساء: 49. 3 النجم: 32. 4 الكهف: 32-42. 5 القصص: 78.

{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} 1. التعلق بالدنيا: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 2. {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} 3. الحسد والطمع: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} 4. {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} 5. الأسى على ما مضى، والفرح بما يأتي: {لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ} 6. {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} 7.

_ 1 غافر: 83. 2 الكهف: 28. 3 طه: 131. 4 النساء: 54. 5 النساء: 32. 6 آل عمران: 153. 7 الحديد: 23.

الزنى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} 1. {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 2. تعاطي الخمر، والخبائث: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} 3.

_ 1 الإسراء: 32. 2 النور: 2. وينبغي هنا، فضلًا عن هذا الجزاء المفروض على الجريمة المقترفة، أن نتذكر الإجراءات الوقائية التي اتخذها القرآن في مواجهة هذا الانحلال الأخلاقي: 1- الحث على الزواج "النور: 32". 2- إباحة الزواج شرعًا بزوجة أخرى في ظروف معينة "النساء: 3". 3- تحريم ارتداء المرأة لأي زي فاضح؛ إلا أن يكون أمام الزوج أو ذوي الأرحام. "النور: 37, والأحزاب: 59". 4- الأمر بغض البصر أمام مفاتن النساء. "النور: 30". 5- تحريم القذف بما لم يثبت من الفواحش، وفرض حد قاسٍ للقذف "النور: 4، و15-19، و23-25". 6- النهي عن الدخول إلى بيوت الآخرين, دون استئذان أهلها. "النور: 27-29". 7- وأخيرًا، تحريم الخمر "انظر النصوص التالية". ولنذكر من ناحية أخرى أن الطريقة التي يتحدث القرآن بها عن هذا الفساد الأخلاقي تدل على أنه يعتبره نوعًا من القتل المعجل، ومن ثم يذكره غالبًا بين نوعين من جرائم القتل. "انظر مثلًا: المائدة: 151، الإسراء: 31-33". 3 المائدة: 90-91.

{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} 1. {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ} 2. كل وسخ "أخلاقي أو مادي": {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِين} 3. {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ, وَالرُّجْزَ فَاهْجُر} 4. تعاطي الكسب الخبيث: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} 5. {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 6. {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} 7.

_ 1 الأعراف: 157. 2 البقرة: 173. 3 التوبة: 108. 4 المدثر: 4-5. 5 النساء: 29. 6 البقرة: 188. 7 البقرة: 275-276.

{وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} 1. {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} 2. {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 3. {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 4. سوء الإدارة: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} 5.

_ 1 النساء: 6. 2 النساء: 10. 3 البقرة: 174. 4 النور: 33. 5 النساء: 5.

ثالثا: مباحات

ثالثًا: مباحات التمتع بالطيبات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا} 1. {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} 2.

_ 1 المائدة: 87-88. 2 البقرة: 172.

{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} 1. {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 2.

_ 1 الأعراف: 26. 2 الأعراف: 31-32.

رابعا: المخالفة بالاضطرار

رابعًا- المخالفة بالاضطرار: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} 1. {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} 2.

_ 1 الأنعام: 119. 2 البقرة: 173.

الفصل الثاني: الأخلاق الأسرية

الفصل الثاني: الأخلاق الأسرية. أولًا: واجبات نحو الأصول والفروع. الإحسان إلى الوالدين، خفض الجناح لهما، طاعتهما: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} 1. {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} 2. {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ، وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} 3. احترام حياة الأولاد: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} 4.

_ 1 النساء: 36. 2 الإسراء: 23-24. 3 لقمان: 14-15. 4 النساء: 151.

{وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} 1. {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ... عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَت} 2. التربية الأخلاقية للأولاد، وللأسرة بعامة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} 3. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} 4.

_ 1 الإسراء: 31. 2 التكوير: 8 و9 و14. 3 الأحزاب: 59. 4 التحريم: 6.

ثانيا: واجبات بين الأزواج

ثانيًا: واجبات بين الأزواج. أ- دستور الزوجية: علاقات محرمة: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} 1. {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ

_ 1 النساء: 22.

الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا، وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} 1. {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} 2. {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} 3. علاقات محللة: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ..... ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} 4. {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ... وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 5.

_ 1 النساء: 23-24. 2 البقرة: 221. 3 النور: 3. 4 النساء: 24-25. 5 المائدة: 5.

خصال "مأمور" بها ومستحبة: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} 1. {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} 2. {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا، وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} 3. الرضا المطلق والمتبادل: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} 4. {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} 5. الصداق: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} 6. {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} 7.

_ 1 النساء: 34. 2 التحريم: 5. 3 الأحزاب: 28-29. 4 النساء: 19. 5 البقرة: 232. 6 النساء: 4. 7 المائدة: 5.

{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} 1. شروط تعدد الزوجات: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} 2.

_ 1 النساء: 24. 2 النساء: 3. ومن ذلك يتضح لنا كيف حاط القرآن إباحة تعدد الزوجات بالكثير من التحفظات، ومع ذلك فليس في الأمر حظر مطلق؛ لأن مثل هذا الحظر مناقض للفطرة. والواقع أننا نجد في كل زمان ومكان, من الرجال من يكتفون بزوجة واحدة وآخرين أكثر اشتهاء للنساء بفطرتهم، أليس منع هؤلاء من التزوج بأخرى في ظل شروط عادلة وشرعية -إثارة لمشاعر الحقد على زوجاتهم، حتى يتمنوا لهن الموت؟ أليس هذا دفعًا لهم إلى خيانة خادعة ومنافقة لهن؟ ومن ثم سوف نسمح لهم بأن يتخذوا من الإنسانية في شخص النسوة الخارجات على الشريعة مجرد وسيلة، وأداة تمتع، لا حق لها في شيء، فتصبح باختصار من العبيد. ومع ذلك, فيبدو لنا أنه لم يحدث أن جاءت أية أخلاق موحاة بمنع متشدد في هذا الصدد، بل لقد وجدنا العكس مباحًا ومطبقًا لدى كثير من القديسين والأنبياء، في الكتاب المقدس. ومن المحتمل أن الشعوب التي ألغت "التعدد" قد أخذت هذا التحريم من تقليد عنصري، أكثر منه دينيًّا. ولكن هل يسري هذا الإلغاء للكلمة على الواقع حقًّا؟ هذا أمر مشكوك فيه, ودعك من القول بأنه قد ازداد انتشارًا من الناحية العملية, وبطريقة أكثر ظلمًا, وأشد انحرافًا، لدى المجتمعات التي تدينه، بعكس المجتمعات التي تقره شرعًا. بيد أنه مما ينطق بالتناقض أن أولئك الذين يمنعون زواج الرجل بأخرى يسمحون في الوقت نفسه بصورة عامة بالمسافحة. وباتخاذ الرفيقات، وبكل صنوف الوصال الطليق، شريطة ألا يوقع الطرفان عقدًا رسميًّا يضفي الشرعية على العلاقة. أليس الانخفاض التدريجي في معدل المواليد، والعدد الهائل من الأمراض الجنسية والأطفال=

ب- الحياة الزوجية: روابط مقدسة ومحترمة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} 1. غايات الزواج: 1- سلام داخلي، ومودة، ورحمة: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} 2.

_ =المجهضين، والعاهرات علنًا وسرًّا، والكثير من ضروب البؤس الماثلة -أليس هذا كله نتيجة منطقية لهذا الشذوذ في التشريع؟ ولا ريب أننا ينبغي أن نعترف بمساوئ التعدد، كالغيرة والمنافسة الحاقدة التي يثيرها، لا بين الزوجات فحسب، بل بين الأولاد من زيجات متعددة. ولكن، أليس هذا الدليل مما ينبغي أن يثار أيضًا ضد التعدد غير المشروع؟ ثم ألا يحدث هذا الشقاق في الأحوال العادية جدًّا، بين الأولاد من زيجات متتابعة، بل بين الإخوة والأخوات من أب وأم؟ الحق أن هذه العيوب كلها ذات طابع عاطفي، وبوسع التربية والتأديب أن يعالجاها إلى حد ما، وهي عيوب غاية في التفاهة، إذا ما قيست بالعفونات الأخرى التي تشقي المجتمعات الحديثة. وهو موضوع يدعو المصلحين إلى التفكير. 1 النساء: 1. 2 الروم: 21.

2- انتشارالنوع: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُم} 1. {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} 2. المساواة في الحقوق والواجبات: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} 3. {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} 4. تشاور وتراضٍ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} 5. تعامل إنساني: {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} 6. معاشرة بالمعروف، حتى في حال الكراهية: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا،

_ 1 البقرة: 223. 2 النحل: 72. 3 البقرة: 228. 4 النساء: 34. 5 البقرة: 233. 6 الطلاق: 6.

وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} 1. {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} 2. معاودة الإصلاح في حال النزاع: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} 3. التحكيم: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} 4. جـ- الطلاق: الافتراق شر مذهب: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 5. فترة انتظار: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} 6.

_ 1 النساء: 19. 2 النساء: 129. 3 النساء: 128. 4 النساء: 35. 5 البقرة: 226-227. 6 البقرة: 228.

السكنى، والمعاملة بالمعروف على أمل الصلح: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} 1. {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} 2. لا عدة للمرأة المطلقة قبل الدخول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} 3. وبعد العدة، فإما الإمساك بمعروف: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} 4.

_ 1 الطلاق: 1. 2 الطلاق: 6. 3 الأحزاب: 49. 4 البقرة: 231.

وإما الافتراق الذي يسمح بالزواج مرة أخرى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} 1. لا غصب لشيء من المرأة المطلقة: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} 2. لا يكون الطلاق بائنًا إلا في المرة الثالثة: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} 3. تعويض للمطلقة غير الممهورة: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ، وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} 4. تعويض للمطلقات بعامة: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} 5.

_ 1 البقرة: 232. 2 النساء: 20. 3 البقرة: 229-230. 4 البقرة: 236-237. 5 البقرة: 241.

ثالثا: واجبات نحو الأقارب

ثالثًا: واجبات نحو الأقارب. عطاء الغير: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} 1. الوصية: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} 2.

_ 1 الروم: 38. 2 البقرة: 180.

رابعا: الإرث

رابعًا: الإرث. حق لا يقتصر على الذكور، أو الكبار، أو الأولاد الوحيدين: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} 1. قواعد القسمة: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ

_ 1 النساء: 7.

لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا، وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} 1. {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 2. الإرث فضل من الله، وليس حقًّا: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} 3.

_ 1 النساء: 12. 2 النساء: آخر آية. 3 النساء: 32.

الفصل الثالث: الأخلاق الاجتماعية

الفصل الثالث: الأخلاق الاجتماعية. أولًا: المحظورات. قتل الإنسان: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} 1. {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} 2. {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطًَا وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطًَا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} 3. {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} 4. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} 5.

_ 1 الأنعام: 151. 2 المائدة: 32. 3 النساء: 92. 4 النساء: 93. 5 البقرة: 178.

{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} 1. السرقة: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 2. الغش: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُون} 3. القرض بفائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُون} 4. أي اختلاس: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} 5. كل تملك غير مشروع: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} 6.

_ 1 البقرة: 179. 2 المائدة: 38. 3 المطففين: 1-3. 4 البقرة: 278-279. 5 الأعراف: 85. 6 النساء: 29.

أكل مال اليتيم: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} 1،.. {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} 2. خيانة الأمانة، والثقة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} 3. الإيذاء بلا داعٍ: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} 4. الظلم: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} 5. {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِين} 6. {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} 7. التواطؤ على الشر: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} 8.

_ 1 النساء: 2. 2 النساء: 6. 3 الأنفال: 27. 4 الأحزاب: 58. 5 طه: 111. 6 الشورى: 40. 7 الفرقان: 19. 8 المائدة: 2.

الدفاع عن الخونة: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} 1. {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} 2. الوفاء بالأمانة وبالوعد: {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} 3. {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ، إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 4. الغدر والخداع: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا، يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ} 5. غش القضاة وإفسادهم: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 6.

_ 1 النساء: 105. 2 النساء: 107. 3 النحل: 91. 4 آل عمران: 75-77. 5 النساء: 107-108. 6 البقرة: 188.

شهادة الزور: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} 1. كتمان الحق: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} 2. {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} 3. قول السوء: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا، إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} 4. سوء معاملة اليتيم والفقير: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَر} 5. السخرية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 6.

_ 1 الحج: 30. 2 البقرة: 283. 3 البقرة: 159. 4 النساء: 148-149. 5 الضحى: 8-9. 6 الحجرات: 11.

احتقار الناس: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور} 1. التجسس: {وَلا تَجَسَّسُوا} 2. الافتراء والغيبة: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَة} 3. {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} 4. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى} 5. سوء القصد وسرعة تصديقه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِين} 6. القذف: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً

_ 1 لقمان: 18. 2 الحجرات: 12. 3 الهمزة: 1. 4 الحجرات: 12. 5 المجادلة: 9. 6 الحجرات: 6.

وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1. {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ، وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ، يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 2. {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} 3. {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} 4. التدخل الضار: {وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} 5. اللامبالاة بالشر العام: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} 6.

_ 1 النور: 4-5. 2 النور: 15-18. 3 النور: 19. 4 النور: 24-25. 5 النساء: 85. 6 المائدة: 78-79.

ثانيا: الأوامر

ثانيًا: الأوامر. أداء الأمانة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} 1. {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} 2. تنظيم العقود للقضاء على الريبة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} 3. الوفاء بالعهد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} 4.

_ 1 النساء: 58. 2 البقرة: 283. 3 البقرة: 282-283. 4 المائدة: 1.

{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا} 1. {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} ... {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} 2. {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ، الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} 3. أداء الشهادة الصادقة: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} 4. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} 5. إصلاح ذات البين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 6. {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} 7. {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} 8. التشفع: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} 9. لا من أجل الأشرار: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} ... {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} 10.

_ 1 الإسراء: 34. 2 البقرة: 177. 3 الرعد: 20. 4 الأنعام: 152. 5 النساء: 135. 6 الحجرات: 10. 7 الأنفال: 1. 8 النساء: 114. 9 النساء: 85. 10 النساء: 105 و107.

التراحم المتبادل: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 1. {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} 2. {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ، أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} 3. الإحسان، ولا سيما إلى الفقراء: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} 4. {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} 5. تثمير أموال اليتامى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} 6. تحرير العبيد: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ... وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى ... وَفِي الرِّقَاب} 7. {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ} 8.

_ 1 الفتح: 29. 2 المائدة: 54. 3 البلد: 17-18. 4 البقرة: 215. 5 النساء: 36. 6 البقرة: 220. 7 البقرة: 177. 8 البلد: 12-13.

أو تيسير حريتهم: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} 1. العفو: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} 2. {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُون} 3.

_ 1 النور: 33، والقرآن، فضلًا عن هذه الوصايا الحية ينص على حالات يصبح فيها تحرير الرقيق مفروضًا للتكفير عن ذنب معين، ومن ذلك حالة القتل الخطأ "النساء: 92"، وحالة اليمين "المائدة: 89". كما أن جزءًا من الزكاة السنوية مخصص بنص القرآن لافتداء الأسرى، وجزءًا آخر لديون "الغارمين" المدينين من المواطنين، "التوبة: 60". أما السُّنة فإنها لم تقتصر من جانبها على تضييق مصدر الاسترقاق، بقصر حقه على المقاتلين في حرب مشروعة، دفاعًا على العقيدة وحسب، بل إنها اختصرت المسافة التي يمكن أن ينشئها هذا النظام القديم بين طبقات المجتمع. وها هو ذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفرض على الموالي أن يوفروا لأرقابهم من الملبس الذي يكتسون ومن المطعم الذي يطعمون وألا يكلفوهم من العمل ما لا يطيقون، ففي صحيح مسلم يقول, صلوات الله عليه: "هم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم". بل إن من يسيء إلى عبده يجب عليه أن يعتقه إن أراد أن يغفر الله له، وقد روى مسلم "عن أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه- قال: كنت أضرب غلامًا لي فسمعت من خلفي صوتًا: "اعلم أبا مسعود، لله أقدر عليك منك عليه"، فالتفتُّ فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله, هو حرٌّ لوجه الله، فقال: "أما لو لم تفعل للفحتك النار ". ومن ثم يذهب المالكية إلى: 1- أن الجرح الذي يحدثه السيد في عبده يستوجب تلقائيًّا عتقه. 2- وأن السيد إذا عاود تكليف عبده بعمل شاق لا يطيقه, فإن ذلك يوجب تحريره من رقه. 2 آل عمران: 134. 3 الشورى: 37.

عدم تجاهل الإساءة في كل حال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ، وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ، إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُور} 1. دفع السيئة بالحسنة: {وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} 2. {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} 3. الدعوة إلى الخير، والنهي عن الشر: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} 4. {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 5. {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} 6.

_ 1 الشورى: 39-43. 2 الرعد: 22. 3 فصلت: 34. 4 المائدة: 2. 5 آل عمران: 104. 6 العصر: كلها.

نشر العلم: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} 1. {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} 2. {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْْ} 3. {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} 4. {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُون} 5. الأخوة والكرم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} 6. الحب عام: {هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ} 7. العدل والمرحمة والإحسان: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} 8.

_ 1 المائدة: 67. 2 الضحى: 10-11. 3 التوبة: 122. 4 آل عمران: 187. 5 البقرة: 159. 6 الحشر: 9. 7 آل عمران: 119. 8 النحل: 90.

ثلاثة مواقف تتفاوت في مشروعيتها: 1- التمسك بالحق: {لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُون} 1. 2- الكرم في الرخاء: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} 2. {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} 3. 3 الإيثار البطولي: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 4. الواجب هو التوسط: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} 5. العطاء واجب عام: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} 6.

_ 1 البقرة: 279. 2 البقرة: 237. 3 البقرة: 280. 4 الحشر: 9. 5 البقرة: 219. 6 الطلاق: 7.

شروط الإحسان: 1- مصارفه: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} 1. {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} 2. {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 3. 2- غايته: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} 4. {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} 5. {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} 6.

_ 1 البقرة: 215. 2 البقرة: 273. 3 التوبة: 60. 4 البقرة: 272. 5 البقرة: 265. 6 الإنسان: 8-9.

{وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى، وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى، إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} 1. 3- نوع العطاء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} 2. {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّون} 3. 4- طريقة الإعطاء: أ- الأفضل أن يكون خفية: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} 4. ب- عدم الإساءة إلى آخذه: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} 5.

_ 1 الليل: 17-آخرها. 2 البقرة: 267. 3 آل عمران: 92. 4 البقرة: 271. 5 البقرة: 262-264.

{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُون} 1. توجيه إلى السخاء: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} 2. {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} 3. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} 4. {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} 5. {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} 6. {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِير} 7.

_ 1 البقرة: 266. 2 التوبة: 103. 3 البلد: 11-16. 4 البقرة: 254. 5 المنافقون: 10-16. 6 البقرة: 245. 7 الحديد: 7.

{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1. {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 2. {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 3. {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} ... {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُوم} 4. ذم الكنز والبخلِ: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ، الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ، يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ، كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} 5. {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} ... {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} 6. {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 7.

_ 1 الحشر: 9، والتغابن: 16. 2 البقرة: 274. 3 البقرة: 261. 4 الذاريات: 16، 19. 5 الهمزة: 1-4. 6 الماعون: 1، 2، 3، 7. 7 آل عمران: 180.

{هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} 1. {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} 2. {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ، إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} 3. {يَتَسَاءَلُون, عَنِ الْمُجْرِمِينَ, مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر, قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ, وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} 4. {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ، وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ، كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} 5. {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ، وَلا يَسْتَثْنُونَ، فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ،

_ 1 محمد: 38. 2 التوبة: 34-35. 3 الحاقة: 30-34. 4 المدثر: 40-44. 5 الفجر: 15-20.

فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ، أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ، فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ، أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ، وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ، فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ، قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ، قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ، فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ، قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ، عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ، كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} 1.

_ 1 ن: 17-33.

ثالثا: قواعد الأدب

ثالثًا: قواعد الأدب. الاستئذان قبل الدخول على الغير: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ، لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} 1. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ ... وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} 2.

_ 1 النور: 27-29. 2 النور: 58-59.

خفض الصوت, وعدم مناداة الكبار من الخارج: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ... إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} 1. التحية عند الدخول: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} 2. رد التحية بأحسن منها: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} 3. حسن الجلسة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} 4. أن يكون موضوع الحديث خيرًا: {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} 5.

_ 1 الحجرات: 2-4. 2 النور: 61. 3 النساء: 86. 4 المجادلة: 11. 5 المجادلة: 9.

استعمال أطيب العبارات: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} 1. الاستئذان عند الذهاب: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} 2.

_ 1 الإسراء: 58. 2 النور: 62.

الفصل الرابع: أخلاق الدولة

الفصل الرابع: أخلاق الدولة. أولًا: العلاقة بين الرئيس والشعب. أ- واجب الرؤساء: مشاورة الشعب: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} 1. إمضاء القرار النهائي ... : {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين} 2. ... طبقًا لقاعدة العدالة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} 3.

_ 1 آل عمران: 159. 2 آل عمران: 159. 3 النساء: 58.

إقرار النظام: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1. صون الأموال العامة وعدم المساس بها: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} 2. عدم قصر الانتفاع بها على الأغنياء: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} 3. للأقليات داخل المجتمع الإسلامي حريتها القانونية: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} ... {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ... {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ

_ 1 المائدة: 33-34. 2 آل عمران: 161. 3 الحشر: 7.

هُمُ الْفَاسِقُونَ} ... {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} 1. ب- واجبات الشعب: النظام: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} 2. الطاعة المشروطة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} 3. الاتحاد حول المثل الأعلى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} 4. {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} 5. التشاور في القضايا العامة: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا} ... {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} 6.

_ 1 المائدة: 42-48. 2 الحشر: 7. 3 النساء: 59. 4 آل عمران: 103. 5 الروم: 31-32. 6 الشورى: 36-38.

تجنب الفساد: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} 1. {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} 2. {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} 3. إعداد الدفاع العام: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} 4. الرقابة الأخلاقية: "عدم نشر جو الهزيمة أو النفاق، ومراجعة المصدر الرسمي". {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} 5. تجنب موالاة العدو أو التعامل معه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ،

_ 1 الأعراف: 56. 2 الرعد: 25. 3 البقرة: 205. 4 الأنفال: 60. 5 النساء: 83.

وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} 1. {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 2. {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} 3. {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} 4.

_ 1 الممتحنة: 1. 2 الممتحنة: 8 و9. 3 المجادلة: آخر آية. 4 آل عمران: 38.

ثانيا: العلاقات الخارجية

ثانيًا: العلاقات الخارجية. أ- في الأحوال العادية: الاهتمام بالسلام العام: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 1.

_ 1 التوبة: 128.

موعظة بدعوة السلام: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} 1. {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} 2. ... دون إكراه: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين} 3. {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} 4. ... ولا إثارة للكراهية: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 5. ترك الاستبداد والإفساد: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} 6.

_ 1 النحل: 125. 2 العنكبوت: 46. 3 البقرة: 256. 4 الغاشية: 21 و22. 5 الأنعام: 108. 6 القصص: 83.

ترك المساس بأمن المحايدين: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} 1. حسن الجوار, العدالة, البر: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 2. ب- في حالة الخصومة: ترك المبادرة بالشر: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} 3. عدم القتال في الأشهر الحرم: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} 4. أو في الأماكن المحرمة: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} 5.

_ 1 النساء: 90. 2 الممتحنة: 8. 3 المائدة: 2. 4 التوبة: 36. 5 البقرة: 191.

للحرب المشروعة حالتان: 1- الدفاع عن النفس: {فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} 1. {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} 2. 2- مساعدة المستضعفين: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} 3. قتال المقاتلة وحدها: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 4. لا هروب من ملاقاة المعتدين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَار} 5.

_ 1 النساء: 91. 2 الحج: 39. 3 النساء: 75. 4 البقرة: 190. 5 الأنفال: 15.

الثبات والوحدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} 1. الصبر والمصابرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 2. {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 3. لا خوف من الموت، فسيأتي في أجله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 4. {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} 5. {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ

_ 1 الأنفال: 45-46. 2 آل عمران: آخر آية. 3 آل عمران: 139. 4 آل عمران: 156. 5 آل عمران: 154.

قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا، أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} 1. {وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ... الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيم} 2. الخوف من مكائد الكفار ومؤامراتهم: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} 3. {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 4. لا استسلام: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} 5. {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ... فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} 6.

_ 1 النساء: 77-78. 2 آل عمران: 171-174. 3 البقرة: 191. 4 البقرة: 217. 5 محمد: 35. 6 البقرة: 192-193.

{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} 1. {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 2. الوفاء بالمعاهدات المبرمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} 3. مواجهة الخيانة بحزم: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} 4. الوفاء بالشروط، وإن كانت مضرة، غير مواتية: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ، وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} 5.

_ 1 الأنفال: 61-63. 2 النساء: 94. 3 المائدة: 1. 4 الأنفال: 58. 5 النحل: 91-92.

الأخوة الإنسانية: رباط مقدس فوق اعتبار الجنس والنوع: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} 1. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 2.

_ 1 النساء: 1. 2 الحجرات: 13.

الفصل الخامس: الأخلاق الدينية

الفصل الخامس: الأخلاق الدينية. واجبات نحو الله: الإيمان بالله وبما أنزل من حقائق: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ ... } 1. {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا} 2. الطاعة المطلقة 3: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ

_ 1 البقرة: 177. 2 النساء: 136. 3 قد يقال: أليس المقصود أن الطاعة بحسب الوسع، وبقدر الإمكان ... وهو ما جاءت به الآية الكريمة: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم} [التغابن: 16] . نعم، ولا شك، ولكن عكس هذه الحالة لا ينشئ قيدًا على الطاعة، بل على صدور النظام الإلهي نفسه، وهو الذي لا يمكن أن يكون له وجود في هذه الحالة {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] . ولا ريب أن طاعة الرسول في حدود رسالته هي جزء مكمل لطاعة الله {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] . {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] .

إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} 1. تدبر آياته: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 2. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} 3. {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} 4. {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} 5. {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} 6. وتدبر صنعه: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} 7. {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} 8, {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى} 9.

_ 1 النساء: 66. 2 الأعراف: 204. 3 الحجرات: 2. 4 ص: 29. 5 محمد: 24. 6 النساء: 82. 7 الذاريات: 20-21. 8 الأعراف: 185. 9 الروم: 18.

{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} 1. شكره على نعمائه: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} 2. {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ، لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ، إِنَّا لَمُغْرَمُونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ، أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ، لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ، أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ، نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} 3. {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ} 4. {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ، لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} 5.

_ 1 سبأ: 46. 2 النحل: 53. 3 الواقعة: 63-74. 4 القصص: 71-72. 5 الزخرف: 12-14.

{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 1. الرضا بقضائه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} 2. {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} 3. {الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} 4. التوكل عليه: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 5. {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} 6.

_ 1 النحل: 78. 2 البقرة: 155-157. 3 البقرة: 214. 4 العنكبوت: 1-3. 5 آل عمران: 160. 6 التوبة: آخر آية.

{قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} 1. عدم اليأس من رحمته: {وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} 2. {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} 3. أو الأمن من بأسه: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ، أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ، أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} 4. تعليق كل فعل مستقبل بمشيئته: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 5. الوفاء بعهد الله: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ، فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ، فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} 6.

_ 1 الزمر: 38. 2 يوسف: 87. 3 الحجر: 56. 4 الأعراف: 97-99. 5 الكهف: 23. 6 التوبة: 75-77.

عدم رد سباب المشركين: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} 1. تجنب مجالسة الخائضين في آيات الله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 2. {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} 3. عدم الإكثار من الحلف بالله: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 4. احترام اليمين متى حلف: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} 5. دوام ذكر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} 6. {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 7. {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} 8.

_ 1 الأنعام: 108. 2 الأنعام: 68. 3 النساء: 140. 4 البقرة: 244. 5 المائدة: 89. 6 الأحزاب: 41. 7 الحشر: 19. 8 الزخرف: 36.

تسبيحه وتكبيره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} 1. {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} 2. أداء الصلاة المفروضة: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} 3. {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} 4. {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} 5. {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} 6. {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} 7. حج البيت "على الأقل مرة في العمر": {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} 8.

_ 1 الأحزاب: 41-42. 2 الفتح: 8-9. 3 النساء: 103. 4 الروم: 17-18. 5 الإسراء: 78. 6 البقرة: 238. 7 الإسراء: 110. 8 آل عمران: 96-97.

{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} 1. {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ، ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّه} 2. {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} 3. دعاء الله بين الخوف والأمل: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} 4. {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} 5. {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 6. التوبة إلى الله والتماس مغفرته: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 7.

_ 1 البقرة: 197. 2 الحج: 27-30. 3 الحج: 37. 4 الفرقان: آخر آية. 5 الأعراف: 55-56. 6 غافر: 60. 7 النور: 31.

{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} 1. وأخيرًا حب الله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 2. وأن يكون حبه فوق كل شيء: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} 3.

_ 1 النساء: 110. 2 المائدة: 54. 3 البقرة: 165.

إجمال أمهات الفضائل الإسلامية

إجمال أمهات الفضائل الإسلامية: "بعض أمهات الفضائل التي يميز بها القرآن المسلم الحق": {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} 1. {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} 2. {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ، الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} 3. {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى

_ 1 البقرة: 177. 2 الأنفال: 2-4. 3 الحج: 34-35.

صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ، أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 1. {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ... فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} 2. {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا، وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا، إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا، وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا، وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا، إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا، وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا، وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا، وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا، أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا، خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} 3. {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ، تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا

_ 1 المؤمنون: 1-11. 2 النور: 35-37. 3 الفرقان: 63-76.

وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1. {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} 2. {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} 3. {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ، وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ، وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} 4. {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ

_ 1 السجدة: 15-16. 2 الأحزاب: 35. 3 الزمر: 23. 4 الشورى: 36-40.

رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} 1. {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 2. {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ، كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} 3. {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا، إِلَّا الْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ، وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ، وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ، إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ، أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} 4.

_ 1 الفتح: 39. 2 الحجرات: 15. 3 الذاريات: 16-19. 4 المعارج: 19-35.

فهارس الكتاب

فهارس الكتاب فهرس الأحاديث النبوية الشريفة ... فهارس الكتاب: مسرد الأحاديث: رتبنا الأحاديث على حروف المعجم، ثم أوردناها داخل كل حرف تبعًا لتسلسل الصفحات، "هـ = هامش". حرف الألف الصفحة الحديث 2 إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها. 27 إذا أراد الله بعبد خيرًا جعل له واعظًا من نفسه. 38 إذا أمرتكم بشيء من رأيي, فإنما أنا بشر. 39 أنتم أعلم بأمر دنياكم. 40/ 230 إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليَّ ... 41 هـ إن الميت يعذب ببكاء أهله. 54 إني لا أصافح النساء، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة. 65 أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه. 78 إن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه. 78 إن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى. 90 إن لربك عليك حقًّا ... فأعطِ كل ذي حق حقه. 129 استفتِ قلبك ... وإن أفتاك الناس وأفتوك. 142 آية المنافق ثلاث؛ إذا حدث كذب ...

156 إذا مات ابن آدم انقطع عمله ... 159 أنت مع من أحببت. 161 إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. 177 أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟! 214 إن فيك خصلتين ... 231/ 443 إنما الأعمال بالنيات. 249 إذا ساءتك سيئتك وسرتك حسنتك فأنت مؤمن. 251 إن الله عز وجل ليقبل توبة العبد ما لم يغرغر. 254 أتدرون ما المفلس؟ 260 إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان. 263 أيها الناس، إنما ضل من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه. 270 إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام. 275 أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود. 325 استحيوا من الله حق الحياء. 370 إذا مات أحدكم فإنه يعرض عليه مقعده. 387 أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت. 443 إن الله لا ينظر إلى صوركم. 445 إذا حكم الحاكم فاجتهد. 453 إن التقوى ههنا. 455 ألا وإن في الجسد مضغة. 464 إن الله تجاوز لي عن أمتي ما وسوست به صدورها. 465 إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا ... 465 إذا التقى المسلمان بسيفيهما. 497 إن سالمًا شديد الحب لله.

499 إن الله كتب الحسنات والسيئات. 529 اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي. 535 إن الله يحب أن تؤتى رخصه. 551 أن أبا بكر كتب له "لأنس" فريضة الصدقة التي فرض رسول الله, صلى الله عليه وسلم ... ولا يجمع بين متفرق. 454 أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن ثمن الكلب, ومهر البغي. 563 أول ثلاثة تسعر بهم النار يوم القيامة. 566 أن رجلًا أعرابيًّا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، الرجل يقاتل للمغنم ... 566 أرأيت رجلًا غزا يلتمس الأجر والذكر، ما له؟ 567 أنا أغنى الشركاء عن الشرك. 599 إنما أنا بشر، أرضى كما يرضى البشر. 600 اشتكى سعد بن عبادة شكوى له, فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعوده. 615 هـ اعملوا, فكل ميسر لما خلق له. 615 احرص على ما ينفعك, واستعن بالله ولا تعجز. 618 إن الله وعدني إحدى الطائفتين. 618 إن الله تعالى يحب معالي الأمور. 630 أن نفرًا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- سألوا أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- عن عمله في السر. 634 أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر. 642 إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد. 642 إذا سبب الله لأحدكم رزقًا من وجه, فلا يدعه. 643 أمسك عليك بعض مالك. 647 أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: ذهب أهل الدثور بالأجور.

649 أي الناس خير؟ قال: رجل جاهد بنفسه وماله. 657 إن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا. 658 أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى شيخًا يتهادى بين ابنيه ... إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني. 658 إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يعتكف في العشر الأواسط من رمضان. 659 أفلا أكون عبدًا شكورًا. 660 أبا يحيى، ربح البيع، ربح البيع. 661 إن هذا الدين متين, فأوغل فيه برفق. 664 أن صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- كانوا يسافرون مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم. 674 إن الدين يسر. حرف الباء 145 بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- سرية، وأمَّر عليهم رجلًا من الأنصار ... إنما الطاعة من المعروف. 177 هـ بعثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الحرقة من جهينة. 494 بلغني عن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أن مسكينًا سألها. 631 بَيْنَا النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب, إذا هو برجل قائم. 633 بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة في العسر واليسر. حرف التاء 65 تصافحوا يذهب الغل، وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء. 264 تعافوا الحدود فيما بينكم. 386 تنكح المرأة لأربع ...

حرف الحاء 87 حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام, نزل الحلال والحرام. 129 الحلال بيِّن والحرام بيِّن. 601 حُبب إليَّ من دنياكم ثلاث. حرف الخاء 265 خذوا عني، فقد جعل الله لهن سبيلًا. 518 الخيل لرجل أجر ... 658 خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المدينة إلى مكة, فصام حتى بلغ عسفان. 668 خصلتان من كانتا فيه كتبه الله شاكرًا صابرًا. حرف الدال 129 دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. 254 الدواوين ثلاثة. 254 هـ الدواوين عند الله -عز وجل- ثلاثة. 553 الدين النصيحة. حرف الراء 166/ 228 رفع القلم عن ثلاث. 657 رأى في أحد أسفاره زحامًا من الناس حول رجل, يظلونه من الشمس. 660 روي عن جندع بن ضمرة, أنه كان شيخًا كبيرًا. حرف الزاي 645 الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال. حرف السين 144 السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره.

649 ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم. حرف الشين 660 شهدت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنا وأخ لي, أحدًا. حرف الصاد 145 الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حرامًا ... 638 الصوم جنة. 638 الصوم نصف الصبر. حرف الطاء 646 الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر. حرف العين 228 العجماء جبار. 612 على كل مسلم صدقة ... 614 عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان في جنازة, فأخذ عودًا فجعل ينكت في الأرض. 646 عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير. حرف الفاء 40 فلما سلم قيل له: يا رسول الله، أحدث في الصلاة شيء ... فإذا نسيت فذكروني. 65 هـ فإذا غضب أحدكم فليتوضأ. 230 هـ فمن همَّ بحسنة فلم يعملها. 264 فهلا قبل أن تأتيني به. 534 فنعم صاحب المسلم.

639 فتداووا ولا تداووا بحرام. 644 فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين. حرف القاف 171 قال الله: قد فعلت. 255 قال النبي, صلى الله عليه وسلم: قال إبليس: أي رب ... 444 قاضيان في النار، وقاضٍ في الجنة. 455 القلب ملك، وله جنود. 554 قاتل الله اليهود.... 657 قم ونم، وصم وأفطر ... حرف الكاف 148 كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته. 168 كخ كخ، ارم بها، أما تعرف أنّا آل محمد لا تحل لنا الصدقة. 272 كل أمتي معافى إلا المجاهرين. 524 كان إذا أضر به أمر فزع إلى الصلاة. 536 كل شيء ليس من ذكر الله فهو لعب ولهو إلا ... 562 كان -صلى الله عليه وسلم- يلبس رداء إذا خرج. 599 كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحب الحلواء والعسل. 600 كان -صلى الله عليه وسلم- يمزح ولا يقول إلا حقًّا. 600 كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فأرسلت إليه إحدى بناته ... وإنما يرحم الله من عباده الرحماء. حرف اللام 43 لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق. 64 لما نزلت على رسول الله, صلى الله عليه وسلم {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} اشتد ذلك على أصحاب رسول الله.

78 ليصل أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فتر قعد. 101 لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه. 145 لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. 148 لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن ... 155 ليس من نفس تقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها. 260 لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن. 273 لقد تاب توبة لو قسمت على أمة لوسعتها. 343/ 523 لن يدخل أحدًا عمله الجنة. 387 ليس في الدنيا من الجنة شيء إلا الأسماء. 444 لا يقبل الله قولًا إلا بعمل. 531 لكل دين خلق. 549 لا ضرر ولا ضرار. 599 لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه. 625 لا تخيروني على موسى. 639هـ لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء ... 643 لا، الثلث، والثلث كثير. 643 لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي. 643 لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره. 644 لا بأس بالغنى لمن اتقى. 645هـ ليس الزهادة بتحريم الحلال، ولا في إضاعة المال. 650 ليسعك بيتك. 659 لا تواصلوا ... إني لست مثلكم. حرف الميم 145 المسلمون عند شروطهم. 145 ما كان من شرط ليس من كتاب الله فهو باطل.

154 من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها. 159 المرء مع من أحب. 235 من تطبب، ولم يعلم منه قبل ذلك الطب فهو ضامن. 249 المؤمن يرى ذنبه فوقه كالجبل. 253 من كانت له مظلمة لأحد. 443 من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد. 485 من تصدق بصدقة من كسب طيب. 511 من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا. 562 ما على أحدكم لو اتخذ ثوبين لجمعته. 598 ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن. 599 من أكل ثومًا أو بصلًا فليعتزلنا. 608 ما يكن عندي من خير لا أدخره عنكم. 615 هـ/ 621 المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف. 638 من لم يدع قول الزور والعمل به. 639هـ ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء. 643 ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا ... 649 مر رجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشعب فيه عيينة من ماء عذبة فأعجبته لطيبها ... 650 المسلم إذا كان يخالط الناس ويصبر على أذاهم. حرف النون 214 الناس معادن. 459 نية المؤمن خير من عمله. حرف الهاء 639هـ هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون.

حرف الواو 157 ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه. 166هـ وقال علي لعمر: أما علمت أن القلم رفع عن المجنون. 271 ومن أصاب من ذلك شيئًا ثم ستره الله فهو إلى الله. 427هـ والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. 474 وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته ... 601 وجعلت قرة عيني في الصلاة. 644هـ والصحة لمن اتقى خير من الغنى. 661 ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه. حرف الياء 2 يا أيها الناس، إن الله قد فرض عليكم الحج ... ذروني ما تركتكم ... وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه. 200 يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم. 272 يا هزال، لو سترته بثوبك لكان خيرًا لك. 558هـ يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك. 558هـ اليمين على نية المستحلف. 566 يا رسول الله، إني أقف أريد وجه الله. 567 يا رسول الله، أسر العمل لا أحب أن يطلع عليه. 622 يا رسول الله، أخبرني ماذا فرض الله علي من الصلاة ... أفلح إن صدق. 629 يا أيها الناس، توبوا إلى الله، فإني أتوب ... 643 يأتي أحدكم بما يملك فيقول: هذه صدقة. 648 يا معشر الشباب، من استطاع الباءة فليتزوج.

فهرس الأعلام والفرق والقبائل والأماكن

فهرس الأعلام والفرق والقبائل والأماكن: "أ" الأصفهاني: 4 هـ. الأردبيلي "أحمد بن محمد": 7, 7 هـ. أحمد محمد شاكر: 7 هـ. الأشاعرة: 31, 66, 67, 68, 69, 70, 72, 186. أريستيب: 32, 32 هـ. أحمد بن حنبل: 41 هـ. الأرسطين: 61. أرسطو: 169, 338, 603, 606, 670, 671, 672, 673. أفلاطون: 169 هـ, 188, 223, 670. أهل السنة: 185, 209, 214, 217. أشبح عبد القيس "المنذر بن عائذ": 214 هـ. أوروبا المسيحية: 223. إنجلترا: 224, 226. أوروبا الحديثة: 225. أثينا: 225. الأفستا: 227. أندونيسيا: 227.

إبراهيم: 278, 279, 412. إسحاق: 278, 279. إسرائيل "انظر: يعقوب". آدم: 280, 628. أهل أفسس: 282. آدم سمث: 320. الإنجيل: 343. أسباط إسرائيل: 413. إيبكتيت: 416. إبراهيم أنيس: 474 هـ. أهل الصفة: 492, 644. أقليدس: 545. أنس بن مالك: 551, 601, 630 , 658. إبراهيم "من حديث البخاري": 554. أبو أمامة الباهلي: 566. أهل رومية: 591. أحمد بن أبي الحواري: 592 هـ. أسامة بن زيد: 600. الأعمش: 614. الأغر "من الصحابة": 629. أزواج النبي: 630. "ب" بارثلمي سانت هيلير: 3. برجسون "هنري": 23, 58, 72 هـ , 189, 190, 191. بنتام: 99.

بسكال: 169 هـ, 334, 334 هـ , 555. بول فوكونيه, ح, 222, 227, 228, 234. بنو إسرائيل: 223, 225, 279. بولس: 281, 282 هـ, 591. البخاري: 431, 517, 554, 566, 600, 614, 647. البيهقي: 459. أبو بكر الباقلاني: 516. أبو بكر الصديق: 551. أبو بردة: 629. بنو سلمة: 642. "ت" ابن تيمية: 186 هـ, 405, 406. التوراة: 226, 343. تيموثاوس: 281. تيودور جو فروي: 338. الترمذي: 567 هـ. التنعيم: 660. "ث" الثعالبي "أبو منصور": 474 هـ. "ج" جارسان دي تاسي: 3. جول لا بوم: 3, 10. الجصاص "أبو بكر": 6, 6 هـ. الجزائري "أحمد بن إسماعيل النجفي": 7, 7 هـ.

جييو: 21 هـ, 118. جوتييه: 94. جوتفريد ليبنز: 119 هـ. جهم بن صفوان: 208. الجرمانيون: 225. جزيرة العرب: 226. الجهينية: 274. ابن جني: 474 هـ. جابر بن عبد الله: 554, 599, 642. الجنيد: 650. جندع بن ضمرة: 660. "ح" ابن حزم: 4 هـ, 54, 232, 232 هـ, 235, 271 هـ, 272 هـ, 559, 559 هـ, 560. أبو الحسن الأشعري: 210. حمورابي: 227. الحكيم الرواقي: 333, 599. الحنابلة: 432. الحنفية: 432, 559, 560, 560 هـ, 561. الحسن البصري: 444. الحكيم الترمذي: 453, 453 هـ, 455, 498, 537, 553, 553 هـ. أبو حنيفة: 551, 560 هـ. ابن حنبل: 559. حسين بن علي: 562 هـ. ابن أبي حاتم: 565.

الحكيم البوذي: 599. "خ" الخوارج: 43. الخوارزمي: 186. الخدري "أبو سعيد": 534, 658. خالد بن الوليد: 599. "د" ديكارت: 60, 182, 187, 412. دراكون: 225, 225 هـ. ديموميين: 276 هـ. دلبوس: 475. أبو الدرداء: 536, 657. ابن أبي الدنيا: 565. الديكارتية: 575. الداراني "أبو سليمان": 592. "ذ" أبو ذر الغفاري: 645 هـ. ذو النون المصري: 650. "ر" رينيه لوسن: 17. الرواقيون: 31, 542. روه: 99, 118 إلى 123. الرازي: 186.

روما: 223. الرومان: 225. ابن رشد: 231 هـ, 558 هـ. "ز" الزمخشري: 186. "س" سفري: 3. سقراط: 169 هـ , 188, 416. سبينوزا: 181, 188, 192, 475 هـ. ستيوارت ميل: 188. السلافيين: 224. سعيد بن المسيب: 272. سعيد بن جبير: 444. سالم مولى أبي حذيفة: 497. سهل بن علي المروزي: 538 هـ. سيجور: 589. سعد بن عبادة: 600. سعد بن أبي وقاص: 600. سعد بن عبيدة: 614. سلمان الفارسي: 657. "ش" شمس الدين البابلي: 1 هـ. الشيعة: 43, 214.

الشاطبي: 130 هـ, 499, 501, 507, 508, 541 هـ, 522 هـ, 660 هـ. شوبنهور: 181. الشافعي: 232, 232 هـ, 556. الشافعية: 432, 556, 557, 559. شعبة: 614. "ص" الصين: 225, 227. صفوان بن أمية: 263, 564. الصوفية: 517. صهيب "أبو يحيى": 646, 660. أبو صالح: 647. "ط" طعمة بن أبيرق: 39 هـ. الطبراني: 459. أبو طالب المكي: 459, 497, 545. طاوس: 565. طه سرور: 567 هـ. "ظ" الظاهرية: 47, 228, 236, 559. "ع" ابن العربي "أبو بكر": 6, 6 هـ. عائشة: 41 هـ, 443, 494, 598 هـ, 599, 642. أبو عبد الله بن الخطيب: 186 هـ.

عبد الملك بن مروان: 208. عمر بن الخطاب: 266. علي "كرم الله وجهه": 266, 536, 562 هـ, 614. عبد الرحمن بن عوف: 266, 494, 600. عبادة بن الصامت: 271 هـ. العهد القديم: 277. العهد الجديد: 280. ابن عباس: 337, 387, 415, 561, 631, 658. عبد الله بن عمر: 370, 629. عازر: 412. عيسى "انظر المسيح". عمرو بن العاص: 445. عثمان: 536. عبد الحليم محمود: 567 هـ. أبو عبد الرحمن السلمي: 604. ابن عباد: 624 هـ. عبادة بن الوليد بن عبادة: 633. أبو علي الدقاق: 650. عسفان: 658. "غ" الغزالي: 4 هـ, 5, 5 هـ, 10, 35, 88 هـ, 130 هـ, 442, 453, 454, 457, 459, 460, 476, 499, 506, 532, 539, 558 هـ, 564, 571, 571 هـ, 572 هـ, 573 هـ, 574, 592 هـ, 647. غندر: 614.

"ف" فالون: ح. فوكونيه "انظر: بول فوكونيه". فخر الدين الرازي: 71. فريدريك روه: 118 "انظر: روه". فرنسا: 223, 224. فارس: 225, 226. الفيرا: 227. فاطمة بنت محمد: 263. الفريسيون: 333. فيكتور كوزان: 337. فرعون: 369. الفيثاغورثيون: 670. الفلاسفة المدرسيون: 672. "ق" قسطنطين زريق: 4 هـ. قتادة بن النعمان: 39 هـ. القبائل الأسترالية: 225, 227. قبائل شمالي أفريقية: 225, 227. قابيل: 278. قدماء الإغريق: 542. القشيري: 624 هـ. "ك" كازيمرسكي: 3 هـ.

كانت "أو لكانتية": 26, 26 هـ, 32, 33, 57, 58, 61, 88, 99, 100 إلى 117, 127, 179, 181, 191, 212, 276 هـ, 282, 333, 335, 338, 416, 422, 446, 475, 483, 515, 516, 581, 590, 679. الكنعانيون: 280. كرونتوس: 282 هـ. "ل" ليفي بروفنسال: ح. لوسن: ح. لوفيفر: 3. ليفي بريل: 183. ليبنز: 188, 198. اللخمي: 551. "م" ماسينيون: ح. ملا المحبي: 1 هـ. محمد أمين بن فضل الله: 1 هـ. ابن مسكويه: 4 هـ. محمود مختار, كثير جوغلو: 5 هـ. ملا أحمد جيون: 6. ماسينيون "لوسي": 17. المعتزلة: 31, 43, 66, 67, 69, 72, 185, 186, 208, 214, 215. الماتريدية: 31.

مالك: 49, 231 هـ, 517, 556. أبو المعالي: 88 هـ. معبد: 208. أبو منصور الماتريدي: 210. مصر: 226, 232, 432. مراكش: 227. المالكية: 262 هـ, 432, 556, 557, 558, 558 هـ. ماعز: 270, 273. موسى: 279, 280, 416, 625, 625 هـ. المسيح: 281, 333, 411, 413, 416. مرقص: 282. متى: 282. ابن مسعود: 325, 598, 600. ميل: 416. المحاسبي: 463 هـ, 538 هـ, 540 هـ, 564, 566, 568, 575. مسلم: 517, 566, 598 هـ, 614, 615, 647. مسروق: 541. ابن مسعود الأنصاري: 554. أبو موسى الأشعري: 566, 612. ميمونة "زوج النبي": 599. معاذ بن جبل: 600. المرتعش "أبو محمد": 603, 604. محمد بن بشار: 614. مكة: 658. المدينة: 658.

"ن" النفعيون: 32. النظام: 44. نيتشه: 118. نوح: 278, 369. النعمان بن بشير: 455. النسائي: 566. نور الدين شريبة: 604 هـ. "هـ" هوم: 182. هادريان: 224, 224 هـ. الهند البرهمية: 225, 226. هزال "رجل من أسلم": 272. هابيل: 278. أبو هريرة: 194, 343, 464, 493, 567, 615, 638, 639 هـ, 646, 647, 649. "و" واصل بن عطاء: 208. وسط أوروبا: 224. "ي" اليونان: 223, 225. يعقوب: 278. يسوع "انظر: المسيح".

يوسف "عليه السلام": 336. يوحنا: 412, 413. اليسوعيون: 555.

قائمة المصطلحات الأجنبية والعربية

قائمة المصطلحات الأجنبية والعربية: "أ" إلزام: 21. obligation أمر: 22. imperatif أخلاق: 24 "علم الأخلاق". morale أخلاقية: 33 "السلوك الأخلاقي". moralite إلزام أخلاقي: 34. obligation morale إجماع: 44. consensus ominium إخفاق: 59. deception الإسماح: 92. condescendance الإحسان: 92. bienfaisance الإرادية الإلهية: 110. volantarisme theologique اختيار حر: 182. libre Arabirte الأنا الاجتماعية: 320. le moi social "ب" الباعث: 421. motif "ت" تجريد تصوري: 34 Abstraction conceptuelle

تباين: 58. contraste تناقض: 58. conrtadiction تناقض منطقي: 58. CONTRADICTION logique تعويق: 59. contrariete تناقضيات الإلزام: 96. Antinomies de l'obligation التبتل: 108. l'experience morale التجربة الأخلاقية: 119. Exclusivisme تعصبت: 125. Empirisme التجريبية: 125. interpretation. Justificative Vraisemblable تأويل قريب: 175. Interpretation Justificative imvraisemblale تأويل بعيد: 175. l'ideation تكون الأفكار. Beterogeneite radicale تنافر أساسي: 194. "ج" جزاء: 21 هـ, 261. Sanction جهد المدافعة: 594. effort eliminatorie جهد مبدع: 594. effort createur جهاد: 652. combat "ح" حقيقة نسبية: 35. verite relative حقيقة أخلاقية: 35. verite morale حرية الاختيار: 56. liberte de choix حقيقة تحليلية ساكنة: 60. berite analytique et statique حدس: 102. intuition

حتمية إنسانية: 181. determinisme humain حتمية الطبع. Determinisme du caractere حركية الإرادة: 434. le dynamisme de la volonte "خ" خطأ: 175. acte inintentionnel خصلة فطرية أو مكتسبة: 594. merite "د" دور عملي وعاطفي: 59. Role actif et affectif الدفعة الحيوية: 191. l'elan vital الدافع: 421. mobile "ذ" الذات الخالصة: 127. moi rtanscendantal الذات الأساسية: 191. moi fondamentale الذات الماهية المعقولة: 191. moi noumenal الذات الكملية: 195. moi total ذات غير منقسمة: 196. moi indivis "س" سبق القضاء "نظرية": 210. Le pourquoi السبب. "ش" شرعية: 33. legalite شمولية القانون: 91 "عمومية, 102". universalite de la loi

الشكلية العملية: 102. Formalisme Pratique الشك المنهجي: 183. la doute methodique "ص" صراع: 652. lutte "ض" ضمير: 33. conscience ضمير فردي: 35. conscience individuelle الضرورة المطلقة: 55. necessite a bsolue الضرورة المادية: 56. necessite physique الضرورة المنطقية: 56. necessite logique "ط" طابع تركيبي متحرك: 60. ordre synthetique et dynamique طبيعة فاعلة: 192. nature naturante طبيعة منفعلة: 192. nature naturee طاعة نفعية: 531. obeisance pragmatique "ع" العنصر الفردي: 24. l'individual العنصر الحيوي: 24. le vital العقل المحض: 34. raison rtanscendentale العقل العلوي: 34. Raison transcendentale العقل الإلهي: 34, 52. Raison divine العقل والنقل: 34. Raison et rtadition

عالم الأخلاق: 97. le moraliste علم الواجبات الأخلاقية: 99. La Deontologie Ethique العقل المحض: 102. la raison pure العقل المبتذل: 103. la raison triviale العقل العملي: 106. la raison pratique العقلية: 125. Rationalisme عمد بشبهة: 175. Acte intentionnel de bonne foi عمد بتأويل: 175. acte intentionnel avec une certaine interpretation عمد بغير شبهة: 175. acte intentionnel de mauvaise foi العلة الفاعلة: 185. la cause efficiente العلة الغائية: 185. la cause finale "غ" غير أخلاقي "آثم": 57, 423. immorale الغاية: 421. la fin الغائية: 501. la finalite "ف" فريضة: 22. devoir فطرة: 33. nature humaine فكرة القيمة: 53. notion de valeur الفواحش: 93. les mauvaises actions graves فوق شخصية 233 "اعتبارات". Extra-personnelles الفلسفة العملية: 475 هـ. La philosophie pratique الفلسفة الهلينية: 670. la philosophie Hellinique الفلسفة الأثينية: 673. la philosophie Athinieme

"ق" loi de la non-contradiction قانون عدم التناقض: 33. loi positive قانون إيجابي. Loi de devoir قانون الواجب: 53. loi de devoier قيمة: 93. la loi empirique القانون التجريبي. parallogisme القياس الكاذب: 110. la loi des douze tables القدرية: 207, 208. le Droit Roman قانون الألواح الاثني عشر: 224. L'intentionnalite القانون الروماني. القصدية. "ك" كتابة: 22. Presctiption الكائن الأعلى: 88. L'etre superieur الكائنات الدنيا: 88. les eures inferieurs الكبائر: 93. I'irremissible الكلاسيكية: 334 هـ. La-non-baleur "ل" Les mauvaises actions venielles اللاأخلاقي "لا علاقة له بالأخلاق": 423. La non-valeur اللاعقلي: 57. اللاقيمة: 93. اللمم: 93. ليبنزية: 119. اللاقيمة: 517.

"م" ما ينافي المنطق: 57. L'absurde المفروض. Le prescrit المحرم. Le defendu المباح. Le non-defendu مبادئ قبلية: 102. principes a priori مفهوم وهمي: 107. concept chimerique المذهب الأمبيريقي: 107. Empirisme المنهج العقلي: 107. Rationalisme المثالية: 125. Idealisme المسئولية: 136 وما بعدها. responsabilite الماهية: 422. le probleme moral المشروعية: 429. supramoral المشكلة الأخلاقية: 475 هـ. فوق أخلاقي: 595. "ن" النرفانا: 31. anti-baleur نقيض القيمة: 93. mysticisme النزعة الصوفية: 107. النزعة المتعصبة "انظر: تعصب". Theorie de La connaissance نظرية المعرفة: 125. activite synthetique نشاط تركيبي: 195. l'ordre noumenal النظام الماهي المعقول: 212. I'intention النية: 421. noblesse oblige النبل ملزم: 628.

"هـ" le but الهدف: 421. l.htm'eure parfall "و" الوجود الكامل: 50. l'eure parfait واجب صارم: 89. devoir strict الواقعية: 125. Realisme واجب ساكن: 434. un devoir statique

فهرس الموضوعات

"فهرس الموضوعات": الموضوع الصفحة تقديم الكتاب "للأستاذ الدكتور السيد محمد بدوي" ز كلمة المعرب "الأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين" ك د المقدمة 1 الوضع السابق للمشكلة 2 تقسيم ومنهج 8 دراسة مقارنة 17 النظرية الأخلاقية كما يمكن استخلاصها من القرآن الفصل الأول: الإلزام 19 مصادر الإلزام الأخلاقي 23 أولًا: القرآن 37 ثانيًا: السنة 37 ثالثًا: الإجماع 42 رابعًا: القياس 47 خصائص التكليف الأخلاقي 53 أ- إمكان العمل 63 ب- اليسر العملي 73

جـ- تحديد الواجبات وتدرجها 87 تناقضات الإلزام 96 أولًا: وحدة وتنوع 96 ثانيًا: سلطة وحرية 97 كانت 99 المرحلة الأولى 103 المرحلة الثانية 106 المرحلة الثالثة 112 فردريك روه 118 خاتمة الفصل الأول: 125 النظرية الأخلاقية كما يمكن استخلاصها من القرآن الفصل الثاني: المسئولية 134 تحليل الفكرة العامة للمسئولية 137 شروط المسئولية الأخلاقية والدينية 148 أ- الطابع الشخصي للمسئولية 148 ب- الأساس القانوني 163 جـ- العنصر الجوهري في العمل 171 د- الحرية 180 الجانب الاجتماعي للمسئولية 222 خاتمة الفصل الثاني: 241 النظرية الأخلاقية كما يمكن استخلاصها من القرآن

الفصل الثالث: الجزاء 243 الجزاء الأخلاقي 245 محاسن الفضيلة 258 قبح الرذيلة 259 الجزاء القانوني 261 نظام التوجيه القرآني ومكان الجزاء الإلهي 275 طرق التوجيه الكتابية 277 نظام التوجيه القرآني 282 أ- المسوغات الباطنة 284 ب- اعتبارات الظروف المحيطة وموقف الإنسان 319 جـ- اعتبارات النتائج المترتبة على العمل 328 النتائج غير الطبيعية "أو الجزاء الإلهي" 337 الجزاء الإلهي: طبيعة وأشكال 343 أ- الجزاء الإلهي في العاجلة 345 ب- عنصر يتصل بتأييد جماعة المؤمنين 350 جـ- الجانب العقلي والأخلاقي 353 د- الجانب الروحي 356 قصور الجزاء العاجل 360 الجزاء الإلهي في الحياة الأخرى 363 تذوق أولي للمصير 368 الجنة 370 السعادة الحسية 375 النار 387 عقوبات أخلاقية سلبية 388 عقوبات أخلاقية إيجابية 390

عقوبات بدنية 393 قائمة ورود الطرق المختلفة للتوجيه 401 خاتمة الفصل الثالث: 403 النظرية الأخلاقية كما يمكن استخلاصها من القرآن الفصل الرابع: النية والدوافع 419 النية 424 أ- النية كشرط للتصديق على الفعل 425 ب- النية وطبيعة العمل الأخلاقي 436 جـ- فضل النية على العمل 450 د- هل تكتفي النية بنفسها؟ 462 دوافع العمل 471 أ- دور النية غير المباشرة وطبيعتها 473 ب- النية الحسنة 483 جـ- براءة النية 518 د- النيات السيئة 545 نية الإضرار 546 نية التهرب من الواجب 549 نية الحصول على كسب غير مشروع 552 نية إرضاء الناس "الرياء" 561 إخلاص النية واختلاط البواعث 564 خاتمة الفصل الرابع 577 النظرية الأخلاقية كما يمكن استخلاصها من القرآن

الفصل الخامس: الجهد 583 جهد وانبعاث تلقائي 589 أ- جهد المدافعة 594 ب- الجهد المبدع 613 الجهد البدني 630 النجدة 634 الصلاة 635 الصوم 636 صبر وعطاء 641 عزلة واختلاط 647 جهد وترفق 651 خاتمة الفصل الخامس 669 خاتمة عامة 675 تنبيه 685 الأخلاق العملية 686 الفصل الأول: الأخلاق الفردية 689-707 الفصل الثاني: الأخلاق الأسرية 709-722 الفصل الثالث: الأخلاق الاجتماعية 723-746 الفصل الرابع: أخلاق الدولة 747-760 الفصل الخامس: الأخلاق الدينية 761-771 الأخلاق العملية - إجمال أمهات الفضائل الإسلامية 773-778

§1/1